االآراء الفقهیه

اشارة

سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -

عنوان و نام پدیدآور : الاراء الفقهیه قسم المکاسب المحرمه/ تالیف هادی النجفی.

مشخصات نشر : اصفهان: مهر قائم، 1387.

مشخصات ظاهری : 3 ج.

شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2

وضعیت فهرست نویسی : فاپا/ برون سپاری.

یادداشت : عربی.

یادداشت : ج. 2 و 3 ( چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : معاملات (فقه)

موضوع : کسب و کار حرام

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ4 1387

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : 1245417

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

الإهداء

إلی روح والدی العلاّمة قدس سره (1)

الّذی ربّانی و علّمنی فقه أهل البیت علیهم السلام و حبّهم و ولایتهم منذ نعومة أظفاری حشره اللّه تعالی مع أئمة أهل البیت أمیرالمؤمنین و أولاده المعصومین علیهم السلام .

ص: 4


1- (1) قد کتبتُ فی ترجمته و ترجمة أجداده الأعلام الفقهاء - أعلی اللّه مقامهم - الّذین خدموا بدورهم الشریعة المقدّسة کتابی «قبیله عالمان دین» فراجعه إن شئت.

الصوره

تقریظ سماحة المرجع الدینی الکبیر آیة اللّه العظمی الشیخ بشیر حسین النجفی

- دام ظله العالی - من النجف الأشرف.

ص: 5

* تاریخ تألیف الکتاب من نظم فضیلة العلاّمة القدیر الشاعر المُفْلِق السیّد عبد الستار الحسنی البغدادی حفظه اللّه تعالی :

للّه ِ منْ سِفْرٍ حَوَی (مَقَاصِداً)***(حَدَائِقُ)(الرِّیَاضِ) مِنْهَا نَافِحَةْ

وَکَمْ زَهَا ب- (رَوْضَةٍ بَهِیَّةٍ)***أنْظَارُنَا إلی جَنَاهَا طَامِحَةْ

وَ(لُمْعَةٍ) کَالشَّمْسِ فِی إشْرَاقِهَا***فی أُفُقِ الْحَقِّ الْمُبِینِ لائِحَةْ

کَالْبَحْرِ مِنْهُ تُقْتَنَی (جَوَاهِرٌ)***غَادِیَةٌ لَهُ الْوَرَی وَرَائِحَةْ

قَدْ جَاءَ فِی اسْتِدْلالِهِ (مَحَجِّةً***بَیْضَاءَ) ، وَضَّاءٌ سَنَاهَا ، وَاضِحَةْ

بِ- (الْعُرْوَةِ الْوُثْقی ) لَهُ (مُسْتَمْسَکٌ )***وَکَفَّةٌ - عِنْدَ النِّزَاعِ - رَاجحَةْ

(کَشْفُ الْغِطَاءِ) فِیهِ عَنْ غَوَامِضٍ***وَمُبْهَمَاتٍ لَلْفُهُومِ فَادِحَةْ

(آرَاؤُهُ الْفِقْهِیَّةُ) ازْدَانَتْ بِهَا***مَطَالِبٌ لَمْ تَعْدُهُنَّ سَانِحَةْ

(شَرَائِعُ الإسْلامِ) مَدَّتْهَا بِمَا***أرْوَتْ بِهِ صَدَی النُّفُوسِ الصَّالِحَةْ

لَهَا بِ- (تَنْقِیح الْمَنَاطِ) مَنْهَجٌ***یَنْأی عَنِ الإغْفَالِ وَالْمُسَامَحَةْ

بِ- (النَّقْضِ وَالاْءبْرَامِ) مَوْضُوعَاتُهُ***زِنَادُهَا مِنْ وَرْیِ فِکْرٍ قَادِحَةْ

وَمُعْضَلاتٍ فِی البُحُوثِ لَمْ تَزَلْ***مُسْتَغْلَقَاتٍ - فِی الْبَیَانِ - جَامِحَةْ

قَدْ فَتَحَ (الْهَادِیْ) لَنا رِتاجَها(1)***إذْ ملَکَتْ یَمینُهُ مَفَاتِحَهْ

فَابْنُ (أبِی الَْمجْدِ) غَدَتْ آثارُهُ***لَهُ بِإتْقانِ الْفُنونِ مادِحَةْ

وَذَا کِتابٌ مُعْرِبٌ عَنْ فَضْلِهِ***مَقاوِلُ التَّحْقِیقِ فِیهِ صَادِحَةْ

(فِقْهٌ) بِهِ قَدِ ازْدَهی تَأرِیخُهُ :***(مَکَاسِبُ الْهادی أتَتْنا رابِحَةْ)

ق 1427 = 185 + 1242

ص: 6


1- (1) الرتاج : الباب .

الحمد للّه الّذی علّم بالقلم ورفع درجات عباده بالعلم والعمل والصلاة والسّلام علی رسول اللّه محمّد المصطفی الّذی أسس قواعد الأحکام وجعل الشریعة طریقاً للأنام وعلی آله الغرّ المیامین أئمة الهدی ومصابیح الدُجی وأعلام الوری .

لقد کان من فضل اللّه تعالی ومنّه علیَّ أن وفّقنی لإلقاء محاضرات فقهیة فی المکاسب فی مدرسة الصدر بمدینة اصبهان علی جماعة من الأفاضل حفظهم اللّه تعالی ووفقهم لخدمة دینه . وقد ساعدنی التوفیق الإلهی بأن أدون هذه المحاضرات فی هذا الکتاب المسمی ب- « الآراء الفقهیة ، قسم المکاسب المحرمة » ، وقد رتبت المسائل علی نفس ترتیب کتاب المکاسب لشیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره وأمّا منهج البحث فهو التعرض للمعنی اللغوی ثمّ المعنی الاصطلاحی ثمّ ذکر أقوال علمائنا الأصحاب الأبرار فی المسألة من زمن المشایخ الصدوق والمفید والطوسی إلی زمن صاحب الجواهر وشیخنا الأنصاری قدس سرهم ، ثمّ ذکرت الأدلة الشرعیة من الآیات الکریمة والروایات الشریفة وبیان مدی دلالتها وحجیتها واستفادة القول المختار منها .

وقد بحثت فی بعض المسائل المستحدثة التی لها علاقة بالمکاسب المحرمة کالتلقیح

ص: 7

الصناعی والترقیع وزرع الأعضاء والتشریح والموسیقی والرقص والتصفیق والشطرنج ونحوها .

وکما تناولت بعض المسائل التی لم یتعرض إلیها شیخنا الأنصاری قدس سره فی المکاسب المحرّمة کمسائل الاحتکار والتسعیر والربا وحلق اللحیة والضرائب ونحوها بصورة مفصلة لما لها من العلاقة بالبحث .

وفی الختام أسال اللّه تعالی أن یجعل هذا الجهد خالصاً لوجه الکریم ویورده فی سجل حسناتی فی یوم لاینفع مال ولابنون ، وأساله تعالی بجاه مولانا أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وأولاده المعصومین علیهم السلام أن یوفقنی لإکمال بقیة بحوث المکاسب من البیع والخیارات فی هذه الموسوعة - الآراء الفقهیة - انّه السمیع المجیب .

وأشکر من العلاّمة المحقق سماحة حجة الإسلام والمسلمین السیّد أحمد الحسینی الإشکوری - دامت برکاته - لأجل ملاحظاته وتصحیحاته علی الکتاب قبیل الطبع .

والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلی اللّه علی سیدنا محمّد وآله الطیبین الطاهرین المعصومین .

28 رجب المرجّب 1427

هادی النج-فی

ص: 8

الأدلّة العامّة فی المکاسب المحرمّة

اشارة

ص: 9

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحیم

الآیات العامّة

اشارة

قد یستفاد بعض الأحکام الکلّیّة للمعاملات من الآیات الشریفة نتعرض لثلاث منها تیمّنا وتبرّکاً وابتداءً بکلام اللّه تعالی :

الآیة الأولی

قوله تعالی : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ»(1) .

سیذکر إن شاء اللّه تعالی فی أوّل البیع تعریفه ولکن هنا أقول : إنّ البیع مبادلة عین بمال ، أو السبب المنشأ به ذلک من القول أو الفعل .

ویتحقق عند إنشاء البیع أو منه أمورٌ :

1 - العقد المرکب من الإیجاب والقبول ، أو التعاطی خارجاً بقصد تحقق المبادلة ، ویقال له : « البیع السببی » .

2 - البیع المسببی : حصول تبادل الاضافتین المتحقق باعتبار الطرفین وإنشائهما ،

ص: 11


1- (1) سورة البقرة / 275 .

ویکون أمراً باقیاً فی عالم الاعتبار ما لم یتعقبه الفسخ من ذی الخیار أو الإقالة .

3 - إضافة الملکیة الحادثة بین المشتری والمبیع والبائع والثمن ، وهذه نتیجة المبادلة المذکورة .

4 - حصول الربح أحیاناً للطرفین .

5 - جواز تصرف کلّ من المتعاملین فیما انتقل إلیه أو فی الربح الحاصل له .

ثم هل المحکوم بالحلیّة فی الآیة الشریفة البیع السببی أو البیع المسببی ، یعنی الأوّل أو الثانی . والأظهر من الآیة الشریفة من کلمتی « أحلّ » و « حرّم » نفس البیع والربا ، یعنی نفس المعاملتین ، أی ما یصدق علیه عنوان البیع فهو حلالٌ وما یصدق علیه عنوان الربا فهو حرام . والظاهر أنّ المراد بالحلیة والحرمة هنا الوضعیان ، یعنی الصحة والفساد . فإذا کان دلالة الآیة الشریفة علی حلیة البیع وضعاً - یعنی البیع - کان صحیحاً .

والآیة الشریفة بنظری القاصر : تدل علی تشریع حرمة الربا وحلیّة البیع فی قبالها ، ولذا کانت مطلقة بالنسبة إلی حلیّة جمیع البیوع ، والشاهد علی ذلک ما ورد فی صحیحة عمر بن یزید بیّاع السابری قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک ، إنّ الناس یزعمون أنّ الربح علی المُضطَرِّ حرام وهو من الربا ؟ فقال علیه السلام : وهل رأیت أحداً اشتری - غنیاً أو فقیراً - إلاّ من ضرورة ؟ یا عمر ، قد أحلّ اللّه البیع وحرّم الربا ، فاربَح ولا تُربِ . قلت : وما الربا ؟ قال : دراهم بدراهم ، مِثلان بمثل(1) .

أقول : ورواها الشیخ فی التهذیب(2) مع إضافة . والشاهد فی تطبیق الإمام علیه السلام الحکم بالصحة فی هذا البیع واستفادتها من إطلاق قوله عزَّ وجلّ «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» . فهذه الصحیحة مضافاً إلی ظهور الآیة الشریفة - تدل علی اطلاق حلیّة البیع فی قوله تعالی «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» .

وبالجملة ، یجوز التمسک بالآیة الشریفة والحکم بالصحة عند الشک فی صحة بعض

ص: 12


1- (1) الفقیه 3 / 176 ح 793 .
2- (2) التهذیب 7 / 18 ح 78 .

البیوع وشروطها وخصوصیاتها شرعاً ، وهذا نتیجة إطلاق الآیة الشریفة .

الآیة الثانیة

قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنکُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَکُمْ إِنَّ اللّهَ کَانَ بِکُمْ رَحِیماً »(1) .

أقول : « الأکل » الوارد فی الآیة الشریفة بقرینة « الأموال » بمعنی وضع الید علی المال والتصرف فیه بالتصرفات التی یقوم بها المُ-لاّک ، وتعلق النهی بالأکل بالباطل یدل علی فسادها فی الشرع المقدس ، یعنی یدل علی الحکم الوضعی - أی الفساد - بأکل مال بالباطل مطلقاً ، أی سواءً کان فاسداً هذا الأکل عند الشارع المقدس نحو : القمار والظلم والبخس والربا والبیع الغرری ونحوها ، أو عند العقلاء کالمعاملات الباطلة عندهم ، لأنّ الخطاب الوارد فی الآیة الشریفة علی نحو القضیة الحقیقیة فیشمل ، جمیع المعاملات الباطلة وأکل المال بالباطل عرفاً عند العقلاء ، فلا یختص بما کان فی ذلک الزمان من المعاملات الباطلة نحو : القمار ، والأمور المذکورة فی الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة من قبیل المثال والتطبیق کما یظهر ذلک لمن راجعها .

نعم ، للشارع الحکومة علی العرف توسعةً أو تضییقاً فی الموضوع ، ونتیجتها التخصّص لا التخصیص والخروج الحکمی کما فعله بالنسبة إلی بیع الخمر والمیتة والربا .

ثم إنّ الآیة الشریفة بعد الحکم بفساد أکل المال بالباطل ، استثنی فیها من ذلک «إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ» ، وهذا المستثنی منقطع ، یعنی لیست التجارة عن تراض من أوّل الأمر داخلةً فی الأکل بالباطل . فالاستثناء یدل علی صحة کل تجارة یقع عن تراضی الطرفین . فالآیة الشریفة تدل علی الحکمین المستقلین : فساد أکل المال بالباطل ، وصحة التجارة عن تراض . فلا یرد علینا بأنّ الأصل فی الکلام المستثنی لا المستثنی منه ، حیث یشکل بأنّها لیست فی مقام البیان ولیس لها إطلاق .

نعم ، فی الاستثناء المنقطع ینظر المتکلم إلی العقدین ، یعنی المستثنی والمستثنی منه ، فهو

ص: 13


1- (1) سورة النساء / 29 .

من هذه الجهة فی مقام البیان ، فالآیة الشریفة مطلقة بالنسبة إلی صحة تجارة وقعت عن تراض . فعند الشک فی شرائطها وخصوصیتها نتمسک بالآیة الشریفة ونحکم بالصحة . والحمد للّه رب العالمین .

الآیة الثالثة

قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَکُم بَهِیمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا یُتْلَی عَلَیْکُمْ غَیْرَ مُحِلِّی الصَّیْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ یَحْکُمُ مَا یُرِیدُ »(1) .

أقول : الوفاء بالعقد یعنی القیام بمقتضاه . والعقد : العهد الموثق ، وأصل العقد : الجمع بین الشیئین بحیث یعسر الانفصال بینهما . والمراد بالعقود : کلّ ما عقد اللّه تعالی علی عباده وألزمهم إیّاه من الإیمان به وبملائکته وکتبه ورسله وأوصیائه وتحلیل حلاله وتحریم حرامه والإتیان بفرائضه ورعایة حدوده وأحکامه وأوامره ونواهیه ، وکل ما یعقده المؤمنون علی أنفسهم للّه وفیما بینهم من عقود الأمانات والمعاملات وغیرها .

والآیة الشریفة تدل علی وجوب الوفاء بجمیع العقود ، ومنها : البیوع والتجارات والمعاملات .

وفی صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام : قوله : «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»قال : بالعهود(2) .

ولا یضر بالسند نقل العیاشی(3) هذه الروایة مع واسطة بعض أصحابنا بین النضر بن سوید وابن سنان ، لأنَّ المذکور فی سند القمی بدون هذه الواسطة والنضر ینقل عن عبد اللّه بن سنان ، فالروایة صحیحة سنداً .

وفی مجمع البیان : « العقود جمع عقد بمعنی معقود ، وهو أوکد العهود ، والفرق بین العقد والعهد أنّ العقد فیه معنی الاستیثاق والشدّ ولا یکون إلاّ بین متعاقدین ، والعهد قد ینفرد به

ص: 14


1- (1) سورة المائدة / 1 .
2- (2) تفسیر القمی 1 / 160 .
3- (3) تفسیر العیاشی 2 / 4 ح 5 .

الواحد ، فکلّ عقد عهد ولا یکون کلّ عهد عقداً . وأصله عقد الشیء بغیره ، وهو وصله به کما یعقد الحبل ، ویقال : أعقد العسل ، فهو معقَّد وعقید»(1) .

أقول : لایتم هذا الفرق بین العهد والعقد الذی ذکره صاحب المجمع ، بعد تفسیر الإمام علیه السلام العقد بالعهد ، فإن الآیة تدل علی وجوب الوفاء حتّی بالعهود ، فالظاهر تساویهما .

والآیة الشریفة بإطلاقها تدل علی وجوب الوفاء بالعقود والعهود الإجتماعیة والإقتصادیة . ومنها : المعاملات والبیوع والتجارات . وتدل علی صحة العقود والعهود والمعاملات بل تدل علی وجوب الوفاء بها .

وبالجملة : مضافاً إلی استفادة صحة العقود والعهود من الآیة الشریفة ، یستفاد منها وجوب الوفاء بها ، یعنی الالتزام واللزوم والوفاء والإیفاء بالعقود والعهود . وهذا الأمر - المستفاد من هذه الآیة - لا یُستفاد من الآیتین المذکورتین سابقاً ، وهذا أمرٌ مهم . أی أنّ الوفاء بالعقود والعهود لازم لایجوز ترکه إلاّ بالدلیل . یعنی الآیة تدل علی لزوم البیع والمعاملات .

سیما بعد ملاحظة لفظة « العقود » الجمع المحلّی باللام ، وبعد ملاحظة خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال علی بن أبی طالب علیه السلام : نزلت المائدة قبل أن یُقْبَضَ النبی صلی الله علیه و آله وسلم بشهرین أو ثلاثة(2) .

وهکذا ورد فی خبر عیسی بن عبد اللّه عن أبیه عن جدّه عن علی علیه السلام قال : « القرآن یَنْسَخ بعضُه بعضاً ، وإنّما کان یُؤخَذ من أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بآخره ، فکان من آخر ما نزل علیه سورة المائدة ، فنَسَخت ما قبلها ولم یَنْسَخْها شیءٌ ... »(3) .

وفی صحیحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدیث

ص: 15


1- (1) مجمع البیان 2 / 151 .
2- (2) تفسیر العیاشی 2 / 3 ح 1 .
3- (3) تفسیر العیاشی 2 / 3 ح 2 .

طویل :« ... إنّما نزلت المائدة قبل أن یُقبض بشهرین»(1) .

فالآیة الشریفة نزلت فی أواخر حیاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وتدل علی لزوم الوفاء بکلِّ عقد وعهد وبیع ومعاملة وتجارة .

وبعد تفسیر الامام علیه السلام العقد بالعهد ، یجوز التمسک بجمیع الآیات الواردة فی شأن الوفاء بالعهد فی صحة المعاملات والبیوع بل وجوبها أی لزومها ، نحو قوله تعالی : «وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ کَانَ مَسْؤُولاً »(2) وقوله تعالی : «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ »(3) وقوله تعالی : «وَالَّذِینَ هُمْ لاِءَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ »(4) وغیرها من الآیات الشریفة . والحمد للّه رب العالمین .

الروایات العامّة

اشارة

قد تمسک الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره (5) بأربعة من الروایات تیمناً علی سبیل الضابطة الکلیة من حیث الحلّ والحرمة .

الروایة الأولی :

ما رواها الشیخ الثقة الجلیل أبو محمّد الحسن بن علی بن الحسین بن شعبة الحرّانی الحلبی من أعلام القرن الرابع ومن معاصری الصدوق علیه الرحمة والراوی عن أبی علی محمّد بن همام الثقة المتوفّی عام 336 ، فی کتابه تحف العقول عن آل الرسول علیهم السلام .

جمع کتابه من الروایات الواردة فی الخطب والمواعظ والأخلاقیات عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم ثمّ عن أمیر المؤمنین علیه السلام ثمّ الأئمة علیهم السلام من بعده علی الترتیب وختمه بالإمام الحسن

ص: 16


1- (1) التهذیب 1 / 361 ح 1091 .
2- (2) سورة الاسراء / 34 .
3- (3) سورة البقرة / 177 .
4- (4) سورة المؤمنون / 8 وسورة المعارج / 32 .
5- (5) راجع المکاسب 1 / (13 - 7) .

العسکری علیه السلام ، ثم جعل فی آخر کتابه مناجاة اللّه لموسی وعیسی النبیین علی نبینا وآله وعلیهما السّلام ، ثمّ ذکر مواعظ المسیح فی الإنجیل وجعل فی آخره وصیّة المفضل بن عمر لجماعة الشیعة .

والکتاب محل اعتبار وأکثر روایاته موجودة فی الکتب المعتبرة ، ولکن مع الأسف مؤلّفه الجلیل حذف أسانید الروایات وقال فی مقدمة کتابه ما نصّه : « ...واسقطتُ الأسانید تخفیفاً وإیجازاً وإن کان أکثره لی سماعاً ولأنّ أکثره آدابٌ وحِکَمٌ تشهد لأنفسها ، ولم أجمع ذلک للمنکر المخالف بل ألّفْتُهُ للمسلِّم للأئمة ، العارف بحقّهم ، الراضی بقولهم ، الرَّادّ إلیهم ... »(1) .

فالروایة الواردة فیه أولاً : مرسلة ، وثانیاً : مضمرة هذا کلّه من جهة السند فلا اعتبار بها . ویمکن الذّب عن إضمارها بأن المؤلِّف رواها فی الروایات الواردة عن أبی عبد اللّه علیه السلام .

إن قلت : ضعف سندها منجبر بالشهرة .

قلت : لم تشتهر الروایة من حیث أنّها روایة ولا من حیث الفتوی ، أمّا من حیث الروایة فلعدم ورودها فی الکتب المعتبرة المشهورة بل نقلها عنه صاحب الوسائل مختصراً فی موضعین من کتابه(2) وهکذا نقلها عنه مختصراً فی الحدائق فی المقدمة الثالثة من کتاب التجارة(3) .

نعم ، نقلها عنه بتمامها العلامة المجلسی قدس سره فی بحار الأنوار(4) وهکذا منقولة فی جامع أحادیث الشیعة(5) .

وأنت خبیر بأنّ هذا لایوجب الشهرة الروائیة . وهکذا لم یفت بمضمونها الأصحاب ، لا سیما بعد ورود بعض ما یخالف المذهب فیها کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی . فلم تثبت شهرتها

ص: 17


1- (1) تحف العقول / 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 54 کتاب التجارة الباب 2 من أبواب ما یکتسب به ح 1 - و13 / 242 الباب 1 من کتاب الاجارة .
3- (3) الحدائق 18 / 67 .
4- (4) بحار الأنوار 103 / 44 طبع بیروت - کتاب العقود والایقاعات الباب 4 من أبواب المکاسب .
5- (5) جامع أحادیث الشیعة 17 / 145 الباب 1 من أبواب ما یکتسب به ح 15 .

الفتوائیة أیضاً .

هذا کلّه علی کلا المسلکین بانجبار ضعف السند بالشهرة ، فلا یفیدنا فی المقام شیئاً .

وأمّا متنها : فمَن أمعن النظر رأی الاغتشاش والقلق والاضطراب فیها وما لم یشبه کلام الإمام علیه السلام ، مع إنّهم علیهم السلام أفصح الخلق وکلامهم علیهم السلام فوق کلام المخلوقین ودون کلام الخالق .

ومتنها أشبه شیء بکلمات المصنفین من حیث التقسیم والتشقیق . مضافاً إلی اضطرابها فی التعبیر وتکرار جملها وألفاظها وکثرة ضمائرها وتعقیدها ، وکلّ هذا ینفی کونها روایةً .

هذا مع أنّ التقسیم الوارد فی الروایة من جهات معایش العباد والمعاملات إلی أربع جهات لم یرجع إلی محصَّل ولا یفید فی المقام شیئاً ، مثلاً : جعل ولایة ولاة العدل الذین أمر اللّه تعالی بولایتهم وتولیتهم علی الناس - یعنی الرسالة والإمامة وهما من المناصب الإلهیة التی جعلت للعصمة الطاهرة - من معایش العباد ومعاملاتهم مع وضوح خروجها عنها .

وهکذا جعل من صنوف الصناعات : الکتابة والحساب والتجارة والصیاغة والسراجة والبناء والحیاکة والقصارة والخیاطة وصنعة صنوف التصاویر ونحوها ، مع دخول کلّ ذلک إمّا فی الإجارات أو التجارات .

وهکذا خروج کثیر من وسائل المعایش عن المقسَم کالحیازات والنتاجات والاصطیاد وإحیاء الموات وإجراء القنوات والمزارعة والمساقاة والمضاربة والوکالة وأخذ الزکوات والأخماس ونحوها .

وبالجملة ، التقسیم الوارد فی الروایة لم یرجع إلی محصَّلٍ ونتیجة جامعٍ ، فالروایة صارت بهذه العبارات أساسها علی بنیانٍ غیر مرصوصٍ .

مضافاً إلی ورود فقرات فی الروایة لم یفت بها أحدٌ من المسلمین أو المؤمنین أو لم تکن مشهورةً بین أصحابنا :

نحو : حرمة بیع جلود السباع ، مع أنّ المسلمین کلّهم - خاصةً وعامةً - یجوّزون بیعها ، نعم الخلاف بیننا وبینهم فی عدم جواز الصلاة فیها عندنا وجوازها عندهم .

ومنها : حرمة الانتفاع بالمیتة ولو کانت طاهرة ، مع أنّ الأصحاب علی جواز الانتفاع بالمیتة سواءً کانت طاهرة أم نجسة ، یعنی سواءً کانت لها نفس سائلة أم لا .

ص: 18

ومنها : حرمة بیع النجس مطلقاً ؛ مع أنّ الأصحاب علی جواز بیع النجس لأجل منافعه المحلّلة والإنتفاع به .

ومن جمیع ذلک ظهر لک الوهن فی القول بصدور هذه الروایة من الامام علیه السلام .

ولذا لم أتعرض لشرح فقراتها وبیان مافیها من الأحکام ، وغایة ما یمکن أن یقال : حیث دیدنی عدم ردّ الروایات ، أنّها علی فرض ثبوتها لیست دلیلاً مستقلاً ولا یمکن الاعتماد علیها إلاّ من جهة التأیید والتأکید .

ثمّ فلیعلم أنّ الشیخ نقل الروایة عن الوسائل والحدائق لا عن أصل الکتاب ، وبین النقلین فرق بیّن ، ولعلّهما هذّباها أو اختصراها .

ثم قال الشیخ الأعظم : « وحکاه غیر واحد عن رسالة المحکم والمتشابه للسید قدس سره »(1) .

أقول : حکاها عن رسالة المحکم والمتشابه صاحبا الوسائل(2) والحدائق(3) . فاعلم أنّ رسالة المحکم والمتشابه للسید المرتضی قدس سره اختصر فیها تفسیر الشیخ الجلیل أبی عبد اللّه محمد ابن إبراهیم بن جعفر النعمانی الکاتب المعروف بإبن زینب ، والمطبوع جمیعه فی بحار الأنوار(4) ، ولعلّ فی تفسیره أزید وأکثر من ذلک ولکن وصل إلینا اختصار السید فقط باسم « المحکم والمتشابه » ، لأنّ الموجود من التفسیر والرسالة سیّان . ولکن المهم هنا عدم وجود هذه الروایة فی تفسیر النعمانی المطبوع فی البحار ولا فی رسالة المحکم والمتشابه للسید ، وکما عرفت کلاهما واحدٌ .

نعم ، ورد فی تفسیر النعمانی هذه الفقرات ، وهی غیر هذه الروایة : « ... فأمّا ما جاء فی القرآن من ذکر معایش الخلق وأسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلک من خمسة اُوجه : وجه الإشارة (والظاهر کونها تصحیف الإمارة) ، ووجه العمارة ، ووجه الإجارة ، ووجه التجارة ، ووجه الصدقات ... »(5) ثمّ شرحها وأنت تری أنّها غیرها .

ص: 19


1- (1) المکاسب 1 / 12 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 57 - کتاب التجارة - الباب 2 من ابواب ما یکتسب به .
3- (3) الحدائق 18 / 70 - کتاب التجارة - المقدمة الثالثة .
4- (4) بحار الانوار 90 / (97 - 1) .
5- (5) بحار الانوار 90 / 46 .

ونقل صاحب الوسائل عن رسالة المحکم والمتشابه للسید عن تفسیر النعمانی هذه الروایة الأخیرة فی کتابه(1) .

الروایة الثانیة :
اشارة

ما ورد فی الفقه المنسوب إلی الإمام علی بن موسی الرضا علیه آلاف التحیة والثناء . ورد فی أوّل باب التجارات والبیوع والمکاسب منه، ونصه : « إعلم - یرحمک اللّه - أن کلّ ما مأمور به ممّا هو صلاح للعباد وقوام لهم فی أمورهم ، من وجوه الصلاح الذی لا یقیمهم غیره - ممّا یأکلون ویشربون ویلبسون وینکحون ویملکون ویستعملون - فهذا کلّه حلال بیعه وشراؤه وهبته وعاریته ، وکلّ أمر یکون فیه الفساد - ممّا قد نهی عنه ، مثل : المیتة والدم ولحم الخنزیر والربا وجمیع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلک - فحرام ضار للجسم وفاسد للنفس»(2) .

أقول : یقع الکلام حول هذه الروایة فی أمرین :

الأمر الأوّل : دلالتها

الظاهر من الحلیة والحرمة فی الروایة أعمّ من التکلیف والوضع یعنی ، إنّهما مطلقان بالنسبة إلی الشرع ولیس فی قبالهما منع من الشارع الأقدس ، ولذا صار أعمَّ من التکلیف والوضع ویشملهما فیستفاد مثلاً من حلیّة البیع صحتها وترتیب آثار الصحة علیه ومن حلیّة الأکل جوازه تکلیفاً . وبهذا البیان یندفع بعض ما استشکل علی الروایة من أن کلامنا فی الحلیّة والحرمة الوضعیة - یعنی الصحة والفساد - والروایة تدل علی الحلیّة والحرمة التکلیفیة .

ولکن یرد الاشکال من جهتین فی الدلالة :

الأوّلی : الروایة تدل علی حرمة استعمال ما نهی عنه ممّا فیه الفساد بجمیع الاستعمالات حتّی الإمساک ، مع أنّه لم یفت به أحدٌ من الأصحاب ، وکیف یمکن مثلاً الإفتاء

ص: 20


1- (1) وسائل الشیعة 6 / 341 - کتاب الخمس الباب 2 من ابواب ما یجب فیه الخمس ح 12 .
2- (2) الفقه الرضوی / 250 .

بحرمة إمساک الدم والمیتة ولحوم السباع ونحوها ؟

ولکن یمکن أن یذّب عن هذا الاشکال : بأنّ المقصود من حرمة إمساکه لوجه الفساد ، یعنی بقصد أن یستعمل فی المآل فی الفساد ، فیندفع الاشکال کما قاله بعض الأساتذة فی المقام(1) .

ویمکن أن یناقش فی هذا الذَّب : بأنّ صرف قصد الاستعمال فی الفساد لا یوجب حرمة مطلق الإمساک ، لا سیما ما لم یترتب علیه عمل محَّرم بل بقی فی مرحلة القصد والنیّة . وبالجملة الحرام فی الشریعة فعله لا قصده کما هو واضح . فقصد ارتکاب الفساد بنفسه لا ینقلب حکم الإمساک فی هذه الأمور ، فعاد الاشکال من رأسه .

الثانیة : مقتضی قوله « فحرام ضارّ للجسم وفاسد للنفس» . أنّها علی سبیل الضابطة الکلیّة ، یعنی کلّ ما یضرّ بالجسم ویوجب فساد النفس فهو حرام ، وهذه الضابطة غیر تامة کما هو واضح .

مثلاً : کثیر من المحرّمات - نحو بعض الملابس والمناکح وأکثر المشارب والمآکل - لیست ضارة بالجسم ولا توجب فساد النفس .

نعم ، علی مسلک العدلیة کلّ الأحکام لها ملاکات وحِکَم ، ولایکون حکمٌ إلاّ بالملاک الخاصّ به ولکن لیست جمیع هذه الملاکات شخصیّة بل ربّما یکون الملاک إجتماعیّاً أو غیره ، ولکن أین هذا من الاستدلال للمسائل الفقهیة واستنباط الأحکام الکلیّة للمعاملات والتجارات ؟ !

هذا کلّه المناقشة فی دلالة الروایة ، مضافاً إلی أنّ من أمعن النظر فیها یری أنّها مأخوذة من الروایة الأولی علی سبیل الإجمال والاختصار .

الأمر الثانی : سندها

أوّل ظهور هذا الکتاب (الفقه الرضوی) کان فی عصر المجلسیین ، حیث جاء به السید الثقة المحدّث القاضی أمیر حسین علیه الرحمة بعد سنین من مجاورته لبیت اللّه الحرام

ص: 21


1- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 1 / 112 .

علی رسم هدیّة ثمینة إلی المجلسی الأوّل من مکة المکرمة وقال له :« لمّا کنت فی مکة المعظمة ، جاءنی جماعة من أهل قم مع کتاب قدیم ، کتب فی زمان أبی الحسن علی بن موسی الرضا علیه السلام وکان فی مواضع منه بخطه صلوات اللّه وسلامه علیه وکان علی ذلک إجازات جماعة کثیرة من الفضلاء بحیث حصل لی العلم العادی بأنّه تألیفه علیه السلام ، فاستنسخت منه وقابلته مع النسخة »(1) . انتهی کلام القاضی أمیر حسین .

فأخذ المجلسی الأوّل هذه الهدیة الثمینة واستنسخها واستفاد منها فی شرحه الفارسی علی الفقیه ، وهکذا اعتمد علیه نجله العلامة ووزع ما فیها فی بحاره ، والعلامة بحر العلوم أیضاً ذهب إلی صحة هذه النسبة فی فوائده(2) .

ومن الذاهبین إلی صحة هذه النسبة : الشیخ المحدث یوسف البحرانی صاحب الحدائق الناضرة وجعله حجة بنفسه ، ومنهم : المحقق المولی محمّد مهدی النراقی الوالد صاحب اللوامع ، ومنهم : الفاضل الکاشانی شارح المفاتیح ، کما نقل کلّ ذلک عنهم الفاضل النراقی الولد فی عوائده(3) .

فهذا القول الأوّل فی المقام ، أعنی قبول صحة انتساب هذا الکتاب إلی الإمام الرضا علیه السلام . ولکن فی المقام أقوال أُخر نتعرض لبعضها ولبعض مَنْ یقول بها :

القول الثانی : عدم صحة هذا الانتساب وجهالة مؤلّفه ، ذهب إلیه صاحب الوسائل وعدّه من الکتب المجهولة(4) وجدنا الأعلی صاحب هدایة المسترشدین(5) ، وعمّنا الأکرم صاحب الفصول(6) ، وجدنا العلامة صاحب الوقایة حیث یقول فی أحد کتبه الفقهیة المسمی

ص: 22


1- (1) فوائد السید بحر العلوم / 147 ومفاتیح الاصول / 351 ونقل عنهما فی خاتمة مستدرک الوسائل 1 / 231 .
2- (2) فوائد السید بحر العلوم / 145 .
3- (3) عوائد الأیام / 251 .
4- (4) وسائل الشیعة 30 / 160 .
5- (5) قال فی کتابه الفارسی المسمی ب- « رساله صلاتیه» ص 400 مانصه : « در اعتماد بر آن کتاب (الفقه الرضوی) تأمل است» .
6- (6) الفصول / 313 .

ب- « نُجعَة المرتاد فی شرح نجاة العباد» : « واعلم أنّ هذا الکتاب (یعنی الفقه المنسوب) عندنا من الوهن بمرتبة لا نرضی أن ینسب إلی مَنْ یعرف واضحات النحو وضروریّات الفقه ، لکثرة ما فیه من الأغلاط الشنیعة والمخالفة لضروریّات مذهب الشیعة»(1) .

وهکذا نقل العلامة السید جواد العاملی فی مفتاح الکرامة(2) عن أستاده السید محمد مهدی بحر العلوم الطباطبائی قدس سره نفی ثبوت الکتاب إلی مولانا الرضا علیه السلام . فالسید بحر العلوم المتوفی سنة 1212 أیضاً من القائلین بهذا القول ، ولعلّه عدل عن القول الأوّل فی مجلس بحثه الشریف .

وابن عمنا آیة اللّه الحاج الشیخ مهدی النجفی رحمه الله المتوفی سنة 1393 ق یقول فی کتابه الأرائک بعد نقل کلام صاحب الوسائل فی نفی هذا الانتساب : « أقول : بل یقرب صحة نفیه عنه علیه السلام ، لکثیر من مضامینه مثل التخییر بین غسل الرجلین والمسح علیهما ، والتفصیل بین حلّیة المتعة للحاضر والمضطر المسافر فلا یجوز للأوّل ، ونفیه کون المعوذتین من القرآن ، وغیر ذلک ، بل ربّما یروی عن بعض الأئمة علیهم السلام بوسائط متعددة ، فالظاهر أنّه من تألیفات بعض العلماء »(3) .

القول الثالث : عدّ روایاته من جملة الأخبار القویّة ، قال السید السند فی المفاتیح :« ... وفی الاعتماد علیه بمجرده إشکال لعدم ثبوت کونه من مولانا الرضا علیه السلام بطریق صحیح ، ولکن لا بأس بأن تعدّ روایاته من الروایات القویّة ، التی ینجبر قصورها بنحو الشهرة ، ... ولکن فی بلوغه درجة الحجیة إشکال ، ولکن لاأقل من عدّه قویّاً وعلیه یمکن جعله مرجِّحاً لأحد الخبرین المتعارضین علی الآخر ... »(4) .

القول الرابع : إنّه بعینه رسالة علی بن بابویه إلی ولده الصدوق المعروف ب- « شرائع

ص: 23


1- (1) نجعة المرتاد فی شرح نجاة العباد / 415 المطبوع ضمن « میراث حوزه اصفهان» المجلد الأوّل .
2- (2) مفتاح الکرامة 10 / 446 طبع جماعة المدرسین .
3- (3) الأرائک / 172 .
4- (4) مفاتیح الأصول / 351 .

الدین » . وهذا المختار الأوّل للمیرزا عبد اللّه الافندی صاحب ریاض العلماء(1) وأستاذه العلامة المیرزا محمد بن الحسن الشیروانی الشهیر بملاّ میرزا کما نقل عنه تلمیذه فی الریاض(2) . وذهب إلیه العلامة والد السید حسین القزوینی « قدهما» کما نقل عنه فی المستدرک(3) .

القول الخامس : ما ذهب إلیه جدنا من طریق الاُمّ السید محمد باقر حجة الاسلام صاحب « مطالع الانوار » من احتمال کونه کتاب جعفر بن بشیر البجلی الثقة المذکور فی فهرست الشیخ(4) ، أو کتاب محمد بن علی بن الحسین بن زید الشهید المذکور فی رجال النجاشی(5) ، أو کتاب وُرَیْزة بن محمّد الغَسّانی المذکور فی رجال النجاشی(6) ، أو کتاب علی بن مهدی بن صدقة بن هشام بن غالب بن محمد بن علی الرّقی الأنصاری المذکور فی رجال النجاشی(7) . ونقل کلّ ذلک صاحب المستدرک(8) من خطه طاب ثراه . المکتوب علی ظهر نسخة من الکتاب .

القول السادس : أن یکون الکتاب ، کتاب المنقبة المنسوب إلی الإمام الحسن العسکری علیه السلام ، فقد ذکر جماعة من الأصحاب أنّ للإمام العسکری علیه السلام تصنیفاً بهذا الإسم مشتملاً علی أکثر الأحکام ومتضمناً لأغلب مسائل الحلال والحرام ، منهم : ابن شهر آشوب فی المناقب(9) والشیخ علی بن یونس البیاضی العاملی فی الصراط المستقیم علی ما نقل عنه فی

ص: 24


1- (1) ریاض العلماء 6 / 43 .
2- (2) ریاض العلماء 2 / 30 .
3- (3) خاتمة مستدرک الوسائل 1 / 237 .
4- (4) فهرست الشیخ / 43 الرقم 131 .
5- (5) رجال النجاشی / 366 الرقم 922 .
6- (6) رجال النجاشی / 432 الرقم 1163 .
7- (7) رجال النجاشی / 277 الرقم 28 .
8- (8) خاتمة مستدرک الوسائل 1 / 321 .
9- (9) المناقب 4 / 424 : أن له کتاب المقنعة .

خاتمة المستدرک(1) . واحتمل هذا القول العلامة المیرزا محمد هاشم الچهارسوقی الخوانساری فی رسالته الخاصة حول هذا الکتاب(2) .

القول السابع : أنّ الکتاب من مؤلفات بعض أولاد الأئمة علیهم السلام بأمر من الإمام الرضا علیه السلام .

ذهب إلیه الوحید البهبهانی قدس سره ولذا اعتنی به واعتمد علیه غایة الإعتماد .

ونقل ذلک عن الوحید تلمیذه السید حسین القزوینی فی معارج الأحکام(3) .

القول الثامن : أنّه کتاب « التکلیف » لمؤلفه محمد بن علی الشلمغانی المکنی بأبیجعفر ویُعرف بابن أبی العزاقر ، کان متقدماً فی أصحابنا مستقیم الطریقة ، فحمله الحسد لأبی القاسم الحسین بن روح علی ترک المذهب ، وظهرت منه مقالات منکرة ، فتبرأت الشیعة منه وخرجت فیه توقیعات کثیرة من الناحیة المقدسة ، وفی ذی القعدة الحرام عام 322 ضربت عنقه بأمر من الخلیفة الراضی باللّه . ولکن کتاب التکلیف صنّفه أیّام استقامته وکانت الطائفة تعمل به وترویه عنه إلاّ فی موارد عدیدة :

منها : ما روی فی باب الشهادات : أنّه یجوز للرجل أن یشهد لأخیه إذا کان له شاهد واحد من غیر علم . نقل عنه العلامة فی الخلاصة(4) .

ومنها : ما حکی عنه(5) فی تحدید الکر من أنّه : ما لا یتحرک جنباه بطرح حجر فی وسطه .

ومنها : ما نقل عنه(6) من کفایة غَسْل القدمین من المسح حیث قال : « وإن غسلت

ص: 25


1- (1) خاتمة مستدرک الوسائل 1 / 322 .
2- (2) رسالة فی تحقیق حال فقه الرضا علیه السلام للخوانساری / 41 .
3- (3) تحقیقی پیرامون کتاب فقه الرضا علیه السلام / 9 .
4- (4) الخلاصة / 254 .
5- (5) حکاه عنه الشهید فی الذکری (1 / 81) والسید العاملی فی مفتاح الکرامة (1 / 296) .
6- (6) راجع فصل القضا / 265 للسید حسن الصدر الکاظمی قدس سره المطبوع فی مجلة علوم الحدیث ، العدد العاشر .

قدمیک ونسیت المسح علیهما فإن ذلک یجزیک لأنّک قد أتیت بأکثر ما علیک وقد ذکر اللّه الجمیع فی القرآن المسح والغَسْل ، قوله تعالی «أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَینِ»بفتح اللام أراد به الَغسْل وقوله «أَرْجُلِکُمْ» بکسر اللام أراد به المسح وکلاهما جائزان مرضیان الغَسْل والمسح » .

وأوّل : من ذهب إلی هذا القول العلامة السید حسن الصدر الکاظمی (1272 - 1354) فی رسالته الخاصة حول هذا الکتاب المسماة ب- « فصل القضا فی الکتاب المشتهر بفقه الرضا علیه السلام (1) » .

أمّا القول المختار : هو القول الثانی - یعنی ما ذهب إلیه صاحب الوسائل والسید بحر العلوم علی ما حکی عنه تلمیذه صاحب مفتاح الکرامة وجدنا العلامة التقی صاحب الهدایة وعمّنا الأکرم صاحب الفصول وجدنا العلامة أبی المجد وابن عمّنا الجلیل قدس سرهم وقد مرّت منّا أقوالهم - من عدم ثبوت صحة نسبة الکتاب إلی الإمام الرضا علیه السلام مع قریب إلی تسعمأة سنة بین تألیف الکتاب یعنی عصر الرضا علیه السلام وظهور الکتاب ، فأین لنا الطریق المعتبر المعتمد علیه فی هذه القرون المتمادیة ؟ وکیف یمکن أن ندخل الکتاب فی الروایات المعتبرة المرویة بطریق ثقات أصحابنا مع فقدان الطریق والراوی ؟ هذا کلّه أولاً .

وثانیاً : علم القاضی أمیر حسین والمجلسیین وبحر العلوم - علی أحد قولیه - والشیخ یوسف البحرانی والمولی محمد مهدی النراقی والفاضل الکاشانی قدس سرهم حجة فی حقّهم ولکن لا یفید فی حقّنا شیئاً ، کما هو واضح .

وثالثاً : ما یوجب الریب والوهن فی الکتاب وجود موارد فیه مخالف لمذهب أهل البیت علیهماالسلام :

منها : کفایة الغسل عن المسح ، قال : « وإن غسلت قدمیک ونسیت المسح علیهما فإن ذلک یجزیک لأنک قد أتیت بأکثر ما علیک ... »(2) إلی آخر الکلام الذی مرّ منّا آنفاً من کتاب

ص: 26


1- (1) قد طبعت أخیراً فی مجلة علوم الحدیث ، العدد العاشر / (312 - 227) بتحقیق ومراجعة العلاّمتین الشیخ رضا الأستادی والسید محمد رضا الحسینی الجلالی دامت برکاتهما .
2- (2) الفقه الرضوی / 79 .

التکلیف للشلمغانی .

ومنها : تحدید الکر قال : « والعلامة فی ذلک أن تأخذ الحجر فترمی به (فی وسطه) فإن بلغت أمواجه من الحجر جنبی الغدیر فهو دون الکر وإن لم یبلغ فهو کر»(1) .

وهذا التحدید قریب من مذهب أبی حنیفة .

ومنها : قوله « وانو عند افتتاح الصلاة ذکر اللّه وذکر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم واجعل واحداً من الأئمة نصب عینیک ... »(2) .

ومنها : قوله « إنّ المعوذتین من الرُّقیة ، لیستا من القرآن ، أدخلوها فی القرآن وقیل : إنّ جبرئیل علیه السلام علّمها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ... وأمّا المعوذتان فلا تقرأهما فی الفرائض ولا بأس فی النوافل»(3) .

أقول : استقر الاجماع من العامة والخاصة علی أنّهما من القرآن ویجوز القراءة بهما فی الفرض والنفل ، ونقل عن ابن مسعود فقط أنّهما لیستا من القرآن .

ومنها : قال بعد تقسیم النکاح إلی أربعة أوجه : « منها : نکاح میراث ، وهو بولی وشاهدین و مهر معلوم - ما یقع علیه التراضی من قلیل وکثیر - وأنّه احتیج إلی الشهود ... »(4) .

ومنها : قوله فی باب اللباس وما یکره فیه الصلاة : « ... وکذلک الجلد ، فإن دباغته طهارته »(5) .

ومنها : ما ورد فی باب الشهادة من قوله : « وبلغنی عن العالم علیه السلام أنّه قال : إذا کان لأخیک المؤمن علی رجل حقٌّ فدفعه عنه ولم یکن له من البیّنة إلاّ واحد وکان الشاهد ثقة فسألته عن شهادته فإذا أقامها عندک ، شهدت معه عند الحاکم علی مثال ما شهد ، لئلا یُتْوی

ص: 27


1- (1) الفقه الرضوی / 91 .
2- (2) الفقه الرضوی / 105 .
3- (3) الفقه الرضوی / 113 .
4- (4) الفقه الرضوی / 232 .
5- (5) الفقه الرضوی / 302 .

حقّ امرئ مسلم »(1) .

تنبیه : حول نسخ الکتاب

مَن أمعن النظر حول الکتاب وتاریخه یجدله نسخاً فی التاریخ :

1 - النسخة القمیّة : التی جاء بها القمیون إلی مکة المکرمة واستنسخها القاضی أمیر حسین قدس سره وجاء بها إلی المجلسی الأوّل قدس سره واستنسخها واعتمد علیها وروّجها ، وقد مرّ ذکرها .

2 - النسخة الهندیّة : عرّفها السید نعمة اللّه الجزائری قدس سره تلمیذ العلامة المجلسی فی المطلب السادس من مقدمات شرح التهذیب حیث قال :« ... وکم قد رأینا جماعة من العلماء ردّوا علی الفاضلین بعض فتاواهما بعدم الدلیل فرأینا دلائل تلک الفتاوی فی غیر الأصول الأربعة ، خصوصاً کتاب الفقه الرضوی الذی اُتی به من بلاد الهند فی هذه الأعصار إلی اصفهان ، وهو الآن فی خزانة شیخنا المجلسی - أدام اللّه أیامه - فإنّه قد اشتمل علی مدارک کثیرة من الأحکام وقد خلت منها هذه الأصول الأربعة وغیرها»(2) .

أقول : لعلّه أشار إلی هذه النسخة الهندیة العلامة المجلسی حیث یقول : « وجدت فی بعض نسخ الفقه الرضوی صلوات اللّه علیه فصولاً فی بیان أفعال الحج وأحکامه ولم یکن فیما وصل إلینا من النسخة المصحّحة التی أوردنا ذکرها فی صدر الکتاب ، فأوردناه فی باب مفرد لیتمیّز عمّا فرّقناه علی الأبواب»(3) .

3 - النسخة المکیّة : وهی غیر القمیّة التی جاء القمیون بها من قم ، بل هی وجدت فی مکة المکرمة . قال المحقق الخبیر المیرزا عبد اللّه الاصفهانی قدس سره فی ریاض العلماء مانصه : « السید السند الفاضل صدر الدین علی خان المدنی ثم الهندی الحسینی الحسنی ابن الأمیر نظام الدین - ثم ذکر نسبه إلی أحمد بن السکین بن جعفر بن محمّد بن محمّد بن زید الشهید ابن

ص: 28


1- (1) الفقه الرضوی / 308 .
2- (2) نقل عنه صاحب المستدرک فی الخاتمة 1 / 251 .
3- (3) بحار الأنوار 96 / 333 .

علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیهم السلام - إلی أن قال : ثمّ اعلم أنّ احمد السکین ، وقد یقال : أحمد بن السکین هذا الذی قد کان فی عهد مولانا الرضا صلوات اللّه علیه ، وکان مقرّباً عنده فی الغایة ، وقد کتب الرضا علیه السلام لأجله کتاب فقه الرضا علیه السلام ، وهذا الکتاب بخط الرضا علیه السلام موجود فی الطائف بمکة المعظمة ، فی جملة کتب السید علی خان المذکور ، التی بقیت فی بلاد مکّة وهذه النسخة بالخط الکوفی وتاریخها سنة مائتین من الهجرة وعلیها اجازات العلماء وخطوطهم ، وقد ذکر الأمیر غیاث الدین - [وهو من أجداد السید علی خان ] - أیضاً فی بعض إجازاته بخطه هذه النسخة ، ثم أجاز هذا الکتاب لبعض الأفاضل ، وتلک الاجازة بخطه أیضاً موجودة فی جملة کتب السید علی خان عند أولاده بشیراز »(1) .

أقول : إن هذه النسخة المکیّة لو وجدت بالکیفیة المنقولة فی کلام صاحب الریاض لابدّ أن ینظر فیها بالدقة ، ویمکن أن ینقلب الرأی والنظر بعد رؤیتها کما هو واضح ولکن لم تصل إلینا ولم نعرف عنها شیئاً إلاّ ماذکروه ، فدون وجودها وثبوتها ووصولها إلینا خرط القتاد .

وما قاله بعض الأساتذة مد ظله العالی(2) : من أنّ السید بحر العلوم یشهد بأنّها عین فقه الرضا الموجود عندنا . غیر تام ، لأن السید رحمه الله یشهد برؤیة النسخة الموجودة فی مکتبة الخزانة الرضویة علی صاحبها آلاف التحیّة والسلام ، ونقل العبارة الموجودة فی ختام هذه النسخة علی ید کاتبها ، والنسخة الرضویة اتفق الفراغ من تسویدها فی یوم الأحد رابع عشر شهر محرم سنة ألف وخمسین (سنة 1050) فی المشهد الرضوی علی ید العبد الضعیف المحتاج إلی رحمة اللّه الملک المهیمن محمد مؤمن بن حاجی مظفر علی الخطیب الاسفراینی .

وأنت تری أنّها کتبت بعد سنة الألف . فلا یفیدنا شیئاً فی المقام .

نعم ، کتب کاتبها فی آخر النسخة عبارةً من تلقاء نفسه بالفارسیة وعرّبها السید بحر العلوم قدس سره فی فوائده ونقلها عنه علی ماهی علیه وهذه العبارة موجبة للقول بشهادته قدس سره انّ

ص: 29


1- (1) ریاض العلماء 3 / 363 ونقل عنه فی خاتمة مستدرک الوسائل 1 / 241 .
2- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 1 / 119 .

النسخة المکیّة عین الفقه الرضوی الموجود ، ولذا نقلت هذه العبارة الفارسیة بعینها حتی یمعن القارئ النظر فیها بالدّقة لیظهر له صحة کلامنا .

کتب الناسخ المذکور آنفاً فی آخر النسخة الرضویة بالفارسیة مانصه : « این کتابیست که حضرت إمام الجن والإنس سلطان أبی الحسن علی بن موسی الرضا علیه التحیّه والثناء از جهت محمد بن السکین تصنیف نموده بوده اند واصل بخط مبارک حضرت در مکه است ، وحضرت مغفرت پناه مولانا میرزا محمد محدّث از خط شریف حضر [ ت ] که بکوفی بوده بعربی انتقال نموده اند »(1) .

ثم أنت تری هذا البیان من هذا الکاتب لا یفیدنا فی المقام شیئاً ولا یدل علی رؤیة النسخة المکیّة لا مِنْ قِبَلِه ولا مِنْ قِبَلِ غیره .

ثم إنّ هنا یقع المعارضة بین النقلین بأنّ الکتاب کتب لأجل محمد بن السکین أو أحمد بن السکین .

محمد بن السکین الوارد فی الرجال هو ابن عمار النجفی الجمّال ، ثقة له کتاب ، روی أبوه عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، ذکره النجاشی(2) والشیخ فی الفهرست(3) . وروی هو بواسطتین(4) وبواسطة(5) عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الکافی الشریف .

قال فی قاموس الرجال :« هذا ، ووصفه النجاشی بالجمّال ولکن فی نوادر بعد کراهة ورهبانیّة نکاحه عن محمد بن سکین الحناط(6) وفی النجاشی فی ترجمة نوح بن درّاج قال : « قال محمد بن سکین : دعانی نوح بن درّاج إلی هذا الأمر » ویروی عن نوح فی مَثَل السلاح ... فإنّه نقل روایة الحسن بن عتبة بن عبد الرحمن الکندی عنه فی فهرست الشیخ فی ترجمة

ص: 30


1- (1) طبعت هذه الورقة من النسخة فی الفقه الرضوی / 64 .
2- (2) رجال النجاشی / 361 الرقم 969 .
3- (3) الفهرست / 151 الرقم 644 .
4- (4) الکافی 1 / 238 باب مَثَل سلاح رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .
5- (5) الکافی 7 / 88 باب میراث ولد الولد .
6- (6) الکافی 5 / 497 .

معاویة بن عمار »(1) .

وأمّا أحمد بن السکین العلوی المذکور فی کلام المیرزا عبد اللّه الأفندی الأصفهانی بنحو « قد یقال » فهو مهمل فی الرجال . نعم : ورد ذکره وذکر أولاده فی بعض کتب الأنساب نحو عمدة الطالب(2) لابن عنبة و الشجرة المبارکة(3) للفخر الرازی ومعالم أنساب الطالبیین(4) للدکتور عبد الجواد الکلیدار .

وبالجملة ، الفقه الرضوی الموجود بأیدینا لم یثبت صحة انتسابه إلی الإمام الهمام علی بن موسی الرضا علیه آلاف التحیة والثناء کما علیه أصحاب الوسائل والمصابیح والهدایة والفصول والوقایة والأرائک أعلی اللّه مقامهم .

ولکن حیث دیدننا قبول الروایات لاردّها ، لا بدّ لنا من المعاملة مع روایاتها ومتنها ، معاملة المراسیل فَتصلح للتأیید والتأکید فقط . والحمد للّه ربّ العالمین .

الروایة الثالثة :
اشارة

ما رواها القاضی النعمان المصری رفعه عن الصادق علیه السلام أنه قال : « الحلال من البیوع کلّ ما هو حلال من المأکول والمشروب وغیر ذلک ممّا هو قوام للناس وصلاح مباح لهم الانتفاع به ، وما کان محرّماً أصله منهیّاً عنه لم یجز بیعه ولا شراؤه»(5) .

أقول : یقع الکلام عن هذه الروایة فی مقامین :

المقام الأوّل : دلالتها

الروایة تدل بفقرة « وما کان محرّماً أصله منهیّاً عنه لم یجز بیعه ولا شراؤه » ، تدل علی حرمة بیع الأشیاء التی تعلق بها التحریم من جهة ما ، مع أنّه لیس بحرام قطعاً لا وضعاً ولا

ص: 31


1- (1) قاموس الرجال 9 / 291 الرقم 6774 .
2- (2) عمدة الطالب / 276 و 279 .
3- (3) الشجرة المبارکة / 139 و 140 .
4- (4) معالم أنساب الطالبین / 216 و 217 .
5- (5) دعائم الاسلام 2 / 18 ح 23 .

تکلیفاً . هذا هو الإشکال العمدة فی دلالتها .

ویمکن أن یذبّ عن الاشکال بأنّ المراد من هذه الفقرة : ما کان متمحّضاً فی الفساد ، وأنّ لفظة « ما کان محرّماً » بنحو الإطلاق منصرفة إلی الأشیاء التی کانت متمحضةً فی الفساد .

وأمّا الإشکال فی الروایة من أنّ ظاهرها الحلّیّة والحرمة التکلیفیان والکلام هنا فی الوضعیین ، فقد مرّ الجواب عنها فی الأبحاث الماضیة ، بأنّ الحلیة والحرمة فی الکتاب والسنة ، وهذه الروایات أعمٌ من الوضعیة والتکلیفیة وتشملهما . والمراد بالحلّیّة هنا أطلاق الشیء من ناحیة الشرع والمراد بالحرمة محدودیّته من ناحیة الشرع ، وإطلاق کلّ شیء ومحدودیّته بحسب کلّ شیء یختلف : فتارة ینتج الوضع ، وتارة ینتج التکلیف . وهذا امرٌ مهمٌ لابدّ أن ینظر فیه بالدقة ویترتب علیه فروع کثیرة ، وهذا مبنانا فی الأدلة الفقهیة .

المقام الثانی : سندها

نقل هذه الروایة مرسلة القاضی أبو حنیفة النعمان بن محمد بن منصور المصری الشیعی فی کتابه « دعائم الإسلام» الذی کان کتابه هذا علی نحو القانون الرسمی والدستور من زمن تألیفه إلی نهایة الحکومة الفاطمیة ، والقاضی النعمان توفّی بالقاهرة سنة 363 وصلّی علیه الخلیفة الفاطمی المعزّ لدین اللّه .

والإشکال فی سند الروایة إرسالها ، لعدم ذکر الطریق المعتبر من القاضی إلی الإمام الصادق علیه السلام ، فالروایة تدخل فی المراسیل ، فلا تصلح إلاّ للتأیید ولا للتأکید .

وأمّا جلالة مقام القاضی النعمان وفضله وعلمه ونبله وفقهه ونحو ذلک کلّه لا یفیدنا فی المقام شیئاً . کما أنّ الخلاف فی مذهبه من کونه إمامیاً أو اسماعیلیاً بعد استبصاره من المذهب المالکی أیضاً لا یهمّنا ، لأنّ ابن شهر آشوب المتوفی عام 588 نفی کونه إمامیّاً وقال : « ابن فیاض القاضی النعمان بن محمد ، لیس بإمامی وکتبه حسان»(1) ثم ذکر بعض کتبه ، وتبعه صاحب الروضات قدس سره (2) .

ص: 32


1- (1) معالم العلماء / 126 الرقم 853 .
2- (2) روضات الجنات 8 / 149 الرقم 725 .

ولکن کثیراً من الأصحاب ذهبوا إلی کون الرجل إمامیاً وکان فی الدولة الفاطمیة فی مقام التقیة ، واستدلوا علی ذلک بوجوه ، قد استقصی الکلام فیها المحدث النوری قدس سره فی خاتمة مستدرک الوسائل(1) ، فراجعها إن شئت .

وقال العلامة الجد ، الفقیه علی التحقیق آیة اللّه أبی المجد الشیخ محمد الرضا النجفی الإصفهانی قدس سره فی کتابه « نُجعَة المرتاد فی شرح نجاة العباد» فی شأن المؤلَّف والمؤلِّف ما نصه : « وکتاب الدعائم من أصح الکتب و أتقنها وأخبارها لا تقصر عن مراسیل الکافی بل تزید علی أخبار الکافی فی إتقان ضبط ألفاظ الروایات ، وکم من روایة معضلة مضطربة المتن فی الکافی زال عنها الإعضال بمراجعة الدعائم وتحقّق بذلک عندنا صحة ما حدس به بعض مشایخنا - دام ظله - من أنّ نسخ الأصول التی کانت عند القاضی کانت أصح من التی کانت عند ثقة الإسلام . وأمّا جلالة قدر مولِّفه وکونه من أعاظم الطائفة فهو أمرٌ لا ریب فیه ، ومن أراد التفصیل فلیرجع إلی ما ذکره شیخنا قدس سره فی مستدرک الوسائل »(2) .

قال المؤلف : ببالی أننی قد سمعتُ مکرراً مِنْ بعض أساتذتنا - مد ظله - فی مجلس بحثه الشریف من رفع الإعضال والإضطراب وربّما حتّی التعارض بین الروایات بمراجعة کتاب الدعائم لما فی روایاته من قرائن أو نکات ترفع جمیع ذلک .

والعمدة فی المقام ورود فروع کثیرة فی کتاب دعائم الإسلام مخالفة لمذهب أهل البیت علیهم السلام ، فلنذکر لک بعضها علی سبیل المثال :

منها : جعله کلّ واحد من المذی والدود والحیات وحب القرع والدم والقیح الخارج من أحد المخرجین ناقضاً للوضوء(3) .

ومنها : قوله فی الوضوء : « ولا ینبغی أن یتعمد البدء بالمیاسر ، وإن جهل ذلک أو نسیه حتی صلّی لم تفسد صلاته »(4) .

ص: 33


1- (1) خاتمة مستدرک الوسائل 1 / (162 - 128) .
2- (2) نجعة المرتاد فی شرح نجاة العباد / 414 . المطبوع ضمن میراث حوزة اصفهان - المجلّد الأوّل .
3- (3) دعائم الاسلام 1 / 101 و 102 .
4- (4) المصدر 1 / 107 .

ومنها قوله فی مسح الرأس : « ثم أمروا بمسح الرأس مقبلاً ومدبراً ، یبدأ من وسط رأسه فیمرّ یدیه جمیعاً علی ما أقبل من الشعر إلی منقطعه من الجبهة ، ثم یردّ یدیه من وسط الرأس إلی آخر الشعر من القفا ، ویمسح مع ذلک الاُذنین ظاهرهما وباطنهما ویمسح عنقه»(1) .

ومنها : قوله فی الرجلین : « ومن غسل رجلیه تنظّفاً ومبالغة فی الوضوء لابتغاء الفضل وخلّل أصابعه فقد أحسن»(2) .

ومنها : قوله فی مسجد الجبهة : « وکلّ ما یجوز لباسه والصلاة فیه یجوز السجود علیه ، والکفان والقدمان والرکبتان من المساجد ، فإذا لباس ثوب الصوف والصلاة فیه فذلک ممّا یسجد علیه ، وکذلک یجزی السجود بالوجه علیه»(3) .

ومنها : إنکاره مشروعیة المتعة وقوله فیها : « هذا زناً ، وما یفعل هذا إلاّ فاجر»(4) .

أقول : أمثال هذه الفتاوی الموجودة فی کتابه یوجب خروجه عن الصحة والإعتماد علیه . ولکن حیث مخالفة جمیعها للمذهب واضحة ، یمکن حمل صدورها منه علی التقیة التی ابتلی بها . واللّه سبحانه هو العالم .

الروایة الرابعة :

النبوی المشهور : إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه .

أقول : رواها الشیخ مرسلاً فی الخلاف(5) واستدلّ بها لعدم جواز بیع المسوخ وسرجین مالا یؤکل لحمه .

ولم یرد ذکره فی کتب أصحابنا ، نعم ذکرها العلامة المجلسی نقلاً عن خط الشیخ محمد بن علی الجباعی رحمه الله عن ابن عباس عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إذا حرّم اللّه شیئاً حرّم ثمنه(6) .

ص: 34


1- (1) المصدر 1 / 108 .
2- (2) المصدر 1 / 108 .
3- (3) المصدر 1 / 178 .
4- (4) المصدر 2 / 229 .
5- (5) الخلاف 3 / 184 و 185 .
6- (6) بحار الأنوار 100 / 55 ح 29 .

والمحدث النوری نقله من عوالی اللآلی مرفوعاً عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لعن اللّه الیهود ، حرّمت علیهم الشحوم فباعوها وأکلوا ثمنها [ أثمانها ] ، وإنّ اللّه تعالی اذا حرّم علی قوم أکل شیءٍ ، حرّم علیهم ثمنه(1) .

فالروایة عامیّة وورد فیها ذکر کلمة الأکل فی أکثر روایاتهم :

منها : ما فی سنن أبی داود بسنده عن ابن عباس قال : رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم جالساً عند الرکن ، قال : فرفع بصره إلی السماء فضحک فقال : لعن اللّه الیهود - ثلاثاً - إنّ اللّه تعالی حرّم علیهم الشحوم فباعوها وأکلوا أثمانها ، وإنّ اللّه - تعالی - إذا حرّم علی قوم أکل شیءٍ حرّم علیهم ثمنه»(2) .

ورواها أحمد فی مسنده(3) والبیهقی فی سننه(4) بسندهما عن ابن عباس .

نعم ، رواها أحمد فی موضع آخر من المسند(5) بدون کلمة « الأکل» .

وبالجملة حیث لم یثبت فی روایاتهم الروایة بدون کلمة الأکل ، فلا یفید فی المقام شیئاً ، ولا ینتج لنا قاعدة کلّیة فی المعاملات .

وعلی فرض عدم وجود کلمة « الأکل » فی الروایة أیضاً ، لا یمکن الأخذ بعموم الروایة ، وعمومها متروک عند الفریقین ، فإنّ کثیراً من الأشیاء یحرم أکله ولا یحرم بیعه ، کما هو واضح .

هذا کلّه فی دلالة الروایة وقد عرفت من مطاوی کلامنا کیفیة سندها وأنّها مرسلة عامیّة فلا یمکن الإستدلال بها .

فتحصّل إلی هنا عدم إنتاج شیء من الروایات الأربعة التی ذکرها الشیخ فی المقام ، فلابدّ فی کلّ مسألة من ملاحظة دلیلها الخاص أو الرجوع إلی الإطلاقات والعمومات الواردة فی الآیات الشریفة الماضیة من صحة العقود والبیوع والمعاملات . والحمد للّه ربّ العالمین .

ص: 35


1- (1) مستدرک الوسائل 13 / 73 ح 8 - عوالی اللآلی 1 / 181 ح 240 .
2- (2) سنن أبی داود 2 / 251 - کتاب الاجارة .
3- (3) مسند أحمد 1 / 247 و 293 .
4- (4) سنن البیهقی 6 / 13 .
5- (5) مسند أحمد 1 / 322 .

تنبیهٌ :

قال الشیخ : « ... مع إمکان التمثیل للمستحب بمثل الزراعة والرعی ممّا ندب إلیه الشرع وللواجب بالصناعة الواجبة کفایة خصوصاً إذا تعذّر قیام الغیر به فتأمل»(1) .

أقول : صرّح باستحباب الزراعة العلاّمة فی التذکرة حیث یقول : « لا بأس بالزراعة بل هی مستحبة »(2) ثم ذکر روایتین لاستحبابها ، وراجع فی أخبار فصل الزراعة والغرس إلی الکافی 5 / 260 وبحار الأنوار 100 / 63 ووسائل الشیعة 17 / 41 الباب 10 من مقدمات التجارة ومستدرک الوسائل 13 / 26 .

ومن نظر إلی هذه الروایات یجد الأمر والحثّ علی الزراعة والحرث ، وإن ذهب أحدٌ إلی القول باستحبابه شرعاً - کما لا یبعد لتواتر روایاته إجمالاً - فلا فرق حینئذ بین الاکتساب بهما ونفس العمل ، لأنّ المتبادر والشایع نفس الزراعة والإکتساب بها وخروج هذا الفرد الشایع من تحت هذه الروایات مشکل . وبالجملة ، بنظری القاصر إطلاق الروایات تشمل صورة الاکتساب بل هی الفرد الشایع الغالب ، فلا وجه لخروجها . فیمکن القول باستحباب الزراعة والحرث حتّی علی وجه الاکتساب بهما .

ویمکن التمثیل بالتجارة بدلاً من الرعی فی کلام الشیخ لکثرة الروایات الواردة فیها . وحمل التجارة علی صورة عدم الإکتساب حمل علی الفرد النادر کما لا یخفی .

وأمّا الإتیان بالصناعة الواجبة کفایة مع عدم قیام الغیر بها ، إن قلنا بوجوبه لإختلال النظام بترکها کما هو الصحیح ، ثم ذهبنا إلی خروج صورة الاکتساب بهذه الصنایع من تحت هذا الوجوب ، لعلّ نفس هذا الخروج یوجب ترک الناس القیام بهذه الأمور ، فصار هذا موجباً لإختلال النظام . وبالجملة إن ذهبنا إلی القول بالوجوب الکفائی بهذه الصنایع ، فلا فرق بین صورة الاکتساب بها وبین الإتیان بها مجاناً ، لأنّ الناس لا یأتون بها إلاّ لغرض التکسب بها ، کما هو واضح . وحیث کان هذا دیدن الناس فنفس ترک هذا یوجب اختلال النظام ، والبرهان باطلاقه یشمل صورة الاکتساب أیضاً . وعلی هذا لا وجه للإشکال علی الشیخ قدس سره بهذه الأمثلة الواردة ، وهکذا لا وجه للأمر بالتأمل فی کلامه قدس سره ظاهراً . والحمد للّه ربّ العالمین .

ص: 36


1- (1) المکاسب 1 / 13 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 12 / 189 مسألة 695 .

معنی حرمة الاکتساب تکلیفاً

اشارة

قال الشیخ :« ومعنی حرمة الاکتساب حرمة النقل والانتقال بقصد ترتّب الأثر المحرَّم ، وأمّا حرمة أکل المال فی مقابلها فهو متفرّع علی فساد البیع ، لأنّه مال الغیر وقع فی یده بلا سبب شرعیّ وإن قلنا بعدم التحریم ، لأنّ ظاهر أدلّة تحریم بیع مثل الخمر منصرف إلی ما لو أراد ترتیب الآثار المحرَّمة ، أمّا لو قصد الأثر المحلَّل فلا دلیل علی تحریم المعاملة إلاّ من حیث التشریع »(1) .

1 - أقول :

هذا أحد الأقوال فی المسألة ، وهو مختار الشیخ ویرد علیه :

أولاً : تقیید دلیل حرمة البیع بالقصد المذکور لا موجب له بعد إطلاق الدلیل . ودعوی الإنصراف هنا جزافیة . والإلتزام بمثل هذه الانصرافات یستدعی تأسیس فقه جدید .

وثانیاً : ولو سلمنا هذا الإنصراف فی التکلیف ، لماذا لا نقول به فی الوضع أیضاً لا سیما بعد التزام الشیخ بجعل الأحکام الوضعیة منتزعاً من الأحکام التکلیفیة لا مستقلاً . یعنی قلنا بفساد المعاملة مع قصد ترتّب الأثر المحرَّم ، ومقتضی ذلک جواز بیع الخمر للتخلیل ونحوه .

وثالثاً : وأمّا التشریع المذکور فی آخر کلام الشیخ أیضاً ففی غیر محلّه ، لأنّ التشریع إنّما یصدق إذا أتی بالمعاملة بقصد أن یکون صحیحاً فی الشرع ومع هذه النسبة إلی الشریعة . ونوع المتعاملین غافلون عن هذه القصود والنِسَب .

2 - القول الثانی :

ما ذکره المحقق النائینی(2) : من أنّ الحرمة المتعلقة بالمعاملة - یعنی حرمة تبدیل المال أو المنفعة [کما أن تعریف المعاملة یعنی : تبدیل طرف الإضافة بطرف إضافة اُخری الذی ینقسم إلی تبدیل الأعیان بالأموال أو المنافع بها] - لا حرمة إنشاء المعاملة ولا حرمة آثارها کالتصرف فی الثمن والمثمن ولا قصد ترتب الأثر علیها . وبعبارة أخری : نفس المُنْشأ بالعقد

ص: 37


1- (1) المکاسب 1 / 13 .
2- (2) منیة الطالب 1 / 17 .

الذی هو أمرٌ إعتباری وفعل إیجادی من المنشی ء هو المحرَّم ، لا آلة الایجاد وهو التلفظ ولا القصد ولا الآثار .

وفیه : ظاهر أدلة التحریم إلی فعل المکلف وجریه بلغ إلی نفس المُنْشَأ وتبدیل طرفی الإضافة وتبدیل المال والمنفعة مشکل جداً .

3 - القول الثالث :

ما ذهب إلیه المحقق الإیروانی حیث قال : « بل معنی حرمة الاکتساب هو حرمة إنشاء النقل والإنتقال بقصد ترتیب أثر المعاملة ، أعنی التسلیم والتسلّم للمبیع وهو الثمن ، فلو خلّی عن هذا القصد لم یتّصف الإنشاء الساذج بالحرمة »(1) .

وفیه : عدم وجود الدلیل علی هذا التقیید یعنی قصد ترتیب أثر المعاملة فی الأدلة ، اللّهم إلاّ أن یقال : بعدم تحقق المعاملة الجدّیّة لو لم یقصدوا ترتیب آثار المعاملة ، فصار عملهم لغواً وصوریّاً .

بعبارة أُخری : الأدلة الواردة فی المقام مطلق ، فلو کان مراده قدس سره تقیید الأدلة بهذا الأمر خارجاً بنحو القید الخارجی فلا یتمّ کلامه ، وإن کان مراده عدم تحقق المعاملة الجدّیّة مع عدم قصد ترتب الآثار وعدم صدق المعاملة علیه فلا یبعد ما ذکره قدس سره .

4 - القول الرابع :

ما اختاره المحقق الخمینی(2) قدس سره من أنّ المحرَّم علی فرض ثبوته هو المعاملة العقلائیة ، أی إنشاء السبب جدّاً لغرض التسبیب إلی النقل والإنتقال ، لا النقل والإنتقال ، ولا هو بقصد ترتب الأثر ، ولا تبدیل المال أو المنفعة .

أقول : إن کان مراده من المعاملة العقلائیة نفس المعاملة العرفیة وکان الغرض فی نفس المعاملة بعنوان صدق کون المعاملة الجدیّة من دون أن یکون الغرض جزءً للموضوع فهو ، وإلاّ إذا اعتبر بعنوان القید الخارجی أو جزءً للموضوع دون إثباته خرط القتاد ، لعدم وجود الدلیل علیه وإطلاق الأدلة فی المقام ینفیه .

ص: 38


1- (1) حاشیة المکاسب / 3 - (1 / 21 من الطبعة الحدیثة) .
2- (2) المکاسب المحرمة 1 / 4 و 5 .
5 - القول الخامس :

المراد من حرمة البیع ، حرمة إیجاده بقصد ترتب إمضاء العرف والشرع علیه بحیث لا یکفی مجرد صدوره من البایع خالیاً عن ذلک القصد(1) .

وفیه : قد مرّ منا أنّ الأدلة فی المقام مطلقة ولم یکن فی البین ما یوجب تقییدها ، فلا وجه لهذا التقیید ، ومن هنا لو باع الخمر مثلاً مع علمه بکونه منهیّاً عنه فقد ارتکب محرَّماً وإن کان غافلاً عن قصد ترتب إمضاء الشرع والعرف علیه ، فإنّه لا دلیل علی دخالة قصد إمضائهما فی حرمة بیع الخمر .

6 - القول السادس :

ما ذکره المحقق الخوئی بقوله قدس سره :« إنّ ما یکون موضوعاً لحلیّة البیع بعینه یکون موضوعاً لحرمته . بیان ذلک : أنّ البیع لیس عبارة عن الإنشاء الساذج ، سواء کان الإنشاء بمعنی إیجاد المعنی باللفظ - کما هو المعروف بین الأصولیین - أم کان بمعنی إظهار ما فی النفس من الإعتبار کما هو المختار عندنا ، وإلاّ لزم تحقق البیع بلفظ « بعتُ » خالیاً عن القصد ، ولا أنّ البیع عبارة عن مجرد الإعتبار النفسانی من دون أن یکون له مُظْهِرٌ وإلاّ لزم صدق البایع علی من اعتبر ملکیة ماله لشخص آخر فی مقابل الثمن وإن لم یظهرها بمُظْهِر ، کما یلزم حصول ملکیّة ذلک المال للمشتری بذاک الإعتبار الساذج الخالی من المُبْزِر ، بل حقیقة البیع عبارة عن المجموع المرکب من ذلک الإعتبار النفسانی مع إظهاره بمُبْرِز خارجی ، سواء تعلق به الإمضاء من الشرع والعرف أم لم یتعلق ، بل سواء کان فی العالَم شرع وعُرْف أم لم یکن »(2) .

وفیه : الظاهر وجود التنافی بین صدر کلامه وذیله ، لأنه قدس سره نفی فی صدر کلامه کون البیع بمعنی الإنشاء الساذج ، ولکن اختاره فی ذیل کلامه قدس سره علی مختاره فی بحث الإنشاء ، حیث یقول : حقیقة البیع عبارة عن المجموع المرکب من ذلک الإعتبار النفسانی مع إظهاره بمبرز خارجی . وحیث کان مسلکه فی بحث الإنشاء هو الاعتبار مع الإظهار ، صار هذا المعنی علی مسلکه نفس الإنشاء الساذج . وبالجملة اختار فی الذیل ما نفاه فی الصدر ، فتأمل .

ص: 39


1- (1) حکاه المحقق الخوئی قدس سره فی مصباح الفقاهة 1 / 29 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 30 .

نعم ، بناءً علی مسلک المشهور فی باب الإنشاء لم یرد هذا الاشکال .

ولکن ما ذکره قدس سره من أن ما یکون موضوعاً لحلیّة البیع بعینه یکون موضوعاً لحرمته فهو متین صحیح جداً .

والمختار فی المقام أن نقول : إن الحرمة والحلیّة التکلیفیتان تتعلقان بفعل المکلّفین ، والذی یصدر من المکلف فی المعاملات هو الإنشاء لها بالقول أو الفعل ، نعم لا یصدق علیه المعاملة عرفاً إلاّ إذا کان ناشئاً عن قصد جدّی ، وهذا القصد داخل فی صدق المعاملة لا أنّه کان قیداً خارجیّاً کما مرّ منّا .

معنی حرمة الإکتساب وضعاً

الحرمة الوضعیة فی العقود عبارة عن فساد المعاملة وبطلانها بحیث لا یترتب علیها أثر من الآثار وأنّ الفاسد والباطل عندنا وعند العامة غیر الحنفیة واحدٌ . یعنی کلّ باطلٍ فاسدٌ وکلّ فاسدٍ باطلٌ . وأمّا الحنفیة فرّقوا بینهما ولا یهمّنا البحث فی قولهم .

ص: 40

النوع الأوّل : الاکتساب بالأعیان النجسة

اشارة

ص: 41

ص: 42

قال الشیخ : « وکیف کان فالإکتساب المحرَّم أنواع نذکر کلاًّ منها فی طیّ مسائل : النوع الأوّل : الإکتساب بالأعیان النجسة عدا ما استثنی ، وفیه ثمان مسائل »(1) :

الأولی : یحرم المعاوضة علی بول غیر مأکول اللحم

اشارة

ذهب إلی بطلان بیع أبوال ما لایؤکل لحمه المفید فی المقنعة(2) والشیخ فی النهایة(3) والمبسوط(4) والسلار فی المراسم(5) والمحقق فی الشرایع(6) والعلامة فی القواعد(7) والشهید فی المسالک(8) والنراقی فی المستند(9) وغیرهم فی غیرها .

وهذا هو المشهور بین الأصحاب بل کاد أن یکون إجماعاً .

لکن حیث استدلوا للمقام باُمورٍ لا تکشف إجماعهم علی فرض ثبوته عن قول الإمام علیه السلام فلابدّ من ملاحظة الأدلة ، فنقول :

استدلوا علی بطلان بیع أبوال غیر مأکول اللحم بعدّةٍ من الوجوه :

(منها) حرمته : حرمة شرب أبوال ما لا یؤکل لحمه واضح ولکن کیف یمکن إثبات

ص: 43


1- (1) المکاسب 1 / 15 و 14 .
2- (2) المقنعة / 587 .
3- (3) النهایة / 364 .
4- (4) المبسوط 2 / 165 .
5- (5) المراسم المطبوع ضمن الجوامع الفقهیة / 585 (المراسم / 170 من الطبعة الحدیثة) .
6- (6) شرایع الإسلام 2 / 3 .
7- (7) قواعد الأحکام 1 / 120 .
8- (8) المسالک 1 / 164 - (3 / 121 من الطبعة الحدیثة) .
9- (9) مستند الشیعة 2 / 334 - (14 / 82 من الطبعة الحدیثة) .

حرمة شربه ، بطلان بیعه ؟ !

(ومنها) نجاسته : نجاسة هذه الأبوال أیضاً ظاهرة ولکن لایمکن ثبوت بطلان البیع بواسطة النجاسة إلاّ علی القول ببطلان معاملة کلّ نجس ، ویأتی منّا الکلام فیها مفصلاً إن شاء اللّه تعالی ونذکر بطلان هذه القاعدة ونثبت لک بأن النجاسة لا یمکن أن تکون مانعةً للبیع وصحته .

(ومنها) عدم الإنتفاع به منفعةً محلّلةً مقصودةً : ولو فرض فی هذه الأعصار وجود منفعة محلّلة بالنسبة إلی هذه الأبوال ولو باستعمال المکائن الحدیثة والوسائل الجدیدة ، فصارت ذات منفعة عقلائیة مقصودة ، وخرجت من تحت هذا الدلیل .

وبالجملة ، لو فرض وجود منفعة عقلائیة لهذه الأبوال فیجوز بیعها ، والأدلة القائمة علی عدم صحة بیعها کلّها علیلة . والإجماع المدعی علی فرض ثبوته فهو مدرکی لا یثبت لنا شیئاً .

ثم تعرض الشیخ للفرعین(1) :

الفرع الأوّل : بیع أبوال ما یؤکل لحمه

هل یجوز بیع أبوال ما یؤکل لحمه ؟ وفرّع المسألة علی جواز شربه وعدمه . ولکن لم ینحصر منفعته للشرب فقط ولذا لم یکن هذا التفریع وجیهاً ، وحیث ذهبنا إلی جواز بیع أبوال ما لایؤکل لحمه إذا کانت فیها منفعة محلّلة عقلائیة ، جواز البیع هنا أقوی وأظهر لعدم نجاسته بل لجواز شربه مطلقاً عندنا ، فمسألة صحة بیع أبوال ما یؤکل لحمه واضحة کما علیه المشهور ، وأمّا جواز شرب هذه الأبوال لا ینحصر فی صورة التداوی بل یجوز شربه مطلقاً ، وتدل علیه عدّة من الروایات :

منها : خبر أبی البختری عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لا بأس ببول ما أکل لحمه(2) .

ص: 44


1- (1) راجع المکاسب 1 / 21 و 17 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 114 ح 2 .

ومنها : موثقة عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کلّ ما أکل لحمه فلا بأس بما یخرج منه(1) .

ومنها : خبر أبی صالح عجلان المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قدم علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قوم من بنی ضبّة مرضی ، فقال لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أقیموا عندی فإذا برئتم بعثتکم فی سرّیة ، فقالوا : أخرجنا من المدینة ، فبعث بهم إلی إبل الصدقة یشربون من أبوالها ویأکلون من ألبانها ، فلمّا برئوا واشتدُّوا قتلوا ثلاثة ممّن کان فی الإبل ، فبلغ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الخبر ، فبعث إلیهم علیّاً علیه السلام وهم فی واد تحیّروا لیس یقدرون أن یخرجوا منه - قریباً من أرض الیمن - فأسرهم وجاء بهم إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فنزلت هذه الآیة «إِنَّمَا جَزَاء الَّذِینَ یُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الأَرْضِ فَسَاداً أَن یُقَتَّلُواْ أَوْ یُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ یُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ»(2) فاختار رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم القطع ، فقطع أیدیهم وأرجلهم من خلاف(3) .

بتقریب : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أرسل إلیهم إبل الصدقة حتّی أنّهم لیشربوا من أبوالها ، والقوم وإن کانوا مرضی ولکن یمکن أن یکون فیهم عدّة أشخاص لم یکونوا مرضی ویصح إطلاق المرضی علی قوم کان أکثر هم مرضی ، ولم یقید رسول اللّه جواز شرب بول الإبل للمرضی منهم خاصةً ، وهکذا لم یقید جواز الشرب بماداموا مرضی ، ولذا لهم أن یشربوا من أبوال إبل الصدقة حتی بعد برئهم من المرض . والدلالة علی جواز الشرب مطلقاً من الروایة واضحة ولکن سندها ضعیف بأبی صالح عجلان المدائنی لأنّه مجهولٌ .

ومنها : خبر الجعفری قال : سمعت أباالحسن موسی علیه السلام یقول : أبوال الإبل خیر من ألبانها ویجعل اللّه الشفاء فی ألبانها(4) .

لم تقید الروایة جواز الشرب بصورة التداوی والإستشفاء فقط بل هی مطلقة ولکن

ص: 45


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 409 ح 12 .
2- (2) سورة المائدة / 33 .
3- (3) وسائل الشیعة 28 / 310 ح 7 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 114 ح 3 .

سندها ضعیف ببکر بن صالح .

ومنها : خبر سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر والغنم ، تنعت له من الوجع هل یجوز له أن یشرب ؟ قال : نعم ، لا بأس به(1) .

بتقریب : أنّ جواب الإمام علیه السلام مطلق وإن کان التداوی فرض فی سؤال سماعة ، اللهم إلاّ أن یقال : بسکوت الروایة فی فرض عدم التداوی ، لا نفیّاً ولا إثباتاً .

ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : الخبر المروی فی مکارم الأخلاق قال : وسئل عنه (أی عن أبی عبد اللّه علیه السلام )عن شرب أبوال الاُتُن ؟ قال علیه السلام : لا بأس(2) .

الاُتُن : جمع الأتان ، وهی الحمارة .

ومنها : موثقة عمار بن موسی الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن بول البقر یشربه الرجل ؟ قال : إن کان محتاجاً إلیه یتداوی به یشربه ، کذلک أبوال الإبل والغنم(3) .

بتقریب : أنّ الأصل فی الکلام هو التأسیس ، وعلی هذا جعل التداوی عطف تفسیر للإحتیاج غیر وجیه ، فلابدّ هنا من وجود قیدین لجواز الشرب علی وجه مانعة الخلو ، یعنی الإحتیاج یوجب جواز الشرب وهکذا التداوی . والإحتیاج هنا أعم من الإضطرار ، لأنّ الحکم فی الإضطرار واضح . یعنی مثلاً إذا کان الرجل فی الصحاری واحتاج فی الجملة إلی شربه فلا بأس به . فهذه الموثقة تدل علی جواز الشرب فی فرض التداوی وغیره ولا ینحصر فی الإبل فقط ، بل ذکر فیها الغنم والبقر أیضاً ، وهذه الموثقة هی العمدة فی المقام .

وبالجملة ، یجوز شرب أبوال ما یؤکل لحمه مطلقاً ، لا سیما فی صورة التداوی والإستشفاء بلا إشکال فیه والقاعدة الأولیة أیضاً تقتضی جواز شربه لقاعدة الحلّ وعدم ورود النهی عن ذلک .

ص: 46


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 115 ح 7 .
2- (2) مکارم الأخلاق / 194 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 28 / 433 ح 7 .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 113 ح 1 - الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة .
الفرع الثانی : بیع بول الإبل

المشهور ذهبوا إلی جواز بیعه ، والأمر علی ما سلکناه واضح یجوز بیعه ویجوز شربه مطلقاً حتی فی صورة عدم التداوی ، یدل علیه :

خبر الجعفری عن أبی الحسن موسی علیه السلام قال : أبوال الإبل خیر من ألبانها ویجعل اللّه الشفاء فی ألبانها(1) .

وتدل علی جواز شربه فی صورة الإستشفاء عدة من الروایات :

خبر مفضل بن عمر عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّه شکا إلیه الربو الشدید ، فقال : إشرب له أبوال اللقاح ، فشربتُ ذلک ، فمسح اللّه دائی(2) .

الربو : التهیج وتوارد النفس الذی یعرض للمسرع فی مشیه ، وقد یفسر بإنتفاخ البطن . وأمّا اللقاح : فهی الإبل والناقة الحلوب .

ومنها : موقوفة موسی بن عبد اللّه بن الحسین قال : سمعت أشیاخنا یقولون : ألبان اللّقاح شفاءٌ من کلّ داءٍ وعاهةٍ ولصاحب البطن أبوالها(3) .

والروایة لم تنسب إلی المعصوم علیه السلام فلذا کانت موقوفةٌ .

وبالجملة ، یجوز شرب بول الإبل حتّی فی حال الإختیار وصورة عدم التداوی ، ویجوز بیعه أیضاً مطلقاً . والحمد للّه .

ص: 47


1- (1) الکافی 6 / 338 ح 1 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 25 / 114 ح 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 115 ح 8 .
3- (3) الکافی 6 / 338 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 25 / 114 ح 4 .

الثانیة : بیع العذرة النجسة

اشارة

استدلوا علی بطلان بیعه بالإجماع الذی ادعاه الشیخ فی الخلاف(1) والعلامة فی التذکرة(2) ونهایة الإحکام(3) وصاحب الجواهر(4) . وحیث کان الإجماع مدرکیّاً علی فرض ثبوته فلابدّ من ملاحظة المدرک فی المسألة ، وهو الروایات الواردة فی المقام :

منها : خبر یعقوب بن شعیب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ثمن العذرة من السحت(5) .

ومنها : خبر دعائم الإسلام قال : روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة والخنزیر والأصنام وعن عسب الفحل وعن ثمن الخمر وعن بیع العذرة وقال : هی میتة(6) .

وهذان الخبران یدلان علی حرمة بیع العذرة وبطلانها ، ولکن کلاهما ضعیف السند .

ومنها : موثقة سماعة قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر فقال : إنّی رجل أبیع العذرة فما تقول ؟ قال : حرامٌ بیعها وثمنها ، وقال : لا بأس ببیع العذرة(7) .

وهذه الموثقة إمّا أنْ تعدّ من الروایات المجوزة بتقریب : أنّ الجواب الأوّل من الإمام صدر تقیّة وبعد رفع التقیة ذکر علیه السلام الحکم الواقعی للمسألة یعنی کلامه الأخیر ، أو إذا کان کلامان للمتکلم الواحد یؤخذ بالأخیر منهما ، لا سیما إذا کانا فی کلام واحد .

وإمّا أن لا یمکن الأخذ بها ، لأنه إذا وقع التعارض فی کلام واحد - کما هنا - سقط من

ص: 48


1- (1) الخلاف 3 / 185 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 1 / 464 (10 / 31 من الطبعة الحدیثة ) .
3- (3) نهایة الإحکام 2 / 463 .
4- (4) الجواهر 22 / 17 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 175 ح 1 .
6- (6) مستدرک الوسائل 13 / 71 ح 5 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 175 ح 2 .

الحجیة من رأسه ، فلا یصح عَدّ هذه الموثقة من الروایات المانعة .

ومنها : حسنة محمد بن مضارب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس ببیع العذرة(1) .

وهذه الحسنة تدل علی جواز البیع وصحته ، والروایتان الماضیتان اللتان تدلان علی المنع کانت ضعیفتا السند فلا تقاومان هذه الحسنة ،فلابدّ من الأخذ بهذه الحسنة والحکم بصحة بیع العذرة النجسة . هذا مع الإغماض عن موثقة سماعة التی هی بنظرنا تدل علی الجواز أیضاً .

وعلی هذا یحمل السحت فی روایات المنع علی أنّ هذا العمل أو البیع کان عملاً ردیئاً لا یناسب شأن الشرفاء والشخصیّات . وبهذا تجمع بین الروایات .

ثم إن أبیت إلاّ أن تری التعارض بین الروایات وأنّها تسقط به فتبقیالاطلاقات والعمومات علی حلیّة البیع وجوازه ونفوذه بلا معارض ونحکم بصحة البیع .

فرع : الأقوی جواز بیع الأرواث الطاهرة :

الأرواث الطاهرة للحیوانات المأکولة اللحم یجوز بیعها ، لوجود المنفعة المحلَّلة العقلائیة فیها(2) ، فثبت جواز بیعه ولم یرد من الشارع النهی عن ذلک ، فالحکم بالجواز ونفوذ بیعه عندنا علی القاعدة .

وأمّا ما للشیخ والقوم هذا استثناء من عدم جواز بیع العذرة فلابدّ لهم من إقامة الدلیل علی هذا الإستثناء ، فلذا إلتجأوا بالإجماع المدعی من المرتضی(3) ونفی الخلاف الوارد فی خلاف الشیخ(4) ، ولهم أن یدّعوا الإنصراف فی الأدلة المانعة من هذا الفرض . والإنصراف فی محلّه .

ص: 49


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 175 ح 3 .
2- (2) وقال الصادق علیه السلام فی شأنها فی خبر توحید المفضل : « ... وإنّ موقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذی لا یعدله شیء» . بحار الأنوار 3 / 136 .
3- (3) الانتصار / 221 .
4- (4) الخلاف 3 / 185 .

الثالثة : الدَّم

اشارة

قد استدل علی بطلان بیعه بالإجماع فی نهایة الإحکام(1) للعلامة وشرح الإرشاد(2) لولده فخر الدین والتنقیح(3) للفاضل المقداد .

وفیه : الإجماع هنا مدرکیٌ فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة .

وقد استدل علی بطلان بیع الدم ببعض الآیات الشریفة ، نحو قوله تعالی : «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ»(4) وقوله تعالی : «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِیرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَیْرِ اللّهِ»(5) ونحوهما قوله تعالی فی سورة النحل(6) .

بتقریب : أن الحرمة - کما مرّ منّا - فی الکتاب والسنة أعم من الوضع والتکلیف ، وحیث تعلق بالدم تشمل الحرمة الوضعیة أیضاً ، یعنی بطلان بیعه .

وفیه : أن سیاق الآیات الشریفة لمن یلاحظها ورد فی مسألة الأکل ، ولذا ورد قبل الآیة الثانیة فی سورة البقرة قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ کُلُواْ مِن طَیِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاکُمْ وَاشْکُرُواْ لِلّهِ إِن کُنتُمْ إِیَّاهُ تَعْبُدُونَ»(7) . یعنی أکل هذه الموارد حرام فی الشریعة المقدسة ، ومنها : الدم ، وجمیع المسلمین من الخاصة والعامة یقولون بحرمة أکل الدم ، ولیست للآیات الشریفة اطلاق حتی تشمل بیع الدم . وهکذا الأمر فی قوله تعالی : «قُل لاَّ أَجِدُ فِی مَا أُوْحِیَ

ص: 50


1- (1) نهایة الإحکام 2 / 463 .
2- (2) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 13 من الطبعة السابقة = 12 / 65 من الطبعة الحدیثة .
3- (3) التنقیح الرائع 2 / 5 .
4- (4) سورة المائدة / 3 .
5- (5) سورة البقرة / 173 .
6- (6) سورة النحل / 115 .
7- (7) سورة البقرة / 172 .

إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلَی طَاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ»(1) . وهذه الآیة الشریفة أیضاً ناظرة إلی حرمة أکل الدم ولحم الخنزیر .

ویمکن الإستدلال علی بطلان البیع ببعض الروایات الواردة فی حرمة الدم :

منها : صحیحة إبراهیم بن عبد الحمید عن أبی الحسن علیه السلام قال : حرم من الشاة سبعة أشیاء : الدم والخصیتان والقضیب والمثانة والغدد والطحال والمرارة(2) .

بتقریب : أنّ الحرمة الواردة فی الصحیحة أعم من الوضع والتکلیف ، فتشمل بیع الدم أیضاً وتدل علی بطلانه .

وفیه : حیث نسب الإمام الحرمة إلی الشاة - والمتعارف فی الشاة أکله - صارت الصحیحة ظاهرة فی الأکل ، وحرمة أکل هذه العشرة من الشاة فهی أجنبیة من بطلان بیع الدم والدلالة علی الوضع .

ومنها : مرفوعة أبی یحیی الواسطی قال : مرّ أمیر المؤمنین علیه السلام بالقصّابین فنهاهم عن بیع سبعة أشیاء من الشاة ، نهاهم عن بیع الدم والغدد وآذان الفؤاد والطحال والنخاع والخُصی والقضیب ، فقال له بعض القصابین : یا أمیر المؤمنین ما الطحال والکبد إلاّ سواء ، فقال : کذبت یا لکع إیتنی بتورین من ماء ، أُنبّئک بخلاف ما بینهما ، فاُتی بکبد وطحال وتورین من ماء ، فقال : شقّوا الکبد من وسطه والطحال من وسطه ثم أمر فمرسا فی الماء جمیعاً ، فابیضّت الکبد ولم ینقص منها شیءٌ ولم یبیضّ الطحال ، وخرج ما فیه کلّه وصار دماً کله حتی بقی جلد الطحال وعرقه ، فقال : هذا خلاف ما بینهما ، هذا لحم وهذا دم(3) .

لکع : اللئیم الأحمق ، التور : إناء یشرب فیه ، مرس : أی نقعه فی الماء .

بتقریب : أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام نهی عن بیع الدم ، وظهور هذا النهی هو بطلان بیعه .

وفیه : أولاً : الروایة مرفوعة سنداً .

وثانیاً : لا تدل علی أزید من حرمة أکل الدم کما هو مفاد الآیات الشریفة .

ص: 51


1- (1) سورة الأنعام / 145 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 171 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 24 / 171 ح 2 .

غایة مایمکن أن یقال : حرمة بیعه بالنسبة إلی من أراد أکله ، وأمّا حرمة بیع الدم مطلقاً فلا یُستفاد من المرفوعة ، لا سیما مع ورود الدم فی سیاق الموارد الأخری فی الشاة التی یراد منها الأکل . وهذا واضح وظاهر من الروایة .

وبالجملة ، حیث لم یکن هنا دلیل شرعی علی حرمة بیع الدم وبطلانه وکان ذا منافع متعددة محلّلة عقلائیة - نحو تزریقه للمرضی وغیره - فیجوز بیعه ویشمله الإطلاقات الواردة فی حلیة البیوع ونفوذها والوفاء بها ، هذا کلّه فی الدم النجس .

فرع : حکم الدم الطاهر

نحو المتخلِّف فی الذبیحة فحکمه علی ما سلکناه واضح لا بأس ببیعه ، وأمّا علی ما سلکه المشهور من بطلان بیع الدم النجس فلابدّ لهم من إقامة الدلیل علی الجواز . ولعلّ دلیلهم إدعاء إنصراف أدلة المنع بالدم النجس وخروج الدم الطاهر من تحتها ، وهذا الإنصراف فی محلّه .

ووجود المنافع المحلّلة العقلائیة فیه ، فیجوز بیعه . ولذا قال الشیخ الأعظم : « ففی جواز بیعه وجهان أقواهما الجواز »(1) .

ص: 52


1- (1) المکاسب المحرمة / 4 طبع تبریز ، (1 / 27 من الطبعة الحدیثة) .

الرابعة : المنی

فروع ثلاثة

قد ذکروا للمسألة ثلاثة فروع :

الأوّل : بیع المنی بعد ما خرج ووقع فی خارج الرحم .

الثانی : بیع المنی بعد ما وقع فی الرحم .

الثالث : بیع عسیب الفحل ، وهو ماؤه قبل الإستقرار فی الرحم . ویلحق بذلک إجارة الفحل للضراب .

والروایات واردة فی الفرع الثالث فقط لا الفرعین الاولین ، وعلی هذا لو کان للمنی منافع محلّلة عقلائیة - کما هو کذلک - فیجوز بیعه فی جمیع الفروع الثلاثة علی القاعدة التی مرّت منّا مراراً من الملازمة بین جواز الإنتفاع وجواز البیع ، والإطلاقات الواردة فی حلّیّة البیع وجوازه ونفوذه ولزوم الوفاء به أیضاً تشمله إلاّ أن یثبت دلیل شرعی علی خلافه . والدلیل هنا مفقود بنظرنا القاصر وقد أدعی وجوده بوروده فی روایات :

منها : خبر القاسم بن عبد الرحمن عن الإمام الباقر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن الحسین بن علی علیه السلام فی حدیث : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن خصال تسعة : عن مهر البغی وعن عسیب الدابة - یعنی کسب الفحل - الحدیث(1) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن عسیب الفحل ، وهو أجر الضراب(2) .

ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : من السحت : ثمن المیتة وثمن اللقاح ... وعسب الفحل ولا بأس أن یهدی له العلف ، الحدیث(3) .

ص: 53


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 95 ح 13 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 111 ح 3 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 69 ح 1 .

ومنها : خبر دعائم الإسلام قال : روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام ، أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة والخنزیر والأصنام وعسب الفحل وعن ثمن الخمر وعن بیع العذرة ، وقال : هی میتة(1) .

وهذه الروایات کما تری وردت فی الفرع الثالث وکلّها ضعاف ، وفی قبالها روایتان تدلان علی الجواز وهما :

1 - خبر حنان بن سدیر قال : دخلنا علی أبی عبد اللّه علیه السلام ومعنا فرقد الحجام - إلی أن قال - فقال له : جعلنی اللّه فداک إنّ لی تیساً أکریه ، فما تقول فی کسبه ؟ قال : کُلْ کسبه فإنّه لک حلال ، والناس یکرهونه . قال حنان : قلت : لأیّ شیء یکرهونه وهو حلال ؟ قال : لتعییر الناس بعضهم بعضاً(2) .

2 - صحیحة معاویة بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث ، قال : قلت له : أجر التیوس ؟ قال : إن کانت العرب لتعایربه ، ولا بأس(3) .

التُیُوس : جمع التَیْس وهو الذَکَر من المَعَز والظباء والوُعول .

وهاتان الروایتان تدلان علی الجواز وفیهما الصحیحة ، فلابدّ من الأخذ بهما وحمل الروایات المانعة علی أنّ فی هذا الأمر إذا صار شغلاً لأحد کان موجباً لتعییر الناس وعیبهم له ، ولا یناسب شأن الشرفاء والشخصیات البارزة .

والظاهر أنّ روایتی الجواز بنفسیهما تفسر الروایات المانعة والعلّة فی المنع ، وهی تعییر الناس ، فلابدّ من الأخذ بهما الدالتین علی الجواز . ومن المعلوم أنّ إطلاقهما یشمل صورتی البیع والإجارة .

ثم : إن أبیت إلاّ أن تری التعارض بین الطائفتین من الروایات فسبیلهما التساقط بالتعارض ، فلابدّ من الرجوع إلی إطلاقات حلّیّة البیوع وجوازها ونفوذها ووجوب الوفاء بها .

ص: 54


1- (1) مستدرک الوسائل 13 / 71 ح 5 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 111 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 111 ح 2 .

وبالجملة ، فی جمیع الفروع الثلاثة یجوز بیع المنی إنْ کان له منفعة محلّلة عقلائیة . ثم إنّ هنا فروعاً حدثت فی زماننا هذا لابدّ لنا من التکلّم فیها :

فروع مستحدثة
الفرع الأوّل :

هل یجوز أخذ منی الزوج وتزریقه فی رحم زوجته وأخذ الأُجرة علی هذا العمل ؟

الظاهر جواز هذا العمل ، لأنّ للزوج کما له إراقة مائه فی رحم زوجته کذلک یجوز إدخال مائه بأیّ نحو کان فی رحم زوجته ، ویمکن للغیر التصدی لهذا العمل لو لم یتبع حراماً شرعیّاً آخراً ، وعلی هذا یجوز أخذ الاُجرة علیه . واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع الثانی :

هل یجوز أخذ منی الزوج وتقویته فی الخارج ثم تزریقه فی رحم زوجته وأخذ الأُجرة علی هذا العمل ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - إنّ الحکم فی هذا الفرع أیضاً کالفرع الأوّل .

الفرع الثالث :

هل یجوز أخذ منی الزوج والزوجة واختلاطهما فی الخارج وتقویتهما ثم غرس النطفة أو الجنین فی رحم الزوجة وأخذ الأُجرة علی هذا العمل ؟

نعم ، لا بأس بأخذ منیهما ثم اختلاطهما وتقویتهما بالمواد الکیمیاویة اللازمة ثم غرس النطفة أو الجنین فی رحم الزوجة . وهکذا لو لم یتبع هذا العمل محرّماً شرعیّاً یجوز للغیر التصدی لذلک وأخذ الاُجرة علیه . واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع الرابع :

هل یجوز أخذ النطفة والمنی من الزوج والزوجة ثم غرسه فی رحم الزوجة الأُخری الثانیة ؟

نعم ، یجوز أخذ المنی من الزوج وزوجته الأولی ثم اختلاطهما وتقویّتهما بالمواد الکیمیاویة ثم غرسه فی رحم زوجته الثانیة . ویجوز للغیر التصدی لذلک لو لم یتبع محرّماً

ص: 55

شرعیّاً آخراً ویجوز أخذ الأُجرة علی ذلک . واللّه سبحانه هو العالم .

والولد فی جمیع هذه الفروض یلحق بالزوج والزوجة وفی الأخیر یلحق بالزوج بلا إشکال ، وتدلّ علیه صحیحة محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر وأبا عبد اللّه علیهماالسلام یقولان : بینا الحسن بن علی علیه السلام فی مجلس أمیر المؤمنین علیه السلام إذ أقبل قوم ... إلی أن قال علیه السلام : ... ویردُّ الولد إلی أبیه صاحب النطفة ، الحدیث(1) .

ویؤیدها : حسنة عمرو بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن الحسن علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ... ویلحق الولد بصاحب النطفة ، الحدیث(2) .

ومثلها خبر اسحاق بن عمار فراجعه(3) .

ویلحق الولد بالزوجتین علی کلام فیه . یعنی لا یبعد أن یکون فی الفرع الرابع للولد اُمّان بدلالة الصحیحة والحسنة ولإطلاق قوله تعالی «إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّیء وَلَدْنَهُمْ»(4) .

الفرع الخامس :

هل یجوز أخذ منی الزوج واختلاطه مع منی غیره ثم تزریقه فی رحم زوجته أم لا ؟

لا یجوز هذا العمل لا للزوج ولا لغیره ، لأنّ من المحرّمات الشرعیة التی ثبتت عندنا بواسطة روح الشریعة المقدسة ومذاق الشارع إدخال الأجنبی ماءه فی رحم الأجنبیة ، سواء کان ذلک بالإیلاج الذی سمی بالزنا أو بغیر إیلاج . فنفس إدخال ماء الأجنبی فی رحم الأجنبیة من المحرمات الشرعیة سواء تصدی لِهذا العمل الأجنبی نفسه أو الزوج أو غیرهما .

ویدل علیه خبر إسحاق بن عمار قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : الزنی أشرّ أو شرب الخمر وکیف صار فی الخمر ثمانین وفی الزنی مائة ؟ فقال : یا إسحاق الحدّ واحد وزید هذا لتضیعه النطفة ولوضعه إیّاها فی غیر موضعها الذی أمره اللّه عزّ وجلّ به(5) .

ص: 56


1- (1) الکافی 7 / 203 ح 1 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 30 / 471 ح 1 .
2- (2) التهذیب 10 / 58 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 30 / 472 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 28 / 168 ح 2 .
4- (4) سورة المجادلة / 2 .
5- (5) الکافی 7 / 262 ح 12 وعلل الشرائع /543 ونقل عنهما فی جامع أحادیث الشیعة 30 / 364 ح 8 .

وخبر سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ أشدّ الناس عذاباً یوم القیامة رجلٌ أقرّ نطفته فی رحم تحرم علیه(1) .

والروایة بإطلاقها تشمل إدخال الأجنبی ماءه فی رحم الأجنبیة ، ورواها الصدوق بسنده عن علی بن سالم فی عقاب الأعمال(2) .

ومرسلة الصدوق رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : لن یعمل ابن آدم عملاً أعظم عند اللّه عزّوجلّ من رجل قتل نبیّاً أو إماماً أو هدم الکعبة التی جعلها اللّه قبلةً لعباده أو أفرغ ماءه فی امرأة حراماً(3) .

وعلی هذا لا یجوز أخذ منی الزوج واختلاطه مع منی غیره ثم تزریقه فی رحم زوجته . وحیث کان العمل محرّماً شرعیّاً لا یجوز للغیر التصدی لذلک وأخذ الأُجرة علیه . واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع السادس :

هل یجوز أخذ منی الزوج والزوجة واختلاطهما مع منی امرأة أُخری أجنبیة فی الخارج ثم تزریقهما أو غرس النطفة أو الجنین فی رحم الزوجة أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل وأخذ الأُجرة علیه لو لم یتبع محرّماً شرعیّاً آخراً ، لأنّ المحرم الشرعی إدخال الأجنبی ماءه فی رحم الأجنبیة مطلقاً ، یعنی التصدی لهذا العمل بنفسه أو غیره ، ولکن إدخال ماء المرأة فی رحم غیرها أو اختلاط هذه المیاه فی الخارج وفی المکائن لا بأس به ولم یثبت فی الشریعة حرمته ومع الشک فی حرمة هذا العمل یجری أصل البراءة فی المقام .

نعم ، الأحوط فی هذا الفرض إجراء صیغة النکاح بین الزوج والمرأة الأجنبیة لتصیر أیضاً زوجته ثم الإتیان بهذا العمل لرفع توهم الإشکال فی المسألة .

الفرع السابع :

هل یجوز أخذ منی الزوج والمحافظة علیه فی المکائن الحدیثة ثم تزریقه بعد موته فی

ص: 57


1- (1) المحاسن 1 / 192 ح 107 .
2- (2) عقاب الأعمال / 313 ح 7 .
3- (3) وسائل الشیعة 20 / 318 ح 2 .

رحم زوجته فی حال حیاته أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أن علقة الزوجیة بین الأحیاء ولا زوجیّة بین المیت والحیّة ، فلا یجوز هذا العمل ، لأنّ بعد الموت صار الزوج أجنبیّاً بالنسبة إلی الزوجة وانفسخ بینهما علقة النکاح وعقده ، ولذا یجوز لها التزویج بعد انقضاء العدّة فلا یجوز بعد موت الزوج إدخال مائه فی رحمها ، وأمّا جواز غُسل أحد الزوجین الآخر بعد الموت ثبت بالدلیل الشرعی والنص الخاص . وبالجملة لا یجوز هذا العمل لانفساخ علقة الزوجیة وعقدة النکاح بعد الموت .

الفرع الثامن :

هل یجوز أخذ منی الزوج والزوجة والمحافظة علیه وتزریقه بعد موت الزوجة فی الزوجة الاُخری للزوج أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل ، لأنّ المرأة الثانیة أیضاً زوجته وإدخال مائه فی رحمها لا بأس به وهکذا لا بأس بأدخال ماء المرأة الأولی - یعنی الزوجة المتوفاة - فی رحم الثانیة ، لعدم وجدان دلیل علی الحرمة ، وجریان البراءة فی المقام کما مرّ منّا فی بعض الفروع السابقة ، فلا بأس بالعمل فی هذا الفرض بخلاف الفرع السابع ، ویجوز للغیر التصدی لذلک لو لم یتبع محرّماً شرعیّاً آخراً وأخذ الأُجرة لهذا العملیة .

الفرع التاسع :

هل یجوز أخذ منی الزوج والزوجة والمحافظة علیهما مدّة ثم اختلاطهما بعد موتهما فی المکائن والآلات الحدیثة واستحصال الولد من الماکنة أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل ، لعدم استلزامه حرمة شرعیّة فی المقام . وکذا یجوز أخذ الأُجرة علی ذلک منهما أو من ورثتهما .

الفرع العاشر :

هل یجوز أخذ المنی من الأجنبی والأجنبیة واختلاطهما فی المکائن الحدیثة واستحصال الولد من الماکنة أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل ، لعدم ثبوت دلیل علی الحرمة فی

ص: 58

المقام وجریان أصل البراءة ، ویجوز أخذ الأُجرة علی هذا العمل .

ثم بمَن یلحق الولد فی هذا الفرض ؟

یمکن أن یقال : الأحوط وجوباً مراعاة الإحتیاط بالنسبة إلی النظر والنکاح والتوارث بین هذا الولد وصاحبی النطفة ، یعنی لو کان الولد ذکراً لا یجوز له النظر بالشهوة إلی امرأة التی أخذت منها النطفة ولا نکاحها والمصالحة فی المیراث ، وهکذا الأمر بالنسبة إلی البنت والرجل الذی أُخذ منه النطفة .

ولکن الأقوی إلحاق الولد بصاحب النطفة أباً وأمّاً ، لدلالة صحیحة محمد بن مسلم(1) وحسنة عمرو بن عثمان(2) الماضیتین .

ثم هذا الولد ، هل هو ولد حلال أو شبهة أو زنا ؟ الأخیر یُنفی لعدم وجوده وهکذا الوسط ، فیبقی الأوّل بلا معارض ، فهو ولد حلال ویجری علیه أحکامه ، فیجوز له تصدی إمامة الجماعة ونحوها .

الفرع الحادی عشر :

هل یجوز أخذ المنی من الأجنبی والأجنبیة وتقویتهما بمنی الأجنبی الآخر وأجنبیة اُخری واختلاطهما ثم جعلها فی المکائن الحدیثة واستحصال الولد من الماکنة أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - جواز هذا العمل ، لعدم ثبوت دلیل الحرمة فی المقام وجریان أصل البراءة ، ولذا یجوز أخذ الأُجرة علی هذا العمل مع الشرط السابق ، وهذا الولد ولد حلال ، لا یبعد إلحاقه بأصحاب النطفة ، یعنی هنا له أبان واُمّان وإن کان الإحتیاط الذی مرّ فی الفرع السابق حسناً .

ولکن علم الطب الیوم ینفی تأثیر النطفتین من الرجلین فی نطفة المرأة الواحدة ، یعنی أن علم الطب یقول فی هذا الفرض بتأثیر أحدی نطفتین من الرجلین وتأثر أحدی النطفتین من المرأتین . فللولد حینئذ لیس إلاّ أباً واحداً واُماً واحدةً وهما صاحبا النطفة لا غیرهما ، والأمر

ص: 59


1- (1) الکافی 7 / 203 ح 1 .
2- (2) التهذیب 10 / 58 .

حینئذ سهلٌ .

الفرع الثانی عشر : الاستنساخ البشری

هل یجوز أخذ المنی من الزوج والزوجة أو من الأجنبی والأجنبیة واختلاطهما فی الخارج وجعلها فی المکائن واستحصال الولد من الماکنة لکن لا واحداً بل متعدِّداً ، سواءً فی ذلک العدد القلیل أو الکثیر ، نحو استحصال ألف ولد أو أکثر من ذلک من الآف ولد کلّهم یشبهون بالزوج أو الزوجة أو الأجنبی أو الأجنبیة علی حسب مختارهم . هل یجوز هذه العملیة التی تسمی الیوم بالإستنساخ البشری أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - قصور دلیل الحرمة فی المقام وجریان البراءة فی ذلک ، فنفس هذا العمل لا بأس به ولکن لو اختلت هذه العملیّة بالنظام بحیث لا یمکن تشخیص هذه اُلوف بعضهم عن بعض تحرم وبعبارة أُخری : هذه العملیّة إن کانت توجب اختلال التعارف فی المجتمع البشری حرمت من هذه الجهة ، یعنی من جهة اختلالها بالنظام وذهابها بالتعارف اللازم فی المجتمع الإنسانی . والظاهر أنّ هذه العملیّة توجب الإختلال وتذهب بالتعارف فتحرم من هذه الجهة ، واللّه العالم .

تنبیه : ثم إنّ هنا فروعاً کثیرة تظهر حکمها ممّا سردناه علیک فی الفروع السابقة ومع تطبیق القواعد التی مرّ منّا تحتها .

تبصرة : فی جمیع الفروع التی ذهبنا إلی الجواز یجوز للغیر التصدی لذلک لولم یتبع عمله محرّماً شرعیّاً آخراً وأخذ الأُجرة علیه ، وهکذا فی جمیع الفروع المجوّزة ، یجوز بیع المنی والنطفة لذلک ، والولد فی هذه الفروع المجوّزة یلحق بالزوجین إن کان الزواج موجوداً وإلاّ یلحق بصاحبی النطفة وعلیه مراعاة الإحتیاط فی النظر والنکاح والتوارث . وبالجملة الولد فی هذه الفروع المجوّزة هو الولد الحلال . واللّه سبحانه هو العالم والحمد للّه .

ص: 60

الخامسة : بیع المیتة

اشارة

المشهور بین الأصحاب بل کاد أن یکون إجماعاً بطلان بیع المیتة ، وادعی الإجماع الشیخ فی رهن الخلاف وقال : « إذا کان الرهن شاةً فماتت زال ملک الراهن عنها وانفسخ الرهن إجماعاً ... دلیلنا : إجماع الفرقة علی أنّ جلد المیتة لا یطهر بالدباغ ، وإذا ثبت ذلک لم یعد الملک إجماعاً ... »(1) .

وقال العلامة فی التذکرة : « یُشترط فی المعقود علیه الطهارة الأصلیة ... ولو باع نجس العین کالخمر والمیتة والخنزیر لم یصح إجماعاً ... »(2) .

وقال فی المنتهی : « ... وقد احتج العلماء کافّة علی تحریم بیع المیتة والخمر والخنزیر بالنص والإجماع»(3) .

وقال السیوری فی ذیل قول المصنف : « الأوّل : الأعیان النجسة » ، قال : « إنّما حرّم بیعها لأنّها محرّمة الإنتفاع ، وکلّ محرّمة الانتفاع لا یصح بیعه . أمّا الصغری فإجماعیة وأمّا الکبری فلقول النبی صلی الله علیه و آله وسلم ... »(4) .

ثم یقع الکلام هنا فی مقامین :

المقام الأوّل : حکم الإنتفاع بالمیتة :

هل یجوز الإنتفاع بالمیتة أم لا ؟

المشهور بین الأصحاب عدم جواز الإنتفاع بالمیتة ، ولکن المهمّ ملاحظة الأدلة :

قد استدلوا علی حرمة الإنتفاع بالمیتة بالآیة الشریفة «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَالْدَّمُ

ص: 61


1- (1) الخلاف 3 / 293 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 1 / 464 (10 / 25 من الطبعة الحدیثة) .
3- (3) المنتهی 2 / 1008 .
4- (4) التنقیح الرائع 2 / 5 .

وَلَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ»(1) .

بتقریب : أن حرمة المیتة فی الآیة الشریفة یقتضی حرمة جمیع أنواع التصرف فیها ومنها الإنتفاع بها .

وفیه : الآیة الشریفة ونظائرها فی سورة البقرة(2) والأنعام(3) والنحل(4) کلّها راجعة إلی الأکل بقرینة السیاق الوارد فی ذلک ، وحرمة أکل المیتة بین المسلمین خاصةً وعامةً إجماعیٌ ، فلا یمکن التعدی إلی سائر الانتفاعات والتصرفات فی المیتة وغیرها .

وأمّا الأخبار الواردة حول الإنتفاع بالمیتة علی الطائفتین :

الطائفة الأولی : تدل علی حرمة الإنتفاع بالمیتة :

منها : موثقة سماعة قال : سألته عن جلود السباع أینتفع بها ؟ فقال : إذا رمیت وسمّیت ، فانتفع بجلده ، وأمّا المیتة فلا(5) .

ولا بأس بإضمارها حیث أن مُضْمِرها سماعة بن مهران والموثقة تدل علی عدم جواز الإنتفاع بجلد المیتة .

ومنها : خبر علی بن أبی المغیرة قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : المیتة ینتفع منها بشیءٍ ؟ فقال : لا ، قلت : بلغنا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مرّبشاة میتة ، فقال : ما کان علی أهل هذه الشاة إذا لم ینتفعوا بلحمها ، أن ینتفعوا بإهابها ، فقال : تلک شاة کانت لسودة بنت زمعة زوج النبی صلی الله علیه و آله وسلم وکانت شاة مهزولة لا ینتفع بلحمها فترکوها حتّی ماتت ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ما کان علی أهلها إذا لم ینتفعوا بلحمها أن ینتفعوا بإهابها ، أی تذکّی(6) .

ولکن وردت هذه القضیة بنحو آخر فی موثقة أبی مریم الأنصاری قال : قلت لأبی

ص: 62


1- (1) سورة المائدة / 3 .
2- (2) سورة البقرة / 173 و 172 .
3- (3) سورة الأنعام / 145 .
4- (4) سورة النحل / 115 و 114 .
5- (5) وسائل الشیعة 24 / 185 ح 4 .
6- (6) وسائل الشیعة 24 / 184 ح 1 .

عبد اللّه علیه السلام : السخلة التی مرّ بها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وهی میتة ، فقال : ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها ، قال : فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : لم تکن میتة یا أبا مریم ، لکنّها کانت مهزولة فذبحها أهلها ، فرموا بها ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ما کان علی أهلها لو انتفعوا بإهابها(1) .

وهذه الموثقة لا تدل علی عدم جواز الإنتفاع بالمیتة ویمکن إتحاد القضیتین . خلافاً لما احتمله صاحب الوسائل حیث یقول : « لا منافاة بینه وبین السابق ، لاحتمال تعدّد الشاة والقول»(2) . بل هذا الإحتمال بعید واتحاد القضیتین محتمل قویّاً . وعلی القول بالإتحاد خرجت القضیة من نفی الإنتفاع بالمیتة ، لأنه لابدّ من الأخذ بالموثقة لصحة سندها .

ومع ذلک کلّه ، خبر علی بن أبی المغیرة یدل علی حرمة الإنتفاع بالمیتة .

ومنها : خبر فتح بن یزید الجرجانی عن أبی الحسن علیه السلام قال : کتبت إلیه أسأله عن جلود المیتة التی یؤکل لحمها ذکیّاً ؟ فکتب علیه السلام : لا ینتفع من المیتة بإهاب ولا عصب وکلّها کان من السخال الصوف وإن جزَّ والشعر والوبر والانفحة والقرن ، ولا یتعدّی إلی غیرها إن شاء اللّه(3) .

یعنی یجوز الإنتفاع بهذه الأجزاء الأخیرة من المیتة من السخال الصوف إلی آخر الحدیث ، ولکن لا یتعدی منها إلی غیرها . فذیل الحدیث یدل علی جواز الانتفاع بهذه الأجزاء من المیتة التی لا تحلّها الحیاة . ویأتی البحث حول ذلک إن شاء اللّه تعالی .

ومنها : خبر الکاهلی قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام قرأنا عنده - عن قطع ألیات الغنم ؟ فقال : لا بأس بقطعها إذا کنت تصلح بها مالک ، ثم قال : إنّ فی کتاب علیٍ علیه السلام : أنّ ما قطع منها میّت ، لا ینتفع به(4) .

الروایة تدل علی عدم جواز الإنتفاع بالمیتة مطلقاً ، ولکنّها ضعیفة بالکاهلی لعدم ورود توثیقه . ولعلّ المراد منها عدم جواز الانتفاع بها مثل ما ینتفع بالمذکی ، والشاهد علی

ص: 63


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 185 ح 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 185 .
3- (3) وسائل الشیعة 24 / 181 ح 7 .
4- (4) وسائل الشیعة 24 / 71 ح 1 .

ذلک خبر البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون له الغتم ، یقطع من إلیاتها وهی أحیاء ، أیصلح أن ینتفع بما قطع ؟ قال : نعم ، یذیبها ویسرج بها ولایأکلها ولایبیعها(1) .

ومنها : خبر الحسن بن علی الوشاء قال : سألت أبا الحسن علیه السلام ، فقلت : جعلت فداک إنّ أهل الجبل تثقل عندهم إلیات الغنم فیقطعونها ، قال : هی حرام ، قلت : فنصطبح بها ؟ قال : أما تعلم أنّه یصیب الید والثوب وهو حرام ؟(2) .

اصطبح به : أسرج به للإضاءة . وإصابة النجِس بالثوب والید لیست من المحرّمات الشرعیة ، وهذا التعلیل الوارد فی الروایة بجواز الانتفاع أدل من الدلالة علی حرمة الإنتفاع کما هو الواضح لأهله .

ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الماشیة تکون لرجل فیموت بعضها ، أیصلح له بیع جلودها ودباغها ویلبسها ؟ قال : لا ، وإن لبسها فلا یصلّی فیها(3) .

وجملة « إنْ لبسها» الواردة بعد لا ، توجب انکسار اطلاق لفظة " لا " ، یعنی لا الواردة فی الجواب لیست مطلقة بالنسبة إلی جمیع الموارد ، بل إن لبسها فصلی فیها صارت مورد نفی الروایة فتأمل .

ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن أکل الجبن وتقلید السیف وفیه الکیمخت والفراء ؟ فقال : لا بأس ما لم یعلم أنّه میتة(4) .

یعنی فیه بأس إن علم أنّه میتة ، فتدل علی عدم جواز الإنتفاع بالمیتة . ولکن یمکن حملها علی الکراهة بقرینة موثقة اُخری لسماعة قال : سألته عن جلد المیتة المملوح وهو الکیمخت ، فرخّص فیه وقال : إن لم تمسّه فهو أفضل(5) .

ص: 64


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 72 ح 4 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 71 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 24 / 186 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 24 / 185 ح 5 .
5- (5) وسائل الشیعة 24 / 186 ح 8 .

وهذه الموثقة صریحة بجواز الإنتفاع بالمیتة وصارت قرینة علی الموثقة سماعة السابقة من أن النهی فیها تحمل علی الکراهة والتنزیه .

هذا کلّها فی الروایات المانعة من الإنتفاع بالمیتة ، وفی قبالها طائفة اُخری تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة .

الطائفة الثانیة : الروایات المجوزة علی للإنتفاع بالمیتة :

منها : موثقة سماعة(1) الماضیة آنفاً .

ومنها : خبر البزنطی(2) الذی مرّ منّا .

ومنها : خبر أبی القاسم الصیقل وولده قال : کتبوا إلی الرجل علیه السلام : جعلنا اللّه فداک إنّا قوم نعمل السیوف لیست لنا معیشة ولا تجارة غیرها ونحن مضطرون إلیها ، وإنّما علاجنا جلود المیتة والبغال والحمیر الأهلیة لا یجوز فی أعمالنا غیرها ، فیحلّ لنا عملها وشراؤها وبیعها ومسّها بأیدینا وثیابنا ، ونحن نصلی فی ثیابنا ونحن محتاجون إلی جوابک فی هذه المسألة یا سیدنا لضرورتنا ؟ فکتب : اجعل ثوباً للصلاة .

وکتب إلیه : جعلت فداک وقوائم السیف التی تُسمی السَفَن نتخذها من جلود السمک ، فهل یجوز لی العمل بها ولسنا نأکل لحومها ؟ فکتب علیه السلام : لا بأس(3) .

المراد بالرجل الإمام الهادی علیه السلام (4) أو الإمام العسکری علیه السلام أو الإمام الحجة عجل اللّه تعالی فرجه الشریف . السَفَن : جلد خشن یجعل علی قوائم السیف .

هذه المکاتبة تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة ، والإضطرار المذکور فیها بمعنی الإضطرار الشغلی ، یعنی أنّهم فی عملهم یحتاجون إلیها لا الإضطرار بالحمل الشایع الصناعی ، یعنی لو لم یکن هذا العمل والشغل یوجب الإختلال بالحیاة أو المعیشة .

وعلی هذا الأساس کما هو الظاهر من المکاتبة ، تدل بالصراحة علی جواز الإنتفاع بالمیتة ، بل تدل علی جواز بیع المیتة ، لأنّهم یعملون السیف وقوائمها وسفنها ثم یبیعونها .

ص: 65


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 186 ح 8 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 72 ح 4 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 173 ح 4 .
4- (4) کما ذکره القهپائی فی مجمع الرجال 7/194 .

ولکن فی سندها ضعف بأبی القاسم الصیقل ووُلده لأنّهم مجاهیل . إلاّ أن یحذفوا من السند بأن یقال : محمد بن عیسی بن عبید رأی صورة مکاتبتهم مع الإمام علیه السلام وجواب الإمام علیه السلام بخطه وهو ینقل الحدیث وخطه علیه السلام ، ومع حذفهم من سند المکاتبة تصیر المکاتبة صحیحة السند . والشاهد علی ذلک کلمة " کتبوا " فی صدر الروایة ، لأنّ أبا القاسم الصیقل وولده إن کانوا موجودین فی سند المکاتبة وهم ینقلون المکاتبة فلابدّ أن یقولوا ، « کتبتُ » أو « کتبنا » لا « کتبوا » ، وهکذا فی ذیل الروایة لا بدّ أن یکون هکذا بدل « کتب إلیه » . وهذا الشاهد یدل علی حذفهم فی السند ، ومع حذفهم تصیر المکاتبة صحیحة السند .

وفیه : أن ظاهر السند وجودهم فیه ، لأنّ الوارد فی السند « محمد بن عیسی بن عبید عن أبی القاسم الصیقل وولده » ، وظاهره ورودهم فیه ، فلابدّ من أخذ هذا الظاهر . ومن له إلمام بالأحادیث والروایات ونقلها وکتابتها والنسخ الواردة فیها ، یعلم بأنّ الاستدلال بکلمة واحدة بدل کلمة اُخری لیس بصحیح ، لکثرة النسخ وتبدیلها . نعم یصح الاستدلال بمضمون الروایات ومفادها ، وهذا أمر مهمّ ظهر لنا بحمد اللّه تعالی بعد الممارسة سنین متمادیة فی روایات أهل البیت علیهم السلام ، وذلک فضل اللّه یؤتیه من یشاء واللّه ذو الفضل العظیم .

وبالجملة ، سند المکاتبة ضعیف لا یمکن تصحیحه بنظرنا القاصر وإن کانت دلالتها علی الإنتفاع بالمیتة وبیعها تام .

ومنها : خبر قاسم الصیقل : کتبت إلی الرضا علیه السلام : إنّی أعمل أغماد السیوف من جلود الحمر المیتة فتصیب ثیابی فأصلّی فیها ؟ فکتب إلیّ : إتخذ ثوباً لصلاتک .

فکتبت إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام : کنت کتبت إلی أبیک علیه السلام بکذا وکذا ، فصعب علیَّ ذلک فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشیة الذکیّة ، فکتب إلیَّ : کل أعمال البرّ بالصبر - یرحمک اللّه - فإن کان ما تعمل وحشیّاً ذکیّاً فلا بأس(1) .

الروایة تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة ولکن تعویض الثیاب أو تطهیرها صار موجباً لصعوبة العمل علی قاسم الصیقل ولذا بدّل المیتة بالذکیّة وأنه یعمل بها ، ولذا أجابه الإمام

ص: 66


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 462 ح 4 .

أبوجعفر الثانی جواد الأئمة علیهم السلام : « کلُّ أعمال البرّ بالصبر» .

ولکن سندها ضعیف . واحتمل بعض مشایخنا اتحاد هذه الروایة مع المکاتبة الماضیة ، والإتحاد بنظرنا بعیدٌ ، لا سیّما مع تعدد الأئمة المسؤولین عنهم علیهم السلام . واللّه العالم .

ومنها : خبر علی بن أبی حمزة : إنّ رجلاً سأل أبا عبد اللّه علیه السلام - وأنا عنده - عن الرجل یتقلّد السیف ویصلّی فیه ؟ قال : نعم ، فقال الرجل : إنّ فیه الکیمخت ، قال : وما الکیمخت ؟ قال : جلود دوابّ منه ما یکون ذکیّاً ومنه ما یکون میتة ، فقال : ما علمت أنّه میتة فلا تصلّ فیه(1) .

أجاب الإمام علیه السلام بعدم جواز الصلاة فی ما علم أنّه میتة وأجاز ضمناً الإنتفاع بها لعدم تعرضه به وهو فی مقام البیان ، فالروایة تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الصلاة فی الفراء ؟ فقال : کان علی بن الحسین علیه السلام رجلاً صرداً ، لا یدفئه فراء الحجاز ، لأنّ دباغها بالقرظ ، فکان یبعث إلی العراق فیؤتی ممّا قبلکم بالفرو فیلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقی القمیص الذی یلیه ، فکان یُسأل عن ذلک ؟ فقال : إنّ أهل العراق یستحلّون لباس جلود المیتة ویزعمون أنَّ دباغه ذکاته(2) .

دلالة الروایة علی الإنتفاع بالمیتة واضحة ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جلد الخنزیر یجعل دلواً یستقی به الماء ؟ قال : لا بأس(3) .

بتقریب : عدم قبول التذکیة للخنزیر ، فإنّه میتة لا محالة وأجاز الإمام علیه السلام الإنتفاع بجلده . ولکن فی السند أبا زیاد النهدی وهو مجهول ، فالسند ضعیف به .

وبالجملة ، هذه الطائفة من الروایات تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة والطائفة الأولی

ص: 67


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 491 ح 4 .
2- (2) وسائل الشیعة 4 / 462 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 1 / 175 ح 14 .

صریحة فی عدم الجواز ، ویمکن الجمع بینهما بحمل الطائفة المانعة علی الإنتفاعات التی یُنتفع بها فی المذکّی کما یظهر ذلک أیضاً من بعضها نحو موثقة سماعة وخبر البزنطی ونحوهما . وعلی هذا الروایات تدل علی جواز الإنتفاع بالمیتة .

ولو أبیت إلاّ أن تری التعارض بین الطائفتین من الروایات ، بعد التساقط لعدم وجود الترجیح بینهما ، فالمرجع هو قاعدة الحلّ فی الإنتفاع بالمیتة .

وبعد جواز الإنتفاع بالمیتة ، علی القاعدة المذکورة ، من الملازمة بین جواز الإنتفاع وجواز البیع هل یحکم بجواز بیع المیتة هنا أم لا ؟

نعم ، علی القاعدة الأوّلیة لابدّ من الحکم بالجواز فی بیع المیتة ، ولکن هذا إذا لم یرد من الشارع المقدس النهی عن بیعها ، وفی المقام ورد النهی من بیع المیتة فی عدة من الروایات :

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر البغی ، ولارشوة فی الحکم وأجر الکاهن(1) .

وقد مرّ منّا أنّ لفظ « السحت » ظاهر فی الحرمة ، والحرمة فی المعاملات ظاهرة فی الحرمة الوضعیة ، یعنی بطلان المعاملة . وسند الروایة أیضاً معتبر ، فلا بأس بأخذها والإفتاء علی طبقها .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : أجر الزانیة سحت ، وثمن الکلب الذی لیس بکلب الصید سحت ، وثمن الخمر سحت وأجر الکاهن ، سحت وثمن المیتة سحت ، فأمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم(2) .

ومنها : خبر وصیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لأمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال صلی الله علیه و آله وسلم : یا علی من السحت ثمن المیتة وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر الزانیة والرشوة فی الحکم وأجر الکاهن(3) .

ومنها : خبر البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : سألته عن الرجل تکون له الغنم یقطع من ألیاتها وهی أحیاء أیصلح له أن ینتفع بما قطع ؟ قال : نعم یذیبها ویسرج بها ولا یأکلها

ص: 68


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 5 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 8 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 9 .

ولا یبیعها(1) .

ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الماشیة تکون للرجل فیموت بعضها یصلح له بیع جلودها ودباغها ولبسها ؟ قال : لا ولو لبسها فلا یصلِّ فیها(2) .

ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : من السحت ثمن المیتة ، الحدیث(3) .

ومنها : خبر الدعائم قال : روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار ، وعن بیع المیتة والخنزیر والأصنام ، وعن عسب الفحل ، وعن ثمن الخمر ، وعن بیع العذرة وقال : هی میتة(4) .

هذه الروایات مع إفتاء المشهور علی طبقها بل کاد أن یکون إجماعاً ، منعنا من الحکم بجواز بیع المیتة علی القاعدة الملازمة بین جواز الإنتفاع بالمیتة وجواز بیعها ، وعلی طبق هذه الروایات نذهب إلی عدم صحة بیع المیتة وبطلانه . کما علیه المشهور بل الإجماع .

تبصرة فیها فرع :

یجوز الإنتفاع ببعض أجزاء المیتة نحو الصوف والشعر والریش والبیضة والناب والقرن والأنفحة وغیرها من الأجزاء الّتی لا تحلّها الحیاة ، تدل علی ذلک عدّة من الروایات :

منها : معتبرة أبان بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : واُطلق فی المیتة عشرة أشیاء : الصوف والشعر والریش والبیضة والناب والقرن والظلف والأنفحة والإهاب واللبن وذلک إذا کان قائماً فی الضرع(5) .

ص: 69


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 68 ح 6 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 96 ح 17 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 69 ح 1 .
4- (4) مستدرک الوسائل 13 / 71 ح 6 .
5- (5) وسائل الشیعة 24 / 175 ح 11 .

ومنها : خبر محمد بن جمهور عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : حرم من الذبیحة عشرة أشیاء وأحلّ من المیتة اثنتا عشرة شیئاً ، فأمّا الذی یحرم من الذبیحة فالدم والفرث والغدد والطحال والقضیب والانثیان والرحم والظلف والقرن والشعر ، وأمّا الذی یحلّ من المیتة : فالشعر والصوف والوبر والناب والقرن والضرس والظلف والبیض والأنفحة والظفر والمخلب والریش(1) .

ومنها : صحیحة حریز قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام لزرارة ومحمد بن مسلم : اللبن واللباء والبیضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وکلّ شیء یفصل من الشاة والدابّة فهو ذکیٌّ ، فإن أخذته منه بعد أن یموت فاغسله وصلّ فیه(2) .

ومنها : حسنة الحسین بن زرارة قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام وأبی یسأله عن السنّ [اللبن] من المیتة والبیضة من المیتة وإنفحة المیتة ، فقال : کلّ هذا ذکیٌّ ، الحدیث(3) .

ومنها : معتبرة غیاث بن إبراهیم عن أبی عبد اللّه علیه السلام : فی بیضة خرجت من أست دجاجة میتة ، قال : إن کانت اکتست البیضة الجلد الغلیظ فلا بأس بها(4) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : عشرة أشیاء من المیتة ذکیّة : القرن والحافر والعظم والسنّ والإنفحة واللبن والشعر والصوف والریش والبیض(5) .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الإنفحة تخرج من الجدی المیت ؟ قال : لا بأس به ، قلت : اللبن یکون فی ضرع الشاة وقد ماتت ؟ قال : لا بأس به ، قلت : والصوف والشعر وعظام الفیل والجلد والبیض یخرج من الدجاجة ؟ فقال : کل هذا لا بأس به(6) .

ص: 70


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 177 ح 20 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 180 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 24 / 180 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 24 / 181 ح 6 .
5- (5) وسائل الشیعة 24 / 182 ح 9 .
6- (6) وسائل الشیعة 24 / 182 ح 10 .

ومنها : حسنة أخری للحسین بن زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : سأله أبی عن الإنفحة تکون فی بطن العناق أو الجدی وهو میت ؟ قال : لا بأس به .

قال : وسأله أبی - وأنا حاضر - عن الرجل یسقط سنّه فیأخذ سنّ إنسان میّت فیجعله مکانه ؟ فقال : لا بأس .

وقال : عظام الفیل تجعل شطرنجاً ؟ قال : لا بأس بمسّها .

وقال أبو عبد اللّه علیه السلام : العظم والشعر والصوف والریش کل ذلک نابت لا یکون میتاً .

قال : وسألته عن البیضة تخرج من بطن الدجاجة المیتة ؟ قال : لا بأس بأکلها(1) .

ومنها : غیر ذلک من الروایات الواردة فی المقام .

تدل هذه الروایات علی جواز الإنتفاع بهذه الأشیاء من المیتة وأکثرها ممّا لا تحلّه الحیاة ، ولذا یمکن تطهیرها أیضاً بعد انفصالها من المیتة . وحیث یجوز الإنتفاع بها ، یجوز بیع هذه الأجزاء ولا تشملها الروایات المانعة من بیع المیتة لأنّها جزءٌ للمیتة المبانة منها ویجوز الإنتفاع بها فیجوز بیعها . وأمّا الصلاة فیها فلا تجوز کما هو الظاهر من المذهب ، والروایات المجوّزة للصلاة فی هذه الأجزاء المبانة من المیتة تحمل علی التقیة . والحمد للّه وهو العالم .

فرعان
الاوّل : هل یجوز بیع المختلط بالمیتة ، المشتبه بین المذکّی والمیتة معاً أم لا ؟
اشارة

یعنی مثلاً : هنا لحمان أحدهما مذکّی والآخر میتة واشتبه الأمر بینهما هل یجوز بیعهما أم لا ؟

المشهور بین الأصحاب جواز بیعه ممّن یستحلّ المیتة کما ذهب إلیه الشیخ فی النهایة(2) وابن حمزة فی الوسیلة(3) ویحیی بن سعید فی الجامع للشرایع(4) والمحقق فی الشرایع(5) والعلامة

ص: 71


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 183 ح 12 .
2- (2) النهایة / 586 .
3- (3) الوسیلة / 362 .
4- (4) الجامع للشرایع / 752 .
5- (5) الشرائع 3 / 175 .

فی الارشاد(1) وغیرهم فی غیرها .

ثم هل یجوز بیعه أم لا ؟ وعلی القول بالجواز هل یُعتبر بیعه ممّن یستحلّ المیتة فقط أم لا ؟ فلابدّ من ملاحظة الأدلة فی المقام ، تنقسم إلی ثلاث طوائف :

الطوائف الثلاث من الروایات
الطائفة الأولی : تدل علی جواز بیع المختلط :

منها : صحیحة الحلبی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إذا اختلط الذکی والمیتة باعه ممّن یستحلّ المیتة ویأکل ثمنه(2) .

ومنها : صحیحة أخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سُئل عن رجل کان له غنم وبقر وکان یدرک الذکی منها فیعزله ، ویعزل المیتة ثم إنّ المیتة والذکی أختلط کیف یصنع به ؟ قال : یبیعه ممّن یستحل المیتة ویأکل ثمنه فإنّه لا بأس(3) .

وهاتان الصحیحتان کالنص فی جواز بیع المختلط ممّن یستحل المیتة .

ومنها : صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی العجین من الماء النجس کیف یصنع به ؟ قال : یباع ممّن یستحلّ المیتة(4) .

هذه الصحیحة تدل علی جواز بیع العجین النجس المتعیّن ممّن یستحلّ المیتة ، وحیث یجوز بیع هذا النجس المتعیّن کذلک یجوز بیع المختلط بطریق أولی .

ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن حُبّ دهن ماتت فیه فأرة ؟ قال : لا تدهن به ولا تبعه من مسلم(5) .

بتقریب : صارحب الدهن بعضه أو کلّه نجساً بموت فأرة فیه ، ونهی الإمام علیه السلام عن بیعه من المسلم لأجل نجاسته ، یعنی یجوز بیعه من الکافر ، فکما یجوز بیع هذا الدهن النجس من الکافر کذلک یجوز بیع المختلط من الکافر وممّن یستحلّ المیتة .

ص: 72


1- (1) الارشاد 2 / 113 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 99 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 99 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 100 ح 3 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 100 ح 5 .

وبالجملة ، مفهوم خبر علی بن جعفر یدل علی جواز بیع المختلط ممّن یستحلّ المیتة . ولکن فی سنده ضعف .

ومنها : خبر زکریا بن آدم قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ؟ قال : یهراق المرق ، أو یطعمه أهل الذمة أو الکلب واللحم إغسله وکله .

قلت : فإنّه قطر فیه الدم ، قال : الدم تأکله النار إن شاء اللّه .

قلت : فخمر أو نبیذ قطر فی عجین أو دم ؟ قال : فقال : فسد .

قلت : أبیعه من الیهود والنصاری واُبیّن لهم ؟ قال : نعم ، فإنّهم یستحلون شربه .

قلت : والفقاع هو بتلک المنزلة إذا قطر فی شیءٍ من ذلک ؟ قال : فقال : أکره أن آکله إذا قطر فی شیء من طعامی(1) .

بتقریب : أنّ الإمام علیه السلام جوّز إطعام أهل الذمة بالمرق النجس والإطعام لا یکون مجانیّاً قطعاً ، فیمکن بیع هذا المرق النجس لهم . وهکذا أجاز بیع العجین المتنجس بالخمر أو النبیذ أو الدم لهم ، وعلّله علیه السلام بأنّهم یستحلون شرب الخمر .

فالروایة بهاتین الفقرتین تدلان علی جواز بیع المتنجس المتعیّن من أهل الذمة ، وحیث یجوز بیع المتنجس المتعین لهم کذلک یجوز بیع المختلط بطریق أولی .

فالروایة تدل علی جواز بیع المختلط من أهل الذمة . ولکن سندها ضعیف بالحسن بن المبارک حیث لم یرد توثیقه .

الطائفة الثانیة تدل علی رمیهما معاً إلی الکلاب :

منها : خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی علیه السلام أنّه سئل عن شاة مسلوخة واُخری مذبوحة ، عُمّیَ علی الراعی أو علی صاحبها ، فلا یدری الذکیّة من المیتة ؟ قال : یرمی بها جمیعاً إلی الکلاب(2) .

ص: 73


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 470 ح 8 .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 73 ح 1 .

بتقریب : أن الروایة تدل علی لزوم رمی المختلط إلی الکلاب وعلی هذا لا یجوز بیعه حتی ممّن یستحل المیتة .

وفیه : رمی المختلط إلی الکلاب لا یلزم عدم جواز بیعه ممّن یستحلّ ، لأنّ الإمام علیه السلام جعلهما فی عرض واحد فی خبر زکریا بن آدم المتقدم ، حیث قال علیه السلام : « یهراق المرق أو یطعمه أهل الذمة أو الکلب» . هذا أولاً .

وثانیاً : سند الروایة ضعیف کما لا یخفی علی أهله .

الطائفة الثالثة :

تدل علی عرضهما علی النار فإن انقبض فهو ذکیٌّ حلالٌ وإن انبسط فهو میتة حرام :

منها : خبر شعیب عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل دخل قریة ، فأصاب بها لحماً لم یدر أذکیٌّ هو أم میّت ؟ فقال : یطرحه علی النار ، فکلُّ ما انقبض فهو ذکیّ ، وکلّ ما انبسط فهو میّت(1) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : لا تأکل الجرِّی - إلی أن قال - إذا وجدت لحماً ولم تعلم أذکیّ هو أم میتة ؟ فألق قطعة منه علی النار ، فإن انقبض فهو ذکیٌّ وإن استرخی علی النار فهو میتة(2) .

بتقریب : أن الروایتین وردتا فی اللحم المشتبه ، ولکن الملاک فی المشتبه والمختلط واحد وهو عدم العلم بأنّه میتة أو ذکیّ .

وأفتی الصدوق بمفادهما فی المقنع(3) والشهید فی الدروس حیث قال : « ... ویمکن اعتبار المختلط بذلک (یعنی بالمشتبه وطرحه علی النار) إلاّ أنّ الأصحاب والأخبار أهملت ذلک»(4) .

وفیه : أن الروایتین وردتا فی المشتبه ولم یفت الأصحاب علی طبقهما ، بل المشهور

ص: 74


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 188 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 189 ح 2 .
3- (3) المقنع / 142 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 16 / 193 .
4- (4) الدروس 3 / 13 .

ذهبوا إلی ترک اللحم المشتبه ، وبعد إعراض المشهور عنهما کیف یمکن التعدی منهما إلی المختلط .

هذا ، مع ضعف سند الأولی باسماعیل بن عمر وشعیب وکلاهما مجهولان والثانیة مرسلة . وبالجملة لم یعمل الأصحاب بمفادهما فی موردهما - یعنی اللحم المشتبه - فکیف یمکن الأخذ بهما فی غیر موردهما یعنی المختلط ؟ !

فبقی فی المقام الطائفة الثانیة والطائفة الأولی ، وحیث لا تنافی بینهما کما مرّت الإشارة إلی ذلک منّا ، فالروایات تدلّ علی جواز بیع المختلط ممّن یستحیل المیتة ، فلابدّ من الأخذ بها .

ولکن حیث لم یرد النهی من بیع المختلط ، بل النهی فقط ورد من بیع المیتة ، والمختلط لیست بالمیتة ، یعنی الروایات الناهیة عن بیع المیتة لا تشمل بیع المختلط ، فیجوز بیع المختلط مطلقاً ، سواء کان المشتری مسلماً أو کان ذمیّاً .

وما ورد من الروایات فی جواز بیعه ممّن یستحلّ - یعنی الذمی - مثبت فی المقام ، ولا نفی فیه ، فجواز بیعه من المسلم صححه جواز الإنتفاع بالمختلط ، فیجوز بیعه ولم یرد النهی عن ذلک فی الشریعة المقدسة .

وبالجملة ، یجوز بیع المختلط مطلقاً ، لعدم ورود النهی عن ذلک وجواز الإنتفاع بها منفعة محلّلة عقلائیة .

الثانی : یجوز بیع المیتة من غیر ذی النفس السائلة .
اشارة

لابدّ لنا من البحث هنا فی مقامین :

1 - المقام الأوّل : طهارة المیتة من غیر ذی النفس السائلة :

تدل علیه عدّة من الروایات :

منها : موثقة عمار الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلک یموت فی البئر والزیت والسمن وشبهه ؟ قال : کلّ ما لیس له دم فلا بأس(1) .

ص: 75


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 463 ح 1 .

ومنها : موثقة حفص بن غیاث عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : لا یفسد الماء إلاّ ما کانت له نفس سائلة(1) .

بتقریب : یعنی ما لیس له نفس سائلة لا یفسد الماء بموته فیه ، فصارت میتة طاهرة . ومثلها مرفوعة محمد بن یحیی(2) .

ومنها : موثقة سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جرّة وجد فیها خنفساء قد ماتت ؟ قال : ألقها وتوضّأ منه ، وإن کان عقرباً فأرق الماء وتؤضّأ من ماء غیره الحدیث(3) .

ومنها : خبر ابن مسکان قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : کلّ شیءٍ یسقط فی البئر لیس له دم - مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلک - فلا بأس(4) .

والروایة الأخیرة ضعیفة السند بمحمد بن سنان الراوی عن ابن مسکان .

وهذه الروایات ونظائرها دالة علی طهارة المیتة من غیر ذی النفس السائلة . هذا کلّه فی المقام الأوّل .

2 - المقام الثانی : هل یجوز بیعه أم لا ؟

حیث کانت هذه المیتة طاهرة ولها منافع محلّلة عقلائیة ولم یرد فی الشریعة النهی عن بیعه فیجوز بیعه مطلقاً .

إن قلت : النهی الوارد عن بیع المیتة یشمل هذه المیتة بإطلاقه ، لأنّها میتة أیضاً . کما ادعاه المحقق الشیرازی الثانی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب(5) .

قلت : النهی الوارد فی المیتة وروایاتها منصرف عن المیتة من غیر ذی النفس السائلة کانصراف ما لا یؤکل لحمه عن الإنسان ، وهذا ظاهر لاغبار علیه .

وبالجملة ، یجوز بیع المیتة الطاهرة لعدم ورود النهی عن ذلک ولها منافع محلّلة عقلائیة . والحمد للّه رب العالمین .

ص: 76


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 464 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 3 / 464 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 3 / 464 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 3 / 464 ح 3 .
5- (5) حاشیة المکاسب / 12 للمحقق آیة اللّه المیرزا محمد تقی الشیرازی طاب ثراه .
تکمیلٌ فیه فرعٌ : الترقیع وزرع الأعضاء

هل یجوز قطع أعضاء المیت المسلم لأجل زرعها فی المسلم الحیّ وترقیعها ؟ وعلی فرض جوازه هل یجوز بیع هذه الأعضاء ؟ وهل فی قطع هذه الأعضاء دیة ؟ والدیة علی مَنْ ؟ علی القاطع أو المسلم الحی المریض ؟ وفی من تصرف هذه الدیة ؟

ثم هل الوصیة بذلک (یعنی بقطع العضو) نافذة من قبل المیت أم لا ؟ وهل تعتبر رضی أولیاء المیت فی هذا القطع ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أنه یجوز قطع أعضاء المیت المسلم لأجل زرعها فی المسلم الحیّ مع توفر شرطین :

الأوّل : إن کان حفظ حیاة المسلم مشروطاً بهذا القطع والترقیع .

الثانی : عدم إمکان تحصیل هذا العضو من المیت الکافر أو من أهل الذمة أو غیر المسلم .

فمع هذین الشرطین یجوز قطع عضو المیت المسلم وزرعه فی المسلم الحیّ . فممّا ذکرنا من هذا الإشتراط ظهر أنّ الحکم بالجواز هنا لیس لأجل انصراف أدلة حرمة المثلة من هذا القطع ، بل لأجل تقدّم حفظ حیاة المسلم علی حرمة هذا القطع بقاعدة التزاحم کما قُرّر فی محلّه . ویؤیده مرسلة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله أبی وأنا حاضر عن الرجل یسقط سنّه ، فأخذ سنّ إنسان میت فیجعله مکانه ؟ قال لا بأس(1) .

وفی فرض الجواز ، الأحوط عدم جواز بیعه ، لأنّ من المحتمل شمول أدلة حرمة بیع المیتة لذلک . ویؤیده صحیح أیوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا قطع من الرجل قطعة فهی میتة ، فإذا مسّه إنسان فکلّ ما کان فیه عظم فقد وجب علی من

ص: 77


1- (1) وسائل الشیعة 4 / 417 ح 4 - الباب 31 من أبواب لباس المصلی .

یمسّه الغسل ، فإن لم یکن فیه عظم فلا غسل علیه(1) .

نعم ، ثبت علی القاطع دیة العضو ، لعموم أدلة الدیات وشمولها لهذا الفرض . وتدل علیه صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل قطع رأس المیت ؟ قال : علیه الدیة ، لأنّ حرمته میّتاً کحرمته وهی حیٌّ(2) .

ونحوها خبر عبد اللّه بن مسکان(3) وخبر محمد بن سنان عمّن أخبره عن أبی عبداللّه علیه السلام (4) .

وتدل علیه أیضاً صحیحة جمیل عن غیر واحد عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : قطع رأس المیت أشدُّ من قطع رأس الحیّ(5) .

وراجع فی ذلک الباب 25 من أبواب دیات الأعضاء من وسائل الشیعة 29 / 328 .

ویمکن أن یشترط القاطع أن یدفع دیة المسلم الحیّ ، وحینئذ بعد أدائه الدیة تسقط عنه .

وهذه الدیة تصرف فی وجوه البرّ للمیت ، ولم یکن مالاً له حتّی یُقسّم بین الورثة . وتدل علیه صحیحة حسین بن خالد قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل قطع رأس رجل میت ؟ فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم منه میتاً کما حرّم منه حیّاً ، فمن فعل بمیت فِعلاً یکون فی مثله اجتیاح نفس الحی فعلیه الدیة .

فسألت عن ذلک أبا الحسن علیه السلام فقال : صدق أبو عبد اللّه علیه السلام ، هکذا قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .

قلت : فمن قطع رأس میّت أو شق بطنه أو فعل به ما یکون فیه اجتیاح نفس الحی فعلیه دیة النفس کاملة ؟ فقال : لا ، ولکن دیته دیة الجنین فی بطن أمّه قبل أن تنشأ فیه الروح ،

ص: 78


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 294 ح 1 - الباب 2 من أبواب غسل المس .
2- (2) وسائل الشیعة 29 / 327 ح 4 - الباب 24 من أبواب دیات الأعضاء .
3- (3) وسائل الشیعة 29 / 327 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 29 / 327 ح 5 .
5- (5) الکافی 7 / 348 ح 2 .

وذلک مائة دینار ، وهی لورثته ، ودیة هذا هی له لاللورثة .

قلت : فما الفرق بینهما ؟ قال : إنّ الجنین أمرٌ مستقبل مرجوٌّ نفعه وهذا قد مضی وذهبت منفعته ، فلمّا مثّل به بعد موته صارت دیته بتلک المثلة له لا لغیره ، یحجُّ بها عنه ویفعل بها أبواب الخیر والبرّ من صدقة أو غیرها .

قلت : فإن أراد رجل أن یحفر له فیغسّله فی الحفرة فسدر الرجل ممّا یحفر فدیر به فمالت مسحاته فی یده فأصاب بطنه فشقّه فما علیه ؟ فقال : إذا کان هکذا فهو خطأ وکفّارته عتق رقبة أو صیام شهرین متتابعین أو صدقة علی ستین مسکیناً ، مدٌّ لکلّ مسکین بمدّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

أقول : ورواها أیضاً البرقی بسنده الصحیح عن الحسین بن خالد(2) .

ثم : الوصیة بقطع العضو من جسده لم تکن نافذة مع فقد الشرطین المذکورین ، ومع وجودهما لا أثر لفقد الوصیة .

والأحوط الإستئذان من إولیاء المیت لأجل القطع .

ثم بعد القطع والزرع یصیر هذا العضو جزءً للحی ، فیطهر ویجوز الصلاة معه بلا ریب وإشکال ، سواءً فی ذلک بین الأعضاء والأجزاء الداخلیة والخارجیة .

فرع آخر : التشریح

وممّا ذکرنا ظهر حکم تشریح ، یعنی تقطیع جسد إنسان لأجل تعلّم الطب هل یجوز أم لا ؟

یجوز تشریح جسد المسلم مع حفظ الشرطین المذکورین سابقاً ، ومع عدمهما فلا یجوز . وورد فی الروایات جواز شق بطن المرأة المیتة وخروج ولدها الحیّ وجواز تقطیع ولد المیت فی بطن أمّه الحیّة . ولیست هذه الموارد إلاّ لحفظ حیاة الحیّ . فإذا کان یجوز الشق والتشریح

ص: 79


1- (1) الکافی 7 / 349 ح 4 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 29 / 325 ح 2 - الباب 24 من أبواب دیات الأعضاء .
2- (2) المحاسن 2 / 16 ح 16 .

لأجل حفظ حیاة مسلم واحد ، یجوز ذلک إذا کان حفظ حیاة المسلمین یستلزم ذلک ولو کان فی المستقبل .

من الروایات المومی إلیها :

منها : موثقة علی بن یقطین قال : سألت العبد الصالح علیه السلام عن المرأة تموت وولدها فی بطنها ؟ قال : یشقّ بطنها ویخرج ولدها(1) .

ومنها : صحیحة أخری لعلی بن یقطین قال : سألت أبا الحسن موسی علیه السلام عن المرأة تموت وولدها فی بطنها یتحرّک ؟ قال : یشقّ عن الولد(2) .

ومنها : خبر وهب بن وهب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : إذا ماتت المرأة وفی بطنها ولد یتحرّک فیتخوّف ، علیه فشقّ بطنها واُخرج الولد .

وقال : فی المرأة یموت ولدها فی بطنها فیتخوّف علیها ، قال : لا بأس أن یدخل الرجل یده فیقطّعه ویخرجه إذا لم ترفق به النساء(3) .

وبالجملة ، إذا کان حفظ حیاة المسلمین ولو فی المستقبل منوطاً بالتشریح ولم یکن فی البین جسد الکافر ثم الذمی للتشریح ، یجوز تشریح جسد المسلم .

لا یقال : أدلة حرمة المثلة والتشریح مطلقة تشمل المسلم والذمی والکافر ، فلماذا قدّمتم الکافر ثم الذمی ثم المسلم ؟ بل بعضها تختص بالکوافر وإن کانت تشمل المسلم بطریق الأولویة کما یفهم من جملة الروایات :

منها : صحیحة أبی حمزة الثمالی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إذا أراد أن یبعث سرّیة دعاهم فأجلسهم بین یدیه ثم یقول : سیروا بسم اللّه وباللّه وفی سبیل اللّه وعلی ملة رسول اللّه ، لا تغّلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شیخاً فانیّاً ولا صبیّاً ولا إمرأة ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إلیها ، وأیّما رجل من أدنی المسلمین أو أفضلهم نظر إلی أحد من المشرکین فهو جار حتی یسمع کلام اللّه ، فإن تبعکم فأخوکم فی الدین وإن أبی فأبلغوا

ص: 80


1- (1) وسائل الشیعة 2 / 470 ح 2 الباب 46 من أبواب الإحتضار .
2- (2) وسائل الشیعة 2 / 471 ح 6 .
3- (3) الکافی 3 / 206 ح 2 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 470 ح 3 .

مأمنه واستعینوا باللّه(1) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم کان إذا بعث أمیراً له علی سریة أمره بتقوی اللّه عزّوجلّ فی خاصة نفسه ثم فی أصحابه عامّة ثم یقول : أغز بسم اللّه وفی سبیل اللّه ، قاتلوا من کفر باللّه ، لاتغدروا ولاتغلوا ولاتمثّلوا ولاتقتلوا ولیداً ولا متبتّلاً فی شاهق ولاتحرقوا النخل ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر عبد الرحمن بن جندب عن أبیه عن أمیر المؤمنین علیه السلام : کان یأمر فی کل موطن لقینا فیه عدوّنا فیقول : لا تقاتلوا القوم حتّی یبدأوکم ، فإنّکم بحمد اللّه علی حجة وترککم أیاهم حتی یبدأوکم حجة اُخری لکم ، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مُدبراً ، ولا تجیزوا علی جریح ولا تکشفوا عورة ولا تمثّلوا بقتیل(3) .

ومنها : خبر مالک بن أعین عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ولا تمثّلوا بقتیل ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة الرضی عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی وصیته للحسن والحسین علیهماالسلام لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه : ... أنظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة ، ولا تمثِّلوا بالرجل ، فإنّی سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : إیّاکم والمثلة ولو بالکلب العقور(5) .

لأنا نقول : نعم هذه الروایات - وإن لا ینکر شمول بعضها للکوافر فقط - ولکن نعلم من الخارج حرمة المسلم بالنسبة إلیه ، وحیث نضطر فی العمل من التشریح وهو فی الحقیقة قسمٌ من المثلة فلا یجوز التشریح والمثلة بالنسبة إلی جثّة المسلم ما دمنا نجد جسد الکافر . وهکذا الأمر بالنسبة إلی الذمی ، لأنّ المسلم أعظم حرمةً منه ، فلا یجوز تشریح المسلم وجسد الذمی موجود لذلک فثبت الترتیب والإشتراط ، بحیث لا یجوز تشریح جسد المسلم وجسد

ص: 81


1- (1) وسائل الشیعة 15 / 58 ح 2 - الباب 15 من أبواب جهاد العدو .
2- (2) وسائل الشیعة 15 / 59 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 15 / 92 ح 1 - الباب 33 من أبواب جهاد العدو .
4- (4) وسائل الشیعة 15 / 95 ح 3 - الباب 34 من أبواب جهاد العدو .
5- (5) نهج البلاغة ، الکتاب 46 .

الکافر ثم الذمی موجودان ، ویکفینا هذا فی المقام . وأمّا مع عدمهما فتصل النوبة إلی جسد المسلم، ویجوز ذلک مع وجود الشرط الثانی ، وهو تحفظ حیاة المسلمین علی ذلک ولو کان فی المستقبل .

وتدل علی أنّ حرمة المؤمن حیّاً ومیّتاً سواءٌ عدةّ من الروایات :

منها : صحیحة صفوان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أبی اللّه أن یظنَّ بالمؤمن إلاّ خیراً ، وکسرک عظامه حیّاً ومیّتاً سواء(1) .

ومنها : خبر العلاء بن سیّابة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حرمة المسلم میّتاً کحرمته وهو حیّ سواء(2) .

ومنها : خبر محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام - فی حدیث وفاة الحسن علیه السلام ودفنه - قال : إنّ اللّه حرَّم من المؤمنین أمواتاً ما حرّم منهم أحیاءً(3) .

والحاصل : یجوز تشریح جسد المسلم مع توفر الشرطین الماضیین ویتعلق بقطع أعضائه وکسر عظامه ونحوها الدیة ، ودیته تصرف فی وجوه البرِّ للمیت ولا تقسّم بین ورثته کما مرّ فی البحث السابق .

وهکذا لا یجوز بیع جسد المیت للتشریح ، ولا تنفذ الوصیة بذلک والأحوط ، الإستئذان من أولیائه لأجل التشریح کما مرّ فی البحث السابق آنفاً . والحمد للّه العالم بأحکامه .

ص: 82


1- (1) وسائل الشیعة 29 / 329 ح 4 - الباب 25 من أبواب دیات الأعضاء .
2- (2) وسائل الشیعة 3 / 219 ح 1 - الباب 51 من أبواب الدفن - و 29 / 329 ح 6 .
3- (3) وسائل الشیعة 29 / 328 ح 3 .

السادسة : الف : بیع الخنزیر البرّی

اشارة

استدلوا علی بطلان بیعه بالإجماع ، وادعاه الشیخ فی الخلاف(1) والمبسوط(2) والعلامة فی التذکرة(3) والمنتهی(4) ، وذهب إلیه مشهور الخاصة والعامة .

والعمدة فی المقام ملاحظة الروایات ، ومع وجودها یصیر الإجماع علی فرض وجوده مدرکیّاً . والروایات الواردة حول الخنزیر علی طوائف :

الطوائف الثلاثة من الروایات
الطائفة الأولی : مایدل علی بطلان البیع :

منها : خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : من السحت : ثمن المیتة و ... إلی أن قال : وثمن الخنزیر ، الحدیث(5) .

ومنها : ما ورد فی دعائم الاسلام قال : روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة والخنزیر والأصنام ، الحدیث(6) .

وهکذا ورد حرمة بیعها فی خبر تحف العقول(7) والفقه الرضوی(8) أیضاً .

ومنها : خبر معاویة بن سعید عن الرضا علیه السلام قال : سألته عن نصرانی أسلم وعنده

ص: 83


1- (1) الخلاف 3 / 184 .
2- (2) المبسوط 2 / 165 .
3- (3) التذکرة 1 / 464 ، (10 / 25 من الطبعة الحدیثة) .
4- (4) المنتهی 2 / 1008 .
5- (5) مستدرک الوسائل 13 / 69 ح 1 .
6- (6) مستدرک الوسائل 13 / 71 ح 5 .
7- (7) تحف العقول / 333 .
8- (8) الفقه الرضوی / 250 .

خمر وخنازیر وعلیه دین هل یبیع خمره وخنازیره ویقضی دینه ؟ قال : لا(1) .

ومنها : مضمرة یونس فی مجوسی باع خمراً أو خنازیر إلی أجل مسمی ثمّ أسلم قبل أن یحلّ المال ، قال : دراهمه(2) .

وقال : أسلم رجل وله خمر وخنازیر ثمّ مات وهی ملکه وعلیه دین ، قال : یبیع دُیّانه أو ولی له غیر مسلم خمره وخنازیره ویقضی دینه ، ولیس له أن یبیعه وهو حیٌّ ولا یمسکه .

وظاهر هذه الطائفة من الروایات بطلان بیع الخنزیر ، ولکن کلّها ضعاف والأخیرة مضمرة لم تنسب إلی المعصوم علیه السلام إلاّ أن ذیلها تدل علی بطلان البیع .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام فی رجل کان له علی رجل دراهم فباع خمراً وخنازیر وهو ینظر فقضاه ، فقال : لا بأس به ، أمّا للمقتضی فحلال وأمّا للبائع فحرام(3) .

والحرمة بالنسبة إلی البائع تدلّ بوضوح علی بطلان البیع . وروی نحوها فی دعائم الإسلام(4) .

الطائفة الثانیة : مایدل علی صحة البیع فی الجملة :

منها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یکون لی علیه دراهم فیبیع بها خمراً وخنزیراً ثم یقضی منها ، قال : لا بأس ، أو قال : خذها(5) .

والروایة تدل علی صحة البیع ، لأن المدیون یقضی دینه من عین الدراهم التی أخذها ثمناً للخمر والخنزیر ، فلو کان بیعه باطلاً ، لم یجز أخذ الثمن الشخصی منه للدائن . الروایة مطلقة بالنسبة إلی الذمی والمسلم . ولکن الذی یُشکل الأمر فی الروایة وجود الخمر فیها الذی

ص: 84


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 236 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 227 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 232 ح 2 .
4- (4) دعائم الإسلام 2 / 19 ح 25 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 184 ح 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 233 ح 3 .

لا یمکن الذهاب إلی صحة بیعه ، فلذا لابدّ من حمل هذه الصحیحة إمّا علی الذّمی أو الإعراض عنها . والأوّل أشبه .

ومنها : حسنة محمد بن یحیی الخثعمی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یکون لنا علیه الدین فیبیع الخمر والخنازیر فیقضینا ، فقال : لا بأس به لیس علیک من ذلک شیءٌ(1) .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یکون له علی الرجل مال فیبیع بین یدیه خمراً وخنازیر یأخذ ثمنه ، قال : لا بأس(2) .

والأمر فی الأخیرتین أیضاً علی نحو الأولی .

ومنها : موثقة منصور قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : لی علی رجل ذمّی دراهم فیبیع الخمر والخنزیر وأنا حاضر ، فیحلّ لی أخذها ؟ فقال : إنّما لک علیه دراهم فقضاک دراهمک(3) .

والروایة سنداً موثقة بابن فضال ، والمنصور الراوی فیها هو ابن حازم بقرینة نقل یونس بن یعقوب عنه واشتهاره فی عصره وبین المسمّین بهذا الإسم . والروایة تدل علی صحة البیع بالنسبة إلی الذمّی .

ومنها : خبر علی بن جعفر بل صحیحته عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن رجلین نصرانیین باع أحدهما خمراً أو خنزیراً إلی أجل فأسلما قبل أن یقبضا الثمن هل یحلّ لهما ثمنه بعد الإسلام ؟ قال : إنّما له الثمن فلا بأس أن یأخذه(4) .

الطائفة الثالثة : ما ورد فی الإنتفاع بجلد الخنزیر وشعره وبعض أجزائه والعمل به .

منها : خبر زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جلد الخنزیر یجعل دلواً یُستقی به الماء ؟ قال : لا بأس(5) .

ص: 85


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 233 ح 4 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 233 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 232 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 234 ح 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 1 / 175 ح 16 .

والروایة ضعیفة السند بأبی زیاد النهدی لأنّه مجهولٌ ، وأمّا دلالتها علی جواز الإنتفاع بجلد الخنزیر واضحة .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر یُستقی به الماء من البئر ، هل یتوضّأ من ذلک الماء ؟ قال : لا بأس(1) .

وقد حملها صاحب الوسائل علی التوضی بماء البئر لا ماء الدلو ، وقال : « وإن اُرید به ماء الدلو فإن الحبل لا یلاقیه بعد الإنفصال عن البئر ویحتمل کون الدلو کراً»(2) .

أقول : لا یخفی ما فی احتماله الأوّل والأخیر ، فإن السائل یسأل عن ماء دلوه لا ماء البئر ، وهکذا احتمال کون الدلو کراً بمسافة من البُعد . وبالجملة الصحیحة تدل علی جواز الإنتفاع بشعره .

ومنها : حسنة الحسین بن زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : قلت له : شعر الخنزیر یُعمل حبلاً ویُستقی به من البئر التی یُشرب منها أو یُتوضّأ منها ؟ فقال : لا بأس به(3) .

ومنها : خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : إنّ رجلاً من موالیک یعمل الحمائل بشعر الخنزیر ؟ قال : إذا فرغ فلیغسل یده(4) .

ومنها : خبر بُرْد الإسکاف قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شعر الخنزیر یُعمل به ؟ قال : خذ فاغسله بالماء حتّی یذهب ثلث الماء ویبقی ثلثاه ثم اجعله فی فخارة جدیدة لیلة باردة ، فإن جمد فلا تعمل به وإن لم یجمد فلیس له دسم فاعمل به ، واغسل یدک إذا مسسته عند کلّ صلاة . قلت : ووضوء ؟ قال : لا إغسل یدک کما تمسّ الکلب(5) .

ومنها : الخبر الثانی لبُرْد الإسکاف قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی رجل خراز ولا

ص: 86


1- (1) وسائل الشیعة 1 / 170 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 1 / 170 ذیل ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 1 / 171 ح 3 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 228 ح 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 228 ح 2 .

یستقیم عملنا إلاّ بشعر الخنزیر نخرز به ؟ قال : خذ منه وبرة فاجعلها فی فخارة ، ثمّ أوقد تحتها حتّی یذهب دسمها ثم اعمل به(1) .

ومنها : الخبر الثالث لبُرْد قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک إنّا نعمل بشعر الخنزیر ، فربّما نسی الرجل فصلّی وفی یده شیءٌ ؟ قال : لا ینبغی أن یصلّی وفی یده منه شیءٌ ، فقال : خذوه فاغسلوه فما کان له دسم فلا تعملوا به وما لم یکن له دسم فاعملوا به واغسلوا أیدیکم منه(2) .

وهذه الطائفة من الروایات تدل علی جواز الإنتفاع بشعر وجلد الخنزیر ولا فرق بین شعره وجلده وسائر أجزائه ، کما لم یرد فی الروایات صورة انحصار جواز الإنتفاع بالاضطرار ، کما أفتی به بعض الأصحاب وحملها علی صورة الاضطرار ، وهو حمل للروایات بلا وجه تقیید بلا قید . وعلی هذا کما یجوز الإنتفاع بأجزاء الخنزیر یجوز بیعه علی القاعدة الکلّیّة الّتی مرّت منّا من أنّ کلّ شیء یجوز الإنتفاع به یجوز بیعه وصح شراؤه ، فبیع أجزاء الخنزیر صحیح لدلالة هذه الطائفة الأخیرة من الأخبار .

إن قلت : الروایات الواردة فی العمل بشعر الخنزیر لا یُثبت جواز بیعه ، لأنّ موضوعها العمل به والعمل یمکن أن یکون بالإیجار أو مجاناً أو نحو ذلک ، ونعنی أن العمل لا یستلزم البیع فی جمیع الموارد ، فلا تدل علی المطلوب .

قلت : نعم ، العمل أعم من البیع فلا یثبته و لکن حیث ثبت جواز العمل بالأجزاء ثبت جواز الإنتفاع بها ، وحیث ثبت جواز الإنتفاع ثبت جواز البیع .

وما ورد فی الروایات من حدیث غسلها وجعلها فی الفخارة وذهاب دسمها کلّها إرشادات إلی کیفیة ذهاب دسومة شعر الخنزیر أو جلده لتقلیل التنجس بها أو سهولة التطهیر بعد التنجس بها ، ولا تدلّ علی المولویة کما هو واضح .

وبالجملة ، حیث ثبت جواز الانتفاع بأجزاء الخنزیر من شعره وجلده وغیرهما

ص: 87


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 228 ح 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 228 ح 4 .

وثبت جواز بیع هذه الأجزاء ، فهل یمکن الذهاب إلی القول بجواز بیع کلّه - أعنی الخنزیر بأجمعه - أم لا ؟ یدل علی جواز بیعه عدم الفرق بین الأجزاء والکل ، وتدل علی بطلان بیعه بعض روایات الطائفة الأولی مع إفتاء المشهور علی طبقها ، فکیف صار الحکم فی الخنزیر ؟

القاعدة الأولیة تقتضی جواز بیعه مع فرض وجود المنافع المحلّلة فیه وجواز الإنتفاع به حیّاً أو میتةً ، وفی هذا الفرض القاعدة تقتضی جواز بیعه ، إلاّ أنه ثبت دلیل شرعی علی بطلان بیعه تعبداً فنأخذ به کما ورد ذلک فی المیتة . فهل ورد هنا أیضاً دلیل تعبدی علی بطلان بیع الخنزیر أم لا ؟

أمّا خبر الجعفریات فضعیف سنداً ، ویمکن المناقشة فی دلالته بأنّه فی صدد عدّ أنواع السحت ولا إطلاق له حتّی یشمل صورة بیع الخنزیر لأجل منافعه المحلّلة المفروضة . وهکذا الأمر فی خبر الدعائم سنداً ودلالةً .

وقد مرّ منّا ضعف خبر تحف العقول وعدم صحة انتساب الفقه الرضوی إلی الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فهذان الخبران أیضاً لا یفید ان فی المقام شیئاً .

وأمّا خبر معاویة بن سعید فضعیف به ، ولکن دلالته علی بطلان بیع المسلم للخنزیر واضح .

وأمّا صحیحة محمد بن مسلم فهی العمدة فی المقام ، وهی تدل علی بطلان البیع ، حیث أن الإمام علیه السلام قال فیها : « وأمّا للبائع فحرام» ، وهذا صریح فی بطلان المعاملة .

وبنظرنا القاصر هذه الصحیحة المبارکة یمکن أن تکون شاهد الجمع بین الطائفتین من الروایات - أعنی الطائفة الأولی الدالة علی بطلان المعاملة والطائفة الثانیة الدالة علی صحة المعاملة إجمالاً بحیث یجوز أخذ الثمن للفرد الآخر - یعنی الدائن مثلاً تفضّلاً من اللّه تعالی وتسهیلاً لأُمور المتدینین ، ووزانها وزان ما ورد فی تحلیل الخمس بالنسبة إلی الید الثانیة ، بأنه لو کان مالاً صار متعلَّقاً للخمس فی ید مالکه ثم انتقل إلی الثانی ، حلّله الشارع المقدس للثانی بروایات التحلیل ولکن ذمة الأوّل مشغولة به . هکذا الأمر فی هذا البیع ، بتقریب : أنّ البیع هنا کان باطلاً ولکن الشارع أجاز للدائن أو الثانی أخذ هذا الثمن الشخصی تسهیلاً لأمرهم وتفضّلاً منه علیهم ، وهذا مفاد قوله علیه السلام فی صحیحة زرارة : « لا بأس به للمقتضی فحلال

ص: 88

وأمّا للبائع فحرام » .

نعم ، بعض الروایات تدل علی صحة البیع بالنسبة إلی الذمیّ :

منها : مضمرة یونس الماضیة ، حیث قال الإمام علیه السلام فیها : « یبیع دُیّانه أو ولی له غیر مسلم خمره وخنازیره ویقضی ، دینه ولیس له أن یبیعه وهو حیّ ولا یمسکه» .

بتقریب : أنّ الإمام أجاز قضاء دینه من ثمن الخمر والخنزیر ، ولکن لو کان بائعه ولیاً له غیر مسلم وقدر متیقن هذا الولی أنّه من أهل الذمة ، فأجاز الإمام علیه السلام هذا البیع ، فبیع الخمر والخنزیر من جانب الذمیّ صار صحیحاً . وتدل علی الصحة أیضاً صدر هذه المضمرة ، ولکن لو کان هذا الرجل الّذی أسلم حدیثاً کان حیّاً لا یجوز البیع بتوسطه والبیع منه باطل ، وهذا مفاد قوله علیه السلام : « ولیس له أن یبیعه وهو حیٌّ» . وأمّا قوله علیه السلام : « ولا یمسکه » فأمّا یحمل علی کراهة إمساک المسلم الخمر والخنزیر أو عدم جواز إمساکهما للبیع ونحو ذلک .

والعمدة فی المقام تصحیح سند هذه المضمرة ، ولا بأس به ، لأنّ إسماعیل بن مرار من الحسان ولذا لا یضرّ وجوده فی السند ، وهو الراوی عن یونس بن عبد الرحمن ، فالمراد بیونس فی السند هو ابن عبد الرحمن ، وهو مع جلالته وفقاهته وکونه من أصحاب الإجماع وأمر الإمام الرضا علیه السلام بأخذ معالم الدین منه لا ینقل عن غیر الإمام شیئاً ، فالإضمار فی الروایة لا یضرّ حیث کان مُضِمره یونس بن عبد الرحمن .

وبالجملة ، بعض الروایات تدلّ علی صحة بیع الذمیّ الخمر والخنزیر فنأخذ بها ، وأمّا المسلم فبیعه لهما باطل ، بدلالة بعض الروایات ، ومنها : صحیحة محمد بن مسلم ومضمرة یونس بن عبد الرحمن الماضیتین .

وأمّا أخذ ثمن هذه المعاملة من الذمیّ أو من المسلم للمسلم الآخر فأجازه الإمام علیه السلام تسهیلاً لأمور المسلمین وسماحة للشریعة المقدسة وقد استفدنا هذا الأمر من صحیحة محمد ابن مسلم .

وأمّا جواز بیع أجزاء الخنزیر الذی مرّ منّا فلعدم ورود النهی عن ذلک ، وترتب المنفعة المحلّلة فیها ، فیجوز بیعه لمنافعه المحلّلة ، نحو حرمة بیع المیتة وجواز بیع بعض أجزائه لمنافعه المحلّلة التی مرّت منّا البحث فیها . وهذا تمام الکلام فی حکم بیع الخنزیر البرّی والحمد للّه ربّ العالمین .

ص: 89

السادسة : ب : بیع الکلب البرّی

اشارة

المشهور بین الأصحاب بطلان بیع الکلب ، واستثنی منه بیع کلاب الصید سلوقیاً کان أو غیره ، وبعضهم استثنی کلب الحائط الماشیة والزرع نحو الإسکافی علی ما نقل عنه العلامة فی المختلف(1) وابن إدریس الحلّی فی السرائر(2) وابن حمزة فی الوسیلة(3) والعلامة فی القواعد(4) والتحریر(5) والفاضل المقداد فی التنقیح(6) وابن فهد الحلی فی المهذب البارع(7) والشهید فی الدروس(8) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(9) والمولی أحمد النراقی فی المستند(10) ، وغیرهم فی غیرها .

ثم هل یلحق بهذا الإستثناء کلّ الکلاب المعلَّمة أو کلّ الکلاب الذین لهم منافع محلَّلة ، کبیع کلاب الدار والتجسس وشرطة الأمن ونحوها أم لا ؟

فلابدَّ من ملاحظة الأدلة الواردة فی المقام ، وهی روایات :

الطائفتان من الروایات
الطائفة الأولی مایدل علی حرمة بیع الکلب مطلقاً :

منها : خبر الحسن بن علی الوشاء عن الرضا علیه السلام فی حدیث قال : وثمن الکلب

ص: 90


1- (1) مختلف الشیعة 5 / 12 .
2- (2) السرائر 2 / 220 - 215 .
3- (3) الوسیلة / 249 .
4- (4) قواعد الأحکام 1 / 120 .
5- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 258 مسألة 3007 .
6- (6) التنقیح الرائع 2 / 7 .
7- (7) المهذب البارع 2 / 348 .
8- (8) الدروس 3 / 168 .
9- (9) جامع المقاصد 4 / 14 .
10- (10) مستند الشیعة 14 / 86 .

سحت(1) .

ومنها : خبر جراح المدائنی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : من أکل السحت ثمن الخمر ونهی عن ثمن الکلب(2) .

ومنها : صحیحة إبراهیم بن أبی بلاد قال : قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : جعلت فداک إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنّیات قیمتهنّ أربعة عشر ألف دینار ، وقد جعل لک ثلثها ، فقال : لا حاجة لی فیها ، إنّ ثمن الکلب والمغنیّة سحت(3) .

ومنها : خبر آخر للحسن بن علی الوشاء قال : سئل أبو الحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیّة ؟ قال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه ، وما ثمنها إلاّ ثمن کلب وثمن الکلب سحت والسحت فی النار(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر البغی والرشوة فی الحکم وأجر الکاهن(5) .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : یا علی من السحت ثمن المیتة وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر الزانیة والرشوة فی الحکم وأجر الکاهن(6) .

ومنها : خبر القاسم بن عبد الرحمن عن محمّد بن علی علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن الحسین بن علی علیه السلام فی حدیث : إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن خصال تسعة ، عن مهر البغی وعن عسیب الدابة - یعنی کسب الفحل - وعن خاتم الذهب وعن ثمن الکلب وعن میاثر الأرجوان(7) .

ص: 91


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 118 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 119 ح 4 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 6 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 5 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 9 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 95 ح 13 .

ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علیّ علیه السلام قال : من السحت ثمن المیتة - إلی أن قال - : وثمن الکلب ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر ابن فضال عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : شر الکسب : ثمن الکلب ومهر البغی وکسب الحجام(2) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن طلحة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من أکل السحت سبعة : الرشوة فی الحکم ومهر البغی وأجر الکاهن وثمن الکلب والذین یبنون البنیان علی القبور والذین یصوّرون التماثیل وجعیلة الأعرابی(3) .

ومنها : خبر دعائم الإسلام رفعه إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی عن ثمن الکلب العقور(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : بعثنی رسول اللّه إلی المدینة فقال : لا تدع صورة إلاّ محوتها ولا قبراً إلاّ سوّیته ولا کلباً إلاّ قتلته(5) .

وأمره صلی الله علیه و آله وسلم بقتل الکلاب تدل علی عدم مالیتها ، فإذاً لا یجوز بیعها .

الطائفة الثانیة : مایدل علی جواز بیع کلب الصید

منها : خبر أبی عبد اللّه العامری قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن الکلب الذی لا یصید ؟ فقال : سحت ، وأمّا الصیود فلا بأس(6) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبی عبد اللّه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ثمن الکلب الذی لا یصید سحت ، قال : ولا بأس بثمن الهرّ(7) .

ص: 92


1- (1) مستدرک الوسائل 13 / 69 ح 1 .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 70 ح 2 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 71 ح 6 .
4- (4) مستدرک الوسائل 13 / 89 ح 2 .
5- (5) وسائل الشیعة 11 / 533 ح 1 الباب 46 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 118 ح 1 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 119 ح 3 .

مفهوم هذه الصحیحة یدل علی جواز بیع کلب الصید .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن کلب الصید ؟ قال : لا بأس ، بثمنه ، والآخر لا یحلّ ثمنه(1) .

والآخر : یعنی الکلب الذی لیس بکلب الصید لا یحلّ ثمنه فلا یجوز بیعه .

ومنها : خبر آخر لأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : ثمن الخمر ومهر البغی وثمن الکلب الذی لایصطاد من السحت(2) .

مفهوم هذه الروایة یدل علی أن ثمن الکلب الذی یصید لیس بالسحت فیجوز بیعه .

ومنها : خبر قاسم بن الولید العامری قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن الکلب الذی لا یصید ، فقال : سحت ، وأمّا الصیود فلا بأس(3) .

ومنها : مرسلة الشیخ لأنّه قال فی المبسوط یجوز بیع کلب الصید . وروی : أنّ کلب الماشیة والحائط مثل ذلک(4) .

هذه المرسلة تدل علی جواز بیع کلب الماشیة والحائط ، وهما غیر کلب الصید .

ومنها : خبر دعائم الإسلام رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : لا بأس بثمن کلب الصید(5) .

ومنها : صحیحة محمد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا خیر فی الکلاب إلاّ کلب صید أو کلب ماشیة(6) .

فی هذه الصحیحة اُلحق کلب الماشیة بکلب الصید ، فلما یجوز بیع کلب الصید فیجوز بیعه . ولعل المراد بالخیر وجود المنفعة أو المالیة فیها .

ص: 93


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 119 ح 5 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 119 ح 6 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 119 ح 7 .
4- (4) المبسوط 2 / 166 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 120 ح 9 .
5- (5) مستدرک الوسائل 13 / 90 .
6- (6) وسائل الشیعة 11 / 530 ح 2 .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم : رخص لأهل القاصیة فی کلب یتّخذونه(1) .

جواز إتخاذ الکلب وإن کان ظاهره التکلیف ولکن إذا جاز أخذه وله منفعة فیجوز بیعه . ومن الواضح أنّه غیر کلب الصید .

ومنها : معتبرة أخری للسکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الکلاب الکردیة إذا عُلَّمت فهی بمنزلة السلوقیّة(2) .

وهذه المعتبرة تدل علی أنّ المدار فی جواز البیع کون الکلب معلَّماً ، فإذا کان معلَّماً یجوز بیعه وإلاّ فلا ، وإذا عُلِّمت الکلاب الکردیة فیجوز بیعها کالکلاب السلوقیّة .

فالمدار فی التعلیم ، وتعلیم الکلب لا ینحصر فی الصید بل ربّما یعلّمونه للمحافظة أو للشرطة أو للأمن أو لوجدان الأشخاص المفقودین أو الأشیاء المفقودة أو الأشیاء المستورة والمخفیّة نحو مواد التخدیر ، أو للتهاجم إلی المجرمین وأخذهم وغیرها من المنافع . فکلّ هذه الکلاب المعلَّمة بالتعلیل الوارد فی هذه المعتبرة یجوز بیعها وتخرج من تحت الطائفة الأولی من الروایات .

والعجب من المحدث البحرانی حیث یقول : « وهذه الأخبار کلّها - کما تری - متفقة علی ما ذکرناه من أنّ ما عدا کلب الصید فإنّه لا یجوز بیعه ولا شراؤه ، ولم أقف علی خبر یتضمن استثناء غیره ، سوی ما فی عبارة المبسوط من قوله « وروی أنّ کلب الماشیة والحائط مثل ذلک » ، وفی الإعتماد علی مثل هذه الروایة فی تخصیص هذه الأخبار إشکال »(3) .

أقول : مع وجود معتبرة السکونی کیف یقول قدس سره : « لم أقف علی خبر یتضمن استثناء غیره سوی ما فی عبارة المبسوط» . والروایة معتبرة سنداً وتامةٌ دلالةً .

ویؤید ما ذکرناه : مرسلة الشیخ أبی الفتوح الرازی فی تفسیره رفعه إلی أبی رافع عن

ص: 94


1- (1) وسائل الشیعة 11 / 531 ح 7 .
2- (2) وسائل الشیعة 23 / 355 ح 1 .
3- (3) الحدائق 18 / 81 .

النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث : أنّه رخّص فی اقتناء کلب الصید وکلّ کلب فیه منفعة ، مثل کلب الماشیة وکلب الحائط والزرع ، رخصهم فی اقتنائه ... ، الحدیث(1) .

هذه المرسلة تدل علی جواز اقتناء کلّ کلب فیه منفعة ومثّل بکلب الماشیة والحائط والزرع ، فتشمل غیرها من الکلاب المعلَّمة . وکما یجوز اقتنائها یجوز بیعها ، کما عطفها فی المرسلة بکلب الصید والإجماع علی جواز بیعه .

ویؤیده أیضاً : مرسلة ابن أبی جمهور الإحسائی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث فقال : « لا أدع کلباً بالمدینة إلاّ قتلته» ، فهربت الکلاب حتّی بلغت العوالی ، فقیل : یا رسول اللّه کیف الصید بها وقد أمرت بقتلها ؟ فسکت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فجاء الوحی بإقتناء الکلاب التی ینتفع بها ، فاستثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کلاب الصید وکلاب الماشیة وکلاب الحرث وأذن فی اتخاذها(2) .

والأمر فی هذه المرسلة کسابقتها .

وتدل علی ما ذکرنا من صحة بیع الکلاب المعلَّمة ما ورد فی الروایات من تعین مقدار دیة بعض الکلاب أو تقویمها ، وهذه الدیة - بأیّ مقدار کانت أو تقویمها بدلاً منها - تدل بوضوح علی مالیتها ، وحیث کانت مالاً یجوز بیعها بلا إشکال .

من الروایات الواردة فی هذا المقام :

صحیحة الولید بن صبیح عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دیة الکلب السلوقی أربعون درهماً ، أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بذلک أن یدیه لبنی خزیمة(3) .

ومنها : صحیحة اُخری للولید بن صبیح عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دیة کلب الصید السلوقی أربعون درهماً(4) .

ویمکن اتحاد الصحیحتین .

ص: 95


1- (1) تفسیر أبی الفتوح الرازی 2 / 103 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 90 ح 7 .
2- (2) عوالی اللا آلی 2 / 148 ح 414 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 90 ح 6 .
3- (3) وسائل الشیعة 29 / 226 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 29 / 227 ح 6 .

ومنها : حسنة عبد الأعلی بن أعین عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : فی کتاب علی علیه السلام : دیة کلب الصید أربعون درهماً(1) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دیة الکلب السلوقی أربعون درهماً جعل ذلک له رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ودیة کلب الغنم کبشٌ ، ودیة کلب الزرع جریب من بُرّ ودیة کلب الأهل قفیز من تراب لأهله(2) .

الجریب والقفیز : یعنی مکیال .

ومنها : خبر ابن فضال عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دیة کلب الصید أربعون درهماً ، ودیة کلب الماشیة عشرون درهماً ، ودیة کلب الذی لیس للصید ولا للماشیة زنبیل من تراب علی القاتل أن یعطی وعلی صاحبه أن یقبل(3) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی من قتل کلب الصید ، قال : یقوّمه ، وکذلک البازی ، وکذلک کلب الغنم ، وکذلک کلب الحائط(4) .

وهذه الروایات فی دیّة الکلب تدل علی لزوم إعطاء القاتل أعلی القیم من الدیّة المقدرة یعنی أربعون درهماً أو قیمة الکلاب إلی صاحبها ، وهذه الدیّة والغرامة تدل علی مالیة الکلاب عند الشارع وحیث کانت مالاً ولها منافع محلّلة فیجوز بیعها مطلقاً یعنی بلا فرق بین کلب الصید والحائط والماشیة والزرع والشرطة والأمن والسلوقی والبازی وغیرها .

لا یقال : جعل الشارع لقتل الکلاب الدیة ، تدل علی عدم مالیتها خلافاً لما ذکرناه لأنّ الشارع جعل الدیات لأشیاء لا قیمة لها قال الشهید الثانی قدس سره :

« فإنّ ثبوت الدیات لها ربّما دل علی عدم جواز بیعها ، التفاتاً إلی أنّ ذلک فی مقابلة القیمة ، فإنّک تجد کلّ ماله دیّة لا قیمة له کما فی الحر وماله قیمة لا دیة له ، کما فی الحیوان المملوک غیر

ص: 96


1- (1) وسائل الشیعة 29 / 227 ح 5 .
2- (2) وسائل الشیعة 29 / 226 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 29 / 227 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 29 / 226 ح 3 .

الآدمی»(1) .

واستجوده فی الحدائق(2)

لإنّا نقول : یردّ علیه أولاً : بالحلّ : بأنّ الوارد فی الروایات دیة الکلب لا ینحصر الدیة بأربعین درهماً ، بل ورد فی معتبرة السکونی تقویم الکلب وضمان القاتل بالقیمة ، ونفس هذا التعبیر دلیل علی مالیة هذه الکلاب . وبنظرنا القاصر ذمة القاتل مشغول بأعلی الأمرین من أربعین درهماً أو قیمة الکلب .

وثانیاً : بالنقض : ربّما یوجد فی الأشیاء التی جعل الشارع لها الدیة ، أشیاء ذات مالیّة والقیمة ، نحو : البکارة ودیة المملوک .

ص: 97


1- (1) مسالک الأفهام 1 / 167 .
2- (2) الحدائق الناضرة 18 / 82 .

السابعة : الخمر وکلّ مسکر مایع والفقاع

اشارة

النصوص الکثیرة والإجماع من الأصحاب تدل علی بطلان بیع الخمر وکل مسکر مایع والفقاع ، فلابدّ من البحث فی کل واحد منهم :

أمّا الخمر :

الإجماع من المسلمین علی حرمة بیع الخمر وضعاً وتکلیفاً ، وتدل علیه أیضاً النصوص :

منها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل ترک غلاماً له فی کرم له یبیعه عنباً أو عصیراً ، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثم باعه ، قال : لا یصلح ثمنه . ثم قال : إنّ رجلاً من ثقیف أهدی إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم راویتین من خمر ، فأمر بهما رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فأهریقتا ، وقال : إنّ الذی حرّم شربها حرّم ثمنها .

ثم قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ أفضل خصال هذه التی باعها الغلام أن یتصدق بثمنها(1) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن ثمن الخمر ؟ قال : أهدی إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم راویة خمر بعد ما حرمت الخمر ، فأُمر بها أن تباع ، فلما مرّ بها الذی یبیعها ناداه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من خلفه : یا صاحب الراویة إنّ الذی حرّم شربها فقد حرّم ثمنها ، فأمر بها فصبّت فی الصعید ، فقال : ثمن الخمر ومهر البغی وثمن الکلب الذی لا یصطاد من السحت(2) .

ومنها : موثقة زید بن علی عن آبائه علیهم السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتریها وساقیها وآکل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إلیه(3) .

ص: 98


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 223 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 225 ح 6 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 224 ح 3 .

وهذه الموثقة مضافاً إلی دلالتها علی فساد بیع الخمر ، تدل أیضاً علی أنّ بیعها حرام تکلیفاً لورود اللعن علی بائعها ومشتریها وآکل ثمنها .

ومنها : خبر جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقیها وحاملها والمحمولة إلیه وبائعها ومشتریها وآکل ثمنها(1) .

ونظیرها وردت فی حدیث المناهی(2) .

وتدلّ علیه الروایات الواردة فی أنّ ثمن الخمر سحت أو من السحت :

منها : صحیحة عمار بن مروان قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الغلول ؟ فقال : کلّ شیء غلّ من الإمام فهو سحت ، وأکل مال الیتیم وشبهه سحت والسحت أنواع کثیرة ، منها : اُجور الفواجر وثمن الخمر والنبیذ والمسکر والربا بعد البینة ، فأمّا الرشا فی الحکم فإنّ ذلک الکفر باللّه العظیم جلّ اسمه وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم (3) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة وثمن الکلب وثمن الخمر ومهر البغی والرشوة فی الحکم وأجر الکاهن(4) .

ومنها : موثقة سماعة قال : قال : السحت أنواع کثیرة : منها کسب الحجّام وأجر الزانیة وثمن الخمر(5) .

ومنها : غیر ذلک من الروایات(6) .

ولمّا کان الأمر فی الخمر واضحاً أدرجنا الکلام فیه .

ص: 99


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 224 ح 4 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 224 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 5 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 6 .
6- (6) راجع فی هذا المجال الباب الخامس من أبواب ما یکتسب به من وسائل الشیعة 17 / 92 ومستدرک الوسائل 13 / 69 .
وأمّا کلّ مسکر مایع :

تدل علی حرمة شربه تکلیفاً وبطلان بیعه نصوص متعددة :

منها : صحیحة الفضیل بن یسار قال : ابتدأنی أبو عبد اللّه علیه السلام یوماً من غیر أن أسأله فقال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : کلّ مسکر حرام ، قال : قلت : أصلحک اللّه کلّه حرام ؟ قال : نعم ، الجرعة منه حرام(1) .

بتقریب : الحرام فی « کلِّ مسکر حرام» ، مطلق یشمل حرمة شرب المسکر وحرمة بیعه وضعاً وتکلیفاً .

ومنها : صحیحة اُخری للفضیل عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : حرّم اللّه الخمر بیعها وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المسکر من کلّ شراب ، فأجاز اللّه له ذلک - إلی أن قال - : فکثیر المسکر من الأشربة نهاهم عنه نهی حرام ، ولم یرخّص فیه لأحد(2) .

ومنها : حسنة کلیب الصیداوی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : خطب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال فی خطبته : کلّ مسکر حرام(3) .

ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من شرب مسکراً لم یقبل منه صلاته أربعین لیلة(4) .

هذه الموثقة تدل حرمة شرب المسکر فقط .

ومنها : معتبرة أو صحیحة الفضیل بن یسار عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل عند کلّ لیلة من شهر رمضان عتقاء یعتقهم من النار ، إلاّ من أفطر علی مسکر ومن شرب مسکراً لم تحتسب له صلاته أربعین یوماً ومن مات فیها مات میتة جاهلیة(5) .

ص: 100


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 325 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 325 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 325 ح 3 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 327 ح 9 .
5- (5) وسائل الشیعة 25 / 328 ح 13 .

وهذه کسابقتها فی الدلالة .

ومنها : موثقة أبی بصیر عن أبی الحسن علیه السلام قال : إنّه احتضر أبی قال : یا بنیَّ إنّه لا ینال شفاعتنا من استخفّ بالصلاة ، ولا یرد علینا الحوض من أدمن هذه الأشربة ، قلت : یا أبة وایُّ الأشربة ؟ فقال : کل مسکر(1) .

هذه الموثقة أیضاً تدل علی حرمة الشرب فقط .

ومنها : صحیحة اُخری للفضیل بن یسار قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : من شرب الخمر فسکر منها لم تقبل صلاته أربعین یوماً ، فإن ترک الصلاة فی هذه الأیام ضوعف علیه العذاب لترک الصلاة(2) .

بتقریب : أنّ المعیار السکر بلا فرق فی ذلک بین الخمر والمسکر .

ومنها : صحیحة اسحاق بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : فحرّم اللّه الخمر وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کل مسکر ، فأجاز اللّه ذلک کلّه له(3) .

ومنها : حسنة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : حرّم اللّه الخمر بعینها وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المسکر من کلّ شراب ، فأجاز اللّه له ذلک(4) .

ومنها : صحیحة الحسن بن علی الوشاء عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : کل مسکر حرام وکلّ مُخَمِّرٍ حرام(5) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل حرّم علی شیعتنا الشراب من کل مسکرٍ وعوّضهم عن ذلک المتعة(6) .

هذه الروایات وإن کان ظاهرها حرمة شرب کلّ مسکرٍ ولکن عطف کلّ مسکرٍ

ص: 101


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 329 ح 14 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 330 ح 19 .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 332 ح 25 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 333 ح 29 .
5- (5) مستدرک الوسائل 17 / 65 ح 1 .
6- (6) مستدرک الوسائل 17 / 61 ح 14 .

بالخمر یدل علی اشتراک کل مسکر مع الخمر فی الأحکام ، فکما أنّ شرب الخمر حرام فکذلک شرب کلِّ مسکرٍ حرام وهکذا ، کما أنّ بیع الخمر حرام کذلک بیع کلّ مسکر حرام أیضاً . هذا أولاً .

مضافاً إلی الإطلاق الوارد فی بعض هذه الروایات نحو : « کلّ مسکر حرامٌ »فی حسنة کلیب الصیداوی ، و« فحرَّم اللّه الخمر وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کلّ مسکر» فی صحیحة اسحاق بن عمار ، و« حرّم اللّه الخمر بعینها وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المسکر من کلّ شراب » فی حسنة أبی بصیر . والحرمة فی جمیع هذه الروایات مطلقة بالنسبة إلی الحرمة الوضعیة والتکلیفیة وتشملهما ، فتدلّ هذه الروایات بهذا البیان مضافاً إلی حرمة شرب کلّ مسکر تکلیفاً ، علی حرمة بیع کلّ مسکر یعنی بطلانه . وهذا کلّه ثانیاً .

وثالثاً : فی روایاتنا أطلق « الخمر » علی معنی یعمّ المسکر أو یشمل علی کلّ مسکر ، فحینئذ یترتّب علی کلّ مسکر جمیع أحکام الخمر حتّی حرمة بیعه تکلیفاً ، وتدل علیه عدة من الروایات :

منها : صحیحة علی بن یقطین عن أبی الحسن الماضی علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل لم یحرِّم الخمر لاسمها ، ولکن حرّمها لعاقبتها ، فما کان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر(1) .

ومنها : خبر آخر لعلی بن یقطین عن أبی إبراهیم علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل لم یحرّم الخمر لاسمها ولکن حرّمها لعاقبتها ، فما فعل فعلَ الخمر فهو خمر(2) .

بتقریب : إنّ عاقبة الخمر وفعلها الإسکار ، وهذه العاقبة والفعلة موجودة فی کلِّ مسکر ، فکلِّ مسکر خمر .

ومنها : خبر محمد بن عبد اللّه عن بعض أصحابنا قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : لِمَ حرَّم اللّه الخمر ؟ فقال : حرّمها لفعلها وفسادها(3) .

ومنها : خبر أبی الجارود قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن النبیذ أخمر هو ؟ فقال علیه السلام : ما

ص: 102


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 342 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 343 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 343 ح 3 .

زاد علی الترک جودة فهو خمر(1) .

یعنی إنّ مازاد شربه علی ترکه نشاطاً وفرحاً فی الطبع فهو خمر .

ومنها : خبر محمّد بن إسماعیل بن إبراهیم بن موسی بن جعفر المروی فی دلائل الإمامة عن عمَّی أبیه الحسین وعلی ابنی موسی عن أبیهما علیه السلام عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن فاطمة علیهاالسلام قالت : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یا حبیبة أبیها ، کلّ مسکر حرام وکلّ مسکر خمر(2) .

أقول : روی الکلینی بسنده عن عطاء بن یسار عن أبی جعفر علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم مثلها(3) .

ومنها : مرسلة الشیخ أبی الفتوح الرازی فی تفسیره عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : کلّ شراب عاقبته کعاقبة الخمر فهو حرام(4) .

وهذه الروایات - وفیها ما هو معتبر - تدل علی أنّ کلّ مسکر یطلق علیه الخمر یترتب علیه أحکام الخمر ، وعلی هذا نذهب إلی حرمة شرب کلّ مسکر تکلیفاً وإلی حرمة بیعه وضعاً وتکلیفاً نحو الخمر ، یعنی أنّ بیعه کان حراماً تکلیفاً أیضاً نحو بیع الخمر .

تنبیه : هل یلحق بالمسکرات المایعة ، الجامدة منها نحو : الحشیش والأفیون والتریاق وغیرها من مواد التخدیر فی حرمة استعمالها وحرمة بیعها وضعاً وتکلیفاً أم لا ؟

یدلّ علی الإلحاق اطلاق بعض الروایات الواردة ، نحو حسنة کلیب الصیداوی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فقد ورد فیها « کلّ مسکر حرام» ، وصحیحة إسحاق بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام ورد فیها : « حرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کلّ مسکر» ، وصحیحة علی بن یقطین « عن أبی الحسن الماضی علیه السلام قال : إنّ اللّه عز وجل لم یحرّم الخمر لاسمها ولکن حرّمها لعاقبتها ، فما کان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» ، والإطلاقات الواردة فی غیرها من الروایات الماضیة .

وفیه : یمکن تقیید هذه الإطلاقات الواردة علی فرض وجود الإطلاق فیها ،

ص: 103


1- (1) الکافی 6 / 412 ح 5 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 25 / 343 ح 4 .
2- (2) دلائل الإمامة / 69 ح 7 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17 / 58 ح 2 .
3- (3) الکافی 6 / 408 ح 3 .
4- (4) مستدرک الوسائل 17 / 66 ح 3 .

بالروایات الواردة فیها لفظة « الشراب » أو « الأشربة » المایعة ، کما لا یبعد . وعدم صدق الخمر عرفاً علی هذه المواد . والظاهر انصراف حتّی مثل صحیحة علی بن یقطین عن هذه المواد .

وبالجملة ، إلحاق المسکرات الجامدة بالمایعة منها فی جمیع الموارد التی ذکرناها بجهة الصناعة الفقهیة والأدلة التفصیلیة فی غایة الإشکال .

نعم ، یمکن الحکم بحرمة استعمال المسکرات الجامدة من جهة إضرارها علی النفس ، وما یوجب من الإختلال فی المجتمع والنظام ، ومن هذه الجهة أیضاً یمکن الحکم ببطلان بیعها . وأمّا حرمة بیعها تکلیفاً وثبوت نجاستها ولزوم حدّ شرب الخمر علی من استعملها فلا یمکن الذهاب إلیها کما لا یخفی علی من له إلمام بالفقاهة . والحمد للّه علی ما انعم .

ص: 104

أمّا الفقاع

حرمة شرب الفقاع إجماعیٌ عندنا ، فلا یجوز بیعه ، ومَنْ شربه فعلیه الحدّ .

تدل علی حرمة شربه وبطلان بیعه وحدّه الروایات المتکثرة :

منها : موثقة ابن فضال قال : کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام أسأله عن الفقاع ، فکتب ینهانی عنه(1) .

ومنها : صحیحة الوشاء قال : کتبت إلیه - یعنی الرضا علیه السلام - أسأله عن الفقاع ، قال : فکتب حرام وهو خمر ، ومن شربه کان بمنزلة شارب الخمر .

قال : وقال أبو الحسن الأخیر علیه السلام : لو أنّ الدار داری لقتلت بایعه ولجلدت شاربه .

وقال أبو الحسن الأخیر علیه السلام : حدّه حدّ شارب الخمر .

وقال علیه السلام : هی خُمیرة استصغرها الناس(2) .

ومنها : صحیحة سلیمان بن جعفر قال : قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام : ما تقول فی شرب الفقاع ؟ فقال : خمر مجهول یا سلیمان فلا تشربه ، أما إنّه یا سلیمان لو کان الحکم لی والدار لی لجلدت شاربه ولقتلت بایعه(3) .

ومنها : صحیحة محمد بن إسماعیل قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن شرب الفقاع ، فکرهه کراهةً شدیدةً(4) .

ومنها : موثقة عمار بن موسی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفقاع ، فقال لی :

ص: 105


1- (1) الکافی 6 / 423 ح 5 .
2- (2) الکافی 6 / 423 ح 9 .
3- (3) الکافی 6 / 423 ح 10 .
4- (4) الکافی 6 / 424 ح 11 .

هو خمر(1) .

ومنها : موثقة ابن فضال قال : کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام أسأله عن الفقاع ، قال : فکتب یقول : هو الخمر ، وفیه حدّ شارب الخمر(2) .

ومنها : خبر عمار بن موسی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفقاع ، فقال : هو خمر(3) .

ومنها : خبر محمد بن سنان قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن الفقاع فقال : هو الخمر بعینها(4) .

ومنها : خبر زاذان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال : لو أنّ لی سلطاناً علی أسواق المسلمین لرفعت عنهم هذه الخمرة - یعنی الفقاع -(5) .

ومنها : خبر الحسن بن الجهم وابن فضال قالا : سألنا أبا الحسن علیه السلام عن الفقاع ، فقال : حرام ، وهو خمر مجهول ، وفیه حدّ شارب الخمر(6) .

والروایات تدلّ بوضوح علی حرمة شربه وبطلان بیعه وحرمة بیعه تکلیفاً وترتب الحدّ علی مَنْ شربه ، وحیث أنّ الأمر فیه واضح أدرجنا الکلام فیه .

فرعان :
الأوّل : هل یجوز بیع الخمر للتخلیل أم لا ؟

الروایات تدل علی جواز تخلیل الخمر :

منها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الخمر العتیقة تجعل خلاًّ ؟ قال : لا بأس(7) .

ص: 106


1- (1) الکافی 6 / 424 ح 13 .
2- (2) الکافی 6 / 424 ح 15 .
3- (3) الکافی 6 / 424 ح 2 .
4- (4) الکافی 6 / 423 ح 4 .
5- (5) الکافی 6 / 423 ح 6 .
6- (6) الکافی 6 / 423 ح 8 .
7- (7) الکافی 6 / 428 ح 2 .

ومنها : موثقة عبید بن زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یأخذ الخمر فیجعلها خلاًّ ، قال : لا بأس(1) .

ومنها : موثقة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الخمر تجعل خلاًّ ، قال : لا بأس إذا لم یجعل فیها ما یغلبها(2) .

ومنها : موثقة اُخری لعبید بن زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : فی الرجل إذا باع عصیراً فحبسه السلطان حتّی صار خمراً ، فجعله صاحبه خلاًّ ، فقال : إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس به(3) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن الخمر یجعل فیها الخلّ ؟ فقال : لا ، إلاّ ما جاء من قبل نفسه(4) .

یعنی صار الخمر بنفسه خلاًّ ، لا بإضافة الخلّ فی الخمر وإراقته فیه .

ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الخمر یکون أوّله خمراً ثم یصیر خلاًّ ؟ قال : إذا ذهب سکره فلا بأس ، أیؤکل ؟ قال : نعم(5) .

یمکن تصحیح سند هذه الروایة بأنّ لصاحب الوسائل سنداً صحیحاً إلی کتاب علی بن جعفر ، فصارت الروایة صحیحة السند .

وهذه الروایات کما تری کلّها وردت فی جعل الخمر خلاًّ ولم ترد فیها جواز بیع الخمر للتخلیل ، بل تدل علی جواز التخلیل وجواز أکل الخلّ الحاصل منه .

وقد استدلوا علی جواز بیع الخمر للتخلیل بهذه الروایة وهی :

صحیحة جمیل قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : یکون لی علی الرجل دراهم ، فیعطینی بها خمراً ، فقال : خذها ثم أفسدها .

ص: 107


1- (1) الکافی 6 / 428 ح 3 .
2- (2) الکافی 6 / 428 ح 4 .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 371 ح 5 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 371 ح 7 .
5- (5) وسائل الشیعة 25 / 372 ح 10 .

قال علیٌّ : واجعلها خلاًّ(1) .

المراد بعلیّ الوارد فی آخر الصحیحة ، علی بن حدید المذکور فی السند ، یعنی هذا توضیح منه أو تتمة الروایة بنقله لا علی أمیر المؤمنین علیه السلام کما هو واضح .

بتقریب : أجاز الإمام علیه السلام أخذ الخمر فی قبال الدراهم ثم جعلها خلاًّ ، ونفس هذا الأخذ معاملة قهریة ، فکما یجوز ذلک یجوز بیعها للتخلیل .

وأجاب الشیخ الأعظم قدس سره عن هذا الاستدلال بوجهین : الأوّل : « المراد به إمّا أخذ الخمر مجاناً ثم تخلیلها»(2) .

الثانی : « أخذها وتخلیلها لصاحبها ثم أخذ الخلّ وفاءً عن الدراهم»(3) .

وأورد فی مصباح الفقاهة علی الأوّل : « بأنّ أخذها مجاناً ثم تخلیلها لنفسه لا یوجب سقوط الدَّین عن ذمة الغریم .

وعلی الثانی : بأن تخلیلها لصاحبها لا یصحّح أخذ الخلّ وفاءً ما لم یأذن المالک فی ذلک ، والمالک إنّما أذن فی أخذ الخمر وفاءً لا فی أخذ الخلّ »(4) .

ودافع بعض الأساتذه - مدّ ظله - عن الشیخ وقال : « یمکن أن یدافع عن الوجه الأوّل : بأنّ قبول ما یعطیه المدیون بعنوان دینه ملازم لإبراء ذمّته منه .

وعن الثانی : بأنّ إذنه تعلّق بهذه العین الخارجیة بذاتها وفاءً ، وهو مطلق شامل لجمیع حالاتها وتطوّراتها ، ولیس مقیّداً بحالة خمریتها فقط ، فتأمّل »(5) .

وبالجملة ، یجوز نفس عمل تخلیل الخمر کما تدلّ علیه هذه الروایات ، وأمّا رفع الید عن الأدلة الواردة فی حرمة بیع الخمر وضعاً وتکلیفاً فی مورد التخلیل فمشکل جداً ، وغایة ما یمکن أن یقال فی صحیحة جمیل الأخذ بها فی موردها الخاص وعدم التعدی منه إلی البیع

ص: 108


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 371 ح 6 .
2- (2) المکاسب 1 / 42 .
3- (3) المکاسب 1 / 42 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 87 .
5- (5) دراسات فی المکاسب المحرمة 1 / 456 .

للتخلیل .

فلا یجوز بیع الخمر للتخلیل . واللّه سبحانه هو العالم .

الثانی : هل یجوز التداوی بالخمر وبیعه لذلک أم لا ؟

ورد فی عدة من الروایات عدم جواز التداوی بالخمر :

منها : صحیحة عمر بن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن الرجل یبعث له دواء من ریح البواسیر فیشربه بقدر اُسکرّجة من نبیذ صلب لیس یرید به اللّذّة وإنّما یرید به الدواء ؟ فقال : لا ولا جرعة . ثم قال : إنّ اللّه عز وجل لم یجعل فی شیءٍ ممّا حرّم شفاءً ولا دواءً(1) .

ومنها : موثقة الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن دواء عجن بالخمر ، فقال : لا واللّه ما اُحبّ أنظر إلیه فکیف أتداوی به ، إنّه بمنزلة الخنزیر أو لحم الخنزیر وإنّ أناساً لیتداوون به(2) .

ومنها : موثقة أو صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن الکحل یعجن بالنبیذ أیصلح ذلک ؟ فقال : لا(3) .

لم ترد هذه الروایة فی صورة الإستشفاء والتداوی .

ومنها : صحیحة معاویة بن عمار قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام عن دواء عجن بالخمر نکتحل منها ؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ما جعل اللّه عزّ وجلّ فیما حرّم شفاءً(4) .

ومنها : خبر الحلبی قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن دواء یعجن بخمر ، فقال : ما اُحبّ أن أنظر إلیه ولا أشمّه فکیف أتداوی به(5) .

ص:109


1- (1) الکافی 6 / 413 ح 2 .
2- (2) الکافی 6 / 414 ح 4 .
3- (3) الکافی 6 / 414 ح 9 .
4- (4) الکافی 6 / 414 ح 6 .
5- (5) الکافی 6 / 414 ح 10 .

ومنها : خبر إسماعیل بن محمّد قال : قال جعفر بن محمّد علیه السلام : نهی رسول اللّه عن الدواء الخبیث أن یتداوی به(6) .

قد حملت هذه الروایة علی الدواء الذی صنع من الخمر والمسکر .

ومنها : موثقة ابن أبی یعفور قال : کان إذا أصابته هذه الأوجاع [ الأرواح [فإذا اشتدّت به شرب الحسو من النبیذ فتسکن عنه ، فدخل علی أبی عبد اللّه علیه السلام إلی أن قال - : فأخبره بوجعه وشربه النبیذ ، فقال له : یا ابن أبی یعفور لا تشربه ، فإنّه حرام ، إنّما هذا الشیطان موکّل بک ، فلو قد یئس منک ذهب ، فلما رجع إلی الکوفة هاج به وجع أشدّ ممّا کان ، فأقبل أهله علیه ، فقال : لا واللّه لا أذوق منه قطرة أبداً ، فآیسوا منه ، وکان یهمّ علی شیءٍ ولا یحلف ، فلما سمعوا أیسوا منه ، واشتدَّ به الوجع أیاماً ، ثم أذهب اللّه عنه ، فما عاد إلیه حتّی مات(1) .

ومنها : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون : ... والمضطرُّ لا یشرب الخمر ، لأنّها تقتله ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المضطرُّ لا یشرب الخمر ، فإنّها لا تزیده إلاّ شرّاً ، ولأنَّه إن شربها قتلته ، فلا یشرب منه قطرة(3) .

ومنها : خبر قاید بن طلحة أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن النبیذ یجعل فی الدواء ، فقال : لا [ لیس ] ینبغی لأحد أن یستشفی بالحرام(4) .

ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث طویل فی أخبار آخر الزمان : ... ورأیت أموال ذوی القربی تقسّم فی الزُّور ویتقامر بها الخمور ، ورأیت الخمر

ص:110


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 346 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 347 ح 11 .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 347 ح 12 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 347 ح 13 .

یتداوی بها ویوصف للمریض ویستشفی بها ، الحدیث(1) .

بعد التأمل فی هذه الروایات ظهر لی أنّ الأئمة علیهم السلام کانوا بصدد نفی الإستشفاء والتداوی بالخمر وغیرها من المحرّمات ، ولذا أجابوا فی بعض الروایات فی جواب الاستشفاء بالخمر بنحو عام نحو صحیحة عمر بن أذینة حیث قال الإمام علیه السلام فیها : « إنّ اللّه عز وجل لم یجعل فی شیءٍ ممّا حرّم شفاءً ولا دواءً » ، وصحیحة معاویة بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : « ما جعل اللّه عزّ وجلّ فیما حرّم شفاءً» وخبر قاید بن طلحة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال :

« لا ینبغی لأحد أن یستشفی بالحرام» .

إنّهم علیهم السلام نفوا الإستشفاء والتداوی بالمحرّمات بنحو عام لئلا یلعبَ الناس بالمحرّمات بقصد الإستشفاء والتداوی أو بداعیهما أو بدعواهما ، وعلی هذا لا فرق بین الخمر وغیرها من المسکرات والمحرّمات ، إذا کان المرض موجباً للضرر أو مهلکاً وانحصر الدواء فی الخمر أو غیرها من المسکرات أو المحرّمات ، فتجر أدلة الإضطرار وتنفی الحرمة التکلیفیة مادام الاضطرار باقیاً .

فإذا جاز شربه ، جاز بیعه أیضاً لهذا الأمر ، وإن کان الأحوط حینئذ ترک صورة البیع والإتیان بالمعاوضة بطرق اُخری .

تنبیه : هل یجوز بیع الکحول الطبیّة والصناعیة أم لا ؟

نعم ، یجوز بیع هذه الکحول ، وهی محکومة بالطهارة للأصل ، ویجوز بیعها لوجود المنافع المحلّلة العقلائیة فیها ، لإنصراف اسم الخمر عن هذه الکحول . ووجود بعض مراتب الإسکار فیها أو إمکان إعدادها للإسکار کما قیل ، لا یصدق علیها فعلاً اسم المسکر ، فلذا لا یصدق علیها خمر ولا مسکر ولا تشملها أدلة بطلان بیعها .

فبقی جواز بیعها علی القاعدة الأوّلیة وتشملها إطلاقات حلیة البیع وجوازه ونفوذه ولزوم الوفاء به . والحمد للّه وهو العالم .

ص:111


1- (5) الکافی 6 / 414 ح 8 .

الثامنة : الأعیان المتنجّسة

هل یحرم المعاوضة وبیع الأعیان المتنجسة أم لا ؟

فصّل الشیخ الأعظم قدس سره بین الأعیان المتنجسة وذهب إلی عدم جواز بیعها إذا لم تکن قابلة للتطهیر وتوقّف منافعها المحلّلة المعتدّ بها علی الطهارة . ومع فقد هذین الشرطین أو أحدهما ذهب إلی جواز بیعها(1) .

فلابدّ لنا من البحث فی المقام من أنّ النجاسة علی الشیء هل هی بنفسها مانعة من البیع والمعاوضة أم لا ؟

قد تمسکوا فی إثبات أنّ النجاسة العارضة مانعة من البیع بعدّة وجوه :

منها : وجود الإجماع علی بطلان بیع المتنجس الذی لا یمکن تطهیره ، ادعاه ابن زهرة فی الغنیة(2) والعلامة فی المنتهی(3) وظاهر ثانی الشهیدین فی المسالک(4) وصریح النراقی فی المستند(5) .

وفیه : أوّلاً : لم یتعرض قدماء الأصحاب لهذا الإجماع نحو الصدوق والمفید والمرتضی والطوسی قدس سرهم وغیرهم من أساطین الفقه ، وعدم تعرضهم لهذا الإجماع أقوی شاهد علی عدم وجوده .

وثانیاً : یمکن أن یکون هذا الإجماع مدرکیّاً ، ومدرکهم سائر الأدلة الواردة فی المقام الذی نبحث فیه ، ومع وجود هذا الاحتمال لم یستکشف هذا الإجماع مِنْ قول المعصوم علیه السلام فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة .

ص:112


1- (1) المکاسب 1 / 43 .
2- (1) الغنیة / 586 .
3- (2) منتهی المطلب 2 / 1010 .
4- (3) المسالک 1 / 164 ، (3 / 119 من الطبعة الحدیثة) .
5- (4) مستند الشیعة 14 / 70 .

وثالثاً : علی فرض تحقق هذا الإجماع ، الظاهر أنّه منعقد علی صورة عدم وجود منفعة محلّلة عقلائیة للمتنجس ، بحیث ألغی الشارع المالیة منه وإن عُدّ عند غیر الملتزمین بالشریعة مالاً .

وأمّا علی فرض وجود المنفعة المحلّلة فیجوز بیعه والإجماع لا ینفیه .

ومنها : أصل الفساد الجاری فی موارد الشک فی صحة المعاملة ، یعنی إذا شککنا فی صحة بیع المتنجس الأصل فی ذلک فساده ، ویمکن التعبیر عنه باستصحاب عدم ترتب الأثر .

وفیه : إذا کان شیءٌ مالاً عند العرف ثم نشک فی صحة المعاملة علیه ، یشملها الإطلاقات الواردة فی حلیّة البیوع ولزومها وتجارة عن تراض وجوازها . فبعد ورود هذه الإطلاقات یعنی - الأدلة اللفظیة فی المقام لاتصل - النوبة إلی الأصل والاستصحاب .

ومنها : قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ»(5) .

بتقریب : لزوم الإجتناب فی الآیة الشریفة متفرع علی الرجس ، یعنی العلّة التامة للإجتناب هی الرجس ، والرجس هو النجس ، وإطلاق الإجتناب یقتضی جمیع التقلبات فیه ، ومنها البیع والمعاوضة .

وفیه : المراد بالرجس فی الآیة الشریفة غیر النجس المصطلح ، لأنّ الوارد فیها المیسر والأنصاب والأزلام ، ولم یذهب أحد إلی نجاسة هذه الأشیاء ، فلا یمکن أن یکون الرجس فی الآیة بمعنی النجس ، لأنّه یوجب خروج الموارد المذکورة منها وهو مستهجن . والظاهر أنّ المراد بالرجس فی الآیة ما یقابل لفظة [ پلیدی ] فی الفارسیة ، وهذا غیر النجاسة المصطلحة .

ومنها : قوله تعالی : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(1) :

بتقریب : الرجز بمعنی الرجس والنجاسة ، وإطلاق الهجرة منه یقتضی ترک جمیع التقلبات فیه ، ومنها البیع والشراء والمعاوضة .

وفیه : تفسیر الرجز والرجس بالنجاسة ، غیر تام . روی صاحب مجمع البیان(2) عن

ص:113


1- (1) سورة المائدة / 90 .
2- (2) سورة المدثر / 5 .

المفسرین تفسیر الرجز بالأصنام والأوثان والعذاب والمعاصی والفعل القبیح والخُلْق الذمیم وحبّ الدنیا ، وأین هذا من تفسیره بالنجاسة المصطلحة . فهذا الإستدلال أیضاً علیلٌ .

ومنها : قوله تعالی : «وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبَائِثَ»(1) .

بتقریب : أنّ النجس من أظهر مصادیق الخبائث ، وأن إطلاق تحریمها یشمل تحریم جمیع التقلبات فیها ، ومنها البیع والمعاوضة .

وفیه : أوّلاً : أن الخبیث لیس مرادفاً للنجس ، بل الظاهر أنّ المراد به ما یکون بذاته ردّیاً وقبیحاً ، وتترتب علیه المضارّ والمفاسد . وهذا أعمٌّ من النجاسة المصطلحة .

وثانیاً : أن الظاهر من تحریم الخبائث ، حیث نُسبت الحرمة إلی الأعیان ، تحریم الإنتفاعات والآثار المناسبة لها ، نحو الأکل والشرب واللبس ونحوها ، لا تحریم البیع والمعاوضة . یعنی الحرمة مع إضافتها إلی الخبائث - وهی من الأعیان - ظاهرها الحرمة التکلیفیة لا الوضعیة بحیث تشمل بطلان المعاملة .

ومنها : روایة تحف العقول عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « أمّا الوجوه الحرام من البیع

والشراءِ فکلّ أمر یکون فیه الفساد ... إلی أن قال علیه السلام : أو البیع للمیتة أو الدم أو لحم الخنزیر أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحوش أو الطیر أو جلودها أو الخمر أو شیء من وجوه النجس ، فهذا کلّه حرام ومحرّم ، لأنّ ذلک کلّه منهی عن أکله وشربه ولبسه وملکه وإمساکه والتقلب فیه بوجه من الوجوه لما فیه من الفساد ، فجمیع تقلّبه فی ذلک حرام »(2) .

وفیه : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب ضعف سند هذه الروایة وإرسالها واضطرابها وعدم صلاحیتها للدلیلیة ، فراجع ما حررناه هناک .

ومنها : النبوی المشهور « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه» .

بتقریب : أنّ اللّه تعالی حرّم المتنجس ، فحرّم ثمنه أیضاً ، وتحریم الثمن عبارة اُخری عن تحریم المعاملة وبطلانها .

وفیه : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب أنّ هذه الروایة عامیة لم ترد فی مصادرنا مسندةً ، وقد

ص:114


1- (3) مجمع البیان 10 / 385 .
2- (1) تحف العقول / 333 .

وردت فی أکثر نقولهم مع کلمة « الأکل » ، فصارت الروایة بهذا المعنی : إنّ اللّه إذا حرم أکل شیءٍ حرم ثمنه أیضاً . فتدلّ علی بطلان بیع المأکولات المتنجسة للأکل . ونحن نذهب إلی بطلان هذا ، ولکن أین هذا من بطلان المعاملة علی جمیع المتنجسات ؟ !

وبالجملة ، الروایة ضعیفة سنداً ودلالة .

ومنها : إلغاء الخصوصیة من الروایات الواردة فی بطلان المعاملة فی الأعیان النجسة الماضیة ، نحو : البول والغائط والمیتة والدم والمنی والکلب والخنزیر وغیرها ، بأنّ الوجه المشترک فی هذه الأعیان والعلة الغائیة فی بطلان المعاملة علیها النجاسة ، فبیع جمیع أفراد النجس باطلٌ .

وفیه : أوّلاً : هذا الاستدلال أشبه شیء بالقیاس بل هو القیاس بعینه ، وهو مردود فی مذهبنا مذهب أهل البیت علیهم السلام .

وثانیاً : المنع الوارد فی الروایات بالنسبة إلی الأعیان النجسة المذکورة ، بلحاظ المنافع التی کانوا یشترونها لأجلها فی تلک الأعصار من الأکل والشرب وغیرهما ، ولا تدلّ علی أنّ النجاسة مانعة مستقلة بذاتها .

ومنها : الروایات الواردة فی الأمر بإهراق الماء النجس المستلزم للنهی عن جمیع أضداده الخاصة التی منها : بیعه وإمساکه وسائر التصرفات ، هکذا ذکره النراقی فی المستند(2) .

ومن الروایات الآمرة بإهراق الماء النجس موثقه سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل معه إناءان فیها ماء ، وقع فی أحدهما قذر لا یدری أیّهما هو ، ولیس یقدر علی ماء غیره ؟ قال : یهریقهما جمیعاً ویتیمّم(1) .

ونظیرها موثقة اُخری لسماعة(2) وموثقة أبی بصیر(3) وصحیحته(4) وصحیحة

ص:البزنطی(5) وغیرها من الروایات .

وفیه : أولاً : عدم قبول هذا المبنی ، یعنی أن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص .

وثانیاً : الظاهر أنّ الأمر بالإهراق فی هذه الروایات لم یکن تعبدیاً ، بل هو إشارة إلی عدم جواز التطهیر والتوضی به . ولذا لم یذهب أحد من الأصحاب إلی وجوب إهراقه بحیث لو سقی أحد بهذا الماء دابته أو زرعه أو شجره کان عاصیاً . فحینئذ لوفرض وجود منفعة محلّلة لهذه المیاه المتنجسة

ص:115


1- (1) مستند الشیعة 14 / 70 .
2- (2) وسائل الشیعة 1 / 151 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 1 / 154 ح 10 .
4- (4) وسائل الشیعة 1 / 152 ح 4 .
5- (5) وسائل الشیعة 1 / 153 ح 7 .

، یجوز استعمالها فیها ویجوز بیعها لتلک . فإذا کان الأمر فی الماء الوارد فی الروایات هکذا ففی غیرها بطریق أولی . فهذا الاستدلال أیضاً عقیم .

ومنها : وهی العاشرة : الأمر الوارد فی الروایات من إهراق المرقة المتنجسة بموت الفارة فیها ، أو قطرت قطرة خمر أو نبیذ أو دم فیها ، نحو : خبر زکریا بن آدم قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ؟ قال : یهراق المرق ، الحدیث(1) .

ونحوه : خبر جابر عن أبی جعفر علیه السلام (2) ومعتبرة السکونی(3) .

وفیه : أوّلاً : قد مرّ منّا الإشکال فی أنّ الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضده الخاص .

وثانیاً : الأمر بالإهراق فی المرق کنایة عن نجاسته وعدم جواز أکله أو شربه ، ولکن

إذا کانت له منفعة عقلائیة محلّلة فیجوز استعمالها فی تلک ، فحینئذ یجوز بیعه .

کما وردت فی الروایات من بیع العجین بالماء النجس ممّن یستحل المیتة ، نحو صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی العجین من الماء النجس کیف یصنع به ؟ قال : یباع ممّن یستحلّ المیتة(4) .

ص:116


1- (6) وسائل الشیعة 3 / 470 ح 8 .
2- (7) وسائل الشیعة 3 / 470 ح 8 .
3- (8) وسائل الشیعة 1 / 206 ح 2 .
4- (1) وسائل الشیعة 17 / 100 ح 3 .

فنفس هذا الأمر الوارد فی الروایة بجواز بیع العجین ممّن یستحلّ المیتة ناقض للاستدلال .

وبالجملة ، جمیع هذه الأدلة العشر فی المقام بالنسبة إلی إثبات بطلان بیع المتنجسات غیر تامة . فحینئذ تجری الإطلاقات الواردة فی حلّیة البیوع وتجارة عن تراض ویحکم بصحة بیع المتنجسات .

فرعٌ :

ثم علی القول المختار من صحة بیع المتنجسات وعدم کون النجاسة مانعة من صحة البیع هل یجب إعلام المشتری بالنجاسة أم لا ؟

الظاهر لزوم التفصیل فی ذلک بین ما یُستعمل عا دة فی الأکل والشرب ولزوم الإعلام فیه ، وما یُستعمل عادة للصلاة ونحوها وعدم لزوم الإعلام فی الثانی .

لأنّ عدم إعلام المشتری بالنجاسة لما یُستعمل فی الأکل والشرب یوجب تسبیب أکل أو شرب النجس وهو حرام . ولکن طهارة الثوب فی الصلاة شرط علمی لا شرط واقعی والصلاة مع الثوب النجس مع الجهل بالنجاسة صحیح .

ویشهد لما ذکرناه فی الأکل موثقة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفارة تقع فی السمن أو الزیت فتموت فیه ؟ فقال : إن کان جامداً فتطرحها وما حولها ویؤکل ما بقی وإن کان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته(1) .

ونظیرها خبر معاویة بن وهب(2) وخبر إسماعیل بن عبد الخالق(3) .

ویشهد لما ذکرناه فی الثوب موثقة ابن بکیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل

أعار رجلاً ثوباً فصلّی فیه وهو لا یصلّی فیه ، قال : لا یُعلمه ، قال : قلت : فإن أعلمه ؟ قال : یعید(4) .

ص:117


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 3 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 4 .
3- (4) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 5 .
4- (1) وسائل الشیعة 3 / 488 ح 3 .

الأمر بالإعادة فی ذیل الروایة إمّا محمول علی الإستحباب أو الإعلام فی أثناء الصلاة ، کما تدلّ علی عدم لزوم الإعادة صحیحة العیص بن القاسم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل صلّی فی ثوب رجل أیاماً ، ثم إنّ صاحب الثوب أخبره أنّه لا یصلّی فیه ؟ قال : لا یعید شیئاً من صلاته(1) .

ص:118


1- (2) وسائل الشیعة 3 / 475 ح 6 .

حکم بیع المسوخ

المسوخ علی قسمین :

1 - بریّة : نحو القِرد والدُّب والکلب والخنزیر والذئب والفأرة والضب والأرنب والطاوس والوطواط [ و الخطاف أو الخفاش ] والعنقا والثعلب والیربوع والقنفذ والطافی [الذی هو قسم من الحیات ، وقیل : إنّها السمک المیت فی الماء فحینئذ یدخل فی القسم الثانی [ والفیل .

2 - بحریّة : نحو الجری والدعموص والضفادع والسلاحف والنمار والتمساح والسرطان ، وهو عقرب الماء له ثمانیة أرجل وعیناه فی کتفه وصدره یمشی علی جانب واحد . ذکر کلّ ذلک صاحب الجواهر قدس سره (1) .

وعدّ فی بعض الروایات المسوخ ، ومنها : خبر علی بن مغیرة عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام قال : المسوخ من بنی آدم ثلاثة عشر صنفاً : منهم القردة والخنازیر والخفاش والضب والفیل والدُّب والدعموص والجرّیث [ الجری ] والعقرب وسهیل والقنفذ والزهرة والعنکبوت ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر معتب عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال : سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن المسوخ ؟ فقال : هم ثلاثة عشر : الفیل والدُّب والخنزیر والقرد والجریث [ الجری ] والضبّ والوطواط والدعموص والعقرب والعنکبوت والأرنب وسهیل والزهرة ، الحدیث(3) .

راجع للتوسع وسائل الشیعة 24/104 الباب 2 من أبواب أطعمة المحرمة ومستدرک

ص:119


1- (1) جواهر الکلام 22 / 34 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 109 ح 12 .
3- (3) وسائل الشیعة 24 / 110 ح 13 .

الوسائل 16/166 وجامع احادیث الشیعة 28/157 وبحار الانوار 62/220 طبعة بیروت وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10/244 .

ثم اعلم أن الإجماع منّا ومن العامة منعقد علی حرمة أکل لحم المسوخ ، وتدلّ علیه

جملة من النصوص :

منها : حسنة الحسین بن خالد قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : أیحلّ أکل لحم الفیل ؟ فقال : لا ، فقلت : لِمَ ؟ قال : لأنّه مثلة ، وقد حرّم اللّه لحوم الأمساخ ولحم ما مثل به فی صورها(1) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن أکل الضبّ ؟ فقال : إنّ الضبَّ والفارة والقردة والخنازیر مسوخ(2) .

ومنها : موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : وحرّم اللّه ورسوله المسوخ جمیعاً(3) .

وأمّا طهارة المسوخ محلّ وفاق بین أصحابنا والإجماع منّا منعقد علی انحصار النجس من الحیوان فی الکلب والخنزیر البرّیین فقط ، وتدل علی طهارة المسوخ عدّة من الروایات :

منها : صحیحة الفضل أبی العباس قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن فضل الهِرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخیل والبغال والوحش والسباع ، فلم أترک شیئاً إلاّ سألته عنه ؟ فقال : لا بأس به ، حتّی انتهیت إلی الکلب ؟ فقال : رجس نجس لا تتوضأ بفضله وأصبب ذلک الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء(4) .

ومنها : خبر معاویة بن شریح قال : سأل عذافر أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبصیر والحمار والفرس والبغل والسباع ، یشرب منه أو یتوضّأ منه ؟

ص:120


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 104 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 104 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 24 / 105 ح 3 .
4- (4) وسائل الشیعة 1 / 226 ح 4 الباب 1 من أبواب الأسأر .

فقال : نعم ، أشرب منه وتوضأ . قال : قلت له : الکلب ؟ قال : لا ، قلت : ألیس هو سبع ؟ قال : لا واللّه إنّه نجس ، لا واللّه إنّه نجس(1) .

وأمّا بیع المسوخ : فقد استدلوا علی بطلان بیعها بعدة من الوجوه :

منها : الإجماع منعقد علی عدم جواز بیعها ، إدعاه الشیخ فی الخلاف(6) والمبسوط(7) .

وفیه : أوّلاً : تحصیل الإجماع بل وجوده ممنوع ، نعم المشهور بین قدماء الأصحاب حرمة بیع المسوخ .

وثانیاً : یمکن أن یکون هذا الإجماع مدرکیّاً ، فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة .

ومنها : المسوخ کلّها نجس ، وکلّ نجس لا یجوز بیعه ، فالمسوخ لا یجوز بیعها .

وفیه : أولاً : قد مرّ منّا طهارة المسوخ آنفاً ، وهذا منع الصغری .

ثانیاً : قد مرّ منّا أنّ النجاسة لیست مانعة مستقلة من البیع ، إذا کان للمبیع منفعة محلّلة عقلائیة ، وهذا منع الکبری .

ومنها : الإجماع من المسلمین علی حرمة أکل لحم المسوخ کما مرّ ، وورد فی النبوی المشهور : « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه» ، فإذا حرّم اللّه أکل المسوخ حرّم ثمنها أیضاً ، فتدل علی بطلان معاملتها .

وفیه : أولاً : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب أنّ النبوی لم یرد فی مصادرنا الروائیة مسنداً ، فالروایة لیست إلاّ مرسلة عامیة ، فلا تصلح للدلیلیة .

وثانیاً : عدم وجود الملازمة بین حرمة أکلها وحرمة بیعها ، لا سیما إذا کان لها منافع محلّلة عقلائیة غیر الأکل .

هذا ، وقد وردت فی عدة من الروایات جواز الإنتفاع ببعض أجزاء المسوخ نحو : عظام الفیل والتمشط بها وجواز بیعها ، وهکذا وردت الانتفاع بجلود السباع مطلقاً وبعضها

ص:121


1- (5) وسائل الشیعة 1 / 226 ح 6 .

من المسوخ :

منها : خبر عبد الحمید بن سعید قال : سألت أبا إبراهیم علیه السلام عن عظام الفیل یحلّ بیعه أو شراؤه الذی یجعل منه الأمشاط ؟ فقال : لا بأس ، قد کان لأبی منه مشط أو أمشاط(1) .

ومنها : خبر موسی عن یزید قال : رأیت أبا الحسن علیه السلام یتمشّط بمشط عاج واشتریته له(2) .

ومثله : خبر موسی بن بکر(3) .

وهذه الروایات - مضافاً إلی دلالتها علی جواز الإنتفاع - تدل علی جواز البیع أیضاً .

ومنها : خبر الحسن بن عاصم قال : دخلت علی أبی إبراهیم علیه السلام وفی یده مشط عاج یتمشّط به ، فقلت له : جعلت فداک ، إنّ عندنا بالعراق من یزعم أنّه لا یحلّ التمشّط بالعاج ، فقال : ولم ؟ فقد کان لأبی منها مشط أو مشطان ، ثم قال : تمشّطوا بالعاج ، فإن العاج یذهب بالوباء(4) .

ومنها : روایة القاسم بن الولید قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن عظام الفیل مداهنها وأمشاطها ؟ قال : لا بأس به(5) .

ومنها : روایة عبد اللّه بن سلیمان قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن العاج ؟ فقال : لا بأس به وإنّ لی منه لمشطاً(6) .

وقد وردت عدة من الروایات المعتبرة فی جواز الإنتفاع بجلود السباع وهی تشمل باطلاقها المسوخ من السباع ، فتدلّ علی جواز الإنتفاع بجلود المسوخ بإطلاقها :

ص:122


1- (1) الخلاف 3 / 184 .
2- (2) المبسوط 2 / 165 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 171 ح 2 .
4- (1) وسائل الشیعة 2 / 123 ح 2 الباب 72 من أبواب آداب الحمام .
5- (2) وسائل الشیعة 2 / 122 ح 1 .
6- (3) وسائل الشیعة 2 / 123 ح 3 .

منها : صحیحة علی بن یقطین قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن لباس الفراء والسمور والفنک والثعالب وجمیع الجلود ؟ قال : لا بأس بذلک(1) .

ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن لحوم السباع وجلودها ؟ فقال : أمّا لحوم السباع فمن الطیر والدواب فإنّا نکرهه ، وأما الجلود فارکبوا علیها ولا تلبسوا منها شیئاً تصلّون فیه(2) .

لا یضر إضمار الروایة ، لأنّ مضمِرَه سماعة ، وأمّا الکراهة الواردة فی الروایة بالنسبة إلی اللحوم هی الحرمة لا الکراهة المصطلحة .

ومنها : موثقة اُخری لسماعة قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن جلود السباع ؟ فقال : إرکبوها ولا تلبسوا شیئاً منها تصلّون فیه(3) .

ونظیرها موثقة ثالثة لسماعة فراجعها(4) .

ومنها : معتبرة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : سألته عن رکوب جلود السباع ؟ فقال : لا بأس ما لم یُسجد علیها(5) .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : سألته عن جلود السباع وبیعها ورکوبها أیصلح ذلک ؟ قال : لا بأس ما لم یسجد علیها(6) .

من مجموع هذه الروایات ظهر جواز الإنتفاع بالمسوخ ، فإذا جاز الإنتفاع بها جاز بیعها علی القاعدة الکلیّة التی مرّت من الملازمة بین جواز الانتفاع وجواز البیع ، وعلی هذا لا بأس ببیع المسوخ کما علیه أکثر المتأخرین ، نحو : ثانی الشهیدین فی المسالک(7) وصاحب الریاض(8) وصاحب

ص:123


1- (4) وسائل الشیعة 2 / 123 ح 4 .
2- (5) وسائل الشیعة 4 / 352 ح 1 .
3- (6) وسائل الشیعة 4 / 353 ح 3 .
4- (7) وسائل الشیعة 4 / 353 ح 4 .
5- (1) وسائل الشیعة 4 / 354 ح 6 .
6- (2) وسائل الشیعة 4 / 353 ح 5 .
7- (3) وسائل الشیعة 17 / 172 ح 5 .
8- (4) مسالک الأفهام 1 / 165 .

الجواهر(1)والفاضل النراقی فی مستند الشیعة(2) . مضافاً إلی دلالة الروایة الأخیرة علی جواز بیع جلود السباع ، وهی بإطلاقها تشمل المسوخ .

تتمة : قد ورد النهی عن بیع القردة فی روایة ، وهی من المسوخ ، فهل یمکن التعدی منها إلی غیرها من المسوخ أم لا ؟

أمّا الروایة فهی : خبر مسمع عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن القرد أن یُشتری وأن یُباع .

والروایة ضعیفة سنداً ، محمولة علی صورة عدم الإنتفاع المعتدّ بالقرد أو المحرّم ، کالإطافة به للعلب کما هو الغالب فی تلک الأعصار ، أو محمولة علی الکراهة جمعاً بینها وبین الأدلة السابقة .

ثم فلیعلم أنّ للقردة منفعة عظیمة فی أعصارنا ، لأجل الفحوص الطبیّة وکشف الأمراض والأدویة المفید لها ، ولذا یجوز بیعها لأجل هذه المنافع . وحیث لا یمکن الأخذ بالروایة فی موردها فکیف یمکن التعدی منها إلی غیرها . من المسوخ ؟ !

فیجوز بیع المسوخ من القردة وغیرها واللّه سبحانه هو العالم والحمد للّه رب العالمین .

ص:124


1- (5) ریاض المسائل 8 / 148 طبع آل البیت علیهم السلام .
2- (6) الجواهر 22 / 35 .

مسائل أربع

الأولی : بیع المملوک الکافر
اشارة

بناءً علی أنّ النجاسة مانعة استقلالاً من جواز البیع نبحث عن هذه المسائل الأربع بعنوان المستثنیات من الأعیان النجسة أو المتنجسة ، وأمّا بناءً علی مختارنا من عدم کون النجاسة مانعة استقلالاً من جواز البیع ، فجواز بیع هذه الأربع علی القاعدة الأولیّة ولیس من المستثنیات ، فنقول .

أمّا المملوک الکافر فینقسم إلی ثلاثة أقسام :

1 - الکافر الأصلی :

یعنی الأمة أو العبد الکافران اللّذان لم یدخلا فی الإسلام ، وهذا القسم یجوز بیعه بلا خلاف ، وتدل علیه إطلاقات جواز بیع العبید :

منها : معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رقیق أهل الذمة أشتری منهم شیئاً ؟ فقال : اشتر إذا أقرّوا لهم بالرق(1) .

ومنها : معتبرة إسماعیل بن الفضل قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن شراء مملوک أهل الذمة ؟ قال : إذا أقرّوا لهم بذلک فاشتر وانکح(2) .

ومنها : صحیحة رفاعة النخاس قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ الروم یغزون علی الصقالبة والروم ، فیسرقون أولادهم من الجواری والغلمان ، فیعمدون إلی الغلمان فیخصونهم ثمّ یبعثون بهم إلی بغداد إلی التجّار ، فما تری فی شرائهم ونحن نعلم أنّهم قد سرقوا ، وإنّما أغاروا علیهم من غیر حرب کانت بینهم ؟ فقال : لا بأس بشرائهم ، إنّما أخرجوهم من الشرک إلی دار الإسلام(3) .

ص: 125


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 243 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 243 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 244 ح 1 .

ومنها : صحیحة إبراهیم بن عبد الحمید عن أبی الحسن علیه السلام فی شراء الرومیات ، فقال : اشترهنّ وبعهنّ(1) .

هذه الروایات بإطلاقها تدل علی جواز بیع المملوک الکافر الأصلی .

2 - القسم الثانی : الکافر المرتد الملی

یعنی العبد کان کافراً أوّلاً ثم دخل فی الإسلام ثم رجع إلی کفره ، فصار إرتداده إرتداداً ملیاً وحکمه : إن کان رجلاً یُستتاب ثلاثة أیام أو بمقدار یمکن معه الرجوع إلی الإسلام فإن تاب فهو وإلاّ قتل ، ولا تزول منه أملاکه مادام حیّاً ، ولکن ینفسخ العقد بینه وبین زوجته ویراعی انقضاء عدّتها ، فإن تاب فیها رجع إلیها .

وإن کان إمراة لم تقتل بل تحبس ویضیق علیها حتّی تتوب أو تخلد فی السجن .

ثم إذا کان العبد مرتداً ملّیاً فهل یجوز بیعه أم لا ؟ المشهور بین الأصحاب بل ادعی علیه الإجماع الجواز ، لأنّ العبد المرتد الملّی مال وله منافع محلّلة فیجوز بیعه ویشمله الإطلاقات الواردة فی الروایات الماضیة وغیرها من جواز بیع العبید والإماء .

3 - القسم الثالث : الکافر المرتد الفطری

یعنی العبد ولد علی الإسلام - بأن کان أبواه أو أحدهما مسلماً ثم دخل فی الکفر - وحکمه : إن کان رجلاً لا تقبل توبته ظاهراً وإن کانت تقبل بینه وبین اللّه تعالی ، فیحکم الحاکم الشرعی بقتله و تبین منه زوجته وتعتدّ منه عدّة الوفاة وتقسّم أمواله بین ورثته .

وإن کان إمرأة لم تقتل بل تحبس ویضیّق علیها حتّی تتوب أو تخلد فی السجن .

قد استشکل جواز بیع العبد الکافر المرتد الفطری بعض الأصحاب ، لأنّه فی معرض التلف لوجوب قتله .

وفیه : وجوب قتله بعد ثبوت الإرتداد عند الحاکم الشرعی وصدور الحکم منه علی قتله ، ویلزم أیضاً بسط ید الحاکم الشرعی حتی یجری حکمه ، وربّما یمکن عدم وجود الحاکم أو عدم بسط یده أو عدم ثبوت الإرتداد عنده أو فرار المرتد من الحکم والحاکم .

ص:126


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 245 ح 2 .

وبالجملة ، یمکن بقاء المرتد الفطری عادةً وخارجاً فیجوز بیعه .

مضافاً إلی فرض إجراء الحکم علیه ، یمکن عتقه قبل إجراء الحکم کفارةً أو نذراً أو عهداً ونحوها ، فله المنفعة المحلّلة حتّی فی هذه الصورة فیجوز بیعه .

نعم ، فی هذا الفرض الأخیر صارت قیمته أقل ممّا کان سابقاً ، وقلّة القیمة لا تضرّ بصحة البیع .

ففی جمیع هذه الأقسام الثلاثة ، یجوز بیع العبد أو الأمة الکافرین .

فرعٌ :

فی زماننا هذا إذا باعوا امرأة أو رجلاً فی البلاد الاسلامیة أو بلاد الکفر هل یجوز شراؤهم وهل یحکم علیهم بأنّهم رقٌّ وعبیدٌ وأماء یعنی هل یحکم علیهم أحکام العبید والإماء أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - عدم ترتب أحکام العبید والإماء علیهم ، فلا یجوز النظر إذا کانت امرأة أو وطیها مثلاً ، لأنّ الوارد فی الروایات الماضیة أنّ ملاک الرقیة والعبودیة المصطلحة ، الإقرار من الناس وفی السوق وفی المجتمع بأنّهم رقیقٌ وعبیدٌ نحو : معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : اشتر إذا أقرّوا لهم بالرق(1) .

ومعتبرة إسماعیل بن الفضل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا أقرّوا لهم بذلک فاشتر وانکح(2) .

وخبر زکریا بن آدم عن الرضا علیه السلام قال : إذا أقرّوا لهم بالعبودیة فلا بأس بشرائهم ، الحدیث(3) .

والظاهر من هذه الروایات أنّ ملاک الرقیة الإقرار بها فی شأنهم فی السوق أو فی

ص:127


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 243 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 243 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 245 ح 3 .

المجتمع الإنسانی أو عند الناس ، وهذا الإقرار فی شأن هؤلاء الأفراد فی زماننا هذا مفقود ، لأنه لا یتفوه أحدٌ بأنّهم رقیق أو عبید أو أماء ونحو ذلک ، فلا یحکم علیهم بأحکام العبید والإماء ، فإذا لم یحکم بأنّهم مملوکون فلا یجوز بیعهم وشراؤهم ، لأنه لا یجوز بیع الأحرار .

وبالجملة ، لا یجوز بیع وشراء هؤلاء رجالاً ونساءً ، کفاراً کانوا أو مسلمین ، ولا یترتب علیهم أحکام العبید والإماء الممالیک فی الشریعة المقدسة . واللّه سبحانه هو العالم .

المسألة الثانیة : بیع الکلب

قد مرّمنّا مفصلاً جواز بیع الکلاب المعلّمة ، سواءً کانت للصید أو الحائط أو الزرع أو الحرس أو الماشیة أو للشرطة أو للأمن أو غیرها . والمدار فی جواز بیع الکلب عندنا کونه معلّماً بحیث صار ذا منفعة محللّة عقلائیة . هذا بناءً علی المختار .

وأمّا بناءً علی أنّ النجاسة مانعة مستقلة للبیع ، فبیع الکلب یکون من المستثنیات ، وقد مرّ منّا أنّ النجاسة لیست مانعة مستقلة من جواز البیع . فراجع ما حررناه هناک .

المسألة الثالثة : العصیر العنبی إذا غلی ولم یذهب ثلثاه
اشارة

هذه المسألة مبنیة علی أمرین :

1 - نجاسة العصیر العنبی اذا غلی ولم یذهب ثلثاه .

2 - عدم جواز بیع النجاسات وهی مانعة مستقلة من جواز البیع .

ویمکن المناقشة فی کلا الأمرین :

أمّا الأوّل : قد یقال : بطهارة العصیر العنبی إذا غلی ولم یذهب ثلثاه ، لعدم وجود دلیل علی نجاسته وأنّ الأصل فی الأشیاء هو الطهارة ، وما ورد من تشبیهه بالخمر فلیس من جهة النجاسة بل من جهة حرمة شربه ، فإذا ذهبنا إلی طهارته یخرج هذا الفرض من تحت المستثنیات .

وأمّا الثانی : فقد مرّ منّا مفصلاً بأن النجاسة لم تکن مانعة مستقلة من جواز البیع ، فلا نعید الکلام فیه .

قد یقال : بوجود روایات مانعة من صحة بیع العصیر العنبی أو غیره إذا غلی ، فیحکم

ص:128

ببطلان بیعه لهذه الروایات وإن کان مقتضی القاعدة الأوّلیة صحة البیع ولکن مع ورود هذه الروایات یحکم ببطلانه :

منها : خبر محمد بن الهیثم عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن العصیر یطبخ بالنار حتّی یغلی من ساعته ، أیشربه صاحبه ؟ فقال : اذا تغیّر عن حاله وغلی فلا خیر فیه ، حتّی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه(1) .

بتقریب : جواز بیعه وأخذ الثمن فی قباله من جملة الخیر المنفی فی الروایة ، فلا یجوز بیعه .

وفیه : أولاً : الروایة مرسلة فلا یمکن الاعتماد علیها .

وثانیاً : ظاهر سؤال السائل فی جواز الشرب وعدمه ولا إطلاق فیه حتّی یشمل البیع ، فالبیع أجنبی عن هذه المرسلة .

ومنها : خبر أبی کهمس قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام عن العصیر ، فقال : لی کرم وأنا أعصره کلّ سنة واجعله فی الدنان وأبیعه قبل أن یغلی ، قال علیه السلام : لا بأس به ، وإن غلی فلا یحلّ بیعه .

ثم قال : هو ذا نحن نبیع تمرنا ممّن نعلم أنّه یصنعه خمراً(2) .

بتقریب : أن جملة « وإن غلی فلا یحلّ بیعه» نص فی بطلان بیع العصیر العنبی إذا غلی ، فلا یجوز بیعه بعد الغلیان .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة السند بأبی کهمس ، وهو کنیة للهیثم بن عبد اللّه أو الهیثم بن عبید ، ولم یثبت وثاقتهما ویمکن اتحادهما .

وثانیاً : ظاهر جملة « وإن غلی فلا یحلّ بیعه » ، الغلیان من قبل نفس العصیر یعنی النشیش لا الغلیان بالنار ، ولا أقلّ من احتماله ، فإذا جاء الإحتمال بطل الإستدال .

وثالثاً : من جواب الإمام علیه السلام فی ذیل الروایة من بیع تمره ممّن یعلم أنّه یصنعه خمراً

ص:129


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 285 ح 7 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 230 ح 6 .

یظهر أنّ سؤال السائل عن جواز بیع عصیره ممّن یعلم أنّه یصنعه خمراً أو عدمه ، وأجازه الإمام علیه السلام بقوله فی ذیل الروایة : « هو ذا نحن نبیع تمرنا ممّن نعلم أنّه یصنعه خمراً » ، فلا إطلاق فی الروایة حتّی تشمل عدم جواز بیع العصیر العنبی بعد الغلیان .

ورابعاً : علی فرض وجود الإطلاق وشمولها لعدم جواز بیع العصیر بعد الغلیان ، تدلّ علی عدم جواز بیعه إذا باعه للشرب فی هذه الحالة ، ولکن إذا باعه لِمَنْ أراد أن یذهب ثلثاه ثم یشربه فلا بأس به .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن العصیر قبل أن یغلی لمن یبتاعه لیطبخه أو یجعله خمراً ؟ قال : إذا بعته قبل أن یکون خمراً وهو حلال فلا بأس(1) .

بتقریب : أن مفهوم هذه الروایة تدلّ علی عدم جواز بیع العصیر بعد حرمته بالغلیان ، لأنّ منطوقها جواز بیعه قبل أن یکون خمراً وهو حلال . فالروایة بمفهومها تدلّ علی بطلان بیع العصیر العنبی بعد الغلیان .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بعلی بن أبی حمزة البطائنی الراوی عن یحیی بن القاسم أو أبی القاسم الأسدی المکفوف الثقة .

وثانیاً : سؤال السائل عن بیع العصیر قبل غلیانه لمن یجعله دبساً بالغلیان أو یجعله

خمراً ، ولعلّ العمدة فی السؤال هو الثانی ، یعنی بیع العصیر لمن یجعله خمراً وأجازه الإمام علیه السلام . وصار مفاد الروایة نحو مفاد خبر أبی کهمس الماضیة . فلا تدلّ علی حرمة بیع العصیر بعد الغلیان .

وثالثاً : الروایة بصدد بیان حکم المنطوق لا المفهوم ، فلا اطلاق لها والمتیقن منها فرض بیع العصیر العنبی لمن یجعله خمراً .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام وسئل عن الطلا ، فقال : إن طبخ حتّی یذهب منه إثنان ویبقی واحد فهو حلال ، وما کان دون ذلک فلیس فیه خیر(2) .

ص:130


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 229 ح 2 .
2- (1) وسائل الشیعة 25 / 285 ح 1 .

بتقریب : ما مرّ فی خبر محمد بن الهیثم من جواز بیعه وأخذ الثمن فی قباله وأنه من جملة الخیر المنفی فی الروایة ، فلا یجوز بیعه بعد الغلیان وقبل ذهاب ثلثیه .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة السند بعلی بن أبی حمزة البطائنی .

وثانیاً : ظاهر السؤال عن جواز شربه لا بیعه ، ولا أقل من أنّ هذا محتمل ، و إذا جاء الإحتمال بطل الإستدال .

وثالثاً : لا إطلاق فی الروایة حتّی تشمل حرمة البیع بعد الغلیان .

وبالجملة ، هذه الروایات الأربع لا تدل علی بطلان بیع العصیر العنبی بعد غلیانه وقبل ذهاب ثلثیه ، فالبیع باق علی حلّیته ، فیجوز بیعه حینئذ کما علیه المشهور من أصحابنا رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

وبما ذکرنا ظهر ما فی بیان المحقق النائینی قدس سره حیث یقول : « والإنصاف ظهور الروایات الخاصة فی حرمة البیع ، فلو ثبت إعراض الأصحاب عنها فهو ، وإلاّ فالجواز مشکل ، وإعلامه بغلیانه لا یؤثر فی الجواز بعد ظهور الأخبار ، لا سیما الأوّلین فی حرمة بیعه فتأمل جیّداً »(1) .

مراده قدس سره بالأولیّن خبر أبی کهمس وخبر أبی بصیر الأوّل الماضیین ، ولعلّ أمره بالتأمل فی آخر کلامه إشارة إلی ما ذکرناه فی المتن .

فرعٌ سیالٌ :

إذا غصب العصیر العنبی ثم أغلاه ، هل یضمن ثلثیه أم لا ؟

الظاهر أن ضمان الغاصب منوط بالقیمة السوقیة للدبس مثلاً ، یعنی إذا کانت القیمة السوقیة للدبس أکثر أو مساویة مع العصیر فلا ضمان للغاصب ، لعدم تنزل مالیّة الشیء فی یده ، ولکن إذا کانت قیمته أقل کان الغاصب ضامناً بمقدار تقلیل القیمة .

ثم هل یجوز للغاصب أنّ یدعی أجرة مثل تبدیل العصیر بالدبس وأخذ الأجرة من المالک ؟

ص:131


1- (2) منیة الطالب 1 / 24 طبع جماعة المدرسین .

الظاهر أنّه حیث عمل ذلک من غیر أمر المالک وإذنه فلا یجوز له أخذ الأجرة فی قباله وکان عمله هدراً .

وهذا الفرع سیال یأتی فی موارد متعددة ، مثلاً لو سرق شخص سیارةً واحتاجت إلی التعمیر وأعطی السارق أجرة تعمیرها ثمّ ردها إلی صاحبها ، فهل للسارق أن یأخذ من صاحب السیارة ما صرفه علی التعمیر أم لا ؟

الظاهر أنّه لا یجوز للسارق هذا الإدعاء والأخذ ولیس علی المالک إعطاء هذه المصارف ، لأنّه تصرف فی ماله بغیر إذنه ورضاه . نعم لوزاد السارق فی السیارة بالأعیان المستقلة یجوز له أخذها من السیارة ، لأنّ السارق مالک لهذه الأعیان المستقلة وله أن یسترد ما ملکه .

المسألة الرابعة : المعاوضة علی الدهن المتنجس
اشارة

اُدعی الإجماع علی جواز بیع الدهن المتنجس ، ادعاه الشیخ فی الخلاف(1) وابن زهرة فی الغنیة(2) وابن إدریس فی السرائر(3) وصاحبا الجواهر(4) والمستند(5) .

ومن ذهب إلی أن النجاسة مانعة مستقلة من جواز البیع عنون هذا الفرض بنحو الاستثناء ، وأمّا علی المختار من عدم مانعیة النجاسة للبیع فیطرح ویعنون علی القاعدة الأوّلیة الکلیّة من صحة بیعه .

وکیف ما کان تدل علی جواز بیعه عدّة من الروایات المعتبرة :

منها : صحیحة معاویة بن وهب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : جرذ مات فی زیت أو سمن أو عسل ، فقال : أمّا السمن والعسل فیؤخذ الجرذ وما حوله ، والزیت یستصبح به(6) .

ص:132


1- (1) الخلاف 3 / 187 .
2- (2) الغنیة / 586 .
3- (3) السرائر 2 / 222 .
4- (4) الجواهر 22 / 13 .
5- (5) مستند الشیعة 14 / 72 .
6- (1) وسائل الشیعة 17 / 97 ح 1 و 24 / 194 ح 1 .

یمکن المناقشة فی دلالة هذه الصحیحة علی جواز البیع ، وغایة ما یُستفاد منها جواز الإنتفاع من الزیت المتنجس ، إلاّ أن یقال : بجواز بیع کلّ ما یجوز الإنتفاع به کما هو المختار .

نعم ، فی نقل الشیخ للروایة توجد هذه الزیادة : وقال علیه السلام فی بیع ذلک الزیت : یبیعه ویبیّنه لِمَنْ اشتراه لیستصبح به(1) .

ومع وجود هذه الزیادة وإثباتها تدل الصحیحة علی جواز بیعه من دون احتیاج إلی القاعدة الملازمة بین جواز الإنتفاع وجواز البیع .

والظاهر أنه لابدّ من الأخذ بهذه الزیادة ، لأنّ الأصل عدم الزیادة وأنّها مِنْ متن الروایة ولیست بزیادة وإضافة من الراوی .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : إذا وقعت الفأرة فی السمن فماتت فیه فإن کان جامداً فألقها ومایلیها ، وإن کان ذائباً فلا تأکله واستصبح به ، والزیت مثل ذلک(2) .

المناقشة فی هذه الصحیحة کالصحیحة الماضیة .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفأرة تقع فی السمن أو فی الزیت فتموت فیه ، فقال : إذا کان جامداً فتطرحها وما حولها ویؤکل ما بقی ، وإن کان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته(3) .

ومنها : موثقة معاویة بن وهب وغیره عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی جرذ مات فی زیت ، ما تقول فی بیع ذلک ؟ فقال : بعه وبیّنه لمن اشتراه لیستصبح به(4) .

ومنها : صحیحة الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفأرة والدابة تقع فی الطعام والشراب فتموت فیه ، فقال : إن کان سمناً أو عسلاً أو زیتاً فإنّه ربّما یکون بعض هذا ، فإن کان

الشتاء فانزع ما حوله وکله ، وإن کان الصیف فارفعه حتّی تسرّج به ، وإن کان ثرداً فاطرح

ص:133


1- (2) وسائل الشیعة 24 / 194 ح 1 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 97 ح 2 و 24 / 194 ح 2 .
3- (4) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 3 .
4- (5) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 4 .

الذی کان علیه ، ولا تترک طعامک من أجل دابة ماتت علیه(1) .

والمناقشة فی دلالة هذه الصحیحة علی جواز البیع کالمناقشة فی الصحیحتین الأوّلیین الماضیتین .

ومنها : صحیحة سعید الأعرج عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - أنّه سأله عن الفأرة تموت فی السمن والعسل ، فقال : قال علی علیه السلام : خذ ما حولها وکل بقیّته ، وعن الفأرة تموت فی الزیت ، فقال : لا تأکله ، ولکن أسرج به(2) .

وهذه الصحیحة أیضاً لا تدل علی جواز البیع إلاّ علی القاعدة الملازمة بین الإنتفاع والبیع . ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن السمن تقع فیه المیتة ؟ فقال : إن کان جامداً فألق ما حوله وکل الباقی ، فقلت : الزیت ؟ فقال : أسرج به(3) .

وهذه الموثقة أیضاً کالروایة الماضیة .

ومنها : خبر إسماعیل بن عبدالخالق عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله سعید الأعرج السمان وأنا حاضر عن الزیت والسمن والعسل تقع فیه الفأرة فتموت کیف یصنع به ؟ قال : أمّا الزیت فلا تبعه إلاّ لمن تبیّن له فیبتاع للسراج ، وأمّا الأکل فلا ، وأمّا السمن فإن کان ذائباً فهو کذلک ، وإن کان جامداً والفأرة علی أعلاه فیؤخذ ما تحتها وما حولها ثم لا بأس به ، والعسل کذلک إن کان جامداً(4) .

وبالجملة ، هذه الروایات تدل علی جواز بیع الدهن المتنجس إمّا بصراحتها وإمّا مع ضم القاعدة الملازمة بین جواز الانتفاع وجواز البیع ، وإلی هنا ثبت جواز بیعه .

وأمّا ما ورد فی بعض الروایات من النهی عن بیع الدهن المتنجس فلابدّ من ملاحظتها : منها : خبر ابن إدریس نقلاً من جامع البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : سألته عن الرجل تکون له الغنم یقطع من إلیاتها وهی أحیاء أیصلح له أن ینتفع بما قطع ؟ قال : نعم یذیبها

ص:134


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 195 ح 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 24 / 195 ح 4 .
3- (3) وسائل الشیعة 24 / 195 ح 5 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 5 .

ویسرج بها ولا یأکلها ولا یبیعها(5) .

بتقریب : أن المذاب من إلیات الغنم صارت کالزیت أو السمن أو الدهن ، وورد فی الروایة جواز الإنتفاع بها فی الإسراج ولکن ورد فی ذیلها النهی عن بیعها ، وجملة « لا یبیعها » تدلّ بطلان البیع .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بل مرسلة ، لأنّ ابن إدریس لم یذکر سنده إلی جامع البزنطی .

وثانیاً : النهی الوارد فی الروایة بمعنی عدم بیعها للأکل ، وأمّا إذا جاز الإستصباح بها فلم لا یجوز بیعها لهذه المنفعة ؟ لا سیما مع ورود الروایات المجوِّزة .

ومنها : خبر علی بن جعفر المروی فی قرب الإسناد عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن حُبّ دهن ماتت فیه فأرة ؟ قال : لا تدهن به ولا تبعه من مسلم(1) .

بتقریب : أن جملة « لا تبعه من مسلم » تدلّ علی عدم جواز بیعه من المسلم سواءً کان للإستصباح أو غیره .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد .

وثانیاً : النهی الوارد عن بیعه من المسلم یمکن حمله علی البیع للأکل أو البیع من دون الإعلام بالنجاسة ونحوها .

ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ علیّاً علیه السلام قال : فی الخنفساء والعقرب والصرد إذا مات فی الإدام ، فلا بأس بأکله ، قال : وإن کان شیئاً مات فی الإدام وفیه الدم فی العسل أو فی الزیت أو فی السمن وکان جامداً ، جُنّبت ما فوقه وما تحته ثم یُؤکل بقیّته ، وإن کان ذائباً فلا یؤکل ، یُستسرج به ولا یباع(2) .

بتقریب : أن جملة « لا یباع» فی آخر الروایة تدلّ علی بطلان بیع الدهن المتنجس .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد .

ص:135


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 6 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 100 ح 5 .

وثانیاً : الظاهر من « لا یباع» یعنی لا یباع للأکل بقرینة « فلا یؤکل» الواردة قبلها .

وثالثاً : ورد الحکم بالجواز فی روایة فی نفس الکتاب والصفحة وهی : خبر الجعفریات بنفس الإسناد عن علی علیه السلام سئل عن الزیت یقع فیه شیءٌ له دم فیموت ، قال :

الزیت - خاصةً - یبیعه لمن یعمله صابوناً(1) .

والحکم بجواز البیع لمن یعمل صابوناً ، یدلّ علی جواز بیعه لمن یمکن أن ینتفع به منفعة محلّلة .

وبالجملة ، هذه الروایات مع ضعف سندها ودلالتها وإعراض المشهور قدیماً وحدیثاً عنها لا تتعارض مع الروایات الماضیة الحاکمة بالجواز ، فهذه الروایات تطرح وتؤخذ بالروایات المجوِّزة .

إن قلت : لا یمکن طرح هذه الروایات و لابدّ من الأخذ بها ، فصارت متعارضة مع الروایات المجوِّزة .

قلت : علی فرض تحقق المعارضة تقدّم الطائفة المجوِّزة ، لأنّها موافقة لإطلاق الکتاب من جواز البیع وصحته ولزوم الوفاء بالعقود والبیوع والعهود ، مع ذهاب المشهور إلیها وحکمهم بالجواز والأمر الوارد بأخذ المشهور کما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة : « المجمع علیه عند أصحابک فیؤخذ به من حکمنا ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه ... »(2) .

ثم إنّ هنا فروعاً
الأول : هل یُعتبر اشتراط الاستصباح ؟

هل صحة بیع الدهن المتنجس مشروط باشتراط الإستصباح بها فی المعاملة أم لا یعتبر هذا الإشتراط ؟

ص:136


1- (1) الجعفریات / 26 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 72 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 27 / 106 ح 1 .

ذهب إلی اعتبار الإشتراط ابن ادریس الحلی فی سرائره(1) ودلیله ظاهر بعض الروایات الواردة فی المقام .

منها : صحیحة معاویة بن وهب وموثقته وصحیحة زرارة وصحیحة أبیبصیر وصحیحة الحلبی وصحیحة سعید الأعرج وموثقة سماعة وخبر إسماعیل بن عبد الخالق الماضیات .

یعنی ورد فی الروایات المرویة فی جواز بیع الدهن المتنجس ذکر الإستصباح أو الإسراج ، وظاهرها إعتبار إشتراطها .

وفیه : ورود الإسراج أو الإستصباح فی الروایات المجوِّزة لبیع الدهن المتنجس لم یثبت اشتراطها فی صحة البیع ، بل هی دالة علی وجود منفعة محلّلة فیها ، فیجوز البیع لذلک . أو لزوم إعلام نجاستها من بائعها لئلا یأکلها المشتری ، فلا تدلّ علی هذا الإشتراط کما ذهب إلیه کثیر من الأصحاب قدس سرهم .

الثانی : لزوم الإعلام بنجاسة الدهن
اشارة

هل یجب إعلام المشتری بنجاسة الدهن أم لا ؟ وهل یجب مطلقاً أم لا ؟ وهل هذا الوجوب نفسیٌّ أو شرطیٌّ ؟ بمعنی اعتبار إشتراطه فی صحة البیع ، وجوه :

والمهم ملاحظة الروایات الواردة فی المقام التی ورد فیها ذکر الإعلام :

منها : موثقة معاویة بن وهب وغیره عن أبی عبد اللّه علیه السلام فقال علیه السلام : بعه وبیّنه لمن اشتراه لیستصبح به(2) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ... وإن کان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته(3) .

ومنها : خبر إسماعیل بن عبد الخالق عن أبی عبد اللّه علیه السلام : ... قال علیه السلام : أما الزیت فلا

ص:137


1- (3) السرائر 2 / 222 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 4 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 3 .

تبعه إلاّ لمن تبیّن له فیبتاع للسراج ، الحدیث(1) .

وظاهر هذه الروایات وجوب الإعلام علی البائع للمشتری بنحو الوجوب النفسی لئلا یقع المشتری فی الحرام بأکلها أو نحوها .

وقد مرّ منّا التفصیل فی الإعلام بین ما یُستعمل عادةً فی الأکل والشرب بلزوم الإعلام فیها ، وبین ما یُستعمل عادةً فی الصلاة ونحوها من الأثواب والأفراش بعدم لزوم الإعلام فیها ، فراجع ما حررناه هناک .

قاعدة : حرمة تغریر الجاهل

ثم تعرض الشیخ الأعظم قدس سره لقاعدة حرمة تغریر الجاهل ونحن نقتفی أثره ، فقال قدس سره :

« ویشیر إلی هذه القاعدة کثیر من الأخبار المتفرقة الدالة علی حرمة تغریر الجاهل بالحکم أو الموضوع فی المحرّمات »(2) .

أقول : یُستفاد من مذاق الشارع حرمة إلقاء الغیر فی الحرام الواقعی مضافاً إلی دلالة الروایات فی الأبواب المختلفة علی ذلک :

منها : ما دل علی حرمة الإفتاء بغیر علم ، فإنّها ربّما توجب التغریر والتسبیب وإلقاء المسلم فی الحرام الواقعی ، نحو صحیحة أبی عبیدة الحذاء قال : قال أبو جعفر علیه السلام : من أفتی الناس بغیر علم ولا هدی من اللّه لعنته ملائکة الرحمة وملائکة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتیاه(3) .

ومنها : ما دل علی ثبوت أوزار المأمومین علی الإمام فی صلاة الجماعة فی تقصیر نشأ من الإمام ، نحو : خبر عبایه . قال کتب أمیر المؤمنین علیه السلام الی محمد بن أبی بکر : ... أنظر یا محمد صلاتک کیف تصلّیها ، فإنّما أنت إمامٌ ینبغی لک أن تتّمها [ وأن تحفظها بالأرکان ولا تخفّفها] وأن تصلّیها لوقتها فإنّه لیس من إمام یصلّی بقوم فیکون فی صلاتهم نقص إلاّ کان

ص:138


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 98 ح 5 .
2- (1) المکاسب المحرمة / 9 طبع تبریز ، 2 / 73 من الطبعة الحدیثة .
3- (2) وسائل الشیعة 27 / 20 ح 1 .

إثم ذلک علیه ولا ینقص ذلک من صلاتهم شیئاً ، الحدیث(1) .

وابن شعبة الحرّانی نقل هذه الروایة هکذا : « ... ثم انظر صلاتک کیف هی ، فإنّک إمامٌ ، لیس من إمام یصلّی بقوم فیکون فی صلاتهم إلاّ کان علیه أوزارهم ولا ینتقص من صلاتهم شیء ، ولا یتمّها إلاّ کان له مثل أجورهم ولا ینتقص من أجورهم شیءٌ »(2) .

ومنها : ما دل علی ضمان الإمام صلاة المأمومین إذا صلی بهم جنباً أوعلی غیر طهر ، نحو صحیحة معاویة بن وهب قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیضمن الإمام صلاة الفریضة ، فإنّ هولاء یزعمون أنّه یضمن ؟ فقال : لا یضمن أیّ شیء یُضمن ، إلاّ أن یصلی بهم جنباً أو علی غیر طهر(3) .

أقول : معنی الضمان هنا ، لزوم إعادة الصلاة علی الإمام دون المأمومین ، وتدلّ علیه

صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یؤمّ القوم وهو علی غیر طهر فلا یعلم حتّی تنقضی صلاتهم ؟ قال : یعید ، ولا یعید من صلّی خلفه وإن أعلمهم أنّه علی غیر طهر(4) .

ونظیرها صحیحة اُخری لمحمد بن مسلم(5) وصحیحة زرارة(6) وموثقة عبد اللّه بن أبی یعفور(7) المرویات فی نفس الباب .

نعم ورد فی روایاتنا ضمان الإمام بالنسبة إلی القراءة فقط ، نحو :

موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّه سأله رجل عن القراءة خلف الإمام ؟ فقال : لا ،

ص:139


1- (3) الغارات 1 / 244 ونقل عنه فی بحار الأنوار 85 / 92 .
2- (4) تحف العقول / 179 .
3- (5) وسائل الشیعة 8 / 373 ح 6 .
4- (1) وسائل الشیعة 8 / 372 ح 4 .
5- (2) وسائل الشیعة 8 / 372 ح 3 .
6- (3) وسائل الشیعة 8 / 372 ح 5 .
7- (4) وسائل الشیعة 8 / 373 ح 7 .

إنّ الإمام ضامن للقراءة ، ولیس یضمن الإمام صلاة الذین خلفه ، إنّما یضمن القراءة(1) .

أقول : معنی ضمان الإمام للقراءة أنه لا یجوز للمأموم أن یقرأ خلف الإمام .

والإنصاف أنّ دلالة هذا القسم الأخیر من الروایات علی قاعدة حرمة تغریر الجاهل محل تأمل بل منع .

ومنها : الروایات الواردة فی کراهیة إطعام الأطعمة والأشربة المحرمة للبهیمة نحو

موثقة غیاث عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کره أن تُسقی الدواب الخمر(2) .

وخبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن البهیمة البقرة وغیرها تسقی أو تطعم مالا یحلّ للمسلم أکله أو شربه ، أیکره ذلک ؟ قال : نعم یکره ذلک(3) .

وغایة ما یُستفاد من هذه الروایات الکراهة المغلّظة بالنسبة إلی سقی أو إطعام الإنسان المکلّف لا الحرمة التی استشعرها الشیخ الأعظم قدس سره (4) .

ومنها : ما دلّ علی حرمة سقی الخمر للصبی أو المملوک أو الکافر وأنّ علی الساقی وزر من شربها ، نحو خبر أبی ربیع الشامی عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث :

أقسم ربّی لا یشرب عبد لی خمراً فی الدنیا إلاّ سقیته مثل ما یشرب منها من الحمیم معذَّباً أو مغفوراً له ، ولا یسقیها عبد لی صبیّاً أو مملوکاً إلاّ سقیته مثل ما سقاه من الحمیم یوم القیامة معذّباً بعدُ أو مغفوراً له(5) .

ومعتبرة عجلان أبی صالح قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : یقول اللّه عز وجل : من شرب مسکراً أو سقاه صبیّاً لا یعقل ، سقیته من ماء الحمیم مغفوراً له أو معذَّباً ، من ترک المسکر ابتغاء مرضاتی أدخلته الجنة وسقیته من الرحیق المختوم وفعلت به من الکرامة ما

ص:140


1- (5) وسائل الشیعة 8 / 354 ح 3 .
2- (6) وسائل الشیعة 25 / 308 ح 4 .
3- (7) وسائل الشیعة 25 / 309 ح 5 .
4- (8) المکاسب 2 / 74 .
5- (1) وسائل الشیعة 25 / 307 ح 1 .

فعلت بأولیائی(1) .

وعن عقاب الأعمال بسنده إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث قال : ومن شرب الخمر سقاه اللّه من سمّ الأفاعی ومن سمّ العقارب - إلی أن قال - : ومن سقاها یهودیّاً أو نصرانیاً أو صابئاً أو من کان من الناس فعلیه کوزر من شربها(2) .

ویظهر من هذه الروایات عدم رضی الشارع المقدس بشرب الخمر حتّی بالنسبة إلی الصبی أو الکفار نحو الیهود والنصاری ، ومن سقاهم من المسلمین علیه کوزر من شربها .

ومنها : ما دل علی إهراق المایعات المتنجسة نحو موثقة سماعة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل معه إناء ان فیهما ماء ، وقع فی أحدهما قذر لا یدری أیّهما هو ، ولیس یقدر علی ماء غیره ؟ قال : یهریقهما جمیعاً ویتیمّم(3) .

وموثقة عمار الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث - قال : سئل عن رجل معه إناءان فیهما ماء ، وقع فی أحدهما قذر لا یدری أیّهما هو [ وحضرت الصلاة [ولیس یقدر علی ماءٍ غیرهما ؟ قال : یهریقهما جمیعاً ویتیمّم(4) .

بتقریب : أن الأمر بالإهراق یدلّ علی عدم جواز إعطاء هذا الماء المشتبه للمسلم حتّی یشربه أو یوضیء منه .

ومنها : ما دل علی حرمة بیع المختلط إلاّ ممّن یستحلّ بالمیتة ، نحو :

صحیحة الحلبی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إذا اختلط الذکی والمیتة باعه ممّن یستحلّ المیتة وأکل ثمنه(5) .

وصحیحة أخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن رجل کان له غنم وبقرو کان یدرک الذکی منها فیعزله ویعزل المیتة ، ثم إنّ المیتة والذکی اختلط کیف یصنع به ؟ قال : یبیعه

ص:141


1- (2) وسائل الشیعة 25 / 308 ح 3 .
2- (3) وسائل الشیعة 25 / 309 ح 7 .
3- (4) وسائل الشیعة 1 / 151 ح 2 .
4- (5) وسائل الشیعة 1 / 155 ح 14 .
5- (1) وسائل الشیعة 17 / 99 ح 1 .

ممّن یستحلّ المیتة ویأکل ثمنه فإنّه لا بأس(1) .

وقد مرّ منّا البحث حول بیع المختلط وجوازه ، فراجع ما حررناه هناک .

ومنها : ما ورد فی العجین بالماء المتنجس ، نحو :

صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی العجین من الماء النجس کیف یصنع به ؟ قال : یباع ممّن یستحلّ المیتة(2) .

وفی روایة ابن أبی عمیر عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : یدفن ولا یباع(3) .

ومنها : ما ورد فی إهراق المرق المتنجس ، نحو :

خبر زکریا بن آدم قال : سألت أبا الحسن علیه السلام عن قطرة خمر أو نبیذ مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر ، قال : یهراق المرق أو یطعمه أهل الذمة أو الکلب ، واللحم اغسله وکله . إلی أن قال : قلت : فخمر أو نبیذ قطر فی عجین أو دم ؟ قال : فقال : فسد ، قلت : أبیعه من الیهود والنصاری واُبیّن لهم ؟ قال : نعم ، فإنّهم یستحلّون شربه ، الحدیث(4) .

وبالجملة ، یُستفاد من هذه الأخبار الکثیرة فی مواضع مختلفة حرمة تغریر الجاهل بالحکم أو بالموضوع فی المحرمات فی موارد ، وأنّ العالم بحرمة شیءٍ کما یحرم علیه أکله وشربه مباشرةً کذلک یحرم علیه تسبیبه لأکل المسلم وشربه وإن کان الغیر جاهلاً .

أقسام الإغراء

ثمّ بعد تمامیة أصل هذه القاعدة - أعنی حرمة تغریر الجاهل - تعرض الشیخ

الأعظم(5) قدس سره إلی تقسیم لا یرجع إلی محصَّل ، مضافاً إلی تخلیطه قدس سره بین المصطلحات العلمیة ،

ص:142


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 99 ح 2 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 100 ح 3 .
3- (4) وسائل الشیعة 17 / 100 ح 4 .
4- (5) وسائل الشیعة 3 / 470 ح 8 .
5- (1) المکاسب 2 / 75 وما بعدها .

ولذا أغمضنا عن تقسیمه ونتعرض لتقسیم صحیح آخر ، وهو :

تغریر الجاهل بأقسامه من التسبیب والإغراء وإیجاد الداعی والسکوت فی قبال الفاعل المباشر وجهله ، ینقسم إلی قسمین رئیسیین :

الف : جهل الجاهل تارة یکون بالنسبة إلی الحکم الکلّی الإلهی ، ولا ریب فی وجوب إعلام الجاهل بها ، لوجوب تبلیغ الأحکام الشرعیة علی الناس جیلاً بعد جیل إلی یوم القیامة ، کما تدلّ علیه آیة النفر والروایات الواردة فی لزوم تعلیم الأحکام الشرعیة وتعلّمه وبذل العلم .

ب : وتارة جهل الجاهل یکون بالنسبة إلی الموضوعات الخارجیة لا الحکم الکلّی الإلهی ، یعنی یکون جهله بالنسبة إلی الأحکام الجزئیة المترتبة علی الموضوعات الشخصیّة ، وهذا ینقسم إلی ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : تارة هذا الموضوع بحیث لا یرضی الشارع بترکه وإهماله ولزم فیه الإحتیاط - یعنی یکون الموضوع من الأمور المهمّة عنده نحو الدماء والفروج والأموال - وتغریر الجاهل وعدم إعلام الموضوع فی هذا المورد من المحرّمات الشرعیة ، لأنّ الشارع لا یرضی بترک هذه الموارد ، أو الإتیان بها خطاءً .

القسم الثانی : تارة یکون الموضوع من غیر الموارد المهمّة عند الشارع ، وهذا بحسب الحکم یختلف ، فمثلاً تارة نعلم من الشارع بعدم جواز ذلک ، نحو : تقدیم طعام النجس أو الحرام أو الخمر أو الفقاع إلی من لا یعلم ، فهذا حرام أیضاً ، لأنّ الفهم العرفی من خطابات هذه المحرمات عدم الفرق بین الإتیان بها مباشرة أو بتسبیب الغیر جهلاً کان أو إکراهاً .

القسم الثالث : تارة یکون الموضوع من غیر الموارد المهمّة ونعلم من الشارع جواز ذلک وعدم لزوم الإعلام ، نحو : الطهارة والنجاسة فی الأثواب والألبسة ، لأننا نعلم من الخارج أنّ الطهارة والنجاسة بالنسبة إلی الصلوات شرطٌ علمیٌّ لا شرطٌ واقعیٌّ ، فلا بأس بعدم لزوم الإعلام فی هذه الموارد الأخیرة وإبقاء الجاهل علی جهله .

فهذه أربعة أقسام نذهب إلی حرمة تغریر الجاهل فی ثلاثة منها ویبقی واحد منها - وهو القسم الأخیر - علی عدم لزوم الإعلام فیه .

ص: 143

الثالث : هل یجوز الإستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال ؟

المشهور بین قدماء أصحابنا عدم جواز الإستصباح بالدهن المتنجس تحت الظلال ، ولکن الروایات الواردة فی المقام ساکتة عن هذا التقیید . نعم قال الشیخ فی مبسوطه : « رووا أصحابنا أنّه یُستصبح به تحت السماء دون السقف »(1) .

مع أنّ الشیخ بنفسه ترک هذا الخبر فی کتابیه « التهذیب والإستبصار » المعدّان لنقل الروایات ، والظاهر أن مراد الشیخ من الروایة هنا لیست الروایة المصطلحة بل مراده قدس سره المستند إلی الروایة ، یعنی فتوی الأصحاب . وقد عرفت أنّ المشهور من القدماء ذهبوا إلی عدم جواز الإستصباح به تحت الظلال ، واستدلوا علیه بعدّة من الوجوه :

منها : الإجماع المدعی فی بعض الکلمات .

وفیه : أولاً : وجود الإجماع هنا ممنوع مع ذهاب بعض الأصحاب إلی خلافه .

وثانیاً : الإجماع هنا علی فرض وجوده لم یکن تعبدیّاً ، بل هو مدرکی لاحتمال إستناده إلی الوجوه الآتیة فی المسألة .

ومنها : الشهرة الفتوائیة .

وفیه : هذه وإن کانت محقّقة ولکنّها لیست بحجة هنا ، لاحتمال کون مستند المشهور أحد الوجوه المذکورة .

ومنها : مرسلة الشیخ المرویة فی المبسوط المذکورة آنفاً .

وفیه : أولاً : منعنا کونها روایة .

وثانیاً : علی فرض کونها روایة هی مرسلة ومضمرة ، فلیست بحجة .

وثالثاً : الراوی لهذه المرسلة - أعنی الشیخ - لم یأخذ بها وذهب إلی کراهة الإستصباح به تحت الظلال ، فراجع أطعمة المبسوط(2) حتّی تعرف ما قلنا .

وبالجملة ، لا یمکن الأخذ بهذه المرسلة .

ص:144


1- (1) المبسوط 6 / 283 .
2- (2) المبسوط 6 / 283 .

ومنها : الإستصباح به یوجب تنجیس السقف لتصاعد بعض الأجزاء الدهنیة قبل إحالة النار أیّاها إلی أن تلاقی السقف فهو حرام .

وفیه : أولاً : لا دلیل علی حرمة تنجیس السقف . نعم لا یجوز تنجیسه فی المساجد

والمشاهد وأمّا فی غیرها فلا دلیل علی حرمة تنجیسه .

وثانیاً : دخان النجس لیس بنجس للإستحالة کرماده .

وثالثاً : مجرد احتمال صعود الأجزاء الدهنیة إلی السقف قبل الإستحالة ، حیث کان مجرد إحتمال محض ، لا یمنع عن الإستصباح به تحت الظلال ، لکونه مشکوکاً من أصله .

رابعاً : ربّما لا یؤثر الدخان فی السقف إمّا لإرتفاعه أو لخروجه من الأطراف أو لقلة زمان الإسراج أو لعدم وجود الدخان فیه . وبالجملة هذا الدلیل أخص من المدعی .

والحاصل : حیث أن مستند المشهور لم یتم ، والروایات خالیة عن هذا التقیید بل تدلّ علی جواز الإستصباح به مطلقاً - سواء کان تحت الظلال أو تحت السماء - لابدّ من القول بجواز الإستصباح به تحت الظلال .

وممّا ذکرنا أیضاً ظهر حکم الدخان النجس من أنّه طاهر ، ولا یوجب تنجیس شیءٍ . واللّه سبحانه هو العالم .

الرابع : هل یجوز الانتفاع بالدهن المتنجس فی غیر الاستصباح ؟
اشارة

القاعدة الأوّلیة تقتضی جواز الإنتفاع بالدهن المتنجس فی الإستصباح وغیره ، وعدّة من الروایات الواردة فی المقام أیضاً یؤیدها :

منها : خبر قرب الاسناد بإسناده عن علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : وسألته عن فأرة أو کلب شربا من زیت أو سمن ، قال : إن کان جرّة أو نحوها فلا تأکله ولکن ینتفع به لسراج أو نحوه ، الحدیث(1) .

ویمکن تصحیح السند بأنّ علی بن جعفر رواها فی کتابه(2) کما قاله الشیخ الحر فی

ص:145


1- (1) وسائل الشیعة 24 / 198 ح 3 .
2- (2) مسائل علی بن جعفر / 133 ح 128 .

الوسائل(1) ، وله سند معتبر إلی کتاب علی بن جعفر .

ودلالتها واضحة فإنّ الإمام علیه السلام أمر بالإنتفاع به لسراج أو نحوه ، وإطلاق « نحوه » یشمل جمیع الإنتفاعات ، والأمر بالنسبة إلی الفأرة علی التنزه والاستحباب ، بقرینة غیرها من الروایات فی عدم تنجس الجرّة بالفأرة إذا شربت منها وخرجت حیّةً ، کما مرّ بعضها .

ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی علیه السلام أنّه سئل

عن الزیت یقع فیه شیء له دم فیموت ، قال : الزیت - خاصةً - یبیعه لمن یعمله صابوناً(2) .

ومنها : خبر النوادر بإسناده عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیاً علیه السلام سئل عن الزیت یقع فیه شیء له دم فیموت ، فقال : یبیعه لمن یعمله صابوناً(3) .

ومنها : خبر الدعائم رفعه عن أبی جعفر علیه السلام أنّه سئل عن فأرة وقعت فی سمن ، قال : إن کان جامداً ألقاها وما حولها وأکل الباقی ، وإن کان مائعاً فسد کله یُستصبح به .

وسئل أمیر المؤمنین علیه السلام عن الدواب تقع فی السمن والعسل واللبن والزیت فتموت فیه ، قال : إن کان ذائباً أریق اللبن واستسرج بالزیت والسمن - إلی أن قال - وقال علیه السلام : فی الزیت : یعمله صابوناً إن شاء(4) .

وهذه الروایات وإن کان أکثرها ضعافاً إلاّ أن الأصل أیضاً یقتضی جواز الإنتفاع به فی کلّ مورد یمکن الإنتفاع به ، وأمّا المذکور فی الروایات المتعددة بالإسراج أو الإستصباح - بأن ینتفعوا بالدهن أو الزیت المتنجس فیه - فلیس إلاّ بعنوان المثال أو انحصار الانتفاع به فی تلک الأعصار فیه فقط أو أنّه الفرد الغالب والظاهر للانتفاع . فلا تقید الروایات الواردة فی جواز بیعه فی هذا الإستعمال والإنتفاع .

وبالجملة ، یجوز الإنتفاع بالدهن المتنجس فی غیر الإستصباح لما مرّ .

ص:146


1- (3) وسائل الشیعة 24 / 199 .
2- (1) مستدرک الوسائل 13 / 72 ح 2 .
3- (2) مستدرک الوسائل 13 / 73 ح 7 .
4- (3) مستدرک الوسائل 13 / 72 ح 4 .
حکم الانتفاع بالمتنجسات وبالأعیان النجسة :

قد مرّ الکلام فیما سبق من الکتاب جواز بیع المتنجسات ، فإذا جاز بیعها جاز الإنتفاع بها بطریق أولی . وهکذا ظهر الأمر بالنسبة إلی الأعیان النجسة من جواز بیعها إلاّ ما خرج بالدلیل المعتبر وورد النهی من بیعه ، نحو : المیتة والخنزیر والکلب غیر المعلّم ونحوها علی ما سبق ، فکما یجوز بیع بعض الأعیان النجسة فکذلک یجوز الإنتفاع بها .

وأمّا الأعیان النجسة اللآتی لا یجوز بیعها نحو : المیتة والخنزیر والکلب غیر المعلّم ، فیجوز الإنتفاع بها ، لعدم ثبوت ردع معتبر شرعی عن الإنتفاع بها ، وجریان البراءة الشرعیة والعقلیة فی المقام .

وبالجملة ، یجوز الإنتفاع بالأعیان النجسة مطلقاً سواءً جاز بیعها أم لم یجز ، وکذلک

یجوز الإنتفاع بالمتنجسات .

حقّ الاختصاص وحقیقته ومنشأ ثبوته :

إذا حاز شخص شیئاً مباحاً أو سبق إلی مکان مشترک کالمساجد والمشاهد والمدارس ، أو سقط ملکه عن المالیة کحیوان له مات أو عنب له صار خمراً أو الماء علی الشط أو الأراضی المملوکة إذا جعلها الجائر بین الناس شرّعاً سواءً کالطرق والشوارع المغصوبة ونحوها ، ثبت للحائز أو السابق أو المالک حقٌ بالنسبة إلی الشیء المباح أو المکان المشترک أو المال أو الملک ویُسمی هذابحقِّ الإختصاص ، یجوز له أخذ المال وانتقال حقّه إلی الباذل ، أو أخذ المال ورفع یده عن المشترکات أو ملکه .

ومن الواضح أنّ بین المال والملک عموم من وجه ، نحو : حبة من الحنطة ملک لمالکها ولا تعدّ مالاً ، ومثلها الماء علی الشط إذ لایبذل بإزائه المال .

وأشجار الغابات ونحوها أموال ولیست ملکاً لشخص معین من الناس .

ودار زید أو أرض له کانت ملکاً له ومالاً .

ثم لا یبعد أن یُدعی بأنّ أقوی دلیل علی وجود حقّ الإختصاص وثبوته السیرة القطعیة الشرعیة والعقلیة علی ذلک ، والمتشرعة فی جمیع الأعصار والأمصار وجیل بعد جیل ذهبوا إلی اعتباره ویأخذون المال فی قباله ویعطون المال بإزائه .

ص:147

ونفس هذه السیرة القطعیة المتصلة من زماننا هذا إلی زمن المعصومین علیهم السلام التی تستلزم تقریرهم علیهم السلام توجب ثبوت هذا الحقّ واعتباره عند الشارع المقدس وجواز معاوضة هذا الحقّ فی قبال المال .

وهذا سرّ تلقی أصحابنا قدس سرهم هذا الحقّ بالقبول .

ولعله إلی هذا الإستدلال أشار صاحب مهذب الأحکام حیث یقول مستدلاً علی ثبوت حق الإختصاص : « لظهور الإجماع علیه ولاعتبار العرف والعقلاء هذا الحقّ ولم یردع عنه الشارع »(1) .

واعترف بهذه السیرة بعض المعاصرین قدس سره فی تعلیقته علی المکاسب فقال : « ... وکیف کان بعد السیرة وحدیث السبق لا حاجة فی إثبات المطلب إلی إتعاب النفس والتکلّف فی

إثباته (أی إثبات حقّ الإختصاص) بأمر آخر ... »(2) .

إن قلت : ثبوت السیرة فعلاً محرز ولکن إتصالها من زماننا هذا إلی زمن المعصومین علیهم السلام دون إثباته خرط القتاد .

قلت : إتصال السیرة یحرز إلی زمن المعصومین علیهم السلام لمن تأمل فی الروایات الواردة فی هذا المبحث ، نحو ما دلّ علی ثبوت الملکیة بالحیازة وجعل الید ، وما دلّ علی السبق إلی مکان من المسجد والمشهد والسوق بأنّه أحق من غیره ، فإذا کان هو أحق من غیره فیجوز له أن یأخذ المال فی قبال هذا الحقّ وانتقال حقّه إلی غیره .

وبالجملة ، هذه الروایات أقوی شاهد علی اتصال هذه السیرة إلی زمن المعصومین علیهم السلام .

بل ربّما یمکن أن یقال : بإثبات حق الإختصاص بنفس هذه الروایات من دون ضم السیرة کما یأتی منّا البحث حول ذلک إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .

لا یقال : أخذ المال فی قبال هذا الحقّ بالنسبة إلی مثل الخمر والمیتة والکلب فی غیر

ص:148


1- (1) مهذب الأحکام 16 / 44 للفقیه الراحل السید عبد الأعلی الموسوی السبزواری قدس سره .
2- (1) غنیة الطالب فی التعلیقة علی المکاسب 1 / 84 للعلامة الفقیه الشیخ مرتضی بن محمد الأردکانی الیزدی قدس سره المتوفی عام 1375 ش .

موارد استثنائه والخنزیر لا یجوز ، لاحتمال دخوله تحت الإکتساب المحظور ، فیشمله ما استدل به المشهور علی عدم الجواز .

لأنّا نقول : معقد فتاواهم والمنساق من أدلتهم اللفظیة إنّما هو إذا جعل نفس العین مورد النقل والإنتقال لا الحقّ القائم به .

ثم مضافاً إلی ما ذکرنا یمکن أن یُستدل علی ثبوت حقّ الإختصاص بعدّة من الوجوه :

منها : أنّ حقّ الإختصاص سلطنة ضعیفة ثابتة للملاّک فی ملکهم ، بحیث لوزالت المالیة أو الملکیة یبقی هذا الحقّ ثابتاً ، فإذا مات حیوانه زالت مالیته ویبقی ملکه علی الحیوان ، وببقاء الملک یبقی هذا الحقّ أیضاً . وهکذا الأمر بالنسبة إلی العصیر العنبی إذا صار خمراً ، یبقی حقّ إختصاص مالکه له حتّی إذا قلنا بإلغاء مالکیة الخمر من الشارع ، ولذا یجوز له التصرف فیها بصیرورتها خلاًّ أو المعاوضة علی هذا الحقّ لیجعلها المشتری خلاًّ .

والدلیل علی ذلک حرمة التصرفات والتقلبات فی ملک الغیر إلاّ برضاء مالکه ولو لم یکن هنا مالٌ ، فمثلاً هل یمکن أن یقال بجواز التصرف فی حبات قلیلة من الحنطة لاتعتبر مالاً

ولکنّها تعتبر ملکاً للغیر ؟

ومن البدیهی عدم جواز هذا التصرف ، عند الکلِّ ونفس عدم جواز هذا التصرف یمکن أن یُستدل به علی ثبوت حقّ الإختصاص وجواز المعاوضة علیه حتی إذا ذهبت الملکیة .

فظهر ممّا ذکرنا ضعف ما فی مصباح الفقاهة رداً علی هذا الوجه بعدم الدلیل علیه فی مقام الإثبات(1) .

ومنها : أنّ حقّ الإختصاص مرتبة ضعیفة من الملکیة الإعتباریة ، فإذا زالت هذه الملکیة بحدّها الأقوی بقیت بعض مراتبها الضعیفة ، لأنّها مقولة بالتشکیک ، فوزانها وزان الکیفیات والألوان .

وفیه : أنه أورد علیه فی مصباح الفقاهة : « بأنّ الملکیة الحقیقیة من أیّة مقولة کانت -

ص:149


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 143 .

جِدَة أو إضافة - لیست قابلة للشدّة والضعف حتّی تعتبر بحدِّها الضعیف تارة وبحدها القوی تارة اُخری ، بل هی أمر بسیط ، فإذا زالت زالت بأصلها .

ولو سلمنا کون الملکیة الحقیقیة ذات مراتب لم یجر ذلک فی الإعتباریة ، فإنّ إعتبار کلّ مرتبة مغایر لإعتبار المرتبة الاُخری ، وإذا زال إعتبار المرتبة القویة لم یبق بعده إعتبار آخر للمرتبة الضعیفة ، وعلیه فلا یبقی هناک شیء آخر لکی یُسمی بالحقِّ »(1) .

أقول : نعم ، کلامنا فی الملکیة الإعتباریة لا الحقیقیة ، وإعتبار کل مرتبة مغایر مع إعتبار المرتبة الاُخری کما ذکره قدس سره . وأمّا ما یقوله من أنه « إذا زال إعتبار المرتبة القویة لم یبق بعده اعتبار آخر للمرتبة الضعیفة » فمحل تأمل بل منع ، لأنّ هذا تابع لإعتبار المعتَبِر ، فإذا اعتبره علی بقاء المرتبة الضعیفة مع زوال المرتبة القویّة یبقی ، والإعتبار سهل المؤنة وتابع لجعل معتبِره ویکفی فی تصحیحه عدم لغویته ، فیمکن بأن یجعل المعتَبِر هنا إعتباران علی نحو الطولیة ، بأن یجعل أوّلاً إعتبار الحقّ ثمّ ثانیاً اعتبار الملک ، وقد یجمع الإعتباران الحقّ والملک فی الأموال ، وقد یفرّق بینهما بزوال الملک وبقاء الحقِّ .

وبالجملة ، هذا کلّه تابع لجعل المعتَبِر ، ولا إشکال فیه من جهة الثبوت . نعم من جهة الإثبات نحتاج إلی دلیل ، وبنظرنا القاصر لا یبعد أن یکتفی فی مرحلة الإثبات بدلیلیة السیرة

القطعیة المتصلة من زماننا هذا إلی زمن المعصومین علیهم السلام للمتشرعة علی ثبوت حقّ الإختصاص ، وجواز المعاوضة علیه .

ومنها : لا یجوز لأحد أن یتصرف فی ملک أو مال غیره إلاّ بطیب نفسه . وهذا الأمر من الثابتات فی الشریعة المقدسة ، وقد دلّت علیه سیرة العقلاء والمتشرعة ، وتدلّ علیه أیضاً عدّة من الروایات المعتبرة ، نشیر إلی بعضها ، فإذا زالت الملکیة وشککنا فی زوال ذلک الحکم کان مقتضی الإستصحاب الحکم ببقائه .

فمن الروایات : موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله کفر ، وأکل لحمه معصیة ، وحرمة ماله کحرمة دمه(2)

ص:150


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 143 .
2- (1) الکافی 2 / 359 ح 2 .

وموثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : من کانت عنده أمانة فلیؤدّها إلی من ائتمنه علیها ، فإنّه لا یحلّ دم امری ء مسلم ولا ماله إلاّ بطیبة نفسه(1) .

ومرفوعة ابن شعبة الحرّانی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی خطبة الوداع : أیها الناس إنّما المؤمنون إخوة ، ولا یحلّ لمؤمن مال أخیه إلاّ عن طیب نفسٍ منه(2) .

ومرفوعة أبی منصور الطبرسی عن توقیع صدر من صاحب الزمان - عجل اللّه تعالی فرجه الشریف - الوارد إلی محمد بن عثمان العمری قال : وأمّا ما سألت عنه من أمر الضیاع التی لناحیتنا هل یجوز القیام بعمارتها وأداء الخراج منها وصرف ما یفضل من دخلها إلی الناحیة احتساباً للأجرو تقرّباً إلیکم ، فلا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر إذنه ، فکیف یحلّ ذلک فی مالنا ؟ من فعل شیئاً من ذلک بغیر أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرم علیه ، ومن أکل من أموالنا شیئاً فإنّما یأکل فی بطنه ناراً وسیصلی سعیراً(3) .

ومرسلة ابن أبی جمهور الأحسائی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : المسلم أخو المسلم ، لا یحلّ ماله إلاّ عن طیب نفسه(4) .

ومرفوعة النوری عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ولا یجوز أخذ مال المسلم بغیر طیب نفس منه(5) .

بتقریب : أنّ هذه الروایات وإنْ دلت بظاهرها علی عدم جواز التصرف فی مال الغیر إلاّ عن طیب مالکه ، ولکن بعد التأمل فیها یظهر أنّ المدار حرمة التصرف فی ملک الغیر ، ومال الغیر بما أنّه ملک للغیر لا یجوز التصرف فیه ، والملاک فی هذه الحرمة أنّها ظلم للغیر وتعدٍ

ص:151


1- (2) وسائل الشیعة 5 / 120 ح 1 .
2- (3) وسائل الشیعة 5 / 120 ح 3 .
3- (4) الاحتجاج 2 / 559 .
4- (5) مستدرک الوسائل 1 / 222 من الطبعة الحجریة = (3 / 331 ح 1) طبع آل البیت وهکذا رواها فی الباب الأول من کتاب الغصب 17 / 88 ح 5 .
5- (1) مستدرک الوسائل 17 / 88 ح 3 .

علیه . ولعلّ مال الغیر المذکور فی الروایات عنوان یشیر إلی ملک الغیر .

وإن أبیت وجمدت علی ظاهر لفظ الروایات من أنّ الحرام التصرف فی مال الغیر لا ملکه ، نقول بعدم الفرق فی ذلک ، بأنّ العرف لا یری فرقاً بین التصرف فی مال الغیر والتصرف فی ملک الغیر إلاّ بطیب نفسه ، والمال ذُکر فی الروایات لأنّه أظهر من الملک . ثم إذا زالت الملکیة وشککنا فی بقاء هذا نستصحب .

ومع هذا التقریب لا یرد علی الإستدلال ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره « بعدم جریان الإستصحاب فی الأحکام ، لمعارضته دائماً بأصالة عدم الجعل ، وأنّ موضوع حکم حرمة التصرف هو مال الغیر ، فإذا سقط الشیء عن المالیة سقطت عنه حرمة التصرف حتّی إذا کان باقیاً علی صفة المملوکیة ، إذ لا دلیل علی حرمة التصرف فی ملک الغیر فکیف إذا زالت عنه الملکیة أیضاً »(1) .

وفیه : أولاً : أنّ المدار حرمة التصرف فی ملک الغیر والتصرف فی مال الغیر أیضاً حرام ، لأنّه یستلزم التصرف فی ملک الغیر وهو ظلم وتعدٍّ علیه . أو لا أقل من أنّ العرف لا یری فرقاً بین التصرف فی ملک الغیر وماله ، وموضوع حکم الحرمة التصرف فی ملک الغیر ، وبتبعه ثبوت حرمة التصرف فی ماله أو عدم الفرق بین الحرمتین ، یعنی کما لا یجوز التصرف فی ملک الغیر فکذلک فی ماله فی مرتبة واحدة من دون تقدم أحدهما علی الآخر ، فالدلیل علی حرمة التصرف فی ملک الغیر موجود .

وثانیاً : من البعید جداً أن یلتزم هو قدس سره بما قاله وأفتی به ، کیف یمکن القول بعدم حرمة التصرف فی ملک الغیر ولو لم یکن مالاً ؟ ولا یمکن الإفتاء بذلک من متفقهٍ فکیف بفقیه الاُمة

ومرجعها . وأظن أنَّ هذا الکلام صدر منه قدس سره علی سبیل الجدل والمحاورة ولا یلتزم هو بذلک ولا یسمع منه أن یفتی به . والعلم عند اللّه تعالی .

وثالثاً : یمکن أن یناقش فی مبنی المحقق الخوئی قدس سره بعدم جریان الإستصحاب فی الأحکام والجواب عن المعارضة المدعاة . والتفصیل یطلب من علم الاُصول .

ص:152


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 144 .

ومنها : ما یدلّ علی ثبوت حقِّ الإختصاص ، وهو المرسلة المعروفة : « من حازملک » .

وفیه : أولاً : إنّ هذه المرسلة - وإن اشتهرت فی ألسنة الفقهاء وکتبهم الإستدلالیة - ولکن لم توجد فی کتب الحدیث . والظاهر أنّها قاعدة فقهیة مصطادة من الروایات الواردة فی أبواب التحجیر وإحیاء الموات والصید .

وثانیاً : علی فرض وجودها فی کتب الحدیث أنّها ضعیفة الاسناد وغیر منجبر ضعفها بالشهرة ، إذ لم یحرز استناد المشهور إلیها ، ویمکن أن یکون ذکرها للتأیید فقط .

ولکن الإنصاف أنّ دلالتها علی حقِّ الإختصاص ثابتةٌ ، لأنّها تدلّ علی ملکیة المحاز للمحیز ولو لم یکن مالاً ، والحیازة لیست إلاّ جعل ید المحیز علی المحاز واستیلاء الشخص علی الشیء وصیرورته فی یده ، فإذا تحقق هذا الإستیلاء ثبتت الملکیة ، فکیف لا یقدر بقاء هذا الإستیلاء والید بإثبات حقِّ الإختصاص الذی هو أضعف من الملکیة بمراتب ؟

بالجملة ، الإستیلاء علی الشیء وجعل الید علیه ابتداءً کما یثبت الملکیة فکذلک یثبت بقاء هذا الإستیلاء والید بعد زوال المالیة والملکیة ، حقّ الإختصاص وثبوته الذی هو أضعف من الملکیة بمراتب .

ومضافاً إلی ذلک ورود عدة من الروایات دالة علی ثبوت الملکیة بجعل الید علی الشیء والإستیلاء علیه ، نحو :

موثقة یونس بن یعقوب عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی إمرأة تموت قبل الرجل أو الرجل قبل المرأة ، قال : ما کان من متاع النساء فهو للمرأة وما کان من متاع الرجال والنساء فهو بینهما ، ومن استولی علی شیء منه فهو له(1) .

ومعتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : إنّ الطیر إذا ملک جناحیه فهو صید ، وهو حلال لمن أخذه(2) .

ومعتبرة اُخری للسکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قال فی رجل

ص:153


1- (1) وسائل الشیعة 26 / 216 ح 3 .
2- (2) الکافی 6 / 223 ح 5 .

أبصر طائراً فتبعه حتّی سقط علی شجرة فجاء رجل آخر فأخذه ، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : للعین ما رأت وللید ما أخذت(1) .

وصحیحة عبداللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من أصاب مالاً أو بعیراً فی فلاة من الأرض قد کلّت وقامت وسیّبها صاحبها ممّا لم یتبعه فأخذها غیره فأقام علیها وأنفق نفقة حتّی أحیاها من الکلال ومن الموت ، فهی له ولا سبیل له علیها ، وإنّما هی مثل الشیء المباح(2) .

ولکن یمکن أن یقال : بأنّ مفاد الصحیحة الأخیرة ثبوت التملک بالأخذ والإحیاء معاً .

وخبر السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قضی فی رجل ترک دابّته من جهد ، فقال : إن ترکها فی کلأ وماء وأمن فهی له یأخذها حیث أصابها ، وإن ترکها فی خوف وعلی غیرماء ولا کلأ فهی لمن أصابها(3) .

وبالجملة ، هذه الروایات تدلّ علی ثبوت الملکیة بجعل الید علی الشیء أو الحیوان . وحیث یمکن أن یثبت جعل الید ملکیة الشیء فکذلک بقاء هذه الید التی هی أقوی من حدوثها یمکن أن تثبت حقّ الإختصاص الذی هو أضعف من الملکیة بمراتب بطریق الاُولویة .

ومنها : حدیث السبق وتدلّ علیه عدّة من الروایات ، نحو :

خبر محمد بن إسماعیل عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : نکون بمکة أو بالمدینة أو الحیرة أو المواضع التی یرجی فیها الفضل ، فربّما خرج الرجل یتوضّأ فیجیء آخر مکانه ، قال : من سبق إلی موضع فهو أحقّ به یومه ولیلته(4) .

وخبر طلحة بن زید عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : سوق المسلمین کمسجدهم ، فمن سبق إلی مکان فهو أحقّ به إلی اللیل ، وکان لا یأخذ علی بیوت السوق

ص:154


1- (1) الکافی 6 / 223 ح 6 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 458 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 458 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 5 / 287 ح 1 .

کراءً(5) .

وخبر عوالی اللآلی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : من سبق إلی ما لا یسبقه إلیه مسلم فهو أحقّ به(1) .

بتقریب : أنّ حدیث السبق أفتی بمضمونه الأصحاب فی المشترکات ، والشهرة العملیة أیضاً ممّا یجبر بها ضعف السند ، وبهذا یجبر ضعف سند هذه الروایات .

وأمّا دلالتها : حیث أنّ الإستیلاء علی الشیء وجعل الید علیه موجب حدوث الحقّ ، فبقاء الإستیلاء والید علی الشیء بطریق أولی یوجب ذلک ، وهذا یعنی ثبوت حقّ الإختصاص .

وبما ذکرنا من التقریب یظهر ما فی کلام المحقق الخوئی قدس سره حیث یقول : « اما حدیث السبق ففیه أولاً : أنّه ضعیف السند وغیر منجبر بشیء صغریً وکبریً .

وثانیاً : إنّ ما نحن فیه خارج عن حدود هذا الحدیث ، فإنّ مورده الموارد المشترکة بین المسلمین ، بأن یکون لکلِّ واحد منهم حقّ الإنتفاع بها ، کالأوقاف العامة من المساجد والمشاهد والمدارس والرباطات وغیرها ، فإذا سبق إلیها أحد من الموقوف علیهم وأشغلها بالجهة التی انعقد علیها الوقف حرمت علی غیره مزاحمته وممانعته من ذلک . ولو عممناه إلی موارد الحیازة فإنّما یدلّ علی ثبوت الحقِّ الجدید للمحیز فی المحاز ، ولا یدل علی بقاء العلقة بین المالک وملکه بعد زوال الملکیة »(2) .

ومنها : دعوی الإجماع علی ثبوت حقِّ الإختصاص .

وفیه : أولاً : لم یثبت وجود الإجماع المنقول فکیف بالمحصَّل .

وثانیاً : علی فرض وجود الإجماع فهو مدرکیٌّ ، فلابدّ من ملاحظة مدرکه ، وهو أحد الوجوه الماضیة أو جمیعها .

وثالثاً : الإجماع عندنا لیس بحجة مستقلة ، بل حجة إذا کان کاشفاً عن قول المعصوم علیه السلام ، الإجماع المدعی هنا لیس بهذا الحدَّ ولم یستکشف عنه قول المعصوم علیه السلام .

ص:155


1- (1) وسائل الشیعة 5 / 287 ح 2 .
2- (2) مستدرک الوسائل 3 / 149 ح 4 من الطبع الحجری = 17 / 111 ح 4 طبع آل البیت .

وبالجملة ، ظهر من جمیع ما ذکرنا ثبوت حقّ الإختصاص للمالک علی المال والملک ولوزالت المالیة والملکیة ، ویجوز له المصالحة علی هذا الحقِّ بلا عوض أو مع العوض .

ولذا قال العلامة الجد الشیخ الأکبر الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره فی شرحه علی القواعد : « ... وعدم المِلْک لا ینافی ثبوت الإختصاص فیما له منفعة محلّلة ، ودفع الشیء لإنفکاکه(1) یُشَکُّ فی دخوله تحت الإکتساب المحظور ، فیبقی علی أصل الجواز »(2) .

وقال صاحب الجواهر : « نعم قد یقال : بأنّ له حقّ الإختصاص لمن سبق إلیه لتحقق الظلم عرفاً بالمزاحمة له ، بل لعلّ دفع العوض لرفع ید الإختصاص عنه لا بأس به ، ضرورة عدم صدق التکسب به لعدم دفع العوض عنه ... »(3) .

وبما ذکره صاحب الجواهر یظهر المناقشة فی کلام شیخنا الأستاذ - مد ظله - حیث یقول :« اللهم إلاّ أن یقال : مقتضی سقوط الشیء عن المالیة شرعاً کونه کسائر ما لا تکون له مالیة فی اعتبار العقلاء ، وأن أخذ المال ولو بعنوان المصالحة علیه أو الإعراض عنه أکل لذلک المال بالباطل ... »(4) .

وقال - مد ظله - فی ختام التعلیقة أیضاً : « أکل المال ولو بعنوان المصالحة علیها أو الإعراض عنها من أکله بالباطل کما فی سائر ما لا یکون مالاً فی اعتبار العقلاء ، کما لا یخفی »(5) .

أقول : الوجه فی ظهور المناقشة عدم صدق التکسب بأخذ المال فی قبال حقّ الإختصاص ، فلا یکون أکلاً للمال بالباطل ، فافهم . ولا أقل من الشک فی صدق عنوان التکسب ، فیجری إصالة البراءة فی المقام .

ص:156


1- (1) لإفتکاکه ، فی طبعة قم المحقّقة .
2- (2) شرح الشیخ جعفر علی قواعد العلامة ابن المطهر / 13 طبع النجف الاشرف - 1 / 124 من طبع قم المقدسة .
3- (3) جواهر الکلام 22 / 9 .
4- (4) ارشاد الطالب 1 / 70 .
5- (5) ارشاد الطالب 1 / 71 .

ومنه أیضاً ظهر ما فی کلام الفقیه الإصفهانی قدس سره بعد الإفتاء بثبوت حقِّ الإختصاص ومعاوضة هذا الحقّ بالعوض حیث یقول : « ... لکنّه لا یخلو من إشکال ، بل لا یبعد دخوله فی الإکتساب المحظور . نعم لو بذل الغیر مالاً لیرفع یده ویعرض عنها فیحوزها الباذل سلم من الإشکال ... »(6) .

أقول : قد منعنا دخول المعاوضة علی حقِّ الإختصاص بالمال فی الاکتساب المحرّم ، و علی فرض دخوله لا یخرجه ما ذکره قدس سره فی آخر کلامه ، فلا یسلم من الإشکال . والحمد للّه علی کلّ حال .

ص:157

النوع الثانی : ما یحرم لتحریم ما یقصد به وهو علی ثلاثة أقسام

اشارة

ص:158

ص:159

اشارة

ص:160

القسم الأوّل

اشارة

ما اشتمل علی هیئة خاصة لا یقصد منه بهذه الهیئة إلاّ الحرام کالأصنام والصلبان وآلات القمار وآلات اللهو ونحو ذلک :

1 - منها : هیاکل العبادة المبتدعة :
اشارة

کالصلیب والصنم والوثن ، وقد استدل علی حرمة بیعها بعدّة من الوجوه :

الأدلة الدالة علی حرمتها
الوجه الأوّل : الاجماع

قد ادعی الإجماع فی کلام جماعة من الأصحاب ، منهم : العلاّمة الحلی فی المنتهی(1) ادعی عدم خلاف علمائنا علی تحریم عمل الأصنام والصلبان وغیرهما من هیاکل العبادة المبتدعة ، وادعی الإجماع المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(2) والسید علی الطباطبائی فی الریاض(3) والنراقی فی مستند الشیعة(4) وصاحب الجواهر فی کتابه(5) .

وفیه : تحصیل الإجماع - وإن کان ممکناً فی کلمات الأصحاب - ولکنّه غیر مفید ، لاحتمال کونه مدرکیّاً وأنّ مستندهم إحدی الوجوه الآتیة فی المسألة .

الوجه الثانی : روایة تحف العقول

حیث ورد فیها : « فکلّ أمر یکون فیه الفساد ممّا هو منهی عنه من جهة ... »(6) إلی أن

ص:161


1- (1) منتهی المطلب 2 / 1011 .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 41 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 140 .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 88 .
5- (5) جواهر الکلام 22 / 25 .
6- (6) تحف العقول / 333 .

قال : « وذلک إنّما حرّم اللّه الصناعة التی حرام هی کلّها التی یجیءُ منها الفساد محضاً نظیر

البرابط والمزامیر والشطرنج وکلّ ملهوٍّ به والصلبان والأصنام »(1) .

وفیه : قد منعنا عن کون هذه روایة أصلاً ، وعلی فرض أن تکون روایة فهی مرفوعة مرسلة ، فلا تفید فی الفقه شیئاً .

الوجه الثالث :

قوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنکُمْ »(2) .

بتقریب : أنّ أکل المال بأزائها أکل له بالباطل ، والمراد بالباطل فی الآیة الشریفة الباطل الشرعی والعرفی معاً ، فلا یجوز بیعها .

وفیه : نعم الظاهر أنّ المراد بالباطل فی الآیة الشریفة ما یعمّ الباطل شرعاً وعرفاً ، ولکن الآیة لیست بصدد بیان شرائط العوضین حتّی یتمسّک بإطلاقها فی المقام .

الوجه الرابع :

قوله تعالی فی سورة المائدة : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»(3) .

وقوله تعالی فی سورة الحج : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ»(4) .

وقوله تعالی فی سورة المدثر : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»(5) .

قال الشیخ فی ذیل الآیة الأخیرة : « قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهری : معناه فاهجر الأصنام »(6) .

ص:162


1- (1) تحف العقول / 335 .
2- (2) سورة النساء / 29 .
3- (3) سورة المائدة / 90 .
4- (4) سورة الحج / 30 .
5- (5) سورة المدثر / 5 .
6- (6) التبیان 10 / 173 .

بتقریب : أن الاجتناب المطلق وکذا الهجر المطلق یقتضی الإجتناب عن البیع وحرمته .

وفیه : أن الاجتناب والهجر من الأصنام والأوثان یعنی ترک عبادتها وعدم القول

بقداستها ، ولیس فی الآیات إطلاقٌ حتّی یشمل بطلان بیعها .

الوجه الخامس :

الاستدلال بالنبوی المشهور : « إنّ اللّه إذا حرّم علی قوم شیئاً حرّم علیهم ثمنه » .

بتقریب : أنه حیث حرّمت فی الشریعة عبادة الأصنام والأوثان والصلبان فکذلک حرّمت عملها وإحداثها لأجل العبادة ، وکذلک حرّمت فیها بیعها وشراؤها وأخذ الثمن فی قبالها .

وفیه : أنّه قد ذکرنا فی أوّل الکتاب عدم ورود هذه الروایة من طرقنا إلاّ علی نحو الإرسال والرفع ، ووجود کلمة « الأکل » فی موارد نقلها ، فلا تفید فی الفقه ولا فی المقام شیئاً .

الوجه السادس : ما رواه فی دعائم الاسلام

قال : « روینا عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة والدم والخنزیر والأصنام ، وعن عسب الفحل وعن ثمن الخمر وعن بیع العذرة وقال : هی میتة »(1) .

بتقریب : أن النهی عن بیع الأصنام ظاهرٌ فی بطلانها .

وفیه : أن دلالة الروایة علی بطلان بیعها تام ولکن سندها ضعیف بل مرسل بل مرفوع ، وقد مرّ منّا الکلام حول کتاب دعائم الاسلام فی أوّل ، الکتاب فراجع ما حررناه هناک .

الوجه السابع :

الروایات الدالة علی النهی عن بیع الخشب ممّن یتخذه صلیباً أو صنماً ، وحیث کان بیع الخشب الحلال فی نفسه صار حراماً من هذه الجهة ، فبیعهما اُولی بالحرمة .

ص:163


1- (1) دعائم الاسلام 2 / 18 ح 22 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 71 ح 5 .

من الروایات : صحیحة عمر بن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه برابط ؟ فقال : لا بأس به . وعن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه صلباناً ؟ قال : لا(1) .

ومنها : خبر عمرو بن حریث قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن التوت أبیعه یصنع للصلیب والصنم ؟ قال : لا(3) .

قال المحقق الخوئی قدس سره : « وهذا هو الوجه الوجیه ، ویؤیده قیام السیرة القطعیة المتصلة إلی زمان المعصوم علیه السلام علی حرمة بیع هیاکل العبادة ، ویؤیده أیضاً وجوب إتلافها حسماً لمادّة الفساد ، کما أتلف النبی صلی الله علیه و آله وسلم وعلی علیه السلام أصنام مکة ، فإنّه لو جاز بیعها لما جاز إتلافها »(2) .

وبالجملة ، هذا الوجه تام لا یمکن المناقشة فیه ولا ینبغی الإشکال فی حرمة بیع هیاکل العبادة من الأصنام والأُوثان ونظیرها الصلبان بعد هذا الدلیل التام والدلیل الآتی :

الوجه الثامن : الدلیل العقلی :
اشارة

العقل مستقل بقبح عبادة الأُوثان والأصنام وأنّه مبغوض عند الشارع الأقدس ، فکیف یجعل الشارع وجوب الوفاء بعقد یترتب علیه هذا المبغوض عنده ، والعقل کما هو مستقل بقبح عبادة الأُوثان فکذلک مستقل بعدم جعل وجوب الوفاء علی عقد یترتب علیه عبادة الأُوثان ، ولعلّ هذا سرّ عدم ورود حرمة بیعها مستقلاً فی الروایات ، لأنّ العقل یستقل بحرمة بیعها فلا نحتاج إلی ورود روایة .

ولعله أشار إلی هذا البیان المحقق الخمینی قدس سره حیث یقول : « لا ینبغی الاشکال فی حرمة بیعها وبطلانه فی الصور التی یترتب علیها الحرام ، لإستقلال العقل بقبح ما یترتب علیه عبادة الأُوثان ومبغوضیته ، بل قبح تنفیذ البیع وإیجاب الوفاء بالعقد المترتب علیه عبادة غیر اللّه تعالی »(3) .

ص:164


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 176 ح 1 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 176 ح 2 .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 149 .

وأمّا استفادة حکم حرمة بیعها ممّا ورد من الروایات الواردة فی تحریم الخمر ولعن بایعها ومشتریها وعاصرها وساقیها وتحریم ثمنها وجعله سحتاً ، أو استفادتها من الروایة المستفیضة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وأبی جعفر علیه السلام وأبی عبد اللّه علیه السلام أنّهم علیهم السلام قالوا : مدمن الخمر کعابد وثن .

فأشبه شیءٍ بالقیاس ، وهو سرایة حکم موضوع إلی موضوع آخر وإناطته إلیه ، یعنی استفادة حرمة بیع هیاکل العبادة من الروایات الواردة فی باب الخمر وتحریمها وتشدید الشارع بالنسبة إلیها بإدعاء أنّ الفساد مشترک بینهما ، بل بالنسبة إلی هیاکل العبادة کان الأمر أشدّ والفساد أکثر . وهذه الدعوی أشبه شیءٍ بالقیاس کما ذکرت .

ثم بعد الفراغ عن الاستدلال علی حرمة بیع هیاکل العبادة ینبغی التعرض لفروع :

فروع
الفرع الأوّل :

إذا کانت لمادّة هیاکل العبادة قیمة - بأنّها صُنعت من الذهب أو الفضة أو الجواهر الغالیة ونحوها - فهل یجوز بیعها بالنظر إلی مادّتها التی هی ذات قیمة مع ترتب الفساد علی هیئتها أم لا ؟ وهل یجری فی هذا الفرض حکم بیع ما یملک وما لا یملک فی معاملة واحدة بأنّ یقسّط الثمن بإزائهما نحو بیع الشاة والخنزیر معاً فالبیع بالنسبة إلی الشاة صحیح وبالنسبة إلی الخنزیر باطل ویقسط الثمن بینهما ، أم لا یجری ؟

الظاهر صحة بیع ما یملک وما لا یملک إذا کان لکلِّ واحد منهما وجود مستقل عن غیره نحو الشاة والخنزیر ، وأمّا ما نحن فیه فالهیئة والمادة - وإن کانا شیئین مختلفین متعددین بالدقة العقلیة الفلسفیة - ولکنّهما بنظر العرف لیس إلاّ شیئاً واحداً وهو الصنم أو الوثن أو الصلیب ، ولذا لا یقسّط الثمن بأزاء المادّة والهیئة ولیس نظیر بیع ما یملک وما لا یملک .

وبالجملة ، إذا ترتب علی بیعها فساد عبادتها فلا یجوز بیعها ولو کانت لمّادتها قیمة . واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع الثانی :

إذا لم یترتب علی بیعها فساد عبادتها لانقراض عَبَدَتها وکانت لمادّتها قیمة فهل یجوز بیعها أم لا ؟

ص:165

الظاهر أن علّة حرمة بیعها لیست إلاّ من جهة حرمة الفساد المترتب علیها ، وإذا لم یکن فساد فی البین وکانت لمادّتها قیمة فیجوز حینئذ بیعها .

نعم ، الأحوط حینئذ تغییر هیئتها ثم بیعها .

الفرع الثالث :

إذا لم یترتب علی بیعها فساد عبادتها لانقراض عَبَدَتها ولم تکن لمادّتها قیمة - بأن صنعت من الخشب أو الحجر ونحوهما فهل - یجوز بیعها للتزیین أو لحفظها فی المتاحف ونحوها أم لا ؟

الظاهر یجوز بیعها حینئذ ، لعدم ترتب الفساد علیها . واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع الرابع :

هل یجب کسرها مطلقاً ؟ أو یجب فی فرض وجود عبدتها فقط ؟ وهل علی کاسرها

ومتلفها ضمانٌ بالنسبة إلی قیمتها أم لا ؟

الظاهر أنّه یجب کسرها فی فرض وجود عَبَدَتها وترتب الفساد علیها ، وفی هذا الفرض حیث ألغی الشارع مالیتها فلیس علی کاسرها ومتلفها ضمان .

ولکن فی غیر هذا الفرض لم یجب کسرها ، وحیث کانت مالاً ذا قیمة ولم یلغ الشارع مالیتها وأتلفها الغیر فهو له ضامن بقاعدة الإتلاف . واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع الخامس :

قال الشیخ الأعظم : « نعم ، لو فرض هیئة خاصة مشترکة بین هیکل العبادة وآلة اُخری لعمل محلّل - بحیث لا تعدّ منفعة نادرة - فالأقوی جواز البیع بقصد تلک المنفعة المحللة کما اعترف به فی المسالک(1) »(2) .

الظاهر صحة ما ذکره الشیخ قدس سره ، لأنه بعد عدم کون المنفعة المحلّلة نادرة فیجوز البیع بقصد تلک المنفعة المحلّلة ولو کانت الهیئة مشترکة بین العمل المحرّم والمحلل ، وأمّا إذا قصد

ص:166


1- (1) المسالک 3 / 122 .
2- (2) المکاسب المحرمة / 15 طبع تبریز - (1 / 12 من الطبعة الحدیثة) .

العمل الحرام والمنفعة المحرمة فلا یجوز بیعها .

والمراد بالقصد هنا لیس النیّة حین المعاملة ، بل المراد به العمل الخارجی المترتب علی الشیء ، یعنی أنّ البایع استفاد من الشیء عملاً فی الجهة المحللة لا المحرمة . ثمّ هذا القصد والنیّة أیضاً باعث له علی بیعه .

ومما ذکرناه ظهر ما فی کلام المحقق الإیروانی قدس سره واستصوبه بعض أساتذتنا(1) - مدظله - حیث یقول : « بل الأقوی جواز البیع مطلقاً لعموم أدلة صحة المعاملات ، مؤیدةً بعموم قوله علیه السلام : « وکلّ شیءٍ یکون لهم فیه الصلاح من جهة من الجهات» ، ولا دلیل علی اعتبار قصد المنفعة المحلّلة ... »(2) .

2 - منها : آلات القمار

قد ورد الإجماع علی حرمة بیعها فی کلام بعض نحو أصحاب الریاض(3) والمستند(6)

والجواهر(4) ، وقد نفی الشیخ الأعظم(5) الخلاف فی المسألة .

مضافاً إلی ذلک تدلّ علیه الوجوه الماضیة فی المسألة السابقة وبعض الروایات الواردة فی المقام :

منها : خبر أبی الجارود المروی فی تفسیر القمی عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله تعالی : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ»(6) قال : أمّا الخمر فکلّ مسکر من الشراب - الی أن قال - : وأمّا المیسر : فالنرد و الشطرنج وکلّ قمار میسر ، وأما الأنصاب : فالأوثان التی کانت تعبدها المشرکون ، وأما

ص:167


1- (3) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 174 .
2- (4) حاشیة المکاسب 1 / 84 طبع عام 1421 .
3- (5) ریاض المسائل 8 / 140 .
4- (1) مستند الشیعة 14 / 88 .
5- (2) الجواهر 22 / 25 .
6- (3) المکاسب المحرمة / 15 طبع تبریز - (1 / 116 الطبعة الحدیثة) .

الأزلام : فالأقداح التی کانت تستقسم بها المشرکون من العرب فی الجاهلیة ، کلّ هذا بیعه وشراؤه والإنتفاع بشیءٍ من هذا حرام من اللّه محرّم ، وهو رجس من عمل الشیطان ، وقرن اللّه الخمر والمیسر مع الأوثان(1) .

دلالة الروایة علی بطلان بیع آلات القمار واضحة ، ولکن فی سندها ضعف وإرسال .

ومنها : خبر جامع البزنطی المروی فی السرائر ، عن أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : بیع الشطرنج حرام وأکل ثمنه سحت واتخاذها کفر واللعب بها شرک ، والسلام علی اللاهی بها معصیة وکبیرة موبقة ، والخائض فیها یده کالخائض یده فی لحم الخنزیر ، لا صلاة له حتّی یغسل یده کما یغسلها من مسّ لحم الخنزیر ، والناظر إلیها کالناظر فی فرج اُمّه ، واللاهی بها والناظر إلیها فی حال ما یلهی بها والسلام علی اللاهی بها فی حالته تلک فی الإثم سواء ، ومن جلس علی اللعب بها فقد تبوأ مقعده من النار ، وکان عیشه ذلک حسرةً علیه فی القیامة ، وإیّاک ومجالسة اللاهی والمغرور بلعبها ، فإنّها من المجالس التی باء أهلها بسخط من اللّه یتوقعونه فی کلِّ ساعة فیعمک معهم(2) .

الروایة تدل علی بطلان بیع الشطرنج فقط ویمکن الاستدلال بها فی غیرها من آلات القمار بعدم الفرق ، ولکن فی سندها إرسال ، لأنّ الواسطة بین ابن ادریس الحلی والبزنطی صاحب الجامع غیر مذکور فی السرائر وغیر معلوم لنا .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم إنّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن اللعب بالنرد والشطرنج والکوبة والعرطبة - وهی الطنبور والعود - ونهی عن بیع النرد(3) .

الروایة تدلّ علی بطلان بیع النرد ، وهو أحد آلات القمار ، ویمکن التعدی إلی غیرها بعدم الفرق ، ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر الجعفریات بإسناده عن علی علیه السلام قال : من السحت : ثمن المیتة وثمن اللقاح ومهر البغی وکسب الحجام وأجر الکاهن وأجر القفیز وأجر الفرطون والمیزان إلاّ

ص:168


1- (4) سورة المائدة / 90 .
2- (5) تفسیر القمی 1 / 180 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 321 ح 12 .
3- (1) الفقیه 4 / 4 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 325 ح 6 .

قفیزاً یکیله صاحبه أو میزاناً یزن به صاحبه ، وثمن الشطرنج وثمن النرد ، الحدیث(1) .

والروایة تدلّ علی بطلان بیع الشطرنج والنرد ، ویمکن التعدی بعدم الفرق بینهما وبین غیرهما من آلات القمار ، ولکن فی سندها ضعف .

وتدلّ علی عدم الفرق بینهما وبین غیرهما من آلات القمار صحیحة معمر بن خلاد عن أبی الحسن علیه السلام قال : النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة وکلّ ما قومر علیه فهو میسر(2) .

وکیف ما کان حیث لا یترتب علی بیع آلات القمار إلاّ الحرام - وهو القمار - فلا إشکال فی بطلان بیعها ، کما علیه المشهور بل الإجماع .

ثم فلیعلم أنّ هنا مسائل ثلاث : 1 - صنع آلات القمار 2 - بیعها 3 - اللعب بها مطلقاً ، وکلّ ذلک حرام محرَّم ولا یجوز أخذ شیء فی قبالها .

3 - ومنها : آلات اللهو

قد حکی الإجماع علی بطلان بیع آلات اللهو مطلقاً فی عدّة من الکتب الفقهیة نحو : مجمع الفائدة والبرهان(3) وریاض المسائل(5) ومستند الشیعة(6) وجواهر الکلام(7) ، وتدلّ علی بطلان بیعها - بعد الإجماع والوجوه الماضیة فی هیاکل العبادة المبتدعة - بعض الروایات الواردة فی المقام :

منها : خبر الشیخ أبی الفتوح الرازی فی تفسیره مرسلاً عن أبی أمامة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إنّ اللّه تعالی بعثنی هدیً ورحمةً للعالمین وأمرنی أن أمحو المزامیر والمعازف والأوتار والأوثان وأمور الجاهلیة - إلی أن قال - : إنّ آلات المزامیر شراؤها وبیعها وثمنها

ص:169


1- (2) الجعفریات / 180 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 69 ح 1 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 323 ح 1 .
3- (4) مجمع فائدة والبرهان 8 / 41 .

والتجارة بها حرام ، الحدیث(1) .

دلالة الروایة علی بطلان بیع آلات اللهو واضحة ولکن فی سندها إرسال .

ومنها : خبر الجعفریات بإسناده إلی علی علیه السلام أنّه رفع إلیه رجل کسر بربطاً فأبطله(2) .

بتقریب : إن إبطال الدعوی من قِبَلِ أمیر المؤمنین علیه السلام یدل علی إلغاء مالیة البربط ، فإذا لم یکن مالاً فلا یجوز إعطاء المال بإزائه ، فلا یجوز بیعه . ومع إلحاق عدم الفرق بین البربط وغیرها من آلات اللهو یجری الحکم ببطلان بیع آلات اللهو مطلقاً ، ولکن فی سند الروایة ضعف .

ومنها : خبر دعائم الاسلام رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه رفع إلیه رجل کسر بربطاً فأبطله ولم یوجب علی الرجل شیئاً(3) .

الکلام فی هذه الروایة کسابقتها .

ومنها : خبر آخر للدعائم رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام : من تعدی علی شیءٍ ممّا لا یحلّ کسبه فأتلفه فلا شیء علیه فیه ، ورفع إلیه رجل کسر بربطاً فأبطله(4) .

الدلالة واضحة وفی السند إرسالٌ .

ومنها : خبر ثالث للدعائم رفعه عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال : من کسر بربطاً أو لعبة من اللعب أو بعض الملاهی أو خرق زق مسکرٍ أو خمر فقد أحسن ولا غرم علیه(5) .

تدلّ الروایة علی عدم مالیة هذه الأشیاء فلا یجوز إعطاء المال بإزائها فبیعها باطل ، ولکن فی السند إرسالٌ .

ص:170


1- (1) ریاض المسائل 8 / 140 .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 88 .
3- (3) جواهر الکلام 22 / 25 .
4- (4) مستدرک الوسائل 13 / 219 ح 16 .
5- (1) مستدرک الوسائل 13 / 225 ح 2 .

ومنها : خبر قطب الراوندی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إنّ اللّه حرّم الدف والکوبة والمزامیر وما یلعب به(1) .

بتقریب : أن التحریم بالنسبة إلی هذه الآت ورد مطلقاً ، فیشمل بیعها أیضاً ، فإذا حرم بیعها کان البیع باطلاً ، ولکن فی السند إرسال .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أنهاکم عن الزفن والمزمار وعن الکوبات والکبرات(2) .

بتقریب : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الزفن - وهو الرقص - والکوبة - وهی الطبل والصغیر - والکَبَر - وهی الطبل - ونهیه صلی الله علیه و آله وسلم عن هذه الأمور مطلقة ، فیشمل بیعها ، فصار بیعها باطلاً .

ومنها : غیر ذلک من الروایات فراجع إن شئت إلی الباب 100 و101 من أبواب ما یکتسب به من وسائل الشیعة 17 / 316 و 312 ، والباب 79 من أبواب ما یکتسب به من مستدرک الوسائل 13 / 215 ، والباب 21 من أبواب ما یکتسب به وما لا یکتسب به من جامع أحادیث الشیعة 22 / 244 وفیه ثلاثون روایة ، وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 154 فی ذیل عنوان الموسیقی .

وبالجملة ، بطلان بیع آلات اللهو فی مذهبنا إجماعیٌّ ، وتدل علیه مضافاً إلی الوجوه السابقة ، الروایات الواردة فی المقام .

ثم فلیعلم أنّ هنا أیضاً مسائل ثلاث : 1 - صنع آلات اللهو 2 - وبیعها 3 - واللهو بها ، وکلّ ذلک حرام محرّم ولا یجوز أخذ شیء فی قبالها کما مرّ فی آلات القمار .

4 - ومنها : أوانی الذهب والفضة

إذا قلنا بتحریم اقتنائها وقصد المعاوضة علی مجموع الهیئة والمادة ، لا المادة فقط .

ثم هل القدر المتیقَّن من حرمة استعمال أوانی الذهب والفضة استعمالهما فی الأکل

ص:171


1- (2) مستدرک الوسائل 13 / 225 ح 3 .
2- (3) مستدرک الوسائل 13 / 218 ح 11 .

والشرب أو مطلق اقتنائهما والتزیّن بهما أیضاً حرام ؟ فلابدّ من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام :

منها : صحیحة محمد بن إسماعیل بن بزیع قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن آنیة الذهب والفضة فکرهها ، فقلت : قد روی بعض أصحابنا : أنّه کان لأبیالحسن مرآة ملبّسة فضّة ، فقال : لا - والحمد للّه - إنّما کانت لها حلقة من فضة وهی عندی . ثم قال : إنّ العباس حین عذر عمل له قضیب ملبّس من فضّة من نحو ما یعمل للصبیان تکون فضّة نحواً من عشرة دراهم ، فأمر به أبو الحسن علیه السلام فکسر(1) .

ذیل الروایة تدلّ حرمة مطلق التزین والاقتناء بالفضة ، ولکن الظاهر عدم إفتاء الأصحاب بها . ویمکن رفع الید عن هذا الذیل بقرینة الروایات الآتیة .

ومنها : خبر داود بن سرحان عن أبی عبد اللّه علیه السلام : لا تأکل فی آنیة الذهب والفضة(2) .

الروایة تدلّ علی حرمة استعمالهما فی الأکل والشرب فقط ، وفی السند ضعف بمعلی بن محمّد . ولکن رواها البرقی فی المحاسن(3) بسند صحیح .

ومنها : خبر محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام : أنّه نهی عن آنیة الذهب والفضة(4) .

یمکن استفادة حرمة الإقتناء من الروایة إذا کان النهی فیه مطلقاً ، ولکن فی السند ضعف بسهل بن زیاد . ویمکن تقیید إطلاق النهی فیها بالروایات الخاصة بالأکل والشرب ، ویمکن تصحیح سندها بما رواه البرقی فی المحاسن(5) .

ومنها : خبر موسی بن بکر عن أبی الحسن علیه السلام قال : آنیة الذهب والفضة متاع الذین

ص:172


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 505 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 3 / 506 ح 2 .
3- (3) المحاسن 2 / 411 ح 65 .
4- (4) وسائل الشیعة 3 / 506 ح 3 .

لا یوقنون(1) .

یمکن استیناس حرمة الإقتناء مطلقاً من الروایة ، وفی سندها ضعف بسهل وموسی بن بکر . ولکن یمکن تقییدها بغیرها من الروایات وتحسین سندها بما رواه البرقی فی المحاسن(2) عن موسی بن بکر والذهاب إلی حسنه .

ونظیرها مرسلة الصدوق عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم (3) .

ومنها : موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا ینبغی الشرب فی آنیة الذهب والفضة(4) .

« لا ینبغی » فی الروایة بقرینة غیرها من الروایات تحمل علی الحرمة ، و هکذا بعدم الفرق بین الأکل والشرب یعرف حکمه .

ومنها : خبر یوسف بن یعقوب قال : کنت مع أبی عبد اللّه علیه السلام فی الحجر فاستسقی ماءاً ، فأتی بقدح من صفر ، فقال رجل : إنّ عبّاد بن کثیر یکره الشرب فی الصفر ، فقال : لا بأس ، وقال علیه السلام للرجل : ألا سألته أذهب هو أم فضة(5) ؟

الروایة تدلّ علی حرمة الشرب فی آنیة الذهب والفضة ، والإمام علیه السلام أخذ حکمها معلوماً عند السائل ، ولکن فی السند ضعف بیوسف .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا تأکل فی آنیة ذهب ولا فضة(6) .

سند الروایة صحیح ، لأنّ للصدوق قدس سره سند صحیح إلی کتاب أبان بن عثمان والرجل ثقة ، وهو ینقل عن محمد بن مسلم لا أبان بن تغلب الثقة الذی فی سند الصدوق إلی کتابه

ص:173


1- (1) المحاسن 2 / 410 ح 61 .
2- (2) وسائل الشیعة 3 / 507 ح 4 .
3- (3) المحاسن 2 / 411 ح 64 .
4- (4) وسائل الشیعة 3 / 508 ح 8 .
5- (5) وسائل الشیعة 3 / 507 ح 5 .
6- (6) وسائل الشیعة 3 / 507 ح 6 .

ضعف ، فالسند صحیح والتعبیر عن الروایة بالخبر کما فی بعض المؤلَّفات غیر تام . ودلالتها أیضاً واضحة .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الشرب فی آنیة الذهب والفضة(1) .

دلالتها واضحة ، ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه کره آنیة الذهب والفضة والآنیة المفضّضة(2) .

الکراهة بالنسبة إلی آنیة الذهب والفضة بقرینة غیرها من الروایات تحمل علی الأکل والشرب فیهما ، وبالنسبة إلی المفضَّض تحمل علی الکراهة المصطلحة لا الحرمة ، کما یظهر الأخیر لمن یلاحظ روایات الباب 66 من أبواب النجاسات من وسائل الشیعة 3 / 509 .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهاهم عن سبع : منها الشرب فی آنیة الذهب والفضة(3) .

دلالة الروایة واضحة ، وسندها معتبر .

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أنّ من تأمل فی هذه الروایات ظهر له أنّ الحرمة بالنسبة إلی آنیة الذهب والفضة تنحصر فی حرمة استعمالهما فی الأکل والشرب فقط ، فلا بأس بالتزیّن بهما واقتنائهما ، فلا بأس ببیعهما مطلقاً .

نعم ، استعمالهما فی الأکل والشرب فقط حرامٌ .

5 - ومنها : بیع الدراهم المغشوشة
اشارة

الدراهم المغشوشة علی قسمین :

الأوّل : الدراهم الفاسدة الخارجة من رواج المعاملة ، صُنعت لأجل غش الناس

ص:174


1- (1) وسائل الشیعة 3 / 508 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 3 / 508 ح 10 .
3- (3) وسائل الشیعة 3 / 508 ح 11 .

وإغوائهم وتملّک أموالهم . وعلی هذا القسم تحمل الروایات المانعة من بیعها والآمرة بإفنائها حسماً لمادّة الفساد ، نحو : حسنة أو معتبرة موسی بن بکر قال : کنّا عند أبی الحسن علیه السلام وإذا

دنانیر مصبوبة بین یدیه ، فنظر إلی دینار فأخذه بیده ثمّ قطعه بنصفین ، ثم قال لی : ألقه فی البالوعة حتّی لا یباع شیء فیه غش(1) .

دلالة الروایة علی وجوب إفنائها قطعاً لمادّة الفساد واضحة ، ویأتی منّا اعتبار سندها فی بحث الغش(2) .

ومنها : خبر المفضل بن عمر الجعفی قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فألقی بین یدیه دراهم ، فألقی إلی درهماً منها فقال : إیش هذا ؟ فقلت : ستّوق ، فقال : وما الستوق ؟ فقلت : طبقتین فضة وطبقة من نحاس وطبقة من فضة ، فقال : اکسرها فإنّه لا یحلّ بیع هذا ولا إنفاقه(3) .

دلالة الروایة علی کسر الدرهم المغشوش واضحة . والظاهر أنّ المراد بالستوق وجود طبقتین من الفضة فی جانبی الدرهم وطبقة من النحاس فی وسطها بحیث یری من إطرافها أنّها من الفضة ولکن فی جوفها کلّها النحاس . وأمر الإمام علیه السلام بکسر هذا الدرهم . والشاهد علی ما ذکرنا فی تعریف الستوق خبر دعائم الإسلام الآتی ، ولکن فی السند ضعف بعلی بن الحسن الصیرفی ، لأنّه مجهول الحال ، والتعبیر بالموثق فی شأنها کما عن بعض(4) غیر تام .

ومنها : حسنة جعفر بن عیسی قال : کتبت إلی أبی الحسن علیه السلام ما تقول جعلت فداک فی الدراهم التی أعلم أنّها لا تجوز بین المسلمین إلاّ بوضیعة ، تصیر إلیّ من بعضهم بغیر وضیعة بجهلی به ، وإنّما آخذه علی أنّه جید أیجوز لی أن آخذه وأخرجه من یدی علی حدّ ما صار إلیّ من قِبَلهم ؟ فکتب علیه السلام : لا یحلّ ذلک . وکتبت إلیه : جعلت فداک هل یجوز إن وصلت إلیّ ردّه علی صاحبه من غیر معرفته به ، أو إبداله وهو لا یدری أنّی أبدّله منه أو أردّه علیه ؟ فکتب : لا

ص:175


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .
2- (2) راجع هذا الکتاب المجلد الثانی / 254 .
3- (3) التهذیب 7 / 109 ح 72 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 186 ح 5 .
4- (4) مهذب الاحکام 16 / 63 .

یجوز(1) .

بتقریب : أنه إذا کان لا یجوز ذلک بالنسبة إلی الدراهم التی لا تجوز بین المسلمین إلاّ بوضیعة ، فعدم الجواز بالنسبة إلی الدراهم المغشوشة رأساً بطریق أولی یجری . وسند الروایة أیضاً حسنة ، لأنّ جعفر بن عیسی بن یقطین ممدوح .

ومنها : خبر دعائم الاسلام رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن إنفاق الدراهم المحمول علیها ، قال : إذا کان الغالب علیها الفضة فلا بأس بإنفاقها ، وقال : فی الستوق ، وهو المطبَّق علیه الفضة وداخله نحاس ، یقطع ولا یحلّ أن ینفق ، وکذلک المزیبقة والمکحلة(2) .

والروایة تدل علی عدم جواز إنفاق الدرهم المغشوش وقطعه حسماً لمادّة الفساد ، ولکن فی السند إرسال .

وبالجملة ، حیث کان إنفاق الدراهم المغشوشة غش فی المعاملة تشمله أیضاً الروایات الواردة فی حرمة غش المسلمین .

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لیس منّا من غشّنا(3) .

ومنها : صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لرجل یبیع التمر : یا فلان أما علمت أنّه لیس من المسلمین مَنْ غشّهم ؟ !(4)

ومنها : صحیحة هشام بن الحکم قال : کنت أبیع السابری فی الضلال فمرّ بی أبو الحسن الاوّل موسی علیه السلام ، فقال لی : یا هشام إنّ البیع فی الظلال غش ، والغش لا یحلّ(5) .

ولإثبات حرمة الغش راجع إلی وسائل الشیعة 17 / 279 باب 86 من أبواب ما یکتسب به ، ومستدرک الوسائل 13 / 201 باب 69 من أبواب ما یکتسب به ، وجامع احادیث الشیعة 22 / 426 ، وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 104 .

ص:176


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 187 ح 8 .
2- (1) دعائم الاسلام 2 / 29 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 350 ح 1 باب 6 من أبواب الصرف .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 1 .
4- (3) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 2 .
5- (4) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .

والحاصل عدم جواز إنفاق الدراهم المغشوشة فی المعاملات ولزوم کسرها وقطعها وإفنائها حسماً لمادّة الفساد وإخراجها من جریان المعاملات والسوق ودائرتهما .

ونظیرها فی زماننا هذا الأوراق النقدیة المزوّرة لأجل التدلیس علی الناس وتزویرهم ، وهکذا الأمر فی غیرها من الأوراق الإعتباریة الموضوعة ، نحو الوثائق المزوّرة الموضوعة وغیرها .

الثانی : الدراهم التی تکون رائجة بین المسلمین ومعاملاتهم وسوقهم ولکنّها خلطها

کثیراً بالنسبة إلی الدراهم الجیدة ، والحکومة والسلطة فی الوقت تؤیدها وتعتبرها غالباً ، فهل یجوز المعاملة بهذه الدراهم أم لا ؟

الظاهر جواز البیع والمعاملة بهذه الدراهم ، والأخبار بذلک مستفیضة :

منها : صحیحة فضل أبی العباس قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الدراهم المحمول علیها ؟ فقال : إذا أنفقت ما یجوز بین أهل البلد فلا بأس ، وإن أنفقت ما لا یجوز بین أهل البلد فلا(1) .

ومنها : خبر حریز بن عبد اللّه قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فدخل علیه قوم من أهل سحبستان فسألوه عن الدراهم المحمول علیها ؟ فقال : لا بأس إذا کان جواز المصر(2) .

ومنها : خبر محمّد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام قال : جاءه رجلٌ من سجستان فقال له : إنّ عندنا دراهم یقال لها : « الشاهیة » ، تحمل علی الدرهم دانقین ، فقال : لا بأس به إذا کانت تجوز(3) .

ومنها : صحیحة محمّد بن مسلم قال : سألته عن الدراهم المحمول علیها ؟ فقال : لا بأس بإنفاقها(4) .

لا بأس بالاضمار فی هذه الصحیحة حیث مُضْمِرها محمّد بن مسلم .

ص:177


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 188 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 188 ح 10 .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 187 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 185 ح 1 .

ومنها : صحیحة اُخری لمحمّد بن مسلم قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : الرجل یعمل الدراهم یحمل علیها النحاس أو غیره ، ثم یبیعها ، قال : إذا بیّن ذلک فلا بأس(1) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أشتری الشیء بالدراهم فأعطی الناقص الحبة والحبتین ، قال : لا حتّی تبینه ، إلاّ أن یکون نحو هذه الدراهم الأوضاحیة التی تکون عندنا عدداً(2) .

والظاهر أنّ الدراهم الأوضاحیة کانت من الدراهم الرائجة فی ذلک العصر وکانت من

الدراهم المحمول علیها ولکن رواجها موجب لعدم التبین فی حقّها .

ومنها : غیرها من الروایات الواردة فی الباب العاشر من أبواب الصرف من وسائل الشیعة 18 / 185 ، والباب التاسع من أبواب بیع الصرف من جامع أحادیث الشیعة 23 / 229 .

بعد التأمل فی هذه الروایات ظهر جواز المعاملة بهذه الدراهم بأحد شرطین علی سبیل منع الخلو :

الأوّل : إذا کانت هذه الدراهم رائجة فی المصر ، بلا فرق بین أن تکون الحکومة والسلطة فی الوقت تعتبرها أم لا ؟ لعدم ذکر اعتبار الحکومة فی الروایات ، وإن کان الرواج من دون اعتبارها خارجاً مشکل . تدلّ علی هذا الشرط الروایات الثلاث الاُوَل .

الثانی : إذا بیّن للبائع بکیفیة الدراهم وأعلمه بذلک ، وقبل البایع فلا بأس به ، وتدلّ علی هذا الشرط الروایتان الأخیرتان .

وأمّا الإطلاق الوارد فی الصحیحة الاُولی لمحمّد بن مسلم(3) یقیّد بأحد هذین الشرطین المأخوذین من الروایات . وهکذا الأمر بالنسبة الی غیرها من الإطلاقات لو وُجدتْ .

ثم إنّ الظاهر من الجمع بین الروایات الواردة فی المقام هو ما ذهبنا إلیه من تقسیم هذه

ص:178


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 185 ح 2 .
2- (6) وسائل الشیعة 18 / 187 ح 7 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 185 ح 1 .

الدراهم إلی القسمین ، وأمّا ما ذهب إلیه المحقق الخوئی قدس سره من حمل الطائفة الأولی علی الکراهة(1) فخلاف الظاهر .

قیود المعاملة علی قسمین :

القیود التی وردت فی المعاملة - سواء ذکرت فی متن المعاملة بنحو التوصیف أو التقیید أو الإشتراط أو انصرفت المعاملة إلیها أو وقعت المعاملة مبنیّة علیها إذا تخلّف - فهی علی قسمین رئیسین :

القسم الأوّل : أن یعدّ القید عرفاً من مقومات الشیء ، کما إذا باعه علی أنّه فضة فبان رصاصاً ، أو علی أنّه عبد حبشیٌ فبان أنّها أمة مغربیة ونحو ذلک . وحیث أنّ القیود والعناوین

فی هذا الفرض من مقومات المبیع عرفاً فإذا تخلّف بطل البیع . وفی ما نحن فیه إذا وقعت المعاملة علی الدرهم من الفضة المسکوک بسکة فلان السلطان فبان أنّه رصاص أو أنّه غیر سکة السلطان الرائج فی البلاد ، حیث أنّ العنوان والقید من مقومات الشیء بطل العقد لما ذکرناه .

القسم الثانی : أن لا یعد القید عرفاً من مقومات الشیء بل من جهات الفضل والکمال ، کما إذا باع عبداً علی أنّه کاتب فبان أنه أمی أو إذا باع اللبن علی أنّه من الغنم فبان أنّه من البقر .

ففی هذا القسم صحت المعاملة ولکن یثبت للمشتری خیار العیب أو خیار تخلّف الوصف . وفی ما نحن فیه لو باع الدرهم علی أنّه سکة سنة کذا فبان أنّه سکة سنة اُخری - حیث أنّ القید والعنوان هنا لیس من مقومات الشیء بل من جهات الفضل والکمال - صحت المعاملة وثبت خیار تخلف الوصف .

هذا کلّه إذا کان المتعاملان جاهلین ، ونحوها إذا کان المشتری فقط جاهلاً ، وأمّا إذا کان البائع جاهلاً والمشتری عالماً ففی القسم الأوّل - یعنی تخلّف الذات - بطلت المعاملة ولکن مع تخلّف جهات الفضل والکمال صحت المعاملة ولا خیار للمشتری لعلمه بالنقص . نعم ، یثبت

ص:179


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 159 .

الخیار للبائع لجهله .

فرع :
اشارة

هل یجوز إعطاء الدراهم الفاسدة الخارجة من رواج المعاملة التی صنعت لأجل غش الناس وإغوائهم وتملّک أموالهم باطلاً - یعنی القسم الأوّل من الدراهم المغشوشة التی ذهبنا إلی لزوم کسرها وإفنائها حسماً لمادّة الفساد - هل یجوز إعطاؤها إلی الظالم لدفع ظلمه أو العشار أو الجمارک ونحوها أم لا ؟

الظاهر جواز ذلک لدفع ظلمهم وتعدیهم کما ذهب الیه صاحب الجواهر قدس سره (1) ، وأمّا أنّهم ینفقونها فی الناس ویجلبون بها أموال الناس ظلماً فلا یدفع الجواز ، لأنّ عملهم وفعلهم لا یردّ جواز فعل الآخر کما هو واضح . واللّه سبحانه هو العالم .

فرع آخر :

هل یجوز التزیّن بالدراهم المغشوشة وحفظها واقتنائها فی متاحف التزویر أم لا ؟ ثم علی القول بالجواز هل یجوز بیعها لذلک أم لا ؟

الظاهر جواز التزیّن بها وحفظها واقتنائها فی متاحف التزویر ، لعدم ترتب أیّ فساد حینئذ علیه کما ذهب إلیه بعض أساتذتنا - مدظله(2) - وهکذا یجوز بیعها لذلک .

وأمّا الأمر الوارد فی الروایات بکسرها وإفنائها فلیس إلاّ لجهة ترتب الفساد علیها ولیس أمراً تکلیفیاً محضاً ، ولذا یجوز فی صورة عدم ترتب الفساد حفظها واقتناؤها ، بل یجوز بیعها مع علم المشتری بکیفیتها وأنّه یقصد التزیّن بها أو حفظها فی معرضه أو متحفه ونحو ذلک . واللّه سبحانه هو العالم .

ص:180


1- (1) الجواهر 24 / 18 .
2- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 208 .

القسم الثانی

اشارة

ما یقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة ... فهنا مسائل ثلاث :

مسائل ثلاث:
المسألة الأولی

بیع العنب علی أن یُعمل خمراً والخشب علی أن یُعمل صنماً أو آلة لهو أو قمار ، وإجارة المساکن لیباع أو یحرز فیها الخمر ، وکذا إجارة السفن والحَمولة لحملها .

فقد استدل علی حرمة البیع أو الإجارة للمقاصد المذکورة بوجوه :

الأوّل : الإجماع ، ادعاه الشیخ فی الخلاف(1) وابن زهرة الحلبی فی الغنیة(2) والعلامة فی المنتهی(3) ، وقال النراقی بعد نقل الإجماع من المنتهی : « وهو الحجة فیه »(4) . وقال صاحب الجواهر : « لا خلاف أجدها فیها »(5) ، والشیخ الأعظم أیضاً ادعی عدم الخلاف فی المسألة(6) .

وفیه : إن الإجماع هنا - علی فرض تحققه - لیس إلاّ مدرکیّاً ، فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة والوجوه المذکورة فی المقام .

الثانی : أن هذه المعاملة بیعاً کانت أو إجارة إعانة علی الإثم ، فتحرم لذلک .

وفیه : أولاً : یأتی منّا معنی الإعانة علی الإثم وأحکامها فی ذیل المسألة الثالثة من هذا القسم إن شاء اللّه تعالی ، ومنعنا حرمة الإعانة علی الإثم مطلقاً .

ص:181


1- (1) الخلاف 3 / 508 .
2- (2) الغنیة / 285 والمطبوع فی الجوامع الفقهیة / 538 .
3- (3) المنتهی 2 / 1011 .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 95 .
5- (5) الجواهر 22 / 30 .
6- (6) المکاسب المحرمة / 16 (1 / 123 من الطبعة الحدیثة) .

وثانیاً : بفرض صدقها علی هذه المعاملة وحرمتها ، بینهما عموم من وجه ، والإعانة

علی الإثم لا تصدق إلاّ بالإقباض خارجاً مع العلم ، وهذا الإقباض ربّما یکون بغیر البیع ، فبین البیع والإعانة عموم من وجه ، فلا یمکن الإستدلال بها علی حرمة المعاملة مطلقاً .

وثالثاً : حرمة الإعانة علی الإثم - علی فرض ثبوتها - لیست إلاّ حرمة تکلیفیه وهی لا تدلّ علی بطلان المعاملة وضعاً .

إن قلت : ورود الحرمة فی المعاملات تقتضی فسادها .

قلت : نعم ، إذا کانت الحرمة تعلقت بنفس المعاملة ، ولکن فی المقام تعلقت بعنوان الإعانة ، فلا تدلّ علی فساد المعاملة .

ورابعاً : هذا الإشتراط فی المعاملة لیس إلاّ شرطاً فاسداً ، وفساد الشرط لا یسری إلی فساد العقد ، لأنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن حتّی یُحکم بفساد المعاملة بالنسبة إلیها .

الثالث : إن صحت هذه المعاملة کانت أکلاً للمال بالباطل ، المنهی عنه فی الآیة الشریفة .

وفیه : أولاً : إنّ الآیة الشریفة لیست بصدد شرائط العوضین کما مرّمنا مراراً .

وثانیاً : إنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن لیصدق من فسادها أکل المال بالباطل بل هی مجرد التزامات لا یترتب علی مخالفتها إلاّ الخیار .

الرابع : ما ذکره العلامة النراقی فی المستند ، وقال : « مع کونه بنفسه فعلاً محرَّماً لمّا بینا فی موضعه : أنّ فعل المباح بقصد التوصل به إلی الحرام محرّم »(1) .

وفیه : أولاً : أنّ « مقدمة الحرام حرامٌ » ، لیست عندنا تامّة ، ولازم ذلک کون فاعل الحرام مرتکب لمحرمات کثیرة بعدد مقدماته ، ولا یلتزم به أحد .

وثانیاً : حرمة مقدمة الحرام - علی فرض ثبوتها - إنّما هی فی المقدمات التی لا تنفک عن ذیها ، نحو المقدمة الأخیرة فی المقدمات الإعدادیة والمقدمات التولیدیة ، وأمّا غیرها من المقدمات لیست محرّمة ، وما نحن فیه لیس من هذا القبیل ، لتمکن المشتری من عدم الوفاء

ص:182


1- (1) مستند الشیعة 14 / 96 .

بالشرط خارجاً .

الخامس : أدلة النهی عن المنکر تشمل المقام ، بدعوی أنّ دفع المنکر کرفعه واجب ، بل یمکن أن یقال : أنّه أولی بالوجوب .

وفیه : أولاً : یمکن المناقشة فی وجوب دفع المنکر ، وإن کان رفعه مع شرائطه واجباً .

وثانیاً : علی فرض وجوب دفع المنکر ، یترتب النهی التکلیفی المحض علی المعاملة ، وهذا لا یقتضی فساد المعاملة وضعاً کما مرّ سابقاً فی الدلیل الثانی .

السادس : استدل بعض أساتذتنا - مدظله - علی بطلان المعاملة وحرمتها علی وجه تفرد به - أدام اللّه أیّامه - وقال : « ولو قلنا فی المسألة الآتیة - أعنی بیع الجاریة المغنیّة - بالحرمة والفساد بمقتضی الأخبار الواردة فیها کما یأتی فثبوتهما فی المقام اُولی ، حیث إنّ الجاریة المغنیّة تشمل علی المنافع المحلّلة أیضاً ولم یسقطها البائع ، فإذا فرض الحرمة والفساد فیها بسبب لحاظ غنائها ففی المقام الذی أسقط البائع جمیع المنافع المحلّلة وأسقط الشارع المنفعة المحرّمة یکون الحرمة والفساد أوضح ، إذ المبیع حینئذ یصیر فی قوة من لا منفعة له أصلاً ... »(1) .

وفیه : أولاً : نحن ذهبنا إلی جواز بیع الجاریة المغنیّة کما علیه عدّة من الأعلام ، ویأتی البحث حوله فیما بعد .

وثانیاً : القول بتعدّی حکم الحرمة والفساد من بیع الجاریة المغنیّة إلی البیع والإجارة فی مسألتنا هذه بنظرنا القاصر أشبه شیءٍ بالقیاس ، فلا یمکن الاستدلال به ، کما مرّ منّا نظیر هذا الإشکال فی کلام بعض الأعیان قدس سره فی الوجه الثامن من الوجوه التی أقیمت علی فساد بیع هیاکل العبادة المبتدعة ، فراجع ما حرّرناه هناک .

السابع : الإستدلال بالروایات الواردة فی المقام :

منها : صحیحة جابر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یؤاجر بیته فیباع فیه الخمر ؟ قال : حرام أجره(2) .

ص:183


1- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 254 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 174 ح 1 .

وأمّا سندها : الراوی الأخیر فی نقل الکافی(1) والاستبصار(2) والطبعة الحدیثة من مکاسب التهذیب(3) « جابر » ،ولکن فی الطبعة السابقة من مکاسب التهذیب(4) وفی المتاجر

من التهذیب فی کلتا الطبعتین(5)(6) « صابر » .

فعلی هذا الأقوی عندنا أنّه « جابر » ، والمراد به جابر بن یزید الجعفی ، وهو ثقة والمراد بعبد المؤمن ، الأنصاری أخو أبی مریم الأنصاری ، وکلاهما ثقتان ، ولذا صارت الروایة صحیحة الإسناد کما عبّرنا عنها بالصحیحة . ومن المحتمل أن « صابر » أیضاً فی بعض نسخ التهذیب کان مصحفاً لجابر .

وأمّا إن کان الراوی الأخیر « صابر » فلم یحرز وثاقته وصارت الروایة ضعیفة الإسناد به کما عبّر عنها بعض الأصحاب بالخبر ، نحو صاحبی المستند(7) والجواهر(8) والشیخ الأعظم(9) والنائینی(10) والإیروانی(11) والخوئی(12) والخمینی(13) والسبزواری(14) والتبریزی(15) وغیرهم قدس سرهم .

ص:184


1- (3) الکافی 5 / 227 ح 8 .
2- (4) الاستبصار 3 / 55 .
3- (5) التهذیب 6 / 371 ط . الحدیثة .
4- (6) التهذیب 2 / 111 ط . السابقة .
5- (1) التهذیب 7 / 134 ط . الحدیثة .
6- (2) التهذیب 2 / 154 ط . السابقة .
7- (3) مستند الشیعة 14 / 94 .
8- (4) الجواهر 22 / 30 .
9- (5) المکاسب المحرمة / 16 طبع تبریز (1 / 123 من الطبعة الحدیثة) .
10- (6) منیة الطالب 1 / 34 .
11- (7) حاشیة المکاسب 1 / 91 الطبعة الحدیثة .
12- (8) مصباح الفقاهة 1 / 165 .
13- (9) المکاسب المحرمة 1 / 122 .
14- (10) مهذب الأحکام 16 / 165 .
15- (11) إرشاد الطالب 1 / 80 .

وأمّا دلالتها : فعلی بطلان الإجارة واضحة ، لأنّ الظاهر من الحرمة فی المعاملات الحرمة الوضعیة ، وهی البطلان . وبعدم الفرق واتحاد الملاک بین الإجارة والبیع یعلم حکم البیع أیضاً .

ومنها : خبر عمرو بن حریث قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن التوت أبیعه یصنع للصلیب والصنم ؟ قال : لا(1) .

دلالة الروایة علی بطلان البیع واضحة ، ولکن فی السند ضعف .

ومنها : صحیحة عمر بن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه برابط ؟ فقال : لا بأس به .

وعن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه صلباناً ؟ قال : لا(2) .

والروایة - وإن کانت صحیحة الإسناد - ولکن حکم فیها بصحة البیع فی البربط وهی آلة لهو ، وببطلان البیع فی الصلیب وهو من هیاکل العبادة المبتدعة ، مع أنّ الملاک فیهما واحد وهو وقوع العقد علی استفادة الحرام من الشیء . فلا یمکن الإستدلال بهذه الصحیحة علی طرفی القول بالجواز والحرمة فی المسألة . وأعنی أن هذه الروایة بنفسها صارت من المتعارضین ولا یمکن الأخذ بها ، وهی نظیر ما مرّ منّا فی موثقة سماعة(3) الواردة فی بیع العذرة ، فراجع ما حرّرناه هناک .

أللهم إلاّ أنْ یقال : بأنَّ الأهمیة وشدّة الحرمة فی الصلیب وهیاکل العبادة المبتدعة صارت علّة الحرمة فی بیع الخشب ممّن یتخذه ، کما یأتی تفصیل ذلک فی المسألة الثالثة من هذا القسم إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .

ومنها : صحیحة اُخری لابن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن الرجل یؤاجر سفینته ودابّته ممّن یحمل فیها أو علیها الخمر والخنازیر ؟ قال : لا بأس(4) .

ص:185


1- (12) وسائل الشیعة 17 / 176 ح 2 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 176 ح 1 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 175 ح 2 .
4- (3) وسائل الشیعة 17 / 174 ح 2 .

دلالة الروایة علی صحة هذه الإجارة واضحة وسندها أیضاً صحیح .

فکیف یمکن الجمع بین هذه الصحیحة وصحیحة جابر أو خبره أو خبر صابر ؟ الظاهر واللّه سبحانه هو العالم حمل صحیحة جابر أو خبره أو خبر صابر علی صورة اشتراط الحرام أو التقیید به أو انصراف المعاملة إلی الحرام أو وقعت مبنیّة علی الحرام ، وحمل صحیحة ابن أذینة علی ما عدی ذلک ، نحو ما إذا اتفق الحمل خارجاً .

بتقریب رفع الید عن ظاهر کلّ منهما بنص الآخر أو بالأخذ بالقدر المتیقَّن فی کلّ منهما .

ویؤیّد هذا الجمع خبر دعائم الاسلام رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من اکتری دابةً أو سفینةً فحمل علیها المکتری خمراً أو خنازیراً أو ما یحرم ، لم یکن علی صاحب الدابة شیءٌ ، وإن تعاقدا علی حمل ذلک فالعقد فاسد والکراء علی ذلک حرام(4) .

وذهب إلی هذا الجمع جلّ أصحابنا المتقدمین وعدّة من أصحابنا المتأخرین قدس اللّه أسرارهم ، منهم : صاحبا الحدائق(1) والریاض(2) والشیخ الأعظم(3) والمحقق النائینی(4) والفقیه السبزواری(5) .

بنظرنا القاصر هذا هو الجمع الممکن بین روایات الباب ، وأمّا ما ذهب إلیه بعض الأساطین نحو السید الخوئی قدس سره من حمل روایة جابر علی الکراهة(6) فغیر تام .

ثم إن صاحب الجواهر قدس سره ذهب إلی ترجیح صحیحة ابن أذینة والجواز فی مسألتنا ، فقال بعد نقل الروایات المجوِّزة بنظره : « فلا إشکال فی دلالتها علی المطلوب کما لا إشکال فی قوّتها علی المعارض من وجوه ، خصوصاً بعد تأیدها بالسیرة علی المعاملة مع الملوک والاُمراء

ص:186


1- (1) مستدرک الوسائل 13 / 121 .
2- (2) الحدائق 18 / 206 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 145 .
4- (4) المکاسب المحرمة / 16 (1 / 124 من الطبعة الحدیثة) .
5- (5) منیة الطالب 1 / 34 .
6- (6) مهذب الأحکام 16 / 65 و 66 .

فیما یعملون صرفه فی تقویة الجند والعساکر المساعدین لهم علی الظلم والباطل وإجارة الدور والمساکن والمراکب لهم لذلک ، وبیع المطاعم والمشارب للکفار فی نهار شهر رمضان مع علمهم بأکلهم فیه وبیعهم بساتین العنب منهم مع العلم العادی بجعل بعضه خمراً ، وبیع القرطاس منهم مع العلم بأنّ منه ما یُتخذ کتب ضلال ... »(1) .

وأنت خبیر بأنّ هذه السیرة المدعاة من قبله قدس سره - وإن کانت صحیحة جاریة - ولکن کلامنا فی صورة اشتراط المعاملة علی الحرام أو التقیید بالحرام ونحو ذلک لا فی صورة علم البائع بأنّ المشتری یصرفه فی الحرام ، والأخیرة هی المسألة الثالثة الآتیة إن شاء اللّه ، والسیرة جاریة فیها لا فی مسألتنا . ونحن أیضاً نذهب إلی الجواز فی المسألة الثالثة ، ویأتی البحث عنها آنفاً إن شاء اللّه تعالی . والحمد للّه العالم بأحکامه وحلاله وحرامه .

ص:187


1- (7) مصباح الفقاهة 1 / 165 .
المسألة الثانیة : حکم بیع الجاریة المغنیّة
اشارة

نبحث عن المسألة فی مقامین :

المقام الأوّل : ما تقتضیه القواعد :

ذهب الشیخ الأعظم قدس سره إلی أنّ للبیع هنا صوراً ثلاث :

الاُولی : أنّ الصفات المحرّمة قد تکون داعیة إلی المعاملة بأزید من الثمن المتعارف ، وحیث أنّ تبعّض المعاملة وتقسیط الثمن بالنسبة إلی أصل العین ووصفها غیر متعارف ، تبطل المعاملة رأساً ، لأنّ تملک الثمن فی مقابل الوصف المذکور یدخل فی أکل المال بالباطل .

الثانیة : إذا اشتری العین التی لها الصفة الخاصة ولکن لا یقصدها المتعاملان بل یقصدان نفس العین ، مثلاً یشتریان الجاریة المغنّیة بما أنّها جاریة لا بما أنّها مغنیة ، فلا بأس بهذه المعاملة وهی صحیحة .

الثالثة : إذا اشتری العین مع وجود الصفة فیها ، ولکن لم یقصدا الحرام من تلک الصفة بل یقصدان حلالها ، نحو شراء الجاریة المغنّیة بوصف غنائها واشتراطها فی المعاملة ولکن یقصدان کسبها المحلّل فقط ، کالغناء فی الأعراس علی القول باستثنائها من حرمة الغناء . ففی هذه الصورة إذا کانت المنفعة المحلّلة المترتبة علی الوصف مقصودة للعقلاء ولم تکن نادرة فلا بأس بهذه المعاملة .

وأمّا إذا کانت المنفعة نادرةً ، فهل تلحق بالعین التی لها منفعة محرّمة غالباً ولها منفعة محلّلة نادرة بعدم جواز بیعها أم لا تلحق ؟

ذکر الشیخ الأعظم أنّ الأقوی عدم الإلحاق ، وحکم بصحة بیع الجاریة المغنّیة بلحاظ أنّ الغناء صفة کمال تصرف فی الحلال ولو نادراً ، وأنّ النصوص فی حرمة بیعها منصرفة عن هذه الصورة .

هذا کله تقریر وبسط وتوضیح لکلام الشیخ الأعظم قدس سره (1) .

ص:188


1- (1) المکاسب 1 / 128 و 127 .

قد مرّ منّا فی بحث الدراهم المغشوشة أنّ الأوصاف والقیود التی وردت فی المعاملة بأیّ نحو کانت ، تنقسم علی قسمین رئیسین :

القسم الأوّل : أن یعدّ القید عرفاً من مقومات الشیء ، کما إذا باعه علی أنّه فضة فبان

رصاصاً ، ففی هذه الصورة تکون المعاملة باطلة مع تخلف الوصف والقید .

القسم الثانی : أن لا یعدّ القید عرفاً من مقومات الشیء بل من جهات الفضل والکمال ، کما إذا باع عبداً علی أنّه کاتب فبان أنه أمی ، ففی هذه الصورة تکون المعاملة صحیحة ولکن للمشتری خیار تخلف الوصف .

وحیث أنّ وصف الغناء لیست من مقومات الجاریة بل هی من صفات الکمال عند أهلها ، فیقع تمام الثمن بإزاء نفس الجاریة ، لأنّها من الأموال عند العقلاء ، فحینئذ لا یقع فی مقابل صفة التغنی أیّ شیء من الثمن ، ولذا علی القاعدة الأوّلیة تشملها إطلاقات حلّیة البیوع ، فتکون المعاملة صحیحة .

هذا ما ذهب إلیه المحقق الخوئی(1) قدس سره وبعض أساتذتنا(2) - مدظله - فی المقام ویقولان : بأن الحکم بفساد بیع الجاریة المغنیة علی خلاف القواعد الأوّلیة فی المعاملات .

أقول : تقسیم الاُوصاف والقیود التی وردت فی المعاملة علی قسمین رئیسین کما مرّ منّا صحیح ، ولکن بنظرنا القاصر بیع الجاریة المغنیة لا یدخل فی القسم الثانی بل یدخل فی القسم الأوّل ، یعنی أهل الغناء واللهو یعتبرون هذه الصفة فی الجاریة التی یشترونها بمنزلة أحد مقوماتها ، بحیث لو لم تکن صفة الغناء فیها کأنّ لم یشتر شیئاً أبداً . ولذا ربّما یبذلون بإزائها أکثر من قیمة الجاریة بآلاف واُلوف .

وعلی هذا حیث کانت الصفة محرَّمة شرعاً یکون أخذ المال بإزائها من أکل المال بالباطل ، فتکون المعاملة علی حسب القواعد الأوّلیة باطلة کما ذهب إلیه الشیخ الأعظم(3)

قدس سره .

ص:189


1- (1) مصباح الاصول 1 / 167 .
2- (2) ارشاد الطالب 1 / 86 .
3- (3) المکاسب 1 / 127 .

ویؤید ما ذکرناه کلام بعض آخر من أساتذتنا - مدظله - فی المقام حیث یقول : « ... إنّ وصف الغناء فی الجاریة المغنّیة المعدّة له کان یعدّ رکناً فی المعاملة علیها عند العرف ، وکان وزانه وزان هیئات آلات اللهو والقمار التی تعدّ رکناً بحیث یستهلک فیها مادّتها وإن کانت لها قیمة . فکأنّ الجاریة المغنّیة نوع برأسها فی قبال ما یشتری للنکاح أو الخدمة ، وکان لها أهل خاص وسوق خاص ، وربّما لم یکن لها مع قطع النظر عن غنائها قیمة ولم یرغب فیها

أصلاً » (1) .

ولکن مع ذلک کلّه یظهر لنا عند التأمل بأنّ التغنی لیس من مقومات الجاریة بل یکون داعیاً للمشتری . ومن الظاهر أنّ الدواعی یمکن أن تکون مختلفات مع المقوّمات . وعلی هذا یقع بیع الجاریة المغنّیة علیها ، وصفة الغناء تکون داعیة فقط ، فلذا یصح ما ذکره الأعلام من صحة بیعها علی القواعد الأوّلیة .

هذا کلّه فی المقام الأوّل .

المقام الثانی : ما تقتضیه النصوص :

منها : صحیحة إبراهیم بن أبی البلاد قال : قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : جعلت فداک إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنیّات قیمتهنّ أربعة عشر ألف دینار ، قد جعل لک ثلثها ، فقال : لا حاجة لی فیها ، إنّ ثمن الکلب والمغنیة سحت(2) .

سند الروایة صحیح ودلالتها علی بطلان بیع المغنیة واضحة ، حیث قال علیه السلام : إنّ الثمن سحت .

ومنها : خبر آخر لإبراهیم بن أبی البلاد قال : أوصی إسحاق بن عمر بجوار له مغنّیات أن نبیعهن ویحمل ثمنهنّ إلی أبی الحسن علیه السلام . قال إبراهیم : فبعت الجواری بثلاثمائة ألف درهم وحملت الثمن إلیه ، فقلت له : إنّ مولی لک یقال له : إسحاق بن عمر أوصی عند وفاته ببیع جوار له مغنّیات وحمل الثمن إلیک وقد بعتهنّ وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم ، فقال :

ص:190


1- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 271 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 4 .

لا حاجة لی فیه ، إنّ هذا سحتٌ وتعلیمهنّ کفر والإستماع منهنّ نفاق وثمنهنّ سحت(1) .

دلالة الروایة علی بطلان بیعهنَّ واضحة ، ولکن فی السند إرسال .

ومنها : حسنة إسحاق بن یعقوب فی التوقیعات التی وردت علیه من محمّد بن عثمان العمری بخط صاحب الزمان علیه السلام : أمّا ما سألت عنه أرشدک اللّه وثبتک من أمر المنکرین لی - إلی أن قال - : وأمّا ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلاّ لما طاب وطهر وثمن المغنیة حرام(2) .

دلالة الحسنة علی بطلان بیع المغنیة واضحة .

ومنها : خبر الحسن بن علی الوشاء قال : سئل أبو الحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیة ؟ قال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه ، وما ثمنها إلاّ ثمن کلب سحت والسحت فی النار(3) .

دلالتها علی فساد بیعها واضحة ،ولکن فی سندها ضعف بسهل بن زیاد .

ومنها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله رجل عن بیع الجواری المغنیات ؟ فقال : شراؤهنَّ وبیعهنّ حرام وتعلیمهنّ کفر واستماعهنّ نفاق(4) .

دلالة الروایة واضحة ، ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : صحیحة معمّر بن خلاد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام أنّه قال : خرجت وأنا اُرید داود بن عیسی بن علی وکان ینزل بئرمیمون وعلیَّ ثوبان غلیظان ، فرأیت امرأة عجوزاً ومعها جاریتان ، فقلت : یا عجوز أتباع هاتان الجاریتان ؟ فقالت : نعم ولکن لا یشتریهما مثلک ، قلت : ولم ؟ قالت : لأنّ إحداهما مغنیّة والاُخری زامرة ، فدخلت علی داود بن عیسی فرفعنی وأجلسنی فی مجلسی ، فلمّا خرجت من عنده قال لأصحابه : تعلمون من هذا ؟ هذا علی بن موسی الذی یزعم أهل العراق أنّه مفروض الطاعة(5) .

ص:191


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 5 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 3 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 6 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 7 .
5- (3) الکافی 6 / 478 ح 4 ونقل صدرها فی وسائل الشیعة 17 / 304 ح 4 .

بتقریب : أن العجوز إمّا عرفت أنّ الإمام علیه السلام هو الإمام المعصوم المفترض طاعته ، وإمّا لم تعرف بل وجدت فی سیماه أثر العبادة والسجود وعرفت أنّه علیه السلام من الذین یذهبون فی طریق الشریعة ، وفی کلا الفرضین الحکم حتّی عند العجوز واضح من حرمة الغناء تکلیفاً ومن عدم جواز بیع الجاریة المغنّیة والجاریة الزامرة فی الشریعة وعند المتشرعة ، ولذا قالت : « لا یشتریهما مثلک » . وقررها الإمام علیه السلام فی حکمها . فالروایة تدل علی بطلان بیعها فی الشریعة المقدسة . مضافاً إلی دلالتها أیضاً علی ما ذکر بعض الأعلام من أنّ أهل العرف والغناء یأخذون صفة الغناء من مقومات الجاریة المغنّیة ، ولذا قالت فی جواب الإمام علیه السلام ولم ؟ لأنّ إحداهما مغنّیة والاُخری زامرة . وهذه الصحیحة مضافاً إلی دلالتها علی حرمة الغناء تکلیفاً وفساد بیع الجاریة المغنّیة ، یمکن أن یستفاد منها أنّ صفات التغنی والضرب بآلات اللهو والموسیقی وهکذا الرقص من مقومات الجاریة عند أهلها ، ولذا حکم بفساد هذه

المعاملة علی القاعدة الأولیّة الشیخ الأعظم قدس سره .

ومنها : خبر دعائم الاسلام رفعه عن جعفر بن محمّد علیه السلام أنّه قال : لا یحلّ بیع الغناء ولا شراؤه واستماعه نفاق وتعلّمه کفر(1) .

بتقریب : أن عدم حلّیة بیع الغناء یعنی فساد بیع المغنیّة لا أقل من شمولها له . ولکن فی السند إرسالٌ .

ومنها : خبر القطب الراوندی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا یحلّ بیع المغنّیات ولا شراؤهنّ وثمنهنّ حرام(2) .

دلالتها واضحة ، ولکن فی سندها إرسالٌ .

ومنها : خبر ابن أبی جمهور الأحسائی رفعه عن النبی علیه السلام أنّه نهی عن بیع المغنّیات وشرائهنَّ والتجارة فیهنَّ وأکل ثمنهنَّ(3) .

دلالته واضحة ، ولکن فی سنده ارسالٌ .

ص:192


1- (1) مستدرک الوسائل 13 / 92 ح 1 .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 92 ح 2 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 92 ح 4 .

وبالجملة ، ظاهر هذه الروایات - وفیها الصحیحة والحسنة - تدلّ علی بطلان بیع الجاریة المغنیّة . وقد یقال بوجود روایات تعارضها ، نحو :

خبر عبد اللّه بن الحسن الدینوری قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : جعلت فداک ما تقول فی النصرانیة أشتریها وأبیعها من النصرانی ؟ فقال : اشتر وبع ، قلت : فأنکحُ ؟ فسکت عن ذلک قلیلاً ، ثم نظر إلیَّ وقال شبه الإخفاء : هی لک حلال .

قال : قلت : جعلت فداک فأشتری المغنّیة أو الجاریة أن تغنی اُرید بها الرزق لا سوی ذلک ، قال : اشتر وبع(1) .

بتقریب : أنّ الإمام علیه السلام أجاز البیع إذا کان لطلب الرزق ، قال علیه السلام : اشتر وبع .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بالدینوری ولیس له إلاّ روایة واحدة وهی هذه .

وثانیاً : الظاهر أنّ مراد الإمام علیه السلام - علی فرض صدوره منه علیه السلام - بیع المغنّیة بصفة

أنّها جاریة لا أنّها موصوفة بصفة الغناء ، وهذا ظاهر سؤال السائل « أرید بها الرزق » ، یعنی الرزق الحلال ، وأجازه الإمام .

وکذلک حملها المحقق النائینی قدس سره حیث یقول : « وأمّا لو قصد نفس الموصوف دون الصفة [ یعنی صفة التغنی ] فلا إشکال فی الصحة ، لأنّه مال عرفاً وشرعاً ، لأنّ المبغوض هو إعمال الوصف فیما هو حرام شرعاً ، وأمّا ذات العبد والجاریة فلم یخرجا عن المالیّة ، ویدل علیه ما فی ذیل روایة الدینوری ... »(2) .

وثالثاً : ثمَّ لو تنزلنا علی فرض دلالة الروایة علی جواز بیع الجاریة المغنّیة مع دخالة وصفها فی الثمن ، تحمل الروایة علی التقیة . والشاهد علی ذلک موجود فیها ، وهو کلام الدینوری : « فسکت عن ذلک قلیلاً ثم نظر إلیَّ وقال شبه الإخفاء : هی لک حلال » .

ولو لم یکن مقام التقیة ، فلا وجه لهذا السکوت والنظر والمقال شبه الإخفاء ، فکلّ هذا

ص:193


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 1 .
2- (1) منیة الطالب 1 / 34 .

شاهد علی أنّ الإمام علیه السلام فی مقام التقیة لذا أجاز بیع الجاریة المغنّیة تقیةً .

رابعاً : علی فرض تمامیة الدلالة علی جواز بیعهنّ ، وقع التعارض بین هذه الروایة وغیرها من الروایات الماضیة ، والترجیح مع الروایات الماضیة لکثرتها وشهرتها وصحة أسناد بعضها .

وأمّا مرسلة الصدوق قال : سأل رجل علی بن الحسین علیه السلام عن شراء جاریة لها صوت ؟ فقال : ما علیک لو اشتریتها فذکّرتک الجنة - یعنی بقراءة القرآن والزهد والفضائل التی لیست بغناء ، فأمّا الغناء فمحظور(1) .

لا تدلّ هذه المرسلة علی جواز بیعهنّ ، لأنه أولاً : أنّها مرسلة لا یمکن الإستدلال بها .

وثانیاً : مورد السؤال لیست الجاریة المغنّیة بل السؤال عن الجاریة لها صوت ، وبینهما بون بعید ، فمورد المرسلة خارج عن محلِّ کلامنا .

وثالثاً : الظاهر أنَّ التفسیر الوارد فیها من کلام الصدوق قدس سره لا من الإمام علیه السلام .

ومع ذلک کلّه یمکن حمل الروایات الناهیة علی صورة قصد صفة التغنی فی الجاریة ، وحمل هاتین الروایتین علی صورة قصد الموصوف أی نفس الجاریة .

وعلی هذا یمکن الجمع بین الروایات ونتیجتها الحکم بصحة بیع الجواری المغنّیات إلاّ

أن یقصد من البیع الغناء . ویأتی منّا الکلام حول جواز بیعهنَّ فی بحث الغناء ، فانتظر .

حرمة کسب المغنّیة

یظهر من الروایات حرمة کسب المغنّیة وضعاً وتکلیفاً إلاّ التی تزفّ العرائس ، تدلّ علی هذا الحکم :

حسنة نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المغنّیة ملعونة ، ملعون من أکل کسبها(2) .

ظهور الحرمة من اللعن واضح ، والروایة تدل علی حرمة الغناء بفقرتها الاُولی أی

ص:194


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 4 .

« المغنیة الملعونة » ،وتدلّ علی حرمة اکتسابها أیضاً بفقرتها الثانیة ، وسندها لا بأس به .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن کسب المغنّیات ؟ فقال : التی یدخل علیها الرجال حرام ، والتی تدعی إلی الأعراس لیس به بأس ، وهو قول اللّه عزوجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(1)(2) .

وردت فی الروایة حرمة کسب المغنّیات التی یدخل علیها الرجال وعدّ من مصادیق الآیة الشریفة ، وورد فیها أیضاً حکم الاستثناء ، یعنی جواز کسبهنَّ فی الأعراس . ولکن فی السند ضعف بعلی بن أبی حمزة البطائنی .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أجر المغنّیة التی تزفّ العرائس لیس به بأس ، ولیست بالتی یدخل علیها الرجال(3) .

ومنها : خبر آخر لأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المغنّیة التی تزف العرائس لا بأس بکسبها(4) .

الروایة ضعیفة بالحکم لأنّه مجهول .

ویمکن اتحاد الروایتین الأخیرتین ، بل اتحادهما مع ما قبلهما من خبر أبی بصیر ، ونفس

وجود هذا الاستثناء یدلّ علی حرمة غیرها من کسب المغنّیات ، أو أنّ مفهومها یدلّ علی حرمة کسب المغنّیات .

ومنها : خبر دعائم الإسلام عن أبی جعفر محمد بن علی علیه السلام : أنّ رجلاً من شیعته أتاه فقال : یابن رسول اللّه وردت المدینة فنزلت علی رجل أعرفه ولا أعرفه بشیءٍ من اللهو ، فإذا جمیع الملاهی عنده ، وقد وقعت فی أمر ما وقعت فی مثله ، فقال له : أحسن جوار القوم حتّی تخرج من عندهم . فقال : یابن رسول اللّه فما تری فی هذا الشأن ؟ قال : أمّا القینة التی تتخذ لهذا

ص:195


1- (2) سورة لقمان / 6 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 120 ح 1 .
3- (4) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 3 .
4- (5) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 2 .

فحرام ، وأمّا ما کان فی العرس وأشباهه فلا بأس به(1) .

الظاهر من قوله علیه السلام « أحسن جوار القوم حتّی تخرج من عندهم » یعنی یلاحظ الرجل فی معاشرتهم الخُلق الحَسَنِ ، ولعله ناظر إلی أنهم لا یفیدهم النهی عن المنکر ، أو أنّهم لا یرون بعض الملاهی من المنکرات کما هو مذهب القوم فتویً أو عملاً .

وأمّا قوله علیه السلام : « أمّا القینة التی تتخذ لهذا فحرام » یعنی الأمة التی تغنی ، ویظهر هذا من استثنائه علیه السلام العرس . وأمّا ما ورد فی ذیل الروایة من قوله « وأشباهه » لم یرد فی غیرها ، فلا یمکن الأخذ به ، لا سیما مع الإرسال الموجود فی الروایة . وعدم إفتاء الأصحاب فی جواز التغنی فی أشباه العرس .

وبالجملة ، هذه الروایات مع ضمّ الروایات الواردة فی حرمة الغناء والروایات المذکورة سابقاً فی بطلان بیع المغنّیات تدلّ بوضوح علی حرمة کسب المغنّیات وضعاً وتکلیفاً ، وورد الإستثناء بالنسبة إلی کسب المغنّیة التی تغنی فی زف العرائس فقط .

قیّد بعض الفقهاء هذا الاستثناء باُمور ثلاثة : 1 - إذا لم تتکلم بالباطل 2 - ولم تلعب بالملاهی 3 - ولم یدخل علیها الرجال .

ولکن قال صاحب الجواهر قدس سره بعد هذه القیود المذکورة فی کلام البعض : « لکن فیه أنّ ذلک کلّه محرّمات خارجة عنه لا مدخلیة له فیها خصوصاً الأخیر ...»(2) وما ذکره قدس سره متین جداً .

فرع :

هل یجوز کسب المغنّی وغناؤه فی الأعراس فی مجالس الرجال إلحاقاً له بالمغنّیة أم لا ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - حرمة غنائه حتّی فی مجالس الأعراس وحرمة کسبه فیها تکلیفاً ووضعاً ، لأنّ الحکم فی المغنّیة علی خلاف القاعدة والأصل فیقتصر علی مورده الخاص ، ولا یمکن التعدی منها إلی المغنّی کما قال صاحب الجواهر قدس سره : « نعم ینبغی

ص:196


1- (1) دعائم الإسلام 2 / 205 ح 751 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 91 ح 2 .
2- (2) الجواهر 22 / 48 .

الإقتصار علی خصوص المغنّیة دون المغنّی وعلی العرس دون الختان ونحوه »(1) .

نقل مقال :

مع ذلک کلّه أنکر جدنا الشیخ الأکبر کاشف الغطاء قدس سره استثناء التغنی فی الأعراس من حرمته وادعی عدم جواز التخصیص فیه ، وقال فی ختام کلامه : « ... وقد ظهر ممّا مرّ أنّه لا ینبغی صدور الإستثناء من أهل النظر ، کیف لا ؟ وتحریم الغناء کتحریم الزنا ، أخباره متواترة وأدلته متکاثرة ، عُبّر عنه بقول الزور ولهو الحدیث فی القرآن ، ونادت الأخبار بأنّه المحرّک علی الفجور والعصیان ، فکان تحریمه من الاُمور العقلیة التی لا تقبل تقییداً ولا تخصیصاً بالکلیّة . وکیف یخطر بالبال أو یجری فی الخیال أن یقع مثل هذا الکلام من سادات الأنام ، الآمرین بترک الشبهات خوفاً من الوقوع فی المحرمات ؟ ! مع أنّه مؤذن بجواز ما فیه معظم اللهو عن ذکر المعاد ومدنٍ إلی الزنا واللواط اللذین هما رأس الفساد . علی أن فی ضعف دلالة تلک الأخبار ما یخرجها عن محلِّ الإعتبار وموافقتها للتقیة یرفع اعتبارها فی مقابلة ما مرّ بالکلیّة ، ولو کانت فی غایة الکثرة ما عادلت فکیف مع أنّها فی غایة الندرة ؟ ! ولو فُرِّق بین الحقِّ والباطل لرأیته من القسم الثانی بدیهة ، وربّما کان قبحه فی غیر الأعراس أقلّ منه فیها .

ثم إنّ القول بالتحریم هو المشهور علی الظاهر ، لأنّ کلّ من حرّم الغناء ولم یستثن فهو من المحرِّمین وحاله کحال المصرّحین ، وهم عدد کثیر من الفحول والأساطین ، لکنّه بعید عن طریقة المخالفین والمتصوّفین »(2) .

أقول : یأتی منّا تفصیل الکلام حول هذا الإستثناء فی مبحث الغناء إن شاء اللّه تعالی، فانتظر .

المسألة الثالثة : حکم بیع العنب ممن یعمله خمراً
اشارة

قد قسّم الشیخ الأعظم هذا الفرع إلی قسمین :

ص:197


1- (1) الجواهر 22 / 50 .
2- (2) شرح القواعد / 37 من طبع النجف الاشرف ، و1 / (201 - 199) من طبع قم المقدسة .
1 - القسم الأوّل :

بیع العنب ممّن یعمله خمراً أو الخشب بقصد أن یعمله صنماً أو صلیباً أو بربطاً ، یعنی قصد البائع المنفعة المحرّمة بنحو الداعی من دون أن یبذل بإزائه الثمن . وفی هذا القسم أیضاً ذهب الشیخ الأعظم إلی الحرمة وبطلان المعاملة وقال : « ... لأنّ فیه إعانة علی الإثم والعدوان ولا إشکال ولا خلاف فی ذلک»(1) .

واعترض علیه المحقق الخوئی قدس سره بوجوه أربعة :

أولاً : أنّ مفهوم الإعانة علی الإثم والعدوان - کمفهوم الإعانة علی البرّ والتقوی - أمر واقعی لا یتبدل بالقصد ، ولا یختلف بالوجوه والإعتبارات .

وثانیاً : لا دلیل علی حرمة الإعانة علی الإثم ما لم یکن التسبیب والتسبب فی البین .

وثالثاً : إنّا إذا سلّمنا حرمة البیع مع قصد الغایة المحرّمة لصدق الإعانة علی الإثم علیه ، فلابدّ من الإلتزام بحرمة البیع مع العلم بترتب الحرام أیضاً ، لصدق الإعانة علی الإثم علیه . وإن قلنا بالجواز فی الثانی من جهة الأخبار المجوِّزة فلابدّ من القول بالجواز فی الأوّل أیضاً ، لعدم اختصاص الجواز الذی دلّت علیه الأخبار بفرض عدم القصد .

ورابعاً : لم یتبین لنا الفرق بین القسمین ، فإن القصد بمعنی الإرادة والاختیار یستحیل أن یتعلق بالغایة المحرَّمة فی محل الکلام ، لأنّها من فعل المشتری ، ... فلا معنی لفرض تعلّق القصد بالغایة المحرّمة ، وأمّا القصد بمعنی العلم والإلتفات فهو مفروض الوجود فی القسمین ، فلا وجه للتفصیل بینهما ...»(2) .

أقول : ما ذکره قدس سره من الوجوه الأربعة تامة ، ولا فرق بین القسمین فی المقام .

2 - القسم الثانی :
اشارة

بیع العنب ممّن یعمله خمراً وبیع الخشب ممّن یعمله صنماً أو صلیباً أو بربطاً أو آلة لهو أو آلة قمار من دون قصد البائع ذلک . ذهب الشیخ الأعظم قدس سره فی هذا القسم إلی الجواز وقال : « ... فالأکثر علی عدم التحریم للأخبار المستفیضة ... »(3) .

أقول : حیث أنّ القسمین ، بنظرنا علی نمط واحد ولا فرق بینهما نبحث عنهما فی

ص:198


1- (1) المکاسب المحرمة / 16 (1 / 129 من الطبعة الحدیثة) .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 171 .
3- (3) المکاسب المحرمة / 16 (1 / 129 من الطبعة الحدیثة) .

مقامین :

1 - المقام الأوّل :
اشارة

حکم المسألة بحسب القواعد العامة وعمدتها الإعانة علی الإثم .

فلابد لنا أن نبحث عن هذه القاعدة العامة ، أعنی حرمة الإعانة علی الإثم ، ویقع الکلام فی هذه القاعدة فی اُمور :

الأوّل : حقیقة الإعانة ومفهومها :

الظاهر أنّ المراد من الإعانة ومفهومها العرفی هی : وقوع المعان علیه فی الخارج والعمل ، بلا فرق بین وجود قصد المعین الإعانة وعلمه أم لا ، وبلا فرق بین المقدمات القریبة والبعیدة ، وغیر ذلک من الأقوال فی مفهومها التی ربّما أنهاها البعض إلی ستة(1) .

والشاهد علی ذلک الاستعمالات العرفیة لها، نحو : کتبتُ باستعانة القلم ، أو أعاننی والدی فی تحصیل العلوم ، أو أعاننی الریح علی تحمّل حرارة الجوّ ، أو قوله صلی الله علیه و آله وسلم فی مرفوعة الراوندی : « من تبسّم علی وجه مُبتدعٍ فقد أعان علی هدم الإسلام »(2) ، إلی غیر ذلک من استعمالاتها . ودعوی کونها مجازات ، جزافیة لعدم القرینة علیها .

والإعانة من الاُمور الإضافیة ، أی تحتاج إلی وجود طرفی المعین والمعان فی الخارج ، وإلاّ لم یصدق عنوان الإعانة کما لا یخفی .

الثانی : حکم الإعانة علی الإثم

هل هی حرام أم لا ؟ الأصل الأوّلی یقتضی جوازها ، ولکن ذهب المشهور من فقهائنا إلی حرمتها ، واستدلوا علی ذلک بعدّة من الوجوه :

الأوّل : دعوی الإجماع علی حرمة الإعانة علی الإثم .

وفیه : أولاً : تحصیل الإجماع مشکل جداً ، نعم ذهب المشهور إلی الحرمة فی المقام .

ص:199


1- (1) راجع مصباح الفقاهة 1 / 176 .
2- (2) مستدرک الوسائل 12 / 322 ح 12 .

وثانیاً : علی فرض وجود الإجماع ، من المحتمل أن یکون مستند المجمعین إحدی الوجوه المذکورة ، فصار الإجماع مدرکیّاً ولم یکن تعبدیّاً ، فلا یفیدنا شیئاً .

الثانی : قوله تعالی «وَتَعَاوَنُواْ عَلَی الْبرِّ وَالتَّقْوَی وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَی الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(1) .

بتقریب : أنّ الآیة الشریفة تدلّ علی لزوم الإعانة علی البرّ والحسنات والخیر والتقوی ، وتنهی أیضاً عن الإعانة علی الإثم والمعصیة والذنب وعدوان العباد ، والنهی ظاهر فی الحرمة .

وفیه : التعاون غیر الإعانة ، التعاون عبارة عن اجتماع أشخاص لإیجاد أمر من المعصیة أو الطاعة کهدم مسجد أو بنائه ، ولذا ینسب الفعل إلی الجمیع لا إلی الشخص الواحد ، بخلاف الإعانة التی هی عبارة عن تهیئة مقدمات فعل الغیر مع استقلاله فی فعله ، کإعطاء الخشب لمن أراد أن یصنع آلة لهو أو قمار . فبین الإعانة والتعاون بون بعید ، والآیة الشریفة تدلّ علی حرمة التعاون علی الإثم والعدوان ، ولکن الإعانة غیر التعاون فلا تدلّ علی حرمة الإعانة .

الثالث : ترک الإعانة علی الإثم دفع للمنکر ، ودفع المنکر کرفعه واجب ، فترک الإعانة علی الإثم واجب ، فالإتیان بها حرام .

وفیه : أولاً : حرمة الإعانة علی الإثم إنّما تتم علی هذا الاستدلال إذا ذهبنا إلی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده العام ، ولم یذهب إلی هذا المبنی أحد من المحققین .

وثانیاً : النهی عن المنکر وان کان من الواجبات الشرعیة بل بها تقام الفرائض إلاّ أنّ الدلیل منحصر بوجوبه ، ولا یدلّ دلیل علی وجوب دفع المنکر ، وهو عبارة عن تعجیز فاعله عن الإتیان به .

نعم ، إذا کان المنکر من الأمور التی اهتمّ الشارع بترکها - کقتل النفوس ، وهتک الأعراض ، ونهب الأموال المحترمة - یجب دفعها ، یعنی علی کلِّ مسلم أن یمنع من إحداث هذه

ص:200


1- (1) سورة المائدة / 3 .

الاُمور ، بل لعلَّ دفعها عین رفعها ، إذ لا معنی لرفع القتل أو الهتک أو النهب إلاّ دفعها ، ولا یتحقق رفعها إلاّ بدفعها . ففی هذه الاُمور نذهب إلی وجوب دفع المنکر ، وأمّا فی غیرها فلیس لنا دلیل علی ذلک .

وأمّا ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره رداً علی هذا الوجه بقوله : « وفیه : أولاً : إنّ الإستدلال بدفع المنکر هنا إنّما یتجه إذا علم المعین بانحصار دفع الإثم بترکه الإعانة علیه ، وأمّا مع الجهل

بالحال أو العلم بوقوع الإثم بإعانة الغیر علیه فلا یتحقق مفهوم الدفع »(1) .

غیر تام ، لأنّ مع إتیان الغیر لا یتحقق مفهوم الدفع بالنسبة إلی الجمیع ولکن یتحقق الدفع بالنسبة إلی التارک وهو بنفسه لا یفعل الحرام ، وکلّ إنسان مسؤل عن فعل نفسه لا غیره . فمع ترکه الإعانة یتحقق مفهوم الدفع بالنسبة إلیه ، وهذا یکفی فی صحة الاستدلال ، فتأمل .

الرابع : الاستدلال بالروایات المستفیضة الواردة حول حرمة إعانة الظالمین وأعوانهم وتقویتهم وتعظیمهم ولو بمدّة قلم أو کتابة رقعة أو جبایة خراج ، فقد ورد فی خبر علی بن أبی حمزة البطائنی قال : کان لی صدیق من کتّاب بنی اُمیة ، فقال لی : إستأذن لی عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فأستاذنت له علیه فأذن له ، فلمّا أن دخل سلّم وجلس ، ثم قال : جعلت فداک إنّی کنت فی دیوان هؤلاء القوم فأصبت من دنیاهم مالاً کثیراً وأغمضت فی مطالبه ؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : لو لا أنّ بنی أمیة وجدوا من یکتب لهم ویحبی لهم الفیء ویقاتل عنهم ویشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا ، ولو ترکهم الناس وما فی أیدیهم ما وجدوا شیئاً إلاّ ما وقع فی أیدیهم ، الحدیث(2) .

وورد فی صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن أعمالهم ، فقال لی : یا أبا محمّد لا ولا مدّة قلم ، إنّ أحدهم لا یصیب من دنیاهم شیئاً إلاّ أصابوا من دینه مثله أو قال : حتّی یصیبوا من دینه مثله - الوهم من ابن أبی عمیر -(3) .

ص:201


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 181 .
2- (2) الکافی 5 / 106 ح 4 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 199 ح 1 .
3- (3) الکافی 5 / 106 ح 5 .

وهذه الروایات وأمثالها تدلّ علی حرمة إعانة الظالمین ، وبتنقیح المناط وعدم الفرق نذهب إلی حرمة الإعانة علی کلِّ إثم .

وفیه : الجواب عن هذا الاستدلال واضح ، نقول بحرمة إعانة الظالمین ولو بمدّة قلم ولکن لا یمکن التعدی إلی حرمة الإعانة علی کل إثمٍ ، ولا علم لنا بعدم الفرق بینهما ودون إثباته خرط القتاد ، وهذا الإستدلال أشبه شیءٍ بالقیاس بل هو بعینه .

وبالجملة ، لا دلیل علی حرمة الإعانة علی الإثم ، والأصل الأوّلی یقتضی جوازها ، فنذهب إلی جوازها خلافاً للمشهور وتبعاً لعدّة من المحققین منهم : السید الخوئی قدس سره (1) وشیخنا

الأستاذ - مدظله -(2) .

الثالث : حکم الإعانة علی الإثم هل تقبل التخصیص أم لا ؟

ذهب المحقق النائینی قدس سره إلی عدم جواز تخصیص حکمها وقال : « لا إشکال فی عدم إمکان تخصیصها بعد تحقق موضوعها ، لأنّ هذه من العناوین الغیر قابلة للتخصیص ، فإنّها کنفس المعصیة وکالظلم ، فإنّه کما لا یمکن أن یکون معصیةً خاصةً مباحةً فکذلک لا یمکن أن تکون الإعانة علی المعصیة مباحة ... »(3) .

والحق أنّها تقبل التخصیص ویکفی فی ردّ المحقق النائینی قدس سره ما ذکره تلمیذه المحقق الخوئی قدس سره فی المقام ، حیث قال : « ولکن الوجوه المتقدمة الدالة علی الجواز حجة علیه ، ومن هنا لو أکره الجائر أحداً علی الإعانة علی الإثم أو اضطر إلیها لا شبهة حینئذ فی جوازها ، ولو کانت حرمتها کحرمة الظلم لا تختلف بالوجوه والإعتبار ولا تقبل التخصیص والتقیید لمّا کانت جائزة فی صورتی الإکراه والاضطرار أیضاً »(4) .

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أنّ حکم الإعانة سواء کان الجواز أو الحرمة قابل

ص:202


1- (4) مصباح الفقاهة 1 / 180 .
2- (1) ارشاد الطالب 1 / 90 .
3- (2) منیة الطالب 1 / 36 .
4- (3) مصباح الفقاهة 1 / 185 .

للتخصیص والتقیید ولیس کالمعصیة والظلم وحکمهما ، ولذا ذهبنا إلی جوازها . ولکن یقیّد هذا الجواز بروایات حرمة إعانة الظالمین ، وهکذا المشهور یقیّدون حرمتها بالروایات المجوّزة الواردة فی مسألتنا هذه ، أعنی بیع العنب ممّن یرید أن یصنعه خمراً . هذا کلّه فی المقام الأوّل ، یعنی ما تقتضیه القواعد العامة فی المقام .

2 - المقام الثانی : حکم المسألة بحسب الروایات الواردة .

تدلّ عدة من الروایات علی جواز هذا البیع :

منها : صحیحة محمد الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن بیع عصیر العنب ممّن یجعله حراماً ؟ فقال : لا بأس به ، تبیعه حلالاً لیجعله حراماً ، فأبعده اللّه وأسحقه(4) .

ومنها : صحیحة عمر بن اُذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن رجل له کرم أبیع العنب والتمر ممّن یعلم أنّه یجعله خمراً أو مسکراً ؟ فقال : إنّما باعه حلالاً فی الأبان الذی یحلّ شربه أو أکله ، فلا بأس ببیعه(1) .

ومنها : صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام انّه سُئل عن بیع العصیر ممّن یصنعه خمراً ؟ فقال : بعه ممّن یطبخه أو یصنعه خلاًّ أحبّ إلیَّ ولا أری بالأوّل بأساً(2) .

ومنها : صحیحة رفاعة بن موسی قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر عن بیع العصیر ممّن یخمره ، قال : حلال ، ألسنا نبیع تمرنا ممّن یجعله شراباً خبیثاً(3) .

ومنها : صحیحة أبی المغرا قال : سأل یعقوب الأحمر أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا حاضر فقال : إنّه کان لی أخ وهلک وترک فی حجری یتیماً ولی أخ یلی ضیعة لنا وهو لنا وهو یبیع العصیر ممّن یصنعه خمراً ویؤاجر الأرض بالطعام - إلی أن قال : - فقال : أما بیع العصیر ممّن یصنعه خمراً فلا بأس ، خذ نصیب الیتیم منه(4) .

ص:203


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 230 ح 4 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 230 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 231 ح 9 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 231 ح 8 .

ومنها : خبر یزید بن خلیفة عن أبی عبد اللّه علیه السلام سأله رجل وأنا حاضر قال : إنّ لی الکرم ؟ قال : تبیعه عنباً ، قال : فإنّه یشتریه من یجعله خمراً ؟ قال : فبعه إذاً عصیراً ، قال : فإنّه یشتریه منّی عصیراً فیجعله خمراً فی قربتی ؟ قال : بعته حلالاً فجعله حراماً فأبعده اللّه ، ثم سکت هنیهة ثم قال : لا تذرن ثمنه علیه حتّی یصیر خمراً فتکون تأخذ ثمن الخمر(1) .

ومن هنا ظهر وجه الکراهة الواردة فی خبر یزید بن خلیفه والنهی عن بیع العصیر إلاّ بالنقد الواردة فی صحیحة أحمد بن أبی نصر الآتیان ، والوجه فی ذلک لئلا یؤخذ ثمن الخمر .

ومنها : خبر یزید بن خلیفة قال : کره أبو عبد اللّه علیه السلام بیع العصیر بتأخیر(2) .

ومنها : صحیحة أحمد بن محمّد بن أبی نصر قال : سألت أبا الحسن علیه السلام بیع العصیر

فیصیر خمراً قبل أن یقبض الثمن ؟ فقال : لو باع ثمرته ممّن یعلم أنّه یجعله حراماً لم یکن بذلک بأس ، فأمّا إذا کان عصیراً فلا یباع إلاّ بالنقد(3) .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن ثمن العصیر قبل أن یغلی لمن یبتاعه لیطبخه أو یجعله خمراً ؟ قال : إذا بعته قبل أن یکون خمراً وهو حلال فلا بأس(4) .

ومنها : خبر أبی کهمس قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام عن العصیر فقال : لی کرم وأنا أعصره کلّ سنة وأجعله فی الدنان وأبیعه قبل أن یغلی ، قال : لا بأس به وإن غلی فلایحلّ بیعه ، ثم قال : هو ذا نحن نبیع تمرنا ممّن نعلم أنّه یصنعه خمراً(5) .

ومنها : خبر دعائم الاسلام رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن بیع العنب والتمر والزبیب والعصیر ممّن یصنعه خمراً ، قال : لا بأس بذلک إذا باعه حلالاً ، فلیس علیه أن یجعله المشتری حراماً(6) .

ص:204


1- (5) وسائل الشیعة 17 / 231 ح 7 .
2- (6) وسائل الشیعة 17 / 231 ح 10 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 229 ح 1 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 229 ح 2 .
5- (3) وسائل الشیعة 17 / 230 ح 6 .
6- (4) مستدرک الوسائل 13 / 185 .

ومنها : حسنة محمّد بن إسماعیل قال : سأل الرضا علیه السلام رجل - وأنا أسمع - عن العصیر یبیعه من المجوس والیهود والنصاری والمسلمین قبل أن یختمر ویقبض ثمنه أو ینسأ ، قال : لا بأس إذا بعته حلالاً ، فهو أعلم ، یعنی : العصیر ، وینسئ ثمنه(1) .

سندها حسن بعلی بن السندی ، لأنّه لاأقل من حسنه ، « فهو أعلم » یعنی المشتری أعلم بما هو وظیفته ، قوله « یعنی » من کلام الراوی .

وبالجملة ، أنت تری أن جمیع الروایات تدلّ علی جواز بیع العنب ممّن یعمله خمراً .

وقد تخیّل وجود التعارض بین هذه الطائفة من الروایات الدالة علی الجواز وبین الروایتین الآتیتین :

إحداهما : صحیحة ابن أذینة قال : کتبت إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه برابط ؟ فقال : لا بأس به وعن رجل له خشب فباعه ممّن یتخذه صلباناً ؟ قال : لا(6) .

وثانیتها : خبر عمرو بن حریث قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن التوت أبیعه یصنع للصلیب والصنم ؟ قال : لا(2) .

ولکن نحن لا نری المعارضة هنا ، لأنّ الفقرة الاُولی من صحیحة ابن اُذینة تدلّ علی الجواز بوضوح ، حیث أجاز الإمام علیه السلام بیع الخشب ممّن یتخذه بربطاً ، وأمّا الفقرة الثانیة منها وخبر عمرو بن حریث فنأخذ بهما فی موردهما ، وهو بیع الخشب ممّن یتخذه ویصنع منه هیاکل العبادة المبتدعة ، نحو : الأُوثان والأصنام والصلبان ونذهب إلی عدم جواز هذا البیع ، لأنّ أمر التوحید مهمّ بل إنّه من أهم الأمور ، وهذه الأشیاء تعارض توحید اللّه سبحانه وتدعو الناس إلی الشرک و «إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا

ص:205


1- (5) وسائل الشیعة 25 / 380 ح 2 - الباب 38 من الأشربة المحرمة .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 176 ح 1 .

دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَی إِثْماً عَظِیماً»(1) و «إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاءُ وَمَن یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِیداً »(2) .

ولذا لا نحتاج إلی وجوه الجمع فی المقام التی أنهاها بعض أساتذتنا - مدظله - إلی ستة أوجه(3) .

واختار - مدظله - بعد نقلها ما اخترته فی المقام وقال : « والصناعة الفقهیة أیضاً تقتضی ، الجواز لاستفاضة أخبار الجواز وصحة کثیر منها وإفتاء الأکثر بها ، وخبر المنع ورد فی خصوص بیع الخشب ممّن یتخذه صلیباً أو صنماً . ویمکن التفصیل بین هیاکل العبادة وبین غیرها ممّا لیست فی حدِّها من الأهمیة والفساد ، وإلقاءِ الخصوصیة إنّما یصح مع العلم بعدمها ، ولا علم بذلک فی المقام مع قوّة المفسدة فی هیاکل العبادة »(4) .

وهکذا اختار مختارنا فی المقام المحقق الخوئی قدس سره (5) وشیخنا الأستاذ - مدظله - وقال : « المتیقَّن هذا الوجه »(6) ، وقال الشیخ الأعظم فی شأنه : « وهذا الجمع قول فصل لو لم یکن

قولاً بالفصل »(7) والحمد للّه علی کل حالٍ .

ص:206


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 176 ح 2 .
2- (3) سورة النساء / 48 .
3- (4) سورة النساء / 116 .
4- (5) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 293 .
5- (6) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 297 .
6- (7) مصباح الفقاهة 1 / 175 .
7- (1) المکاسب المحرمة / 17 (1 / 132 من الطبعة الحدیثة) .

القسم الثالث

اشارة

ما یحرم لتحریم ما یقصد منه شأناً بمعنی ، أنّ من شأنه أن یقصد منه الحرام ، وتحریم هذا مقصور علی النص ... کبیع السلاح من أعداء الدین ... .

بیع السلاح من أعداء الدین
الأقوال فی المسألة :

وقد ادعی الإجماع فی مسألتنا فی الجملة فی کلمات بعض فقهائنا ، منهم :

المحدث البحرانی قدس سره قال : « المشهور بین الأصحاب بل الظاهر أنّه لا خلاف فیه : تحریم بیع السلاح علی أعداء الدین »(1) .

وقال فی الریاض : « الثالث : ما یقصد به المساعدة علی المحرَّم کبیع السلاح مثل السیف والرمح لأعداء الدین مسلمین کانوا أم مشرکین إذا کان فی حال الحرب مع أهله إجماعاً ، وهو الحجة »(2) .

والنراقی قدس سره قال : « بیع السلاح لأعداء أهل الدین مسلمین کانوا أم مشرکین وحرمته فی الجملة إجماعیّة هو الحجة فیها »(3) .

وقال جدنا الفقیه الشیخ جعفر قدس سره : « بیع أولیاء الدین أو أعدائه السلاح ، وهو مطلق ما یتخذ للحرب ، ولو أرید خصوص الحدید کان مثالاً - وکذا مطلق نقله لأعداء الدین من إسلام أو مذهب ، أصل أو فرع ، قُصد به المساعدة أو لا ، مع قیام الحرب بین الظالمین والمظلومین وإن کانوا مسلمین ، مع احتمال انتفاعهم به فی تلک الحرب ، للإجماع وظاهر

ص:207


1- (1) الحدائق الناضرة 18 / 206 .
2- (2) ریاض المسائل 8 / 141 .
3- (3) مستند الشیعة 14 / 92 .

الأخبار ، ومع عدم قیام الحرب لا یحرم إلاّ مع القصد أو الشرط »(1) .

وادعی الشیخ الأعظم قدس سره : عدم الخلاف فیها(2) .

وقد أنهی الفقیه السید الیزدی قدس سره الأقوال فی مسألة بیع السلاح من أعداء الدین إلی ثمانیة ، فقال : « والمتحصل من ظواهر کلماتهم أقوال :

أحدها : وهو ظاهر المشهور اختصاص الحرمة بحال قیام الحرب .

الثانی : التحریم فی حال المباینة وعدم الصلح ، وهو مختار جماعة .

الثالث : التحریم فی حال الحرب أو التهیّؤ له ، وهو ظاهر المسالک(3) .

الرابع : التحریم مطلقاً ، وهو المحکی عن حواشی الشهید(4) بل عن الشیخین(5) والدیلمی(6) والحلبی(7) والتذکرة(8) ، وربّما یستظهر(9) من الشرائع أیضاً .

الخامس : التحریم مع قصد المساعدة فقط ، حکاه فی الجواهر(10) عن بعض ، ویمکن استظهاره من عبارة الشرائع .

السادس : التحریم مع أحد الأمرین من القصد إلی المساعدة أو قیام الحرب ، اختاره فی الجواهر(11) .

ص:208


1- (4) شرح القواعد / 22 طبع النجف و 1 / 157 طبع قم المقدسة .
2- (1) المکاسب المحرمة / 19 (1 / 147 من الطبعة الحدیثة) .
3- (2) المسالک 3 / 123 .
4- (3) حکاه عنه فی مفتاح الکرامة 12 / 116 عن حواشی الشهید علی القواعد .
5- (4) المقنعة / 588 والنهایة / 365 .
6- (5) المراسم / 170 .
7- (6) الکافی / 282 .
8- (7) تذکرة الفقهاء 12 / 184 ، ولکن فیه : « یحرم بیع السلاح من أعداء الدین فی وقت الحرب ولا بأس به فی الهدنة » .
9- (8) المستظهِرُ هو الفاضل الآبی تلمیذ صاحب الشرائع فی کشف الرموز 1 / 439 .
10- (9) الجواهر 22 / 29 .
11- (10) الجواهر 22 / 28 .

السابع : التحریم مع الأمرین من القصد وقیام الحرب ، حکاه فی الجواهر(1) .

الثامن : ما اختاره فی المستند(2) من إطلاق المنع بالنسبة إلی المشرکین والتفصیل بین

حال المباینة والصلح بالنسبة إلی المسلمین المعادین للدین ، وهو المحکی عن المهذب(3) ، بل مقتضی عبارته المحکیة فی المستند أنّ إطلاق المنع بالنسبة إلی الکفار إجماعیٌّ ، وإنّما الخلاف بالنسبة إلی المسلمین فی الإطلاق والتقیید ... »(4) .

ثم اختار قدس سره التحریم وقال : « الأقوی هو التحریم مع القصد مطلقاً . ومع عدمه فی غیر حال الصلح ، سواءً کان الحرب قائماً بالفعل أو کانوا متهیئین له أو لا ، فیکفی مطلق المباینة ... »(5) .

أقول : والعمدة هی ملاحظة الروایات الواردة فی المقام .

الروایات

الروایات الواردة فی مسألتنا علی طوائف ثلاث :
الطائفة الأولی : دالة علی حرمة بیع السلاح منهم مطلقاً :

منها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعلیِّ علیه السلام أنّه قال : یا علی کَفَر باللّه العظیم من هذه الأمة عشرة القتّات - إلی أن قال - : وبایع السلاح من أهل الحرب(6) .

والروایة وإن دلت علی الحرمة إلاّ أن فی سندها ضعف ، ویمکن المناقشة فی دلالتها أیضاً ، بأنّ الظاهر من أهل الحرب القائمین به والمحاربین فعلاً ، فالروایة تدلّ علی حرمة بیع السلاح منهم فی حال الحرب لا مطلقاً .

ص:209


1- (11) الجواهر 22 / 29 .
2- (12) مستند الشیعة 14 / 92 .
3- (1) المراد به المهذب البارع لابن فهد الحلی فراجع کتابه 2 / 350 .
4- (2) حاشیة المکاسب / 10 للفقیه السید الطباطبائی الیزدی قدس سره - (1 / 71 و 70 من الطبعة الحدیثة) .
5- (3) حاشیة المکاسب / 11 (1 / 71) .
6- (4) وسائل الشیعة 17 / 103 ح 7 .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن حمل المسلمین إلی المشرکین التجارة ، قال : إذا لم یحملوا سلاحاً فلا بأس(1) .

جوّز الإمام علیه السلام فیها التجارة معهم إذا لم تکن سلاحاً ، ومفهومها إذا حملوا السلاح ففی هذه التجارة بأس . فهذه الصحیحة تدلّ علی حرمة بیع السلاح منهم بنحو الموجبة الجزئیة ،

یعنی إذا حملوا السلاح فیه بأس ، ولو کان هذا البأس فی صورة قیام الحرب والمباینة .

وبالجملة ، الروایتان لا تدلاّن علی حرمة بیع السلاح منهم مطلقاً ، وعلی فرض دلالتهما علیه تدلاّن بنحو العموم ، وإذا وردت الروایات المفصلة وکانت بنحو الخصوص تقدّم علیهما بالصناعة الفقهیة ، فانتظر .

الطائفة الثانیة : ما قد یقال : إنّها تدلّ علی الجواز مطلقاً :

منها : خبر أبی القاسم الصیقل قال : کتبت إلیه أنّی رجل صیقل أشتری السیوف وأبیعها من السلطان أجائز لی بیعها ؟ فکتب علیه السلام : لا بأس به(2) .

السند ضعیف بأبی القاسم الصیقل ، لأنّه مجهول ، مضافاً إلی وجود الإضمار فی الروایة وعدم تعیّن أنّه کتب إلی الإمام علیه السلام أو إلی غیره . ثمّ إنّ الظاهر من السلطان الوارد فی الروایة سلاطین الجور من المسلمین الذین کانوا فی زمن الأئمة علیهم السلام ، کما اعترف بذلک المحقق الإیروانی قدس سره (3) وإثنان من أساتیذنا - مد ظلهما(4)(5) - فی المقام . فالروایة لا تدلّ علی جواز بیع السلاح من أعداء الدین مطلقاً .

ومنها : صحیحة محمد بن قیس قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الفئتین تلتقیان من أهل الباطل أبیعهما السلاح ؟ فقال : بعهما ما یکنهما الدرع والخفین ونحو هذا(6) .

ص:210


1- (5) وسائل الشیعة 17 / 103 ح 6 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 103 ح 5 .
3- (2) حاشیة المکاسب 1 / 107 .
4- (3) إرشاد الطالب 1 / 104 .
5- (4) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 392 .
6- (5) وسائل الشیعة 17 / 102 ح 3 .

الروایة صحیحة الإسناد ومورد السؤال عن بیع السلاح من أهل الباطل المقاتلین لغیرهم من أهل الباطل ، فالسلاح یُستفاد منه فی حرب الباطل علی الباطل ، ومع ذلک أجاز الإمام علیه السلام فی هذه الصحیحة بیع الأدوات الدفاعیّة فقط لهم نحو الدرع ، ولذا لابدّ من حملها علی کونهما محقونی الدم کأهل الذمة ، ولذا لاتدلّ الصحیحة علی الجواز مطلقاً فی مسألتنا هذه .

وبالجملة ، لیس فی الروایات ما یدلّ علی الجواز مطلقاً ، خلافاً لما ادعاه بعض .

الطائفة الثالثة : تدل علی التفصیل فی المقام :

منها : حسنة بل صحیحة أبی بکر الحضرمی قال : دخلنا علی أبی عبد اللّه علیه السلام فقال له حکم السراج : ما تقول فی من یحمل إلی الشام السروج وأداتها ؟ فقال : لا بأس ، أنتم الیوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، إنّکم فی هدنة ، فإذا کانت المباینة حرم علیکم أن تحملوا إلیهم السروج والسلاح(1) .

سند الروایة حسنة بعبد اللّه بن محمد الحضرمی بل صحیحة لأنّه ثقة علی الأقوی . وتدلّ علی جواز حمل السروج وأداتها والسلاح إلی أهل الشام وهم أعداء الدین فی فرض الهدنة ، یعنی السکون من الفتن بالصلح معهم . والشاهد علی ذلک استشهاد الإمام علیه السلام بقوله : « أنتم الیوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم » ،یعنی کما لا خلاف بین أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی زمن حیاته صلی الله علیه و آله وسلم وکان بینهم الصلح والهدنة ، الیوم أنتم وهم کذلک کما هو الظاهر . ولیس المراد بهذه الفقرة یعنی « الباقین علی صحبته ودینه بعد موته » کما استظهره المحدث البحرانی قدس سره (2) ، ولا المراد بها یعنی من " الأصحاب" النفر الیسیر الذین کانوا مع أمیر المؤمنین علیه السلام بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم » کما استظهره المحقق الإیروانی قدس سره (3) .

ویؤید ما ذکرناه کلام الفقیه الیزدی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب حیث یقول : « الظاهر أنّ المراد أنتم وأهل الشام بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حیث ، أنّهم مع کون

ص:211


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 101 ح 1 .
2- (2) الحدائق 18 / 207 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 107 .

بعضهم منافقاً ومع عداوة بعضهم لبعض فی الواقع ، کانوا فی الظاهر متوافقین ولم یکن بینهم نزاع ، فکذلک أنتم وأهل الشام ، فیکون المخاطب بأنتم مجموع الطرفین من أهل الحق وأهل الشام »(1) .

وبالجملة ، الروایة دالة علی جواز حمل السلاح إلی أعداء الدین فی صورة المصالحة والمداهنة .

ومنها : ما رواه المشایخ الثلاثة عن هند السرّاج قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام :

لحک اللّه إنّی کنت أحمل السلاح إلی أهل الشام فأبیعه منهم ، فلمّا عّرفنی اللّه هذا الأمر ضقت بذلک وقلت : لا أحمل إلی أعداء اللّه ، فقال لی : إحمل إلیهم ، فإنّ اللّه یدفع بهم عدوّنا وعدوّکم - یعنی :

الروم - وبعه ، فإذا کانت الحرب بیننا فلا تحملوا ، فمن حمل إلی عدونا سلاحاً یستعینون به علینا فهو مشرک(2) .

والروایة سنداً ضعیفة بأبی سارة وهند السرّاج ، لأنّهما مجهولان ، ولکنّها تدلّ بوضوح علی جواز حمل السلاح إلی أعداء الدین فی صورة مصالحتهم مع أهل الإیمان وعدم جوازه فی صورة قیام الحرب .

ومنها : خبر السراد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : إنّی أبیع السلاح ، قال : لا تبعه فی فتنة(3) .

ذکر فی الوسائل الراوی الأخیر بعنوان السرّاج فصارت الروایة ضعیفة الإسناد به لأنّه مجهول ، ولکن ورد فی الکافی(4) والتهذیب(5) السرّاد بدلاً من السرّاج ، والسرّاد إن أرید به الحسن بن محبوب کما هو لُقّب بالسرّاد والزرّاد وکلاهما بمعنی واحد یعنی صانع الزرد و السرد وهما بمعنی الدرع فهو ثقة وقال العلامة فی شأنه : « ثقة عین روی عن الرضا علیه السلام وکان

ص:212


1- (4) حاشیة المکاسب / 11 . (1 / 74 من الطبعة الحدیثة) .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 101 ح 2 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 102 ح 4 .
4- (3) الکافی 5 / 113 ح 4 .
5- (4) التهذیب 6 / 354 ح 128 .

جلیل القدر یعدّ فی الأرکان الأربعة »(1) فصارت الروایة صحیحة الإسناد ولکن لا یمکن له أن ینقل عن الإمام الصادق علیه السلام بلا واسطة ، لأنّه مات فی آخر سنة أربع وعشرین ومائتین وکان من أبناء خمس وسبعین سنة ، فکانت ولادته عام تسع وأربعین ومائة ، واستشهد شیخ الأئمة الإمام الصادق علیه السلام فی خمس وعشرین من شوال عام ثمان وأربعین ومائة وله خمس وستون سنة ودفن بالبقیع مع أبیه وجده وعمّه الحسن علیهم السلام کما ذکره الشیخ المفید فی الإرشاد(2) . وحینئذ ولد الحسن بن محبوب السراد بعد استشهاد الإمام الصادق علیه السلام بسنة ، فکیف یمکن أن ینقل عنه علیه السلام بلا واسطة ؟ ! . واعترف بذلک المحقق الخوئی قدس سره وقال : « ... لعدم ثبوت روایة الحسن بن محبوب وهو السرّاد عن أبی عبد اللّه علیه السلام »(3) .

ولذا نقل الشیخ فی الاستبصار(4) الروایة عن السرّاد عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، وبهذا السند - وإن صح نقل ابن محبوب - ولکن صارت الروایة مرسلة لعدم تعیین هذا الرجل .

وکیف ما کان نقل صاحب الوسائل الراوی الأخیر بعنوان السرّاج ولم یرد ذکره فی مصادر الحدیث التی بتناول أیدینا ، ولعلّه قدس سره صحف بین السرّاج والسرّاد ، وإن ورد ذکر سرّاج خادم أبی عبد اللّه علیه السلام فی کتب الحدیث(5) والرجال(6) .

ویخطر بالبال أنّ السرّاد المذکور فی السند غیر الحسن بن محبوب ، ولکن فی هذه العجالة لا یمکن تعیینه بشخصه .

وبالجملة ، إلی هنا لا یتمّ سند الروایة ، فصارت إمّا مرسلة بسند الشیخ فی الإستبصار أو ضعیفة لعدم تعیین وتوثیق هذا السرّاد فی المعاجم الرجالیة .

وتنبّه علی کلِّ ذلک المحدث البحرانی قدس سره حیث یقول : « وفی التهذیب رواه عن السرّاد

ص:213


1- (5) خلاصة الأقوال / 37 .
2- (6) الارشاد 2 / 180 .
3- (7) معجم رجال الحدیث 23 / 103 .
4- (1) الاستبصار 3 / 57 ح 1 .
5- (2) الکافی 2 / 42 ح 1 .
6- (3) معجم رجال الحدیث 23 / 102 .

عن رجل عنه وهو الظاهر ، حیث أنّ السرّاد المذکور إنّما یروی عن أبی عبد اللّه علیه السلام بالواسطة ، هذا إن حمل أنّه الحسن بن محبوب المشهور بهذا اللقب وإلاّ فلا ویکون الرجل مهملاً »(1) .

ومراده قدس سره من « التهذیب » الإستبصار ، لأنّ بعض مهرة فن الحدیث یعدّونه بعنوان تتمة التهذیب کما هو واضح عند أهله .

هذا کلّه فی سند الروایة .

وأمّا دلالتها : نهی علیه السلام عن بیع السلاح فی الفتنة ، ومن أظهر مصادیق الفتنة قیام الحرب والتهیؤ له ، فالروایة تدلّ علی حرمة بیع السلاح فی الحرب من أعداء الدین .

فهذه الطائفة من الروایات تدلّ علی جواز بیع السلاح من أعداء الدین فی صورة المصالحة والمداهنة معهم ، وحرمته فی صورة قیام الحرب أو التهیؤ له .

ولابدّ من الأخذ بها وتقدیمها علی الطائفة الاُولی الدالة علی الحرمة مطلقاً ، لأنّها خاصة فی قبال العام ، فتقدّم علی ما مرّ منّا فی ذیل الطائفة الأولی .

وأمّا الروایات الدالة علی الجواز مطلقاً قد ذکرنا أنّها لم توجد ، و علی فرض وجودها

تقیَّد بهذه الروایات المفصلة . وهذا هو الجمع العرفی بین الروایات ، وذهب إلیه المشهور من فقهائنا فأفتوا بجواز بیع السلاح منهم فی الصلح وحرمته فی الحرب .

ثمّ إنّ المشهور ذهبوا إلی جواز بیع السلاح من أعداء الدین مشرکین کانوا أم مسلمین فی صورة المصالحة والمداهنة وعدم الجواز فی صورة قیام الحرب أو التهیؤ له .

ولکن ظاهر صحیحة أبی بکر الحضرمی الماضیة جواز حمل السلاح إلی أعداء الدین من المسلمین فقط ، لأنّ مورد سؤال السائل حمل السروج وأداتها إلی أهل الشام وأهلها فی زمن الإمام الصادق علیه السلام کانوا من المسلمین ، وأجاب الإمام علیه السلام أیضاً بقوله : « فإذا کانت المباینة حرم علیکم أن تحملوا إلیهم (یعنی إلی أهل الشام) السروج والسلاح » . فهذه الصحیحة - وهی العمدة فی الروایات المفصِّلة - منحصرة بأعداء الدین من المسلمین فقط ولا تشمل المشرکین الکافرین .

ص:214


1- (4) الحدائق 18 / 207 .

وهکذا الأمر فی خبر هند السرّاج الماضی ، حیث سأل السائل عن حمل السلاح إلی أهل الشام فأجابه الإمام علیه السلام : « إحمل إلیهم » یعنی إلی أهل الشام وهم مسلمون ولکن کانوا من أعداء الدین یعنی أعداء المذهب الحق الإثنی عشری الإمامی .

فهاتان الروایتان المفصِّلتان منحصرتان بأعداء الدین من المسلمین فقط ولاتشملان المشرکین .

وأمّا خبر السرّاد الماضی - وإن یمکن استفادة العموم منه وشموله فی شأن المشرکین والمسلمین - إلاّ أنّ فی سنده إمّا إرسالٌ أو ضعف ، فلا یمکن الأخذ بإطلاقه أو شموله .

وعلی هذا یجوز بیع السلاح من أعداء الدین المسلمین المخالفین لمذهب الإمامیة فی حال المداهنة والمصالحة معهم ، ولا یجوز البیع منهم فی حال قیام الحرب أو التهیؤ له .

وأمّا بیع السلاح من أعداء الدین من المشرکین فبقی علی حرمته ولم یرو ترخیص فی شأنه ، سواء فی حال المصالحة والمداهنة لهم أو فی حال قیام الحرب والتهیؤ له . فهذا القول اختاره ابن فهد الحلی فی المهذب البارع(1) والنراقی فی المستند(2) .

وبالجملة ، بنظرنا القاصر صحیحة علی بن جعفر المذکورة تدلّ علی حرمة حمل السلاح إلی المشرکین مطلقاً ، فلابدّ من الأخذ بإطلاقها . وأمّا الروایات المجوِّزة منحصرة ببیع

السلاح من أعداء الدین المسلمین فقط ، ولذا نأخذ بها وتکون النتیجة حرمة حمل السلاح وبیعه إلی أعداء الدین المشرکین مطلقاً ، سواء فی حال قیام الحرب أو فی حال المصالحة والمداهنة وجواز حمل السلاح وبیعه إلی أعداء الدین من المسلمین فی حال المصالحة والمداهنة فقط وحرمة بیعه منهم فی حال قیام الحرب أو التهیؤ له .

هذا ما یخطر بالبال بعد التأمل التام فی الروایات الواردة فی المقام .

ثم إنّ هاهنا فروعاً وأموراً لابدّ من التنبیه علیها :

الأوّل : کلّ ما یوجب تقویة المشرکین وصار موجباً لشوکتهم بحیث یخاف منهم علی

ص:215


1- (1) المهذب البارع 2 / 350 .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 94 .

بیضة الإسلام والمذهب الحقّ حرام مطلقاً ، سواء فی ذلک المشرکین أو المخالفین . وهکذا لا فرق بین بیع السلاح أو الأدوات الدفاعیة بل حتی العلاقات التجاریة الموجبة لتقویتهم ، والدلیل علی ذلک لزوم المحافظة علی الإسلام والمذهب وحرمة تضعیفهما کما هو واضح لمن له أدنی إلمام بالفقه .

الثانی : حرمة بیع السلاح من قطاع الطریق .

بیع السلاح من قطاع الطریق سواء کانوا من المسلمین أو المشرکین بقی علی حرمته لأنّ الترخیص الوارد فی الروایات ثبت بالنسبة إلی أعداء الدین من المسلمین فی حال المصالحة والمداهنة فقط وهم غیر قطاع الطریق ، فبیع السلاح من قطاع الطریق بقی علی حرمته ، ولأنّ بیع السلاح منهم من أظهر مصادیق معونة الظالمین وإعانتهم ، وهی حرامٌ إجماعاً ، حتّی علی القول بعدم حرمة الإعانة علی الأثم کما هو المختار . لأنّ من أظهر مصادیق الظالمین هم قطاع الطریق ، وحرمة معونتهم وإعانتهم إجماعی عندنا . والعجب من المحقق الخوئی قدس سره حیث جعل هذه المسألة من صغریات الإعانة علی الإثم ویقول : « ... إن قلنا بحرمة الإعانة علی الإثم فلا یجوز بیعه منهم وإلاّ جاز کما هو الظاهر »(1) .

فعلی ما ذکرنا لا نحتاج إلی الحکم بالحرمة هنا إلی إحراز البایع استعمال المشتری ذلک السلاح فی الإعتداء علی الغیر فلا یجوز حینئذ ، ومع عدم الإحراز فلا بأس کما ذهب إلیه شیخنا الأستاذ - مد ظله -(2) ، لأنّ نفس تمکینهم من السلاح وبیعه لهم من أظهر مصادیق

إعانة الظالمین ، وهی حرام أجماعاً .

الثالث : هل النهی فی المقام یدلّ علی الفساد أم لا ؟

إذا تعلق النهی بأمر خارج عن البیع - نحو تقویة أعداء الدین وإعانتهم - فلا یدلّ علی فساد المعاملة ولا یفید إلاّ الحرمة التکلیفیة ، کما ذهب إلی هذا القول صاحب الحدائق(3)

ص:216


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 191 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 107 .
3- (1) الحدائق 18 / 210 .

والشیخ الأعظم(1) والسید الیزدی(2) والمحققون النائینی(3) والخوئی(4) قدس سرهم وشیخنا الأستاذ(5) - مد ظله - ، ولکن إذا قلنا بأنّ النهی تعلق بنفس المعاملة - کما تدلّ علیه الروایات الواردة فی المقام وقد مرّ ذکرها - صارت المعاملة فاسدة وأفادت الحرمة الوضعیة . وهذا هو المختار وذهب إلیه ثانی الشهیدین فی المسالک(6) والمحقق الأردبیلی فی شرح الإرشاد(7) وجدنا الفقیه الشیخ الأکبر کاشف الغطاء قدس سرهم فی شرح القواعد(8) .

ص: 217


1- (2) المکاسب المحرمة / 20 - (1 / 152 من الطبعة الحدیثة) .
2- (3) حاشیة المکاسب / 12 - (1 / 79 من الطبعة الحدیثة) .
3- (4) منیة الطالب 1 / 43 .
4- (5) مصباح الفقاهة 1 / 191 .
5- (6) إرشاد الطالب 1 / 106 .
6- (7) مسالک الأفهام 3 / 123 .
7- (8) مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الاذهان 8 / 46 .
8- (9) شرح القواعد 1 / 159 .

ص:218

النوع الثالث: ما لیس فیه منفعة محلّلة معتدّ بها

اشارة

ص:219

ص:220

تعرّض الشیخ الأعظم قدس سره فی هذا القسم إلی بطلان بیع ما لا منفعة فیه ، منفعة معتدّاً بها عند العقلاء ومحلّلة عند الشارع الأقدس .

واستدلوا علی بطلان بیع ما لا منفعة فیه بعدّة من الوجوه :

الأوّل : بیع ما لیس له نفع محلّل وأخذ الثمن فی قباله ، أکلٌ للمال بالباطل فیکون فاسداً وتدلّ علیه قوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ»(1) ، واستدل بهذا الدلیل فخر المحققین قدس سره فی إیضاح الفوائد(2) .

وفیه : أولاً : الآیة الشریفة - کما مرّ منا - فی مقام بیان الأسباب الصحیحة للمعاملة فی مقابل الأسباب الفاسدة لها فلا تکون فی مقام بیان شرائط العوضین .

وثانیاً : بعد التوافق علی المعاملة والرضا بها دخلت فی تجارة عن تراضٍ لا أکل المال بالباطل .

الثانی : الإجماع علی بطلان بیع ما لا منفعة فیه ، وادعاه جماعة من الفقهاء نحو : صاحبی الغنیة(3) والجواهر(4) .

وفیه : أولاً : أنّ المحصَّل منه غیر حاصل والمنقول منه لیس بحجة .

وثانیاً : من المحتمل بل المتعیّن أنّ استناد المجمعین إلی الوجوه المذکورة فی المسألة ، فلا یکون الإجماع إجماعاً تعبدیّاً بل صار إجماعاً مدرکیّاً ، فلیس بحجة .

الثالث : قالوا فی تعریف البیع أنه « مبادلة مال بمالٍ » کما عن المصباح المنیر(5) ، وما

ص:221


1- (1) سورة النساء / 29 .
2- (2) ایضاح الفوائد 1 / 401 .
3- (3) الغنیة / 213 من الطبعة الحدیثة ، والمطبوع ضمن الجوامع الفقهیة / 524 .
4- (4) جواهر الکلام 22 / 34 .
5- (5) المصباح المنیر / 69 .

لیس فیه المنفعة لم یعدّ مالاً فلا یصح بیعه .

وفیه : أولاً : قد کثر استعمال البیع والشراء فی غیر المبادلة المالیّة فی الکتاب المجید ،

نحو قوله تعالی : «إِنَّ اللّهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقّاً فِی التَّوْرَاةِ وَالإِنجِیلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَی بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بَایَعْتُم بِهِ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ»(1) .

وقوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ»(2) .

وقوله تعالی : «أُولَئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَی وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ»(3)

وقوله تعالی : «أُولَئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُاْ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا بِالآَخِرَةِ»(4)

وقوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(5) .

ومن الواضح أنّ « البیع والشراء یتلازمان» کما ذکره الراغب فی المفردات(6) ، وقال الفیروزآبادی فی القاموس : « أنّ کل من ترک شیئاً وتمسک بغیره فقد اشتراه»(7) .

وثانیاً : فما عن المصباح مضافاً إلی عدم حجیة قوله ، أنّه لیس تعریفاً حقیقیاً بل مجرد شرح اسم ، فلا یبحث فیه طرداً وعکساً ، نقضاً وإبراماً .

وثالثاً : علی فرض قبول تعریف المصباح لا یجری فی المقام أحکام البیع ولکن یمکن

ص:222


1- (1) سورة التوبة / 111 .
2- (2) سورة البقرة / 207 .
3- (3) سورة البقرة / 175 .
4- (4) سورة البقرة / 86 .
5- (5) سورة لقمان / 6 .
6- (6) معجم مفردات ألفاظ القرآن / 267 .
7- (7) قاموس اللغة / مادة شراء ، الطبعة الحجریة .

التمسک بإطلاقات «تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ»(1) و«أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(2) ونحوهما .

الرابع : معاملة ما لا نفع فیه من المعاملات السفهیة ، فتکون فاسدة لذلک .

وفیه : أولاً : منع الصغری : المعاملة إنّما تکون سفهیة إذا انتفعت عنها الأغراض الشخصیة والنوعیة کلتیهما ، ولکن فی هذه المعاملة ربّما تعلّق الغرض الشخصی بالمعاملة وإلاّ

لم یتعرض البائع لها ، ونفس وجود الغرض الشخصی یخرج المعاملة عن کونها سفهیة .

وثانیاً : منع الکبری : لم یدلّ دلیل علی بطلان المعاملات السفهیة بعد شمول العمومات والإطلاقات الواردة فی صحة البیع والتجارة والوفاء بالعقد ، نعم : قام الدلیل علی فساد المعاملة السفیه لکونه محجوراً عن التصرف ، ومن الواضح أنّ معاملة السفیه غیر المعاملة السفهیة .

الخامس : قد استدل الشیخ الأعظم قدس سره فی بطلان بیع ما لا منفعة فیه ببعض فقرات روایة تحف العقول الماضیة فی أوّل الکتاب .

وفیه : أولاً : أنّها روایة ضعیفة الإسناد بل مرسلة .

وثانیاً : لم یثبت عندنا کونها روایة کما مرّ منّا فی محلّها .

وثالثاً : دلالة الروایة علی البطلان فی مسألتنا هذه غیر تامة .

فإلی هنا لم نجد ما یدلّ علی بطلان بیع ما لا منفعة فیه کما ذهب إلیه المحقق الخوئی قدس سره (3) .

وربّما یؤید ما ذکرناه بما ورد فی صحة بیع الهرّ ، نحو صحیحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ثمن الکلب الذی لا یصید سحت ، ثمّ قال : ولا بأس بثمن الهرّ(4) .

وخبر دعائم الاسلام رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه رأی رجلاً یحمل هرّة ، فقال : ما

ص:223


1- (8) سورة النساء / 29 .
2- (9) سورة المائدة / 1 .
3- (1) مصباح الفقاهة 1 / (195 - 193) .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 119 ح 3 .

تصنع بها ؟ قال : أبیعها ، فنهاه ، قال : فلا حاجة لی بها ، قال : فتصدّق إذاً بثمنها(1) .

بتقریب : أنّ الهرّ فی ذلک الزمان کان من الأشیاء التی لیست لها منفعة معتداً بها ومع ذلک ورد الترخیص فی جواز بیعها ، وقال العلامة قدس سره فی التذکرة : « لا بأس ببیع الهرّ عند علمائنا ، وبه قال ابن عباس والحسن وابن سیرین والحکم وحماد والثوری ومالک والشافعی وإسحاق وأصحاب الرأی »(2) .

وهکذا یؤید ما ذکرناه ، ما مرّ منّا من جواز بیع القردة فی تتمة بحث بیع المسوخ(3) ، مع

أن القردة لا سیما فی ذاک الزمان لیست لها منفعة معتداً بها ومع ذلک جوّزنا بیعها .

ثم إنّ هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها :

الأوّل :

یجوز بیع السباع لوقوع التذکیة علیها وجواز الإنتفاع بجلودها فی غیر الصلاة ، وتدل علیه عدّة من الروایات :

منها : موثقة سماعة قال : سألته عن جلود السباع ، أینتفع بها ؟ فقال : إذا رمیت وسمّیت فانتفع بجلده وأمّا المیتة فلا(4) .

ومنها : موثقة اُخری لسماعة قال : سألته عن لحوم السباع وجلودها ؟ فقال : أمّا لحوم السباع فمن الطیر والدواب فإنّا نکرهه ، وأمّا الجلود فارکبوا علیها ولا تلبسوا منها شیئاً تصلون فیه(5) .

ومن الواضح دلالة الکراهة فی لسان الأئمة علیهم السلام علی الحرمة المصطلحة .

ومنها : موثقة ثالثة لسماعة قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن جلود السباع ؟ فقال :

ص:224


1- (3) دعائم الاسلام 2 / 20 ح 30 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 90 ح 3 .
2- (4) تذکرة الفقهاء 10 / 29 .
3- (5) راجع الصفحة 124 من هذا المجلد .
4- (1) وسائل الشیعة 24 / 185 ح 4 الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة .
5- (2) وسائل الشیعة 4 / 353 ح 3 - الباب 5 من أبواب لباس المصلی .

ارکبوها ولا تلبسوا شیئاً منها تصلّون فیه(1) .

وقد مرّ منّا جواز بیع السباع فی بحث بیع المسوخ ، فراجع ما حررناه هناک(2) إن شئت . فإذا کان الإنتفاع بجلودها جائزة فیجوز بیعها علی کلِّ من المبنیین من عدم جواز بیع ما لامنفعة فیه وجوازه کما هو الظاهر .

الثانی :

یجوز الإنتفاع بعظام الفیل وعاجه وبیعها وشراؤها .

مع أنّ الفیل من المسوخ والسباع ، وقد مرّ منّا جواز التمشط بعاج الفیل وبیعها فی بحث بیع المسوخ ، فراجع إن شئت ما حررناه هناک(3) .

الثالث :

یمکن أن یستند عدم المنفعة المعتدّ بها إلی اُمور :

الف : خسة الشیء : نحو کلّ ما ینفصل من الآدمی من شعر ومخاط ولعاب وظفر وغیره ، ومثّل بهذه الأشیاء الشیخ الطوسی فی المبسوط(4) . وحشرات الأرض من العقارب والحیات والخنافس والجعلان والضفادع والدیدان وکبعض أقسام الطیور من بُغاثها(5) والنسر(6) والغربان والرَّخَم(7) ، ومثّل بهذه المحقق الخوئی قدس سره فی المصباح(8) .

ب : قلّة الشیء : نحو جزءٍ یسیر من المال لا یبذل فی مقابله مال ، کحبّة من الحنطة أو

ص:225


1- (3) وسائل الشیعة 4 / 353 ح 4 - الباب 5 من أبواب لباس المصلی .
2- (4) راجع من هذا المجلد الصفحة 121 .
3- (5) راجع الصفحة 122 من هذا المجلد .
4- (1) المبسوط 2 / 167 .
5- (2) بغاث الطیر : شرارها وما لا یصید منها ، مفرده بغاثة کنعام ونعامة .
6- (3) النسر : بالفارسیة یقال له « باز» .
7- (4) الرَّخَم : جمع رَخَمَة ، طائر یأکل العذرة ، یُعد من الخبائث حرام أکله ، یشبه النسر فی الخلق لکنه یضعف عن الاصطیاد وإن عُدّ من السباع . هکذا قاله الشیخ الأکبر کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد 1 / 164 طبع قم المقدسة عام 1422 .
8- (5) مصباح الفقاهة 1 / 192 .

الشعیر وغیرهما . وهذه وإن کانت عند العرف والشرع من الأملاک إلاّ أن قلّتها تخرجها من المالیة .

ج : کثرة الشیء : نحو الماء فی البحر أو الشط ، والتراب فی بعض البلاد والرمل فی العالج .

د : عدم الحاجة إلی الشیء : نحو الثلج فی الشتاء .

ولعلّ الملاک الجامع فی الجمیع عدم الرغبة فی شرائه وبذل المال بإزائه ، کما قاله بعض أساتذتنا(1) - مد ظله - فی المقام .

الرابع :

قال المحقق الخوئی قدس سره : « لو حاز ما لا نفع له کالحشرات ثبت له الاختصاص به ، فیکون أولی به من غیره ، فلیس لأحد أن یزاحمه فی تصرفاته فیه للسیرة القطعیة . علی أنّ أخذ المحاز من المحیز قهراً علیه ظلم فهو حرام عقلاً وشرعاً . وأمّا حدیث : « من سبق إلی ما لم یسبق إلیه أحد من المسلمین فهو أحقّ به»(2) فقد تقدم أنّه ضعیف السند غیر منجبر

بشیءٍ »(3) .

أقول : نعم لو حاز ما لا منفعة فیه ثبت له حقّ الإختصاص بل الملکیة ولکن قد مرّ منّا الجواب عن إشکاله قدس سره بحدیث السبق فراجع ما حرّرناه فی بحث حقّ الإختصاص(4) .

الخامس :

هل فی غصب ما لا نفع فیه ضمانٌ أم لا ؟ ذهب إلی عدم الضمان مطلقاً العلاّمة فی التذکرة(5) وشیخنا الأستاذ(6) - مد ظله - وإلی الضمان فی المثلی وعدمه فی القیمی الشیخ

ص:226


1- (6) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 450 .
2- (7) مستدرک الوسائل 17 / 111 ح 4 .
3- (1) مصباح الفقاهة 1 / 197 .
4- (2) راجع الصفحة 155 من هذا المجلد .
5- (3) تذکرة الفقهاء 10 / 35 .
6- (4) ارشاد الطالب 1 / 110 .

الأعظم قدس سره (1) ، وإلی الضمان مطلقاً السید الیزدی قدس سره (2) والمحقق الخوئی قدس سره (3) والمحقق الأردکانی قدس سره (4) وبعض أساتذتنا(5) - مد ظله - .

والفرق بین مقالة القائلین بالضمان مطلقاً ، أنّ السید الخوئی قدس سره یری بقاء مشغولیّة ذمّة الغاصب إلی یوم القیامة فی القیمی ، إذ لا قیمة لهذا المال ، کما تبقی مشغولیة الذمة للمفلس أیضاً .

والشیخ الأردکانی یری ثبوت الضمان فی المثلی بمجرد الغصب وفی القیمی یتوقف علی غصب ما یصیر بضمه إلیه مالاً لیدخل فی موضوع دلیل الضمان ، فالفرق بینهما أنّ الضمان فی الأوّل غیر مترتب وفی الثانی مترتب ، ثم أمر قدس سره بالتأمل .

ولکن الأستاذ - مد ظله - یری إمکان إرضاء الغاصبُ المالک بإعطاء المال له لا بعنوان القیمة بل بقصد إرضائه .

والسید الیزدی قدس سره قال : « الحق الضمان مطلقاً بردّ المثل فی المثلی وما یکون بقدره من

شیء آخر فی القیمی وإن کان قلیلاً لا یقابل بالمال ، فإنّ العوض لابدّ وأن یکون بقدر المعوّض وصالحاً للعوضیّة لا أن یکون مالاً فتدبر »(6) .

أقول : الظاهر ثبوت الضمان مطلقاً یعنی فی المثلی والقیمی ، والدلیل علی ذلک : السیرة القطعیة من العقلاء والمتشرعة علی الضمان ، وهذه السیرة المستمرة القطعیة من زماننا هذا إلی زمن المعصومین علیهم السلام جاریة ، وهی حجة فی المقام ، فلابدّ من الأخذ بها ، وهی مطلقة تشمل ضمان ما لا نفع فیه قیمیاً کان أو مثلیاً . ویؤیدها :

أولاً : قاعدة الإتلاف ، بأنّ « من أتلف مال الغیر فهو له ضامن » .

ص:227


1- (5) المکاسب المحرمة / 21 - (1 / 161 من الطبعة الحدیثة) .
2- (6) حاشیة المکاسب / 15 - (1 / 90 من الطبعة الحدیثة) .
3- (7) مصباح الفقاهة 1 / 196 .
4- (8) غنیة الطالب 1 / 105 .
5- (9) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 453 .
6- (1) حاشیة المکاسب / 15 - (1 / 90 من الطبعة الحدیثة) .

بتقریب : أن الإتلاف یوجب الضمان سواءً فی ذلک بین المال والملک ، والتعبیر بالمال لأنّه أظهر مصادیقه وکان شائعاً ، وإلاّ لا فرق بین المال والملک فی أن إتلافهما موجب للضمان .

وثانیاً : قاعدة ضمان الید ، بأنّ « علی الید ما أخذت حتّی تؤدّی » .

بتقریب : أن « ما أخذت » أعمٌ من المال أو الملک ، فیشمل المقام ، فلو أخذ شخص ملک الغیر ولو لم یکن مالاً کان علیه الضمان .

وأنت تری بأنّ السیرة جاریة فی المقام ، یعنی حتّی فی ضمان ما إذا لم یکن الشیء لقلّته مالاً ولو مع عدم الإنضمام إلی سائر أجزائه ، خلافاً لما ذکره شیخنا الأستاذ - مد ظله - .

وبأنّ الدلیل یشمل القیمی کما یشمل المثلی ، فلا فرق بینهما ، فلا یتم ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره .

وهکذا لا یتوقف ثبوت الضمان فی القیمی علی غصب ما یصیر بضمّه إلیه مالاً لیکون الضمان فیه مترتباً ، فلا یتم ما ذکره المحقق الأردکانی قدس سره .

ویمکن أن یخرج الغاصب من مشغولیّة ذمّته فی القیمی بالنسبة إلی المالک بإرضائه بمال أو الإستحلال منه ، فلا یتمّ ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره من بقاء مشغولیّة ذمّته للمالک إلی یوم القیامة .

وبالجملة ، نحن نلتزم بأنّ الضمان من أحکام الملک ولیس من أحکام المال فقط ، بل یجری فی المال أیضاً ، لأنّه کان ملکاً غالباً ، واللّه سبحانه هو العالم والحمد له .

ص: 228

النوع الرابع: الاکتساب بما هو حرام فی نفسه

اشارة

ص:229

ص:230

اشارة

قال الشیخ الأعظم قدس سره : « النوع الرابع ما یحرم الاکتساب به لکونه عملاً محرّماً فی نفسه ، وهذا النوع وإن کان أفراده هی جمیع الأعمال المحرَّمة القابلة لمقابلة المال بها فی الإجارة والجُعالة وغیرهما ، إلاّ أنّه جرت عادة الأصحاب بذکر کثیر ممّا من شأنه الإکتساب به من المحرّمات ، بل وغیر ذلک ممّا لم یتعارف الاکتساب به کالغیبة والکذب ونحوهما . وکیف ما کان فنقتفی آثارهم بذکر أکثرها فی مسائل مرتبة بترتیب حروف أوائل عنواناتها إن شاء اللّه »(1) .

أقول : قبل الورود فی العناوین المطروحة لابدّ لنا أنْ نتکلم فی الاکتساب بالمحرّمات وهل هو حرام وضعی بمعنی بطلانه أم لا ؟ فهاهنا بحثان :

الأوّل : حرمة نفس هذه الاعمال والعناوین المطروحة ، بمعنی الحرمة التکلیفیة نبحث عنها فی ذیلها .

الثانی : حرمة الاکتساب بالمحرمات بمعنی الحرمة الوضعیة یعنی بطلانها .

الشیخ الأعظم قدس سره ترک هذا البحث الأخیر ، ولعلّه کان عنده بمکان من الوضوح . ولکن لابدّ لنا من البحث حوله فنقول :

قد استدلوا علی بطلان المعاملة علی المحرّمات بوجوه :

1 - منها : إنّ العمل المحرَّم لیس مالاً فی نظر الشارع ، ولهذا لو منع شخص عن تغنی جاریة مغنّیة لا یکون ضامناً بالنسبة إلی المنفعة المحرّمة بلا إشکال وإن کانت أجیرة لذلک ، وما لا یکون مالاً فی محیط الشرع لا تکون المعاملة علیه معاملة . وإن شئت قلت : إنّ سلب المالیة عن شیءٍ شرعاً وإسقاطها دلیل علی ردع المعاملة به . ذکره المحقق الخمینی قدس سره فی کتابه(2) .

ص:231


1- (1) المکاسب / 21 - (1 / 164 و 163 من الطبعة الحدیثة) .
2- (2) المکاسب المحرمة 1 / 167 .

وفیه : إنّ هذا الاستدلال تام علی المشهور ، ولکن بناءً علی مختارنا من عدم لزوم المالیة فی البیع وصحته ، لا یتمّ کبری هذا الإستدلال . یعنی سلب المالیة عن المحرّمات الشرعیة فی نظر الشارع تام ولکن البیع لا یلزم فی صحته مالیة المبیع کما مرّ منّا فی النوع

الثالث ، فلا یتمّ هذا الاستدلال علی القول المختار .

2 - ومنها : ما ذکره قدس سره أیضاً : أنّ مقتضی ذات المعاملة لدی العقلاء إمکان التسلیم والتسلم ، ومع منع الشارع عن تسلیم المنفعة المحرّمة وتسلّمها ، لا یعقل أن تکون المعاملة نافذة عند الشارع ، فمنع التسلیم والتسلّم دلیل علی الردع عن المعاملة ، فتقع باطلة(1) .

أقول : هذا الاستدلال علی بطلان المعاملة علی المحرّمات تام ، لأنّ مع عدم إمکان التسلیم والتسلّم کانت المعاملة باطلة شرعاً وعقلائیاً ، وحیث لا یمکن تسلیمها فی المحرّمات شرعاً ، فالمعاملة باطلة .

3 - ومنها : ما ذکره قدس سره أیضاً بقوله : « إنّ الآیة الکریمة أعنی «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ»(2) وإن کان الموضوع فیها البطلان العرفی والعقلائی لا الشرعی ، لکن بتحکیم ما دلّ علی نفی المالیة أو نفی تسلیم المنفعة ینسلک فی مفاد الآیة ، فإنّ أخذ مال الغیر بلا انتقال منفعة إلیه أکل المال بالباطل ، ویؤیده النبوی وروایة التحف »(3) .

وفیه : قد مرّ منّا مراراً فی هذا الکتاب أنّ الآیة الشریفة لیست فی مقام بیان شرائط العوضین حتی یتم هذا الاستدلال ، بل الآیة الشریفة فی مقام بیان عدم جواز أکل المال بالأسباب الباطلة ، نحو الرشوة والقمار ومثلهما ، فلا یتمّ هذا الاستدلال .

وکذا لا یتم التأیید ، لأنّ النبوی : « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه » وروایة التحف قد مرّ منّا الإشکال فی سندهما ودلالتهما فی أوائل الکتاب ، فراجع ما حرّرناه هناک .

4 - ومنها : ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره من : « أنّه یکفی فی عدم جواز المعاملة علی الأعمال المحرّمة مادلّ علی حرمتها من الأدلة الأوّلیة ، إذ مقتضی أدلة صحة العقود لزوم الوفاء

ص:232


1- (1) المکاسب المحرمة 1 / 167 .
2- (2) سورة النساء / 29 .
3- (3) المکاسب المحرمة 1 / 168 .

بها ، ومقتضی أدلة المحرّمات حرمة الإتیان بها ، وهما لا یجتمعان »(1) .

أقول : وهذا الاستدلال أیضاً تام .

5 - ومنها : ما ذکره الفقیه الیزدی قدس سره فی تعلیقته علی المکاسب : « عدم جواز أخذ الأجرة علی العمل المحرّم لقوله صلی الله علیه و آله وسلم : « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه » فإنّ المراد من الثمن

مطلق العوض »(2) .

وقد اعترض علیه المحقق الخوئی بعد المناقشة فی سند الحدیث بقوله : « إنّا نمنع صدق الثمن علی مطلق العوض »(3) .

أقول : قد مرّ منّا المناقشة فی سند الحدیث ودلالته فی أوائل الکتاب ، وهکذا یصح منع الثمن علی مطلق العوض ، ولکن الظاهر أنّ مراد الفقیه الیزدی قدس سره إلقاء الخصوصیة وتنقیح المناط القطعی وإسراء حکم البیع إلی غیره من المعاملات ، کما یساعد علی ذلک الإعتبار العقلی وفهم العقلاء ، کما نبّه علیه بعض أساتذتنا - مد ظله -(4) فی المقام .

وهذا البیان وإن کان رافعاً الإشکال المحقق الخوئی علی السید الیزدی قدس سرهم ولکن قد مرّ منّا ضعف سند الحدیث ودلالته ، فلا یفید فی المقام شیئاً .

ثم بعد ثبوت بطلان المعاملات علی المحرّمات والحرمة الوضعیة بالنسبة إلی الاکتساب بها ، لابدّ من البحث عن المحرّمات بترتیب حروف الهجاء ، والشیخ الأعظم قدس سره ابتدأ بتدلیس الماشطة وإن تعرض لبحث الإحتکار فی آخر بحث بیعه(5) ولکن الظاهر تقدیم البحث حول الإحتکار ، ولذا نقول :

ص: 233


1- (4) مصباح الفقاهة 1 / 197 .
2- (1) حاشیة المکاسب / 15 - (1 / 92 من الطبعة الحدیثة) .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 198 .
4- (3) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 461 .
5- (4) المکاسب / 213 و 212 . [ 4 / (374 - 363) من الطبعة الحدیثة ] .

الاحتکار

اشارة

وفیه جهات من البحث :

الجهة الأولی : الاحتکار فی اللغة

« الحُکر : إدّخار الطعام للتربص ، وصاحبه محتکر » کذا فی لسان العرب(1) .

وفی النهایة الأثیریة فیه : « من احتکر طعاماً فهو کذا» أی اشتراه وحبسه لیقلّ فیغلو(2) .

وفی الصحاح : « احتکار الطعام : جمعه وحبسه یتربّص به الغلاء ، وهو الحُکرة بالضمِّ »(3) .

والظاهر : أنّ للغة « الإحتکار » معنی عام یشمل الجمع والحبس لکلِّ شیءٍ ممّا یحتاج الناس إلیه لیغلو ثمنه ، فلا یختص لغةً بشیءٍ دون شیءٍ .

الجهة الثانیة : الأقوال فی الاحتکار

قال العلاّمة فی التذکرة : « فی الإحتکار قولان لعلمائنا : التحریم وهو أصح قولی الشافعی لما رواه العامة عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : « لا یحتکر إلاّ خاطیء» أی آثم و ... ، والکراهة ، للأصل »(4) .

وقال أیضاً فی المختلف : « اختلف علماؤنا فی الاحتکار هل هو محرّم أو مکروه ، قال الصدوق فی مقنعه أنّه حرام وبه قال ابن البراج ، والظاهر من کلام ابن إدریس ، وقال الشیخ فی

ص:234


1- (1) لسان العرب 4 / 208 .
2- (2) النهایة 1 / 417 .
3- (3) الصحاح 2 / 635 .
4- (4) تذکرة الفقهاء 12 / 165 .

المبسوط والمفید أنّه مکروه ، وبه قال أبو الصلاح فی المکاسب من الکافی . وقال فی فصل البیع

أنّه حرام . والأقرب : الکراهة ، لنا الأصل عدم التحریم وما رواه ... »(1) .

وقال الشهید معلِّقاً علی کلام العلامة الحلی فی إرشاد الأذهان حیث یقول : « والاحتکار علی رأی » ، « أقول : هذا عطف علی المکروه ، وهو مذهب المفید(2) رحمهم الله والشیخ فی المبسوط(3) وأبی الصلاح فی المکاسب(4) ، لأصالة العدم ولتسلیط الإنسان علی ماله ، ویؤیده روایة الحلبی(5) فی الحسن عن الصادق علیه السلام ... ، وقال الصدوق(6) وابن البراج(7) وأبو الصلاح فی فصل البیع(8) : هو حرام ، وهو ظاهر کلام ابن إدریس(9) ، لما رواه إسماعیل ابن أبی زیاد(10) فی الصحیح عن الصادق علیه السلام ... ولأنّه یجبر علی البیع ... »(11) .

وقال السید العاملی فی مفتاح الکرامة : « والاحتکار منهی عنه إجماعاً کما فی نهایة الأحکام(12) ، ومراده ما هو أعم من المکروه بقرینة ما بعده ، وقد حکم المصنف بأنّه حرام وفاقاً للمقنع والفقیه فی ظاهره والهدایة للصدوق علی ما نسب إلیها(13) والإستبصار(14)

ص:235


1- (1) مختلف الشیعة 5 / 38 .
2- (2) المقنعة / 616 .
3- (3) المبسوط 2 / 195 .
4- (4) الکافی فی الفقه / 283 .
5- (5) الکافی 5 / 165 ح 5 .
6- (6) المقنع / 372 .
7- (7) المهذب 1 / 346 .
8- (8) الکافی فی الفقه / 360 .
9- (9) السرائر 2 / 218 و 238 - 239 .
10- (10) الفقیه 3 / 169 ح 749 .
11- (11) غایة المراد فی شرح نکت الإرشاد 2 / 5 و 4 .
12- (12) نهایة الإحکام 2 / 513 .
13- (13) الناسب هو المحدث البحرانی فی الحدائق 18 / 59 و 58 .
14- (14) الإستبصار 3 / 114 .

والسرائر والتحریر(1) والتذکرة والدروس(2) وجامع المقاصد(17) والمسالک(18) والروضة(19) ،

وهو قویّ کما فی التنقیح(3) والمیسیة ، وهو المنقول عن القاضی والحلبی فی أحد قولیه والمنتهی(4) ... والقول بالکراهة خیرة المقنعة والنهایة(5) والمبسوط والمراسم(6) والشرائع(7) والنافع(8) والإرشاد(9) والمختلف وإیضاح النافع ، وهو المنقول عن التقی فی القول الآخر »(10) .

وقال اُستاذه الشیخ الأکبر کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد : « یحرم عقلاً ونقلاً الاحتکار بالمعنی الأعم - ولو مجازاً - وهو حبس کلّ ما یحتاجه أرباب النفوس المحترمة ویضطرون إلیه ولا مندوحة لهم عنه من مأکول أو مشروب أو ملبوس أو غیرها ، ولا یقیّد هذا بزمان دون زمان ولا بأعیان دون أعیان ولا انتقال بعقد ولا تحدید بحدٍّ ، إذ المدار علی حصول الإضطرار - إلی أن قال قدس سره - : وفی مقابلة هذا القول قول بالکراهة ، یعادله بل یقوی علیه فتویً ودلیلاً ، ومن أدلّته : أصالة الإباحة وقاعدة تسلیط الملاّک علی أموالهم یصنعون بها ما شاؤوا و ... »(11) .

ص:236


1- (15) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 254 .
2- (16) الدروس الشرعیة 3 / 180 .
3- (1) جامع المقاصد 4 / 41 .
4- (2) المسالک 3 / 191 .
5- (3) الروضة البهیة 3 / 298 .
6- (4) التنقیح الرائع 2 / 42 .
7- (5) منتهی المطلب 2 / 1006 الطبع الحجری .
8- (6) النهایة 374 .
9- (7) المراسم / 182 .
10- (8) الشرائع 2 / 15 .
11- (9) المختصر النافع / 120 .

وبالجملة ، ظهر من کلمات الأصحاب قدس سرهم قولان حول الإحتکار ، الحرمة والکراهة ، والعمدة ملاحظة الأدلة الواردة فی المقام ، وعمدتها الروایات .

الجهة الثالثة : الروایات الواردة حول الإحتکار
اشارة

(1)

الروایات الواردة فی المقام علی طوائف :
الطائفة الأولی : ما دلّ علی المنع من الإحتکار مطلقاً :

منها : خبر ابن القداح عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الجالب مرزوق والمحتکر ملعون(2) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : نهی أمیر المؤمنین علیه السلام عن الحُکرة فی الأمصار(3) .

ومنها : مرسلة الرضی رفعه عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه کتب فی عهده إلی الأشتر النخعی : فامنع من الإحتکار ، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم منع منه ، ولیکن بیعاً سمحاً بموازین عدل وأسعار لا یجحف بالفریقین من البائع والمبتاع ، فمن قارف حُکرة بعد نهیک إیّاه فنکّل به وعاقبه فی غیر إسراف(4) .

أقول : للنجاشی والشیخ الطوسی سند معتبر إلی هذا العهد الشریف ، فالروایة معتبرة الإسناد .

ومنها : مرسلة ورام بن أبی فراس عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم عن جبرئیل قال : اطلعت فی النار فرأیت وادیاً فی جهنم یغلی ، فقلت : یا مالک لمن هذا ؟ فقال : لثلاثة المحتکرین والمدمنین للخمر والقوّادین(5) .

ص:237


1- (10) إرشاد الأذهان 1 / 356 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 424 ح 3 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 426 ح 9 .
4- (3) وسائل الشیعة 17 / 427 ح 13 .
5- (4) وسائل الشیعة 17 / 426 ح 11 .

ومنها : خبر الحسن بن أبی الحسن البصری عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی حدیث طویل : ثم مشی حتّی دخل سوق البصرة ، فنظر إلی الناس یبیعون ویشترون ، فبکی علیه السلام بکاءً شدیداً ، ثم قال : یا عبید الدنیا وعمّال أهلها إذا کنتم بالنهار تحلفون وباللیل فی فُرشکم تنامون وفی خلال ذلک عن الآخرة تغفلون فمتی تحرزون الزاد وتفکّرون فی المعاد ؟

فقال له رجل : یا أمیر المؤمنین إنّه لابدّ لنا من المعاش ، فکیف نصنع ؟ فقال أمیر

المؤمنین علیه السلام : إنّ طلب المعاش من حلّه لا یُشغل عن عمل الآخرة .

فإن قلت : لابدّ لنا من الإحتکار لم نکن معذوراً ، فولّی الرجل باکیاً ، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : أقبل علیَّ أزدک بیاناً ، فعاد الرجل إلیه ، فقال له : إعلم یا عبد اللّه أنّ کلّ عامل فی الدنیا للآخرة لابدّ أن یوفّی أجر عمله فی الآخرة ، وکلّ عامل دنیاً للدنیا عُمالته فی الآخرة نار جهنم . ثم تلا أمیر المؤمنین علیه السلام قوله تعالی : «فَأَمَّا مَن طَغَی وَآثَرَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا فَإِنَّ الْجَحِیمَ هِیَ الْمَأْوَی»(1)(2) .

أقول : إذا لم یکن المحتکر معذوراً من الإحتکار یعنی أنّه فی إحتکاره غیر معذورٍ وهو آثم وعاصٍ ، فالروایة تدل علی حرمة مطلق الإحتکار .

ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه کتب إلی رفاعة : أنْهِ عن الحُکرة ، فمن رکب النهی فأوجعه ، ثمّ عاقبه بإظهار ما احتکر(3) .

ومنها : مرسلة اُخری للدعائم عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : المحتکرُ آثمٌ عاصٍ(4) .

ومنها : مرسلة ثالثة للدعائم عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : کلّ حُکرة تضر بالناس وتغلی السعر علیهم فلا خیر فیها(5) .

ویمکن المناقشة فی دلالتها علی الحرمة ، لأنّ ظهور جملة « لا خیر فیها » فی الحرمة مشکلٌ .

ص:238


1- (1) سورة النازعات / (39 - 37) .
2- (2) أمالی المفید ، المجلس الرابع عشر ح 3 / 118 .
3- (3) دعائم الإسلام 2 / 36 ح 80 .
4- (4) دعائم الإسلام 2 / 35 ح 77 .
5- (5) دعائم الإسلام 2 / 36 ح 79 .

ومنها : مرسلة الآمدی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : الإحتکار شیمة الفجّار(1) .

ومنها : مرسلة اُخری للآمدی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : کن مقتدراً ولا تکن محتکراً(2) .

تلک عشرة کاملة من الروایات الواردة فی النهی عن مطلق الإحتکار ، ومعتبرها سنداً

ما ورد فی ذیل عهد الأشتر النخعی ، وأمّا غیرها من الروایات - واّن کانت کلّها من حیث السند ضعیفة - ولکن من تعددها یمکن الوثوق بصدور بعضها من الأئمة علیهم السلام ولو إجمالاً ، فثبت ورود النهی عن مطلق الإحتکار . هذه کلّها الطائفة الأولی .

الطائفة الثانیة : ما یدل علی المنع فی خصوص الطعام مطلقاً

منها : خبر إسحاق بن عمار قال : دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فخبّرته أنّه ولد لی غلام ، فقال : ألا سمّیته محمّداً ؟ قال : قلت : قد فعلت ، قال : فلا تضرب محمّداً ولا تسبّه ، جعله اللّه قرّة عین لک فی حیاتک وخلف صدق من بعدک ، فقلت : جعلت فداک فی أیّ الأعمال أضعه ؟ قال : إذا عدلته عن خمسة أشیاء فضعه حیث شئت : لاتسلّمه صیرفیاً فإنّ الصیرفی لا یسلم من الربا ، ولا تسلّمه بیّاع الأکفان فإن صاحب الأکفان یسرّه الوباء إذا کان ، ولاتسلّمه بیّاع الطعام فإنّه لا یسلم من الإحتکار ، ولا تسلّمه جزّاراً فإن الجزّار تُسلب منه الرحمة ، ولا تسلّمه نخّاساً فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : شرّ الناس من باع الناس(3) .

بیع الطعام مکروه لأنّه مظنة الإحتکار الحرام .

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحتکر الطعام إلاّ خاطیء(4) .

ص:239


1- (6) غرر الحکم ح 606 .
2- (7) غرر الحکم ح 7139 .
3- (1) الکافی 5 / 114 ح 4 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 1 / 115 ح 1 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 426 ح 12 .

ظهور الخطأ فی المعصیة واضح .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحتکر الطعام إلاّ خاطیء(1) .

ومنها : خبر السکونی عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : طرق طائفة من بنی اسرائیل لیلاً عذابٌ ، فأصبحوا وقد فقدوا أربعة أصناف : الطبّالین والمغنّین والمحتکرین للطعام والصیارفة آکلة الربا منهم(2) .

ومنها : معتبرة الثمالی بل صحیحته قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ اللّه عزّ و239

جل تطوّل

علی عباده بالحبّة فسلّط علیها القملة ، ولو لا ذلک لخزنتها الملوک کما یخزنون الذهب والفضة(3) .

ومنها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه تطوّل علی عباده بثلاثة : ألقی علیهم الریح بعد الروح ولولا ذلک ما دفَنَ حمیمٌ حمیماً ، وألقی علیهم السلوة ولولا ذلک لأنقطع النسل ، وألقی علی هذه الحبّة الدابة ولو لا ذلک لکنزها ملوکهم کما یکنزون الذهب والفضة(4) .

وروی الصدوق نحوها بسنده الصحیح عن هشام بن سالم فی الخصال 1 / 112 ح 87 وعلل الشرائع 1 / 299 ح 1 . والظاهر أنّ المراد بالریح بعد الروح : ظهور الرائحة الخبیثة بعد الموت وقبض الروح . السلوة : الصبر والنسیان .

ومنها : خبر الأصبغ بن نباتة قال : سبّ الناس هذه الدابة التی تکون فی الطعام ، فقال علی علیه السلام : لا تسبّوها ، فوالذی نفسی بیده لولا هذه الدابة لخزنوها عندهم کما یخزنون الذهب والفضة(5) .

ص:240


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 426 ح 8 .
2- (4) جامع الأحادیث / 96 . ونقل عنه فی بحار الأنوار 100 / 79 ح 11 . ونقل عن البحار فی مستدرک الوسائل 13 / 273 ح 2 .
3- (1) علل الشرائع 1 / 299 ح 2 ورواها فی بحار الأنوار 100 / 87 ح 3 (42 / 60) .
4- (2) المحاسن 2 / 34 ح 35 .
5- (3) المحاسن 2 / 34 ح 37 .

أقول : رجال السند کلّهم ثقات إلاّ أباجمیلة مفضل بن صالح ، فلم یثبت توثیقه بل رمی بالضعف ، ولذا عبرنا عن الروایة بالخبر .

ومنها : مرسلة أبی العباس المستغفری عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من احتکر علی المسلمین طعاماً ضربه اللّه بالجذام والإفلاس(1) .

ظهور الروایة فی الحرمة واضح ، لأنّ اللّه عاقبه فی الدنیا بالجذام والإفلاس مضافاً إلی عقابه الاُخروی .

والحاصل : تقریب دلالة الروایات الثلاث الأخیرة علی حرمة احتکار الطعام : کما أنّ تخزین وتکنیز الذهب والفضة منهی عنه فی الشریعة المقدسة لقوله تعالی : «الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ یَوْمَ یُحْمَی عَلَیْهَا فِی نَارِ جَهَنَّمَ فَتُکْوَی بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا کَنَزْتُمْ لأَنفُسِکُمْ فَذُوقُواْ مَا کُنتُمْ

تَکْنِزُونَ»(2) .

فهکذا تخزین واحتکار الطعام والحبوب منه أیضاً منهی عنه فی الشریعة المقدسة . وظهور النهی فی الحرمة .

أقول : لا یمکن تخصیص هذه المطلقات الواردة فی الطعام بالروایات الصحاح الواردة فی ذیل قوله تعالی : «وَطَعَامُ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَابَ حِلٌّ لَّکُمْ»(3) ، حیث فسر الطعام فیها بالعدس والحمّص والبقول والحبوب وأشباه ذلک ، فراجع إن شئت إلی وسائل الشیعة 24 / 203 باب 51 من أبواب الأطعمة المحرّمة .

لأنّ الروایات المذکورة هناک فسرت الآیة الشریفة ولم ترد فی مقام تعیین الطعام مطلقاً ، أعنی أنّه إذا ذُکر الطعام فی أیّ موضع یکون المراد به الحبوب ونحوها ، فلذا لا یمکن تخصیص مطلق الطعام بهذه الروایات کما هو ظاهر .

وهکذا لا یمکن تخصیص الروایات المطلقة فی الطائفة الأولی بهذه الطائفة الثانیة ،

ص:241


1- (4) طب النبی صلی الله علیه و آله وسلم / 22 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 275 ح 9 .
2- (1) سورة التوبة / 35 و 34 .
3- (2) سورة المائدة / 5 .

أعنی انحصار الإحتکار فی الطعام ، لأنّ ورود النهی عن احتکار الطعام من أظهر مصادیق الإحتکار بل فرده الشائع والغالب ، ولاحتمال تعدّد الحکم ، بأنّ الإحتکار حرام وفی الطعام أشدّ حرمةً .

الطائفة الثالثة : مایدل علی التفصیل بین وجود الطعام فی البلد وعدمه

منها : صحیحة سالم الحناط قال : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : ما عملک ؟ قلت : حنّاط ، وربّما قدمت علی نفاق وربما قدمت علی کساد فحبست ، قال : فما یقول من قِبَلک فیه ؟ قلت : یقولون : محتکر ، فقال : یبیعه أحدٌ غیرک ؟ قلت : ما أبیع أنا من ألف جزء جزءاً ، قال : لا بأس ، إنّما کان ذلک رجل من قریش یقال له حکیم بن حزام ، وکان إذا دخل الطعام المدینة اشتراه کلّه ، فمرّ علیه النبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال : یا حکیم بن حزام إیاک أن تحتکر(1) .

وذکروا فی الرجال سلم الحناط وسالم الخیاط وکلاهما ثقتان ولا یبعد الإتحاد ، فالروایة صحیحة الاسناد ، والمراد بالنفاق : الرّواج .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن الحُکرة ؟ فقال : إنّما الحُکرة أن تشتری طعاماً ولیس فی المصر غیره فتحتکره ، فإن کان فی المصر طعام أو متاع غیره فلا بأس أن تلتمس بسلعتک الفضل(2) .

ومنها : صحیحة حماد ، روی فیها نحو الحدیث الماضی ثم زاد : وقال : وسألته عن الزیت ؟ فقال : إذا کان عند غیرک فلا بأس بإمساکه(3) .

ومنها : صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یحتکر الطعام ویتربص به هل یجوز ذلک ؟ قال : إن کان الطعام کثیراً یسع الناس فلا بأس به ، وإن کان الطعام قلیلاً لا یسع الناس فإنّه یکره أن یحتکر الطعام ویترک الناس لیس لهم طعام(4) .

ص:242


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 428 ح 3 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 427 ح 1 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 427 ح 2 .
4- (3) وسائل الشیعة 17 / 424 ح 2 .

ومن المعلوم أنّ الکراهة الواردة فی کلماتهم تُحمل علی الحرمة المصطلحة ، کما ذهب إلیه فی نفس الروایة المحدث الخبیر صاحب الوسائل .

ومنها : صحیحة سلمة الحناط عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : متی کان فی المصر طعام غیر ما یشتریه الواحد من الناس فجائز له أن یلتمس بسلعته الفضل ، لأنّه اذا کان فی المصر طعام غیره یسع الناس لم یغلُ الطعام لأجله ، وإنّما یغلو إذا اشتری الواحد من الناس جمیع ما یدخل المدینة(1) .

الظاهر أن سلمة الحناط هو نفس سالم أو سلم الحناط أو الخیاط أبو الفضل الثقة ، فالسند صحیح .

ومنها : خبر حذیفة بن منصور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : نفد [ فقد ] الطعام علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فأتاه المسلمون فقالوا : یا رسول اللّه قد نفد الطعام ولم یبق منه شیءٌ إلاّ عند فلان فمره ببیعه . قال : فحمد اللّه وأثنی علیه ثمّ قال : یا فلان إنّ المسلمین ذکروا أنّ الطعام قد نفد إلاّ شیء عندک ، فأخرجه وبعه کیف شئت ولا تحبسه(2) .

ومنها : صحیحة سالم أبی الفضیل قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام إنّی أجلب الطعام الی

الکوفة فأحبسه رجاء أن یرجع إلی ثمنه أو أربح فیه ، فقال : أنت محتکر وإنّ الحُکرة لا تصلح . قال : فسألنی هل فی بلادک غیر هذا الطعام ؟ قال : قلت : نعم کثیر . قال : فقال : لستَ بمحتکر ، إنّ المحتکر أن یشتری طعاماً لیس فی المصر غیره(3) .

سالم أبو الفضیل یحتمل قویاً أن یکون هو سالم أو سلم الحناط الثقة والراوی عنه هو عاصم بن حمید الحناط الثقة ، فالروایة صحیحة الإسناد .

ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : إنّما الحُکرة أن یشتری طعاماً لیس فی المصر غیره فیحتکره ، فإن کان فی المصر طعام أو متاع غیره ، أو کان کثیراً یجد الناس ما یشترون فلا بأس به ، وإن لم یوجد فإنّه یکره أن یحتکر ، وإنّما کان النهی من

ص:243


1- (4) التوحید / 389 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 23 / 116 ح 5 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 429 ح 1 .
3- (1) کتاب عاصم بن حمید الحناط / 26 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 276 ح 1 .

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الحُکرة ، أنّ رجلاً من قریش یقال له حکیم بن حزام کان إذا دخل المدینة طعام اشتراه کلّه ، فمرّ علیه النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال له : یا حکیم إیاک أن تحتکر(1) .

هذه الطائفة من الروایات تدلّ علی التفصیل فی احتکار الطعام بین وجود الطعام فی البلد وعدمه وبین وجود بائع آخر للطعام وانحصاره ، فحکم بحرمة الإحتکار فی صورة عدم الطعام فی البلد وانحصار البائع به ، وجوازه إذا وُجد الطعام فی البلد وکثر بائعه .

وعلی موازین الصناعة الفقهیة هذه الطائفة الأخیرة تقید الروایات الواردة فی احتکار الطعام ، فاحتکار الطعام فی هاتین الصورتین حرام علی سبیل منع الخلو ، یعنی إذا فقد الطعام فی البلد أو انحصر البائع بالمحتکر .

الطائفة الرابعة : مایدل علی التفصیل بین الأیام

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحُکرة فی الخصب أربعون یوماً وفی الشدّة والبلاء ثلاثة أیام ، فمازاد علی الأربعین یوماً فی الخصب فصاحبه ملعون ، ومازاد علی ثلاثة أیّام فی العسرة فصاحبه ملعون(2) .

ومنها : خبر أبی مریم عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أیّما رجل اشتری طعاماً فکبسه أربعین صباحاً یرید به غلاء المسلمین ثم باعه فتصدّق بثمنه لم یکن

کفارة لما صنع(3) .

الکبس : الجمع .

ومنها : صحیحة إبراهیم بن عبد الحمید عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام فی حدیث عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : وأمّا الحناط فإنّه یحتکر الطعام علی اُمّتی ، ولئن یلقی اللّه العبد سارقاً أحبّ إلیّ من أن یلقاه قد احتکر الطعام أربعین یوماً ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة جعفر بن أحمد القمی عن هشام بن عروة عن أبیه عن جده قال : قال

ص:244


1- (2) دعائم الاسلام 2 / 35 ح 78 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 276 ح 2 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 423 ح 1 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 425 ح 6 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 137 ح 4 .

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من احتکر فوق أربعین یوماً فإنّ الجنة توجد ریحها من مسیرة خمسمائة عام وإنّه لحرام علیه(1) .

ومنها : مرسلة أبی العباس المستغفری عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من جمع طعاماً یتربص به الغلاء أربعین یوماً فقد بَری ء من اللّه وبَرئ منه(2) .

هذه الطائفة تقیّد احتکار الطعام فی القحط والغلاء بثلاثة أیام وفی الرخص والخصب والسعة بأربعین یوماً ، فلابدّ من الأخذ بها وتقیید احتکار الطعام بهذه الأیام . وذهب إلی هذا التقیید الشیخ فی النهایة(3) والقاضی ابن البراج کما نقل عنه العلامة فی المختلف(4) وابن حمزة فی الوسیلة(5) .

اللهم إلاّ أن یقال : إنّ هذا التحدید بلحاظ الأعم الأغلب والمدار بتحقیق الضیق والغلاء واحتیاج الناس إلیه ، ولو لم یتحقق الأربعون فی الرخص أو الثلاثة فی الغلاء . وذهب إلیه المفید فی المقنعة(6) وأبو الصلاح فی الکافی(7) وابن زهرة فی الغنیة(8) والشهید الأول فی

الدروس(9) والشهید الثانی فی الروضة(10) وبعض أساتیذنا - مد ظله -(11) .

الطائفة الخامسة : مایدل علی أنّ الاحتکار إنّما هی فی أشیاء خاصة

منها : موثقة غیاث عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لیس الحُکرة إلاّ فی الحنطة والشعیر

ص:245


1- (3) الأعمال المانعة من الجنة / 293 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 273 ح 1 .
2- (4) طب النبی صلی الله علیه و آله وسلم / 22 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 275 ح 9 .
3- (5) النهایة / 374 .
4- (6) مختلف الشیعة 5 / 40 .
5- (7) الوسیلة ، المطبوع ضمن الجوامع الفقهیة / 745 .
6- (8) المقنعة / 96 .
7- (9) الکافی / 360 .
8- (10) الغنیة / 231 طبع عام 1417 .
9- (1) الدروس 3 / 180 .
10- (2) الروضة البهیة 3 / 299 .
11- (3) دراسات فی ولایة الفقیه 2 / 629 ، ونظام الحکم فی الإسلام / 383 .

والتمر والزبیب والسمن(1) .

ومنها : حسنة السکونی عن الصادق عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الحُکرة فی ستة أشیاء : فی الحنطة والشعیر والتمر والزیت والسمن والزبیب(2) .

والروایة حسنة سنداً بحمزة بن محمد العلوی القزوینی شیخ الصدوق .

ومنها : خبر أبی البختری عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ علیاً علیه السلام کان ینهی عن الحُکرة فی الأمصار ، فقال : لیس الحُکرة إلاّ فی الحنطة والشعیر والتمر والزبیب والسمن(3) .

ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنه قال : لیس الحُکرة إلاّ فی الحنطة والشعیر والزبیب والزیت والتمر(4) .

ومنها : مرسلة أبی العباس المستغفری عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الإحتکار فی عشرة والمحتکر ملعون : البر والشعیر والزبیب والذرّة والسمن والعسل والجبن والجوز والزیت(5) .

الصناعة الفقهیة تقتضی تقدیم الطائفة الخامسة علی الطوائف السابقة ، لأنّها تحصر الإحتکار المحرَّم فی الأشیاء الخاصة وأسنادها ودلالتها تام ، فلابدّ من الأخذ بها وتقیید غیرها بها ، لا سیما بعد ورود کلمتی « لیس » و « إلاّ» الواردتین فی روایاتها .

وعلی هذا نذهب إلی حرمة الإحتکار فی الحنطة والشعیر والتمر والزبیب والسمن والزیت فقط ولا حرمة فی غیرها ، وکذلک ذهب المشهور من فقهائنا رضوان اللّه تعالی علیهم .

إن قلت : قد تُحمل أخبار هذه الطائفة الخامسة علی أنّ الأشیاء المذکورة کانت عمدة ما یحتاج الناس إلیه فی عصر صدور الروایات ، أو أنّها صدرت للنهی عن عمل الخلفاء وعمّالهم فی البلاد فی تلک الأعصار ، لأنّهم کانوا یتعرضون لأموال الناس باسم المنع عن الحُکرة ، وبالجملة روایات هذه الطائفة ناظرة إلی القضایا الخارجیة ولم تصدر بنحو القضیة

ص:246


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 425 ح 4 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 426 ح 10 .
3- (6) وسائل الشیعة 17 / 426 ح 7 .
4- (7) دعائم الإسلام 2 / 35 ح 78 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 275 ح 5 .
5- (8) طب النبی / 22 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 275 ح 8 .

الحقیقیة ، الدالة علی الحکم الفقهی الثابت فی الأعصار والأمصار(1) .

قلت : هذا الحمل خلاف ظاهر الروایات ، فإن ظاهرها أنّها صدرت من الأئمة علیهم السلام بنحو القضایا الحقیقیة ، وهی تدلّ علی الحکم الفقهی الثابت فی الأعصار جیلاً بعد جیل وفی الأمصار نسلاً بعد نسل ، فان بیان الحکم الفقهی الثابت من شؤون الأئمة علیهم السلام لثبوت الولایة التشریعیة عندنا فی حقّهم .

وأمّا إثبات أنّها بنحو القضایا الخارجیة فهو خلاف الظاهر ویحتاج إلی القرینة ، وهی مفقودة فی المقام وفی کلامه - مد ظله - .

الجهة الرابعة : حرمة مطلق الإحتکار

ثم علی القول بانحصار حرمة الإحتکار فی الأشیاء الستة المذکورة کما هو المختار ، فما حکم الإحتکار فی غیرها من الأشیاء التی یحتاج الناس إلیها ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - أنه یمکن القول بحرمة إحتکار کلّ ما یحتاج الناس إلیه وتضطر النفوس المحترمة إلیه من مأکول أو مشروب أو ملبوس أو دواءٍ أو وسیلة أو غیرها .

والدلیل علی ذلک لیست الروایات الماضیة حیث تم الکلام بأنّها تدلّ علی حرمة الإحتکار فی الأشیاء الستة فقط .

وهکذا لیس دلیلنا صحیحتی الحلبی الماضیتین(2) فی الطائفة الثالثة من الروایات ، لعدم إمکان استفادة التعلیل منها فی المقام بحیث یعمّم الحکم ویخصّص به ، کما استدل بذلک المحقق الحائری قدس سره (3) وبعض أساتیذنا - مد ظله -(4) فی المقام .

ص:247


1- (1) کما یظهر من دراسات فی ولایة الفقیه 2 / 647 ، ونظام الحکم فی الإسلام / 390 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 424 ح 2 و 17 / 427 ح 1 .
3- (3) ابتغاء الفضیلة فی شرح الوسیلة 1 / 197 .

وهکذا لیس دلیلنا قاعدتی نفی الحرج والضرر کما تمسک بهما المحقق الحائری قدس سره (1) ، لأنّ القاعدتین کما قُرّر فی محلِّهما فی علم الاُصول من القواعد الإمتنانیة ورفعت الأحکام بهما ولم یثبت بهما حکم ، ولذا لا یمکن إثبات الحرمة بهما کما هو المعلوم المقرَّر فی محلّه .

وهکذا لیس دلیلنا الإضطرار کما تمسّک به الفقیه صاحب الجواهر قدس سره (2) لأنّ الإضطرار أیضاً من الأدلة الإمتنانیة یرفع به الحکم ولا یمکن إثبات الحکم به نحو ما مرّ منّا فی قاعدتی نفی الحرج والضرر کما قرّر فی محلّه .

بل دلیلنا الوحید الإختلال بالنظام ، حیث أنّ إحتکار ما یحتاج الناس إلیه مختل بنظام معاشهم ، وکلّ ما أوجب اختلال النظام حرام ، فالإحتکار حرام ، وهذا الدلیل عام یشمل مطلق الإحتکار .

وممّن وافقنا فی نتیجة الإستدلال - یعنی حرمة مطلق الاحتکار - من المتأخرین جماعة :

منهم : صاحب الجواهر قدس سره بعد ما ذهب إلی کراهة الإحتکار بذاته وحرمته مع قصد الإضرار بفعله أو بإطباق المعظم علیه ، قال : « بل هو کذلک فی کلِّ حبس لکلِّ ما تحتاجه النفوس المحترمة ویضطرون إلیه ولا مندوحة لهم عنه من مأکول أو مشروب أو ملبوس أو غیرها ، من غیر تقیید بزمان دون زمان ولا أعیان دون أعیان ولا انتقال بعقد ولا تحدید بحدٍّ بعد فرض حصول الإضطرار ... »(3) .

ومنهم : المحقق الحائری قدس سره قال : « إذا فرض الإحتیاج إلی غیر الطعام من الأمور الضروریة للمسلمین فمقتضی ما تقدم من دلالة دلیل الحرج والضرر حرمته ... »(4) .

ومنهم : بعض أساتیذنا - مدظله - وحتّی ذهب إلی أن تعیین موضوعات الحُکرة من شؤون الحاکم بحسب ما یراه من احتیاجات الناس فی عصره ومجال حکمه(5) .

ص: 248


1- (1) دراسات فی ولایة الفقیه 2 / 645 و 650 ، ونظام الحکم فی الإسلام / 389 .
2- (2) ابتغاء الفضیلة فی شرح الوسیلة 1 / 197 .
3- (3) الجواهر 22 / 481 .
4- (4) الجواهر 22 / 481 .
5- (5) ابتغاء الفضیلة فی شرح الوسیلة 1 / 197 .
الجهة الخامسة : هل یجبر المحتکر علی البیع أم لا ؟

الظاهر إتفاق الأصحاب علی أنّه یجبر المحتکر علی البیع ، حتّی ذهب إلیه القائلون بالکراهة فی نفس الاحتکار .

وقال الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « ولیس بینه (أی بین الإجبار علی البیع) وبین التحریم ملازمة ولا بینه وبین الکراهة منافاة »(1) .

وقال تلمیذه فی مفتاح الکرامة : « وقد یُستدل بذلک (أی علی الإجبار علی البیع) علی التحریم ولیس کذلک للاتفاق علیه والإختلاف فی التحریم ، والجبر قد یکون علی المحتسب کزیارة النبی صلی الله علیه و آله وسلم فتأمل »(2) .

وقد اعترف بثبوت الإجبار علی قولی التحریم والکراهة فی الاحتکار تلمیذه الآخر صاحب الجواهر قدس سره فی کتابه(3) .

واعترف به أیضاً الشیخ الأعظم قدس سره فی المکاسب(4) .

فالکلّ یعترفون بلزوم إجبار المحتکر علی البیع حتّی القائلین بالکراهة فی نفس الإحتکار . ذهب إلیه المفید فی المقنعة(5) والشیخ فی النهایة(6) والمبسوط(7) وأبو الصلح الحلبی فی الکافی(8) وابن حمزة فی الوسیلة(9) وابن إدریس فی السرائر(10) والمحقق الحلی فی الشرائع(11)

ص:249


1- (1) شرح القواعد 1 / 320 .
2- (2) مفتاح الکرامة 4 / 109 - (12 / 361 من طبعة جماعة المدرسین) .
3- (3) الجواهر 22 / 485 .
4- (4) المکاسب / 213 - (4 / 373 من الطبعة الحدیثة) .
5- (5) المقنعة / 96 .
6- (6) النهایة / 374 .
7- (7) المبسوط 2 / 195 .
8- (8) الکافی / 360 .
9- (9) الوسیلة المطبوع فی الجوامع الفقهیة / 745 .
10- (10) السرائر 2 / 239 .
11- (11) الشرائع 2 / 21 .

والمختصر(1) والعلامة فی القواعد(13) والتذکرة(14) والشهید فی الدروس(15) ، وغیرهم فی غیرها .

وادعی علیه الإجماع کما فی المهذب البارع(2) ، ولا کلام فیه کما فی إیضاح النافع(3) ،رولا نعلم فیه خلافاً کما فی التنقیح(4) . وقد نفی الخلاف بین الأصحاب فی إجبار المحتکر أصحاب الحدائق(5) ومفتاح الکرامة(6) والجواهر(7) والمکاسب(8) .

وادعی علیه الإجماع أیضاً الشیخ الأکبر کاشف الغطاء قدس سره حیث قال : « للإجماع المنقول علی لسان جماعة والأخبار ... »(9) وصاحبا الریاض(10) والمستند(11) قدس سرهم .

والحاصل : إنّ إجبار المحتکر علی البیع من قبل أصحابنا إجماعی ولا خلاف فیه حتّی القائلین بالکراهة یقولون به ، وتدلّ علیه بعد هذا الإجماع ، الروایات :

منها : خبر ضمرة عن علی بن أبی طالب علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه صلی الله علیه و آله وسلم : مرّ بالمحتکرین ، فأمر بحُکرتهم أن تخرج إلی بطون الأسواق ، وحیث تنظر الأبصار إلیها ،فقیل لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لو قَوَّمْتَ علیهم ، فغضب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم حتی عُرِفَ الغضبُ فی وجهه ،

ص:250


1- (12) المختصر النافع / 120 .
2- (1) القواعد 1 / 122 .
3- (2) تذکرة الفقهاء 12 / 168 .
4- (3) الدروس 3 / 180 .
5- (4) المهذب البارع 2 / 370 .
6- (5) إیضاح النافع فی شرح مختصر الشرائع للشیخ ابراهیم بن سلیمان القطیفی المعاصر للمحقق الکرکی ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 109 . (12 / 361) .
7- (6) التنقیح 2 / 42 .
8- (7) الحدائق 18 / 64 .
9- (8) مفتاح الکرامة 4 / 109 . (12 / 361 من طبعة جماعة المدرسین) .
10- (9) الجواهر 22 / 485 .
11- (10) المکاسب للشیخ الانصاری قدس سره / 213 - (4 / 373 من الطبعة الحدیثة) .

فقال : أنا أقوّم علیهم ، إنّما السعر إلی اللّه یرفعه إذا شاء ویَخفضه إذا شاء(1) .

سند الشیخ إلی ضمرة ضعیف ولکن روی الصدوق هذه الروایة بسنده المعتبر عن

غیاث بن ابراهیم فی کتابه التوحید(2) ، ودلالتها علی إجبار المحتکرین علی البیع واضح .

ومنها : خبر حذیفة بن منصور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : نفد الطعام علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فأتاه المسلمون فقالوا : یا رسول اللّه قد نفد الطعام ، لم یبق منه شیءٌ إلاّ عند فلان فَمُرهُ ببیعه .

قال : فحمد اللّه وأثنی علیه ثمّ قال : یا فلان إنّ المسلمین ذکروا أنّ الطعام قد نفد إلاّ شیءٌ عندک ، فأخرجه وبعه کیف شئت ولا تحبسه(3) .

دلالة الروایة علی المطلوب واضحة ولکن سندها ضعیف .

ومنها : مرسلة دعائم الاسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام : أنه کتب إلی رفاعة : إنْهَ عن الحُکرة ، فمن رکب النهی فأوجعه ثم عاقبه بإظهار ما احتکر(4) .

الجهة السادسة : التسعیر
الأقوال فی التسعیر :

المشهور علی منع التسعیر کما ذهب إلیه الشیخ فی النهایة(5) والمبسوط(6) ، وابن زهرة فی الغنیة(7) وابن إدریس فی السرائر(8) والمحقق فی الشرائع(9) والمختصر(10) والعلامة فی القواعد

ص:251


1- (11) شرح القواعد 1 / 320 .
2- (1) التوحید / 388 ح 33 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 429 ح 1 .
4- (3) دعائم الإسلام 2 / 36 ح 80 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 277 ح 1 .
5- (4) النهایة / 374 .
6- (5) المبسوط 2 / 195 .
7- (6) الغنیة / 231 .
8- (7) السرائر 2 / 239 .
9- (8) الشرائع 2 / 21 .
10- (9) المختصر النافع / 120 .

قال : « ویجبر علی البیع ، لا التسعیر علی رأی »(1) وقال فی التذکرة : « ... فإنّه لا یجوز أن یسعّر حالة الرخص عندنا ... وأمّا حالة الغلاء فکذلک عندنا »(2) یعنی ذهب قدس سره إلی عدم جواز

التسعیر فی حالتی الرخص والغلاء .

ومن المتأخرین السید الطباطبائی فی ریاض المسائل(3) والشیخ الأعظم فی المکاسب(4) .

ثمّ فی قبال المشهور ، القول ، بالجواز وهو خیرة المفید فی المقنعة(5) والدیلمی فی المراسم(6) ، ومال إلیه جدنا الفقیه الشیخ الأکبر کاشف الغطاء فی شرح القواعد(7) .

ثم إنّ هاهنا قولاً ثالثاً ، وهو جواز التسعیر إن أجحف المحتکر فی الثمن ، ذهب إلیه ابن حمزة فی الوسیلة(8) والعلامة فی المختلف(9) ونجله فی إیضاح الفوائد(10) والشهید فی الدروس(11) واللمعة(12) وابن فهد الحلی فی المقتصر(13) والفاضل المقداد فی التنقیح(14) والمحقق

ص:252


1- (10) القواعد 1 / 122 - (2 / 11 طبع جماعة المدرسین) .
2- (11) تذکرة الفقهاء 12 / 169 .
3- (1) ریاض المسائل 8 / 288 .
4- (2) المکاسب / 213 - (4 / 373 من الطبعة الحدیثة) .
5- (3) المقنعة / 96 .
6- (4) المراسم / 182 .
7- (5) شرح القواعد 1 / 322 .
8- (6) الوسیلة / 260 .
9- (7) مختلف الشیعة 5 / 42 .
10- (8) إیضاح الفوائد 1 / 409 .
11- (9) الدروس 3 / 180 .
12- (10) اللمعة المطبوع مع شرحه الروضة البهیة 3 / 299 .
13- (11) المقتصر من شرح المختصر - لابن فهد الحلی ، اختصر فیه شرحه الکبیر علی المختصر النافع المسمی بالمهذب البارع ونقل عن المقتصر فی مفتاح الکرامة 4 / 109 - (12 / 362) .
14- (12) التنقیح الرائع 2 / 43 .

الکرکی فی جامع المقاصد(1) . والنراقی فی المستند(2) وصاحب الجواهر نفی البعد عن هذا القول(3) .

فالأقوال فی التسعیر صارت ثلاثة .

أما الروایات

الروایات تدل علی منع التسعیر :

منها : معتبرة غیاث بن إبراهیم عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام قال : مرّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالمحتکرین فأمر بحُکرتهم أن یخرج إلی بطون الأسواق وحیث تنظر الأبصار إلیها ، فقیل لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لو قَوَّمْتَ علیهم ، فغضب صلی الله علیه و آله وسلم حتی عُرف الغضب فی وجهه وقال : أنا اُقوِّمُ علیهم ؟ ! إنّما السعر إلی اللّه عزّ وجل یرفعه إذا شاء ویخفضه اذا شاء .

وقیل لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لو أسعرتَ لنا سعراً فإنّ الأسعار تزید وتنقص ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : ما کنتُ لألقی اللّه عزّ وجل ببدعة لم یُحدث لی فیها شیئاً ، فدعوا عباد اللّه یأکل بعضهم من بعض(4) .

سند الروایة تام وظهورها فی عدم جواز التسعیر واضح .

ویؤید عدم جواز التسعیر الروایات الواردة : بأنّ اللّه وکّل بالأسعار ملکاً یدبّرها ، حیث جعل اللّه أمر السعر بید ملک وما جعله علی ید غیره :

منها : صحیحة أبی حمزة الثمالی عن علی بن الحسین علیه السلام قال : إنّ اللّه تبارک وتعالی وکّل بالسعر ملکاً یُدَبِّرُهُ بأمره .

وقال أبو حمزة الثمالی : ذکر عند علی بن الحسین علیه السلام غلاءُ السعر ، فقال : و ما علیَّ من غلائه إن غلا فهو علیه وإن رَخُصَ فهو علیه(5) .

ص:253


1- (13) جامع المقاصد 4 / 42 .
2- (14) مستند الشیعة 14 / 52 .
3- (15) جواهر الکلام 22 / 486 .
4- (1) التوحید / 388 ح 33 وروی نحوها فی وسائل الشیعة 17 / 430 ح 1 و 2 .
5- (2) التوحید / 389 ح 34 وروی نحوها فی وسائل الشیعة 17 / 431 ح 3 و 4 .

ومنها : خبر محمد بن أسلم عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجل وکّل بالسعر ملکاً ، فلن یغلو من قلّة ولن یرخص من کثرة(1) .

ومنها : خبر یعقوب بن یزید عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه وکّل بالأسعار ملکاً یدبرها(2) .

ویمکن المناقشة فی دلالة هذه الروایات : بأن التسعیر إذا کان فی مسیره الطبیعی هذه

الروایات ناظرة إلیه ، ولکن إذا خرج من سیره العادی بواسطة الإحتکار والحبس ، والقحط والغلاء المصنوعیان ، فهذه الروایات لم تنظر إلیه . وأشار إلی ما قلناه صدوق الاُمّة قدس سره بعد نقل هذه الروایات حیث یقول : « الغلاء هو الزیادة فی أسعار الأشیاء حتّی یُباع الشیء بأکثر مما کان یُباع فی ذلک الموضع ، والرخص هو النقصان فی ذلک ، فما کان من الرخص والغلاء عن سعة الأشیاء وقلّتها فإن ذلک من اللّه عزّ وجل ویجب الرضا بذلک والتسلیم له ، وما کان من الغلاء والرخص بما یأخذ الناس به لغیر قلّة الأشیاء وکثرتها من غیر رضی منهم به أو کان من جهة شراء واحدٍ من الناس جمیع طعام بلدٍ فیغلو الطعام لذلک فذلک من المسعِرِ والمتعدِّی بِشِری طعام المصرِ کلّه کما فعله حکیم بن حزام ... »(3) .

ولعلّ الروایات الواردة(4) فی عدم تسعیر النبی یوسف علیه السلام فی أیام القحط أیضاً شاهدة علی ما ذکرنا ، حیث کان القحط والغلاء فی مصر طبیعیاً عادیّاً ولم یکن صناعیّاً .

ومن الروایات التی تدلّ علی عدم جواز التسعیر : مرسلة دعائم الإسلام عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن التسعیر ، فقال : ما سعّر أمیر المؤمنین علیه السلام علی أحد ، ولکن من نقص عن بیع الناس ، قیل له : بع کما یبیع الناس وإلاّ فارفع عن السوق ، إلاّ أن یکون طعامه أطیب من طعام الناس(5) .

ص:254


1- (3) وسائل الشیعة / 431 ح 5 .
2- (4) وسائل الشی253 عة 17 / 432 ح 6 .
3- (1) التوحید / 389 .
4- (2) راجع وسائل الشیعة 17 / 432 ح 7 ، و 17 / 433 ح 9 ومستدرک الوسائل 13 / 278 ح 2 .
5- (3) دعائم الاسلام 2 / 36 ح 81 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 277 ح 1 .

والحاصل : معتبرة غیاث بن إبراهیم المذکورة فیما مضی یکفی فی الحکم بعدم جواز التسعیر من قبل الحاکم . نعم ، علیه أن یلاحظ البیع بحیث لا یتضرر منه کلّ من البائع والمشتری کما ورد ذلک فی ما کتب أمیر المؤمنین علیه السلام فی عهده إلی الأشتر النخعی ، حیث کتب علیه السلام : فامنع من الإحتکار ، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم منع منه ، ولیکن البیع بیعاً سمحاً بموازین عدل وأسعار لا یجحف بالفریقین من البائع والمبتاع ، فمن قارف حُکرة بعد نهیک إیّاه فنکّل به وعاقبه فی غیر إسراف(1) .

وقد مرّ منّا أنّ لهذا العهد سنداً معتبر للنجاشی والشیخ فی فهرستهما(2) .

وبعبارة اُخری : لیس للحاکم الشرعی التسعیر ، ولکن ینظر هو بأن لا یجحف بالبائع والمشتری ، وکلّ منهما إن أراد الاجحاف بصاحبه علی الحاکم أن یمنعه .

هذا تمام الکلام فی بحث الإحتکار ، والحمد اللّه ربّ الأسعار .

ص:255


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 427 ح 13 .
2- (5) راجع رجال النجاشی / 8 الرقم 5 ، والفهرست للشیخ الطوسی / 88 الرقم 119 .

البذاء

وهو الفحش وعدم المبالاة بالقول وسوء اللسان وخُبثه ، وهو حرام . وتدلّ علی حرمته - مضافاً إلی الأدلة الواردة فی حرمة إیذاء المؤمن وحرمة الفحش - عدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی عبیدة الحذاء عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحیاء من الإیمان والإیمان فی الجنة ، والبذاء من الجفاء والجفاء فی النار(1) .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا رأیتم الرجل لا یبالی ما قال ولا ما قیل له فإنّه لغَیَّة أو شَرَک شیطان(2) .

اللغِیِّة : الزنا ، وتشریک الشیطان للانسان فی الأموال یعنی حمله إیّاه علی تحصیلها من الحرام وإنفاقها فیه ، وأمّا مشارکته له فی الأولاد إدخاله معه فی النکاح إذا لم یسمّ اللّه ولکن النطفة واحدة . ودلالة الروایة علی حرمة عدم المبالاة بالقول واضحة ، وسندها أیضاً صحیح کما مرّ .

ومنها : حسنة أو معتبرة سُلیم بن قیس عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ اللّه حرّم الجنة علی کلّ فحّاش بذیء ، قلیل الحیاء ، لا یبالی ما قال ولا ما قیل له ، فإنّک إنْ فتّشته لم تجده إلاّ لغیّة أو شَرَک شیطان ، فقیل : یا رسول اللّه وفی الناس شَرَک شیطان ؟ فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أما تقرأ قول اللّه عزّ وجل : «وَشَارِکْهُمْ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ»(3) الحدیث(4) .

ص:256


1- (1) وسائل الشیعة 16 / 36 ح 5 - الباب 72 من أبواب جهاد النفس .
2- (2) الکافی 2 / 323 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 16 / 35 ح 1 مع اختلاف .
3- (3) سورة الإسراء / 64 .
4- (4) وسائل الشیعة 16 / 35 ح 2 .

دلالتها علی حرمة البذاء واضحة ، وسندها لا بأس به ، لأنّ رجاله کلّهم ثقات إلاّ أبان بن أبی عیاش لم یرد توثیقه ، ولکن حیث تلقی الأصحاب کتاب سُلیم بن قیس الهلالی بالقبول

ولم ینقل کتابه إلاّ من طریق إبن أبی عیاش ، فهذا القبول یدلّ علی اعتباره ولاأقل من حسنه .

ومنها : خبر الحسن الصیقل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ الفحش والبذاء والسلاطة من النفاق(1) .

السلاطة : شدّة اللسان ، ودلالة الروایة علی الحرمة واضحة ، لأنّ النفاق من المحرّمات الشرعیة ، ولکن فی سندها ضعف بمحمّد بن سنان علی القول بضعفه ، والحسن بن زیاد الصیقل لأنّه مجهول أو ضعیف .

ومنها : خبر عبد اللّه بن القاسم عمّن حدثه قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أری الرجل من أصحابنا ممّن یقول بقولنا خبیث اللسان ، خبیث الخلطة ، قلیل الوفاء بالمیعاد ، فیغمّنی غمّاً شدیداً ، وأری الرجل من المخالفین علینا حسن السمت ، حسن الهدی ، وفیّاً بالمیعاد ، فاغتمّ لذلک غمّاً شدیداً ، فقال علیه السلام : أو تدری لم ذاک ؟ قلت : لا ، قال : إنّ اللّه تبارک وتعالی خلط الطینتین فعرکهما ، وقال بیده هکذا راحتیه جمیعاً واحدة علی الاُخری ، ثم فلقهما ، فقال : هذه إلی الجنة وهذه إلی النار ولا اُبالی ، فالذی رأیت من خبث اللسان والبذاء وسوء الخلطة وقلّة الوفاء بالمیعاد من الرجل الذی هو من أصحابکم یقول بقولکم ، فیما إلتطخ بهذه من الطینة الخبیثة وهو عائد إلی طینته ، والذی رأیت من حسن الهدی وحسن السمت وحسن الخلطة والوفاء بالمیعاد من الرجال من المخالفین ، فما إلتطخ به من الطینة الطیبة . فقلت : جعلت فداک فرّجت عنّی فرّج اللّه عنک(2) .

سند الروایة مرسل ، ویمکن المناقشة فی دلالتها علی الحرمة أیضاً بما لا یخفی .

ولتفصیل روایات الباب راجع الکافی 2 / 232 والوافی 5 / 953 وبحار الأنوار 76 / 103 ووسائل الشیعة 16 / 34 ومستدرک الوسائل 12 / 82 وجامع أحادیث الشیعة

ص:257


1- (1) الکافی 2 / 325 ح 10 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 28 ح 2 .
2- (2) المحاسن 1 / 230 ح 21 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 30 ح 8 .

16 / 559 وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 28 .

والحاصل ، أن الروایات تدل علی حرمة البذاء تکلیفاً ، وأمّا أخذ شیء فی قبال هذا العمل المحرّم أیضاً حرام بالحرمة الوضعیة ، یعنی لا یجوز أخذ الشیء فی قباله ولا یدخل فی ملک القابض ، لقوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ»(1) ، وأکل المال فی مقابلة

هذا الحرام من مصادیق أکل المال بالباطل ، حتّی علی ما ذهبنا إلیه من أنّ الآیة الشریفة تنهی عن أکل المال بالأسباب الباطلة ، نحو : القمار والظلم والفحش والربا ، ومنها : البذاء . فأخذ المال فی قبال البذاء باطل وفاسد وحرام بالحرمة الوضعیة ، فلا یجوز الإکتساب بها ، فینبغی ذکرها فی المکاسب المحرَّمة کما ذکرنا ، لا سیما مع خلو حرف الباء من عنوانٍ ، ویأتی منّا عنوان « الهُجْر » - وهو الفحش - فی محلّه . والحمد للّه رب المحامد کلِّها .

ص: 258


1- (3) سورة النساء / 29 .

تدلیس الماشطة

اشارة

یقع البحث فی جهات :

الجهة الأولی : حکم حرفة المِشاطة

لا بأس بکسب المشاطة وعملها ، وتدلّ علیه عدّة من الروایات المعتبرة :

منها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث أم حبیب الخافضة - قال : وکانت لاُمّ حبیب اُخت یقال لها : اُمّ عطیة - وکانت مقینة - یعنی ماشطة - فلما انصرفت اُمّ حبیب إلی اُختها فأخبرتها بما قال لها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فأقبلت اُمّ عطیة إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فأخبرته بما قالت لها اُختها ، فقال لها : اُدن منّی یا اُمّ عطیة إذا أنتِ قَیّنتِ الجاریة فلا تغسلی وجهها بالخرقة ، فإنّ الخرقة تشرب ماء الوجه(1) .

الروایة صحیحة الاسناد . التقیّن : التزیین ، المقینة : المزینة . دلالتها علی جواز التقیّن وتزیین المرأة واضحة ، حیث لم ینه النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم اُمّ عطیة عن عملها بل أوصتها فقط بعدم اغتسالها وجه المرأة بالخرقة .

ومنها : خبر إبن أبی عمیر عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دخلتْ ماشطةٌ علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال لها : هل ترکتِ عملکِ أو أقمتِ علیه ؟ فقالت : یا رسول اللّه أنا أعمله إلاّ أن تنهانی عنه فأنتهی عنه ، فقال : إفعلی ، فإذا مشطتِ فلا تجلی الوجه بالخرق فإنّه یذهب بماء الوجه ، ولا تصلی الشعر بالشعر(2) .

دلالتها علی جواز عمل الماشطة واضحة ، حیث لم ینه النبی صلی الله علیه و آله وسلم عن عملها بل نهاها عن الفعلین فقط ، و لکن سند الروایة ضعیف بعلی بن احمد بن أشیم ، لأنّه مجهولٌ ، وفیها أیضاً إرسالٌ .

ص:259


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 131 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 131 ح 2 .

ومنها : خبر القاسم بن محمد الجوهری عن علی بن أبی حمزة البطائنی قال : سألته عن إمرأة مسلمة تمشط العرائس لیس لها معیشة غیر ذلک وقد دخلها ضیق ؟ قال : لا ، بأس ولکن

لا تصل الشعر بالشعر(1) .

الظاهر : المروی عنه هو موسی بن جعفر علیه السلام ، ولکن الروایة ضعیفة ومضمرة من حیث السند ، وأمّا دلالتها علی جواز مشاطة فواضحة .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : لا بأس بکسب الماشطة ما لم تشارط وقبلت ما تعطی ولا تصل شعر المرأة بشعر إمرأة غیرها ، وأمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة(2) .

الروایة تدلّ علی جواز کسبها ، وأمّا النهی عن إشتراطها الاُجرة فکالنهی کذلک فی حقِّ الحجام لا تدلّ أزید من کراهة إشتراطهما الاُجرة ، ولکن فی سندها إرسال وإضمار .

ومنها : خبر سعد الإسکاف عن أبی جعفر علیه السلام قال : سُئل عن القرامل التی تصنعها النساء فی رؤوسهنَّ یصلنه بشعورهنَّ ؟ فقال : لا بأس علی المرأة بما تزیّنت به لزوجها ، الحدیث(3) .

الروایة تدلّ علی جواز تزیّن المرأة لزوجها ، والتزیّن یمکن أن یکون بعملها مباشرة ویمکن أن یکون بعمل غیرها ، وتلک الغیر لیست إلاّ الماشطة ، فیجوز عمل الماشطة ، فإذا کان عملها جایزاً ، کذلک یجوز لها أخذ الأجرة علیه ، ولکن فی سندها ضعف .

والحاصل : عمل المشاطة فی نفسها لا بأس به ویجوز أخذ الاُجرة علیه .

الجهة الثانیة : حکم الأعمال الأربعة
اشارة

قد وردت فی عدّة من الروایات النهی عن « الوصل » و «النمص » و « الوشم » و « الوشر » فلابدّ من البحث حول هذه الأعمال الأربعة :

ص:260


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 132 ح 4 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 133 ح 6 .
3- (3) وسائل الشیعة 20 / 187 ح 2 الباب 101 من أبواب مقدمات النکاح .
العمل الأوّل : الوصل

إن کان المراد به ما ورد فی بعض الروایات من تفسیر الواصلة بالفاجرة والموصولة بالقوّاد ، فحرمته من الضروریات بین المسلمین :

منها : خبر سعد الإسکاف عن أبی جعفر علیه السلام قال : سئل عن القرامل التی تصنعها النساء فی رؤوسهنَّ یصلنه بشعورهنّ ؟ فقال : لا بأس علی المرأة بما تزیّنت به لزوجها . قال :

فقلت : بلغنا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لعن الواصلة والموصولة ، فقال : لیس هناک ، إنّما لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الواصلة والموصولة التی تزنی فی شبابها ، فلمّا کبرت قادت النساء إلی الرجال ، فتلک الواصلة والموصولة(1) .

ومنها : معتبرة إبراهیم بن أبی زیاد الکرخی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الواصلة والمستوصلة ، یعنی : الزّانیة والقوّادة(2) .

سند الروایة لا یبعد حسنه ، لأنّ الحسین بن إبراهیم بن أحمد بن هشام المکتب ، شیخ الصدوق ، لو لم یکن ثقة لا أقل من حسنه ، وأمّا إبراهیم بن أبی زیاد الکرخی أیضاً لا یبعد حسنه ، وأمّا غیرهما من رجال السند فکلّهم ثقات ، فالروایة لا یبعد أن تکون حسنة سنداً .

ومنها : مرسلة عمار الساباطی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ الناس یروون : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لعن الواصلة والموصولة ، قال : نعم ، قلت : التی تمتشط وتجعل فی الشعر القرامل ؟ قال : فقال لی : لیس بهذا بأس ، قلت : فما الواصلة والموصولة ؟ قال : الفاجرة والقوّادة(3) .

فمع ورود هذا التفسیر لابدّ من حمل روایات اللعن الواردة فی شأن الواصلة والموصولة بالفاجرة والقوّادة . ولیس فیه عجب ، خلافاً لابن حنبل - لمّا ذکر له ذلک - قال : « ما سمعت

ص:261


1- (1) وسائل الشیعة 20 / 187 ح 2 - و 17 / 132 ح 3 .
2- (2) معانی الأخبار / 250 .
3- (3) وسائل الشیعة 20 / 188 ح 4 .

بأعجب من ذلک » . کما نقل عنه إبن الأثیر فی نهایته(1) والعلامة المجلسی قدس سره فی مرآة العقول(2) وملاذ الأخیار(3) .

وأمّا إن کان المراد بالوصل ما ورد فی تفسیر علی بن غراب من أنّ « الواصلة التی تصل شعر المرأة بشعر إمرأة والمستوصلة التی یفعل ذلک بها »(4) .

وفیه : أولاً : عدم حجیة تفسیر وفهم علی بن غراب لنا .

وثانیاً : بورود الروایات المذکورة فیما مضی علی خلاف تفسیره کما مرّت .

وثالثاً : من المحتمل أن ابن غراب أخذ تفسیره هذا من العامة ، کما أنّ مضمونه روی فی سنن البیهقی(5) .

ورابعاً : علی فرض إعتبار تفسیره ، لابدّ من حمله علی الکراهة جمعاً بینه وبین غیره من الروایات ، لأنّ الروایات الواردة فی حکم وصل الشعر علی طوائف الثلاث :

الطائفة الأولی : تدل علی الجواز مطلقاً ، نحو : خبر سعد الإسکاف(6) ومرسلة عمار الساباطی(7) المتقدمتین .

والطائفة الثانیة : تدل علی المنع مطلقاً ، نحو : خبر إبن أبی عمیر عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام (8) وخبر علی بن أبی حمزة البطائنی(9) الماضیین .

والطائفة الثالثة : تدل علی التفصیل بین وصل الصوف وشعر المعز وشعر المرأة بنفسها وبین المرأة الاُخری ، فحکمت بالجواز فی الاُولی وبعدمه فی الثانیة ، نحو :

ص:262


1- (4) النهایة 5 / 192 .
2- (5) مرآة العقول 19 / 79 .
3- (6) ملاذ الأخیار 10 / 342 .
4- (7) معانی الأخبار / 250 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 133 ح 7 .
5- (1) سنن البیهقی 7 / 312 کتاب القسم والنشوز ، باب ما لا یجوز للمرأة أن تتزیّن به .
6- (2) وسائل الشیعة 20 / 187 ح 2 .
7- (3) وسائل الشیعة 20 / 188 ح 4 .
8- (4) وسائل الشیعة 17 / 131 ح 2 .
9- (5) وسائل الشیعة 17 / 132 ح 4 .

خبر عبد اللّه بن الحسن قال : سألته عن القرامل ، قال : وما القرامل ؟ قلت : صوف تجعله النساء فی رؤوسهنَّ ، قال : إذا کان صوفاً فلا بأس ، وإن کان شعراً فلا خیر فیه من الواصلة والموصولة(1) .

والروایة تدلّ علی جواز وصل الصوف بشعرها ولکن نفت جواز وصل الشعر بشعرها مطلقاً ، ولکن فی سندها ضعف وإضمار .

ومنها : خبر ثابت بن سعید قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن النساء یجعل فی رؤوسهنَّ القرامل ، قال : یصلح الصوف وما کان من شعر امرأة لنفسها ، وکره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غیرها ، فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا یضرّها(2) .

دلالتها علی التفصیل واضحة ، ولکن فی سندها ضعف لأنّ ثابتاً مجهولٌ .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : لا بأس بکسب الماشطة ما لم تشارط وقبلت ما تعطی ، ولا تصل شعر المرأة بشعر إمرأة غیرها ، وأمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة(3) .

والروایة تدلّ علی التفصیل ، ولکن فی سندها إرسال وإضمار .

ومقتضی الجمع بین الروایات الجواز بالنسبة إلی وصل الصوف أو شعر الحیوانات نحو المعز وشعر المرأة نفسها بشعرها ، وأمّا وصل شعر المرأة الاُخری بشعرها فلا یجوز ، إلا أن الأصحاب ذهبوا فی وصل شعر المرأة الاُخری بشعرها إلی الکراهة نحو : الشیخ فی الخلاف(4) والعلامة فی المنتهی(5) والشیخ الأعظم فی المکاسب(6) وصاحب الجواهر قدس سرهم فی کتابه(7)

ص:263


1- (6) وسائل الشیعة 17 / 132 ح 5 .
2- (7) وسائل الشیعة 20 / 187 ح 1 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 133 ح 6 .
4- (2) الخلاف 1 / 492 المسألة 234 من الصلاة .
5- (3) منتهی المطلب 1 / 184 من کتاب الطهارة ، المقصد الخامس البحث الثانی - (3 / 316 من الطبعة الحدیثة) .
6- (4) المکاسب المحرمة / 21 - (1 / 169 من الطبعة الحدیثة) .
7- (5) جواهر الکلام 22 / 114 .

وتلمیذه السید علی بحر العلوم رحمهم الله فی برهان الفقه(1) والمحقق الإیروانی فی حاشیة المکاسب(2) والمحقق الأردکانی فی غنیة الطالب(3) وشیخنا الأستاذ - مدظله - فی إرشاد الطالب(4) وبعض أساتذتنا - مد ظله - فی دراساته(5) . ولکن استشکل الفقیه السبزواری قدس سره فی استفاده الکراهة من الروایات(6) ، وهکذا قبله الفقیه السید الیزدی قدس سره ذهب إلی الکراهة ثم استشکل فیه وقال : « ومن ذلک یظهر أنّ الحکم بالکراهة فی المذکورات أیضاً مشکلٌ ، إلاّ من باب قاعدة التسامح العقلی أو الشرعی بملاحظة النبوی بعد دعوی ظهورها فی المرجوحیة فی حدّ نفسه

فیصدق البلوغ ... »(7) .

أما المحقق الخوئی قدس سره فقد ذهب إلی الجواز مطلقاً حتّی فی وصل شعر المرأة الاُخری بشعرها ، لضعف ما دلّت علی الکراهة سنداً ، ولذا قال : « ولکنّها جمیعاً ضعیفة السند ، وإذن فمقتضی الأصل هو الجواز مطلقاً »(8) . وتبعه تلمیذه فی عمدة المطالب(9) ، وقبلهما ذهب إلی الجواز العلامة الحلی قدس سره فی تذکرته حیث قال : « وإذا لم یحصل تدلیس بالوصل ، لم یکن به بأس »(10) . و ما ذکره العلامة الحلی والمحقق الخوئی « قدس سرهما » تام ، وإن کان الأحوط الذهاب إلی الکراهة فی وصل شعر المرأة الاُخری بشعرها موافقة للمشهور وعملاً بروایاتها .

العمل الثانی : النمص

وهو حفّ الشعر ونتفه فما حکمه ؟ تدلّ علی عدم جواز النمص خبر علی بن غراب عن

ص:264


1- (6) برهان الفقه / کتاب التجارة / 39 من الطبع الحجری .
2- (7) حاشیة المکاسب 1 / 118 .
3- (8) غنیة الطالب 1 / 107 و 106 .
4- (9) إرشاد الطالب 1 / 113 .
5- (10) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 479 .
6- (11) مهذب الأحکام 16 / 77 .
7- (1) حاشیة المکاسب / 15 - (1 / 93 من الطبعة الحدیثة) .
8- (2) مصباح الفقاهة 1 / 203 .
9- (3) عمدة المطالب 1 / 157 للفقیه السید تقی بن حسین الطباطبائی القمی - مدظله - .
10- (4) تذکرة الفقهاء 12 / 143 .

جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم النّامصة والمنتمِصَة والواشرة والمستوشِرَة والواصلة والمستوصِلة والواشمة والمستوشمة .

بانضمام تفسیر علی بن غراب قال : النّامِصَة التی تنتف الشعر من الوجه والمنتمصة التی یفعل ذلک بها . والواشرة التی تشر أسنان المرأة وتُفْلِجها وتُحدّدها ، والمستوشرة التی یفعل ذلک بها . والواصلة التی تصل شعر المرأة بشعر امرأة غیرها ، والمستوصلة التی یفعل ذلک بها .والواشمة التی تشم وشماً فی ید المرأة أو فی شیءٍ من بدنها ، وهو أن تَغرِزَ یدیها أو ظهر کفّها أو شیئاً من بدنها بإبرة حتّی تؤثّر فیه ثمّ تحشوه بالکحل أو بالنورة فیخضرُّ ، والمستوشمة التی یفعل ذلک بها(1) .

وقد مرّ منّا ضعف سند الروایة وعدم حجیة تفسیر علی بن غراب وعدم إفتاء الأصحاب علی مدلولها فلا تفید شیئاً فی المقام ، مضافاً إلی ورود الروایات بجوازها :

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن المرأة ،

أتحفّ الشعر عن وجهها ؟ قال : لا بأس(2) .

ومنها : خبر علی بن جعفر أنّه سأل أخاه موسی بن جعفر علیه السلام عن المرأة تحف الشعر من وجهها ؟ قال : لا بأس(3) .

ولا یبعد إتحاد الروایتین .

ومنها : مرسلة أبی بصیر قال : سألته عن قصّة النواصی ترید المرأة الزینة لزوجها وعن الحفّ والقرامل والصوف وما أشبه ذلک ؟ قال : لا بأس بذلک کلّه(4) .

قال بعض أساتیذنا فی ذیل الروایة : « القُصة : بضم القاف ، الخُصلة من الشعر ، وقُصة النواصی : الخصلة من الشعر تجمع فی الناصیة للزینة ، نحو ما هو المتعارف فی عصرنا

ص:265


1- (5) معانی الأخبار / 249 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 133 ح 7 .
2- (1) وسائل الشیعة 20 / 189 ح 6 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 133 ح 8 .
4- (3) وسائل الشیعة 20 / 189 ح 5 .

أیضاً »(1) .

فمع ورود صحیحة علی بن جعفر الماضیة فی جواز حفّ الشعر ونتفه فلا مجال إلاّ الإفتاء بها والحکم بجوازه .

العمل الثالث والرابع : الوشم والوشر

وقد مرّ خبر علی بن غراب وتفسیره فی الوشم والوشر آنفاً ، وقد مرّ منّا أیضاً إشکالنا فیه .

وأمّا خبر عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الواشمة والموتشمة والناجش والمنجوش ملعونون علی لسان محمد صلی الله علیه و آله وسلم (2) .

فیمکن أن یُستدل به علی عدم جواز الوشم ، لأنّ ظهور اللعن فی الحرمة واضح .

وفیه : أولاً : قد یقال : الروایة ضعیفة سنداً بمحمد بن سنان وإن وثقه المفید قدس سره فی الإرشاد(3) واعتمد علیه المجلسی قدس سره فی الوجیزة(7) ومال إلی الإعتماد علیه جدنا من طریق الاُمّ حجة الإسلام الشفتی رحمه الله فی رسائله الرجالیة(4) وجدنا الأعلی العلاّمة الشیخ محمّد تقی قدس سره صاحب هدایة المسترشدین فی فقهه « تبصرة الفقهاء »(5) ونحن أیضاً نذهب إلی وثاقته واعتباره .

وثانیاً : لم یفت أحد من الأصحاب بالحرمة فیهما لهاتین الروایتین ، فلا یمکن الإفتاء علیهما . وغایة ما یمکن أن یقال فیهما ، القول بالکراهة و دون إثباتها خرط القتاد .

ص:266


1- (4) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 480 .
2- (5) الکافی 5 / 559 ح 13 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 20 / 239 ح 1 - الباب 137 من ابواب مقدمات النکاح .
3- (6) الارشاد 2 / 248 .
4- (1) الوجیزة / 161 الرقم 1691 .
5- (2) الرسائل الرجالیة / (637 - 609) .
تذکرة : جمع آخر بین الروایات

ذهب جدنا الشیخ الأکبر الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره إلی جمع آخر بین الروایات الظاهرة فی الحرمة نحو خبر علی بن غراب وغیرها وبین الروایات المجوّزة : بأن هذه الأعمال جائزة إذا کانت للزوج ، ومحرمة إذا کانت لغیره ، قال قدس سره بعد ذکر تفسیر ابن غراب فی النبوی : « ... ویخصَّص أمثاله بما کان لغیر الزوج ونحوه ، لما دلّ علی استحباب التزیّن له بأنواع الزینة وعلی خصوص الوصل بالشعر . ولا عیب فی الصلاة من جهته کما ظُنّ ، فیُخَصّ المنع بالتدلیس ، ومع تنقیح المناط یعمّ کلّ تدلیس ، ولا یُشترط إذن الزوج إلاّ فیما یخشی منه النقص فی محاسن الزوجة بانهدام أسنانها أو ضرر فی بدنها ونحو ذلک ، وأمّا المالک فیلزم استئذانه مطلقاً »(1) .

وتبعه بعض أساتیذنا - مدظله - فی غیر الوصل ، فقال : « وأمّا الخصال الثلاث الأخر فهی من اُوضح مصادیق الزینة ، فإن وقعت بقصد التدلیس أو بقصد جذب الفسّاق من الأجانب - علی ما کانت تصنعه الفواجر - کانت محرّمة بلا إشکال ، وإلاّ فلا وجه لحرمتها بل ولا کراهتها ، ولا سیما فیما إذا تزیّنت بها المرأة لزوجها وأخفتها عن الأجانب ، بل یمکن القول بحسنها عقلاً واستحبابها شرعاً فی هذه الصورة ، لإعفاف الزوج وإقناعه وکفّه عن المحرّمات ، وعلی ذلک استقرت سیرة العقلاء بل والمتشرعة أیضاً ، وتحمل أخبار النهی واللعن علی موارد التدلیس وقصد الفساد أو المعرضیّة لهما ، ولا سیما بعد تفسیر الوصل فیها بالقیادة التی لا إشکال فی حرمتها ، فتدبر »(2) .

أقول : هذا الجمع حسن متین ترضی النفس به ، وأمّا إخراج الوصل عن بقیة الاُمور کما صنعه الاُستاذ - مد ظله - غیر تام علی ما یخطر بالبال ، وقبلهما ذهب إلی هذا الجمع المحقق البحرانی قدس سره فی الحدائق(3) . وهذا تمام الکلام فی حکم هذه الأعمال ، والحمد للّه العالم بالأحکام والأحوال .

ص:267


1- (3) تبصرة الفقهاء 1 / 181 .
2- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 484 .
3- (2) الحدائق 18 / 195 و 197 .
الجهة الثالثة : تدلیس الماشطة
اشارة

قال فی الحدائق : « والمراد بذلک : ما إذا أرادت تزویج إمرأة برجل ومثله بیع أمة ، بأن تستر عیوبها وتظهر لها محاسن لیست فیها ، کتحمیر وجهها ووصل شعرها ونحو ذلک ممّا یوجب رغبة الزوج فی تزویجها أو المالک فی شرائها »(1) .

هذا الکلام من صاحب الحدائق قدس سره یبیّن لنا محط نظر الأصحاب فی البحث ، وهو : إرادة الماشطة المدلِّسة تزویج المرأة أو بیع الأمة ، یعنی یصدق علی نفس فعل الماشطة التدلیس . وبعبارة اُخری : الماشطة هی التی ترید تزویج المرأة أو بیع الأمة بالتدلیس ، والشاهد علی ما ذکرنا ملاحظة کلمات أصحابنا قدس سرهم فی المقام ، نحو :

1 - المحقق الأردبیلی قدس سره قال : « المراد تدلیس المرأة التی ترید تزویج امرأة برجل أو بیع أمة ، بأن تستر عیبها وتظهر ما یحسنها من تحمیر وجهها ووصل شعرها مع عدم علم الزوج والمشتری بذلک »(2) .

2 - قال الفقیه السید علی الطباطبائی فی الریاض : « تدلیس الماشطة بإظهارها فی المرأة محاسن لیست فیها من تحمیر وجهها ووصل شعرها ونحو ذلک إرادة منها ترویج کسادها »(3) .

یعنی أرادت الماشطة بنفسها ترویج کسادها .

3 - وقال الفاضل النراقی قدس سره : « تدلیس الماشطة بإظهارها فی المرأة محاسن لیست فیها لترویج کسادها ... »(4) .

4 - وقال الفقیه صاحب الجواهر : « تدلیس الماشطة مثلاً الإمرأة علی خطّابها والجاریة علی مشتریها بإظهار حسن لیس فیها وإخفاء قبحها کتحمیر وجهها ووصل شعرها ونحو ذلک »(5) .

ص:268


1- (3) الحدائق 18 / 194 .
2- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 83 .
3- (5) ریاض المسائل 8 / 172 .
4- (1) مستند الشیعة 14 / 171 .
5- (2) الجواهر 22 / 113 .

5 - وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم قدس سره : « ومن أفراد الغش تدلیس الماشطة بفعل ما تری المرأة لخاطبها أو الأمة لمشتریها فی محاسن لیست فیها واقعاً کتحمیر وجهها وتسوید شعرها وغیر ذلک مع فرض حصول الغش والتدلیس به ، فیحرم لحرمة الغش ویلزمه حرمة عوض العمل ... »(1) .

والغرض من نقل کلمات هؤلاء وهم من أساطین الفقه ، أنّ محط البحث والکلام فی مورد تدلیس واقع علی ید الماشطة ، وهی عالمة قاصدة به ، مضافاً إلی هذه التصریحات تدلّ علیه بیانهم بأنّ ذکر الماشطة وقع علی سبیل المثال ، ولو أن المرأة بنفسها قامت بهذا التدلیس فعملها أیضاً محرّم ولذا قال المحقق الأردبیلی : « بل ولو فعلت المرأة بنفسها ذلک کذلک »(2) ، ونحوه عبارة ثانی الشهیدین فی کتابه المسالک(3) کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة(4) .

وقال المحقق البحرانی : « والظاهر أنّ ذکر الماشطة فی کلامهم إنّما مخرج التمثیل وإلاّ لو فعلت المرأة بنفسها ذلک للغرض المذکور فالظاهر أنّ الحکم فیها کذلک »(5) .

فعلی ما ذکرنا بطوله من کلمات الأصحاب ظهر لک أنّ محلّ البحث فی تدلیس الماشطة أعنی فعل التدلیس الذی وقع علی ید الماشطة کما یُشعر بذلک عنوان البحث ، ولذا لم یرد علیهم ما ذکره المحقق الإیروانی : « أنّ الماشطة لا ینطبق علی فعلها غشّ ولا تدلیس ، إنّما الغش

والتدلیس یکون بفعل من یعرض المغشوش والمدلس فیه علی البیع ، نعم الماشطة أعدّت المرأة لأنْ یغشّ بها ، وحالها کحال الحائک الذی بفعله تعدّ العمامة لأنْ یدلس بلبسها وکفعل السبحة المعدّ لها لأن یدلّس بالتسبیح بها ریاءً»(6) .

ص:269


1- (3) برهان الفقه / کتاب التجارة / 39 .
2- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 83 .
3- (5) مسالک الأفهام 3 / 130 .
4- (6) مفتاح الکرامة 4 / 58 - (12 / 194 من طبعة جماعة المدرسین) .
5- (7) الحدائق 18 / 194 .
6- (1) حاشیة المکاسب 1 / 117 .

واستجوده المحقق الخوئی فی تقریرات بحثه(1) .

ولکن قد عرفت أنّ المحقق الإیروانی قدس سره أخرج کلام الأصحاب عن مورده ثمّ استشکل علیه ، والحقّ ما ذکرناه .

ثمّ بعد ظهور محل الکلام فی البحث لابدّ من ذکر الأدلة التی اُقیمت علی حرمة تدلیس الماشطة فنقول :

الدلیل الأوّل : الإجماع قام علی تحریم تدلیس الماشطة :

أوّل من ادعی علیه الإجماع المحقق الأردبیلی(2) ثم تبعه أصحاب الریاض(3) والمستند(4) وشرح القواعد(5) ومفتاح الکرامة(6) والجواهر(7) وحاشیة المکاسب(8) .

وفیه : أولاً : تحصیل الإجماع فی کلمات القدماء من أصحابنا مشکل ، وهو الحجة فی المقام .

وثانیاً : یحتمل أن یکون الإجماع مدرکیاً وکون مدرکهم الدلیل الآتی .

الدلیل الثانی : الغش والتدلیس حرام بالروایات الصحاح ، وهذا العمل من الماشطة أیضاً تدلیس ، فهذا العمل حرام .

ویأتی منّا أدلة حرمة الغش فی بحثه إن شاء اللّه تعالی ، ولم یرد فی خصوص تدلیس الماشطة روایة خاصة کما اعترف به المحقق البحرانی قدس سره فی الحدائق(9) ، ولا نحتاج إلیه بعد

ص:270


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 198 .
2- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 83 .
3- (4) ریاض المسائل 8 / 172 .
4- (5) مستند الشیعة 14 / 171 .
5- (6) شرح القواعد 1 / 212 للشیخ الأکبر کاشف الغطاء .
6- (7) مفتاح الکرامة 4 / 58 - (12 / 193 من طبعة جماعة المدرسین) .
7- (8) الجواهر 22 / 113 .
8- (9) حاشیة المکاسب / 15 للفقیه الطباطبائی الیزدی (1 / 91) .
9- (10) الحدائق 18 / 194 .

دخول فعلها فی التدلیس والغش الثابت حرمتهما بالروایات الصحاح .

فعلی ما ذکرنا ظهر ما فی کلام الفقیه الیزدی قدس سره من الحکم بالحرمة علی فعل الماشطة مع قصد التدلیس(1) .

والوجه فی ذلک : أنّ التدلیس والغش فعل خارجی لا یحتاج إلی القصد والنیة ، فلو أنّ شخصاً لم یقصد التدلیس والغش ولکن صدق علی فعله أنّه غشّ أو دلَّس کان فعله محرّماً ، والأمر فی الماشطة أیضاً کذلک .

وبالجملة ، تدلیس الماشطة بما أنّه تدلیس وغشّ یشمله الأدلة العامة فی حرمة الغش فهو حرام . هذا کلّه إذا صدق علی فعل الماشطة أنّها تغش أو تدلّس ، بأن تتصدی هی بنفسها لتزویج المرأة أو بیع الأمة .

ولکن إذا لم تتصد الماشطة ذلک للتزویج أو البیع ، والولی أو المرأة بنفسهما تصدیا للتزویج والمالک تصدی لبیع أمته ، والماشطة مشغولة بفعلها یعنی المِشاطة والتزیین فقط . فحینئذ تارة تعلم الماشطة بأن یُغشّ أو یُدلّس بفعلها وتارة لا تعلم ، فعلی فرض علمها یمکن الحکم بحرمة فعلها علی القول بحرمة الإعانة علی الإثم مطلقاً ، وقد مرّ منّا الإشکال فی ذلک .

وعلی فرض عدم علمها لا یمکن الحکم بالحرمة مطلقاً ، لعدم الدلیل علیها .

فرع مستحدث

ظهر ممّا ذکرنا فی حکم تدلیس الماشطة ، حکم العملیة الجراحیة البلاستیکیة المعمولة فی عصرنا هذا علی وجوه النساء وأعضائهنَّ وحتّی علی فروجهنّ من تضییقه وتحسینه وترمیم بکارته ، من عدم حرمة هذه العملیة من هذه الجهة إلاّ إذا صدق علیها عنوان الغش والتدلیس ، وهو لا یصدق علی فعل الجرّاح إلاّ فی موارد نادرة کما لا یخفی .

وهذا تمام الکلام فی بحث تدلیس الماشطة والحمد للّه أوّلاً وآخراً وهو العالم بأحکامه .

ص:271


1- (1) حاشیة المکاسب / 15 (1 / 92) .

تزیین الرجل بما یحرم علیه

اشارة

قد تعرّض الشیخ الأعظم قدس سره (1) تحت هذا العنوان لمسألتین :

1 - تزیین الرجل بالحریر والذهب .

2 - تشبّه الرجل بالمرأة وعکسه ولذا نبحث عنهما فی مقامین :

المقام الأوّل : تزیین الرجل بالحریر والذهب
اشارة

هل المحرّم علی الرجل عنوان التزیّن بالحریر والذهب أو لبسهما فلو لم یصدق التزیین ؟ لأنّ بینهما عموم وخصوص من وجه ، قد یصدق الزینة ولا یصدق اللبس کما إذا خیط بالحریر أو الذهب الثوب ، أو شدّ الأسنان بالذهب أو تعلیق الساعة علی اللباس بالذهب ، وقد یصدق اللبس ولا یصدق الزینة کلبسهما تحت الألبسة وتختم الرجل بالذهب للتجربة والإمتحان ، وقد یصدق اللبس والزینة معاً کمن لبس لباساً من الحریر خاصة أو الحریر والذهب ممزوجاً ونحوهما . فلابدّ من ملاحظة الأدلة فی المقام حیث ثبت أنّ المحرّم فیها عنوان التزیین أو اللبس أو کلیهما ، ولذا نبحث عنها فی جهتین :

الجهة الأولی : أدلة حرمة الحریر إلاّ ما استثنی علی الرجال

الدلیل الأوّل : أدعی المحقق الأردبیلی قدس سره الإجماع علی حرمة التزیین بهما للرجال وهکذا فی المسألة الثانیة أعنی التشبّه ، ولکن استشکل فیه بقوله : « والإجماع غیر ظاهر فیما قیل »(2) .

ولکن ادعی الفقیه السید علی الطباطبائی قدس سره الإجماع علی حرمة تزیین الرجل

ص:272


1- (1) المکاسب 1 / 173 .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 85 .

بالذهب وإن قلّ والحریر إلاّ ما استثنی(1) ، وهکذا الفاضل النراقی(2) .

وذهب صاحب الجواهر إلی الإجماع بین المسلمین فی عدم جواز لبس الحریر المحض

للرجال ، وإلی الإجماع عندنا فی عدم جواز الصلاة فیه إذا کان ممّا تتمّ به الصلاة(3) .

فالدلیل الأوّل علی حرمة الحریر علی الرجال هو الإجماع بین المسلمین والفریقین .

وفیه : ثبوت إتفاق الفقهاء من العامة والخاصة علی حرمة الحریر للرجل متحقق ، ولکن هل هذا علی نحو اللبس أو التزیین غیر معلوم ، هذا أولاً .

وثانیاً : تحصیل الإجماع المحصَّل فی المقام مشکل کما مرّ من المحقق الأردبیلی قدس سره .

وثالثاً : الإجماع علی فرض ثبوته مدرکی ومأخذه الروایات الواردة فی المقام ، فلا یفید الإجماع شیئاً و لابدّ من ملاحظة الروایات .

الدلیل الثانی : الروایات تدلّ علی حرمة لبس الحریر علی الرجل .

منها : معتبرة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا یصلح لباس الحریر والدیباج ، فأمّا بیعهما فلا بأس(4) .

بقرینة الحکم والموضوع وغیرها من الروایات ، فإن الروایة تدل علی حرمة لبس الحریر والدیباج علی الرجل مطلقاً ، یعنی فی حال الصلاة وغیرها . والسند قوی ومعتبر .

ومنها : خبر جراح المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام إنّه کان یکره أن یلبس القمیص المکفوف بالدیباج ، ویکره لباس الحریر ولباس الوشی [ القسی ] ، ویکره المیثرة الحمراء فإنّها میثرة إبلیس(5) .

والروایة تدل علی حرمة لبس الحریر والدیباج علی الرجل ، ومن المعلوم أنّ الکراهة فی لسان الأئمة علیهم السلام تحمل علی الحرمة .

ص:273


1- (3) ریاض المسائل 8 / 173 .
2- (4) مستند الشیعة 14 / 173 .
3- (1) الجواهر 8 / 114 .
4- (2) وسائل الشیعة 4 / 368 ح 3 - الباب 11 من أبواب لباس المصلی .
5- (3) وسائل الشیعة 4 / 370 ح 9 .

والوشی فی اللغة : تحسین الشیء وتزیینه(1) ، ولباس الوشی لعله کان لباساً فی تلک الأعصار یزیّنونه بالحریر ، وتظهر من مکاتبة الحمیری أنّه یعمل من قزّو أبریسم(2) . وأمّا إذا کان لباس القسی - کما فی نسخة - فالمراد به ثیابٌ یوتی بها من الیمن کما فی معجم مقاییس اللغة(3) أو ثیاب فیها حریر تجلب من مصر ، نسبة إلی قریة تصنع بها کما فی لسان العرب(7) ،ولم

ینقل لنا کیفیته ولکن الظاهر أنّه أیضاً یصنع من الحریر والدیباج بقرینة عطفه فی کلامه علیه السلام بلباس الحریر .

وأمّا المیثرة : شیءٍ یحسن بقطن أو صوف ویجعله الراکب تحته ، وجمعه میاثر ومؤاثر(4) . وعلی هذا المعنی لابدّ من حمل النهی عن المیثرة الحمراء علی الکراهة کما هو واضح .

وبالجملة ، الروایة تدلّ علی حرمة لبس الحریر والدیباج علی الرجال ، ولکن سندها ضعیف بقاسم بن سلیمان ، لأنّ الرجالیین توقفوا فیه ولم یوثقوه .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهاهم عن سبع خصال : منها لباس الإستبرق والحریر والقَزِّ والأرجوان(5) .

والروایة تدلّ حرمة لبس الحریر ، لأنّ النهی ظهوره فی الحرمة ، والسند لا بأس به .

ومنها : معتبرة إسماعیل بن الفضل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح للرجل أن یلبس الحریر إلاّ فی الحرب(6) .

النهی یدلّ علی حرمة لبس الحریر للرجال ، والإستثناء یدلّ علی جوازه فی الحرب .

ص:274


1- (4) معجم مقاییس اللغة لابن فارس 6 / 114 .
2- (5) وسائل الشیعة 4 / 375 ح 8 الباب 13 من أبواب لباس المصلی .
3- (6) معجم مقاییس اللغة 5 / 10 .
4- (1) لسان العرب 6 / 175 .
5- (2) مجمع البحرین 3 / 509 .
6- (3) وسائل الشیعة 4 / 371 ح 11 .

وسند الروایة معتبر بعبد اللّه بن محمد بن عیسی أخی أحمد الثقة ، وعبد اللّه کان معتمداً علیه ، وإسماعیل بن الفضل هو الهاشمی الثقة .

ومنها : موثقة ابن بکیر عن بعض أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یلبس الرجل الحریر والدیباج إلاّ فی الحرب(1) .

ظهور النهی فی الحرمة واضح ، ولکن فی سند الروایة إرسال .

ومنها : موثقة سماعة بن مهران قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن لباس الحریر والدیباج ، فقال : أمّا فی الحرب فلا بأس به وإن کان فیه تماثیل(2) .

فی هذه الموثقة إشعار بأنّ فی غیر الحرب به باسٌ ، یعنی یحرم فی غیر الحرب .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : لم یطلق النبی صلی الله علیه و آله وسلم لبس الحریر لأحد من الرجال إلاّ لعبد الرحمن بن عوف وأنّه کان رجلاً قِملاً(3) .

دلالتها علی حرمة لبس الحریر للرجال واضحة ، ولکن فی سندها إرسال .

ومنها : صحیحة زرارة قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام ینهی عن لباس الحریر للرجال والنساء إلاّ ما کان من حریر مخلوط بخزّ لحمته أو سداه خزّ أو کتان أو قطن ، وإنّما یکره الحریر المحض للرجال والنساء(4) .

الروایة تدلّ علی حرمة لبس الحریر المحض للنساء والرجال ، ولکن النساء خرجنّ بواسطة غیرها من الروایات من هذه الحرمة الی الجواز وبقی الرجال فی الحکم بالحرمة .

وبالجملة ، هذه الروایات کما تری تدلّ علی حرمة لبس الحریر للرجال فقط ولم یرد فیها عنوان التزیین ، فما حرم علی الرجال لبس الحریر المحض وبطلت صلاتهم فیها کما تدلّ علیه الروایات(5) . نعم استثنی لهم ما لا تتمّ الصلاة فیه کالقلنسوة ونحوها .

ص:275


1- (4) وسائل الشیعة 4 / 371 ح 1 الباب 12 من أبواب لباس المصلی .
2- (5) وسائل الشیعة 4 / 372 ح 2 .
3- (1) وسائل الشیعة 4 / 372 ح 3 .
4- (2) وسائل الشیعة 4 / 372 ح 4 .
5- (3) وسائل الشیعة 4 / 374 ح 5 - الباب 13 من أبواب لباس المصلی .
الجهة الثانیة : أدلة حرمة الذهب علی الرجال

تدلّ عدّة من الروایات علی حرمة لبس الذهب علی الرجال :

منها : موثقة روح بن عبد الرحیم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لأمیر المؤمنین علیه السلام : لا تتختم بالذهب فإنّه زینتک فی الآخرة(1) .

نهی صلی الله علیه و آله وسلم عن التختم بالذهب ، والتختم من أظهر مصادیق الزینة وإن صدق فی لسان العرب علیه اللبس ، والتعلیل أیضاً فیه إشعار بحرمة هذا التزیین فی الدنیا . وسند الروایة موثق ، لأن المراد بغالب بن عثمان هو المنقری الثقة وإن کان واقفیاً بقرینة روایة ابن فضال عنه وروایته عن روح بن عبد الرحیم ، فالروایة موثقة سنداً به وبابن فضال .

ومنها : خبر أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام : أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال لعلیّ علیه السلام : إنّی اُحبّ

لک ما اُحبّ لنفسی وأکره لک ما أکره لنفسی ، لا تتختم بخاتم ذهب فإنّه زینتک فی الآخرة ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر حنان بن سدیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته یقول : قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعلیّ علیه السلام : إیّاک أن تتختّم بالذهب ، فإنّه حلیتک فی الجنة ، وإیّاک أن تلبس القسی(3) .

ومنها : خبر جراح المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا تجعل فی یدک خاتماً من الذهب(4) .

ومنها : معتبرة عمار بن موسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : لا یلبس الرجل الذهب ولا یصلّی فیه ، لأنّه من لباس أهل الجنة(5) .

هذه الروایة تدلّ علی حرمة لبس الذهب علی الرجال وبطلان الصلاة فیه وسندها معتبر .

ص:276


1- (4) فراجع وسائل الشیعة 4 / 376 الباب 11 من أبواب لباس المصلی .
2- (1) وسائل الشیعة 4 / 414 ح 6 .
3- (2) وسائل الشیعة 4 / 416 ح 11 .
4- (3) وسائل الشیعة 4 / 413 ح 2 .
5- (4) وسائل الشیعة 4 / 413 ح 4 .

ومنها : خبر موسی بن أکیل النمیری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الحدید : إنّه حلیة أهل النار والذهب أنّه حلیة أهل الجنة ، وجعل اللّه الذهب فی الدنیا زینة النساء ، فحرّم علی الرجال لبسه والصلاة فیه ، الحدیث(1) .

فی الروایة إشعار بحرمة التزین بالذهب علی الرجال ، والتلبس به من أحد مصادیقه .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهاهم عن سبع ، منها : التختّم بالذهب(2) .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی علیه السلام قال : سألته عن الرجل هل یصلح له أن یتختم بالذهب ؟ قال : لا(3) .

الظاهر أن النهی فی عدم جواز التختم بالذهب بعنوان أحد مصادیق التزیّن والتحلی

به ، ولا نری الفرق بین التختم بالذهب وغیره من الحلی والزینة . وسند الروایة صحیح ، لأنّ لصاحب الوسائل سنداً صحیحاً إلی کتاب علی بن جعفر العریضی قدس سره .

ومنها : خبر البراء بن عازب قال : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن سبع وأمر بسبع ، نهانا أن نتختّم بالذهب وعن الشرب فی آنیة الذهب والفضة وقال : من شرب فیها فی الدنیا لم یشرب فیها فی الآخرة ، وعن رکوب المیاثر ، وعن لبس القسیّ ، وعن لبس الحریر والدیباج والإستبرق ، وأمرنا باتباع الجنائز وعیادة المریض وتسمیت العاطس ونصرة المظلوم وإفشاء السلام وإجابة الداعی وإبراء القسم(4) .

سند الروایة ضعیف بعدّة من الضعاف والمجاهیل .

ومنها : خبر إبن عباس عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی حجة الوداع : إنّ من أشراط القیامة إضاعة الصلاة - إلی أن قال : - فعند ذلک تحلّی ذکور اُمّتی بالذهب ویلبسون الحریر والدیباج ، الحدیث(5)

ص:277


1- (5) وسائل الشیعة 4 / 414 ح 5 .
2- (6) وسائل الشیعة 4 / 415 ح 9 .
3- (7) مسائل علی بن جعفر العریضی / 162 ح 251 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 4 / 415 ح 10 .
4- (1) وسائل الشیعة 4 / 415 ح 8 .
5- (2) وسائل الشیعة 15 / 348 ح 22 - الباب 49 من أبواب جهاد النفس .

ومنها : خبر جابر الجعفی عن الباقر علیه السلام أنّه قال : لیس علی النساء أذان ولا إقامة إلی أن قال : ویجوز للمرأة لبس الدیباج والحریر فی غیر صلاة وإحرام وحرم ذلک علی الرجال إلاّ فی الجهاد ، ویجوز أن تتختّم بالذهب وتصلّی فیه وحرم ذلک علی الرجال [ إلاّ فی الجهاد ] ، قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : یا علی لا تتختّم بالذهب فإنّه زینتک فی الجنة ، ولا تلبس الحریر فإنّه لباسک فی الجنة ، الحدیث(1) .

ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی الرجال عن حلیة الذهب ، قال : هی حرام فی الدنیا(2) .

ومنها : مرفوعة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه خرج وفی إحدی یدیه ذهب والاُخری حریر وقال : إنّ هذین محرّمان علی ذکور اُمتی ، حلّ لاُناثها(3) .

ظاهر هذه الروایات بقرینة تناسب حکمها وموضوعها أنّ التزیّن والتزیین بالذهب

والتلبس به علی الرجال حرام ، ولا تنحصر الحرمة بالتلبس بالذهب فقط بخلاف الحریر ، فإن التلبس به کان علی الرجال حراماً . وأمّا الذهب حرمته لا تنحصر بالتلبس بل تشمل التزیّن أیضاً . ویؤید ما ذکرنا قوله تعالی : «جَنَّاتُ عَدْنٍ یَدْخُلُونَهَا یُحَلَّوْنَ فِیهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِیهَا حَرِیرٌ»(4) .

حیث جعل اللّه تعالی الذهب حلّی أهل الجنة وزینتهم وجعل لباسهم الحریر . والروایات أیضاً أشارت إلی الآیة الشریفة حیث ورد فیها : « فإنّه (أی الذهب) زینتک فی الآخرة أو فی الجنة » .

وبالجملة ، مدار الحرمة فی الذهب علی التزیین واللبس معاً علی الرجال وفی الحریر علی اللبس فقط علیهم .

فعلی ما ذکرنا تمت الحرمة التکلیفیة الواردة فی کلام صاحب العروة قدس سره لا الحرمة

ص:278


1- (3) الخصال 2 / 588 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 3 / 218 ح 5 .
2- (4) دعائم الاسلام 2 / 164 ح 588 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 3 / 218 ح 3 .
3- (5) مستدرک الوسائل 3 / 219 ح 6 .
4- (1) سورة فاطر / 33 .

الوضعیة ، حیث یقول فی المسألة 23 من شرائط لباس المصلی : « ... نعم إذا کان زنجیر الساعة من الذهب وعلّقه علی رقبته أو وضعه فی جیبه لکن علّق رأس الزنجیر یحرم ، لأنّه تزیین بالذهب ولا تصح الصلاة فیه أیضاً »(1) .

لأنّنا استفدنا حرمة التزیین بالذهب علی الرجال من الروایات ، وأمّا الحرمة الوضعیة بالنسبة إلی الصلاة - یعنی بطلانها - فیدور مدار لبس الذهب وصدق عنوان الصلاة فیه ، یعنی إذا صدق أنّه صلی فی الذهب کانت صلاته باطلة . وفی صدق التلبس وإقامة الصلاة فیه فی مثل تعلیق الزنجیر الذی ذکره فی هذه المسألة مشکل جداً بل منع ظاهر . کما وافقنا فی هذا الفرض بعض المحشین للعروة ، نحو : بعض أساتیذنا - مد ظله -(2) والسید السیستانی(3) - مد ظله - وقبلهما تنظّر السید الحکیم قدس سره فی بطلان الصلاة(4) . وأمّا شدّ الأسنان بالذهب فلا یصدق علیه عنوان التزیین عرفاً ، وعلی فرض صدقه عرفاً فهو مقام العلاج ویکون من الضرورات التی تبیح المحظور ، مضافاً إلی ورود روایة صحیحة تجوّز شدّ الأسنان بالذهب ،

وهی :

صحیحة محمّد بن مسلم قال : رأیت أبا جعفر علیه السلام یمضغ علکاً ، فقال : یا محمد نقضت الوسمة أضراسی فمضغت هذا العلک لأشدّها ، قال : وکانت استرخت فشدّها بالذهب(5) .

والروایة بقرینة تناسب الحکم والموضوع وعدم الفرق بین الأضراس وغیرها من الأسنان تشمل الأسنان البارزة أیضاً ، فیجوز شدّ الأسنان بالذهب مطلقاً إذا کان الشدّ فی مقام العلاج ، واللّه العالم .

هذا تمام الکلام فی المقام الأوّل والمسألة الأولی .

ص:279


1- (2) العروة الوثقی / المسألة 23 من شرائط لباس المصلی .
2- (3) التعلیقة علی العروة الوثقی 1 / 261 .
3- (4) العروة الوثقی مع تعلیقة السید السیستانی 2 / 51 .
4- (5) العروة الوثقی 2 / 343 طبع جماعة المدرسین بقم المقدسة مع 15 حاشیة من أعلام الفقهاء والمراجع .
5- (1) وسائل الشیعة 2 / 93 ح 3 - الباب 49 من أبواب آداب الحمام . و4 / 416 ح 1 الباب 31 من أبواب لباس المصلی .
المقام الثانی : تشبّه الرجل بالمرأة وعکسه

هل المحرّم علی الرجل والمرأة تزیی أحدهما بزیّ الآخر فی اللباس والزینة وظهوره فی المجتمع بهیئة الآخر ، أو المحرّم علیها اللواط والمساحقة ، أو التزیّ التی مآلها إلی الإرتباطات الجنسیة المنحرفة لأنّهما من أظهر مصادیق التأنث والتذکّر ؟ فلابدّ من مراجعة روایات الباب حتّی یظهر الجواب :

فمنها : خبر جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم - فی حدیث - لعن اللّه المحلِّل والمحلَّل له ، ومن تولّی غیر موالیه ، ومن ادعی نسباً لا یعرف ، والمتشبّهین من الرجال بالنساء والمتشبّهات من النساء بالرجال ، ومن أحدث حدثاً فی الإسلام أو آوی محدِثاً ، ومَنْ قَتَلَ غیر قاتله أو ضرب غیر ضاربه(1) .

الروایة تدلّ علی حرمة مطلق تشبّه الرجل والمرأة بالآخر ، ومنها : التشبّه بالزیّ واللباس والهیئة والجنسیة وغیرها ، کما اعترف بهذه الدلالة عدّة من الأعلام منهم : الفقیه السید محمد کاظم الطباطبائی(2) والمحقق الإیروانی(3) وناقش فیها الشیخ الأعظم(4) والمحقق

الخوئی(5) قدس سرهم .

نعم ، جواز اشتغال الرجل بأعمال المرأة نحو الغزل والخیاطة وتغسیل الثوب وتنظیف البیت والکنس ، واشتغالها بأعماله نحو : البیع والشراء والسقی والزرع والحصد والأعمال التی تقع فی خارج البیت ، لا ینتقض علینا ، لأنّ خروج هذه الإشتغالات من محلّ البحث تخصصاً واضح ، ولم یذهب فقیه إلی حرمتها بإطلاق حرمة التشبّه ، فلا یتمّ ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره فی

ص:280


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 248 ح 1 الباب 87 من أبواب ما یکتسب به .
2- (3) حاشیة المکاسب / 16 - (1 / 99 من الطبعة الحدیثة) .
3- (4) حاشیة کتاب المکاسب 1 / 122 .
4- (5) المکاسب المحرمة / 22 - (1 / 174 من الطبعة الحدیثة) .
5- (1) مصباح الفقاهة 1 / 208 .

المقام ، فراجع تمام کلامه فی مصباحه(1) .

وأمّا ضعف سندها فمنجبر بالشهرة کما اعترف به الفقیه الیزدی قدس سره (2) .

ومنها : معتبرة بل موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام أنّه رأی رجلاً به تأنیث فی مسجد رسول اللّه ، فقال له : اُخرجْ من مسجد رسول اللّه یا من لعنه رسول اللّه ، ثم قال علی علیه السلام : سمعتُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : لعن اللّه المتشبهین من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال(3) .

وفی حدیث آخر : أخرجوهم من بیوتکم فإنّهم أقذر شیءٍ(4) .

الروایة تدلّ علی حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وعکسه مطلقاً ، واختصاصها باللواط واضح المنع ، لعدم لزوم خروج الملوط من مسجد رسول اللّه وعدم إمکان الإتیان بالفعل الشنیع فیه ، فظهور الروایة فی الرجل الذی تشبّه بالنساء فی الزیّ والهیئة واللباس والزینة ونحوها ثابتٌ .

وأمّا سندها موثق أو معتبر أقلاً ، لأنَّ جلالة ووثاقة الصدوق ووالده ومحمد بن یحیی ومحمد بن أحمد وأحمد بن أبی عبد اللّه البرقی واضح ، وأمّا أبو الجوزاء فهو منبه بن عبد اللّه الثقة ، والحسین بن علوان الکلبی أیضاً ثقة أو معتبر ، نعم فی مذهبه خلاف من أنّه عامّی أو هو من الخاصة مع ثبوت وثاقة أخیه الحسن وکونه إمامیاً . وعمرو بن خالد الواسطی ثقة وقد یقال بأنّه من العامة ، ولکنّه بالزیدیة أقرب من العامّة ، لأنّ أکثر مایروی عن زید بن علی بن

الحسین علیهم السلام .

فالظاهر أنّ السند بنظرنا القاصر موثق أو معتبرٌ و لا أقل من حسنه ، فلا إشکال فی السند ، والدلالة أیضاً معلومة . فالروایة تدلّ علی حرمة مطلق التشبّه .

ومنها : موثقة أو معتبرة اُخری لعمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن

ص:281


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 208 .
2- (3) حاشیة المکاسب / 16 ،(1 / 100 من الطبعة الحدیثة) .
3- (4) علل الشرائع / 602 ح 63 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17/ 284 ح 2 و 20 / 337 ح 9 .
4- (5) علل الشرائع/602 ح 64 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17/285 ح 3 و 20 / 338 ح 10 .

علی علیه السلام قال : کنت مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم جالساً فی المسجد حتّی أتاه رجل به تأنیث ، فسلّم علیه فردّ علیه ، ثم أکبّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی الأرض یسترجع ، ثم قال : مثل هؤلاءِ فی اُمّتی ، إنّه لم یکن مثل هؤلاء فی اُمّة إلاّ عُذبتْ قبل الساعة(1) .

دلالة هذه الروایة علی حرمة مطلق التشبّه مشکلٌ ، ولمستشکل أن یقول : إنّ المراد بالتأنیث کون الرجل ملوطاً . ولکن الصحیح أن کونه ملوطاً من أظهر مصادیق التأنث ، لا أنّ التأنث منحصر به .

نعم ، لا إطلاق فی الروایة حتّی تدلّ علی حرمة مطلق التشبّه کما مرّ .

ومنها : خبر جابر بن یزید الجعفی عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال : لا یجوز لها (أی للمرأة) أن تتشبّه بالرجال ، لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لعن المتشبّهین من الرجال بالنساء ولعن المتشبّهات من النساء بالرجال(2) .

ودلالتها علی حرمة مطلق التشبّه واضح ، ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر عروة بن عبد اللّه بن قشیر [ بشیر ] قال : دخلت علی فاطمة بنت علی بن أبی طالب علیه السلام وهی عجوزة کبیرة وفی عنقها خرز وفی یدها مسکتان ، فقالت : یکره للنساء أن یتشبَّهنَ بالرجال ، الحدیث(3) .

الروایة أقوی شاهد علی ما ذکرنا ، حیث استفادت بنت أمیر المؤمنین علیه السلام ، فیها تزیّنها مع کبر سنها من حرمة تشبّه النساء بالرجال من ترک الزینة وتعطیلها ، وهذه الإستفادة إحدی مصادیق التشبّه . وفی سندها ضعف ظاهر .

لا یقال : إنّ هذه الروایة مقطوعة لم تنقل عن المعصوم شیئاً ، فلا تفیدنا فی المقام .

لأنّا نقول : نعم هذه الروایة مقطوعة ولم تنقل من المعصوم شیئاً ، ولکن یظهر منها أنّ

حرمة تشبّه النساء بالرجال أمرٌ متسالم علیه بین المسلمین فی تلک الأعصار ، ولذا استدلّتْ واحتجتْ فاطمة بنت أمیر المؤمنین علیه السلام علی ما فی الروایة علی عدم تعطیلها وترکها للزینة

ص:282


1- (1) علل الشرائع/602 ح 65 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17/285 ح 4 و 20/ 338 ح 11 .
2- (2) مستدرک الوسائل 3 / 246 ح 1 - الباب 9 من أبواب أحکام الملابس .
3- (3) مستدرک الوسائل 3 / 246 ح 3 .

بأنّ ترک الزینة وتعطیلها للنساء کان أمراً منهیاً عنه فی الشریعة المقدسة ، لأنّها من مصادیق تشبّه النساء بالرجال ، وهو حرام .

فإذا صار تشبّه النساء بالرجال حراماً ، کان عکسه - یعنی تشبّه الرجال بالنساء - أیضاً حراماً ، لعدم القول بالفصل .

فهذه الروایة دلّت علی حرمة مطلق التشبّه .

ومنها : خبر أبی هریرة قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المخنثین [ مِن ] الرجال المتشبهین بالنساء ، والمترجلات مِن النساء المتشبهات بالرجال ، الحدیث(1) .

دلالة الروایة علی الإطلاق مشکل ، وفی سندها ضعف ظاهر .

ومنها : خبر جبیر بن نقیر الحضرمی قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لعن اللّه ُ وأمنت الملائکة علی رجل تأنّث وامرأة تذکّرت ، الحدیث(2) .

دلالتها وسندها کالروایة السابقة .

ومنها : مرسلة الطبرسی رفعه عن أبی أمامة عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : أربع لعنهم اللّه مِنْ فوق عرشه وأمنت علیه ملائکته : الذی یحصر نفسه فلا یتزوّج ، ولا یتسرّی لئلا یولد له ، والرجل یتشبّه بالنساء وقد خلقه اللّه ذکراً ، والمرأة تتشبّه بالرجال وقد خلقها اللّه اُنثی(3) .

دلالتها علی حرمة مطلق التشبّه تام ، ولکن فی سندها إرسالٌ .

ومنها : مرسلة دعائم الاسلام رفعها عن الصادق علیه السلام أنّه قال : إنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی النساء أن یکنّ معطلات من الحُلی ، ولا یتشبهن بالرجال ، ولعن من فعل ذلک منهنَّ(4) .

الروایة تدلّ علی حرمة مطلق تشبّه النساء بالرجال ومنها ، تعطیلهنّ الزینة والحُلی کما مرّ منّا فی ذیل روایة عروة بن عبد اللّه الماضیة ، ولکن فی سندها إرسالٌ .

وأمّا ما ورد فی بعض الروایات من تفسیر تشبّه النساء بالرجال بالمساحقة ، وتفسیر

ص:283


1- (1) مستدرک الوسائل 13 / 202 ح 1 الباب 70 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 203 ح 3 .
3- (3) مجمع البیان 4 / 140 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 203 ح 2 .
4- (4) دعائم الاسلام 2 / 163 ح 580 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 3 / 247 ح 4 .

تشبّه الرجال بالنساء باللواط ، مضافاً إلی ضعف سندها ،ذُکرت فیها إحدی مصادیق هذا التشبّه لا أنّها انحصر التشبّه بهما فقط أو ذکرت فیها أظهر مصادیق التشبّه . کما ذهب إلیه شیخنا الأستاذ - مد ظله - من إحتمال أنّها أقوی مراتب التشبّه ، لا تمام مراتبه(1) .

أضف إلی ذلک ما لو کان المراد بالتشبّه ما وردت هکذا ، فما الفرق بین مدلول هذه الروایات والروایات الواردة فی حرمة اللواط والمساحقة ؟ فلابدّ حینئذ عدّها منهنّ ، مع أنّ ظاهر روایات التشبّه إفادة معنیً أعم منها کما بیّناه .

وأمّا الروایات التفسیر اثنتان :

إحداهما : خبر یعقوب بن جعفر قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام أو أبا إبراهیم علیه السلام عن المرأة تساحق المرأة ، وکان متکئاً فجلس وقال : ملعونة ملعونة الراکبة والمرکوبة وملعونة حتّی تخرج من إثوابها ، فإنّ اللّه وملائکته وأولیاءه یلعنونها ، وأنا ومن بقی فی أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فهو واللّه الزنا الأکبر ، ولا واللّه ما لهنَّ توبة ، قتل اللّه لاقیس بنت إبلیس ماذا جاءت به . فقال الرجل : هذا ما جاء به أهل العراق . فقال : واللّه لقد کان علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قبل أن یکون العراق ، وفیهنَّ قال رسول اللّه : لعن اللّه المتشبهات بالرجال من النساء ولعن المتشبهین من الرجال بالنساء(2) .

واُخراهما : روایة أبی خدیجة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم المتشبهین من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ، وهم المخنثون واللاّتی ینکحنَ بعضهنّ بعضاً(3) .

وتؤید ما ذکرنا من أنَّ المساحقه واللواط من أظهر مصادیق التشبّه لا أنّها تنحصر بهما ، الروایات الواردة فی النهی عن تشبّه کلّ من المرأة والرجل بالآخر فی اللباس نذکر بعضها :

منها : موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یجرّ ثوبه ، قال : إنّی لأکره

ص:284


1- (1) ارشاد الطالب 1 / 117 .
2- (2) وسائل الشیعة 20 / 345 ح 5 الباب 24 من أبواب النکاح المحرّم .
3- (3) وسائل الشیعة 20 / 346 ح 6 .

أن یتشبّه بالنساءِ(1) .

لا یخفی أنّ هذه الروایة رواها أیضاً صاحب مکارم الأخلاق(2) مرسلاً کما نقل عنه فی الوسائل(3) ، ولکن رواها هنا مسنداً عن الکافی الشریف(4) .

ولا تنافی بین ما ذکرنا وعدم إفتاء الأصحاب بالحرمة فی إسبال الثوب وجرّه ، لأنّنا استفدنا من التشبیه الوارد فی الروایة فقط من أنّ الامام علیه السلام شبّه الرجل الذی جرّ ثوبه بالنساء وقال علیه السلام : « إنّی لأکره أن یتشبّه بالنساء » ، فیظهر أن التشبّه یمکن أن یکون فی اللباس ونحوه من الزینة والزی والهیئة والجنسیة وغیرها ، ویمکن أن یکون بعض مصادیق التشبّه المکروه إذا کانت ضعیفة ، نحو جرّ الثوب ، وبعض مراتبها محرّمة إذا کانت قویّة شدیدة نحو السحق واللواط .

ومنها : مرسلة الطبرسی صاحب مکارم الأخلاق رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یزجر الرجل أن یتشبّه بالنساء وینهی المرأة أن تتشبّه بالرجال فی لباسها(5) .

دلالة الروایة علی حرمة تشبّه کلّ من الرجل والمرأة بالآخر فی اللباس تامة ، فما ذکره الشیخ الأعظم من أنّها تدلّ علی الکراهة(6) غیر تام .

ویمکن أن یُستدل لما ذکرناه من الحرمة فی المقام بالروایات الواردة فی لباس الشهرة ، ولعلّ أوّل من استدلّ بها علی مابدا لی بعد فحصی فی هذه العجالة جدنا الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره فی شرحه علی القواعد(7) ، وتبعه بعده أعلام تلامیذه و غیرهم منهم : السید

ص:285


1- (4) وسائل الشیعة 5 / 42 ح 4 . الباب 23 من أبواب أحکام الملابس .
2- (1) مکارم الأخلاق / 118 .
3- (2) وسائل الشیعة 5 / 25 ح 1 . الباب 13 من أبواب أحکام الملابس .
4- (3) الکافی 6 / 458 ح 12 .
5- (4) مکارم الأخلاق / 118 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 25 ح 2 .
6- (5) المکاسب المحرمة / 22 - (1 / 175 من الطبعة الحدیثة) .
7- (6) شرح القواعد 1 / 213 .

الطباطبائی فی الریاض(1) والفاضل النراقی فی المستند(2) والسید العاملی فی مفتاح الکرامة(3) وصاحب الجواهر(10) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(11) قدس سرهم .

بتقریب : أنه أفتی الأصحاب بحرمة لباس الشهرة ، وأظهر مصادیق لباس الشهرة لبس الرجل ما یختص بالمرأة وعکسه ، فالتلبس به حرامٌ .

وهذا الإستدلال تامّ لا ریب فیه ، وتدلّ علی حرمة لباس الشهرة عدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی أیوب الخزّاز عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه یبغض شهرة اللباس(4) .

ودلالتها علی الحرمة واضحة وسندها صحیح .

ومنها : صحیحة حماد بن عثمان قال : کنت حاضراً عند أبی عبد اللّه علیه السلام إذ قال له رجل : أصلحک اللّه ذکرت أنّ علی بن أبی طالب علیه السلام کان یلبس الخشن ، یلبس القمیص بأربعة دراهم وما أشبه ذلک ونری علیک اللباس الجیّد ؟ قال : فقال له : إنّ علی بن أبی طالب علیه السلام کان یلبس ذلک فی زمان لا ینکر ، ولو لَبِسَ مثل ذلک الیوم لشهَّرَ به ، فخیر لباس کلّ زمان لباس أهله ، غیر أنّ قائمنا إذا قام لبس لباس علی علیه السلام وسار بسیرته(5) .

إذا صار لباس علی علیه السلام فی زمن الصادق علیه السلام لباس شهرةٍ ، فمصداقیة ما نحن فیه من الألبسة للباس الشهرة بطریق أولی واضحٌ .

ومنها : روایة ابن مسکان عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کفی بالمرء خزیاً یلبس ثوباً یشهره أو یرکب دابّة تشهره(6) .

ص:286


1- (7) ریاض المسائل 8 / 173 .
2- (8) مستند الشیعة 14 / 173 .
3- (9) مفتاح الکرامة 4 / 60 (12 / 198 من طبعة جماعة المدرسین) .
4- (1) الجواهر 22 / 115 .
5- (2) برهان الفقه . کتاب التجارة / 41 .
6- (3) وسائل الشیعة 5 / 24 ح 1 . الباب 12 من ابواب احکام الملابس .

قال بعض أساتیذنا - مدظله - فی ذیل الروایة : « قد فسّر الخزی تارة بالذلّ والهوان وتارة بالعذاب والعقاب ، وعلی الأوّل لا دلالة له علی الحرمة ، مضافاً إلی إرسال الروایة »(1) .

وفیه : الخزی حتّی لو فسّر بالذلّ والهوان یدلّ علی الحرمة ، لأنه لیس علی المؤمن أن یذلّ نفسه ، وأنّ اللّه لم یأذن للمؤمن أن یذلّ نفسه ، تدلّ علی حرمة ذلک عدّة من الروایات : نحو موثقة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه تبارک وتعالی فوّض إلی المؤمن کلّ شیءٍ

إلاّ إذلال نفسه(2) .

ومثلها فی الدلالة موثقتین لسماعة(3) ، وقد ذکرتُ روایاتها فی کتابَیَّ « ألف حدیث فی المؤمن / 112 » و « موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 32 » فراجعهما أن شئت .

ومنها : موثق عثمان بن عیسی عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الشهرة خیرها وشرّها فی النار(4) .

الروایة مرسلة سنداً وتدلّ علی قبح الشهرة ومنها : لباسها ، وبقرینة غیرها من الروایات یحکم مضافاً إلی قبح لباس الشهرة إلی حرمتها . أو أنّ الروایة تدلّ علی الحرمة بقرینة النار التی وردت فیها ، ولکن تحمل خبر الشهرة بمعرضیتها للنار نحو : الإتیان بالعبادات والطاعات والخیرات ریاءً وسمعةً أو إیجاد العُجب والفخر فی نفسه بسببها .

ومنها : روایة أبی سعید عن الحسین علیه السلام قال : من لبس ثوباً یشهره ، کساه اللّه یوم القیامة ثوباً من النار(5) .

دلالتها علی الحرمة واضحة ، حتّی اعترف بها صاحب الوسائل(6) الذی ذهب إلی الکراهة فی لباس الشهرة بحیث جعل عنوان بابها : « کراهة الشهرة فی الملابس وغیرها »(7) .

ص:287


1- (4) الکافی 6 / 444 ح 15 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 17 ح 7 . الباب 7 من ابواب احکام الملابس .
2- (1) الکافی 5 / 63 .
3- (2) الکافی 5 / 63 و 64 .
4- (3) وسائل الشیعة 5 / 24 ح 3 .
5- (4) وسائل الشیعة 5 / 24 ح 4 .
6- (5) وسائل الشیعة 5 / 25 .
7- (6) وسائل الشیعة 5 / 24 .

والمراد بأبی سعید فی سندها هو سعد بن مالک أبو سعید الخِدْری الصحابی ، ولا أقل من حسنه إن لم نعده من الثقات ، وعدّه الکشی من السابقین الذین رجعوا إلی أمیر المؤمنین علیه السلام (1) ، فالرجل کان شیعیاً أیضاً .

ولکن فی السند محمد بن سنان وأبی الجارود ، وبالأخیر صارت الروایة ضعیفة الإسناد لِثبوت وثاقة الأوّل وضعف الثانی عندنا .

ورواها سبط الطبرسی مرسلاً عن الحسن بن علی علیهماالسلام فی مشکاة الأنوار(8) .

ومنها : مرسلة ابن أبی جمهور الأحسائی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : من لبس ثوب شهرة فی الدنیا ألبسه اللّه ثوب مذلّة فی الآخرة(2) .

دلالتها علی الحرمة واضحة ، ولکن فی سندها إرسالٌ .

ومنها : مرسلة سبط الطبرسی نقلاً عن المحاسن عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اللّه یبغض الشهرتین : شهرة اللباس ، وشهرة الصلاة(3) .

دلالتها علی حرمة لباس الشهرة واضحة ، ولکن فی سندها إرسال ولم أجدها فی المحاسن المطبوع لأنّها فُقدت من أصلها عدّة من الأجزاء ، ولعلّ هذه الروایة کانت فی الأجزاء المفقودة . والعلم عند اللّه تعالی .

ثم إنّ هاهنا فروعاً لابدّ من البحث فیها :

هاهنا فروع لابد منها

الفرع الأوّل :

التشبّه المحرّم حتّی إذا کان بنحو التلبس یختلف باختلاف الأعصار والأمصار والبلدان والمُدُن والأجیال ، حتّی بالنسبة إلی عصر واحد ومصر واحد وجیل واحد یختلف باختلاف الفقر والغنی ، ومستند کلّ ذلک الصدق العرفی للتشبّه کما قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر قدس سره :

ص:288


1- (7) اختیار معرفة الرجال / 38 ح 78 .
2- (1) مشکاة الأنوار / 320 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 3 / 245 ح 4 .
3- (2) مستدرک الوسائل 3 / 245 ح 1 .

« وباختلاف الأحوال و المحالّ تختلف ملابس النساء والرجال ، فقد یختلف حال العجم وحال العرب وحال الفقراء وحال أرباب الرتب»(1) .

ونحوها عبارة تلمیذه فی الجواهر(2) .

وقال السید فی الریاض : « وتختلف باختلاف الأصقاع والأزمان»(3) .

ونحوها عبارة المستند(4) .

وقال السید العاملی : « وباختلاف البلدان والأحوال تختلف ملابس النساء والرجال»(5) .

وقال السید علی آل بحر العلوم من تلامیذ صاحب الجواهر : « یختلف الحکم فیه باختلاف الأزمان والبلاد والطوائف والحالات وغیرها ، ضرورة تبعیّة الحکم لعادة الرجال والنساء المختلفة بالاختلاف المزبور بالضرورة »(6) .

وقال الفقیه الیزدی : « تنبیهات : الأوّل : لا یخفی أنّ مختصات الرجال والنساء تختلف باختلاف الأزمان والبلدان ، فیختلف الحکم باختلافهما »(7) .

الفرع الثانی :

لا بأس بتلبس کلّ من الرجل والمرأة بلباس الآخر أو زیّه إذا کان لغرضٍ عقلائیٍ ، لانصراف أدلة حرمة التشبیه من هذه الصورة ، نحو : تلبس الرجل لباس المرأة لبردٍ أو حرٍّ أو للستر الواجب عند الناظر المحترم أو الستر الواجب فی الصلاة أو لإقامة التعزیة للإمام الحسین علیه السلام وتجسّم ما وقع فی کربلاء أو الشرکة فی الأفلام العصریة .

ص:289


1- (3) مستدرک الوسائل 3 / 245 ح 2 .
2- (4) شرح القواعد 1 / 214 .
3- (5) الجواهر 22 / 116 .
4- (6) ریاض المسائل 8 / 173 .
5- (1) مستند الشیعة 14 / 173 .
6- (2) مفتاح الکرامة 4 / 60 - (12 / 199 من طبعة جماعة المدرسین) .
7- (3) برهان الفقه . کتاب التجارة / 41 .

والدلیل علی ذلک - مضافاً إلی انصراف الأدلة من هذه الفروض والأمثلة - صحیحة العیص بن القاسم التی رواها المشایخ الثلاثة ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یصلّی فی ثوب المرأة وإزارها ویعتمّ بخمارها ، قال : نعم إذا کانت مأمونة(1) .

والروایة تدلّ علی جواز لبس الرجل لباس المرأة لغرض عقلائی نحو الصلاة فیه ، والقید الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام « إذا کانت مأمونة » یعنی من حیث الطهارة والنجاسة وتقیّدها بالطهارة وسندها کما مر صحیح .

واعترف بذلک المحقق الخوئی وقال قدس سره : « وقد تجلی ممّا ذکرناه أنّه لا شک فی جواز لبس

الرجل لبس المرأة لإظهار الحزن وتجسّم قضیة الطف وإقامة التعزیة لسید شباب أهل الجنة علیه السلام ، وتوهم حرمته لأخبار النهی عن التشبّه ناشیء من الوساوس الشیطانیة ... »(2) .

وقال بعض أساتیذنا - مدظله - : « ... فالظاهر من هذه الروایة [ یعنی مرسلة الطبرسی صاحب مکارم الأخلاق الماضیة ] وأمثالها صورة اتخاذ أحدهما لباس الآخر لباساً لنفسه فی حیاته وتعیّشه الإجتماعی ، فلا یشمل اللبس الموقّت لغرض عقلائی کما فی الأفلام والتعازی المتداولة والإراة للخیاط مثلاً ونحو ذلک»(3) .

ولذا علّق - مدظله - علی المسألة 42 من شرائط لباس المصلی من العروة الوثقی بقوله : « ... و کذا یحرم علی الأحوط لبس الرجال ما یختص بالنساء وبالعکس ، والأحوط ترک الصلاة فیهما وإن کان الأقوی عدم البطلان »(4) . والدلیل علیه هو ما ذکره فی المقام ، فراجع تعلیقته علی العروة الوثقی(5) إن شئت .

وعلّق السید السیستانی - مد ظله - علی هذه المسألة من العروة بقوله : « لا ینبغی

ص:290


1- (4) حاشیة المکاسب / 17 (1 / 99 من الطبعة الحدیثة) .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 210 .
3- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 510 .
4- (3) العروة الوثقی - المسألة 42 من مسائل شرائط الباس المصلی .
5- (4) التعلیقة علی العروة الوثقی 1 / 263 .

الإشکال فی جواز أن یلبس الرجل قمیص المرأة ویصلی فیه کما تدل علیه صحیحة العیص ، فمورد الإحتیاط المذکور خصوص صیرورة أحدهما بهیئة الآخر وتزیّیه بزیّه »(1) .

وقبلهما ذهب المحققون النائینی والشیخ محمد رضا آل یاسین والخوئی قدس سرهم فی تعالیقهم علی العروة الوثقی إلی الجواز إذا کان اللبس لمدّة یسیرة أو لغرضٍ عقلائیٍ(2) .

الفرع الثالث :

هل یعتبر القصد فی حرمة التشبه أم لا ؟ بأن یتشبّه الرجل فی لباسه وزیّه بالمرأة ولکن لم یقصد هذا التشبّه هل هذا حرام علیه أم لا ؟ وهل یعتبر العلم فی حرمة التشبّه أم لا ؟ بأن تلبس الرجل بلباس المرأة وزیّها من دون علمه بذلک بل صدر منه غفلة أو جهلاً هل یصدق

علیه أنّه تشبّه بالمرأة أم لا ؟ وعلی القول باعتبار العلم ینحصر بالعلم التفصیلی أو یکفی العلم الاجمالی ؟ وجوه بل أقوال :

ذهب الشیخ الأعظم إلی اعتبار العلم حیث قال : « بأنّ الظاهر عن التشبّه صورة علم المتشبِّه »(3) .

وظاهر الشیخ حیث عنونه فی ذیل بحث الخنثی اعتبار العلم التفصیلی ، ولذا ینقض علیه المحشون علی المکاسب بکفایة العلم الإجمالی علی فرض اعتبار العلم ، نحو : الفقیه الیزدی(4) والمحققون الإیروانی(5) والخوئی(6) والأردکانی(7) قدس سرهم وبعض أساتیذنا(8) - مد ظله - .

ص:291


1- (5) العروة الوثقی مع تعلیقة السید السیستانی 2 / 56 .
2- (6) العروة الوثقی 2 / 351 طبع جماعة المدرسین مع 15 تعلیقة من أعلام الفقهاء .
3- (1) المکاسب المحرمة / 22 (1 / 176 من الطبعة الحدیثة) .
4- (2) حاشیة المکاسب / 17 (1 / 99 من الطبعة الحدیثة) .
5- (3) الحاشیة علی المکاسب 1 / 123 .
6- (4) مصباح الفقاهة 1 / 211 .
7- (5) غنیة الطالب 1 / 110 .
8- (6) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 517 .

وذهب السید الخوئی إلی اعتبار العلم ولکن کفایة العلم الإجمالی فی صدق عنوان التشبّه ، حیث یقول : « لا إشکال فی اعتبار العلم بصدور الفعل فی تحقق عنوان التشبّه إلاّ أنّه لا یختص بالعلم التفصیلی بل یکفی فی ذلک العلم الاجمالی أیضاً ... »(1) .

قال المحقق الأردکانی بعد منع دخل العلم فی عنوان التشبّه : « فإنّ أقصی ما یمکن أن یقال باعتباره فیه هو القصد ... »(2) .

وقبله المحقق الإیروانی قدس سره نفی البعد عن اعتبار القصد والغرض عند إطلاق التشبّه وانصراف إطلاق التشبّه إلی صورة القصد والغرض(3) .

أقول : الظاهر من الأدلة عدم اعتبار القصد والعلم مطلقاً ، نحو ما ورد فی موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یجرّ ثوبه ، قال : إنّی لأکره أن یتشبّه بالنساء(4) .

حیث طبّق الإمام علیه السلام التشبّه بمجرد جرّ الثوب مع عدم القصد والعلم التفصیلی أو الإجمالی بالتشبّه کما هو الظاهر .

ومن المعلوم أن عنوان التشبّه لم یکن من العناوین القصدیة بحیث لم یتحقق فی الخارج إلاّ مع القصد ، وهکذا لم یکن من العناوین التی یُعتبر فیها العلم بقسمیه التفصیلی والإجمالی بحیث لم یتحقق فی الخارج إلاّ مع العلم به .

بل صدق عنوان التشبّه یدور مدار العرف ، فإذا صدّق العرف فی مورد أنّه من التشبّه فهو وإلاّ فلا ، کما فی غیره من المفاهیم والموضوعات .

لا ینتقض علینا بعدم صدق التشبّه عند العرف لمجرّد جرّ الثوب الوارد فی موثقة سماعة الماضیة . لأنّ جرّ الثوب عادة من لباس النساء والأعراس لا سیما المحترمات منهنّ ، ولذا نبّه الإمام علیه السلام علی هذا الصدق العرفی .

وهکذا لا ینتقض علینا بعدم إفتاء الأصحاب قدس سرهم بالحرمة فی مجرد جرّ الثوب . لأنّ

ص:292


1- (7) مصباح الفقاهة 1 / 211 .
2- (8) غنیة الطالب 1 / 109 .
3- (9) الحاشیة علی المکاسب 1 / 123 و 124 .
4- (10) وسائل الشیعة 5 / 42 ح 4 .

ظهور الموثقة فی الحرمة واضح والکراهة المستعملة فی لسان الأئمة علیهم السلام تحمل علی الحرمة لا الکراهة المصطلحة ، ولکن نرفع الید عن هذا الظهور بالقرائن الداخلیة والخارجیة ، ومنها ما ذکر من عدم إفتاء الأصحاب قدس سرهم بالحرمة فی المقام ، ولذا یمکن أن نذهب إلی الکراهة فی مجرد جرّ الثوب للرجال .

وبالجملة ، لا یُعتبر القصد والعلم بقسمیه فی صدق التشبّه لا عرفاً ولا شرعاً . نعم علی القول بحرمة التشبّه کما ذهبنا إلیه ، یترتب علیه العقاب . وتنجّز التکلیف منوط بالعلم کما فی غیرها من التکالیف الشرعیة واللّه العالم باحکامه .

الفرع الرابع : حکم الخنثی فی التشبّه

ما هو حکم الخنثی فی مسألة التشبّه ؟ هل یجوز لها التلبس بلباس کلّ من الرجل والمرأة والتشبّه بهما أم لا ؟

قبل بیان الحکم فی المقام لابدّ من تذکّر أمر مهم ، وهو تقسیم الخنثی إلی القسمین المفروضین :

1 - الخنثی غیر المشکل : هی التی ألحقت بالإمارات الواردة فی کتاب المیراث(1) بأحد

الجنسین ، نحو : إلحاقها بالموضع الذی تبول منه ، وإن بالت من الفرجین فتلحق بمن سبق منه بولها ، وإن ابتدءا معاً فتلحق بمن ینبعث بولها ویخرج بالشدّة ، وإن بالت منهما بالسویة ومن دون فرق بینهما فهذه هی الخنثی المشکل .

وأمّا الخنثی غیر المشکل فتلحق بأحد الجنسین من الذکر والاُنثی ولها حکمه ، فهی إمّا اُلحقت بالرجل فعلیها أحکام الرجال وإمّا اُلحقت بالمرأة فلها أحکامها .

2 - الخنثی المشکل ، وهی التی لم یتبین إلحاقها بأحد الجنسین ، فما حکمها بالنسبة إلی الأحکام المختصة بالرجال والنساء ومنها : حرمة التشبّه ؟

وقع الخلاف بین الأصحاب بکونها طبیعة ثالثة فی قبال الذکر والاُنثی أو هی فی الواقع

ص:293


1- (1) راجع وسائل الشیعة 26 / 283 أبواب میراث الخنثی .

من إحداهما وإن لم یتبین لنا أنّها مِنْ أیهما ؟ کما ذهب إلی الأوّل الفقیه الیزدی(1) وبعض آخر ، ولعلّ المشهور علی الثانی .

فلذا نقول : إن أمکن إلحاق الخنثی المشکل - ولو بالعملیة الجراحیة - بأحد الجنسین فهو ، وإن لم یمکن هذه العملیة فبقیت تحت عنوان الخنثی المشکل فما هو حکمها ؟

إن ذهبنا إلی أنّها طبیعة ثالثة فی مقابل الرجل والمرأة ، فلها أن تجری البراءة بالنسبة إلی التکالیف الخاصة بالجنسین علیها والعمل بالتکلیف الوارد فی شأن الانسان فقط لا الجنسین ، وعلیها العمل بالتکلیف الواردة فی شأن الإنسان فقط لا الجنسین . فمثلاً فی صحة صلاتها تکفی الوضوء وستر العورة فقط نحو الرجال المصلین وفی المقام لها أن تتلبس بزینة أیّهما شاءت .

وأمّا إن قلنا بأنّها تلحق بأحد الجنسین فی الواقع ولیست بطبیعة ثالثة فلها أن تحتاط فی عملها بین تکالیف الجنسین والإجتناب من محرماتهما لوجود العلم الإجمالی بالنسبة إلیها . وفی المقام علیها الإجتناب من الألبسة المختصة بالجنسین ، ولذا قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر : « ویجب علی الخنثی ترک الزینتین ولها العمل بما جاز لکلا النوعین »(2) .

وقال تلمیذه السید العاملی : « والخنثی یجب علیها ترک الزینتین وتلبس ما جاز لهما معاً »(3) .

وقال تلمیذه الآخر فی الجواهر بعد نقل کلام أستاذه : « ... وهو جید ، أمّا الثانی فواضح وأمّا الأوّل فللقطع بکونه مکلفاً بأحد الأمرین ، ولایتم العلم بامتثاله إلاّ باجتناب الزینتین ، واللّه أعلم »(4) .

ثم إنّ الظاهر من الروایات عدم کونها طبیعة ثالثة بل هی ملحقة بأحد الجنسین إمّا ذکر فی الواقع وإمّا أنثی ، ومع عدم إمکان لحوقها فهی الخنثی المشکل التی فی الواقع ونفس

ص:294


1- (1) حاشیة المکاسب / 16 - (1 / 99 و 98 من الطبعة الحدیثة) .
2- (2) شرح القواعد 1 / 214 .
3- (3) مفتاح الکرامة 4 / 60 (12 / 199 من طبعة جماعة المدرسین) .
4- (1) الجواهر 22 / 116 .

الأمر إمّا مذکر أو مؤنث لا أنّها طبیعة ثالثة ، فحینئذٍ یجب علیها ترک الزینتین والعمل بما جاز لهما .

الفرع الخامس : حکم تغییر الجنسیة

هل یجوز تغییر الجنسیة مطلقاً أو یجوز إذا کانت سبباً لظهور الجنس وتعیّنه لو کان فی الخَفاءِ نحو بعض الخناثی ؟

الظاهر - واللّه سبحانه هو العالم - بعد ما استظهرنا من الروایات الواردة فی حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وعکسه ، حرمة هذا التشبّه مطلقاً ، سواءً کان فی اللباس والهیئة والزیّ والرابطة الجنسیة ونحوها ، صار تغییر الجنسیة من أعلی مراتب هذا التشبّه عرفاً ، ولذا یحکم علیها بالحرمة .

إن قلت : لیس تغییر الجنسیة من مصادیق التشبّه المحرّم ، بل هو خروج من موضوع إلی موضوع آخر ، فلکلِّ موضوع حکم خاص ، نحو : وجوب صیام شهر رمضان المبارک للحاضر ووجوب إفطاره للمسافر ، فإذا سافر الرجل فی شهر اللّه لزمه حکمه . وفی المقام الرجل متی یکون رجلاً حرم علیه التشبّه بالنساء ، وأمّا إذا صار بعملیة التغییر امرأة حرم علیها التشبّه بالرجال . والخروج من موضوع إلی موضوع آخر بید المکلف ، نحو الحضور والسفر فی المثال القادم .

قلت : نعم ، الکبری تام فی موارد یمکن الخروج من موضوع حکم إلی موضوع حکم آخر ولکلٍّ حکمه الخاص ، ولکن العرف یری فی المقام العملیة الخاصة المسماة بتغییر الجنسیة من أظهر وأتم وأعلی مراتب التشبّه ، ونظر العرف فی تعیین الموضوعات متبعٌ ، فهذه العملیة حرام .

وتدلّ علی ما ذکرنا قوله تعالی ناقلاً من الشیطان وعمله «وَقَالَ لاَءَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِکَ نَصِیباً مَّفْرُوضاً وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّیَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُبَتِّکُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن یَتَّخِذِ الشَّیْطَانَ وَلِیّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِیناً»(1) .

ص:295


1- (1) سورة النساء / 119 - 118 .

بتقریب : أن أمر الشیطان لعنه اللّه بالتغییر فی خلق اللّه ومنها تبکّن آذان الأنعام ، ذکر اللّه سبحانه تبکّن آذان الأنعام بعنوان الخاص الذی یلی بعده ذکر العام ، فهذا التبکّن من أحد مصادیق التغییر فی خلق اللّه تعالی الذی أمر الشیطان به ، ومن أظهر هذه التغییرات فی خلق اللّه الذی أمر الشیطان به تغییر الجنسیة ولذا یحرم ، لأنّه من أوامر الشیطان الذی من یتخذه ولیّاً وأطاع أوامره فقد خسر خسراناً مبیناً .

لا یقال : لا یمکن الأخذ بإطلاق الآیة الشریفة ، لأنّها بإطلاقها تدلّ علی حرمة مطلق التغییر فی نظام الطبیعة ولم یلتزم به أحدٌ ، لأن جمیع الصنائع والحرف والإختراعات والإکتشافات نوع من التغییر فی نظام الطبیعة ولم یقل أحدٌ بحرمتها .

لأنّا نقول : نعم ، الإختراعات والإکتشافات والصنائع والحرف غالباً توجب تغییر النظام فی الطبیعة والوجود ، ولکن خروجها من تغییر خلق اللّه الذی أمر الشیطان به بالتخصّص لا بالتخصیص ولذا لم یقل أحد بحرمتها .

ومن هنا یمکن الأخذ بالآیة الشریفة وعدّ تغییر الجنسیة من أظهر مصادیق تغییر خلق اللّه الذی أمر الشیطان به ، کیف « تبکن آذان الأنعام » تعدّ فی الآیة الشریفة من أوامر الشیطان ولا تعدّ تغییر الجنسیة من التغییر الذی أمر الشیطان به فی خلق اللّه ؟ !

وبالجملة ، بنظرنا القاصر تغییر الجنسیة تعدّ من التغییر الذی أمر الشیطان به فی خلق اللّه ، فیکون محرّماً بالآیة الشریفة وظهورها فیما ذکرناه واضح .

والحاصل : تغییر الجنسیة حرام مطلقاً لدلالة الآیة الشریفة ، وبما أنّه من أظهر وأتم وأعلی مراتب التشبّه المحرّم .

نعم ، اذا کانت الآلة التناسلیة خفیّةً بحیث لا یعدّ الشخص بحسب ظاهره أنّه ذکرٌ أو اُنثی وعدّ من الخناثی ، یجوز علیه العملیّة الجراحیّة وإخراج آلته التناسلیة من الخفاء إلی الظهور ، وبذلک الظهور خرج من تحت الخنثی ودخل تحت أحد الجنسین .

وهذه العملیّة الجراحیة لم تکن فی الحقیقة تغییر الجنسیة بل هی ظهور الجنسیة

الخفیّة ، ولذا یجوز بل ربّما یجب فی الموارد التی یوجب الخطأ فی التکالیف الشرعیة أو النکاح ونحوها .

ص:296

فهذه العملیّة تجوز علی التی ظاهرها کانت ا لخنثی ولکن واقعها أحد الجنسین لخروجها إلی أحد الجنسین وتبیین حالها مِنْ أنّها مِنْ أحد الجنسین . أو علی الذی ظاهره غیر واقعه ، فتجوز هذه العملیّة له لظهور واقعه وکشف حاله من الجنسیة .

تنبیه :

لو عصی ورضی بتغییر الجنسیة ووقعت العملیة الجراحیة علیه وکان رجلاً سابقاً وله زوجة هل نکاحه السابق یبقی أم ینفسخ ؟ الظاهر انفساخ النکاح بتغییر الجنسیة ، سواء وقعت من جانب الزوج أو الزوجة ، ولزمه تمام المهر إن کانت بعد الدخول ونصف المهر إن کانت قبل الدخول ، ولا یحتاج إلی الطلاق لانفساخ النکاح بتغییر الجنسیة لعدم وجود الزوج أو الزوجة فی البین . ولو تغیّرا معاً فالأقوی إنفساخ النکاح أیضاً ، لأنّ الزوج والزوجة المعینین من مقومات النکاح ، وإن کان الأحوط إجراء صیغة الطلاق من الزوج السابق . واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه .

ص: 297

التشبیب بالمرأة الأجنبیة

المراد بالتشبیب :

ذکر محاسنها وشدّة حبّها ونحو ذلک بالشعر ، ویقال : النسیب أیضاً کما قاله المحقق الثانی فی جامع المقاصد(1) .

وقال أهل اللغة : تشبیب الشعر : ترقیقه بذکر النساء کما فی النهایة(2) .

والتشبیب : النسیب ، یقال : هو یشّبب بفلانة ، أی ینسب بها کما فی الصحاح(3) .

وشبّب الشاعر بفلانة تشبیباً : قال فیها الغزل وعرّض بحبّها ، وشبّب قصیدته : حسّنها وزیّنها بذکر النساء ، کما فی المصباح المنیر(4) .

إذا عرفت معنی التشبیب فلیعلم أنّه لم یرد فیه نص خاص وبعنوانه ، ولهذا استدلوا علی حرمته بعدّة من الوجوه :

الوجه الأوّل : إنّ التشبیب هتکٌ للمشبَّب بها وإهانة لها فیکون حراماً .

وفیه : أولاً : إنّ النسبة بین التشبیب وبین عنوانی الهتک والإهانة عموم من وجه ، إذ ربّما یتحقق الهتک والإهانة بغیر التشبیب وربما یتحقق التشبیب ولا هتک ولا إهانة ، کما لو أنشأ الشعر فی الخلوة أو أنشده لمن یرید أن یخطبها تحریکاً له وترویجاً لها .

وثانیاً : لو سلمنا کون التشبیب هتکاً للمرأة ، فإنّ ذلک لا یختص بالشعر ، لإمکان هذا الهتک والإهانة بالنثر أیضاً ، ولا یختص بالأجنبیة ولا بالمؤمنة ، لإمکانه بالنسبة إلی المخالفة أو الذمیّة بل یمکن بالنسبة إلی الزوجة وغیرها من المحارم والأمة أیضاً .

وثالثاً : عنوان التشبیب غیر عنوانی الهتک والإهانة ، فلا یسری حکم أحد العنوانین

ص:298


1- (1) جامع المقاصد 4 / 28 .
2- (2) النهایة 2 / 439 .
3- (3) الصحاح 1 / 151 .
4- (4) المصباح المنیر / 302 .

إلی الآخر وإن تلازما خارجاً .

وبعبارة أخری : بحثنا فی حرمة التشبیب بعنوانه الأوّلی ، فإثبات حرمته بعنوان آخر

عرضی خروج عن محل البحث .

الوجه الثانی : التشبیب إیذاء للمشبَّب بها وهو حرام .

وفیه : أولاً : لا دلیل علی حرمة کلّ فعل یتأذی منه الغیر قهراً ، إذا کان الفعل سائغاً فی نفسه کتأذی بعض الناس من اشتغال بعض آخر بالتجارة والتحصیل والتدریس والتألیف والحج والعمرة والزیارة وغیرها من المباحات أو المستحبات أو الواجبات .

وثانیاً : النسبة بین الإیذاء والتشبیب عموم من وجه ، لإمکان الإیذاء بغیر التشبیب ویمکن التشبیب من دون الإیذاء ، کالتشبیب بالمتبرّجات التی یفرحن بذلک .

وثالثاً : حرمة الإیذاء لا تختص بالمؤمنة أو الأجنبیة فقط ، بل تجری فی حقِّ المخالفة والذمیّة والزوجة وغیرها من المحارم والأمة أیضاً .

ورابعاً : عنوان التشبیب غیر عنوان الإیذاء ، فلا یسری حکم أحد العنوانین إلی الآخر وإن تلازما خارجاً کما مرّ آنفاً .

الوجه الثالث : التشبیب یکون مِن اللهو والباطل ، وعمومات حرمة اللهو والباطل تشملانه ، وسوف یأتی منّا هذه الأدلة تبعاً لشیخنا الأعظم قدس سره فی بحث الغناءِ ، فالتشبیب یکون من مصادیقهما ، فیکون حراماً .

وفیه : أولاً : منع الصغری ، إذ یمکن أن لا یکون التشبیب لهواً أو باطلاً ، کتعلقه بغرض عقلائی ، نحو تحریک الرجل علی خطبتها ونکاحها شرعاً ، أو یکون النظم بحیث یندرج فیه المطالب ا لعالیة واللطائف الراقیة .

وثانیاً : منع الکبری ، لا دلیل علی حرمة مطلق اللهو والباطل ، إذ کلّ ما أشغل عن ذکر اللّه تعالی وذکر رسوله صلی الله علیه و آله وسلم والقیامة والنار والجنة وما أشبهها لهو وباطل ، بل أطلق عنوان اللهو علی الحیاة الدنیا ومظاهرها فی قوله تعالی : «وَمَا هَذِهِ الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ»(1)وقوله تعالی : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَیَاةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»(2) . ولیس لأحدٍ الذهاب

ص:299


1- (1) سورة العنکبوت / 64 .
2- (2) سورة الحدید / 20 .

إلی حرمة جمیع هذه الاُمور .

وثالثاً : لو سلم حرمتها علی الإطلاق ، فحکم کلّ عنوان ثابت لنفسه ولا یتعدی منه إلی غیره ، ولو فرض ملازمتها فی مورد خارجاً کما مرّ .

الوجه الرابع : التشبیب من مصادیق الفحشاء والمنکر المنهی عنهما فی القرآن الکریم وسنّة النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم ، نحو قوله تعالی : «وَیَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنکَرِ وَالْبَغْیِ»(1) .

وفیه : أولاً : نمنع أن یکون التشبیب مطلقاً من مصادیق الفحشاء والمنکر ، فهل یکون من مصادیق الفحشاء إذا کان لغرض تحریک الرجل لأجل خطبتها ونکاحها شرعاً ؟ ! أو یکون من الرجل بالنسبة إلی زوجته أو أمته أو حلیلته و لیس بینهما أحد ؟ !

وثانیاً : لو تمّ هذا الوجه لدلّ علی حرمة التشبیب مطلقاً ، سواء کان بالشعر أو بالنثر ، وسواء کان بالاُنثی أو بالذکر ، وسواء کانت الاُنثی مؤمنة أو مخالفة أو ذمیّة أو زوجة أو أمة أو تکون من محارم الرجل ، فلا وجه لتخصیصه بالشعر أو بالمؤمنة کما یظهر من بعض . وهذا الإشکال مشترک بین الوجوه السابقة والآتیة أیضاً ، ولذا لم أذکره فیما بعد . وهکذا إشکال تعدد عنوانی البحث وعدم سرایة الحرمة من عنوان إلی آخر ، ونظیرهما الإشکال الثالث ، أعنی وجود نسبة العموم من وجه بین هذه العناوین وعنوان التشبیب .

الوجه الخامس : التشبیب یوجب إغراء الفساق للمشبَّب بها ، وهو حرام .

وفیه : یجری فی هذا الوجه الإشکالات الثلاثة الماضیة آنفاً ، فلا یتم بالمطلوب الاستدلال به .

الوجه السادس : التشبیب ینافی العفاف المعتبر فی العدالة ، المأخوذ فی صحیحة ابن أبی یعفور قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : بم تعرف عدالة الرجل بین المسلمین حتّی تقبل شهادته لهم وعلیهم ؟ فقال علیه السلام : أن تعرفوه بالستر والعفاف وکفّ البطن والفرج والید واللسان ، ویعرف باجتناب الکبائر التی أوعد اللّه علیها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدین والفرار من الزحف وغیر ذلک ، الحدیث(2) .

ص:300


1- (1) سورة النحل / 90 .
2- (2) وسائل الشیعة 27 / 391 ح 1 - الباب 41 من أبواب الشهادات .

وفیه : المعتبر فی العدالة العفاف من المحرّمات واجتنابها ، وکون التشبیب منها أوّل الکلام .

الوجه السابع : الروایات الدالة علی حرمة ما یثیر الشهوة إلی غیر الحلیلة حتّی بالأسباب البعیدة ، وهی کثیرة وقد وردت فی مواضع مختلفة :

منها : ما ورد فی النهی عن النظر إلی الأجنبیة ، نحو :

معتبرة عبد اللّه بن یحیی الکاهلی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : النظرة بعد النظرة تزرع فی القلب الشهوة ، وکفی بها لصاحبها فتنة(1) .

وحسنة عقبة بن خالد الأسدی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته یقول : النظرة سهم من سهام إبلیس مسموم ، وکم من نظرة أورثت حسرة طویلة(2) .

وخبر أبی جمیلة عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهماالسلام قالا : ما من أحد إلاّ وهو یصیب حظّاً من الزنا ، فزنا العینین النظر وزنا الفم القبلة وزنا الیدین اللمس ، صدّق الفرج ذلک أو کذب(3) .

وسند الروایة ضعیف بأبی جمیلة .

وحسنة عقبة قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : النظرة سهم من سهام إبلیس مسموم ، من ترکها للّه عزّ وجل لا لغیره أعقبه اللّه أمناً وإیماناً یجد طعمه(4) .

وخبر محمّد بن سنان عن الرضا علیه السلام فیما کتبه إلیه جواب مسائله : وحرّم النظر إلی شعور النساء والمحجوبات بالأزواج وإلی غیرهنّ من النساء لما فیه تهییج ، الرجال وما یدعو إلیه التهییج من الفساد والدخول فیما لا یحلّ ولا یجمل ، وکذلک ما أشبه الشعور ، الحدیث(5) .

وإلی غیر ذلک من روایات الباب ، فراجع إن شئت إلی وسائل الشیعة 20 / 190

ص:301


1- (1) وسائل الشیعة 20 / 192 ح 6 . الباب 104 من أبواب مقدمات النکاح .
2- (2) وسائل الشیعة 20 / 191 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 20 / 192 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 20 / 192 ح 5 .
5- (5) وسائل الشیعة 20 / 193 ح 12 .

ومستدرک الوسائل 14 / 268 وجامع أحادیث الشیعة 25 / 358 وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 373 .

بتقریب : أنه إذا کان النظر سهماً من سهام إبلیس وسمی بزنا العین لما فیه من تهییج الرجال إلی الفساد والدخول فیما لا یحلّ ، ظاهر هذا الأمر - یعنی التهییج إلی الفساد - موجود فی التشبیب بطریق اُولی ، لأن تأثیر الکلام أشدّ من تأثیر النظر وإنّ من الکلام لَسِحْراً ، یعنی یؤثر کتأثیر السحر . بحیث لا یمکن أن یخلص السامع نفسه منه .

وفیه : أن بین عنوان التشبیب وعنوان التهییج إلی الشهوة والفساد عموم من وجه ، إذ

ربما شبّب بزوجته أو إحدی محارمه ، وهو إمّا غیر مهیج إلی الحرام کما فی الزوجة وإمّا غیر مهیج إلی الشهوة کما فی المحارم ، هذا أولاً .

وثانیاً : لکلِّ عنوان حکمه ، وعلی فرض تلازم العنوانین خارجاً فحکم کلّ عنوان ثابت لنفسه ولا یسری إلی العنوان الآخر .

منها : ما ورد فی النهی عن الخلوة بالأجنبیة ، وهی کثیرة نحو :

خبر مسمع أبی سیار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : فیما أخذ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم البیعة علی النساء ، أن لا یحتبین ولا یقعدن مع الرجال فی الخلاء(1) .

وخبر موسی بن إبراهیم عن موسی بن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : من کان یؤمن باللّه والیوم الآخر فلا یبیت فی موضع یسمع نَفَسَ إمرأة لیست له بمحرم(2) .

بین المبیت فی الموضع الذی یسمع نَفَسَ المرأة التی لیست له بمحرم وبین الخلوة لم تکن ملازمة دائماً ، بل بینهما عموم من وجه کما نبّه علیه المحقق الخوئی قدس سره (3) ، ولکنه تحصل غالباً هذه البیتوتة بالخلوة ، وبمناسبة الحکم والموضوع یری العرف الخلوة فیها دخیلاً . وعلی ما ذکرنا یمکن أن یستأنس حکم الخلوة أیضاً من الروایة ، ولکن فی سندها ضعف ، وسیأتی منّا

ص:302


1- (1) وسائل الشیعة 20 / 185 ح 1 الباب 99 من أبواب مقدمات النکاح .
2- (2) وسائل الشیعة 20 / 185 ح 2 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 217 .

کلام فی تمامیة دلالة هذه الروایة علی حرمة الخلوة بالأجنبیة بعد صفحتین ، فانتظر .

وخبر جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لما دعا نوح ربّه عزّ وجل علی قومه ، أتاه إبلیس فقال : یا نوح إنّ لک عندی یداً اُرید أن أکافئک علیها - إلی أن قال - أذکرنی فی ثلاث مواطن ، فإنّی أقرب ما أکون إلی العبد إذا کان فی إحداهنّ : أذکرنی إذا غضبتَ ، واذکرنی إذا حکمتَ بین اثنین ، واذکرنی إذا کنتَ مع إمرأة خالیاً ولیس معکما أحد(1) .

وحسنة سعدان بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : بینما موسی بن عمران علیه السلام جالس إذ أقبل إلیه إبلیس - إلی أن قال - ثم قال له : اُوصیک بثلاث خصال : یا موسی لا تخل بامرأة ولا تخل بکَ ، فإنّه لا یخلو رجل بامرأة ولا تخلو به ، إلاّ کنتُ صاحبه من

دون أصحابی ، الحدیث(2) .

وخبر أبی المجبّر قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أربعة مفسدة للقلوب : الخلوة بالنساء ، والإستماع منهنّ ، والأخذ برأیهنَّ ، ومجالسة الموتی فقیل له : یا رسول اللّه وما مجالسة الموتی ؟ قال : مجالسة کلّ ضالٍ عن الإیمان وجائر فی الأحکام(3) .

والروایات فی هذا المجال متعددة ، فإن شئت راجع وسائل الشیعة 20 / 185 ومستدرک الوسائل 14 / 264 وجامع أحادیث الشیعة 25 / 399 .

بتقریب : أن الخلوة مع الأجنبیة محرّمة لأنّها توجب تهییج الشهوة إلی الحرام ، وتهییج الشهوة إلی الحرام موجود فی التشبیب ، فلذا صار حراماً .

وبعبارة اُخری : ملاک الحرمة فی الخلوة مع الأجنبیة لیس إلاّ تهییج ، الشهوة وهذا الملاک بعینه موجود فی التشبیب ، ولذا یحکم فی التشبیب أیضاً بالحرمة .

وفیه : أجاب المحقق الخوئی قدس سره عن هذا الاستدلال بوجوه :

أولاً : إنّ الروایات الواردة فی النهی عن الخلوة بالأجنبیة کلّها ضعیفة السند وغیر

ص:303


1- (4) مستدرک الوسائل 14 / 265 ح 4 . الباب 78 من ابواب مقدمات النکاح .
2- (1) مستدرک الوسائل 14 / 266 ح 7 .
3- (2) أمالی المفید ، المجلس السابع الثلاثون ح 6 / 315 ، ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 3 / 339 ح 3 .

منجبرة بشیءٍ(1) .

وثانیاً : استشکل قدس سره فی دلالة بعض الروایات ، مثلاً أنّه قدس سره یری ظهور روایة مسمع أبی سیار فی النهی عن قعود النساء مع الرجال فی بیت الخلاء لقضاء الحاجة(2) ، ویری قدس سره عدم وجود الملازمة بین سماع النَفَس والخلوة دائماً فی روایة موسی بن إبراهیم(3) ، وحمل قدس سره ما ورد من النهی عن الخلوة مع الأجنبیة علی أنّها من المقدمات القریبة للزنا ، وحیث أنّ الغرض المهم هو النهی عن الزنا فلا موضوعیة لعنوان الخلوة بوجه ، وإنّما تعلق النهی بالخلوة لکونها من المقدمات القریبة له(4) . وقال قدس سره بعد أسطر : « بل یمکن أن یقال : إنّه لو ورد نص صریح فی النهی عن الخلوة مع الأجنبیة فلا موضوعیة لها أیضاً ، وإنّما نهی عنها لکونها من المقدمات القریبة للزنا ، فإنّ أهمیة حفظ الأعراض فی نظر الشارع المقدس تقتضی النهی عن الزنا وعن کلّ ما یؤدی إلیه عرفاً »(5) .

وثالثاً : لو سلمنا وجود الدلیل علی حرمة الخلوة ، فإنّه لا ملازمة بین حرمة الخلوة وحرمة التشبیب ولو بالفحوی ، إذ لا طریق لنا إلی العلم بأنّ ملاک الحرمة فی الخلوة هو إثارة القوة الشهویة حتّی یقاس علیها کلّ ما یوجب تهیجها . ومن هنا علم أنّه لا وجه لقیاس التشبیب علی شیءٍ یوجب تهیج القوة الشهویة(6) .

أقول : یمکن أن یلاحظ علی هذا المحقق الجلیل قدس سره ، أولاً : لم تکن الروایات کلها الواردة فی الخلوة بالأجنبیة ضعیفة الإسناد ، بل فیها روایات یمکن الذهاب إلی اعتبار سندها ، نحو حسنة سعدان بن مسلم الماضیة آنفاً .

وثانیاً : لا یتم ما ناقشه فی دلالة الروایات - نحو خبر مسمع أبی سیار - التی ظاهرها

ص:304


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 218 .
2- (4) مصباح الفقاهة 1 / 217 .
3- (5) مصباح الفقاهة 1 / 217 .
4- (6) مصباح الفقاهة 1 / 217 .
5- (1) مصباح الفقاهة 1 / 218 .
6- (2) مصباح الفقاهة 1 / 218 .

النهی عن الخلوة بالأجنبیة ، ولذا لم یدع أحد قبله قدس سره ما ذهب إلیه من ظهور الروایة عن قعود النساء مع الرجال فی بیت الخلاء ، وکیف یمکن خفاء هذا الظهور علی الجمیع حتّی ظهر له قدس سره ؟ وما یقول قدس سره فی معنی هذه الروایة التی رفعها الآمدی إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : کُنْ فی الملاء وَقُوراً ، وکن فی الخلاء ذَکُوراً(1) ؟ ! ومن الواضح استعملت کلمة الخلاء فی مقابل الملاء ، یعنی الخلوة فی مقابل أعین الناس والجلوة .

وأمّا ما ذهب إلیه فی روایة موسی بن إبراهیم من عدم الملازمة بین سماع نَفَس الأجنبیة والخلوة بها دائماً ، وإن کان کذلک بالنظر الدقی العقلی ولکن العرف إذا عرضت علیه هذه الروایة لا یری فرقاً بین سماع نَفَسها والخلوة بها ، بل یری سماع نَفَسها من ملازمات الخلوة بها وتبعاتها ، ولذا دلالة هذه الروایة عندهم علی حرمة الخلوة بالأجنبیة تامة . وإن شککت فیما ذکرت لک فالعرف ببابک ، وقد مرّ منّا أیضاً کلام فی ذیل الروایة ، فراجعه .

وأمّا ما ذکر قدس سره من أنّ الخلوة بالأجنبیة من مقدمات الزنا فیحمل النهی عنها للمقدمیّة فقط ، أیضاً غیر تام . نعم : الخلوة من مقدمات الزنا غالباً ، ولکن لا مانع من تعلق النهی من

قبل الشارع بها بعنوانها الأصلی لا التبعی أو المقدمیّة فقط ، نحو : نهی الشارع عن الأکل علی مائدة یُشرب علیها الخمر ، أو فی الواجبات ومقدماتها ، الأمر الوارد فی الطهارات الثلاث . وظهور روایات الحرمة فی المقام فی الحرمة الأصلیة لا المقدمیّة ، کما ادعاه قدس سره . وما ذکره أخیراً من أهمیة حفظ الأعراض فی نظر الشارع المقدس أیضاً یقتضی حمل حرمة الخلوة علی الحرمة الأصلیة لا المقدمیّة کما هو الواضح .

وثالثاً : وما ذکره قدس سره من عدم العلم بأنّ ملاک الحرمة فی الخلوة هو إثارة القوة الشهویة أیضاً غیر تام ، لظهور هذا الملاک عند کلِّ من یسمع بحرمتها وقد اعترف قدس سره بأنّها من المقدمات القریبة للزنا ، وکیف یمکن أن یکون شیئاً من المقدّمات القریبة للزنا ولم تکن لإثارة القوة الشهویة فیها دخل ؟ !

نعم ، لأحد أن یقال : بعدم إحراز أن تمام الملاک فیها تهییج القوة الشهویة ، ویمکن أن

ص:305


1- (3) غرر الحکم ح 7145 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 3 / 340 ح 8 .

یکون فیها علی وجه الحکمة لا العلّة ، لا سیما العلّیة التامة حتّی یقاس علیها التشبیب .

والحاصل ، بعد ورود الروایات المتعددة الناهیة عن الخلوة بالأجنبیة لابدّ لنا من القول بحرمتها ، ولکن قیاس التشبیب علیها غیر تام کما قال المحقق الخوئی قدس سره : « لا ملازمة بین حرمة الخلوة وحرمة التشبیب ولو بالفحوی »(1) .

ومنها : ما ورد من النهی التنزیهی الدال علی الکراهة فی اُمورٍ ، نحو :

الف : النهی عن جلوس الرجل فی مکان المرأة حتّی یبرد ، نحو : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا جلست المرأة مجلساً فقامت عنه فلا یجلس فی مجلسها رجل حتّی یبرد(2) .

ب : ما ورد من رجحان تستر المرأة عن نساء أهل الذمة وکراهة إنکشافها لهنّ ، نحو : صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا ینبغی للمرأة أن تنکشف بین یدی الیهودیة والنصرانیة ، فإنهنَّ یصفن ذلک لأزواجهنّ(3) .

ج : ما ورد من التستر عن الصبی الممیز ، نحو : معتبرة السکونی عن أبیعبد اللّه علیه السلام قال : سئل أمیر المؤمنین علیه السلام عن الصبی یحجم المرأة ؟ قال : إذا کان یحسن یصف فلا(4) .

بتقریب : أن نهی الشارع المقدس عن هذه الأمور تنزیهی ، لکونها موجبة لتهییج الشهوة ، فیمکن أن یُستدل بفحواها علی حرمة التشبیب ، لکونه أقوی من هذه الاُمور فی إثارة الشهوة وتهییجها .

وفیه : غایة ما یُستفاد من الروایات المذکورة کراهة الاُمور الثلاثة ، فکیف یمکن الذهاب منها إلی حرمة التشبیب ، حتّی علی القول بالقیاس الباطل . مضافاً إلی عدم ظهور مناط الکراهة فیها من تهییج الشهوة وإثارتها .

وبالجملة ، هذا الوجه السابع بطوله أیضاً غیر تام کالوجوه الستة الماضیة .

ص:306


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 218 .
2- (2) وسائل الشیعة 20 / 248 ح 1 . الباب 145 من أبواب مقدمات النکاح .
3- (3) وسائل الشیعة 20 / 184 ح 1 . الباب 98 من أبواب مقدمات النکاح .

الوجه الثامن : قوله تعالی فی سورة الأحزاب : «یَا نِسَاء النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَیْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ»(1) .

أمر اللّه سبحانه فی الآیة الشریفة بالإحتفاظ الأکثر بالنسبة إلی نساء النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، لأنّ لهنّ احتراماً خاصاً لتعلقهنّ بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وسلم . ووجوب هذا الإحتفاظ الأکثر فی حقهنّ معلوم ، وأمّا فی حقِّ غیرهنّ مِن النساء أیضاً مستحب ومرغوب فیه . ویمکن أن یُستأنس من الآیة الشریفة رجحان احتفاظ غیرهنّ من النساء أو لزومه ، ولکن أین هذا من حرمة التشبیب ؟ !

الإحتفاظ فعل النساء والتشبیب فعل الغیر ، فکیف یمکن إستنتاج حرمة فعل الغیر من وجوب فعلهنَّ ؟ !

مضافاً إلی ما مرّ منّا من الإشکالات السابقة المشترکة بین الوجوه ، فراجع ما حررناه هناک .

الوجه التاسع : قوله تعالی فی سورة النور : «وَلاَ یَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِیُعْلَمَ مَا یُخْفِینَ مِن زِینَتِهِنَّ»(2) .

بتقریب : أنه نهی اللّه سبحانه النساء من ضرب أرجلهنّ علی الأرض لئلا یبدی زینتهنّ لأن إبداء زینتهنّ یوجب إثارة الشهوة وتهییجها ، فکلّ ما یوجب إثارة الشهوة وتحییجها حرام ، ومنها : التشبیب .

وفیه : غایة الأمر فی الآیة الشریفة أنها تدلّ علی حرمة ضرب النساء أرجلهنّ علی الأرض لئلا یبدو ما تخفی من زینتهنَّ ، فهذه الحرمة ثابتة علی النساء وکیف یمکن منها استفادة حرمة التشبیب وهو فعل الغیر ؟ ! وبالجملة لیس لنا دلیل علی هذا التعدی .

مضافاً إلی ورود الإشکالات المشترکة الماضیة .

الوجه العاشر : التشبیب نوع من الفحش والفحش حرام ، فالتشبیب مثله حرام .

ص:307


1- (1) وسائل الشیعة 20 / 233 ح 2 الباب 130 من أبواب مقدمات النکاح .
2- (2) سورة الأحزاب / 32 .

وفیه : ، نعم الفحش حرام إلاّ أنّه لا یرتبط ذلک بالتشبیب بعنوانه الأوّلی الذی هو محل الکلام فی المقام کما ذکره فی المصباح(1) .

والحاصل : أن هذه الوجوه العشرة غیر تامة فی الاستدلال علی حرمة نفس التشبیب ، مع ذلک کلّه لنعم ما قال المحقق الخوئی طاب ثراه : « لا شبهة فی حرمة ذکر الأجنبیات والتشبیب بها کحرمة ذکر الغلمان والتشبیب بهم بالشعر وغیره ، إذا کان التشبیب لتمنی الحرام وترجی الوصول إلی المعاصی والفواحش کالزنا واللواط ونحوهما ، فإنّ ذلک هتک لأحکام الشارع وجرأة علی معصیته ، ومن هنا حرم طلب الحرام من اللّه بالدعاء ، ولا یفرق فی ذلک بین کون [المرأة] المذکورة مؤمنة أو کافرة ، وعلی کلِّ حالٍ فحرمة ذلک لیس من جهة التشبیب »(2) .

وهکذا یحرم التشبیب إذا انطبق علیه بعض العناوین المحرّمة ، نحو : هتک النفوس المحترمة ، أو تسبیب إیذائهن أو إغراء الفساق بهنّ أو الفحش أو غیرها .

ویؤید ما ذکرناه خبر أبی هریرة وعبد اللّه بن عباس فی آخر خطبة خطبها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة ، قالا : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : مَنْ وصف إمرأة لرجل وذکر جمالها له فافتتن بها الرجل فأصاب منها فاحشة لم یخرج من الدنیا حتّی یغضب اللّه علیه ومن غضب اللّه علیه غضبت علیه السماوات السبع ، والأرضون السبع وکان علیه من الوزر مثل الذی أصابها . قیل : یا رسول اللّه فإن تابا وأصلحا ؟ قال : یتوب اللّه تعالی علیهما ، ولم یقبل توبة الذی یخطبها بعد الذی وصفها(3) .

أقول : الموجود فی المتن المطبوع من عقاب الأعمال ما نقلته لک مع تذکّر وجود

« یخطیها » فی بعض النسخ بدلا من « یخطبها» فی آخر الحدیث ، وهکذا نقله فی جامع أحادیث

ص:308


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 220 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 211 .
3- (3) عقاب الأعمال / 337 .

الشیعة(1) ، ولکن نقل آخره فی وسائل الشیعة(2) هکذا : « قیل : یا رسول اللّه فإن تاب وأصلح ؟ قال : یتوب اللّه علیه» .

والذی یختلج بالبال فی تصحیح آخر الروایة - والعلم عند اللّه تعالی - أن یکون هکذا :

« قیل : یا رسول اللّه فإن تابا وأصلحا ؟ قال : یتوب اللّه علیهما ولم یقبل توبة الذی یصفها بعد الذی وَصَفَها» . وصارت جملة« بعد الذی وصفها» توضیحیة لیصفها . والمراد بها : إنّ اللّه تبارک وتعالی یقبل توبة الزانی والزانیة ولا یقبل توبة هذا الواصف بعد وصفه أیاها .

وهکذا یمکن تصحیح الروایة مع نسخة بدلها یعنی « یخطیها » : صارت معناها إنّ اللّه لم یقبل توبة الذی یخطیها أی یوجب خطأ المرأة وانحرافها من جادة الشریعة بالزنا ، وصارت جملة « بعد الذی وصفها » تعلیلیة لما قبلها ، یعنی تعلیل لیخطیها ، وحاصل معناها : إنّ اللّه لم یقبل توبة الذی صار وصفه إیّاها موجباً لفسادها وارتکابها الزنا .

ولکن الظاهر أنّ التصحیح الأوّل أولی .

وبالجملة ، الروایة تدلّ علی حرمة وصف الأجنبیات والتشبیب بهنّ ، ولکن فی سندها ضعف ظاهر .

ثم إنّ هاهنا فروعاً :

الفرع الأوّل :

یمکن أن یکون توصیف المرأة والتشبیب بها فی مورد خاص مستحسناً مرغوباً فیه شرعاً ، وهو إذا کان لسامع معلوم بالنسبة إلی المرأة المخلاة لغرض تشویقه فی خطبتها والسعی فی نکاحها ، وبهذا یخرج عن عنوان توصیف المحرّم وتشبیبه إلی عنوان تزویج المؤمن ، وهذا العنوان من المستحباتِ المؤکّدة فی الشریعة المقدسة ، وتدلّ علیه عدّة من الروایات :

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : أفضل

ص:309


1- (1) جامع أحادیث الشیعة 25 / 389 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 20 / 184 ح 2 .

الشفاعات أن تشفع بین إثنین فی نکاح حتّی یجمَع اللّه بینهما(3) .

ومنها : موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من زوّج أعزباً ، کان ممّن ینظر اللّه عزّ وجل إلیه یوم القیامة(1) .

الفرع الثانی :

علی القول بحرمة التشبیب ، فهل یجوز التشبیب بالنسبة إلی المرأة المبهمة أم لا ؟ ظاهر کلمات الأصحاب جواز التشبیب بالنسبة إلی المرأة المبهمة ، لاسیما إذا کان الإبهام واقعیاً کأکثر مایتعزل به منظوماً . والوجه فی عدم حرمته ، عدم ترتب أیّ مفسدة من المفاسد الماضیة علیه ، وأیضاً عدم ترتب العناوین المحرّمة علیه .

وأمّا إذا کانت المرأة معینة عند القائل و مبهمة عند السامع ، فهل یحرم التشبیب بها أم لا ؟ ظهر حکم هذا الفرض أیضاً ممّا مرّ آنفاً ، حیث لم یترتب علیه مفسدة ولم ینطبق علیه العناوین المحرّمة ، فلا دلیل علی الحرمة حینئذ . خلافاً للمحقق الثانی(2) والشهید قدس سرهما حیث ذهب الأوّل إلی صدق هتک عرضها والثانی إلی حرمة الإستماع علی السامع علی التقدیرین(3) .

ووفاقاً لظاهر الشیخ الأکبر قدس سره فی شرحه علی القواعد(4) وصریح تلمیذه قدس سره فی مفتاح الکرامة حیث یقول : « إذا لم تکن معروفة عند السامع لا یحرم علیه الإستماع ولا یحرم علی القائل التشبیب ، کما هو الظاهر الموافق للإعتبار وللمتبادر من الإطلاق »(5) .

وأمّا إذا کانت المرأة معینة عند القائل ومعلومة عند السامع لکن لا بالعلم التفصیلی بل بالعلم الإجمالی مع حصر أطرافه ، فحینئذ یمکن القول بالحرمة لإتیان المفاسد الماضیة وترتب

ص:310


1- (1) الکافی 5 / 331 ونقلت عنه فی کتابی ألف حدیث فی المؤمن / 146 .
2- (2) الکافی 5 / 331 ونقلت عنه فی کتابی ألف حدیث فی المؤمن / 146 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 28 .
4- (4) ونقل عنهما فی مفتاح الکرامة 4 / 69 - (12 / 225) .
5- (5) شرح القواعد 1 / 237 .

العناوین المحرّمة .

وأمّا مع عدم حصر أطراف العلم الإجمالی فلا یمکن الذهاب إلی القول بالحرمة ، لعدم

إتیان المفاسد وعدم ترتب العناوین المحرّمة . کما نبّه علی الفرض الأخیر المحقق الأردکانی قدس سره فی تعلیقه علی المکاسب(1) .

الفرع الثالث :

علی القول بحرمة التشبیب - وهو فعل القائل والمتکلِّم والناظم - هل یحرم الإستماع إلیه وهو فعل المستمع أم لا ؟

الظاهر واللّه العالم لو أمکن القول بحرمة التشبیب یمکن القول بحرمة الإستماع ، لأنّ غالب المفاسد والعناوین المحرّمة لم یترتب علیه مع عدم وجود المستمع کما هو ظاهر .

وحکم القاریء أیضاً حکم المستمع إذا کان التشبیب مکتوباً . ووافقنا علی هذا الفرع الشهید قدس سره والسید العاملی قدس سره صاحب مفتاح الکرامة علی ما مرّ من کلامهما فی الفرع السابق .

ولما ذکرنا ظهر ضعف ما ذهب إلیه السید الفقیه الیزدی قدس سره ولذا أمر بالتدبر فی آخر کلامه حیث یقول : « بل یمکن دعوی عدم حرمة الإستماع مطلقاً ولو کان محرّماً بالنسبة إلی القائل ، فتدبّر »(2) .

الفرع الرابع :

علی القول بحرمة التشبیب بالأجنبیة ، هل التشبیب بالغلام وبالمرد الحسان حرام أم لا ؟ إذا کان التشبیب بالمرد الحسان باعثاً علی التهیّج علی الحرام فهو حرام بلا إشکال ، ویترتب علیه المفاسد والعناوین المحرّمة الماضیة بطریق أشدّ وأولی .

وأمّا فی تنظّر الفیض الکاشانی فی إطلاق هذا الحکم فی کتابه مفاتیح الشرائع(3) وتبعیّة

ص:311


1- (1) غنیة الطالب 1 / 111 .
2- (2) حاشیة المکاسب / 17 - (1 / 102 من الطبعة الحدیثة) .
3- (3) مفاتیح الشرائع 2 / 20 مفتاح 465 .

المحقق السبزواری له فی کتابه کفایة الأحکام(1) ، نظر بیّن . لأنّ التشبیب بالغلام أشدّ مفسدة وحرمة .

ولذا قال الشهید فی الدروس : « ... والتشبیب بها معینة وبالغلمان مطلقاً ... »(2) . وقال

ثانی الشهیدین فی المسالک : « ... وکذا التشبیب بالغلام محرّم مطلقاً لتحریم متعلقه »(3) .

وقال المحقق الثانی فی جامع المقاصد : « ... وأمّا التشبیب بالغلام فحرام علی کلِّ حالٍ»(4) . وذهب الفاضل الإصبهانی أیضاً إلی حرمة التشبیب بالغلام مطلقاً فراجع کتابه کشف اللثام(5) .

وقال جدنا الفقیه الشیخ الأکبر کاشف الغطاء قدس سره : « وأمّا التشبیب بالمرد الحسان من الکفار والمؤمنین المعروفین والمبهمین فهو من السفه وباعث علی التهیّج علی الحرام ومعدود من الفحش ، وظاهر نظر المفاتیح لا یُنظر إلیه »(6) .

وتبعه تلمیذاه صاحبا الجواهر(7) والمفتاح(8) .

وفی هذا المقدار کفایة لمن أراد الحقیقة فی الحکم ، واللّه سبحانه هوالعالم والحمد له .

ص: 312


1- (4) کفایة الأحکام / 281 الطبع الحجری - (ولکن فی المطبوع منها حدیثاً لم تذکر التبعیة فراجع 1 / 440) .
2- (5) الدروس الشرعیة 3 / 163 .
3- (1) المسالک 2 / 404 الطبع الحجری - (14 / 182) .
4- (2) جامع المقاصد 4 / 28 .
5- (3) کشف اللثام 10 / 294 من طبع جماعة المدرسین .
6- (4) شرح القواعد 1 / 238 .
7- (5) الجواهر 41 / 49 .
8- (6) مفتاح الکرامة 4 / 69 (12 / 225) .

التصویر

أنواعه :

ینقسم التصویر إلی أربعة أنواع : الصورة إمّا لذی روح مِن إنسان أو حیوان ، وإمّا لغیر ذی روح ، وکلّ منهما إمّا بنحو التجسیم بحیث یوجد له الظلّ ، وإمّا بنحو الصورة والنقش فقط مِنْ دون تجسیم ، فهذه أربعة أقسام .

وهکذا یمکن تقسیم التصویر إلی أقسام اُخر ، نحو إیجاده بعمل الید والمباشرة أو بالمکائن والمطابع والآلات الحدیثة نحو الکامیرا وهی الآلة المصوِّرة والحاسب الآلی وهو الکامبیوتر ونحوهما .

أو إیجاد الصورة کاملاً کإنسان أو حیوان قائماً أو إیجاده ناقصاً نحو : رأس الإنسان أو الحیوان فقط أو مع ضمّ بعض الأجزاء الآخر کتصویرهما قاعداً .

أو إیجاد الصورة لشیءٍ حقیقی یوجد فی الخارج ویراه الإنسان بعینه أو إیجاد الصورة لشیءٍ لم یره الإنسان نوعاً أو أصلاً ، نحو التصویر الخیالی للجن أو الملک أو الغول أو العنقاء ومثلها .

وهذه بعض أقسام الصورة ، ویمکن تقسیمه بإنقسامات اُخر أیضاً لا یهمّنا ذکرها هنا ویأتی البحث حولها فی فروع المسألة إن شاء اللّه تعالی .

الأقوال فیه
تنقسم الأقوال الرئیسیة فی المقام إلی الخمسة :

الأوّل : حرمة التصویر مطلقاً بأقسامه الأربعة ، یعنی سواء کان للحیوان أو لغیره ، وسواء کان بنحو التجسیم أو الصورة والنقش فقط ، استظهره العلامة الحلّی قدس سره فی المختلف(1)

ص:313


1- (1) المختلف 5 / 13 .

من کلامی القاضی ابن البراج(1) وأبی الصلاح الحلبی(3) .

الثانی : حرمة المجسّمة فقط ، سواء کانت لذی روح أو لغیره ، نسبه العلامة فی المختلف(2) إلی الشیخین المفید(3) والطوسی(4) ، وسلاّر(5) واختاره العلامة نفسه فی إرشاد الأذهان(6) وتذکرة الفقهاء(7) .

الثالث : حرمة ما کان لذی روح فقط ، سواء کان بنحو التجسیم أو بالصورة والنقش ، نسبه الشیخ الأعظم(8) قدس سره إلی ظاهر النهایة(9) وصریح السرائر(10) والمحکی عن حواشی الشهید(11) والمیسیّة(12) والمسالک(13) وإیضاح النافع(14) والکفایة(15) ومجمع البرهان(16) وغیرهم .

ص:314


1- (2) المهذب 1 / 344 .
2- (1) الکافی / 281 .
3- (2) المختلف 5 / 14 .
4- (3) المقنعة / 587 .
5- (4) النهایة / 363 .
6- (5) المراسم / 170 .
7- (6) إرشاد الأذهان 1 / 357 ، والارشاد المطبوع مع غایة المراد 2 / 8 .
8- (7) تذکرة الفقهاء 12 / 188 مسألة 693 .
9- (8) المکاسب / 23 - (1 / 183 من الطبعة الحدیثة) .
10- (9) النهایة / 363 .
11- (10) السرائر 2 / 215 .
12- (11) کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 48 - (12 / 158 من طبعة جماعة المدرسین) .
13- (12) المیسیّة / کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 48 - (12 / 158) .
14- (13) مسالک الإفهام 3 / 126 .
15- (14) ایضاح النافع / کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 48 - (12 / 158) .
16- (15) کفایة الأحکام / 85 - (1 / 427 من طبعة جماعة المدرسین) .

أقول : واختاره الشهید الثانی فی حواشیه علی الإرشاد(1) ، والشرائع(2) والنافع(3) .

الرابع : اختصاص الحرمة بخصوص المجسَّم من ذوات الأرواح فقط ، وادعی علیه الإجماع ونفی الخلاف فی کلمات جماعة من الأعلام ، نحو : المحقق الثانی فی جامع المقاصد(4) والمحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(5) والسبزواری فی کفایة الأحکام(6) واختاره جدنا الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد(7) وتلمیذه صاحب الجواهر(8) والمحقق الخمینی فی المکاسب المحرمة(9) وشیخنا الاُستاذ - مدظله - فی إرشاد الطالب(10) وبعض المعاصرین - مدظله - فی کتابه المسائل المستحدثة(11) .

الخامس : ظاهر المشایخ الطوسی والطبرسی والمیرزا محمد المشهدی قدس سرهم فی تفاسیرهم التبیان(12) ومجمع البیان(13) وکنز الدقائق(14) کراهة عمل الصور مطلقاً لا الحرمة فی ذیل قوله تعالی فی سورة البقرة : «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَی أَرْبَعِینَ لَیْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ»(15) .

ص:315


1- (16) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 54 .
2- (17) حاشیة الارشاد المطبوعة مع غایة المراد 2 / 8 - ومستقلاً / 164 .
3- (18) حاشیة شرایع الإسلام / 326 .
4- (1) جامع المقاصد 4 / 23 .
5- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 54 .
6- (3) کفایة الأحکام / 85 - (1 / 427 من طبعة جماعة المدرسین) .
7- (4) شرح القواعد 1 / 186 .
8- (5) الجواهر 22 / 41 .
9- (6) المکاسب المحرمة 1 / 168 .
10- (7) إرشاد الطالب 1 / 120 .
11- (8) المسائل المستحدثة / 214 للفقیه السید محمد صادق الروحانی مدظله .
12- (9) التبیان 1 / 236 .
13- (10) مجمع البیان 1 / 109 .
14- (11) کنز الدقائق 1 / 245 .
15- (12) سورة البقرة / 51 .

ومن المعلوم أنّ تألیف التبیان متأخر عن کتب الشیخ الفقهیة کما صرح بذلک ابن إدریس الحلی الذی هو من أسباط الشیخ فی مسألة ولایة الأب والجد علی البنت فی النکاح من سرائره ، وقال : « وأیضاً فشیخنا أبوجعفر الطوسی قد رجع وسلّم المذهب بالکلیّة فی کتابه کتاب التبیان ورجع عمّا ذکره فی نهایته وسائر کتبه ، لأنّ کتاب التبیان صنفه بعد کتبه جمیعها واستحکام عمله وسبره للأشیاء ووقوفه علیها وتحقیقه لها »(13) .

فهذه عمدة الأقوال فی حکم التصویر ، فلابدّ لنا من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام حتّی نری إمکان تأیید أیّ قول من الأقوال الخمسة بها وبالجمع بین طوائفها ؟ !

الروایات
اشارة

الروایات الواردة حول مسألة التصویر علی طوائف :

الطائفة الأولی : ما یدلّ علی حرمة التصویر مطلقاً

منها : موثقة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ جبرئیل أتانی فقال : یا محمّد إنّ ربّک یقرؤک السلام وینهی عن تزویق البیوت . قال أبو بصیر : قلت : ما التزویق ؟ قال : تصاویر التماثیل(1) .

ورواها فی الکافی(2) بسند فیه ضعف لدخول علی بن أبی حمزة البطائنی فیه ونقل عنهما فی الوسائل(3) . والمراد بالتزویق یعنی التزیین والتحسین .

ومنها : خبر آخر لأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أتانی جبرئیل فقال : یا محمّد إنّ ربّک ینهی عن التماثیل(4) .

وفی السند ضعف بعلی بن أبی حمزة البطائنی ، ویمکن اتحاد الروایتین وکون الثانی

ص:316


1- (1) السرائر 2 / 563 .
2- (2) المحاسن 2 / 453 ح 37 .
3- (3) الکافی 6 / 526 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 5 / 303 ح 1 . الباب 3 من أبواب أحکام المساکن .

تلخیصاً للأوّل .

ومنها : خبر الأصبغ بن نباتة قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : من جدّد قبراً أو مثّل مثالاً فقد خرج عن الإسلام(1) .

ورواه الصدوق مرفوعاً إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فی الفقیه(2) والشیخ مسنداً عنه علیه السلام فی التهذیب(3) ، والسند ضعیف بأبی الجارود ، وفی ألفاظ الروایة ومعانیها وجوه سوف یأتی

التعرض لها فیما بعد إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .

ومنها : خبر جراح المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا تبنوا علی القبور ولا تصوّروا سقوف البیوت ، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کره ذلک(4) .

والکراهة فی لسان الأئمة علیهم السلام تحمل علی الحرمة لا الکراهة المصطلحة عند الفقهاء ، لاسیما فی هذه الروایة المؤیدة بظهور النهی فی الحرمة أیضاً فی « لا تصوّروا» ، ولکن فی السند ضعف بالقاسم بن سلیمان ، لأنّه لم یوثق . وأمّا جراح المدائنی فیمکن الذهاب إلی حسنه کما ذهب إلیه العلاّمة المامقانی قدس سره فی تنقیح المقال(5) .

ومنها : خبر سعد بن ظریف عن أبی جعفر علیه السلام قال : «إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(6) : هم المصوّرون ، یکلَّفون یوم القیامة أن ینفخوا فیها الروح(7) .

والسند ضعیف بأبی جمیلة وسعد بن ظریف ، ولکن الروایة تدلّ علی حرمة التصویر .

ومنها : صحیحة یحیی بن العلاء عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّه کره الصور فی البیوت(8) .

ص:317


1- (5) المحاسن 2 / 453 ح 36 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 307 ح 11 .
2- (6) المحاسن 2 / 453 ح 33 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 306 ح 10 .
3- (7) الفقیه 1 / 189 ح 579 .
4- (1) وسائل الشیعة 5 / 306 ح 9 .
5- (2) تنقیح المقال 1 / 209 الرقم 1697 من الطبع الحجری .
6- (3) سورة الأحزاب / 57 .
7- (4) المحاسن 2 / 455 ح 43 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 307 ح 12 .
8- (5) المحاسن 2 / 456 ح 46 .

الصحیحة تدلّ علی الحرمة ، لأنّه مرّ منّا أنّ الکراهة فی لسان الأئمة علیهم السلام تحمل علی الحرمة . ونظیرها خبر المثنی(1) وخبر حاتم بن إسماعیل المدینی(2) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : بعثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة فقال : لا تدع صورة إلاّ محوتها ، ولا قبراً إلاّ سوّیته ، ولا کلباً إلاّ قتلته(3) .

ومنها : حسنة عبد اللّه بن میمون القداح عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : أرسلنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی هدم القبور وکسر الصور(9) .

ورواها بسنده فی الکافی(4) وفی السند سهل بن زیاد آلادمی القمی .

ومنها : صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : إنّ جبرئیل قال : إنّا لا ندخل بیتاً فیه کلب ، ولا صورة إنسان ، ولا بیتاً فیه تمثال(5) .

ورواها بسند معتبر فی الکافی(6) ، ونحوها أیضاً خبر محمد بن مروان المروی فی الکافی(7) والمحاسن(8) ، وخبر عمر بن خلاّد المروی فی المحاسن(9) . ونظیرها مرفوعة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی کتابه درر اللآلی(10) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن طلحة النهدی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من أکل السحت

ص:318


1- (6) المحاسن 2 / 456 ح 45 .
2- (7) المحاسن 2 / 456 ح 47 .
3- (8) المحاسن 2/453 ح 34 والکافی 6/528 ح 14 ونقل عنهما فی وسائل الشیعة 5/306 ح 8 .
4- (1) المحاسن 2 / 453 ح 35 .
5- (2) الکافی 6 / 528 ح 11 .
6- (3) المحاسن 2 / 454 ح 38 .
7- (4) الکافی 6 / 527 ح 3 .
8- (5) الکافی 6 / 526 ح 2 .
9- (6) المحاسن 2 / 454 ح 39 .
10- (7) المحاسن 2 / 454 ح 40 .

سبعة - إلی أن قال - والذین یصوّرون التماثیل ، الخبر(1) .

ومنها : خبر أبی بصیر ومحمد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : أمیر المؤمنین علیه السلام : إیّاکم وعمل الصور ، فإنّکم تسألون عنها یوم القیامة ، الخبر(2) .

منها : ما رواه الصدوق بسند صحیح عن محمد بن أحمد بن یحیی بإسناده رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام قال : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أن یسلّم علی أربعة : علی السکران فی سکره ، وعلی من یعمل التماثیل ، وعلی من یلعب بالنرد ، وعلی من یلعب بالأربعة عشر ، وأنا أزیدکم الخامسة أنهاکم أن تسلّموا علی أصحاب الشطرنج(3) .

ومنها : مرفوعة ومضمرة القطب الراوندی قال : روی أنّه یخرج عنق من النار

فیقول : أین من کذب علی اللّه ؟ وأین من ضادّ اللّه ؟ وأین من استخف باللّه ؟ فیقولون : ومن هذه الأصناف الثلاثة ؟ فیقول : من سحر فقد کذب علی اللّه ، ومن صوّر التماثیل فقد ضادّ اللّه ، ومن تراءی فی عمله فقد استخف باللّه(4) .

ومنها : مرفوعة الشهید الثانی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : أشدّ الناس عذاباً یوم القیامة : رجلٌ قتل نبیّاً أو قَتَلَهُ نبیٌّ ، أو رجل یُضِلُّ الناسَ بغیر علمٍ ، أو مُصَوِّرٌ یُصَوِّرُ التماثیلَ(5) .

ومنها : مرفوعة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : المصوّرون یعذّبون یوم القیامة ، یقال : أحیوا ما خلقتم(6) .

فهذه الروایات کلُّها نُقِلَتْ من طرقِنا وفیها الصحیحة والموثقة والمعتبرة والحسنة مِن

ص:319


1- (8) درر اللآلی 1 / 118 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 3 / 453 ح 3 .
2- (9) کتاب جعفر بن محمد بن شریح الحضرمی / 76 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 210 ح 2 .
3- (10) الخصال / 635 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 210 ح 1 .
4- (1) لب اللباب / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 3 / 454 ح 5 ، و13 / 210 ح 3 .
5- (2) منیة المرید / 281 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 210 ح 4 .
6- (3) عوالی اللآلی 1 / 148 ح 91 ونقل عنه مع اختلاف یسیر فی مستدرک الوسائل 13 / 211 ح 5 .

حیث السند ، وتدلّ علی مبغوضیة بل حرمة عمل الصور والتماثیل مطلقاً .

الطائفة الثانیة : ما یدلّ علی جواز مطلق التصویر لغیر ذوات الأرواح

منها : موثقة أو صحیحة أبی العباس عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل : «یَعْمَلُونَ لَهُ مَا یَشَاء مِن مَحَارِیبَ وَتَمَاثِیلَ»(1) فقال : واللّه ما هی تماثیل الرجال والنساء ولکنّها الشجر وشبهه(2) .

ومنها : خبر آخر للفضل أبی العباس قال : قلت لأبی جعفر قول اللّه عزّ وجلّ : «یَعْمَلُونَ لَهُ مَا یَشَاء مِن مَحَارِیبَ وَتَمَاثِیلَ وَجِفَانٍ کَالْجَوَابِ»قال : ما هی تماثیل الرجال والنساء ولکنّها تماثیل الشجر وشبهه(3) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ سهل ، ویمکن اتحاده مع الموثقة الماضیة .

ومنها : صحیحة أحمد بن محمد بن أبی نصر البزنطی قال : کنت عند أبی الحسن الرضا علیه السلام فأخرج إلینا خاتم أبی عبد اللّه علیه السلام وخاتم أبی الحسن علیه السلام وکان خاتم أبی عبد اللّه علیه السلام « أنت ثقتی فاعصمنی من الناس» ونقش خاتم أبی الحسن علیه السلام « حسبی اللّه » وفیه وردة وهلال فی أعلاه(4) .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا بأس بتماثیل الشجر(5) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن تماثیل الشجر والشمس والقمر ؟ فقال : لا بأس ما لم یکن شیئاً من الحیوان(6) .

ص:320


1- (4) سورة سبأ / 13 .
2- (5) الکافی 6 / 527 ح 7 والمحاسن 2 / 458 ح 53 ونقل عنهما فی وسائل الشیعة 17 / 295 ح 1 . الباب 94 من أبواب ما یکتسب به ، و 5 / 304 ح 4 . الباب 3 من أبواب أحکام المساکن .
3- (6) وسائل الشیعة 5 / 305 ح 6 .
4- (1) الکافی 6 / 473 ح 4 ونقل عنه مختصرها فی وسائل الشیعة 4 / 443 ح 1 . الباب 46 من أبواب لباس المصلی .
5- (2) المحاسن 2 / 458 ح 55 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 296 ح 2 .
6- (3) المحاسن 2 / 458 ح 54 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 296 ح 3 .

ومنها : مرفوعة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ربّما قمت اُصلّی وبین یدی وسادة فیها تماثیل طائر فجعلت علیه ثوباً ، وقال : قد اُهدیت إلیّ طنفسة من الشام فیها تماثیل طائر فأمرت به فغیّر رأسه فجعل کهیئة الشجر ، وقال : إنّ الشیطان أشدّ ما یهمّ بالإنسان إذا کان وحده(1) .

والروایة تدلّ علی عدم الحرمة فی صورة الشجر وإلاّ لما أمر الإمام علیه السلام بتغییرها إلیها .

ومنها : مرفوعة ابن شعبة الحرّانی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث أنّه قال فی عداد الصنائع المحلّلة : وصنعة صنوف التصاویر ما لم یکن مثل الروحانی(2) .

والحاصل ، ان هذه الروایات وفیها صحیحة الإسناد والموثقة تدلّ علی جواز عمل صور غیر ذوات الأرواح مطلقاً سواء کانت مجسمة أم غیر مجسّمة ، وبها نقیّد المطلقات الواردة فی حرمة عمل الصور بناءً علی قانون الإطلاق والتقیید . ویؤیده السیرة القطعیة المتصلة إلی زمن المعصومین علیهم السلام من عمل تصویر غیر ذوات الأرواح بنحو التجسیم وغیره ولم یَنکره أحد ، وبعض الناس یطلبون الرزق بعمل هذه الصور ویکتسبون بها ولم یرتدع أحد منها .

الطائفة الثالثة : ما یدلّ علی حرمة مطلق التصویر لذوات الأرواح

منها : ما رواها الصدوق قدس سره فی الفقیه بإسناده إلی حدیث مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم : أنّه نهی عن التختم بخاتم صفر أو حدید ، ونهی أن ینقش شیء من الحیوان علی الخاتم ، الحدیث(3) .

ظهور النهی فی الحرمة واضحة ، ولکن فی السند ضعف لدخول عدّة من المجاهیل فیه .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم الماضیة قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن تماثیل الشجر والشمس والقمر ؟ فقال : لا بأس ما لم یکن شیئاً من الحیوان(4) .

ص:321


1- (4) وسائل الشیعة 5 / 309 ح 7 . الباب 4 من أبواب أحکام المساکن .
2- (5) تحف العقول / 335 .
3- (1) الفقیه 4 / 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 297 ح 6 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 296 ح 3 .

هذه الصحیحة بمفهومها تدلّ علی حرمة تصویر ذوات الأرواح مطلقاً ، لأنّ مفهومها إن کان شیئاً من الحیوان ففیه بأس . وکما أن « لا بأس » یدل علی الجواز ، ف- « فیه بأس » أیضاً یدلّ علی الحرمة .

ومنها : الروایات الواردة فی تکلیف المصوّرین یوم القیامة بأن ینفخوا الروح فی صورهم ویحیوهم : نحو :

1 - حسنة الحسین بن المنذر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ثلاثة معذّبون یوم القیامة : رجل کذب فی رؤیاه یکلّف أن یعقد بین شعیرتین ولیس بعاقد بینهما ، رجلٌ صوّر تماثیل یکلّف أن ینفخ فیها ولیس بنافخ(1) .

أقول : إلی هنا انتهی نقل الکلینی ، ولکن رواها البرقی فی المحاسن بسند فیه ضعف ، وتمّمها هکذا : « والمستمع بین قوم وهم له کارهون ، یصبّ فی اُذنیه الآنک وهون الاُسرب »(2) وهکذا تمّمها الصدوق بسنده عن محمد بن مروان الکلبی فی الخصال(3) والرجل لم یثبت وثاقته ولذا کان التعبیر بالصحیحة فی شأن خبر محمد بن مروان کما عبر به ثانی الشهیدین قدس سره فی المسالک(4) غیر تام .

2 - وخبر ابن أبی عمیر عن رجل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من مثّل تمثالاً کلّف یوم القیامة أن ینفخ فیه الروح(5) .

ورواها البرقی فی المحاسن(6) أیضاً .

3 - وخبر الحسین بن زید عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : ونهی أن یکذب الرجل فی رؤیاه متعمّداً وقال : یکلّفه اللّه یوم القیامة أن یعقد شعیرة وما هو

ص:322


1- (3) الکافی 6 / 528 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 305 ح 5 .
2- (4) المحاسن 2 / 456 ح 44 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 305 ح 5 .
3- (5) الخصال 1 / 108 ح 76 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 6 / 166 ح 9 .
4- (6) المسالک 3 / 126 .
5- (1) الکافی 6 / 527 ح 4 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 304 ح 2 .
6- (2) المحاسن 2 / 455 ح 42 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 304 ح 2 .

بعاقدها ، ونهی عن التصاویر وقال : من صوّر صورة کلّفه اللّه یوم القیامة أن ینفخ فیها ولیس بنافخ ، الحدیث(1) .

4 - وخبر ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من صوّر صورة عُذّب وکُلّف أن ینفخ فیها ولیس بفاعل ، ومن کذب فی حلمه عُذّب وکُلّف أن یعقد بین شعیرتین ولیس بفاعل ، ومن استمع إلی حدیث قوم وهم له کارهون یُصبّ فی اُذنیه الآنک یوم القیامة(2) .

قال سفیان (وهو من رجال السند) : الآنک : الرصاص .

5 - وخبر سعد بن ظریف عن أبی جعفر علیه السلام قال : «إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»(3) هم المصوّرون یکلّفون یوم القیامة أن ینفخوا فیها الروح(4) .

6 - ومرفوعة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : المصوّرون یعذّبون یوم القیامة ، یقال : أحیوا ما خلقتم(5) .

7 - مرفوعة اُخری للأحسائی عن خالد الحذاء عن عکرمة عن ابن عباس عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی حدیث : ومن صوّر صورة عُذّب حتّی ینفخ فیها الروح ولیس بنافخ(6) .

وقد حکم المحقق الخوئی(7) قدس سره باستفاضة هذه الأخبار من طرق الفریقین ، وتبعه تلمیذه شیخنا الاُستاذ(8) - مد ظله - وقد یقال فی شأنها : « والظاهر أنّ نقل هذا المضمون مستفیض فی أخبار الفریقین ، بل یمکن القول بتواتره إجمالاً ، بمعنی العلم إجمالاً بصدور بعضها ،

ص:323


1- (3) الفقیه 4 / 5 ح 4946 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 297 ح 6 .
2- (4) الخصال 1 / 109 ح 77 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 297 ح 9 .
3- (5) سورة الأحزاب / 57 .
4- (6) المحاسن 2 / 455 ح 43 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 307 ح 12 .
5- (7) عوالی اللآلی 1 / 148 ح 91 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 211 ح 5 .
6- (8) عوالی اللآلی 1 / 122 ح 51 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 211 ح 6 .
7- (9) مصباح الفقاهة 1 / 224 .
8- (1) ارشاد الطالب 1 / 121 .

ولا أقلّ من الإطمئنان والوثوق بذلک »(1) ... «وکیف کان فهذه الروایات ... قد کثرت من طرق الفریقین بحیث تطمئن النفس بصدور بعضها ولو واحدة منها ، فتکون حجة إجمالاً ، وظاهر الجمیع هی الحرمة ... »(2) .

أقول : الظاهر من هذه الروایات الآمرة بالنفخ یوم القیامة للمصوّرین ، أمرهم سبحانه وتعالی بإحیاء ما صوّره ، فلابدّ أنّ هذه الصورة یمکن إحیاؤها ، یعنی کانت صورة حیوان فقط ، سواء کانت بنحو التجسیم أو غیر مجسمةٍ .

نعم ، خرجت من تحت هذه الأخبار صور غیر الحیوان لعدم إمکان إحیائها .

فحمل الروایات الآمرة بالنفخ علی المجسَّمة من الحیوان فقط بدعوی : أنّ الصورة حیوان لا ینقص منه شیءٌ سوی الروح ، کما ذهب إلیه جدنا الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره فی شرحه علی القواعد(3) وتبعه تلمیذه صاحب الجواهر(4) وتبعهما المحققون الإیروانی(5) والخمینی(6) والأردکانی(7) قدس سرهم والاُستاذ - مد ظله - فی آخر کلامه فی المقام تحت عنوان « اللهم إلاّ ان یقال »(8) وبعض آخر من أساتیذنا(9) - أدام اللّه تعالی ظله - غیر تام لما مرّ منّا أنّ النفخ ظاهر فی الإحیاء ، والإحیاء کما صح أن یتعلق بالمجسمة من الحیوان صح أن یتعلق بغیر المجسمة منه أیضاً .

ویؤید ما ذکرناه صحیحة علی بن یقطین فی قضیة إحیاء الإمام موسی بن جعفر علیه السلام

ص:324


1- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 574 .
2- (3) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 579 .
3- (4) شرح القواعد 1 / 188 .
4- (5) الجواهر 22 / 42 .
5- (6) الحاشیة علی المکاسب 1 / 128 .
6- (7) المکاسب المحرمة 1 / 172 و 171 .
7- (8) غنیة الطالب 1 / 112 .
8- (9) إرشاد الطالب 1 / 121 .
9- (10) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 581 .

أسداً مصوّراً کان علی بعض الستور فقال له : یا أسد اللّه خذ عدوّ اللّه ، قال [ علی بن یقطین ] : فوثبت تلک الصورة کأعظم ما یکون من السباع فافترست ذلک المُعَزِّم(1) ، فخرّ هارون وندماؤه علی وجوههم مغشیّاً علیهم وطارت عقولهم خوفاً من هَوْل ما رأوه ، الحدیث(2) .

وهکذا یؤیدنا خبر محمد بن زیاد ومحمد بن سیار عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن الرضا علیه السلام فی قضیته فی مجلس المأمون ، حیث یقول حمید بن مهران للإمام علیه السلام : ... فأمّا المطر المعتاد مجیئه فلست أنت أحق بأن یکون جاء بدعائک من غیرک الذی دعا ، کما دعوت ، وکان الحاجب أشار إلی أسدین مصوّرین علی مسند المأمون الذی کان مستنداً إلیه ، وکانا متقابلین علی المسند ، فغضب علی بن موسی علیه السلام وصاح بالصورتین : دونکما الفاجر ، فافترساه ولم یبقیا له عیناً ولا أثراً ، فوثبت الصورتان وقد عادتا أسدین فتناولا الحاجب ورضاه [ رضضاه (3)] وهشماه(4) وأکلاه ولحسا(5) دمه والقوم ینظرون متحیّرین ممّا یبصرون ... إلی أن قال الرضا علیه السلام : عودا إلی مقرّکما کما کنتما ، فصارا إلی المسند وصارا صورتین کما کانتا ، الحدیث(6) .

والحاصل ، المراد بالنفخ هو الإحیاء ، ولذا یتعلق بذوات الأرواح مطلقاً ، سواء کانت بنحو المجسَّمة أو غیر المجسَّمة . ولم یرد علینا أولاً : لزوم قابلیة المحلِّ بأن ینفخ فیه ، وهذا لیس إلاّ فی المجسَّمة من الحیوان .

وثانیاً : إذا کانت صورة الحیوان بنحو غیر المجسَّمة لزم من النفخ فیه تبدیل اللون وهو العرض بالجسم وهو الجوهر ، وتبدیل العرض بالجوهر محالٌ .

ص:325


1- (1) المُعَزِّم : الرجل الذی عنده العزیمة والرقی .
2- (2) أمالی الصدوق ، المجلس التاسع والعشرون ح 20 / 212 الرقم 236 .
3- (3) رضّه : دقه وجرشه ، رضض الشیء : بالغ فی رضه .
4- (4) هشم الشیء : کسره .
5- (5) لحس القصعة : لعقها وأخذ ما علق بجوانبها بلسانه أو باصبعه .
6- (6) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 171 .

لأنّه قد مرّ منّا مراراً : أنّ المراد بالنفخ الإحیاء کما اعترف به المحقق الإیروانی(1) ، ویکفی فی تعلق الإحیاء به کونه من ذوات الأرواح مطلقاً ، سواء کانت مجسَّمة أو غیر مجسَّمة . والإحیاء یمکن أن یتعلق بصورة الحیوان ولو کانت غیر مجسَّمة . وهذا الأمر بالإحیاء لیس إلاّ للتعجیز ، ولم یُشترط فی الأوامر التعجیزیة القدرة علی متعلَّقها وإلاّ لم یصدق التعجیز .

ومن هنا ظهر عدم الحاجة إلی جوابات الشیخ الأعظم(2) عن الإشکالین ، حتّی یناقشه السید الخوئی(3) فی جوابه الأوّل وقبوله الجواب الآخر .

حیث أجاب الشیخ الأعظم : أولاً : بأنّ النفخ یتصوّر فی النقش أیضاً بملاحظة محلّه حیث أنّ النقش حالّ فی الجسم .

وثانیاً : أدل الدلیل علی إمکان الشیء وقوعه کما قد وقع فی أمر الإمامین علیهماالسلام فی مجلس هارون وابنه مأمون .

وثالثاً : أن النقش لیس عرضاً بل هو فی الحقیقة أجزاء لطیفة من الصبغ فیکون جسماً(4) .

وناقش السید الخوئی بعد الإعتراف بأنّ الظاهر من أخبار النفخ التکلیف بالإحیاء ، فقال : « إنّ التکلیف إنّما هو بإحیاء نفس الصورة دون محلّها»(5) ، وسکت بالنسبة إلی الجواب الثانی وقبل الجواب الثالث .

فظهر ممّا ذکرنا عدم الحاجة إلی هذه الجوابات لعدم ورود الإشکالات ، لأنّ المراد بالنفخ هو الإحیاء والإحیاء کما یتعلق بالمجسَّم یتعلَّق بغیر المجسَّم أیضاً ، ولیست الروایات ظاهرة فی المجسّم فقط بل تعمّ غیره .

ص:326


1- (7) حاشیة المکاسب 1 / 129 .
2- (1) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 184 من الطبعة الحدیثة) .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 226 .
4- (3) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 184) .
5- (4) مصباح الفقاهة 1 / 226 .

وهکذا لا یتمّ ما ذکره المحققان الإیروانی(1) والخمینی(2) ، فراجع کتابیهما . وتبعهما بعض أساتیذنا - مد ظله - فی المقام(3) .

ووافقنا علی نتیجة هذا البیان جمع من المحققین ، منهم : الشیخ الأعظم(4) قدس سره والفقیه السید الیزدی(5) والسید علی آل بحر العلوم(6) من تلامیذ صاحب الجواهر ، والسید الخوئی(7) والسید عبد الأعلی السبزواری(8) وبعض المعاصرین(9) - مدظله - .

وبالجملة ، هذه الروایات الآمرة بالنفخ تدلّ علی حرمة مطلق تصویر ذوات الأرواح سواء کانت مجسَّمة أو غیر مجسَّمة .

ومنها : أی من الروایات الواردة فی الطائفة الثالثة الدالة علی حرمة مطلق التصویر لذوات الأرواح : خبر الأصبغ بن نباتة [ الذی قد سبق ذکره ] قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : من جدّد قبراً أو مثّل مثالاً فقد خرج من الإسلام(10) .

بتقریب :أن المثال والصورة مترادفان کما قال الفاضل الأصبهانی قدس سره : « المعروف - کما فی اللغة - ترادف التماثیل والتصاویر والصور بمعنی التصاویر »(11) .

فالروایة تدلّ علی حرمة مطلق التصویر ، ولکنّ الروایات الواردة فی جواز تصویر غیر ذوات الأرواح تخصصها ، فبقیت تحتها مطلق تصاویر ذوات الأرواح سواء بنحو

ص:327


1- (5) حاشیة المکاسب 1 / 128 .
2- (6) المکاسب المحرمة 1 / 172 و 171 .
3- (7) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 582 و 581 .
4- (1) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 186 من الطبعة الحدیثة) .
5- (2) حاشیة المکاسب / 17 - (1 / 102 من الطبعة الحدیثة) .
6- (3) برهان الفقه - کتاب التجارة / 16 .
7- (4) مصباح الفقاهة 1 / 226 .
8- (5) مهذب الأحکام 16 / 83 .
9- (6) عمدة الطالب 1 / 168 .
10- (7) المحاسن 2 / 453 ح 33 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 306 ح 10 .
11- (8) کشف اللثام 3 / 308 طبع جماعة المدرسین .

التجسیم أو غیره .

وفیه : أولاً : فی سندها ضعف ظاهر بأبی الجارود کما مرّ منّا .

وثانیاً : فی دلالة هذا الحدیث ومفاد معناه مناقشات کثیرة نذکر لک کلام بعض الأعلام فی المقام حتّی یظهر بعضها :

قال الصدوق بعد نقل الروایة : « واختلف مشایخنا فی معنی هذا الخبر :

فقال محمد بن الحسن الصفار رحمه الله : هو جدّد بالجیم لا غیر . وکان شیخنا محمد ابن الحسن بن أحمد بن الولید رضی الله عنه یحکی عنه أنّه قال : لا یجوز تجدید القبر ولا تطیین جمیعه بعد

مرور الأیام علیه وبعد ما طیّن فی الأوّل ، ولکن إذا مات میّت وطیّن قبره فجائز أن یرمَّ سائر القبور من غیر أن یجدَّد .

وذکر [ ابن الولید ] عن سعد بن عبد اللّه رحمه الله أنّه کان یقول : إنّما هو مَن حدَّد قبراً - بالحاء غیر المعجمة - یعنی به من سنّم قبراً .

وذکر [ ابن الولید ] عن أحمد بن أبی عبد اللّه البرقی أنّه قال : إنّما هو من جدث قبراً ، تفسیر الجدث : القبر فلا ندری ما عنی به .

والذی أذهب إلیه : أنّه جدَّد بالجیم ومعناه نبش قبراً ، لأنّ من نبش قبراً فقد جدّده وأحوج إلی تجدیده وقد جعله جدثاً محفوراً .

وأقول : إنّ التجدید علی المعنی الذی ذهب إلیه محمد بن الحسن الصفار والتحدید بالحاء غیر المعجمة الذی ذهب إلیه سعد بن عبد اللّه والذی قاله البرقی من أنّه جدث کلّه داخل فی معنی الحدیث ، وأنّ من خالف الإمام علیه السلام فی التجدید والتسنیم والنبش واستحلّ شیئاً من ذلک فقد خرج من الإسلام .

والذی أقوله فی قوله علیه السلام « مَن مثّل مثالاً » یعنی به أنّه من أبدع بدعةً ودعا إلیها ، أو وضع دیناً فقد خرج من الإسلام ، وقولی فی ذلک قول أئمتی علیهم السلام ، فإن أصبتُ فمن اللّه علی ألسنتهم وإن أخطأت فمن عند نفسی »(1) .

ص:328


1- (1) الفقیه 1 / (191 - 189) .

الشیخ فی التهذیب بعد نقل الروایة والاختلاف الذی مرّ من الصدوق فی معناها قال بعد نقل مقال البرقی توضیحاً لکلامه : « ویمکن أن یکون المعنی بهذه الروایة : النهی أن یجعل القبر دفعة اُخری قبراً لإنسان آخر ، لأنّ الجدث هو القبر ، فیجوز أن یکون الفعل مأخوذاً منه »(1) . ثم نقل کلام اُستاذه المفید فی آخر بیاناته وقال : « وکان شیخنا محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله یقول : إنّ الخبر بالخاء والدالین وذلک مأخوذ من قوله تعالی : «قُتِلَ أَصْحَابُ الاْءُخْدُودِ»(2) ، والخد : هو الشق ، یقال : خددت الارض خداً : أی شققتها . وعلی هذه الروایات یکون النهی تناول شق القبر إمّا لیدفن فیه أو علی جهة النبش علی ما ذهب إلیه محمد بن علی ، وکل ما ذکرناه من الروایات والمعانی محتمل ، واللّه أعلم بالمراد والذی صدر

الخبر عنه علیه السّلام »(3) .

وهکذا نقل المحقق هذا الاختلاف فی المعتبر ، وبعد بیان ضعف السند قال : « فإذن الروایة ساقطة فلا ضرورة إلی التشاغل بتحقیق نقلها »(4) .

وأجابه الشهید فی الذکری بقوله : « اشتغال هؤلاء الأفاضل بتحقیق هذه اللفظة مؤذن بصحة الحدیث عندهم وإن کان طریقه ضعیفاً ، کما فی أحادیث کثیرة اشتهرت وعلم موردها وإن ضعف إسنادها ، فلا یرد ماذکره فی المعتبر من ضعف محمد بن سنان وأبی الجارود راوییه ، علی أنّه قد ورد نحوه من طریق أبی الهیاج السالف ، وقد نقله الشیخ فی الخلاف ، وهو من صحاح العامة ، وهو یعطی صحة الروایة بالحاء المهملة لدلالة الإشراف والتسویة علیه ، ویعطی أنَّ المثال هنا هو التمثال هناک ، وهو الصورة ، وقد ورد فی النهی عن التصویر وفی إزالة التصاویر أخبار مشهورة »(5) .

أقول : أبو الهیاج - وهو حیان بن حصین الأسدی الکوفی - روی عن

ص:329


1- (2) التهذیب 1 / 459 .
2- (3) سورة البروج / 4 .
3- (1) التهذیب 1 / 460 .
4- (2) المعتبر فی شرح المختصر 1 / 304 .
5- (3) ذکری الشیعة 2 / 40 .

أمیر المؤمنین علیه السلام وعمار وکان کاتباً له ، وروی عنه جریر ومنصور إبناه وأبو وائل والشعبی ، ووثقه ابن حبان والعجلی ، قال : کل ذلک ابن حجر(1) .

ونقل الشیخ روایته هکذا : « وروی أبو الهیاج الأسدی قال : قال لی علی علیه السلام : أبعثک علی ما بعثنی علیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، لاتری قبراً مشرفاً إلاّ سویته ، ولا تمثالاً إلاّ طمسته »(2) .

وهذه الروایة عامیة رویت فی مسلم(3) والنسائی(4) والترمذی(5) باختلاف یسیر فی ألفاظها .

وقال العلاّمة المجلسی بعد نقل الروایة وکلام الصدوق والشیخ والشهید : « وربما یقال : علی تقدیر أن یکون اللفظ « جدَّد » بالجیم والدال ، و« جدَّث » بالجیم والثاء ، یحتمل أن یکون

المراد قتل مؤمنٍ عدواناً ، لأنّ من قتله فقد جدَّد قبراً مجرَّداً بین القبور ، وجعله جدثاً وهو مستقلٌ فی هذا التجدید ، فیجوز إسناده إلیه ، بخلاف ما لو قتل بحکم الشرع ، وهذا أنسب بالمبالغة بخروجه من الإسلام ، ویحتمل أن یکون المراد بالمثال الصنم للعبادة .

أقول : لا یخفی بُعْد ما ذکره فی التجدید ، وأمّا المثال فهو قریب .

وربما یقال : المراد به إقامة رجل بحذاه کما یفعله المتکبرون ، ویؤیده ما ذکره الصدوق قدس سره فی کتاب معانی الأخبار عن محمد بن علی ماجیلویه عن عمّه محمد بن أبی القاسم عن أحمد بن أبی عبد اللّه عن النهیکی بإسناده رفعه إلی أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من مثّل مثالاً أو اقتنی کلباً فقد خرج من الإسلام ، فقیل له : هلک إذاً کثیرٌ من الناس ، فقال : لیس حیث ذهبتم ، إنّی عنیت بقولی : « من مثّل مثالاً » من نصب دیناً غیر دین اللّه ودعا الناس إلیه ، وبقولی : « من اقتنی کلباً» مبغضاً لنا أهل البیت اقتناه وأطعمه وسقاه ، من فعل ذلک فقد خرج

ص:330


1- (4) تهذیب التهذیب 3 / 67 .
2- (5) الخلاف 1 / 707 مسألة 505 .
3- (6) صحیح مسلم 2 / 666 الحدیث 969 .
4- (7) سنن النسائی 4 / 88 .
5- (8) سنن الترمذی 3 / 366 الحدیث 1049 .

من الاسلام(1) .

ثم اعلم أنّ للإسلام والإیمان فی الأخبار معانٍ شتی ، فیمکن أن یراد هنا معنی یخرج ارتکاب بعض المعاصی عنه . أمّا إثبات حکم بمجرّد تلک القراءات والإحتمالات بخبر واحد فلا یخفی ما فیه ، وما ذکره القوم من التفسیرات والتأویلات لا یدلّ علی تصحیحها والعمل بها . نعم : یصلح مؤیداً لأخبار اُخری ، وردت فی کلّ من تلک الأحکام ، ولعلّه یصحُّ لإثبات الکراهة أو الإستحباب ، وإن کان فیه أیضاً مجال مناقشة »(2) .

وأیّد بعض الأساتیذ - مد ظله - کلام المجلسی قدس سره بعنوان : « ربما یقال : المراد به إقامة رجل بحذاه کما یفعله المتکبّرون » . قال : « ویمکن أن یستأنس للإحتمال الأخیر بالحدیث الذی مرّ عن نهایة ابن الأثیر فی لغة مثل ، حیث قال : « فیه : من سرّه أن یمثّل له الناس قیاماً فلیتبوّأ مقعده من النار »(3)(4) .

وقال شیخنا التستری قدس سره بعد نقل الأقوال فی الروایة : « ثمَّ إنَّ « جدَّد » بالجیم أقرب للجمیع و« جدث» أبعدها ، لأنّه لم یسمع بفعل من « جدث » سوی « اجتدث » بمعنی اتخذ قبراً ، ولعلّه لذا قال ابن الولید - بعد نقل کلام البرقی - : « وتفسیر الجدث بالقبر فلا ندری ما عنی به » ، ولکن قال الشیخ : « یمکن أن یکون المعنی النهی أن یجعل القبر دفعةً اُخری قبراً لإنسان آخر ، لأنّ الجدث هو القبر ، فیجوز أن یکون الفعل مأخوذاً منه .

قلت : قد عرفت عدم استعمال فعل من جدث مجرَّداً ... وقد أفتی البهائی فی جامعه(5) بکراهة تجدید القبر ... »(6) .

أقول : هذا بعض ما ذکره الأعلام فی المقام ، ومع ذلک کلّه ظهور المثال فی الصورة

ص:331


1- (1) معانی الأخبار / 181 .
2- (2) بحار الانوار 79 / 19 و 18 = 32 / 501 من الطبعة الحدیثة فی بیروت .
3- (3) النهایة 4 / 294 .
4- (4) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 589 .
5- (1) جامع عباسی / 23 الطبع الحجری (/75 من طبعة جماعة المدرسین عام 1386 ش) .
6- (2) الأخبار الدخیلة 1 / 51 و 50 .

منعقدٌ ولا یمکن إنکاره لأحد ، فالفقرة الثانیة للروایة تدلّ علی حرمة التصویر وتقیّدها بالطائفة الثانیة من الروایات یعنی ما ورد فی جواز تصویر غیر ذوات الأرواح مطلقاً ، فتنحصر الحرمة بتصویر ذوات الأرواح مطلقاً . وهکذا الفقرة الاُولی منها تدلّ علی حرمة نبش القبر مطلقاً کما قاله الصدوق ، وتدخل فیها جمیع الأقوال أو کثیر منها . ولکن مع ذلک کلّه سند الروایة ضعیف کما مرّ منّا مراراً .

والحاصل ، انتهی الأمر بنا إلی هنا فی الجمع بین الروایات من الالتزام بالحرمة فی تصویر ذوات الأرواح مطلقاً سواء کان بنحو المجسَّم أم غیر مجسَّم ، وبالجواز فی تصویر غیر ذوات الأرواح مطلقاً سواء کان بنحو المجسَّم أم غیر مجسَّم .

وافقنا علی هذا الجمع ، جماعةٌ من الأصحاب قدیماً وحدیثاً ، وهو خیرة الشیخ الأعظم(1) وقد نسبه إلی عدّة من الأعلام ، حیث مرّ کلامه فی أوّل البحث ، واختاره الحلبی فی الکافی(2) والقاضی ابن البراج فی المهذب(3)(4) وابن إدریس الحلی فی السرائر(5) ، وعدّه العلامةُ من المکاسب المحرمة علی رأی فی التلخیص(6) وثانی الشهیدین فی المسالک(9)

وحواشی النافع(7) والشرائع(8) والإرشاد(9) والمحدث البحرانی فی الحدائق(10) والسید

ص:332


1- (3) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 187 من الطبعة الحدیثة) .
2- (4) الکافی فی الفقه / 281 .
3- (5) المهذب 1 / 344 .
4- (6) کما نقل عنهما فی مفتاح الکرامة 4 / 48 (12 / 165) وإلاّ عبارتهما بالنسبة إلی جمیع التماثیل کما حمل علی ظاهرهما العلاّمة فی مختلفه 5 / 13 .
5- (7) السرائر 2 / 215 .
6- (8) تلخیص المرام فی معرفة الاحکام / 91 .
7- (1) المسالک 3 / 126 .
8- (2) حاشیة مختصر النافع / 91 .
9- (3) حاشیة شرائع الاسلام / 326 .
10- (4) حاشیة الإرشاد المطبوعة مع غایة المراد 2 / 8 - ومستقلاً / 164 .

الطباطبائی فی الریاض(1) والنراقی فی المستند(2) والسید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(3) والفقیه الیزدی فی حاشیة المکاسب(4) والمؤسس الحائری فی المکاسب المحرمة(5) والمحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة(6) والسید السبزواری فی مهذب الأحکام(7) قدس سرهم والسید القمی - مدظله - فی عمدة المطالب(8) .

تبصرة : بیان المحقق الأردبیلی قدس سره ونقده

قال فی مجمع الفائدة والبرهان مانصه :« ... ثم إنّه تدلّ روایات کثیرة علی جواز إبقاء الصور مطلقاً ، وهو یُشعر بجوازه ، وقد نقلنا من قبل روایات صحیحة دالة علیه .

وتؤیده روایة أبی بصیر قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّا نبسط عندنا الوسائد فیها التماثیل وونفترشها ، قال : لا بأس بما یبسط منها ویفترش ویوطأ ، إنّما یکره ما نصب منها علی الحائط والسریر(9) .

وبعد ثبوت التحریم فیما ثبت یشکل جواز الإبقاء ، لأنّ الظاهر أنّ الغرض من التحریم

عدم خلق شیءٍ یشبه بخلق اللّه وبقائه ، لا مجرد التصویر .

فیحمل ما یدلّ علی جواز الإبقاء من الروایات الکثیرة(10) الصحیحة وغیرها علی ما یجوز منها ، فهی من أدلة جواز التصویر فی الجملة علی البسط والستر والحیطان والثیاب ،

ص:333


1- (5) الحدائق 18 / 100 .
2- (6) ریاض المسائل 8 / 154 .
3- (7) مستند الشیعة 14 / 108 .
4- (8) برهان الفقه / کتاب التجارة / 16 الطبع الحجری .
5- (9) حاشیة المکاسب / 17 - (1 / 102 من الطبعة الحدیثة) .
6- (10) المکاسب المحرمة / 103 و 104 - لمقرره آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
7- (11) مصباح الفقاهة 1 / 226 .
8- (12) مهذب الأحکام 16 / 83 .
9- (13) عمدة المطالب 1 / 167 .
10- (1) وسائل الشیعة 5 / 303 الباب 3 من أبواب أحکام المساکن .

وهی التی تدلّ الأخبار علی جواز إبقائها فیها ، لا ذو الروح التی لها ظلّ علی حدّته التی هی حرام بالإجماع .

والإجتناب مطلقاً من الإحداث والإبقاء من جمیع أنواعه أحوط کما یشعر به الروایة : أن الملک لا یدخل بیتاً فیه صورة »(1)(2) .

ملخص ما أفاده قدس سره : إنّ الغرض والحکمة والعلّة من الحکم بتحریم عمل الصور ، هو عدم خلق شیءٍ یشبه بخلق اللّه وبقائه ، وعلی هذا حرمة عمل الصور تستلزم حرمة إبقائها وهکذا حرمة إبقائها تستشعر بحرمة عملها ، وحیث وردت فی عدّة من الروایات الصحاح جواز إبقاء الصور وعدم لزوم إفنائها وإعدامها ، فظهر منها أنّ عملها أیضاً جائز ، ولذا تُحمل الروایات المانعة علی الکراهة .

نعم ، عمل المجسَّمة من الحیوان حرام لأنّه إجماعیٌّ . ثم احتاط فی آخر کلامه قدس سره فی الصور مطلقاً من الإحداث والإبقاء . هذا ملخص بیانه قدس سره مع توضیح وترتیب .

أقول : لا یقیم قدس سره أیُّ دلیلٍ علی وجود الملازمة بین حرمة الإحداث وحرمة الإبقاء وبین جوازهما إلاّ أنّه قال : « إنّ الغرض من التحریم عدم خلق شیءٍ یشبه بخلق اللّه وبقائه لا مجرد التصویر » . وأنت تری أنّ هذا البیان إدعاء بلا دلیل ،ولذا نقول بعدم وجود الملازمة بین الإحداث والإبقاء ، لعدم وجود الدلیل علیها بل الدلیل علی خلافها ، حیث ورد النهی من عمل صور الحیوان ولکن ورد الترخیص فی إبقائها وعدم وجوب إفنائها . حتّی ورد الترخیص بالنسبة إلی بقاء المجسَّمة من الحیوان مع أنّه قدس سره اعترف بأنّ حرمة عملها إجماعیٌ .

ولأنّ الإحداث والإبقاء فعلان مختلفان یصدران من شخصین غالباً ولکلِّ واحد منهما حکم فعله الخاص .

والحاصل ، سیأتی فی فروع مسألة التصویر حکم إبقائها وأنّه یجوز ولکن لا یمکن رفع

الید عن أدلة حرمة عمل الصور للحیوان ، ولیس بینهما ملازمة ، بخلاف ما ادعاه المحقق

ص:334


1- (2) الکافی 3 / 393 - الفقیه 1 / 246 مضموناً لا عیناً .
2- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 56 و 57 .

الأردبیلی قدس سره ، فما ذکره قدس سره غیر تام . واللّه سبحانه هو العالم بالأحکام .

تنبیهٌ : بیان الشیخ الأکبر وتلمیذه (قدس سرهما)

قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر قدس سره : « وأمّا غیر المجسَّمة للحیوان ففیها قولان : أقواهما الجواز ، للأصل وإطلاق الآیات والروایات فی الاکتساب والمشی فی طلب الرزق بأیّ نحو کان ، وما فی الأخبار من الصور والمثال والتمثال ظاهر فی الحیوانیة ، ویؤیده أنّ فی بعضها صورة إنسان(1) وصورة الطیر(2) وتمثال جسد(3) ، وفی المجسَّمة ، لأنّ فی بعضها : « لا بأس اذا غیّرت رؤوسها »(4) وفی بعض آخر « قطعت »(5) وفی آخر « کسرت »(6) ، وفی الأخبار الکثیرة(7) المعلَّلة بنفخ الروح إشعار بذلک وأنّ الصورة حیوان لا ینقص منه شیء سوی الروح ، مع أنّ الظاهر فی ذلک صنعها علی نحو الأصنام .

وفی حدیث المناهی عن الصادق علیه السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم بعد النهی عن التصویر وأنّ المصوِّر یکلّف بنفخ الروح قال : ونهی أنّ ینقش شیءٌ من الحیوان علی الخاتم(8) ، وظاهر المقابلة یعطی خروج ما لم یکن جسماً عن اسم الصورة .

یؤیده أیضاً فهم المشهور من الصور خصوص المجسَّمة ، والأخبار المجوِّزة للتماثیل علی الفرش والوسائد الدالة علی استعمال الأئمة علیهم السلام لها ، المستثنیة لما نصب علی الحائط والسریر(9) مرشدة إلی ذلک وإن لم تکن صریحة فیه ، لأن حرمة الإبتداء لا تستلزم حرمة

ص:335


1- (1) وسائل الشیعة 5 / 175 ح 2 و 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 5 / 173 ح 10 و 12 .
3- (3) وسائل الشیعة 5 / 174 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 5 / 309 ح 4 .
5- (5) وسائل الشیعة 5 / 171 ح 5 ، و 5 / 173 ح 12 .
6- (6) وسائل الشیعة 5 / 172 ح 10 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 297 ح 6 و 7 و 8 و 9 .
8- (8) وسائل الشیعة 17 / 297 ح 6 .
9- (9) وسائل الشیعة 17 / 296 ح 4 ، و 5 / 170 ح 2 ، و 5 / 390 ح 4 و 7 .

الاستدامة ، لکن استعمالهم لها وکثرة وجودها فی منازلهم یرشد إلی ذلک . وفی الأخبار ما یدلّ

علی منع الاستدامة أیضاً(1) . وعلی کلِّ حال فلیس فی الأخبار ما یصلح للإستدلال به علی تحریم الصور الغیر المجسَّمة للحیوان »(2) . انتهی ما أردنا نقله منه قدس سره .

وتبعه تلمیذه فی الجواهر وقال : « لکن قد یقال ما فی بعض النصوص التی تقدمت فی کتاب الصلاة من أنّه : لا بأس إذا غیّرت رؤوسها ، وفی آخر : قطّعت ، وفی ثالث : کسرت ، نوع إشعار بالتجسیم ، کالتعلیل بالنفخ فی الأخبار الأخر ، ونحوها ممّا هی ظاهرة فی کون الصورة حیواناً لا ینقص منه شیءٌ سوی الروح ، بل قد یظهر من مقابلة النقش للصورة فی خبر المناهی ذلک أیضاً ، ومن ذلک کلّه یقوی حینئذ القول بالجواز فی غیر المجسَّمة الموافق للأصل وإطلاق الآیات والروایات فی الاکتساب والمشی فی طلب الرزق بأیّ نحو کان ، کقوّة القول بجواز التصویر لغیر ذی الروح مجسَّماً أو غیر مجسَّم لذلک أیضاً ، وللنصوص السابقة المنجبرة بالشهرة التی کادت تکون إجماعاً »(3) .

أقول : ذهب صاحب الجواهر وأستاذه قدس سرهما إلی اختصاص الحرمة بالمجسَّمة من الحیوان فقط ، وجواز التصویر فی غیر المجسَّمة من الحیوان بالأدلة التالیة :

الأوّل : إطلاق الآیات والروایات الواردة فی الإکتساب وطلب الرزق ، وهکذا الأصل العلمی فی المقام أیضاً هو الجواز .

وفیه : بعد ورود أدلة الحرمة فی المقام کما مرّ لا وجه للتمسک بالإطلاق والأصل کما لا یخفی .

الثانی : الروایات الواردة فی کتاب الصلاة وغیرها من الأمر بتغییر الرؤوس أو قطعها أو کسرها ، الظاهرة فی کون الصور من المجسَّمة .

وفیه : أولاً : أنّ قطع الرأس وتغییره کما یصدق فی المجسَّمة فکذلک یصدق فی غیرها ،

ص:336


1- (1) وسائل الشیعة 5 / 306 ح 8 .
2- (2) شرح القواعد 1 / (189 - 186) .
3- (3) الجواهر 22 / 42 .

فلا ظهور لها فی المجسَّمة فقط ، مضافاً إلی الروایات الواردة فی جواز الجلوس علیها(1) وأنّ کلّ شیء یوطأ فلا بأس به(2) وجعلها تحت رجلک(6) ، أو رجلیک(7) وإذا جعلتها تحتک(8) ، وتلطخ

رؤوس التصاویر(3) الظاهرة فی غیر المجسَّمة .

وثانیاً : أنّ الکلام هنا فی عمل الصور ، وهو غیر مرتبط بالصلاة فی بیت فیه تماثیل ، بل الصلاة فیه کالصلاة فی الموارد المکروهة ، کما ذکره السید الخوئی(4) قدس سره .

الثالث : الروایات الآمرة بالنفخ الظاهرة فی کونها من المجسَّمة .

وفیه : أولاً : عدم ظهور الروایات الآمرة بالنفخ فی المجسَّمة بالتفصیل الذی مرّ منّا .

وثانیاً : علی فرض ظهورها فی المجسَّمة ، الأخبار الواردة فی الحرمة لا تنحصر بها .

الرابع : مقابلة النقش والصورة فی خبر المناهی ، حیث ورد فیه : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن التصاویر ... - ثم قال بعد أربع صحائف : - ونهی أن ینقش شیءٌ من الحیوان علی الخاتم ، الحدیث(5) . وحیث کان النقش بنحو التجسّم فلابدّ أن تکون الصورة علی نحو غیر المجسَّمة .

وفیه : أولاً : سند خبر المناهی ضعیف کما مرّ منّا سابقاً .

وثانیاً : المقابلة بینهما بعید بل غیر ظاهر ، حیث نهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم عن التصویر أولاً ثم بعد بیانات فی أربع صحائف(6) نهی صلی الله علیه و آله وسلم أن ینقش شیءٌ من الحیوان علی الخاتم ، وهذا نهی

ص:337


1- (4) وسائل الشیعة 5 / 309 ح 4 ، و 5 / 310 ح 8 .
2- (5) وسائل الشیعة 5 / 308 ح 2 ، و 5 / 309 ح 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 5 / 170 ح 1 ، و 5 / 171 ح 4 .
4- (2) وسائل الشیعة 5 / 173 ح 11 .
5- (3) وسائل الشیعة 5 / 171 ح 7 .
6- (4) وسائل الشیعة 5 / 172 ح 10 .

عن الخاص بعد ورود النهی عن العام ، وهو متعارف ورائج فی النواهی وکذلک فی الأوامر .

وثالثاً : هذا الدلیل ینقض الدلیل السابق ، لأنّ الوارد فی الحدیث : نهی صلی الله علیه و آله وسلم عن التصویر وأنّ المصوِّر یکلّف بنفخ الروح ، وقد حمل الشیخ الأکبر وصاحب الجواهر ، التصویر بقرینة المقابلة مع النقش علی غیر المجسّم ، والحدیث یقول : إنّ المصوِّر یکلّف بنفخ الروح فی التصویر . مع أن الدلیل السابق یقول : بظهور نفخ الروح فی المجسَّمة فقط . وبالجملة لا یمکن الجمع بین هذین الدلیلین ، والعجب منهما قدس سرهم کیف یجمعان بین هذین الإستدلالین وسبحان من

لا یسهو .

والحاصل ، لا یدلّ دلیل علی انحصار الحرمة بالمجسَّمة من الحیوان فقط ، بل یدلّ علی الحرمة من صورة الحیوان مطلقاً سواء کانت بنحو المجسَّمة أو غیرها .

فروع مسألة التصویر
اشارة

ثم إنّ هاهنا فروعاً لابدّ أن نتکلم ونبحث حولها تتمیماً للفائدة :

الأوّل : حکم تصویر المَلَک والجن والشیطان

هل الحیوان یصدق علی الملک والجن والشیطان فیحرم تصویرهم حینئذ ؟ أم الحیوان منصرف عنهم فیجوز تصویرهم ؟

ذهب جدنا الشیخ الأکبر قدس سره إلی الحرمة ، حیث قال : « والأقوی إلحاق صورة الملک والجنّی بالحیوان »(1) .

وتبعه تلمیذه صاحب الجواهر وقال : « والظاهر إلحاق تصویر الملک والجنّی بذلک»(2) أی بالحیوان .

وقال تلمیذه الآخر فی مفتاح الکرامة : « ویبقی الکلام فی صورة الجنّی والملک إن أمکن تصویر ذلک ، ولعلّ الظاهر إلحاقها بصورة الإنسان »(3) .

ص:338


1- (1) شرح القواعد 1 / 191 .
2- (2) الجواهر 22 / 43 .
3- (3) مفتاح الکرامة 4 / 50 - (12 / 166 من طبعة جماعة المدرسین) .

وتبعهم السید علی آل بحر العلوم تلمیذ صاحب الجواهر وقال : « وصورة ذی الروح فی النص والفتوی تشمل الإنس والجن والملائکة»(1) .

وذهب الفقیه الیزدی إلی الحرمة وقال بعد أدلة الجواز : « ولکن یمکن تقویة المنع بوجهین : أحدهما : أنّ المتعارف من تصویر الجن والملک ما هو بشکل واحد من الحیوانات فیحرم من هذه الجهة ... .

الثانی : دعوی أنّ المراد من الحیوان المعنی اللغوی ، وهو مطلق الحیُّ لا العرفی ، أو

دعوی أنّه مثال لمطلق ذی الروح ، ولا یبعد الحکم بظهور إحدی الدعویین ، فالأقوی الحکم بالحرمة ، خصوصاً إذا کان علی الوجه المتعارف الآن »(2) .

واختار المحقق الخوئی قدس سره أیضاً الحکم بالحرمة وقال : « إنّ المراد من الحیوان هنا ما هو المعروف فی مصطلح أهل المعقول من کونه جسماً حسّاساً متحرّکاً بالإرادة ، ومن البدیهی أنّ هذا المفهوم یصدق علی کلِّ مادّة ذات روح ، سواء کانت من عالم العناصر أم من عالم آخر هو فوقه ، وعلیه فلا قصور فی شمول صحیحة محمد بن مسلم لملک والجن والشیطان ، فیحکم بحرمة تصویرهم »(3) .

أقول : الظاهر - واللّه العالم - أنّ المراد بالحیوان فی صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « لا بأس ما لم یکن شیئاً من الحیوان »(4) ، کلّ من له نعمة الحیاة أو کان حیّاً أو کان ذاروح ، وکلّ ذلک یصدق علی الملک والجن والشیطان ، فیحرم تصویرهم کما مرّ من بعض الأعلام رحمهم الله ، ومع ذلک کلّه لا ینقضی تعجبی من السید الخوئی قدس سره کیف حمل کلام الإمام علیه السلام علی مصطلح الفلاسفة ؟ !

ومع ذلک کلّه یمکن الحاق صورهم بالحیوان الخیالی الّذی یأتی حکمه فی الفرع الثامن فأنتظر .

ص:339


1- (4) برهان الفقه - کتاب التجارة / 17 .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 109 من الطبعة الحدیثة عام 1423 .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 228 .
4- (3) وسائل الشیعة 17 / 296 ح 3 .
الثانی : لا یعتبر فی حرمة التصویر کونها معجبةٌ

ظاهر الشیخ الأعظم قدس سره إلی اعتبار الإعجاب فی حرمة التصویر(1) .

ولکن ردّه المحقق الإیروانی بقوله : « لا یُعتبر الإعجاب فی موضوع الحرام ، مع أنّ کلّ صورة هی معجبة فی بدو النظر إلیها وإنّما یزول الإعجاب شیئاً فشیئاً . مع أنّ الإعجاب الحاصل عند مشاهدة الصورة إنّما هو من نفس الصورة لکشفها عن کمال مهارة النقاش ولو کانت صورة نمل أو دود ، ولذا لا یحصل ذلک الإعجاب من مشاهدة ذی الصورة»(2) .

وقال السید الخوئی قدس سره : « إنّ ما دلّ علی حرمة التصویر لم یقید بکون الصورة أو ذی الصورة معجبة ، فلا وجه لجعل الإعجاب شرطاً فی حرمة التصویر »(3) .

وقال المحقق الأردکانی رحمه الله : « لا یخفی أنّه لا دلیل علی اعتبار الإعجاب فی الحرمة ، فإنّ إطلاق دلیل الحرمة یشمل تصویر المعجبة من الحیوانی وغیرها کالدیدان والخنافس »(4) .

أقول : الظاهر أنّ الحقّ مع هؤلاء الأعلام ، لعدم ورود قید الإعجاب فی الروایات الدالة علی الحرمة ، فلا یمکن تقیید الحرمة به ، ولذا قال بعض الأساتیذ - مد ظله - : « لا دلیل علی اعتبار وصف الإعجاب »(5) .

اللهم إلاّ أن یقال : لیس مراد الشیخ الأعظم قدس سره أن یکون قید الإعجاب من القیود الخارجیة فی حرمة تصویر الحیوان حتّی ینقض علیه بعدم وروده فی نصوص الحرمة وأنّها مطلقة بالنسبة إلی هذا القید ، بل لعل مراده أن قید الإعجاب من القیود الداخلیة ، یعنی إنّه معتبر فی صدق التصویر عرفاً ، ولا یصدق علی الصورة أنّها صورة إلاّ بعد الإعجاب . وعلی هذا الإحتمال یرتفع إشکال الأعلام علی الشیخ الأعظم ، ولکن دون إثباته خرط القتاد ، حیث

ص:340


1- (4) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 188 من الطبعة الحدیثة) .
2- (5) حاشیة المکاسب 1 / 131 .
3- (1) مصباح الفقاهة 1 / 230 .
4- (2) غنیة الطالب 1 / 112 .
5- (3) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 606 .

أن العرف لا یعتبر فی صدق الصورة کونها معجبة . واللّه سبحانه هو العالم .

الثالث : هل یعتبر قصد الحکایة فی حرمة التصویر أم لا ؟
اشارة

ذهب الشیخ الأعظم قدس سره إلی اعتبار قصد الحکایة فی حرمة التصویر ، بحیث لو لم یقصد الحکایة لم یحرم وقال : « فلو دعت الحاجة إلی عمل شیءٍ شبیهاً بشیءٍ من خلق اللّه ولو کان حیواناً من غیر قصد الحکایة فلا بأس قطعاً »(1) .

واستشکل علیه الفقیه الیزدی وقال : « ظاهره أنّ المناط فی عدم الحرمة قصد الحکایة ولو کان عالماً بأنّه یصیر علی شکل الحیوان ، ولازمه جواز ذلک مع عدم قضاء الحاجة أیضاً . وهو مشکل ، إذ مع العلم بأنّ هذا الموجود صورة الحیوان یکون الفعل حراماً وإنْ لم یکن غرضه الحکایة ، والسِّرُّ أنّ القصد القهری حاصل مع العلم ، غایة الأمر عدم کونه غرضاً له .

وحمله علی إرادة صورة عدم العلم واتفاق ذلک بعید ، فإنّه واضح لا یحتاج الی البیان کما أنّ صورة النسیان والغفلة کذلک ... فالأولی أن یقال : إنّ الوجه فی الجواز کون الصورة حینئذ مشترکة بین الحیوان وغیره ، فیکون تمیزه بالقصد ، ولعلّه مراده قدس سره وإن کانت العبارة قاصرة عن إفادته »(2) .

واعترض المحقق الإیروانی علی الشیخ بقوله : « إنّ أراد اعتبار القصد لعنوان التصویر فی وقوعه علی صفة المعصیة فذلک ممّا لا إشکال فیه ، فإنّ حصول عنوان الحرام قهراً لیس بمعصیة وإن تعلق القصد بذات الحرام ، کما إذا قصده بعنوان أنّه ماء فظهر أنّه خمر .

وإن أراد اعتبار ما یزید علی ذلک - کما هو ظاهر العبارة - بأن یکون الغرض من التصویر حکایة ذی الصورة وانتقال الناظر إلی الصورة إلی ذیها فذاک ممّا لا دلیل علیه ، بل إطلاقات الأدلة تردّه »(3) .

ولکن السید الخوئی قدس سره یؤید مقالة الشیخ الأعظم ، وقال توضیحاً لکلامه : « لا شبهة

ص:341


1- (4) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 189 من الطبعة الحدیثة) .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 110 .
3- (2) حاشیة المکاسب 1 / 132 .

فی اعتبار قصد حکایة ذی الصورة فی حرمة التصویر ، لأنّ المذکور فی الروایات النهی عن التصویر والتمثیل ، ولا یصدق ذلک إذا حصل التشابه بالمصادفة والإتفاق من غیر قصد للحکایة ، وهذا نظیر اعتبار قصد الحکایة فی صحة استعمال الألفاظ فی معانیها وبدون ذلک لیس هناک استعمال »(1) .

أقول : إن أراد الشیخ أنّ قصد الحکایة والتمثیل من القیود المعتبرة فی حرمة التصویر بحیث لو صوّر شیئاً من دون قصد الحکایة فلا حرمة فیه ، فهذا ممّا لا دلیل علیه ، لأنّ الروایات الواردة فی الحرمة مطلقة من هذه الجهة ولم یرد فیها هذا القید .

وإن أراد أنّ التصویر من العناوین القصدیة ، فبطلانه أوضح من أن یخفی علی مثله .

وإن أراد توقف عنوان الحرام علی قصده ، وهو وإن کان صحیحاً لأنّ حصول عنوان الحرام قهراً لیس بمعصیة کما لو شرب مایعاً علی أنّه ماءٌ فظهر أنّه خمرٌ ، فلم یعص حینئذٍ ومآل هذا القید إلی اعتبار العلم فی ترتب عنوان الحرام ، وهذا الإحتمال وإن کان فی الواقع صحیحاً ولکنّه بعید عن عبارة الشیخ الأعظم وتعلیله .

وإن أراد أنّ الحکایة وقصد التمثیل من الاُمور المعتبرة فی صدق عنوان التصویر ، بحیث لو لم یقصد التمثیل والحکایة لم یصدق التصویر أصلاً فهو بمکان من الإمکان ولکن دون إثباته خرط القتاد . والوجه فی ذلک أنه لو جمع عدّة من الأشخاص وصدر من کلِّ واحد منهم خطوطاً من دون قصد ، الحکایة والتمثیل ولکن فی النهایة صار صورةَ شجرٍ أو ورد أو غیرهما ، فهل یصدق علیها عرفاً أنّها صورة الشجر أو الورد أو غیرهما أو الصدق العرفی منوطٌ بإحراز قصد أصحاب الخطوط ؟

ومن الواضح أنّ العرف یحکم بکونها صورة من دون توقف علی إحراز القصد ، وهذا أقوی شاهد علی عدم اعتبار هذا القصد ، مضافاً إلی عدم وجود دلیل شرعاً علی اعتباره .

فلا یرد علینا ما ذکره المحقق الخوئی بقوله : « فإذا احتاج أحدٌ إلی عمل شیءٍ من المکائن أو آلاتها أو غیرهما من الأشیاء اللازمة علی صورة حیوان فلا یکون ذلک حراماً ،

ص:342


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 231 .

لعدم صدق التصویر علیه بوجه والمثال ، الواضح لذلک الطائرات المصنوعة فی زماننا ، فإنّها شبیهة بالطیور ومع ذلک لم یفعل صانعها فعلاً محرّماً ... »(1) .

والوجه فی ذلک : أنّه عمل ما یحتاج إلیه ولم یصوّر ولم یمثّل شیئاً فلا حرمة فی فعله ،ولذا لم یذهب إلی الحرمة أحد من الفقهاء . واللّه سبحانه هو العالم .

الرابع : هل المحرّم تصویر مجموع الأجزاء أو یکفی تصویر معظمها ؟

قال الشیخ الأکبر : « والمدار فی صورة الحیوان علی صدق الإسم ، وتصویر البعض مع عدم صدقه علیه لا مانع منه »(2) .

وقال تلمیذه فی الجواهر : « ثم إنّ المدار فی صورة الحیوان علی صدق الاسم وتصویر البعض مع عدم صدقه علیه وکون المقصود من أوّل الأمر البعض خاصةً لا مانع منه »(3) .

وقال تلمیذه الآخر فی مفتاح الکرامة : « والمدار فی صورة الانسان علی صدق الاسم وتصویر البعض مع عدم صدقه لا مانع منه»(4) .

وقال الشیخ الأعظم : « ثمّ إنّ المرجع فی الصورة إلی العرف فلا یقدح فی الحرمة نقص بعض الأجزاء »(5) .

وقال المحقق الإیروانی : « یظهر منه المفروغیّة عن أنّ الصورة لابدّ أن تکون صورة حیوان تام ، فلا یحرم نقش بعض الصورة ، مع أنّ من المختص قریباً حرمة کلّ جزءٍ جزءٍ ، أو ما یعمّ الجزء والکلّ ، فنقش کلّ جزءٍ حرام مستقل إذا لم ینضمّ إلیه نقش بقیّة الأجزاء وإلاّ کان الکلّ مصداقاً واحداً للحرام . ویحتمل أن یکون المحرّم هو الإتیان بالهیئة الإجتماعیة ، فلا یکون لتصویر کلّ جزء بأسٌ ما لم ینضمّ إلیه تصویر بقیة الأجزاء المحقِّق للهیئة الإجتماعیة ... »(6) .

ص:343


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 231 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 190 .
3- (3) الجواهر 22 / 43 .
4- (4) مفتاح الکرامة 4 / 50 - (12 / 166) .
5- (1) المکاسب المحرمة / 23 (1 / 189 من الطبعة الحدیثة) .
6- (2) حاشیة المکاسب 1 / 132 .

وقال السید الخوئی : « یُعتبر فی تحقق الصورة فی الخارج الصدق العرفی ، فإنّ الأدلة المتقدمة التی دلت علی حرمة التصویر إنّما تقتضی حرمة الصورة العرفیة التامة الأعضاء والجوارح بحیث یصدق علیها أنّها مثال بالحمل الشائع ، وعلیه فإذا صوّر أحدٌ نصف حیوان من رأسه إلی وسطه أو بعض أجزائه فإن قدّر الباقی موجوداً فهو حرام ، کما إذا صوّر إنساناً جالساً لا یتبیّن نصف بدنه أو کان بعض أجزائه ظاهراً وبعضه مقدّراً بأن صوّر إنساناً وراء جدار أو فرس أو یسبح فی الماء ورأسه ظاهر ، وإن قصد النصف فقط فلا یکون حراماً ، فإنّ الحیوان لا یصدق علی بعض أجزائه کرجله ویده ورأسه ، نعم : إذا صدق الحیوان علی هذا النصف کان تصویره حراماً »(1) .

ونقل المحقق الأردکانی عن بعض الأعلام حرمة تصویر أعضاء الحیوان مطلقاً مدعیّاً صدق مثال الروحانی علیها وشمول إطلاق قوله علیه السلام : « من صوّر صورة أو مثّل مثالاً » - الخ . ثم استشکل علیه وقال : - وفیه : « دعوی الإنصراف عنها غیر بعیدة »(2) .

أقول : الظاهر تبعاً للأعلام أنّ الصدق العرفی معتبرٌ فی حرمة التصویر ، فإذا صدّق العرف فی مورد أنّها صورة فهی حرام وإلاّ فلا ، سواء کانت تامة الأجزاء أو ناقصتها ، وأمّا إذا لم یصدق علیها أنّها حیوان فلا حرمة فی البین خلافاً لما نقله المحقق الأردکانی عن بعض الأعلام .

وأمّا ما ذکره المحقق الإیروانی(3) من الإحتمالات الثلاث :

1 - حرمة کل جزءٍ جزءٍ 2 - حرمة ما یعمّ من الجزء أو الکلِّ 3 - حرمة الإتیان بالهیئة الإجتماعیة فحینئذٍ آخر الأجزاء یکون حراماً لأنّ بها حصلت الهیئة الإجتماعیة .

فکلّها غیر تامة ، أمّا الأوّل : فلعدم صدق الحیوان علی الجزء منه عرفاً ، فلا یصدق علی الید أو الرِجْل أو العین أنّها حیوان .

وأمّا الثانی : فیظهر بطلانه من بطلان الاحتمال الأوّل ، لأنه حیث لا یصدق علی الجزء

ص:344


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 232 .
2- (4) غنیة الطالب 1 / 112 .
3- (1) حاشیة المکاسب 1 / 132 .

أنّه حیوانٌ فلا یصح تعمیم الحرمة للجزء .

وأمّا الثالث : فلأنّ موضوعات الأحکام تؤخذ من العرف لا من الإحتمالات البعیدة وبالدقة الفلسفیة ، والعرف لم یتنبه علی هذا الاحتمال قبل بیانه . وتوضیحه ، ولذ قال بعض الأساتیذ - مد ظله - فی نقده : « وأمّا احتمال کون المحرّم الهیئة الإجتماعیة فالظاهر أنّه احتمال مدرسیٌ لا ینقدح فی أذهان من راجع أخبار المسألة ، إذ الحکم فیها مترتب علی عنوان تصویر الحیوان ، وهو فعل تدریجیٌ مرکّب بحسب ترکّب الحیوان من الأجزاء ... »(1) .

ولعلّ المحقق الإیروانی تفطن إلی هذه الإیرادات ، ولذا قال بعد أسطر فی تعلیق آخر : « ... إنّما المدار صدق کون الصورة صورة حیوان تامّ أو إنسان تامّ ، علی قیام أو قعود أو اضطجاع ، عاریاً أو لابساً للباس أو ملتفّاً بالرداء ومغطیً باللحاف ، فربّما لا یکون منقوشاً من أجزاء بدنه سوی وجهه ، بل قد عرفت أنّ النقش الغیر المجسّم دائماً هو نقش جانب من جوانب ذی الصورة وصورة جزء منه»(2) .

وهذا البیان منه قدس سره اعتراف بأنّ المدار فی الصورة الصدق العرفی علی أنّها صورة حیوان تامةً کانت أو ناقصة کما مرّ منّا ، والحمد اللّه ربّ العالمین .

الخامس : حکم الشرکة فی التصویر

قال الشیخ الأکبر : « ولو حصل الصنع من اثنین دفعةً کانا مصوّرین ومع التدریج المدار علی الأخیر ، والتعلّق بالأوّل أیضاً مع النیة قویٌّ ومع التفریق یتعلّق الحکم

بالجامع »(3) .

وقال تلمیذه فی الجواهر : « ولو حصل الصنع من إثنین دفعةً کانا مصوّرین ومع التدریج ففی شرح الاُستاد أنّ المدار علی الأخیر ، قلت : لعلّ الأقوی التعلق بالأوّل أیضاً ، إذا فرض کون المقصود لهما ذلک من أوّل الأمر لصدق الاستناد إلیهما ، ومنه یظهر ما فی إطلاق قوله

ص:345


1- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 611 .
2- (3) حاشیة المکاسب 1 / 133 .
3- (1) شرح القواعد 1 / 190 .

أیضاً بعد ذلک : « ومع التفریق یتعلق الحکم بالجامع »(1) .

وقال السید علی آل بحرالعلوم تلمیذ صاحب الجواهر : « وإذا اشترک اثنان فی تصویر دفعةً أثما معاً ، أو تدریجاً فالمتمِّم ، قصد الأوّل الإتمام فبدا له أو الإقتصار ، وفی جواهر الاستاذ بل والأوّل أیضاً إذا قصد الإتمام ثمّ بدا له ، ولعلّ نظره إلی أن فعله البعض بقصد الإتمام یتمحض للجزئیة ، فیشمله المنع عند فعله له باعتبار منعه عن الکل . وفیه : إنّه ینبغی حینئذ أن یکون مراعیً بالإتمام ، فإن أتمه انکشف تعلّق الحرمة وإلاّ تبیّن عدم الحرمة من البدء ، وتعیّن کونه جزء بمجرد القصد حتّی مع عدم الإتمام ممنوع »(2) .

أقول : الظاهر أنّه قدس سره نقل معنی کلام أستاذه لانصه الذی مرّ منّا .

وقال الشیخ الأعظم : « وإن قصد النصف لا غیر لم یحرم إلاّ مع صدق الحیوان علی هذا النصف ، ولو بدا له فی إتمامه حَرُمَ الإتمام لصدق التصویر بإکمال الصورة لأنّه إیجاد لها ... »(3) .

وظاهر الشیخ الأعظم وإطلاقه صدق التصویر بإکمال الصورة ولو کان الإکمال بتوسط شخص آخر ، فیحرم فعل المکمِّل فقط لا فعل البادئ الذی أتی بها ناقصاً .

وحَمَلَ السید الیزدی کلام الشیخ الأعظم علی ما قلناه فقال : « لازم ذلک الحکم بالحرمة أیضاً فیما إذا کان القدر الموجود بفعل غیره ، لأنّه یصدق علیه أنّه أوجد الصورة ، لأنّ ما کان موجوداً لم یکن صورة بل بعضها ، سواء کان ذلک الموجود بفعل مکلف آخر أو غیره کالصبی والمجنون ، بل ولو لم یکن قصد الفاعل له إیجاد الصورة أیضاً ، لأنّ المناط هو صدق الإیجاد بالنسبة إلی هذا المتمِّم . ولا یخفی أنّ الالتزام به مشکلٌ ، والمسألة مبنیّة علی أنَّ المحرَّم هو فعل التصویر أو إیجاد الصورة . وبعبارة اُخری : المحرَّم عنوان فعل مرکب ، أو عنوان بسیط

یکون الفعل الخارجی المرکب محقِّقاً ومحصِّلاً له ، علی الأوّل یکون حرمة الفعل نفسیّاً وعلی الثانی مقدمیّاً . فلو قلنا بالأوّل لا یکون الإتمام حراماً ، لعدم کونه تصویراً ، إذ إیجاد البعض لا یکون إیجاداً للصورة التی هی مرکبة بالفرض ، سواء کان البعض الأوّل من فعله أو من فعل

ص:346


1- (2) الجواهر 22 / 43 .
2- (3) برهان الفقه - کتاب التجارة / 17 الطبع الحجری .
3- (4) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 189) .

غیره ، وسواء کان إیجاده له علی الوجه المحرّم - کما لو کان بانیّاً علی التصویر وبعد الإتیان بالبعض بدا له فی الاتمام ثمّ بعد ذلک أتّمه - أو علی وجه محلَّل ، وإن قلنا بالثانی یکون الإتمام حراماً فی الجمیع ، هذا .

والظاهر من الأخبار هو المعنی الأوّل کما لا یخفی ، وهو الظاهر من المصنف فیما ذکره فی الفرع الآتی . ولا یمکن أن یراد من الأخبار الأمران معاً ، أعنی حرمة نفس الفعل ذاتاً وحرمة العنوان البسیط - أعنی إیجاد الصورة لیکون الفعل الأوّل المرکب حراماً مقدمیّاً - لأنّه مستلزم للإستعمال فی أکثر من معنی ، مع أنّه یستلزم کون الفعل الخارجی محرّماً من جهتین .

نعم ، یمکن أن یدعی أنّ الظاهر من الأخبار وإن کان حرمة نفس الفعل ، لکن یستفاد من فحواها حرمة الإیجاد أیضاً إذا لم یکن تمام المرکب حراماً ، ومقتضاه حرمة الإتمام أیضاً فی الصورة المذکورة ، فتدبّر »(1) .

والمحقق الإیروانی فی ذیل قول الشیخ الأعظم : « ولو بدا له فی إتمامه حرم الإتمام»(2) ، قال : « أمّا إذا أتّمه غیره لم یحرم ، فإن المتمّم کالبادئ آت بجزءٍ من الحرام وجزء الحرام لیس بحرام »(3) .

وذیّل کلام الشیخ الأعظم : « ومن أنّ حرمة الفعل عرفاً لیس إلاّ حرمة الاشتغال به عمداً ، فلا تراعی الحرمة بإتمام العمل ... »(4) بقوله : « لا وجه لهذا الکلام بعد فرض کون المحرَّم هو تصویر صورة المجموع ، من حیث المجموع فإن تحصّل المجموع یکون بالجزء الأخیر ، فإذا اشتغل ولم یتمّ العمل لم یکن آتیاً بالحرام ، کما أنّه لو تمّم عمل غیره لم یکن آتیاً به ، فالمتّصف بالحرمة هو مجموع العمل من بدوه إلی ختامه .

ودعوی : أن العرف یفهم من تحریم المرکب حرمة الأخذ والشروع فیه ، رفض للمبنی ،

فإنّ معنی هذا حرمة ذلک الجزء الذی شرع به هو خلف ، إذ قد فرض أنّ معروض الحرمة هو

ص:347


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 112 و 111 .
2- (2) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 189) .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 133 .
4- (4) المکاسب المحرمة / 23 - (1 / 190) .

المجموع من حیث المجموع ، ومع ذلک لا یکون شروعه محرّماً ما لم ینته إلی الختام »(1) .

قال المحقق الخمینی : « لو اشترک إثنان أو أکثر فی عمل صورة ، فالظاهر قصور الأدلة عن إثبات الحرمة لفعل کل من الفاعلین أو أکثر بعدم صدق عنوان : صوّر الصور أو مثّل المثال علی واحد منهما بلا ریب ، ضرورة أنّ التمثال والصورة عبارة عن مجموع الصورة الخارجیة ، والأجزاء لا تکون تمثالاً لحیوان ولا صورة له ، والفاعل للجزء لا یکون مصوِّراً للحیوان ، من غیر فرق بین اشتغالهما بتصویره من الأوّل إلی الآخر أو تصویر أحدهما نصفه والآخر نصفه الآخر ، أو عمل واحد منهما الأجزاء وترکیب الآخر بینها ، لعدم الصدق فی شیء منها ، فإنّ الظاهر من قوله : « من صوّر صورة » ، کون صدور الصورة - أی هذا الموجود الخارجی الذی یقال له التمثال - من فاعل ، والفرض عدم صدورها منه ... واحتمال أن یکون المراد بهما أنّه من أوجد هیئة الصورة أو هیئة المثال وهو صادق علی من أتمّهما ، إمّا بإتیان النصف الباقی أو بترکیب الأجزاء ، بعید عن ظاهر اللفظ ومخالف للمتفاهم من الأخبار »(2) .

وقال المحقق الخوئی : « إذا اشترک أشخاص عدیدة فی صنعة صورة محرّمة ، فإن قصد کل واحد منهم التصویر المحرّم فهو حرام ، وإلاّ فلا یحرم غیر ترکیب الأجزاء المتشتتة »(3) .

وقال المحقق الأردکانی : « فرع : لو بدا له فی إتمامه وأتمّه آخر ففی حرمة فعل کلّ من الأوّل والأخیر ، أو عدم حرمته ، أو حرمة فعل الأخیر دون الأوّل ، وجوه إن قلنا بإختصاص الحرمة بالمجموع فلا یکون فعل واحد منهما محرّماً ، وإن قلنا أنّ المحرّم هو الإتیان بالهیئة الإجتماعیة فلا إشکال فی حرمة فعل الأخیر إذ بفعله تحصل الهیئة الإجتماعیة ، و علی هذا یحتمل حرمة فعل الأوّل أیضاً ، إذ لو لا سبق فعله لما حصلت الهیئة الإجتماعیة ، فیکون لفعل کلّ منهما دخل فی حصولها فیکون محرّماً»(4) .

وقال شیخنا الأستاذ - مدظله - : « فإنّ العنوان المحرَّم إذا کان بحیث لا یصدق إلاّ علی

ص:348


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 134 .
2- (2) المکاسب المحرمة 1 / 183 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 233 .
4- (4) غنیة الطالب 1 / 113 .

المجموع کما هو المفروض ، لأنّ المنهی عنه تصویر الحیوان أو الإنسان وعمل تمثالهما وهذا یکون بنقشهما أو تجسیمهما من قرنهما إلی قدمهما ، فیکون اتصاف الجزء الأوّل بکونه حراماً مشروطاً بتحقّق الجزء کما فی الواجبات الإرتباطیة ، فالتفرقة بین الواجبات والمحرَّمات فی ذلک بلا وجه .

ولو اشتغل اثنان بتصویر حیوان - بأن قصد هذا تصویر بعضه والآخر تصویر بعضه الآخر وکان ذلک بعلم کلّ منهما بفعل صاحبه - فلا یبعد الإلتزام بحرمة تصویر البعض فی الفرض ، أخذاً بقوله سبحانه : «وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَی الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» ، حیث أن مقتضی الأدلة الأوّلیة عدم جواز تصویر کلّ مکلَّف تمام الحیوان ، ومقتضی الآیة حرمة الإشتراک فی تحقّق ذلک الحرام کما لا یخفی ، ولیس المحرَّم بحسب الأدلة هو إتمام الصورة ، کما إذا قصد أحد تصویر جسد الحیوان مثلاً بلا رأس ، بلا علم منه أنّ الآخر یکمله ، وأکمله الآخر برسم الرأس له ، فلا یکون فعل الثانی حراماً باعتبار کونه إتماماً لتلک الصورة ، فإن المحرَّم هو تصویر کلّ مکلَّف الحیوان أو الإنسان لا إتمام صورتهما ، وتصویرهما لا یصدق علی مجرد إتمامهما ، کما أنّه لا یصدق علی تصویر بعضهما ... »(1) .

أقول : الظاهر من الأدلة عدم صدق الصورة أو التمثال علی بعضهما أو جزئهما ، فلا یحرم البعض أو الجزء . وعلی هذا لو أتی شخص بهذا الجزء أو البعض لم یکن فعله محرّماً ، ثمّ لو أتی آخر ببقیة الأجزاء وأتمّها لم یکن فعله أیضاً محرّماً ، لأنّ الثانی أیضاً صوّر بعض الأجزاء والبعض لا یکون حراماً .

نعم ، یمکن أن یقال تبعاً للاُستاذ - مد ظله - لو علم الأوّل أنّ الثانی أتّمه والثانی أیضاً یعیّن علی الأوّل تصویر بعض أجزائها وأن یأتی الأوّل بها ، بأن یقسما الصورة مثلاً - بأن یأتی الأوّل بالرأس والثانی ببقیة الصورة - یصدق علی فعلهما التعاون علی الإثم والعدوان ، فیحرم فعل کلّ منهما .

ولعله أشار إلی هذا الفرع الأخیر بعض أساتیذنا - مدظله - حیث یقول : « ولو سلّم

ص:349


1- (1) إرشاد الطالب 1 / 126 و 125 .

عدم حرمة فعل من أوجد الجزء بعنوان التصویر بما أنّه فعل تدریجیٌّ مرکبٌ فلا أقل من حرمته بعنوان التعاون علی الأثم ، کیف ؟ ! والمتعارف فی إیجاد التصاویر والتماثیل وقوعه بنحو المشارکة والتعاون ، فلو لم یکن هذا حراماً صار هذا طریقاً ووسیلة إلی ارتکاب المحرَّمات بنحو الشرکة فراراً عن وقوع الحرام ، وهذا أمر لایقبله ذوق من اطّلع علی مذاق الشارع

المقدَّس ، فتدبّر »(1) .

السادس : حکم ایجاد الصورة بالتسبیب

قال الفقیه الیزدی : « الظاهر أنّه لا فرق فی التصویر بین المباشرة والتسبیب ، کما أنّه لو أکره غیره أو بعثه علیه من غیر إکراه فیما لو کان المباشر ضعیفاً ، بحیث یسند الفعل إلیه ، وذلک لأنّ قوله علیه السلام : « من صوّر صورة » ونحوه أعم من الأمرین وإن کانت الأفعال ظاهرة فی المباشرة ، فإنّه یمکن فهم الأعمیة بسبب القرائن ، کما فی قوله صلی الله علیه و آله وسلم « من أتلف » ، وقوله « من قتل نفساً » فکذا ، وهکذا .

والحاصل ، أنّ ظاهر الفعل وإن کان خصوص صورة المباشرة إلاّ أنّه یمکن استفادة التعمیم من القرینة ، وهی فی مثل المقام ملاحظة مناط الحکم . والظاهر أنّ هذه الإستفادة مختصة بالأفعال المتعدّیة دون اللازمة ، والسرّ فی ذلک أنّ معنی مثل قوله « من قتل نفساً » ، مثلاً من أوجد القتل ، فیمکن أن یُراد منه الأعم من الأمرین ، وإن کان ظاهراً - من حیث هو - فی خصوص المباشرة ، بخلاف مثل قوله « من جلس » أو « ذهب » أو نحو ذلک ، فإنّ المراد منه من قام به الجلوس أو الذهاب ، فلا یقبل أن یکون أعم ، إذ جلوس الغیر قائم بذلک الغیر ، فلا یمکن أن یکون جلوساً للسبب الباعث ، بخلاف القتل الصادر منه ، فإنّه یمکن نسبته إلی السبب ، فتدبّر ... »(2) .

وقال المحقق الخوئی ناظراً إلی مقالة السید الیزدی : « قد عرفت فی البحث عن حرمة تغریر الجاهل أنّ إلقاء الغیر فی الحرام الواقعی حرامٌ ، وعلیه فلا فرق فی حرمة التصویر بین

ص:350


1- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 620 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 112 .

المباشرة والتسبیب . بل قد عرفت فی المبحث المذکور ، أن نفس الأدلة الأوّلیة تقتضی عدم الفرق بین المباشرة والتسبیب فی إیجاد المحرَّمات ، وعلی هذا فلا نحتاج فی استفادة التعمیم وملاحظة المناط کما فی حاشیة السید رحمه الله »(1) .

أقول : الظاهر من الأدلة الأوّلیة الدالة علی حرمة المحرّمات ، تشمل صورتی المباشرة والتسبیب بحسب الفهم العرفی ، من دون إحتیاج إلی القرینة للتعمیم ، وعلی هذا فی حرمة

التصویر أیضاً تحرم المباشرة للفعل أو التسبیب له کما علیه العَلَمین قدس سرهم مع إختلاف فی الاستدلال .

السابع : حکم إیجاد الصور بالمکائن والآلات الحدیثة

قال المحقق الخمینی : « إنّ الظاهر من الأدلة هو حرمة تصویر الصور وتمثیل المثال ، وهما لایشملان إلاّ للمصنوع بید الفاعل مباشرة ، بمعنی صدور عمل التصویر منه وبیده ، کما کانت صنعة الصور کذلک فی عصر صدور الروایات ، فلایشملان لإیجاد الصور کیف ما کان ، فلو فرضت مکینة صنعت لإیجاد المجسَّمات وباشر أحد لإتصال القوة البرقیة بها فخرجت لأجلها الصور المجسَّمة منها ، لم یفعل حراماً ولم تدلّ تلک الأدلة علی حرمته ، لعدم صدق تصویر الصور وتمثیل المثال علیه ، فلو نسبا إلیه کان بضرب من التأویل والتجوّز ، فإنّ ظاهر « من صوّر صوراً » أو « مثّل مثالاً » سیما فی تلک الأعصار صدورهما من قوّته الفاعلة ، فیکون هو المباشر لتصویرها ، فکما أن قوله « من کتب کتاباً » لا یشمل من أوجد الکتابة بالمطابع المتعارفة أو أخذ العکس منه ، فمباشر عمل المطبعة وأخذ العکوس لیس کاتباً و لا کتب شیئاً ، کذلک صاحب المکینة العاملة للصوّر ، وکذا العکّاس لیسا مصوِّرین وممثِّلین للصور والمُ-ثُل ، إلاّ بضرب من التأویل والتجوّز ، ولایصار إلیه بدلیل وقرینة من غیر فرق بین العکوس المنطبعة فی الزجاجة والمنعکسة منها إلی الصحائف وإن کان عدم الصدق فی الأوّل أوضح »(2) .

ص:351


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 233 .
2- (1) المکاسب المحرمة 1 / 177 .

ولکن قال السید الخوئی : « الظاهر من الأدلة المتقدمة الناهیة عن التصویر والتمثیل هو النهی عن إیجاد الصورة ، کما أنّ النهی عن سائر الأفعال المحرَّمة نهی عن إیجادها فی الخارج ، وعلیه فلا یفرق فی حرمة التصویر بین أن یکون بالید أو بالطبع أو بالصیاغة أو بالنسج ، سواء أکان ذلک أمراً دفعیّاً - کما إذا کان بالآلة الطابعة - أم تدریجیّاً ... »(1) .

وقال المحقق السید عبد الأعلی السبزواری قدس سره بعد الحکم بأن لیس من التصویر المحرَّم أخذ الصورة بالأجهزة المعدَّة لذلک بجمیع أقسامها وکیفیاتها ، مستدلاً علیه : « للأصل بعد أن کان المنساق من الأدلة ما کان بعمل الید الشائع فی الأزمنة القدیمة ، والشک فی الشمول یکفی فی

عدم الشمول ، لأنَّ التمسک بالدلیل حینئذ تمسک به فی الموضوع المشتبه ، والمرجع فیه حینئذ هو الأصل . وکذا المجسَّمات المصنوعة فی عصرنا الحاضر من البلاستیک الذی تصبه المکائن الخاصة فی قوالب مخصوصة ، للشک فی کونها من التصویر المحرَّم فیرجع فیها إلی الأصل ، وفی کون القالب من التصویر المحرَّم إشکال لانصراف الأدلة عنه »(2) .

أقول : الظاهر من الأدلة الواردة فی حرمة التصویر هو عمل الصورة والمثال بمباشرة الید وآلاته الخاصة ، نحو القلم بأنواعه و المسمار وغیرهما . وأمّا إحداث الصورة بالمطابع أو إحداث المثال والمجسّمة بالمکائن الحدیثة فهو خارج عن دلالة أدلة الحرمة فی المقام ، کما مرّ من المحققیْن الخمینی والسبزواری قدس سرهما وخلافاً للمحقق الخوئی قدس سره .

لا أدعی : أنه لم تکن هذه المطابع والمکائن والآلات الحدیثة فی زمن صدور الروایات ولذا تنصرف الروایات عن العمل بها والأفعال الصادرة باستخدامها .

بل أدعی : أنّ العرف لا یُطلق علی عمل العامل بهذه المطابع والمکائن والآلات الحدیثة أنّه صوّر صورة أو مثّل مثالاً ، بل یُطلق علی عمله أنّه عامل فی المعمل أو المطبعة أو غیرهما ، ولا یصدق علیه أنّه مصوِّر أو ممثِّل .

وإتصال الآلة بالقوة الکهربائیة أو الإتیان بالموّاد اللازمة للعمل نحو الأوراق أو المواد

ص:352


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 233 .
2- (1) مهذب الأحکام 16 / 84 .

البلاستیکیة ونحوها لم یکن محرّماً کما هو واضح .

قد ظهر ممّا ذکرنا جواز إیجاد الصور والمُثل بالآلات الحدیثة نحو : الکامیرا وهی الآلة المصوِّرة وأخذ العکوس والأفلام ، أو إیجاد الصورة بالکامبیوتر أو بالمطابع أو بالمکائن أو نحوها .

وبالجملة ، نحن لا نری فرقاً بین إیجاد الصور بالمطابع والمکائن والکامیرا والآلات المصوّرة الحدیثة والکامبیوتر ونحوها ، فلذا یجوز أخذ العکس المتداول فی زماننا أیضاً .

وممّا ذکرنا ظهر ضعف مقالة السید الیزدی قدس سره حیث یقول : « لا فرق بین أنحاء إیجاد الصورة من النقش بالتخطیط وبالحک وبغیر ذلک ، فیشمل العکس المتداول فی زماننا ، فإنّه أیضاً تصویر کما لا یخفی ، فتدبّر »(1) .

ولکن المحقق الخوئی قدس سره مع ذهابه إلی حرمة إیجاد الصورة بالمطابع والمکائن والآلات

الحدیثة - کما مرّ بیانه - ذهب إلی جواز أخذ العکس وقال : « ... فلا یحرم أخذ العکس المتعارف فی زماننا ، لعدم کونه إیجاداً للصورة المحرَّمة وإنّما هو أخذ للظلِّ وإبقاء له بواسطة الدواء ، فإن الإنسان إذا وقف فی مقابل المکینة العکاسة کان حائلاً بینها وبین النور ، فیقع ظلّه علی المکینة ویثبت فیها لأجل الدواء ، فیکون صورة لذی ظلٍّ ، وأین هذا من التصویر المحرّم ؟ ! »(2) .

ولکن استشکل علی السید الخوئی بعض أعلام تلامیذه وغیرهم مد ظلُّهم :

فمن الأوّل : صاحب فقه الصادق - مد ظله - فی کتابه المسائل المستحدثة یقول : « ... فی أخذ الصورة بالآلة أمرین ، الأوّل : ما ذکره من وقوع الظل علی الآلة وإثباته فیها بالدواء ، الثانی : أخذ الصورة من ذلک الظل المحفوظ هناک ، والأوّل لا یصدق علیه الصورة وإنّما هو عکس الصورة ولهذا لایحرم ، و أمّا الثانی فهو صورة حقیقة ویصدق علی فعله أنّه إیجاد الصورة ... فتحصل : أنّه علی القول بحرمة التصویر مطلقاً یحرم أخذ الصورة بالآلة - أی العمل

ص:353


1- (2) حاشیة المکاسب 1 / 109 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 233 .

الثانی الذی یعمله المصوِّر ولکن قد عرفت اختصاص الحرمة بالمجسَّمة ، فلا إشکال فی الجواز »(1) .

ومن الأوّل أیضاً صاحب عمدة المطالب - مدظله - حیث یقول : « إنّ المیزان فی استفادة المقاصد من الألفاظ العرف ، وبعبارة اُخری العرف مُحَکَّم فی تشخیص المفاهیم ، ولا إشکال فی أنّ التصویر بماله من المفهوم العرفی یصدق علی العکس المتداول فی زماننا ، فیترتب علیها الحکم ، أی الحرمة »(2) .

ومن الثانی بعض أساتیذنا - مد ظله - یقول مستشکلاً علیه قدس سره : « بعد ما عمّم أولاً التصویر المحرَّم بالنسبة إلی جمیع أقسامه لا نری وجهاً لإستثناء العکس المتعارف منها ، إذ یصدق علیه الصورة وعلی فاعله المصوِّر بلا إشکال ، وقد حصل بمباشرة العکّاس واستخدام الآلة واُبقیت بالدواء کما قال رحمه الله ... »(3) .

ولکن شیخنا الأستاذ - مد ظله - یؤید اُستاذه ویقول : « ثم لا یخفی أنّ ما دلّ علی حرمة

التصویر - ولو نقشاً علی تقدیر تمامه - لا یعم التصویر المتعارف فی زماننا المعبر عنه بالفارسیة (عکس گرفتن) ، وذلک فإنّ ظاهر ما تقدم حرمة إیجاد الصورة وعملها نقشاً ومجسَّمة . وأمّا العمل علی بقاء الصورة الواقعة من الشیء فی شیء آخر کما فی هذا التصویر المتعارف فغیر داخل فی مدلولها ... »(4) .

أقول : بناءً علی ماذکرنا من جواز إیجاد الصورة بالمطابع والمکائن والآلات الحدیثة فحکم العکس وجوازه واضح . وأمّا بناءً علی ما ذهب إلیه المحقق الخوئی قدس سره من حرمة إیجاد الصورة بالآلات الحدیثة أیضاً فحکمه هو الجواز ، لانصراف أدلة الحرمة عن مثل هذا الإیجاد کما اختاره المحقق الخوئی قدس سره وشیخنا الأستاذ - مد ظله - وهکذا یری الفقیه الإصبهانی قدس سره المسألة فی وسیلته حیث یقول : « الظاهر أنّه لیس من التصویر العکس المتداول فی زماننا ، فلا

ص:354


1- (2) المسائل المستحدثة / 215 للفقیه السید محمد صادق الروحانی دام ظله .
2- (3) عمدة المطالب 1 / 172 للفقیه السید تقی الطباطبائی القمی مدظله .
3- (4) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 624 .
4- (1) إرشاد الطالب 1 / 123 .

بأس به إذا لم یترتب علیه مفسدة »(1) .

الثامن : حکم تصویر الحیوان الخیالی

قال صاحب الجواهر : « بل قد یقوی جریان الحکم (أی الحرمة) فی تصویر ما یتخیّله فی ذهنه من صورة حیوان مشارک للموجود فی الخارج من الحیوان فی کلی الأجزاء دون أعدادها وأوضاعها مثلاً »(2) .

وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم قدس سره : « إذا صوّر مثلاً فرساً ذیله مثلاً عشرون ذراعاً تعلقت الحرمة وإن لم یوجد فرس کذلک ، إکتفاءً بوجود النوع ، نعم : لو صوّر حیواناً مخترعاً بالنوع لم یحرم بناءً علی اختصاص الحرمة بذی الروح »(3) .

ولکن الفقیه الیزدی قدس سره ذهب إلی الحرمة فی تصویر الحیوان الخیالی مطلقاً وقال : « لا فرق فی الحیوان - بناءً علی الاختصاص به - بین کونه من نوعه موجوداً فی الخارج أولا ، فلو اخترع صورة حیوان غیر موجود فی الخارج أصلاً - کما إذا صوّر حیواناً له رؤوس عدیدة وأجنحة کثیرة علی شکل غریب - کان حراماً أیضاً لإطلاق الأدلة»(5) .

وتبعه المحقق الخوئی قدس سره وقال : « ... فیحرم تصویر الصورة للحیوانات مطلقاً سواء ما کان منها فرداً لنوع من الحیوانات الموجودة ، وما لم یکن کذلک کالعنقاء ونحوه من الحیوانات الخیالیة ، وذلک لإطلاق الأدلة »(4) .

وتبعهما المحقق السبزواری قدس سره وقال : « لصدق الحیوان علیه أیضاً فتشمله الإطلاقات »(5) .

وتبعهم بعض أساتیذنا - مدظله - وقال : « بناءً علی اختصاص الحرمة بالحیوان ،

ص:355


1- (2) وسیلة النجاة 2 / 5 .
2- (3) الجواهر 22 / 43 .
3- (4) برهان الفقه - کتاب التجارة / 17 .
4- (1) حاشیة المکاسب 1 / 107 .
5- (2) مصباح الفقاهة 1 / 233 .

فالظاهر عدم الفرق بین کونه موجوداً فی الخارج أو موجوداً خیالیاً کالعنقاء مثلاً أو فرس ذی أجنحة ، ولا سیما إذا کانت بنحو التجسیم ، لإطلاق الأدلة وشمول روایات الأمر بالنفح ونحوها . وانصرافه إلی الحیوان الخارجی الموجود انصرافٌ بدویٌّ فلا یضرّ »(1) .

أقول : قد مرّ منّا فی الفرع الأوّل من هذا البحث أنّ المراد بالحیوان من کان له نعمة الحیاة أو حیّاً أو ذا روح ، وعلی أساس هذا التعریف من الحیوان إذا کانت الصورة للحیوان الخیالی سواء کان نوعه موجوداً نحو فرس ذیله عشرون ذراعاً أو لم یکن نوعه بموجود نحو العنقاء أو الفرس الذی رأسه رأس إنسان أو کان ذو أجنحة کثیرة ونحوها ، حیث لم یکن لهذا الحیوان الخیالی حیاة ولم یکن حیّاً أو ذا روحٍ ، فیخرج من مصطلحنا من الحیوان فی المقام ، فلا یمکننا الحکم بالحرمة فی صورة الحیوان الخیالی بأیّ وجه کان . ووافقنا فی بعض الفروض صاحب الجواهر وتلمیذه صاحب برهان الفقه قدس سرهما کما مرّ کلامهما آنفاً .

فإذا ثبت جواز تصویر الحیوان الخیالی مطلقاً ، ظهر منه حکم الصور الدارجة فی زماننا هذا المسماة بالصور الکاریکاتوریة والکارتونیة من جوازهما ، سواء کانت تعمل بالید والقلم أو بالآلات الحدیثة نحو الکامبیوتر ، لعدم صدق الحیوان المصطلح فی المقام لهما ، واللّه العالم بالأحکام .

وهکذا ظهر ممّا ذکرنا حکم ما یسمی الیوم بالروبات ، وهو جسم خاص یشبه الإنسان أو الحیوان صُنع لغرض عقلائی ، فلا بأس بصنعه وعمله لعدم صدق الحیوان

المصطلح فی المقام علیه ، فیجوز عمل الروباتات بأیِّ نحو کانت ، سواء أشبهت إنساناً أو حیواناً خاصاً أو لم یشبه . واللّه سبحانه هو العالم .

التاسع : حکم الصورة المشترکة بین الحیوان وغیره

قال الشیخ الأکبر قدس سره : « ولو اشترکت الصورة بین الحیوان وغیره اتّبع القصد ، إن لم یکن لأحدهما ظهور فیها

»(2) .

ص:356


1- (3) مهذب الأحکام 16 / 84 .
2- (1) شرح القواعد 1 / 190 .

وقال تلمیذه فی الجواهر قدس سره : « ولو اشترکت الصورة بین الحیوان أو غیره اتبع القصد ، إن لم یکن لأحدهما ظهور فیها »(1) .

وقال الفقیه الیزدی قدس سره : « الصورة المشترکة بین الحیوان وغیره یکون المدار فیها علی القصد کما أشرنا إلیه ، علی ما هو المقرَّر فی سائر المقامات من کون تمییز المشترکات بالقصد .

ولکن قد یقال بعدم حرمتها مطلقاً ، لأنّها کما تدخل فی دلیل المنع ، تدخل فی دلیل الجواز أیضاً ، فالأصل الإباحة .

وفیه : أنّ هذا إنّما یصح لو لم یکن القصد معتبراً فی الحکم نفیّاً وإثباتاً ، إذ حینئذٍ تدخل تحت الدلیلین ویکونان متعارضین ، مع أنّه یمکن علی هذا التقدیر کونه من باب التزاحم والترجیح لجهة الحرمة ، فتأمل .

وأمّا مع اعتبار القصد - کما هو الواقع - فیصدق تصویر الحیوان مع قصده وتصویر غیره مع قصد الغیر . هذا ، ولکن یشکل الحال فیما إذا قصد القدر الجامع ، بمعنی أن لا یقصد إلاّ إیجاد هذه الصورة التی یعلم أنّها مشترکة من غیر قصد الخصوصیة ، ولا یبعد الحکم بعدم الحرمة حینئذ ، فتدبر »(2) .

وقال المحقق الخوئی قدس سره : « إذا صوّر صورة مشترکة بین الحیوان وغیره ، لم یکن ذلک حراماً إلاّ إذا قصد الحکایة عن الحیوان »(3) .

أقول : الصورة المشترکة إذا قصد مصوّرها أنّها صورة حیوان ، فتدخل فی تصویر

الحیوان وتحرم بذلک ، أمّا إذا قصد غیرها أو لم یقصد شیئاً أصلاً فلم تدخل فی تصویر الحیوان فلا تحرم ، واللّه العالم بالأحکام .

العاشر : هل صور البیضة والعلقة والمضغة ملحقة بصورة الحیوان أم لا ؟

قال الشیخ الأکبر : « ولیس من المحظور تصویر البیضة والعلقة والمضغة

ص:357


1- (2) الجواهر 22 / 43 .
2- (3) حاشیة المکاسب 1 / 107 .
3- (4) مصباح الفقاهة 1 / 233 .

وبزر القزّ(1) »(2) .

وقال تلمیذه فی المفتاح : « ولا یلحق بالحیوان صورة البیضة والعلقة ونحو ذلک ممّا هو منشأ الحیوان »(3) .

وقال تلمیذه الآخر صاحب الجواهر : « وتصویر البیضة والعلقة والمضغة وبزر القزّ ونحو ذلک ممّا هو نشوء الحیوان لا بأس به »(4) .

أقول : الظاهر من الأدلة حرمة تصویر الحیوان ، وحیث لا یصدق علی صورة البیضة أو العلقة أو المضغة أو بزر القزّ ونحو ذلک ممّا هو منشأ الحیوان ، أنّها صورة حیوان عرفاً فلا بأس بتصویرها وعمل صورها ، واللّه سبحانه هو العالم .

الحادی عشر : هل یجب منع غیر المکلف إذا صوّر ؟

قال الشیخ الأکبر : « القول بوجوب منع الصبیان عنه لا یخلو من قوّة »(5) .

ولکن ردّ تلمیذه صاحب الجواهر علی الاُستاذ وقال : « لا بأس بعدم منع الصبیان ونحوهم ممّن هو غیر مکلَّف عن العمل أیضاً ، للأصل وغیره ، لکن فی شرح الاُستاد أنّ القول بوجوب المنع لا یخلو من قوّة »(6) .

وذهب إلی عدم وجوب الردع فی المقام الفقیه الیزدی قدس سره حیث یقول : « الظاهر عدم

وجوب منع غیر المکلَّف إذا باشر ذلک بنفسه ، بل جواز تمکینه أیضاً إذا لم یکن بحیث یسند الفعل إلی المُمَکِّنِ ، وذلک لعدم الدلیل علی وجوب المنع أو حرمة التمکین کما فی سائر المحرَّمات التی لم یعلم من أدلتها أو من الخارج إهتمام الشارع بها بحیث لا یرید وجودها فی الخارج أصلاً ، فإنّه لا یجب منع غیر المکلّف منها .

ص:358


1- (1) بزر القزّ : یقال له بالفارسیة : « پیله کرم ابریشم» .
2- (2) شرح القواعد 1 / 190 .
3- (3) مفتاح الکرامة 4 / 50 - (12 / 167) .
4- (4) الجواهر 22 / 43 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 191 .
6- (6) الجواهر 22 / 44 .

نعم ، فیما کان من قبیل ما لم یرد الشارع وجوده - کقتل النفس وهتک عرض المؤمن ونحو ذلک - یجب المنع ولو صدر من البهائم ، ومعلوم أنّ المقام لیس من هذا القبیل ، ... وکذا لا یجب منع المکلَّف الجاهل والغافل ونحوهما مَنْ هو معذور ، نعم : یجب تنبیه الجاهل بالحکم من باب وجوب الإرشاد للجّهال فی الأحکام الشرعیة . وهل یجوز تمکینهما أیضاً ، بمعنی تهیئة المقدمات وبعثهما علیه مع فرض عدم إسناد الفعل إلیه عرفاً کما قلنا فی غیر المکلَّف أو لا ؟ الظاهر عدم الجواز ، والفرق بینهما وبین غیر المکلّف - مثل الصبی - أنّ فعل غیر المکلَّف غیر مبغوض واقعاً أیضاً ، لأنّه غیر مکلّف أصلاً بخلاف ، فعل الجاهل والغافل فإنّه محرَّم فی الواقع غایة الأمر کونهما معذورین ، فتمکینهما تمکین علی إیجاد المحرّم وهذا غیر جائز علی ما أسلفنا الکلام فیه ، فتدبّر »(1) .

أقول : الحاصل من کلامهم أنه لا یجب منع الصبی ونحوه من غیر المکلَّفین إذا باشر بنفسه التصویر ، لأنّهم لیسوا بمکلفین . نعم : یجب إرشاد الجاهل بالحکم من باب وجوب تعلیم الأحکام .

وأمّا تمکین المکلَّف وتهیئة أسباب التصویر لهم فلا بأس بالنسبة إلی الصبی والمجنون ، لعدم ورود التکلیف فی حقّهما أصلاً . وأمّا تمکینه بالنسبة إلی الجاهل أو الناسی أو الغافل فلا یجوز ، لأنّ التکلیف فی حقِّهما موجودٌ ولکن لم یتنجز .

ولبعض أساتیذنا - مدظله - فی المقام توضیح ، فراجع إن شئت إلی کتابه(2) .

الثانی عشر : اقتناء الصور والمعاملة علیها

بعد تسلیم حرمة تصویر الحیوان مطلقاً فهل یجوز اقتناء الصور بعد ما وجدت نسیاناً أو جهلاً أو غفلةً أو عصیاناً أو لا یجوز اقتناؤها بل یجب إفناؤها وإمحاؤها وتکون وزانها وزان

الأصنام وآلات القمار وغیرها ممّا لا یجوز إبقاؤها ؟

فی المسألة قولان :
اشارة

ص:359


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 113 .
2- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 623 .
الوجوه التسعة المستدلة علی حرمة اقتناء الصور و نقدها

1 - المعروف بین القدماء هی حرمة بیع الصور وابتیاعها والتکسب بها ، بل حرمة اقتنائها ، أفتی بذلک الشیخان فی المقنعة(1) و النهایة(2) والدیلمی فی المراسم ،(3) وهذا مقتضی إطلاق کلام أبی الصلاح الحلبی فی الکافی(4) وابن إدریس الحلی فی السرائر(5) .

2 - ولکن ذهب المحقق الثانی الکرکی فی جامع المقاصد(6) إلی جواز اقتنائها ، وتبعه جماعة من أعلام التحقیق ، منهم : المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة(7) وجدنا الفقیه الشیخ الأکبر فی شرح القواعد(8) وتلمیذه السید العاملی فی مفتاح الکرامة(9) وصاحب الجواهر(10) ، والنراقی فی المستند(11) والشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(12) .

ویمکن أن یُستدل لحرمة اقتناء الصور بعدّة من الوجوه :

الأوّل : إنّ النهی تعلق بإیجاد الصور ولکن أنّ الإیجاد والوجود متحدان ذاتاً ومختلفان بالإعتبار ، فإن الصادر من الفاعل بالنسبة إلیه إیجادٌ وبالنسبة إلی القابل وجودٌ ، فإذا کان الإیجاد منهیّاً عنه وحراماً صار الوجود حراماً أیضاً .

وفیه : أن النهی تعلق بإیجاد الصورة بما أنّه فعل للمصوِّر ، فلا یدلّ علی کون وجود الصورة مبغوضاً عند الشارع .

ص:360


1- (1) المقنعة / 587 .
2- (2) النهایة / 363 .
3- (3) المراسم / 170 .
4- (4) الکافی / 283 .
5- (5) السرائر 2 / 215 .
6- (6) جامع المقاصد 4 / 16 .
7- (7) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 56 .
8- (8) شرح القواعد 1 / 190 .
9- (9) مفتاح الکرامة 4 / 49 - (12 / 165) .
10- (10) الجواهر 22 / 44 .
11- (11) مستند الشیعة 14 / 110 .
12- (12) المکاسب المحرمة / 25 - (1 / 193) .

وبعبارة اُخری : النهی تعلق بالعنوان المصدری للصورة یعنی إحداثها وإیجادها وترسیمها وعملها ولم یتعلق بالعنوان اسم المصدری لها یعنی بقاؤها ووجودها وحفظها واقتناؤها .

نعم ، ربّما یکون النهی مع وجود قرینة تدلّ علی الملازمة بین حرمة الإحداث والإبقاء ، نحو ، حرمة إیجاد النجاسة فی المسجد ، ولکن القرینة هنا مفقودة .

الثانی : صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن تماثیل الشجر والشمس والقمر ؟ فقال : لا بأس ما لم یکن شیئاً من الحیوان(1) .

بتقریب : أنّ السؤال عن شیءٍ یقع غالباً عمّا یکون مورداً لابتلاء السائل وأمثاله ، وما یکون مورداً للإبتلاء فی المقام هو إقتناء الصور والتزیّن بها وبیعها وشراؤها ، وأمّا عمل الصور وإحداثها فهو فعل تخصصیٌ یختص بعدّة من الخواص فقط ، ولذا لابدّ من حمل هذه الصحیحة علی حرمة اقتناء الصور وبیعها إذا کانت من الحیوان .

إن قلت : غایة ما یُستفاد من الصحیحة ثبوت البأس ، وهو أعمٌّ من التحریم کما علیه المحقق الإیروانی(2) قدس سره .

قلت : ما ذکره هذا المحقق الجلیل غیر تام ، لأنّ کلمة « البأس » فی التحریم ظاهرة کما أن کلمةُ « لا بأس » ظاهرة فی الجواز المطلق .

وفیه : بعد التأمل التام فی الروایة ظهر أن المراد بها وسؤال السائل عن حکم عمل الصور وإحداثها مع کون هذا العمل عملاً تخصصیاً یختص بالخواص ، لأنّ السائل فی الروایة وراویها محمد بن مسلم وهو من الفقهاء والمشایخ من أصحاب الصادقین علیهماالسلام ومثل محمد بن مسلم یسأل عن جمیع المسائل الفقهیة حتّی المسائل التی لایبتلی بها إلاّ الخواص ، لأنّه فقیه لابدّ أن یعلم جمیعها .

والحاصل : إنّا لا نسلم ظهور الروایة فی الإقتناء ، بل ندعی ظهورها فی عمل الصور ،

ص:361


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 296 ح 3 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 135 .

مضافاً إلی أن احتمال حرمة الإقتناء فرع حرمة عملها ، إذ لا یحتمل حرمة اقتناء ما لا یحرم عمله کما تفطن علیه الشیخ الأعظم(1) قدس سره .

ثمّ : لو تنزلنا عن ظهور الصحیحة فی عمل الصور فغایة ما یمکن أن یقال : إطلاقها بحیث تشمل العمل والإقتناء معاً ، فتدلّ علی حرمة عمل الصور واقتنائها معاً کما علیه الفقیه الیزدی قدس سره وقال : « الإنصاف أنّها أعم من العمل والإقتناء وغیرهما ... »(2) .

وعلی فرض إطلاقها ودلالتها علی حرمة الاقتناء ، تعارضها الروایات الواردة فی جواز اقتناء الصور . والعمل علی الروایات المجوِّزة ، وتحمل الصحیحة علی الکراهة .

ولو سلّمنا ظهورها فی الاقتناء تعارضها الروایات المجوِّزة فلابدّ من حمل الصحیحة علی الکراهة أیضاً .

الثالث : الحصر الوارد فی روایة تحف العقول : « إنّما حرّم اللّه الصناعة التی حرام هی کلّها التی یجیء منها الفساد محضاً نظیر البرابط والمزامیر ... وما یکون منه وفیه الفساد محضاً ولا یکون فیه ولا منه شیءٌ من وجوه الصلاح فحرام تعلیمه والعمل به وأخذ الأجر علیه وجمیع التقلّب فیه من جمیع وجوه الحرکات کلّها »(3) .

وقد ورد فیها أیضاً حرمة صنعة التصاویر لذوات الأرواح ، حیث قال علیه السلام : « وصنعة صنوف التصاویر ما لم یکن مثل الروحانی »(4) .

ویعنی أنه ورد فیها حرمة صنعة صور الحیوان ، وکلّ صناعة تکون حراماً تکون جمیع وجوه الحرکات والتقلبات فیها حراماً ، ومن التقلبات اقتناؤها فیکون حراماً .

وفیه : أولاً : الروایة مرسلة لیس لها سنداً ، فلا یمکن الإستناد إلیها ، مضافاً إلی اضطراب متنها کما مرّ منّا فی أوّل هذا الکتاب .

وثانیاً : حرمة عمل التصویر لا یسری إلی الإقتناء ، فهما فعلان ربّما صدرا من

ص:362


1- (3) المکاسب المحرمة / 24 - (1 / 194) .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 120 .
3- (2) تحف العقول / 335 .
4- (3) تحف العقول / 335 .

فاعلین ، وعمل الصور فعل المصوِّر والروایات تدلّ علی حرمته إذا کانت الصورة لذات روح ، وأمّا سریان هذه الحرمة إلی اقتناء الصور فلا وجه لها ولا ملازمة بین الفعلین کما هو واضح .

وثالثاً : یمکن أن یناقش فی أنّ عمل الصور ممّا یجیء منه الفساد محضاً ، لأنّ کثیراً ما یترتب علیها المنافع المحلّلة والمباحة ، نحو : التعلیم والتعلّم وحفظ صور بعض الأعاظم والعلماء . فلا تدخل فی الحصر الوارد فی روایة تحف العقول ، وإذا لم یدخل عمل الصور فی

الحصر فبالطریق الاُولی لم یدخل الاقتناء فیه .

الرابع : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : بعثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی المدینة فقال : لا تدع صورة إلاّ محوتها ولا قبراً إلاّ سوّیته ولا کلباً إلاّ قتلته(1) .

والمعتبرة بظهورها تدلّ علی لزوم محو الصورة ، یعنی لا یجوز إبقاؤها واقتناؤها بل وجب إفناؤها وإمحاؤُها .

ونظیر هذه المعتبرة فی الدلالة خبر ابن القداح عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : بعثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی هدم القبور وکسر الصور(2) .

وروی البرقی الروایة الاُولی بسند معتبر ، والروایة الثانیة بسند حسن فی کتابه المحاسن(3) .

فالإشکال فی الروایتین بضعف السند - کما ورد فی مصباح الفقاهة(4) بالنسبة إلی الروایة الاُولی - غیر تام .

وفیه : أولاً : قرینة السیاق تقتضی حمل الأمر الوارد فی محو الصور علی الإستحباب وکراهة إبقائها .

ولکن یمکن أن یناقش فی هذا الردّ بعدم حجیة قرینة السیاق ، أعنی عدم وجودها .

ص:363


1- (1) وسائل الشیعة 5 / 306 ح 8 . الباب 3 من ابواب احکام المساکن .
2- (2) وسائل الشیعة 5 / 305 ح 7 .
3- (3) المحاسن 2 / 453 ح 34 و 35 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 235 .

فهذا الإشکال علی الإستدلال غیر تام .

وثانیاً : یمکن أن یقال : إنّ الروایتین واردتان فی قضیة خاصة شخصیّة مجهولة الخصوصیات ، فلا یمکن أن یُستدل بها فی المقام .

وبعبارة اُخری : إنّهما وردتا فی قضیة فی واقعة - أی واقعة شخصیّة - ولذا قال المحقق الإیروانی : « إنّ النبوی وارد فی موضوع شخصیّ ، فلعل تصاویر المدینة کانت أصناماً وکلابها مؤذیات وقبورها مسنّمات ... »(1) .

ولکن یمکن أن یناقش فی هذا الردّ أیضاً بأنّه خلاف ظاهر الروایة ، والظهور حجة فی العرف .

وثالثاً : وهی العمدة فی الإشکال : لو تمت دلالة الروایتین علی لزوم إمحاء الصور وإفنائها ، بقرینة الروایات الواردة فی تجویز اقتناء الصور تحملان علی الکراهة جمعاً بین الأخبار ، ولذا قال شیخنا الاُستاذ - مدظله - : « ... نعم نلتزم بحمل النهی عن إبقاء الصورة علی الکراهة ، لکن لا بقرینة السیاق بل للروایات الآتیة الظاهرة فی الترخیص فی اقتنائها »(2) .

الخامس : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن التماثیل هل یصلح أن یلعب بها ؟ قال : لا(3) .

روی البرقی نحوها بسند صحیح عن علی بن جعفر عن أخیه موسی علیه السلام أنّه سأل أباه عن التماثیل ؟ فقال : لا یصلح أن یلعب بها(4) .

ونظیرها مرفوعة المثنی ومضمرته قال : التماثیل لا یصلح أن یلعب بها(5) .

بتقریب : یتم الإستدلال بالروایة مع تمامیة الاُمور الثلاثة الآتیة :

ص:364


1- (5) حاشیة المکاسب 1 / 137 .
2- (1) إرشاد الطالب 1 / 129 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 298 ح 10 .
4- (3) المحاسن 2 / 458 ح 52 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 307 ح 15 .
5- (4) المحاسن 2 / 457 ح 51 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 5 / 307 ح 16 .

الأوّل : التماثیل الواردة فی الروایة مطلقة تشمل جمیع الصور ولا تنحصر بالتماثیل التی یلعب بها فی الشطرنج .

الثانی : ظهور کلمة « لا یصلح » فی الحرمة .

الثالث : أنّ اللعب لا خصوصیة له ، والمراد بحرمته حرمة جمیع التصرفات والتقلبات فی الصور ، ومنها : اقتناؤها .

وفیه : یمکن أن یناقش فی جمیع الاُمور الثلاثة :

أمّا الأوّل : فبأنّ اللعب بالتماثیل غیر معهود إلاّ فی الشطرنج ، ولا أقل من احتمال إختصاصها ، فإذا جاء الإحتمال بطل الاستدلال .

وأمّا الثانی : فبعدم ظهور کلمة « لا یصلح » فی الحرمة ، بل هی فی الکراهة أظهر من

الحرمة .

وأمّا الثالث : فحرمة اللعب أعم من حرمة الإقتناء ، لأنّه یمکن أن تقنی الصور ولا یلعب بها ، ولا ملازمة بینهما .

لا یقال : صحیحة اُخری لعلی بن جعفر تدلّ علی تعارف اللعب بمطلق الصور والتماثیل ولا ینحصر اللعب بالتماثیل الشطرنجیة ، روی علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : سألته عن البیت فیه صورة سمکة أو طیر أو شبهها ، یعبث به أهل البیت ، هل تصلح الصلاة فیه ؟ فقال : لا حتّی یقطع رأسه منه ویفسد ، وإن کان قد صلّی فلیست علیه إعادة(1) .

لأنّا نقول : نعم ، الصحیحة تدلّ علی تعارف أو إمکان اللعب بمطلق الصور والتماثیل کما اعترف به بعض أساتیذنا - مدظله -(2) ولکن لا تدل علی حرمة اللعب بها ، بل تدل علی کراهة الصلاة فی مکان یوجد فیه صورة أو تمثال لم یقطع رأسه أو لم یفسد ، وبینهما برزخ لا یبغیان .

السادس : موثقة أو صحیحة أبی العباس عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل :

ص:365


1- (1) وسائل الشیعة 5 / 173 ح 12 . الباب 32 من أبواب مکان المصلی .
2- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 651 .

«یَعْمَلُونَ لَهُ مَا یَشَاءُ مِنْ مَحَارِیبَ وَتَمَاثِیلَ»(1) فقال : واللّه ما هی تماثیل الرجال والنساء ولکنّها الشجر وشبهه(2) .

بتقریب : أنه أنکر الإمام علیه السلام إنشاء سلیمان علیه السلام تمثال الرجال والنساء وأنّ الجن لم یعملوا له ذلک ، و من المعلوم أنّ عمل الصور وإحداثها للأجنة وعمل النبی سلیمان علیه السلام إقتنائها ، حیث أنّ الإمام أنکر إحداث الصور الحیوانیة بأمر سلیمان علیه السلام ، فهذا الإنکار یشمل إقتناء هذه الصور أیضاً ، فیدل علی حرمة الإقتناء .

وفیه : ظهور الصحیحة فی حرمة عمل الصور الحیوانیة واضح ، لأن النبی سلیمان علیه السلام أمر بالصور ولیس للأجنة التخطی عن أمره ، کما یشهد بذلک قوله تعالی : «فَلَمَّا قَضَیْنَا عَلَیْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَی مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْءَرْضِ تَأْکُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ الْغَیْبَ مَا لَبِثُوا فِی الْعَذَابِ الْمُهِینِ»(5) .

وحیث کان الآمر والمسبِّب هنا أقوی من المباشر ، فیستند عمل الصور إلیه ، ولذا نفی الإمام علیه السلام کون هذه الصور من الصور الحیوانیة وحملها علی غیرها . هذا کلّه أولاً .

وثانیاً : علی فرض تسلیم ظهورها فی الإقتناء لا تدل الصحیحة علی حرمة اقتنائها ، وغایة الأمر أنّ النبی سلیمان علیه السلام لم یقتن هذه الصور ، لأنّها من الاُمور اللاهیة وغیر اللائقة بمنصب رجال الدین والعلماء فضلاً عن مقام النبوة ، وأین هذا من الحرمة ؟ !

السابع : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا بأس بأن تکون التماثیل فی البیوت إذا غیّرت رؤوسها منها وترک ما سوی ذلک(3) .

بتقریب : أنّ الصحیحة بمفهومها تدل علی حرمة اقتناء الصور والتماثیل فی البیوت إذا لم یغیّر رؤوسها ، وهذا الاستدلال مبنی علی أمرین :

1 - عدم خصوصیة للبیت الذی یصلی فیه غالباً .

ص:366


1- (3) سورة سبأ / 13 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 295 ح 1 .
3- (1) سورة سبأ / 14 .

2 - کون البأس ظاهراً فی الحرمة .

وفیه : أولاً : یمکن أن ندعی بأنّ للبیت الذی یصلی فیه خصوصیة ، ولذا أفتی المشهور بکراهة الصلاة فی البیت الذی فیه الصور والتماثیل .

وثانیاً : البأس - وإن کان ظاهراً فی الحرمة - ولکن فی المقام لابدّ أن نرفع الید عن هذا الظهور ، بقرینة الروایات المجوِّزة الواردة فی اقتناء الصور .

الثامن : خبر المثنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أن علیّاً کره الصور فی البیوت(1) .

وخبر حاتم بن إسماعیل عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ علیّاً کان یکره الصورة فی البیوت(2) .

بتقریب : أنّ الکراهة فی لسان الأئمة علیهم السلام تحمل علی الحرمة لا الکراهة المصطلحة ، مضافاً إلی ما ورد فی ذیل صحیحة سیف التمار عن أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : ... ولم یکن علی علیه السلام یکره الحلال(3) .

فإذا لم یکن اقتناء الصور حلالاً کان حراماً .

وفیه : أولاً : خبر المثنی وحاتم کلاهما ضعیفا السند ، فلم یثبت بهما کراهة أمیر المؤمنین علیه السلام للصور .

وثانیاً : یمکن وجود الخصوصیة فی البیت لمکان الصلاة فیه .

وثالثاً : علی فرض تمامیة استنتاج الحرمة من الروایتین ، لابدّ وأن یحملان علی الکراهة جمعاً بینها وبین الروایات المجوِّزة الواردة فی اقتناء الصور .

التاسع : مرسلة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ربّما قمت اُصلّی وبین یدی وسادة فیها تماثیل طائر فجعلت علیه ثوباً ، وقال : قد اُهدیت إلیّ طنفسة من الشام فیها تماثیل طائر فأمرت به فغیّر رأسه فجعل کهیئة الشجر ، وقال : إنّ الشیطان أشدّ ما یهمّ بالإنسان إذا کان وحده(4) .

ص:367


1- (2) وسائل الشیعة 5 / 308 ح 3 .
2- (3) وسائل الشیعة 5 / 304 ح 3 .
3- (4) وسائل الشیعة 5 / 307 ح 14 .
4- (1) وسائل الشیعة 5 / 309 ح 7 .

الطنفسة : بالمثلثة فی الطاء والفاء ، البساط والحصیر والثوب ، جمعه طنافس .

بتقریب : أن أمر الإمام علیه السلام فی الطنفسة التی اُهدیت إلیه بتغییر رأس الصورة وجعلها کهیئة الشجر ، فهذا الأمر یدلّ علی حرمة إبقاء الصورة والتمثال من غیر تغییر فیهما ، وإلاّ لم یأمر الإمام علیه السلام بهذا التغییر .

وفیه : أولاً : الروایة مرسلة لا یمکن الاستناد إلیها .

وثانیاً : أمر الإمام بهذا التغییر کفعله علیه السلام لا تدلّ علی وجوب التغییر ولا علی حرمة اقتناء الصور ، بل لعلّه أمر الإمام علیه السلام بهذا التغییر لوجود الحزازة فی اقتناء الصور الذی لا یناسب شأنه ، کما مرّ فی قضیة النبیّ سلیمان علیه السلام ، ومن البدیهی أنّ الفعل فی مورد خاص لا یدلّ علی الوجوب .

وثالثاً : من الممکن أنّ الطنفسة کانت فی البیت الذی یصلی الإمام علیه السلام فیه ولذا أمر بهذا التغییر لکراهة الصلاة فی البیت الذی فیه التماثیل ، کما یشهد لذلک صدر المرسلة .

فهذه تسعة أدلة اُقیمت علی حرمة الإقتناء ، وقد عرفت عدم تمامیتها وأنَّ جمیعها قابلة للمناقشة ، ولو سلّم ظهورها وتمامیتها فی حرمة الاقتناء فهی معارضة بما هی أظهر وأکثر ، أعنی الروایات المجوِّزة ، فلا بدّ من حمل الأدلة الماضیة علی الکراهة جمعاً بینها وبین الروایات المجوّزة الآتیة آنفاً إن شاء اللّه تعالی .

الروایات الدالة علی جواز اقتناء الصور والتماثیل

الروایات الواردة فی الجواز کثیرة نذکر لک بعضها :

فمنها : 1 - صحیحة الحلبی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ربّما قمت فاُصلی وبین یدی الوسادة فیها تماثیل طیر ، فجعلت علیها ثوباً(1) .

2 - ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی علیه السلام قال : سألته عن مسجد یکون فیه تصاویر وتماثیل ، یصلّی فیه ؟ فقال : تکسر رؤوس التماثیل وتلطخ رؤوس التصاویر

ص:368


1- (1) وسائل الشیعة 5 / 170 ح 2 . الباب 32 من أبواب مکان المصلی .

ویصلی فیه ولا بأس . قال : وسألته عن الخاتم یکون فیه نقش تماثیل سبع أو طیر أیصلّی فیه ؟ قال : لا بأس(1) .

3 - ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : سألته عن البیت فیه صورة سمکة أو طیر أو شبهها یعبث به أهل البیت ، هل تصلح الصلاة فیه ؟ فقال : لا حتّی یقطع رأسه منه ویفسد ، وإن کان قد صلّی فلیست علیه إعادة(2) .

بتقریب : أنه قرر الإمام علیه السلام کون الصورة فی البیت ولعب أهل البیت بها ، فهذا التقریر یدلّ علی الجواز ، وإنّما أمر بقطع رأسه بجهة الصلاة فی مکان توجد فیه الصورة .

4 - ومنها : موثقة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الوسادة والبساط یکون فیه التماثیل ؟ فقال : لا بأس به یکون فی البیت ، قلت : التماثیل ؟ فقال : کلُّ شیءٍ یؤطأ فلا بأس به(3) .

إطلاقها تشمل تماثیل الحیوانات ، ولکن أجاز الإمام علیه السلام فیها غیر المجسَّمات منها فقط بقرینة إمکان وطئها .

5 - ومنها : خبر أبی بصیر قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّا نبسط عندنا الوسائد فیها التماثیل ونفترشها ، فقال : لا بأس بما یبسط منها ویفترش ویؤطا ، إنّما یکره منها ما نصب علی

الحائط والسریر(4) .

والاستدلال بالفقرة الاُولی من جواب الإمام علیه السلام ، والفقرة الثانیة بنظرنا ظاهرة فی الحرمة ، لأنّ الکراهة فی لسان الأئمة علیهم السلام ظهورها فی الحرمة واضح کما مرّ منّا مراراً ، ولکن بقرینة غیرها من الروایات المجوِّزة تحمل علی الکراهة .

6 - ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : وسألته عن رجل کان فی بیته تماثیل أو فی ستر ولم یعلم بها وهو یصلی فی ذلک البیت ثم علم ، ما علیه ؟ قال : لیس علیه فیما لا

ص:369


1- (2) وسائل الشیعة 5 / 172 ح 10 .
2- (3) وسائل الشیعة 5 / 173 ح 12 .
3- (4) وسائل الشیعة 5 / 308 ح 2 . الباب 4 من أبواب أحکام المساکن .
4- (1) وسائل الشیعة 17 / 296 ح 4 . الباب 94 من أبواب ما یکتسب به .

یعلم شیء فإذا علم فلینزع الستر ولیکسر رؤوس التماثیل(1) .

وتقریر الإمام علیه السلام فی أصل وجودها فی البیت یدلّ علی جواز اقتناؤها ، والأمر بالکسر والنزع لأجل الصلاة .

7 - ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا بأس بأن تکون التماثیل فی البیوت إذا غیّرت رؤوسها منها وترک ما سوی ذلک(2) .

بقرینة الروایات الاُخری یحمل ثبوت البأس فیها بل بلحاظ إقامة الصلاة ، وأمّا فی غیر موضع الصلاة فلا بأس باقتنائها حتّی مع عدم التغییر فیها .

8 - ومنها : صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أحدهما علیهماالسلام عن التماثیل فی البیت ؟ فقال : لا بأس إذا کانت عن یمینک وعن شمالک وعن خلفک أو تحت رجلیک ، وإن کانت فی القبلة فألق علیها ثوباً(3) .

9 - ومنها : صحیحة اُخری له قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام : اُصلّی والتماثیل قدّامی وأنا أنظر إلیها ؟ قال : لا ، إطرح علیها ثوباً ، ولا بأس بها إذا کانت عن یمینک أو شمالک أو خلفک أو تحت رجلک أو فوق رأسک ، وإن کانت فی القبلة فألق علیها ثوباً وصلّ(4) .

10 - ومنها : صحیحة بسندیها ثالثة له عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا بأس بالتماثیل أن تکون عن یمینک وعن شمالک وخلفک وتحت رجلیک ، فإن کانت فی القبلة فألق علیها ثوباً إذا

صلّیت(5) .

11 - ومنها : صحیحة رابعة له عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا بأس أن تصلی علی کلّ التماثیل إذا جعلتها تحتک(6) .

ص:370


1- (2) وسائل الشیعة 4 / 441 ح 20 . الباب 45 من أبواب لباس المصلی .
2- (3) وسائل الشیعة 5 / 308 ح 3 . الباب 4 من أبواب أحکام المساکن .
3- (4) وسائل الشیعة 4 / 436 ح 1 .
4- (5) وسائل الشیعة 4 / 438 ح 6 .
5- (1) وسائل الشیعة 5 / 173 ح 11 . الباب 32 من أبواب مکان المصلی .
6- (2) وسائل الشیعة 4 / 439 ح 10 - الباب 45 من أبواب لباس المصلی .

12 - ومنها : صحیحة خامسة له قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یصلی وفی ثوبه دراهم فیها تماثیل ؟ فقال : لا بأس بذلک(1) .

13 - ومنها : صحیحة سادسة له عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال له رجل : رحمک اللّه ما هذه التماثیل التی أراها فی بیوتکم ؟ فقال : هذا للنساء أو بیوت النساء(2) .

14 - ومنها : خبر جعفر بن بشیر عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کانت لعلی بن الحسین علیه السلام وسائد وأنماط فیها تماثیل یجلس علیها(3) .

15 - ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن الدراهم السود تکون مع الرجل وهو یصلی مربوطة أو غیر مربوطة ؟ فقال : ما أشتهی أن یصلی ومعه هذه الدراهم التی فیها التماثیل ، ثم قال علیه السلام : ما للناس بدّ من حفظ بضائعهم ، فإن صلی وهی معه فلتکن من خلفه ولا یجعل شیئاً منها بینه وبین القبلة(4) .

16 - ومنها : صحیحة حماد بن عثمان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الدراهم السود فیها التماثیل ، أیصلی الرجل وهی معه ؟ فقال : لا بأس بذلک إذا کانت مواراة(5) .

17 - ومنها : فی حدیث الأربعمائة عن علی علیه السلام قال : لا یسجد الرجل علی صورة ولا علی بساط فیه صورة ، ویجوز أن تکون الصورة تحت قدمیه أو یطرح علیها ما یواریها ، لا یعقد الرجل الدراهم التی فیها صورة فی ثوبه وهو یصلّی ، ویجوز أن تکون الدراهم فی همیان أو فی ثوب إذا خاف ویجعلها إلی ظهره(8) .

18 - ومنها : خبر لیث المرادی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : الوسائد تکون فی البیت فیها التماثیل عن یمین أو شمال ، فقال : لا بأس ما لم تکن تجاه القبلة ، فإن کان شیء منها بین

ص:371


1- (3) وسائل الشیعة 4 / 439 ح 9 .
2- (4) وسائل الشیعة 5 / 309 ح 6 . الباب 4 من أبواب أحکام المساکن .
3- (5) وسائل الشیعة 5 / 309 ح 4 .
4- (6) وسائل الشیعة 4 / 437 ح 3 .
5- (7) وسائل الشیعة 4 / 439 ح 8 .

یدیک ممّا یلی القبلة فغطّه وصلّ ، وإذا کانت معک دراهم سود فیها تماثیل فلا تجعلها من بین یدیک واجعلها من خلفک(1).

19 - ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أبیه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یصلح له أن یصلّی فی بیت علی بابه ستر خارج فیه تماثیل ، ودونه ممّا یلی البیت ستر آخر لیس فیه تماثیل ، هل یصلح له أن یرخی الستر الذی لیس فیه تماثیل ؟ هل یحوّل بینه وبین الستر الذی فیه التماثیل أو یجیف الباب دونه ویصلّی فیه ؟ قال : لا بأس .

وسألته عن الثوب یکون فیه تماثیل ، أو فی عَلَمه أیصلّی فیه ؟ قال : لا یصلّی فیه(2) .

روی الحمیری الفقرة الاُولی فی کتابه قرب الإسناد / 185 ح 689 .

والشاهد فی تقریر الإمام علیه السلام استعمال الستر الذی فیه تماثیل علی باب البیت .

20 - ومنها : صحیحة أبی الحسین محمد بن جعفر الأسدی فیما ورد علیه من الشیخ أبی جعفر محمد بن عثمان قدس سره فی جواب مسائله من صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشریف فی حدیث : وأمّا ما سألت عنه من أمر المصلی والنار والصورة والسراج بین یدیه هل تجوز صلاته ، فإن الناس اختلفوا فی ذلک قِبَلک ؟ فإنّه جائز لمن لم یکن من أولاد عبدة الأصنام أو عبدة النیران أن یصلّی والنار والصورة والسراج بین یدیه ، ولا یجوز ذلک لمن کان من أولاد عبدة الأصنام والنیران ، الحدیث(3) .

دلالة هذه الروایات علی جواز اقتناء الصور واضحة ، والمتتبع یجد أکثر ممّا ذکرناه هنا ، فإن شئت فی هذا المجال راجع وسائل الشیعة 4 / 436 الباب 45 من أبواب لباس المصلی ، و 5 / 170 الباب 32 من أبواب مکان المصلی ، و 5 / 308 الباب 4 من أبواب أحکام المساکن وباب قبله ، و 17 / 295 الباب 94 من أبواب ما یکتسب به .

تنبیه: جواز المعاملة علی الصور والتماثیل

تنبیه : فإذا جاز إقتناء الصور والتماثیل والإنتفاع بها فی التعلیم والتزیین ، جاز

المعاملة علیها ، لأنّ لها منافع مقصودة محلّلة توجب مالیتها ، فیجوز بیعها والمعاملة علیها علی

ص:372


1- (1) وسائل الشیعة 4 / 438 ح 5 .
2- (2) وسائل الشیعة 4 / 439 ح 11 .
3- (3) المحاسن 2 / 457 ح 49 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 4 / 440 ح 16 .

ما هو مقتضی إطلاقات التجارة والمعاملة ، کما علیه المحققون من أصحابنا قدس سرهم .

ولذا قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر قدس سره : « وفی جواز بیع الصورة واقتنائها واستعمالها والإنتفاع بها والنظر إلیها مع بقائها علی حالها وجهان ، أقربهما ذلک . وفی الأخبار ما یدلّ علی منعه ، وحمله علی الکراهة - لأنّه خلاف الأصل وظاهر الأکثر - أقوی ، ولیس ممّا صنع للحرام حتّی یلزمه إتلافه بل من الصنع الحرام »(1) .

واختاره الفاضل النراقی قدس سره وقال : « وهل یجوز ابتیاع ما یحرم عمله أو ما فیه ذلک ؟ الأقوی : نعم ، للأصل ، إلاّ إذا کان إعانة علی عمله فیحرم ... »(2) .

والسید جواد العاملی قدس سره قال : « فقد تحصّل أنّه یجوز اقتناء ذی الصورة وبیعه والانتفاع به علی کراهیة ، إذ لیس هو ممّا صنع للحرام حتّی یلزم إتلافه ، بل هو من الصنع الحرام ، فلیلحظ ذلک ولیتأمل فیه »(3) .

وصاحب الجواهر قدس سره قال : « وأما بیعها واقتناؤها واستعمالها والانتفاع بها والنظر إلیها ونحو ذلک ، فالأصل والعمومات والإطلاقات تقتضی جوازه ، وما یشعر به بعض النصوص من حرمة الإبقاء - کأخبار عدم نزول الملائکة ونحوها - محمول علی الکراهة ، أو غیر ذلک . خصوصاً مع أنّا لم نجد من أفتی بذلک عدا ما یحکی من الأردبیلی من حرمة الإبقاء . ویمکن ، دعوی الإجماع علی خلافه ... »(4) .

والفقیه الیزدی قدس سره بعد اختیار جواز الاقتناء قال : « بناءً علی جواز الاقتناء لا إشکال فی جواز بیع الصور المجسَّمة وإن کان لا مالیة لموادها إلاّ بلحاظها ، وکذا فی جواز بیع محالّ النقوش کالثیاب والستور وإن کان بعض الثمن لأجلها ... »(5) .

ص:373


1- (1) شرح القواعد 1 / 190 .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 111 .
3- (3) مفتاح الکرامة 4 / 49 - (12 / 165) .
4- (4) الجواهر 22 / 44 .
5- (5) حاشیة المکاسب 1 / 122 .

وتبعهم جماعة من الأعلام منهم : المحققون الخوئی فی مصباح الفقاهة(1) والخمینی فی المکاسب المحرمة(2) والسبزواری فی مهذب الأحکام(3) وشیخنا الاُستاذ - مدظله - فی إرشاد الطالب(4) وبعض أساتیذنا - مدظله - فی دراساته(5) وصاحب عمدة المطالب(6) - دامت برکاته - .

تذییل: هل یجوز النظر إلی صورة الأجنبیة

تذییل : هل یجوز النظر إلی الصورة أو التمثال إذا کان بین الناظر والمنظور إلیه اختلاف فی الجنس ؟ فهل یجوز النظر إلی صورة الأجنبیة أم لا ؟

فیه وجوه بل أقوال :

1 - حرمة النظر إلی صورة الأجنبیة ، لأنّ الصورة مرآة لذیها ، و إذا حرم النظر إلیها حرم النظر إلی مرآتها وصورتها . وادعاء العلم بعدم الفرق بین المرأة وصورتها فی مسألة النظر فی العرف یعنی المسامحة العرفیة أو تنقیح المناط فی المقام ، ولعلّ هذا هو المشهور بین الأصحاب قدس سرهم ، واختاره المحقق الأردبیلی حیث قال : « ... فلا یبعد تحریم النظر إلی جاریة الغیر فی المرآة وکذا الأجنبی ، فتأمل »(7) .

وفیه : أولاً : حرمة النظر إلی المرأة لا تقتضی حرمة النظر إلی صورتها .

وثانیاً : ادعاء العلم بعدم الفرق صرف ادعاء ، والعرف یری الفرق بینهما بوضوح ، فالمسامحة العرفیة لا تجری هنا .

وثالثاً : تنقیح المناط هنا لیس من القطعیات ، فلا یجری فی المقام .

ولکن مع ذلک کلّه استشکل علی القول بالجواز بعض أساتیذنا - مد ظله -(8) .

ص:374


1- (6) مصباح الفقاهة 1 / 240 .
2- (1) المکاسب المحرمة 1 / 197 .
3- (2) مهذب الأحکام 16 / 85 .
4- (3) إرشاد الطالب 1 / 132 .
5- (4) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 661 .
6- (5) عمدة المطالب 1 / 175 .
7- (6) مجمع الفائدة والبرهان 10 / 324 .
8- (7) دراسات فی المکاسب المحرمة 2 / 637 .

2 - ما ثبت فی الشریعة المقدسة من حرمة النظر إلی الأجنبیة ، وأمّا النظر إلی صورتها فی الماء أو المرآة أو نفس الصورة (عکس) أو صورتها فی الأفلام أو تمثالها ونحوها - حیث لم یصدق أنّه نظر إلیها بل نظر إلی صورتها - فلیس لنا دلیل یثبت به حرمة النظر إلی الصورة .

والفرق بین الصورة وذیها واضح ، فحینئذ یجوز النظر إلی صورتها مطلقاً ، أعنی لا فرق فی ذلک بین معروفیتها عنده وعدمه ، ولا فرق بین البرامج المباشرة وغیر المباشرة وهذا هو المختار ، ویقتضیه الأصل العملی فی المقام ، وهو البراءة .

نعم ، النظر إلی صورة الأجنبیة إذا وصل إلی حدّ الریبة والتلذذ الجنسی فالأحوط هو الترک وإن کان الجواز لا یخلو من قوة .

وممّن وافقنا علی ذلک جمع من محققی أصحابنا قدس سرهم ، منهم : المحقق الثانی فی حاشیته علی الإرشاد قال : « ... ولا دلیل علی تحریم النظر إلی الصور المجسَّمة »(1) .

والسید العاملی یقول : « وقد یُستفاد من ذلک أنّه لا یحرم النظر بدون شهوة إلی صورة النساء المنقوشات علی الجدران ونحوها ولا إلی صورة المرأة المخصوصة إذا قوبلت بالمرآة ، کما یرشد إلی ذلک خبر الخنثی ، فلیتأمل . لکن قد فهم المقدس الأردبیلی من التذکرة فی باب الودیعة أن مجرد النظر فی کتاب الغیر والنسخ منه تصرف وإن لم یفتحه ولم یضع یده علیه وأنّه لیس کالجلوس تحت حائط الغیر ، وفرّع علی ذلک أنّه لا یجوز النظر إلی جاریة الغیر والأجنبیة فی المرآة ، والماء فلیلحظ ذلک »(2) .

وقال صاحب الجواهر : « ومن ذلک یظهر لک جواز النظر إلی الصورة فی المرآة ونحوها مع عدم الشهوة ، إذ إحتمال الفرق بالخصوصیة وعدمها لا وجه له کما هو واضح ، واللّه أعلم » (3) .

وقال الفقیه الیزدی قدس سره : « لا ینبغی الإشکال فی جواز النظر إلیها ولو کانت صورة

ص:375


1- (1) حاشیة إرشاد الأذهان / 319 المطبوعة ضمن حیاة المحقق الثانی وآثاره ، المجلد التاسع فی عام 1423 بتحقیق العلامة الشیخ محمد الحسون .
2- (2) مفتاح الکرامة 4 / 49 - (12 / 165) .
3- (3) الجواهر 22 / 44 .

إنسان مخالف للناظر فی الذکورة والأنوثة ، ولا فرق فی ذلک بین عورتها وغیرها ، وبین کون النظر شهوة أولا ، وبین کون الصورة لشخص معین وغیره »(1) .

ولکن مع ذلک أفتی فی عروته بحرمة النظر فی المرآة والماء الصافی حتّی مع عدم التلذذ ، قال : « الظاهر حرمة النظر إلی ما یحرم النظر إلیه فی المرآة والماء الصافی مع عدم التلذذ ، وأمّا

معه فلا إشکال فی حرمته »(2) .

أقول : لم یکن بین القولین مناقضة ، بل نظره العلمی ما کتب فی الحاشیة ولکن فی مقام العمل والإفتاء احتاط ، والاحتیاط فی العمل هو دیدن الفقهاء والأصحاب ومن الواضح أنّه طریق النجاة .

وقال المحقق الإیروانی قدس سره : « لا إشکال فی جواز النظر إلیها وإن کانت الصورة أجنبیّة »(3) .

وقال الفقیه السبزواری قدس سره : « لا بأس بالنظر إلی صورة الإنسان وتماثیلهم وإن اختلفت مع الناظر فی الذکورة والاُنوثة ، للأصل بعد عدم دلیل علی الخلاف »(4) .

أقول : نعم إذا صار النظر إلی صور الأجنبیة أو أفلامها موجباً لإشاعة الفحشاء والمنکر فی المجتمع ، یکون حراماً ، فالنظر إلی الصور والأفلام الخلاعیّة من هذه الجهة حرام ، واللّه سبحانه هو العالم .

3 - التفصیل بین کونها معروفة معینة عند الناظر وعدمها ، فیحرم فی الأوّل ویجوز فی الثانی .

وبعد ثبوت واختیار القول الثانی فلا وجه لهذا التفصیل ، واللّه العالم .

تبصرة : هل یجوز أخذ الاُجرة علی عمل الصور الحیوانیة بالإجارة أو الجعالة

ص:376


1- (4) حاشیة المکاسب 1 / 123 .
2- (1) العروة الوثقی - کتاب الصلاة . فصلٌ فی الستر والساتر . المسألة الثانیة . 1 / 415 طبع بیروت عام 1410 .
3- (2) حاشیة المکاسب 1 / 134 .
4- (3) مهذب الأحکام 16 / 87 .

ونحوهما أو لا یجوز ؟

الظاهر حرمة أخذ الاُجرة علی عمل الصور المحرّمة مطلقاً ، سواء أخذت بعقد الاجارة أو الجعالة أو غیرهما ، وسواء صدقت الإعانة علی الإثم أو لم تصدق . لأنه إذا صار العمل باطلاً فی الشریعة فلا یقابله مالٌ وأخذ الاُجرة علیه حرام ، ومن هنا اختلف حکم الإجارة والبیع فی الصور کما لا یخفی .

ولکن قال الفاضل النراقی : « وأمّا أجر عمل المحرّم من الصور فالظاهر من کلماتهم الحرمة ، فإن ثبت الإجماع فیه بخصوصه أو فی أجر کلّ محرّم فهو المتّبع ، وإلاّ ففی تحریم أخذه

نظر ، وإن کان إعطاؤه محرّماً لکونه إعانة علی الإثم »(1) .

وردّ علیه الفقیه الیزدی قدس سره وقال : « لا إشکال فی حرمة أخذ الاُجرة علی عمل الصور المحرّم ، سواء کان بعقد الإجارة أو الجعالة أو غیرهما ، لما مرّ من قوله علیه السلام : « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنه » وغیره ، ولکن استشکل فی ذلک فی المستند لو لا إجماع ، ... (ثمّ نقل مقالة النراقی بتمامها ، ثمّ قال :) ولا یخفی ما فیه ، مع أنّ الإجماع علی کُلی القاعدة أیضاً متحققٌ ، کما لا یخفی علی الناظر فی کلماتهم فی جزئیاتها »(2) .

واختار المحقق الخمینی قدس سره أیضاً الحرمة وقال : « إنّ أخذ الاُجرة علی التصویر المحرّم غیر جائز ، لأنّ الإجارة لذلک حرام وفاسد ، لما ذکرناه فیما سلف من أنّ الفعل المحرَّم الذی یجب علی الناس منع الفاعل عنه بإدلة النهی عن المنکر لا یکون محترماً ومالاً ، ولهذا لا یضمن المانع عنه اُجرة المثل للعمل بلا شبهة ، فلو منع مانع عبد غیره من عمل الصورة المجسَّمة لا یکون ضامناً ، فلا یکون ذلک العمل مالاً لدی الشارع ، فلا یجوز أخذ الأجر علیه ویکون الأخذ أکلاً للمال بالباطل »(3) .

ص:377


1- (1) مستند الشیعة 14 / 111 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 124 .
3- (3) المکاسب المحرمة 1 / 197 .

التطفیف والبخس

الکلمتان فی اللغة

هاتان الکلمتان فی اللغة تدل علی التقلیل والنقص کما نص علیه أربابه :

ففی الصحاح : « الطفیف : القلیل ... والتطفیف : نقص المکیال(1) .

« والبخس : الناقص ، یقال : شروه بثمن بخس ، وقد بخسه حقّه یبخسه : إذا نقصه »(2) .

وفی لسان العرب : « التطفیف فی المکیال : أن یقرب الإناء من الامتلاء ... وطفّف علی الرجل : إذا أعطاه أقل ممّا أخذ منه . والتطفیف : البخس فی الکیل والوزن ونقص المکیال ،وهو أن لا تملأه إلی إصباره ... فأمّا قوله تعالی : «وَیْلٌ لِّلْمُطَفِّفِینَ» . فقیل : التطفیف : نقص یخون به صاحبه فی کیل أو وزن ... قال أبواسحاق : المطفّفون : الذین ینقصون المکیال والمیزان ، قال : وإنّما قیل للفاعل « مطفّف » لأنّه لا یکاد یسرق فی المکیال والمیزان إلاّ الشیء الخفیف الطفیف ، وإنّما أخذ من طفّ الشیء وهو جانبه ...»(3) .

« والبخس : النقص ، بخس یبخسه بخساً : إذا نقصه »(4) .

وفی معجم مقاییس اللغة : « طف ، الطاء والفاء یدلّ علی قلّة الشیء ، یقال : هذا شیءٌ طفیف ... والتطفیف : نقص المکیال والمیزان . وقال بعض أهل العلم : إنّما سمی بذلک لأن الذی ینقصه منه یکون طفیفاً»(5) .

« بخس : الباء والخاء والسین أصل واحد وهو النقص ، قال اللّه تعالی : «وَشَرَوْهُ

ص:378


1- (1) الصحاح 4 / 1395 .
2- (2) الصحاح 3 / 907 .
3- (3) لسان العرب 9 / 221 و 222 .
4- (4) لسان العرب 6 / 24 .
5- (5) معجم مقاییس اللغة 3 / 405 .

بِثَمَنٍ بَخْسٍ»أی نقص . ومن هذا الباب قوله فی المخّ : بَخَّسَ تَبخیساً : إذا صار فی السُّلامی والعین ، وذلک حین نقصانه وذهابه من سائر البدن ... »(6) .

وفی أساس البلاغة للزمخشری : « ط ف ف - قتل الحسین علیه السلام بطَفِّ الفرات وهو شاطئه وما ارتفع من جانبه . وخذ ما طفّ لک واستطفَّ : ما ارتفع لک ... وأعطانی طفاف المکیال وطُِفافه وطَففه وطَفَّه : مقداره الناقص عن ملئه ، ... وطفَّف المکیال وشیءٌ طفیفٌ : قلیل »(1) .

« ب خ س : بَخَسَ الکیَّالی مکیالَه »(2) .

وفی المصباح المنیر للفیومی : الطَفِیفُ : مثل القلیل وزناً ومعنیً ، ومنه قیل لتطفیف المکیال والمیزان تطفیفٌ ، وقد طَفَّفَهُ فهو مُطَفِّفٌ إذا کالَ أو وَزَنَ ولَمْ یُوفِ ...»(3) .

« بخسه : بَخْساً من باب نَفَعَ ، نَقَصَهَ أو غابَهُ ، ویَتَعَدَّی إلی مفعولین ، وفی التنزیل «وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْیَاءَهُمْ» ، وبَخَسْتُ الکیلَ بخساً : نَقَصْتُهُ ، وثمن بخس : ناقص»(4) .

وفی مفردات الراغب : « الطفیف : الشیء النزر ، ومنه الطفافة لما لا یتعدّ به ، وطفَّف الکیل : قلّل نصیب المکیل له فی إیفائه واستیفائه»(5) .

« البخس : نقص الشیء علی سبیل الظلم ...»(6) .

وقد أنهی النقل عن أرباب اللغة بکلام فصل لشیخ الطائفة قدس سره فی تفسیره التبیان حیث قال : « المطّفف : المَقللِّ حقَّ صاحبه بنقصانه عن الحقِّ فی کیل أو وزن . والطفیف : النزر القلیل ، وهو مأخوذ من طفّ الشیء وهو جانبه . والتطفیف : التنقیص علی وجه الخیانة فی

ص:379


1- (1) معجم مقاییس اللغة 1 / 205 .
2- (2) أساس البلاغة / 281 .
3- (3) أساس البلاغة / 16 .
4- (4) المصباح المنیر / 374 .
5- (5) المصباح المنیر / 37 .
6- (6) المفردات / 314 .

الکیل أو الوزن »(1) .

وقد ظهر لک ممّا ذکرنا من کلمات أرباب اللغة وبیان شیخ الطائفة قدس سره عدم تمامیة ما ذکره المحقق الإیروانی قدس سره فی تعلیقته علی الکتاب حیث یقول : « إنّ الظاهر بل المقطوع به أنّ التطفیف بنفسه لیس عنواناً من العناوین المحرّمة - أعنی الکیل بالمکیال الناقص - وکذا

البخس فی المیزان مع وفاء الحق کاملاً ، کما إذا کان ذلک لنفسه أو تمّم حقّ المشتری من الخارج أو أراد المقاصّة منه أو نحو ذلک »(2) .

ووجه عدم تمامیته : أنّ المأخوذ فی التطفیف والبخس لغة هو الأخذ من طفّ المال یعنی القلیل منه أو إعطاء صاحب الحقّ إلاّ قلیلاً منه ، علی سبیل الظلم والجنایة والسرقة وعدم الوفاء بالحقِّ لصاحبه ، أعنی أن عنوان الظلم والخیانة والسرقة مستتر فی التطفیف والبخس . ومن المعلوم أنّ کلّ ما صدق هذا العنوان صدق الحرام أیضاً فما ذکره قدس سره لم یکن تطفیفاً أو بخساً أصلاً ، لا أنّه تطفیف أو بخس ولم یکن حراماً .

أدلة حرمة التطفیف :

تدل علی حرمة التطفیف والبخس الأدلة الأربعة :

1 - فمن الکتاب الآیات المتعددة منها :

قوله تعالی فی سورة الأعراف : «وَإِلَی مَدْیَنَ أَخَاهُمْ شُعَیْباً قَالَ یَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَکُم مِّنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ قَدْ جَاءتْکُم بَیِّنَةٌ مِّن رَّبِّکُمْ فَأَوْفُواْ الْکَیْلَ وَالْمِیزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْیَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِی الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَّکُمْ إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(3) .

وقوله تعالی فی سورة هود : «وَإِلَی مَدْیَنَ أَخَاهُمْ شُعَیْباً قَالَ یَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَکُم مِّنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِکْیَالَ وَالْمِیزَانَ إِنِّیَ أَرَاکُم بِخَیْرٍ وَإِنِّیَ أَخَافُ عَلَیْکُمْ عَذَابَ یَوْمٍ مُّحِیْطٍ * وَیَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِکْیَالَ وَالْمِیزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْیَاءهُمْ وَلاَ

ص:380


1- (7) المفردات / 35 .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 137 .
3- (2) سورة الأعراف / 85 .

تَعْثَوْاْ فِی الأَرْضِ مُفْسِدِینَ»(1) .

وقوله تعالی فی سورة الشعراء نقلاً عن شعیب النبی علیه السلام أیضاً : «أَوْفُوا الْکَیْلَ وَلاَ تَکُونُوا مِنَ الُْمخْسِرِینَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِیمِ * وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْیَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِی الاْءَرْضِ مُفْسِدِینَ»(2) .

وقوله تعالی فی سورة المُطفّفین : «وَیْلٌ لِّلْمُطَفِّفِینَ * الَّذِینَ إِذَا اکْتَالُواْ عَلَی النَّاسِ

یَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا کَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ یُخْسِرُونَ * أَلاَ یَظُنُّ أُولَئِکَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِیَوْمٍ عَظِیمٍ * یَوْمَ یَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِینَ»(3) .

وقوله تعالی فی سورة الرحمن : «وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِیزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِی الْمِیزَانِ * وَأَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِیزَانَ»(4) .

2 - ومن السنة الروایات الکثیرة الدالة علی حرمتهما :

منها : خبر صفوان بن مهران الجمّال قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ فیکم خصلتین هلک بهما مَنْ قبلکم مِنَ الاُمم ، قالوا : وما هما یابن رسول اللّه ؟ قال : المکیال والمیزان(5) .

ومنها : صحیحة أبی حمزة الثمالی عن أبی جعفر علیه السلام قال : وجدنا فی کتاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا ظهر الزنا من بعدی کثر موت الفجاءة ، وإذا طفف المیزان والمکیال أخذهم اللّه بالسنین والنقص ، الحدیث(6) .

ومنها : صحیحة أبان الأحمر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : خمس إن أدرکتموهنَّ فتعوّذوا باللّه منهنّ : لم تظهر الفاحشة فی قوم قطّ حتّی یعلنوها إلاّ ظهر فیهم الطاعون والأوجاع التی لم تکن فی أسلافهم الذین مضوا ، ولم ینقصوا المکیال والمیزان إلاّ

ص:381


1- (3) سورة هود / 84 و 85 .
2- (4) سورة الشعراء / 181 و 182 و 183 .
3- (1) سورة المطففین / (6 - 1) .
4- (2) سورة الرحمن / (9 - 7) .
5- (3) وسائل الشیعة 17 / 393 ح 7 . الباب 7 من أبواب آداب التجارة .
6- (4) وسائل الشیعة 16 / 273 ح 2 . الباب 41 من أبواب الأمر والنهی .

اُخذوا بالسنین وشدّة المؤونة وجور السلطان ، الحدیث(1) .

ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث طویل ، قال : ورأیت الرجل معیشته من بخس المکیال والمیزان ، الحدیث(2) .

ومنها : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون جعل فی عداد الکبائر : « البخس فی المکیال والمیزان » ، الحدیث(3) .

ومنها : خبر الأعمش عن جعفر بن محمد علیه السلام - فی حدیث شرائع الدین - قال :

والکبائر محرّمة ، وهی الشرک باللّه - إلی أن قال علیه السلام : - والبخس فی المیزان والمکیال ، الحدیث(4) .

ومنها : صحیحة عمرو بن أبی المقدام عن أبی جعفر علیه السلام قال : کان أمیر المؤمنین علیه السلام عندکم بالکوفة ، یغتدی فی کلِّ یوم من القصر فیطوف فی أسواق الکوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرة علی عاتقه ، وکان لها طرفان وکانت تسمی السبیبة ، قال : فیقف علی أهل کلّ سوق فینادی فیهم : یا معشر التجار ، قدّموا الإستخارة وتبرکوا بالسهولة واقتربوا من المبتاعین وتزیّنوا بالحلم وتناهوا عن الیمین وجانبوا الکذب وتجافوا عن الظلم وأنصفوا المظلومین ولا تقربوا الربا «وَأَوْفُواْ الْکَیْلَ وَالْمِیزَانَ »(5) و «وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْیَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِی الأَرْضِ مُفْسِدِینَ»(6) . قال : فیطوف فی جمیع الأسواق - أسواق الکوفة - ثمّ یرجع فیقعد للناس . قال : وکانوا إذا نظروا إلیه قد أقبل إلیهم قال « یا معشر الناس » أمسکوا أیدیهم وأصغوا إلیه بآذانهم ورمقوه بأعینهم حتّی یفرغ من کلامه ، فإذا فرغ قالوا : السمع والطاعة یا أمیر المؤمنین(7) .

ص:382


1- (5) وسائل الشیعة 16 / 272 ح 1 .
2- (6) وسائل الشیعة 16 / 275 ح 6 .
3- (7) وسائل الشیعة 15 / 329 ح 33 . الباب 46 من أبواب جهاد النفس .
4- (1) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 .
5- (2) سورة الأنعام / 152 .
6- (3) سورة هود / 85 .
7- (4) مستدرک الوسائل 13 / 249 ح 1 . الباب 3 من أبواب آداب التجارة .

ومنها : خبر محمد بن سالم عن أبی جعفر علیه السلام - فی حدیث طویل - قال : إنّ اللّه لمّا أذن لمحمد صلی الله علیه و آله وسلم فی الخروج من مکة إلی المدینة أنزل علیه الحدود وقسمة الفرائض وأخبره بالمعاصی التی أوجب اللّه علیها وبها النار لمن عمل بها - إلی أن قال - : وأنزل فی الکیل : «وَیْلٌ لِّلْمُطَفِّفِینَ» ولم یجعل الویل لأحدٍ حتّی یسمّیه کافراً قال اللّه تعالی : «فَوَیْلٌ لِّلَّذِینَ کَفَرُوا مِن مَشْهَدِ یَوْمٍ عَظِیمٍ»(1) ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام فی ذیل قوله تعالی : «وَیْلٌ لِّلْمُطَفِّفِینَ» قال : نزلت علی نبی اللّه حین قَدِم المدینة ، وهم یؤمئذ أسوأ الناس کیلاً ، فأحسنوا الکیل ، وأمّا الویل فبلغنا - واللّه أعلم - أنّه بئرٌ فی جهنم(7) .

ومنها : مقطوعة ابن عباس فی قوله تعالی : «الَّذِینَ إِذَا اکْتَالُواْ عَلَی النَّاسِ یَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا کَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ یُخْسِرُونَ» قال : کانوا إذا اشتروا یستوفون بمکیال راجحٍ ، وإذا باعوا بخسوا المکیال والمیزان ، فکان هذا فیهم فانتهوا(3) .

تلک عشرة کاملة من الروایات الدالة بوضوح علی حرمة التطفیف والبخس .

3 - ومن العقل : من البدیهی أنّ تنقیص حقّ الناس وعدم الوفاء به ظلمٌ فی حقِّ الغیر ، والعقل حاکم بقبح الظلم ، والقاعدة الملازمة بین حکمی العقل والشرع بعد جریانها تدلّ علی حرمة التطفیف والبخس شرعاً .

4 - ومن الإجماع : فإنّه قائمٌ علی حرمتهما ، کما ادعاه العلاّمة فی تذکرة الفقهاء(4) .

وفیه : وجود الإجماع علی حرمة التطفیف والبخس - وإن کان لا ینکر - ولکن کون هذا الإجماع تعبدیّاً علی الحکم بعید فی الغایة ، ومن المحتمل جداً أنّ یکون مدرک المجمعین الأدلة الماضیة ، فعلی هذا صار الإجماع مدرکیّاً .

ص:383


1- (5) سورة مریم / 37 .
2- (6) وسائل الشیعة 1 / 34 ح 14 . الباب 2 من أبواب مقدمة العبادات .
3- (1) تفسیر القمی 2 / 410 ونقل عنه فی البرهان فی تفسیر القرآن 5 / 604 ح 2 .
4- (2) تفسیر القمی 2 / 410 ونقل عنه فی البرهان فی تفسیر القرآن 5 / 604 ح 3 .
هل المعاملة المطفَّف فیها صحیحةٌ أو فاسدة
اشارة

یقع الکلام فی مقامین :

المقام الأوّل : فی حکم البیع والمعاملة

صور هذه المعاملة ستة :

لأنّ المعاملة :

الف : قد تقع علی الکلی فی الذمّة .

ب : وقد تقع علی الکلی فی المعین الخارجی .

ج : وقد تقع علی الشخص المعین الموجود فی الخارج المشار إلیه بالإشارة الحسیّة ، هذا .

والعوضین إمّا أن یکونا من جنس واحد فیتطّرق فیهما الربا مع التفاوت وإمّا أن لا یکونا کذلک ، فصارت الصور ستة .

إذا وقعت المعاملة علی الکلی فی الذمّة : وطفف البائع ، صحت المعاملة ولم تفسد بالتطفیف أو البخس الخارجیین ، ولکن ذمة البائع مشغولةٌ بما نقص عن الحقّ . ولا فرق فی هذه الصورة بین کون المعاملة من جنس واحد أو من جنسین .

وهکذا الأمر إذا وقعت المعاملة علی الکلّی فی المعین الخارجی ، صحت المعاملة بلا إشکال ولکن ذمّة البائع مشغولة بما نقص من الحقّ ، بلا فرق بین کون المعاملة من جنس واحد أو من جنسین اللذین لم یتطرق فیهما الربا .

فهذا حکم أربع صور من الصور الست .

وأمّا إذا وقعت المعاملة علی الشخص المعین الموجود فی الخارج المشار إلیه بالإشارة الحسیة وکانا من الجنسین المختلفین :

الظاهر أنّ الصور المتصوَّرة فی المقام علی ثلاثة أقسام :

الأول : أن یکون إنشاء البیع معلقاً علی کون المبیع بوزنٍ خاصٍ ، بأن یقول « بعتک هذا المتاع الخارجی علی أن یکون مَنّاً » ، فظهر الخلاف والتنقیص . فهذه المعاملة باطلة ، لا من

ص:384

جهة تخلف الوصف ولا من جهة التطفیف أو البخس بل لقیام الإجماع علی بطلان التعلیق فی الإنشاء ، وحیث أن المعاملة والإنشاء وقعت معلَّقة فلذا کانت باطلة .

الثانی : أن ینشأ البیع منجَّزاً علی المتاع الخارجی بشرط کونه کذا مقداراً ثم یظهر الخلاف . ولا إشکال حینئذ فی صحته ، لأنَّ تخلّف الأوصاف غیر المقوّمة للصورة النوعیّة لا یوجب بطلان المعاملة ، بل غایة الأمر أنّه یوجب الخیار للمشتری .

الثالث : أن یکون مقصود البائع بیع الموجود الخارجی فقط ، وکان غرضه من الاشتراط الإشارة إلی تعیین مقدار العوضین ووقوع کلّ منهما فی مقابل الآخر بحیث یقسّط الثمن علی أجزاء المثمن . ففی هذه الصورة إذا ظهر الخلاف صح البیع فی المقدار الموجود وبطل فی غیره ، نظیر بیع ما یملک وما لایملک کالخنزیر مع الشاة والخمر مع الخل .

والظاهر حمل المعاملة علی هذه الصورة الثالثة الأخیرة ، لأنّ مقصود البائع من الاشتراط المذکور لیس إلاّ بیان مقدار المبیع ، من غیر تعلیق فی الإنشاء ولا اعتبار شرط فی المعاملة . وعلی ما ذکرناه صحت المعاملة بالنسبة إلی المقدار الموجود وبطلت بالنسبة إلی المقدار الناقص ، وللمشتری خیار تبعّض الصفقة ، کما ثبت فی محلّه .

هذا کله إذا لم یکن البیع ربویّاً ، یعنی کانا من الجنسین المختلفین .

وأمّا إذا وقعت المعاملة علی الشخص المعین الموجود فی الخارج المشار إلیه بالإشارة

الحسیّة وکانا من الجنس الواحد بحیث یتطرّق فیها الربا ، فیمکن أن تجری فیها الصور الثلاث المتصورة أیضاً :

الأولی : أن یکون أنشأ البیع معلقاً علی کون المبیع بوزنٍ خاصٍ . فهذه باطلة جزماً ، لا لجهة التطفیف أو تخلّف الوصف أو تطرّق الربا ، بل من جهة التعلیق فی الإنشاء ، کما مرّ الکلام فیه .

الثانیة : أنْ ینشأ البیع منجَّزاً علی المتاع الخارجی بشرط کونه مقداراً ثمّ ظهر الخلاف . بطل البیع لکونه ربویّاً ، مع قطع النظر عن تخلّف الشرط .

الثالثة : إنْ کان الغرض من الإشتراط ، الإشارة إلی تعیین مقدار العوضین ووقوع کلّ منهما فی مقابل الآخر بحیث یقسّط الثمن علی أجزاء المثمن کما هو الظاهر من هذه المعاملات ،

ص:385

فحینئذ من جهة تخلف المقدار واتحاد الجنس یقسّط الثمن علی الأجزاء والمقدار الموجود ، فصح البیع فی المقدار الموجود وبطل فی غیره .

قد یقال : ببطلان المعاملة فی الفرضین من الصورة الثالثة ، بدعوی : أنّ ما هو موجود فی الخارج غیر معنون بذلک العنوان ، وما هو معنون بعنوان کذا غیر موجود فی الخارج ، فالمعاملة باطلة .

وفیه : لا وجه للبطلان إذا تخلف العنوان فی المقام ، فإنّه ههنا لیس من العناوین المقوِّمة ، فإن العنوان إذا تختلف تختلفت الصور النوعیة عند العرف ، فلذا کانت المعاملة باطلة . کما إذا باع أمةً رومیّةً فظهر أنّه عبدٌ حبشیٌ ، أو باع صندوقاً فظهر أنّه طبلٌ ، أو باع بغلاً فظهر أنّه حمار .

وأمّا إذا لم یکن العنوان من العناوین المقوِّمة کما فی المقام ، بل هو إما مأخوذ علی نحو الشرطیة أو الجزئیة ، فالمعاملة صحیحة ، غایة الأمر للمشتری خیار الفسخ لجهة تخلّف الشرط أو تبعّض الصفقة .

هذا کلّه فی المقام الأوّل .

المقام الثانی : فی حکم الإجارة

بعد ما استفادنا حرمة عمل التطفیف والبخس تکلیفاً من الأدلة الأربعة ، فأخذ الاُجرة علی هذا العمل المحرَّم أیضاً حرام ، لبطلان عقد الإجارة .

فلذا لو أجار شخص نفسه علی التطفیف والبخس المحرَّمیْن ، بطلت الإجارة کما فی

غیرهما من الأفعال المحرَّمة . فهذه الإجارة محرّمة تکلیفاً ووضعاً .

والحمد للّه ربّ العالمین .

ص:386

التنجیم

اشارة

قبل الخوض فی الاستدلال لابدّ من ملاحظة الأقوال فی المقام لتعیین محلّ النزاع وتحریره والإطلاع علی کیفیّة استدلالاتهم وسیرها :

الأقوال :

1 - قال الشیخ المفید قدس سره فی کتاب المقالات - علی ما نقل عنه السید ابن طاوس الحلی قدس سره فی کتابه « فرج المهموم بمعرفة علم النجوم» : « أقول : إنّ الشمس والقمر وسائر النجوم أجسام ناریّة لا حیاة لها ولا موت ولا تمیز ، خلقها اللّه تعالی لینتفع بها عباده وجعلها زینة لسماواته وآیات من آیاته کما قال سبحانه : «هُوَ الَّذِی جَعَلَ الشَّمْسَ ضِیَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِینَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِکَ إِلاَّ بِالْحَقِّ یُفَصِّلُ الآیَاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ»(1) وقال تعالی : «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِی ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآیَاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ»(2) وقال تعالی : «وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ»(3) وقال تعالی : «وَزَیَّنَّا السَّمَاء الدُّنْیَا بِمَصَابِیحَ»(4) ، فأمّا الأحکام علی الکائنات بدلائلها أو الکلام علی مدلول حرکاتها فإنّ العقل لا یمنع منه ، ولسنا ندفع أن یکون اللّه تعالی أعلمه بعض أنبیائه وجعله عَلَماً له علی صدقه ، غیر أنّا لا نقطع علیه ولا نعتقد استمراره فی الناس إلی هذه الغایة . أمّا ما نجده من أحکام المنجمین فی هذا الوقت وإصابة بعضهم فیه ، فإنّه لا ینکر أن یکون ذلک بضرب من التجربة وبدلیل عادة ، وقد تختلف أحیاناً ویخطیء المعتمد علیه کثیراً ولا یصحّ إصابته فیه أبداً ، لأنّه لیس بجار مجری دلائل العقول ولا

ص:387


1- (1) سورة یونس / 5 .
2- (2) سورة الأنعام / 97 .
3- (3) سورة النحل / 16 .
4- (4) سورة فصلت / 12 .

براهین الکتاب وأخبار الرسول صلی الله علیه و آله وسلم . وهذا مذهب جمهور متکلّمی أهل العدل ، وإلیه ذهب

بنو نوبخت من الإمامیة ، وأبو القاسم وأبو علی من المعتزلة »(1) .

أقول : لم أجد هذا الکلام من المفید فی النسخة المطبوعة من أوائل المقالات ، وهکذا لم یجده العلامة المجلسی قدس سره ، ولذا قال : « وإن لم نجد فیما عندنا من نسخه »(2) .

ومع ذلک کلّه ابن طاوس قدس سره ثقة فی نقله ، فلابدّ من تصدیقه مع ما رأینا بأعیننا من تلاعب الزمان وأهله بالنسخ مخطوطة کانت أو مطبوعة ، وإلی اللّه المشتکی ! !

وکتب علم الهدی الشریف المرتضی رسالة فی الرد علی المنجمین وذهب إلی تحریمه فیها وبالغ فی فساد أحکامهم ، وقال فیها : « من أدل الدلیل علی بطلان أحکام النجوم ، أنّا قد علمنا أنّ من جملة معجزات الأنبیاء علیهم السلام الإخبار عن الغیوب ، وعدّ ذلک خارقاً للعادات ، کإحیاء المیت وإبراء الأکمه والأبرص ، لو کان العلم بما یحدث طریقاً نجومیاً ، لم یکن ما ذکرناه معجزاً ولا خارقاً للعادة .

وکیف یشتبه علی مسلم بطلان أحکام النجوم ؟ وقد أجمع المسلمون قدیماً وحدیثاً علی تکذیب المنجمین ، والشهادة بفساد مذاهبهم وبطلان أحکامهم .

ومعلوم من دین الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ضرورة التکذیب بما یدعیه المنجمون والإزراء علیهم والتعجیز لهم .

وفی الروایات عنه علیه السلام من ذلک ما لا یحصی کثرة ، وکذا عن علماء أهل بیته علیهم السلام وخیار أصحابه ، فما زالوا یبرؤن من مذاهب المنجمین ویعدّونها ضلالاً ومحالاً .

وما اشتهر هذه الشهرة فی دین الإسلام کیف یغترّ بخلافه منتسب إلی الملّة ومصلّ إلی القبلة ؟ ! ... »(3) .

وهکذا ردّ السید المرتضی قدس سره فی کتابه « تنزیه الأنبیاء» نسبة هذا العلم إلی بعض الأنبیاء علیهم السلام ، فراجع إلی کلامه فی کتابه .

ص:388


1- (1) فرج المهموم بمعرفة علم النجوم / 38 .
2- (2) بحار الأنوار 55 / 278 (22 / 399 من طبع عام 1421) ، کلاهما من طبع بیروت .
3- (3) رسائل الشریف المرتضی 2 / 311 و 310 .

وقال الشیخ محمد بن الحسین الکیدری فی شرحه علی نهج البلاغة المسمی بحدائق الحقائق : « کیف یمکن أن یکون الإنسان یعرف الحوادث وأسبابها فی الأحوال حتّی یعرف المسبِّبات فی المستقبل کما فی الجزر والمدّ ، ومن ادعی أنّه یعرف أسباب الکائنات فمقدماته

لیست برهانیة وإنّما هی تجربیّة أو شعریّة أو خطابیّة مؤلفة من المشهورات فی الظاهر أو المقبولات والمظنونات ، ومع ذلک فلا یمکنه أن یتعرَّض إلاّ لجنس من أجناس الأسباب ، وهو یتعرّض بعض الأسباب العِلْویّة ، ولا یمکنه أن یتعرّض لجمیع الأسباب السماویّة والقوابل . وإذا تغیّرت القوابل عن أحوالها تغیّر أثر الفاعل فیها ، فإنّ النار فی الحطب الیابس مؤثرة تأثیراً لا تؤثر فی الرماد ، وکذا معرفة بقائها علی استعداد القبول شرط ، ویمکن أن یکون للقوابل عوائق ، فلا یعلم تلک الأسباب والمسببات إلاّ اللّه تعالی . وأیضاً فإنّ المنجم یحکم علی مفردات الکواکب ولا یحکم علی جمیعها ممتزجة » إلی آخر کلامه قدس سره ، فإنّه شنّع علی المنجمین کثیراً من اختلافهم وتناقضاتهم ، فراجع إلی کتابه(1) .

وقال الشیخ أبو الفتح محمد بن علی الکراجکی فی کتابه کنز الفوائد فی کلام طویل له فی الرد علی المنجمین علی ما حکی عنه ابن طاوس الحسنی : « ... وأنا أذکر لک بعد هذا مقالتنا فی النجوم وما نعتقده فیها لتعرف الطریقة فی ذلک فتعتمد علیها ، إعلم - أیدک اللّه - أنّ الشمس والقمر والنجوم أجناس محدثة من جنس هذا العالم مؤلفة من أجزاء تحلّها الأعراض ، ولیست فاعلة فی الحقیقة ولا ناطقة ولا حیّة قادرة ... إلی أن قال : وفیها للخلق مصالح لا یعلمها إلاّ اللّه تعالی . فأمّا التأثیر المنسوب إلیها ، فإنّا لا ندفع کون الشمس والقمر مؤثرین فی العالم ... ومن ذا الذی ینکر تأثیر الشمس والقمر وهو شاهد ، وإن کان تأثیر الشمس أظهر للحسِّ وأبین من تأثیر القمر فی الأزمان والبلدان والنبات والحیوان . وأمّا غیرهما من الکواکب فلسنا نجد لها تأثیراً یُحسّ ، ولا نقطع وجوبه بالعقل ، وهو أیضاً لیس من الممتنع المستحیل ، بل هو من الجائز فی العقول ، لأنَّ لها شعاعاً متصلاً فی الأرض ، ... ولیس فیما ذکرناه رجوع إلی قول أصحاب الأحکام ، ولا قول بما أنکرناه علیهم فی متقدم الکلام ، لأنّا أنکرنا علیهم إضافة

ص:389


1- (1) حدائق الحقائق 1 / (373 - 369) ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / (281 - 279) = (22 / 400) .

تأثیرات الشمس والقمر إلیهما من دون اللّه سبحانه وقطعهم علی ما جوّزناه من تأثیرات الکواکب بغیر حجة عقلیّة ولا سمعیّة وإضافتهم إلیها جمیع الأفعال فی الحقیقة مع دعواهم لها الحیاة والقدرة . وأنکرنا أن تکون الشمس والقمر أو شیءٌ من الکواکب موجباً لشیءٍ من أفعالنا بشهادة العقل الصحیح ، فإنَّ أفعالنا لو کانت مخترعة فینا أو کانت عن سبب أوجبها من غیرنا ، لم تصح بحسب قصودنا وإرادتنا ، ولا کان فرق بینها وبین جمیع ما یفعل فینا من صحتنا وسقمنا وتألیف أجسامنا ، وحصول الفرق لکلٍّ دلالة علی اختصاصها بنا وبرهان

واضح بأنّها حدثت من قدرتنا وأنّه لا سبب لها غیر اختیارنا .

وأنکرنا علیهم قولهم أنّ اللّه تعالی لا یفعل فی العالم فعلاً إلاّ والکواکب دالة علیه ، فإن کلَّ شیءٍ یدل علیه لابدّ من کونه - وهذا باطل - یثبت لها تأثیراً أو دلالةً ، فإنّ اللّه أجری تلک العادة ولیس یستحیل منه تغییر تلک العادة لما یراه من المصلحة ، وقد یصرف اللّه تعالی السوء عن عبده بدعوة ، ویزید فی أجله بصلة رحمٍ أو صدقةٍ ، فهذا الذی ثبتت لنا علیه الأدلة ، وهو الموافق للشریعة ، ولیس هو بملائم لما یدّعیه المنجمون ، والحمد للّه .

وأنکرنا علیهم إعتمادهم فی الأحکام علی اُصول مناقضة ودعاوی مظنونة متعارضة ولیس علی شیءٍ منها بیّنة ، فإن کان لهذا العلم أصل صحیح علی وجه یسوغ فی العقل ویجوز ، فلیس هو ما فی أیدیهم ولا من جملة دعاویهم »(1) .

أقول : لم أجد هذه المقالة من الکراجکی فی المطبوع من کتابه کنز الفوائد ، ولکن ابن طاوس ثقة فی نقله ولابدّ من تصدیقه وأنّها سقطت من النسخ ، ولذا ألحقها بالکتاب محققه الجلیل فی طبعة عام 1405 ببیروت ، تحت عنوان نصوص مفقودة من نسخة الکتاب(2) ، فله من اللّه تعالی جزیل الأجر .

وقال الشیخ أبوعلی الحسین بن عبد اللّه بن سینا ، الشیخ الرئیس أعلی اللّه مقامه الشریف فی فصل المبدأ والمعاد من إلهیات کتابه الشفاء : « لو أمکن إنساناً من الناس أن یعرف

ص:390


1- (1) فرج المهموم / (74 - 60) .
2- (2) کنز الفوائد 2 / (236 - 224) .

الحوادث التی فی الأرض والسماء جمیعاً وطبائعها لفهم کیفیّة ما یحدث فی المستقبل ، وهذا المنجم القائل بالأحکام - مع أن أوضاعه الأولی ومقدماته لیست مستندة إلی برهان بل عسی أن یدّعی فیها التجربة أو الوحی وربّما حاول قیاسات شعریة أو خطابیّة فی إثباتها - فإنّه إنّما یعوّل علی دلائل جِنس واحد من أسباب الکائنات وهی التی فی السماء ، علی أنّه لا یضمن من عنده الإحاطة بجمیع الأحوال التی فی السماء ولو ضمن لنا فی ذلک ووفی به لم یمکنه أن یجعلنا بحیث نقف علی وجود جمیعها فی کلِّ وقت ، وإن کان جمیعها - من حیث فعله وطبعه - معلوماً عنده . - إلی أن قال : - فلیس لنا إذن إعتماد علی أقوالهم ، وإن سلمنا متبرّعین أن جمیع ما یعطونا من مقدّماتهم الحکمیّة صادقة »(1) .

وقال المتکلم الجلیل الشیخ سدید الدین محمود بن علی الحمصی قدس سره فی الرد علی الصابئة : « وأمّا الصابئة فإنّه قد یحکی عنهم أنّهم یقولون : للعالم صانع أحکم الفلک وجعل نجومه مدبّرة لما فی العالم ، أضافوا ما یحدث فی العالم من الحیوان والنبات إلی النجوم ، وأنّهم یعبدون النجوم ، ثمّ نحتوا الأصنام علی صورها یعبدونها بالنهار إذا غابت النجوم ، ویذهبون إلی أنّ النجوم توجب بطباعها التدبیر فی العالم ، وربّما قالوا : بأنّها قدیمةٌ .

والردّ علیهم هو أن نقول : لا شک فی أنّ النجوم أجسام والجسم لا یکون إلاّ محدثاً علی ما بیناه ، ثم وهی لیست أحیاءً فکیف یصدر عنها الأفعال . وأقوی ما یُستدل به علی کونها غیر أحیاءٍ ، إجماع المسلمین علی أنّها مسخّرات ، وقد استدل علی أنّها مسخّرات غیر متحیّرات بحرکتها التی تجری علی طریقة واحدة ، إذ الحیّ القادر المختار لابدّ من أن تختلف حرکاته لاختلاف دواعیه .

وقد استدل علی کون الشمس غیر حیّة علی الخصوص بحرارتها المفرطة التی یستحیل أن یبقی معها الحیاة ، ولو سلّمنا أنّها أحیاء قادرة لما کانت قادرة إلاّ بقدرة کما فی غیرها من الأجسام التی هی أحیاء قادرة ، وإذا کانت کذلک کان یجب أن لا یقدر علی

ص:391


1- (3) الشفاء - الالهیات / 440 المقالة العاشرة ، الفصل الأوّل ، ونقل عنه الشیخ البهائی فی الحدیقة الهلالیة / 142 و 141 ، ونقل المجلسی عن البهائی فی بحار الأنوار 55 / 292 (22 / 408) .

الإختراع ، کما لا یقدر غیرها من القادرین بالقدرة . فکیف تؤثّر فی الأجسام الأرضیة من الحیوان والنبات علی بعدها منها ، وکان لا یصحّ منها اُصول النعم التی بها تستحق العبادة ، کما لا یقدر علیها غیرها من القادرین بالقدرة فلا یحسن عبادتها »(1) .

أقول : قد نقل العلامة المجلسی کلاماً آخراً من الشیخ سدید الدین الحمصی رحمه الله بواسطة ابن طاوس فی کتابه فرج المهموم(2) .

وقال المحقق الحلی فی المعتبر : « ولا اعتبار بالجدول ، لأنّ أصل ذلک مأخوذ من الحساب النجومی فی ضبط مسیر القمر واجتماعه بالشمس ، ولا یجوز التعویل علی قول المنجم ، لأنّه مبنیٌ علی قواعد ظنیّة مستفادة من الحدس الذی یخطی ء أکثر ممّا یصیب ، ولا یجوز التعویل علی قوله ، لقول النبی صلی الله علیه و آله وسلم : « من صدّق کاهناً أو منجماً فهو کافر بما أنزل علی محمد صلی الله علیه و آله وسلم »(3) .

وقال العلامة المجلسی قدس سره فی شأن ابن طاوس وکتابه فرج المهموم : « والسید الجلیل النبیل علی بن طاوس رحمه الله لاُنس قلیل له بهذا العلم ، عمل فی ذلک رسالة وبالغ فی الإنکار علی من اعتقد أنّ النجوم ذوات إرادة أو فاعلة أو مؤثرة ، واستدلّ علی ذلک بدلائل کثیرة وأیّده بکلام جمٍّ غفیر من الأفاضل ، إلاّ أنّه أنکر علی السید الأجل المرتضی قدس سره فی تحریمه ، وذهب إلی أنّه من العلوم المباحات ، وأنّ النجوم علامات ودلالات علی الحادثات ، لکن یجوز للقادر الحکیم أن یغیّرها بالبرّ والصدقة والدعاء وغیر ذلک من الأسباب والدواعی علی وفق إرادته وحکمته ، وجوّز تعلیم النجوم وتعلّمه والنظر فیه والعمل به إذا لم یعتقد أنّها مؤثرة ، وحمل أخبار النهی والذَّم علی ما إذا اعتقدت ذلک ، ثم ذکر رحمه الله تأییداً لصحة هذا العلم أسماء جماعة من الشیعة کانوا عارفین به ... »(3) .

وذکر أیضاً نظیر هذا البیان فی کتابه « مرآة العقول فی شرح أخبار آل

ص:392


1- (1) المنقذ من التقلید 1 / 148 .
2- (2) فراجع إن شئت بحار الأنوار 55 / 298 (22 / 411) .
3- (1) المعتبر 2 / 688 .

الرسول علیهم السلام »(1) .

وقال الشیخ إبراهیم بن نوبخت فی کتابه الیاقوت : « قول المنجمین یبطله قدم الصانع واشتراط إختیاره ، ویلزم علیهم أن لا یستقر الفعل علی حالٍ من الأحوال ، وقول أهل الطبائع یبطل بمثل ذلک »(2) .

وقال آیة اللّه علی الإطلاق العلاّمة الحلی قدس سره فی شرحه علی الیاقوت : « اختلف قول المنجمین علی قسمین : أحدهما قول مَنْ قال : إنّ الکواکب السبعة حیّة مختارة ، والثانی قول من قال : إنّها موجبة ، والقولان باطلان :

أمّا الأوّل : فلأنّها أجسام محدثة فلا تکون آلهة ، ولأنّها محتاجة إلی محدث غیر جسم ، فلابدّ من القول بالصانع .

وأمّا الثانی : فلأنّ الکوکب المعیّن کالمریخ مثلاً إذا کان مقتضیاً للحرب لزم دوام وقوع الهرج والمرج فی العالم ، وأن لا یستقرّ أفعالهم علی حالٍ من الأحوال ، ولما کان ذلک باطلاً کان ما ذکروه باطلاً .

وأمّا القائلون بالطبائع ألذین یسندون الأفعال إلی مجرد الطبیعة ، فیبطل قولهم بمثل ذلک أیضاً ، فإنّ الطبیعة قوّة جسمانیّة وکلّ جسم محدث ، فکل قوّة حالّة فهی محدثة تفتقر إلی محدث غیر طبیعته ، وإلاّ لزم التسلسل ، فلابدّ من القول بالصانع سبحانه وتعالی »(3) .

وقال العلاّمة الحلی فی القواعد : « التنجیم حرام ، وکذا تعلّم النجوم مع اعتقاد تأثیرها بالاستقلال أو لها مدخلٌ فیه »(4) .

وقال فی التذکرة : « التنجیم حرام وکذا تعلّم النجوم مع اعتقاد تأثیرها فی عالم العنصریّات علی ما یقوله الفلاسفة »(5) .

ص:393


1- (2) بحار الانوار 55 / 529 و 528 (22 / 412) .
2- (3) مرآة العقول 26 / 461 .
3- (1) أنوار الملکوت / 200 و 199 .
4- (2) قواعد الأحکام 2 / 9 .
5- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 145 مسألة 650 .

وقال فی المنتهی : « التنجیم حرام ، وکذا تعلّم النجوم مع اعتقاد أنّها مؤثرة ، أو أنّ لها مدخلاً فی تأثیر بالنفع والضرر ، وبالجملة کلّ مَنْ یعتقد ربط الحرکات النفسانیة والطبیعیّة بالحرکات الفلکیّة والإتصالات الکوکبیة کافرٌ ، وأخذ الاُجرة علی ذلک حرام ، وأمّا من یتعلّم النجوم فیعرف قدر سیر الکواکب وبُعده وأحواله من التربیع والکسف وغیرهما فإنّه لا بأس به»(1) .

وقال نحوه فی کتابه تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الامامیة(2) فراجعه .

ولکن العلاّمة نفسه قال فی أجوبة المسائل المهنائیة الثالثة حیث سأل عنه السید مهنأ ابن سنان : « ما یقول سیدنا فیما یقال : إنّ کسوف الشمس بسبب حیلولة جرم القمر بینه وبین الشمس ، وإنّ سبب خسوف القمر حیلولة الأرض ، ویدلّ علی ذلک ما یخبر به أهل التقویم فیطابق أخبارهم ؟ وإذا کان الأمر علی هذه الصورة فلم اُمرنا بالخوف عند ذلک والفزع إلی الدعاء والصلاة فی المساجد ؟ فأجاب قدس سره : استناد الکسوف والخسوف إلی ما ذکره - أدام اللّه أیّامه - مستند إلی الرصد ، وهو أمر ظنیٌّ غیر یقینیٌّ ، ولو سلّم لم یضرّ فی التکلیف بالصلاة وسؤال اللّه ردّ النور ، بأنّ أمثال هذه الأفعال مستندة إلی اللّه تعالی بالإختیار ، فَحَسَن الدعاء والصلاة فی طلب ردّ النور . ویجوز أن یکون هذا الحادث سبباً لتجدّد حادث فی الأرض من

خیر أو شرٍّ ، فجاز أن تکون العبادة رافعة لما نیط بذلک الحادث من الشرِّ والخو ف بسبب ذلک .

ثم سأل عن أخبار المنجّمین وأصحاب الرمل بالأشیاء المغیبة ، فأجاب بأن هذا کلّه تخمین لا حقیقة له ، وما یوافق قولهم من الحوادث فإنّه یقع علی سبیل الإتفاق ، وعلم الرمل ینسب إلی إدریس علیه السلام ولیس بمحقَّقٍ ، ولکنّه جری لنا وقائع غریبة عجیبة وامتحانات طابقت حکمه ، لکن لا یثمر ذلک علماً محقَّقاً »(3) .

ص:394


1- (4) منتهی المطلب 2 / 1014 من فروع کتاب التجارة .
2- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 طبع مؤسسة الامام الصادق علیه السلام - قم المقدسة 1420 .
3- (1) أجوبة المسائل المهنائیة الثالثة / 144 و145 المسألة 9 و 10 ، ونقل عنه فی بحار الأنوار 55/ 308 (22 / 419) .

وقال ولده فخر المحققین فی بحث السحر : « المراد بالسحر استحداث الخوارق بمجرد التأثیرات النفسانیة أو بالإستعانة بالفلکیات فقط أو ... وقد خص أهل المعقول الأوّل باسم السحر والثانی بدعوة الکواکب و ... واختلف الفقهاء فی أنّ السحر لا بمعنی دعوة الکواکب ، فإنّ الکواکب لا تأثیر لها قطعاً ، هل له حقیقة (أی تأثیر) أو تخیّل لا حقیقة له ، بمعنی عدم التأثیر ... »(1) .

أقول : یأتی تمام کلامه قدس سره فی بحث السحر إن شاء اللّه تعالی .

قال الشهید فی الدروس : « یحرم اعتقاد تأثیر النجوم مستقلة أو بالشرکة والإخبار عن الکائنات بسببها ، أمّا لو أخبر بجریان العادة أنّ اللّه تعالی یفعل کذا عند کذا لم یحرم وإن کره ، علی أنّ العادة فیها لا تطّرد إلاّ فیما قلّ . وأمّا علم النجوم فقد حرّمه بعض الأصحاب ، ولعلّه لما فیه من التعرّض للمحظور من اعتقاد التأثیر ، أو لأن أحکامه تخمینیّة ، أمّا علم هیئة الأفلاک فلیست حراماً ، بل ربّما کان مستحبّاً لما فیه من الإطلاع علی حِکَم اللّه وعِظَم قدرته »(2) .

وقال فی قواعده : « کلُّ من اعتقد فی الکواکب أنّها مدبّرة لهذا العالم وموجدة ما فیه فلا ریب أنّه کافرٌ ، وإن اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إلیها واللّه هو المؤثر الأعظم - کما یقوله أهل العدل - فهو مخطیء ، إذ لا حیاة لهذه الکواکب ثابتةٌ بدلیل عقلی ولا نقلی . وبعض الأشعریة یکفّرون هذا کما یکفّرون الأوّل ، وأوردوا علی أنفسهم عدم تکفیر المعتزلة ، وکلّ من قال بفعل العبد فرّقوا بأنّ الإنسان وغیره من الحیوان یوجد فعله من أنّ التذلّل ظاهر علیه ، فلا یحصل منه اهتضام لجانب الربوبیّة ، بخلاف الکواکب فإنّها غائبة عنه ، فربّما أدّی ذلک إلی إعتقاد استقلالها وفتح باب الکفر .

وأمّا ما یقال : من أنّ استناد الأفعال إلیها کاستناد الإحراق إلی النار وغیرها من العادیات بمعنی أنّ اللّه تعالی أجری عادته أنّها إذا کانت علی شکل مخصوص أو وضع

ص:395


1- (2) ایضاح الفوائد 1 / 405 .
2- (3) الدروس الشرعیة 3 / 165 .

مخصوص یفعل ما ینسب إلیها ، ویکون ربط المسبَّبات بها کربط مسبَّبات الأدویة والأغذیة بها مجازاً باعتبار الربط العادی لا الفعل الحقیقی فهذا لا یکفر معتقده ولکنّه مخطیء أیضاً ، وإن کان أقل خطاءً من الأوّل ، لأن وقوع هذه الآثار عندها لیس بدائم ولا أکثریٍّ »(1) .

قال المحقق الثانی قدس سره فی جامع المقاصد : « التنجیم : الإخبار عن أحکام النجوم باعتبار الحرکات الفلکیة والإتصالات الکوکبیة التی مرجعها إلی القیاس والتخمین ، فإنّ کون الحرکة المعیّنة والإتصال المعیّن سبباً لوجود ذلک ، إنّما یرجع المنجمون فیه إلی مشاهدتهم وجود مثله عند وجود مثلهما ، وذلک لا یوجب العلم بسببیتهما له ، لجواز وجود اُمور اُخری لها مدخل فی سببیّته لم تحصل الإحاطة بها ، فإنّ القوة البشریة لا سبیل لها إلی ضبطها ، ولهذا کان کذب المنجمین وخطؤهم أکثریّاً ، وقد ورد من صاحب الشرع النهی عن تعلّم النجوم بأبلغ وجوهه ... .

إذا تقرر ذلک فاعلم : أنَّ التنجیم - مع اعتقاد أنّ للنجوم تأثیراً فی الموجودات السفلیة ولو علی جهة المدخلیّة - حرام ، وکذا تعلّم النجوم علی هذا الوجه ، بل هذا الإعتقاد کفرٌ فی نفسه ، نعوذ باللّه منه .

أمّا التنجیم لا علی هذا الوجه مع التحرز مِنْ الکذب فإنّه جائز ، فقد ثبت کراهیة التزوج وسفر الحج والقمر فی العقرب ، وذلک من هذا القبیل . نعم هو مکروه ، لأنّه ینجرّ إلی الإعتقاد الفاسد ، وقد ورد النهی عنه مطلقاً حسماً للمادة ، وتحریم الاُجرة وعدمه تابع للفعل ... »(2) .

قال المحقق الأردبیلی بعد نقل کلام العلامة فی المنتهی وتأییده : « ... وقد یفهم من قوله تعالی حکایة عن إبراهیم علیه السلام : «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِی النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّی سَقِیمٌ»(3) الإعتبار

بأمثال ذلک ، بل أکثر وإن إجاب عنه السید المرتضی فی « التنزیه» ، ولقد صنف علی بن طاوس قدس سره کتاباً فی تحقیق النجوم وحلیّة هذا العلم وجواز التأثیر ، واستدلّ علیها بالآیات

ص:396


1- (1) القواعد والفوائد 2 / 36 و 35 .
2- (2) جامع المقاصد 4 / 32 و 31 .
3- (3) سورة الصافات / 89 و 88 .

والأخبار والإعتبار ، وردّ کلام مَنْ قال بتحریمه وکراهیته ، فمن أراد التفصیل فلیرجع إلیه .

وأمّا دلیل کفر مَنْ یعتقد إستقلال الفکلیّات فی التأثیر فی الأرضیات وتحریم الإشتراک فی التأثیر کأنّه إجماعٌ ، والعلم الضروری شرعاً بأنّ اللّه تعالی هو المؤثر فی الأرضیات ، ووجوب إعتقاد أنّه هو المستقل فی التأثیر فی الأرضیات مِنْ غیر مدخلیّة شیءٌ »(1) .

وقال الشیخ بهاء الدین محمد العاملی قدس سره فی الحدیقة الهلالیة : « ما یدّعیه المنجمون من إرتباط بعض الحوادث السفلیّة بالأجرام العلویّة ، إن زعموا أن تلک الأجرام هی العلّة المؤثرة فی تلک الحوادث بالاستقلال أو أنّها شریکة فی التأثیر فهذا لا یحلّ للمسلم اعتقاده ، وعلم النجوم المبتنی علی هذا کفر والعیاذ باللّه ، وعلی هذا حمل ما ورد فی الحدیث من التحذیر عن علم النجوم والنهی عن اعتقاد صحته ، وإن قالوا : إنّ اتصالات تلک الأجرام وما یعرض لها من الأوضاع علامات علی بعض حوادث هذا العالم ممّا یوجده اللّه سبحانه بقدرته وإرادته ، کما أنّ حرکات النبض واختلافات اُوضاعه علامات یستدلّ بها الطبیب علی ما یعرض للبدن من قرب الصحة أو اشتداد المرض ونحو ذلک ، وکما یستدلّ باختلاج بعض الأعضاء علی بعض الأحوال المستقبلة ، فهذا لا مانع منه ولا حرج فی اعتقاده ، وما روی من صحة علم النجوم وجواز نقله محمول علی هذا المعنی .

ثم قال قدس سره : الاُمور التی یحکم بها المنجمون من الحوادث الإستقبالیة أصول ، بعضها مأخوذة من أصحاب الوحی سلام اللّه علیهم ، وبعض الاُصول یدّعون فیها التجربة ، وبعضها مبتنٍ علی أمور متشعبّة لا تفی القوة البشریة بضبطها والإحاطة بها ، کما یؤمی إلیه قول الصادق علیه السلام : « کثیره لا یدرک وقلیله لا ینتج(2) » ، فلذلک وجد الاختلاف فی کلامهم وتطرّق الخطأ إلی بعض أحکامهم ، ومن اتفق له الجری علی الاُصول الصحیحة صحّ کلامه وصدقت أحکامه لا محالة کما نطق به کلام الصادق علیه السلام فی الروایة المذکورة ... ولکن هذا أمر عزیز المنال ، لا یظفر به إلاّ القلیل واللّه الهادی إلی سواء السبیل »(3) .

ص:397


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 81 و80 .
2- (2) الکافی 8 / 195 ح 233 .

وعَدّ الفیض الکاشانی قدس سره فی کتابه مفاتیح الشرائع من المعاصی المنصوص علیها الإخبار عن الغائبات علی البتّ لغیر نبیٍّ أو وصیّ نبیٍّ ، سواء کان بالتنجیم أو الکهانة أو القیافة أو غیر ذلک . ثمّ ذکر أخباراً دالة علی تحریم الکهانة والتنجیم ، ثم قال : « وإن کان الإخبار علی سبیل التفاؤل من دون جزم ، فالظاهر جوازه ، لأنّ أصل هذه العلوم حقٌ ولکن الإحاطة بها لا یتیسر لکلِّ أحدٍ والحکم بها لا یوافق المصلحة »(1) .

وقال فی الوافی فی بحث البداء : « ... فاعلم أنّ القوی المنطبعة الفلکیّة لم تحط بتفاصیل ما سیقع من الاُمور دفعةً واحدةً ، لعدم تناهی تلک الاُمور ، بل إنّما ینتقش فیها الحوادث شیئاً فشیئاً وجملة فجملة مع أسبابها وعللها علی نهج مستمر ونظام مستقر . فإنّ ما یحدث فی عالم الکون والفساد ، إنّما هو من لوازم حرکات الأفلاک المسخرة للّه ونتائج برکاتها ، فهی تعلم أنّه کلّما کان کذا کان کذا ، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما فی هذا العالم حکمت بوقوعه فیه ، فینتقش فیها ذلک الحکم . وربّما تأخر بعض الأسباب الموجب لوقوع الحادث علی خلاف ما یوجبه بقیة الأسباب لو لا ذلک السبب ولم یحصل لها العلم بذلک بعد لعدم اطلاعها علی سبب ذلک السبب ، ثمّ لما جاء أوانه واطلعت علیه حکمت بخلاف الحکم الأوّل فیُمْحا عنها نقش الحکم السابق ویُثْبَت الحکم الآخر ، مثلاً ... »(2) .

وقال المحقق السبزواری فی الکفایة : « علم النجوم حرّمه بعض الأصحاب والأقرب الجواز لظاهر بعض الروایات المعتبرة ، وصنف ابن طاووس رسالة أکثر فیها من الاستشهاد علی صحته وجوازه »(3) .

وقال الشیخ الحر العاملی قدس سره : « قد صرح علماؤنا بتحریم علم النجوم والعمل به ، وصرّحوا بکفر من اعتقد تأثیر النجوم أو مدخلیتها فی التأثیر ، وذکروا أنّ بطلان ذلک من ضروریات الدین ، ونقلوا الإجماع علی ذلک ، فممّن صرّح بما ذکرناه : الشیخ المفید والمرتضی فی الدرر والغرر والشیخ الشهید فی قواعده والدروس والعلاّمة فی التذکرة والمنتهی والقواعد

ص:398


1- (1) الحدیقة الهلالیة / 140 - 139 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 292 - 291 (22 / 408 و 407) .
2- (2) مفاتیح الشرائع 2 / 24 و 23 ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 74 - (12 / 242) .
3- (3) الوافی 1 / 508 و507 .

والتحریر والشیخ علی فی شرح القواعد والشهید الثانی فی شرح الشرائع والمحقق فی المعتبر

والکراجکی فی کنز الفوائد وغیرهم ، ولا یظهر منهم مخالف فی ذلک علی ما یحضرنی »(1) .

وقال العلامة المجلسی فی آخر باب علم النجوم : « إذا أحطت خُبراً بما تلونا علیک من الأخبار والأقوال ، لا یخفی علیک أنّ القول باستقلال النجوم فی تأثیرها بل القول بکونها علّة فاعلیّة بالإرادة والإختیار - وإن توقّف تأثیرها علی شرائط - کفرٌ ومخالفة لضرورة الدین .

والقول بالتأثیر الناقص یحتمل وجهین :

الأوّل : تأثیرها بالکیفیّة کحرارة الشمس وإضاءتها وسائر الکواکب وتبرید القمر ، فلا سبیل إلی إنکار ذلک ، ولکن الکلام فی أنّها مؤثّرات أو معدّات لتأثیر الربّ سبحانه ، أنّه تعالی أجری العادة بخلق الحرارة أو الضوء عقیب محاذاة الشمس مثلاً ، والأکثر علی الأخیر .

والثانی : کون حرکاتها وأوضاعها ومقارناتها وإتصالاتها مؤثرة ناقصة فی خلق الحوادث علی أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة ، فلا ریب أن القول به فسق وقول بما لا یعلم ، ولا دلیل یدلّ علیه من عقل ولا نقل ، بل ظواهر الآیات والأخبار خلافه ، والقول به جرأة علی اللّه ، أمّا أنّه ینتهی إلی حد الکفر فیشکل الحکم به وإن لم یکن مستبعداً ... .

وأمّا کونها أمارات وعلامات جعلها اللّه دلالة علی حدوث الحوادث فی عالم الکون والفساد فغیر بعید عن السداد ، وقد عرفت أنّ کثیراً من الأخبار تدلّ علی ذلک ، وهی إمّا مفیدة للعلم العادی لکنّه مخصوص ببعض الأنبیاء والأئمة علیهم السلام ومن أخذها منهم لأن الطریق إلی العلم بعدم ما یرفع دلالتها من وحی أو إلهام والإحاطة بجمیع الشرائط والموانع والقوابل مختصة بهم ، أو مفیدة للظن ووقوع مدلولتها مشروط بتحقّق شروط ورفع موانع ، وما فی أیدی الناس لیس ذلک العلم أصلاً أو بعضه منه لکنّه غیر معلوم بخصوصه ، ولا یفید العلم قطعاً ، وإفادته نوعاً من الظن مشکوک فیه ... »(2) إلی آخر ما ذکره فی بحار أنواره قدس سره .

وذکر نحوه مختصراً فی مرآة العقول(3) .

ص:399


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 141 .
2- (2) بحار الأنوار 55 / 309 و 308 (22 / 420 و 419) .
3- (3) مرآة العقول 26 / 481 و 480 .

وقال جدنا الفقیه الشیخ جعفر قدس سره : « ... وطریق الجمع بین الأخبار - کما تشهد به طائفة منها - وبین کلام الأصحاب - کما یشهد به کلام طائفة منهم - أنّ التنجیم الحلال ما کان مع اعتقاد أنّ النجوم مسخّرات ولیس لها فی حدّ ذاتها تأثیرات ، وأنّ الأمر إلی خالق الأرضین

والسماوات ، علی التفصیل الذی اخترناه والنحو الذی ذکرناه ، وقد مرّ منّا سابقاً أنّ العلم والإدراک متصفان بالحسن - تعلّقا بالأفلاک أو غیر الأفلاک - ما لم تفسد المقاصد أو تترتّب المفاسد . فإذن لا یجوز الطعن فی المنجّمین حتّی یظهر الحال ویستبین ، فمن فسدت فی الظاهر نیّته ظهرت معصیته وإلاّ حمل علی الوجوه الحسان ، ولا أعرف سواها من إصحابنا المنجّمین فی هذا الزمان وصلاح نیّتهم من فیض ساداتهم وأئمتهم ... فمن تعلَّم علم النجوم أو غیره من العلوم للتوصل إلی بعض المحرّمات کان من العصاة . وکذا من أسند التأثیر إلی صنعته کالطبیب فی طبابته والبیطار فی بیطرته وعلم الهیأة والرمل وغیرها مع اعتقاد لزوم ترتب الأحکام ... »(1) .

وقال النراقی فی المستند فی شأن علم النجوم : « أمّا تحریمه لأجل فساد المذهب فممّا لا وجه له ، إذ لا مدخلیّة للمذهب واعتقاد التأثیر من الکواکب فی التنجیم ، لأن غایة ما یترتب علیه أنّه یحدث کذا عند وضع کذا .

وأمّا أنّه هل هو من تأثیر النجم مستقلاً أو اشتراکاً حتّی یکون اعتقاده حراماً ، أو من باب العلامات والأمارات علی ما أجراه اللّه تعالی بعادته عقیبها حتّی لم یحرم اعتقاده علی ما صرّح به الأکثر کالسید والمفید والکراجکی وابن طاووس والمحقق الثانی وشیخنا البهائی والمجلسی وغیرهم ، أو من قبیل تسخین النار وتبرید الماء ... أو غیر ذلک .

فلیس من مسائل النجوم ولا من متفرّعاتها ، بل هو من المسائل الطبیعیّة .

ولیس التنجیم إلاّ کالطب ، فکما لا یبتنی الطب علی اعتقاد أن تأثیر الدواء هل هو من جهة نفسه أو من اللّه سبحانه ، فکذلک النجوم ، والظاهر أنّ فساد اعتقاد بعض المنجمین أوجب توهّم بعضهم أنّه ناشیء من جهة التنجیم .

ص:400


1- (1) شرح القواعد 1 / 259 و260 .

وأمّا من حیث کونه قولاً بما لا یعلم ، فمع أنّه لا یحرّم التعلیم ولا یختصّ بالتنجیم ، یوجب التحریم إذا کان الحکم بالبتّ مع ظنیّته ، فلا یحرم إذا حکم بالظن کما هو الطریقة ، أو بالقطع إذا حصل من تکرر التجارب .

وأمّا من جهة أنّه الإخبار بما لم یقع ، ففیه : أن تحریمه مطلقاً ممنوع ، فبقی أن یکون الوجه فیه هو الروایات ، وهی کثیرة(1) :

ثم ذکر أخبار الباب وقال فی آخرها : وحمل الأخبار المانعة علی اعتقاد التأثیر أو الحکم بالبتّ والعمل فی غیرهما بمقتضی الأصل متعیّن »(2) .

وقال فی الجواهر فی آخر بحث علم النجوم : « والتحقیق ما عرفت ، من أنّه لا بأس بالنظر فی هذا العلم وتعلّمه وتعلیمه ، والإخبار عمّا یقتضیه ممّا وصل إلیه من قواعده لا علی جهة الجزم ، بل علی معنی جریان عادة اللّه تعالی بفعل کذا عند کذا ، وعدم إطراد العادة غیر قادح ، فإنّ اللّه یمحو «مَا یَشَاء وَیُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْکِتَابِ»(3) بل قد یُتوقف فی الکراهة فضلاً عن الحرمة ، بل یمکن حصول زیادة العرفان بمعرفته والترقی إلی بعض درجات الإیمان بممارسته .

ودعوی أن فیه تعریضاً للوقوع فی المحظور من اعتقاد التأثیر فیحرم لذلک ، أو لأن أحکامه تخمینیة کماتری ، خصوصاً الثانی ، ضرورة عدم حرمة مراعاة الظنون فی أمثال ذلک ،بل لعلّ المعلوم من سیرة الناس وطریقتهم خلافه فی الطب وغیره ، والتعریض المزبور - مع أنّه ممنوع - لا یکفی فی الحرمة ، وإلاّ لحرم النظر فی علم الکلام الذی خطره أعظم من ذلک .

فلا ریب فی رجحان ما ذکرناه ، بل لا یبعد أن یکون النظر فیه نحو النظر فی علم هیئة الأفلاک الذی یحصل بسببه الاطلاع علی حکمة اللّه وعِظَم قدرته ، نعم : لا ینبغی الجزم بشیءٍ من مقتضیاته ، لاستیثار اللّه بعلم الغیب »(4) .

ص:401


1- (2) مستند الشیعة 14 / 120 و119 .
2- (1) مستند الشیعة 14 / 124 .
3- (2) سورة الرعد / 39 .
4- (3) الجواهر 22 / 108 .

وقال المحدث الخبیر الحاج المیرزا حسین النوری قدس سره : « یحمل ما دلّ علی النهی عن النظر بل تکفیر المنجم علی من اعتقد قدم الأفلاک والکواکب ، أو أنّ اختلاف حرکاتها وأوضاعها علل تامة لصدور الحوادث ، أو أنّ لها حیاةً ونفوساً تصدر عنها الحوادث بالإرادة و الإختیار ، وغیر ذلک من العقائد الفاسدة المباینة لأصول الملل وأساس الشرائع ، وما دلّ علی الجواز علی أنّها أمارات وعلامات علی حدوث الحوادث منه تعالی أو ما یقرب من ذلک ، ممّا لیس فیه ما ینافی الشرع ، ویرتفع شرّها بالبرِّ والدعاء والصدقة ، واللّه العالم »(1)

الروایات فی المقام
اشارة

الأخبار الواردة حول التنجیم یمکن حملها علی طائفتین :

الطائفة الأولی : الروایات الناهیة والرادعة

وهی عدة أحادیث وردت فی النهی عن علم النجوم وعمل المنجمین والإعتقاد به وبهم :

منها : خبر عبد اللّه بن عوف بن الأحمر قال : لما أراد أمیر المؤمنین علیه السلام : المسیر إلی النهروان أتاه منجّم ، فقال له : یا أمیر المؤمنین لا تَسِر هذه الساعة وسِرْ فی ثلاث ساعات یمضین من النهار ، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام : ولِمَ ذاک ؟ قال : لأنّک إن سرت فی هذه الساعة أصابک وأصاب أصحابک أذی وضرّ شدید ، وإن سرت فی الساعة التی أمرتک ظَفَرتَ وظَهَرت وأصبتَ کلَّ ما طلبتَ .

فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام : تدری ما فی بطن هذه الدابة أذکرٌ أم اُنثی ؟ قال : إن حسبتُ علمتُ ، قال له أمیر المؤمنین علیه السلام : مَنْ صدّقک علی هذا القول کذّب بالقرآن «إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَیُنَزِّلُ الْغَیْثَ وَیَعْلَمُ مَا فِی الاْءَرْحَامِ وَمَا تَدْرِی نَفْسٌ مَّاذَا تَکْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِی نَفْسٌ بِأَیِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ»(2) ، ما کان محمد صلی الله علیه و آله وسلم یدّعی ما ادّعیت ، أتزعم أنّک تهدی إلی الساعة التی مَنْ سار فیها صرف عنه السوء والساعة التی مَنْ سار فیها

ص:402


1- (4) مستدرک الوسائل 13 / 105 .
2- (1) سورة لقمان / 34 .

حاق به الضرّ ؟ مَنْ صدّقک بهذا استغنی بقولک عن الإستعانة باللّه عزّ وجل فی ذلک الوجه ، وأحوج إلی الرغبة إلیک فی دفع المکروه عنه ، وینبغی له أن یولیک الحمد دون ربّه عزّ وجلّ ، فمن آمن لک بهذا فقد اتخذک من دون اللّه نِدّاً وضِدّاً .

ثم قال : اللهم لا طیر إلاّ طیرک ، ولا ضیر إلاّ ضیرک ، ولا خیر إلاّ خیرک ، ولا اله غیرک . ثمّ التفت إلی المنجم فقال : بل نکذبک ونخالفک ونسیر فی الساعة التی نهیت عنها(1) .

الروایة ضعیفة الإسناد . وتدلّ علی لزوم الإستعانة باللّه تعالی والتوکل علیه فی الاُمور کلّها وعدم الإتکال علی النجوم وإخبار المنجمین ، ولا تدلّ علی حرمة هذا العلم ولا علی استعماله .

وقد رُوی أنَّ المنجم الذی قال لأمیر المؤمنین علیه السلام کان عفیف بن قیس أخا الأشعث المعروف کما ذکره العلامة المجلسی فی بحار الأنوار(2) .

ومنها : خبر أبی الحصین قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : سئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الساعة ؟ فقال : عند إیمان بالنجوم وتکذیب بالقدر(3) .

الروایة ضعیفة الإسناد ، ویمکن حملها علی أنّ الناس فی آخر الزمان یؤمنون بالنجوم ویتوجهون إلیها ویتّکلون علیها بدلاً عن الإیمان والتوجه والإتکال علی اللّه تعالی ، وهذا الإعتقاد والتوجه والإتکال بالنجوم شمله النهی لا نفس علم النجوم .

ومنها : خبر الحسین بن زید الشهید عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أربعة لا تزال فی اُمّتی إلی یوم القیامة : الفخر بالأحساب ، والطعن فی الأنساب ، والإستقساء بالنجوم ، والنیاحة . وإنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم یوم القیامة وعلیها سربال من قطران ودرع من جرب(4) .

ص:403


1- (2) أمالی الصدوق ، المجلس الرابع والستون ح 16 / 500 الرقم 687 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 371 ح 4 . الباب 14 من أبواب آداب السفر .
2- (1) بحار الأنوار 55 / 224 (22 / 364) .
3- (2) الخصال 1 / 62 ح 87 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 143 ح 6 الباب 24 من أبواب ما یکتسب به .
4- (3) الخصال 1 / 226 ح 60 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 225 ح 6 (22 / 364) .

الروایة ضعیفة الإسناد . و الإستسقاء بالنجوم : یعنی الاعتقاد بأنّ للنجوم تأثیراً فی نزول المطر . ویمکن حملها علی الاعتقاد بتأثیرها بالاستقلال أو فی عرض إرادة الربّ عزّ وجلَّ ، وبطلان هذا الإعتقاد عند المتشرعة واضحٌ .

ومنها : معتبرة نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المنجمُ ملعونٌ ، والکاهن ملعونٌ ، والساحر ملعونٌ ، والمغنیة ملعونةٌ ، ومَنْ آواها وأکل کسبها ملعونٌ .

وقال علیه السلام : المنجمُ کالکاهنِ ، والکاهنُ کالساحرِ ، والساحرُ کالکافرِ ، والکافرُ فی النارِ(1) .

وهذه الروایة مِنْ حیث السند تامةٌ ، لأنّ وثاقة ابنی ولید والصفار معلومة ، والمراد بالحسن بن علی الکوفی المذکور فی السند هو الحسن بن علی بن عبد اللّه بن المغیرة البَجَلّی ثقة ثقة کما ذکره النجاشی(2) ، والمراد باسحاق بن إبراهیم هو الحضینی وهو ثقة علی الأقوی ،

ونصر بن قابوس أیضاً ثقة علی الأقوی کما ذکرهما المامقانی فی نتائج التنقیح(3) ، فالسند صحیح ولا أقل مِنْ إعتباره .

ولکن الکلام فی دلالتها : فهل یمکن القول بکفر کلِّ المنجمین وأنّهم ملعونون ؟

إستفادة هذا الإطلاق من الروایة مشکلة جداً ، ولذا حملها الصدوق قدس سره علی الکفار منهم ، فقال بعد نقل الروایة : « المنجم الملعون هو الذی یقول بقدم الفلک ولا یقول بمفلّکه وخالقه عزّ وجلّ »(4) .

ومنها : خبر القاسم بن عبد الرحمن الأنصاری عن الباقر علیه السلام عن جده الحسین بن علی علیه السلام قال : لمّا افتتح رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم خیبر دعا بقوسه فاتّکأ سیتها ، ثم حمد اللّه وأثنی علیه وذکر ما فتح اللّه له ونصره به ونهی عن خصال تسعة : عن مهر البغیَّ ، وعن کسب الدابة - یعنی عسب الفحل - وعن خاتم الذهب ، وعن ثمن الکلب ، وعن میاثر الأرجوان - قال

ص:404


1- (4) الخصال 1 / 297 ح 67 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 143 ح 7 .
2- (5) رجال النجاشی / 62 الرقم 147 .
3- (1) نتائج التنقیح / 12 و 158 .
4- (2) الخصال 1 / 298 .

أبو عروبة (وهو أحد رواة الحدیث) عن میاثر الحمر - وعن لبوس ثیات القسّیِّ - وهی ثیاب تنسج بالشام - وعن أکل لحوم السباع ، وعن صرف الذهب بالذهب والفضة بالفضة بینهما فضل ، وعن النظر فی النجوم(1) .

هذه الروایة مطلقة وظهور النهی فی الحرمة واضح ، فالروایة تدلّ علی حرمة النظر فی النجوم ، ولکن فی سندها ضعف ظاهر . ویمکن تخصیصها بالروایات المجوِّزة الآتیة ، فانتظر .

ومنها : صحیحة عبد الملک بن أعین قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی قد ابتلیت بهذا العلم فأرید الحاجة ، فإذا نظرتُ إلی الطالع ورأیتُ الطالع الشرّ جلستُ ولم أذهب فیها ، وإذا رأیتُ الطالع الخیر ذهبتُ فی الحاجة ، فقال لی : تقضی ؟ قلت : نعم ، قال : أحرق کتبک(2) .

سند الروایة تام ، وتحمل علی ما ذکرنا فی الروایات السابقة مِن الإیمان بالنجوم والإتکال علیها والتوجّه إلیها فقط ، ولذا أمر الإمام علیه السلام فی هذه الحالة بإحراق کتبه فی هذا العلم حتّی یمکن تخلصه من هذه الحالة .

والظاهر من الروایة أنّ ابتلاء عبد الملک بن أعین بعلم النجوم صار فی حدٍّ یوجب

إختلال أمر معاشه وحیاته ، ولذا أمر الإمام علیه السلام بإحراق کُتبه حتّی یتمکن من التخلص من النجوم ومحاسباته والعمل علی طبقه ، وبهذا التخلص أقام مجدداً أمر معاشه وحیاته .

ومنها : خبر أبی خالد الکابلی عن علی بن الحسین علیه السلام قال فی حدیث : الذنوب التی تظلم الهواء : السحر والکهانة والإیمان بالنجوم والتکذیب بالقدر ، الحدیث(3) .

قال العلامة المجلسی فی تفسیرها : « ظلمة الهواء کنایة عن التحیّر فی الأمور أو شدّة البلیّة وظهور آثار غضب اللّه فی الجو »(4) .

أقول : سند الروایة ضعیف ، ودلالتها علی حرمة الإیمان بالنجوم فی قبال الإیمان باللّه تعالی واضحٌ ، ولا تدلّ علی حرمة علم النجوم مطلقاً .

ص:405


1- (3) الخصال 2 / 417 ح 10 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 142 ح 5 .
2- (4) الفقیه 2 / 267 ح 2402 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 370 ح 1 .
3- (1) معانی الأخبار 271 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 372 ح 6 .
4- (2) بحار الأنوار 55 / 274 (22 / 396) .

ومنها : مرسلة الرضی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال لبعض أصحابه لما عزم المسیر إلی الخوارج وقد قال له : إن سرتَ یا أمیر المؤمنین فی هذا الوقت خشیتُ ألاّ تظفر بمرادک من طریق علم النجوم ، فقال علیه السلام : أتزعم أنّک تهدی إلی الساعة التی مَنْ سار فیها صُرف عنه السوء ؟ وتُخَوِّفُ مِن الساعة التی مَنْ سار فیها حاق به الضُّرُّ ؟ فمن صدَّقک بهذا فقد کذَّب القرآن ، واستغنی عن الإستعانة باللّه فی نیل المحبوب ودفع المکروه ، وتبتغی فی قولک للعامل بأمرک أن یُولیک الحمد دون ربّه ، لأنّک - بزعمک - أنت هدیتَهُ إلی الساعة التی نال فیها النفع وأَمِنَ الضُّرَّ ! ! !

أیها الناس إیّاکم وتعلّم النجوم إلاّ ما یُهتدی به فی برٍّ أو بحرٍ ، فإنّها تدعو إلی الکهانة والمنجم کالکاهن والکاهن کالساحر والساحر کالکافر والکافر فی النار ، سیروا علی اسم اللّه(1) .

ورواها أبو منصور الطبرسی مرفوعاً فی الإحتجاج 1 / 240 ، وأضاف فی آخرها : سیروا علی اسم اللّه وعونه ، ومضی فظفر بمراده صلوات اللّه علیه .

وقد ورد النهی فی المرفوعة - کما تری - عن الإستغناء عن الإستعانة باللّه تعالی ، حیث علم النجوم ربّما یوجب ذلک ، فورد النهی عنه أیضاً تبعاً .

ومنها : مرفوعة أبی منصور الطبرسی عن الصادق علیه السلام فی احتجاجه علی الزنادقة

حیث سأله : فما تقول فی علم النجوم ؟ قال علیه السلام : هو علم قلّت منافعه وکثرت مضرّاته ، لأنّه لا یدفع به المقدور ولا یتقی به المحذور ، إنّ المنجم بالبلاء لم ینجه التحرز من القضاء ، إن أخبر هو بخیر لم یستطع تعجیله ، وإن حدث به سوء لم یمکنه صرفه ، والمنجم یضادّ اللّه فی علمه ، بزعمه أن یردّ قضاء اللّه عن خلقه(2) .

ومنها : مرفوعة الفاضلان والشهید الثانی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَنْ صدّق کاهناً أو منجماً فهو کافر بما اُنزل علی محمد صلی الله علیه و آله وسلم (3) .

ص:406


1- (3) نهج البلاغة . الخطبة 79 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 373 ح 8 .
2- (1) الاحتجاج 2 / 384 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 143 ح 10 .
3- (2) المعتبر 2 / 688 وتذکرة الفقهاء 6 / 137 ومسالک الأفهام 2 / 53 ونقل عنهم فی وسائل الشیعة 17/144 ح 11 .

تلک عشرة کاملة من الروایات الواردة فی النهی عن تعلّم النجوم والنظر فیها ، وأنتَ تری أنّ مصب النهی فیها هو الإیمان بالنجوم والإتکال علیها فی قبال الإیمان باللّه والإتکال علیه تعالی ، وهذا الإیمان والإتکال غیر نفس علم النجوم ، العلم شیءٌ والإیمان بشیءٍ والإتکال علیه شیءٌ آخرٌ .

مضافاً إلی ورود الطائفة الثانیة من الروایات - أعنی الروایات المجوِّزة فی المقام - وهی کثیرة نذکر لک بعضها :

الطائفة الثانیة : الروایات المجوِّزة

ورد الترخیص بالنسبة إلی علم النجوم والنظر فیه وتعلّمه ومحاسباته فی عدّة من الروایات :

منها : خبر عبد الرحمن بن سیابة قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت لک الفداء إنّ الناس یقولون : إنّ النجوم لا یحلّ النظر فیها وهی تعجبنی فإن کانت تضرُّ بدینی فلا حاجة لی فی شیءٍ یضرُّ بدینی ، وإن کانت لا تضرُّ بدینی فو اللّه إنی لاشتهیها وأشتهی النظر فیها ؟ فقال : لیس کما یقولون ، لا تضرّ بدینک . ثم قال : إنّکم تنظرون فی شیءٍ منها کثیره لا یدرک وقلیله لا ینتفع به ، تحسبون علی طالع القمر . ثم قال : أتدری کم بین المشتری والزهرة من دقیقة ؟ قلت : لا واللّه ، قال : أفتدری کم بین الزهرة وبین القمر من دقیقة ؟ قلت : لا ، قال : أفتدری کم بین الشمس وبین السنبلة وبین اللوح المحفوظ من دقیقة ؟ قلت : لا واللّه ما سمعته من منجم قطّ ، قال : ما بین کلّ واحد منهما إلی صاحبه ستون أو سبعون دقیقة ، شک عبد الرحمن .

ثم قال : یا عبد الرحمن هذا حساب إذا حسبه الرجل ووقع علیه عرف القصبة التی وسط الأجمة وعدد ما عن یمینها وعدد ما عن یسارها وعدد ما خلفها وعدد ما أمامها حتّی لا یخفی علیه من قصب الأجمة واحدة(1) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ الحسن بن أسباط ، فإنّه إمامیٌّ مجهولٌ ، فالسند به ضعیف . ولکن دلالتها علی جواز النظر فی علم النجوم واضحة ، وهکذا فی عدم إفادته ناقصاً شیئاً .

ص:407


1- (1) الکافی 8 / 195 ح 233 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 141 ح 1 .

ومنها : خبر معلی بن خنیس قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن النجوم أحقٌّ هی ؟ فقال : نعم ، إنّ اللّه عزّ وجل بعث المشتری إلی الأرض فی صورة رجل فأخذ رجلاً من العجم فعلّمه النجوم حتّی ظنَّ أنّه قد بلغ ، ثم قال له : أنظر أین المشتری ؟ فقال ما أراه فی الفلک وما أدری أین هو ؟ قال : فنحّاه وأخذ بید رجل من الهند فعلّمه حتّی ظنّ أنّه قد بلغ وقال : أنظر إلی المشتری أین هو ؟ فقال : إنّ حسابی لیدلّ علی أنّک أنت المشتری ، قال : وشهق شهقة فمات وورث علمه أهله فالعلم هناک(1) .

الروایة ضعیفة الإسناد ودلالتها علی الجواز واضحة ، والعجب من المجلسی قدس سره حیث یقول فی ذیل الروایة : « قوله « أحقّ هی ؟ فقال : نعم» یدل علی أن النجوم علامات للکائنات یعرفها أهلها ، ولا یدل علی أنّه یجوز تعلیمه وتعلّمه واستخراج الأحکام منه لسائر الخلق »(2) .

ومنها : فی الصحیح عن جمیل بن صالح عمّن أخبره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل عن النجوم ؟ قال : ما یعلمها إلاّ أهل بیت من العرب وأهل بیت من الهند(3) .

ومنها : خبر هشام الخفّاف قال : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : کیف بصرک بالنجوم ؟ قال : قلت : ما خلّفت بالعراق أبصر بالنجوم منّی ، فقال : کیف دوران الفلک عندکم ؟ قال : فأخذت قلنسوتی عن رأسی فأدرتها ، قال : فقال : إن کان الأمر علی ما تقول فما بال بنات النعش و الجدیّ والفرقدین لا یرون یدورون یوماً من الدهر فی القبلة ؟ قال : قلت : هذا واللّه شیٌ لا أعرفه ولا سمعت أحداً من أهل الحساب یذکره ، فقال لی : کم السکینة من الزهرة جزءاً فی ضوئها ؟ قال : قلت : هذا واللّه نجم ما سمعت به ولا سمعت أحداً من الناس یذکره ، فقال : سبحان اللّه فأسقطتم نجماً بأسره ، فعلی ما تحسبون ؟ ! ثم قال : فکم الزهرة من القمر جزءاً فی ضوئه ؟ قال : قلت : هذا شیءٌ لا یعلمه إلاّ اللّه عزّ وجل .

قال : فکم القمر جُزءاً من الشمس فی ضوئها ؟ قال : قلت : ما أعرف هذا . قال : صدقت .

ص:408


1- (2) الکافی 8 / 330 ح 507 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 142 ح 3 .
2- (3) مرآة العقول 26 / 457 .
3- (4) الکافی 8 / 330 ح 508 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 142 ح 4 .

ثم قال : ما بال العسکرین یلتقیان فی هذا حاسب وفی هذا حاسب فیحسب هذا لصاحبه بالظفر ویحسب هذا لصاحبه بالظفر ، ثم یلتقیان فیهزم أحدهما الآخر ، فأین کانت النحوس ؟ قال : قلت : لا واللّه ما أعلم ذلک . قال : فقال : صدقت إنّ أصل الحساب حقٌّ ولکن لا یعلم ذلک إلاّ مَنْ علم موالید الخلق کلّهم(1) .

الروایة ضعیفة الإسناد ، وتدلّ علی حقیّة علم النجوم ، کما اعترف بذلک العلاّمة المجلسی قدس سره القدوسی فی کتابیه بحار الأنوار(2) ومرآة العقول(3) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّ آزر أبا إبراهیم علیه السلام کان منجماً لنمرود ولم یکن یصدر إلاّ عن أمره ، فنظر لیلة فی النجوم فأصبح وهو یقول لنمرود : لقد رأیتُ عجباً ، قال : وما هو ؟ قال : رأیت مولوداً یولد فی أرضنا یکون هلاکنا علی یدیه ولا یلبث إلاّ قلیلاً حتّی یُحمل به . قال : فتعجب من ذلک وقال : هل حملت به النساء ؟ قال : لا ، قال : فحجب النساء من الرجال فلم یدع امرأة إلاّ جعلها فی المدینة لا یخلص إلیها ووقع آزر بأهله فعلقت بابراهیم علیه السلام ، الحدیث(4) .

سند الروایة صحیح ودلالتها علی حقیّة علم النجوم واضحة ، کما اعترف به العلامة المجلسی قدس سره وقال فی ذیل الروایة : « ولقد علمت أنّه یدلّ علی کون النجوم علامات للکائنات »(5) . ولکن المشکلة فی الروایة انتساب النبی إبراهیم علیه السلام إلی آزر ، مع أنَّ والدَه تارخٌ وآزر کان عمّاً مربیّاً له . ومع ذلک کلّه هذا لا یضرّ بالروایة وبما استفدنا منها من حقیّة علم النجوم وجواز النظر إلیها .

قال ابن طاوس بعد نقل الروایة : « ورویتُ هذا الحدیث عن إبراهیم الخزاز عن أبی

ص:409


1- (1) الکافی 8 / 351 ح 549 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 141 ح 2 .
2- (2) بحار الأنوار 55 / 244 (22 / 376) .
3- (3) مرآة العقول 26 / 516 .
4- (4) الکافی 8 / 366 ح 558 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 248 ح 28 (22 / 378) .
5- (5) مرآة العقول 26 / 550 .

بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام من أصل قُرِئ علی هارون بن موسی التلعکبری رحمه الله ، وقد روی هذا الحدیث علی بن إبراهیم فی کتاب تفسیر القرآن(1) بأبسط من هذه الروایة ، ورواه أیضاً أبو جعفر محمد بن جریر الطبری فی الجزء الأوّل من تاریخه(2) ورواه ، أیضاً سعید بن هبة اللّه الراوندی فی کتاب قصص الأنبیاء(3) ، ورواه الثعلبی فی تفسیره(4) وغیره من العلماء »(5) .

ومنها : الصحیح عن علی بن أسباط الثقة عمّن رواه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان بینی وبین رجل قسمة أرض ، وکان الرجل صاحب نجوم ، وکان یتوخّی ساعة السعود فیخرج فیها وأخرج أنا فی ساعة النحوس ، فاقتسمنا فخرج لی خیر القسمین ، فضرب الرجل یده الیمنی علی الیسری ثمّ قال : ما رأیت کالیوم قطّ ، قلت : ویل الآخر وما ذاک ؟ قال : إنّی صاحب نجوم أخرجتک فی ساعة النحوس وخرجت أنا فی ساعة السعود ثمّ قسمنا فخرج لک خیر القسمین ، فقلت : ألا اُحدّثک بحدیث حدّثنی به أبی ، قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من سرّه أن یدفع اللّه عنه نحس یومه فلیفتتح یومه بصدقة یذهب اللّه بها عنه نحس یومه ، ومن أحبّ أن یذهب اللّه عنه نحس لیلته فلیفتتح لیلته بصدقة یدفع اللّه عنه نحس لیلته ، فقلت : وإنّی افتتحت خروجی بصدقة ، فهذا خیر لک من علم النجوم(6) .

رواها محمد بن محمد بن الأشعث فی الجعفریات / 56 والقاضی النعمان المصری فی دعائم الاسلام 2 / 332 والسید فضل اللّه الراوندی فی النوادر / 228 ح 466 والقطب الراوندی فی الدعوات / 112 ح 251 .

یتوخّی : أی یتحراه ویطلبه ، وحیث لم ینه الإمام علیه السلام عن النظر فی النجوم فتقریره یدلّ علی جواز النظر فی علم النجوم وجواز العمل علی طبق حساباته .

ص:410


1- (1) تفسیر القمی 1 / 206 .
2- (2) تاریخ الطبری 1 / 144 .
3- (3) قصص الأنبیاء / 103 .
4- (4) الکشف والبیان 4 / 162 .
5- (5) فرج المهموم / 25 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 238 - (22 / 372) .
6- (6) الکافی 4 / 6 ح 9 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 273 ح 64 (22 / 396) .

ومنها : صحیحة ابن أبی عمیر أنّه قال : کنت أنظر فی النجوم وأعرفها وأعرف الطالع

فیدخلنی من ذلک شیءٌ ، فشکوت ذلک إلی أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام فقال : إذا وقع فی نفسک شیءٌ فتصدَّق علی أوّل مسکین ثمّ امض ، فإنّ اللّه عزّ وجل یدفع عنک(1) .

سند الروایة صحیح ، ولم ینهه الإمام علیه السلام عن النظر فی النجوم وحساباته بل هداه إلی کیفیة تخلّصه ممّا وقع فی نفسه بالصدقة علی أوّل مسکین رآه . وهذه الروایة تدلّ علی جواز النظر فی النجوم ، بل العمل علی طبق محاسباتها .

ورویها فی المحاسن 2 / 86 ح 1228 بسند صحیح عن سفیان بن عمر عن أبی عبداللّه علیه السلام ، والرجل مهمل فسند المحاسن ضعیف .

ومنها : خبر أبان بن تغلب قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام إذ دخل علیه رجل من أهل الیمن فسلّم علیه ، فردّ علیه السلام وقال له : مرحباً بک یا سعد ، فقال له الرجل : بهذا الإسم سمّتنی اُمّی وما أقلّ من یعرفنی به ، فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : صدقت یا سعد المولی ، فقال الرجل : جعلت فداک بهذا کنت ألّقب ، فقال له أبوعبداللّه علیه السلام : لا خیر فی اللقب ، إنّ اللّه تبارک وتعالی یقول فی کتابه : «وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ»(2) ، وما صناعتک یا سعد ؟ فقال : جعلت فداک أنا من أهل بیت ننظر فی النجوم لا نقول : إنّ بالیمن أحداً أعلم بالنجوم منّا ، فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : فأسألک ؟ فقال الیمانی : سل عما أحببت من النجوم فإنی اُجیبک عن ذلک بعلمٍ . ثمّ سأله أبو عبد اللّه علیه السلام عن مسائل فی جواب کلّ ذلک یقول المنجم الیمانی : لا أدری ، ثمّ قال علیه السلام : یا أخا الیمن عندکم علماء ؟ فقال الیمانی : نعم ، جعلت فداک إنّ بالیمن قوماً لیسوا کأحد من الناس فی علمهم ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : وما یبلغ من علم عالمهم ؟ فقال له الیمانی : إنّ عالمهم لیزجر الطیر ویقفو الأثر فی الساعة الواحدة مسیرة شهر للراکب المجدّ . فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : فإن عالم المدینة أعلم من عالم الیمن ، فقال الیمانی : وما بلغ من علم عالم المدینة ؟ فقال أبوعبد اللّه علیه السلام : علم عالم المدینة ینتهی إلی حیث لا یقفو

ص:411


1- (1) الفقیه 2 / 269 ح 2406 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 376 ح 3 .
2- (2) سورة الحجرات / 11 .

الأثر ویزجر الطیر ویعلم ما فی اللحظة الواحدة مسیرة الشمس تقطع إثنی عشر بروجاً وإثنی عشر برّاً وإثنی عشر بحراً وإثنی عشر عالَماً . قال : فقال له الیمانی : جعلت فداک ما ظننت أنّ أحداً یعلم هذا أو یدری کنهه ، قال : ثمّ قام الیمانی فخرج(1) .

سند الروایة ضعیف ، ولکن حیث لم ینه الإمام علیه السلام الیمانی عن النجوم تدلّ علی جواز النظر فیها .

ومنها : مرسلة أبی بصیر قال : رأیت رجلاً یسأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن النجوم ، فلمّا خرج من عنده قلت له : هذا علم له أصل ؟ قال : نعم ، قلت : حدّثنی عنه ، قال : اُحدثک عنه بالسعد ولا اُحدثک بالنحس ، الحدیث(2) .

و منها : ما رواه ابن طاوس بإسناده عن معاویة بن حکیم عن محمد بن زیاد عن محمد بن یحیی الخثعمی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن النجوم حقّ هی ؟ قال لی : نعم ، فقلت له : وفی الأرض من یعلمها ؟ قال : نعم ، وفی الأرض من یعلمها(3) .

ومنها : ما رواه ابن طاوس عن أصل عتیق اسمه کتاب التجمّل عن محمد وهارون ابنی أبی سهل وکتبا إلی أبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ أبانا وجدّنا کانا ینظران فی النجوم ، فهل یحلّ النظر فیها ؟ فکتب : نعم(4) .

ومنها : ما رواه ابن طاوس أیضاً عن کتاب التجمّل أنّهما کتبا إلی أبی عبد اللّه علیه السلام : نحن ولد بنی نوبخت المنجم ، وقد کنّا کتبنا إلیک هل یحلّ النظر فیها ؟ فکتبت : نعم ، والمنجمون یختلفون فی صفة الفلک فبعضهم یقول : إنّ الفلک فیه النجوم والشمس والقمر معلَّق بالسماء

ص:412


1- (3) الخصال 2 / 489 ح 68 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 269 ح 58 (22 / 393) .
2- (1) المناقب 4 / 265 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 8 / 124 ح 4 الباب 11 من أبواب آداب السفر إلی الحج وغیره .
3- (2) فرج المهموم / 91 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 249 ح 30 (22 / 379) ومستدرک الوسائل 13 / 100 ح 3 .
4- (3) فرج المهموم / 100 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 250 ح 35 (22 / 380) ومستدرک الوسائل 13 / 102 ح 7 .

وهو دون السماء ، وهو الذی یدور بالنجوم والشمس والقمر والسماء فإنّها لا تتحرّک ولا تدور ، ویقولون : دوران الفلک تحت الأرض ، وإنّ الشمس تدور مع الفلک تحت الأرض ، فتغیب فی المغرب تحت الأرض وتطلع بالغداة من المشرق . فکتب علیه السلام : نعم یحلّ ما لم یخرج من التوحید(1) .

ومنها : قال ابن طاوس : رویتُ بعدّة طرق إلی یونس بن عبد الرحمن فی جامعه

الصغیر بإسناده قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک أخبرنی عن علوم النجوم ما هی ؟ فقال : هو علم من علم الأنبیاء . قال : فقلت : کان علی بن أبی طالب علیه السلام خبیراً بعلمه ؟ فقال : کان أعلم الناس به(2) .

ومنها : ما رواه أبو منصور الطبرسی مرفوعاً عن سعید بن جبیر قال : استقبل أمیر المؤمنین علیه السلام دهقان من دهاقین الفرس ، فقال له - بعد التهنئة - : یا أمیرالمؤمنین تناحست النجوم الطالعات وتناحست السعود بالنحوس ، وإذا کان مثل هذا الیوم وجب علی الحکیم الإختفاء ، ویومک هذا صعب قد اتصلت فیه کوکبان وانقدح من برجک النیران ولیس لک الحرب بمکان ، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : ویحک یا دهقان المنبیء بآثار والمحذّر من الأقدار ، ما قصة صاحب المیزان وقصة صاحب السرطان ؟ وکم المطالع من الأسد والساعات فی المحرکات ؟ وکم بین السراری والذراری ؟ قال : سأنظر . وأومی بیده إلی کمه وأخرج منه اصطرلاباً ینظر فیه .

فتبسّم علی علیه السلام وقال : أتدری ما حدث البارحة ؟ وقع بیت بالصین ، وانفرج برج ماجین ، وسقط سور سرندیب ، وانهزم بِطْریق الروم بأرمینیة ، وفقد دیّان الیهود بأبلة ، وهاج النمل بوادی النمل ، وهلک ملک أفریقیة ، أکنت عالماً بهذا ؟

قال : لا یا أمیر المؤمنین . فقال علیه السلام : البارحة سعد سبعون ألف عالَم وولد فی کل عام سبعون ألفاً ، واللیلة یموت مثلهم وهذا منهم - وأومی بیده إلی سعد بن مسعدة الحارثی - لعنه

ص:413


1- (4) فرج المهموم / 100 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 250 ح 36 (22 / 380) ومستدرک الوسائل 13 / 102 ح 8 .
2- (1) فرج المهموم / 2 و 24 و نقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 235 ح 35 (22 / 370) .

اللّه - وکان جاسوساً للخوارج فی عسکر أمیر المؤمنین علیه السلام ، فظنّ الملعون أنّه یقول خذوه فأخذ بنفسه فمات فخر الدهقان ساجداً .

فقال له أمیر المؤمنین : ألم أُرْوِک من عین التوفیق ؟ قال : بلی یا أمیر المؤمنین . فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : أنا وأصحابی لا شرقیون ولا غربیون ، نحن ناشئة القطب وأعلام الفلک ، وأما قولک « انقدح من برجک النیران » فکان الواجب علیک أن تحکم لی به لا علیَّ ، أمّا نوره وضیاؤه فعندی ، وأما حریقه ولهبه فذاهب عنّی ، وهذه مسألة عمیقةٌ إحسبها إن کنت حاسباً(1) .

وجه الاستدلال بهذه المرفوعة تصحیح أمیر المؤمنین علیه السلام حسابات المنجم

وتقریره علیه السلام فی أصل النجوم ، حیث لم ینهه ولم یردعه عن النجوم .

فهذه أربع عشرة روایة تدلّ علی جواز النظر فی علم النجوم فی الجملة ، وإن أردت أکثر من هذا فعلیک بمراجعة کتاب فرج المهموم بمعرفة علم النجوم تصنیف السید الجلیل ابن طاوس الحسنی قدس سره ، قد أکثر النقل عنه العلامة المجلسی فی باب علم النجوم والعمل به وحال المنجمین فی بحار الأنوار 55 / 217 (22 / 359) وروی فیه أکثر من ثمانین روایة ، فراجعه إن شئت .

وبالجملة ، حیث حملنا الروایات الناهیة إلی الإیمان بالنجوم والإستعانة بها والإتّکال علیها فی أعمال الإنسان ونشاطاته فی قبال الإیمان باللّه تعالی والإستعانة به والإتّکال علیه ، وبعد ورود الروایات المجوِّزة الماضیة فلابدّ من القول بالجواز فی علم النجوم وتعلیمه وتعلّمه وحساباته والإخبار به علی الأمور الآتیة بنحو الجزم إن استند إلی برهان أو دلیل قطعی وإلاّ بنحو الظن إن استند إلی أمارات تدلّ علیه . وهکذا یجوز ترتیب الأثر العملی علی وفقه وطبقه ، ولکن مع کمال التوجّه والتنبّه إلی اللّه تعالی والإیمان بأنّ النجوم مسخرات لأمره ، وأنّ الأمور کلَّها بید اللّه تعالی ، فیجب علی العبد الإیمان به والإستعانة منه والتوکّل علیه تعالی ، و الإعتقاد بأنه لم یقع فی العالَم شیءٌ إلاّ بعد تعلّق إرادة اللّه به وأمره کن فیکون . وهذا تمام الکلام فی علم النجوم والحمد للّه ربّ النجوم والسماوات والأرضین والعالمین .

ص:414


1- (2) الاحتجاج 1 / 239 ونقل عنه فی بحار الأنوار 55 / 221 ح 2 (22 / 361) .

المجلد 2

اشارة

سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -

عنوان و نام پدیدآور : الاراء الفقهیه قسم المکاسب المحرمه/ تالیف هادی النجفی.

مشخصات نشر : اصفهان: مهر قائم، 1387.

مشخصات ظاهری : 3 ج.

شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2

وضعیت فهرست نویسی : فاپا/ برون سپاری.

یادداشت : عربی.

یادداشت : ج. 2 و 3 ( چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : معاملات (فقه)

موضوع : کسب و کار حرام

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ4 1387

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : 1245417

ص: 1

اشارة

ص: 2

الاراء الفقهیه قسم المکاسب المحرمه

تالیف هادی النجفی

ص: 3

ص: 4

تتمة النوع الرابع: الاکتساب بما هو حرام فی نفسه

حفظ کتب الضلال

اشارة

التعرض لمعنی العنوان هو الأولی ، کما قال الشیخ الأعظم : « لابدّ من تنقیح هذا العنوان»(1) ، فما المراد بالحفظ وماهی کتب الضلال هنا ؟

أما المراد بالحفظ

فقال الشهید الثانی : « المراد حفظها من التلف أو علی ظهر القلب وکلاهما محرَّم لغیر النقض والحجة علی أهلها لمن له أهلیتها لا مطلقاً ، خوفاً علی ضعفاء البصیرة من الشبهة . ومثله نُسخها . وکذا یجوزان للتقیة . وبدونها یجب إتلافها إن لم یمکن إفراد مواضع الضلال ، وإلاّ اقتصر علیها حذراً من إتلاف ما یعدّ مالاً من الجلد والورق ، إذا کان لمسلم أو محترم المال »(2) .

وقال المحقق الثانی فی معنی الحفظ : « أی حفظها فی الصدر أو حفظها بمعنی صیانتها عن أسباب التلف ... »(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « من المحرَّم حفظ کتب الضلال ،کأنّ المراد أعم من حفظها عن التلف أو علی الصدر ، والأوّل أظهر . وکأنّ نسخها أیضاً کذلک ، بل هو اُولی»(4) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « (حفظ کتب الضلال) أو ضلالها فی الصدر أو عن التلف (ونسخها) متعلقاً بأصل أو فرع ، مع صدق الإسم علیها لإعدادها له أو کثرته

ص:5


1- (1) المکاسب المحرمة / 30 - (1 / 235) .
2- (2) مسالک الأفهام 3 / 127 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 26 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

فیها ... »(1) .

وقال صاحب الریاض « (وحفظ کتب الضلال) عن الإندراس أو عن ظهر «القلب(ونسخها) وتعلیمها وتعلّمها ...»(2) .

وقال النراقی : « حفظ کتب الضلال عن الإندراس ونسخها وتعلیمها وتعلّمها ...»(3) .

وقال السید جواد العاملی : « ... وقضیة قولهم « یحرم حفظها» أنّه یجب إتلافها کما صرّح بذلک المحقق الثانی والشهید الثانی والقطیفی وغیرهم ... »(4) .

وقال صاحب الجواهر : « ... والمراد حفظها عن التلف أو علی ظهر القلب ، بل یحرم مطالعتها وتدریسها ، بل الظاهر أن حرمة الحفظ لوجوب إتلافها باعتبار دخولها تحت الوضع للحرام وتحت ما من شأنه ترتب الفساد علیه ، بل هی أولی حینئذ بالحرمة من هیأکل العبادة المبتدعة ... »(5) .

وقال الشیخ الأعظم فی آخر البحث : « ثمّ الحفظ المحرَّم یُراد به الأعمّ من الحفظ بظهر القلب والنسخ و المذاکرة وجمیع ماله دخل فی بقاء المطالب المضلّة»(6) .

وقال المحقق الإیروانی : « مقتضی دلیله وجوب العمد إلی إتلاف کتب الضلال ، فیکون المراد من الحفظ عدم التعرض للإتلاف ، لکنّه بعید من العبارة .

ویُحتمل أن یکون المراد الحفظ من إثبات الید علیها واقتنائها .

وثالث الإحتمالات الذی هو ظاهر لفظ « الحفظ » حفظه عن التلف ، فیختص بما إذا کان فی عرضة التلف ومتوجّهاً إلیه غرق أو حرق فیحفظه عن ذلک ... لکن الأدلة إن تمّت

ص:6


1- (5) شرح القواعد 1 / 216 .
2- (1) ریاض المسائل 8 / 164 .
3- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
4- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 - (12 / 206) .
5- (4) جواهر الکلام 22 / 56 .
6- (5) المکاسب المحرمة / 30 - (1 / 238) .

قضت بوجوب الإتلاف والعمد إلی المحو والإعلام فی أیّة مکتبة کانت »(1) .

وقال المحقق الأردکانی : « أمّا الحفظ فکانت محتملاته أیضاً ثلاثاً :

الأوّل : أن یراد منه عدم الإتلاف .

الثانی : إثبات الید علیها .

الثالث : صیانته عن التلف إذا کان فی معرضه کالغرق والحرق .

إلاّ أنّ المستفاد من بعض أدلة حرمة الحفظ هو وجوب الإتلاف ، ولازمه إرادة المعنی الأوّل من الحفظ هنا»(2) .

وقال شیخنا الأستاذ - مدظله - : « المراد بحفظ کتب الضلال ما یعمّ اقتناءها واستنساخها»(3) .

وقال بعض أساتیذنا - مدظله - : « أمّا الحفظ فقد مرّ عن المحقق الإیروانی قدس سره فیه ثلاثة احتمالات ، وأنّ الظاهر من الأدلة حرمة الحفظ فی مقابل الإتلاف ، فیجب محو کتب الضلال وإتلافها أینما کانت . ویضاف إلیها إحتمال رابع ، وهو حفظها بظهر القلب»(4) .

أقول : ما المراد بالحفظ هنا ؟ وجوه :

1 - الحفظ بظهر القلب وإیداعها فی الحافظة وقوة الذاکرة .

2 - إثبات الید علیها واقتناؤها .

3 - المحافظة علیها من إتلافها إذا کانت فی معرض التلف أو الإتلاف .

4 - استنساخها وتکثیرها وطبعها وتوزیعها ، بحیث لا یتمکن أحدٌ من إتلاف هذا المحتوی ، أو فقل فی زماننا هذا إرسالها إلی الإنترنت وإطلاع الناس علیها .

5 - المراد بالحفظ هنا عدم الإتلاف .

ظاهر العبائر ومقتضی الأدلة هو الأخیر ، یعنی أنّ المراد بالحفظ ما یقابل الإتلاف ،

ص:7


1- (6) حاشیة المکاسب 1 / 151 .
2- (7) غنیة الطالب 1 / 122 .
3- (1) إرشاد الطالب 1 / 140 .
4- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 90 .

وإنّ الحفظ بهذا المعنی العام یشمل غیره من المعانی المذکورة ، فالجمیع داخل فی حرمة الحفظ ، والأدلة إذا تمّت تقتضی حرمة جمیعها کما صرح بذلک الشیخ الأعظم فی عبارته التی مرّت منّا . واللّه سبحانه هو العالم .

وأما المراد من کتب الضلال

فقال الشیخ الطوسی : « إذا وُجد فی المغنم کتبٌ نظر فیها فإن کانت مباحة یجوز إقرار الید علیها ، مثل کتب الطب والشعر واللغة والمکاتبات ، فجمیع ذلک غنیمة ، وکذلک المصاحف وعلوم الشریعة کالفقه والحدیث ونحوه ، لأنّ هذا مال یباع ویشتری کالثیاب . وإن کانت کتباً لا تحلّ إمساکها کالکفر والزندقة وما أشبه ذلک ، کلّ ذلک لا یجوز بیعه ، وینظر فیه ، فإن کان ممّا ینتفع بأوعیته إذا غُسل کالجلود ونحوها فإنّها غنیمة ، وإن کان ممّا لا ینتفع بأوعیته کالکاغذ فإنّه یمزق ولا یحرق لأنّه ما من کاغذ إلاّ وله قیمة وکلم التوراة والانجیل

هکذا ، کالکاغذ فإنّه یمزق لأنّه کتاب مغیّر مُبدّل»(1) .

وقال أیضاً : « إذا أوصی بشیءٍ یکتب به التوراة والإنجیل والزبور وغیر ذلک من الکتب القدیمة ، فالوصیة باطلة لأنّها کتب مغیّرة مبدّلة ، قال اللّه تعالی : «یُحَرِّفُونَ الْکَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ»(2) وقال عزّ و جل : «فَوَیْلٌ لِّلَّذِینَ یَکْتُبُونَ الْکِتَابَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ»(3) ، وهی أیضاً منسوخة ، فلا یجوز نسخها لأنّه معصیة ، والوصیة بها باطلة ... »(4) .

أقول : فألحق الشیخ کتب التوراة والإنجیل وغیرهما من الکتب المنسوخة بالکتب الباطلة والضالّة .

وقال العلامة فی مغانم التذکرة : « الکتب التی لهم : فإن کان الإنتفاع بها حلالاً - کالطب

ص:8


1- (1) المبسوط 2 / 30 .
2- (2) سورة المائدة / 13 .
3- (3) سورة البقرة / 79 .
4- (4) المبسوط 2 / 63 .

والأدب والحساب والتواریخ - فهی غنیمة ، وإن حرم الإنتفاع بها مثل کتب الکفر والهجو والفحش المحض فلا یترک بحاله ، بل یغسل إن کان علی رَقٍّ أو کاغذٍ ثخینٍ یمکن غسله ، ثمّ هو کسائر الأموال ، فإن للممزَّق قیمة وإن قلَّت . وکذا کتب التوراة والإنجیل ، لأنّها مبدَّلة محرَّفة ، فلا یجوز الإنتفاع بها ، وإنّما تُقرّ فی أیدی أهل الذمة لاعتقادهم کما یُقرّون علی الخمر . والاُولی أنّها لا تُحرق لما فیها من أسماء اللّه تعالی»(1) .

وقال المحقق الثانی : « والظاهر عدم الفرق فی کتب الضلال بین کتب الاُصول والفروع ، لأنّ ابتناء فروعها علی الاُصول الفاسدة ... هذان (التوراة والإنجیل) من کتب الضلال بل من رؤوسها لکونهما محرّفین ... »(2) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ولعلّ المراد بها أعمّ من کتب الأدیان المنسوخة والکتب المخالفة للحقِّ اُصولاً وفروعاً ، والأحادیث المعلوم کونها موضوعة ، لا الأحادیث التی رواها الضعفاء لمذهبهم ولفسقهم مع إحتمال الصدور ، فحینئذ یجوز حفظ الصحاح الستة مثلاً - غیر الموضوع المعلوم - کالأحادیث التی فی کتبنا مع ضعف رواتها لکونها زیدیّة وفطحیة وواقفیة . فلا ینبغی الإعراض عن الأخبار النبویة التی رواها العامة ، فإنّها لیست إلاّ مثل ما

ذکرناها»(3) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « وکشف الحال : أنّه لیس الغرض من کتب الضلال ما اشتمل علی الضلال فی الجملة ، وإلاّ لم یمکن الرجوع إلی کتب اللغة والعربیة والتفسیر وغیرها من کتب المقدمات ووجب إتلافها لعدم الخلوّ من ذلک ، ولا ما کان من الکتب مشتملاً علی ما یحتاجه الفقیه فی طُرق الإستدلال للإطلاع علی مذاهب القوم ممّا یتوقّف علیه ترجیح الروایات بعضها من بعض ، ولا ما کان مستنداً إلی أهل الضلال وکان فیه رشاد کالکتب الاُصولیة المشتملة علی الضوابط الشرعیة الموصلة إلی تحصیل معرفة الاستدلال ، فإنَّ ذلک من الواجبات للتوصل إلی معرفة الأحکام الشرعیة .

ص:9


1- (5) تذکرة الفقهاء 9 / 127 .
2- (6) جامع المقاصد 4 / 26 .
3- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

بل المراد - واللّه أعلم - أنّ الکتب التی وضعت للاستدلال علی تقویة الضلال یجب إتلافها فضلاً عن غیره - من نسخ و غیره - إلاّ مع قصد الإبطال ونحوه کما ذکرناه ...»(1) .

وقال السید العاملی : « معرفة کتب الضلال فالظاهر من الأصحاب ما کان کلّها ضلالاً ... وهو الذی تقتضیه حقیقة اللفظ من دون تجوّز ، وهو معقد الإجماع ومصبّ الفتاوی کالتوراة والإنجیل ... وککتب القدماء من الحکماء القائلین بقدم العالم وإیجاب الصانع وعدم المعاد ، وکتب عبدة الأصنام ومنکری الصانع ، وأمّا کتب البدع فی هذه الملّة فهی أصناف : منها : کتب الجبر ونفی الغرض المفردة التی لیس معها غیرها ... .

وأمّا ما اشتمل علی ذلک من کتبهم مع کونه مشحوناً بما یوافق العدلیة - ککتب المعتزلة وبعض کتب الأشاعرة وتفاسیرهم واُصول فقههم والصحاح الستّ - فلا حرمة ، فیها کما نصّ علی بعض ذلک صاحب إیضاح النافع والبعض الآخر المولی الأردبیلی ... »(2) .

وقال النراقی : « والمراد بالضلال ما خالف الحقّ واقعاً ، کما یخالف الضروری أو بحسب علم المکلّف خاصة ، وأمّا ما خالفه بحسب ظنّه فلا»(3) .

وصاحب الجواهر بعد نقل کلام اُستاده کاشف الغطاء ، نَقَلَ کلام صاحب مفتاح الکرامة بعنوان بعض مشایخنا وقال فی نقده : « وفیه : ما عرفت من أنّه لیس فی النصوص هذا اللفظ کی یقتصر علی المنساق منها من کونه معدّاً أو کون مجموعه ضلالاً أو نحو ذلک ، وإنّما العمدة ما سمعته من الدلیل الذی لا فرق فیه بین المعدّ وغیره والکلّ والبعض ، والأصلی والفرعی الذی علم کونه ضلالاً ولو للتقصیر فی الإجتهاد ونحوه . ولعلّ ملاحظة الأصحاب کتب فروع العامة وذکرها فی کتبهم ، لأنّ لها مدخلیة فی تمییز الحق باعتبار ما ورد من الأمر بأخذ ما خالفهم وطرح ما وافقهم ، وهو موقوف علی ذلک ، وهو واضح . کما أنّه قد یقال : بخروج غالب کتب المخالفین والملل الفاسدة عن الضلال فی هذه الاُوقات باعتبار ما وقع من جملة من أصحابنا من نقضها وإفسادها ، فهی حینئذ کالتالفة ، فلا یجب حینئذ إتلافها بمعنی

ص:10


1- (2) شرح القواعد 1 / 218 .
2- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 و 63 - (12 / 208 و 207) .
3- (4) مستند الشیعة 14 / 158 .

إعدامها عن الوجود ، بل لا بأس ببیعها وشرائها والاستیجار علی کتابتها ونحو ذلک ، ضرورة صیرورتها بذلک کالکلام المنقوض فی کتب أهل الحق مثل الشافی وکشف الحق ونحوهما ، إذ من المعلوم أعمیة النقض للأمرین معاً ، فتأمل جیداً .

ولیس من کتب الضلال کتب الأنبیاء السابقین ما لم یکن فیها تحریف ، إذ النسخ لا یصیّرها ضلالاً ، ولذا کان بعضها عند أئمتنا علیهم السلام مثل الزبور ونحوه من أحسن کتب الرشاد ، لأنّها لیست إلاّ المواعظ ونحوها علی حسب ما رأیناها ، واللّه أعلم»(1) .

وقال الشیخ الأعظم قدس سره : « ...فلابدّ من تنقیح هذا العنوان وأنّ المراد بالضلال ما یکون باطلاً فی نفسه ، فالمراد الکتب المشتملة علی المطالب الباطلة ، أو أنّ المراد به مقابل الهدایة ؟ فیحتمل أن یراد بکتبه ما وضع لحصول الضلال ، وأن یراد ما اُوجب الضلال وإن کان مطالبها حقّة ، کبعض کتب العرفاء والحکماء المشتملة علی ظواهر منکرة یدّعون أن المراد غیر ظاهرها ، فهذه أیضاً کتب ضلال علی تقدیر حقیّتها»(2) .

وقال المحقق التقی الشیرازی : « المنصرف من الضلال : هو الضلال عن الدین بالإنکار أو الشک فی أحد المعارف الخمس وما یتبعها ، ویحتمل أن یراد به فی المقام أعمّ من ذلک وممّا یوجب الإقدام علی المعاصی ، کالکتب المصنّفة فی علم السحر والشعبذة والکهانة ونحوها ، ویدلّ علیه عموم بعض الأدلة الآتیة»(3) .

وقال المحقق الإیروانی : « ثمّ المراد من کتب الضلال یُحتمل أن یکون کلّ کتاب وضع علی الکذب والباطل فی الاُصول کان أو فی الفروع ، فی الموضوعات کان أو فی الأحکام ، بل کلّ کتاب لم تکن له غایةٌ عقلائیةٌ ، فیشمل ما وضع لأجل التلهّی به - مثل کتب القصص

والحکایات وإن کانت صادقةً .

ویُحتمل أن یکون المراد به کل کتاب أوجب الضلالة والخطأ فی الإعتقاد فی الاُصول أو الفروع أو الموضوعات ، وهذا یجتمع مع حقیّة ما تضمّنه ، وإنّما کانت الضلالة لقصور الناظر

ص:11


1- (1) الجواهر 22 / 59 و 60 .
2- (2) المکاسب المحرمة / 30 - (1 / 235) .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 71 .

فیه ، کما ضلّ کثیرون من مطالعة الکتاب العزیز والأحادیث الشریفة . ویُحتمل أن یکون المراد به کلّ کتاب وضع لغرض الإضلال ولغایة إغواء العوام»(1) .

وقال المحقق الخوئی : « ثمّ إنّ المراد بکتب الضلال کلّ ما وضع لغرض الإضلال وإغواء الناس وأوجب الضلالة والغوایة فی الإعتقادات أو الفروع ، فیشمل کتب الفحش والهجو والسّخریة وکتب القصص والحکایات والجرائد المشتملة علی الضلالة وبعض کتب الحکمة والعرفان والسحر والکهانة ونحوها ممّا یوجب الإضلال»(2) .

وقال المحقق الأردکانی فی بیان المراد من کتب الضلال : « ففیه ثلاث احتمالات :

الأوّل : أن یکون المراد بها کلّ کتاب مشتمل علی الأکاذیب والمطالب الباطلة من الاُصول والفروع و الموضوعات ، فتدخل فیها الکتب المشتملة علی الحکایات الکاذبة والقصص المجعولة .

الثانی : أن یکون المراد بها کلّ کتابٍ من شأنه الإضلال کان فی الاُصول والفروع أو الموضوعات ، ویدخل فیه بعض مصنفات بعض العرفاء کمحی الدین لإشتماله علی المطالب المنکرة ، وإن ادعی عدم إرادة ظواهرها .

الثالث : أن یُراد بها ما وضع لغرض الإضلال وإغواء العوام ، کالکتب المؤلفة فی الجبر وإثبات المذاهب الفاسدة .

والذی یقوی فی النظر هو المعنی الثانی ، فإنّ غایة ما یُستفاد من الأدلة حرمة حفظ کتب الضلال بهذا المعنی ، فلا یدخل فیها بعض کتب الأشعار المتضمن للأوهام والخیالات والکتب المشتملة علی الاُمور المجعولة من القصص والحکایات ، خصوصاً إذا کان الغرض من تألیفها النصیحة والمطالب الأدبیة .

والعجب من الشیخ قدس سره أنّه اقتصر علی ذکره الوجوه المحتملة للضلال ولم یرجح واحداً منها ، مع أنّه قال : « لابدّ من تنقیح هذا العنوان»(3) .

ص:12


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 151 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 254 .
3- (3) غنیة الطالب 1 / 122 .

وقال بعض أساتیذنا - مدظله - فی تعلیقه علی کلام الشیخ الأعظم قدس سره فی معنی الضلال : « احتمل المصنف - کما تری - فی معنی الضلال ثلاثة إحتمالات ، ولعلّ أظهرها هو الإحتمال الثالث ، ولکن لا بمعنی إیجابه الضلال ولو لفرد ما إحیاناً ولجهله وسذاجته ، وإلاّ لزم کون جمیع الکتب حتّی مثل القرآن الکریم وکتب الحدیث کتب ضلال ، بل بمعنی إیجابه الضلال لکثیر ممّن یراجعه من المتوسطین خالی الذهن ، لاشتماله علی مطالب باطلة مشابهة للحقِّ مِنْ دون نفعٍ فی وجوده»(1) .

أقول : الظاهر - واللّه العالم - أنّ المراد بکتب الضلال کلُّ ما صُنف أو کُتب لإضلال الناس وإغوائهم وتوجب الضلالة فی الاُصول أو الفروع ، فیشمل أکثر المعانی المذکورة فی کلمات القوم نحو ، کتب القصص والحکایات والجرائد والمجلات التی توجب الفساد والفحشاء فی المجتمع بین آحاده لاسیّما شبابه ، وکتب الهجو والسخریّة والفحش والکذب بالنسبة إلی خدّام المجتمع الإنسانی لاسیما بالنسبة إلی علماء الدین ورجاله ، وبعض کُتب التصوف والعرفان ونحو ذلک .

وأمّا الکُتب السماویة المحرّفة المنسوخة - نحو التوراة والإنجیل وغیرهما - فقد ألحقها الشیخ الطوسی والعلاّمة الحلی وغیرهما من الأصحاب قدس سرهم بکتب الضلال .

والإلحاق جیّدٌ ومتینٌ ، کما مرّت کلماتهم فی مطاوی ما ذکرناه(2) . ووجود مثل کتاب الزبور الواقعی عند أئمتنا علیهم السلام وأنّ کلّها مواعظ کما ذکره صاحب الجواهر(3) لا ینافی ما ذکرناه ، لأنّا قیّدنا الکتب السماویة بأمرین : 1 - المحرّفة 2 - المنسوخة . و من الواضح أن الموجود عندهم علیهم السلام غیر المحرّفة .

وأمّا تصانیف المخالفین فی العلوم الإسلامیة لا سیّما فی الحدیث والتفسیر والفقه واُصوله واللغة والأدب والتاریخ والأخلاق وغیرها ، فلم تکن من مصادیق کتب الضلال إلاّ ما اُلف لإثبات موضوع خاص ، نحو : إثبات تفضیل الخلفاء أو فضائلهم أو الجبر أو غیرها من

ص:13


1- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 99 .
2- (2) مضافاً إلی ما ذکرناه فراجع إلی تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 للعلامة الحلی .
3- (3) الجواهر 22 / 60 .

العقائد الباطلة أو فروعها .

ولذا قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر : « وأمّا ما کان من کتب أهل الضلال ممّا وضع لمعرفة کیفیة الاستدلال أو الاهتداء إلی معرفة معانی الکتاب والسنة والکتب المنسوخة مع

قصد الإطلاع علی المواعظ کالزبور ونحوه من کتب الأنبیاء أو علی التواریخ والسیر والاُمور السالفة فلا بأس به وربّما وجب»(1) .

والعجب من العلامة الفقیه السید مهدی بحر العلوم الطباطبائی المتوفی عام 1212 قدس سره کیف لم یستقر رأیه فی تحریر موضوع کتب الضلال وحفظها ، فأن تلمیذه السید جواد العاملی قدس سره نقل عنه فی کتابه وقال : « وکان الاُستاذ الشریف قدس اللّه روحه وحشره مع آبائه الطاهرین صلوات اللّه علیهم أجمعین منذ سبعة عشر سنة تقریباً یوم قراءتنا هذه المسألة عنده مستشکلاً فی تحریر الموضوع وخرجنا من عنده ولم یستقر رأیه المبارک علی شیءٍ»(2) .

ویؤید أنّ المراد بالاُستاذ فی کلام صاحب المفتاح هو بحر العلوم ما ذکره حفیده الفقیه السید علی آل بحر العلوم قدس سره فی کتابه برهان الفقه قال : « إنّما الکلام فی تعیین موضوع الحرمة من حیث المراد بکتاب الضلال کمّاً وکیفاً ومن حیث المراد بحفظها ونسخها ، واختلفت کلماتهم فی ذلک علی وجه حکی فی مفتاح الکرامة عن اُستاده جدی العلامة أنّه لم یستقر رأیه علی شیء فی تشخیصه عند قراءته علیه ... »(3) .

وأعجب منه کلام صاحب الحدائق قدس سره حیث تعرض لمشایخ الطائفة وأساطینها وحکم بکون کتب اُصول الفقه من مصادیق کتب الضلال ، وقال فیه ما قال ، ولا یمکننی کتابة مقالته لما فیه من ... فراجعها إن شئت(4) .

وأجابه السید العاملی وعدّ کلامه من الضلال المحض الذی یجب إتلافه فراجع مفتاح

ص:14


1- (1) شرح القواعد 1 / 218 .
2- (2) مفتاح الکرامة 4 / 63 - (12 / 209) .
3- (3) برهان الفقه - کتاب التجارة / 25 .
4- (4) الحدائق 18 / 144 و 145 .

الکرامة إن شئت(1) .

ولنعم ما قال العلاّمة الجد کاشف الغطاء فی آخر هذا المبحث : « ... فلیتأمل فی هذا المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام ، وقد زلّت به قدم بعضُ الأعلام حتّی تسرّی إلی القدح فی أعیان الأعیان ، الذین مَنْ قَدَح فیهم فقد قدح فی الإسلام والإیمان»(2) .

وهکذا تبعه تلمیذه فی الجواهر وقال : « وکیف ما کان فمن الغریب بعد ذلک ما وقع للمحدث البحرانی من إنکار أصل الحکم لعدم نص بالخصوص علی ذلک ، حتّی أنّه ربما أساء

الأدب مع الأصحاب الذین هم حفّاظ السنة والکتاب ، نسأل اللّه العفو عنّا وعنه»(3) .

أقول : قد ذکرت - ولا نقلت - هذه المناظرات لتعلّم آداب صیانة القلم وحفظ أدب البحث لنفسی - لا لغیری - غفر اللّه لی ولجمیع الأصحاب ولصاحب الحدائق قدس سرهم جمیع العثرات والزلاّت والآثام وهو العفو الغفور .

الاستدلال علی حرمة الحفظ بوجوه
اشارة

قد استدلوا علی حرمة الحفظ بوجوه :

الأوّل : الإجماع

ادعی العلامة الحلی قدس سره فی مسألتنا هذه « عدم الخلاف» فی کتابیه المنتهی(4) وتذکرة الفقهاء(5) ، واستفاد منه المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان الإجماع وقال : « وقد یکون إجماعیّاً أیضاً یفهم من المنتهی»(6) .

ص:15


1- (5) مفتاح الکرامة 4 / 63 - (12 / 209) .
2- (6) شرح القواعد 1 / 219 .
3- (1) الجواهر 22 / 57 .
4- (2) منتهی المطلب 2 / 1013 کتاب التجارة .
5- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 144 مسألة 649 .
6- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

وتبعه فی هذا الفهم صاحب الحدائق وقال : « بل ظاهر المنتهی أنّه إجماع»(1) .

وقال جدنا الشیخ جعفر : « ولنفی الخلاف عنه ممّن لا خلاف فی الإعتماد علیه»(2) .

وقال السید الطباطبائی : « مضافاً إلی عدم الخلاف فیها ، بل وعلیه الإجماع عن ظاهر المنتهی»(3) .

وقال النراقی : « علی المعروف من مذهب الإصحاب ، بل بلا خلاف بینهم کما فی المنتهی»(4) .

وقال صاحب الجواهر : « کما صرح به غیر واحد ، بل عن التذکرة والمنتهی نفی الخلاف عنه»(5) .

وقال تلمیذه : « فالظاهر الإجماع علی حرمته مجملاً وهو الحجة»(6) .

وقال الشیخ الأعظم : « ... فلا دلیل علی الحرمة إلاّ أن یثبت إجماع أو یلتزم بإطلاق عنوان معقد نفی الخلاف الذی لا یقصر عن نقل الإجماع»(7) .

یعنی استفاد قدس سره أیضاً من نفی الخلاف ، الاجماع تبعاً للأردبیلی وصاحبی الحدائق والریاض .

واعترض الفقیه الیزدی علی الشیخ الأعظم وعلّق علی کلامه : « نفی الخلاف الذی لا یقصر عن نقل الإجماع» وقال : « یعنی فی خصوص المقام من جهة الضمائم الخارجیة ، وإلاّ فهو فی حدّ نفسه قاصر عنه کما لا یخفی»(8) .

ص:16


1- (5) الحدائق 18 / 141 .
2- (6) شرح القواعد 1 / 217 .
3- (7) ریاض المسائل 8 / 165 .
4- (8) مستند الشیعة 14 / 157 .
5- (9) الجواهر 22 / 56 .
6- (10) برهان الفقه - کتاب التجارة / 25 .
7- (1) المکاسب المحرمة / 30 - (1 / 234) .
8- (2) حاشیة المکاسب 1 / 129 .

ویردّ علی الإجماع : أولاً : تحصیل الإجماع ممنوع لوجود المخالف وهو صاحب الحدائق ، قال : « وعندی فی الحکم من أصله توقف لعدم النص ، والتحریم والوجوب ونحوهما أحکام شرعیة یتوقف القول بها علی دلیل شرعی ، ومجرد هذه التعلیلات الشائعة فی کلامهم لا تصلح عندی لتأسیس الأحکام الشرعیة»(1) .

ولکن یمکن أن یجاب عن هذا الإشکال : بأنّ مخالفة المحدث البحرانی قدس سره لا یضرّ بالإجماع علی فرض وجوده ، لأنّ وجه مخالفته واضح علی مسلکه وصرّح به أیضاً فی کلامه « لعدم وجود النص» کما مرّ منه ، ومثل هذه المخالفة لا یضرّ بالإجماع التعبدی علی فرض وجوده کما علیه أساطین الفقه .

وثانیاً : لا یُستفاد من عدم الخلاف الذی ادعاه العلامة ، الإجماع خلافاً للأردبیلی وصاحبی الحدائق والریاض والشیخ الأعظم ، وحتّی فی المقام خلافاً للسید الیزدی فی حاشیة المکاسب ، لأنّ نفی الخلاف یتحقق حتّی مع وجود جماعة قلیلة تعرضوا لحکم المسألة ولکن الإجماع لم یتحقق بذلک ، فبینهما فرق ، ونفی الخلاف أقل من الإجماع بکثیر فی المقام وغیره .

ولذا قال شیخنا الاُستاذ - مدظله - : « ما ذکره من دعوی الإجماع واستفادته من نفی الخلاف غیر صحیح ، فإن الإجماع لا یحرز إلاّ فی مسألة تعرض لحکمها معظم الفقهاء أو جمیعهم مع اتفاقهم علی ذلک الحکم ، ونفی الخلاف یکفی فیه اتفاق جماعة قلیلة تعرضوا للمسألة ، فکیف تکون دعوی نفی الخلاف کاشفة عن الإجماع ... »(2) .

وقال بعض أساتیذنا - مدظله - فی تعلیقه علی الکلام الذی مرّ من الشیخ الأعظم : « عدم قصور نفی الخلاف عن الإجماع المصطلح ممنوع ، إذ یمکن عدم عنوان المسألة إلاّ من قبل جمع قلیل لا یکشف اتفاقهم وعدم خلافهم عن تلقی المسألة عن المعصومین علیهم السلام »(3) .

وثالثاً : علی فرض وجود الإجماع حتّی المحصَّل منه فی المقام لا یفید شیئاً ، لأنّه من

ص:17


1- (3) الحدائق 18 / 141 .
2- (4) إرشاد الطالب 1 / 142 .
3- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 99 .

المحتمل جداً أن یکون مدرکیّاً کما اعترف بذلک المحققون نحو : السید الخوئی قدس سره (1) والاُستاذان(2) - مدظلهما - .

الثانی : حکم العقل

بتقریب : أن العقل حاکم بوجوب قلع وحسم مادة الفساد ، ولا فساد أکبر من الضلالة .

واعترض علیه المحقق الإیروانی بقوله : « العقل لو حکم بذلک لحکم بوجوب قتل الکافر ، بل مطلق مَنْ یضلّ عن سبیل اللّه بعین ذلک الملاک ولحکم أیضاً بوجوب حفظ مال الغیر عن التلف ، لکن حکمه بذلک ممنوع والمتیقّن من حکمه هو حکمه بقبح إلقاء الفساد ، ومصداقه فیما نحن فیه تألیف کتب الضلال ، لا حفظ المؤلَّف منها ، أو عدم التعرّض لإتلافها ، أو إثبات الید علیها»(3) .

أقول : الإعتراض غیر وارد ، لأنّ بعد قبول حکم العقل بقبح إلقاءِ الفساد ، فمن الفساد إلقاء الضلالة والغوایة ، ومن مصادیق إلقاء الضلالة تألیف کتب الضلال لأجل انحراف الناس عن دین اللّه تعالی . وبعد قبول کلّ ذلک فلا فرق بین تألیف کتب الضلال وطبعها ونشرها وبیعها وحفظها عن التلف ، لأنّ کل ذلک یوجب إلقاء الضلالة والغوایة والعقل حاکم بقبح إلقاء الفساد وقلع مادته .

وأمّا نقضه قدس سره : بوجوب قتل الکافر بل مطلق مَن یضلّ عن سبیل اللّه أیضاً فغیر تام ، لأنّ وجود الکافر ومطلق من یضل عن سبیل اللّه لا یوجب ضلالة الآخرین بل هو بنفسه ضالّ . نعم لو کان مضِلاّ یوجب ضلالة الآخرین مع أقواله وأعماله وکتاباته وکلّ ما صدر

عنه ، صار مصداقاً لما یوجب الضلالة ویجری علیه حکمه . فما ذکره المحقق الإیروانی رداً للإستدلال غیر تام .

نعم ، یرد علی هذا الاستدلال ما ذکره المحقق الخوئی من قوله : « إنّ مدرک حکمه (أی

ص:18


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 257 .
2- (3) إرشاد الطالب 1 / 142 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 91 .
3- (4) حاشیة المکاسب 1 / 152 .

حکم العقل) إن کان هو حسن العدل وقبح الظلم - بدعوی أن قلع مادة الفساد حسن وحفظها ظلم وهتک للشارع - فیرد علیه : أنّه لا دلیل علی وجوب دفع الظلم فی جمیع الموارد ، وإلاّ لوجب علی اللّه وعلی الأنبیاء والاُوصیاء الممانعة عن الظلم تکویناً ، مع أنّه تعالی هو الذی أقدر الإنسان علی فعل الخیر والشر وهداه السبیل إمّا شاکراً وإمّا کفوراً .

وإن کان مدرک حکمه وجوب الإطاعة وحرمة المعصیة لأمره تعالی بقلع مادة الفساد فلا دلیل علی ذلک إلاّ فی موارد خاصة ، کما فی کسر الأصنام والصلبان وسائر هیاکل العبادة ... .

نعم ، إذا کان الفساد موجباً لوهن الحقِّ وسدّ بابه وإحیاء الباطل وتشیید کلمته وجب دفعه لأهمّیّة حفظ الشریعة المقدسة ، ولکنّه أیضاً وجوب شرعی فی مورد خاص ، فلا یرتبط بحکم العقل بقلع مادة الفساد»(1) .

وتبعه تلمیذه وقال : « حکم العقل غیر مسلَّم وإلاّ لاستقل العقل بإزالة کلِّ ما فیه أو منه الفساد ، کالهجوم علی أهل الکفر والشرک ومحو شوکتهم ومعابدهم وکتبهم ، فإنّهم وما معهم منشأ الفساد علی الأرض ، ولا استقلال للعقل بذلک ، ووجوب الجهاد حکم شرعی تعبدی لا لحکم العقل بلزوم قهر الناس علی الإیمان مع أنّ الدنیا دار إمتحان یکون فیها الخیار بین الهدی والضلال والکفر والإیمان»(2) .

الثالث : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ

الثالث : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(3) .

قال الشیخ الطوسی فی تفسیر الآیة الشریفة : « قیل فی معناه قولان :

أحدهما : أنّه یشتری کتاباً فیه لهو الحدیث .

الثانی : أنه یشتری لهو الحدیث عن الحدیث .

واللهو : الأخذ فی ما یصرف الهمّ من غیر الحقِّ ... والحدیث : الخبر عن حوادث

ص:19


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 254 و 255 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 140 .
3- (3) سورة لقمان / 6 .

الزمان . ... وقیل : کلّما کان من الحدیث ملهیاً عن سبیل اللّه الذی اُمر باتباعه إلی ما نهی عنه فهو لهو الحدیث .

وقیل : الآیة نزلت فی النضر بن الحارث بن کلدة ، کان اشتری کتباً فیها أحادیث الفرس من حدیث رستم واسفندیار ، فکان یلهیهم بذلک ویطرف به ، لیصدّ عن سماع القرآن وتدبّر ما فیه .

وقوله : «لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ» أی لیتشاغل بما یلهیه عن سبیل اللّه ... .

وقوله : «وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً» أی یتخذ سبیل اللّه سخریة ، فلا یتبعها ویشغل غیره عن اتباعها ... »(1) .

وفی المطبوع من تفسیر القمی : « فی روایة أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ»: فهو النَّضْر بن الحارث بن عَلْقَمَة بن کَلَدَة من بنی عبد الدار بن قصّی ، وکان النضر راویاً لأحادیث الناس وأشعارهم ، یقول اللّه عزّ وجل : «وَإِذَا تُتْلَی عَلَیْهِ آیَاتُنَا وَلَّی مُسْتَکْبِراً کَأَن لَّمْ یَسْمَعْهَا کَأَنَّ فِی أُذُنَیْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ»(2)»(3) .

وقال الطبرسی : « نزل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ» فی النضر ابن الحرث بن علقمة بن کلدة بن عبد الدار بن قصی بن کلاب ، کان یتّجر فیخرج إلی فارس فیشتری أخبار الأعاجم ویحدّث بها قریشاً ویقول لهم : إنّ محمداً یحدّثکم بحدیث عاد وثمود وأنا اُحدّثکم بحدیث رستم وإسفندیار وأخبار الأکاسرة ، فیستعمون حدیثه ویترکون استماع القرآن ، ... وروی أیضاً عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : هو الطعن فی الحقِّ والإستهزاء به وما کان أبو جهل وأصحابه یجیئون به ، إذ قال : یا معشر قریش ألا اُطعمکم من الزقوم الذی یخوّفکم به صاحبکم ، ثمّ أرسل إلی زبد وتمر فقال : هذا هو الزقوم الذی یخوّفکم به ، ... فعلی هذا یدخل فیه کلّ شیءٍ یلهی عن سبیل اللّه وعن طاعته من الأباطیل والمزامیر والملاهی

ص:20


1- (1) التبیان 8 / 271 و 272 .
2- (2) سورة لقمان / 7 .
3- (3) تفسیر القمی 2 / 161 .

والمعازف ویدخل فیه السخریة بالقرآن واللغو فیه کما قاله أبو مسلم ، والتُرَّهات والبَسابِس(1) علی ما قاله عطا ، وکلّ لهو ولعب علی ما قاله قتادة ، والأحادیث الکاذبة

والأساطیر الملهیة عن القرآن علی ما قاله الکلبی ... »(2) .

هذا ما ذکره أعلام التفسیر فی ذیل الآیة الشریفة وأمّا تقریب الاستدلال بها :

أستفیدت من الآیة الشریفة : حرمة کلّ ما یقع فی طریق الإضلال ، ومنه حفظ کتب الضلال .

وقال المحقق الأردکانی فی تقریب الاستدلال بها : « إنّ الآیة وإن کانت ظاهرة فی ترتب الضلالة فی الفروع علی اشتراء اللهو وهی الإعراض عن طاعة اللّه عزّ وجل والإقدام علی المعاصی البدنیة الناشئة من تهییج القوی الشهویة الحاصل من الملهیات ، والمدعی أعم منها ومن الضلالة فی الاُصول ، إلاّ أنّه یتمّ المدعی بالأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل . ویمکن أن یقال : إن العبرة بإطلاق العلة وقضیته مبغوضیّة کلّما یوجب الضلالة کان فی الاُصول أو فی الفروع ، ومن مصادیقه کتب الضلال ، فالعلّة هنا معمِّمة ولا اعتبار بخصوصیة المورد ، ویلزم من مبغوضیة وجود ما یوجب الضلالة وجوب إتلافه»(3) .

وفیه : أن ما ذکره هذا المحقق الجلیل قدس سره من ادعاء ظهور الآیة الشریفة فی ترتب الضلالة فی الفروع ثم عمّم الحکم فی الاُصول بالأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل ، غیر تام لأنّ ظهور الآیة الشریفة مع مراجعة شأن نزولها إمّا ظاهر بترتب الضلالة فی الاُصول فقط أو الأعم من الاُصول والفروع ، والثانی یؤیَّد بمراجعة الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة المفسرة بالغناء .

فلا نحتاج إلی ظهور الآیة الشریفة فی ترتب الضلالة فی الاُصول إلی ما ذکره قدس سره من الأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل وإن کان کلاهما موجودین . نعنی اننا نستشکل علیه ادعاء ظهوره ، وعلیه لا ندری کیف یردّ بیانه . هذا ما ذکره المحقق الإیروانی من الإشکال

ص:21


1- (4) الترهات البسابس : الأباطیل والکذب .
2- (1) مجمع البیان 7 / 313 .
3- (2) غنیة الطالب 1 / 123 .

الآتی ؟ !

ثم یردّ علی الاستدلال بالآیة الشریفة :

أولاً : قال الإیروانی : « الظاهر أنّ المراد بالإشتراء هو التعاطی ، وهو کنایة عن التحدث ، به وهذا داخل فی إلاضلال عن سبیل اللّه بسبب التحدّث بلهو الحدیث ، ولا إشکال فی حرمة الإضلال ، وذلک غیر ما نحن فیه من إعدام ما یوجب الإضلال»(1) .

وثانیاً : قال الخوئی : « ... إذا سلمنا ذلک فالمستفاد من الآیة حرمة اشتراء کتب الضلال ، ولا دلالة فیها علی حرمة إبقائها وحفظها بعد الشراء ، کما أن التصویر حرام وأمّا اقتناؤه فلیس بحرام ، والزنا حرام وتربیة أولاد الزنا لیس بحرام ... »(2) .

وثالثاً : ما ذکره شیخنا الأستاذ - مدظله - : « علی تقدیر کون المراد بالإشتراء ما یعم مطلق الأخذ والإقتناء ، فلا تکون فی الآیة دلالة علی الحرمة فیما إذا لم یکن غرضه إضلال الناس ومیلهم عن الهدایة ، کما إذا جعل الکتاب المزبور فی مکتبته حتّی یکون فیها من کلّ باب کتاب»(3) .

الرابع : قوله تعالی : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»

(4) .

بتقریب : أن الشیخ الطوسی قال فی تفسیر الآیة : « یعنی الکذب ، وروی أصحابنا أنّه یدخل فیه الغناء وسائر الأقوال الملهیة بغیر حق»(5) .

الآیة الشریفة أمرت باجتناب قول الزور ، والمراد به الکذب والباطل ، والعرف لا یری فرقاً بین الکذب والباطل وقول الزور إذا کان مقولاً بالقول أو مکتوباً بالقلم ، وحکمت بأنّ کلاهما قول الزور ویجب الاجتناب عنه . فتدخل کتب الضلال فی قول الزور الذی اُمرنا بالاجتناب عنه .

ص:22


1- (3) حاشیة المکاسب 1 / 152 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 255 .
3- (2) إرشاد الطالب 1 / 140 .
4- (3) سورة الحج / 30 .
5- (4) التبیان 7 / 313 .

ولذا قال صاحب الجواهر : « بل قد یُستفاد حرمته أیضاً ممّا دل علی وجوب اجتناب قول الزور ولهو الحدیث والکذب والافتراء علی اللّه ... »(1) .

وقال الشیخ الأعظم فی الاستدلال علی حرمة حفظ کتب الضلال : « ... والأمر بالاجتناب عن قول الزور ... »(2) .

وقال المحقق التقی الشیرازی : « وحاصله : أنّ المستفاد من أمثال تلک العبارات الاجتناب عن مطلق ما یدلّ علی الباطل قولاً کان أو کتابة ، وکذا حجیة کلّ صادر من العادل ممّا یحکی عن الواقع قولاً کان أو فعلاً»(3) .

وقال السید الیزدی : « ... یمکن دعوی شمول الآیة وعمومها ، فإنّ مقتضی إطلاق الاجتناب عن قول الزور الاجتناب عنه بجمیع الأنحاء ، الذی منها ما نحن فیه ، فتأمل»(4) .

وفیه : أنه یُستفاد من الآیة الشریفة الاجتناب من قول الزور ، یعنی عدم إیجاد الکذب والإفتراء والباطل بالقول والتکلّم والحدیث ، وغایة الأمر أن تدخل الکتابة بهذه الاُمور تحت الآیة الشریفة ، ومع ذلک لا تدلّ علی لزوم إتلاف القول أو التکلّم والکتابة إذا کان لهما البقاء ، نحو ضبطهما فی الأشرطة والکتاب .

وبالجملة ، حرمة الإیجاد لا تدلّ علی وجوب الإتلاف إذا کان للشیءٍ بقاءٌ ، کما أنّ حرمة إیجاد التصویر لا تدلّ علی لزوم فناء الصورة وحرمة اقتنائها .

والحاصل : وجوب إتلاف کتب الضلال لم یُستفد من الآیة الشریفة .

الخامس : روایة تحف العقول

فقرات من روایة تحف العقول تدلّ علی حرمة حفظ کتب الضلال :

منها : قوله علیه السلام : « ... فهذا کلّه حرام ومحرَّم لأن ذلک کلّه منهی عن ... والتقلب فیه بوجهٍ من الوجوه لما فیه من الفساد فجمیع تقلّبه فی ذلک حرام ، وکذلک بیع ملهوٍّ به وکل منهیٍّ

ص:23


1- (5) الجواهر 22 / 56 .
2- (6) المکاسب المحرمة / 29 - (1 / 233) .
3- (7) حاشیة المکاسب 1 / 72 .
4- (1) حاشیة المکاسب 1 / 128 .

عنه ممّا یتقرَّب به لغیر اللّه ، أو یقوی به باب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل أو باب یوهن به الحقّ فهو حرام محرّم ، حرام بیعه وشراؤُهُ وإمساکه ومِلْکُهُ وهبته وعاریته وجمیع التقلب فیه ، إلاّ فی حال تدعو الضرورة فیه إلی ذلک»(1) .

ومنها : قوله علیه السلام : « إنّما حرم اللّه الصناعة التی حرام هی کلّها التی یجیءُ منها الفساد محضاً ، نظیر البرابط والمزامیر والشطرنج وکلّ ملهوٍّ به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلک ... »(2) .

بتقریب : أن من الواضح أن کتب الضلال ممّا یقوی به الضلالة و ممّا یتقرَّب به لغیر اللّه ومن أبواب الباطل وممّا یوجب وهن الحقّ ، فهو حرام محرَّم جمیع التقلب فیه ، ومن التقلب فیه حفظها وعدم إتلافها وإمساکها .

وهکذا لا یترتب علی کتب الضلال إلاّ الضلالة والفساد ، ولا یجیئ منها إلاّ الفساد محضاً « فحرام تعلیمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأجرة علیه وجمیع التقلب فیه من جمیع وجوه

الحرکات کلّها»(3) ، فحفظ کتب الضلال وعدم إتلافها حرامٌ .

وفیه : أولاً : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب إرسال الروایة واضطرابها ، بل عدم ثبوت کونها روایة .

وثانیاً : حرمة الصناعة لا تلازم وجوب إتلاف المصنوع ، کما فی حرمة التصویر وجواز إبقائها .

وثالثاً : بین حفظ کتب الضلال وتقویة الکفر وإهانة الحقّ عموم من وجه ، إذ قد لا یترتب علیه تقویة الکفر وإهانة الحقّ کما هو واضح .

ورابعاً : الحفظ لا یصدق علیه عنوان التقلّب ، لاسیما إذا کان غرض الحافظ عدم وقوع کتب الضلال فی أیدی الناس حتّی توجب ضلالتهم .

وخامساً : « لا تعمّ الروایة ما إذا کانت فی استنساخ کتب الضلال واقتنائها مصلحة

ص:24


1- (2) تحف العقول / 333 .
2- (3) تحف العقول / 335 .
3- (1) اقتباس من روایة تحف العقول / 336 .

مباحة غیر نادرة» کما ذکره شیخنا الأستاذ - مدظله -(1) .

وأمّا إشکال المحقق الإیروانی قدس سره علی الاستدلال بالروایة بأنّ موردها هی الصنعة(2) غیر تام .

لأنّ مورد الفقرة المذکورة الثانیة هی الصناعة ، وأمّا مورد الفقرة الأولی فلیست بالصناعة ، بل موردها التجارات بالمعنی الأعم .

السادس : حسنة أو صحیحة عبد الملک بن أعین

صحیحة عبد الملک بن أعین الماضیة فی بحث النجوم ، قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی قد ابتلیت بهذا العلم فاُرید الحاجة ، فإذا نظرتُ إلی الطالع ورأیتُ الطالع الشر جلستُ ولم أذهب فیها ، وإذا رأیت الطالع الخیر ذهبت فی الحاجة ، فقال لی : تقضی ؟ قلت : نعم ، قال : أحرق کتبک(3) .

بتقریب : أن أمر الإمام علیه السلام بإحراق کتبه فی علم النجوم مع القضاء علی طبقها ، وکتب الضلال لا تقلّ من کتب النجوم إفساداً ، فإذا وجب إحراق کتب النجوم وإتلافها ، یجری الحکم فی کتب الضلال بطریق أولی ، فوجب إتلافها وحرم حفظها .

وفیه : أولاً : لم یأمر الإمام علیه السلام بإحراق کتب النجوم مطلقاً ، بل استفسر من عبد الملک أنّه یقضی ؟ فقال : نعم ، ثم أمر الإمام علیه السلام بالإحراق ، وقد سبق فی بحث النجوم فی ذیل الروایة أنّ أمر معاش عبد الملک إختل بجهة هذه الکتب والإعتماد علیها ، ولذا أمر علیه السلام بالإحراق لأجل نجاته من هذا الإختلال . فالروایة لاتدلّ علی لزوم إحراق مطلق کتب النجوم حتّی یتعدی المستدِل منها إلی کتب الضلال .

وثانیاً : لو سلمنا وذهبنا إلی التعدی من کتب النجوم إلی کتب الضلال وقلنا أنّ کتب النجوم من إحدی مصادیق کتب الضلال ، مع ذلک لا یمکن القول بوجوب إتلاف کتب الضلال مطلقاً وحرمة حفظها کذلک ، لأنّ الإمام علیه السلام فصّل بین القضاء وعدمه ، والتفصیل قاطع

ص:25


1- (2) إرشاد الطالب 1 / 141 .
2- (3) حاشیة المکاسب 1 / 153 .
3- (4) الفقیه 2 / 267 ح 2402 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 370 ح 1 .

للشرکة ، وهو جواز الحفظ مع عدم الحکم .

السابع : صحیحة أبی عبیدة الحذَّاء

نقل الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أحمد بن محمد البرقی عن محمد بن عبد الحمید عن العلاء بن رزین عن أبی عبیدة الحذّاء عن أبی جعفر علیه السلام قال : من علّم باب هدی فله مثل أجر من عمل به ولا ینقص أولئک من اُجورهم شیئاً ، ومن علّم باب ضلال کان علیه مثل أوزار مَنْ عمل به ولا ینقص أولئک من أوزارهم شیئاً(1) .

بتقریب : أن سند الروایة کما تری صحیح ، وهی تدلّ علی حرمة تعلیم وتعلّم الضلال ، ولم یحرم هذا التعلیم والتعلّم إلاّ من جهة أنّهما یوجبان الضلال ، فکلّ أمر یوجب الضلال فهو حرام ، ومنها حفظ کتب الضلال ، فصار حراماً .

وقد استدل علی الحرمة بهذه الروایة الفاضل النراقی فی المستند(2) من دون البحث فی السند سندها وتقریب الاستدلال .

وفیه : الصحیحة دالة علی حرمة تعلیم وتعلّم الضلال وعلی المعلّم أوزار المتعلّمین من دون نقص من أوزارهم ، ولکن لا تدلّ علی وجوب إتلاف کلّ شیءٍ یوجب الضلال ، وإلاّ لزم القول بوجوب إتلاف معلّم الضلال أیضاً ولم یقل به أحد . فالصحیحة لا تدلّ علی حرمة حفظ کتب الضلال .

الثامن : حرمة الإعانة علی الإثم

الضلال وما یوجبه إثمٌ وحفظ کتب الضلال حیث یوجب الضلالة نوع إعانة علی

الإثم ، وحرمة الإعانة علی الإثم واضح ، فحفظ کتب الضلال بما أنّه إعانة علی الإثم حرام . ذهب إلی هذا الاستدلال السید العاملی وقال : « ... إن فی ذلک نوع إعانة علی الإثم ... »(3) .

وفیه : أولاً : قد مر منّا عدم حرمة کلّ إعانة علی الإثم ، وما هو الحرام لیس إلاّ التعاون علی الإثم .

ص:26


1- (1) الکافی 1 / 35 ح 4 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 16 / 173 ح 2 - الباب 16 من أبواب الأمر والنهی .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
3- (1) مفتاح الکرامة 4 / 62 - (12 / 207) .

وثانیاً : لو سلّمنا حرمة الإعانة علی الإثم ، الدلیل أخص من المدعی ، لأنّ حفظها لا یلازم الضلال دائماً کما هو واضح ، فبهذه القاعدة لا یمکننا الحکم بحرمة الحفظ مطلقاً ، کما قال الفاضل النراقی : « والتمسک بحرمة المعاونة علی الإثم غیر مطّرد»(1) .

التاسع : أنّها مشتملة علی البدعة

کتب الضلال مشتملة علی البدعة ویجب دفعها من باب النهی عن المنکر ، کما ذهب إلی هذا الاستدلال المحقق الأردبیلی(2) وتبعه السید العاملی(3) .

وفیه : أولاً : نهی المنکر واجب ، ولکن وجوب دفعه أیضاً ، محل تأمل بل منع کما مرّ منّا سابقاً .

وثانیاً : علی فرض وجوب دفع المنکر « أنّ المراد بالمنکر فی المقام هو الفعل المحرَّم الذی یصدر من الشخص ، لا الأباطیل والأکاذیب المکتوبة فی الکتب ، فلا دلیل علی وجوب إتلافها» کما قاله بعض أساتیذنا - مدظله -(4) .

العاشر : کتب الضلال لیست بأقل ضرراً من هیاکل العبادة

کتب الضلال لیست بأقل ضرراً من هیاکل العبادة المبتدعة ، فکما یجب إتلافها یجب اتلاف کتب الضلال أیضاً ویحرم حفظها .

قال فی الجواهر : « بل هی أولی حینئذ (یعنی حین ترتب الفساد) بالحرمة من هیاکل العبادة المبتدعة»(5) .

ومال إلی هذا الاستدلال أیضاً الفقیه الیزدی فی تعلیقته علی المکاسب(6) .

وفیه : أن هیاکل العبادة ووجوب إتلافها مورداً للنصوص ، وهی فی حقِّ کتب

ص:27


1- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
2- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .
3- (4) مفتاح الکرامة 4 / 62 - (12 / 207) .
4- (5) دراسات فی المکاسب المحرّمة 3 / 98 .
5- (6) الجواهر 22 / 56 .
6- (7) راجع حاشیة المکاسب 1 / 128 .

الضلال مفقودة کما اعترف بذلک صاحب الحدائق وقال : « وعندی فی الحکم من أصله توقف لعدم النص»(1) ، فقیاسها بها مع الفارق .

نعم ، إذا ترتب الضلال فعلاً علیها یجب إتلافها بحکم العقل والشرع ، ولکن هذا غیر حرمة حفظها مطلقاً .

تلک عشرة کاملة من الأدلة علی حرمة حفظ کتب الضلال ووجوب إتلافها ، وأنت تری عدم تمامیتها ، ومع ذلک نقول : إذا ترتب الضلال والغوایة فعلاً علیها وجب إتلافها ، وهکذا إذا کانت فی مَعْرض هذا الترتب ، وهذا بحکم العقل والشرع الناهیان عن الضلال والفساد کما مرّ منّا آنفاً . وهذا الحکم هو المشهور بین الأصحاب ، بل ادعی علیه الإجماع ، ولذا قال السید العاملی فی ثبوت هذا الحکم : « فلا تصغْ إلی ما بَرْقَشَهُ(2) بعضُ متأخری المتأخرین من الخرافات وأورده من التُرَّهات»(3) .

والحاصل ، وجوب إتلاف کتب الضلال وحرمة حفظها مطلقاً ممّا لا دلیل علیه ، إلاّ إذا کان ترتب الضلال علیها فعلیّاً أو کان فی معرض ترتب الضلال ، واللّه العالم .

موارد الإستثناء علی القول بوجوب الاتلاف مطلقاً

القائلون بحرمة الحفظ ووجوب الإتلاف قد ذکروا موارد یستثنون الحکم فیها ، ولکن علی ما سلکناه من عدم الإطلاق فی وجوب الإتلاف وحرمة الحفظ ، هذه الموارد علی طبق القاعدة ، ونفس وجود هذه الموارد دلیل علی عدم إطلاق فی المقام ، وأمّا موارد الاستثناء :

استثنی ابن إدریس الحلی من حرمة حفظ کتب الضلال مورداً ، وهو : « من غیر نقض لها»(4) .

ص:28


1- (1) الحدائق 18 / 141 .
2- (2) برقشه فی الکلام : خلط .
3- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 - (12 / 207) .
4- (4) السرائر 2 / 218 .

وأضاف العلاّمة أمراً آخراً فصار أمرین : « 1 - لغیر النقض 2 - أو الحجة»(1) .

وقال ثانی الشهیدین توضیحاً : « لمن له أهلیتها لا مطلقاً خوفاً علی ضعفاء البصیرة

من الشبهة»(2) .

وقال المحقق الثانی فی تعلیقه علی کلام العلامة : « أی : نقض مسائل الضلال ، أو الحجة علی مسائل الحقّ من کتب الضلال ، وظاهره حصر جواز الحفظ والنسخ فی الأمرین ، والحقّ أنّ فوائده کثیرة ، فلو اُرید نقل المسائل أو الفروع الزائدة أو معرفة بعض اُصول المسائل أو الدلائل ونحو ذلک جاز الحفظ و النسخ أیضاً ، لمن له أهلیة النقض لا مطلقاً ، لأنّ ضعفاء البصیرة لا یؤمَنُ علیهم خلل الإعتقاد»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ... وکذا بیعها وسائر التکسب بها ، علی أنّه یجوز کلّه للأغراض الصحیحة ، بل قد یجب کالتقیة والنقض والحجة واستنباط الفروع ونقل أدلّتها إلی کتبنا وتحصیل القوة وملکة البحث لأهلها»(4) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی شرحه علی کلام العلامة : « وأمّا لهما (أی للنقض بها أو الحجة علی أهلها) فربّما وجب ، إذ الجهاد بالأقلام أعظم نفعاً من الجهاد بالسهام ، وإتلاف بعض آحادها لا یقضی برفع فسادها ، والإبطلال لکلّها إنّما یتحقق بإبطالها من أصلها ، وحیث أن مقصد الشرع فیها الإبطال کان الأقوی فی حصوله الردّ بطریق الاستدلال»(5) .

وقال السید الطباطبائی : « لغیر النقض لها والحجة علی أربابها بما اشتملت علیه ممّا یصلح دلیلاً لإثبات الحق أو نقض الباطل لمن کان من أهلهما ، ویلحق به الحفظ للتقیة أو

ص:29


1- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 143 - تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 - منتهی المطلب 2 / 1013 قواعد الأحکام 2 / 8 .
2- (1) مسالک الأفهام 3 / 127 .
3- (2) جامع المقاصد 4 / 26 .
4- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 76 .
5- (4) شرح القواعد 1 / 217 .

لغرض الاطلاع علی المذاهب والآراء لیکون علی بصیرة فی تمییز الصحیح عن الفاسد ، أو لغرض الإعانة علی التحقیق ، أو تحصیل ملکة للبحث والاطلاع علی الطرق الفاسدة لیتحرّز عنها ، أو غیر ذلک من الأغراض الصحیحة کما ذکره جماعة ، وینبغی تقییده بشرط الأمن علی نفسه من المیل إلی الباطل بسببها ، وأمّا بدونه فمشکل مطلقاً ، لاحتمال الضرر الواجب الدفع عن النفس ولو من باب المقدمة إجماعاً»(1) .

وقال الفاضل النراقی بعد استثناء التقیة والموردین : « وفاقاً لصریح المشهور ، لما رواه

الشیخ الحر فی الفصول المهمة عن الصادق علیه السلام : « أنَّ کل شیءٍ یکون لهم فیه الصلاح من جهة من الجهات فهذا کلّه حلال بیعه وشراؤه وإمساکه واستعماله وهبته وعاریته »(2) . ومقتضی ذلک وإن کان استثناء کلّ ما إذا ترتب علیه مقصد صحیح ، کتحصیل البصیرة بالاطلاع علی الآراء والمذاهب وتمییز الصحیح من الفاسد والاستعانة علی التحقیق وتحصیل ملکة البحث و النظر وغیر ذلک - کما ذکره المحقق الثانی وصاحب الکفایة(3) - إلاّ أن ضعف الروایة وعدم انجبارها إلاّ فی النقض والاحتجاج یمنع من استثناء غیرهما»(4) .

أقول : وأنت تری أن النراقی حصر الاستثناء فی الموردین المشهورین ، وفیه ما لا یخفی علی أهله .

وتبعه صاحب الجواهر وقال : « ... ومنه یظهر الوجه فی استثناء النقض ، لأنه إتلاف لکلّها الذی هو اُولی من إتلاف آحادها الغیر المقتضی لرفع فسادها بخلاف ردّها بطریق الاستدلال ، وأمّا الحجة علی أهلها فإن رجع إلی ذلک وإلاّ کان استثناؤه لا یخلو من إشکال ... »(5) .

ص:30


1- (5) ریاض المسائل 8 / 164 .
2- (1) تحف العقول / 333 .
3- (2) الکفایة / 86 من الطبع الحجری (1 / 436 و 435 من طبعة جماعة المدرسین) .
4- (3) مستند الشیعة 14 / 157 و 158 .
5- (4) الجواهر 22 / 57 .

أقول : لا أدری کیف فرّق قدس سره بین النقض والرد بطریق الاستدلال ؟ وهکذا الحجة علی أهلها إن لم یرجع إلی النقض ، فکیف صار استثناؤه لا یخلو من إشکال ؟ مع تعرض مشهور الأصحاب لهذه الاستثناء .

وبالجملة ، لا ینحصر الاستثناء بالموردین المشهورین ، بل یمکن التعدی إلی غیرهما من المنافع والفوائد ، وقد مرّ منّا فی ضمن نقل کلمات الأصحاب بعضها ، ونفس وجود هذه المستثنیات دال علی أنّ الحکم بوجوب إتلاف کتب الضلال أو حرمة حفظها لیس بمطلق بل ینحصر بموارد خاصة ، کما مرّ منّا فی أوّل هذا البحث ، أعنی فی صورة ترتب الإضلال ، خارجاً أو فقل : غایة الأمر فی صورة معرضیتها لترتب الإضلال .

تنبیه : لا یخلو من فائدة

قال الفقیه الیزدی : « مقتضی الوجوه المذکورة وجوب تفویت جمیع ما یکون موجباً

للضلال ولا خصوصیة للکتب فی ذلک ، فیحرم حفظ غیرها أیضاً مما من شأنه الإضلال کالمزار و المقبرة والمدرسة ونحو ذلک ، فکان الأولی تعمیم العنوان ، ولعلّ غرضهم المثال ، لکون الکتب من الأفراد الغالبة لهذا العنوان . نعم یمکن الاستدلال علی الخصوصیة بروایة الحذّاء : من علّم باب ضلال کان علیه مثل وزر من عمل به ، فتأمل»(1) .

وتبعه المحقق الأردکانی وقال : « ویمکن أن یقال : إنّ العبرة بإطلاق العلّة وقضیته مبغوضیة کلّما یوجب الضلالة کان فی الاُصول أو الفروع ، ومن مصادیقه : کتب الضلال ، فالعلّة هنا معمّمة ولا اعتبار بخصوصیة المورد ، ویلزم من مبغوضیة وجود ما یوجب الضلالة وجوب إتلافه»(2) .

أقول : الأدلة لو تمت تقتضی ما ذکره المحققان ، ولکنّها لم تتم . وأمّا روایة الحذاء لا تقدر علی التخصیص لو تم التعمیم ، ولعلّ أمره بالتأمل إشارة إلیه . ومع ذلک کلِّه یمکن أن

ص:31


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 127 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 123 .

یقال : إذا ترتب علی وجود شیءٍ إضلال الناس فعلاً وتوقّف منع إضلالهم خارجاً علی إتلاف الشیء ، وجب إتلافه لمنعهم من الضلال وإرشادهم إلی الهدایة ، والحمد للّه رب العالمین .

ص:32

حرمة حلق اللحیة

اشارة

لم یتعرض الشیخ الأعظم قدس سره لمسألتنا هذه ، مع أنّها من المسائل المبتلی بها فی عصرنا الحاضر وقد یکتسب بها ، فإن ذهبنا إلی حرمة حلقها فالاکتساب بها أیضاً حرام فلذا تصدینا للبحث عنها بإذن اللّه تعالی وعونه ، ونقول :

لم یتعرض القدماء من أصحابنا لهذه المسألة فی کتبهم ، ولعل سرّ عدم تعرضهم لذلک أنّ المنع عندهم واضح وسیرة المتشرعة أیضاً کانت علی وجود اللحی وعدم حلقها ، ولذا لم یحتاجوا إلی ذکر المسألة والبحث حولها .

وأمّا متأخر المتأخرین من أصحابنا فابتلوا بها ، ولذا بحثوا عنها وکتبوا حولها رسائل مستقلة(1) وأفتی المشهور منهم بالحرمة بل کاد أن یکون إجماعاً . ونذکر هنا بعض کلماتهم لتکون علی بصیرة من الأمر :

الأقوال فیها :

1 - قال یحیی بن سعید الحلی : « ویکره القَزَع ، وقال صلی الله علیه و آله وسلم : أعفوا اللحی وحفوا الشوارب ، وینبغی أن یؤخذ من اللحیة ما جاوز القبضة ، ویکره نتف الشیب ، وکان علی علیه السلام لا یری بأساً بجزه»(2) .

القَزَع : جمع قزعة : أخذ بعض الشعر وترک بعضه .

ودلالة کلام ابن سعید قدس سره علی الحرمة غیر واضحة .

ص:33


1- (1) قد عدّ العلامة الشیخ رضا الأستادی - دامت برکاته - أکثر من أربعین رسالة مستقلة فی هذا الموضوع ، فراجع إلی رسالته بالفارسیة فی هذا المجال المسماة ب- « تحقیقی در یک مسأله فقهی (ریش تراشی) » المطبوع ضمن « ده رساله» / 251 طبع جماعة المدرسین بقم المقدسة 1380 ه- . ش .
2- (2) الجامع للشرائع / 30 .

2 - قال العلامة : « وقال علیه السلام : حفّوا الشوارب واعفوا اللحی ولا تشبّهوا بالیهود . ونظر صلی الله علیه و آله وسلم إلی رجل طویل اللحیة فقال : ما کان علی هذا لوهیّأ من لحیته ، فبلغ الرجل ذلک فهیّأ لحیته بین اللحیین ، ثم دخل علی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فلمّا رآه قال : هکذا فافعلوا» .

وقال علیه السلام : إنّ المجوس جزّوا لحاهم ووفّروا شواربهم ، وأمّا نحن نجزّ الشوارب ونعفی اللحی ، وهی الفطرة ... »(1) .

3 - وقد أفتی بالحرمة ولده فخر المحققین فی حواشیه الفخریة علی قواعد والده العلامة ، کما نقل عنه الشیخ البلاغی فی رسالته(2) .

4 - قال الشهید الأوّل : « لا یجوز له (أی للخنثی) حلق لحیته ، لجواز رجولیته»(3) .

وهذا الکلام ظاهر فی حرمة حلق اللحیة للرجال .

5 - وتبعه الفاضل المقداد وقال أیضاً : « ... ولا یجوز له (أی للخنثی) حلق لحیته ، لجواز رجولیته ... »(4) .

6 - قال الشیخ البهائی قدس سره فی رسالته الإعتقادیة : « ونقول بتحریم الربا والرشوة والسحر والقمار وحلق اللحیة وأکل السمک الذی لا فلس له ... »(5) .

واستفاد العلامة الشیخ جواد البلاغی من هذا البیان الإجماع علی الحرمة(6) .

7 - وقال السید الداماد فی رسالة شارع النجاة ما معرّبه : « لا یجوز حلق اللحیة وأنّه

ص:34


1- (1) تذکرة الفقهاء 2 / 253 .
2- (2) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 155 .
3- (3) القواعد والفوائد 1 / 231 .
4- (4) نضد القواعد الفقهیة / 164 .
5- (5) الاعتقادیة / 8 ، والمطبوعة فی ضمن نصوص ورسائل من تراث اصفهان العلمی الخالد 4 / 118 بتحقیق المحقق القدیر جویا جها نبخش - حفظه اللّه تعالی - .
6- (6) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 155 المطبوعة ضمن الرسائل الأربعة عشرة للشیخ رضا الأستادی دامت برکاته .

حرام»(1) .

8 - وقال الفیض الکاشانی فی عدّ المعاصی : « وحلق اللحیة ، لأنّه خلاف السنة التی هی إعفاؤها ولمسخ طائفة بسببه ... »(2) .

9 - وقال الفیض فی کتابه منهاج النجاة : « ... ومن المعاصی ترک الواجبات وإتیان البدع والقعود فی المسجد جنباً أو حائضاً ... وحلق اللحیة وهجاء المؤمنین وإیذاؤهم»(3) .

10 - وقال أیضاً فی الوافی : « ... وقد مضی فی کتاب الحجة حدیث عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّ أقواماً حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، وقد أفتی جماعة من فقهائنا بتحریم حلق اللحیة ، وربما یستشهد لهم بقوله سبحانه حکایةً عن إبلیس اللعین : «. . . وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ . . .»(4)(5) .

أقول : الحدیث المذکور هو خبر حبابة الوالبیة المروی فی الکافی 1 / 346 ح 4 ، ویأتی البحث حوله إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .

11 - قال المحدث البحرانی : « الظاهر - کما استظهره جملة من الأصحاب کما عرفت - تحریم حلق اللحیة ، لخبر المسخ المروی عن أمیر المؤمنین علیه السلام ، فإنّه لا یقع إلاّ علی ارتکاب أمر محرَّم بالغ فی التحریم ، وأمّا الاستدلال بآیة «وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» ، ففیه : أنّه قد ورد عنهم علیهم السلام : أنّ المراد دین اللّه ، فیشکل الإستدلال بها علی ذلک وإن کان ظاهر اللفظ یساعده»(6) .

12 - وقال المجلسی الأوّل : « ... ورد فی الکافی مع حکم الکلینی بصحة أخباره عن

ص:35


1- (7) شارع النجاة / 103 المطبوع ضمن إثنی عشر رسالة السید الداماد . طبعت بإهتمام المرحوم السید جمال الدین المیردامادی قدس سره .
2- (8) مفاتیح الشرائع 2 / 20 .
3- (9) منهاج النجاة / 70 .
4- (1) سورة النساء / 119 .
5- (2) الوافی 6 / 658 .
6- (3) الحدائق 5 / 561 .

أمیر المؤمنین سلام اللّه علیه ، أنّ أقواماً حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، ویظهر من الأوامر بإعفاء اللحی وهذا الخبر ، ومن أنّه زیّ الیهود وجزّه زیّ المجوس ، الحرمة ، ولم یذکره فیما رأینا منهم غیر الشهید رحمه الله ، فإنّه ذکر حرمة الحلق بلا ذکر خلاف ، والمسموع من المشایخ أیضاً حرمته . ویؤیده أنّه لم ینقل تجویزه من النبی والأئمة صلوات اللّه علیهم ، ولو کان جائزاً لفعلوه مرّة لبیان الجواز کما فی کثیر من المکروهات ، أو وقع منهم الرخصة لأحدٍ ، مع أنّه معلوم منهم متواتراً بل من أصحابهم المداومة وإعفاء اللحیة . والحاصل أنّ الإحتیاط فی الدین ترک حلق اللحیة ، بل الشارب وترک جز اللحیة کالحلق ، فإنّهما کالضروریات من الدین ، بل ترک إطالة الشوارب وفتلهما أیضاً ، وترک إطالة اللحیة زیادةً عن القبضة ، فإنّه ورد فی الأخبار الکثیرة أنّ الزائد عن القبضة فی النار ، وأنّه تقبض بیدک اللحیة وتجزّ ما فضل ... »(1) .

أقول : فی هذا المجال أیضاً راجع إلی شرحه علی الفقیه باللغة الفارسیة(2) .

13 - وقال ولده العلامة المجلسی فی ذیل الروایة : « واستدل به علی حرمة حلق اللحیة بل تطویل الشارب ، ویرد علیه أنَّه إنّما یدلّ علی حرمتهما أو أحدهما فی شرع مَنْ قبلنا لا فی شرعنا .

فان قیل : ذکره علیه السلام ذلک فی مقام الذمّ یدلّ علی حرمتهما فی هذه الشریعة أیضاً .

قلنا : لیس الإمام علیه السلام فی مقام ذمّ هذین الفعلین ، بل فی مقام ذمّ بیع المسوخ بهذا السببّ ،کما أنّ مسوخ بنی إسرائیل مسخوا لِصید السّبت ، وذکرهم هنا لا یدلّ علی تحریمه . نعم یدلّ بعض الأخبار علی التحریم ، وفی سندها أو دلالتها کلام لیس هذا المقام محلّ إیراده»(3) .

14 - وقد أفتی بالتحریم الشیخ علی سبط الشهید الثانی فی کتابه « الدر المنثور»(4) .

15 - وذهب الشیخ الحر العاملی فی کتابه « هدایة الاُمّة» إلی عدم جواز حلق

ص:36


1- (4) روضة المتقین 1 / 333 .
2- (5) لوامع الصاحبقرانی 1 / 242 .
3- (1) مرآة العقول 4 / 79 .
4- (2) الدر المنثور 2 / 291 .

اللحیة(1) .

16 - وقال السید عبد اللّه شبّر : « من المعاصی المنصَوص علیها ترک الواجبات ... وحلق اللحیة لأنّه خلاف السنة التی هی إعفاؤها ولمسخ طائفة بسببه»(2) .

17 - قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره : « خامسها : تخفیف اللحیة وتدویرها والأخذ من العارضین وتبطین اللحیة وقصّ ما زاد عن القبضة من اللحیة ، فإن مازاد عن القبضة فی النار ، وعن الصادق علیه السلام : یعتبر عقل الرجل فی ثلاث فی طول لحیته ونقش خاتمه وفی کنیته(3) . ویحرم حلقها ، ویستحب توفیرها قدر قبضته من ید صاحبها مع استواءِها واستوائه ، وإلاّ اعتبر المقدار ممّا لا یلائم خلقته»(4) .

18 - قال صاحب الجواهر فی شرح قول المحقق : « (ولیس علی النساء حلق) : لا تعییناً ولا تخییراً ، بلا خلاف أجده بل عن التحریر والمنتهی الإجماع علیه ، وهو الحجة بعد قول النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی وصیته لعلی علیه السلام : لیس علی النساء جمعة - إلی أن قال - : ولا استلام الحجر ولا الحلق ، والصادق علیه السلام فی صحیح الحلبی : لیس علی النساء حلق ویجزیهنَّ التقصیر ، بل یحرم علیهنّ ذلک ، بلا خلاف أجده فیه أیضاً ، بل عن المختلف الإجماع علیه ، وهو الحجة بعد

المرتضوی : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أن تحلق المرأة رأسها ، أی فی الإحلال لا مطلقاً ، فإنّ الظاهر عدم حرمته علیها فی غیر المصاب المقتضی للجزع ، للأصل السالم عن معارضة دلیل معتبر . اللهم إلاّ أن یکون هناک شهرة بین الأصحاب تصلح جابراً لنحو المرسل المزبور ، بناءً علی إرادة الإطلاق ، فیکون کحلق اللحیة للرجال»(5) .

19 - قد أفتی بالتحریم الشیخ الأعظم الأنصاری(6) وکل من المعروفین بالتقلید من زمنه إلی یومنا هذا فی رسائلهم العملیة :

ص:37


1- (3) هدایة الاُمّة إلی أحکام الأئمة علیهم السلام 1 / 154 طبع الآستانة المقدسة الرضویة علیه السلام عام 1412 ه- .
2- (4) حق الیقین 2 / 213 .
3- (5) الخصال 1 / 103 - مکارم الأخلاق / 68 .
4- (6) کشف الغطاء 2 / 418 .
5- (1) الجواهر 19 / 236 .
6- (2) مجمع المسائل - أواخرها فی المسائل المتفرقة کما نقل عنه العلامتان الطبسی فی المنیة / 85 و البلاغی فی رسالته / 156 .

20 - ومنهم : خالنا العلامة الفقیه السید إسماعیل الصدر قدس سره ، فقد قال فی بعض تعالیقه الفتوائیة : « قد حررت هذه المسألة مفصلاً ، وأرجو العذر عن مقدار ما عرضت به ، ومن یقول بعدم حرمته فلا یخلو حاله من أحد الأمرین : إما لعدم کونه من الراسخین فی العلم ، أو یروم بذلک إظهار فضیلته ، واللّه العالم . حرره الراجی ابن صدر الدین العاملی»(1) .

21 - وممّن صرح بالحرمة آیة اللّه المیرزا الشیرازی الکبیر کما نقل عنه صاحب المنیة(2) .

22 - ومنهم : الفقیه السید محمد کاظم الطباطبائی الیزدی فی ترجمة العروة الوثقی المسماة بالغایة القصوی(3) .

23 - ومنهم : آیة اللّه الشیخ عبد الکریم الحائری الیزدی قال : « أما الدلیل الکاشف عن الحرمة فمن الکتاب قوله تعالی : «فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» .

بتقریب : أنّ إبلیس فی مقام إضلاله یقول : لآمرنَّهم بتغییر الخلقة ، مخالفاً لمقتضی المقام الذی هو بیان إضلاله ، ومن جملة ما هو تغییر فی الخلقه حلق اللحیة»(4) .

24 - ومنهم : الفقیه السید أبو الحسن الأصفهانی قال ما معرّبه : « حلق اللحیة حرام ولو بالماکنة إذا کان مثل الحلق ، وفی هذا الحکم جمیع الناس سیان ، وحکم اللّه لا یتغیر بالاستهزاء والسخریة»(5) .

25 - ومنهم : الفقیه الحجة الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء قال : « الظاهر تحقق الإجماع علی الحرمة»(6) .

26 - ومنهم : آیة اللّه الحاج آقا حسین القمی یقول ما یقرب هذا المضمون : « إنّ ارتکاز المسلم بما هو مسلم أنّ حلق اللحیة حرام ، ویؤیده ما نقل من الإجماع علی

ص:38


1- (3) ونقل عنه فی المنیة / 86 .
2- (4) المنیة / 88 .
3- (5) غایة القصوی 2 / 71 المسألة 63 و 64 .
4- (6) نقل عنه تلمیذه العلامة آیة اللّه الشیخ محمد رضا الطبسی النجفی قدس سره فی کتابه المنیة / 88 .
5- (7) توضیح المسائل / 458 المسألة 2844 .
6- (1) نقل عنه فی المنیة / 93 .

حرمته»(1) .

27 - وقال العلامة المامقانی : « ویحرم حلق اللحیة لما ورد من النهی عن ذلک ... وقد ورد بسند محکوم بالصحة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّ حلق اللحیة من المثلة وأنّ علی من یفعله لعنة اللّه ... »(2) .

28 - وفی الفقه علی المذاهب الأربعة « نقل عن الشافعیة : أمّا اللحیة فإنه یکره حلقها والمبالغة فی قصّها ، فإذا زادت علی القبضة فإنّ الأمر فیه سهل ، خصوصاً إذا ترتب علیه تشویه للخلقة أو تعریض به أو نحو ذلک ... .

وعن الحنفیة : یحرم حلق لحیة الرجل ، ویُسنّ أن لا تزید فی طولها علی القبضة ، فمازاد علی القبضة تُقصّ ، ولا بأس بأخذ أطراف اللحیة وحلق الشعر الذی تحت الإبطین ونتف الشیب ، وتُسنّ المبالغة فی قصّ الشارب ... .

وعن المالکیة : یحرم حلق اللحیة ویُسنّ حلق الشارب ... .

وعن الحنابلة : یحرم حلق اللحیة ولا بأس بأخذ ما زاد علی القبضة منها ، فلا یکره قصّه کما لا یکره ترکه . وکذا لا یکره أخذ ما تحت حلقة الدبر من الشعر ، ویکره نتف الشیب ، ویُسنّ المبالغة فی قصّ الشارب ... »(3) .

أقول : أنت تری نَقَل صاحب الفقه علی المذاهب الأربعة عن الشافعیة القول بکراهة حلق اللحیة ، ولکن نقل الشیخ علی محفوظ أحد مدرسی الأزهر القول بالحرمة عن بعضهم ، حیث قال : « الثالث : مذهب السادة الشافعیة ، قال فی شرح العباب : فائدة : قال الشیخان : یکره حلق اللحیة ، واعترضه ابن الرفعة بأنّ الشافعی نصّ فی الاُمّ علی التحریم . وقال

الأذرعی : الصواب تحریم حلقها جملة لغیر علّة بها . انتهی . ومثله فی حاشیة ابن قاسم العبادی فی الکتاب المذکور»(4)(5) .

ص:39


1- (2) نقل عنه ولده الفقیه الحاج آقا تقی القمی فی عمدة الطالب 1 / 198 .
2- (3) مرآة الکمال / 109 .
3- (4) الفقه علی المذاهب الأربعة 2 / 44 .
4- (1) الإبداع فی مضارّ الإبتداع / 406 الطبعة الرابعة . ونقل عنه العلامة الأمینی قدس سره فی کتابه الغدیر 11 / 156 الطبعة الأولی .
5- (2) راجع إعانة الطالبین 2 / 386 للبکری الدمیاطی وحواشی الشروانی 9 / 376 .

وبالجملة ، فجمیع مذاهب الأربعة یذهبون إلی الحرمة ، نعم نقل عن بعض الشافعیة القول بالکراهة .

الوجوه التی اُقیمت علی الحرمة
الوجه الأوّل : الإجماع

قد مرّ منّا عند نقل الأقوال دعوی الإجماع علی حرمة حلق اللحیة من عدّة من الأصحاب :

منهم : الشیخ بهاء الدین محمد العاملی والشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء قدس سرهما .

وفیه : أولاً : لم یکن فی کلام الشیخ البهائی دعوی الإجماع کما سبق نقل کلامه آنفاً .

وثانیاً : عدم إمکان تحصیل الإجماع ، لأن المسالة لم تکن معنونة فی کتب القدماء من أصحابنا .

وثالثاً : علی فرض تحقق الإجماع لا یفید فی المقام شیئاً ، لأنّه إجماع مدرکی ولم یکن تعبدیاً ، ومن المحتمل أنّ یکون مستند المجمعین نفس هذه الوجوه التی تعرضنا لذکرها ، فلابدّ من ملاحظتها .

الوجه الثانی : سیرة المتشرعة وارتکازهم

سیرة المتشرعة من إصحابنا المتصلة إلی زمن المعصومین علیهم السلام علی إبقاء اللحیة وعدم حلقها ، بل إنّهم یذمّون حالقها ویعاملون معه معاملة الفساق ولا یحکمون بعدالته . والدلیل علی إتصال السیرة ما ورد فی الروایات المتعددة من الأمر بإعفاء اللحیة ، أو خبر حبابة الوالبیة من تفسیر أمیر المؤمنین علیه السلام جند بنی مروان بأنّهم أقوام حلقوا اللحی وفتلوا الشارب ، ونحوها .

وهکذا الراسخ فی أذهان المتشرعة وارتکازهم حرمة حلق اللحیة ویعدّ عندهم

الحالق کالفاسق ، ووجود نفس هذا الإرتکاز جیلاً بعد جیل یکشف عن وجود حکم شرعی فی المقام وهو الحرمة . ولعلّ نفس وجود هذه السیرة والإرتکاز هو السرّ فی عدم تعرض قدماء أصحابنا لهذه المسألة وترکوها لوضوحها وعدم الحاجة إلی بیانها .

وهذه السیرة والإرتکاز لا تختص بأصحابنا ، بل تجری بالنسبة إلی المسلمین عامة ،

ص:40

بل قد یقال : بجریانها بالنسبة إلی جمیع الأدیان السماویة .

ولکن العمدة فی المقام جریانها بالنسبة إلی أصحابنا واتصالها بزمن المعصومین علیهم السلام وتقریرهم علیهم السلام لها .

ووجود هذه السیرة والإرتکاز ممّا لا ینکر ، وإنکار إتصالها إلی زمن المعصومین علیهم السلام مکابرة ،وقد مرّ منّا ظهور الإتصال من الروایات ، فلا یمکن المناقشة فی هذا الوجه بوجه یکون تاماً .

الوجه الثالث : حلق اللحیة تشبّه بأعداء الدین

التشبّه بالکفار وأعداء الدین حرام ، ومن شعارهم وزیّهم حلق اللحیة کما ورد ذلک بالنسبة إلی المجوس ، فلا یجوز للمسلم التشبّه بهم فی حلق اللحیة فلا یجوز حلقها .

ومن الروایات الناهیة عن التشبّه بالکفار معتبرة السکونی عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : أوحی اللّه إلی نبیٍّ من الأنبیاء أن قُل لقومک : لا تلبسوا لباس أعدائی ، ولا تطعموا مطاعم أعدائی ، ولا تشاکلوا بما شاکل أعدائی ، فتکونوا أعدائی کما هم أعدائی(1) .

ومنها : معتبرة اُخری لإسماعیل بن مسلم - وهو السکونی - عن الصادق علیه السلام قال : اُوحی اللّه إلی نبیٍّ من أنبیائه قل للمؤمنین : لا تلبسوا لباس أعدائی ، ولا تطعموا مطاعم أعدائی ، ولا تسلکوا مسالک أعدائی ، فتکونوا أعدائی کما هم أعدائی(2) .

وفیه : أن المراد من هذه الروایات وعدم جواز التشبّه بهم ، رفض المسلم هویته وتراثه وفکره وتاریخه وجعل نفسه تابعاً محضاً لهم ، فصار من مقلدیهم فی العمل والفکر والعقیدة وحتّی فی اللباس والزی والشکل واللسان ونحوها ، بحیث یعدّون منهم عرفاً .

وأمّا مجرد الإتصاف بوصف من اُوصافهم لا سیما مع عدم قصد التشبّه ، فلا یصدق علیه عنوان التشبّه عادة ، فلا یتمّ هذا الوجه .

نعم ، صدق عنوان التشبّه بحسب اختلاف الأزمنة والأمکنة مختلف کما هو واضح .

ص:41


1- (1) وسائل الشیعة 15 / 146 ح 1 الباب 64 من ابواب جهاد العدو .
2- (2) وسائل الشیعة 4 / 385 ح 8 الباب 19 من أبواب لباس المصلی .
الوجه الرابع : حلق اللحیة داخل فی التشبّه بالنساء

قد سبق فی البحوث الماضیة أنّ تشبُّهَ کلٍّ من الرجلِ والمرأةِ بالآخرِ حرامٌ مطلقاً ومن الواضح أنّ من أظهر مصادیق تشبّه الرجل بالمرأة حلق اللحیة .

وفیه : نعم التشبّه حرام مطلقاً ولکن إذا صدق عنوان التشبّه عرفاً ، وصرف حلق اللحیة فقط لا یصدق علیه التشبّه إذا لم یکن معه اُمور اُخری . لاسیما فی زمان أو مکان دارج أمر حلق اللحیة بین رجاله ، فلا یصدق عنوان التشبّه أصلاً . والعرف خیر حاکم بما ذکرناه .

الوجه الخامس : آیة تغییر الخلقة

وهی قوله تعالی حکایة عن الشیطان : «لَعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لاَءَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِکَ نَصِیباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّیَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُبَتِّکُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن یَتَّخِذِ الشَّیْطَانَ وَلِیّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِیناً»(1) .

بتقریب : أن حلق اللحیة من مصادیق تغییر خلق اللّه ، وظاهر الآیة حرمته مطلقاً إلاّ ما خرج بالدلیل أو لم یکن عند العرف من مصادیقه . والأوّل نحو : الختان وحلق الرأس والعانة والإبطین وقصّ الأظفار ونحوها ، والثانی مثل : قطع الأشجار وحفر الآبار وجری الأنهار وکسر الأحجار ونحوها .

وأمّا غیرهما من أنواع التصرفات فتدخل فی الآیة الشریفة وهی حرام نحو ، قرض آذان الأنعام وشقها وجدع أنفهم وحلق اللحیة وإخصاء الناس ونحوها ، فالآیة الشریفة تدلّ علی حرمة حلق اللحیة .

وعلی ما ذکرنا تدخل فی الآیة الشریفة جمیع ما ذکره المفسرون ، لأنّ کل ذلک من التغییر فی خلق اللّه .

قال الشیخ الطوسی : « وقوله : «وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» اختلفوا فی معناه ، فقال ابن عباس والربیع بن أنس عن أنس : أنّه الإخصاء وکرهوا الإخصاء فی البهائم ، وبه قال سفیان وشهر بن حوشب وعکرمة وأبو صالح . وفی روایة اُخری عن ابن عباس فلیغیّرن دین

ص:42


1- (1) سورة النساء / 119 و 118 .

اللّه ، وبه قال إبراهیم ومجاهد ، وروی ذلک عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهماالسلام ، قال مجاهد : کذب العبد - یعنی عکرمة - فی قوله : انّه الإخصاء ، وإنّما هو تغییر دین اللّه الذی فطر الناس علیه فی قوله : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ»(1) ، وهو قول قتادة والحسن والسدی والضحاک وابن زید .

وقال قوم : هو الوَشْم ، روی ذلک عن الحسن والضحاک و إبراهیم أیضاً والمغیرات خلق اللّه ، قال الزجاج : خَلَق اللّه تعالی الأنعام لیأکلوها فحرموها علی أنفسهم ، وخَلَقَ الشمس والقمر والحجارة مسخرةً للناس ینتفعون بها فعبدها المشرکون ، وأقوی الأقوال من قال : فلیغیرن خلق اللّه بمعنی دین اللّه ، بدلالة قوله : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ» ، ویدخل فی ذلک جمیع ما قاله المفسرون ، لأنّه إذا کان ذلک خلاف الدین فالآیة تتناوله»(2) .

وذکر نحوها الطبرسی فی مجمع البیان ، فراجع کلامه(3) .

قال الزمخشری : « وتبتیکهم الآذان فعلهم بالبحائر(4) ، کانوا یشقّون اُذنَ الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذکراً ، وحرموا علی أنفسهم الانتفاع بها . وتغییرهم خلق اللّه : فق ء عین الحامی وإعفاؤه عن الرکوب . وقیل : الخصاء وهو فی قول عامة العلماء مباح فی البهائم وأما فی بنی آدم فمحظور ، وعند أبی حنیفة یکره شراء الخصیان وإمساکهم واستخدامهم ، لأنّ الرغبة فیهم تدعو إلی خصائهم . وقیل : فطرة اللّه هی دین الإسلام . وقیل للحسن : إنّ عکرمة یقول هو الخصاء فقال : کذب عکرمة ، هو دین اللّه . وعن ابن مسعود : هو الوَشْم ، وعنه : لعن اللّه الواشرات والمتنمصات والمستوشمات المغیرات خلق اللّه . وقیل : التخنث»(5) .

ص:43


1- (1) سورة الروم / 30 .
2- (2) التبیان 3 / 334 .
3- (3) مجمع البیان 3 / 113 .
4- (4) بَحَر الناقة : شقَّ اُذنها ، فهی بَحیرة جمعها بَحَائر وبُحُر .
5- (5) الکشاف 1 / 566 .

وقال البیضاوی : « «فَلَیُبَتِّکُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ» یشقّونها لتحریم ما أحلّه اللّه ، وهی عبارة عمّا کانت العرب تفعل بالبحایر والسوایب ، وإشارة إلی تحریم کل ما أحلّ ، ونقص کل ما خلق کاملاً بالفعل أو بالقوة .

«وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» عن وجهه صورة أو صفة ، ویندرج فیه ما قیل : من فقؤ عین الحامی وخصاء العبید ، والوشم والوشر واللواطة والسحق ونحو ذلک وعبادة

الشمس والقمر ، وتغییر فطرة اللّه التی هی الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوی فیما لا یعود علی النفس کمالاً ولا یوجب لها من اللّه زلفی ، وعموم اللفظ یمنع الخصاء مطلقاً ولکن الفقهاء رخصوا فی خصاء البهائم للحاجة ... »(1) .

أقول : فعلی ما ذکر المفسرون یدخل فی الآیة الشریفة ما ورد من الروایات من تفسیر خلق اللّه بدین اللّه أو أمره أو نهیه ، نحو مرفوعتی جابر حیث فسّر الإمام أبی جعفر الباقر علیه السلام فیهما خلق اللّه بدین اللّه وأمر اللّه بما أمر به(2) . وغیرها من الروایات(3) .

والحاصل ، لا منافاة بین الأخذ بهذه التفاسیر والقول بحرمة تغییر خلق اللّه وبین تفسیر خلق اللّه بدین اللّه وأمره ونهیه ، لأنّ دین اللّه وفطرة اللّه وأمره ونهیه أیضاً من خلقه ، فالتغییر فی کل ذلک حرام بمفاد الآیة الشریفة .

والعلامة الخبیر الفیض الکاشانی قدس سره أیضاً جمع بین الروایات وأقوال المفسرین بمثل ما جمعناه وقال فی ذیل قوله تعالی : « «خَلْقَ اللّهِ» فیه (أی فی المجمع) عنه (أی عن الصادق علیه السلام ) یرید دین اللّه وأمره ونهیه ، ویؤیده قوله سبحانه : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» أقول : ویزیده تأییداً قوله عزّ وجل عقیب ذا «ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ»(4) وتفسیرهم فطرة اللّه بالإسلام ، ولعلّه یندرج فیه کلّ تغییر لخلق اللّه عن وجهه صورةً أو صفةً من دون إذن من اللّه ، کفقئهم عین الفحل الذی طال مکثه عندهم

ص:44


1- (1) أنوار التنزیل / 206 الطبع الحجری .
2- (2) تفسیر العیاشی 1 / 444 ح 278 و 279 .
3- (3) راجع تفسیر العیاشی 1 / 444 ح 277 و البرهان فی تفسیر القرآن 2 / 175 .
4- (4) سورة الروم / 30 .

وإعفائه عن الرکوب ، وخصاء العبید وکلّ مثلة ، ولا ینافیه التفسیر بالدین والأمر ، لأنّ ذلک کله داخل فیهما»(1) .

وتبعه فی ذلک المشهدی فی کنز الدقائق(2) والعلامة الطباطبائی فی المیزان(3) ومال إلی هذا الجمع الشیخ الطوسی أعلی اللّه مقامه والقاضی البیضاوی کما مرّ کلامهما .

فعلی ما ذکرنا کل تغییر فی خلق اللّه حرام ، ومنها : حلق اللحیة .

ولا یرد علینا عدم تطبیق التغییر فی خلق اللّه علی حلق اللحیة فی کلمات

المفسرین ،وکما أصرّ علیه بعض الأساتیذ(4) - مدظله - ، لأنّ ما ذکروه لیس إلاّ بعنوان المثال ، وحیث لم یتداول حلق اللحیة فی ذلک الزمان بین المسلمین فلم یذکروها .

فالآیة الشریفة تدلّ بإطلاقها علی حرمة تغییر خلق اللّه ومنها : حلق اللحیة .

وجماعة من الأصحاب أیضاً استدلوا بهذه الآیة لحرمة حلق اللحیة ، منهم الفقیه السید الیزدی والشیخ المؤسس الحائری(5) والشیخ البلاغی(6) وصاحب المنیة(7) وغیرهم أعلی اللّه مقامهم .

الوجه السادس : آیة الحنیفیة

وهی قوله تعالی : «ثُمَّ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِیمَ حَنِیفاً وَمَا کَانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ»(8) .

قد أمرنا عزّ وجلّ باتباع ملّة إبراهیم حنیفاً ، وعدّ من الحنیفیة إعفاء اللحی ، کما قال

ص:45


1- (5) تفسیر الصافی / 125 الطبع الحجری .
2- (6) کنز الدقائق 2 / 617 .
3- (7) المیزان 5 / 87 .
4- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 113 و 114 .
5- (2) کما نقل عنهما فی المنیة / 34 .
6- (3) فی رسالته فی حرمة حلق اللحیة / 153 المطبوعة ضمن الرسائل الأربعة عشر .
7- (4) المنیة / 30 وما بعدها .
8- (5) سورة النحل / 123 .

علی بن إبراهیم القمی فی تفسیره : « وهی الحنیفیة العشرة التی جاء بها إبراهیم علیه السلام : خمسة فی البدن وخمسة فی الرأس ، فأمّا التی فی البدن فالغسل من الجنابة والطهور بالماء وتقلیم الأظفار وحلق الشعر من البدن والختان ، وأمّا التی فی الرأس فطمّ الشعر(1) وأخذ الشارب وإعفاء اللحی والسواک والخلال . فهذه فلم تنسخ إلی یوم القیامة»(2) .

والروایة کماتری مقطوعة لم تنسب إلی معصوم ، ولکن نسب الطبرسی هذه الروایة إلی الصادق علیه السلام وقال بعد نقلها : « ذکره علی بن إبراهیم بن هاشم فی تفسیره»(3) .

وهکذا نقل صاحب الوسائل(4) عن الطبرسی .

فیمکن نسبة الروایة إلی المعصوم علیه السلام ، وعدّ من الحنیفیة التی اُمرنا باتباعها إعفاء اللحی ، فإذا وجب إعفاء اللحی حرم حلقها .

وفیه : علی فرض تمامیة نسبة الروایة إلی المعصوم علیه السلام ، مع ذلک لیس لها سند وتکون

مرسلة فلا یمکن الإعتماد علیها . ویأتی البحث حول إعفاء اللحی بعد نقل روایاتها .

الوجه السابع : الخبر المروی فی الجعفریات

نقل محمد بن محمد بن الأشعث عن موسی بن إسماعیل بن موسی بن جعفر عن أبیه عن جده عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حلق اللحیة من المثلة ، ومن مثّل فعلیه لعنة اللّه(5) .

بتقریب : أن المثلة حرام فی الشریعة المقدسة ، والروایة عدّت حلق اللحیة منها فتکون حراماً .

وفیه : نعم ، المثلة حرام فی الشریعة ولکن کون حلق اللحیة من المثلة فی العرف محل تأمل . وأمّا الذهاب إلی ثبوت حکم المثلة علیها تعبداً بواسطة هذه الروایة ، فغیر تام ، لأنّ

ص:46


1- (6) طَمَّ الشعرَ : جزَّه أو عقصه ، عَقَصَتِ المرأةُ شَعْرَها : شدّته فی قفاها .
2- (7) تفسیر القمی 1 / 391 .
3- (8) مجمع البیان 1 / 200 - ذیل آیة 124 من سورة البقرة .
4- (9) وسائل الشیعة 2 / 117 ح 5 . الباب 67 من أبواب آداب الحمام .
5- (1) الجعفریات / 157 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 406 ح 1 .

الروایة من حیث السند ضعیفة ولم یثبت صحة انتساب الکتاب إلی ابن الأشعث الکوفی .

وأمّا الإشکال فی الروایة فبعدم صدق المثلة علی حلق اللحیة ، لأنّ المعتبر فی صدق المثلة أمران : أحدهما : إیقاع النقص بالغیر ، وثانیهما : کون الإیقاع بقصد هتکه وتحقیره ، فلا یتحقق عنوان المثلة فیما إذا حلق الإنسان لحیته بداعی التجمیل ونحوه . کما قاله شیخنا الأستاذ - مدظله -(1) واُستاده(2) قدس سره .

وهذا غیر تام ، لِورود النهی عن المثلة فی الشریعة حتّی بالنسبة إلی الحیوانات والکلب العقور ومن الواضح انه لم یصدق فیها قصد التحقیر والهتک بالنسبة إلیهم .

وهکذا لایتم ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره من اجتماع اللعن مع الکراهة ، واستدل ببعض الروایات الواردة فی موارد استعمال اللعن فی مقام الکراهة(3) .

لأنّ ظهور اللعن فی الحرمة واضح عند العرف ، نعم یمکن استعماله فی الکراهة مع وجود قرینة علیها ، ومن القرائن علم السامع بعدم الحرمة کما فی الأمثلة التی ذکرها هذا المحقق الجلیل ، نحو : آکل زاده وحده وراکب الفلاة وحده والنائم فی بیت وحده .

ولذا صار مَثَل اللعن مَثَل السحت ، کما أن ظهور السحت فی الحرمة واضح ولکن ربّما یُستعمل فی الکراهة ، هکذا الأمر بالنسبة الی اللعن . وقد تنبّه علی هذا الإشکال شیخنا

الاستاذ - مدظله - فراجع کلامه فی کتابه(4) .

والحاصل ، الإشکال فی الاستدلال بهذه الروایة منحصر بما ذکرناه ، من أنّ الروایة ضعیفة سنداً ، مضافاً إلی عدم ثبوت انتساب الکتاب إلی ابن الأشعث ، فلا یمکن الإعتماد علیها . وإلحاق حلق اللحیة بالمثلة تعبداً فی حکمها - وهی الحرمة - مشکلٌ .

الوجه الثامن : خبر حبابة الوالبیة

روی الکلینی والصدوق بسند فیه ضعف عن حبابة أنّها قالت : رأیت

ص:47


1- (2) إرشاد الطالب 1 / 147 .
2- (3) مصباح الفقاهة 1 / 259 .
3- (4) مصباح الفقاهة 1 / 260 .
4- (1) إرشاد الطالب 1 / 147 .

أمیر المؤمنین علیه السلام فی شرطة الخمیس ومعه درّة لها سبابتان یضرب بها بیّاعی الجِرّیّ والمارماهی والزِمّار ویقول لهم : یا بیّاعی مسوخ بنی إسرائیل وجند بنی مروان ، فقام إلیه فرات بن أحنف ، فقال : یا أمیر المؤمنین علیه السلام وما جند بنی مروان ؟ قال : فقال له : أقوامٌ حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، الحدیث(1) .

الجِرّیّ : نوع من السمک لا فلس له ، وکذا المارماهی والزِمّار ، والفتل : الإزالة .

بتقریب : أن المسخ عقوبة شدیدة لا تترتب إلاّ علی ارتکاب المحرّمات الشدیدة والمغلّظة ، وحیث تترتب علی حلق اللحیة وفتل الشارب فیکونان من المحرّمات الشرعیة .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بسندیها ، لا یمکن الإعتماد علیها فی الأحکام الشرعیة ، والعجب من العلاّمة البلاغی حیث حکم باعتبار سندها بروایة الصدوق(2) .

وثانیاً : الروایة تدلّ علی أن حلق اللحیة وفتل الشارب - أی إزالته معاً - من المحرّمات کما فعله المجوس ، ولم یقل أحدٌ بأنّ فتل الشوارب فقط من المحرّمات ، أعنی الروایة تدلّ علی أنّ فتل الشارب من المحرَّمات والإجماع قائم علی خلافه ، فالأخذ بها مشکل .

اللهم إلاّ أن یقال : هذا الإجماع مانع من حمل الحرمة علی فتل الشوارب ، ولکن لا یمنع من حمل الحرمة علی حلق اللحی أو علی حلقهما معاً .

وثالثاً : الروایة حیث ترتب المسخ علی حلق اللحیة ، تدلّ علی أنّها من الکبائر ، والإلتزام بأنّها من الکبائر مشکل .

ورابعاً : الروایة تدلّ علی حرمتهما فی الأدیان السالفة المنسوخة ، وثبوت الحرمة فی الأدیان المنسوخة لا تقتضی حرمتهما فی شرعنا ودیننا .

ولکن مع ذلک کلِّه ظهور الروایة فی حرمة حلق اللحیة ممّا لا ینکر ، إلاّ أنّ العمدة ضعف إسنادها .

ص:48


1- (2) الکافی 1 / 346 ح 3 وکمال الدین / 536 ح 1 ونقل عنهما فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 4 .
2- (3) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 151 المطبوع ضمن الرسائل الأربعة عشر .
الوجه التاسع : صحیحة البزنطی

روی ابن إدریس فی آخر السرائر نقلاً عن کتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبی نصر البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : وسألته عن الرجل هل یصلح لأحد أن یأخذ من لحیته ؟ قال : أمّا من عارضیه فلا بأس وأمّا من مقدّمها فلا(1) .

ورواها الحمیری فی قرب الإسناد(2) وعلی بن جعفر العریضی فی کتابه(3) إلاّ أنّه قال فی آخره : فلا یأخذ .

ورواها فی بحار الأنوار(4) عن قرب الإسناد والسرائر .

لم یذکر ابن إدریس سنده إلی جامع البزنطی ، فالروایة مرسلة . ولکن لصاحب الوسائل سنداً صحیحاً إلی کتاب علی بن جعفر ، وهو ثقة ، فهذا السند صحیح .

وأمّا سند الحمیری فی قرب الإسناد فضعیف بعبد اللّه بن الحسن حفید علی بن جعفر لأنّه لم یرد توثیقه ، اللهم إلاّ أن یقال باعتباره .

وأمّا دلالة الصحیحة علی حرمة حلق اللحیة وأخذها ولو بالنتف ونحوه واضحة ، لأنّ الإمام علیه السلام نهی عن الأخذ من مقدّمها مطلقاً ، ومن البدیهی أنّ الأخذ من مقدّمها بمعنی إصلاحها أو تقصیرها إذا جاوزت عن القبضة أو تدویرها أو تبطّنها لا بأس بها ، فأیّ شیءٍ به بأس ؟ لم یبق إلاّ الحلق ، فالصحیحة تدلّ علی حرمة حلق مقدّم اللحیة حیث نهی الإمام علیه السلام عنه ، وأمّا حلق العارضین فلا بأس به ، فالروایة تدلّ - مضافاً علی حرمة حلق اللحیة - علی جواز ما شاع فی عصرنا الحاضر من حلق العارضین وإبقاء ما علی الذقن . وقد خالف فی هذه الدلالة بعض الأساتیذ(5) - مدظله - .

ص:49


1- (1) السرائر 3 / 574 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 111 ح 5 الباب 63 من أبواب آداب الحمام .
2- (2) قرب الاسناد / 296 ح 1169 .
3- (3) مسائل علی بن جعفر / 139 ح 153 .
4- (4) بحار الانوار 73 / 109 ح 2 و 3 (30 / 190) .
5- (5) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 44 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 125 .

والإشکال فیها : بأنّ « مفادها (لا یصلح) وهو أعم من الحرمة علی ما هو المعروف بین الفقهاء» کما قاله بعض المعاصرین(1) قدس سره غیر تام .

لأنه : أولاً : ورد فی نقل علی بن جعفر « فلا یأخذ» ، ولم یکن مفاده لا یصلح حتّی یناقش فیها ، ومن الواضح ظهور کلمة « لا یأخذ» فی الحرمة ، لأنّها نهی صریح .

وثانیاً : علی فرض أنّ یکون مفادها « لا یصلح» فهذه أیضاً ظاهرة فی الحرمة ، لأنّ ظهور النهی فی الحرمة ، إلاّ ما ورد فیه الترخیص أو قامت قرینة علی غیرها ، وکلاهما مفقودان فی المقام .

الوجه العاشر : الروایات الآمرة بإعفاء اللحی

عدّة من الروایات تأمرنا بإعفاء اللحی :

منها : مرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حفّوا الشوارب واعفوا اللّحی ولا تشبّهوا بالیهود(2) .

ومنها : مرسلة اُخری له قال : رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إنّ المجوس جزّوا لحاهم ووفرّوا شواربهم ، وإنّا نجزّ الشوارب ونعفی اللّحی ، وهی الفطرة(3) .

ورواهما مرسلاً العلامة فی التذکرة(4) والشهید فی الذکری(5) ونجل الطبرسی فی مکارم الأخلاق(6) ، ونقل عنه فی بحار الأنوار(7) .

ومنها : خبر علی بن غراب عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام قال :

قال

ص:50


1- (6) وهو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری فی مهذب الأحکام 16 / 80 .
2- (1) الفقیه 1 / 130 ح 329 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 1 الباب 67 من أبواب آداب الحمام .
3- (2) الفقیه 1 / 130 ح 331 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 2 .
4- (3) تذکرة الفقهاء 2 / 253 .
5- (4) ذکری الشیعة 1 / 159 .
6- (5) مکارم الأخلاق 1 / 156 .
7- (6) بحار الأنوار 73 / 112 (30 / 192 ح 14) .

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حفّوا الشوارب واعفوا اللحی ولا تشبّهوا بالمجوس(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : قصوا سبالکم و وفّروا عثانینکم وخالفوا أهل الکتاب(2) .

السبال : جمع سبَلة وهی الشارب . العُثْنُون : اللحیة .

ومنها : مرسلة الشیخ أبی الفتوح الرازی قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : احفوا

الشوارب واعفوا اللّحی(3) .

ومنها : خبر جابر قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لیس منّا من سلق ولا خرق ولا حلق(4) .

سلقه بلسانه : خاطبه بما یکره . الخُرق : الجهل والحمق . وقال الأحسائی : الحلق هی حلق اللحیة .

ومنها : قال النوری : قال الکازرونی فی المنتقی فی حوادث السنة السادسة بعد ذکر کتابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی الملوک : وأنّه کتب کسری إلی عامل الیمن بازان أن یبعثه إلیه ، وأنّه بعث کاتبه بانویه ورجلاً آخر یقال له : خرخسک إلیه صلی الله علیه و آله وسلم ، قال : وکانا قد دخلا علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفیا شواربهما ، فکره النظر إلیهما وقال : ویلکما من أمرکما بهذا ؟ قالا : أمرنا بهذا ربّنا - یعنیان کسری - فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لکن ربّی أمرنی بإعفاء لحیتی وقصّ شاربی ، الخبر(5) .

أقول : روی نحوها الطبری فی تاریخه(6) وابن الأثیر فی

« الکامل فی

ص:51


1- (7) معانی الأخبار / 291 ح 1 ونقلاً عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 3 وبحار الأنوار 73 / 111 ح 10 (30 / 191) .
2- (8) دعائم الاسلام 1 / 125 ونقل عنه العلامة البلاغی فی رسالته فی حرمة حلق اللحیة / 144 .
3- (1) روض الجنان 1 / 287 .
4- (2) عوالی اللآلی 1 / 111 ح 19 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 406 ح 2 .
5- (3) مستدرک الوسائل 1 / 407 .
6- (4) تاریخ الطبری 3 / 1573 .

التاریخ»(1) .

وقد روی بطرق العامة أیضاً الأمر بإعفاء اللحی ، فإن شئت راجع فی هذا المجال رسالة العلاّمة البلاغی فی حرمة حلق اللحیة(2) والغدیر(3) للعلامة الأمینی .

وبعد مراجعة روایات الفریقین فی المقام ، لا محیص لنا من الإذعان بصدور الأمر بالإعفاء من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة علیهم السلام من أهل بیته ، کما اعترف بعض الأساتیذ - مدظله - بأنّها « مستفیضة من طرق الفریقین»(4) . فما فی مصباح الفقاهة من : « أنّها ضعیفة السند»(5) غیر تام .

وأمّا دلالتها : ورد الأمر بالإعفاء والتوفیر بالنسبة إلی اللحیة ، والإعفاء مستلزم

لإبقائه وعدم حلقه ، والأمر بالإعفاء یستلزم وجود اللحیة وإبقائها وعدم حلقها ، فالروایات تدلّ علی الأمرین : لزوم التوفیر استحباباً ولزوم إبقاء اللحیة ووجودها وجوباً . وهکذا استفاد العلامة الفیض قدس سره من الروایات حیث قال : « فَذِکْر الإعفاء عقیب الإحفاء ثمّ النهی عن التشبّه بالیهود دلیل علی أنّ المراد بالإعفاء أن لا یستأصل ویؤخذ منها من دون استقصاء بل مع توفیر وإبقاء ... »(6) .

وتبعه العلامة البلاغی فی الاستفادة من هذه الروایات واستنتج حرمة الحلق منها ، فراجع رسالته فی حرمة حلق اللحیة(7) .

وذکر بعض الأساتیذ - مدظله - ما ذکرناه بعنوان احتمال فی رسالته(8)

ص:53


1- (5) الکامل فی التاریخ 2 / 214 .
2- (6) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / (149 - 139) .
3- (7) الغدیر 11 / (151 - 149) الطبعة الأولی .
4- (8) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 30 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 118 .
5- (9) مصباح الفقاهة 1 / 259 .
6- (1) الوافی 6 / 658 .
7- (2) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 149 .
8- (3) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 35 .

وکتابه(1) .

والحاصل ، أنّ الروایات الآمرة بالإعفاء تدلّ علی وجوب وجود اللحیة للمسلم ، فلیس له حلقها . نعم : غایة الأمر أنّ توفیرها وتطویلها لیس بواجب ، لما ورد من جواز تقصیرها وإصلاحها وتدویرها .

وبالجملة ، تلک عشرة کاملة من الأدلة التی أقیمت علی حرمة حلق اللحیة ، وقد عرفت تمامیة بعضها والمناقشة فی بعضها الآخر ، وأمّا اللاتی تمت فهیّ عندنا :

1 - سیرة المتشرعة وارتکازهم

2 - الإطلاق الوارد فی الآیة من حرمة تغییر الخلقة

3 - صحیحة البزنطی

4 - الروایات الآمرة بإعفاء اللحی .

وهذه الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة حلق اللحیة .

ثم إن هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها
الفرع الأوّل : الاکتساب بحلق اللحیة

حیث ذهبنا إلی حرمة حلق اللحیة ، فالإکتساب بها أیضاً حرام ، یعنی أخذ الأجرة فی

مقابل حلق اللحیة حرام ، فیدخل فی المکاسب المحرمة .

الفرع الثانی : هل یجوز حلقها مادام لم یصدق علیها اللحیة ؟

إذا لم یصدق علی الشعر النابت علی الوجه بأنها لحیةٌ یجوز حلقها ، لأنّها لیست بلحیة ، نحو الشعر النابت علی وجوه الأطفال الذین لم یبلغوا الحُلُم ، وأمّا إذا کانت کثیفة کثیرة بحیث صدقت علیها أنها لحیة عرفاً فلا یجوز حلقها . وأمّا بالنسبة إلی البالغین الذین لهم لحی ولکنهم حلقوها کلّ یوم لم یصدق علی النابت اللحیة ، یصدق علی فعلهم الحلق عرفاً ، فلذا یکون فعلهم هذا حراماً ، مضافاً إلی أنّ الواجب علی المسلم کونه ذا لحیة ، وهو لیس کذلک ،

ص:53


1- (4) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 121 .

ففعله حرام .

الفرع الثالث : هل یجوز حلق العارضین وإبقاء ما علی الذقن ؟

قد مرّ منّا فی ذیل صحیحة البزنطی أنّ المراد من الأخذ فیها الحلق ، فالصحیحة تدلّ علی جواز هذه الکیفیة من اللحیة ، فیجوز حلق العارضین وإبقاءما علی الذقن .

مضافاً إلی أن العرف یراهم ذا لحیة ، لا الحالق لها . ونفس هذا یکفی فی جواز عملهم ، لأنّ ما وجب علی المسلم کونه ذا لحیة کما حملنا الروایات الآمرة بإعفاء اللحی علی ذلک ، وهذا ذو لحیة عند العرف .

نعم ، الأحوط الإجتناب عنه کما هو واضح .

الفرع الرابع : هل تسقط حرمة حلق اللحیة ؟

حیث ذهبنا إلی حرمة حلق اللحیة فصارت کغیرها من التکالیف المحرّمة ، بحیث تسقط عند الاضطرار أو الإکراه أو المزاحمة بتکلیف آخر أهم منها ، ففی کلّ هذه الصور تسقط الحرمة کما فی غیرها من المحرّمات ، ونبّه علی هذا الفرع شیخنا الاُستاذ(1) - مدظله - .

الفرع الخامس : هل یفرق بین الحلق والنتف وغیرهما ممّا یوجب إزالة الشعر ؟

الظاهر أنّ موضوع حرمة حلق اللحیة إعدامها ، بأیّ نحو کان ، فعلیه لا یفرق فی إعدام اللحیة وإزالتها بین الحلق والنتف واستعمال الأدویة علیها أو أکل الأقراص لإزالتها وغیرها ممّا یوجب إزالة الشعر عن اللحیة . ونبّه علی هذا الفرع المحقق الخوئی(2) قدس سره .

الفرع السادس : هل للحیة حدٌ فی جانب القلّة والکثرة ؟

فی جانب القلّة لم یرد فی تحدید اللحیة نص خاص ، ولذا یکون المدار فیه علی الصدق

العرفی . وعلی هذا فإذا أخذ المکلف من اللحیة بمثل المکینة والمقراض ونحوهما بحیث لم تصدق اللحیة علی الباقی عرفاً کان فعله حراماً . کما نبّه علیه المحقق الخوئی(3) قدس سره .

ص:54


1- (1) ارشاد الطالب 1 / 148 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 262 .
3- (1) مصباح الفقاهة 1 / 262 .

وأمّا فی جانب الکثرة : قد یُستفاد من بعض الروایات النهی عن تجاوز اللحیة عن القبضة :

منها : ما رواه الکلینی فی الصحیح عن محمد بن أبی حمزة عمّن أخبره عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : ما زاد علی القبضة ففی النار ، یعنی اللحیة(1) .

ومنها : خبر معلی بن خنیس عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما زاد من اللحیة عن القبضة فهو فی النار(2) .

رواها الصدوق مرسلاً فی الفقیه(3) عن الصادق علیه السلام .

ومنها : ما رواه الکلینی فی الصحیح عن یونس عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قدر اللحیة ، قال : تقبض بیدک علی اللحیة وتجزّ ما فضل(4) .

رواها الصدوق مرسلاً فی الفقیه(5) عن الصادق علیه السلام .

ومنها : خبر درست عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : مرّ بالنبی صلی الله علیه و آله وسلم رجل طویل اللحیة ، فقال : ما کان علی هذا لو هیّأ من لحیته ، فبلغ ذلک الرجل فهیّأ لحیته بین اللحیتین ثم دخل علی النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فلما رآه قال : هکذا فافعلوا(6) .

ورواها الصدوق فی الفقیه(7) مرسلاً .

ومنها : ما رواه محمد بن محمد بن الأشعث بإسناده إلی الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام إنّه کان یقول : « ما جاوز القبضة من مقدّم اللحیة فجزّوه»(8) .

ص:55


1- (2) الکافی 6 / 487 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 112 ح 1 الباب 65 من أبواب آداب الحمام .
2- (3) الکافی 6 / 486 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 113 ح 2 .
3- (4) الفقیه 1 / 130 ح 332 .
4- (5) الکافی 6 / 487 ح 3 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 113 ح 3 .
5- (6) الفقیه 1 / 130 ح 334 .
6- (7) الکافی 6 / 488 ح 12 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 111 ح 3 الباب 63 من ابواب آداب الحمام .
7- (8) الفقیه 1 / 130 ح 330 .
8- (9) الجعفریات / 157 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 404 ح 1 الباب 38 من ابواب آداب الحمام .

وهذه الروایات حددت اللحیة فی جانب الکثرة بالقبضة ، لکنها کلّها ضعاف من حیث السند ، مضافاً إلی الخلاف المنقول(1) فی معنی القبضة ، ولذا لم یفت الأصحاب علی

مفادها ، یعنی حرمة ما زاد عن القبضة .

نعم ، قد یقال بکراهیة ما زاد علی القبضة بهذه الروایات ، وهی لا بأس بها إن أغمضنا عن ضعف أسنادها أو ذهبنا إلی بلوغها مرتبة الاستفاضة کما عن بعض - الأساتیذ -(2) مدظله .

وفیه : لا یتم القول بالکراهة أیضاً ، لعدم تمامیة التسامح فی أدلتها عندنا ، بل لا یتمّ القول بالتسامح فی أدلة السنن حتّی یقاس المقام بها .

ولعمری کیف ذهب بعض الأعلام إلی الحکم بحرمة ما نقص عن القبضة بهذه الروایات(3) ؟ !

وحمل العلامة البلاغی هذه الروایات علی التشبّه بالیهود(4) . وهو متین وله وجه . وقال بعض الأساتیذ - مدظله - : « ولعلّ النظر فی هذه الروایات إلی من کان یرید بذلک التشبّه بالیهود أو رئاء الناس وتغریرهم بلحیته ، کما قد یری فی أعصارنا من بعض مَن یتکلّف لإدخال نفسه فی عداد أهل الفضل بهذه الوسیلة»(5) .

وفیه : أن الروایات وإن تشمل ما ذکره - مدظله - بإطلاقها ، ولکن لاوجه لتخصیصها به وتقییدها .

الفرع السابع : حکم الشارب

من السنن المؤکّدة الأخذ من الشارب وإحفائه ، وقد ورد فیه عدّة من الروایات

ص:56


1- (10) راجع الوافی 6 / 656 - ومهذب الاحکام 16 / 80 .
2- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 137 .
3- (2) نقل ذلک العلامة الطبسی قدس سره صاحب المنیة عن بعض الأعلام من أساتیده ، ثم قال : ولکن لا دلیل علیه . راجع المنیة / 112 .
4- (3) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 158 .
5- (4) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 67 - دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 137 .

المستفیضة :

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن قصّ الشارب أمن السنة ؟ قال : نعم(1) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ من السنة أن تأخذ من الشارب حتّی یبلغ الإطار(2) .

الإطار - ککتاب - : ما یفصل بین الشفة وبین شعرات الشارب ، وکلّ شیء أحاط بشیءٍ فهو إطار له .

ومنها : معتبرة اُخری للسکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یطوّلنَّ أحدکم شاربه ، فإنّ الشیطان یتّخذها مخبأ یستتر به(3) .

رواها فی الفقیه(4) مرسلاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .

ومنها : موثق ابن فضال عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ذکرنا الأخذ من الشارب ، فقال : نُشْرَةٌ وهو من السنة(5) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن عثمان أنّه رأی أبا عبد اللّه علیه السلام أحفی شاربه حتّی ألصقه بالعسیب(6) .

العسیب : منبت الشعر .

ومنها : معتبرة ثالثة لإسماعیل بن مسلم السکونی عن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لا یطولنَّ أحدکم شاربه ولا شعر إبطیه ولاعانته ، فإنّ الشیطان یتّخذها

ص:57


1- (5) الکافی 6 / 487 ح 7 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 1 الباب 66 من أبواب آداب الحمام .
2- (6) الکافی 6 / 487 ح 6 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 2 .
3- (1) الکافی 6 / 487 ح 11 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 3 .
4- (2) الفقیه 1 / 127 ح 307 .
5- (3) الکافی 6 / 487 ح 8 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 4 .
6- (4) الکافی 6 / 487 ح 9 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 115 ح 5 .

مخائباً یستتر بها(1) .

ومنها : موثقة الحسن بن الجهم قال : قال أبو الحسن موسی علیه السلام : خمس من السنن فی الرأس وخمس فی الجسد ، فأمّا التی فی الرأس : فالسواک ، وأخذ الشارب ، وفرق الشعر ، والمضمضة ، والاستنشاق . وأمّا التی فی الجسد : فالختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبطین ، وتقلیم الأظفار ، والإستنجاء(2) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لیأخذ أحدکم من شاربه والشعر الذی فی أنفه ولیتعاهد نفسه ، فإنّ ذلک یزید فی جماله ، وقال : کفی بالماء طیباً(3) .

ومنها : حسنة حفض ابن البحتری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : تقلیم الأظفار وأخذ الشارب من الجمعة إلی الجمعة أمانٌ من الجذام(4) .

رواها فی الفقیه(5) مرسلاً إلی الصادق علیه السلام بالنسبة إلی أخذ الشارب فقط .

ومنها : خبر أبی کهمش قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : علّمنی دعاءً استنزل به الرزق . فقال لی : خذ من شاربک وأظفارک ولیکن ذلک فی یوم الجمعة(6) .

وأیضاً روی الصدوق مثلها فی الدلالة فی الفقیه(7) ، وهی صحیحة عبد اللّه بن أبی یعفور .

هذه الروایات المعتبرة تدلّ بوضوح علی أنّ الأخذ من الشارب والمبالغة فی إحفائه

ص:58


1- (5) علل الشرائع / 519 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 115 ح 6 .
2- (6) الخصال 1 / 271 ح 11 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 11 ح 23 ، الباب 1 من أبواب السواک .
3- (7) قرب الإسناد / 67 ح 215 و 216 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 118 ح 2 الباب 68 من أبواب آداب الحمام .
4- (1) الخصال 1 / 39 ح 24 ونقل عنه فی بحار الأنوار 73 / 110 ح 4 (30 / 190) .
5- (2) الفقیه 1 / 127 ح 305 .
6- (3) الخصال 1 / 391 ح 86 وثواب الأعمال / 43 ونقل عنهما فی بحار الأنوار 73 / 110 ح 5 (30 / 190) .
7- (4) الفقیه 1 / 127 ح 310 .

وقصّه من السنن المؤکدة فی الشریعة المقدسة ، فإعفاؤه مع نسبة هذه الإعفاء إلی الشریعة أو المعصومین علیهم السلام تکون من أظهر مصادیق التشریع المحرّم أو الإفتراء والکذب علی المعصومین علیهم السلام ، کما یظهر ذلک من بعض طوائف الصوفیة خذ لهم اللّه تعالی ونجا دینه منهم .

ص:59

الربا

اشارة

لم یتعرض الشیخ الأعظم قدس سره لبحث الربا فی المکاسب المحرمة وتبعه أکثر الأصحاب قدس سرهم من بعده ، ولکن ینبغی التعرض لهذا البحث لکثرة إبتلاء الناس به من دون قصد منهم إلی ذلک أو معه .

ولأنّه من المکاسب ولذا قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی شأنه : شر المکاسب کسب الربا کما فی مرسلة الصدوق(1) ، أو قال صلی الله علیه و آله وسلم : أخبث المکاسب کسب الربا کما فی خبر سعد بن طریف(2) ، أو قال صلی الله علیه و آله وسلم : شر الکسب کسب الربا کما فی موثقة ابن فضال(3) .

فنتعرض له مع کمال الإختصار والإیجاز وللتطویل والتفصیل محلٌّ آخرٌ بحیث یمکن تدوین کتاب مستقل تحت عنوان « کتاب الربا » ، کما عمله الشهید فی الدروس(4) والسید الیزدی فی العروة الوثقی(5) .

فنقول بعونه تعالی : الربا فی اللغة « الزیادة» کما فی قوله تعالی : «فَلاَ یَرْبُو عِندَ اللَّهِ»(6) وأخذ من قولهم : ربا الشیء یربو : إذا زاد ، والربا هو الزیادة علی رأس المال ، وأربی الرجل : إذا عامل فی الربا . ویأتی موضوعه فی الشریعة المقدسة إن شاء اللّه تعالی .

تدل علی حرمة الربا :
من الکتاب :

آیات منها : قوله تعالی فی سورة البقرة : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ

ص:60


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 122 ح 13 الباب 1 من أبواب الربا .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 2 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 329 ح 1 الباب 1 من أبواب الربا .
4- (4) الدروس 3 / 291 .
5- (5) العروة الوثقی 6 / 5 طبع جماعة المدرسین عام 1423 .
6- (6) سورة الروم / 39 .

الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ * یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ یُحِبُّ

کُلَّ کَفَّارٍ أَثِیمٍ»(1) .

التخبط من الخبط وهو الضرب علی غیر استواءٍ ، ویقال للذی یتصرف فی أمرٍ ولا یهتدی فیه : هو یخبط ، والتخبط : المسّ بالجنون .

وقد فُسر الموعظة هنا فی الروایات بالتوبة ، کما فی صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث قال : الموعظة : التوبة(2) .

ومنها : قوله تعالی فیها : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَکُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِکُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»(3) .

قال الشیخ الطوسی قدس سره : « روی عن أبی جعفر علیه السلام أنّ الولید بن المغیرة کان یربی فی الجاهلیة وقد بقی له بقایا علی ثقیف ، فأراد خالد بن الولید المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآیة فی المنع من ذلک »(4) .

ورواها الطبرسی فی مجمع البیان(5) .

وقال علی بن ابراهیم القمی : « سبب نزولها أنّه لمّا أنزل اللّه : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»قام خالد بن الولید إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وقال : یا رسول اللّه أربی أبی فی ثقیف وقد أوصانی عند موته بأخذه ، فأنزل اللّه تبارک وتعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ *

ص:61


1- (1) سورة البقرة 276 و 275 .
2- (2) التهذیب 7 / 15 ح 68 ونقل عنه فی البرهان 1 / 554 ح 4 .
3- (3) سورة البقرة / 278 و 279 .
4- (4) التبیان 2 / 365 .
5- (5) مجمع البیان 1 / 392 .

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ» فقال : من أخذ الربا وجب علیه القتل وکلّ من أربی وجب علیه القتل »(1) .

وقال الطبرسی : « روی عن ابن عباس وابن عمر : أن آخر ما نزلت من القرآن آی الربا »(2) .

ومنها : قوله تعالی فی سورة آل عمران : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا

أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِی أُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ»(3) .

ومنها : قوله تعالی حکایة عن فعل الیهود : «فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِینَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَیْهِمْ طَیِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِیلِ اللّهِ کَثِیراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَکْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْکَافِرِینَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِیماً»(4) .

ومن السنة :

عدّة من الروایات المستفیضة بل المتواترة تدلّ علی حرمته :

منها : ما رواه المشایخ الثلاثة بسند صحیح عن هشام بن سالم الثقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : درهم ربا [ عند اللّه کما فی الفقیه ] أشدّ من سبعین زنیة کلّها بذات محرّم(5) .

ومنها : موثقة سماعة قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی رأیت اللّه تعالی قد ذکر الربا فی غیر آیة وکرره . قال : أو تدری ولم ذاک ؟ قلت : لا ، قال : لئلا یمتنع الناس من اصطناع المعروف(6) .

ومنها : موثقة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : إنّی سمعت اللّه یقول : «یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ»وقد أری من یأکل الربا یربوا ماله ! فقال : أیّ محق

ص:62


1- (6) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی البرهان 1 / 557 ح 5 .
2- (7) مجمع البیان 1 / 394 .
3- (1) سورة آل عمران / 131 و 130 .
4- (2) سورة النساء / 161 و 160 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 117 ح 1 الباب 1 من أبواب الربا .
6- (4) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 3 .

أمحق من درهم ربا یمحق الدین ، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر(1) .

ومنها : صحیحة هشام بن الحکم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن علة تحریم الربا ؟ قال : إنّه لو کان الربا حلالاً لترک الناس التجارات وما یحتاجون إلیه ، فحرّم اللّه الربا لتنفر الناس من الحرام إلی الحلال وإلی التجارات من البیع والشراء ، فیبقی ذلک بینهم فی القرض(2) .

ومنها : خبر ابن عباس فی آخر خطبة خطبها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة : ... ومن أکل الربا ملأ اللّه بطنه من نار جهنم بقدر ما أکل ، وإن اکتسب منه مالاً لا یقبل اللّه تعالی منه شیئاً من عمله ، ولم یزل فی لعنة اللّه والملائکة ما کان عنده منه قیراطٌ [ واحدٌ (3)] .

ومنها : صحیحة هشام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لمّا اُسری بی إلی السماء رأیت قوماً یرید أحدهم أن یقوم ولا یقدر علیه من عظم بطنه ، قال : قلت : من هؤلاء یا جبرئیل ؟ قال : هؤلاء الذین یأکلون الربا(4) .

ومنها : صحیحة جمیل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الربا سبعون باباً أهونها عند اللّه کالذی ینکح اُمّه(5) .

ومنها : صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعین زنیّة کلّها بذات محرّم فی بیت اللّه الحرام(6) .

ومنها : موثقة ابن بکیر قال : بلغ أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أنّه کان یأکل الربا ویسمیه اللباء ، فقال : لئن أمکننی اللّه منه لأضربنَّ عنقه(7) .

اللباء : أوّل اللبن من النتاج .

ص:63


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 119 ح 7 .
2- (6) وسائل الشیعة 18 / 120 ح 8 .
3- (7) عقاب الأعمال / 336 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 122 ح 15 .
4- (1) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 16 .
5- (2) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 18 .
6- (3) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 19 .
7- (4) وسائل الشیعة 18 / 125 ح 1 . الباب 2 من أبواب الربا .

ومنها : معتبرة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الربا وآکله وبائعه ومشتریه وکاتبه وشاهدیه(1) .

تلک عشرة کاملة من الروایات تدلّ علی حرمة الربا ، وقد مرّ أنها مستفیضة أو متواترة .

ومن الإجماع :

قام إجماع المؤمنین بل المسلمین علی حرمته ، بل لا یبعد کونه من ضروریات الدین ، کما صرح بذلک صاحب الجواهر قدس سره (2) .

ومن العقل :

حکم العقل أیضاً یقتضی فساد الربا وحرمته ، لأنّ الربا یوجب تعطیل التجارات والأسواق ویصل بعض الناس إلی حدّ الإفلاس کما شاهدناهم فی هذه الأزمان ، وبعضهم یتقاضی أرباحاً کثیرة من دون عمل أو تجارة أو خدمة . وبالجملة الربا یحرّف مسیرة اقتصاد المجتمع السالم إلی الفساد . وفیه مضافاً إلی المفاسد الإقتصادیة کثیرٌ من المفاسد الاجتماعیة بل المفاسد السیاسیة .

ولعله أشارت إلی ما ذکرنا بعض الروایات الماضیة ، نحو : موثقة سماعة(3) وصحیحة هشام بن الحکم(4) ، ونحوهما خبر محمد بن سنان عن علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه کتب فی جواب مسائله : وعلّة تحریم الربا نهی اللّه عزّ وجل عنه ، ولما فیه من فساد الأموال ، لأنّ الإنسان إذا اشتری الدرهم بالدرهمین کان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً ، فبیع الربا وشراؤه وَکْسٌ علی کل حالٍ علی المشتری وعلی البائع ، فحرّم اللّه عزّ وجل علی العباد الربا لعلّة فساد الأموال ، کما حظر علی السفیه أن یدفع إلیه ماله ، لما یتخوّف علیه من فساده حتّی یؤنس منه رشد ، فلهذه العلّة حرم اللّه عزّ وجل الربا وبیع الدرهم بالدرهمین ، وعلّة تحریم

ص:64


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 127 ح 2 . الباب 4 من أبواب الربا .
2- (6) الجواهر 23 / 332 ، و 25 / 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 3 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 120 ح 8 .

الربا بعد البینة لما فیه من الاستخفاف بالحرام المحرَّم ، وهی کبیرة بعد البیان وتحریم اللّه عزّ وجل لها ، لم یکن إلاّ استخفافاً منه بالمحرِّم الحرام ، والاستخاف بذلک دخول فی الکفر ، وعلّة تحریم الربا بالنسیئة لعلّة ذهاب المعروف وتلف الأموال ورغبة الناس فی الربح وترکهم القرض ، والقرض صنائع المعروف ، ولما فی ذلک من الفساد والظلم وفناء الأموال ، الحدیث(1) .

وَکْسُ الشیء : نقصه ، وَکَس التاجر فی تجارته : خسر فی تجارته فذهب ماله .

والحاصل ، إن العقل حاکم بحرمة الربا ، لأنّه یوجب فساد اقتصاد المجتمع الإنسانی ، وما یوجب فساده یوجب هدم المجتمع وفساده ولعله إلی ما ذکرنا أشارت مرسلة الطبرسی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : إذا أراد اللّه بقریة هلاکاً ظهر فیهم الربا(2) .

ومرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إذا ظهر الزنا والربا فی قریة اُذِنَ فی هلاکها(3) .

ثمّ إنّ للربا قسمین رئیسیین ، وهما : 1 - الربا فی القرض ، 2 - الربا فی البیع أو المعاملة .

فلذا نبحث عنه فی مقامین باختصار و إجمال ، وتفصیلهما فی کتابی القرض والبیع .

ص: 65


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 121 ح 11 الباب 1 من أبواب الربا .
2- (4) مجمع البیان 1 / 390 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 17 .
3- (5) مستدرک الوسائل 13 / 332 ح 11 .
المقام الأوّل : الربا فی القرض
اشارة

اشتراط الزیادة والنفع فی القرض حرام لأنّه رباً :

قال ثانی الشهیدین ذیل قول المحقق : « فلو شرط النفع حرم» قال : « هذا الحکم إجماعیٌ»(1) .

وقال المحقق السبزواری : « لا أعلم فیه خلافاً بینهم»(2) .

وقال صاحب الحدائق : « لا خلاف بین الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم فی تحریم اشتراط النفع فی القرض ، بل نقل بعض محققی متأخری المتأخرین إجماع المسلمین علی ذلک»(3) .

وتبعهم صاحب الجواهر وقال : « بلا خلاف فیه ، بل إجماع بقسمیه علیه ، بل ربّما قیل : إنّه إجماع المسلمین لأنّه رباً»(4) .

تدلّ علی الحرمة الإجماع وأنّه رباً وما مرّ منّا من الأدلة فی تحریم الربا .

ونبحث هذا المقام فی ضمن جهات :

الجهة الأولی :

هذه المنفعة تکون تارة فی الزیادة العینیة من نفس الجنس ، یعنی من جنس مال القرض ، کما إذا أقرض من شخص لآخر مائة درهم علی أن یؤدی مائة وعشرة دراهم ، تدلّ علی حرمتها عدّة من الروایات :

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : وسألته عن رجل أعطی رجلاً مائة درهم علی أن یعطیه خمسه دراهم أو أقل أو أکثر ؟ قال : هذا الربا المحض(5) .

ص:66


1- (1) المسالک 3 / 443 .
2- (2) کفایة الفقه 1 / 528 .
3- (3) الحدائق 20 / 110 .
4- (4) الجواهر 25 / 5 .
5- (5) مسائل علی بن جعفر / 125 ح 90 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 359 ح 18 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .

ومنها : خبر خالد بن الحجاج قال : سألته عن الرجل کانت لی علیه مائة درهم عدداً قضانیها مائة درهم وزناً ؟ قال : لا بأس ما لم یشترط . قال : وقال : جاء الربا من قبل الشروط ، إنّما یفسده الشروط(1) .

الروایة ضعیفة سنداً بخالد بن الحجاج لأنّه إمامی مجهولٌ ، وهی مضمرةٌ .

ومنها : ما رواه المشایخ الثلاثة بسند صحیح عن الحلبی الثقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یستقرض الدراهم البیض عدداً ثم یعطی سوداً [ وزناً ] ، وقد عرف أنّها أثقل ممّا أخذ وتطیب نفسه أن یجعل له فضلها ؟ قال : لا بأس به إذا لم یکن فیه شرط ، ولو وهبها له کلّها صلح(2) .

یعنی : إذا کان بینهما شرط فی أخذ الزیادة من الدراهم ففیه بأس أی حرام .

ونظیرها سنداً ودلالة صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا أقرضت الدراهم ثم أتاک بخیر منها فلا بأس إذا لم یکن بینکما شرط(3) .

ومنها : حسنة أبی الربیع العنزی الشامی - وهو خالد أو خلید بن أوفی - قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل أقرض رجلاً دراهم فردّ علیه أجود منها بطیبة نفسه وقد علم المستقرض والقارض أنّه إنّما أقرضه لیعطیه أجود منها ؟ قال : لا بأس إذا طابت نفس المستقرض(4) .

سند الروایة حسنٌ کما مرّ ، لأن ابن جریر حسن وأبی الربیع فی أعلی مراتب الحسن ، وغیرهما من رجال السند کلّهم ثقات .

وأمّا دلالتها علی جواز إعطاء الأجود أو الأکثر وقبضه ، حتی إذا علم القارض أنّ المستقرض یعطیه عند الأداء الأجود ، فیجوز له القرض والأخذ والقبض عند الأداء مادام لم یشترط شیئاً ، ولا فرق بین الأجود والأکثر کما هو واضح .

ص:67


1- (6) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 الباب 12 من أبواب الصرف .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 192 ح 4 .

ومنها : صحیحة یعقوب بن شعیب التی رواها المشایخ الثلاثة : أنّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یکون لی علیه جلّة من بسرفآخذ منه جلّة من رطب مکانها وهی أقل منها ؟ قال : لا بأس . قال : قلت : فیکون لی جلّة من بسرفآخذ مکانها جلّة من تمر وهی أکثر منها ؟ قال : لا بأس إذا کان معروفاً بینکما(1) .

الجلّة : وعاء التمر . أجاز الإمام علیه السلام أخذ الأکثر إذا کان بنحو المعروف ، یعنی طابت

نفس المستقرض بإعطائها ، ولا یجوز الأخذ إذا کان بنحو الإشتراط .

ویکفی هذه الأدلة فی حرمة الزیادة العینیة .

الجهة الثانیة :

وتارة الزیادة تکون من غیر جنس مال القرض ، سواء کانت بنحو العینیة - کما إذا أقرضه مائة درهم علی أن یعطیه مائة درهم وخمسة دنانیر - أو کانت عملاً نحو خیاطة ثوب ، أو کانت منفعة أو انتفاعاً کالانتفاع بالعین المرهونة عنده . تدلّ علی حرمتها أیضاً عدّة من الروایات :

منها : صحیحة محمد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال : من أقرض رجلاً ورقاً فلا یشترط إلاّ مثلها ، فإن جوزی أجود منها فلیقبل ، ولا یأخذ أحدٌ منکم رکوب دابة أو عاریة متاع یشترطه من أجل قرض ورقه(2) .

دلالة الصحیحة علی حرمة الزیادة من غیر الجنس - نحو رکوب دابة أو عاریة متاع - واضحة .

ومنها : خبر إسحاق بن عمار عن أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون له مع رجل مال قرضاً فیعطیه الشیء من ربحه مخافة أن یقطع ذلک عنه ، فیأخذ ماله من غیر أن یکون شرط علیه ؟ قال : لا بأس بذلک مالم یکن شرطاً(3) .

دلالة الروایة واضحة ، لأن الشیء من الربح بإطلاقه یشمل غیر المال أیضاً ، فإذا

ص:68


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 301 ح 7 . الباب 9 من أبواب السلف .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 11 . الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 3 .

شُرط یصیر حراماً . ولکن فی السند ضعف بموسی بن سعدان .

ومنها : موثقة له أیضاً قال : قلت لأبی إبراهیم علیه السلام : الرجل یکون له علی الرجل المال قرضاً فیطول مکثه عند الرجل لا یدخل علی صاحبه منه منفعة فینیله الرجل الشیء بعد الشی کراهیة أن یأخذ ماله حیث لا یصیب منه منفعة ، أیحلّ ذلک له ؟ قال : لا بأس إذا لم یکن بشرط(1) .

دلالتها نحو روایته الاُخری .

ومنها : موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتیه النبط بأحمالهم فیبیعها لهم بالأجر ، فیقولون له : أقرضنا دنانیر فإنّا نجد من یبیع لنا غیرک ، ولکنّا

نخصّک بأحمالنا من أجل أنّک تقرضنا ، فقال : لا بأس به ، إنّما یأخذ دنانیر مثل دنانیره ، ولیس بثوب إن لبسه کسر ثمنه ولا دابة إن رکبها کسرها ، وإنما هو معروف یصنعه إلیهم(2) .

الجهة الثالثة :

الزیادة یمکن أن تکون زیادة وصفیة غیر راجعة إلی الکمیّة ، مثل کون أحدهما فضة تبر والآخر مضروبة ، أو أن یقرضه دنانیر مکسورة علی أن یؤدیها صحیحاً . قد نقل عن بعض الأصحاب(3) قدس سرهم جوازها ، ولکن تدلّ علی حرمتها عدّة من الروایات :

منها : خبر داود الأبزاری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض اُخری غیر التی أقرضت فیها(4) .

سند الروایة ضعیف بداود لأنّه أمامی مجهول ، وأمّا دلالتها واضحة ، إذ یمکن فرض الجودة فی الثمرة مع عدم اختلاف فی الوزن . وأمّا شرط أداء القرض فی الأرض الاُخری فلا

ص:69


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 13 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 356 ح 10 .
3- (2) منهم الشیخ فی النهایة / 312 وأبو الصلاح الحلبی فی الکافی / 331 وابن حمزة فی الوسیلة / 273 ومال إلیه الأردبیلی فی مجمع الفائدة 9 / 66 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 10 . الباب 12 من أبواب الصرف - وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 الباب 12 من أبواب الربا .

بأس به ، کما یأتی التعرض لذلک فی الجهة الثامنة .

فینحصر إشکال الإمام علیه السلام فی اشتراط أخذ الأجود ،ومن المعلوم أنّ الأجودیة من الزیادة الوصفیة ، وأمّا ظهور کلمة « لا تصلح » فی الحرمة أیضاً واضح ، فدلالة الروایة علی حرمة أخذ الزیادة الوصفیة ظاهرة ، ولکن قد مرّ ضعف سندها .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقترض من الرجل الدرهم فیردّ علیه المثقال ، ویستقرض المثقال فیردّ علیه الدراهم ؟ فقال : إذا لم یکن شرط فلا بأس ، وذلک هو الفضل ، إنّ أبی علیه السلام کان یستقرض الدراهم الفسولة فیدخل علیه الدراهم الجیاد فیقول : یا بنیّ ردّها علی الذی استقرضتُها منه ، فأقول : یا أبه إنّ دراهمه کانت فسولة وهذه خیر منها ، فیقول : یا بنیَّ إنّ هذا هو الفضل ، فأعطه إیّاها(1) .

سند الروایة صحیح ، ودلالتها بأنّ محط نظر السائل إلی أنّ الدراهم مضروبة ولکن المثقال فضة تبر ولذا تختلف قیمتها مع تساوی وزنها ، والإمام علیه السلام أجاز أخذ الزیادة من دون اشتراط ومعه فلا .

ومنها : موثقة عبد الملک بن عتبة عن عبد صالح علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتینی یستقرض منّی الدراهم فأوطن نفسی علی أن اُؤخره بها شهراً للذی یتجاوز به عنّی ، فإنّه یأخذ منّی فضة تبر علی أن یعطینی مضروبة ، إلاّ أنّ ذلک وزناً بوزنٍ سواءً ، هل یستقیم هذا ، إلاّ أنّی لا اُسمی له تأخیراً ، إنّما أشهد لها علیه فیرضی ؟ قال : لا اُحبّه(2) .

سند الروایة موثق ، وظهورها فی الإشتراط واضح . وأمّا « لا اُحبّه» هل یُحمل علی الکراهة کما علیه ظاهر اللفظ وذهب إلیه صاحب الوسائل وبعض مشایخنا(3) قدس سره ، أو أنّه یحمل علی الحرمة بقرینة غیرها من الروایات ؟ الظاهر هو الأخیر .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا أقرضت الدراهم ثم جاءک

ص:70


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 9 .
3- (2) الفقیه الورع آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره فی کتابه المکاسب المحرمة / 12 .

بخیر منها فلا بأس إذا لم یکن بینکما شرط(1) .

یعنی إذا کان بینهما شرط ففیه بأس أی حرام .

ولا یعارضها صحیحة یعقوب بن شعیب قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقرض الرجل الدراهم الغلة فیأخذ منها الدراهم الطازجیة طیبة بها نفسه ؟ فقال : لا بأس ، وذُکر ذلک عن علی علیه السلام (2) .

الدراهم الطازجیة : الدراهم الجیدة البیض الخالصة . الدراهم الغلة : الدراهم المکسورة وغیر الخالصة .

والمراد بهذه الروایة : جواز الأخذ من المقارض إن طابت نفس المقترض فی الإعطاء من دون إشتراط ، فلا ینافی مع ما ذکرناها ، واللّه العالم .

الجهة الرابعة :

إنّما حرمت الزیادة مع الاشتراط ، وإمّا بدونه فلا بأس بها ، بل تستحب . وتدلّ علیه عدّة من الروایات قد ذکرنا بعضها ضمن الجهات السابقة من البحث ، فلا نعیدها بل نذکر هنا ماورد فی خبر خالد بن الحجاج(3) وصحیحة الحلبی(4) وصحیحة اُخری له(5) وصحیحة

محمد بن قیس(6) وخبر إسحاق بن عمار(7) وموثقته(8) وصحیحة عبد الرحمن بن الحجاج(9) ، وهذه الروایات کلّها قد مرّ ذکرها .

ص:71


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 و 18 / 360 ح 1 الباب 20 من أبواب الدین والقرض .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 192 ح 5 .
3- (5) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 .
4- (6) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 .
5- (7) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 .
6- (1) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 11 .
7- (2) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 3 .
8- (3) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 13 .
9- (4) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .

ومنها : معتبرة حفص بن غیاث عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرباء ان : أحدهما ربا حلال والآخر ، حرام فأمّا الحلال فهو أن یقرض الرجل قرضاً طمعاً أن یزیده ویعوضه بأکثر ممّا أخذه بلا شرط بینهما ، فإن أعطاه أکثر ممّا أخذه بلا شرط بینهما فهو مباح له ولیس له عند اللّه ثواب فیما أقرضه ، وهو قوله عزّ وجل : «فَلاَ یَرْبُوا عِندَ اللَّهِ»(1) ، وأمّا الربا الحرام : فهو الرجل یقرض قرضاً ویشترط أن یردّ أکثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام(2) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : من أقرض ورقاً فلا یشترط إلاّ ردّ مثلها ، فإن قُضی أجود منها فلیقبل(3) .

الجهة الخامسة :

هل الحرمة من ناحیة اشتراط الزیادة تصل إلی إصل القرض ویوجب بطلانه وضعاً ؟

قال المحقق فی الشرائع : « فلو شرط النفع حرم ولم یفد الملک»(4) .

وذیّله ثانی الشهیدین بقوله : « هذا الحکم إجماعی ، ومستنده ما روی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : « کلّ قرض یجرّ منفعة فهو حرام»(5) . والمراد مع الشرط ، إذ لا خلاف فی جواز التبرع بالزائد وغیره من الأخبار ... ومتی فسد العقد لم یجز للمقترض أخذه ، فلو قبضه کان مضموناً علیه کالبیع الفاسد ، للقاعدة المشهورة من أنّ « کلّ ما ضمن بصحیحه ضمن بفاسده » خلافاً لابن حمزة هنا ، فإنّه ذهب إلی کونه أمانة(6) ، وهو ضعیف»(7) .

قد عرفت ادعاء الإجماع فی المسألة من صاحب المسالک قدس سره مع إقراره بخلاف ابن

حمزة فی المقام ، واعترض علیه المحدث البحرانی قدس سره وقال : « أمّا ما ذکروه من تحریم الشرط

ص:72


1- (5) سورة الروم / 39 .
2- (6) وسائل الشیعة 18 / 160 ح 1 الباب 18 من أبواب الربا .
3- (7) دعائم الاسلام 2 / 61 ح 169 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 409 ح 2 .
4- (8) شرائع الاسلام 2 / 61 .
5- (9) سنن البیهقی 5 / 350 : وفیه : فهو وجه من وجوه الربا .
6- (10) الوسیلة / 273 .
7- (11) المسالک 3 / 443 .

المذکور فهو ممّا لا إشکال فیه ، وما ذکروه من بطلان أصل العقد فإن کان من حیث اشتماله علی الشرط الفاسد وکلّ عقد کان کذلک فهو باطل ، فقد عرفت الخلاف فی ذلک فیما تقدم ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه لیس البطلان هنا عندهم مبنیّاً علی ذلک ، ولهذا إنّما استند شیخنا المتقدم ذکره بعد دعوی الإجماع إلی الخبر النبوی المذکور ، وهو صریح فیما ذکره . إلاّ أنّ الظاهر أنّ الخبر المذکور إنّما هو من طریق العامة ، فإنّی لم أقف علیه بعد التتبع فی شیءٍ من کتب أخبارنا ، وأخبار المسألة المتقدمة علی کثرتها وتعددها لیس فیها إشعار فضلاً عن الدلالة الصریحة ببطلان أصل العقد ، بل الظاهر منها إنّما هو بطلان الشرط ، فإنّ مفهوم نفی البأس مع عدم الشرط فی کثیر ممّا تقدم من الأخبار إنّما توجّه إلی الزیادة کما لا یخفی علی المتأمل فیها»(1) .

ولکن صاحب الجواهر حکم بضعف قول ابن حمزة وقال : « وأضعف منه توقف المحدث البحرانی فی ذلک»(2) . وذهب إلی بطلان القرض مع اشتراط الزیادة وقال : « فیحرم علی المستقرض التصرف فیه ، وهو مضمون علیه لکونه مقبوضاً علی ذلک ، ولأن ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده»(3) .

أقول : إن تمّ الإجماع فی المقام فهو کما ادعاه صاحب المسالک(4) وقبله العلامة فی المختلف قال : « ... للإجماع علی أنّه إذا أقرضه شیئاً وشرط علیه أن یردّ خیراً ممّا أقرضه کان حراماً وبطل القرض ... »(5) .ولکن دون إثباته خرط القتاد ویمکن إرجاع إجماع العلامة قدس سره بالحرمة فقط دون البطلان .

وأمّا ابتناء بطلان القرض علی مسألة فساد الشرط یقتضی فساد العقد أیضاً فغیر تام ، لأن المشهور ذهبوا إلی بطلان القرض مع عدم ذهابهم إلی أن الشرط الفاسد مفسد .

وأمّا التمسک بالنبوی أیضاً غیر تام ، لعدم وروده من طرقنا ، بل ورد من طرقنا جواز

ص:73


1- (1) الحدائق 20 / 117 .
2- (2) الجواهر 25 / 7 .
3- (3) الجواهر 25 / 6 .
4- (4) المسالک 3 / 443 .
5- (5) مختلف الشیعة 5 / 391 .

الإنتفاع بمنفعة القرض من دون اشتراط ، کما فی صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یستقرض من الرجل قرضاً ویعطیه الرهن إمّا خادماً وإمّا آنیة وإمّا ثیاباً ،

فیحتاج إلی شیءٍ من منفعته فیستأذن فیه فیأذن له ؟ قال : إذا طابت نفسه فلا بأس . قلت : إنّ مَنْ عندنا یروون أنّ کلّ قرضٍ یجرّ منفعة فهو فاسد ، فقال : أو لیس خیر القرض ما جرّ منفعة(1) .

والمراد بأبی أیوب فی سند الروایة هو إبراهیم بن عثمان المکنی بأبی أیوب الخزاز الثقة .

وأمّا التمسک بقاعدة « ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده » کما عن صاحب الجواهر فلیس إلاّ مصادرة بالمطلوب ، أعنی أنه یحتاج إلی إثبات فساد القرض أولاً وهو أوّل الکلام ، ثم یرتب علی القاعدة .

فکلّ ما ذکره الأعلام فی المقام من دلیل بطلان القرض مع اشتراط الزیادة غیر تام ، مضافاً إلی عدم ذکر بطلان القرض من رأسه فی روایاتنا کما مرّ الاعتراف بذلک من صاحب الحدائق(2) ، فلابدّ من القول ببطلان شرط الزیادة وصحة القرض . وذهب إلی ما ذکرنا مضافاً إلی صاحب الحدائق(3) ، صاحبا الجواهر(4) والعروة(5) ، واختاره أیضاً العلامة المؤسس الحائری قدس سره فی تقریرات بحثه الشریف(6) ، وتبعه بعض تلامیذه نحو السید الخمینی والشیخ الأراکی قدس سرهم وبعض الأساتیذ(7) - مدظله - .

اللهم إلاّ أن یقال : حَکَم الشارع بفساد إشتراط النفع وبطلانه ، فیقتضی هذا بطلان

ص:74


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 4 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
2- (2) الحدائق 20 / 117 .
3- (3) الحدائق 20 / 118 .
4- (4) الجواهر 23 / 397 ، حیث ذهب إلی وجوب ردّ الزیادة خاصة فی کتاب التجارة ، ولکن اختار البطلان فی کتاب القرض 25 / 6 کما مرّ کلامه آنفاً .
5- (5) العروة الوثقی 6 / 16 .
6- (6) المکاسب المحرمة / 13 بقلم مقرره شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
7- (7) تازه های أحکام / 54 لمحمد حسن موحدی ساوجی .

نفس القرض ، لأنّ الشارع حکم بفساد الإنتفاع والمقرض أیضاً لا یرضی بالتصرف فی ماله بدون هذا الإنتفاع ، فصار أصل القرض باطلاً .

وفیه : أن إثبات الأحکام الشرعیة بهذه الإستحسانات العقلیة مشکل ، وفیه ما لا یخفی .

والحاصل ، إن ثبت الإجماع فی المقام فهو وإلاّ دون إثباته بالإدلة الماضیة خرط القتاد .

ولکن بطلان شرط الزیادة وحرمة أخذها یُستفاد بوضوح من جملة من الروایات

المذکورة فیما سلف : کصحیحتی الحلبی(1) وصحیحة عبد الرحمن بن الحجاج(2) وخبر خالد بن الحجاج(3) وغیرها ، واللّه العالم .

الجهة السادسة :

إنّما یحرم شرط الزیادة للمقرض علی المقترض لا عکسه .

أدلة حرمة إشتراط النفع فی القرض یختص بصورة اشتراط النفع للمقرض ولکن إذا یصل النفع إلی المقترض فلا یشملها ، ولذا نذهب إلی عدم البأس به ، کما إذا أقرضه مائة درهم علی أن یؤدی تسعین ، أو أقرضه دراهم صحیحة علی أن یؤدی مکسورة ، أو کما خاف المقرض من وجود المال عنده من سرقة أو ضیاع أو أخذه بتوسط ظالم فأقرضه شخصاً وشرط له شیئاً من العین أو المنفعة . ففی کلِّ هذه الموارد حیث ینتقل النفع إلی المقترض حتّی مع الاشتراط فلا بأس بها ویجوز ، لأنّ أدلة حرمة الربا فی القرض تنحصر فی صورة رجوع النفع إلی المقرض فقط ولخروج هذا الفرض عن الربا موضوعاً .

وتدلّ علی الجواز أو تؤیده صحیحة یعقوب بن شعیب أنّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یکون لی علیه جلّة من بسر فآخذ منه جلّة من رطب مکانها وهی أقل منها ؟ قال : لا بأس ، الحدیث(4) .

ص:75


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 و 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 301 ح 7 الباب 9 من أبواب السلف .
الجهة السابعة :

إذا شُرط فی القرض شرطٌ لیس فیه نفع لأحد الطرفین جاز .

لمّا مرّ فیما سلف أنّ أدلة حرمة إشتراط النفع فی القرض تنحصر فیما إذا کان النفع یرجع إلی المقرض فقط ، ففی هذا الفرض حیث لا یرجع نفع إلی المقرض فلا بأس به . مضافاً إلی ما ذکرنا أنه تدلّ علیه موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتیه النبط بأحمالهم فیبیعها لهم بالأجر ، فیقولون له : أقرضنا دنانیر فإنّا نجد من یبیع لنا غیرک ولکنّا نخصّک بأحمالنا من أجل إنّک تقرضنا ، فقال علیه السلام : لا بأس به ، إنّما یأخذ دنانیر مثل دنانیره ، ولیس بثوب إن لبسه کسر ثمنه ولا دابّة إن رکبها کسرها ، وإنّما هو معروف یصنعه إلیهم(1) .

فعلی ما ذکرنا یجوز اشتراط کلّ شیءٍ لیس فیه نفع لأحد الطرفین ، مثل اشتراط البیع أو الإجارة بالثمن أو الاُجرة المتعارفین ، لصدق أنّ المقرض یأخذ دراهماً مثل دراهمه .

وهکذا یجوز اشتراط کلّ شیءٍ لا یکون فیه نفعٌ للمقرض ولو کان فیه مصلحة ، له نحو : إعطاء الرهن أو الضّامن أو الکفیل أو الإشهاد ونحوها ، لأنه لیس للمقرض فیه نفعاً وإن کان فیه مصلحة ، لأن المصلحة غیر النفع عرفاً .

الجهة الثامنة :

لو اشترط علی المقترض أداء القرض وتسلیمه فی بلد معین جاز وصح إن کان فیه نفع للمقرض .

اشتراط أداء القرض فی بلد معین غیر بلد الإقراض من طرف المقرض نافذ ولزم علی المقترض أداؤه فی ذلک البلد وإن کان فی حمله إلیه یحتاج إلی مؤنة زائدة ، وهذا النفع - وإن کان یرجع إلی المقرض - ولکن حکمت بصحة هذا القرض الروایات المتعددة :

منها : صحیحة یعقوب بن شعیب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : یسلف الرجل الورق علی أن ینقدها إیاه بأرض اُخری ویشترط علیه ذلک ؟ قال : لا بأس(2) .

ص:76


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 356 ح 10 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 1 الباب 14 من أبواب الصرف .

ومنها : صحیحة أبی الصباح عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یبعث بمال إلی أرض ، فقال للذی یرید أن یبعث به : أقرضنیه وأنا اُوفیک إذا قدمت الأرض ، قال علیه السلام : لا بأس(1) .

ومنها : صحیحة أبان فی الرجل یسلف الرجل دراهم ینقدها إیّاه بأرض اُخری ، قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا بأس به(2) .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن جابر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : یدفع إلیَّ الرجل الدراهم فأشترط علیه أن یدفعها بأرض اُخری سوداً بوزنها ، وأشترط ذلک علیه ؟ قال : لا بأس(3) .

ومنها : معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یُسلف الرجل الدارهم ینقدها إیّاه بأرض اُخری والدراهم عدداً ؟ قال : لا بأس(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا بأس بأن یأخذ الرجل الدراهم بمکة ویکتب لهم سفاتج أن یعطوها بالکوفة(5) .

السفاتج : جمع سُفْتجة ، وهی أن یعطی مالاً لآخر ، وللآخر مال فی بلد المعطی فیوفیه أیّاه هناک ، فیستفید أمن الطریق أو یأمن به خطر الطریق .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّه رخّص فی السفاتج هی المال یستسلفه الرجل بأرض ویقبضه باُخری(6) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن أمیر المؤمین علیه السلام إنّه أعطی مالاً فی المدینة ثم أخذه

ص:77


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 2 الباب 14 من أبواب الصرف .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 4 .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 5 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 7 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 3 .
6- (2) دعائم الاسلام 2 / 62 ح 172 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 352 ح 1 الباب 8 من أبواب الصرف .

بأرض اُخری(1) .

ولا ینافی هذه الروایات المتعددة بل المعتبرة المستفیضة خبر داود الأبزاری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض اُخری غیر التی أقرضت فیها(2) .

لأنه قد مرّ فی الجهة الثالثة من هذه الجهات :

أولاً : ضعف سندها بداود لأنّه إمامیٌّ مجهولٌ .

وثانیاً : بأنّها تحمل علی أخذ الزیادة الوصفیة مع الاشتراط وحرمتها .

وثالثاً : علی فرض حملها علی ظاهرها لا یمکن مقابلة هذه الروایة الواحدة مع عدّة کثیرة من الروایات المعتبرة المنافیة لها ، فلابدّ من الأخذ بهذه الروایات وحمل هذه الروایة بما مرّ منّا .

والحاصل ، جواز اشتراط أداء القرض فی بلد معین وأخذه فی غیر بلد الإقراض من طرف المقرض .

هذا کلّه إذا اشترط المقرض الدفع إلیه فی بلد معین ، وإلاّ لزم علی المقترض الدفع إلیه فی بلد القرض وعلی المقرض القبول . وأمّا الدفع فی غیر بلد القرض فیحتاج إلی التراضی من

الطرفین ، وإن کان الأحوط للمقترض الأداء مع عدم الضرر وعدم الاحتیاج إلی مؤنة الحمل لو طالبه المقرض فیه ، واللّه سبحانه هو العالم .

الجهة التاسعة :

لا فرق فی اشتراط النفع بین کونه فی عقد القرض أو فی ضمن عقد لازم خارج عنه .

نحو : إقراضه مائة ألف تومان للمقترض إلی سنة کاملة ولکن شرط علیه فی هذا القرض بیع شیءٍ یساوی ألفاً بخمسمائة ، فیصدق علی هذا القرض أنّه یجرّ نفعاً مع الإشتراط

ص:78


1- (3) دعائم الاسلام 2 / 62 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 352 ح 1 الباب 8 من أبواب الصرف .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 10 ، و وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 .

فیصدق علیه الربا .

أو إقراضه مائة ألف تومان للمقترض إلی سنة کاملة ولکن شرط علیه إجارة داره إلی سنة کاملة ما یساوی بعشرین ألفاً ، بألفٍ فقط ، فهذا أیضاً یصدق علیه إشتراط النفع فی القرض فیصدق علیه الربا .

فکلّ هذه الموارد یصدق علیها عنوان الربا ، وإطلاق أدلة حرمة الاشتراط فی القرض یشمل المقام ، أعنی إذا شُرط فی عقد القرض عقد لازم خارج عنه ، بحیث بعد الإقتراض لابدّ لهما من الإلتزام بالعقد الثانی أیضاً ولیس للمقترض الإختیار فی العقد الثانی ، بل بعد القرض لابدّ له من الوفاء بالعقد الثانی أیضاً وفیه الزیادة أو النفع للمقرض .

وهذا الفرض أیضاً یدخل فی الاشتراط فی القرض ولهذا حرم بإطلاق أدلتها .

الجهة العاشرة : الربا القرضی حرام مطلقاً

قد یُقسّم الربا القرضی إلی قسمین : 1 - الربا الاستهلاکی

2 - الربا الاستنتاجی .

وقد یُسمع مِنْ بعض مَنْ عاصرناه(1) بانحصار الحرمة فی القسم الأوّل وجواز الثانی .

والمراد بالربا الاستهلاکی : إذا استقرض شخص من الآخر ولکن هلک المال فی ضروریات حیاته ومعاشه من مصارفه ومخارجه الشخصیة أو العائلیة بحیث لم یبق له من المال شیئاً .

والمراد بالربا الاستنتاجی : أنّه إذا استقرض المال ولکنّه لم یصرفه فی مصارفه

ومخارجه الضروریة بل یجعله رأس ماله ویعمل به ، أو باع به شیئاً من الوسائل أو الدکاکین ویعمل به ، ونحو ذلک بحیث یستثمر المال ویصیر إلی الزیادة یوماً فیوماً .

بعد قبول هذین التعریفین للربا ، یشملهما إطلاق أدلة حرمة الربا ، فلا وجه لتخصیص الحرمة بالأوّل دون الثانی . فالربا القرضی حرام مطلقاً بلا فرق بین الإستهلاکی منه أو

ص:79


1- (1) مجمع المسائل 1 / 384 - للشیخ یوسف الصانعی دامت برکاته .

الإستنتاجی .

هذا مجمل الکلام فی الربا فی القرض ومحلّ تفصیله فی کتاب القرض ، وفقنا اللّه تعالی لتحریره وبحثه إن شاء اللّه تعالی وله الحمد .

ص: 80

المقام الثانی : الربا فی المعاملة
اشارة

یجری الربا فی البیع مع شرطین فی الثمن والمثمن : 1 - الإتحاد فی الجنس ، 2 - وکونهما من المکیل أو الموزون إذا باع بالتفاضل .

الشرط الأوّل : الاتحاد فی الجنس

وهو أن یصدق علی الثمن والمثمن أنّهما من جنس واحد ، ویشملهما اللفظ الخاص الکاشف عن اتحاد حقیقتهما النوعیة ، فکلّ ما یصدق علیه الحنطة أو الاُرز أو العنب أو التمر أو نحوها جنس واحد وإن اختلفت صفاتها وخواصّها .

قال المحقق فی الشرائع : « الأوّل : فی بیان الجنس ، وضابطه : کلّ شیئین یتناولهما لفظ خاص کالحنطة بمثلها والاُرز بمثله»(1) .

وقال العلامة فی القواعد : « وضابط الإتفاق فی الجنس شمول اللفظ الخاص لهما کالحنطة والاُرز ، لا کالمطعوم المختلفة أفراده»(2) .

وقال فی الإرشاد : « والجنس هنا الحقیقة النوعیة کالحنطة والاُرز والتمر ، ولا تخرج الحقیقة باختلاف الصفات العارضة ، فالحنطة ودقیقها جنس ، والتمر ودبسه جنس ، والعنب والزبیب جنس ، واللبن والمخیض(3) والحلیب واحد ، وجیّد کل جنسٍ وردیؤه واحد ، وثمرة النخل جنس وکذا الکَرْم(4) ، واللحوم مختلفة ، فلحم البقر والجاموس واحد ، ولحم البقر والغنم جنسان ، والوحشی مخالف لأنسیه»(5) .

وقال المحقق الثانی فی شرح قول العلامة فی القواعد : « المراد باللفظ الخاص : ما یکون مفهومه نوعاً بالإضافة إلی ما تحته ، فالجنس فی عبارته هو ما یعبَّر عنه فی المنطق بالنوع ،

ص:81


1- (1) الشرائع 2 / 38 .
2- (2) القواعد 2 / 60 .
3- (3) وهو الذی قد مخض وأخذ زبده .
4- (4) الکَرْم : العنب ، جمعه الکُرُوم .
5- (5) ارشاد الاذهان 1 / 378 .

وأهل اللغة یسمونه جنساً ، وهذا وإن عزّ الوقوف علیه إلاّ أنّ بعض الأشیاء قد قام القاطع علی بیان نوعها ، فالحنطة بالنسبة إلی ما تحتها نوع بالنص والإجماع ، فالحمراء والبیضاء وغیرهما واحد ، وکذا الاُرز ... »(1) .

وقال ثانی الشهیدین فی شرح قول المحقق فی الشرائع : « المراد باللفظ الخاص ما یکون مفهومه نوعاً بالإضافة إلی ما تحته ، فالجنس فی هذا الباب هو المعبّر عنه فی المنطق بالنوع وأهل اللغة یسمّونه جنساً أیضاً ، ولا مشاحة فی الإصطلاح ، والمراد بالشیئین اللذیْن یتناولهما اللفظ أفراد ذلک النوع کالصفراء والحمراء فی الحنطة ... »(2) .

وقال المحقق الأردبیلی فی شرح قول العلامة فی الإرشاد : « أشار بلفظ « هنا » أی الفقه والاُصول أو باب الربا ، إلی أنَّ الجنس له إطلاق آخر ، وهو الجنس المنطقی المقابل للنوع ، فهذا الاصطلاح عکس ذلک فی الجنس والنوع ، والأمر فی ذلک هیّن .

ولکن تحقیق ما یُعرف به الجنس مشکل جداً ، فإنّه تارة یُعلم أنّ المراد به النوع ، فکلّما تحقق حقیقة واتفاق أفرادها فیها فهو النوع الواحد المراد بالجنس الواحد الذی هو شرط الربا ، وتحقیقه متعسر جداً ، بل قد ادعی کونه متعذراً .

وتارة أنّ المراد به ما یشمله لفظ واحد ویخصه ، مثل الحنطة والاُرز ولاتمر ، فإنّ لکلِّ واحدٍ اسماً خاصاً وتحته أفراد متکثرة ، وإن وجد بین الأفراد اختلاف کثیر إلاّ أنّه لیس له اسم خاص ولا حقیقة خاصة ، بل الاختلاف بالصنف وإن کان له اسم فهو بانضمام الاسم الأوّل ... .

ولعلّک تفهم اتحاد الجنس بملاحظة کلتا الضابطتین ویتبع کلامهم ، فما یکون له اسم واحد وحقیقة واحدة - بحسب الظاهر والذی یجده العقل بحسب تفاهم العرف کذلک - فهو جنس واحد مع فروعه ، وما یُعمل منه أو ما یخرج عن الحقیقة بعمل فیها عن أصلها ، وإن خرج عن ذلک الإسم والحقیقة عرفاً وخاصیّة وطعماً ، فاستفهم اللّه یفهمک »(3) .

ص:82


1- (6) جامع المقاصد 4 / 266 .
2- (1) مسالک الافهام 3 / 317 .
3- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / (467 - 465) .

هذا کلّه بعض کلمات الأعلام فی المقام ، وتدلّ علی اعتبار اتحاد واشتراک الجنسیّة عدّة من الروایات :

منها : صحیحة عمر بن یزید بیّاع السابری عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - أنّه قال : یا عمر قد أحلّ اللّه البیع وحرم الربا ، بع واربح ولا تربه . قلت : وما الربا ؟ قال : دراهم بدراهم مثلین بمثل ، وحنطة بحنطة مثلین بمثل(1) .

سند الصدوق إلی عمر بن محمد بن یزید بیاع السابری مولی ثقیف صحیح وهو ثقة جلیل ، فالروایة صحیحة الإسناد . وتدلّ فقرة « حنطة بحنطة» بوضوح علی الإتحاد فی الجنس فی تطرق الربا فی البیع .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : کره أبو عبد اللّه علیه السلام قفیز لوز بقفیزین لوز ، وقفیزاً من تمر بقفیزین من تمر(2) .

سند الروایة حسنة بخالد بن جریر وأبی الربیع الشامی ، وهو خلید أو خالد بن اُوفی فی أعلی درجة الحسن . ودلالتها واضحة ، لأنّ الکراهة هنا تُحمل علی الحرمة لما یأتی فی ذیل صحیحة عبد اللّه بن سنان ، فانتظر .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام - فی حدیث - قال : إذا اختلف الشیئان فلا بأس به مثلین بمثل یداً بید(3) .

ودلالتها بالمفهوم علی الإتحاد واضحة .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما کان من طعام مختلف أو متاع أو شیءٍ من الأشیاء یتفاضل فلا بأس ببیعه مثلین بمثل یداً بیدٍ ، فأمّا نَظِرَة فلا یصلح(4) .

الروایة صحیحة الإسناد . وأمّا دلالتها بالمفهوم علی المراد واضحة ، لأنّ مفهومها هکذا : ما کان من طعام متحد أو متاع متحد أو شیءٍ من الأشیاء متحد یتفاضل ففیه بأس

ص:83


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 133 ح 2 . الباب 6 من أبواب الربا .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 134 ح 4 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 . الباب 13 من أبواب الربا .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 145 ح 2 .

بیعه مثلین بمثل .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : الکیل یجری مجری واحد ، قال : ویکره قفیز لوز بقفیزین ، وقفیز تمر بقفیزین ، ولکن صاع حنطة بصاعین تمر ، وصاع تمر بصاعین زبیب إذا اختلف هذا ، والفاکهة الیابسة تجری مجریً واحداً . وقال : لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم یکن کیلاً أو لا وزناً(1) .

ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن الطعام والتمر والزبیب ؟ فقال : لا یصلح شیء منه إثنان بواحد ، إلاّ أن یصرفه نوعاً إلی نوع آخر ، فإذا صرفته فلا بأس اثنین بواحد وأکثر(2) .

ومنها : موثقة اُخری لسماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المختلف مثلان بمثل یداً بیدٍ لا بأس(3) .

دلالتها بالمفهوم واضحة .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : کان علی علیه السلام یکره أن یستبدل وسقاً من تمر خیبر بوسقین من تمر المدینة ، لأنّ تمر خیبر أجودهما(4) .

بضمیمة صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : ولم یکن علی علیه السلام یکره الحلال(5) .

وبالجملة ، هذه الروایات المعتبرة تکفی فی إثبات الشرط الأوّل الذی لا خلاف فیه ، أعنی الإتحاد فی الجنس فی تطرق الربا .

تنبیهٌ : حکم الشارع تعبداً باتحاد جنس الحنطة والشعیر ، فلا یجوز بیع أحدهما بالآخر مع التفاضل ، وتدلّ علی هذا الحکم عدّة من الروایات المستفیضة :

ص:84


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 146 ح 3 .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 146 ح 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 147 ح 9 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 2 . الباب 15 من أبواب الربا .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 1 .

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سُئل عن الرجل یبیع الرجل الطعام الأکرار فلا یکون عنده ما یتم له ما باعه فیقول له : خذ منّی مکان کلّ قفیز حنطة قفیزین من شعیر حتّی تستوفی ما نقص من الکیل . قال : لا یصلح ، لأنّ أصل الشعیر من الحنطة ، ولکن یردّ علیه الدراهم بحساب ما ینقص من الکیل(1) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیجوز قفیز من حنطة بقفیزین من شعیر ؟ فقال : لا یجوز إلاّ مثلاً بمثلٍ ، ثم قال : إنّ الشعیر من الحنطة(2) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحنطة والشعیر رأساً برأس ، لا یزاد واحد منهما علی الآخر(3) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال : لا یباع مختومان من شعیر بمختوم من حنطة ، ولا یباع إلاّ مثلاً بمثل ، والتمر مثل ذلک .

قال : وسُئل عن الرجل یشتری الحنطة فلا یجد صاحبها إلاّ شعیراً أیصلح له أن یأخذ اثنین بواحد ؟ قال : لا ، إنّما أصلهما واحد ، وکان علی علیه السلام یعدّ الشعیر بالحنطة(4) .

ومنها : صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : ولا یصلح الشعیر بالحنطة إلاّ واحد بواحد(5) .

ومنها : خبر أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن عیسی بن جعفر العلوی العمری عن أبیه عن آبائه عن علی علیه السلام أنّه سئل : ممّا خلق اللّه الشعیر ؟ فقال : إنّ اللّه تبارک وتعالی أمر آدم : أن أزرع ممّا اخترت لنفسک ، وجاءه جبرئیل بقبضة من الحنطة ، فقبض آدم علی قبضة وقبضت حواء علی اُخری ، وقال آدم لحواء : لا تزرعی أنتِ ، فلم تقبل أمر آدم ، فکلّما زرع آدم جاء

ص:85


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 137 ح 1 . الباب 8 من أبواب الربا .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 .
3- (6) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 3 .
4- (1) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 4 .
5- (2) وسائل الشیعة 18 / 139 ح 5 .

حنطة وکلّما زرعت حواء جاء شعیراً »(1) .

وهذه الروایات المعتبرة المستفیضة تدلّ علی أنّ الحنطة والشعیر فی حکم الجنس الواحد تعبّداً فی تطرق الربا ، فلا ینظر إلی اختلافهما عرفاً واسماً وجنساً . وهکذا لا یسمع إلی خلاف القدیمین(2) کما نقل عنهما العلامة فی المختلف(3) ، وتبعهما ابن ادریس الحلی فی السرائر(4) .

نعم ، الحکم مختص بالربا ، فلا یحکم باتحادهما فی سائر الأبواب کالزکاة والنذور والغرامات والإقرار وغیرها کما ذکره صاحب العروة(5) .

تذکرة: « الأصل مع کلِّ فرعٍ له واحد أم لا؟

تذکرة : قال العلامة فی تذکرة الفقهاء : « الأصل مع کلِّ فرعٍ له واحد ، وکذا فروع کلّ أصل واحدٌ - وذلک کاللبن الحلیب مع الزُّبْد والسمن والمخیض واللِّبَأ والشیراز(6) والأقِط والمَصْل(7) والجبن والترجین(8) والکشک والکامخ(9) والسمسم مع الشیرج والکُسْب(10)

والراشی ، وبرز الکتّان مع حبّه ، والحنطة مع الدقیق والخبز علی اختلاف أصنافه من الرقاق والفرن وغیرهما ومع الهریسة ، والشعیر مع السویق ، والتمر مع السیلان والدبس والخَلّ منه والعصیر منه ، والعنب مع دبسه وخَلّه ، والعسل مع خلّه ، والزیت مع الزیتون وغیر ذلک - عند علمائنا أجمع ، فلا یجوز التفاضل بین اللبن والزُّبْد والسمن والمخیض واللِّبَأ والأقِط وغیر ذلک ممّا تقدم ، بل یجب التماثل نقداً ، ولا یجوز نسیئةً لا متماثلاً ولا متفاضلاً ، ولا فرق فی ذلک بین أن

ص:86


1- (3) علل الشرائع 2 / 574 ح 2 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 344 ح 2 .
2- (4) ابن الجنید فی کتابه المفقود المسمی بالأحمدی فی الفقه المحمدی وابن أبی عقیل العمانی .
3- (5) مختلف الشیعة 5 / 89 .
4- (6) السرائر 2 / 254 .
5- (7) العروة الوثقی 6 / 42 .
6- (8) الشیراز : اللبن الرائب المستخرج ماؤه .
7- (9) المَصْلُ : ما سال من الأقِط إذا طبخ ثم عصر .
8- (10) ارتجن الزُبْدُ : طبخ فلم یَصْفُ وفسد .
9- (11) الکامخ : إدام یُؤْتدم به ، وخصه بعضهم بالمخلاّت التی تُستعمل لتشهّی الطعام ، جمعه الکوامخ .
10- (12) الکُسْب : عصارة الدهن .

یباع الأصل مع فرعه أو بعض فروعه مع البعض »(1) .

أقول : العلامة الحلی ادعی قاعدةً مهمة فی المقام ، وهی : الأصل مع کلِّ فرع له واحد وکذا فروع کلّ أصل واحد ، ثمّ مثّل بأمثلة واستدل علیها بإجماع علمائنا ، والمشهور وافقوه فی هذه القاعدة الکلّیة المدعاة ، لو لم تکن إجماعیة .

ولکن بعض فقهائنا أنکروا هذه القاعدة الکلّیّة واقتصروا فیها فی موارد النص ولم یتعدوا من موارد النص إلی هذه القاعدة الکلّیّة .

منهم : المحقق الأردبیلی ، ولعله أوّل من خالف العلامة ، قال مستشکلاً علی هذه القاعدة : « ... إلاّ أنّ الدلیل علی الکلیة غیر واضح ، لأنّه ما وجد شیءٌ صحیح صریح فی الکلیّة ، والاسم غیر صادق والاختلاف ممکن حقیقة بل هو الظاهر ، لاختلاف الخواص مثل الخلّ والتمر والجبن والحلیب ... وبالجملة الدلیل غیر قائم علی الإتحاد بین الشیء الربوی وأصله کلیة بل قائم علی عدمه ، والأصل وأدلة إباحة البیع دلیل الجواز ، إلاّ أنّ کلام الأصحاب ذلک ، فالخروج عنه مشکل والمسألة من المشکلات یحلّها محلّها ، وقد ادعی الإجماع فی أکثرها فی التذکرة ... فما ثبت الإجماع فیه لا یمکن الخروج عنه ، وظاهر التذکرة الإجماع فی کلِّ أصل مع فرعه وفرع کلِّ أصل مع آخر ، فتأمل »(2) .

ومنهم : السید الیزدی صاحب العروة قدس سره قال : « الإنصاف عدم استفادة الکلیة من الأخبار المذکورة ، إذ هی مختصة بمثل الحنطة والدقیق والسویق والعنب والزبیب ، فلا دلالة فیها علی إتحاد مثل الحلیب والزبد والتمر والعنب مع الخل منهما ونحو ذلک .

ودعوی الإتمام بعدم القول بالفصل کماتری ، وإجماع التذکرة ممنوع ... فالأظهر عدم التعدی عن موارد الأخبار من مثل الدقیق والسویق إلاّ إلی أمثالهما لاکلِّ أصل وفرع ، والفرق بین تغییر صورة شیءٍ إلی شیءٍ آخر ، وبین استخراج شیءٍ من شیءٍ أو ترکیب شیءٍ من شیءٍ

بحیث صار شیئاً ثالثاً ... فتحصّل أنّ الأظهر التفصیل بین تغییر صورة شیءٍ إلی شیءٍ وبین

ص:87


1- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 163 المسألة 84 .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 475 و 476 .

استخراج شیءٍ من شیءٍ أو ترکیب شیءٍ من أشیاء بحیث یصیر شیئاً آخر وحقیقة اُخری »(1) .

ومنهم : المؤسس الشیخ عبد الکریم الحائری الیزدی قدس سره ، قال علی ما فی تقریرات بحثه الشریف : « ... فیبقی فی المقام بعض الأخبار الخاصة ببعض الموارد ... وهذه أیضاً لا یمکن التعدی عن مواردها واستکشاف قاعدة کلیّة منها تطرّد فی کلِّ ما هو من قبیلها مثل التمر وخلّه واللبن وفروعه وغیر ذلک ممّا هو دائر فی کتبهم - رضوان اللّه علیهم - وبالجملة ، ما ذکروه من إتحاد کلِّ أصل مع فرعه خصوصاً إتحاد فروع الأصل الواحد بعضها مع بعض ... یکون استخراجها من الأخبار فی غایة الصعوبة إلاّ فی الموارد الخاصة المنصوصة ، وقد تفطّن له المقدس الأردبیلی قدس سره »(2) .

أقول : بعد هذا الخلاف الثابت بین المشهور والأعلام الثلاثة فلابدّ من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام حتّی یتبیّن جلیّة الحال من إمکان التعدی منها إلی القاعدة الکلیة أو عدمه :

منها : موثقة سماعة قال : سألته عن الحنطة والشعیر ؟ فقال : إذا کانا سواء فلا بأس . قال : وسألته عن الحنطة والدقیق ؟ فقال : إذا کانا سواء فلا بأس(3) .

وهذه الموثقة تدلّ علی أن الحنطة ودقیقها واحد فی الجنس الربوی ، ویمکن التعدی إلی إتحاد الحبوب مع دقیقها فی الربا .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الحنطة بالدقیق مثلاً بمثل ، والسویق بالسویق مثلاً بمثل ، والشعیر بالحنطة مثلاً بمثل لا بأس به(4) .

مفهوم الصحیحة دالّ علی مدلول الموثقة الماضیة .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یدفع إلی

ص:88


1- (1) العروة الوثقی 6 / 47 و 48 .
2- (2) المکاسب المحرمة / 29 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 139 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 2 .

الطحان الطعام فیقاطعه علی أن یعطی لکلِّ عشرة أرطال إثنی عشر دقیقاً ؟ قال : لا . قلت : فالرجل یدفع السمسم إلی العصار ویضمن له لکلِّ صاع أرطالاً مسماة ؟ قال : لا(1) .

هذه الصحیحة تدلّ علی إتحاد الحبوب ودقیقها ، والسمسم وزیتها فی الجنس الربوی .

وغایة الأمر یمکن التعدی من السمسم وزیتها إلی الحبوب الدهنیة وأزیاتها .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الدقیق بالحنطة والسویق بالدقیق مثل بمثل لا بأس به(2) .

وهذه الصحیحة تدلّ علی إتحاد الحنطة ودقیقها وسویقها فی الجنس الربوی .

ومنها : موثقة سماعة قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن العنب بالزبیب ؟ قال : لا یصلح إلاّ مثلاً بمثل ، قال : والتمر والرطب مثلاً بمثل(3) .

سند هذه الروایة موثقة ، لأنّ المراد بأبی أیوب الراوی عن سماعة هو ابراهیم ابن عثمان أو عیسی أبی أیوب الخزاز الثقة . وتدلّ علی إتحاد العنب والزبیب ، والتمر والرطب ، فی الجنس الربوی .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : ماتری فی التمر والبسر الأحمر مثلاً بمثل ؟ قال : لا بأس ، قلت : فالبختج والعنب مثلاً بمثل ؟ قال : لا بأس(4) .

هذه الحسنة بمفهومها تدلّ علی إتحاد التمر والبسر الأحمر ، والبختج والعنب فی الجنس الربوی . والمراد بالبسر : التمر إذا لوّن ولم ینضَج ، الواحدة بُسْرة وجمعها بِسار . والمراد بالبختج : العصیر المطبوخ .

وأنت تری أنّ هذه الروایات قاصرة عن إثبات القاعدة الکلیة المدعاة فی المقام . نعم لابدّ من قبول إتحاد الجنس فی مذکورات النصوص تعبداً ، وأمّا فی غیرها التعدی والحکم بإتحاد الجنس فی کلِّ أصل وکلِّ فرع له أو إتحاد کلِّ فرع مع فرع آخر منه ، فمشکل فی الغایة

ص:89


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 3 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 142 ح 4 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 149 ح 3 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 150 ح 5 .

عند اُولی الدرایة .

قد تمسّک القائلون بالتعدی بالروایات الواردة فی إتحاد جنسی الحنطة والشعیر فی الربا ، حیث عُلّل هذا الإتحاد فی بعضها بأنّ : « إنّما أصلهما واحد » کما فی صحیحة الحلبی(1) أو : « أنّ الشعیر من الحنطة » کما فی صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه(2) .

وفیه : أنه لا یمکن التعدی بهاتین الروایتین وأمثالهما ، وإن یمکن التعدی فیمکن القول بأنّ الأصل فی جمیع الأشیاء أوجلّها واحدٌ ، ولا یذهب إلیه أحد .

فلابدّ من الذهاب إلی انحصار فی المذکورات فی النصوص فقط .

وأما التمسک للتعدی بمرسلة ومضمرة علی بن إبراهیم القمی عن رجاله عمّن ذکره « قال : الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزناً بوزن سواء لیس لبعضه فضل علی بعض ، ... إلی أن قال : وما کیل أو وزن ممّا أصله واحد فلیس لبعضه فضل علی بعض کیل بکیل ووزن بوزن ، فإذا اختلف أصل ما یکال فلا بأس به إثنان بواحد ... »(3) .

أیضاً غیر تام لأنه : أولاً : الروایة مرسلة .

وثانیاً : أنّها مضمرة ، لم تنسب إلی المعصوم علیه السلام .

وثالثاً : من المحتمل قویّاً أنّها فتوی القائل التی استفادها من التعلیل الوارد فی أخبار إتحاد الحنطة والشعیر فی الجنس الربوی ، وقد مرّ الکلام فیها .

نعم ، دلالتها لا بأس بها ، ولکن إفادة دلالتها بعد ثبوت کونها من کلام الإمام علیه السلام .

وبالجملة ، حیث لم تثبت کونها روایة فلا یثبت بها شیئاً .

والحاصل ، التعدی من المذکورات فی الروایات إلی ما ذکره العلامة وتبعه المشهور مشکل غایة الإشکال ، لولا الإجماع .

نعم ، ینبغی الإحتیاط فی المقام للخروج عن مخالفة المشهور ، واللّه سبحانه هو العالم .

هذا کلّه فی الشرط الأوّل .

ص:90


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 4 .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 158 ح 12 .
الشرط الثانی : الکیل أو الوزن
اشارة

یُشترط فی تحقق الربا کون الثمن والمثمن من المکیل والموزون ، فلا ربا فی غیرهما .

قد ادعی العلامة الإجماع علی هذا الاشتراط فی کتابه « تذکرة الفقهاء »(1) .

وقال صاحب الجواهر فی ذیل هذا الاشتراط : « إذا کان المبیع والثمن کذلک (أی من المکیل والموزون) مع اتحاد الجنس حرّم الربا فیهما إجماعاً بقسمیه ، وسنةً وکتاباً ، بل کاد یکون ضروریّاً»(2) .

وتدلّ علی هذا الاشتراط - مضافاً إلی الإجماع - النصوص المستفیضة :

منها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن(3) .

ومنها : موثقة عبید بن زرارة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن(4) .

والروایتان تدلان علی انحصار الربا البیعی فیما یکال أو یوزن ، لأنّ الاستثناء بعد النفی یدل علی الحصر .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم یکن کیلاً ولا وزناً(5) .

یُستفاد من الروایة أنّ المعاوضة بالمتاع لا بأس بها إلاّ مع التفاضل فی المکیل والموزون .

ومنها : موثقة بل صحیحة منصور بن حازم قال : سألته عن الشاة بالشاتین والبَیضةُ

ص:91


1- (2) تذکرة الفقهاء 10 / 194 .
2- (3) الجواهر 23 / 358 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 132 ح 1 . الباب 6 من أبواب الربا .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 133 ح 3 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 155 ح 3 . الباب 17 من أبواب الربا .

بالبیضتین ؟ قال : لا بأس ما لم یکن کیلاً أو وزناً(1) .

سند الروایة تام ، لأنّ المراد بالعباس هو أبو الفضل ابن عامر بن ریاح الثقفی القصبابی ، الشیخ الصدوق الثقة کثیر الحدیث ، بقرینة روایة أیوب بن نوح عنه وداود بن الحصین موثق کالصحیح ، فسند الروایة موثق بل صحیح . هذا کلّه فی سند الکلینی وسند الشیخ موثق ، فالتعبیر عنها بالخبر کما فی الجواهر(2) وتبعه صاحب العروة(3) غیر تام .

ودلالتها علی المطلوب واضحة .

ومنها : موثقة له - أی لمنصور بن حازم - عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : کلّ شیءٍ یکال أو یوزن فلا یصلح مثلین بمثل إذا کان من جنس واحد ، فإذا کان لا یکال ولا یوزن فلا بأس به إثنین بواحد(4) .

سند الشیخ إلی حفید سماعة موثق ، والمراد بابن رباط فی السند هو أبو الحسن علی بن الحسن بن رباط البجلی الکوفی الثقة ، بقرینة نقل کتابه بواسطة الحسن بن محمد بن سماعة وروایته عن عبد اللّه بن مسکان . وبقیّة رجال السند کلّهم ثقات ، فالروایة موثقة سنداً ، کما عبر عن سندها بالموثق فی الجواهر(5) وتبعه صاحب العروة(6) .

ودلالتها کالنص علی المطلوب .

ومنها : حسنة داود بن الحصین أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن الشاة بالشاتین والبیضة بالبیضتین ؟ فقال : لا بأس ما لم یکن مکیلاً أو موزوناً(7) .

سند الصدوق إلی داود بن الحصین حسنٌ ، لورود الحکم بن مسکین المکفوف فیه وهو

ص:92


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 152 ح 1 . الباب 16 من أبواب الربا .
2- (5) الجواهر 23 / 359 .
3- (6) العروة الوثقی 6 / 49 .
4- (7) وسائل الشیعة 18 / 153 ح 3 .
5- (1) الجواهر 23 / 358 .
6- (2) العروة الوثقی 6 / 49 .
7- (3) وسائل الشیعة 18 / 155 ح 2 . الباب 17 من أبواب الربا .

حسن ، کما فی نتائج التنقیح(1) ، وعبر عن هذا السند والد المجلسی بقویٍّ کالصحیح(2) وولده قدس سره بقویٍّ(3) .

وداود بن الحصین موثق کالصحیح ، فسند الروایة حسن عندنا .

ودلالتها بالمفهوم واضحة .

وهذه الروایات المعتبرة تکفی فی إثبات هذا الحکم الإجماعی ، یعنی اشتراط الکیل والوزن فی البیع الربوی .

تنبیهٌ:

الظاهر من الروایات الماضیة أنَّ الحکم یدور مدار وصفی المکیلیة والموزونیة من غیر دخل زمان فیه أصلاً ، فما یذکر من اختصاص الحکم بما کان من المکیل أو الموزون فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم - کما عن الشیخ فی ظاهر المبسوط(4) والفاضل المقداد فی التنقیح الرائع(5) وادعاء الاجماع علیه - غیر تام .

وهکذا ما ذکروه من أنّ المدار فی المکیل والموزون ما کان فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم من غیر فرق بین بلده وسائر البلاد إذا استقر أهلها علیه ، فما کان مکیلاً أو موزوناً فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم فی

جمیع البلدان أو کلّ بلد جری فیه الربا وإن تغیّر بعد ذلک ، وما لم یکن من أحدهما فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم لا یجری فیه الربا وإن صار من أحدهما بعد عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم .

وهذان القولان ضعیفان ، لأنّ الحکم فی الروایات الماضیة وغیرها یدور مدار وصفی المکیلیة والموزونیة ، ولا تنحصران بعصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فما کان مکیلاً أو موزوناً فی أیّ عصرٍ وزمانٍ وأیّ بلدٍ ومکانٍ یجری فیه الربا إن بیع مع التفاضل .

فعلی ما ذکرنا لو کان شیء موزوناً فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم ولکن الآن یباع عدداً فلا یجری فیه

ص:93


1- (4) نتائج التنقیح / 44 .
2- (5) روضة المتقین 14 / 113 .
3- (6) الوجیزة فی علم الرجال / 229 الرقم 141 .
4- (7) المبسوط 2 / 90 .
5- (8) التنقیح الرائع 2 / 91 .

الربا ، ولو کان شیء یباع عدداً فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم ولکن الآن یباع موزوناً یجری فیه الربا . واللّه سبحانه هو العالم .

تذکرة:

إن اختلفت البلدان فی الکیل أو الوزن أو العدّ أو غیرها ، فلکلّ بلد حکم نفسه ، فیجری الربا فی بلد الکیل والوزن ولا یجری فی بلد العدّ ، وذلک لما ذکرنا من أنّ الحکم یدور مدار الوصف . فما نسب إلی الشیخ فی النهایة(1) وسلاّر بن عبد العزیز الدیلمی فی المراسم(2) وقوّاه فخر المحققین فی إیضاح الفوائد(3) من تغلیب جانب الحرمة غیر تام بما ذکرناه .

وإن اختلف فی بلد واحد ، یعنی یباع فیه تارة بالوزن وتارة بالعدّ نحو الخبز فی عصرنا الحاضر ، فلا یدخل تحت إطلاق أحد الخطابین من حرمة الربا وحلّیة البیع ، لعدم إمکان دخوله تحتهما معاً ، والدخول فی تحت أحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجح ، فتصل النوبة إلی الأصل العملی ، وهو یقتضی البراءة من الحرمة ، یعنی جواز بیعه مع التفاضل .

وما نسب إلی المفید(4) من اختصاص الجواز بالأغلب ومع التساوی یرجح جانب الحرمة ، أیضاً غیر تام بما ذکرناه . نعم : قوله قدس سره موافق للإحتیاط الحسن ، ولکن الاستدلال له بما رواه الأحسائی مرفوعاً عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : ما اجتمع الحرام والحلال إلاّ غلب الحرامُ الحلال(5) ، غیر تام . لضعفها سنداً ودلالةً .

ولذا قال صاحب الجواهر قدس سره بعد نقل کلام المفید وموافقته للإحتیاط والاستدلال له

بالمرسلة : « ... لکن لا یخفی علیک عدم وجوب مراعاة الأوّل (یعنی الإحتیاط) عندنا وعدم تناول الثانی (یعنی المرسلة) لما نحن فیه »(6) .

ص:94


1- (1) النهایة 2 / 122 و 123 .
2- (2) المراسم / 179 .
3- (3) إیضاح الفوائد 1 / 476 .
4- (4) المقنعة / 604 .
5- (5) عوالی اللآلی 2 / 132 ح 358 ونقل عنه فی بحار الأنوار 2 / 272 ح 6 (1 / 358) .
6- (1) الجواهر 23 / 365 .

ثم إن هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها

فروع
الأوّل : الربا یجری فی جمیع المعاملات

هل الربا یجری فی جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة أو یختص بعقدی البیع والقرض ؟ ذهب المشهور إلی الأوّل ، وذهب ابن إدریس الحلی والعلامة إلی الثانی(1) .

قال الفقیه المتتبع السید جواد العاملی قدس سره : « ... وهذا التعریف [ یعنی أنّه یجری فی جمیع المعاوضات المالیة ] یناسب ما حُکی عن الأکثر ، حکاه المقدس الأردبیلی فی آیاته(2) ، وقد حکی(3) عن السید والشیخ والقاضی وابن المتوج وفخر المحققین من أنّه یثبت فی کلِّ معاوضة ولا یختص بالبیع ، وهو خیرة الشهیدین فی صلح الدروس(4) والمسالک(5) والروضة(6) وغصب الأوّلین(7) ، وأبی العباس فی صلح المهذب(8) والمقتصر(9) والفخر فی صلح الإیضاح(10) والصالح القطیفی والمحقق الثانی(11) والفاضل المیسی والمقدس الأردبیلی(12) وغیرهم(13) ، وهو صریح الشرائع(14) فی باب الغصب وظاهره فی باب

ص:95


1- (2) نقل عنهما صاحب الجواهر فی کتابه 23 / 338 .
2- (3) زبدة البیان / 432 .
3- (4) حکاه السید الطباطبائی فی الریاض 8 / 279 .
4- (5) الدروس 3 / 328 .
5- (6) المسالک 4 / 269 .
6- (7) الروضة البهیة 4 / 180 .
7- (8) الدروس 3 / 116 والمسالک 12 / 189 .
8- (9) المهذب البارع 2 / 537 .
9- (10) المقتصر / 198 .
10- (11) ایضاح الفوائد 2 / 104 .
11- (12) جامع المقاصد 4 / 266 .
12- (13) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 457 .
13- (14) کالسید الطباطبائی فی الریاض 8 / 279 .
14- (15) الشرائع 3 / 240 .

الصلح(1) ... »(2) .

وقال صاحب الجواهر : « ... بل قیل إنّ الفاضل [ العلامة الحلی ] قد رجع عنه فی کتاب الصلح من القواعد ، فینحصر الخلاف حینئذ بالحلی [ ابن إدریس ] ... »(3) .

أقول : العبارة الموجودة فی المطبوعة من صلح القواعد هکذا : « ولو صالح علی عین باُخری فی الربویّات ففی إلحاقه بالبیع نظر ، وکذا فی الدین بمثله ، فإن ألحقناه فسد ... »(4) .

وأنت تری عدم ظهور العبارة فی رجوعه قدس سره عن قوله ، واللّه سبحانه هو العالم .

فلابدّ من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام حتّی یتبیّن اختصاص الربا بعقدی البیع والقرض فقط أو جریانه فی جمیع المعاملات والمعاوضات المالیّة :

منها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الفضة بالفضة مثلاً بمثل ، لیس فیه زیادة ولا نقصان ، الزائد والمستزید فی النار(5) .

بتقریب : عدم ورود التخصیص بالبیع ، بل الروایة مطلقة ، فیجری الربا فی جمیع المعاوضات .

ومنها : صحیحة أبی بصیر وغیره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحنطة والشعیر رأساً برأس ، لا یزاد واحد منهما علی الآخر(6) .

بتقریب : ما قد مرّ آنفاً من عدم ورود التخصیص بل أنّها مطلقة ، فتشمل جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الدقیق بالحنطة والسویق بالدقیق مثلٌ بمثلٍ لا بأس به(7) .

ص:97


1- (16) الشرائع 2 / 121 .
2- (17) مفتاح الکرامة 4 / 502 - (14 / 8) .
3- (1) الجواهر 23 / 338 .
4- (2) قواعد الاحکام 2 / 173 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 165 ح 1 . الباب 1 من أبواب الصرف .
6- (4) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 3 . الباب 8 من أبواب الربا .
7- (5) وسائل الشیعة 18 / 142 ح 4 . الباب 9 من أبواب الربا .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیجوز قفیز من حنطة بقفیزین من شعیر ؟ فقال : لا یجوز إلاّ مثلاً بمثل ، ثم قال : إنّ الشعیر من الحنطة(1) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یدفع إلی الطحان الطعام فیقاطعه علی أن یعطی لکلِّ عشرة أرطال إثنی عشر دقیقاً ؟ قال : لا . قلت : فالرجل یدفع السمسم إلی العصار ویضمن له لکلِّ صاع أرطالاً مسماة ؟ قال : لا(2) .

قال صاحب الجواهر بعد نقل هذه الصحیحة : « بل قیل : إنّه صریح فی المطلوب »(3) . یعنی أن هذه الروایة کالنص فی التعدی من البیع إلی غیره من المعاوضات المالیة . وهی کذلکِ .

ومنها : صحیحة سیف التمار قال : قلت لأبی بصیر : أحبّ أن تسأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل استبدل قوصرتین فیهما بسر مطبوخ بقوصرة فیها تمر مشقّق . قال : فسأله أبو بصیر عن ذلک فقال علیه السلام : هذا مکروه ، فقال : إنّ علی بن أبی طالب علیه السلام کان یکره أن یستبدل وسقاً من تمر المدینة بوسقین من تمر خیبر ، لأنّ تمر المدینة أدونهما ، ولم یکن علی علیه السلام یکره الحلال(4) .

بتقریب : أن الاستبدال أعم من البیع وغیره من المعاوضات المالیّة .

والحاصل ، هذه الروایات کلّها مطلقة تشمل جمیع المعاوضات المالیّة ولا تختص بالبیع ، ودعوی الاختصاص به والانصراف لغلبة البیع ممنوع . فالربا یجری فی جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة کما علیه المشهور . واللّه سبحانه هو العالم .

الثانی : موارد استثناء حرمة الربا

قد استثنوا من حرمة الربا أربعة موارد :

الف : الربا بین الوالد وولده

ب : وبین السید وعبده

ج : وبین الرجل وزوجته

ص:97


1- (6) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 . الباب 8 من أبواب الربا .
2- (7) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 3 . الباب 9 من أبواب الربا .
3- (1) الجواهر 23 / 337 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 1 . الباب 15 من أبواب الربا .

د : وبین المسلم والحربی ، إذا أخذه المسلم . ویثبت بین المسلم والذمی .

وهذا الحکم إجماعیٌ عند أصحابنا لم یخالف فی کلّیّته أحدٌ(1) ، إلاّ الشریف المرتضی قدس سره فی المسائل الموصلیات الثانیة ، وأنقل هنا تمام کلامه لما فیه من فوائد وتظهر لک کیفیة استنباطه ، قال قدس سره : « وباللّه التوفیق ، إنّ کثیراً من أصحابنا قد ذهبوا إلی نفی الربا بین الوالد وولده وبین الزوج وزوجته والذمی والمسلم ، وشرط قوم من فقهاء أصحابنا فی هذا الموضوع شرطاً ، وهو أن یکون الفضل مع الوالد إلاّ أن یکون له وارث أو علیه دین .

وکذلک قالوا : أنّه لا ربا بین العبد وسیده إذا کان لا شریک له فیه ، وإن کان له شریک حرم الربا بینهما ، وکذلک العبد المأذون له فی التجارة ، حرم الربا بینه وبین سیده إذا کان العبد قد استدان مالاً علیه .

وعوّلوا فی ذلک علی ما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام من قوله : لیس بین الرجل وبین ولده ربا ، ولیس بین السید وبین عبده ربا(2) . ورووا عن الصادق علیه السلام أنه قال : لیس بین المسلم وبین الذمی ربا ، ولا بین المرأة وزوجها(3) . وأما العبد وسیده فلا شبهة فی انتفاء الربا بینهما .

ویوافقنا علی ذلک أبوحنیفة وأصحابه الثوری واللیث والحسن بن صالح بن حی والشافعی . ویخالف مالک الجماعة فی هذه المسألة ، لأن مالکاً یذهب إلی أن العبد یملک ما فی یده مع الرق ، والجماعة التی ذکرناها تذهب إلی أن الرق یمنع من الملک ، وهو الصحیح .

وإذا کان ما فی ید العبد ملکاً لمولاه لم یدخل الربا بینهما ، لأن المالین فی الحکم مال واحد والمالک واحد ، ولهذا یتعب(4) حکم المأذون له فی التجارة ، یتعلق علی(5) الغرماء بما فی یده ،

ص:98


1- (3) السید جواد العاملی ادعی الإجماع علی المسائل الفرعیة المذکورة ونقله عن عدة من الکتب ، راجع مفتاح الکرامة 4 / 529 و 530 و 531 (14 / 95 و 98 و 101 و 102) - وتبعه فی الجواهر وادعی الإجماع بقسمیه علی هذه المسائل راجع الجواهر 23 / 378 و 380 و 381 و 382 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 1 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .
4- (3) ظ : یتغیر .
5- (4) ظ : ویتعلق حق الغرماء بما فی یده .

وکذلک یتغیر فی هذا الحکم حال العبد بین شریکین ، فالشبهة فی انتفاء الربا بین العبد وسیده مرتفعة .

وإنّما الکلام فی باقی المسائل التی ذکرناها ، فالأمر فیها مشکل .

والذی یقوی فی نفسی أن الربا محرّم بین الوالد وولده والزوج وزوجته والذمی والمسلم ، کتحریمه بین غریبین .

فأمّا الأخبار التی وردت و فی ظاهرها أنه لا رباء فی هذه المواضع ، إذا جاز العمل بها جاز أن نحملها علی تغلیظ تحریم الربا فی هذه المواضع ، کما قال اللّه تعالی : «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَجِّ»(1) ولم یرد أن الرفث فی غیر الحج لا یکون رفثاً ولا محرّماً ، وکذلک الفسوق ، وإنّما أراد بذلک تغلیظ تحریمه والنهی عنه .

ومن شأن أهل اللغة إذا أکدوا تحریم شیء أدخلوا فیه لفظ النفی ، لینبی ء عن تحقیق

التحریم وتأکیده وتغلیظه ، کما أنّ فی مقابلة ذلک إذا أرادوا أن یؤکدوا ویغلظوا الإیجاب استعملوا فیه لفظ الخبر والإثبات ، کما قال اللّه تعالی : «وَمَن دَخَلَهُ کَانَ آمِناً»(2) وإنّما أکد بذلک وجوب أمانه ، وکان هذا القول آکد من أن یقول : فأمنوا من دخله ولا تخیفوه .

وکذلک قوله علیه السلام « العاریة مردودة ، والزعیم غارم »(3) وإنّما المراد به أنّه یجب ردّ العاریة ، وغرامة الزعیم الذی هو الضامن ، وأخرج الکلام مخرج الخبر للتأکید والتغلیظ ، فهذا فی باب الإیجاب نظیر ما ذکرنا فی باب الحظر والتحریم .

فإن قیل : فأیّ فائدة فی تخصیص هذه المواضع نفی الربا فیها مع إرادة التحریم والتغلیظ ، والربا محرّم بین کلِّ أحد وفی کلِّ أحد و فی کلِّ موضع .

قلنا : فی تخصیص هذه المواضع بالذکر ممّا یدلّ علی أن غیرها ممّا لم یذکر بخلافها . وهذا مذهب قد اختلف فیه أصحاب أصول الفقه ، والصحیح ما ذکرناه . ومع هذا فغیر ممتنع أن یکون للتخصیص فائدة .

ص:99


1- (5) سورة البقرة / 197 .
2- (1) سورة آل عمران / 97 .
3- (2) جامع الأصول 9 / 110 .

أما الوالد وولده والحرمة بینهما عظیمة متأکّدة ، فما حظر بین غیرهما وقبح فی الشریعة ، فهو المحرّمة بینهما أقبح وأشدّ حظراً . وکذلک الزوج وزوجته ، فیکون لهذا المعنی وقع التخصیص للذکر .

وأما الذمی والمسلم فیمکن أن یکون وجه تخصیصهما هو أن الشریعة قد أباحت - لفضل الإسلام وشرفه علی سائر الملل - أن یرث المسلم الذمی والکافر وإن لم یرث الذمی المسلم . وثبت حق الشفعة للمسلم علی الذمی ، ولا یثبت حق الشفعة للمسلم علی الذمی ، فخص نفی الربا بالذمی والمسلم علی سبیل الحظر بظن ظاهر(1) ، فإنه یجوز للمسلم أن یأخذ من الذمی الفضل فی الموضع الذی یکون فیه ربا ، وإن لم یجز ذلک للذمی ، کما جاز فی المیراث والشفعة .

فإن قیل : فما الذی یدعو إلی الإنصراف عن ظواهر الأخبار المرویة فی نفی الربا بین الجماعة المذکورة إلی هذا التعسف من التأویل .

قلنا : ما عدلنا عن ظاهر إلی تأویل متعسف ، لأن لفظة النفی فی الشریعة إذا وردت فی مثل هذه المواضع التی ذکرناها ، لم یکن ظاهرها للإباحة دون التحریم والتغلیظ ، بل هی

محتملة لکلِّ واحد من الأمرین إحتمالاً واحداً ، ولا تعسف فی أحدهما .

ولم یبق إلاّ أن یقال : فإذا احتملت الأمرین فلم حملتموها علی أحدهما بغیر دلیل .

وها هنا دلیل یقتضی ما فعلناه ، وهو أن اللّه تعالی حرّم الربا فی آیات محکمات من الکتاب لا إشکال فیها ، فقال تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(2) وقال : «لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا»(3) وقال جلّ اسمه : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»(4) .

والأخبار الواردة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وعن ولده من الأئمة علیهم السلام فی تحریم الربا

ص:100


1- (3) کذا فی النسخة .
2- (1) سورة البقرة / 287 .
3- (2) سورة آل عمران / 130 .
4- (3) سورة البقرة / 275 .

وحظره ، والنهی عن أکله ، والوعید الشدید علی من خالف فیه أکثر من أن تحصی .

وقد علمنا أن لفظة « الربا» إنّما معناه الزیادة ، وقررت الشریعة فی هذه اللفظة أنها زیادة فی أجناس وأعیان مخصوصة . وخطاب اللّه تعالی وخطاب رسوله یجب حملهما علی العرف الشرعی دون اللغوی ، فیجب علی هذا أن یفهم من ظواهر الآیات والأخبار أن الربا الذی هو التفاضل فی الأجناس المخصوصة محرّم علی جمیع المخاطبین بالکتاب علی العموم ، فیدخل فی ذلک الولد والزوج والذمی مع المسلم ، وکلّ من أخذ وأعطی فضلاً .

فإذا أوردت أخبار تنفی الربا بین بعض من تناوله ذلک العموم ، حملنا النفی فیها علی ما ذکرناه بما یطابق تلک الآیات ویوافقها ، ولا یوجب تخصیصها وترک ظواهرها»(1) . انتهی کلامه فی المسائل الموصلیات الثانیة .

ولکنه قدس سره رجع عن هذا القول فی کتابه « الانتصار» وقال فیه : « وممّا انفردت به الإمامیة : القول بأنّه لا ربا بین الولد ووالده ولا بین الزوج وزوجته ، ولا بین الذمّی والمسلم ، ولا بین العبد ومولاه . وخالف باقی الفقهاء فی ذلک وأثبتوا الربا بین کلّ من عددناه(2) .

وقد کتبت قدیماً فی جواب مسائل وردت من الموصل تأوّلت الأخبار التی یرویها أصحابنا المتضمّنة لنفی الربا بین من ذکرناه علی أنّ المراد بذلک - وإن کان بلفظ الخبر - معنی الأمر ، کأنّه قال : یجب أن لا یقع بین من ذکرناه ربا ، کما قال تعالی : «وَمَن دَخَلَهُ کَانَ آمِناً»(3)، وکقوله تعالی : «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَجِّ»(4) ، وقوله علیه السلام : العاریة مردودة والزعیم غارم(5) . ومعنی ذلک کلّه معنی الأمر والنهی وإن کان بلفظ الخبر .

فأما العبد وسیّده فلا شبهة فی نفی الربا بینهما ، لأنّ العبد لا یملک شیئاً ، والمال الذی فی یده مال لسیّده ، ولا یدخل الربا بین الإنسان ونفسه ؛ ولهذا ذهب أصحابنا إلی أنّ العبد إذا کان

ص:101


1- (4) رسائل الشریف المرتضی 1 / (185 - 181) .
2- (5) المجموع ، ج 9 ص 391 - 392 .
3- (1) سورة آل عمران / 97 .
4- (2) سورة البقرة / 197 .
5- (3) عوالی اللآلی / ج 1 ص 310 ح 21 .

لمولاه شریک فیه حرم الربا بینه وبینه .

واعتمدنا فی نصرة هذا المذهب علی عموم ظاهر القرآن ، وأنّ اللّه تعالی حرّم الربا علی کلّ متعاقدین ، وقوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا»(1) ، وهذا الظاهر یدخل تحته الوالد وولده والزوج والزوجة .

ثمّ لمّا تأمّلت ذلک رجعت عن هذا المذهب ؛ لأنّی وجدت أصحابنا مجمعین علی نفی الربا بین من ذکرناه ، وغیر مختلفین فیه فی وقت من الأوقات ، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنّه حجّة ویخصّ بمثله ظواهر الکتاب ، والصحیح نفی الربا بین من ذکرناه .

وإذا کان الربا حکماً شرعیاً جاز أن یثبت فی موضع دون آخر ، کما یثبت فی جنس دون جنس وعلی وجه دون وجه ، فإذا دلّت الأدلة علی تخصیص من ذکرناه وجب القول بموجب الدلیل .

وممّا یمکن أن یعارض ظواهره به من ظاهر الکتاب : أنّ اللّه تعالی قد أمر بالإحسان والإنعام ، مضافاً إلی ما دلّت علیه العقول من ذلک ، وحدّ الإحسان : إیصال النفع لا علی وجه الاستحقاق إلی الغیر مع القصد إلی کونه إحساناً ، ومعنی الإحسان ثابت فی من أخذ من غیره درهماً بدرهمین ؛ لأنّ من أعطی الکثیر بالقلیل وقصد به إلی نفعه به فهو محسن إلیه ، وإنّما أخرجنا من عدا من استثنیناه من الوالد وولده والزوج وزوجته بدلیل قاهر ترکنا له الظواهر . وهذا لیس مع المخالف فی المسائل التی خالفنا فیها .

فظاهر أمر اللّه تعالی بالإحسان فی القرآن فی مواضع کثیرة کقوله تعالی : «وَأَحْسِن کَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ»(2) ،

وقوله تعالی : «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3) یعارض الآیات التی ظاهرها عامّ فی تحریم الربا ، فإذا قالوا تخصّص آیات الإحسان لأجل آیات الربا ، قلنا : ما الفرق بینکم وبین من خصّص آیات الربا لعموم آیات الأمر بالإحسان ؟ وهذه طریقة إذا سلکت کانت

ص:102


1- (4) سورة آل عمران / 130 .
2- (5) سورة القصص / 77 .
3- (1) سورة النحل / 90 .

قویّة »(1) .

أقول : الشریف المرتضی لم ینقض الإجماع بل رجع قدس سره إلی الإجماع ، ورجوعه بواسطة الإجماع یؤید ویؤکد الإجماع ، قال العلامة المؤسس الحائری قدس سره فی هذا المجال وفی ردّ استدلال المرتضی قدس سره فی الموصلیات : « ولا یخفی أنّ کلامه قدس سره هذا ممّا یؤکّد ما ا شتهر من نفی تحریم الربا بین المذکورین غایة التأکید ، لکونه فی ذلک العصر من المسلمات التی لم یمکن السید الفتوی بخلافها . هذا مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک من نفس هذا الترکیب مع قطع النظر عن هذا أیضاً ، فإنّ ما ذکره السید من کون المراد نفی موضوع الربا المقصود به نفی جوازه وإباحته - کما فی نفی الضرر فی الحدیث والرفث والفسوق فی الآیة - وإن کان حقّاً لکنّه لیس مطّرداً فی هذا الترکیب ، وإنّما المُسَلَّم منه ما إذا کان سوقه ابتداءً بلا سابقة تشریع حکم فی الموضوع الذی وقع تلو النفی کما فی نفی الضرر ، فإنّ المنساق من نفی الموضوع حینئذ نفی إباحته وتشریع جوازه ، وأمّا إذا کان مسبوقاً بأحد الأحکام الخمسة وبعد تشریع الحکم فیه علی سبیل الکلیة ثمّ سیق هذا الترکیب فی بعض الأصناف ، فالمنساق منه حینئذٍ هو نفی ذلک الحکم المجعول فیه علی وجه الکلیة کما فی الربا ، فإنّ حرمته ضروریة بین المسلمین ، ونادی بتحریمه الکتاب العزیز ، فبعد هذا لو ورد « لا ربا بین الرجل وولده » الخ ، فلا شبهة أنّ أظهر الآثار الثابتة للربا فی الأذهان هو التحریم ، فیرجع النفی إلیه ، فیکون المقصود جوازه بین المذکورین .

أمّا آیة : «فَلاَ رَفَثَ» الآیة ، حیث أنّه مع سبق الحکم بتحریم الفسوق والجدال حکمنا بأنّ المراد به نفی الجواز لا نفی التحریم ، فلشهادة قرینة المقام علی ذلک حیث لا یتبادر إلی ذهن أحد أن یکون حال الحج أسوأ من سائر الأحوال »(2) .

والحاصل ، الإجماع قائم علی کلّیة هذه المسائل الأربع من نفی الربا وعدم حرمته بین هؤلاء المذکورین ، وأمّا جزئیاتها فتأتی فی ضمن البحث عن هذه المسائل منفرداً إن شاء اللّه تعالی .

ص:103


1- (2) الانتصار / (443 - 441) ، طبع جماعة المدرسین عام 1415 .
2- (3) المکاسب المحرمة / 41 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .

الف : لا ربا بین الوالد وولده

یدلّ علی عدم حرمة الربا بین الوالد وولده - بعد الإجماع الذی قد مرّ ذکره - بعض الروایات :

منها : حسنة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ، وبینه وبین عبده ، ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فیما بینک وبین ما لا تملک ، الحدیث(1) .

رجال السند کلهم ثقات إلاّ یاسین الضریر وهو فی أول درجات الحسن ، فالروایة به حسنة سنداً ، فالتعبیر بالصحیح عن سندها کما عن الجواهر(2) فی الموضعین عجیب . وأمّا دلالتها فواضحة .

ومنها : حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ولا بینه وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فی ما بینک وبین ما لا تملک ، الحدیث(3) .

الروایة من حیث السند حسنة بیاسین الضریر ، وأمّا دلالتها فواضحة . ویمکن إتحادها مع الروایة الماضیة ، أعنی حسنة زرارة .

ومنها : خبر عمرو بن جمیع عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لیس بین الرجل وولده ربا ، ولیس بین السید وعبده ربا(4) .

أمّا رجال السند فحمید بن زیاد النینوانی موثَّق ، والخشاب لقب لثلاثة أشخاص : أوّلهم : الحسن بن موسی الخشاب وهو حسنٌ ، وثانیهم : عمران بن موسی الخشاب وهو مهمل ، وثالثهم : حجاج بن رفاعة الخشاب وهو ثقة ، ولعلّ الأظهر فی المقام أنّ المراد به هو الأوّل . والمراد بابن بقاح هو الحسن بن علی بن بقاح الثقة . ومعاذ بن ثابت حسنٌ ولکن عمرو بن جمیع الراوی الأخیر ضعیف ، فالروایة به ضعیفة الإسناد . ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : ما فی الفقه الرضوی : لیس بین الوالد وولده ربا ،ولا بین الزوج والمرأة ربا ،

ص:104


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 . الباب 7 من أبواب الربا .
2- (2) الجواهر 23 / 379 و 381 .
3- (3) التهذیب 7 / 17 ح 75 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 1 .

ولا بین المولی والعبد ، ولا بین المسلم والذمی(1) .

وذکر الصدوق مثلها فی المقنع(2) .

هذه الروایات الواضحة بعد الإجماع تدلّ علی جواز أخذ الربا بین الوالد وولده .

ثم یجوز أخذ الزیادة لکلِّ منهما ، لإطلاق الروایات الورادة ، وأفتی به فی السرائر(3) والشرائع(4) والتذکرة(5) والتحریر(6) والنهایة(7) والدروس(8) وإیضاح النافع(9) والمسالک(10) والروضة(11) وغیرها(12) ، وفی المفاتیح(13) والریاض(14) أنّه لا خلاف فیه إلاّ من الإسکافی(15) حیث خصّ الزیادة بالولد دون الوالد ویشترط أن لا یکون للوالد وارث ولا علیه دین ، وهو شاذ کما قاله جماعة ، وزاد فی الحدائق(16) : « وأقواله غالباً لا تخرج عن مذهب العامة » . کما

ص:105


1- (5) الفقه المنسوب إلی الرضا علیه السلام / 285 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 339 ح 1 وجامع أحادیث الشیعة 23 / 208 ح 3 .
2- (6) المقنع / 126 .
3- (1) السرائر 2 / 252 .
4- (2) شرائع الاسلام 2 / 40 .
5- (3) تذکرة الفقهاء 10 / 207 المسألة 105 .
6- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 312 . الخامس .
7- (5) نهایة الأحکام 2 / 553 .
8- (6) الدروس 3 / 299 - یُستفاد من إطلاق کلامه علیه السلام .
9- (7) إیضاح النافع / للفاضل القطیفی ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 529 - (14 / 98) .
10- (8) مسالک الأفهام 3 / 327 .
11- (9) الروضة البهیة 3 / 445 .
12- (10) کالمهذب 1 / 372 والکفایة 1 / 501 .
13- (11) مفاتیح الشرائع 3 / 63 .
14- (12) ریاض المسائل 8 / 433 .
15- (13) نقل عنه العلامة فی المختلف 5 / 79 .
16- (14) الحدائق 19 / 260 .

قاله السید العاملی فی مفتاح الکرامة(1) .

وقال الوحید البهبهانی فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان بالنسبة إلی تفصیل ابن الجنید الإسکافی : « وهذا غریب بالنظر إلی الأخبار»(2) .

ولا فرق هنا فی إطلاق الولد بین الذکر والاُنثی کما قال العلامة فی تذکرة الفقهاء : « ولا فرق بین الولد الذکر والاُنثی ، لشمول اسم الولد لهما »(3) . وقال المحقق الثانی : « ولا فرق فی الولد بین الذکر والاُنثی لشمول الاسم »(4) .

وهکذا لا فرق بین الولد وولد الولد وإن نزل کما یشمله لفظ « الولد » وإطلاقه ، والعمل بالعموم والحکم بثبوت الربا بعد ورود المخصص بلا وجه وإطلاق « الولد » علی ولد الولد لیس بمجاز ، بل یُطلق علیه حقیقة . فالصحیح فی المقام ما ذهب إلیه الشهید قدس سره فی الدروس(5) من الحکم بعدم ثبوت الربا بین الجد وولد الولد . ولا یتم ما ذهب إلیه ثانی الشهیدین(6) من ثبوت الربا بین الجد وولد الولد .

نعم ، الحکم یختص بالولد النسبی ، فلا یجری فی حقّ الولد الرضاعی ، لأنّه لیس بولد حقیقة ، کما أنّه یختص بالأب فلا یجری فی حقِّ الأُمّ ، کما هو واضح .

وأمّا ولد الزنا فهل یثبت هذا الحکم بینه وبین مَن له مِن نطفته أم لا ؟ الظاهر بعد الحکم بأنّ ولد الزناً أیضاً ولد فی الحقیقة فلذا لا یجوز له نکاحها لو کانت بنتاً ، إلاّ أنّ النسب منقطع فی الإرث فقط ، وأمّا فی غیر الإرث بالنسبة إلیهما جمیع أحکام النسب باقیة ، فیجری الحکم بالجواز بالنسبة إلیهما .

ص:106


1- (15) مفتاح الکرامة 4 / 529 - (14 / 96) .
2- (16) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 295 .
3- (17) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
4- (18) جامع المقاصد 4 / 280 .
5- (1) الدروس 3 / 299 .
6- (2) حاشیة الإرشاد / 184 وفی المطبوعة ضمن غایة المراد فی شرح نکت الارشاد للشهید الأوّل 2 / 124 .

ب : لا ربا بین السید وعبده

تدلّ علی عدم ثبوت الربا بین السید ومملوکه بعد الإجماع ، بعضُ الروایات :

منها : صحیحة علی بن جعفر أنّه سأل أخاه موسی بن جعفر علیه السلام عن رجل أعطی عبده عشرة دراهم علی أن یؤدی العبد کلّ شهر عشرة دراهم ، أیحلّ ذلک ؟ قال : لا بأس(1) .

وسند الشیخ إلی هذه الروایة حسن ببنان بن محمد بن عیسی .

ومنها : حسنة زرارة(2) وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم(3) وخبر عمرو بن جمیع(4) المذکورة فیما سبق .

وهذه الروایات وفیها صحیحة السند تدلّ علی عدم ثبوت حکم الربا بین السید وعبده وجواز أخذ السید الزیادة من عبده ، وهذا الحکم بناءً علی القول بأنّ العبد لا یملک واضح وبناءً علی ثبوت ملکیة العبد أیضاً تدلّ علیه الروایات ومنها الصحیحة ، فلا وجه

لمناقشة الأردبیلی حیث قال : « وأمّا علی القول الآخر [ یعنی مالکیة العبد ] فلا یظهر ، إذ الروایة غیر صحیحة ولا نعرف غیرها ، إلاّ أن یدعی الإجماع فیقتصر علی موضعه وهو القن الخاص ، لا المکاتب مطلقاً ولا المشترک کما تشعر به الروایة المتقدمة »(5) .

وفیه : بعد ورود صحیحة علی بن جعفر وغیرها من الروایات تمَّ ما ذکرناه ولا یصح قوله قدس سره : « إذ الروایة غیر صحیحة» ، ولعلّه غفل عنها . وسبحان من لا یسهو .

نعم ، یثبت الربا بین السید وعبده المشترک بینه وبین غیره ، کما تدلّ علیه حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ولابینه وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فی ما بینک وبین ما لا تملک . قلت : فالمشرکون بینی وبینهم رباً ؟ قال : نعم ،

ص:107


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 6 - وأورد تمامها فی وسائل الشیعة 18 / 308 ح 12 . الباب 11 من أبواب السلف .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (5) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (6) وسائل الشیعة 18 135 ح 1 .
5- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 489 .

قلت : فإنّهم ممالیک ؟ فقال : إنّک لست تملکهم ، إنّما تملکهم مع غیرک ، أنت وغیرک فیهم سواء ، والذی بینک وبینهم لیس من ذلک ، لأنّ عبدک لیس مثل عبدک وعبد غیرک(1) .

ونحوها حسنة زرارة(2) .

وعلی هذا العبد المشترک لا یجوز أخذ الربا منه ، وبه صرح العلامة فی القواعد(3) وتذکرة الفقهاء(4) وتحریر الأحکام(5) ونهایة الإحکام(6) ومختلف الشیعة(7) والشهید فی الدروس(8) والفاضل المقداد فی التنقیح(9) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(10) والقطیفی فی إیضاح النافع(11) والشهید الثانی فی المسالک(12) والسید الطباطبائی فی الریاض(13) والسید العاملی فی مفتاح الکرامة(14) .

خلافاً لصاحب الجواهر حیث قال : « العبد المشترک بین المالکین الذی یمکن القول فیه بحلیّة الربا فیه بالنسبة إلی کلِّ من مولییه »(15) وقال فی توجیه حسنة الماضیة : « علی أنّ الخبر

ص:108


1- (2) التهذیب 7 / 17 ح 75 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (4) قواعد الأحکام 2 / 63 .
4- (5) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
5- (6) تحریر الأحکام 2 / 312 . الرابع .
6- (7) نهایة الإحکام 2 / 554 .
7- (8) مختلف الشیعة 5 / 83 .
8- (9) الدروس 3 / 299 .
9- (10) التنقیح الرائع 2 / 93 .
10- (11) جامع المقاصد 4 / 280 .
11- (12) إیضاح النافع ، کما نقل عنه العاملی فی مفتاح الکرامة 4 / 530 - (14 / 100) .
12- (13) مسالک الإفهام 3 / 328 .
13- (14) ریاض المسائل 8 / 433 .
14- (15) مفتاح الکرامة 4 / 530 - (14 / 99) .
15- (1) الجواهر 23 / 381 .

المزبور مع احتمال العلّة فیه إقناعیّة لما تسمع فی المشترک الجزئی ، ظاهر فی نحو المشترک الجنسی الذی هو بین المسلمین ، لا مثل المشترک بین شخصین مثلاً»(1) .

ولکن الصحیح مذهب المشهور من ثبوت الربابین العبد المشترک ومالکیه لحسنة زرارة ومحمد بن مسلم الماضیة ، وما ذکره صاحب الجواهر فی توجیهها غیر ظاهر .

وأمّا العبد المبعّض الذی بعضه رقّ وبعضه حرّ أیضاً ملحق بالمشترک ، فلا یجوز أخذ الربا منه ، خلافاً لما مال إلیه صاحب الجواهر(2) .

وأمّا القنّ والمدبَّر وأم الولد والمکاتب بقسمیه(3) فیدخل فی الاستثناء من حکم الربا ،فیجوز أخذ الربا منهم ، إلاّ إذا دخل الآخر فی المبعّض ، فیجری فیه حکمه .

وهکذا لا فرق بین کون المالک رجلاً أو امرأة کما هو الظاهر من « لفظ السید » الوارد فی الحسنة . و « الرجل » الوارد فی صحیحة علی بن جعفر لا یختص الحکم به . وذهب إلی ما ذکرناه الفقیه الیزدی فی عروته ، ولکن قال : « وإن کان الأحوط الاقتصار علی الأوّل»(4) . ولا وجه لهذا الإحتیاط إلاّ حسنه الذاتی وأنّه حسن علی کلِّ حالٍ وطریق النجاة ، أو التمسک بصحیحة علی بن جعفر الماضیة .

ج : لا ربا بین الرجل وزوجته

تدلّ علیه بعد الإجماع حسنة زرارة(5) وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم(6) ومرسلة

ص:109


1- (2) الجواهر 23 / 381 .
2- (3) الجواهر 23 / 381 .
3- (4) قال المحقق فی الشرائع : « الکتابة قسمان : مشروطة ومطلقة ، المطلقة أن یقتصر علی العقد وذکر الأجل والعوض والنیّة ، والمشترطة : أن یقول مع ذلک « فإن عجزت فأنت رُدُّ فی الرق » ، فمتی عجز کان للمولی ردّه رقاً ولا یعید علیه ما أخذ» . شرائع الاسلام 3 / 96 .
4- (5) العروة الوثقی 6 / 72 المسألة 52 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
6- (7) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .

الصدوق(1) السابقة الذکر ، علی أنّ المراد بالأهل فی الأوّلتین الزوجة کما هو الظاهر .

ولا فرق فی الزوجة بین المعقودة بالعقد الدائم والموقت لصدق الزوجیة والأهلیة فی زمان العقد . وذهب إلیه الشهید فی الدروس(2) واللمعة(3) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(4) والشهید الثانی فی المسالک(5) والروضة(6) . وصاحبا الجواهر(7) والعروة(8) .

وأمّا العلامة الحلی فی التذکرة(9) فذهب إلی ثبوت الربا بین الرجل وبین زوجته بالعقد المنقطع ، وتبعه الأردبیلی فی مجمع الفائدة(10) والسید الطباطبائی فی الریاض(11) مع اعترافه بأنّ أکثر الأصحاب عمّموا الزوجة للمنقطع(12) ، والسید العاملی فی مفتاح الکرامة(13) .

والحق هو الإلحاق والظهور کما مرّ منّا .

نعم ، الأمر مشکل بالنسبة إلی المتمتع بها إذا کان زمانها قلیلاً ، نحو ساعة أو ساعتین ویوم أو یومین ، لا لعدم صدق الزوجة علیها فی زمان العقد ، بل لعدم صدق عنوان الأهل المأخوذ فی الحسنتین الماضیتین . فلذا الأمر بالنسبة إلیها مشکل ، ولیس للإجماع إطلاق حتّی

ص:110


1- (8) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .
2- (1) الدروس 3 / 299 .
3- (2) اللمعة / 193 .
4- (3) جامع المقاصد 4 / 280 .
5- (4) مسالک الأفهام 3 / 327 .
6- (5) الروضة البهیة 3 / 439 .
7- (6) الجواهر 23 / 381 .
8- (7) العروة الوثقی 6 / 73 المسألة 53 .
9- (8) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
10- (9) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 490 .
11- (10) ریاض المسائل 8 / 434 .
12- (11) ریاض المسائل 8 / 435 .
13- (12) مفتاح الکرامة 4 / 531 - (14 / 102) .

یشمل المقام ، فحینئذ یجری دلیل حرمة الربا فیها ، والإحتیاط أیضاً یقتضی الترک .

وأمّا المطلّقة الرجعیّة فهنا فی حکم الأجنبیّة ، إذ یمنع صدق الأهل علیها ، فلا یلحقها حکم الجواز . کما فی الجواهر(1) والعروة(2) .

ثم یجوز أخذ الزیادة لکلِّ واحد منهما من صاحبه ، کما اعترف به العلامة فی تذکرة الفقهاء(3) .

د : یجوز الربا بین المسلم والحربی إذا أخذه المسلم

تدلّ علیه بعد الإجماع(4) عدّة من الروایات :

منها : خبر عمرو بن جمیع عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لیس بیننا وبین أهل حربنا ربا ، نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطیهم(5) .

الروایة رواها المشایخ الثلاثة(6) وفی سندها ضعف بعمرو بن جمیع ، ولکن الشهرة علی طبقها وجابر لضعف سندها کما قال صاحب الجواهر : « والضعف غیر قادح بعد الإنجبار »(7) .

ودلالتها علی جواز أخذ الربا من الحربی وعدم جواز إعطائها واضحة .

ویمکن المناقشة فی الإنجبار بأنّ من الممکن أن یکون استناد المشهور بالإجماع أو بأن الحکم علی طبق القاعدة ، فلا یحرز استنادهم بالروایة .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : لیس بین المسلم وبین الذمی ربا ، ولا بین المرأة وبین زوجها رباً(8) .

ص:111


1- (13) الجواهر 23 / 382 .
2- (14) العروة الوثقی 6 / 73 .
3- (15) تذکرة الفقهاء 10 / 207 .
4- (1) المذکور فی مفتاح الکرامة 4 / 531 (14 / 102) و الجواهر 23 / 382 .
5- (2) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 2 .
6- (3) الکافی 5 / 147 ح 2 - الفقیه 3 / 277 ح 4000 - التهذیب 7 / 18 ح 77 .
7- (4) الجواهر 23 / 382 .
8- (5) الفقیه 3 / 287 ح 4002 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .

بناءً علی حملها علی الذمی الذی خرج من شرائط الذمة کما حملها العلامة فی المختلف(1) ، وقال فی الریاض : « حمل الأصحاب المرسلة علی خروج الذمی عن شرائط الذمة »(2) فلذا تدلّ علی جواز أخذ الربا بین المسلم والحربی ، لأنّ الذمی إذا خرج من شرائط الذمة ولم یف بها صار حربیّاً . مضافاً إلی أنّ أخذ الربا من الذمی إذا کان جائزاً بطریق أولی تدلّ علی جواز أخذه من الحربی حتّی إذا لم تحمل المرسلة علی ما حملها الأصحاب .

ومنها : ما فی کتابی الفقه الرضوی والمقنع : لیس بین الوالد وولده ربا ولا بین الزوج والمرأة ربا ، ولا بین المولی والعبد ، ولا بین المسلم الذمی(3) .

بالتقریب الذی مرّ فی الروایة السابقة .

فحینئذٍ یجوز للمسلم أخذ الربا من الحربی ، ولکن لا یجوز إعطاؤه أیّاه ، کما یدلّ علیه

خبر عمرو بن جمیع وعلیه المشهور بل الإجماع ، بلا فرق فی ذلک بین دار الإسلام ودار الحرب ، لإطلاق الخبر وصریح فتوی المشهور .

ویؤیّد هذا الإستثناء من حرمة الربا ، عدم حرمة مال الحربی کعرضه ودمه ، فلذا یجوز للمسلم استنقاذ ماله بأیِّ وجهٍ یمکن ذلک ، ومنها : أخذ الربا منه .

وأمّا أخذ المسلم الربا من الذمی هل یجوز أم لا ؟ ذهب إلی جوازه والد الصدوق(4) وولده(5) والمفید(6) والمرتضی وادعی علیه الإجماع(7) والقطیفی(8) ، وإلی عدم جوازه

ص:112


1- (6) مختلف الشیعة 5 / 82 .
2- (7) ریاض المسائل 8 / 435 .
3- (8) الفقه الرضوی / 285 والمقنع / 126 ونقلا عنهما فی مستدرک الوسائل 13 / 339 ح 1 وجامع أحادیث الشیعة 23 / 208 ح 3 .
4- (1) نقل عنه العلامة فی مختلف الشیعة 5 / 81 .
5- (2) المقنع / 126 .
6- (3) نقل عنه ابن إدریس فی السرائر 2 / 252 والعلامة فی المختلف 5 / 81 ، ولکن قال السید العاملی فی مفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 108) : « ولم أجد له ذکراً فی المقنعة » .
7- (4) الانتصار / 442 .
8- (5) إیضاح النافع / مخطوط ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 108) .

المشهور(1) .

والصحیح ما ذهب إلیه المشهور من ثبوت الربا بین المسلم والذمی ، لما مرّ من حمل مرسلة الصدوق وعبارتی الفقه الرضوی والمقنع علی الذمی الذی خرج من شرائط الذمة وبخروجه منها صار حربیّاً .

مضافاً إلی ورود إطلاقات حرمة الربا ، وتدلّ علی ثبوت الربا بینهما :

حسنة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فیما بینک وبین ما لا تملک .

قلت : فالمشرکون بینی وبینهم ربا ؟ قال : نعم . قال : قلت : فإنّهم ممالیک ، فقال : إنّک لست تملکهم إنّما تملکهم مع غیرک ، أنت وغیرک فیهم سواء ، فالذی بینک وبینهم لیس من ذلک ، لأنّ عبدک لیس مثل عبدک وعبد غیرک(2) .

ومثلها حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عنه علیه السلام (3) .

الروایتان من حیث السند حسنتان کما مرّ منّا سابقاً ، وأمّا دلالتهما علی حرمة أخذ الربا من المشرکین واضحة والقدر المتیقّن منهم أهل الذمة ، فلا یجوز أخذ الربا من أهل الذمة

کما علیه المشهور .

وأمّا المُعاهَد هل یلحق بالحربی أم بالذمی ؟ قال بإلحاقه بالحربی العلاّمة فی التذکرة(4) والمحقق الکرکی فی جامع المقاصد(5) والشهید الثانی فی المسالک(6) والسید العاملی فی مفتاح

ص:113


1- (6) مسالک الأفهام 3 / 328 ومفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 105) وریاض المسائل 8 / 435 والجواهر 23 / 383 .
2- (7) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (8) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 208 .
5- (2) جامع المقاصد 4 / 281 .
6- (3) مسالک الأفهام 3 / 328 .

الکرامة(1) وصاحبا الجواهر(2) والعروة(3) .

ولکن المحقق الأردبیلی قال بعدم إلحاقه بالحربی وثبوت الربا بین المسلم والمعاهد فی مجمع الفائدة والبرهان(4) .

واستدلّ العلامة لإلحاق المعاهد بالحربی بقوله : « لأنّه (أی المعاهد) فی الحقیقة فیء للمسلمین وقد بذل ماله بإذنه للمسلم ، فجاز له أخذه منه حیث أزال أمانه عنه ببذله له »(5) .

وقال المحقق الثانی فی تقریب هذا الاستدلال : « ولا فرق بین کونه معاهداً أم لا ، لأنّ الحربی فیءٌ لنا ، وأمانه وإن منع من أخذ ماله بغیر حقٍّ ، إلاّ أنّه إذا رضی بدفع الفضل انتقض أمانه فیه ، نبّه علیه فی التذکرة »(6) .

أقول : هذا الاستدلال من العلمین تام ، مضافاً إلی أنّ إطلاق الحربی یشمل المعاهد ، فیجوز أخذ الربا منه ولا مانع من أخذ ماله بعد رضایته به .

وحیث کان أهل الکتاب الموجودون الیوم بین المسلمین لیسوا من أهل الذمة - لعدم وجود عقد ذمة بینهم وبین المسلمین وعدم مراعاتهم شرائط الذمة - فإنّهم معاهدون ، فیجوز أخذ الربا منهم ولا یجوز إعطاؤهم الربا .

نعم ، دماؤهم وأعراضهم وأموالهم محترمة بالعهد والأمان . واللّه سبحانه هو العالم .

هذا تمام الکلام فی مستثنیات الربا ، والحمد للّه ربّ العالمین .

الثالث : یجوز بیع درهم ودینار ، بدینارین ودرهمین

هذه إحدی الحیل للفرار من الربا ، ولکن هل یختص ببیع الصرف أو یمکن التعدی منه

إلی غیره ؟

ص:114


1- (4) مفتاح الکرامة 4 / 531 - (14 / 109) .
2- (5) الجواهر 23 / 382 .
3- (6) العروة الوثقی 6 / 73 .
4- (7) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 490 .
5- (8) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
6- (9) جامع المقاصد 4 / 281 .

ظاهر بعض الروایات اختصاصها بالصرف ، ولکن الأصحاب قدس سرهم تعدوا منه إلی غیر النقدین من الأجناس الربویة .

قال المحقق : « یجوز بیع درهم ودینار بدینارین ودرهمین ویُصرف کلّ واحد منهما إلی غیر جنسه ، وکذا لو جعل بدل الدینار أو الدرهم شیء من المتاع وکذا مُدَّ من تمرٍ ودرهمٍ بمدّین أو أمدادٍ ودرهمین أو دراهم »(1) .

وقال تلمیذه العلامة فی القواعد : « لو اشتمل أحد العوضین علی جنسین ربویین صح بیعهما بأحدهما مع الزیادة ، کمُدّ تمرٍ ودرهمٍ بمدّین ، أو بدرهمین ، أو بمدّین ودرهمین »(2) .

وقال فی التذکرة : « یجوز بیع الجنسین المختلفین بأحدهما إذا زاد علی ما فی المجموع من جنسه بحیث تکون الزیادة فی مقابلة المخالف ، وذلک کمُدّ عَجْوَةٍ(3) ودرهم بمُدَّیْ عجوة أو بدرهمین أو بمُدَّیْ عجوة ودرهمین ، عند علمائنا أجمع - وبه قال ابو حنیفة - حتّی لو باع دیناراً فی خریطة بمائة دینار جاز ، لنا : الأصل السالم عن معارضة الربا ، لأنّ الربا هو بیع أحد المثلین بأزید منه من الآخر والمبیع هنا المجموع وهو مخالف لأفراده ، وما رواه» - ثمّ ذکر بعض الروایات الورادة فی المقام واستدل علی الجواز ثم قال : « وقال الشافعی : لا یجوز ذلک کلّه ، وبه قال أحمد لأنَّ ... »(4) .

وقال المحقق الثانی فی شرح قول العلاّمة فی القواعد : « لا یخفی أن قوله : (صح بیعهما بأحدهما مع الزیادة) لا یتناول بیعهما بالجنسین معاً ، إلاّ إذا جعلنا الزیادة بحیث تتناول الجنس الآخر ، وهذا الحکم بإجماعنا ، ومنعه بعض العامة لحصول التفاوت»(5) .

وقال الشهید الثانی فی ذیل قول المحقق : « هذا الحکم موضع وفاق بین أصحابنا ، وخالف فیه الشافعی محتجّاً بحصول التفاوت عند المقابلة علی بعض الوجوه ، کما لو بیع مدّ

ص:115


1- (1) الشرائع 2 / 41 .
2- (2) القواعد 2 / 62 .
3- (3) العَجْوَةُ والعُجَاوَة : التمرُ المحشِیُّ فی وعائه .
4- (4) تذکرة الفقهاء 10 / 181 و 182 مسألة 92 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 274 .

ودرهم بمدّین ، والدرهم ثمن لمدّ ونصف بحسب القیمة الحاضرة ، وجوابه أنّ الزیادة حینئذ بمقتضی التقسیط لا البیع ، فإنّه إنّما وقع علی المجموع بالمجموع »(1) .

وقال الأردبیلی : « ومستند الإجماع عموم أدلة الجواز مع عدم تحقق الربا ، لأنّه إنّما یکون فی بیع أحد المتجانسین المقدَّرین بالکیل أو الوزن ، متفاضلین أو نسیئة بالآخر ، وهنا لیس کذلک ، لأنّ المرکب من الجنسین لیس بجنس واحد ، وهو ظاهر .

ولاحتمال أن یکون المقابل للمجانس ما یساویه قدراً من جنسه ویبقی الباقی فی مقابل غیر المجانس وإن کان أضعاف ذلک فلا یحصل الربا ، وهو ظاهر . وبالجملة : الأمر إذا احتمل الصحة محمول علیها ... »(2) .

قال السید العاملی فی مفتاح الکرامة فی شرح کلام العلامة فی القواعد : « قد نص علی جواز ذلک المبسوط(3) والخلاف(4) والغنیة(5) والسرائر(6) والشرائع(7) والنافع(8) والتحریر(9) والتذکرة(10) والإرشاد(11) ونهایة الإحکام(12) وکنز الفوائد(13) والإیضاح(14)

ص:117


1- (6) مسالک الافهام 3 / 330 .
2- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 487 .
3- (2) المبسوط 2 / 92 .
4- (3) الخلاف 3 / 61 .
5- (4) غنیة النزوع / 225 .
6- (5) السرائر 2 / 264 .
7- (6) شرائع الإسلام 2 / 41 .
8- (7) المختصر النافع / 128 .
9- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 310 .
10- (9) تذکرة الفقهاء 10 / 181 .
11- (10) إرشاد الأذهان 1 / 379 .
12- (11) نهایة الإحکام 2 / 548 .
13- (12) کنز الفوائد 1 / 442 .
14- (13) ایضاح الفوائد 1 / 487 .

والدروس(1) واللمعة(2) وحواشی الشهید وکفایة الطالبین(3) وجامع المقاصد(4) وحاشیة الارشاد(5) والمیسیة والروضة(6) والمسالک(7) ومجمع البرهان(8) والکفایة(9) والمفاتیح(10) ، وقد

حکی علیه الإجماع فی الخلاف والغنیة والتذکرة وجامع المقاصد وحاشیة الارشاد والمسالک وظاهر نهایة الإحکام والإیضاح وکنز الفوائد ، مضافاً إلی الأصل والعمومات و ... »(11) .

وقال فی الجواهر : « إذهو وإن لم یکن فی کلٍّ منهما جنس یخالف الآخر ، إلاّ أنّ الزیادة تکون فی مقابل الجنس المخالف فی أحدهما ، فهو فی الصحة حینئذ کذی الجنسین . ولا خلاف بیننا فی الجمیع ، بل الإجماع بقسمیه علیه ، بل المحکی منه مستفیض جداً إن لم یکن متواتراً ، مضافاً إلی الأصل والعمومات و ... »(12) .

أقول : فالحکم عندنا إجماعی ولم یخالف فیه أحد من أصحابنا ، وبه قال أبو حنیفة(13) کما مرّ

ص:117


1- (14) الدروس 3 / 298 .
2- (15) اللمعة / 126 .
3- (16) کفایة الطالبین / 37 .
4- (17) جامع المقاصد 4 / 274 .
5- (18) حاشیة إرشاد الاذهان المطبوعة ضمن حیاة المحقق الکرکی وآثاره 9 / 411 .
6- (19) الروضة البهیة 3 / 441 .
7- (20) المسالک 3 / 330 .
8- (21) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 486 .
9- (22) الکفایة 1 / 501 .
10- (23) مفاتیح الشرائع 3 / 63 .
11- (1) مفتاح الکرامة 4 / 521 و 522 - (14 / 72 - 70) .
12- (2) الجواهر 23 / 391 .
13- (3) حلیة العلماء 4 / 170 والحاوی الکبیر 5 / 113 والتهذیب للبغوی 3 / 347 .

قوله عن العلامة فی التذکرة(1) ، وخالف فیه أحمد والشافعی(2) کما مرّ خلاف الشافعی عن ثانی الشهیدین فی المسالک(3) وخلافهما عن العلامة فی التذکرة(4) .

وتدلّ علی الحکم - مضافاً إلی الإجماع والأصل وعمومات صحة البیع - النصوص المستفیضةُ :

منها : موثقة أبی بصیر قال : سألته عن السیف المفضَّض یباع بالدراهم ؟ فقال : إذا کانت فضته أقل من النقد فلا بأس ، وإن کانت أکثر فلا یصلح(5) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن بیع السیف المحلّی بالنقد ؟ فقال : لا بأس به . قال : وسألته عن بیعه بالنسیئة ؟ فقال : إذا نقد مثل ما فی فضّته فلا بأس به أو لیعطی الطعام(6) .

وهاتان الروایتان لا تختصان بالصرف کما تری .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألته عن الصرف فقلت له : الرفقة ربما عجّلت فخرجت فلم نقدر علی الدمشقیة والبصریة وإنّما یجوز نیسابور الدمشقیة والبصریة ، فقال : وما الرفقة ؟ فقلت : القوم یترافقون ویجتمعون للخروج ، فإذا عجلوا فربّما لم یقدروا علی الدمشقیة والبصریة ، فبعثنا بالغلة فصرفوا ألفاً وخمسین منها بألف من الدمشقیة والبصریة ، فقال : لا خیر فی هذا ، أفلا یجعلون فیها ذهباً لمکان زیادتها ، فقلت له : أشتری ألف درهم ودیناراً بألفی درهم ؟ فقال : لا بأس بذلک ، إنّ أبی کان أجرأ علی أهل المدینة منّی ، فکان یقول هذا ، فیقولون : إنّما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدینار لم یعط ألف درهم ولو جاء بألف درهم لم یعط ألف دینار ، وکان یقول لهم : نعم الشیء الفرار من الحرام إلی الحلال(7) .

ومنها : فی صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان محمد بن المنکدر یقول لأبی علیه السلام : یا أبا جعفر رحمک اللّه وإنّا نعلم أنک لو أخذتَ دیناراً والصرف بثمانیة عشر فدرتَ

ص:118


1- (4) تذکرة الفقهاء 10 / 181 .
2- (5) المغنی لابن قدامة 4 / 168 مسألة 2836 - الاُمّ 3 / 28 - مختصر المزنی / 77 .
3- (6) مسالک الأفهام 3 / 330 .
4- (7) تذکرة الفقهاء 10 / 182 .
5- (8) وسائل الشیعة 18 / 200 ح 8 . الباب 15 من أبواب الصرف .
6- (9) وسائل الشیعة 18 / 199 ح 3 .
7- (1) وسائل الشیعة 18 / 187 ح 1 . الباب 6 من أبواب الصرف .

المدینة علی أن تجد من یعطیک عشرین ما وجدتَه ، وما هذا إلاّ فرار ، فکان أبی یقول : صدقت واللّه ، ولکنّه فرار من باطل إلی حقّ(1) .

ومنها : صحیحة ثالثة له قال : سألته عن رجل یأتی بالدراهم إلی الصیرفی فیقول له : آخذ منک المائة بمائة وعشرة أو بمائة وخمسة حتّی یراوضه علی الذی یرید ، فإذا فرغ جعل مکان الدراهم الزیادة دیناراً أو ذهباً ، ثم قال له : راددتک البیع وإنّما اُبایعک علی هذا ، لأنّ الأوّل لا یصلح أو لم یقل ذلک ، وجعل ذهباً مکان الدراهم ، فقال : إذا کان آخر البیع علی الحلال فلا بأس بذلک ، قلت : فإن جعل مکان الذهب فلوساً ، قال : ما أدری ما الفلوس(2) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودینارین إذا دخل فیها دیناران أو أقل أو أکثر فلا بأس به(3) .

ومنها : صحیحة سعید بن یسار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان أبی بعثنی بکیس فیه ألف درهم إلی رجل صراف من أهل العراق ، وأمرنی أن أقول له : أن یبیعها ، فإذا باعها أخذ ثمنها ، فاشتری لنا بها دراهم مدنیة(4) .

هذه الصحیحة محمولة إمّا علی بیع الدراهم بالدنانیر ثم بیع الدنانیر بالدراهم المدنیة أو علی التساوی فی الوزن .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یجی ء إلی صیرفی ومعه دراهم یطلب أجود منها فیقاوله علی دراهمه فیزیده کذا وکذا بشیءٍ قد تراضیا علیه ، ثم یعطیه بعد دراهمه دنانیر ، ثم یبیعه الدنانیر بتلک الدراهم علی ما تقاولا علیه أوّل مرّة ؟ قال : ألیس ذلک برضا منهما جمیعاً ؟ قلت : بلی ، قال : لا بأس(5) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الدراهم بالدراهم وعن

ص:119


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 2 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 3 .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 4 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 5 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 6 .

فضل ما بینهما ؟ فقال : إذا کان بینهما نحاس أو ذهب فلا بأس(1) .

ومنها : صحیحة أبی الصباح الکنانی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقول للصائغ : صغ لی هذا الخاتم واُبدل لک درهماً طازجاً بدرهم غلّة ؟ قال : لا بأس(2) .

تلک عشرة کاملة من الروایات ، وأکثرها صحاح سنداً وواضحة دلالةً تدلّ علی جواز بیع درهم ودینار بدینارین ودرهمین ویصرف کلّ واحد منهما إلی غیر جنسه ، وهکذا تدلّ علی جواز بیع الجنسین الربویین مع الزیادة إذا کان فی البین جنس آخر غیرهما یقابل الزیادة وبعبارة اُخری : تدلّ علی کیفیة الفرار من الربا فی المثلیات ، وهی کما تری لا تختص بالصرف وإن کان أکثرها فیه ، ولکن موثقة أبی بصیر(3) وصحیحته(4) وصحیحة أبی الصباح الکنانی(5) عام یشمل الصرف وغیره .

فیمکن التعدی فی هذه الحیلة من الصرف إلی غیره من المبادلات والمعاملات الربویة ، کما ذهب إلیه المشهور من أصحابنا رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

تنبیهٌ : حکم الاُوراق النقدیة

أمّا الاُوراق النقدیة المتداولة فی البلاد المختلفة الیوم نحو : الریالات أو الدلارات أو الدنانیر أو الدراهم الورقیة أو غیرها ، فلیست من جنس النقدین ، فلذا لا یحتاج فی معاملة

بعضها من بعض بالزیادة أو النقیصة إلی هذه الحیلة المذکورة فی التخلص من الربا أو غیرها من الحیل التی تأتی ، لأنّها لیست من النقدین أو لیست من المکیل والموزون ، فیجوز بیع أحدها بالآخر بالزیادة ، بل یجوز بیع أحدها بنفسها بالزیادة ، نحو : إعطاء مائة وعشرة دلارات المفردة وأخذ مائة دلار فی ورقة واحدة .

ص:120


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 181 ح 7 و 18 / 163 ح 2 الباب 20 من أبواب الربا .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 195 ح 1 . الباب 13 من ابواب الصرف .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 200 ح 8 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 199 ح 3 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 195 ح 1 .

والحاصل ، لا تجری أحکام الربا فی الاُوراق النقدیة ، فیجوز بیع بعضها من بعض بالزیادة ، ولذا قال صاحب العروة : « الإسکناس معدود من جنس غیر النقدین له قیمة معینة ولا یجری علیه حکمهما ، فیجوز بیع بعضه ببعض أو بالنقدین متفاضلاً ... »(1) .

نعم ، لابد من أن یکون هذا البیع نقداً ، وأمّا إذا کانت نسیئة بالزیادة فیشکل الأمر فیها ، لتطرق شبهة الربا القرضی فیها ، لأنّ هذه المعاملة ظاهرها وإن کانت بیعاً ولکن واقعها من القرض الربوی ، فحینئذ تکون محرّمة وباطلة .

واللّه سبحانه هو العالم .

الرابع : یمکن التخلص من الربا بوجوهٍ :

منها : أن یبیع الجنس الربوی بثمن من غیر جنسه ثم یشتری الجنس الآخر بذلک الثمن أو بغیره ، کما إذا باع منّاً من الحنطة بألف دینار ثمّ اشتری منّین من الحنطة أیضاً بألف دینار أو أقل أو أکثر ثمّ تساقط الذمتین بمقدار المقابلة .

ومنها : ضمّ الضمیمة من غیر الجنس الربوی إلی الطرف الناقص أو الطرفین . کما مرّ مفصلاً فی الفرع السابق .

ومنها : أنْ یتبایعا بقصد کون المثل بالمثل وکون الزائد هبة .

ومنها : أن یهب کلّ من المتبایعین جنسه الآخر ، لکن من غیر قصد المعاوضة بین الهبتین واشتراط الهبة فی الهبة .

ومنها : أن یقرض کلّ منهما صاحبه ثمّ یتبارءا مع عدم الاشتراط .

ومنها : أن یصالح صاحب الزیادة مقدارها للآخر ویشترط علیه أن یبیعه کذا بکذا مثلاً بمثل . هذا فی البیع ، وفی القرض أن یصالح المقترض مع المقرض قبل القرض الزیادة بعوض جزئی أو بلا عوض ویشترط فی ضمن هذه المصالحة أن یقرضه مبلغ کذا إلی مدّة کذا .

وإذا کان الدین سابقاً وحلّ أجله ویرید أن یؤجّله إلی مدّة یجوز أن یصالحه بمقدار

ویشترط علیه أن یؤجله إلی تلک المدّة .

ص:121


1- (1) العروة الوثقی 6 / 74 مسألة 56 .

ذکر الفقیه الیزدی قدس سره هذه الحیل الشرعیة للتخلص من الربا فی العروة الوثقی(1) .

هذه الحیل المذکورة فی کلّیّتها تُلقیت بالقبول من قِبَلِ أصحابنا قدس سرهم ، کما علیه الشیخ الطوسی فی الخلاف(2) والمحقق فی الشرائع(3) والنافع(4) والعلامة فی التذکرة(5) والقواعد(6) والنهایة(7) والإرشاد(8) والتحریر(9) وابن زهرة الحلبی فی الغنیة(10) والشهید الأوّل فی الدروس(11) والشهید الثانی فی المسالک(12) والروضة البهیة(13) وأصحاب الکفایة(14) والریاض(15) والمفتاح(16) والجواهر(17) والعروة(18) .

قال سید الریاض : « بلا خلاف بین الطائفة بل علیه الاجماع فی الخلاف والغنیة

ص:122


1- (1) العروة الوثقی 6 / 75 المسألة 61 .
2- (2) الخلاف 3 / 61 .
3- (3) الشرائع 2 / 41 .
4- (4) المختصر النافع / 128 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 10 / 201 المسألة 98 .
6- (6) قواعد الأحکام 2 / 63 .
7- (7) نهایة الأحکام 2 / 548 .
8- (8) إرشاد الأذهان 1 / 379 .
9- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 312 .
10- (10) غنیة النزوع / 225 .
11- (11) الدروس 3 / 298 .
12- (12) مسالک الأفهام 3 / 332 .
13- (13) الروضة البهیة 3 / 445 .
14- (14) کفایة الأحکام 1 / 499 و 501 .
15- (15) ریاض المسائل 8 / 439 .
16- (16) مفتاح الکرامة 4 / 527 - (14 / 88 وما بعدها) .
17- (17) الجواهر 23 / 396 .
18- (18) العروة الوثقی 6 / 75 .

والمسالک والتذکرة وغیرها من کتب الجماعة هو الحجة »(1) .

وقال السید العاملی : « ولم أجد من تأمل أو توقف [ فی هذه الحیل ] سوی المولی الأردبیلی علی ما لعلّه یتوهم منه ... »(2) .

أقول : أذکر تمام کلام المحقق الأردبیلی حتّی یتبیّن لک تأمله أو توقفه فی المقام أو

عدمه ، ولذا قال السید العاملی : « علی ما لعلّه یتوهم منه» . قال الأردبیلی معلِّقاً علی بعض الحیل المذکورة فی الإرشاد بعد تقریبه وتوضیحه لها : « ... وینبغی الإجتناب عن الحیل مهما أمکن ، وإذا اضطر ما ینجیه عند اللّه ولا ینظر إلی الحیل وصورة جوازها ظاهراً لما عرفت من علّة تحریم الربا ، فکأنّه أشار فی التذکرة بقوله : « لو دعت الضرورة إلی بیع الربویات مستفضلاً ]متفاضلاً ] مع إتحاد الجنس »(3) الخ - وذکر الحیل منها ما تقدم -(4) .

نعم قال قبل ثلاثین صفحة : « بل هذا یدلّ علی عدم جواز أکثر الحیل التی تُستعمل فی إسقاط الربا ، فافهم »(5) .

فیصح بأن یجعل المحقق الأردبیلی قدس سره من المستشکلین فی الحیل الربویة .

وهکذا تبعه فی الردّ علی بعض الحیل الوحید البهبهانی قدس سره فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(6) ورسالته فی القرض بشرط المعاملة المحاباتیة المطبوعة ضمن رسائله الفقهیة(7) .

فهذان الفقیهان یردان علی بعض الحیل المذکورة ، وتبعهما من المتأخرین السید الخمینی قدس سره فی کتابه البیع(8) .

ص:123


1- (19) ریاض المسائل 8 / 439 .
2- (20) مفتاح الکرامة 4 / 527 - (14 / 89) .
3- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 201 المسألة 98 .
4- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 488 .
5- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 453 .
6- (4) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 290 .
7- (5) الرسائل الفقهیة / (294 - 239) للوحید البهبهانی .
8- (6) کتاب البیع 2 / 406 طبعة اسماعیلیان .

ولم یرد علی هذه الحیل بعدم ترتب القصد إلی هذه العقود ، وأجاب الفقهاء عن هذا الإشکال :

ولعلّ أوّل من أجاب عن هذا الإشکال ثانی الشهیدین قال : « ولا یقدح فی ذلک کون هذه الاُمور غیر مقصودة بالذات والعقود تابعة للقصود ، لأنّ قصد التخلص من الربا إنّما یتمّ مع القصد إلی بیع صحیح أو قرض أو غیرهما من الأنواع المذکورة ، وذلک کافٍ فی القصد ، إذ لا یُشترط فی القصد إلی عقد قصد جمیع الغایات المترتبة علیه ، بل یکفی قصد غایة صحیحة من غایاته ، فإنّ من أراد شراء دار مثلاً لیؤاجرها ویکتسب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة ، وإن کان لشراء الدار غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر فی نظر العقلاء . وکذا القول فی غیر ذلک من أفراد العقود »(1) .

وقال السید الریاض : « ولا یقدح فی ذلک کون هذه الاُمور غیر مقصودة بالذات والعقود تابعة للقصود ، لأنّ القصد إلی عقد صحیح وغایة صحیحة کافیة فی الصحة ، ولا یُشترط فیه قصد جمیع الغایات المترتبة علیه ، فإنّ من أراد شراء دار مثلاً لیؤاجرها ویتکسّب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة وإن کان له غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر فی نظر العقلاء کالسکنی وغیره »(2) .

قال السید العاملی : « وقالوا فی المقام : ولا یُقدح فی ذلک کلّه کون هذه العقود - أی الإتهاب والإقتراض والإبراء - غیر مقصودة بالذات ، مع أنّ العقود أی الصیغ تابعة للقصود ، لأنّ قصد التخلص من الربا الذی لا یتمّ إلاّ بالقصد إلی بیع صحیح أو قرض أو غیرهما کافٍ فی القصد إلیها ، لأنّ ذلک غایة مترتبة علی صحة العقد مقصودة ، فیکفی جعلها غایة ، إذ لایعتبر قصد جمیع الغایات المترتبة علی العقد ، فإنّ من أراد شراء دار لیؤجرها ویکتسب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة وإن کان لشراء الدار غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر ... »(3) .

وأجاب عن هذا الإشکال صاحب الجواهر أیضاً : « وکیف کان فلا یناقش فی هذه

ص:124


1- (7) مسالک الأفهام 3 / 332 .
2- (1) ریاض المسائل 8 / 441 .
3- (2) مفتاح الکرامة 4 / 529 - (14 / 94) .

الحیل بعدم قصد هذه الاُمور أوّلاً وبالذات ، ومن المعلوم تبعیة العقود للقصود ، لاندفاعها بالمنع من عدم القصد ، بل قصد التخلص من الربا المتوقف علی قصد الصحیح من البیع والقرض والهبة وغیرها من العقود کافٍ فی حصول ما یحتاج إلیه البیع من القصد ، إذ لا یُشترط فی القصد إلی قصد جمیع الغایات المترتبة ، بل یکفی قصد غایة من غایاته ، واللّه أعلم »(1) .

أقول : هذا المقال منهم قدس سرهم تام ، وتدلّ علی صحة هذه الحیل عدّة من الروایات :

منها : ذیل صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج ، وفیها : کان یقول [ أبو جعفر علیه السلام [ لهم : نعم الشیء الفرار من الحرام إلی الحلال(2) .

ومنها : صحیحته الاُخری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان محمد بن المنکدر یقول لأبی علیه السلام : یا أبا جعفر رحمک اللّه ، واللّه إنّا لنعلم أنّک لو أخذت دیناراً والصرف بثمانیة عشر فدرتَ المدینة علی أن تجد من یعطیک عشرین ما وجدته ، وما هذا إلاّ فراراً ، فکان أبی یقول :

صدقت واللّه ولکنّه فرارٌ من باطل إلی حقٍّ(3) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل رجل له مال علی رجل مِنْ قِبَلِ عینة عیّنها إیّاه ، فلمّا حلّ علیه المال لم یکن عنده ما یعطیه ، فأراد أن یقلب علیه ویربح أیبیعه لؤلؤاً أو غیر ذلک ما یسوی مائة درهم بألف درهم ویؤخّره ؟ قال : لا بأس بذلک ، قد فعل ذلک أبی رضی الله عنه وأمرنی أن أفعل ذلک فی شیءٍ کان علیه(4) .

ومنها : صحیحة عبد الملک بن عتبة الصیرفی قال : سألته عن الرجل یرید أن اُعینه المال أو یکون لی علیه مال قبل ذلک ، فیطلب منّی مالاً أزیده علی مالی الذی لی علیه ، أیستقیم أن أزیده مالاً وأبیعه لؤلؤة تسوی مائة درهم بألف درهم فأقول :

أبیعک هذه اللؤلؤة بألف درهم علی أن اُؤخرک بثمنها وبمالی علیک کذا وکذا شهراً ؟ قال :

ص:125


1- (3) الجواهر 23 / 397 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 178 ح 1 . الباب 6 من أبواب الصرف .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 2 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 54 ح 3 . الباب 9 من أبواب أحکام العقود .

لا بأس(1) .

ومنها : موثقة بل صحیحة محمد بن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : یکون لی علی الرجل دراهم فیقول : أخّرنی بها وأنا أربحک ، فأبیعه جبّةً تقوم علیَّ بألف درهم ، بعشرة آلاف درهم ، أو قال : بعشرین ألفاً واُؤخره بالمال ، قال : لا بأس(2) .

ومنها : خبر محمد بن إسحاق بن عمار قال : قلت للرضا علیه السلام : الرجل یکون له المال قد حلَّ علی صاحبه یبیعه لؤلؤة تسوی مائة درهم بألف درهم ویؤخّر عنه المال إلی وقت ؟ قال : لا بأس ، قد أمرنی أبی ففعلت ذلک ، وزعم أنّه سأل أبا الحسن علیه السلام عنها فقال له مثل ذلک(3) .

سند الروایة ضعیف بمحمد بن عبد اللّه بن مغیرة لأنّه مهمل فی الرجال ، ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : خبر آخر له قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ سلسبیل طلبتْ منّی مائة ألف درهم علی أن تربحنی عشرة آلاف ، فأقرضها تسعین ألفاً وأبیعها ثوباً وشیّاً تقوّم علیَّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم ؟ قال : لا بأس .

قال الکلینی : وفی روایة اُخری لا بأس به : أعطها مائة ألف وبعها الثوب بعشرة آلاف واکتب علیها کتابین(4) .

سند الروایة ضعیف بعلی بن حدید . الثوب الوشی : ثوب یکون له نقش من کلّ لون ، وکان معروفاً فی تلک الأعصار . وسلسبیل : اسم امرأة .

ودلالتها واضحة . ولعلّ المراد بکتابة الکتابین أن یجعلهما فی عقدین مستقلین ، کما هو الظاهر .

ومنها : خبر الحسن بن صدقة المدائنی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : قلت له :

ص:126


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 5 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 4 .
3- (5) الکافی 5 / 205 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 55 ح 6 .
4- (1) الکافی 5 / 205 ح 9 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 54 ح 1 .

جعلت فداک إنّی أدخل المعادن وأبیع الجوهر بترابه بالدنانیر والدراهم ، قال : لا بأس به . قلت : وأنا أصرف الدراهم بالدراهم وأصیّر الغلة وضحاً وأصیّر الوضح غلّة ، قال : إذا کان فیها دنانیر فلا بأس .

قال : فحکیت ذلک لعمار بن موسی الساباطی قال : کذا قال لی أبوه ، ثم قال لی أبوه ، ثم قال لی : الدنانیر أین تکون ؟ قلت : لا أدری ، قال عمار : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : تکون مع الذی ینقص(1) .

الروایة ضعیفة سنداً بالسندی بن الربیع ، لأنّه إمامی مجهول . ومحمد بن سعید المدائنی ، لأنّه مهمل . والمراد بالغلّة : الدراهم المغشوشة . وبالوضح : الدرهم الصحیح غیر المغشوش . ودلالتها واضحة وفی الفرع الأوّل یعنی بیع الجوهر بترابه بالدنانیر والدراهم معاً . وراجع فی هذا المجال ما ورد من الروایات فی الباب 11 من أبواب الصرف(2) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الدراهم وعن فضل ما بینها ؟ فقال : إذا کان بینها نحاس أو ذهب فلا بأس(3) .

السند ضعیف بعلی بن أبی حمزة البطائنی ، ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : حسنة أبی بکر الحضرمی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : یکون لی علی الرجل الدراهم فیقول لی : بعنی شیئاً أقضیک ، فأبیعه المتاع ثمّ اشتریه منه وأقبض مالی ؟ قال : لا بأس(4) .

سند الروایة حسنٌ بل معتبر ، لأنّ المراد بعلی بن إسماعیل هو ابن عمار فی أعلی درجة الحسن . وأبو بکر الحضرمی هو عبد اللّه بن محمّد ثقة علی الأقوی . وغیرهما من رجال السند ثقات . ودلالتها علی الحیل ظاهرة ، ونحوها فی الدلالة صحیحة اُخری لأبی بکر الحضرمی(5) .

ص: 127


1- (2) التهذیب 7 / 117 ح 115 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 162 ح 1 . الباب 20 من أبواب الربا .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 188 .
3- (4) التهذیب 7 / 98 ح 28 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 163 ح 2 .
4- (5) الکافی 5 / 204 ح 5 .
5- (1) الکافی 5 / 204 ح 4 .

تلک عشرة کاملة من الروایات وفیها الصحاح ، والمتتبِّع یجد أکثر منها فی الجوامع الحدیثیة(1) . ومع ورود هذه الروایات المعتبرة وظهور دلالتها لابدّ من الأخذ بها والحکم بجواز الحیل مطلقاً ، بلا فرق بین أن یتخذ ذلک عادة أم لا ، وبلا فرق بین أن تدعو الضرورة إلی ذلک أم لا ، لإطلاق الروایات الماضیة .

ولا یمکن تخصیصها بمرفوعة معلی بن خنیس أنّه قال لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی أردتُ أن أبیع تبر ذهب بالمدنیة فلم یشتر منی إلاّ بالدنانیر ، فیصح لی أن أجعل بینها نحاساً ؟ فقال : إن کنت لابدّ فاعلاً فلیکن ونحاساً وزناً(2) .

لأنّها أوّلاً : مرفوعة سنداً ، وثانیاً : المراد بلا بدیّة الفعل هنا لیس ما یرادف الاضطرار ، لأنّه یبیح جمیع المحظورات ، بل المراد بها اللابدیّة العادیّة ، نحو التنمیّة الاقتصادیة وغیرها . فلا یمکن حمل هذه المرفوعة نفسها علی الاضطرار ، فکیف یمکن تقیید غیرها وحملها بها علی الاضطرار .

وأمّا اختصاص هذه الروایات بمبادلة المثلیات مع الزیادة کما فعله بعض المعاصرین(3) قدس سره فغیر تامٍ ، لإطلاق بعضها بل ، بعضها نص فی الربا القرضی أو المعاملی ، نحو معتبرة مسعدة بن صدقه(4) وصحیحة عبد الملک بن عتبة(5) وموثقة محمد بن إسحاق بن عمار(6) وحسنة أبی بکر الحضرمی(7) وصحیحته(8) .

ص: 128


1- (2) نحو خبر محمد بن سلیمان الدیلمی عن أبیه ، راجع وسائل الشیعة 18 / 56 ح 7 الباب 9 من أبواب أحکام العقود .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 189 ح 4 . الباب 11 من أبواب الصرف .
3- (4) کتاب البیع 2 / 408 وما بعدها للسید الخمینی قدس سره .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 54 ح 3 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 5 .
6- (7) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 4 .
7- (8) الکافی 5 / 204 ح 4 .
8- (9) الکافی 5 / 204 ح 5 .

وفی الواقع هذه الحیل خروجُ موضوعیّ عن الربا ، بلا فرق بین الربا القرضی والربا المعاملی ومبادلة المثلیات مع ا لزیادة ، وهی أحد مصادیق الربا المعاملی إذا کان المثلی من المکیل أو الموزون . فلا تنافی هذه الحیل مع الإطلاقات والعمومات الواردة فی حرمة الربا ، فیمکن الأخذ بها وإن کان الأحوط ترک الحیل فی غیر مقام الضرورة استحباباً ، والحمد للّه وهو العالم بأحکامه .

الخامس : ما یجب علی آخذ الربا ؟

آخذ الربا إمّا أن یکون کافراً أو مسلماً ، وإذا کان کافراً وأخذ الربا فی حال کفره ثمّ أسلم لا یجوز له أخذ ما بقی من الربا فی حال إسلامه لحرمته فی الإسلام ، وأمّا ما أخذ من الربا فی حال کفره فلا یجب ردّه ویجوز امتلاکه ، لقوله تعالی : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ»(1) ولقوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(2) ، ولما ورد فی مرسلة الطبرسی عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ الولید بن المغیرة کان یربی فی الجاهلیة وقد بقی له بقایا علی ثقیف ، وأراد خالد بن الولید المطالبة بعد أن أسلم فنزلت : «اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ» الآیات(3) .

ولم یأمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم آخذی الربا بردّ الأموال إلی أصحابها .

وتدلّ علیه قاعدة جبّ الإسلام ومرسلة اُخری للطبرسی عن أبی جعفر الباقر علیه السلام : من أدرک الإسلام وتاب ممّا کان عمله فی الجاهلیة وضع اللّه عنه ما سلف(4) .

والحاصل ، ما أخذه الکافر من الربا فی حال کفره یجوز امتلاکه بعد إسلامه مطلقاً ، أی بلا فرق بین کونه عالماً بالتحریم فی الإسلام أو جاهلاً به ، وبلا فرق بین کون الربا موجوداً بالفعل أو تالفاً ، ولکن الفاضل المقداد قدس سره ذهب إلی وجوب ردّه مع وجوده(5) ولکن ، الأقوی

ص:129


1- (1) سورة البقرة / 275 .
2- (2) سورة البقرة / 278 .
3- (3) مجمع البیان 2 / 392 ، ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 131 ح 8 . الباب 5 من أبواب الربا .
4- (4) مجمع البیان 2 / 390 .
5- (5) کنز العرفان 2 / 39 .

عدمه لما مرّ منّا .

نعم ، بعد إسلامه لا یجوز له أخذ ما بقی من الربا کما مرّ فی قضیة خالد بن الولید ولقوله تعالی : «اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(1) .

هذا کلّه إذا کان الآخذ کافراً ثم أسلم .

وأمّا إذا کان مسلماً فتارة یکون عالماً بالحکم والموضوع فهو آثم وعاص ویکون فعله حراماً ویجب علیه ردّ المال إلی صاحبه ، لأنّه عالم بالتحریم فهو عاص وتکون معاملته باطلةً فلم ینتقل المال إلیه ، فیجب علیه ردّ المال عیناً إلی صاحبه إن کان موجوداً ومثله أو قیمته إن کان تالفاً ، وهذا الحکم یکون بحسب القواعد ولا یحتاج إلی دلیل أزید من ذلک .

وتارة یکون آخذ الربا مسلماً ولکنّه کان جاهلاً بالحکم أو ببعض خصوصیاته ، کما إذا کان جاهلاً بأنّ الحنطة والشعیر جنس واحد فی الربا ، أو کان جاهلاً بالموضوع کما إذا باع شیئاً بالزیادة بتخیّل أنّه لیس من جنسه فبان أنّه کان من جنسه . وفی صورة الجهل مطلقاً - سواء کان بالحکم أو الموضوع - هل یکون ما أخذه حلالاً علی المسلم فلا یجب ردّه أم حراماً ویجب علیه ردّه أم یفرق بین کون المال موجوداً معروفاً فیجب ردّه ، وبین کونه تالفاً أو موجوداً مختلطاً بماله وغیر معروف فلا یجب الردُّ حینئذٍ ؟

وجوه بل أقوال :

ذهب إلی الحلیة وعدم وجوب الرد الصدوق فی الهدایة(2) والشیخ فی النهایة(3) والراوندی فی فقه القرآن(4) والمحقق فی النافع(5) والفاضل الآبی فی کشف الرموز(6) والأردبیلی

ص:130


1- (6) سورة البقرة / 278 .
2- (1) الهدایة / 316 .
3- (2) النهایة / 376 .
4- (3) فقه القرآن 2 / 47 .
5- (4) المختصر النافع / 127 .
6- (5) کشف الرموز 1 / 485 .

فی آیات أحکامه(1) والفاضل القطیفی فی إیضاح النافع(2) والبحرانی فی الحدائق(3) والسید الطباطبائی فی الریاض(4) ، وهو ظاهر السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) وصریح السید الیزدی فی العروة الوثقی(6) .

وذهب إلی الحرمة ووجوب الردّ جماعة من المتأخرین ، منهم : ابن إدریس الحلی فی السرائر(7) والعلامة فی تذکرة الفقهاء(8) والمختلف(9) ونهایة الأحکام(10) وولده فی الإیضاح(11) والشهید فی الدروس(12) والفاضل المقداد فی التنقیح(13) وکنز العرفان(14) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(15) ، ومال إلیه صاحب الجواهر(16) .

وذهب ابن الجنید الإسکافی کما نقل عنه العلامة فی المختلف(17) إلی وجوب الردّ إن کان

ص:131


1- (6) زبدة البیان / 434 .
2- (7) إیضاح النافع / کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 534 - (14 / 113) .
3- (8) الحدائق 19 / 222 .
4- (9) ریاض المسائل 8 / 411 .
5- (10) مفتاح الکرامة 4 / 536 - (14 / 113 وما بعدها) .
6- (11) العروة الوثقی 6 / 26 .
7- (1) السرائر 2 / 251 .
8- (2) تذکرة الفقهاء 10 / 210 .
9- (3) مختلف الشیعة 5 / 78 .
10- (4) نهایة الأحکام 2 / 554 .
11- (5) ایضاح الفوائد 1 / 480 .
12- (6) الدروس 3 / 299 .
13- (7) التنقیح الرائع 2 / 88 .
14- (8) کنز العرفان 2 / 39 .
15- (9) جامع المقاصد 4 / 282 .
16- (10) الجواهر 23 / 404 وما قبلها .
17- (11) مختلف الشیعة 5 / 78 .

المال موجوداً معروفاً وعدم وجوبه إن کان تالفاً أو مختلطاً بماله وغیر معروف . فهذه ثلاثة أقوال فی صورة الجهل ، ولابدّ من ملاحظة الأدلة حتّی تبیّن دلیل القول المختار :

أقول : ظاهر قوله تعالی «فَلَهُ مَا سَلَفَ»(1) عدم وجوب الردّ ، ویؤیده عدة من نصوص معتبرة :

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یأکل الربا وهو یری أنّه حلال ، قال : لا یضرّه حتّی یصیبه متعمداً ، فإذا أصابه متعمداً فهو بالمنزل الذی قال اللّه عزّ وجل(2) .

ونحوها صحیحة الحلبی(3) وصحیحة علی بن جعفر(4) . وهذه الصحاح فی نفی العقاب أظهر من عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل .

ومنها : صحیحة الحلبی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : کلّ ربا أکله الناس بجهالة ثمّ تابوا

فإنّه یقبل منهم إذا عرف منهم التوبة . وقال : لو أنَّ رجلاً ورث من أبیه مالاً وقد عرف أنّ فی ذلک المال ربا ولکن قد اختلط - فی التجارة - بغیره حلال کان حلالاً طیباً فلیأکله ، وإن عرف منه شیئاً أنّه ربا فلیأخذ رأس ماله ولیرد الربا ، وأیّما رجل أفاد مالاً کثیراً قد أکثر فیه من الربا فجهل ذلک ثمّ عرفه بعد فأراد أن ینزعه ، فما مضی فله ویدعه فیما یستأنف(5) .

ذیل الصحیحة تدلّ علی عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أتی رجل أبی علیه السلام فقال : إنّی ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذی ورثته منه قد کان یربی ، وقد أعرف أن فیه ربا واستیقن ذلک ، ولیس یطیب لی حلاله لحال علمی فیه ، وقد سألتُ فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا یحلّ أکله ، فقال أبو جعفر علیه السلام : إن کنت تعلم بأنّ فیه مالاً معروفاً رباً

ص:132


1- (12) سورة البقرة / 275 .
2- (13) وسائل الشیعة 18 / 128 ح 1 الباب 5 من أبواب الربا .
3- (14) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 6 .
4- (15) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 9 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 128 ح 2 .

وتعرف أهله فخذ رأس مالک وردّ ما سوی ذلک ، وإن کان مختلطاً فکله هنیئاً ، فإنّ المال مالک ، واجتنب ما کان یصنع صاحبه ، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قد وضع ما مضی من الربا وحرم علیهم ما بقی ، فمن جهل وسع له جهله حتّی یعرفه ، فإذا عرف تحریمه حرم علیه ووجب علیه فیه العقوبة إذا رکبه کما یجب علی من یأکل الربا(1) .

أقول : یمکن المناقشة فی دلالة الصحیحة علی عدم وجوب الردّ ، لأنه یمکن حملها علی نفی العقاب فقط ، وهو القدر المتیقَّن منها .

نعم ، لو کان صدرها مثل حسنة أبی الربیع الشامی الآتیة تدلّ علی عدم وجوب الرد .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أربی بجهالة ثمّ أراد أن یترکه ، قال : أمّا ما مضی فله ولیترکه فیما یستقبل . ثمّ قال : إنَّ رجلاً أتی أبا جعفر علیه السلام فقال : إنّی ورثت مالاً ، وذکر الحدیث نحوه(2) .

دلالة الحسنة علی عدم وجوب الردّ واضحة .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم قال : دخل رجل علی أبی جعفر علیه السلام من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّی کثر ماله ، ثم إنّه سأل الفقهاء ؟ فقالوا : لیس یقبل منک شیءٌ إلاّ أن تردّه إلی أصحابه ، فجاء إلی أبی جعفر علیه السلام فقص علیه قصّته ، فقال له أبو جعفر علیه السلام : مخرجک من کتاب اللّه : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی

اللّهِ»والموعظة : التوبة(3) .

وروی العیاشی مثلها فی تفسیره مرسلاً(4) .

ومنها : ما رواه أحمد بن محمد بن عیسی فی نوادره عن أبیه قال : إنّ رجلاً أربی دهراً من الدهر فخرج قاصداً أبا جعفر الجواد ، فقال له : مخرجک من کتاب اللّه یقول اللّه : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ» والموعظة هی التوبة ، فجهله بتحریمه ثمّ معرفته

ص:133


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 129 ح 3 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 4 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 7 .
4- (2) تفسیر العیاشی 1 / 277 ح 510 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 336 ح 1 .

به ، فما مضی فحلال وما بقی فلیتحفظ(1) .

الروایة صحیحة الإسناد ودلالتها واضحة .

ومنها : ما رواه أحمد بن محمد بن عیسی فی نوادره عن أبیه قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن ، ومن أکله جاهلاً بتحریمه لم یکن علیه شیءٌ(2) .

أقول : سند الروایة صحیح ، لأنّ محمد بن عیسی بن عبد اللّه بن سعد بن مالک الأشعری ، أبو علی ، شیخ القمیین ووجه الأشاعرة والمتقدم عند السلطان والداخل علی الرضا علیه السلام والراوی عن أبی جعفر الثانی علیه السلام . ویمکن نقله عن الإمام أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام المستشهد فی 25 شوال عام 148 إذا کان عمره قریباً من ثمانین سنة . وإن کان أکثر روایاته عن الصادق علیه السلام مع الواسطة .

وأمّا دلالتها : فجملة « لم یکن علیه شیءٌ » فی الروایة مطلقة تشمل نفی العقاب وعدم وجوب الردّ ، ولا دلیل لاختصاصها بالأوّل فقط .

فهذه الروایات المعتبرة تدلّ علی عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل بالربا ، ولابدّ من الأخذ بها بدعوی الحلیة تعبداً من جهة عذر الجهل وإن کانت المعاملة باطلة أو بدعوی صحة المعاملة إذا وقعت حال الجهل ، واختصاص البطلان بصورة العلم بالحرمة حال المعاملة کما علیه صاحب الحدائق(3) ولکنّه بعید .

وإطلاقها یدلّ علی عدم الفرق بین وجود المال وعدمه ، ولا بین صورة الاختلاط وعدمه ، ولا بین کون الطرف الآخر عالماً أو جاهلاً . وهکذا یدلّ علی عدم الفرق بین أقسام

الجاهل ، کما نبّه علیه صاحب العروة الوثقی قدس سره (4) .

ولکن مع ذلک کلّه استشکل صاحب الجواهر فی دلالة هذه النصوص ، فقال : « ولکن لا یخفی أنّه لا یصلح للفقیه الجرأة بمثل هذه النصوص التی لا یخفی علیک اضطرابها فی الجملة ،

ص:134


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 10 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 11 .
3- (5) الحدائق 19 / 216 .
4- (1) العروة الوثقی 6 / 30 .

وترک الاستفصال فیها عن الربا أن صاحبه کان جاهلاً بحرمته أو عالماً ، والأمر بالتوبة مع عدم الذنب حال الجهل الذی یعذر فیه ، بل قد اشترط فی الآیة الحلّ بها وحمله علی الجهل الذی لا یعذر فیه ینافیه ما فی خبر الباقر علیه السلام السابق من إلحاق مثله بالعالم ، وترک الإستفصال عن الربا فی القرض والبیع ، وقد عرفت الفرق بینهما ، وغیر ذلک علی مخالفته الضوابط السابقة ، والإقدام علی حلّ الربا الذی قد ورد فیه من التشدید ما ورد »(1) .

وأجابه صاحب العروة الوثقی بقوله : « فإنّ الاضطراب ممنوع ، ونلتزم بعدم الفرق بین کون الدافع عالماً أو جاهلاً ، وکثیراً ما یؤمر بالتوبة مع کون الشخص معذوراً بلحاظ الحرمة الواقعیة ، ونلتزم باشتراط التوبة فی الحلیة وبعدم الفرق بین القرض والبیع ونحوه ، والتشدید فی حرمة الربا مخصوص بصورة العلم والعمد فلا ینافی الحلیة حال الجهل ... »(2) .

وبالجملة ، هذه النصوص المعتبرة تدلّ علی حلیة الربا فی صورة الجهل وعدم وجوب الرد ، فلابدّ من أخذها والعمل علی طبقها کما ذهب إلیه بعض الأصحاب کما مرّ منّا ، ولذا قال سید الریاض : « وبالجملة الدلالة علی الحلّ فی غایة الوضوح جداً ... »(3) .

وقال السید العاملی بعد الإعتراف بأنّ القول بوجوب الردّ فی صورة الجهل أقعد بحسب القواعد(4) ، قال فی شأن بعض هذه النصوص : « وهذه الأخبار الثلاثة - أعنی صحیحة الحلبی وخبری أبی الربیع - کأنّها هی التی استند إلیها أبوعلی ، لکنّ سوقها کما سمعت أظهر فی الدلالة علی مختار الشیخ والصدوق من حیث تعلیل حلّ أکل الربا المختلط بوضع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ما مضی منه ، وهو واضح الدلالة علی أنّ المراد بما مضی نفس الربا فی حالة الجهل مطلقاً معروفاً أو مختلطاً ... »(5) .

وهکذا اعترف بوضوح هذه الأخبار صاحب العروة وقال : « وبالجملة لا وجه

ص:135


1- (2) الجواهر 23 / 401 .
2- (3) العروة الوثقی 6 / 30 .
3- (4) ریاض المسائل 8 / 413 .
4- (5) مفتاح الکرامة 4 / 534 - (14 / 114) .
5- (6) مفتاح الکرامة 4 / 536 - (14 / 119) .

للإعراض عن الأخبار المذکورة بعد وضوحها فی الدلالة علی الحلیة لأجل هذه الإشکالات والإحتمالات مع کون الأحکام الشرعیة تعبدیّة . فالأقوی جواز العمل بها ، وإن کان الأحوط الردّ إلی المالک مع کونه موجوداً معزولاً إذا عرف مالکه ، بل إجراء حکم مجهول المالک علیه مع عدم معرفته ، خصوصاً مع کونه جاهلاً بالحرمة أیضاً . وأحوط من ذلک ما ذکره المتأخرون من عدم الفرق بین الجاهل والعالم ... »(1) .

إلی هنا تمت مهمات بحث الربا المعاملی ، وبها تم بحث الربا بقسمیه علی سبیل الإجمال ، وللتفصیل محلاّن آخران وهما کتابی القرض والبیع . والحمد للّه أوّلاً وآخراً وهو العالم بأحکامه والصلاة علی محمّد وآله الطیبین الطاهرین المعصومین .

ص:136


1- (1) العروة الوثقی 6 / 31 .

الرشوة

موضوعها:

الروایات لم تتعرض لتعیین موضوع الرشوة ومفهومها وحقیقتها ، فلابدّ لمعرفتها والتحقیق عنها إلی مراجعة أهل اللغة والعرف وبیانات الأصحاب قدس سرهم :

1 - قال أحمد بن فارس : « رشی : الراء والشین والحرف المعتل أصل یدلُّ علی سببٍ أو تسبُّبٍ لشیءٍ برفق وملایَنَة ، فالرِّشاء : الحبل الممدود والجمع أرْشِیَة .

ویقال : للحنظل إذا امتدَّت أغصانه : قد أرشی ، یعنی أنّه صار کالأرشیة وهی الحبال ، ومن الباب : رشاه یرشُوهُ رَشْواً . والرشوة الاسمُ ، وتقول : تَرَشَّیْتُ الرجل : لایَنْتُه ، ومنه قول امری ء القیس : ترأشی الفؤاد .

ومن الباب استرشی الفصیلُ : إذا طلب الرّضاع ، وقد أرشیته إرشاءً .

وراشیتُ الرجل : إذا عاونْتَه فظاهَرْتَه ، والأصل فی ذلک کلّه واحد »(1) .

2 - وقال صاحب الصحاح : « الرشاء : الحبل ، والجمع أرشیة ، والرشوة معروفة ، والرُشوة بالضم مثله ، والجمع رِشاً ورُشاً »(2) .

3 - وقال الفیومی : « الرِشوة بالکسر : ما یعطیه الشخص الحاکم وغیره لیحکم له أو یحمله علی ما یرید ... والرشاء : الحبل والجمع أرشیة مثل کساء وأکسیة »(3) .

4 - قال الزمخشری : « ر ش و فلان یرتشی فی حکمه ویأخذ الرُِشوة والرُّشَی ، الرُّشَی رشاءُ النجاح ، ولعن اللّه الراشی والمرتشی ، ورشوته أرشوه ، وعن ثعلب : هو من رَشَا الفرخ

ص:137


1- (1) معجم مقاییس اللغة 2 / 397 .
2- (2) صحاح اللغة 6 / 2357 .
3- (3) المصباح المنیر 1 / 310 .

إذا مدَّ رأسه إلی اُمّه لتزقَّه . واسترشی الفصیل : طلب الرضاع ... »(1) .

5 - وقال صاحب القاموس : « الرشوة - مثلثة - : الجُعل جمعها رُشیً ... والرَّشاء ککَساء : الحبل ، کالرِشاء بالکسر »(2) .

6 - وابن الأثیر قال : « رشا - س - فیه : لعن اللّه الراشی والمرتشی والرائش ، الرِشوة والرُشوة : الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة ، وأصله من الرِشاء الذی یُتوصّل به إلی الماء . فالراشی : من یعطی الذی یعینه علی الباطل ، والمرتشی : الآخذ ، والرائش : الذی یسعی بینهما یزید لهذا ویستنقص لهذا . فأمّا ما یعطی توصّلاً إلی أخذ حقٍّ أو دفعِ ظلمٍ فغیر داخل فیه . روی أنّ ابن مسعود اُخذ بأرض الحبشة فی شیءٍ فأعطی دینارین حتّی خلّی سبیله ، وروی عن جماعة من أئمة التابعین قالوا : لا بأس أن یصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم »(3) .

7 - وقال الطریحی : « والرِشوة - بالکسر - : ما یعطیه الشخصُ الحاکمَ وغیرَه فیحکم له أو یحمله علی ما یرید ، والجمع رُشی مثل سِدرة وسُدَر ، والضمّ لغة ، وأصلها من الرِشاء : الحبل الذی یتوصل به إلی الماء ، وجمعه أرشیة ککِساء وأکسیة ... والرشوة قلّ ما تستعمل إلاّ فیما یتوصّل به إلی إبطال حقٍّ أو تمشیة باطل »(4) .

هذا کلّه کلمات أهل اللغة .

والأصحاب تعرضوا لتعریفها أیضاً منهم :

8 - جدنا الشیخ جعفر کاشف الغطاء قال : « (ویحرم) أخذ (الرشاء) : جمع الرشوة مثلّثة (فی الحکم) بسببه (وإن حکم علی باذله) فلم یؤثر بذله (بحقٍّ أو باطل) ولیس مطلق الجُعل کما فی القاموس بل بینه وبین الاُجرة والجُعل عموم من وجه ، ولا البذل علی خصوص الباطل کما فی النهایة والمجمع ، ولا مطلق البذل ولو علی خصوص الحقّ ، بل هو البذل علی

ص:138


1- (4) أساس البلاغة / 164 .
2- (5) قاموس اللغة / 878 .
3- (1) النهایة 2 / 226 .
4- (2) مجمع البحرین 1 / 184 .

الباطل أو علی الحکم له حقّاً أو باطلاً ، مع التمسیة وبدونها ، أمّا ما کان بصورة الإجارة علی أصل القضاء أو علی خصوص الحق فیه فسیجیء الکلام فیه »(1) .

9 - وقال السید العاملی فی مفتاحه : « الرشاء - بالضم والکسر - جمع رشوة ... هی عند الأصحاب ما یعطی للحکم حقّاً وباطلاً ، وأصل مأخذها یدلّ علی سبب أو تسبّب لشیءٍ برفق »(2) .

10 - وقال النراقی : « ... فلا کلام فی أنّ الرشوة للقاضی هی المال المأخوذ من أحد الخصمین أو منهما أو من غیرهما للحکم علی الآخر أو إهدائه أو إرشاده فی الجملة . إنّما الکلام فی أنّ الحکم أو الإرشاد المأخوذین فی ماهیته هل هو مطلق شامل للحقِّ أو الباطل أو یختص بالحکم بالباطل ؟ مقتضی إطلاق الأکثر وتصریح والدی العلامة فی المعتمد والمتفاهم فی العرف هو الأوّل ، وهو الظاهر من القاموس والکنز ومجمع البحرین ، ویدلّ علیه استعمالها فیما أعطی للحقِّ فی الصحیح عن رجل یرشو الرجل علی أن یتحوّل من منزله فیسکنه ، قال : لا بأس(3) . فإنّ الأصل فی الاستعمال إذا لم یعلم الاستعمال فی غیره الحقیقة ، کما حقق فی موضعه . نعم عن النهایة الأثیریة ما ربّما یشعر بالتخصیص ککلام بعض الفقهاء ، وهو لمعارضة ما ذکر غیر صالح ، مع أنّ الظاهر أنّ مراد بعض الفقهاء تخصیص الحرمة دون الحقیقة »(4) .

11 - وقال صاحب الجواهر : « وکیف کان فالرشوة فی مختصر النهایة : الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة ، والراشی : مَنْ یعطی الذی یعینه علی الباطل ، والمرتشی : الآخذ ، والرایش : الذی یسعی بینهما یستزید لهذا ویستنقص لهذا . ثمّ ذکر کلمات بعض أهل اللغة والأعلام وقال : أنّ الرشوة خاصة فی الأموال وفی بذلها علی جهة الرشوة ، أو أنّها تعمّمها وتعمّ الأعمال بل والأقوال ، کمدح القاضی والثناء علیه والمبادرة إلی حوائجه وإظهار تبجیله وتعظیمه ونحو ذلک ، وتعمّ البذل وعقد المحاباة والعاریة والوقف ونحو ذلک ، وبالجملة کلّ ما

ص:139


1- (3) شرح القواعد 1 / 277 .
2- (4) مفتاح الکرامة 12 / 302 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 278 ح 2 . الباب 85 من أبواب ما یکتسب به .
4- (2) مستند الشیعة 17 / 71 .

قُصد به التوصل إلی حکم الحاکم ، قد یقوی فی النظر الثانی وإنّ شک فی بعض الأفراد فی الدخول فی الإسم أو جزم بعدمه فلا یبعد الدخول فی الحکم »(1) .

12 - وقال المحقق الإیروانی : « مجموع معنی الرشوة خمسة : 1 - مطلق الجُعل المندرج فیه اُجرة الاُجراء ، 2 - والجُعل علی القضاء وتصدّی فصل الخصومة ، 3 - والجُعل علی الحکم بالواقع لنفسه کان أو لغیره ، 4 - والجعل علی الحکم لنفسه حقّاً کان أو باطلاً ، 5 - والجُعل علی الحکم بالباطل .

والأوّل ممّا ینبغی القطع ببطلانه وإنْ وقع تفسیره به فی کلمات بعض اللغویین ، فإنّه للإشارة إلی المعنی فی الجملة کما فی « سعدانة نبت » . والمتیقّن من بین بقیة المعانی إنْ لم یکن هو الظاهر هو الأخیر . وعلی کلِّ حال فدفع المال لأجل أن لا یقبل القاضی الرشوة من المبطل ثمّ

یحکم هو علی طبق الواقع بمقتضی طبعه لیس من الرشوة »(2) .

وقال قبل صفحة : « وینبغی القطع بأنّ مطلق الجعل علی عمل لیس رشوةً وإنْ اُوهمته عبارة القاموس والنهایة ، وإلاّ لدخل فیه اُجرة الاُجراء والأکرة ، ولئن سلّم عموم اللفظ فالمحرّم هو قسم خاصّ منه ، والمتیقَّن من المتّصف بالتحریم هو المال المدفوع بإزاء الحکم بالباطل ، بل منصرف لفظ « الرشوة » أیضاً عرفاً هو هذا لا غیر ، ویشهد له عبارة المجمع ... »(3) .

13 - وقال المحقق الخوئی : « والمتحصَّل من کلمات الفقهاء رضوان اللّه علیهم ومن أهل العرف واللغة مع ضمِّ بعضها إلی بعضها أنّ الرشوة ما یعطیه أحد الشخصین للآخر لإحقاق حقٍّ أو تمشیة باطل أو للمتلق أو الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة أو فی عمل لا یقابل بالاُجرة والجعل عند العرف والعقلاء وإن کان محطاً لغرضهم ومورداً لنظرهم . بل یفعلون ذلک العمل للتعاون والتعاضد بینهم ، کإحقاق الحقّ وإبطال الباطل وترک الظلم والإیذاء أو دفعها وتسلیم الأوقاف من المدارس والمساجد والمعابد ونحوها إلی غیره ، کأنْ یرشو الرجل علی أن

ص:140


1- (3) جواهر الکلام 22 / 146 .
2- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 157 .
3- (2) الحاشیة علی المکاسب 1 / 155 .

یتحول عن منزله فیسکنه غیره ، أو یتحول عن مکان فی المساجد فیجلس فیه غیره ، إلی غیر ذلک من الموارد التی لم یتعارف أخذ الاُجرة علیها .

نعم ، ما ذکره فی القاموس من تفسیر الرشوة بمطلق الجُعل محمول علی التفسیر بالأعم ، کما هو شأن اللغوی أحیاناً ، وإلاّ لشمل الجُعل فی مثل قول القائل « من ردّ عبدی فله ألف درهم » ، مع أنّه لا یقول به أحد »(1) .

14 - وقال شیخنا الاُستاذ - مدظله - : « الإحتمالات فی معنی الرشوة أربعة :

الأوّل : ما یعمّ مقابل الحکم الصحیح ، سواء جعل عوضاً عن نفس الحکم أو عن مقدماته کالنظر فی أمر المترافعین . وهذا ظاهر القاموس ، ویساعده ظاهر کلام المحقق الثانی وصریح الحلی ... .

الثانی : ما یعطی للقاضی للحکم له فی الواقعة بالباطل وبقضاء الجور ، کما هو ظاهر مجمع البحرین .

الثالث : إعطاء المال لغایة الوصول إلی غرضه من الحکم له أو أمر آخر یفعله الغیر له ،

کما عن المصباح والنهایة .

الرابع : إعطاء المال للقاضی للحکم له حقّاً أو باطلاً ... . والصحیح فی معناها هو الإحتمال الرابع ، وهو إعطاء المال للحکم له مطلقاً حقّاً أو باطلاً »(2) .

15 - قال بعض أساتیذنا - مدظله - : « إنّ الرشوة لیست عبارة عن مطلق الجُعل ولا مطلق الجُعل للقاضی أو القضاة ، بل المتیقَّن منها الجُعل فی قبال إبطال حقٍّ أو تمشیة باطل ، أو إحقاق حقٍّ یتوقف علیها ، فیحرم علی المرتشی فقط ... »(3) .

أقول : الظاهر أنّ المراد بالرشوة عند الأصحاب هی البذل والجُعل فی عوض الحکم بالباطل أو بالحقّ مطلقاً ، کما صرح بها جماعة : منهم ابن إدریس الحلی فی السرائر(4) والمحقق

ص:141


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 263 .
2- (1) ارشاد الطالب 1 / 149 .
3- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 161 .
4- (3) السرائر 2 / 166 .

فی الشرائع(1) والعلامة فی القواعد(2) والتذکرة(3) والمحقق الکرکی فی جامع المقاصد(4) وثانی الشهیدین فی المسالک(5) والمحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة(6) والشیخ الأعظم فی المکاسب(7) والسید الیزدی فی العروة الوثقی(8) وشیخنا الاُستاذ(9) - مد ظله - فیما مضی من کلامه آنفاً .

هذا کلّه فی تعین موضوع الرشوة وحقیقتها وتبیین معناها ، ولابدّ من مراجعة کلمات الأصحاب فی حرمتها :

الأقوال فی حرمة الرشوة

1 - قال الشیخ الطوسی : « والرشاء فی الأحکام سحت »(10) .

2 - وقال القاضی ابن البراج ضمن بیان المکاسب المحظورة : « ... والفتیا بالباطل

والحکم به ولو مع العلم ، والإرتشاء علی ذلک أو ما یجری مجری الإرتشاء ... »(11) .

3 - وقال ابن إدریس الحلی : « والرشا فی الأحکام سحت »(12) وقال أیضاً : « والقاضی بین المسلمین والحاکم والعامل علیهم یحرم علی کلِّ واحد منهم الرشوة ، لما روی أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم . وهو حرام علی المرتشی بکلِّ حال

ص:142


1- (4) شرائع الإسلام 2 / 6 .
2- (5) قواعد الاحکام 2 / 10 .
3- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 148 المسألة 654 .
4- (7) جامع المقاصد 4 / 35 .
5- (8) مسالک الأفهام 3 / 136 .
6- (9) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
7- (10) المکاسب المحرمة / 30 الطبع الحجری - (1 / 242) .
8- (11) العروة الوثقی 6 / 442 المسألة 19 .
9- (12) إرشاد الطالب 1 / 151 .
10- (13) النهایة / 364 .
11- (1) المهذب 1 / 345 .
12- (2) السرائر 2 / 220 .

،وأمّا الراشی فإن کان قد رشاه علی تغیّر الحکم أو إیقافه فهو حرام ، وإن کان علی إجرائه علی واجبه لم یحرم علیه أن یرشوه لذلک ، لأنّه یستنقذ ماله ، فیحلّ ذلک له ویحرم علی الحاکم أخذه »(1) .

4 - وقال المحقق : « الرشاء حرام سواء حکم لباذله أو علیه بحقٍّ أو باطل »(2) .

5 - وقال العلامة : « یحرم الرشاء فی الحکم وإن حکم علی باذله بحقٍّ أو باطل »(3) .

6 - وقال فی التحریر : « الرشاء فی الحکم حرام ، سواء کان حکم لباذله أو علیه بحقٍّ أو باطل »(4) ، ونحوها فی إرشاد الأذهان(5) .

7 - وقال المحقق الثانی : « أجمع أهل الإسلام علی تحریم الرشاء فی الحکم ، سواء حکم بحقٍّ أو باطل للباذل أو علیه ، وفی الأخبار عن أئمة الهدی صلوات اللّه علیهم : أنّه الکفر باللّه عزّ وجل وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم »(6) .

8 - وقال الشهید الثانی : « الرشا - بضم أوّله وکسره مقصوراً - جمع رشوة - بهما - وهو أخذ الحاکم مالاً لأجل الحکم وعلی تحریمه إجماع المسلمین . وعن الباقر علیه السلام : أنّه الکفر باللّه تعالی وبرسوله . وکما یحرم علی المرتشی یحرم علی المعطی ، لإعانته علی الإثم والعدوان ، إلاّ أن یتوقف علیه تحصیل حقه ، فیحرم علی المرتشی خاصة »(7) .

9 - المحقق الأردبیلی قال : « یحرم علی القاضی الرشوة ، دلیله العقل والنقل ، کتاباً وإجماعاً من المسلمین وسنّة ، وهی أخبار کثیرة من طرقهم وطرقنا ، مثل أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال :

لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم ، وعن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرشا فی الحکم هو الکفر

ص:143


1- (3) السرائر 2 / 166 .
2- (4) شرائع الإسلام 2 / 6 .
3- (5) قواعد الأحکام 2 / 10 .
4- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 262 .
5- (7) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
6- (8) جامع المقاصد 4 / 35 .
7- (9) مسالک الأفهام 3 / 136 .

باللّه ... »(1) .

10 - وقال سید الریاض : « (و) أخذ (الرُشا) بضم أوّله وکسره مقصوراً ، جمع رشوة بهما (فی الحکم) بالإجماع کما فی کلام جماعة والنصوص المستفیضة ، فی بعضها أنّها سحت وفی عدّة منها : أنّها الکفر باللّه العظیم ، وفیها الصحیح والموثق وغیرهما . وإطلاقها کالعبارة وصریح جماعة یقتضی عدم الفرق بین أن یکون الحکم للراشی أو علیه ... »(2) .

11 - وقال السید العاملی بذیل کلام العلامة فی القواعد : « بإجماع المسلمین کما فی جامع المقاصد وقضاء الروضة وحاشیة الإرشاد ، وهی سحت بلا خلاف کما فی المنتهی ، وفی النصوص أنّها سحت ، وفی عدّة منها أنّها الکفر باللّه العظیم ، وفیها الصحیح والموثق وغیرهما . وهی تدلّ بإطلاقها علی ما ذکروه من عدم الفرق بین أن یکون الحکم للراشی أو علیه ... »(3) .

12 - وقال الفاضل النراقی : « یحرم علی القاضی أخذ الرشوة - مثلّثة الراء - إجماعاً من المسلمین للمستفیضة من المعتبرة . ثم ذکر بعض الروایات الواردة فی تحریمها وقال : وکما یحرم علیه أخذها کذلک یحرم علی باذلها دفعها ، لأنّه أعانة علی الإثم والعدوان ، ولقوله علیه السلام : لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم ، ولا کلام فی شیء من ذلک ... »(4) .

13 - وقال صاحب الجواهر : (الرشاء) بضم الراء وکسرها جمع رشوة فی الحکم من الدافع والمدفوع إلیه (حرام) وسحت إجماعاً بقسمیه ونصوصاً مستفیضة أو متواترة ... »(5) .

14 - وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم : « ومن التکسبات المحرَّمة أخذ الشیء بعنوان الرشاء فی القضاء والحکم للشخص عند التخاصم مع الغیر ، بإتفاق النص والفتوی ، کما ورد أنّه سحت وأنّه لعن اللّه الراشی والمرتشی »(6) .

ص:144


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
2- (2) ریاض المسائل 8 / 181 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 300 .
4- (4) مستند الشیعة 17 / 69 .
5- (5) جواهر الکلام 22 / 145 .
6- (6) برهان الفقه . کتاب التجارة / 45 الطبع الحجری .

15 - وقال السید الیزدی : « تحرم الرشوة ، وهی ما یبذله للقاضی لیحکم له بالباطل أو لیحکم له حقّاً کان أو باطلاً ، أو لیعلّمه طریق المخاصمة حتّی یغلب علی خصمه ، ولا فرق فی الحرمة بین أن یکون ذلک لخصومة حاضرة أو متوقّعة ، ویدلّ علی حرمتها إجماع

المسلمین ، بل هی من ضروریّات الدین و ... »(1) .

16 - وقال الفقیه السبزواری : « تدلّ علی حرمة الرشوة الکتاب المبین وضرورة الدین ونصوص کثیرة ... ویدلّ علی قبحه حکم العقل أیضاً ، لأنّه من الظلم ، فالأدلة الأربعة دالة علی حرمتها »(2) .

الاستدلال علی حرمة الرشوة
الأوّل : الاجماع

قد مرّ نقل کلمات القوم وإدعاء الإجماع من المحقق(3) والشهید(4) الثانیین والأردبیلی(5) والفیض الکاشانی(6) وسید الریاض(7) وأصحاب مفتاح الکرامة(8) ومستند الشیعة(9) والجواهر(10) وبرهان الفقه(11) والعروة الوثقی(12) ، بل فی العروة الوثقی ومهذب

ص:145


1- (1) العروة الوثقی 6 / 442 المسألة 19 .
2- (2) مهذب الأحکام 16 / 94 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 35 .
4- (4) مسالک الأفهام 3 / 136 والروضة البهیة 3 / 75 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
6- (6) مفاتیح الشرائع 3 / 251 لم اذکر کلامه فیما مضی .
7- (7) ریاض المسائل 8 / 181 .
8- (8) مفتاح الکرامة 12 / 300 .
9- (9) مستند الشیعة 17 / 69 .
10- (10) جواهر الکلام 22 / 145 .
11- (11) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 45 .
12- (12) العروة الوثقی 6 / 442 .

الأحکام(1) عدّ حرمتها من ضروریات الدین . کما قال المحقق الخوئی : « ومجمل القول أنّ حرمة الرشوة فی الجملة من ضروریات الدین وممّا قام علیه إجماع المسلمین ، فلا حاجة إلی الاستدلال علیها »(2) .

ویمکن الإیراد علی هذا الإجماع بأنّه إجماعٌ مدرکیٌ ، لاحتمال کون مدرکهم ما یأتی من الأدلة .

الثانی : الکتاب المجید

قوله تعالی : «وَلاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُم بَیْنَکُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ لِتَأْکُلُواْ فَرِیقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»(3) .

قال الشیخ الطوسی فی تفسیره : « قوله تعالی «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»فالحکم هو الخبر الذی یفصل به بین الخصمین یمنع کلّ واحد من منازعة الآخر .

وقیل فی معناه قولان :

أحدهما : قال ابن عباس والحسن وقتادة : إنّه الودیعة وما تقوم به بیّنة .

الثانی : قال الجبائی : فی مال الیتیم الذی فی ید الأوصیاء ، لأنّه یدفعه إلی الحاکم إذا طولب به ، لیقتطع بعضه ویقوم له فی الظاهر حجة .

اللغة : یقال : أدلی فلان بالمال إلی الحاکم : إذا دفعه إلیه ، وأدلی فلان بحقِّه وحجته : إذا هو احتج بها وأحضرها ، ودلوت الدلو فی البئر أدلوها : إذا أرسلتها فی البئر ، وأدلیتها إدلاء : انتزعها من البئر ، منه قوله تعالی : «فَأَدْلَی دَلْوَهُ»(4)أی انتزعها ، وقال صاحب العین : أدلیتها : إذا أرسلتها أیضاً ، وأدلی الإنسان شیئاً فی مهوی ، ویتدلّی هو بنفسه ، والدالیة معروفة ... .

المعنی : وقیل فی اشتقاق تدلو قولان : أحدهما : أنّ التعلق بسبب الحکم کتعلق الدلو

ص:146


1- (13) مهذب الأحکام 16 / 94 .
2- (14) مصباح الفقاهة 1 / 264 .
3- (1) سورة البقرة / 188 .
4- (2) سورة یوسف / 19 .

بالسبب الذی هو الحبل . والثانی : أنّه یمضی فیه من غیر تثبت ، کمضی الدلو فی الإرسال من غیر تثبت . والباطل : هو ما تعلق بالشیء علی خلاف ما هو به ، خبراً کان أو اعتقاداً أو تخیّلاً أو ظنّاً ، والفریق : القطعة المعزولة من الشیء ، والإثم : الفعل الذی یستحق به الذم ... »(1) .

وزاد الطبرسی فی معنی قوله تعالی «تُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»مضافاً إلی ما ذکره الشیخ من القولین : « وثالثها : أنّه ما یؤخذ بشهادة الزور عن الکلبی ، والأولی : أن یُحمل علی الجمیع »(2) .

وقال فی تفسیره الآخر : « وقیل : وتدلوا وتلقوا بعضها إلی حکام السوء علی وجه الرشوة »(3) .

وهکذا قال الزمخشری : « وقیل «وَتُدْلُواْ بِهَا»وتلقوا بعضها إلی حکام السوء علی وجه الرشوة »(4) .

وقال الطریحی : «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»أی تلقوا حکومة الأموال إلی الحکام ، والإدلاء : الإلقاء ، وفی الصحاح «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ» یعنی الرشوة »(5) .

أقول : ظاهر الآیة الشریفة یدلّ علی حرمة الرشوة ، لأنّها تدخل فی ما تدلوا إلی الحکام بجهةِ أکلِ فریقٍ من أموال الناس ، فتشملها النهی الوارد فی أوّل الآیة الشریفة ، أعنی «لاَ تَأْکُلُواْ»فثبت تحریمها .

ومن الواضح أنّ ثبوت الظهور لا یحتاج إلی ورود روایة أو خبر ، والظهور حجة بلا تردید ، فالرشوة صارت محرّمة بظهور الآیة الشریفة ، ولذا تمسک جمعٌ من أصحابنا - أعلی اللّه کلماتهم - فی تحریم الرشوة بهذه الکریمة ، وهو فی محلّه .

الثالث : الروایات المتواترة

الروایات الکثیرة المستفیضة بل المتواترة تدلّ علی حرمة الرشوة بوضوح :

ص:147


1- (3) التبیان 2 / 138 و 139 .
2- (4) مجمع البیان 2 / 282 .
3- (5) جوامع الجامع 1 / 106 .
4- (1) الکشاف 1 / 233 .
5- (2) مجمع البحرین / 30 الطبع الحجری .

منها : صحیحة عمار بن مروان قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الغلول ، فقال : کلُّ شیءٍ غُلّ من الإمام فهو سحت ، وأکل مال الیتیم وشبهه سحت ، والسحت أنواع کثیرة : منها : اُجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبیذ والمسکر ، والربا بعد البیّنة ، فأمّا الرشا فی الحکم فإن ذلک الکفر باللّه العظیم جلّ اسمه وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

سند الروایة صحیح ، لأنّ المراد بعمار بن مروان هو الیشکری مولاهم الخزاز الکوفی ، هو وأخوه عمرو ثقتان . وروی نحوها الصدوق فی الخصال / 329 ح 26 بسند صحیح کما نقل عنه فی الوسائل 17 / 95 ح 12 .

ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : السحت أنواع کثیرة : منها : کسب الحجام إذا شارط ، وأجر الزانیة ، وثمن الخمر ، وأمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم ، الحدیث(2) .

سند الشیخ موثق ، ولکن سند الکلینی(3) ضعیف . +6

ومنها : موثقة اُخری لسماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرشا فی الحکم هو الکفر باللّه(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغی ، والرشوة فی الحکم ، وأجر الکاهن(5) .

ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال فی حدیث طویل : ورأیتَ الولاة یرتشون فی الحکم ، الحدیث(6) .

وأنت تری أنّ هذه الروایات المعتبرة تقیّد الرشاء بالحکم .

ص:148


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 1 . الباب 5 من أبواب ما یکتسب به .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 3 .
3- (5) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 2 .
4- (1) وسائل الشیعة 27 / 222 ح 3 . الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
5- (2) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 5 .
6- (3) وسائل الشیعة 16 / 277 ح 6 . الباب 41 من أبواب الأمر والنهی .

ومنها : خبر یزید بن فرقد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن السحت ، فقال : الرشاء فی الحکم(1) .

ومنها : خبر الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : أیما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه یوم القیامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدیةً کان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرک(2) .

ومنها : فی خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : یا علی من السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب ، وثمن الخمر ، ومهر الزانیة ، والرشوة فی الحکم ، وأجر الکاهن(3) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : أجر الزانیة سحت ، وثمن الکلب الذی لیس بکلب الصید سحت ، وثمن الخمر سحت ، وأجر الکاهن سحت ، وثمن المیتة سحت ، فأما الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم(4) .

ومنها : مرسلة جراح المداینی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من أکل السحت : الرشوة فی الحکم(5) .

ومنها : خبر یوسف بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من نظر

إلی فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه فی امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إلیه لتفقّهه فسألهم الرشوة(6) .

روی نحوها المجلسی(7) عن خط الشیخ محمد بن علی الجباعی قدس سره نقلاً عن الشهید قدس سره ، وهذه الروایة بعمومها تدلّ علی حرمة الرشوة .

ص:149


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 4 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 10 .
3- (6) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 9 .
4- (7) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 8 .
5- (8) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 7 .
6- (1) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 5 .
7- (2) بحار الأنوار 100 / 54 ح 28 .

ومنها : مرسلة الطبرسی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إنّ السحت هو الرشوة فی الحکم ، وهو المروی عن علی علیه السلام (1) .

ومنها : مرسلة اُخری للطبرسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ السحت أنواع کثیرة ، فأمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه(2) .

ومنها : خبر جابر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة الاُ مراء غلولٌ(3) .

الروایة بإطلاقها تدلّ علی حرمة الرشوة .

ومنها : خبر أحمد بن عبد اللّه الهروی الشیبانی وداود بن سلیمان الغرا عن علی بن موسی الرضا علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل «أَکَّالُونَ لِلسُّحْتِ»(4) قال : هو الرجل الذی یقضی لأخیه الحاجة ثمّ یقبل هدیته(5) .

هذه الروایة أیضاً بإطلاقها تدل علی حرمة الرشوة

ومنها : ما رواها الشیخ أبومحمد جعفر بن أحمد بن علی القمی بإسناده إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الراشی والمرتشی والرائش بینهما ملعونون(6) .

وفی بعض النسخ بدل الرائش « الماشی » وکلاهما بمعنی واحد .

ومنها : مرسلة الرضی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبة : وقد علمتم أنّه لا ینبغی أن یکون الوالی علی الفروج والدماء و المغانم والأحکام وإمامة المسلمین : البخیل ... ولاالجاهل ... والجافی ... والحائف ... ولا المرتشی فی الحکم فیذهَب بالحقوقِ ویقف بها دون

المقاطِعِ ، ولا المعطِّلُ للسنة فَیُهْلِک الاُمّة(7) .

ص:150


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 96 ح 15 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 96 ح 16 .
3- (5) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 6 .
4- (6) سورة المائدة / 42 .
5- (7) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 28 ح 16 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 95 ح 11 .
6- (8) جامع الأحادیث / 85 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 5 .
7- (1) نهج البلاغة . الخطبة 131 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 7 .

الحائف : الظالم والجائر ، من الحیف بمعنی الجور والظلم . المقاطع : الحدود التی عیّنها اللّه تعالی لها .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لعن اللّه الراشی والمرتشی والماشی بینهما(1) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إیّاکم والرشوة ، فإنّها محض الکفر ، ولا یشمّ صاحب الرشوة ریح الجنة(2) .

فهذه الروایات المتواترة تدلّ علی حرمة الرشوة بوضوح ، وفی کثیر منها تقیّد الرشوة بالحکم ، فلذا لابدّ من تقیید المطلقات به والذهاب إلی أنّ الرشوة المصطلح عند الفقهاء أعلی اللّه کلمتهم مقیدة بالحکم ، أعنی الرشوة التی إعطاؤها وأخذها والسعی بینهما حرام مختص بالرشوة التی تبذل فی الحکم فقط کما علیه فتوی المشهور .

وهکذا تدلّ علی حرمة الرشوة : بلا فرق بین أن یأخذها القاضی لیحکم للمعطی بالباطل مع العلم ببطلان الحکم ، وبین أن یأخذها لیحکم للباذل مع جهله سواء طابق حکمه الواقع أم لم یطابق ، وبین أن یأخذها لیحکم له بالحقِّ مع العلم .

ففی الصورة الأخیرة حرمة الرشوة یدلّ علیها إطلاق الروایات الماضیة ومضافاً إلی ذلک مناسبة الحکم والموضوع یقتضی الحرمة ، لأنّ القضاء من المناصب الإلهیة التی جعلها اللّه للرسول صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة من ولده علیهم السلام ، فلا ینبغی لمن أعطاه اللّه هذا المنصب أن یأخذ علیه الاُجرة .

وتدلّ علیه الروایات الدالة علی حرمة أخذ الاُجرة علی القضاء ، کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی .

فالرشوة فی جمیع الصور الثلاث حرام .

نعم ، إذا کان أخذ الحقّ یتوقف علیها یجوز للراشی ویحرم علی المرتشی فقط ، کما علیه

ص:151


1- (2) جامع الأخبار/ 439 ح 5 و نقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح8 .
2- (3) جامع الأخبار/ 440 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 9 .

فتوی المشهور .

ومنهم العلامة قال فی التحریر : « وأمّا الرشوة فإنّها حرام علی آخذها ویأثم الدافع لها

إن توصل بها إلی الحکم بالباطل ، ولو توصل إلی الحقِّ لم یأثم ویأثم المرتشی علی التقدیرین ، ویجب علیه دفع الرشوة إلی صاحبها سواء حکم له أو علیه ولو تلفت ضمنها »(1) .

ومنهم الشهید الثانی قال معلِّقاً علی قول العلامة فی الإرشاد : « الرشاء فی الحکم » : « إلاّ أن یتوقَّف تحصیل الحقّ علیه فیحرم علی المرتشی خاصة »(2) .

وعلی قوله فی کتاب القضاء : « تحرم علیه الرشوة» : « یحرم علی الراشی والمرتشی إلاّ أنْ یتوقف حصول الحقّ علیها فیحرم علی المرتشی خاصّةً »(3) .

وعلی قوله « إن توصل بها إلی الباطل » : « إلاّ لِمَن یتوصَّل بها إلی الحقِّ ولا یمکن بدونه »(4) .

الرابع : حکم العقل

العقل یحکم بحرمة الرشوة ، ولعلّ أوّل مَنْ تعرض له المحقق الأردبیلی قدس سره حیث یقول : « یحرم علی القاضی الرشوة دلیله العقل والنقل ... »(5) . واعترف به أیضاً المحقق الخوئی(6) فی الجملة ، وقال الفقیه السبزواری : « ویدلّ علی قبحه حکم العقل أیضاً لأنّه من الظلم ... »(7) .

فالأعلام اعترفوا بحکم العقل علی حرمة الرشوة ، وأمّا تقریبه :

أخذ الرشوة توسط القاضی ظلم علی جمیع التقادیر ، لأنّه إمّا حَکَمَ للباذل بحقٍّ أو باطلٍ ، فإذا حکم له بالحقِّ فلماذا أخذ الرشوة ؟ لأنّ وظیفته الحکم علی طبق الحقِّ والموازین

ص:152


1- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 .
2- (2) حاشیة الشهید الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 2 / 9 . ومستقلاً / 165 .
3- (3) حاشیة الشهید الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 4 / 10 . ومستقلاً / 368 .
4- (4) حاشیة الشیهد الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 4 / 10 . ومستقلاً / 368 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
6- (6) مصباح الفقاهة 1 / 265 .
7- (7) مهذب الأحکام 16 / 94 .

الشرعیة . وإذا حکم له بالباطل کان حکمه محرّماً وما أخذ بأزائه أیضاً یکون محرّماً ، فعلی التقدیرین أخذ القاضی الرشوة یکون من الظلم فصار محرّماً .

وهکذا الأمر إذا لم یتأثر القاضی من الرشوة وحکم علی طبق الواقع وما یکون وظیفته طبق الموازین الشرعیة ، لأنّه حینئذٍ أخَذَ الرشوة فی مقابل أیّ عمل ؟ ! فیکون أخذها ظلماً فیحرم علیه ، فأخذ الرشوة علی جمیع التقادیر ظلم ، فیصیر محرّماً .

وأمّا بالنسبة إلی المعطی فإنه إذا أعطی فی قبال الحکم بالباطل وتمشیته وتضییع الحقّ فیکون إعطاؤه أیضاً ظلماً ، فیصیر محرّماً .

والحاصل : أنّ العقل أیضاً حاکمٌ بحرمة الرشوة ، لأنّها من مصادیق الظلم الذی یستقل العقل بقبحه وفساده وحرمته واللّه سبحانه هو العالم .

حرمة أخذ الاُجرة علی القضاء

اختلفت کلمات الأصحاب فی أخذ الاُجرة والرِزق والجُعل علی الحکم والقضاء بین الناس علی أقوال :

1 - منها : جواز الأخذ مطلقاً مع الکراهة أو عدمها ، ذهب إلیه المفید فی المقنعة وقال : « ولا بأس بالأجر علی الحکم والقضاء بین الناس ، والتبرع بذلک أفضل وأقرب إلی اللّه تعالی »(1) .

والشیخ فی النهایة قال : « ولا بأس بأخذ الأجر والرزق علی الحکم والقضاء بین الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدّمناه ، فأمّا من جهة سلطان الجور فلا یجوز إلاّ عند الضرورة أو الخوف علی ما قدّمناه ، والتنزه عن أخذ الرزق علی ذلک فی جمیع الأحوال أفضل »(2) .

والقاضی ابن البراج فی المهذب قال فی عداد المکاسب المکروهة : « وکسب الحجام ،

ص:153


1- (1) المقنعة / 588 .
2- (2) النهایة / 367 .

والأجر علی القضاء وتنفیذ الأحکام من قِبَلِ الإمام العادل »(1) .

وسلاّر بن عبد العزیز الدیلمی فی المراسم قال : « فأمّا المکروه فهو الکسب بالنوح علی أهل الدین بالحقِّ ، وکسب الحجام ، والأجر علی القضاء بین الناس »(2) .

ومن المتأخرین ذهب إلیه صاحب العروة(3) والمحقق الإیروانی(4) والمحقق الأردکانی(5) وبعض الأساتیذ(6) - مدظله - .

2 - ومنها : منع الأخذ مطلقاً ذهب إلیه أبو الصلاح الحلبی وقال فی عداد المکاسب المحرّمة : « أجر تنفیذ الأحکام»(7) .

وابن إدریس الحلی قال فی السرائر فی عداد المکاسب المحرّمة : « والإرتشاء علی الأحکام والقضاء بین الناس ، وأخذ الاُجرة علی ذلک ، ولا بأس بأخذ الرزق علی القضاء من جهة السلطان العادل ، ویکون ذلک من بیت المال دون الاُجرة علی کراهة فیه »(8) .

والعلامة فی القواعد یقول : « وتحرم الاُجرة علی الأذان وعلی القضاء ، ویجوز أخذ الرزق علیهما من بیت المال »(9) . وقال فی التذکرة : « وتحرم الاُجرة علی الأذان وقد سبق(10) ، وعلی القضاء لأنّه واجبٌ ویجوز أخذ الرزق علیهما من بیت المال »(11) .

ص:154


1- (3) المهذب 1 / 346 .
2- (4) المراسم / 169 .
3- (5) العروة الوثقی 6 / 435 .
4- (6) الحاشیة علی المکاسب 1 / 158 .
5- (7) غنیة الطالب 1 / 128 .
6- (8) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 171 .
7- (1) الکافی / 283 .
8- (2) السرائر 2 / 217 .
9- (3) قواعد الأحکام 2 / 10 .
10- (4) فی تذکرة الفقهاء 3 / 81 المسألة 184 .
11- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 148 .

ونحوها فی المنتهی(1) والتحریر(2) والإرشاد(3) .

وقال الشیخ شمس الدین محمد بن شجاع القطّان الحلی فی کتاب التکسب من معالم الدین : « یحرم أخذ الاُجرة علی تحمل الشهادة وأدائها و ... والقضاء ولا بأس بالرزق من بیت المال »(4) .

وقال فی قضاء المعالم : « ولا یجوز أخذ الجُعل من الخصمین وإن لم یتعیّن علیه وإن کان به ضرورة علی الأقوی ، ولو انتفی أحدهما لم یجز قطعاً »(5) .

أقول : یأتی تفصیل ابن القطان فی جواز الإرتزاق من بیت المال فیما بعد إن شاء اللّه تعالی .

والمحقق الثانی قال فی شرح القواعد : « وأمّا القضاء للنص والإجماع ، ولا فرق بین أخذ الاُجرة من المتحاکمین أو من السلطان أو أهل البلد عادلاً کان أو جائراً ، سواء کان

المأخوذ بالإجارة أو الجُعالة أو الصلح ... والأقوی المنع مطلقاً ، إلاّ من بیت المال خاصة فیتقیّد بالحاجة »(6) .

والشهید الثانی قال : « ومن الأصحاب من جوّز أخذ الاُجرة علیه مطلقاً ، والأصح المنع مطلقاً إلاّ من بیت المال علی جهة الإرتزاق ، فیتقیّد بنظر الإمام . ولا فرق فی ذلک بین أخذ الاُجرة من السلطان ومن أهل البلد والمتحاکمین ، بل الأخیر هو الرشوة التی وردت فی الخبر أنّها کفر باللّه وبرسوله »(7) .

وقال المحقق الأردبیلی : « وأمّا الأجر علی القضاء والحکم بین المتحاکمین فالظاهر

ص:155


1- (6) منتهی المطلب 2 / 1018 ونقل عنه فی الحدائق 18 / 216 .
2- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 265 .
3- (8) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
4- (9) معالم الدین فی فقه آل یس 1 / 331 .
5- (10) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
6- (1) جامع المقاصد 4 / 36 .
7- (2) مسالک الأفهام 3 / 132 .

تحریمه مطلقاً ، سواء کان القضاء متعیّناً علیه أم لا ، وسواء کان بین المتحاکمین أم لا ... » . ثمّ استدل علی مختاره وذکر بعض الأقوال فی المقام وقال : « والأوّل أظهر کما هو رأی المصنف ، ولا شک فی جواز الإرتزاق من بیت المال علی الکلِّ مع الحاجة التی هی شرط الأخذ من بیت المال الذی هو للمصالح ، والظاهر أنّ المراد بالحاجة هی المتعارفة وعلی حسب العادة لا الضرورة التی لا یعیش بدونها ، والظاهر أنّ ذلک هو مراد المصنف »(1) .

وظاهر صاحب الحدائق أیضاً المنع مطلقاً ، فراجع کتابه(2) .

وقال الفاضل النراقی ناقلاً عن والده قدس سرهما : « ونقل والدی فی معتمد الشیعة الإجماع علی الحرمة صریحاً مع عدم الحاجة »(3) . ومال إلیه ولده فی المستند بل اختاره(4) .

واختار سید الریاض القول بالمنع بأنّه « أحوط وأولی»(5) ، وردّ القول بالجواز بأنّه « ضعیف جداً »(6) .

وقال الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « (و) تحرم الاُجرة ونحوها من عوض صلح أو جُعل أو غیرهما (علی القضاء) کالإفتاء ، سواء اُخذت من سلطان عادل أو غیره من بیت مالٍ أو أوقافٍ أو من المتخاصمین ، مع الحاجة وعدمها ، أو من متبرّع علی أیِّ نحو کان ، لوجوبه

عیناً مع الاتحاد وکفایةً مع إمکان قیام الغیر ، ولیس من الواجبات المشروطة کالصنائع النظامیة ، مع أنّ الشک فی دخولها تحتها ما یغنی فی المنع - وللأخبار الدالة علیه وللإجماعات المنقول بعضها علی منع الجعل المخصوص بما کان من المتخاصمین أو الأعم ، وبعضها علی تحریم الاُجرة »(7) .

ص:156


1- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .
2- (4) الحدائق 18 / 217 .
3- (5) مستند الشیعة 17 / 64 .
4- (6) مستند الشیعة 17 / 68 و 67 .
5- (7) ریاض المسائل 8 / 184 .
6- (8) ریاض المسائل 8 / 184 .
7- (1) شرح القواعد 1 / 289 .

وقال تلمیذه صاحب الجواهر فی اُجور القضاة : « ... والتحقیق عدم جواز أخذ العوض عنه مطلقاً ، عینیّاً کان علیه أو کفائیاً أو مستحباً مع الحاجة وعدمها ، من المتحاکمین أو أحدهما أو أجنبی أو أهل البلد أو بیت المال أو غیر ذلک ، سواء کان ذا کفایة أو لا ، لأنّه من مناصب السلطان الذی أمر اللّه تعالی بأن یقول : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً»(1)وأوجب التأسی به ... »(2) .

وتبعهم جماعة من الفقهاء منهم : المؤسس الحائری(3) والمحقق الخوئی(4) وشیخنا الاُستاذ - مدظله - حیث یقول : « فتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ الأظهر بحسب الروایات عدم جواز أخذ الجعل والأجر علی القضاء أو ما هو من شؤونه ، بلا فرق بین حاجة القاضی وعدمها وتعیّن القضاء علیه وعدمه ، ویتعدی إلی أخذ الجُعل والأجر علی الإفتاء وبیان الأحکام الشرعیة الکلّیّة باعتبار عدم احتمال الفرق بینهما فی ذلک »(5) .

تنبیهٌ :

قد یقال : برجوع الشیخ فی کتابیه الخلاف والمبسوط عما أفتی به فی نهایته من جواز الأخذ مطلقاً ، فلابدّ من ملاحظة نص عبارته ، قال فی الخلاف : « لا یجوز للحاکم أن یأخذ الاُجرة علی الحکم من الخصمین أو من أحدهما ، سواء کان له رزق من بیت المال أو لم یکن .

وقال الشافعی : إن کان له رزق من بیت المال لم یجز - کما قلناه - وإن لم یکن له رزق من بیت المال جاز له أخذ الاُجرة علی ذلک .

دلیلنا : عموم الأخبار الواردة فی أنّه یحرم علی القاضی أخذ الرشا والهدایا وهذا داخل

فی ذلک ، وأیضاً طریقة الإحتیاط تقتضی ذلک ، وأیضاً إجماع الفرقة علی ذلک ، فإنّهم لا

ص:157


1- (2) سورة الأنعام / 90 .
2- (3) جواهر الکلام 22 / 122 .
3- (4) فی تقریرات بحثه المکاسب المحرمة / 58 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
4- (5) مصباح الفقاهة 1 / 481 و 269 .
5- (6) إرشاد الطالب 1 / 153 .

یختلفون فی أنّ ذلک حرام »(1) .

وأنت تری أنّه أفتی بتحریم أخذ الاُجرة من المتحاکمین أو أحدهما ، لا أنّه رجع عمّا أفتی به فی النهایة من جواز أخذ الاُجرة ، فالجمع بین کلامیه یقتضی القول بأنّ الشیخ یذهب إلی جواز أخذ الاُجرة علی القضاء ، ولکن لا من المتخاصمین أو أحدهما بل من غیرهما .

وقال الشیخ فی المبسوط : « وأمّا من یحلّ له أخذ الرزق علیه ومن لا یحلّ : فجملته أنّ القاضی لا یخلو من أحد أمرین : إمّا أن یکون ممّن تعیّن علیه القضاء أو لم یتعیّن علیه وهو القسم الأوّل والأخیر ، فإن کان ممّن یجوز له القضاء ولم یتعیّن علیه لم یخل من أحد أمرین : إمّا أن یکون له کفایة أو لا کفایة له ، فإن لم یکن له کفایة جاز له أخذ الرزق وإن کانت له کفایة فالمستحب أن لایأخذ ، فإن أخذ جاز ولم یحرم علیه بل کان مباحاً . وجواز إعطاء الرزق للقضاء إجماع ، ولأنّ بیت المال للمصالح وهذا منها بل أکثرها حاجة إلیه ، لما فیه من قطع الخصومات واستیفاء الحقوق ونصرة المظلوم ومنع الظالم .

هذا إذا لم یتعین علیه القضاء ، فأمّا إن تعیّن علیه القضاء لم یخل من أحد أمرین : إما أن یکون له کفایة أو لا کفایة له ، فإن کانت له کفایة حرم علیه الرزق لأنّه یؤدی فرضاً قد تعیّن علیه ، ومن أدّی فرضاً لم یحلَّ له أخذ الرزق علیه مع الاستغناء عنه ، وإن لم یکن له کفایة حلّ ذلک له لأنَّ علیه فرض النفقة علی عیاله وفرضاً آخر وهو القضاء وإذا أخذ الرزق جمع بین الفرضین ، لأنّ الرزق یقوم مقام الکسب ، فکان الجمع بین الفرضین أولی من إسقاط أحدهما . وهذا عندنا وعندهم ، وحکم الشهادة فی أخذ الجُعل علیها عندنا لا یجوز بحال ... »(2) .

أقول : الحاصل من کلام الشیخ أنه ذهب فی المبسوط إلی جواز أخذ الاُجرة للقضاء إلاّ إذا تعیّن علیه القضاء وله کفایة من المال ولا یحتاج إلی أجرة ، فحرم علیه الرزق حینئذ فقط .

والجمع بین أقواله الثلاثة یرشدنا إلی هذا التفصیل : بأنّ الشیخ یقول بجواز أخذ

ص:158


1- (1) الخلاف 6 / 233 المسألة 31 .
2- (2) المبسوط 8 / 85 و 84 .

الاُجرة علی القضاء ولکن منع أخذه من المتخاصمین أو أحدهما ، وهکذا یجوز أخذ الاُجرة للقاضی إلاّ إذا تعیّن علیه القضاء وله کفایة من المال بحیث لا یحتاج إلی اُجرته لإمرار معاشه ، فحرم حینئذ له أخذ الاُجرة حتّی من بیت المال .

فالشیخ لم یرجع عما أفتی به فی النهایة ، بل قیّده بقیود ، یعنی ذهب إلی جواز أخذ الاُجرة ولکن لا من المتخاصمین أو أحدهما ، ولا یجوز له الأخذ إذا تعیّن علیه القضاء وکان القاضی ذا یسار بحیث لا یحتاج إلی الاُجرة ، وهذا فی الواقع إحداث تفصیل من الشیخ یمکن أن یجعل قولاً ثالثاً فی المقام .

3 - ومنها : التفصیل بین تعیّن القضاء علیه وصورة الغنی وتمکنه فلا یجوز أخذ الاُجرة ، وفی غیرهما - أعنی إذا لم یتعیّن القضاء علیه ولم یستغن من أجر قضائه ویحتاج إلیه - فیجوز له أخذ الاُجرة ، وحیث ورد فی کلام الأصحاب هذا التفصیل مع بحث ارتزاق القاضی من بیت المال غالباً أذکرهما معاً .

یظهر التفصیل من الشیخ فیما مرّ منّا آنفاً فی الجمع بین أقواله مع زیادة ، ومن المحقق الحلی فی قضاء الشرائع حیث یقول : « إذا ولّی من لا یتعیّن علیه القضاء فإن کان له کفایة من ماله فالأفضل أن لا یطلبَ الرزق من بیت المال ، ولو طلب جاز لأنّه من المصالح . وإن تعیّن للقضاء ولم یکن له کفایة جاز له أخذ الرزق . وإن کان له کفایة ، قیل : لا یجوز له أخذ الرزق لأنّه یؤدّی فرضاً . أمّا لو أخذ الجُعل من المتحاکمین ففیه خلافٌ ، والوجه التفصیل ، فمع عدم التعیین وحصول الضرورة ، قیل یجوز ، والاُولی المنع ، ولو اختلَّ أحد الشرطین لم یجز »(1) .

وقال فی المختلف بعد نقل الأقوال فی المسألة : « والأقرب أن نقول : إن تعیّن القضاء علیه إمّا بتعیین الإمام علیه السلام أو بفقد غیره أو بکونه الأفضل وکان متمکّناً لم یجز الأجر علیه ، وإن لم یتعیّن أو کان محتاجاً فالأقرب الکراهة .

لنا : الأصل الإباحة علی التقدیر الثانی ، ولأنّه فعل لا یجب علیه ، فجاز أخذ الأجر علیه . أمّا مع التعیین فلأنّه یؤدی واجباً ، فلا یجوز أخذ الأجرة علیه ، کغیره من العبادات

ص:159


1- (1) شرائع الاسلام 4 / 60 .

الواجبة »(1) .

أقول : الظاهر أنّ العلامة یشترط فی جواز أخذ أجرة للقاضی أمرین : 1 - عدم تعیّن القضاء علیه ، 2 - وجود الحاجة واحتیاجه إلی الأجر . وهذا هو الذی استفاد من عبارته الشیخ الأعظم قدس سره ، ولذا قال : « فصّل فی المختلف فجوّز أخذ الجعل والاُجرة مع حاجة القاضی وعدم تعیّن القضاء علیه ، ومنعه مع غناه أو عدم الغنی عنه »(2) .

ویمکن حمل عبارته الآتیة فی بحث إرتزاق القاضی من بیت المال من التحریر(3) علی ما ذکرناه فراجعها .

قال العلامة فی الإرشاد فی عداد المکاسب المحرمة : « ... وکذا أخذ الاُجرة علی الأذان والصلاة بالناس والقضاء ، ولا بأس بالرزق من بیت المال علی الأذان والقضاء مع الحاجة وعدم التعیین »(4) .

وتبعه شمس الدین محمد بن شجاع القطان الحلّی فی أخذ الرزق من بیت المال وقال : « ومن یتعیّن علیه القضاء إن کان له کفایةٌ لم یحلّ له الرزق من بیت المال وإلاّ حلّ ، ومن لم یتعیّن جاز له الأخذ والأفضل الترک »(5) .

والشهید الثانی فی ذیل قول المحقق فی تجارة الشرائع : « والقضاء علی تفصیل سیأتی» قال : « التفصیل الموعود به هو أنّه إن تعیّن علیه بتعیین الإمام أو بعدم قیام أحد به غیره ، حرم علیه أخذ الاُجرة علیه مطلقاً ، لأنّه حینئذٍ یکون واجباً ، و الواجب لا یصح أخذ الاُجرة علیه ، وإن لم یتعین علیه فإن کان له غنیً عنه لم یجز أیضاً وإلاّ جاز »(6) .

وقال الفاضل الإصبهانی : « ولو أخذ الجُعل من المتحاکمین فإن لم یتعین للحکم

ص:160


1- (2) مختلف الشیعة 5 / 17 .
2- (3) المکاسب المحرمة / 31 من الطبع الحجری - (1 / 244) .
3- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 و 114 .
4- (2) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
5- (3) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
6- (4) مسالک الأفهام 3 / 132 .

وحصلت الضرورة ، ... قیل : جاز ، ... وإن تعیّن للقضاء أو کان مکتفیّاً ... لم یجز له أخذ الجُعل قولاً واحداً »(1) .

واختار السید جواد العاملی هذا التفصیل وقال : « إذا تعیّن علیه القضاء بتعیین الإمام أو بفقد غیره أو بکونه أفضل وکان متمکّناً ذا کفایة حرمت علیه الثلاثة : الاُجرة والجُعل والرزق ، لأنّه واجبٌ عینیٌّ علیه فلا یستحق عوضاً علیه ... وهو صریح تفصیل المصنف فی المختلف والإرشاد وحاشیته وإیضاح النافع وقضاء الکتاب والشرائع ، قالوا : إن تعیّن علیه وکان متمکّناً لم یجز الأجر ، وإن لم یتعیّن أو کان محتاجاً فالأقرب الکراهیة ... »(2) .

4 - ومنها : التفصیل بین صورة احتیاج القاضی فیجوز أخذ الجُعل والاُجرة وصورة تمکنه وعدم احتیاجه فلا یجوز . قال ثانی الشهیدین : « قیل : یجوز مع الحاجة

مطلقاً »(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « وقیل : بالجواز علی تقدیر الاحتیاج »(4) .

وقال الفاضل النراقی : « ونقل والدی فی معتمد الشیعة الإجماع علی الحرمة صریحاً مع عدم الحاجة »(5) .

5 - ومنها : التفصیل بین صورة عدم تعیّن القضاء علی القاضی وتعیّنه علیه ، فیجوز فی الأوّل ویحرم فی الثانی ، قال ثانی الشهیدین : « قیل : یجوز مع عدم التعیّن مطلقاً»(6) . وقال الأردبیلی : « قیل : بعدمه (أی عدم الجواز) علی تقدیر تعیین القضاء علیه إمّا بتعیین الإمام أم لعدم غیره »(7) .

ص:161


1- (5) کشف اللثام 2 / 143 الطبع الحجری (10 / 23 و 24) .
2- (6) مفتاح الکرامة 12 / 323 و 322 .
3- (1) مسالک الأفهام 3 / 132 .
4- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .
5- (3) مستند الشیعة 17 / 64 .
6- (4) مسالک الأفهام 3 / 132 .
7- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .

أقول : لم یظهر لی إلی الآن قائل هذا القول والعلم عند اللّه تعالی .

6 - ومنها : یمکن التفصیل بین جواز أخذ الاُجرة من بیت المال وعدم الجواز فی الأخذ من المتحاکمین أو الثالث أو أهل البلد ونحوها .

وإلی الآن لم أعرف قائله .

الاستدلال علی حرمة اُجرة القضاء
اشارة

یمکن أن یُستدل علی حرمة أخذ الاُجرة للقاضی بوجوه :

الأوّل : الاجماع

ولعلّ أوّل من ادعاه هو العلاّمة الحلّی فی التحریر(1) وتبعه المحقق الثانی فی جامع المقاصد(2) کما مرّ بیانه ، وتبعهما والد النراقی فی معتمد الشیعة کما مرّ کلامه بتوسط ولده فی المستند(3) ، وتبعهم الشیخ جعفر فی شرح القواعد(4) .

وفیه : أولاً : قد عرفت وجود القول بالجواز صریحاً من المفید فی المقنعة والشیخ فی

النهایة والقاضی ابن البراج فی المهذب وسلار فی المراسم وغیرهم ، وهکذا قد مرّ ذکر الأقوال المختلفة والتفاصیل المتعددة فی المقام ، فادعاء الإجماع بلا وجه .

وثانیاً : لو تنزلنا وقبلنا وجود الإجماع علی الحرمة فلا یفیدنا فی المقام شیئاً ، لأنّه إجماع مدرکیٌ علی فرض وجوده ، فلابدّ من ملاحظة ما یأتی من الأدلة .

الثانی : الروایات

عدّة من الروایات تدلّ علی حرمة اُجور القضاة :

منها : صحیحة عمار بن مروان الیشکری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کلّ شیء غلّ من الإمام فهو سحت ، وأکل مال الیتیم سحت ، والسحت أنواع کثیرة ، منها : ما اُصیب من أعمال

ص:162


1- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 15 .
2- (7) جامع المقاصد 4 / 36 .
3- (8) مستند الشیعة 17 / 64 .
4- (9) شرح القواعد 1 / 290 .

الولاة الظلمة ، ومنها : اُجور القضاة واُجور الفواجر وثمن الخمر والنبیذ المسکر ، والربا بعد البیّنة ، فأمّا الرشایا عمار فی الأحکام ، فإنّ ذلک الکفر باللّه العظیم وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

سند الروایة صحیح ودلالتها تامة ، لأنّها عدّت اُجور القضاة من السحت ، والظاهر من لفظ « السحت » الحرمة إلاّ أن تقوم علیه القرینة .

وأمّا حمل القضاة علی قضاة الجور الذین کانوا فی عصر صدور الروایة بقرینة ما قبلها من الولاة الظلمة ، لأنّ القضاة قسم من الولاة أو لا أقل أنهم قسم من عمّالهم ، فغیر تام ، لظهور الروایة فی استقلال فقراتها ، ولاأقل من الشک فی انعقاد ظهور بخلافه مع القرینة والأصل عدمه .

وبالجملة ، ظهور أن منها (أی من السحت) اُجور القضاة ، وهو عام یشمل قضاة الجور وغیرهم .

ولفظ « الأجر » و« الجُعل » وإن کانا متفاوتین فی مصطلح الفقهاء والمتشرعة بحیث یستعملون الأجر فی باب الإجارة ، والجُعل فی باب الجعالة ، ولکن الظاهر إتحاد حکمهما فی هذا الباب ، بل یمکن ادعاء أنّ الرزق أیضاً متحد معهما حکماً إذا اُخذ من شخص خاص ، خلافاً للسید العاملی فی مفتاحه(2) حیث فرّق بین العناوین .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن قاضٍ بین قریتین ، یأخذ من السلطان علی القضاء الرزق ، فقال : ذلک سحت(3) .

سندها صحیح ، ولکن یمکن المناقشة فی دلالتها بظهور القاضی فی قضاة الجور والسلطان ، سلاطین الجور المعهود فی تلک الأیام ، بقرینة السؤال عن الرزق الوارد فی الصحیحة وجواز الإرتزاق من بیت المال کما علیه المشهور .

ولکن یمکن أن یجاب عن المناقشة : بأنّ لفظ « الرزق » لم یرد فی جواب الإمام علیه السلام حیث حکم بأنّه سحت . وهذه الروایة من القرائن التی مرّ آنفاً بأنّ هذه الألفاظ الثلاثة فی

ص:163


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 95 ح 12 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 320 .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 221 ح 1 . الباب 8 من ابواب آداب القاضی .

المقام لها معنی واحد ، ولذا حمل العلامة المجلسی الصحیحة علی الاُجرة وقال : « وحُمل علی الاُجرة ، والمشهور جواز الإرتزاق من بیت المال »(1) .

ولکن مع ذلک کلّه بقی الإشکال بأنّ السائل یسأل عمّا أبتلی به ، وهو اُجور قضاة الجور المعهود فی ذلک الزمان ، فلیس للروایة إطلاق حتّی تشمل اُجور قضاة العدل ، ولذا قال الشیخ الأعظم : « إنّ ظاهر الروایة کون القاضی منصوباً من قبل السلطان الظاهر - بل الصریح - فی سلطان الجور »(2) . وهو متینٌ .

ومنها : خبر یوسف بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لعن رسول اللّه علیه السلام من نظر إلی فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه فی امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إلیه لتفقّهه فسألهم الرشوة(3) .

دلالة الروایة علی حرمة اُجور القضاة تامة ، لأنّ الناس یحتاجون إلی القاضی لتفقّهه ، وإذا سألهم الاُجرة یشمله إطلاق الروایة ، وأمّا حمل الرشوة علی اُجور القضاة - وإن یکن بعیداً فی بادیء النظر - ولکن إذا حملنا لفظ « الرشوة » علی معناها اللغوی تشمل اُجور القضاة أیضاً ، فتمَّ الإستدلال بالروایة . ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر حمزة بن حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من استأکل بعمله افتقر ، فقلت له : جعلت فداک ، إنّ فی شیعتک وموالیک قوماً یتحمّلون علومکم ویبثّونها فی شیعتکم فلا یعدمون علی ذلک منهم البرّ والصلة والإکرام ، فقال علیه السلام : لیس أولئک بمستأکلین ، إنّما المستأکل بعمله الذی یُفتی بغیر علمٍ ولا هدی من اللّه عزّ وجل لیبطل به الحقوق طمعاً فی حُطام الدنیا(4) .

غایة ما یمکن أن یقال فی الإستدلال بالروایة : بأنّ قضاة الجور یدخلون فی الذین

ص:164


1- (1) مرآة العقول 24 / 270 ح 1 .
2- (2) المکاسب / 30 الطبع الحجری (1 / 243) .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 5 .
4- (4) معانی الأخبار / 181 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27 / 141 ح 12 . الباب 11 من أبواب صفات القاضی .

یفتون بغیر علم ولا هدی من اللّه عزّ وجل لیبطلوا به الحقوق ، فیشملهم إطلاق الروایة ، فما یأخذونه فی قبال أحکامهم یکون حراماً . ولکن الروایة تشمل قضاة الجور فقط ، لأنّ قضاة العدل لا یفتون بغیر علم ولا هدی ولا یبطلون به الحقوق فلا تشملهم الروایة . فهذه تدلّ علی حرمة اُجور قضاة الجور ،

ولکن المُدعی أعم من هذا . وفی سندها أیضاً ضعف .

والحاصل : أن الروایات تدلّ علی حرمة اُجور القضاة مطلقاً .

الثالث : القضاء من المناصب الالهیة

النبوة والإمامة من المناصب الإلهیة وهما فوق الأجر والجُعل ، ولذا أمر اللّه تعالی أنبیاءه علیهم السلام أن یقولوا : «وَمَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِیَ إِلاَّ عَلَی رَبِّ الْعَالَمِینَ»(1) .

وأمر اللّه خاتم أنبیائه صلی الله علیه و آله وسلم أن یقول : «قُلْ مَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ»(2) ویقول عنه : «مَا تَسْأَلُهُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ»(3) .

وأمّا قوله تعالی : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی»(4) حیث جعل اللّه المودّة فی حقِّ أقرباء النبی صلی الله علیه و آله وسلم أجراً للرسالة ، نفعها یرجع إلی الاُمة لا إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، والشاهد علی ذلک قوله تعالی : «قُلْ مَا سَأَلْتُکُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ إِنْ أَجْرِیَ إِلاَّ عَلَی اللَّهِ»(5)(6) .

والإمامة أیضاً وصایة النبی ، والأمر فیها کما فی النبوة .

ثمّ مِنْ مناصب الفقیه الجامع للشرائط : الإفتاء والقضاء اللذان جعلهما الإمام علیه السلام له ،

ص:165


1- (1) سورة الشعراء / 109 و 127 و 145 و 164 و 180 .
2- (2) سورة ص / 86 .
3- (3) سورة یوسف / 104 .
4- (4) سورة الشوری / 23 .
5- (5) سورة سبأ / 47 .
6- (6) ولتوضیح هذا البیان راجع إلی کتابی ولایت وامامت / 100 المطبوع باللغة الفارسیة عام 1370 ه- . ش .

فهما من المناصب الإلهیة ، فلا یجوز اُخذ اُجرة والجُعل علیهما .

وأشار إلی هذا الإستدلال صاحب الجواهر بقوله : « لأنّه (أی القضاء) من مناصب السلطان الذی أمر اللّه تعالی بأن یقول : «لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً»وأوجب التأسیبه»(1) .

واعترف المحقق الخوئی غیر مرّة بأن الإفتاء والقضاء من الاُمور المجانیة ، حیث یقول : « ... إنّ الأمور التی یکون وضعها علی المجانیة ، فإنّ أخذ الاُجرة یعدّ رشوة فی نظر العرف ، ومن هذا القبیل القضاء والإفتاء»(2) ، ثمّ بعد صفحة أضاف إلیهما أمر تبلیغ الأحکام الشرعیة فقال : « ثمّ الظاهر أنّه لا یجوز أخذ الاُجرة والرشوة علی تبلیغ الأحکام الشرعیة وتعلیم المسائل الدینیّة ، فقد عرفت فیما تقدّم : أنّ منصب القضاء والإفتاء والتبلیغ یقتضی المجانیّة»(3) .

ثم قال بعد أکثر من مائتی صفحةٍ : « ... لا یجوز أخذ الاُجرة علی القضاء للروایات الخاصة ، وأنّ الظاهر من آیة النفر الآمرة بالتفقه فی الدین وإنذار القوم عند الرجوع إلیهم أنّ الإفتاء أمرٌ مجانیٌّ فی الشریعة المقدسة ، فیحرم أخذ الاُجرة علیه ، ویؤیده قوله تعالی : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی» »(4) .

والحاصل ، فهذان المنصبان - الإفتاء والقضاء - من المناصب الإلهیة ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علیهما لعظمتهما ورفعتهما .

الرابع : القضاء واجبٌ فلا یجوز أخذ الأجرة علیها

تقریب الاستدلال : القضاء واجب ووجوبها یکون عینیّاً أو کفائیّاً ، وأخذ الاُجرة علی الواجبات لا یجوز فی الشریعة المقدسة ، فأخذ الاُجرة علی القضاء لا یجوز .

وفیه : أنه یمکن المناقشة فی الکبری بأنّ وجوب الفعل علی المکلف ولو کان تعبدیّاً لا یوجب عدم جواز أخذ الاُجرة علیه ، بل یکفی فی قصد التقرب المعتبر فی العبادة أنّه لو لم یکن أمر الشارع بالواجب لما کان یأتی به حتّی مع إعطاء الاُجرة علیه . والموجب لعدم جواز أخذ

ص:166


1- (7) جواهر الکلام 22 / 122 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 266 .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 286 .
4- (3) مصباح الفقاهة 1 / 481 .

الاُجرة علی الفعل أحد الأمرین علی سبیل منع الخلو :

أحدهما : أن یکون إیجابه علی المکلف بأن یأتی به مجاناً کتغسیل الموتی بل تجهیزهم .

ثانیهما : عدم المالیة لذلک الفعل بحیث یکون أخذ العوض علیه من أکل المال بالباطل سواء کان الفعل واجباً أو مندوباً(1) ، نحو : إقامة الصلاة الواجبة علی المکلَّف لنفسه والإتیان بصیامه أو إقامته صلاة اللیل .

ومن الواضح أنه لم یدخل القضاء فی القسم الثانی ، وإدخاله فی القسم الأوّل یحتاج إلی ثبوت کونه من الواجبات المجانیة ، فإذا ثبت هذا لا نحتاج إلی هذه الکبری والإستدلال .

والحاصل ، هذا الدلیل لیس بدلیل مستقل عندنا ، بل یرجع ثبوته إمّا إلی الدلیل الثالث أی کون القضاء من المناصب الإلهیة - أو إلی الدلیل الثانی - أی الروایات الناهیة عن أخذ الاُجرة علی القضاء .

وسوف یأتی البحث مفصلاً حول هذه الکبری عند تعرض الشیخ الأعظم قدس سره فی النوع الخامس من المکاسب المحرَّمة ، وهو : « ما یجب علی الإنسان فعله عیناً أو کفایةً ، تعبداً أو توصّلاً» فانتظر .

وبالجملة ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علی القضاء مطلقاً ، وأمّا إرتزاقه من بیت المال فسیأتی البحث حوله .

أخذ الاُجرة علی مقدمات القضاء

هل یجوز أخذ الاُجرة علی مقدمات القضاء ، نحو : سماع الشهادة والبیّنة أو التحلیف أو التزکیة والجرح ، أو الذهاب إلی الإمرأة المستورة الشریفة لسماع شهادتها أو جوابها أو إحلافها ، أو الذهاب إلی الذین لا یمکن إحضارهم ، مثل : العلماء والأجلاء والفقهاء العظام ، أو کتابة الحکم ورَشْمه أی ختمه ، أو أخذ الاُجرة علی کاتبه وخدمه وعماله ومترجمه إذا احتاج

ص:167


1- (4) أشار إلی هذا البیان شیخنا الأستاذ - مدظله - فی دروسه من کتاب القضاء کما کتبته عنه ، وفی کتابه اُسس القضاء والشهادة / 42 .

إلیه ، أم لا یجوز أخذ الاُجرة علی شیءٍ من هذه أو فیها التفصیل ؟

قال الشیخ جعفر کاشف الغطاء : « والأخذ علی مقدمات القضاء من سماع الشهادة أو التحلیف أو التزکیة والجرح ، أخذٌ علی القضاء . ولیس منه الأخذ علی الکتابة أو الرَّشْم أو الخروج من داره إلی محلّ آخر طلبه أحد الخصمین ونحو ذلک ، غیر أنّه لا یقع إلاّ من السفلة إلاّ مع إلجاء الضرورة ، وأمّا ثمن القرطاس وما یصرفه من المال فلا بأس بأخذه ... ولا بأس بأخذ الخدّام والعمال والمباشرین الاُجرة علی عملهم»(1) .

وقال تلمیذه السید العاملی : « ویلحق بالقضاء مقدماته کسماع الشهادة وأدائها والتحلیف والتزکیة والجرح ، ولا یلحق به علی الظاهر کتابة الحجّة وختمها بخاتم القاضی ، علی تأمّل فی هذین ، لأنّهما فی هذا الزمان قد صارا کأنّهما جزءً من القضاء ومن مقدماته ، إذ لا

ترفع الخصومة إلاّ بهما »(2) .

وقال تلمیذه الآخر فی الجواهر : « وعلی کلِّ حالٍ فمقدمات القضاء کسماع الشهادة والجرح والتعدیل ونحوهما فی تحریم العوض ، بل لا یبعد استفادة حرمة الاُجرة علیها من حرمتها علی القضاء . نعم : لا بأس بأخذ الاُجرة علی ما کان خارجاً عن القضاء ومقدماته کالکتابة والرسم(3) ونحوهما ، مع أنّه لا ینبغی استعماله من قوّام الشرع وحفظته ، ولا استعمال بعض الأرذال الذین یحتالون لأخذ الجُعل علی القضاء بذلک ، وبالتحاکم فی مکان مخصوص ونحوه من الاُمور الزائدة علی القضاء ، لما فیه من النفرة وجلب التهمة وعدم رغبة الناس فی الدین وأهله»(4) .

وقال تلمیذ صاحب الجواهر السید علی آل بحر العلوم : « ویلحق بالقضاء فی حکم الاُجرة مقدماته من سماع البیّنة والتحلیف ونحو ذلک ، بل منه ظاهر الاُجرة علی الذهاب إلی الإمرأة الغیر المبرزة لإحلافها أو سماع جوابها ، ولیس منه کتابة الحجة وختمها بخاتمه ، فله

ص:168


1- (1) شرح القواعد 1 / 291 .
2- (1) مفتاح الکرامة 12 / 328 .
3- (2) کذا فی المطبوعة ، والظاهر أنّ الصحیح الرَّشم بمعنی الختم .
4- (3) جواهر الکلام 22 / 123 .

أخذ الشیء علیهما ، وإن وجبت الإجابة إلی الحجة - کما فی بعض الصور کما تسمعه - فی القضاء لعدم فهم المجانیّة فیه لخروجه عن القضاء»(1) .

أقول : الظاهر إلحاق مقدمات القضاء به ، بل إلحاق مؤخراته به نحو الکتابة والختم ، لأنّهما صارا الیوم من أجزاء القضاء ، کما نبّه علیه السید العاملی(2) فیما ذکر من کلامه ، بل یمکن القول بعدم الجواز مطلقاً بالنسبة إلی مقدماته ولوازمه ومؤخراته ، حتّی بالنسبة إلی الخدّام والعمال ، لأنّها من مواضع التهمة التی اُمرنا بالإجتناب عنها وتوجب النفرة والفرار عن الدین وأهله ویفتح بها باب الرشوة بعناوین أخری ، والعلم عند اللّه تعالی .

ارتزاق القاضی من بیت المال

المشهور علی جواز ارتزاق القاضی من بیت المال مع الحاجة وعدم التعیین ، بل علیه الإجماع کما قال العلاّمة فی التحریر : « السادس : إذا ولّی من یتعیّن علیه القضاء ، فإن کان ذا

کفایة حرم علیه أخذ الرزق علی القضاء لأنّه یؤدی فرضاً و ... وإن لم یکن ذا کفایة جاز له أخذ الرزق علیه ، لأنّ بیت المال للمصالح وهذا أعظمها .

وإن لم یتعیّن علیه القضاء وکان ممّن یجوز له القضاء ، فإن کان ذا کفایة استحب له أخذ(3) الرزق وإن أخذ جاز ، وإنْ لم یکن ذا کفایة جاز له أخذ الرزق علیه إجماعاً .

وأمّا أخذ الاُجرة علیه ، فإنّه حرام بالإجماع ، سواء تعیّن علیه أو لم یتعیّن ، وسواء کان محتاجاً أولا»(4) .

ونقل السید جواد العاملی فی جواز الإرتزاق هذا القول عن العلامة وولده والشهید ،

ص:169


1- (4) برهان الفقه - کتاب التجارة / 47 الطبع الحجری .
2- (5) مفتاح الکرامة 12 / 328 .
3- (1) کذا فی المطبوعة ، والظاهر أنه تصحیف « ترک» أو « أن لا یأخذ» ، والعبارة الصحیحة تکون هکذا : « فإن کان ذا کفایة استحب له ترک أو أن لا یأخذ الرزق وإن أخذ جاز» .
4- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 و 114 .

حیث یقول : « علی ما إذا کان محتاجاً ... لکن فی الإرشاد(1) وشرحه لولده(2) وقضاء الدروس(3) زیادة عدم التعیین»(4) .

وقال السید علی آل بحر العلوم : « بلا خلاف أجده ظاهراً ، بل صرح بعد بالإجماع علیه غیر واحد ، للأصل ولأنّه لا یقتصر عن المحاویج ، بل هو اُولی لاشتغاله بأهم مصالح المسلمین ... »(5) .

بل المشهور علی جواز الإرتزاق مع التعیّن والحاجة کما مرّ عن قضاء الشرائع(6) والقواعد(7) والمعالم(8) واللمعة(9) وجامع المقاصد(10) والروضة(11) ومجمع الفائدة(12) .

بل یمکن انتساب جواز الإرتزاق مطلقاً - أی مع التعیّن وعدم الحاجة - إلی المشهور ،

کما قال جدنا الشیخ جعفر : « (ویجوز أخذ الرزق علیهما) من غیر قصد المعاوضة مع التعیین وعدمه ومع الحاجة وعدمها (من بیت المال) أو من الأوقاف أو من متبرّع وقبول الهدایا ، للأصل والإجماع المنقول . وقد یجب الأخذ فی القضاء مع إتحاده ، وعدم تمکّنه من القیام به من غیر اکتساب ، ومنافاة الاکتساب له»(13) .

ص:170


1- (3) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
2- (4) شرح إرشاد الأذهان / مخطوط - نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12 / 326 .
3- (5) الدروس الشرعیة 2 / 69 .
4- (6) مفتاح الکرامة 12 / 326 .
5- (7) برهان الفقه . کتاب التجارة / 45 طبع الحجری .
6- (8) شرائع الاسلام 4 / 60 .
7- (9) قواعد الأحکام 3 / 422 .
8- (10) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
9- (11) اللمعة الدمشقیة / 94 .
10- (12) جامع المقاصد 4 / 37 .
11- (13) الروضة البهیة 3 / 71 .
12- (14) مجمع الفائدة 8 / 94 .
13- (1) شرح القواعد 1 / 290 .

وقال تلمیذه فی الجواهر : « قد صرّحوا برزقه منه مع کفایته وتعینه للقضاء»(1) .

وقال الفاضل النراقی : « یجوز له الإرتزاق من بیت المال ، ولو مع التعین وعدم الحاجة ، کما صرح بهما والدی فی معتمد الشیعة ، وادّعی بعضهم الإجماع علیه»(2) .

واسْتُدِلَ علی جواز الإرتزاق من بیت المال بمعتبرة عهد العلوی علیه السلام إلی مالک الأشتر النخعی ، کتب علیه السلام إلیه : « ثم اختر للحکم بین الناس أفضل رعیتک فی نفسک ممّن لا تَضِیقُ به الاُمور ... إلی أن یکتب : ثم أکثر تعاهد قضائه وافسح له فی البذل ما یزیل علّته وتَقِلُّ معه حاجته إلی الناس ، واعطه من المنزلة لدیک ما لا یطمع فیه غیره من خاصتک ، لیأمن بذلک اغتیال الرجال له عندک ... »(3) .

لهذا العهد سند معتبر فی ترجمة الأصْبَغ بن نُباتة الُمجاشِعِی کما فی رجال النجاشی(4) وفهرس الشیخ(5) . وفقرة « وافسح له فی البذل ما یزیل علته وتَقِلُّ معه حاجته إلی الناس » دالة علی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً ، سواء تعیّن علیه القضاء أم لا ، وسواء کان ذا کفایة أو لا .

وبمرسلة حماد الطویلة عن العبد الصالح علیه السلام قال : « ... فیکون بعد ذلک أرزاق أعوانه علی دین اللّه وفی مصلحة ما ینوبه من تقویة الإسلام وتقویة الدین فی وجوه الجهاد وغیر ذلک ممّا فیه مصلحة العامة ... »(6) .

والروایة وإن کان فی سندها إرسال ولکن الأصحاب نظروا إلیها بعین القبول . وفقرة

« وغیر ذلک ممّا فیه مصلحة العامة» تشمل القضاء ، بل القضاء من أهمّ مصادیق مصالح العامة

ص:171


1- (2) جواهر الکلام 22 / 132 .
2- (3) مستند الشیعة 17 / 68 .
3- (4) نهج البلاغة / الکتاب 53 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27 / 223 ح 9 . الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
4- (5) رجال النجاشی / 8 الرقم 5 .
5- (6) فهرست کتب الشیعة وأصولهم / 88 الرقم 119 .
6- (7) وسائل الشیعة 27 / 221 ح 2 .

کما لا یخفی . فتدلّ علی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً ، لأنّ من المصالح إعطاء القاضی مع تعیّن القضاء علیه ومع تمکنه .

وهاتان الروایتان تکفیان فی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً مع فتوی المشهور علی ذلک بل بعض الإجماعات المنقولة ، واللّه العالم .

ویؤیدها مرسلة القاضی نعمان المصری عن علی علیه السلام أنّه قال : « لابدّ من إمارة ورزق للأمیر ، ولابدّ من عریف ورزق للعریف ، ولابدّ من حاسب ورزق للحاسب ، ولابدّ من قاضٍ ورزق للقاضی ، وکره أن یکون رزق القاضی علی الناس الذین یقضی لهم ولکن من بیت المال»(1) .

وهنا أذکر لک کلام جدی الشیخ جعفر قدس سره وأختم البحث به ، قال بعد ما نقلت من کلامه آنفاً :

« وما فی کلام جماعة من أصحابنا من تحریم الإرتزاق یُراد به تحریم الاُجرة ، ویؤیّده أن فی بعض عباراتهم(2) تفسیر أحدهما بالآخر ، وکذا الأخبار(3) المانعة من الإرتزاق فی القضاء منزلّة علی ما ذکرناه ، ولیس بداخل تحت الرشا ، ولا الاُجرة والجعالة ولا غیرهما من الأعواض»(4) .

حکم الهدیة للقاضی
اشارة

قال الشیخ الطوسی : « فأما الهدیة فإن لم یکن بمهاداته عادة حرم علیه قبولها ، والعامل علی الصدقات کذلک ، لما روی عن النبی - ثمّ ذکر ثلاث روایات یأتی ذکرها فیما بعد ، وقال : - فإن قیل : ألیس قد قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : لو دعیت إلی ذراع لأجبتُ ، ولو اُهدی إلیَّ کراع لقبلتُ ؟ قلنا : الفصل بینه وبین اُمّته أنّه معصوم عن تغییر حکم بهدیّة وهذا معدوم فی غیره .

ص:172


1- (1) دعائم الاسلام 2 / 538 ح 1912 .
2- (2) کعبارة الشیخ الطوسی فی النهایة / 367 کما مرّت منّا .
3- (3) کصحیحة عبد اللّه بن سنان المرویة فی وسائل الشیعة 27 / 221 ح 1 کما مرّت منّا .
4- (4) شرح القواعد 1 / 291 .

هذا إذا اُهدی له من لم یجزء له بمهاداته عادة ، فأمّا إن کان ممّن جرت عادته بذلک کالقریب والصدیق الملاطف نظرت ، فإن کان فی حال حکومة بینه وبین غیره أو أحس بأنّه

یقدمها لحکومة بین یدیه حرم علیه الأخذ کالرشوة سواء ، وإن لم یکن هناک شیء من هذا فالمستحب أن یتنزَّه عنها .

هذا کلّه إذا کان الحاکم فی موضع ولایته ، وأمّا إن حصل فی غیر موضع ولایته فاُهدی له هدیة فالمستحب له أن لا یقبلها ، قال بعضهم یحرم علیه ، فکلّ موضع قلنا لا یحرم علیه قبولها فلا کلام ، وکلّ موضع قلنا یحرم علیه ، فإن خالف وقبل فما الذی یصنع ؟ فإن کان عامل الصدقات ، قال قوم : یجب علیه ردّها وقال آخرون : یجوز أن یتصدّق علیه بها ، والأوّل أحوط .

وأمّا هدیة القاضی قال قوم یضعها فی بیت المال لیصرف فی المصالح ، وقال آخرون یردّها علی أصحابها ، وهو الأحوط عندنا ... »(1) .

قال العلامة فی التحریر : « وأمّاالهدیة فإن کانت ممّن له عادة بقبول الهدیة منه فلا بأس ، إلاّ أن یفعل ذلک لأجل الحکم فتحرم ، وإن کانت ممّن لا عادة له بالإهداء ، فالوجه تحریمها لأنّه کالرشوة»(2) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ثمّ الظاهر أنّه یجوز له قبول الهدیة ، فإنّه مستحب فی الأصل ، إلاّ أنّه یمکن أن یقال : صار حینئذ مکروهاً ، لاحتمال کونها رشوة . إلاّ أن یَعْلَمَ بالیقین أنّها لیست کذلک ، مثل أن کان بینه وبین المُهدِی صداقة قدیمة ، وعلم أن لیس له غرض من حکومته وخصومته بوجهٍ ، أو یکون غریباً لا یعلم ، أو جاء من السفر وکان عادته ذلک ، أو فعل ذلک بالنسبة إلیه وإلی غیره . ومع ذلک لا شک أنّ الأحوط هو الاجتناب فی وقت یمکن ویحتمل احتمالاً بعیداً لکونها رشوة»(3) .

الروایات الواردة فی حکم الهدیة

قد استدلوا علی حرمة الهدیة علی القاضی بعدّة من الروایات :

ص:173


1- (1) المبسوط 8 / 152 .
2- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 116 .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 51 .

منها : خبر الأصبغ عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : أیّما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه یوم القیامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدیة کان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرک(1) .

بتقریب : أنّ القضاة من الولاة ویمکن أن یقال : أنّ القضاء من أهم الولایات فأخذ الهدیة لهم غلول ، والغلول فی معنی الخیانة والسرقة المحرَّمتان ، فأخذ الهدیة للقضاة حرام . ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر جابر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة الاُمراء غلول(2) .

بعین التقریب الذی مرّ آنفاً ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : مرسلة الشیخ الطوسی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة العمال غلولٌ(3) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة العمال سحت(4) .

ومنها : مرسلة ثالثة له قال : روی أبو حُمید الساعدی قال : استعمل النبی صلی الله علیه و آله وسلم رجلاً من الأسد یقال له : « أبو البنیة » وفی بعضها « أبو الأبنیة » علی الصدقة ، فلمّا قدّم قال : هذا لکم وهذا أهدی إلیَّ ، فقام النبی صلی الله علیه و آله وسلم علی المنبر فقال : ما بال العامل نبعثه علی أعمالنا یقول : هذا لکم وهذا أهدی إلیَّ ، فهلاّ جلس فی بیت أبیه أو فی بیت اُمّه ینظر یهدی له أم لا ؟ والذی نفسی بیده لا یأخذ أحد منها شیئاً إلاّ جاء یوم القیامة یحمله علی رقبته ، إن کان بعیراً له رُغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تنعر . ثمّ رفع یده حتّی رأینا عفرة إبطیه ثمّ قال : اللهم هل بلغّت ؟ ، اللهم هل بلغّت ؟(5) .

الروایة عامیة ، رویت فی صحیح مسلم 3 / 1463 ، کتاب الإمارة ، باب تحریم هدایا العمال ح 26 . نعرت العنز تنعِر نَعاراً : أی صاحت . والنعیر : أی الصوت . عُفرة الأبط : بیاضه

ص:174


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 10 الباب 5 من أبواب ما یکتسب به .
2- (1) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 6 الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
3- (2) المبسوط 8 / 151 .
4- (3) المبسوط 8 / 151 .
5- (4) المبسوط 8 / 151 .

الرُغاء : صوت الإبل . الخوار : صوت البقر . وعبد اللّه ابن اللتبیّة مذکور فی اُسد الغابة 3 / 250 وابن اللتبیّة فیه 5 / 329 وکلاهما واحد .

وبالجملة ، الروایة مرسلة عامیة ووردت فی عمّال الصدقة ، فلا ترتبط بهدیة القضاة .

ومنها : مرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبته : وأعجب من ذلک طارقٌ طَرَقَنا بمَلْفُوفَةٍ فی وعائِها ومعجونةٍ شَنِئْتُها کَأَ نَّما عُجِنَتْ بریقِ حَیَّةٍ أو قَیْئِها ، فقلتُ : أصِلَةٌ أم زکاةٌ أم صدقةٌ ؟ فذلک محرَّمٌ علینا أهلَ البیت ! فقال : لا ذا ولا ذاک ولکنّها هدیّةٌ ، هَبِلَتْکَ الْهَبُولُ ! أعن دینِ اللّه ِ أتَیْتَنی لِتَخْدَعنی ؟ أمُخْتَبِطٌ أنتَ أم ذو جِنَّةٍ ؟ أم تَهْجُرُ ؟ واللّه

لو اُعطیتُ الأقالیمَ السبعةَ بما تحتَ أفلاکها علی أن أعْصِیَ اللّه فی نَمْلَةٍ أسْلُبُها جُلبَ شَعِیرَةٍ ما فَعَلْتُهُ ، وإنّ دنیاکم عندی لأَهونُ مِنْ وَرَقَةٍ فی فم جرادَةٍ تَقْضَمُها ، ما لعلیٍّ ولنعیمٍ یَفْنَی ولَذَّةٍ لا تَبْقَی ، نعوذُ باللّه ِ من سُبَاتِ العقلِ وقُبْحِ الزّلَلِ وبه نستعین(1) .

المُهدِی : هو الأشعث بن قیس ، والظاهر أنّه أراد بهدیّته هذه حکماً باطلاً بنفعه من أمیر المؤمنین علیه السلام ، وهیهات ما هکذا الظن به سلام اللّه علیه وعلی اُولاده .

الملفوفة : نوع من الحلواء . شنئتها : کرهتُها . الصلة : العطیة . هبلتک : ثکلتک ، الهَبُول : المرأة لا یعیش لهاولد . ذو جِنّة : مَن أصابه مسّ الشیطان . تهجر : تهذی بما لا معنی له فی المرض وغیره . جُلب الشعیرة : قشرتها . قَضُمتِ الدابةُ الشعیرَ : کسرته بأطراف أسنانها . سبات العقل : نومه . الزلل : السقوط فی الخطأ .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن علی علیه السلام فیما کتبه إلی رفاعة لمّا استقضاه علی الأهواز : ذر المطامع وخالف الهوی - إلی أن کتب علیه السلام - إیّاک وقبول التحف من الخصوم ، وحاذر الدُّخلة ، الکتاب(2) .

ومنها : خبر أحمد بن عبد اللّه الهروی الشیبانی وداود بن سلیمان الفراء عن علی بن

ص:175


1- (1) نهج البلاغة . الخطبة 224 .
2- (2) دعائم الإسلام 2 / 534 خ 1899 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17 / 347 ح 1 . الباب 1 من أبواب آداب القاضی .

موسی الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل «أَکَّالُونَ لِلسُّحْتِ»(1) قال : هو الرجل یقضی لأخیه الحاجة ثمّ یقبل هدیته(2) .

ومنها : مرسلة اُخری للرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین أنّه قال فی خطبته : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یا علی إنّ القوم سیفتنون بأموالهم ویمنّون بدینهم علی ربّهم ویتمنَّون رحمته ویأمنون سطوته ویستحلّون حرامه بالشبهات الکاذبة والأهواء الساهیة ، فیستحلّون الخمر بالنبیذ والسحت بالهدیة والربا بالبیع(3) .

هذه الروایات الواردة فی حکم الهدیة للقاضی ، وأنت تری ضعف أسنادها ، وعدم تمامیة دلالة جُلِّها لو لا کُلِّها ، فلا یمکن تخصیص العمومات الواردة فی استحباب الهدیة وقبولها بها . نعم یمکن حملها علی ما إذا أراد المُهدی الرشا المحرّم باسم الهدیة ، أو أراد من الوالی تضییع

حقٍّ أو تمشیة باطلٍ ونحوها ، ومن الواضح أن الصورة الأخیرة لا یخفی علیهما ، وحینئذ الهدیة فقط اسم لواقع آخر محرّم ، فیمکن القول بحرمتها .

وفی الفرض الشک فی دخولها تحت الصورة الأخیرة ، وإن کانت العمومات والأصل تقتضی الجواز ، ولکن الإحتیاط الذی هو سبیل النجاة یقتضی ترکه .

وبما ذکرنا یمکن الجمع بین أقوال الأصحاب قدس سرهم فی المقام ، واللّه هو العالم بالأحکام .

حکم الرشوة فی غیر الأحکام

الرشوة فی غیر الأحکام یُتصور علی ثلاثة وجوه :

الأوّل : قد تکون لإصلاح أمر حلال أو مباح ، فلا بأس فی جوازها إعطاءً وأخذاً ، لأنّ المعطی أعطاها لإصلاح أمرٍ حلالٍ أو مباحٍ والآخذ یعمل شیئاً فیأخذها فی قبال عمله المحترم . والشاهد علی ذلک صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل

ص:176


1- (3) سورة المائدة / 42 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 95 ح 11 .
3- (5) نهج البلاغة . الخطبة 156 .

یرشو الرجل الرشوة علی أن یتحوّل من منزله فیسکنه ؟ قال : لا بأس به(1) .

هذا بناءً علی أنّ المراد المنزل المشترک کالأوقاف العامة أو الموقوفة علی قبیل وهما منه أو المدارس وحجراتها أو المشاهد أو نحوها .

ویؤیدها معتبرة أو موثقة حکم بن حکیم الصیرفی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام وسأله حفص الأعور فقال : إنّ السلطان یشترون منّا القُرب والإدواة فیوکلون الوکیل حتی یستوفیه منّا فنرشوه حتّی لا یظلمنا ، فقال : لا بأس ما تصلح به مالک . ثمّ سکت ساعة ثمّ قال : أرأیت إذا أنت رشوته یأخذ أقل من الشرط ؟ قال : نعم ، قال : فسدت رشوتک(2) .

إسماعیل ومحمد وحکم ثقات إلاّ أنّ أولهم واقفیٌّ . فالسند معتبر بل موثق .

والقُرَب جمع قربة : سقاء یجعل فیه الماء أو اللبن . الإداوة : إناء صغیر من جلد یجعل فیه الماء وجمعها : الأداوی .

فصدر الموثقة تدلّ علی جواز ما ذکرنا ، کما تدلّ علی جواز إعطاء الرشوة لدفع الظلم و إن حرم أخذها حینئذٍ علی المرتشی .

الثانی : قد تکون الرشوة لبلوغ أمر محرّم أو إتمامه ، فلا شبهة فی حرمتها علی المعطی

والآخذ کلیهما لما مرّ من حرمة أخذ المال علی عمل محرّم ، وتؤیدها بل یدلّ علیه ذیل الموثقة الماضیة آنفاً حیث سأل الإمام علیه السلام : أرأیت إذا أنت رشوته یأخذ أقل من الشرط ؟ قال : نعم ، قال : فسدت رشوتک .

الثالث : قد تکون الرشوة لأمر مشترک بین جهتی الحلال والحرام ، فإن قصد الراشی الحرام ووقع فصارت حراماً وإن قصد الحلال ووقع فصارت حلالاً . لأنّه بالقصد ووقوع الحلال یدخل فی القسم الأوّل وبالقصد ووقوع الحرام یدخل فی القسم الثانی .

وأمّا إذا قصد المشترک بینهما فهل هی حلال أم حرامٌ ؟ قد یقال : بحرمتها حینئذٍ ، لأنّه أکل للمال بالباطل ، وإطلاق الروایات الواردة فی هدیة الولاة والعمال .

ص:177


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 287 ح 2 . الباب 85 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) التهذیب 7 / 235 ح 45 ونقل عنه مع اختلاف فی السند فی وسائل الشیعة 18 / 96 ح 1 . الباب 37 من أبواب أحکام العقود .

ولکن یمکن المناقشة فیهما : بأنّ الأخذ علی الجهة المشترکة لیس أخذاً بالباطل ، والروایات کلّها ضعیفة السند کما مرّت ، ویمکن حملها(1) علی الرشوة المصطلحة أعنی فی الحکم والقضاء . فالعمومات والأصل یقتضی الجواز ، واللّه العالم .

حکم المعاملة المحاباتیة مع القاضی

قسّم الشیخ الأعظم(2) قدس سره المعاملة المشتملة علی المحاباة مع القاضی إلی ثلاثة أقسام ، وإنّا نتبع أثره :

الأوّل : الغرض الأصلی للبائع هو حکم القاضی له ولم یتعلق غرضه بأصل البیع ، فالبیع اسم فقط لانتقال المال إلی القاضی لیحکم له ، بحیث لو لا المرافعة والحکم لم یبع ماله أصلاً مطلقاً ، أی بلا تقلیل الثمن وعدمه .

ففی هذا القسم لم یقصد البائع المعاملة المحاباتیة ، بل قصد الرشوة بإزاء الحکم له ، فالمعاملة صوریّة محضة فتدخل فی عنوان الرشاء ، فتحرم تکلیفاً وتبطل وضعاً .

الثانی : البائع یقصد أصل البیع ولکن غرضه من تقلیل الثمن إعطاء القاضی شیئاً لیحکم له ، بحیث لو لا المرافعة والحکم یبیع ماله ولکن بالثمن لا بتقلیله .

قد یقال : إنّ المحاباة وتقلیل الثمن فی قبال الحکم للبائع تکون کالشرط لهذه المعاملة ، والشرط حرام وفاسد . فإن قلنا بکون الشرط الفاسد مفسد للمعاملة فسدت المعاملة حینئذٍ ، وإن قلنا بعدم الإفساد وبتقسیط المبیع بالنسبة إلی الشرط والثمن صار حکمها حکم

بیع ما لا یملک بانضمام ما یملک ، نظیر بیع الخمر والخلِّ معاً أو الخنزیر والشاة معاً ، فحینئذٍ صحت المعاملة ولکن للمشتری خیار تبعّض الصفقة أو الرجوع إلی البائع فیما زاد من ثمن ما یملک .

وفی المقام حیث أنّ المشتری هو القاضی لم یقدم علی شیءٍ منهما یحکم بصحة المعاملة .

وإن قلنا بعدم إفساد الشرط الفاسد وذهبنا إلی عدم تقسیط الثمن بالنسبة إلی الشرط

ص:178


1- (1) أی حمل الروایات .
2- (2) المکاسب 1 / 248 .

- کما هو الصحیح المختار - فالمعاملة صارت صحیحة .

ذهب إلی صحة ا لمعاملة فی هذا القسم جماعة من الأصحاب ، منهم : الفقیه الیزدی(1) والمیرزا الشیرازی الثانی(2) والمحقق الإیروانی(3) والفقیه السبزواری(4) والمحقق الخوئی(5) وتبعه تلمیذه فی عمدة المطالب(6) .

والظاهر أنّ متابعة الأعلام الأفذاذ تامة ، لأنّ حرمة الرشوة تکلیفاً لم یسر إلی المعاملة ، فلا تبطلها وضعاً إلاّ علی القول بأنّ الشرط المفسد فاسدٌ .

الثالث : قصد البائع أصل البیع ولکن الداعی له من تقلیل الثمن والمحاباة جلب محبة القاضی ومیله وحبّه إلیه حتّی ینجر إلی الحکم له ، وفی هذا القسم أشبه شیءٍ بالهدیة للقاضی .

وحیث ذهبنا إلی جواز الإهداء للقاضی کما مرّ ، لا وجه لبطلان المعاملة فی هذا القسم . ووافقنا علی ذلک الأعلام الذین مرّت الإشارة إلیهم فی القسم الثانی آنفاً .

تنبیه : فی حکم المعاملة المحاباتیة ، المعاملة أو البیع بثمن المثل مع فرض قلّة المتاع وعزّته ، بحیث لو لا حکمه له أمسک علی متاعه ولم یقدم علی البیع لا من القاضی ولا من غیره ، ولکن باعه له بشرط حکمه للبائع أو بهذا الداعی ، فیجری فیها ما ذکرنا فی المعاملة المحاباتیة .

وفی حکمها ، بذل المنافع مجاناً أو بثمن أقل ، کسکنی الدار أو إجارة السیارة ونحوها لذلک ، واللّه سبحانه هو العالم .

حکم الرشوة وضعاً ووظیفة مَنْ أخذها

هل وجب علی الآخذ ردّها ؟ ولو تلفت فی یده کان ضامناً ببدلها من المثل أو القیمة أم لا ؟

ص:179


1- (1) العروة الوثقی 6 / 445 .
2- (2) حاشیة علی المکاسب 1 / 75 .
3- (3) حاشیة علی المکاسب 1 / 162 .
4- (4) مهذب الأحکام 16 / 95 .
5- (5) مصباح الفقاهة 1 / 274 .
6- (6) عمدة المطالب فی التعلیق علی المکاسب 1 / 210 للفقیه الحاج آقا تقی الطباطبائی القمی مدظله .

الظاهر أن هاهنا صوراً ثلاثة :

الأولی : قد یعطی الراشی لیحکم له القاضی علی خصمه ، بحیث یصیر مصداقاً للرشوة ، فحینئذ حیث یحکم بالحرمة تکلیفاً یحکم بالبطلان وضعاً ، فالمال لم ینتقل إلی المرتشی ویبقی فی ملک مالکه الراشی ، فلذا علی المرتشی ردّها إن کان عینه موجوداً أو ردّ بدله إن کان تالفاً .

والدلیل علی ذلک : بعد ادعاء نفی الخلاف فیه کما عن الغنائم(1) والمستند(2) بل ادعاء الإجماع علیه کما عن المسالک(3) وادعاء لا خلاف ولا أشکال کما فی الجواهر(4) ، لأنّ الرشوة حینئذٍ وقعت فی مقابل الحکم للراشی ، فتکون معاملة باطلة وصارت من صغریات « کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده » . وتدلّ علیه أیضاً عموم قواعد الضمان و« علی الید ما أخذت حتّی تؤدی » ، والإقدام حیث أنّ الآخذ أقدم علی ضمان ما أخذ والإتلاف فی فرض التلف .

إن قلت : الراشی راضٍ بتصرف المرتشی فی الرشوة ، وهذه الرضایة ترتفع الضمان .

قلت : الراشی راضٍ بعنوان الرشوة لا بعنوانٍ آخرٍ ، وحیث أنّ الشارع ألغی الرشوة عن المالیة وأخذ الوجه فی قبالها ، فلا توجب جواز أکل المال والتصرف فیه ، فالمرتشی یصیر ضامناً .

الثانیة : إذا أعطاه للقاضی علی سبیل الهدیّة وذهبنا إلی جوازها کما هو المختار فلا ضمان علیه ، لأنّه أخذها مشروعاً وحلالاً فیملکه ، فلا یجب علیه ردّه ولا ضمان علیه . وإن ذهبنا إلی حرمتها وأنّ إعطاءها علی المُهدی یکون حراماً ، وکذا علی آخذها ، ولکن حیث أنّ الدافع لم یقصد المقابلة بین الحکم والهدیة وإنّما أعطاه مجاناً لیحکم له فیکون هبة مجانیة فاسدة ، ولأنّ الداعی لیس قابلاً للعوضیة ولا مؤثراً فی الحکم الشرعی وضعاً ولا تکلیفاً فحینئذ یکون من

ص:180


1- (1) غنائم الأیام / 675 من الطبع الحجری .
2- (2) مستند الشیعة 17 / 74 .
3- (3) مسالک الأفهام 13 / 422 .
4- (4) جواهر الکلام 22 / 149 .

مصادیق قاعدة « ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده » .

الثالثة : وأمّا إذا أعطاه فی المعاملة المحاباتیة فلها أقسام ثلاثة کما مرّ منّا :

القسم الأوّل : إذا لم یقصد البیع بل غرضه الأصلی هو إعطاء الرشوة ، فحینئذ حکمه حکم الصورة الاُولی ، لأنّه فی الحقیقة رشوة ، فالآخذ ضامن .

وأمّا القسم الثانی : إذا تعلق غرضه بالبیع وتقلیل الثمن لأجل الحکم له فیکون کالشرط للمعاملة ، وذهبنا إلی صحة المعاملة کما هو المختار ، فلا ضمان علی المشتری وإن قلنا بفساد المعاملة حینئذٍ ، فعلی المشتری الضمان بالنسبة إلی ما یقلّل له .

وأمّا القسم الثالث : حیث قصد البیع وتقلیل الثمن کالداعی له لجلب محبّة القاضی فیصیر أشبه شیءٍ بالهدیة ، فیجری فیه حکم الصورة الثانیة یعنی الهدیة ، فلا ضمان علی المشتری لعین ما ذکرناه هناک .

هذا کلّه بالنسبة إلی مقدار النقص فی المعاملة المحاباتیة ، وبه تمّ الکلام فی حکم الرشوة وضعاً ، واللّه العالم بالأحکام .

فروع اختلاف الدافع والقابض

تعرّض الشیخ الأعظم(1) قدس سره لصور ثلاث فی المقام :

الصورة الأولی : أن یتوافق المترافعان علی عنوان واحد کالهبة ولکن الدافع یدعی أنّها ملحقة بالرشوة فی الفساد والحرمة ، والقابض یدعی أنّها هبة صحیحة لازمة بداعی القربة أو الرحمیة . وتظهر الثمرة فی جواز استرجاع العین علی الأوّل وعدمه علی الثانی إن کانت العین موجودة ، وأمّا مع التلف لاتظهر الثمرة ، لما مرّ أنّ ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده .

قد یقال : بتقدیم قول الدافع ، لأنّ القابض وضع یده علی مال الدافع ، وهذا محرز بالوجدان وعدم کونه بالهبة الصحیحة محرز بالأصل ، فیتم منهما موضوع الحکم بجواز

ص:181


1- (1) المکاسب 1 / 251 .

الاسترجاع ، ولا یعارض الأصل بأصالة الهبة الفاسدة لأنّها لا أثر لها .

ولکن یمکن أن یقال : بتقدیم قول القابض ، لأنّ أصالة الصحة فی العقود تتقدم علی جمیع الاُصول الموضوعیة ، وعلیه إتفاق کافة العلماء وبناء العقلاء ، کما فی مصباح الفقاهة(1) .

إن قلت : الدافع إنّما یدعی ما لا یُعلم إلاّ من قبله فیقدم قوله فی دعواه ، لأنّه أعرف

بضمیره .

قلت : الدلیل فی ثبوت هذه القاعدة - أی اعتبار القول ممّا لا یُعرف إلاّ من قبله - منحصر بموارد خاصة ، نحو : إخبار المرأة عن الحمل والحیض والطهر وأنّها ذات بعل أو غیر مزوّجة إذا لم تکن متهمة أو أنّها فی العدّة أو خرجت منها . ولا دلیل علی ثبوت هذه القاعدة فی جمیع الموارد . وإلاّ یجب قبول قول مدعی العدالة أو الإجتهاد أو الأعلمیة . اللهم إلاّ أن یمنع کون هذه الموارد الأخیرة لا تُعرف إلاّ من قبله ، فإنّ کلّها تعرف بآثارها أو عند أهلها ، کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(2) .

ولکن بنظری القاصر : فی هذه الصورة والمثال حیث تکون العین باقیة والقابض اعترف بأنّ المال انتقل إلیه من الدافع و الدافع یقول ببطلان الانتقال والقابض یدعی صحة الانتقال إلیه ، فیصیر القابض مدعیّاً والدافع منکراً ، فلابدّ للقابض من إقامة البیّنة علی صحة الانتقال ، ولو لم یقمها یحلف الدافع ببطلان الانتقال ویأخذ عین ماله . یعنی الأصل مع الدافع حینئذ .

ولکن إذا کانت العین تالفة صار الأمر علی عکس ما ذکرنا ، أعنی أنه صار الدافع مدعیّاً لأنّه إدعی الضمان والقابض منکراً ، فعلی الدافع إقامة البیّنة ولو لم یقمها یحلف القابض ویحکم ببراءة ذمّته من الضمان .

الصورة الثانیة : أن یکون کلّ منهما یدعی أمراً غیر ما یدعیه الآخر ، مثلاً لو ادعی الدافع أنّها رشوة أو اُجرة علی المحرّم وادعی القابض کونها هبة صحیحة .

ص:182


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 276 .
2- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 163 .

فی هذه الصورة یقدَّم قول الدافع ، لأصالة عدم تحقق الهبة الصحیحة الناقلة ، فإنّها أمر وجودی وموضوع للأثر ، فالأصل عدمها . ولا تعارضها أصالة عدم تحقق الرشوة المحرَّمة أو الإجارة الفاسدة ، لأنّهما لا أثر لهما ، وإنّما الأثر مترتب علی عدم تحقق السبب الناقل ، سواء معه تحقق شیٌ من الأسباب الفاسدة أم لم یتحقق ، کما ذکره المحقق الخوئی قدس سره (1) .

الصورة الثالثة : أن یتوافق المترافعان علی فساد الأخذ والإعطاء ولکن الدافع یدعی أنّها رشوة والقابض یدعی أنّها هدیة فاسدة . علی ثبوت قول الدافع یتبع الضمان علی القابض ، لأنّه أخذها علی سبیل الإجارة والجُعالة الفاسدتین ، وعلی ثبوت قول القابض لا یتبع الضمان ، لأنّه أخذها علی سبیل الهدیّة الفاسدة ، لأنّ الهبة الصحیحة لا ضمان فیها فکذا

الهبة الفاسدة .

نعم ، ثمرة هذه الدعوی تظهر بعد تلف المال ، إذ قبله یجوز للدافع استرجاع العین کما یجب علی الآخذ ردّها لا تفاقهما علی فساد المعاملة .

والتحقیق أن یقال فی هذه الصورة : لا یجوز لأحدٍ التصرف فی مال امری ء مسلم إلاّ بطیبة نفسه ، ومن المعلوم أنّ وضع الید علی مال الغیر بدون رضی مالکه یوجب الضمان للسیرة القطعیة ، فعلیه وضع الید فی المقام علی مال الغیر محرز بالوجدان ، وإذا ضممنا إلیه أصالة عدم رضی المالک بالتصرف المجانی ، یتشکّل الموضوع من ضم الوجدان إلی الأصل ویحکم بالضمان علی القابض ، کما علیه المحقق الخوئی(2) .

ذکر المحقق الخوئی قدس سره فی مقام الترافع صورةً رابعةً لا ترتبط بمسألة الرشوة وقال :

« الصورة الرابعة : أن یدعی کلٌّ منهما عنواناً صحیحاً غیر ما یدعیه الآخر ، کأن یدعی الباذل کونه بیعاً لیتحقق فیه الضمان ، ویدعی القابض کونه هبة مجانیّة لکی لا یتحقق فیه الضمان ، فإن أقام أحدهما بیّنهً أو حلف مع نکول الآخر حکم له ، وإلاّ وجب التحالف وینفسخ العقد ، وعلیه فیجب علی القابض ردّ العین مع البقاء أو بدلها مع التلف ، وهذه الصورة

ص:183


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 277 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 276 .

لا تنطبق علی ما نحن فیه»(1) .

أقول : حیث أن القابض اعترف بانتقال

المال إلیه من الدافع فی الفرض والأصل فی الانتقالات عدم کونها مجانیّة ، فعلی القابض أن یثبت صحة الانتقال وعدم المجانیّة ، فهو المدعی والدافع صار منکراً ، والبیّنة علی المدعی والیمین علی من أنکر ، ولم یدخل الفرض فی صورة التداعی خلافاً لهذا المحقق الجلیل قدس سره .

إلی هنا تمت مباحث الرشوة بطولها ، والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً ، واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه .

ص: 184


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 277 .

السبّ

اشارة

والکلام فیه یقع ضمن مقامات :

المقام الأوّل : ما معنی السبّ ؟

لم یرد فی الروایات تحدید معناه ، فلذا لابدّ فیه من الرجوع إلی اللغة والعرف ، فأذکر لک بعض کلمات اللغویین ثمّ الفقهاء :

1 - قال أحمد بن فارس المتوفی عام 395 : « سبّ السین والباء حَدّهُ بعضُ أهل اللغة - وأظنُّه ابن درید - أنّ أصل هذا الباب القطع ، ثم اشتقّ منه الشَّتم . وهذا الذی قاله صحیح . وأکثر الباب موضوع علیه . من ذلک السِّبّ : الخِمار ، لأنّه مقطوع من مِنْسَجه ... .

والسَّب : الشتم ، ولا قطیعة أقطع من الشتم ... ویقال : رجل سُبَبَة ، إذا کان یَسُبُّ الناسَ کثیراً . ورجل سُبَّة ، إذا کان یُسَبُّ کثیراً ... »(1) .

2 - وقال الزمخشری المتوفی عام 538 : « س ب ب - بینهما سباب ، والمزاح سباب النوکی ، وقد سابّه وتسابُّوا واستبُّوا . وفی الحدیث : المسْتبّان شیطانان ، وهو سُبَّة ، وهذه سُبّة علیک وعلی عقبک ، وأنت سُبّةٌ علی قومک ، وإیّاک والمَسبّة والمَسابّ ... »(2) .

3 - وقال ابن منظور المتوفی عام 711 : « سبب : السَّبُّ : القطع . سَبَّه سَبّاً : قطعه ... . السَّبُّ : الشتم ، وهو مصدر سَبَّه یَسُبُّه سَبّاً : شَتَمه ، وأصله من ذلک .

وسَبَّبه : أکثر سَبَّه ... وفی الحدیث : سِبابُ المسلم فُسوقٌ وقتاله کُفرٌ .

السَّبُّ : الشتم . قیل : هذا محمول علی من سَبَّ أو قاتَلَ مسلماً من غیر تأویل ، وقیل :

ص:185


1- (1) معجم مقاییس اللغة 3 / 63 .
2- (2) أساس البلاغة / 200 .

إنّما قال ذلک علی جهة التغلیظ ، لا أنّه یخرجه إلی الفسق والکفر .

وفی حدیث أبی هریرة : لا تَمْشِیَنَّ أمام أبیک ولا تجلس قَبْله ولا تدعه باسمه ولا تَسْتَسِبَّ له ، أی لا تُعَرِّضْه للسَّبِّ وتَجُرَّه إلیه ، بأن تَسُبَّ أبا غیرک فَیَسُبَّ أباک مجازاةً لک .

وقد جاء مفسراً فی الحدیث الآخر : إنّ من أکبر الکبائر أن یُسَبَّ الرجل والدیه ، قیل : وکیف یَسُبُّ والدیه ؟ قال : یَسُبُّ أبا الرجل ، فَیُسَبُّ أباه ویَسُبُّ اُمَّه فَیُسَبُّ اُمُّه .

والسُّبَّة : العار ، ویقال : صار هذا الأمر سُبَّةً علیهم ، بالضم ، أی عاراً یُسَبُّ به .

ویقال : بینهم اُسْبوبة یَتَسابُّونَ بها ، أی شیءٌ یَتشاتمونَ به .

السَبابُّ : التَّشاتُم ، وتسابُّوا : تشاتَمُوا .

وسابَّه مُسابَّة وسِباباً : شاتمه .

والسَّبِیبُ والسِّبُّ : الذی یُسابُّکَ . وفی الصحاح : سِبُّک الذی یُسابُّکَ ... .

ورجل سِبٌّ : کثیر السِّبابِ . ورجل مِسَبٌّ : بکسر المیم ، کثیرُ السِّبابِ .

ورجل سِبَّة أی یَسُبُّه الناسُ ، وسُبَبَة أی یَسُبُّ الناسَ ... »(1) .

4 - وقال الفیومی المتوفی عام 770 : « سَبَّهُ : سَبّاً فهو سَبَّابٌ ، ومنه قیل : للإصبَعَ التی تلی الإبهامَ سَبَّابَةٌ لأنّه یُشارُ بها عند السَّبِّ ، والسُّبَّة : العار ، وسابَّه مُسَابَّةً وسِبَاباً واسمُ الفاعِلِ منه سِبُّ بالکسر ، والسِبُّ أیضاً الخِمارُ والعِمامَةُ »(2) .

5 - وقال المحقق الثانی : « وذلک بإسناد ما یقتضی نقصه ، مثل الوضیع والناقص ونحو ذلک ، إلاّ لِمَنْ یستحق الإهانة کما سیجیء فی باب القذف»(3) .

6 - وقال جدنا الشیخ جعفر : « وسبّ المؤمنین وشتمهم بمعنی واحد یعمّ اللعن والطعن والقذف والفحش والتصغیر والتحقیر ونحوها ، مع قصد الإنشاء ، فیخالف الغیبة ، أو یعمّ الخبر وتعمّ الإنشاء ، ویختلفان فی بعض التعبیرات فیعمّ کلّ منهما الآخر من وجه»(4) .

ص:186


1- (1) لسان العرب 6 / 137 .
2- (2) المصباح المنیر / 262 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 27 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 235 .

7 - وقال تلمیذه السید جواد العاملی : « وأمّا السبّ فهو الشتم ، ومثله السباب بالکسر وخفة الموحدة ، وفی الحدیث : سباب المؤمن فسوق وقتاله کفر .

والشتم السبّ ، بأن تصف الشیء بما هو إزراء ونقص ، فیدخل فی السبّ کلّ ما یوجب الأذی کالقذف والحقیر والوضیع والکلب والکافر والمرتد ، والتعییر بشیءٍ من بلاء اللّه کالأجذم والأبرص ، ولو کان مستحقّاً للإستخفاف فلا حرمة إلاّ فیما لا یسوغ لقاؤه به .

وقد یُراد به فی المقام خصوص مثل الوضیع والحقیر والناقص ، وإن ثبت بها التعزیر لتبادره عرفاً . وقد یُراد خصوص ما ثبت به التعزیر دون الحدّ کالقذف ، لأنّه من الکبائر فلا یناسب وضعه من الکذب علی المؤمنین ، فتأمل .

والسبّ مع قصد الإنشاء یخالف الغیبة أو یعمّ الخبر وتعمّ الإنشاء ، ویختلفان فی بعض التعبیرات فیعمّ کلّ منهما الآخر من وجه ، وسبّ غیر أهل الإیمان من شرائط الإیمان»(1) .

8 - وقال الشیخ الأعظم : « إنّ المرجع فی السبّ إلی العرف»(2) ، ثمّ ذکر بیان المحقق الثانی ومقالة الشیخ جعفر والسید العاملی الماضیة من دون النسبة إلی الإخیرین ، ثمّ قال : « ثمّ الظاهر أنّه لا یُعتبر فی صدق السبّ مواجهة المسبوب ، نعم یُعتبر فیه قصد الإهانة والنقص ، فالنسبة بینه وبین الغیبة عموم من وجه . والظاهر تعدد العقاب فی مادة الإجتماع ، لأنّ مجرد ذکر الشخص بما یکرهه لو سمعه ولو لا قصد الإهانة غیبة محرّمة والإهانة محرّم آخر »(3) .

9 - وقال المحقق الخوئی : « الظاهر من العرف واللغة اعتبار الإهانة والتعییر فی مفهوم السبّ وکونه تنقیصاً وإزرءاً علی المسبوب وأنّه متحد مع الشتم ، وعلی هذا فیدخل فیه کلّما یوجب إهانة المسبوب وهتکه ، کالقذف والتوصیف بالوضیع واللاشی ء والحمار والکلب والخنزیر والکافر والمرتد والأبرص والأجذم والأعور وغیر ذلک من الألفاظ الموجبة للنقص والإهانة ، وعلیه فلا یتحقق مفهومه إلاّ بقصد الهتک ، وأمّا مواجهة المسبوب فلا

ص:187


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 222 .
2- (2) المکاسب 1 / 254 .
3- (3) المکاسب 1 / 255 .

تعتبر فیه»(1) .

10 - أقول : ظهر لک ممّا ذکرنا من کلمات اللغویین والفقهاء أنّ المراد بالسبّ هو الشتم ، بلا فرق بین أن یکون خبراً أو إنشاءً ، وبین أن یکون المسبوب حاضراً أو غائباً ، و بین أن یکون السابّ قاصداً الإهانة والتنقیص والتحقیر أو لم یقصد . فعلی هذا النسبة بین السب والغیبة وقصد الإهانة والإستخفاف عموم من وجه ، فما ذکره المحقق الإیروانی قدس سره (2) - ولعلّه ارتضاه صاحب الغنیة(3) لأنّه ذکره ولم یرد علیه - من أنّ النسبة بینه وبین الغیبة تباین ، غیر تام .

وهکذا لا یتم ما ذکره المحقق الخوئی تبعاً للشیخ الأعظم من عدم تحقق السبّ إلاّ بقصد الهتک والإهانة کما سبق ، لما عرفت من عدم مدخلیة القصد فی السبّ ، وحیث أنّ المرجع فیه هو العرف لا محالة یختلف السبّ باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمکنة ، فربّما یکون لفظ

سبّاً عند قومٍ ولا یکون سبّاً عند آخرین ، فیلحق کلاً من المصادیق حکمه کما ذکره الفقیه السبزواری قدس سره (4) .

هذا کلّه فی معنی السب والمقام الأوّل من المقامات .

المقام الثانی : أدلة حرمة سبّ المؤمن
اشارة

تدلّ علیه الأدلة الأربعة :

الأوّل : الإجماع

قال العلامة فی التذکرة : « ویحرم سبّ المؤمنین والکذب علیهم والنمیمة ومدح مَنْ یستحق الذم وبالعکس والتشبیب بالمرأة المعروفة المؤمنة ، بلا خلاف فی ذلک کلّه»(5) .

ص:189


1- (4) مصباح الفقاهة 1 / 280 .
2- (5) حاشیة علی المکاسب 1 / 167 .
3- (6) غنیة الطالب 1 / 133 للمحقق الشیخ مرتضی الأردکانی قدس سره .
4- (1) مهذب الأحکام 16 / 97 .
5- (2) تذکرة الفقهاء 12 / 144 ذیل المسألة 649 .

وقد تعرض الغزالی من العامة لهذا الإجماع فی کتابه إحیاء العلوم(1) .

فحرمة سبّ المؤمن من إجماعیات المسلمین کما قال المحقق الخوئی قدس سره : « وعلی ذلک إجماع المسلمین من غیر نکیر»(2) .

ولکن یمکن أن یناقش فی هذا الإجماع بوجهین :

أوّلاً : عدم ثبوت الإجماع عندنا من کلام الغزالی ، والمذکور فی کلام العلامة هو « لا خلاف» ، والفرق بینهما واضح .

وثانیاً : علی فرض ثبوت الإجماع لم یفد فی المقام شیئاً ، لاّنّه من الإجماع المدرکی ، فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة والمدارک .

الثانی : حکم العقل والعقلاء

العقل مستقل بحرمة سبّ المؤمن فی الجملة ، لأنّه ظلم وإیذاء وعدوان ، والعقلاء أیضاً یحکمون بقبحه فی الأعصار والأمصار وبلا اختصاص بملّة دون اُخری .

الثالث : کتاب اللّه تعالی

1 - قال عزّ وجل : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(3) .

بتقریب : أن الزور ظاهر فی الباطل ، والسبّ باطل عند العرف فیحرم . ومن المعلوم

أنّ الباطل لا ینحصر إنطباقه علی الکذب وما هو متضمن له ، بحیث یشمل الأخبار الکاذبة فقط ، ولا تشمل الإنشاءات ومنها بعض السباب(4) ، بل الظاهر من الزور هو الباطل الذی یشمل الإخبار والإنشاء ، ومن الأخیر بعض السباب ، والشاهد علی ذلک هو العرف ودینهم وحکمهم بأنّه من الباطل .

والشاهد الآخر : الروایات الواردة(5) فی ذیل الآیة الشریفة بتطبیقها علی الغناء التی

ص:189


1- (3) إحیاء العلوم 3 / 110 و 111 .
2- (4) مصباح الفقاهة 1 / 277 .
3- (5) سورة الحج / 30 .
4- (1) ذهب إلی الإنحصار شیخنا الأستاذ - مدظله - فی إرشاد الطالب 1 / 159 .
5- (2) راجعها فی البرهان فی تفسیر القرآن 3 / 881 .

یغلب فیها الإنشاء علی الإخبار .

والشاهد الثالث : صحیحة حماد بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل للذی یُغنّی : أحسنت(1) .

الظاهر فی الإنشاء لا الإخبار ، أعنی أن الإمام علیه السلام طبق الآیة الشریفة علی الإنشاء لا الإخبار .

والحاصل ، أنّ سب المؤمن من أظهر مصادیق الآیة الشریفة ، لأنّ المراد بالزور هو الباطل ، والسبّ الباطل عند العرف فیحرم بمقتضی الآیة الشریفة .

ووافقنا علی هذا الاستدلال المحققون الخوئی(2) والسبزواری(3) قدس سرهما والقمی(4) - مدظله - .

2 - قوله تعالی : «وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ»(5) .

بتقریب : أن سب المؤمن ربّما یدخل فی النهی الأوّل ، أعنی «لاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ» ، وربّما یدخل فی النهی الثانی ، أعنی «لاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ» ، وربّما یدخل فی التوصیف الآخر ، أعنی «بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ» . فصار محرّماً بالآیة الشریفة .

والشاهد علی ذلک ما ورد فی شأن نزولها فی تفسیر القمی ، قال : « فإنّها نزلت فی صفیة بنت حُیَیّ بن أخطَب ، وکانت زوجة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وذلک أنّ عائشة وحفصة کانتا

تؤذیانها وتشتمانها وتقولان لها : یا بنت الیهودیة . فشکت ذلک إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال لها : ألا تجیبهما ؟ فقالت : بماذا یا رسول اللّه ؟ قال : قولی : إنّ أبی هارون نبی اللّه وعمّی موسی کلیم اللّه وزوجی محمد رسول اللّه ، فما تُنکران منّی ؟ فقالت لهما ، فقالتا : هذا علمّک رسول اللّه ،

ص:190


1- (3) معانی الأخبار / 349 ح 2 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 6 طبع مؤسسة البعثة .
2- (4) مصباح الفقاهة 1 / 279 .
3- (5) مهذب الأحکام 16 / 96 .
4- (6) عمدة المطالب 1 / 214 .
5- (7) سورة الحجرات / 11 .

فأنزل اللّه فی ذلک «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ یَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ» إلی قوله «وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ» »(1) .

3 - قوله تعالی : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ»(2) .

بتقریب : أنّ اللّه لا یحب القول بالسوء جهراً ، أی یحرم القول بالسوء وإظهاره إلاّ مِنْ المظلوم ، ومن المعلوم أنّ السبّ یدخل فی القول بالسوء فیحرم . والشاهد علی ذلک مرسلة الطبرسی عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال : لا یحبّ اللّه الشتم فی الإنتصار إلاّ مَن ظُلم ، فلا بأس له أن ینتصر ممَّن ظلمه بما یجوز الانتصار به فی الدِّین(3) .

لأنّه علیه السلام طبق « القول بالسوء» بالشتم ، وقد مرّ منّا أنّ الشتم هو السبّ .

وبما ذکرنا من التقریب لا یتمّ ما ذکره شیخنا الأستاذ - مدظله - فی الإرشاد(4) . واللّه سبحانه هو العالم .

الرابع : ومن السنة الروایات المستفیضة

روایاتنا تدلّ علی حرمة السبّ علی حدِّ الاستفاضة :

منها : موثقة أو صحیحة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله کفر ، وأکل لحمه معصیة ، وحرمة ماله کحرمة دمه(5) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : سباب المؤمن کالمشرف علی الهلکة(6) .

ومنها : صحیحة اُخری لأبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ رجلاً من تمیم أتی

ص:191


1- (1) تفسیر القمی 2 / 321 ونقل عنه فی البرهان 5 / 109 ح 1 .
2- (2) سورة النساء / 148 .
3- (3) مجمع البیان 3 / 201 ونقل عنه فی البرهان 2 / 195 ح 5 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 160 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 3 . الباب 158 من أبواب أحکام العشرة .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 298 ح 4 .

النبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال : أوصنی ، فکان فیما اُوصاه أن قال : لا تسبّوا الناس فتکسبوا العداوة لهم(1) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبی الحسن موسی علیه السلام فی رجلین یتسابّان ، قال : البادی ء منهما أظلم ، ووزره ووزر صاحبه علیه مالم یعتذر إلی المظلوم(2) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن یونس عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی کلام له فی صفات المؤمن : ... لا وثّاب ولا سبّاب ولا عیّاب ولا مغتاب ، الحدیث(3) .

ومنها : مرسلة أبی علی محمد بن همام رفعه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا یکمل المؤمن إیمانه حتّی یحتوی علی مائة وثلاث خصال - إلی أن قال : - لا لعّان ولا نمّام ولا کذّاب ولا مغتاب ولا سبّاب ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة العیاشی رفعه عن جابر عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله تعالی : «وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنا»(5) . قال : قولوا للناس أحسن ما تحبّون أنّ یقال لکم ، فإنّ اللّه یُبْغَض اللّعان السبّاب الطعّان علی المؤمنین ، المُتَفَحِّش السائل المُلْحِف ، ویُحبُّ الَحیِیَّ الحلیم العَفیف المتعفّف(6) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من سبّ مؤمناً أو مؤمنة بما لیس فیهما بعثه اللّه فی طینة الخبال حتّی یأتی بالمخرج ممّا قال(7) .

ومنها : مرسلة أبی القاسم الکوفی رفعه قال : کان رجل عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من أهل یمن وأراد الإنصراف إلی أهله ، فقال : یا رسول اللّه أوصنی ، فقال : أوصیک أن لا تشرک

ص:192


1- (7) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 .
2- (1) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 1 .
3- (2) الکافی 2 / 179 ح 1 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 7 .
4- (3) التمحیص / 74 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 8 .
5- (4) سورة البقرة / 83 .
6- (5) تفسیر العیاشی 1 / 139 ح 66 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 26 ح 13 .
7- (6) دعائم الاسلام 2 / 458 ح 1612 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 136 ح 2 .

باللّه شیئاً ، ولا تعص والدیک ، ولا تسبّ الناس ، الحدیث(1) .

ومنها : مرسلة أبی الفتوح الرازی رفعه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : المتسابّان ما قالا فعلی البادی ء ، ما لم یعتد المظلوم(2) .

وهذه الروایات تدلّ بوضوح علی حرمة السبّ .

المقام الثالث : هل تختص الحرمة بالمؤمن أو یعمّ جمیع الناس ؟

هل تختص حرمة السبّ بالمؤمن وبالمعنی الأخص - أعنی الشیعی الإمامی الإثنی عشری - أو تعمّ المسلم ولو کان مخالفاً ، أو أنّ الحکم یشمل جمیع مَنْ تبع مِنْ الأدیان الأبراهیمیة ، أو أنّ الحکم عام یشمل جمیع الناس مع اختلاف أدیانهم واعتقاداتهم وفرقهم إلاّ من استثنی فیما بعد ؟

ظاهر الأصحاب اختصاص الحکم بالمؤمن ، لأنّهم قیّدوا العنوان به ، ویؤیدهم بعض الروایات الماضیة ، نحو : موثقة أو صحیحة أبی بصیر ومعتبرة السکونی . ولا یمکن تقییدها بهذه الأربعة ، لأنّ کلّهنَّ من المثبتات لا النفی والإثبات ، ولذا علی قواعد الاستنباط صارت الحرمة فی المؤمن آکد .

وذهب بعض(3) إلی اختصاص الحکم بالمسلمین ، للإطلاقات الواردة فی الروایات ، والتعدی صحیح ، لأنّ الإطلاقات تشمل جمیع المسلمین ولکن لا تختص بهم بل تسری إلی جمیع الناس مع اختلاف أدیانهم واعتقاداتهم ، بل تسری إلی المشرکین ومَنْ لیس له دینٌ ، مع الاعتراف بأنّ الناس فی روایاتنا غالباً یُطلق علی العامة ومخالفینا من المسلمین . ولکن توجد هنا قرینة بل قرائن وشاهد بل شواهد علی سریان الحکم بالنسبة إلی جمیع الناس بالمعنی اللغوی ، حتّی المشرکین منهم :

القرینة الأولی : قوله تعالی : «وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ کَذَلِکَ زَیَّنَّا لِکُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَی رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَیُنَبِّئُهُم بِمَا کَانُواْ

ص:193


1- (7) کتاب الأخلاق (مخطوط) ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 139 ح 9 .
2- (8) تفسیر أبی الفتوح الرازی 1 / 245 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 4 .
3- (1) نحو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری قدس سره فی مهذب الأحکام 16 / 97 .

یَعْمَلُونَ»(1) .

بتقریب : أنّ اللّه تعالی نهی عن سبّ آلهة المشرکین لئلا یسبوا اللّه تقاصاً ، کما ورد ذلک فی معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّه سُئل عن قول النبی صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ الشرک أخفی من دبیب النمل علی صفاة سوداء فی لیلة ظلماء ؟ فقال : کان المؤمنون یسبّون ما یعبد المشرکون من دون اللّه ، وکان المشرکون یسبّون ما یعبد المؤمنون ، فنهی اللّه عن سبّ آلهتهم لکیلا یسبّ الکفار إله المؤمنین ، فیکون المؤمنون قد أشرکوا باللّه من حیث لا یعلمون ، فقال : «وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ»(2) .

فلما لا یجوز سبّ آلهة المشرکین لئلا یسبوا اللّه ، لا یجوز سبّ المشرکین لئلا یسبّوا

المؤمنین .

القرینة الثانیة : الإطلاقات الواردة فی غیر هذه الأربع من الروایات تدلّ علی حرمة السبّ ، وحیث أنّ الأربع لا یصح أن تکون مقیِّدة فلابدّ من الأخذ بالإطلاق .

القرینة الثالثة : التعلیل الوارد فی صحیحة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ رجلاً من تمیم أتی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال : أوصنی ، فکان فیما أوصاه أن قال : لا تسبّوا الناس فتکسبوا العداوة لهم(3) .

السب یوجب العداوة والعداوة مع الناس حرام ، فصار السب أیضاً من المحرّمات .

القرینة الرابعة : أن جماعة من أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام کانوا یسبّون أهل الشام فی حرب صفین وهم : حُجر بن عُدَی وعمرو بن الحُمْق وأمثالهم ثمّ نهاهم الأمیر علیه السلام من السبّ بما سأذکره ثمّ قالا : یا أمیر المؤمنین نقبل عظتک ونتأدب بأدبک(4) .

أمیر المؤمنین علیه السلام حین سمع قوماً من أصحابه یسبّون أهل الشام أیام حربهم بصفین ، قال لهم : إنّی أکره لکم أن تکونوا سبّابین و لکنکم لو وصفتم أعمالهم وذکرتم حالهم کان

ص:194


1- (2) سورة الأنعام / 108 .
2- (3) تفسیر القمی 1 / 213 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 26 ح 15 .
3- (1) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 .
4- (2) کما فی وقعة صفین / 102 لنصر بن مزاحم ونقلت عنه فی الموسوعة 5 / 27 ح 17 .

أصوب فی القول وأبلغ فی العذر وقلتم مکان سبّکم إیّاهم : اللهم احقن دماءَنا ودماءَهم وأصلح ذات بیننا وبینهم واهدهم من ضلالتهم حتّی یعرف الحقّ مَنْ جهله ویرعوی عن الغی والعدوان من لهج به(1) .

وورد فی الصحیح أنّ أمیر المؤمنین لا یکره الحلال ، فحیث کره السبّ ونهی عنه فیکون حراماً ، وقبل منه علیه السلام أصحابه نهیه وتأدبوا بأدبه علیه السلام .

إن قلت : إنّه علیه السلام نهی عن سبّ أهل الشام وهم مسلمون ، فلا یدلّ هذا الاستدلال أزید من حرمة سبّ المسلم .

قلت : من خرج علی أمیر المؤمنین علیه السلام ووأولاده الأئمة المعصومین علیهم السلام لا یکون مسلماً عندنا ، بل صار بخروجه کافراً ، کما اعترف بذلک شیخنا الصدوق فی اعتقاداته(2) ولم یعترض علیه شیخنا المفید فی تصحیح الإعتقاد ، بل قال فی أوائل المقالات : « القول فی محاربی أمیر المؤمنین علیه السلام : واتفقت الإمامیة والزیدیة والخوارج علی أنّ الناکثین والقاسطین من أهل

البصرة والشام أجمعین کفار ضلاّل ملعونون بحربهم أمیر المؤمنین علیه السلام وأنّهم بذلک فی النار مخلدون(3) ... واتفقت الإمامیة والزیدیة وجماعة من أصحاب الحدیث علی أنّ الخوارج علی أمیر المؤمنین علیه السلام المارقین عن الدِّین کفار بخروجهم علیه وأنّهم فی النار بذلک مخلدون ... »(4) .

وقال علم الهدی الشریف المرتضی فی المسألة ثالثة والعشرین من « جوابات المسائل المیافارقیات» حیث سُئل عنه : « صاحب جیش البصرة والإعتقاد فیه وفی غیره ، وکیف کانوا علی عهد رسول صلی الله علیه و آله وسلم ؟ » .

فأجاب قدس سره : « قتال أمیر المؤمنین علیه السلام بغی وکفار جار مجری قتال النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، لقوله صلی الله علیه و آله وسلم : « حربک یا علی حربی وسلمک سلمی » ، وإنّما یرید أنّ أحکام حروبنا واحدة ، فمن حاربه علیه السلام ومات من غیر توبة قطعنا علی أنّه ما کان فی وقتٍ من الأوقات مؤمناً وإن

ص:195


1- (3) نهج البلاغة : الخطبة 206 ونقلت عنه فی الموسوعة 5 / 27 ح 17 .
2- (4) الاعتقادات للشیخ الصدوق / 105 المطبوعة مع تصحیح الاعتقاد للشیخ المفید .
3- (1) أوائل المقالات / 49 طبع چرندابی .
4- (2) أوائل المقالات / 50 .

أظهر الإیمان ، لأن من کان مؤمناً علی الحقیقة فی الباطن لا یجوز أن یکون علی ما کان القوم علیه ، لأدلةٍ لیس هنا موضع ذکرها »(1) .

وقال شیخ الطائفة الطوسی : « ظاهر مذهب الإمامیة أنّ الخارج علی أمیر المؤمنین علیه السلام والمقاتل له کافر ، بدلیل إجماع الفرقة المحقّة علی ذلک ... »(2) .

وقال فی تفسیره : « وأمّا مذهبنا فی تکفیر مَنْ قاتل علیّاً علیه السلام معروف»(3) .

وقال ابن زهرة الحلبی : « إعلم أنّ محاربی أمیر المؤمنین علیه السلام عندنا بمنزلة محاربی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی عظم المعصیة ، ویدلّ علی ذلک اُمور : منها إجماع الإمامیة علیه وإجماعهم حجة ... »(4) .

فهذه الواقعة التاریخیة والنهی الصادر فیه عن أمیر المؤمنین علیه السلام تدلّ بأحسن وجه علی حرمة سبّ الناس حتّی المشرکین والکافرین منهم .

القرینة الخامسة : ما ورد فی رسالة أبی عبد اللّه علیه السلام إلی جماعة الشیعة ، وفیها : « ... وإیّاکم وسبّ أعداء اللّه حیث یسمعونکم «فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ» ، وقد ینبغی لکم أن تعلموا حدّ سبّهم للّه کیف هو ؟ إنّه من سبّ أولیاء اللّه فقد انتهک سبّ اللّه ، ومن أظلم عند اللّه

ممّن استسبَّ للّه ولأولیاء اللّه ، فمهلاً مهلاً ، فاتّبعوا أمر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه»(5) .

دلالة مافی هذه الرسالة علی حرمة سبّ الناس بالمعنی الأعم حتّی أعداء اللّه - أعنی الکافرین - واضحة ، ولکن العمدة فی ضعف سندیها . اللهم إلاّ أن یقال : إنّ المناقشة فی أسانید الکافی الشریف جهد العاجز ، کما نقل عن المحقق النائینی قدس سره . وفیه ما لا یخفی .

القرینة السادسة : من المحتمل أن تکون حرمة السب لیست من جهة احترام المؤمنین أو المسلمین علی القول به ، بل من جهة حفظ اللسان عن هذه الألفاظ القبیحة ، إذ

ص:196


1- (3) جوابات المسائل المیافارقیات ، المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 1 / 283 .
2- (4) الاقتصاد / 226 .
3- (5) التبیان 9 / 326 .
4- (6) غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع 2 / 222 .
5- (1) الکافی 8 / 7 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 24 ح 5 .

ینحط قدر القائل بهذه الألفاظ عن أعین الناس ، والمؤمن لایجوز له أن یذلَّ نفسه ، فیشکل التکلم بهذه الألفاظ مطلقاً حتّی بالنسبة إلی الکفار .

ویذکر المحقق الأردکانی قدس سره شبیه هذا الإستدلال بالنسبة إلی حرمة الغیبة(1) وإن کان فیما ذکره نظرٌ بیّنٌ وحرمة الغیبة تختص بالمؤمن فقط ولکن کلامه قدس سره هناک یمکن أن یجری هنا . والتفصیل یطلب من بحث الغیبة ، فانتظر .

وبالجملة ، مع هذه القرائن الست لا ینبغی الإرتیاب فی تعمیم الحکم بالنسبة إلی جمیع الناس حتّی المشرکین والکافرین ، وأنّه لا یختص بالمؤمن . هذا کلّه بالنظر إلی الأدلة ، لکن مع ذلک الإفتاء بالتعمیم مشکلٌ ، لعدم وجدان القول به عند أصحابنا قدس سرهم ، ولعلّ القول به خرق للإجماع المرکب ، ولکن لو وُجد القائل به فإنّا نتبع إثره وصرنا ثانیه . والإحتیاط لا یترک بالنسبة إلی طرفی القضیة السبّ والإفتاء ، واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه .

وعلی ما حررناه لا ینقضی تعجبی من الشیخ الأکبر الفقیه الشیخ جعفر قدس سره حیث یقول : « وسبّ غیر أهل الإیمان من المسلمین والمشرکین من أفضل الطاعات الموصلة إلی رضی ربّ العالمین»(2) .

وأعجب منه قول تلمیذه الفقیه العاملی حیث یقول : « وسب غیر أهل الإیمان من شرائط الإیمان»(3) .

اللهم إلاّ أن یقال : بأنّ مرادهما - کما هو الظاهر - سبّ الظالمین لآل محمد علیهم السلام وغاصبی حقوقهم واللآبسی رداء الخلافة بغیر حقٍّ ، فحینئذ یتجه کلامهما ، رفع فی الخلد

مقامهما .

المقام الرابع : المستثنیات من حرمة السب
1 - المتظاهر بالفسق :

یجوز سبّه بالفسق والمعصیة التی تجاهر فیها لزوال حرمته بالتظاهر بها ، وتدلّ علیه

ص:197


1- (2) غنیة الطالب 1 / 148 .
2- (3) شرح القواعد 1 / 235 .
3- (4) مفتاح الکرامة 12 / 222 .

حسنة هارون بن الجهم عن الصادق علیه السلام قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غیبة(1) .

وکما یأتی تفصیله فی البحث عن مستثنیات الغیبة . وأمّا المعاصی التی لم یتجاهر فیها فلا یجوز سبه بها ، لأنّ حرمته فیها باقیة .

2 - المُبْدِع :

یجوز سبّه بل ورد الحث علیه فی صحیحة داود بن سرحان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا رأیتم أهل الریب والبدع من بعدی فأظهروا البراءة منهم وأکثروا من سبّهم والقول فیهم والوقیعة ، وباهتوهم کیلا یطمعوا فی الفساد فی الإسلام ویحذرهم الناس ولا یتعلّمون من بدعهم ، یکتب اللّه لکم بذلک الحسنات ویرفع لکم به الدرجات فی الآخرة(2) .

فلا حرمة فی سبّ المبدع .

3 - قد یقال بالاستثناء من الحرمة فی ما لم یتأثر المسبوب عرفاً

یعنی : إذا لم یتأثر المسبوب من السبّ ، لم یدخل فی الإیذاء والظلم ، فلا یحکم بحرمته .

وفیه : إن الإطلاقات الواردة فی الأدلة - نحو موثقتی أبی بصیر الماضیتین(3) تدلان علی حرمة السبّ ، بلا فرق بین تأثر المسبوب وعدمه ، وبلا فرق بین حضوره وعدمه ، وبلا فرق بین اللغات حتّی لو سَبّ بلغة لا یفهمها المسبوب حرم ، وبلا فرق بین أن یکون السب جدّاً أو مزاحاً أو لهواً أو لعباً ، وبلا فرق بین أن یکون المسبوب بالغاً . أو غیر بالغ . والإطلاق یشمل جمیع ذلک .

4 - المولی وعبده :

قد یقال : بإستثناء حرمة سبّ السید عبده ، واستدلوا علی ذلک بأنّ للسید ضرب

عبده للتأدیب ، وفحواه جواز سبّه تأدیباً .

ص:198


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 4 . الباب 154 من أبواب أحکام العشرة .
2- (2) وسائل الشیعة 16 / 267 ح 1 . الباب 39 من أبواب الأمر والنهی .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 و 3 .

وفیه : أنه یمکن منع الفحوی ، بأنّ السبّ بنفسه من العناوین المحرَّمة والإیذاء أمرٌ آخر قد یجتمع معه ، فإذا جاز للسید ضرب عبده وإیذاؤه تأدیباً ، هذه الإجازة لا تدلّ علی جواز سبّه الذی هو من المحرّمات المستقلة .

مضافاً إلی أنّ الإیذاء باللسان أشدّ من الإیذاء بالضرب حتّی عند العرف ، فلا مجال للقول بالفحوی . وقد نبّه علی منع دلیل الفحوی هنا المحقق الإیروانی قدس سره (1) وتبعه المحقق الأردکانی قدس سره (2) .

ویؤید(3) منع الفحوی خبر عمرو بن نعمان الجعفی قال : کان لأبی عبد اللّه علیه السلام صدیق لا یکاد یفارقه إذا ذهب مکاناً فبینما هو یمشی معه فی الحَذائین ومعه غلامٌ سندی یمشی خلفهما إذ التفت الرجل یرید غلامه ثلاث مرات فلم یره فلما نظر فی الرابعة قال : یا ابن الفاعلة أین کنتَ ؟ قال : فرفع أبو عبد اللّه علیه السلام یده فصک بها جبهة نفسه ، ثمّ قال : سبحان اللّه تقذف اُمّه ، قد کنتُ أری أنّ لک ورعاً فإذاً لیس لک ورعٌ ، فقال : جعلتُ فداکَ إنّ اُمَّهَ سندیةٌ مشرکةٌ ، فقال : أما علمتَ أنّ لکلَّ اُمّةٍ نکاحاً ، تنحّ عنّی . قال : فما رأیته یمشی معه حتّی فرّق الموت بینهما .

وفی روایة اُخری : إنّ لکلِّ اُمّةٍ نکاحاً تحتجزون به مِن الزنا(4) .

5 - المعلّم والم-تعلّم :

قد یقال باستثناء الحکم بالنسبة إلی المعلّم إذا سبّ متعلِّمه تأدیباً بْدلیل أنّ له ضرب متعلّمه إذا کان مؤذناً فی الضرب عن ولیّه تأدیباً ، فإذا جاز له الضرب فبطریق أولی والفحوی یجوز له السبّ ، والسیرة جاریة علی ذلک عند المعلّمین .

وفیه : أولاً : قد مرّ منّا منع الفحوی والأولویة آنفاً .

وثانیاً : علی فرض وجود السیرة فی زماننا هذا ، لا طریق لنا إلی اتصاله بزمن

ص:199


1- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 168 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 133 .
3- (3) قلتُ « یؤید » لأنّ فی سندها ضعف ودلالتها أیضاً أخص من المدعی ، المدعی هو حرمة السب و الروایة تدل علی حرمة القذف ، والنسبة بینهما عموم وخصوص مطلق .
4- (4) الکافی 2 / 324 ح 5 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 326 ح 14 .

المعصومین علیهم السلام ، فلا تفید شیئاً .

6 - الزوج والزوجة :

یمکن أن یقال : بجواز سبّ الزوج زوجته ، لأنّ له ضربها تأدیباً فی موارد خاصة ، فحینئذ یجوز سبّه بطریق أولی ، وبدلیل الفحوی والسیرة جاریة علی ذلک .

وفیه : ما مرّ آنفاً فی الاستثناء السابق ، فلا یتمّ هذا الاستدلال .

7 - الوالد وولده :

واستدلوا علی جواز سبّ الوالد لولده بوجوه :

منها : عدم تحقق الهوان فی سبّ الوالد ، وحیث أنّ الحرمة تدور معه فلا حرمة .

ومنها : عدم تأثر الولد لسبّه بتوسط والده ، وحیث صار فخراً فلا حرمة .

ومنها : ورد فی الروایات بالنسبة إلی الولد کما فی صحاح محمد بن مسلم وأبی حمزة الثمالی والحسین بن أبی العلاء : « أنت ومالک لأبیک»(1) . وإذا تمّ هذا البیان بأنّ الولد وماله لأبیه فیجوز سبّه أیضاً بطریق اُولی ، کما یجوز سبّ السید عبده لأنّه ملکه .

ومنها : السیرة الجاریة بین المتشرعة من سب أولادهم .

وفیه : أولاً : منع الصغری فی الثلاث الأُول ، أعنی تحقق الهوان وتأثر الولد وعدم الإفتخار بسبب الوالد ولده .

وثانیاً : الحرمة کما مرّ منّا مطلقة فی السبِّ بالنسبة إلی تحقق الهوان وعدمه تأثر المسبوب وعدمه ، عدم الإفتخار بالسب والإفتخار به ، لإطلاق أدلتها .

وثالثاً : جملة « أنت ومالک لأبیک » الواردة فی الروایات ناظرة إلی أمر أخلاقی وتکوینی وتذکّر الولد بأنّه لا یناسبه أن یعارض أباه فی اُموره ، ولا تدلّ علی الملکیة الحقیقیة أو التنزیلیة أو ثبوت الولایة المطلقة . وعلی فرض ثبوتها أیضاً لا تدلّ علی جواز سبّه ، لما مرّ منّا مِنْ عدم جواز سبّ السید عبده .

ص:200


1- (1) راجع وسائل الشیعة 17 / 262 الباب 78 من أبواب ما یکتسب به ح 1 و 2 و 8 ونحوها فی خبر محمد بن سنان ح 9 فی الباب المذکور ، وخبر عبید بن زرارة الباب 11 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد ح 5 فراجع وسائل الشیعة 20 / 290 .

ورابعاً : السیرة وإن کانت عند بعض المتشرعة موجودة ولکن دون إثباتها عند الجمیع مع الإلتفات والإتصال الی زمن المعصومین علیهم السلام خرط قتاد .

وخامساً : الإطلاقات الواردة فی الأدلة تشمل الوالد ، فلا یجوز له سبّ اُولاده .

نعم ، للوالد جواز تأدیب الولد الصغیر بالضرب ، ولکن التعدی من الضرب إلی

السبّ(1) - بأنّ فی السب أیضاً نوعاً من التأدیب - ومن الولد الصغیر إلی الکبیر بجریان الاستصحاب فی الأخیر مشکلٌ . مضافاً إلی انحصار الدلیل حینئذٍ فی فرض التأدیب فقط .

8 - التظلم

یجوز للمظلوم سبّ الظالم فی مقام التظلم والوصول الی حقِّه ، وتدلّ علیه قوله تعالی فی الآیة الکریمة : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ»(2) ، لأنّ السبّ یدخل فی القول بالسوء وجوّزه الآیة الشریفة جهراً . وقد مرّ منّا الکلام فیها فی الاستدلال علی حرمة السبّ بکتاب اللّه تعالی .

ولذا قال جدنا الشیخ جعفر : « ویقوی جوازه (أی جواز السب) فی خصوص الظالمین»(3) .

9 - یجوز السبّ لدفع المنکر والحفظ عن الضرر :

إذا کان المنکر أعظم فساداً وحرمةً من السبِّ ، والضرر یکون فاحشاً وقابلاً للملاحظة بحیث لا یتحمّله عادةً ونوعاً یجوز السبّ بقاعدة التزاحم وخوف الوقوع فی الفتنة وأدلة نفی الضرر والحرج . أفتی بذلک الشیخ جعفر قدس سره فی شرحه علی القواعد(4) .

10 - التقیة :

یجوز السبّ للتقیة لعموم أدلتها کما فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : التقیّة فی

ص:201


1- (1) کما مال إلیه المحقق الإیروانی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب 1 / 168 وشیخنا الاُستاذ - مدظله - فی إرشاد الطالب 1 / 162 .
2- (2) سورة النساء / 148 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 235 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 235 .

کلِّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حین تنزل به(1) .

وصحیحة الفضلاء قالوا : سمعنا أبا جعفر علیه السلام یقول : التقیة فی کلّ شیءٍ یضطر إلیه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له(2) .

والحاصل ، أدلة التقیة وعموماتها حاکمة علی أدلة حرمة السبّ ، فلا حرمة للسب عند التقیة کما قال الشیخ جعفر قدس سره : « ویغتفر للتقیّة»(3) .

نعم ، أربع موارد یُستثنی من عمومات التقیة فلا تقیة فیها ، نحو : الدماء ، والمسح علی الخفین ، وشرب النبیذ والمسکر ، والتبری من مولانا وسیدنا وإمامنا أمیر المؤمنین علیه السلام . والبحث موکول إلی محلِّه ، فراجع إن شئت إلی ما حررناه فی رسالتنا فی بحث التقیة . واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه الطاهرة والحمد للّه أولاً وآخراً .

ص:202


1- (5) وسائل الشیعة 16 / 214 ح 1 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
2- (6) وسائل الشیعة 16 / 214 ح 2 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
3- (7) شرح القواعد 1 / 235 .

السحر

اشارة

ینبغی البحث عن السحر فی ضمن مقامات :

المقام الأوّل : موضوعه

لابدّ لتعیین موضوع السحر إلی مراجعة کلمات أهل اللغة والفقهاء ، فلذا نقول :

قال أحمد بن فارس : « سحر ، السین والحاء والراء اُصول ثلاثة متباینة : أحدها عضوٌ من الأعضاء ، والآخر خَدْعٌ وشبهه ، والثالث وقت من الاُوقات ... .

وأمّا الثانی فالسِّحْر ، قال قومٌ : هو إخراج الباطل فی صورة الحقّ ، ویقال : هو الخدیعة ، واحتجّوا بقول القائل :

فإن تسألینا فیم نحن فإنّنا عصافیرُ من الأنام المسحَّرِ

کأنّه أراد المخدوع الذی خدعَتْه الدنیا وغرَّتْه ، ویقال المُسَحَّر الذی جُعِل له سَحْرٌ ، ومن کان ذا سَحْر(1) لم یجد بُداً من مطعم ومشرب ... »(2) .

وقال الزمخشری : « س ح ر - کلُّ ذی سَُحْر أو سَحَرٍ یتنفَّس ، وهو الرئة .

ومن المجاز : سَحَرَه وهو مسحور وإنّه لمسحَّرٌ : سُحر مرّة بعد اُخری حتّی تخبَّل عقلُه ، «إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِینَ» ، وأصله من سَحَرَه إذا أصاب سَحْرَه ... وجاء فلانٌ بالسِّحْر فی کلامه ، وفی الحدیث : إنّ من البیان لسحراً ، والمرأة تَسْحَرُ الناس بعینها ، ولها عین ساحرة ولهنَّ عیون سواحرٌ . ولعب الصبیان بالسَّحّارةِ ، وهی لُعْبَة فیها خَیط یخرج من جانب علی لون ومن جانب علی لون ، وأرض ساحرة السراب ... وعَنْز مسحورة قلیلة اللبن ، وأرض مسحورة :

ص:203


1- (1) سَحْرٌ : أی أجوفٌ .
2- (2) معجم مقاییس اللغة 3 / 138 .

لا تُنبت ، سحَرتُه عن کذا : صرفَته»(1) .

وقال ابن منظور : « سحر : الأزهری : السِّحْرُ عَمَلٌ تُقُرِّبَ فیه إلی الشیطان وبمعونة منه ، کلّ ذلک الأمر کینونة للسحر ، ومن السحر الاُخذة التی تأخذُ العین حتّی یُظَنَّ أنّ الأمر کما

یُری ولیس الأصل علی ما یُری ، والسِّحْرُ : الاُخْذَةُ ، وکلّ ما لَطُفَ مأخَذُه ودَقَّ فهو سحرٌ ... قال : الأزهری : وأصل السِّحرِ صَرْفُ الشیء عن حقیقته إلی غیره ، فکأنّ الساحر لما أرَی الباطل فی صورة الحقّ وخَیَّلَ الشیء علی غیر حقیقته ، قد سحر الشیء عن وجهه أی صرفه ... وقال یونس : تقول العرب للرجل ما سَحَرک عن وجه کذا وکذا أی ما صرفک عنه ؟ وما سَحَرَک عنّا سَحْراً أی ما صرفک ... ؟ »(2) .

وقال الفیروزآبادی : « والسِّحر بالکسر : کلّ ما لطف مأخذه ودقَّ ، والفعلُ کمَنَعَ ... »(3) .

قال الطریحی : « سمی السِّحر سحراً لأنّه صرف عن جهة ، وقیل : من السحر أی سحرت فخولط عقلک ومدّ ... والسِّحر بالکسر فالسکون : کلام أو رقیّة أو عمل یؤثر فی بدن الإنسان أو قلبه أو عقله ، وقیل : لا حقیقة له ولکنّه تخیّل . وقد اختلف العلماء فی القدر الذی یقع به السحر ، فقال بعضهم : لا یزید تأثیره علی قدر التفرق بین المرء وزوجه لأنّ اللّه تعالی ذکر ذلک تعظیماً لما یکون عنده وتهویلاً له فی حقِّنا ، فلو وقع به أعظم منه لذکره ، لأنّ المَثَل لا یُضرب عند المبالغة إلاّ بأعلی الأحوال ، والأشعریّة علی ما نُقل عنهم أجازوا ذلک ، وفی الحدیث : حلّ ولا تعقد ، وفیه دلالة علی أنّ له حقیقة ، ولعلّه أصح و ... »(4) .

قال فی المنجد : « السِّحر : مصدر ، ما لطف مأخذه ودقّ . إخراج الباطل فی صورة الحقّ . ما یفعله الإنسان من الحیل ، ومنه « إنّ من البیان لسحراً» . الفساد .

ما یستعان فی تحصیله بالتقریب من الشیطان ممّا لا یستقل به الإنسان ، جمعه أسحار

ص:204


1- (3) أساس البلاغة / 204 .
2- (1) لسان العرب 6 / 189 .
3- (2) القاموس فی اللغة / الطبع الحجری من دون الرقم .
4- (3) مجمع البحرین / 265 الطبع الحجری .

وسُحُور . السِحْرُ الکلامی : غرابة الکلام ولطافته المؤثرة فی القلوب المحوِّلة إیّاها من حالٍ إلی حالٍ کالسِحر»(1) .

أقول : کأنّ صاحب المنجد قد جمع فیه بین أقوال اللغویین .

وقال الشریف المرتضی : « السحر : تخییل ما لیس له حقیقة کالحقیقة یتعذر علی مَنْ لا یعلم وجه الجملة فیه»(2) .

وقال الشیخ الطوسی فی تفسیره : « السحر والکهانة والحیلة نظائرٌ ، یقال : سحره یسحره سحراً ، أسحرنا أسحاراً ، وسحّره تسحیراً . قال صاحب العین : السحر عمل یقرّب إلی الشیطان . کلّ ذلک یکتبونه السحر . ومن السحر : الاُخْذَةُ التی تأخذ العین حتّی یظن أنّ الأمر کماتری ولیس الأمر کماتری ، والجمع : الاُخَذ .

والسحر البیان من اللفظ کما قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم « إنّ من البیان لسحراً »... وأصل الباب الخفاء ، والسحر قیل : الخفاء سببه توهم قلب الشیء عن حقیقته ، کفعل السحرة فی وقت موسی لمّا أوهموا أنّ العصا والحبال صارت حیواناً ، فقال : «یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی»(3)(4) .

ثم قال بعد صفحة : « وقیل فی معنی السحر أربعة أقوال :

أحدها : أنّه خُدَع ومخاریق وتمویهات لا حقیقة لها ، یخیل إلی المسحور أنّ لها حقیقة .

والثانی : أنّه أخذ بالعین علی وجه الحیلة .

و الثالث : أنّه قلب الحیوان من صورة إلی صورة ، وإنشاء الأجسام علی وجه الاختراع ، فیمکن للساحر أن یقلّب الإنسان حماراً وینشیء أجساماً .

والرابع : أنّه ضرب من خدمة الجن ، کالذی یمسک له التجدل فیصرع .

وأقرب الأقوال الأوّل : لأنّ کلّ شیءٍ خرج عن العادة الخارقة فإنّه لا یجوز أن یتأتی

ص:205


1- (4) المنجد / 331 .
2- (5) رسالة الحدود والحقائق المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 3 / 272 .
3- (1) سورة طه / 66 .
4- (2) التبیان 1 / 372 و 373 .

من الساحر . ومن جوّز للساحر شیئاً من هذا فقد کفر ، لأنّه لا یمکنه مع ذلک العلم بصحة المعجزات الدالة علی النبوات ، لأنّه أجاز مثله من جهة الحیلة والسحر»(1) .

وذکر نظیر البیان الأوّل الطبرسی فی مجمع البیان 1 / 170 .

ویأتی کلام الشیخ فی المبسوط والخلاف آنفاً .

قال الفخر الرازی فی تفسیره فی معنی السحر : « ذکر أهل اللغة أنّه فی الأصل عبارة عمّا لطف وخفی سببه ... ثمّ قال بعد أسطر : إعلم أنّ لفظ السحر فی عرف الشرع مختص بکلِّ أمر یخفی سببه ویتخیّل علی غیر حقیقته ویجری مجری التمویه والخداع ، ومتی أطلق ولم یقید أفاد ذم فاعله ، قال تعالی : «سَحَرُواْ أَعْیُنَ النَّاسِ» ، یعنی موّهوا علیهم حتّی ظنوا أنّ حبالهم وعصیهم تسعی ، وقال تعالی «یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی» ، وقد یُستعمل مقیداً

فیما یمدح ویحمد ... فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : « إنّ من البیان لسحراً » ، فسمی النبی صلی الله علیه و آله وسلم بعض البیان سحراً لأنّ صاحبه یوضح الشیء المشکل ویکشف عن حقیقته بحسن بیانه وبلیغ عبارته.... »(2) .

ثمّ تعرض بعد أسطر لأقسام السحر فی ستة عشر صفحة من تفسیره(3) ونقل عنه العلامة المجلسی فی بحار الأنوار(4) وذکره مختصراً فی الجواهر(5) . وزعم الشیخ الأعظم قدس سره (6) أنّ هذا التقسیم من المجلسی حیث نسبه إلیه وبیّن حکمها ، وتبعه المحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة(7) . وحیث أنّ التقسیم من الفخر الرازی ولیس بتام عندنا لم نتعرض إلیه وإلی حکمه کما ردّه المجلسی قدس سره بلا فصل بعد ختام نقله منه وقال : « وإنّما أوردت أکثر کلامهم فی هذا المقام

ص:206


1- (3) التبیان 1 / 374 .
2- (1) التفسیر الکبیر 3 / 205 .
3- (2) التفسیر الکبیر 3 / (222 - 206) .
4- (3) بحار الأنوار 56 / (310 - 277) - (22 / 674 - 654) - کلاهما من طبع بیروت .
5- (4) الجواهر 22 / (84 - 81) .
6- (5) المکاسب المحرمة / 33 الطبع الحجری - (1 / 262 و 263) .
7- (6) مصباح الفقاهة 1 / (292 - 288) .

مع طوله واشتماله علی الزوائد الکثیرة لمناسبته لما سیأتی فی بعض الأبواب الآتیة ، ولتطّلع علی مذاهبهم الواهیة فی تلک الأبواب»(1) .

قال الشیخ الطوسی فی المبسوط : « السحر له حقیقة عند قوم ، وهو أنّ الساحر یعقد ویرقی ویسحر فیقتل ویمرض ویکوع الأیدی ویفرِّق بین الرجل وزوجته ، ویتّفق له أن یسحر بالعراق رجلاً بخراسان فیقتله . وقال قوم : لا حقیقة له ، وإنّما هو تخیّل وشعبذة ، وهو الذی یقوی فی نفسی ، وفی روایاتنا أنّ السحر له حقیقة لکن ما ذکروا تفصیله کما ذکره الفقهاء . ولا خلاف بینهم أنّ تعلیمه وتعلّمه وفعله محرّم ، لقوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» فذمَّ علی تعلیم السحر ... »(2) .

وقال فی الخلاف : « السحر له حقیقة ، ویصح منه أن یعقد ویرقی ویسحر فیقتل ویمرض ویکوع الأیدی ویفرّق بین الرجل وزوجته ، ویتفق له أن یسحر بالعراق رجلاً بخراسان فیقتله عند أکثر أهل العلم أبی حنیفة وأصحابه ومالک والشافعی . وقال أبو جعفر الأسترآبادی من أصحاب الشافعی : لا حقیقة له ، وإنّما هو تخییل وشعبذة ، وبه قال المغربی

من أهل الظاهر ، وهو الذی یقوی فی نفسی ، ویدلّ علی ذلک قوله تعالی مخبراً فی قصة فرعون والسحرة : «فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِیُّهُمْ یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی * فَأَوْجَسَ فِی نَفْسِهِ خِیفَةً مُّوسَی»(3) وذلک أنّ القوم جعلوا من الحبال کهیئة الحیات ، وطلوا علیها الزیبق وأخذ الموعد علی وقت تطلع فیه الشمس ، حتّی إذا وقعت علی الزیبق تحرک فخیّل لموسی أنها حیّات تسعی ولم یکن لها حقیقة ، وکان هذا فی أشدّ وقت السحر ، فألقی موسی عصاه فأبطل علیهم السحر فآمنوا به . وأیضاً فإنّ الواحد منّا لا یصحّ أن یفعل فی غیره ، ولیس بینه اتصال ، ولا اتصال بما اتصل بما فعل فیه ، فکیف یفعل من هو ببغداد فی من هو بخراسان وأبعد منها ؟ ولا ینفی هذا قوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ»(4) لأنّ ذلک لا

ص:207


1- (7) بحار الأنوار 56 / 310 (22 / 674) .
2- (8) المبسوط 7 / 260 .
3- (1) سورة طه / 66 و 67 .
4- (2) سورة البقرة / 102 .

یمنع منه ، و إنّما الذی منعنا منه أن یؤثر التأثیر الذی یدّعونه ، فأمّا أن یفعلوا ما یتخیّل عنده أشیاء فلا یمنع منه ... »(1) .

وقال العلامة الحلی فی التذکرة : « تعلّم السحر وتعلیمه حرام ، وهو کلام یتکلّم به أو یکتبه أو رُقیّة(2) أو یعمل شیئاً [ یؤثّر ] فی بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غیر مباشرة . وهل له حقیقة ؟ قال الشیخ : لا إنّما هو تخییل ، وعلی کلِّ تقدیر لو استحلّه قُتل . ویجوز حلّ السحر بشیءٍ من القرآن أو الذکر والأقسام(3) ، لا بشیءٍ منه ... »(4) .

وذکر نحو ذلک فی التحریر(5) والقواعد(6) مع اختیار قول الشیخ فی الأخیر بأن لیس للسحر حقیقة وإنّما هو تخییل .

وقال ولده فخر المحققین فی الإیضاح : « المراد بالسحر استحداث الخوارق بمجرد التأثیرات النفسانیة أو بالإستعانة بالفلکیات فقط ، أو علی سبیل تمزیج القوی السماویة بالقوی الأرضیة ، أو علی سبیل الإستعانة بالأرواح الساذجة . وقد خص أهل المعقول الأوّل باسم السحر والثانی بدعوة الکواکب والثالث بالطلسمات والرابع بالعزائم ، وکلّ ذلک محرّم فی

شریعة الإسلام ومستحلِّه کافر . أمّا علی سبیل الاستعانة بخواص الأجسام السفلیة فهو علم الخواص أو الاستعانة بالنسب الریاضیة وهو علم الحیل وجرّ الأثقال ، وهذان النوعان الأخیران لیسا من السحر . إذا عرفت ذلک فنقول : اختلف الفقهاء فی أنّ السحر - لا بمعنی دعوة الکواکب ، فإنّ الکواکب لا تأثیر لها قطعاً - هل له حقیقة (أی تأثیر) أو تخیّل لا حقیقة له ، بمعنی عدم التأثیر ، ذهب بعضهم إلی الأوّل وآخرون إلی الثانی ، ومأخذ القولین قوله

ص:208


1- (3) الخلاف 5 / 327 المسألة 14 .
2- (4) رُقیة بضم الراء : العوذة کما فی جامع المقاصد 4 / 29 .
3- (5) الأقسام : بفتح الهمزة جمع قُسَم ، ولا تمتنع قراءته بکسرها علی أنّه مصدر أقسم . کما فی جامع المقاصد 4 / 30 .
4- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 144 المسألة 650 .
5- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 المسألة 3020 .
6- (8) قواعد الأحکام 2 / 9 .

تعالی : «فَیَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا یُفَرِّقُونَ بِهِ بَیْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ»(1) الآیة . ثمّ تصدی للنقص قدس سره فی النقض والإبرام فی أدلة الطرفین بوجه تام وقال فی آخر کلامه : - واعلم أنّ الحقَّ عندی أنّه لا تأثیر له ولا حقیقة»(2) .

وقال الشهید : « تحرم الکهانة والسحر بالکلام والکتابة والرقیة والدخنة بعقاقیر الکواکب وتصفیة النفس والتصویر والنفث والأقسام والعزائم بما لا یُفهم معناه ویضرّ بالغیر فعله ، ومن السحر الاستخدام للملائکة والجنّ والاستنزال للشیاطین فی کشف الغائب وعلاج المصاب .

ومنه : الاستحضار بتلبّس الروح ببدن منفعل کالصبی والمرأة وکشف الغائب عن لسانه ، ومنه : النیرنجیّات ، وهی إظهار غرائب خواص الإمتزاجات وأسرار النیّرین ، وتلحق به الطلسمات ، وهی تمزیج القوی العالیة الفاعلة بالقوی السافلة المنفعلة لیحدث عنها فعل غریب . فعمل هذا کلّه والتکسب به حرام ، أمّا علمه لیتوقّی أو لئلا یعتریه فلا ، وربّما وجب علی الکفایة لیدفع المتنبّی ء بالسحر ، ویقتل مستحلّه ، ویجوز حلّه بالقرآن والذکر والإقتسام لا به ، وعلیه یحمل روایة العلا بحلّه(3) . والأکثر علی أنّه لا حقیقة له بل هو تخیّل ، وقیل : أکثره تخییل وبعضه حقیقیٌ لأنّه تعالی وصفه بالعظمة فی سحرة فرعون . ومِن التخیّل السیمیا وهی إحداث خیالات لا وجود لها فی الحس للتأثیر فی شی ءٍ آخر وربّما ظهر إلی الحس ... »(4) .

وقال ثانی الشهیدین فی تعریف السحر : « هو کلام أو کتابة أو رقیة أو أقسام أو عزائم

ص:209


1- (1) سورة البقرة / 102 .
2- (2) إیضاح الفوائد 1 / (407 - 405) .
3- (3) وهی هذه الروایة : العلا عن محمد بن مسلم قال : سألته عن المرأة یعمل لها السحر یحلّونه عنها ؟ قال : لا أری بذلک بأساً . مفتاح الکرامة 12 / 237 والجواهر 22 / 76 ولکن لم نجدها فی الجوامع الحدیثیة . والروایة مرسلة سنداً .
4- (4) الدروس الشرعیة 3 / 164 طبع جماعة المدرسین وفیه أغلاط مطبعیة صححناها بما نقله عنه فی بحار الأنوار 60 / 30 (24 / 253) .

ونحوها یحدث بسببها ضرر علی الغیر ، ومنه عقد الرجل عن زوجته بحیث لا یقدر علی وطئها وإلقاء البغضاء بینهما ، ومنه استخدام الملائکة والجن واستنزال الشیاطین فی کشف الغائبات وعلاج المصاب واستحضارهم وتلبّسهم ببدن الصبی أو امرأة وکشف الغائب علی لسانه ... »(1) .

وقال جدنا الفقیه الشیخ جعفر بعد الإشکال فی التعاریف الماضیة وأنّ المرجع فیه إلی العرف العام أنّه : « عبارة عن إیجاد شیء تترتّب علیه آثار غریبة وأحوال عجیبة بالنسبة إلی العادات ، بحیث تشبه الکرامات وتِوْهِم أنّها من المعاجز المثبتة للنبوات من غیر استناد إلی الشرعیات بحروز أو أسماء أو دعوات أو نحوها من المأثورات(2) . وأمّا ما اُخذ من الشرع کالعُوَذ والهیاکل وبعض الطلسمات فلیست منه بل هی بعیدة عنه ... »(3) .

واعترض علیه فی الجواهر بعد نقل تعریفه : « ... لکنّه کماتری لا یرجع إلی محصَّل ، وأین العرف العام وتمییز جمیع أقسام السحر الذی هو علم عظیم طویل الذیل کثیر الشعب لا یعرفه إلاّ الماهرون فیه ؟ ! ولیس مطلق الأمر الغریب سحراً ، فإنّ کثیراً من العلوم کعلم الهیئة والجفر والترازجیة - وهو أسرار الجفر - وغیرها یظهر من العالِم بها بعض الآثار العجیبة الغریبة ، و یکفیک ما یصنعه الأفرنج فی هذه الأزمنة من الغرائب ، ولسیت هی من السحر الحرام قطعاً »(4) .

وقال النراقی : « والذی یظهر من العرف والتتّبع فی موارد الاستعمال أنّه عمل یوجب حدوث أمر منوط بسبب خفی غیر متداول عادةً ، لا بمعنی أنّ کلّما کان کذلک هو سحر ، بل بمعنی أنّ السحر کذلک .

وتوضیح ذلک : أنّ ذلک تارة یکون بتقویة النفس وتصفیتها حتّی یقوی علی مثل ذلک العمل ، کما هو دأب أهل الریاضة ، وعلیه عمل أهل الهند .

ص:210


1- (1) مسالک الأفهام 3 / 128 .
2- (2) أی المأثورات عند السَحَرة .
3- (3) شرح القواعد 1 / 243 .
4- (4) الجواهر 22 / 81 .

واُخری : باستعمال القواعد الطبیعیّة أو الهندسیة أو المداواة العلاجیّة ، وهو المتداول عند الأفرنجیّین .

وثالثة : تسخیر روحانیّات الأفلاک والکواکب ونحوها ، وهو المشهور عن الیونانیین والکلدانیین .

ورابعة : بتسخیر الجنّ والشیاطین .

وخامسة : بأعمال مناسبة للمطلوب ، کتماثیل أو نقوش أو عُقد أو نُفث أو کُتب منقسماً إلی رُقیة(1) وعزیمة(2) أو دُخنة(3) فی وقت مختار ، وهو المعروف عن النبط .

وسادسة : بذکر أسماء مجهولة المعانی وکتابتها بترتیب خاص ، ونسب ذلک إلیالنبط والعرب .

وسابعة : بذکر ألفاظ معلومة المعانی غیر الأدعیة .

وثامنة : بالتصرف فی بعض الآیات أو الأدعیة أو الأسماء ، من القلب أو الوضع فی اللوح المربّع ، أو مع ضمّه مع عمل آخر من عقد أو تصویر أو غیرهما .

وتاسعة : بوضع الأعداد فی الألواح .

ولا شک فی عدم کون الأوّلیّن سحراً ، کما أن الظاهر کون الخامس سحراً والبواقی مشتبهة ، والأصل یقتضی فیها الإباحة ، إلاّ ما عُلمت حرمته من جهة الإجماع ، کما هو الظاهر فی التسخیرات»(4) .

أقول : لابدّ من أن یؤخذ موضوع السحر وتعریفه من العرف ، کما اعترف بذلک العلامة الحلی فی المنتهی(5) وتبعه غیره مِن الأعلام ، نحو الشیخ جعفر(6) والنراقی(7) والمؤسس

ص:211


1- (1) الرُقیة : العُوذَة .
2- (2) عزیمة ، جمعه العزائم : الرقی .
3- (3) دخنة : ذریرة تدخّن بها البیوت .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 115 و 114 .
5- (5) منتهی المطلب 2 / 1014 طبع الحجری .
6- (6) شرح القواعد 1 / 243 .
7- (7) مستند الشیعة 14 / 114 .

الحائری قدس سرهم (1) .

وإشکال صاحب الجواهر رحمه الله بأنّ « ... أین العرف العام وتمییز جمیع أقسام السحر الذی هو علم عظیم طویل الذیل ، کثیر الشعب لا یعرفه إلاّ الماهرون فیه ؟ ! »(2) فی غیر محلّه ، لأن أخذ الموضوع والتعریف من العرف لا یوجب أن یکون العرف العام وأصحابه من

السَحَرة العالمین به ، کما أن العرف یعرفون الطبیب والطب ولیسوا أطباء ولاعارفین به .

والذی یظهر مِنْ مراجعة العرف وکلمات أهل اللغة والفقهاء أنّ المراد بلفظ « السحر » ومترادفه بالفارسیة « جادو» هو : کلُّ أمرٍ یوجب قلب الشیءِ عن واقعه وحقیقته ویخرج الباطل فی صورة الحقّ علی سبیل الخدیعة ، ویکون مأخذه ما لطف ودقَّ بحیث لا یظهر لکلّ أحدٍ بل یخفی سببه . ویمکن أن یکون بالتأثیرات النفسانیة أو بمعونة الشیاطین والأجنة أو بتلبس روحٍ ببدنٍ منفعلٍ أو غیرها ، سواء کان بکلامٍ أو کتابٍ أو رُقیّةٍ أو عزیمةٍ أو قسمٍ أو دُخنةٍ أو نقشٍ أو عقدٍ أو نفثٍ أو عددٍ أو لوحٍ أو عملٍ ، ویحدث بسببه ضررٌ علی الغیر غالباً ، أو أمرٌ خارق للعادة أو أثرٌ غریبٌ أو حالٌ عجیبٌ ونحوها .

وهذا التعریف لیس بالحدّ والرسم التامّین ، ولکن یدخل فیه أکثر موارد السحر ومصادیقه ، وهذا یکفی فی صحة التعریف المأخوذ مِن العرف ظاهراً .

ویظهر من التعریف أنّ للسحر أثراً عجیباً أو یترتب علیه أمرٌ أو حالٌ غریبٌ أو ضررٌ علی الغیر بنحو یخرق العادة ، کما یعقد الرجل عن وط ء زوجته أو یلقی البغضاء بینهما أو یلقی المحبّة الشدیدة أو التعشق بین الرجل والمرأة الأجنبییّن أو الإختلال فی عقل الرجل أو عاطفة المرأة أو بدنهما ونحوها .

وبعد ثبوت الأثر للسحر فالبحث عن کونه حقیقة أو تخیّل لا فائدة فیه ، والعمدة حینئذ أثره لا مؤثره ، سواء کان المؤثرُ أمراً خیالیّاً أو حقیقیاً .

نعم ، لا یکون البحث عن مؤثره ساقطاً عن الإعتبار ، ویکون نزاعاً لفظیّاً ، کما علیه

ص:212


1- (8) المکاسب المحرمة / 148 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
2- (9) الجواهر 22 / 81 .

بعض(1) ، وتعریفنا من السحر یجتمع مع المسلکین : الحقیقیة والخیال ، لأنّ الأمر المأخوذ فیه یشملهما .

ذهب إلی مسلک خیالیة السحر جماعة من العامة ، نحو : أبی جعفر الأسترابادی من أصحاب الشافعی والمغربی من أهل الظاهر - کما نقل عنهما الشیخ فی الخلاف(2) - والفخر الرازی(3) و البیضاوی(4) والواحدی(5) - کما نقل عنهم السید العاملی فی مفتاح الکرامة(6) -

وغیرهم .

ومِن الخاصة : الشریف المرتضی(7) والشیخ فی الخلاف(8) والمبسوط(9) والتفسیر(10) والعلامة فی کتبه : المنتهی(11) والتذکرة(12) والقواعد(13) والتحریر(14) وولده فی الإیضاح(15) .

ومن المتأخرین : المحقق الإیروانی(16) وتبعه المحققون الخوئی(17)

ص:213


1- (1) هو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری فی مهذب الأحکام 16 / 100 .
2- (2) الخلاف 5 / 327 .
3- (3) التفسیر الکبیر 3 / 205 .
4- (4) أنوار التنزیل 1 / 363 .
5- (5) تفسیر الواحدی 1 / 348 المطبوع فی حاشیة تفسیر الطبری .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 231 .
7- (1) رسالة الحدود والحقائق المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 3 / 272 .
8- (2) الخلاف 5 / 328 .
9- (3) المبسوط 7 / 260 .
10- (4) التبیان 1 / 374 .
11- (5) منتهی المطلب 2 / 1014 الطبع الحجری .
12- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
13- (7) قواعد الأحکام 2 / 9 .
14- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
15- (9) إیضاح الفوائد 1 / 407 .
16- (10) حاشیة المکاسب 1 / 170 .
17- (11) مصباح الفقاهة 1 / 286 .

والسبزواری(1) والقمی(2) .

وذهب إلی مسلک حقیقة السحر أو حقیقة بعضه أو التشکیک فی خیالیته ، أکثر العامة ، نحو : أبی حنیفة وأصحابه ومالک والشافعی - کما نقل عنهم الشیخ فی الخلاف(3) - .

وبعض الخاصة ، نحو : الشهید فی الدروس(4) والکرکی فی جامع المقاصد(5) وثانی الشهیدین فی المسالک(6) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(7) والمجلسی فی بحار الأنوار(8) وکاشف الغطاء فی شرح القواعد(9) والنراقی فی المستند(10) والعاملی فی مفتاح الکرامة(11) وصاحب

الجواهر(12) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(13) وشیخنا الاُستاذ(14) - مدظله - .

والحقّ : أنّ لبعض موارد السحر واقعیةً وحقیقةً ، کما أنّ بعض موارده من قبیل التخیّل والتوهم ، والکلّ متفق بثبوت الأثر للسحر کما مرّ منّا .

ولذا قال الشهید الثانی : « الحقّ أن تأثیره فی بدن المسحور أمر محقّق لا شبهة فیه ، نعم

ص:214


1- (12) مهذب الأحکام 16 / 99 .
2- (13) عمدة المطالب 1 / 223 .
3- (14) الخلاف 5 / 327 .
4- (15) الدروس الشرعیة 3 / 164 .
5- (16) جامع المقاصد 4 / 30 .
6- (17) مسالک الأفهام 3 / 128 .
7- (18) مجمع الفائدة 8 / 78 .
8- (19) بحار الأنوار 60 / 39 (24 / 260) .
9- (20) شرح القواعد 1 / 244 .
10- (21) مستند الشیعة 14 / 111 .
11- (22) مفتاح الکرامة 12 / 232 .
12- (1) الجواهر 22 / 87 .
13- (2) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 29 الطبع الحجری .
14- (3) إرشاد الطالب 1 / 163 .

کونه موهماً لحیّات تسعی ونحوه تخییل ، وبهذا یجمع بین الأدلة الدالة علی الطرفین مع ضعف دلالة کثیر منها»(1) .

ویؤید ما ذکرنا : خبر عیسی بن سیفی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : حلّ ولا تعقد(2) .

وخبر الصدوق فی العیون بإسناده عن الرضا علیه السلام فی حدیث : «وَمَا أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» یتعلّمون من هذین الصنفین ما یفرّقون به بین المرء وزوجه ، هذا ما یتعلّم الإضرار بالناس ، یتعلّمون التضریب بضروب الحیل والتمائم والإیهام ، وأنّه قد دفن فی موضع کذا وعمل کذا لیحبب المرأة إلی الرجل والرجل إلی المرأة ویؤدی الی الفراق بینهما ، فقال عزّ وجل : «وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ» أی ما المتعلّمون بذلک بضارین من أحد إلاّ بإذن اللّه ، یعنی بتخلیة اللّه وعلمه ، فإنّه لو شاء لمنعهم بالجبر والقهر ، الحدیث(3) .

ومرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : العین حقٌّ ، والرُقی حقٌّ ، والسحر حقٌّ ، والفأل حقٌّ ، والطیرة لیست بحقٍّ ، والعَدْوی(4) لیست بحقٍّ والطیب نُشْرَةٌ والعسل نشرة والنظر إلی الخضرة نشرةٌ(5) .

ومرسلة الطبرسی رفعه إلی الصادق علیه السلام أنّه قال فی حدیث طویل : إنّ السحر علی وجوه شتی ، وجه منها بمنزلة الطب ، کما أنّ الأطباء وضعوا لکلِّ داءٍ داوءً فکذلک علم السحر ، احتالوا لکلِّ صحةٍ آفةً ولکلِّ عافیةٍ عاهةً ولکلِّ معنی حیلةً ، الحدیث(6) .

وبما ذکرنا من التعریف یظهر الفوارق الرئیسیة بین السحر والمعجزة والکرامة ، لأنّ المعجزة والکرامة لا خدعة فیهما ، ولا یخرجان الباطل فی صورة الحقّ ، ولا یکونان بمعونة

ص:215


1- (4) فوائد القواعد / 518 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 145 ح 1 . الباب 25 من أبواب ما یکتسب به .
3- (6) عیون أخبار الرضا علیه السلام 1 / 266 ح 1 ونقل مختصره فی وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .
4- (7) انتقال المرض مِن مریض إلی سلیم .
5- (8) نهج البلاغة الحکمة 400 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 64 ح 7 .
6- (9) الاحتجاج 2 / 339 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 66 ح 10 .

الشیاطین والأجنة ، بل إنّهما علی سبیل الحقیقة وإراءة الواقع واقعاً والحقِ حقّاً ، وکلّ مَنْ تعلّم السحر یمکن أن یأتی به ، وأنّهما لیسا بالتعلّم والتتلمذ ، فالسحر علم والمعجزة والکرامة إظهار القدرة للّه تعالی علی ید أنبیائه واُولیائه علیهم السلام إذا کانت المصلحة تقتضیهما . فالفرق بین السحر وبینهما أساسیٌ ورئیسیٌ وسنخیٌ ، ولا یتشبهما الناسُ بالسحرِ ولا السَحَرة بهم . ولذا حیث رأی السحرة إعجاز عصا موسی ، یقول اللّه تعالی عنهم : «وَأُلْقِیَ السَّحَرَةُ سَاجِدِینَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِینَ * رَبِّ مُوسَی وَهَارُونَ»(1) . والتفصیل مؤکولٌ إلی علم الکلام .

تنبیهٌ : قال العلامة السید محمد حسین الطباطبائی قدس سره ناقلاً عن شیخنا البهائی(2) نوّر اللّه مرقده أنّه قال : « أحسن الکتب المصنفة فی هذه الفنون (أی العلوم الغریبة) کتاب رأیتُهُ ببلدة هرات إسمه (کلّه سر) ، وقد رکّب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم : الکیمیاء ، واللیمیاء ، والهیمیاء ، والسیمیاء ، والریمیاء» انتهی ملخص کلامه(3) .

وقال صاحب المیزان فی تعریف هذه العلوم :

« 1 - الکیمیاء : علم یبحث عن کیفیة تبدیل صور العناصر بعضها إلی بعضٍ .

2 - اللیمیاء : علم یبحث عن کیفیة التأثیرات الإرادیة بإتصالها بالأرواح القویّة العالیة ، کالأرواح الموکلة بالکواکب والحوادث وغیر ذلک بتسخیرها أو باتصالها واستمدادها من الجنِّ بتسخیرهم ، وهو فن التسخیرات .

3 - الهیمیاء : العلم الباحث عن ترکیب قوی العالم العِلوی مع العناصر السفلیة للحصول علی عجائب التأثیر ، وهو الطلسمات .

4 - السیمیاء : العلم الباحث عن تمزیج القوی الإرادیة مع القوی الخاصة المادیة للحصول علی غرائب التصرف فی الاُمور الطبیعیة ، ومنه التصرف فی الخیال المسمی بسحر العیون ، وهذا الفن من أصدق مصادیق السحر .

5 - الریم-یاء : العلم الباحث عن استخدام القوی المادیة للحصول علی آثارها بحیث

ص:216


1- (1) سورة الأعراف / (122 - 120) .
2- (2) راجع کشکوله 3 / 254 من منشورات لسان الصدق . قم المقدسة ، عام 2006 م .
3- (3) المیزان 1 / 244 .

یظهر للحس أنّها آثار خارقة بنحو من الأنحاء ، وهو الشعبذة» .

ثمّ ذکر بعض العلوم الملحقة بها مع تسمیة بعض کتبه ، فراجعه إن شئت(1) .

هذا کلّه فی المقام الأوّل - أعنی موضوع علم السحر - وأمّا حکمه :

المقام الثانی : حکم السحر
اشارة

تعلیم السحر وتعلّمه حرام بین المسلمین ، وتدلّ علیه الأدلة الأربعة :

الأوّل : الإجماع

قال الشیخ : « ولا خلاف بینهم (أی بین الفقهاء من المسلمین) أن تعلیمه وتعلّمه وفعله محرّم ، لقوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ»(2) فذمَّ علی تعلیم السحر»(3) .

وقال الأردبیلی : « فکأنّ تحریم السحر وتعلیمه وتعلّمه وأخذ الاُجرة علیه ... إجماع (إجماعی - خ ل) بین المسلمین»(4) .

وقال المحقق السبزواری : « وعمل السحر والتکسّب به حرام بلا خلافٍ »(5) .

وقال البحرانی فی السحر ونحوه من القیافة والکهانة والشعبذة : « ولا خلاف فی تحریم تعلیم الجمیع وأخذ الاُجرة علیه»(6) .

وذکر الوحید البهبهانی الإجماع علی الحرمة فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(7) . وقال السید العاملی : « فی الإیضاح والتنقیح بعد ذکر أقسامه : أنّ کلّه حرام فی شریعة

ص:218


1- (1) المیزان 1 / 244 نقلتها مع اختلافٍ فی الترتیب واختصارٍ .
2- (2) سورة البقرة / 102 .
3- (3) المبسوط 7 / 260 .
4- (4) مجمع الفائدة 8 / 78 .
5- (5) الکفایة 1 / 440 .
6- (6) الحدائق 18 / 171 .
7- (7) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 34 .

المسلمین ومستحلّه کافر»(1) .

وقال فی الجواهر : « بلا خلاف أجده فی الجملة بین المسلمین فضلاً عن غیرهم ، بل هو من الضروریات التی یدخل منکرها فی سبیل الکافرین»(2) .

وقال الشیخ الأعظم : « السحر حرام فی الجملة بلا خلاف بل هو ضروریٌّ»(3) .

وقال المؤسس الحائری : « لا خلاف فی حرمته فی الجملة بین المسلمین ، بل هی من الضروریات التی یدخل منکرها فی عِداد الکافرین»(4) .

وقال المحقق الخوئی : « لا خلاف فی حرمة السحر فی الجملة بل هی من ضروریات الدین وممّا قام علیه إجماع المسلمین»(5) .

وقال الفقیه السبزواری فی الاستدلال علی حرمة السحر : « للنصوص والإجماع بل الضرورة من المذهب ، إن لم تکن من الدین»(6) .

أقول : الإجماع قائم علی حرمة تعلیم السحر وتعلّمه والعمل به وأخذ الاُجرة علیه بین المسلمین ، کما أفتی به الشیخ وقال : « تعلّم السحر وتعلیمه والتکسب به وأخذُ الاُجرة علیه حرام محظور»(7) . ولکن هل هذا الإجماع مدرکیٌّ أم لا ؟ الظاهر أنّه نشأ مِن الأدلة التالیة .

الثانی : الکتاب

تدلّ علی حرمة السحر آیات من الکتاب المجید ، نحو :

قوله تعالی : «مَا کَفَرَ سُلَیْمانُ وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا

ص:218


1- (8) مفتاح الکرامة 12 / 226 .
2- (9) الجواهر 22 / 75 .
3- (1) المکاسب المحرمة / 32 الطبع الحجری (1 / 257) .
4- (2) المکاسب المحرمة / 142 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
5- (3) مصباح الفقاهة 1 / 283 .
6- (4) مهذب الأحکام 16 / 99 .
7- (5) النهایة / 365 .

أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا یُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّی یَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَکْفُرْ»(1) .

وقوله تعالی : «وَلاَ یُفْلِحُ السَّاحِرُونَ»(2) ، ثمّ قال تعالی بعد ثلاث آیات : «قَالَ مُوسَی مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَیُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ یُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِینَ»(3) .

وقوله تعالی : «وَأَلْقِ مَا فِی یَمِینِکَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا کَیْدُ سَاحِرٍ وَلاَ یُفْلِحُ السَّاحِرُ حَیْثُ أَتَی»(4) .

وظهور الآیات فی الحرمة یکفینا عن التفسیر والتقریب وتکثیر الکلام .

الثالث : السنة

الروایات المستفیضة بل المتواترة من السنة الشریفة تدلّ علی حرمة السحر وتعلیمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الاُجرة علیه :

منها : صحیحة عبد العظیم الحسنی عن أبی جعفر الثانی الجواد علیه السلام فی حدیث الکبائر : والسحر لأنّ اللّه عزّ وجل یقول : «وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِی الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ»(5) ، الحدیث(6) .

ومنها : معتبرة السکونی عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ساحر المسلمین یُقتل وساحر الکفار لا یُقتل ، قیل : یا رسول اللّه لم لا یُقتل ساحر الکفار ؟ قال : لأنّ الشرک أعظم من السحر ، لأنّ السحر والشرک مقرونان(7) .

ص:219


1- (6) سورة البقرة / 102 .
2- (7) سورد یونس / 77 .
3- (8) سورة یونس / 81 .
4- (9) سورة طه / 69 .
5- (1) سورة البقرة / 102 .
6- (2) الکافی 2 / 285 ح 24 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 269 ح 11 .
7- (3) وسائل الشیعة 17 / 146 ح 2 . الباب 25 من أبواب ما یکتسب به .

رواها الکلینی أیضاً بسنده المعتبر فی الکافی الشریف 7 / 260 ح 1(1) .

ومنها : مصححة زید الشحام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الساحر یُضرب بالسیف ضربةً واحدةً علی اُمّ رأسه(2) .

سند الروایة صحیح إن کان المراد بالبشار الراوی قبل الشحام هو بشار بن یسار الضُبَعِیّ الکوفی الثقة ، روی هو وأخوه عن أبی عبد اللّه علیه السلام وأبی الحسن علیه السلام (3) . کما هو الظاهر . ولا یضرّ جهالة حبیب بن الحسن ، لأنّ معه فی السند محمد بن یحیی ومحمد بن الحسین کما فی نقل الکلینی(4) أو محمد بن الحسین فقط کما فی نقل الشیخ(5) .

ومنها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام قال : سئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الساحر فقال : إذا جاء رجلان عدلان فَشَهدا بذلک علیه فقد حلّ دمه(6) .

ومنها : حسنة إسحاق بن عمار عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : من تعلّم شیئاً من السحر کان آخر عهده بربّه ، وحدّه القتل إلاّ أن یتوب ، الحدیث(7) .

وهذه الروایة عامة تشمل حرمة تعلّم السحر وعمله ، وحملها علی العمل فقط تخصیص بلا وجه .

ومنها : خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام قال : من تعلّم شیئاً من السحر قلیلاً أو کثیراً فقد کفر ، وکان آخر عهده بربّه ، وحدّه أن یُقتل إلاّ أن یتوب(8) .

ومنها : مرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبة : المنجم کالکاهن

ص:220


1- (4) کما نقل عنه فی وسائل الشیعة 28 / 365 ح 1 . الباب 1 من أبواب بقیة الحدود .
2- (5) وسائل الشیعة 28 / 366 ح 3 .
3- (6) رجال النجاشی / 113 الرقم 290 .
4- (7) الکافی 7 / 260 ح 2 .
5- (8) التهذیب 10 / 147 ح 15 .
6- (9) التهذیب 6 / 283 ح 185 و 10 / 147 ح 16 و نقل عن الأخیر فی وسائل الشیعة 28 / 367 ح 1 .
7- (1) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .
8- (2) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .

والکاهن ، کالساحر ، والساحر کالکافر ، والکافر فی النار ، سیروا علی اسم اللّه(1) .

رواها الصدوق فی الخصال 1 / 297 ح 67 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 143 ح8 .

ومنها : خبر أبی موسی الأشعری قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ثلاثة لا یدخلون الجنة مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر علی بن الجهم عن الرضا علیه السلام فی حدیث : وأما هاروت وماروت فکانا ملکین علّما الناس السحر لیحترزوا به سحر السحرة ویبطلوا به کیدهم ، وما علّما أحداً من ذلک شیئاً إلاّ قالا : إنّما نحن فتنة فلا تکفر ، فکفر قوم باستعمالهم لما اُمروا بإلاحتراز منه ، وجعلوا یفرّقون بما تعلّموه بین المرء وزوجه ، قال اللّه تعالی : «وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ» یعنی بعلمه(3) .

ومنها : خبر نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المنجم ملعون ، والکاهن ملعون ، والساحر ملعون ، الحدیث(4) .

وهذه الروایات وما شابهها منها مایدلّ بوضوح علی حرمة تعلیم وتعلّم السحر والتکسب به وأخذ الأجرة علیه والعمل علی طبقه .

الرابع : حکم العقل

العقل مستقل بقبح الخدیعة وإخراج الباطل فی صورة الحقّ وقلب الشیء عن واقعه وحقیقته ، وهذا القبح العقلی یستلزم الحکم الشرعی بقاعدة الملازمة .

المقام الثالث : فروع البحث
اشارة

إنّ هاهنا فروعاً یحسن التنبیه علیها والبحث حولها :

الفرع الأول: حرمته مطلقة من دون تقیید بالعمل الحرام أو نیته

الفرع الأوّل : حرمة تعلیم وتعلّم السحر مطلقة فی روایاتنا کما مرّ آنفاً ، ولم تقید

ص:221


1- (3) نهج البلاغة . الخطبة 79 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 64 ح 6 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 6 .
3- (5) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 5 .
4- (6) وسائل الشیعة 17 / 143 ح 7 .

بالعمل الحرام أو نیّته ، بحیث لو لم ینو هذا أو لم یقصد الحرام أو لم یترتب علیه لم یکن حراماً ، بل حرمته مطلقة ، سواء قصد الحرام أو لم یقصده ، وسواء ترتب علیه الحرام فی الخارج أو لم یترتب ، ولذا لو سحر لأجل جلب محبّة الزوج إلی زوجته أو توفیق إنسان فی عبادة اللّه تعالی وتحصیله للعلم أو دفع العقارب والحیات والبراغیث ونحوها من المنافع العقلائیة کان حراماً ویکون تحصیله وتعلّمه حراماً أیضاً ، للإطلاقات الورادة فی الروایات .

خلافاً للشیخ الأکبر کاشف الغطاء(1) حیث قیّد الحرمة بالعمل ونیته ، فالسحر عنده حرام إذا کانت غایته المترتبة علیه حراماً ، وعلی فرض عدم ترتب الغایة إذا کانت نیته حراماً . وتبعه علی هذا التقیید تلمیذه صاحب الجواهر(2) ، وتلمیذ صاحب الجواهر السید علی آل بحر العلوم(3) والمؤسس الحائری(4) .

وأنت تری إطلاق الروایات وعدم وجود التقیید فیها وافقنا علی حرمة تعلّم السحر وتعلیمه مطلقاً ؟ السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) .

الفرع الثانی: هل یجوز الحرمة بوجود المضر منه؟

الفرع الثانی : هل یجوز تعلّم السحر فقط من دون قصد العمل به ؟ لأنّه مرتبة من الفضل ، والعلم فی حدِّ ذاته شریف وأنّه خیر من الجهل ، أو أنّه لا یجوز مطلقاً ذهب إلی الأوّل کاشف الغطاء(6) وتابعه صاحب الجواهر(7) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم(8) والمؤسس

الحائری(9) .

ص:223


1- (1) شرح القواعد 1 / 239 .
2- (2) الجواهر 22 / 79 .
3- (3) برهان الفقه - کتاب التجارة / 26 الطبع الحجری .
4- (4) المکاسب المحرمة / 153 لآیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی .
5- (5) مفتاح الکرامة 12 / 227 .
6- (6) شرح القواعد 1 / 239 .
7- (7) الجواهر 22 / 78 .
8- (8) برهان الفقه - کتاب التجارة / 30 الطبع الحجری .
9- (1) المکاسب المحرمة / 153 لآیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی .

ولکن ظاهر المشهور علی الثانی ، والحقّ قول المشهور ، للإطلاق الوارد فی الروایات .

مضافاً إلی دلالة حسنة إسحاق بن عمار(1) وخبر أبی البختری(2) الماضیتین علی حرمة تعلّم السحر .

الفرع الثالث : هل تختص الحرمة بوجود المضر منه ؟

ذهب الشهیدان فی الدروس(3) والمسالک(4) إلی الاختصاص ، ووافقهما الکاشانی فی مفاتیح الشرائع(5) ، وهو ظاهر العلاّمة فی کتبه(6) ، حیث قیّد تعریفه بما « یؤثر فی بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غیر مباشرة» . وظاهر هذا التعریف وتقییده بالتأثیر یعنی إذا لم یوجب ذلک فلا حرمة ، ومن الواضح إنّ هذا التأثیر یکون بالإضرار غالباً وعلی هذا یمکن عدّ العلامة الحلی من القائلین بالاختصاص .

ویؤیدهم بعض الروایات الواردة فی قصة هاروت وماروت ، نحو : خبر محمد بن زیاد ومحمد بن سیار عن الحسن بن علی العسکری علیه السلام عن آبائه علیهم السلام فی حدیث : فلا تکفر بإستعمال هذا السحر وطلب الإضرار به إلی أن قال : ویتعلّمون ما یضرّهم ولا ینفعهم ، لأنّهم إذا تعلّموا ذلک السحر لیسحروا ویضرّوا به فقد تعلّموا ما یضرّهم فی دینهم ولا ینفعهم فیه ، الحدیث(7) .

ولکن الصحیح - کما ذهب إلیه المشهور - عدم ثبوت اختصاص الحرمة بوجود المضر منه ، بل الحرمة للسحر ثابتة حتّی إذا لم یکن فی البین المضر منه والإضرار . وبعبارة اُخری : نفس عمل السحر حرام حتّی إذا لم یترتب علیه ضررٌ ولم یضر منه أحدٌ ، نحو أن یعمل

ص:223


1- (2) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .
3- (4) الدروس 3 / 164 .
4- (5) المسالک 3 / 128 .
5- (6) مفاتیح الشرائع 1 / 24 .
6- (7) تذکرة الفقهاء 12 / 144 وقواعد الأحکام 2 / 9 والتحریر 2 / 260 .
7- (8) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .

الساحر أمراً فی الجو والسماء والفضاء والأرض ولکن لم یتضرر منه أحدٌ ، أو إحداث المنفعة والحبّ المفرط للغیر من دون ترتب الإضرار علی أحدٍ ، فهذا أیضاً حرام لإطلاق الأدلة

الواردة فی حرمة السحر ، ولم یقیّدها الروایات المقیدة ، لأنّها أیضاً من المثبتات وضعف إسنادها .

نعم ، یمکن القول بتشدید الحرمة فی صورة الإضرار ، لأنّ السحر حرام والإضرار بالغیر حرام آخر ، فصار فی مورد الاجتماع حرمان مجتمعان .

الفرع الرابع : هل یجوز رَفع ضرر السحر بالسحر أو إبطاله به ؟

ذهب إلی جواز حلّ السحر بشیءٍ من القرآن والذکر والدعاء والأقسام لا بشیءٍ من السحر ، جماعة منهم : العلاّمة فی القواعد(1) والتحریر(2) والتذکرة(3) .

ویمکن أن یُستدل لهم بأنّ : السحر حرام فی حدِّ ذاته فلا یجوز استعماله حتّی فی إبطاله ودفع الضرر به . والإطلاقات تقتضی ذلک .

ولکن الصحیح جواز دفع ضرر السحر أو إبطاله أو حلّه به ، لما ورد فی ذلک عدّة من الروایات المرخصة ، نحو :

وخبر محمد بن زیاد ومحمد بن سیار عن العسکری علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال فی حدیث فی ذیل قوله تعالی : «وَمَا أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» قال : کان بعد نوح علیه السلام قد کثرت السحرة المموهون ، فبعث اللّه عزّ وجل ملکین إلی نبی ذلک الزمان بذکر ما یسحر به السحرة وذکر ما یبطل به سحرهم ویردّ به کیدهم ، فتلقاه النبی عن الملکین وأداه إلی عباد اللّه بأمر اللّه عزّ وجل وأمرهم أن یقفوا به علی السحر وأن یبطلوه ونهاهم أن یسحروا به الناس .إلی أن قال : وما یعلّمان من أحد ذلک السحر وإبطاله حتّی یقولا للمتعلّم إنّما نحن فتنة ، الحدیث(4) .

ص:244


1- (1) القواعد 2 / 9 .
2- (2) التحریر 2 / 260 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .

ومنها : خبر علی بن الجهم عن الرضا علیه السلام فی حدیث : قال : وأما هاروت وماروت فکانا ملکین علّما الناس السحر لیحترزوا به سحر السحرة ویبطلوا به کیدهم ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر إبراهیم بن هاشم عن شیخ من أصحابنا الکوفیین ، قال : دخل عیسی بن سیفی [ شفقی - شقفی - سقفی ] علی أبی عبد اللّه علیه السلام وکان ساحراً یأتیه الناس ویأخذ علی

ذلک الأجر ، فقال له : جعلت فداک أنا رجل کانت صناعتی السحر وکنت آخذ علیه الأجر وکان معاشی ، وقد حججت منه ومنّ اللّه علیَّ بلقائک ، وقد تبت إلی اللّه عزّ وجل ، فهل لی فی شیٍّ من ذلک مخرج ؟ فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : حلِّ ولا تعقد(2) .

هذه الروایة رواها المشایخ الثلاثة(3) والحمیری فی قرب الإسناد(4) . ولکنّها ضعیفة الإسناد بدخول مجهول فی السند ، کشیخ من أصحابنا الکوفیین کما فی الکافی ، أو دخول عیسی فی السند کما فی الفقیه وقرب الإسناد ، وهو مهمل .

ولکن دلالتها علی جواز حلّ السحر بالسحر واضحة ، لأنّ حلّ السحر بغیره لا یختص بالساحر ، فما أمره الإمام علیه السلام بحلّ السحر وعطف کلامه ب- « لا تعقد » ظاهرٌ فی الحلِّ بالسحر . فدلالة الروایة علی جواز حلّ السحر بالسحر تام وحملها علی حلّه بشی ء من القرآن أو الذکر أو الدعاء ونحوها کما عن بعضٍ بعید فی الغایة .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : روی : أنَّ توبة الساحر أن یحلَّ ولا یعقد(5) .

ومنها : مرسلة العلاء عن محمد بن مسلم قال : سألته عن المرأة یُعمل لها السحر یحلّونه عنها ؟ قال : لا أری بذلک بأساً(6) .

ص:225


1- (5) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 5 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 145 ح 1 .
3- (2) الکافی 5 / 115 ح 7 - الفقیه 3 / 180 ح 3677 - التهذیب 6 / 364 ح 1034 .
4- (3) قرب الإسناد / 52 ح 169 .
5- (4) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 3 - 28 / 365 ح 2 .
6- (5) مفتاح الکرامة 12 / 237 - الجواهر 22 / 76 .

وأمر هذه الروایة عجیب ، ذکرها الشهیدان فی الدروس(1) والمسالک(2) من دون ذکر متنها ، ولکن لم أجدها فی الجوامع الحدیثیة ، والعلم عند اللّه تعالی . وأمّا دلالتها علی جواز حلّ السحر به ظاهرة .

ومنها : خبر الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن النُشْرَةِ للمسحورِ ، فقال : ما کان أبی علیه السلام یری به بأساً(3) .

سندها ضعیف ودلالتها غیر ظاهرة ، لأنّها منوطة بحمل النُشْرَة علی حلّ السحر بالسحر ، وهو محلّ تأمل بل منع .

ومنها : مرسلة أبی منصور الطبرسی : فما تقول فی الملکین هاروت وماروت ؟ وما یقول الناس بأنّهما یعلّمان الناس السحر ؟ قال الصادق علیه السلام : إنّهما موضع إبتلاء وموقع فتنة ، تسبیحهما : الیوم لو فعل الإنسان کذا وکذا لکان کذا وکذا ولو یعالج بکذا وکذا لکان کذا ، أصناف السحر فیتعلّمون منهما ما یَخْرُجُ عنهما ، فیقولان لهم : إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما یضرکم ولا ینفعکم ، الحدیث(4) .

دلالة الروایة علی جواز تعلیم وتعلّم السحر لأجل الإبطال ظاهرة ، فإذا جاز التعلّم جاز العمل لأجل الإبطال بطریق أولی .

ودلالة مجموع الروایات المذکورة علی جواز حلّ السحر وإبطاله بالسحر واضح ، ولا یضرّ ضعف أسنادها بعد بلوغها مرتبة الإستفاضة وإفتاء جماعة من الأصحاب بها ، واللّه العالم .

الفرع الخامس : هل یجوز تعلّم السحر لأجل دفع السحر وضرره أو إبطال المدعی للمناصب الإلهیة ؟

ذهب جماعة من الأصحاب قدس سرهم إلی الجواز ، بل ذهب بعضهم إلی الوجوب الکفائی :

ص:226


1- (6) الدروس 3 / 164 .
2- (7) المسالک 3 / 128 .
3- (8) مستدرک الوسائل 13 / 109 ح 10 .
4- (1) الاحتجاج 2 / 340 .

منهم : الشهید قال : « أما علمه لیتوقی أو لئلا یعتریه فلا ، وربّما وجب علی الکفایة لیدفع المتنبّیء بالسحر»(1) . وتبعه الشهید الثانی فی المسالک(2) والروضة(3) ، ونفی عنه البُعد المحقق الثانی وقال : « لیس ببعید إن لم یلزم منه التکلّم بمحرَّم أو فعل ما یحرم»(4) .

والمحقق الإردبیلی فی مجمع الفائدة(5) والبحرانی فی الحدائق(6) وسید الریاض(7) والشیخ جعفر(8) وصاحب الجواهر(9) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(10)

والمحقق الخوئی(11) وشیخنا الاُستاذ(12) - مدظله - .

ویمکن أن یُستدل لهم - مضافاً إلی مرسلة الطبرسی(13) الماضیة فی الفرع السابق - بقاعدة الضرورات التی تبیح المحظورات ، لأنّ السحر الحرام وتعلّمه الحرام إذا کانا لدفع ضرر السحر عن نفسه أو غیره أو دفع فتنة من ادعی النبوة والإمامة من المناصب الإلهیة وإرشاد الناس المجتمعین المغفولین عنده وإفشاء أمره ، صار بقاعدة الضرورة من المحلّلات ، وإذا انحصر الدفع به صار من الواجبات الکفائیة کما علیه جماعة من الأصحاب ، واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع السادس : هل یکون التسخیر من السحر أم لا ؟

التسخیرات مختلفة باعتبار المُسْخَر بالفتح ، تارة المسخَر هو القوی المادیة والطبیعیة ، واُخری الأشجار والنباتات والحیوانات ، وثالثة الإنسان وروحه وفکره وجسده ، ورابعة الشیاطین والأجنة ، وخامسة الأرواح سواء کانت من المؤمنین أو الکافرین ، وسادسة الملائکة .

والمسخِر بالکسر فی جمیعها هو الإنسان .

والکلُّ جائز ومباح ، ویدلّ علی ذلک قوله تعالی : «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَکُم مَّا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الاْءَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(14) وقوله تعالی : «اللَّهُ الَّذِی سَخَّرَ لَکُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِیَ الْفُلْکُ فِیهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ * وَسَخَّرَ لَکُم مَا فِی السَّماوَاتِ وَمَا فِی الأَرْضِ جَمِیعاً مِنْهُ إِنَّ فِی ذلِکَ لاَآیَاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ»(15) . وهذه الآیات الشریفة ونظائرها تدلّ بوضوح علی جواز تسخیر ما فی السماوات والأرض للإنسان ، ومنها ما ذکرناها . مضافاً إلی أنّ الأصل فیها الجواز والبراءة من الحرمة .

ولکن إذا صار هذا التسخیر موجباً لتضرر المسخِر بالکسر - نحو تلفه أو جنونه أو مرضه فی العاجل أو الآجل - یکون محرّماً من هذه الجهة .

وهکذا إذا صار هذا التسخیر موجباً لفناء المسخَر بالفتح بالکلیّة بحیث یکون نوع

ص: 196


1- (2) الدروس 3 / 164 .
2- (3) مسالک الأفهام 3 / 128 .
3- (4) الروضة البهیة 3 / 215 .
4- (5) جامع المقاصد 4 / 28 .
5- (6) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 79 .
6- (7) الحدائق 18 / 175 .
7- (8) ریاض المسائل 8 / 166 .
8- (9) شرح القواعد 1 / 240 .
9- (10) الجواهر 22 / 79 .
10- (11) برهان الفقه / کتاب التجارة / 30 و 31 .
11- (1) مصباح الفقاهة 1 / 296 .
12- (2) إرشاد الطالب 1 / 166 .
13- (3) الإحتجاج 2 / 340 .
14- (4) سورة لقمان / 20 .
15- (5) سورة الجاثیة / 12 و 13 .

الإنسان محروماً منه فی الآجل أو یکون المسخَر بالفتح من الإنس والجن والروح مؤمنین أو من الملائکة ویکون التسخیر ظلماً له ویوجب إیذاءه فصار محرَّماً من هذه الجهة .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ الحکم الأوَّلی للتسخیرات هو الجواز وأنّها خارجة عن السحر حکماً وموضوعاً .

ومن هنا ظهر حکم عملیة إحضار الأرواح بأنّها جائزة إذا لم تکن موجبة لتضرر المحضِر بالکسر والمحضَر بالفتح إذا کان من المؤمنین .

ص:228

والعجب من الشهید حیث عدّ من السحر بعض التسخیرات وقال : « ومن السحر الإستخدام للملائکة والجن والإستنزال للشیاطین فی کشف الغائب وعلاج المصاب»(1) .

وهکذا عدّ من السحر إحضار الأرواح وقال : « ومنه الاستحضار بتلبّس الروح ببدن متفعّل ، کالصبی والمرأة وکشف الغائب عن لسانه»(2) .

وتبعه فی ذلک ثانیه وقال فی المسالک : « ومنه استخدام الملائکة والجن واستنزال الشیاطین فی کشف الغائبات وعلاج المصاب ، واستحضارهم وتلبّسهم ببدن صبیٍّ أو امرأةٍ وکشف الغائب علی لسانه»(3) .

وتبعهما الکاشانی فی المفاتیح(4) والسید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(5) والشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(6) ، ولکن ثانی الشهیدین أخرج الکِهانة التی هی من الاستخدامات والتسخیرات من السحر وقال : « وهو قریب من السحر»(7) . وهکذا الشهید عدّ کلاً منهما علی حدّه(8) .

العلامة یقول فی المنتهی : « فأما الذی یقال من العزم علی المصروع ویزعم أنّه یجمع الجنّ فیأمرها لتطیعه ، فهو عندی باطل لا حقیقة له ، وإنّما هو من الخرافات»(9) .

ووافقنا علی أنّ التسخیرات لیست من السحر جماعة من المحققین ، منهم : الإیروانی(10)

ص:230


1- (1) الدروس 3 / 164 .
2- (2) الدروس 3 / 164 .
3- (3) المسالک 3 / 128 .
4- (4) مفاتیح الشرائع 2 / 24 .
5- (5) برهان الفقه / کتاب التجارة / 28 طبع الحجری .
6- (6) المکاسب المحرمة / 34 الطبع الحجری (1 / 273) .
7- (7) المسالک 3 / 128 .
8- (8) الدروس 3 / 163 .
9- (9) منتهی المطلب 2 / 1014 .
10- (10) حاشیة المکاسب 1 / 172 .

والخوئی(1) والأردکانی(2) قدس سرهم وشیخنا الاُستاذ(3) والقمی(4) - مدظلهما - .

الفرع السابع : إذا قتل الساحر أحداً بسحره هل یقتص منه ؟

قال الشیخ فی الخلاف : « إذا أقرّ أنّه سحر فقتل بسحره متعمداً لا یجب علیه القود ، وبه قال أبوحنیفة . وقال الشافعی : علیه القود . دلیلنا : أنّ الأصل براءة الذمة ، وأنّ هذا ممّا یقتل به یحتاج إلی دلیل ... »(5) .

وقال فی المبسوط : « فإذا سحر رجلاً فمات من سحره سئل ، فإن قال سحری یقتل غالباً وقد سحرته وقتلته فعلیه القود ، کما لو أقرّ أنّه قتله بالسیف عمداً ، وقال قوم لا قود علیه بناءً علی أصله أنّه لایقتل إلاّ إذا قتل بالسیف ، وأمّا إذا قتل بالمثقل فلا قود ، لکنّه قال : إن تکرر الفعل منه قتلته حدّاً لأنّه بمنزلة الخناق ، وهو من السعی فی الأرض بالفساد ، والأوّل یقتضیه مذهبنا»(6) .

وأنت تری أنّ الشیخ ذهب فی المبسوط إلی خلاف ما ذهب إلیه فی الخلاف ، ذهب فی مبسوطه إلی ثبوت القود مع إقرار الساحر بأنَّ سحره یقتل غالباً ، وفی خلافه إلی نفیه مطلقاً .

قال المحقق : « السادسة : قال الشیخ : لا حقیقة للسحر ، وفی الأخبار ما یدلّ علی أنّ له حقیقة . ولعلّ ما ذکره الشیخ قریب ، غیر أنّ البناء علی الاحتمال أقرب ، فلو سحره فمات لم یوجب قصاصاً ولادیةً علی ما ذکره الشیخ ، وکذا لو أقر أنّه قتله بسحره ، وعلی ما قلناه من الاحتمال یلزمه الإقرار ، وفی الأخبار یقتل الساحر ، وقال فی الخلاف : یُحمل ذلک علی قتله حدّاً لفساده لا قوداً»(7) .

ص:230


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 296 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 135 .
3- (3) إرشاد الطالب 1 / 168 .
4- (4) عمدة المطالب 1 / 226 .
5- (5) الخلاف 5 / 330 المسألة 16 .
6- (6) المبسوط 7 / 260 .
7- (7) شرائع الإسلام 4 / 182 .

أقول : بناءً علی ما اخترناه من أنّ للسحر حقیقة فإذا قتل الساحرُ أحداً بسحره وأقرّ بذلک أو قامت البینة الشرعیة علیه ، یقتل به ویثبت القصاص ، لإستناد القتل العمدی إلیه وهو الذی یکون موضوعاً للقصاص .

وأمّا بناءً علی مختار الشیخ وأتباعه من أنه لیس للسحر حقیقة بل هو تخیّلٌ محضٌ ، یمکن القول بثبوت القصاص لو قتل الساحر أحداً خلافاً للشیخ فی خلافه ، لأنه قد یترتب علی من لیس له حقیقة أمراً واقعیاً نحو : أن یریه بحراً موّاجاً وسفینة جاریة فیه ویرید المسحور أن یرکبها فیسقط من ارتفاع فیموت ، وفی هذا الفرض ونحوه حیث یمکن استناد القتل إلی الساحر فعلیه القود .

ولذا ذهب الفقیه العاملی إلی ثبوت القصاص علی المسلکین وقال : « إنّ الأقوی الثبوت علی القولین»(1) .

والمحقق الخوئی قدس سره مع أنّه من القائلین بأنّ لیس للسحر حقیقة بل هو تخیّل محض ، ذهب إلی ثبوت القصاص لصحة إستناد القتل(2) .

فعلی ما ذکرناه ظهر عدم تمامیّة جعل هذا الفرع من ثمرات مسلکی الحقیقة والتخیّل ، بحیث یثبت القود بناءً علی الأوّل ثبت القود وبناءً علی الثانی فلا ، کما علیه بعض(3) .

والتفصیل یطلب من کتاب القصاص . واللّه العالم .

الفرع الثامن : هل یحکم بکفر الساحر ؟

قال الشیخ فی المبسوط : « فإذا قال : أنا ساحرٌ ، قلنا صف السحر ، فإن وصفه بما هو کفر فهو مرتدّ یستتاب فإن تاب وإلاّ قتل ، وإن وصفه بما لیس بکفر لکنّه قال : أنا أعتقد إباحته حکمنا بأنّه کافر یُستتاب ، فإن تاب وإلاّ قتل لأنّه اعتقد إباحة ما أجمع المسلمون علی تحریمه ، کما لو اعتقد تحلیل الزنا فإنّه یکفر . وإن قال : أنا ساحر أعمل السحر وأعتقد أنّه حرام لکنّی أعمله ، لم یکفر بذلک ولم یجب قتله ، وقال بعضهم : هو زندیق لا تقبل

ص:231


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 233 .
2- (2) مبانی تکملة المنهاج 2 / 7 .
3- (3) نحو الفقیه الشیخ جعفر فی شرح القواعد 1 / 248 .

توبته ویقتل ، وقال قوم : یقتل الساحر ولم یذکروا هل هو کافر أم لا ؟ وهو الموجود فی أخبارنا»(1) .

وقال فی الخلاف « من استحلّ عمل السحر فهو کافر ووجب قتله بلا خلاف ، ومن لم یستحلّه وقال : هو حرام ، إلاّ أنّی أستعمله کان فاسقاً لا یجب قتله ، وبه قال أبوحنیفة والشافعی . وقال مالک : الساحر زندیق إذا عمل السحر وقوله « لا استحلّه » غیر مقبول ، ولا

تقبل توبة الزندیق عنده . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : یُقتل الساحر ولم یتعرضا لکفره . وقد روی ذلک أیضاً أصحابنا . دلیلنا : أنّ الأصل حقن الدماء ومن أباحها یحتاج إلی شرع ودلیل ... ویدلّ علی صحة ما قلناه ما روی عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّی یقولوا « لا إله إلاّ اللّه » ، فإذا قالوها عصموا بها منّی دماءهم وأموالهم إلاّ بحقِّها ... »(2) .

« إذا قال : أنا أعرف السحر واُحسّنه لکنّی لا أعمل به ، لا شیء علیه . وبه قال الشافعی وأبوحنیفة . وقال مالک : هذا زندیق ، وقد اعترف بذلک فوجب قتله ولا تقبل توبته . دلیلنا : أنّ الأصل براءة الذمة وحقن دمه ، ومن أباحه فعلیه الدلالة»(3) .

أقول : هل یمکن الحکم بکفر الساحر بمحض تعلّم السحر وعمله أم لا ؟ الظاهر - واللّه العالم - عدم إمکان الحکم بکفره ، بمعنی أنّه صار مرتداً بمحض تعلّم السحر وعمله ، ولا یجری علیه أحکام الإرتداد من وجوب قتله وبینونة زوجته وتقسیم أمواله بین ورثته ، بل حیث أقرّ بالشهادتین فهو مسلم ویجری علیه أحکام الإسلام .

وما ورد فی بعض الروایات - نحو مرسلة الرضی الماضیة عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : الساحر کالکافر والکافر فی النار الخطبة(4) - فلا تدلّ علی کفره لإرسال سندها ولحرف التشبیه الظاهر فی الغیریة .

فالساحر إذا أقر بالشهادتین حکم بإسلامه ولکنّه کافر معنویاً وباطناً لا حکماً

ص:232


1- (4) المبسوط 7 / 260 .
2- (1) الخلاف 5 / 329 . المسألة 15 .
3- (2) الخلاف 5 / 331 . المسألة 17 .
4- (3) نهج البلاغة . الخطبة 79 .

ظاهریاً ، نحو ما ورد فی الروایات من الحکم بکفر تارک الصلاة ، حیث أنّ الشارع أمر بالصلاة ونهی عن السحر وعمله وتعلّمه ، وکلّ من ترک أمر الشارع أو عمل بنهیه فهو کمن أنکره ویلزمه الکفر المعنوی والباطنی ، فما ورد من الحکم بکفر الساحر(1) یحمل علی هذا المعنی الذی ذکرناه .

تنبیه : إذا استحلّ السحر وعمله وتعلّمه مع علمه بحرمته فی الشریعة المقدسة وعلم أن مرجع هذا الإستحلال إلی إنکار النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، یحکم بکفره کمن أنکر غیره من الضروریات . ولکن إذا لم یستحلّه وذهب إلی حرمته أو لم یعلم بأن مرجع هذا الإستحلال إلی

إنکار النبی صلی الله علیه و آله وسلم وشریعته ، لا طریق لنا إلی الحکم بکفره المصطلح أعنی الإرتداد .

الفرع التاسع : حدّ الساحر

قال المحقق : « من عمل بالسحر یُقتل إن کان مسلماً ویؤدّب إن کان کافراً»(2) .

وقال العلامة بعد تعریف السحر وأثره : « ... فمن عمل بالسحر قُتِلَ إن کان مسلماً واُدِّب إن کان کافراً من غیر أن یُقْتل ، والأقرب أنّه لا یکفر بتعلّمه وتعلیمه محرّماً ، ولو استحلّه فالوجه الکفر . والسحر الذی یجب به القتل هو ما یُعدّ فی العرف سحراً ، کما نقل الاُموی فی مغازیه : أنّ النجاشی دعا السواحر فنفخن فی ... »(3) .

قال سید الریاض بعد نقل کلام المحقق : « بلا خلاف فتویً ونصّاً ... ثمّ قال بعد صفحة : ثمّ إنّ مقتضی إطلاق النص والفتوی بقتله عدم الفرق فیه بین کونه مستحلاًّ له أم لا ، وبه صرح بعض الأصحاب(4) ، وحکی آخر من متأخری المتأخرین(5) قولاً بتقییده بالأوّل ، ووجهه غیر واضح بعد إطلاق النص المنجبر ضعفه - بعد الاستفاضة - بفتوی الجماعة وعدم الخلاف

ص:233


1- (4) نحو خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیاً علیه السلام قال : من تعلّم من السحر قلیلاً أو کثیراً فقد کفر وکان آخر عهده بربّه ، الحدیث . [وسائل الشیعة 17/ 148 ح 7] .
2- (1) شرائع الاسلام 4 / 154 .
3- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 397 المسألة 6939 .
4- (3) الروضة البهیة 9 / 195 .
5- (4) مفاتیح الشرائع 2 / 102 .

فیه بینهم أجده ، ولم أرحاکیاً له غیره»(1) .

وقال صاحب الجواهر بعد کلام المحقق : « بلا خلاف أجده فیه ... - ثمّ قال بعد صفحة : - ثمّ إنّ إطلاق النص والفتوی یقتضی عدم الفرق بین مستحل وغیره ، فما عن بعض المتأخرین من القول بإختصاصه بالأوّل لم نتحققه ، وعلی تقدیره غیر واضح الوجه»(2) .

وقال المحقق الخوئی قدس سره : « من دون خلاف فی الجملة ...»(3) .

أقول : تدلّ علی حدِّ الساحر عدّة من الروایات :

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ساحر المسلمین یُقتل وساحر الکفار لا یُقتل ، فقیل : یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ولم لا یُقتل ساحر الکفار ؟ قال : لأنّ الکفر أعظم من السحر ، ولأنّ السحر والشرک مقرونان(4) .

ومنها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : سئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الساحر فقال : إذا جاء رجلان عدلان فشهدا علیه فقد حلّ دمه(5) .

وهذه الموثقة مطلقة تشمل ساحر المسلمین والکفار ، ومعتبرة السکونی تقیّدها .

ومنها : موثقة أو حسنة إسحاق بن عمار عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : من تعلّم شیئاً من السحر کان أخر عهده بربّه ، وحده القتل إلاّ أن یتوب ، الحدیث(6) .

هذه الروایة تدلّ علی أنّ حدّ متعلِّم السحر هو القتل ، ولا بأس بأخذها ، والمراد بتوبته فی آخر الحدیث ترکه للتعلّم .

ومنها : مصححة زید الشحام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الساحر یُضرب بالسیف

ص:234


1- (5) ریاض المسائل 16 / 58 و 59 .
2- (6) الجواهر 41 / 442 و 443 .
3- (7) مبانی تکملة المنهاج 1 / 266 .
4- (8) وسائل الشیعة 28 / 365 ح 1 . الباب 1 من أبواب بقیة الحدود والتعزیرات .
5- (1) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 1 . الباب 3 من أبواب بقیة الحدود والتعزیرات .
6- (2) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .

ضربةً واحدةً علی رأسه(1) .

قد مرّ تصحیح سندها فی أدلة حرمة السحر .

ومنها : خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أن علیاً علیه السلام قال : من تعلّم شیئاً من السحر قلیلاً کان أو کثیراً فقد کفر ، وکان آخر عهده بربّه ، وحدّه أن یقتل إلاّ أن یتوب(2) .

وهذه الروایات کماتری مطلقة بالنسبة إلی مستحلِّ السحر وغیره ، وهکذا مطلقة بالنسبة إلی من اتخذ السحر حرفةً وشغلاً وبین من عمل السحر مرة أو مرات .

ومن الواضح خروج من عمل لحلّ السحر ودفع المتنبیء ونحوهما من الحکم بکفره معنویاً وجریان حدّ القتل علیه ، والتفصیل یطلب من کتاب الحدود . واللّه العالم .

الفرع العاشر : هل یؤثر السحر فی النبی صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علیه السلام أم لا ؟

وردت أخبار من طرق الفریقین فی تأثیر السحر فی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم :

منها : ما رواه فرات بن إبراهیم الکوفی فی تفسیره بإسناده عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : سحر لبید بن أعصم الیهودی واُمّ عبداللّه الیهودیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی عقد من قزٍّ أحمر

وأخضر وأصفر ، فعقدوه له فی إحدی عشر عقدة ثم جعلوه فی جف من طلع - قال یعنی قشور اللوز - ثمّ أدخلوه فی بئر بوادٍ فی المدینة فی مراقی البئر تحت راعوفة - یعنی الحجر الخارج - فأقام النبی صلی الله علیه و آله وسلم ثلاثاً لا یأکل ولا یشرب ولا یسمع ولا یبصر ولا یأتی النساء ، فنزل علیه جبرئیل علیه السلام ونزل معه بالمعوذتین [ بالمعوذات ] فقال له : یا محمد ما شأنک ؟ قال : ما أدری أنا بالحال الذی تری ، فقال : إنّ أمّ عبد اللّه ولبید بن أعصم سحراک وأخبره بالسحر وحیث هو ، ثمّ قرأ جبرئیل علیه السلام : «بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ذلک فانحلت عقدة ، ثمّ لم یزل یقرأ آیة ویقرأ النبی صلی الله علیه و آله وسلم وتنحل عقدة حتّی أقرأها علیه إحدی عشرة آیة وانحلت إحدی عشرة عقدة ، وجلس النبی صلی الله علیه و آله وسلم ودخل

ص:235


1- (3) وسائل الشیعة 28 / 366 ح 3 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .

أمیر المؤمنین علیه السلام فأخبره بما جاء به جبرئیل وقال : إنطلق فأتنی بالسحر ، فخرج علیٌّ فجاء به ، فأمر به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فنقض ثمّ تفل علیه ، وأرسل إلی لبید بن أعصم واُمّ عبد اللّه الیهودیة فقال : ما دعاکم إلی ما صنعتم ؟ ثمّ دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی لبید وقال : لا أخرجک اللّه من الدنیا سالماً . قال : وکان مؤسراً کثیر المال ، فمرّ به غلام یسعی وفی اُذنه قرط قیمته دینار ، فجاذبه فخرم اُذن الصبی فاُخذ وقطعت یده فمات من وقته(1) .

ورویت نظائرها فی دعائم الاسلام 2 / 138 ح 487 وطب الائمة / 113 و 114 ونقل عنهما فی بحار الانوار 60 / 23 و 24 (24 / 248) والبحرانی فی البرهان 5 / 813 و 814 ومستدرک الوسائل 13 / 107 ح 7 و108 ح 8 و109 ح 9 .

وأمّا من طریق العامة : فروی نظائرها فی الدر المنثور 6 / 417 وغیره .

ونقل عنهم الشیخ فی الخلاف عدّة من الروایات فی ذلک ، ولکن قال بعد نقلها : « وهذه أخبار آحاد لا یُعمل علیها فی هذا المعنی »(2) .

وقال فی تفسیره : « ولا یجوز أن یکون النبی صلی الله علیه و آله وسلم سُحِرَ علی ما رواه القصّاص الجهال ، لأنّ من یوصف بأنّه مسحور فقد خبل عقله ، وقد أنکر اللّه تعالی ذلک فی قوله : «إِذْ یَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً»(3) ، ولکن قد یجوز أن یکون بعض الیهود اجتهد فی ذلک فلم یقدر علیه ، فأطلع اللّه نبیّه علی ما فعله حتّی استخرج ما فعلوه من التمویه ، وکان دلالة علی صدقه ومعجزة له »(4) .

وقد ذکر مثل هذا البیان الطبرسی فی مجمع البیان مع زیادة ، وهی : « وکیف یجوز أن یکون المرض من فعلهم ، ولو قدروا علی ذلک لقتلوه وقتلوا کثیراً من المؤمنین مع شدّة عداوتهم له»(5) .

ص:236


1- (235 1) تفسیر فرات الکوفی / 619 ح 774 ونقل عنه فی بحار الأنوار 60 / 22 ح 15 (24 / 247) .
2- (2) الخلاف 5 / 329 .
3- (3) سورة الاسراء / 47 - ونحوها فی سورة الفرقان / 8 .
4- (4) التبیان 10 / 434 .
5- (1) مجمع البیان 10 / 568 .

قال الفخر الرازی : « إنّ المعتزلة أنکروا ذلک بأسرهم ، قال القاضی هذه الروایة باطلة »(1) .

وأنکره منّا - مضافاً إلی الشیخ والطبرسی - العلامة الحلی فی منتهی المطلب(2) والشیخ البحرانی فی الحدائق(3) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(4) وتلمیذه السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) .

وأنکر العلامة المجلسی وقوعه وقال : « وإن لم یقم برهان علی امتناعه إذا لم ینته إلی حدٍّ یخلّ بغرض البعثة کالتخبیط والتخلیط ... »(6) .

أقول : إن البرهان قائم علی امتناع تأثر النبی من السحر ، لأن عامة الناس إذا رأوا تأثیر سحر الساحر علی النبی وأعماله ، لم یبق لهم إطمئنان ولا اعتماد علی أقواله وأعماله ومایبلّغ من الوحی ، لأنّ من الممکن عندهم أنّ یکون الساحر سحره فی نفس الآن والحین ، ونفس هذا الاستدلال یکفی فی امتناع تأثر النبی من السحر ، وأشار إلی هذا الاستدلال جدنا الفقیه الشیخ جعفر فی شرحه للقواعد(7) .

فلا یلتفت إلی ما احتمله فی البحار(8) وتبعه صاحب الجواهر(9) قدس سرهما .

والحاصل ، أنه لا یجوز تأثر النبی صلی الله علیه و آله وسلم من السحر مطلقاً ، أی من دون فرق بین تأثیر

ص:237


1- (2) التفسیر الکبیر 32 / 187 .
2- (3) منتهی المطلب 2 / 1014 .
3- (4) الحدائق 18 / 181 .
4- (5) شرح القواعد 1 / 247 .
5- (6) مفتاح الکرامة 12 / 239 .
6- (7) بحار الأنوار 60 / 41 (24 / 261) .
7- (8) شرح القواعد 1 / 247 .
8- (9) بحار الانوار 60 / 41 (24 / 261) .
9- (10) الجواهر 22 / 88 .

السحر فی جسمه الشریف أو فی عقله أو حدوث ما تنفر منه الطباع أو غیر ذلک کما علیه

الأعلام المذکورون رحمة اللّه علیهم أجمعین . وهذا تمام الکلام فی السحر وفروعه ، والحمد للّه العالم بإحکامه .

ص:238

الشعوذة

موضوعها وحکمها :

قال ابن منظور : « الشعوذة : خفة فی الید وأخذ کالسحر ، یُری الشیء بغیر ما هو علیه أصله فی رأی العین ... »(1) .

وحیث یأتی تعریفها وحکمها فی کلمات الفقهاء ، نذکر لک بعضها مع وضوح تعریفها وموضوعها الیوم عند العرف بحیث أنّ الکلّ یعرفها ، وهی المعبَّر عنها فی لغة الفرس ب- « تردستی » و « چشم بندی » .

1 - عدّها الشیخ فی عداد المکاسب المحرّمة وقال : « وکذلک التکسب بالکِهانة والقیافة والشَعْبَذَةِ وغیر ذلک محرَّم محظور»(2) .

2 - وعدّها ابن إدریس من المکاسب المحرّمة وقال : « والکهانة والشعبذة والحیل المحرَّمة وما أشبه ذلک ... »(3) .

3 - وکذا عدّها فی المکاسب المحرّمة المحقق فی کتابیه : الشرائع(4) والمختصر النافع(5) .

4 - وقال العلامة الحلی : « والشعبذة حرام ، وهی الحرکات السریعة جداً بحیث یخفی علی الحس الفرق بین الشیء وشبهه لسرعة انتقاله من الشیء إلی شبهه»(6) .

ص:239


1- (1) لسان العرب 3 / 495 .
2- (2) النهایة / 366 .
3- (3) السرائر 2 / 218 .
4- (4) الشرائع 2 / 10 .
5- (5) المختصر النافع / 117 .
6- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 145 .

وذکر نحوها فی القواعد(1) والإرشاد(2) والتحریر مع زیادة الحکم بأخذ الاُجرة علیها وقال : « هی حرام وکذا الاُجرة علیها»(3) . وفی المنتهی(4) نفی الخلاف عن تحریمها .

5 - وألحقها الشهید بالسحر وقال : « ویلحق به الشعبذة ، وهی الأفعال العجیبة المترتبة علی سرعة الید بالحرکة فیلتبس علی الحسّ»(5) .

6 - وقال ثانی الشهیدین : « عرّفوها بأنّها الحرکات السریعة التی یترتب علیها الأفعال العجیبة ، بحیث یلتبس علی الحس الفرق بین الشیء وشبهه ، لسرعة الانتقال منه إلی شبهه»(6) .

ثم جاء فی هامشه : « إنّما قال عرّفوها لینبّه علی تمریض التعریف ، فإنّ الظاهر من حال الشعبذة أنّه خلاف ما عرّفوه - منه رحمه الله »(7) .

7 - والمحقق الأردبیلی عرّفها بالتعریف المشهور ثمّ قال : « وهو حرام بلا خلاف»(8) .

8 - والفیض الکاشانی أیضاً ادعی نفی الخلاف فی حرمتها(9) .

9 - وقال المحدث البحرانی بعد ذکر تعریفها المشهور : « وقد صرح فی المنتهی بنفی الخلاف عن التحریم ، والظاهر أنّه لا دلیل سواه ، فإنّی لم أقف بعد التتبع علی خبر یدلّ علی ذلک»(10) .

أقول : والعجب من هذا المحدث الخبیر کیف غفل عن مرسلة أبی منصور الطبرسی

ص:240


1- (7) قواعد الأحکام 2 / 9 .
2- (8) إرشاد الأذهان 1 / 375 .
3- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 .
4- (10) منتهی المطلب 2 / 1014 .
5- (1) الدروس 3 / 164 .
6- (2) المسالک 3 / 129 .
7- (3) المسالک 3 / 129 .
8- (4) مجمع الفائدة 8 / 81 .
9- (5) مفاتیح الشرائع 2 / 23 .
10- (6) الحدائق 18 / 185 .

المذکورة فی الاحتجاج ، حیث سأل الزندیق عن الصادق علیه السلام : فأخبرنی عن السحر ما أصله ؟ .....قال علیه السلام : إنّ السحر علی وجوه شتی وجه منها : بمنزلة الطب ... ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاریق وخفة ، الحدیث(1) .

وهذا النوع الأخیر ینطبق علی الشعبذة بلا ریب .

10 - وقال الشیخ جعفر بعد الحکم بتحریمها : « لإجماع المنتهی وللحوقها بالباطل عند العاقل ، فتحرم للخبر ولأنّها .... ثمّ ذکر تعریفها من القواعد وقال : فیحکم الرائی لها بخلاف الواقع ، وتدخل فی باب الإغراء بالجهل والتدلیس والتلبیس ، ولما فیها من القبح الزائد علی قبح الملاهی ، والاشتغال بها من أعظم اللهو»(2) .

أقول : لعل مراد الجد قدس سره من الخبر ما ورد عن الأئمة علیهم السلام فی إیکال أمر حرمة الغناء والشطرنج ونحوهما إلی أنّهما ونحوهما من الباطل فصارت حراماً نحو : موثقة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام حیث سُئل عن الشطرنج وعن ... ؟ فقال علیه السلام : أرأیتک إذا میّز اللّه الحقّ والباطل مع أیّهما تکون ؟ قال : مع الباطل ، قال : لا خیر فیه(3) .

ومثلها معتبرة الریان بن الصلت حیث سأل عن الرضا علیه السلام عن الغناء ... فقال : إذا میز اللّه الحقّ والباطل فأین یکون الغناء ؟ فقال : مع الباطل ، فقال علیه السلام : قد حکمت(4) .

11 - وقال سید الریاض بعد تعریفها المشهور : « ولا خلاف فی تحریمه کما عن المنتهی»(5) .

12 - والفاضل النراقی ذکرها من المکاسب المحرّمة فی المستند ، وقال بعد تعریفها المشهور : « وعن الدروس نفی الخلاف فی تحریمه»(6) .

ص:241


1- (7) الإحتجاج 2 / 339 .
2- (8) شرح القواعد 1 / 260 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 5 . الباب 102 من أبواب ما یکتسب به .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 306 ح 14 . الباب 99 من أبواب ما یکتسب به .
5- (3) ریاض المسائل 8 / 169 .
6- (4) مستند الشیعة 14 / 117 .

أقول : لم أجد هذا القول فی الدروس .

13 - قال السید العاملی فی المفتاح : « وقد نص علی حرمتها فی النهایة والسرائر والشرائع والنافع والتحریر والتذکرة والإرشاد والدروس واللمعة وسائر ما تأخر ، وعن المنتهی أنّه لا خلاف فیه ، فلا وجه للتأمل فیه بعد الإجماع المنقول بل المعلوم ، إذ لم نجد مخالفاً مع قربها من السحر ، وقد ألحقها به الشهید فی الدروس»(1) .

14 - وقال صاحب الجواهر : « الشعبذة المحرّمة بالإجماع المحکی والمحصَّل وبالدخول تحت الباطل والإغراء والتدلیس واللهو وغیرها ، بل لعلّها مِن السحر علی بعض الوجوه ... »(2) .

15 - وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم : « وممّا یحرم التکسب به أیضاً الشعبذة ، ولم یتعرض لها فی جملة مِنْ کتب اللغة ، والمستفاد من المعترض لها أنّها إراءة شبه الشیء أشیاء من غایة سرعة الحرکة ، ووافقته کلمات الأصحاب فی تفسیرها ، ولم أجد مخالفاً فی حرمتها .

وعن المنتهی لا خلاف فیه ، وفی مفتاح الکرامة وجواهر الاُستاد الإجماع علیه ، ولعلّه کذلک ، خصوصاً إن قلنا بأنّها مِن السحر ، کما یعطیه خبر الإحتجاج المتقدم فی السحر المتضمن لقوله : « ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاریق وخفة» ، فتشملها حینئذ مضافاً إلی ذلک نصوصه ، وتحصیل ملکتها لا یکون إلاّ بتکرر العمل کصیرورة الإنسان بریداً ، فلا مورد هنا لجواز تعلّمها لا للعمل»(3) .

16 - وقال الشیخ الأعظم : « الشعبذة حرام بلا خلاف ... ویدلّ علی الحرمة بعد الإجماع - مضافاً إلی أنّه من الباطل واللهو - دخوله فی السحر فی الروایة المتقدمة عن الإحتجاج المنجبر وَهْنَها بالإجماع المحکی وفی بعض التعاریف المتقدمة للسحر ما یشملها»(4) .

ص:242


1- (5) مفتاح الکرامة 12 / 268 .
2- (6) الجواهر 22 / 94 .
3- (1) برهان الفقه . کتاب التجارة / 32 . الطبع الحجری .
4- (2) المکاسب المحرمة / 34 الطبع الحجری (1 / 274) .

17 - وذهب إلی الحرمة الفقیه السبزواری ، ولکن قال بعد الإستدلال لها : « والمتیقَّن من الدلیل ما إذا لم یکن فیها غرض صحیح شرعی ، وإلاّ فمقتضی الأصل الإباحة ، بعد عدم شمول الدلیل لهذه الصورة أو الشک فی الشمول ، کما لا تشمل الآثار السریعة الحادثة من الآلات الکهربائیة ونحوها»(1) .

أقول : بعد وضوح موضوع الشعبذة عند العرف ، تری أنّ الأصحاب حکموا لها بحرمتها قدیماً وحدیثاً ، وغایة ما یمکن الإستدلال علی حرمتها اُمورٌ نتعرض لها :

أدلة حرمة الشعوذة :
الأوّل : الإجماع

قد ادعی العلامة الحلی فی المنتهی(2) عدم الخلاف فی حرمتها ، والمحقق الأردبیلی(3) والفیض الکاشانی(4) وسید الریاض(5) ، ونقله الفاضل النراقی(6) عن الدروس ولکن لم یوجد

فیه ، والشیخ الأعظم(7) .

ثمّ عدم الخلاف بُدّل بالإجماع فی کلام الشیخ جعفر(8) وتلمیذیه السید العاملی(9) وصاحب الجواهر(10) .

وحیث یرجع هذا الإجماع ، إلی عدم الخلاف الوارد فی کلام العلامة الحلی فقط ، لم

ص:243


1- (3) مهذب الأحکام 16 / 105 .
2- (4) منتهی المطلب 2 / 1014 .
3- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 81 .
4- (6) مفاتیح الشرائع 2 / 23 .
5- (7) ریاض المسائل 8 / 169 .
6- (8) مستند الشیعة 14 / 117 .
7- (1) المکاسب المحرمة / 34 (1 / 274) .
8- (2) شرح القواعد 1 / 260 .
9- (3) مفتاح الکرامة 12 / 268 .
10- (4) الجواهر 22 / 94 .

یثبت به الإجماع ولکن ما وجدنا أحداً من الأصحاب تعرض للشعبذة إلاّ حکم بحرمتها .

نعم ، بعض المعاصرین قد نفی الحرمة عنها وحکموا بإباحتها ، ویأتی التعرض لأسامیهم المبارکة .

والحاصل : لم یثبت بعدم خلاف العلامة الإجماع ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : علی فرض ثبوته یمکن أن یکون مدرکیاً ، لاحتمال استناده إلی الوجوه الآتیة .

الثانی : مرسلة الإحتجاج

حیث قال الصادق علیه السلام فی وجوه السحر : « ونوع آخر منه : خطفة وسرعة ومخاریق وخفة» ، الحدیث(1) .

بتقریب : أنّها تنطبق علی الشعبذة ، فحکم بحرمتها وتلحق بالسحر حکماً .

ویمکن أن یقال : ألحقها الإمام علیه السلام بالسحر موضوعاً لتطرق حکم السحر علیها وهی الحرمة .

لا یقال : الروایة مرسلة سنداً ، لا یمکن الاعتماد علیها .

لأنا نقول : نعم هی مرسلة ولکن فتوی المشهور علی طبقها یجبر ضعف سندها وإرسالها .

الثالث : الشعبذة من الباطل

الشعبذة من الباطل عرفاً ، والباطل حرام فی الشریعة المقدسة ، فهی من المحرّمات الشرعیة . لا إشکال فی ثبوت الصغری ، وقد دلّت علی الکبری موثقة زرارة(2) ومعتبرة الریان بن الصلت(3) الماضیتان آنفاً . فقد تمّ الاستدلال .

الرابع : أنّها من اللهو

الشعبذة من اللهو ، واللهو حرام ، فهی من المحرَّمات .

وفیه : أوّلاً : منع الصغری بأنّها لیست من اللهو دائماً إذا ترتب علیها غرض

ص:244


1- (5) الإحتجاج 2 / 340 .
2- (6) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 5 .
3- (7) وسائل الشیعة 17 / 306 ح 14 .

عقلائی صحیح .

وثانیاً : منع الکبری : بأنه لیس کلّ لهو بحرام ، بل الحرام منه قسم خاص .

الخامس : أنّها تدخل فی السحر

الشعبذة تدخل فی السحر ، لأنّه یشملها بعض التعاریف الواردة فی السحر ، نحو : کلّ أمر یختفی سببها ویتخیل علی غیر حقیقته ، وألحقها الإمام علیه السلام بالسحر فی مرسلة الاحتجاج الماضیة .

وفیه : الشعبذة غیر السحر فی اللغة والعرف ، لأنّ الشعبذة هی إیجاد الشیء بأسبابه العادیة ولکن بالسرعة والخفة اللتان هما قوام الشعبذة ، فهی غیر السحر الذی یحدث بأسباب غیر عادیة . وعلی هذا تعریف السحر لا ینطبق علی الشعبذة ، وإلحاقها به فی کلام الإمام علیه السلام إمّا بالعنایة والمجاز وإمّا بجریان حکم السحر علیها .

والحاصل ، حیث تمّ عندنا الدلیل الثانی والثالث - أعنی مرسلة الاحتجاج وأنّها من الباطل - فیمکن القول بحرمتها وفاقاً للمشهور وخلافاً للمحقق الخوئی ، حیث ناقش فی جمیع الأدلة فی مصباح الفقاهة(1) ونتیجتها الحکم بالإباحة وتلمیذیه شیخنا الاُستاذ(2) والفقیه القمی(3) - مدظلهما - ، وناقش فی بعض الأدلة المحقق الإیروانی(4) والفقیه الأردکانی(5) قدس سرهما . کما ناقشنا البعض . ولکن بعضها الاُخری تامة ، وتبعیةُ المشهورِ والحکم بالحرمة اُولی وأحوط ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 245


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 298 .
2- (2) ارشاد الطالب 1 / 168 .
3- (3) عمدة المطالب 1 / 234 .
4- (4) حاشیة المکاسب 1 / 173 .
5- (5) غنیة الطالب 1 / 136 .

الغَشّ

اشارة

والبحث فیه یقع فی جهات :

الجهة الأولی : موضوع الغش

لیس للغش حقیقة شرعیّة ولا عند المتشرعة ، فلابدّ من تعیین موضوعه إلی مراجعة اللغة والعرف ، فنذکر بعض کلمات اللغویین والفقهاء حتّی تبیّن الموضوع :

قال الزمخشری : « غ ش ش : ما نصحتُ أحداً إلاّ استغشّنی واغتشّنی ، قال :

ألارُبَّ مَن تغتشُّه لک ناصح ومؤتمن بالغیب غیر أمین

... ورجلٌ غاشٌ من قوم غَشَشَةٍ وغَشّاشة ، وتقول : ما هم إلاّ قوم غَشّاشة ، أیدیهم بالخیانة رشَّاشة ، وطعام فلان مغشوش أعلاه یابس وأسفله مرشوش ، ما لقیته إلاّ غِشاشاً وعلی غِشاش ... »(1) .

قال ابن منظور : « غشش : الغِشُّ : نقیض النُّصح ، وهو مأخوذ من الغَشَش المَشْرَب الکِدِر ، أنشد ابن الأعرابی :

ومَنْهَل تروی به غیر غَشَشْ

أی غیر کدر ولا قلیل ، قال : ومن هذا الغشُّ فی البیاعات ... وقد غَشَّه یَغُشُّه غِشَاً : لم یَمْحَضه النصیحة ، وشیءٌ مَغْشوش . ورجلٌ غُشَّ : غاشٌّ ، والجمع غُشّون ... »(2)

قال الفیومی : « غَشَّهُ : غَشّاً من باب قَتَلَ والإسم وغِشٌّ بالکسر : لم یَنْصَحْهُ وزَیَّنَ له غیر المصلحة ، ولَبَنٌ مغشوشٌ مخلوطٌ بالماء»(3) .

ص:246


1- (1) أساس البلاغة / 324 .
2- (2) لسان العرب 10 / 74 .
3- (3) المصباح المنیر / 447 .

قال الفیروزآبادی : « غَشَهُ : لم یُمحِضْه النُصح أو أظهر له خلاف ما أضمر کَغَشَّشَه ، والغِشُّ بالکسر الإسم منه والغِلُّ والحِقدُ ، ورجلٌ غَشّ بالفتح : عظیم السُّرّةِ وبالضّم الغاشّ جمعه غُشون ، والمغشوش الغیر الخالص ، والغشش محرکة الکِدر المشوب ... »(1) .

وقال الطریحی : « غشش : المغشوش : الغیر الخالص ... »(2) .

وقال فی المنجد : « غَشَّهُ -ُ غَشّاً وغَشَّشه : أظهر له خلاف ما أضمره وزیّن له غیر المصلحة . خدعه ، أغَشَّهُ : أوقعه فی الغِش ، ... الغِشّ : اسم من الغَشّ ، الحقد ، الخیانة ، سواد القلب ، عبوس الوجه ، الکدر فی کل شیءٍ .

الغُش جمعه غُشُّون ، والغاش جمعه غَشَشَة وغشّاش : الذی یَغُشّ الناس»(3) .

وقال الشیخ جعفر کاشف الغطاء : « الغشّ بالفتح مصدر وبالکسر اسمٌ ، والأوّل ألصق بما بعده وأوفق بتعلّق الحکم وترتّب الملک بإدخال الأدنی فی الأعلی ، أو المطلوب فی غیره ، أو بالعکس من المجانس وغیره ، أو تعمّد ما یظهر الصنعة الملیحة ویخفی القبیحة فیدخل التدلیس لیتوفّر رغبة المستام بما یخفی حاله فیظنّ کماله فیغریه بالجهل بفعله الخالی عن الاحتمال والمصلحة بل المشتمل علی المفسدة ، کما لو أغراه بقوله ، ویکون ساعیاً فی ضرره بإخفاء خبره ... »(4) .

وقال النراقی : « الغش خلاف النصح والخلوص أو إظهار خلاف ما أضمر ، وحصوله فی المعاملات إنّما یکون إذا کان فی المبیع نقص ورداءة وله صور ... »(5) .

والإیروانی یقول : « الغش ستر ما لا یرغب فیه فیما یرغب فیه طلباً للزیادة فی المعاملة»(5) .

ص:247


1- (4) قاموس اللغة / الطبع الحجری ذیل مادته .
2- (1) مجمع البحرین / 341 .
3- (2) المنجد / 579 .
4- (3) شرح القواعد 1 / 208 .
5- (4) مستند الشیعة 14 / 169 .(4) حاشیة المکاسب 1 / 174 .

وقال المحقق الخوئی فی تعریفه : « کونه (أی کون الغش) بمعنی الکدر والخدیعة والخیانة ، ویُعبّر عنه فی لغة الفرس بکلمة (گول زدن) ، ولا یتحقق ذلک إلاّ بعلم الغاش وجهل المغشوش ، فإذا کلاهما عالمین بالواقع أو جاهلین به أو کان الغاش جاهلاً والمغشوش عالماً انتفی مفهوم الغش»(1) .

أقول : تلک عشرة کاملة من کلمات اللغویین والفقهاء فی هذا الباب ، ویظهر منها أنّ للغش معنی عرفی یرجع إلی إخفاء العیب والنقص وتغطیتهما أو تخلیط الردیء بالجید

والمشوب بالخالص ونحوها طلباً للزیادة فی المعاملة وسوء الاستفادة من جهل المشتری بالنسبة إلیه .

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة ما ذکره المحقق الإیروانی من أنّ الغش لایکون محرّماً بعنوانه بل هو محرّم بالعناوین الثانویة من الکذب ، أو أنّه أکل للمال بلارضی صاحبه(2) ، لأنّ الخطابات الشرعیة وردت فی الغش وظاهرها حرمته بنفسه لا بعنوان آخر کما هو واضح .

الجهة الثانیة : أقسامه

للغش أنواع کثیرة ذکر بعضها شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی فی ما کتبه من تقریرات اُستاذه الحائری قدس سرهما ، قال : « فاعلم أنّ الغش خلاف النصح وتزیین خلاف المصلحة ، وهو علی أنحاءٍ :

1 - فقد یکون بالمزج ، إمّا للصنف الردیء فی الصنف الجید ، أو لغیر الجنس فی الجنس ، کالتراب فی الحنطة والماء فی اللبن .

2 - وقد یکون بإخفاء العیب ، إمّا بستره بساتر مثل ستر صفرة لون البشرة بالتحمیر ، أو بالسکوت عنه وعدم إظهاره ، أو بالتصدی للبیع فی مکان ظلمانی یحجب العیب لظلمته .

ص:248


1- (6) مصباح الفقاهة 1 / 300 .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 174 .

3 - وقد یکون بإظهار الصفة الجیدة المفقودة واقعاً ، إمّا بوصفه بها کذباً ، أو بإحداث شیء فیه یوهم کونه علی خلاف جنسه ، کإعطاء الممّوه مکان الذهب أو الفضة أو بغیر ذلک ، ویسمی هذا القسم بالتدلیس .

4 - وقد یکون بإحداث أمر لیزید فی کمّ المتاع ، مثل بلّ الطعام لیصیر أکثر وزناً ، ووضع الإبریسم والتتن والجلد فی الندی لیکتسب الثقل .

5 - ثمّ إمّا أن یکون الغش ظاهراً أعنی قابلاً لأن یطلّع علیه بتوسط إحدی الحواس الخمسة الظاهرة مثل خلط مدوّر الحبّة مِنْ الاُرز فی طویلها حیث یمکن فهمه بالباصرة واللامسة وهکذا .

6 - وإما أن یکون خفیّاً غیر محسوس بها ، وحینئذ إما أن یمکن الإطلاع علیه بالإختبار أو الاستعلام من أهل الإطلاع غیر البائع وإمّا أن ینحصر طریق الإطلاع فی إعلام

البائع کمزج الماء القلیل فی اللبن .

1 - وعلی التقادیر : إمّا أن یکون الغش بفعل البائع لفرض التلبیس والإغفال علی المشتری ، وإمّا أن لا یکون کذلک : إمّا بحصوله إتفاقاً کورود ماء المطر فی اللبن مِنْ غیر اختیاره ، أو بحصوله بفعله لغرض صحیح أو بحصوله بفعل غیره .

2 - وعلی التقدیر الثانی : إمّا أن یکون للمبیع صورة موهمة لخلاف الواقع وإمّا أن یکون له صورة مشترکة بین الصحیح والمعیب ، مثل الحیوان الغیر المبصر فی اللیل .

3 - وعلی جمیع التقادیر : إمّا أن یخبر البائع بالصحة والسلامة من العیب علی وجه یعتمد المشتری ، وإمّا أن یکتفی بالسکوت وعدم الإظهار .

فهذه ثمان عشرة صورة»(1) .

أقول : وقد قسّم الفاضل النراقی الغش فی المستند(2) بأکثر ممّا قسّمه المؤسس الحائری فراجعه ، ویظهر حکم هذه الصور فی طیّ البحث إنْ شاء اللّه تعالی .

ص:249


1- (1) المکاسب المحرمة / 126 و 125 .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 169 و 170 .
الجهة الثالثة : أقوال الأصحاب قدس سرهم

قال المفید : « والغش فی کلِّ متجر وصناعة حرام»(1) .

وقال الطوسی : « وکلّ شیء غُش فیه فالتجارة فیه والتکسب به بالبیع والشراء وغیر ذلک حرامٌ محظورٌ»(2) .

وقال ابن إدریس : « ویحرم ... والغش فی جمیع الأشیاء»(3) .

وذهب الی الحرمة المحقق فی الشرائع(4) والنافع(5) .

وقال العلامة الحلی : « الغش والتدلیس محرمان»(6) ، وذهب فی المنتهی(7) إلی عدم الخلاف فی حرمته ، وفی القواعد(8) والتحریر(9) والإرشاد(10) ذهب إلی حرمته .

والشهید فی الدروس(11) واللمعة(12) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(13) والشهید الثانی فی المسالک(14) والروضة(15) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(16) ، والبحرانی فی الحدائق

ص:250


1- (3) المقنعة / 590 .
2- (4) النهایة / 365 .
3- (5) السرائر 2 / 216 .
4- (6) الشرائع 2 / 10 .
5- (7) المختصر النافع / 117 .
6- (8) تذکرة الفقهاء 12 / 142 .
7- (9) منتهی المطلب 2 / 1012 الطبع الحجری .
8- (10) قواعد الأحکام 2 / 8 .
9- (11) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
10- (12) إرشاد الأذهان 1 / 357 .
11- (1) الدروس الشرعیة 3 / 163 .
12- (2) اللمعة الدمشقیة / 109 .
13- (3) جامع المقاصد 4 / 25 .
14- (4) مسالک الأفهام 3 / 129 .
15- (5) الروضة البهیة 3 / 216 .
16- (6) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 82 .

إدعی عدم الخلاف فی تحریمه(1) .

وقال الشیخ جعفر : « ... وأمّا الشرع فقد تواترت علیه (أی علی حرمة الغش) آیاته وروایاته وإجماعاته ، وفی بعضها التشدید التام الدال علی أنّه مخرج عن الإسلام»(2) .

وفی الریاض(3) ذهب إلی عدم الخلاف فی حرمته ، وهکذا فی المستند(4) .

وفی الجواهر : « بلا خلاف أجده فیه بل الإجماع بقسمیه علیه»(5) .

وفی برهان الفقه : « فحرمته مورد إتفاق النص والفتوی ، بل هو حرام فی غیر المعاملات أیضاً ... »(6) .

أقول : أنت تجد أنّ الکلّ قائلون بالحرمة ، وادعی عدم الخلاف أو الإجماع علی الحرمة أصحاب المنتهی والحدائق وشرح القواعد والریاض والمستند والجواهر وبرهان الفقه .

فهل یمکن الإستناد إلی هذا الاجماع أم لا ، لأنّه إجماع مدرکیٌّ ؟ ! الظاهر هو الثانی ، فلابدّ مِنْ ملاحظة الأدلة التالیة .

الجهة الرابعة : حکم العقل

قال الشیخ جعفر : « ... فالعقل حاکم بقبحه حیث غشّه بترک نصحه ولقد ظلمه حیث

ص:251


1- (7) الحدائق 18 / 190 .
2- (8) شرح القواعد 1 / 208 .
3- (9) ریاض المسائل 8 / 170 .
4- (10) مستند الشیعة 14 / 168 .
5- (11) الجواهر 22 / 111 .
6- (12) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 طبع الحجری .

شبّه علیه وما أعلمه ، ولدخوله فیما وضع للحرام أو قُصد به ... »(1) .

أقول : حیث أنّ العقل بنفسه حاکم بهذا القبح فیمکن أن یُستدل بهذا القبح العقلی علی حرمة الغش بقاعدة الملازمة کما لا یخفی ، فالعقل حاکم علی قبحه وحرمته .

الجهة الخامسة : الروایات

الروایات المتواترة تدلّ علی حرمة الغش :

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام : لیس منّا من غشّنا(2) .

ومنها : صحیحته الاُخری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لرجل یبیع التمر : یا فلان أما علمت أنّه لیس من المسلمین من غشّهم(3) ؟ !

ومنها : صحیحة هشام بن الحکم قال : کنت أبیع السابری فی الظلال ، فمرّ بی أبو الحسن الأوّل موسی علیه السلام فقال لی : یا هشام ، إنّ البیع فی الظلال غشٌّ والغشُّ لا یحلّ(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : نهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أن یشاب اللبن بالماء للبیع(5) .

ومنها : صحیحة علی بن سوید السائی عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام أنّه کتب إلیه فی جواب مسائله : ... لیس مِنْ أخلاق المؤمنین الغش ، لا الأذی ولا الخیانة ولا الکبر ولا الخناء ولا الفحش ولا الأمر به ، الحدیث(6) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة الحسین بن المختار القلانسی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّا نعمل القلانس فنجعل فیها القطن العتیق فنبیعها ولا نبین لهم ما فیها ، قال : أحبّ لک أن

ص:252


1- (1) شرح القواعد 1 / 208 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 1 الباب 86 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 2 الباب 86 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 4 .
6- (6) الکافی 8 / 126 ح 95 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 105 ح 9 .

تبین لهم ما فیها(1) .

ومنها : حسنة الحسین بن خالد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن

علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من کان مسلماً فلا یمکر ولا یخدع ، فإنّی سمعت جبرئیل علیه السلام یقول : إنّ المکر والخدیعة فی النار . ثمّ قال : لیس منّا من غشّ مسلماً ، ولیس منّا من خان مسلماً . ثمّ قال علیه السلام : إنّ جبرئیل الروح الأمین نزل علیَّ مِنْ عند ربّ العالمین فقال : یا محمّد علیک بحسن الخلق ، فإنّه یذهب بخیر الدنیا والآخرة ، ألا وإنّ أشبهکم بی أحسنکم خُلقاً(2) .

ومنها : صحیحة عبیس (عباس) بن هشام النّاشری عن رجل من أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دخل علیه رجل یبیع الدقیق ، فقال : إیّاک والغشّ ، فإنّ مَنْ غَشَّ غُشَّ فی ماله ، فإن لم یکن له مال غُشَّ فی أهله(3) .

الروایة بسند الکلینی(4) ضعیفة ، لعدم تعین الرجل ، ولکنّها بسند الشیخ(5) صحیحة ، لعدم دخول الرجل فی السند ، بل رواها عبیس عن الصادق علیه السلام من دون واسطة الرجل .

ومنها : حسنة أو معتبرة موسی بن بکر قال : کنّا عند أبی الحسن علیه السلام فإذا دنانیر مصبوبة بین یدیه ، فنظر إلی دینار فأخذه بیده ثمّ قطعه بنصفین ثمّ قال : ألقه فی البالوعة حتّی لا یباع شیء فیه غشٌّ(6) .

سند الکلینی ضعیف(7) ، ولکن سند الشیخ(8) إلی موسی بن بکر حسن بل معتبر بل

ص:253


1- (7) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 9 .
2- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 50 ح 194 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 105 ح 10 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 281 ح 7 .
4- (3) الکافی 5 / 160 ح 4 .
5- (4) التهذیب 7 / 12 ح 51 .
6- (5) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .
7- (6) الکافی 5 / 160 ح 3 .
8- (7) التهذیب 7 / 12 ح 50 .

صحیح فی أبواب فرض الصلاة فی السفر(1) وأوقات الصلاة(2) ، وتفصیل ما تقدم ذکره فی الصلاة(3) وأحکام السهو فی الصلاة(4) . فالروایة بسند الشیخ صحیحة علی قول صاحب جامع الرواة ، ودلالتها علی حرمة الغش واضحة .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون عنده لونان من طعام واحد سعّرهما بشیءٍ وأحدهما أجود من الآخر فیخلطهما جمیعاً ثمّ یبیعهما بسعر واحد ، فقال : لا یصلح له أن یغش المسلمین حتّی یبینه(5) .

ومنها : حسنة بل صحیحة الحسین بن زید الهاشمی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : جاءت زینب العطارة الحولاء إلی نساء النبی صلی الله علیه و آله وسلم وبناته ، وکانت تبیع منهنّ العطر ، فجاء النبی صلی الله علیه و آله وسلم وهی عندهنّ ، فقال : إذا أتیتنا طابت بیوتنا ، فقالت : بیوتک بریحک أطیب یا رسول اللّه . قال صلی الله علیه و آله وسلم : إذا بعتِ فأحسنی ولا تغشی ، فإنّه أتقی وأبقی للمال ، الحدیث(6) .

ومنها : خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة قال صلی الله علیه و آله وسلم فیها : ومَنْ غشّ مسلماً فی بیع أو فی شراء فلیس منّا ویحشر مع الیهود یوم القیامة ، لأنّه مَنْ غش الناس فلیس بمسلم إلی أن قال صلی الله علیه و آله وسلم : ألا ومَنْ غشّنا فلیس منّا - قالها ثلاث مرات - ومنْ غشّ أخاه المسلم نزع اللّه برکة رزقه وأفسد علیه معیشته ، ووکله إلی نفسه . الحدیث(7) .

ومنها : خبر سعد الإسکاف عن أبی جعفر علیه السلام قال : مرّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی سوق المدینة بطعامٌ فقال لصاحبه : ما أری طعامک إلاّ طیّباً ، وسأله عن سعره . فأوحی اللّه عزّ وجل إلیه أن یدسّ یده فی الطعام ، ففعل فأخرج طعاماً ردیئاً ، فقال لصاحبه : ما أراک إلاّ وقد جمعت خیانةً

ص:254


1- (8) التهذیب 2 / 13 ح 4 .
2- (9) التهذیب 2 / 24 / ح 20 و 2 / 36 ح 5 .
3- (10) التهذیب 2 / 169 ح 128 .
4- (11) التهذیب 2 / 176 ح 4 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 112 ح 2 . الباب 9 من أبواب أحکام العیوب .
6- (2) وسائل الشیعة 17 / 281 ح 6 .
7- (3) وسائل الشیعة 17 / 283 ح 11 .

وغشّاً للمسلمین(1) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی حدیث : ومَنْ غشّ مسلماً فی شراءٍ أو بیعٍ فلیس منّا ویحشر یوم القیامة مع الیهود لأنّهم أغش الخلق .

وقال : لیس منّا مَنْ غشّ مسلماً .

وقال : ومَنْ بات وفی قلبه غشّ لأخیه المسلم بات فی سخط اللّه وأصبح کذلک حتّی یتوب(2) .

تلک أربعة عشرة من الروایات أکثرها من الصحاح ، وهی تدلّ بوضوح علی حرمة الغش .

الجهة السادسة : هل یعتبر فی صدق الغش قصد مفهومه أم لا ؟

قال سید الریاض : « ثمّ لو غشّ لکن لا بقصده بل بقصد إصلاح المال لم یحرم ، للأصل واختصاص ما مرّ من النص بحکم التبادر بصورة القصد ... »(3) .

وتبعه السید العاملی وقال : « وأمّا إذا غشّ بقصد إصلاح المال لا بقصد الغش لم یحرم ، للأصل وتبادر غیر هذه الصورة من أخبار الغش و ... »(4) .

وتبعهما صاحبا برهان الفقه(5) والمکاسب(6) .

وقد استدلوا بصحیحة الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یشتری طعاماً فیکون أحسن له وأنفق له أن یبلّه من غیر أن یلتمس زیادته ؟ فقال : إن کان بیعاً لا یصلحه إلاّ ذلک ولا ینفقه غیره ، من غیر أن یلتمس فیه زیادة فلا بأس ، وإن کان إنّما یغش به المسلمین

ص:255


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 8 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 10 .
3- (1) ریاض المسائل 8 / 172 .
4- (2) مفتاح الکرامة 12 / 189 .
5- (3) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 الطبع الحجری .
6- (4) المکاسب المحرمة / 35 من الطبع الحجری للشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره - (1 / 280) .

فلا یصلح(1) .

ولعلّ أوّل من ذهب إلی هذا القول صاحب الحدائق ، لأنّه قال بعد نقل الصحیحة : « ظاهر هذا الخبر أنّ الجواز وعدمه دائران مدار قصد البائع فی بلة الطعام ، فإنّه متی کان قصده إنّما هو لأجل إنفاق السلعة وشرائها وأنّه بدون ذلک یَکْسِدُ علیه فلا بأس بما یفعله ، وإن کان غرضه إنّما هو لأجل زیادة فی الوزن فهو غیر جائز»(2) .

أقول : الظاهر عدم تمامیة ما ذهب إلیه هؤلاء الأعلام ، لأنّ الغش من الاُمور الواقعیة ولیس من الاُمور القصدیة التی تختلف باختلاف الدواعی والقصود . والمعتبر فیه علم البایع به مع جهل المشتری إیّاه ، ولذا لو اختلط الجید بالردئ بغیر اختیار المالک ولکن علم فیما بعد وباعه من غیر الإعلام یکون من الغش المحرَّم ولإطلاق الروایات :

منها : صحیحة هشام بن الحکم قال : کنت أبیع السابری فی الظلال فمرّ بی أبو الحسن الأوّل موسی علیه السلام فقال لی : یا هشام إنّ البیع فی الظلال غش والغش لا یحلّ(3) .

ولم یفرق الإمام علیه السلام بین اختیار الظلال لغرض عقلائی صحیح أو لغرض التلبیس .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام أنّه سُئل عن الطعام یخلط بعضه ببعض ، وبعضه أجود من بعض ؟ قال : إذا رُؤیا جمیعاً فلا بأس ما لم یغط الجید الردی ء(4) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون عنده لونان من طعم واحد سعّرهما بشیءٍ ، وأحدهما أجود من الآخر فیخلطهما جمیعاً ثمّ یبیعهما بسعر واحد ، فقال : لا یصلح له أن یغش المسلمین حتّی یبیّنه(5) .

حیث لم یسأل الإمام علیه السلام فی الروایتین : أنّ الخلط لغرض صحیح وعقلائی أم لا ؟ ولم یستفصل علیه السلام . فهذه الإطلاقات تشمل الغش الخارجی حتی لو لم یقصده البائع .

ص:256


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 113 ح 3 . الباب 9 من أبواب أحکام العیوب .
2- (6) الحدائق 18 / 192 .
3- (7) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .
4- (1) وسائل الشیعة 18 / 112 ح 1 .
5- (2) وسائل الشیعة 18 / 112 ح 2 .

وأمّا صحیحة الحلبی(1) الماضیة أیضاً لا تدلّ علی اعتبار القصد فی الغش کما حملها البعض ، بل تدلّ علی جواز إضافة شیءٍ إلی المتاع إن کانت هذه الإضافة والزیادة تحسنه وتنفقه وکانت أحسن وأبقی له . وفی الواقع هذا الفرض لم یدخل تحت عنوان الغش ، بل یدخل تحت عنوان عملیة إبقاء المتاع وإحیائه وإصلاحه فیجوز ، وصرح الإمام علیه السلام فی ذیلها بأن الغشّ حرام حتّی إذا کان تحت عملیة الإصلاح والإبقاء ظاهراً ولکن واقعه یکون غشّاً .

وافقنا علی عدم إعتبار القصد فی الغش جماعة مِن الأعلام ، نحو : المؤسس الحائری(2) قدس سره والمحقق الخوئی(3) رحمه الله والسید القمی(4) - مدظله - .

الجهة السابعة : حکم المعاملة المشتملة علی الغش

إذا باع المغشوش ، فعل حراماً بجهة الغش ، ولکن هل تصح المعاملة أم لا ؟

تردّد المحقق الثانی وقال : « وأمّا حال البیع فی الفرض الأوّل فیمکن صحته ، لأنّ المحرَّم هو الغش وأمّا المبیع فإنّه عین منتفع بها یعدّ مالاً فیصح . ویمکن الحکم بالبطلان ، لأنّ المقصود بالبیع هو اللبن والجاری علیه هو المشوب ... »(5) .

ولکن الشهید الثانی حکم بصحة المعاملة وقال : « ... ثمّ علی تقدیر الخفاء فالبیع صحیح وحکمه حکم ما ظهر فی المبیع عیب مِنْ غیر الجنس ، وربّما احتمل البطلان بناءً علی أنّ المقصود بالبیع هو اللبن والجاری علیه العقد هو المشوب ، فیکون کما لو باعه هذا الفرس فظهر حماراً . وقد ذکروا(6) فی هذا المثال إشکالاً مِنْ حیث تغلیب الإشارة أو الإسم ، والفرق بینه وبین ما نحن فیه واضح»(7) .

ص:257


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 113 ح 3 .
2- (4) المکاسب المحرمة / 128 و 130 لشیخنا آیة اللّه محمد علی الأراکی قدس سره .
3- (5) مصباح الفقاهة 1 / 301 .
4- (6) عمدة المطالب 1 / 239 .
5- (7) جامع المقاصد 4 / 25 .
6- (1) الذاکر هو المحقق الثانی فی جامع المقاصد 4 / 25 .
7- (2) مسالک الأفهام 3 / 129 .

والمحقق الأردبیلی ذهب إلی بطلان البیع وقال : « وعلی تقدیر البیع هل یصحّ ؟ الظاهر : لا ، لأنّ الغرض من النهی فی مثله عدم صلاحیّة بیع مثله علی أنّه غیر مغشوش ولما مرّ ، وقال فی شرح الشرائع(1) : یصحّ فتأمل»(2) .

وتابع المحقق الثانی فی تردده المحقق السبزواری فی الکفایة(3) .

وتابع الشهید الثانی فی الحکم بالصحة جماعة من الأعلام ، نحو : الفقیه الشیخ جعفر(4) وتلمیذه السید العاملی(5) وتلمیذه الآخر صاحب الجواهر(6) والفاضل النراقی(7) والسید علی آل بحر العلوم(8) والمؤسس الحائری(9) والمحققون الإیروانی(10) والخوئی(11) والسبزواری(12) والأردکانی (13) قدس سرهم والتبریزی(14) والقمی(15) - مدظلهما - .

وتابع المحقق الأردبیلی فی حکمه بالبطلان صاحب الحدائق(16) .

ص: 258


1- (3) یعنی الشهید الثانی فی المسالک 3 / 129 .
2- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 83 .
3- (5) کفایة الأحکام / 87 الطبع الحجری - (1 / 442) .
4- (6) شرح القواعد 1 / 210 .
5- (7) مفتاح الکرامة 12 / 193 .
6- (8) الجواهر 22 / 112 .
7- (9) مستند الشیعة 14 / 171 .
8- (10) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 الطبع الحجری .
9- (11) المکاسب المحرمة / 132 وما بعدها لآیة اللّه الأراکی .
10- (12) حاشیة المکاسب 1 / 176 .
11- (13) مصباح الفقاهة 1 / 302 .
12- (14) مهذب الاحکام 16 / 108 .
13- (15) غنیة الطالب 1 / 140 .
14- (16) ارشاد الطالب 1 / 172 .
15- (17) عمدة المطالب 1 / 243 .
16- (18) الحدائق 18 / 193 .

أقول : قد تسالم الأصحاب قدس سرهم فی أنّ النهی إذا تعلق بعنوان المعاملة نفسها ینتج منه فساد المعاملة نحو : النهی المتعلّق ببیع الخمر أو المعاملة الربویة .

وأمّا تعلق النهی بعنوان آخر غیر البیع ولکن قد یتّحد وینطبق معه ، فلا ینتج منه فساد المعاملة ، بل یحکم بالحرمة التکلیفیة لهذا العنوان والمعاملة المتحدة معه ، نحو : البیع وقت النداء أو البیع الذی ینهی عنه الوالد .

وقد نقل المؤسس الحائری(1) عن سید اُستاذه - وهو المحقق السید محمد الفشارکی الإصفهانی المتوفی سنة 1316 ق قدس سرهما - دعوی الإجماع فی باب المعاملات علی ذلک .

ثمّ علی هذه القاعدة حیث أنّ النهی الوارد فی الروایات تعلّق بعنوان الغش لا بالمعاملة نفسها ، فقد یحکم بحرمة الغش تکلیفاً وصحة المعاملة المشتملة علی الغش مع ثبوت خیار العیب أو الوصف أو التدلیس علی اختلاف أنواع الغش .

والذی یُشکل الأمر أنّه قد تعلق النهی فی بعض الروایات بنفس المعاملة ، فلابدّ من ملاحظتها والجواب عنها وإلاّ تنقض القاعدة التی قلناها ، وأمّا الروایات :

فمنها : صحیحة هشام بن الحکم عن أبی الحسن موسی علیه السلام أنّه قال : یا هشام إنّ البیع فی الظلال غش والغش لا یحلّ(2) .

ومنها : حسنة أو معتبرة موسی بن بکر قال : کنّا عند أبی الحسن علیه السلام وإذا دنانیر مصبوبة بین یدیه ، فنظر إلی دینار فأخذه بیده ثمّ قطعه بنصفین ، ثمّ قال لی : ألقه فی البالوعة حتّی لا یباع شیء فیه غشٌّ(3) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی حدیث : مَنْ غشّ مسلماً فی شراءٍ أو بیعٍ

ص:259


1- (1) المکاسب المحرمة / 132 لآیة اللّه الأراکی .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .

فلیس منّا ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة قال صلی الله علیه و آله وسلم فیها : ومَنْ غشّ مسلماً فی بیع أو فی شراءٍ فلیس منّا(2) .

ومنها : خبر المفضل بن عمر الجعفی قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فاُلقی بین یدیه

دراهم ، فألقی إلیَّ درهماً منها ، فقال : أیش هذا ؟ فقلت : ستوق ، فقال : وما الستوق ؟ فقلت : طبقتین فضّة وطبقة من نحاس وطبقة من فضة ، فقال : اکسرها فإنّه لا یحلّ بیع هذا ولا إنفاقه(3) .

وهذه الروایات - وإن کانت بظاهرها تعلق النهی فیها ببیع المغشوش - ولکن إذا تأملت فیها بدقة مع ملاحظة غیرها من الروایات تجد فی نفسک الإطمئنان بأنّ النهی الوارد فیها عن المعاملة تعلّق بحیثیّة الغش الوارد فیها ، لا بنفس المعاملة .

نعم ، یمکن الإلتزام بما ورد فی حسنة موسی بن بکر(4) وخبر المفضل بن عمر الجعفی(5) فی خصوص الدراهم المغشوشة مِنْ لزوم کسرها وإفنائها ووجوب إخراجها مِنْ جریان المعاملات حسماً لمادّة الفساد وبطلان المعاملة بها إن وقفت شخصیّة کما التزمنا بها فی بحث بیع الدراهم المغشوشة من هذا الکتاب(6) .

والحاصل ، أنّ النهی المتعلق بالمعاملة تعلّق بها من جهة حیثیّة الغش ، فالمنهی فی الحقیقة أمر خارج عنها وهو الغشّ ، صار الغشّ حینئذ حراماً والمعاملة المشتملة علیه یکون صحیحاً وضعاً مع ثبوت الخیارات للمشتری . واللّه هو العالم والحمد له .

ص:260


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 10 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 283 ح 11 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 186 ح 5 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 186 ح 5 .
6- (4) هذا الکتاب . المجلد الاوّل / 174 .
الجهة الثامنة : تعارض الاسم والاشارة
اشارة

قد تمسّکوا بهذا التعارض لثبوت بطلان المعاملة وفسادها ، ونحن نبحث عنه فی مقامین : 1 - فی بحث صلاة الجماعة 2 - وفی بحثنا هذا عن المعاملات .

المقام الأوّل : تعارض الاسم والاشارة فی صلاة الجماعة

قال العلامة : « ولو نوی الإقتداء بالحاضر فاعتقده زیداً فکان غیره فالوجه البطلان»(1) .

قال الشهید فی الذکری : « یُشترط القصد إلی إمام معین ... ولو نوی الإقتداء بالحاضر

علی أنّه زید فبان عمراً ففی ترجیح الإشارة علی الإسم فیصح أو بالعکس فیبطل نظر ، نظیر أن یقول المطلِّق لزوجته اسمها عمرة « هذه زینب طالق » ، أو یشیر البائع إلی حمار فیقول « بعتک هذا الفرس »(2) .

وقال ثانی الشهیدین فی الروض : « ... ولو عیّن فأخطأ تعیینه - بأن نوی الإقتداء بزیدٍ فظهر أنّه عمرو - بطلت صلاته أیضاً وإن کان الثانی أهلاً للإمامة . أمّا لو نوی الإقتداء بالحاضر علی أنّه زید فبان عمراً ففی صحة القدوة ترجیحاً للإشارة علی الاسم أو البطلان للعکس نظر ، ورجّح المصنف البطلان ، وهو متّجه»(3) .

أقول : ونحوها فی الفوائد الملیة(4) من دون الترجیح .

وقال صاحب المدارک : « ولو نوی الإقتداء بالحاضر علی أنّه زیدٌ فبان عمراً ففی ترجیح الإشارة علی الإسم فیصح أو العکس فیبطل نظرٌ»(5) .

وقال سید الریاض : « ... ومنه یظهر وجه ما ذکره الشهیدان فی الذکری وروض

ص:261


1- (5) نهایة الأحکام 2 / 126 .
2- (1) ذکری الشیعة 3 / 423 .
3- (2) روض الجنان 2 / 998 .
4- (3) الفوائد الملی-ّة . لِشرح الرسالة النفلیة / 290 .
5- (4) مدارک الأحکام 4 / 333 .

الجنان والروضة(1) من فسادها لو نوی الإقتداء بزید فبان عمراً وإن کان أهلاً للإمامة ، أمّا لو نوی الإقتداء بالحاضر علی أنّه زیدٌ فبان عمراً ففی صحة الإقتداء ترجیحاً للإشارة وعدمها ترجیحاً للإسم وجهان أحوطهما العدم»(2) .

ولکن المحقق السبزواری فی کتابیه الذخیرة(3) والکفایة(4) ذهب إلی الصحة ، وتبعه أصحاب المصابیح(5) ومفتاح الکرامة(6) وبرهان الفقه(7) .

والحقّ متابعة أصحاب الذخیرة والکفایة والمصابیح ومفتاح الکرامة وبرهان الفقه من صحة الصلاة فی مسألتنا هذه ، لأنّ الإیتمام فعل خارجی ، وهو متابعة الإمام فی أفعاله

والإقتداء به ، والفعل الخارجی جزئی حقیقی غیر قابل للتقسیم والتنویع حتّی یُتصور فیه التعلیق والتقیید ، فالتخلف فیه لیس إلاّ من باب التخلف فی الداعی ، ومن الواضح أنّ التخلف فی الداعی حتّی فی العقود والإیقاعات لم یبطلها ، وعلی هذا التخلف فی الداعی فی الفعل الخارجی الجزئی بطریق أولی لا یوجب بطلانه ، وحینئذ فی الفرض صحت صلاته وجماعته(8) حتّی لو فُرض عدم الإقتداء لو علم من الأوّل أنّه عمروٌ لغرض من الأغراض لا لعدم إحراز عدالته ، فما ذکره بعض الأصحاب من بطلان صلاته محل تأمل بل منع .

حتی لو قلنا ببطلان جماعته لا یمکننا القول ببطلان صلاته لو لم یخالف ما وظیفة المنفرد لجریان حدیث « لا تعاد » والحقّ عدم جریان تعارض الإسم والإشارة فی صلاة الجماعة . والتفصیل یُطلب من أحکام الجماعة فی کتاب الصلاة .

ص:262


1- (5) الروضة البهیة 1 / 283 .
2- (6) ریاض المسائل 4 / 234 .
3- (7) ذخیرة المعاد / 399 .
4- (8) کفایة الأحکام / 31 الطبع الحجری و 1 / 151 من الطبع الحدیث عام 1423 .
5- (9) مصابیح الظلام 8 / 314 وما بعدها للوحید البهبهانی المطبوع عام 1424 .
6- (10) مفتاح الکرامة 10 / 81 و 80 .
7- (11) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 طبع الحجری .
8- (1) کما ذهب إلیه المحقق الخوئی فی مستند العروة الوثقی فی القسم الثانی من المجلد الخامس / 78 .
المقام الثانی : تعارض الاسم والاشارة فی المعاملات

أوّل مَن احتمل البطلان فی المعاملات عامة وفی بیع المغشوش لهذا التعارض المحقق الکرکی فی جامع المقاصد حیث قال : « ویمکن الحکم بالبطلان ، لأنّ المقصود بالبیع هو اللبن والجاری علیه هو المشوب ثمّ نقل کلام الشهید فی الذکری وختمه بهذا الکلام : وجعل منشأ التردد تغلیب الإشارة أو الوصف»(1) .

ثمّ بعده نقل الشهید الثانی هذا الإحتمال فی مسالکه وردّه حیث یقول : « وربّما احتمل البطلان بناءً علی أنّ المقصود بالبیع هو اللبن والجاری علیه العقد هو المشوب ، فیکون کما لو باعه هذا الفرس فظهر حماراً ، وقد ذکروا فی هذا المثال إشکالاً من حیث تغلیب الإشارة أو الإسم ، والفرق بینه وبین ما نحن فیه واضح »(2) .

وهکذا ردّ هذا التعارض الشیخ جعفر وقال : « ... ولیس هذا من تعارض الإسم والإشارة ، أمّا مع إتحاد الجنس فظاهر ، وأمّا مع اختلافه فإن لم تنقلب الحقیقة فلیس منه ، ومع الانقلاب فقد حکمنا ببطلان ضروب الاکتساب ... »(3) .

وتبعه تلمیذه صاحب الجواهر فقال : « ولیس ذا مِنْ تعارض الإسم والإشارة قطعاً ، ضرورة کون المراد واحداً من نحو قولک « بعتک هذا اللبن » . نعم لو خرج بالغش عن الحقیقة

وبیع علی أنّه منها بطل البیع قطعاً ، وأمّا مع عدمه فالمتجه الصحة ... »(4) .

وتبعه أیضاً تلمیذه الآخر السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) ، وتبعهم السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(6) والمؤسس الحائری فی تقریرات بحثه الشریف(7) والمحقق الخوئی

ص:263


1- (2) جامع المقاصد 4 / 25 .
2- (3) مسالک الأفهام 3 / 129 .
3- (4) شرح القواعد 1 / 210 .
4- (1) الجواهر 22 / 112 .
5- (2) مفتاح الکرامة 12 / 190 .
6- (3) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 38 الطبع الحجری .
7- (4) المکاسب المحرمة / 134 وما بعدها لآیة اللّه الأراکی قدس سره .

فی مصباح الفقاهة(1) قدس سرهم وتلمیذاه شیخنا الاُستاذ فی إرشاد الطالب(2) والفقیه القمی(3) فی عمدة المطالب - مدّظلهما - .

والحقّ متابعة الأعلام حیث قد عرفت أنّ هذا التعارض لا یجری فی محلّه المُدعی وهو صلاة الجماعة ، فکیف یجری فی البیع أو غیره من المعاملات اللاتی یتعلقن بالأعیان الخارجیة . وعلی هذا إذا وقع عقد البیع مثلاً علی اللبن والغش لا یخرجه عن حقیقة اللبنیّة بل صار به مغشوشاً غیر خالصٍ صحت المعاملة وتجری فیها خیار العیب أو الوصف أو التدلیس .

وأمّا إذا وقع عقد البیع مثلاً علی فرس وحین التحویل أعطاه حماراً بحیث یوجب انقلاب ماهیة المبیع إلی شیءٍ آخرٍ ، فیحکم ببطلان العقد عند الجمیع ، لأنّ ما قُصد لم یقع وما وقع لم یقصد .

والحاصل ، عدم جریان تعارض الإسم والإشارة فی البیع وفی غیره من المعاملات حتّی فی النکاح والطلاق ، فإنّهما تابعان لقصد من له ولایتهما ، فإذا قال الأب : أنکحتُ بنتی هذه - زینب - لزید ، النکاح حیث هو من الاُمور الإنشائیة فهی تابعة لقصد المُنْشِئ ، فإذا کان مراده من الإنشاء ، إنشاء عقد زینب ، ونکاحه لزید فهذه الصیغة تجری فی حقِّها حتّی لو لم تکن هذه زینب وإذا کان مراده إنشاء عقده هذه وأخطأ فی تطبیقه بأنّها زینب ، یجری العقد بالنسبة إلی المشار إلیها ولا یرتبط بزینب . وهکذا الأمر بالنسبة إلی الطلاق لو قال الزوج مثلاً « زوجتی هذه - زینب - طالق » ، فإن الأمر منوط بقصد الزوج لأنه هو المُنْشئ .

والوجه فی ذلک کلّه أنّ العقود تابعة للقصود ، وإذا تردد المُنْشئ بعد ظهور الخلاف بأنّ قصده أیّهما تکون ، بطل العقد أو الإیقاع والمعاملة ، لأنّ الاُمور الإنشائیة لا تتحقق مع التردید

والشک والتعلیق کما هو واضح ، ویحتاج إلی إنشاء عقد جدید من دون شک وتردید ، وتعیین الموضوع خارجاً .

ص:264


1- (5) مصباح الفقاهة 1 / 303 .
2- (6) ارشاد الطالب 1 / 174 .
3- (7) عمدة المطالب 1 / 241 .

هذا مجمل الکلام فی تعارض الإسم والإشارة ، وقد عرفت عدم تمامیته لا فی صلاة الجماعة ولا فی المعاملات ، واللّه سبحانه هو العالم .

الجهة التاسعة : ما قُصِدَ لَمْ یَقَعْ وما وَقَعَ لَمْ یُقْصَدْ

هذا العنوان اُستدل به علی بطلان المعاملة ، بتقریب : أنّ العقد لم یتعلق بالمبیع بأیّ عنوان اتفق ، بل تعلق به بعنوان أنّه خالصٌ وغیرُ مغشوش ، فإذا کان المبیع مغشوشاً فقد ظهر أنّ ما هو المبیع غیر موجودٍ وما هو موجودٌ غیر المبیع ، فما قصد لم یقع وما وقع لم یقصد .

وفیه : أولاً : هذا الإستدلال علی فرض تمامیته إنّما یتم إذا کان المبیع شخصیّاً ، وأمّا إذا کان المبیع کلیّاً - کما فی بعض المعاملات - فغیر تام .

وثانیاً : إذا وقع العقد علی المبیع الشخصی ولکن الغش لا یخرجه عن حقیقته وصورته النوعیة لا یوجب بطلان المعاملة ، بل یجری فیها خیار العیب أو الوصف أو التدلیس .

نعم ، إذا کان الغش یردّ المبیع عن حقیقته وصورته النوعیة ویوجب انقلابه عن ماهیته ، فیحکم ببطلان المعاملة ، لأنّ ما قصد لم یقع وما وقع لم یقصد . وفی هذا الفرض تمّ الإستدلال کما سبق .

والحاصل ، صحت المعاملة المغشوشة لعدم تمامیة ما اُستدل علی بطلانها ، والحکم ثابت بالحرمة التکلیفیة للغش فقط مع ثبوت الخیارات للمشتری ، واللّه سبحانه هو العالم .

الجهة العاشرة : هل حرمة الغشّ تعمّ الکافر ؟

إذا تأملت ما تلوناه علیک من الروایات ظهر لک أنّ بعض الروایات تخص الحرمة بالمؤمن ، یعنی الشیعی الإمامی ، نحو : صحیحة هشام بن سالم(1) وصحیحة علی بن سوید

ص:265


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 1 .

السائی(1) .

وبعضها الآخر تعمّها بالمسلم ، نحو : صحیحة اُخری لهشام بن سالم(2) وحسنة الحسین بن خالد(3) وصحیحة الحلبی(4) وخبر سعد الإسکاف(5) وخبر مناهی النبی(6) صلی الله علیه و آله وسلم وخبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة(7) .

ویمکن استفادة الحرمة بالنسبة إلی جمیع الناس حتّی الکافر منهم مِنْ بعضها نحو : صحیحة هشام بن الحکم(8) ومعتبرة السکونی(9) وصحیحة الحسین بن المختار القلانسی(10) وصحیحة عبیس بن هشام الناشری(11) وحسنة أو معتبرة موسی بن بکر(12) وحسنة بل صحیحة الحسین بن زید الهاشمی(13) .

فهذه الروایات المعتبرة دالة علی حرمة الغش بالنسبة إلی جمیع الناس مع اختلاف أدیانهم ومذاهبهم ، فلا یجوز غشّهم فی المعاملات ، واللّه سبحانه هو العالم .

وبهذه الجهة تمّ بحث الغش وللّه الحمد أولاً وآخراً .

ص: 266


1- (2) الکافی 8 / 126 ح 95 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 2 .
3- (2) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 50 ح 194 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 112 ح 2 .
5- (4) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 8 .
6- (5) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 10 .
7- (6) وسائل الشیعة 17 / 283 ح 11 .
8- (7) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .
9- (8) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 4 .
10- (9) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 9 .
11- (10) وسائل الشیعة 17 / 281 ح 7 .
12- (11) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .
13- (12) وسائل الشیعة 17 / 281 ح 6 .

الغِناء

اشارة

یقع الکلام فیه ضمن مقامات :

المقام الأوّل : موضوعه

لم یرد فی الروایات تحدید موضوع الغناء ، فلابدّ فی تعیین موضوعه إلی مراجعة کلمات أهل اللغة والفقهاء ، فلذا نقول :

قال أحمد بن فارس : « ... الغناء من الصوت ، والاُغنیة(1) اللون من الغناء»(2) .

وقال ابن منظور : « ... الغنی من المال مقصورٌ ومن السماع ممدودٌ ، وکلّ مَنْ رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناءٌ ... »(3) .

وقال ابن الأثیر فی معنی التغنی بالقرآن : « ... وقال الشافعی : معناه تحسین القراءة وترقیقها ، ویشهد له الحدیث الآخر « زیَّنوا القرآن بأصواتکم» ، وکلّ من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء ... »(4) .

وقال الفیومی : « ... والغناء مثالُ کِتابٍ : الصوت ، وقیاسُهُ الضّمُ لأنّه صوتٌ ، وغَنَّی بالتشدید إذا تَرَنّم بالغناءِ»(5) .

قال الفیروزآبادی : « ... والغناءُ ککِساءِ من الصوت ما طُرب به ... »(6) .

ص:268


1- (1) یقال : بضم الهمزة وکسرها مع تشدید الیاء وتخفیفها ، أربع لغات .
2- (2) معجم مقاییس اللغة 4 / 398 .
3- (3) لسان العرب 10 / 135 .
4- (4) النهایة فی غریب الحدیث والأثر 3 / 391 .
5- (5) المصباح المنیر / 455 .
6- (6) قاموس اللغة / الطبع الحجری مادة الغنی .

وقال الطریحی : « الغناء ککِساءِ : الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب أو ما یُسمی بالعرف غناءً وإن لم یطرب ، سواء کان فی شعرٍ أو قرآنٍ أو غیرهما ، واستثنی منه الحدو للإبل ، وقیل : وفعله للمرأة فی الأعراس مع عدم الباطل . وفی الحدیث : جوار یتغنّین ویضربن بالعود ، أی یستعملن الغناء وضرب العود ... »(1) .

وقال فی المنجد : « الغناء من الصوت : ما طُرِّبَ به . الاُغْنِیَّة والإغْنِیَّة والاُغْنِیَة والإغْنیَة : ما یُترنَّم ویُتغنّی به ، جمعه أغانی وأغانٍ»(2) .

أقول : بعد نقل کلمات اللغویین فلابدّ من مراجعة کلمات الفقهاء فی تعریفه :

قال المحقق فی شهادات الشرائع فی تعریف الغناء : « مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطربِ یُفَسَّقُ فاعله وتردُّ شهادته وکذا مستعمه ، سواءٌ استعمل فی شعرٍ أو قرآن ولا بأس بالحُداءِ به ... »(3) .

وقال ابن أخته وتلمیذه العلامة الحلی فی شهادات التحریر : « الغناء حرام ، وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المُطْرِب یفسق فاعله وتُردّ شهادته به ، سواء کان فی شعرٍ أو قرآن ، وکذا مستمعُهُ سواء اعتقد إباحته أو تحریمه»(4) .

وقال فی شهادات الإرشاد : « وسامع الغناء - وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب وإن کان فی قرآن - وفاعله و ... »(5) .

وقال فی شهادات القواعد : « الغناء حرام یُفَسَّقُ فاعله ، وهو ترجیع الصوت ومدّه ، وکذا یُفَسَّقُ سامعه قاصداً ، سواء کان فی قرآن أو شعر ، ویجوز الحداء»(6) .

وقال فی تلخیص المرام فی تعریفه : « مدّ الصوت بالترجیع واستماعه فی قرآن

ص:268


1- (7) مجمع البحرین / 67 الطبع الحجری و1 / 321 الطبعة الحدیثة .
2- (1) المنجد / 590 .
3- (2) شرائع الإسلام 4 / 117 .
4- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 251 المسألة 6629 .
5- (4) إرشاد الأذهان 2 / 156 .
6- (5) قواعد الأحکام 3 / 495 .

وغیره»(1) .

وقال الشهید فی شهادات الدروس : « ... والمغنّی بمدّ صوته المطرب المرجّع وسامعه ، وإن کان فی قرآن أو اعتقد إباحته ، ویجوز الحُداء وشبهها ... »(2) .

وقال الشیخ شمس الدین محمد بن شجاع القطان الحلی فی شهادات « معالم الدین فی فقه آل یاسین» : « الغناء : وهو مدّ الصوت المطرب وإن کان ورُخصّ الحِداءُ للإبل وغیرها»(3) .

وقال المحقق الثانی : « الغناء : هو ممدود - ثمّ نقل تعریف الشهید وأضاف - : ولیس مطلق مدّ الصوت محرّماً وإن مالت القلوب إلیه ما لم ینته إلی حیث یکون مطرباً بسبب اشتماله علی الترجیع المقتضی لذلک ... »(4) .

وقال ثانی الشهیدین : « الغناء - بالمد - مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، فلا یحرم بدون الوصفین - أعنی الترجیع مع الإطراب - وإن وُجد أحدهما . کذا عرّفه جماعة من الأصحاب(5) ، وردّه بعضهم(6) إلی العرف ، فما سمّی فیه غناء یحرم وإن لم یطرب ، وهو حسنٌ . ولا فرق فی ذلک بین کونه فی شعر وقرآن وغیرهما ... »(7) .

وقال فی شهاداته : « الغناء عند الأصحاب محرَّم ، سواء وقع بمجرد الصوت أم انضمّ إلیه آلة من آلاته ... والمراد بالغناء الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، کذا فسّره به المصنف رحمه الله وجماعة ، والاُولی الرجوع فیه إلی العرف فیما یُسمی فیه غناءً یحرم ، لعدم ورود الشرع بما یضبطه ، فیکون مرجعه إلی العرف . ولا فرق بین وقوعه بشرعٍ وقرآن وغیرهما ،

ص:269


1- (6) تلخیص المرام فی معرفة الأحکام / 311 للعلامة الحلی .
2- (7) الدروس الشرعیة 2 / 126 .
3- (8) معالم الدین فی فقه آل یاسین 2 / 388 .
4- (1) جامع المقاصد 4 / 23 .
5- (2) کالمحقق والعلامة والشهید فی الشرائع والتحریر والإرشاد والدروس کما مرّ کلامهم .
6- (3) کالفاضل المقداد فی التنقیح الرائع 2 / 11 .
7- (4) مسالک الأفهام 3 / 126 .

وکما یحرم فعل الغناء یحرم استماعه کما یحرم استماع غیره من الملاهی ... »(1) .

أقول : ذکر نحو هذا البیان فی الروضة البهیة(2) وفی حاشیته علی الشرائع(3) وقال فی حاشیته علی الإرشاد : معلّقاً علی قول العلامة : « مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب» « أو ما یُسمی فی العرف غناءً وإن لم یطرب»(4) .

وقال المحقق الأردبیلی : « قوله « والغناء» قیل : هو - بالمد - مدّ صوت الإنسان المشتمل علی الترجیع المطرب ، الظاهر أنّه لا خلاف حینئذٍ فی تحریمه وتحریم الاُجرة علیه وتعلّمه وتعلیمه واستماعه . وردّه بعض الأصحاب إلی العرف ، فکلّ ما یُسمّی به عرفاً فهو حرام ، وإن لم یکن مشتملاً علی الترجیع ولا علی الطرب .

دلیله : أنّه لفظ ورد فی الشرع تحریم معناه ، ولیس بظاهر له معنی شرعی مأخوذ من

الشرع ، فیحال إلی العرف . والظاهر أنّه یُطلق علی مدّ الصوت من غیر طرب ، فیکون حراماً ، إذ یصحّ تقسیمه إلی المطرب وعدمه ، بل ولا یبعد إطلاقه علی غیر المرجّع والمکرر فی الحلق ، فینبغی الاجتناب ، والأوّل أشهر . ولعلّ وجهه أنّ الذی علم تحریمه بالإجماع هو مع القیدین وبدونهما یبقی علی أصل الإباحة ، ولکنّ مدلول الأدلة أعمٌّ ، مثل : المغنیة ملعونة وملعون مَنْ أکل ثمنها»(5) .

قال صاحب الحدائق : « الغناء - بالمد ککساء - قیل : هو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، فلا یحرم بدون الوصفین ، أعنی الترجیع والإطراب ، کذا عرّفه جماعة من الأصحاب ، والطرب : خفة تعتریه تسرّه أو تحزنه .

وردّه بعضهم إلی العرف ، فما سُمی فیه غناءٌ یحرم وإن لم یطرب ، واختاره فی المسالک

ص:270


1- (5) مسالک الأفهام 14 / 179 و 180 .
2- (6) الروضة البهیة 3 / 212 .
3- (7) حاشیة الشرائع / 327 للشهید الثانی .
4- (8) حاشیة الإرشاد للشهید الثانی المطبوعة ضمن غایة المراد 4 / 109 ، ومستقلاً / 381 .
5- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 57 .

وغیره ، وهو المختار ، ولا خلاف فی تحریمه فیما أعلمُ ... »(1) .

ثم قال صاحب الحدائق فی حاشیة کتابه : « وممّن صرح بما اخترناه هنا الفاضل المولی محمد صالح المازندرانی فی شرح الاُصول حیث قال - بعد الکلام فی الغناء - : وعرّفه جماعة من أصحابنا بالترجیع المطرب ، فلا تتحقق ماهیته بدون الترجیع والإطراب ولا یکفی أحدهما ، وردّه بعضهم إلی العرف ، فما سمّاه أهل العرف غناءً حرامٌ ، أطرب أم لم یطرب . ولا یخلو من قوة ، لأنّ الشائع فی مثله ممّا لم یعلم معناه لغةً ولم یظهر المقصود منه شرعاً هو الرجوع إلی العرف»(2) .

وقال المحقق السبزواری : « الغناء : وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب علی ما قاله بعضهم ، وبعضهم اقتصر علی الترجیع ، وبعضهم علی الإطراب من غیر ذکر الترجیع ، ومن العامة مَنْ فسّر بتحسین الصوت ، ویظهر ذلک من بعض عبارات أهل اللغة ، والظاهر أنّ الغالب لا ینفک التحسین من الوصفین المذکورین . ومنهم من فسّر بمدّ الصوت . ومنهم من قال : من رفع صوتاً ووالاه فهو غناءٌ . ولعلّ الإطراب والترجیع مجتمعان غالباً . وقیل : ما یُسمی غناء عرفاً وإن لم یشتمل علی القیدین»(3) .

وقال الوحید البهبهانی فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان : « وقیل : الُمحْزِن داخل

فی المطرب ، وقیل : مدّ الصوت ، ومنهم من اقتصر علی الصوت المشتمل علی الترجیع ، ومنهم من اقتصر علی المطرب ، وقیل : هو تحسین الصوت ، وقیل : رفع الصوت مع موالاته ، والأظهر الرجوع إلی العرف لتقدّمه علی اللغة عند التعارض علی الأظهر ، سیما مع الاضطراب فی اللغة ، فتأمل»(4) .

وقال أیضاً : « النوحة لیس غناءً فی العرف وإن اشتمل علی ترجیع ما ، فتأمل»(5) .

ص:271


1- (2) الحدائق 18 / 101 .
2- (3) الحدائق 18 / 101 .
3- (4) الکفایة 1 / 428 .
4- (1) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 27 .
5- (2) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 27 .

قال الشیخ جعفر : « والغناء من مقولة الأصوات کما یظهر من کثیر من اللغویین والفقهاء ، أو من کیفیاتها کما یظهر من الأکثر من الجانبین ، ولعلّه الأقوی ولیس اختلاف کلامهم فی تفسیره - حیث قیل : مدّ الصوت ، أو ترجیعه أو إطرابه أو تحسینه أو رفعه وموالاته أو مدّه وتحسینه أو مدّه وترجیعه أو تحسینه وترقیقه أو ترجیعه وإطرابه أو مدّه وترجیعه وإطرابه إلی غیر ذلک ، أو الصوت مقیداً بالطرب أو الرفع والموالاة أو الترجیع والإطراب إلی غیر ذلک - مبنیّاً علی التعارض حتّی ینظر فی التعادل ویرجّح الأکثر أو الأبصر أو علی الجمع ، فیؤخذ بالجامع للصفات لأنّه المتیقَّن ، والأصل جواز ما عداه ، أو الجمیع عملاً بقول المثبت فیما أثبته ورداً للنافی فیما نفاه ، بل إنّما قصدهم - کما لا یخفی علی مَنْ مارس کلامهم فی بیانهم لمعانی الألفاظ الشائعة المشهورة - الدوران حول العرف والإشارة إلیه ، وبیان المعنی العام لیحترز عن إدخاله فی جنس آخر ، کبیان أنّ الغناء من مقولة الأصوات أو کیفیاتها ، وسعدانة من مقولة النبات ونحو ذلک ، ولذا لاتری بینهم معرکة ونزاعاً مع اختلاف العبارات وتفاوت الکلمات ، فلم یبق سوی الرجوع إلی العرف الذی هو المرجع والمفزع فی فهم المعانی من المبانی ، وهو لایکال بمکیال ولایوزن بمیزان ، فقد تراه یری تحقق الغناء فی صوت خال عن الحسن والرّقة مشتمل علی الخشونة والغلظة ، وفی خال عن المدّ مشتمل علی التقطیع والتکسیر ، وفی خال عن الترجیع متصف بالخفاء ، وفی مهیّج للطرب بمعنی الخفة المقرونة بالإنشراح واللّذة ، وفی مقرِّح للفؤاد مهیّج علی البکاء للعشّاق إلی غیر ذلک ، فلیس للفقیه الماهر سوی الرجوع إلیه والتعویل علیه . ولو فرض ثبوت المعنی اللغوی فالعرف مقدّم علیه . وإذا أشکلت علیه الاُمور لاضطرابه ، رجع إلی أصل إباحته إن کان من أهلها أو إلی الأخذ بحائطته إن کان من أهلها»(1) .

ولکن خالف الفقیه المتتبع السید جواد العاملی اُستاذه واختار المعنی المشهور عنده مع القیدین - أعنی الترجیع والإطراب - وقال : « ... إنّ المعنی المشهور [ مع القیدین ] لا یحکم العرف بسواه ، ویرشد إلی ذلک أنّ جماعة ممّن عرّفه کالمحقق فی شهادات الشرائع والمصنف

ص:272


1- (3) شرح القواعد 1 / (193 - 191) .

[ العلامة ] فی الکتاب [ القواعد ] والتحریر والإرشاد لم یذکروا له إلاّ المعنی المشهور ، وما ذاک إلاّ لأنّه هو الذی یحکم به العرف ، وإلاّ لکان الواجب علیهم الإحالة علی العرف کما تقتضیه قواعدهم ، لأنّه لفظ ورد من الشرع تحریم معناه ولم یعلم له معنیً شرعی فیحال علی العرف ، ولو کان له فی اللغة معنیً یخالفه ، لأنّ العرف العام یقدّم علیها فکیف یفسّرونه بمعنیً یخالف العرف ، إنّ ذلک لمستبعد منهم غایة البعد ... »(1) .

وقال سید الریاض : « الغناء وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب أو ما یُسمّی فی العرف غناءً وإن لم یطرب ، سواء کان فی شعر أو قرآن أو غیرهما علی الأصح الأقوی ... »(2) .

وقال الفاضل النراقی : « ... إنّ کلمات العلماء من اللغویین والاُدباء والفقهاء مختلفة فی تفسیر الغناء ، ففسّره بعضهم بالصوت المطرب ، وآخر بالصوت المشتمل علی الترجیع ، وثالث بالصوت المشتمل علی الترجیع والإطراب معاً ، ورابع بالترجیع ، وخامس بالتطریب ، وسادس بالترجیع مع التطریب ، وسابع برفع الصوت مع الترجیع ، وثامن بمدّ الصوت ، وتاسع بمدّه مع أحد الوصفین أو کلیهما ، وعاشر بتحسین الصوت ، وحادی عشر بمدّ الصوت وموالاته ، وثانی عشر- وهو الغزالی(3) - بالصوت الموزون المفهم المحرّک للقلب . ولا دلیل تاماً علی تعیین أحد هذه المعانی أصلاً .

نعم ، یکون القدر المتیقّن من الجمیع المتفق علیه فی الصدق - وهو : مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب الأعم عن السارّ والمحزن المفهم لمعنی - غناء قطعاً عند جمیع أرباب هذه الأقوال ، فلو لم یکن هنا قول آخر یکون هذا القدر المتّفق علیه غناءً قطعاً .

إلاّ أنّ بعض أهل اللغة فسّره بما یقال له بالفارسیة : « سرود » ، أیضاً ، وحکی عن الصحاح أنّه قال : الغناء هو ما یسمّیه العجم ب- « دو بیتی » .

وقال بعض الفقهاء : إنّه یجب الرجوع فی تعیین معناه إلی العرف .

ص:273


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 169 .
2- (2) ریاض المسائل 8 / 155 .
3- (3) إحیاء علوم الدین 2 / 270 .

ولا یخفی ما فی معنی الأولین من الخفاء ، فإنّ « سرود» و« دو بیتی » لیس بذلک الإشتهار فی هذه الأعصار بحیث یتّضح المراد منها ، ویمکن أن یکون هذا متحداً مع أحد المعانی المتقدمة .

ویحتمل قریباً أن یکون لِلّحن وکیفیة الترجیع مدخلیّة فی صدقهما ، ویشعر به ما فی روایة عبد اللّه بن سنان(1) الآتیة الفارقة بین لحن العرب ولحن أرباب الفسوق والکبائر .

ویؤیده أیضاً ما قد یُفسّر ب- « سرود» من أنّه ما یقال له بالفارسیة « خوانندگی » ، وقد یُفسّر الغناء بذلک أیضاً ، فإنّ التعبیر ب- « خوانندگی » فی الأغلب إنّما یکون بواسطة الألحان والنغمات .

وکذا الثالث فإنّ فیه خفاءً أیضاً ، فإنّه لا عرف لأهل العجم فی لفظ الغناء ومرادفه من لغة الفرس غیر معلوم ، وعرف العرب فیه غیر منضبط ، وقد یُعبَّر عنه أیضاً ب- « خوانندگی » وهو غیر ثابت أیضاً .

ولأجل هذه الإختلافات یحصل الإجمال غایته فی معنی الغناء ، ولکنّ الظاهر أنّ القدر المتیقَّن المذکور من المعانی الإثنی عشریة - سیما إذا ضمّ معه اللحن الخاص المعهود الذی یستعمله أرباب الملاهی ویتداول عندهم ویعبّر عنه الآن عند العوام ب- « خوانندگی » یکون غناءً قطعاً ، سواء کان فی القرآن والدعاء والمراثی أو فی غیرها ... »(2) .

قال صاحب الجواهر : « إنّما الکلام فی موضوعه ، ففی جملة من کتب الأصحاب أنّه مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، بل ربّما قیل أنّه المشهور ، وفی القاموس غناء ککساء من الصوت ما طرب به ، وفی شهادات القواعد وبعض کتب اللغة ترجیع الصوت ومده ، وعن الشافعی أنّه تحسین الصوت وترقیقه ، وفی محکی النهایة أنّ کل من رفع صوتاً ووالاه فصوته عند العرب غناء ، وعن السرائر والإیضاح أنّه الصوت المطرب ، وعن بعض أنه مدّ الصوت ، وعن المصباح المنیر أنه الصوت ، إلی غیر ذلک من کلمات أهل اللغة التی یقطع الماهر بملاحظتها

ص:274


1- (1) وسائل الشیعة 6 / 210 ح 1 . الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 126 .

بکون المراد منها ، بیان أن الغنی [ الغناء ] من هذا الجنس ، نحو قولهم « سُعدانة نبت » ، ضرورة عدم خلو غالب الأصوات فی قراءة القرآن والأدعیة والخطب والشعر فی جمیع الأعصار والأمصار من العلماء وغیرهم ، من تحسین ومدّ وترجیع فی الجملة ، کما لا یخفی علی من له أدنی معرفة وإنصاف ، فیعلم کون المراد کیفیة خاصة منها موکولة إلی العرف ، کما هی العادة فی بیان

أمثال ذلک . نعم لا عبرة بعرف عامة سواد الناس ، فإنّه الآن مشتبه قطعاً ، لعدهم الکیفیة الخاصة من الصوت فی غیر القرآن والدعاء وتعزیة الحسین علیه السلام غناءً ، ونفی ذلک عنها فیها ، وما ذاک إلا اشتباهه للقطع بعدم مدخلیة خصوص ألفاظ فیه ، لما عرفت أنه کیفیة خاصة للصوت بأی لفظ کان . ودعوی التزام جواز ذلک فیها وإن کان غناءً فی غیرها - لاطلاق ما دل علی الأمر بها(1) الشامل لهذه الکیفیة الخاصة ، بل جاء فی خصوص القرآن الأمر بالتغنی فیه ، وما یقتضی بجواز الغناء فیه - واضحة الفساد ، لمعلومیة تحکیم النهی فی أمثال ذلک ولیس من تعارض العموم من وجه المحتاج إلی ترجیح ، بل فهم أهل العرف کافٍ فیه ، نحو العام والخاص والمطلق والمقید ، وإلا لتحقق التعارض من وجهٍ بین ما دلّ علی قضاء حاجة المؤمن مثلاً ، والنهی عن اللواط والزنا والکذب وغیرها من المحرّمات ، المعلوم بطلانه بضرورة الشرع أنّه لا یطاع من حیث یعصی . وما ورد فی خصوص القرآن - بما لا ریب فی قصوره عن معارضة ما دلّ علی الحرمة من وجوه مطرح أو مأوّل أو موضوع . خصوصاً بعد قوله علیه السلام « اقرؤا القرآن بألحان العرب وإیّاکم ولحون أهل الفسوق فإنّه سیجیء قوم یرجّعون القرآن ترجیع الغناء»(2) .

نعم ، قد یحتمل إرادته إختصاص الغناء بالصوت المشتمل علی التحسین بالمدِّ والترجیع المتخذ للهو وانشراح النفس و الطرب ، کما عساه یؤمی إلیه لهو الحدیث وأخذ الطرب فی تعریفه ، ومعروفیة مجالس الغناء بذلک ، بعد العلم بعدم زیادتها فی المدِّ والترجیع علی ما یُستعمل فی غیرها ، ممّا لم یرد به اللهو کالتعزیة والأذان وغیرهما .

ص:275


1- (1) الوسائل 6 / 211 و 212 ح 5 و 6 . الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .
2- (2) الوسائل 6 / 210 ح 1 . الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .

وقد یؤید بما ذکر فی استثناء النوح منه ، من أنه لیس داخلاً فی موضوعه باعتبار مقابلة النوح له عرفاً ، وما ذاک إلا لعدم اتخاذ اللهو به . لکنّه أیضاً لا یخلو من إشکال ، ضرورة عدم اعتبار ذلک فی حقیقته وإن تعارف استعماله فی مجالس اللهو ، وإلا فربّما کان من أفراد الغناء الأصوات المشجیة والمثیرة للحزن والبکاء ، کما یستعمله العشاق فی فقد المحبوب وعدم نیل المطلوب ، وهو مع ذلک نوع من الطرب ،ولذا حکی عن القاموس التصریح بفساد وهم من خص الطرب بالسرور ، وأنّه قول العوام . والتحقیق الرجوع فی موضوعه إلی العرف الصحیح الذی لا ریب فی شموله للمقامات المعلومة وشعبها المعروفة عند أهل فنّها ، بل لا ریب فی تناوله لغیر ذلک ممّا یستعمله سواد الناس من الکیفیات المخصوصة ، بل الورع یقتضی إجتناب

جمیع الأفراد المشکوک اندراجها فی موضوعه ، وإن کان الأصل یقتضی الإباحة فی شبهة الموضوع الراجعة إلی شبهة الحکم»(1) .

قال العلاّمة الجد آیة اللّه الحاج الشیخ محمد حسین النجفی الأصفهانی قدس سره المتوفی عام 1308 فی تفسیره بهذا الشأن : « قد یکون حسن الصوت طبیعیّاً منشؤه کون آلات التنفّس والتکلّم بحیث یصدر عنه الکلام حسناً وملائماً مناسباً لسمع السامعین بحیث یستلّذ به السامع ، کما أنّها قد تکون علی خلاف ذلک بحیث یخرج منه الکلام علی وجه تشمئز منه النفوس ؛ کصوت الحمار . وهذا فی الصوت کالحسن والقبح فی الوجه وغیره من سائر الأشیاء . وقد یکون اختیاراً ناشئاً من طرف المادّة باعتبار إخراج الحروف من ألیق حدود مخارجها بها علی وجه متناسب ، کما یشاهد فی بعض القرّاء ، أو من طرف الهیئات العارضة للحروف ، المحسّنة لها ، المزیّنة إیّاها ، باعتبار الإنفراد والتألیف مع غیرها بحیث یمیل إلی معروضها نفس السامع ، کما یعرض القبح للکلام بالاعتبارین ، کماهو المشاهد من بعض الناس . وقد یکون اختیاریّاً ناشئاً من ترجیع الصوت وتردیده بکیفیّات خاصّة ، بحیث تؤثر فی النفس سرور أو حزناً ، مع قطع النظر عن مادّة الحروف والکلمات وهیئاتها العارضة لها ، بل هو خارج عنها أصلاً ، بل ربّما یؤثّر تأثیرها فی نفس السامع مع عدم سماعه لجوهر الکلام .

ص:276


1- (1) الجواهر 22 / (47 - 45) .

وبیان هذا النمط من الحسن وهو الذی تکفّل له علم الموسیقی المعدود من أجزاء علم الحکمة ، وله أقسام وقواعد مسطورة فیه .

ولا یبعد أن یکون هذا القسم بالخصوص هو المراد بالغناء الذی ورد عنه النهی فی الأخبار وأفتی بحرمته العلماء ، ویُشبه أن یکون موضوعه ظاهراً عند أهله ومن له بصیرة بهذا الشأن ، ولو فی الجملة ؛ إذ لیس کل من یعرف حسن الشیء من قبحه یقدر علی صناعته ، کما یظهر بین الخط الحسن والقبیح ، والبناء الحسن من القبیح . والظاهر أنّ هذا من الکیفیّات العارضة للصوت ؛ کعروض هیئة الشعر علی الکلمات فی تعیّنه واقعاً ، وانقسامه إلی أقسام محصورة فی الواقع ، ومعرفته من لا یقدر علی إحداثه ، واختلاف الصانعین فی جودة الطبع وعدمها ، ومقدار الاکتساب . وهذه الکیفیّة هی ترجیع خاص معهود ، ومطرب مؤثّر فی النفس سروراً أو حزناً ، وهو المراد ب- « خوانندگی » ، ونحوها إن أرید بها وما یشبهها المعانی المعهودة عند أهل الخبرة بهذا الشأن .

وهیهنا نوع آخر من حسن الصوت بالقرآن یحصل من حال القارئ إذا ترقّی فی مقامات القراءة من هذا العالم إلی عالم السرور والبهاء والقدس ، فإنّه یُحدِثُ لقراءته ملاحةً وحسناً ، ویتلبّس بها کلامه بحیث یبتهج به السامع ابتهاجاً روحانیّاً لصدوره من عالم البهجة والحسن والجمال ، وظهور حال المتکلّم وصفاته فی الکلام ، کما یظهر حزنه وسروره فیه بحیث سری منه إلی السامع ، کما یؤثّر الغناء فی ذلک ، وکما أنّه إذا خرج عن القلب دخل فی القلب . ویُشبه أن یکون هذا النمط من الحسن هو ما کان لداود وعلیّ بن الحسین والباقر علیهم السلام علی ما روی فی الأخبار ، أو نمط أعلی من ذلک یشابهه فی الروحانیّة ، وذلک بخروج القرآن عن لسان المتکلّم علی ما هو علیه من البهاء والکمال الروحانی ، أو عن مبدئه الّذی له الجمال المطلق .

وممّا ذکر یظهر أنّه لا یختصّ تحسین الصوت بالقرآن والترجیع به بالتغنّی به ، بل لیس لتلک الأخبار الواردة ظهور تامّ فی جوازه فضلاً عن رجحانه ، فالخروج بها عن إطلاق ما دلّ علی حرمته جرأة تامّة ، خصوصاً بملاحظة ما رواه الکلینی بسنده عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر ! فإنّه سیجیء من بعدی أقوام یرجّعون القرآن ترجیع الغناء

ص:277

والنوح والرهبانیّة ، لا یجوز تراقیهم ، قلوبهم مقلوبة وقلوب من یعجبه شأنهم»(1)(2) .

وقال ولده العلاّمة آیة اللّه أبو المجد الشیخ محمد الرضا النجفی الاصفهانی قدس سره فی رسالته الخاصة بهذا الموضوع : « الروضة الغنّاء فی تحقیق معنی الغناء» : « الغناء : صوت الإنسان الذی من شأنه إیجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس .

والطرب : هو الخفة التی تَعْتَری الإنسان فتکاد أن تذهب بالعقل وتفعل فعل المسکر لمتعارف الناس أیضاً ... ثمّ قال بعد صفحة : تقیید الصوت بصوت الإنسان لیس إلاّ لمتابعة العرف الذی هو المرجع فی معرفة موضوع الأدلة ، فإنّ أصوات البلابل وإن تناسبتْ وأطربتْ لا تُسمّی غناءً .

وبقید التناسب یخرج ما أوجب الطرب بغیره من حسن الصوت اللغوی ذاتاً أو لحسن

صاحبه أو لحسن ألفاظه ومعانیه ونحو ذلک .

وبقید المتعارف یخرج الخارج عنه ، فلا اعتبار بمن هوکالجماد لا یُطْربُه أحسن الألحان ، کما أنّه لا اعتبار بمن یطرب بأدنی سببٍ ، والحال فیه کالحال فی المسکر ... .

وبقولی : « فتکاد أن تذهب الخ» یخرج الطرب الخفیف ، إذ لا اعتبار به کما لا اعتبار بالفرح والنشاط الحاصلین من المشروبات المفرّحة ما لم یبلغ مرتبة یزیل العقل عن المتعارف . وبالجملة : الطرب فی الغناء کالسکر فی الشراب ، والعلّة فی تحریمه عین العلّة فیه ، وهو إزالة العقل . ومن فسّر الغناء بالإطراب وما یشتق منه فلقد أحسن وأصاب ، فمراده هو الذی عرفت لا مطلق الطرب ... .

وفذلکة القول : أنّ الغناء هو الصوت المتناسب الذی من شأنه بما هو متناسب أن

ص:278


1- (1) الکافی ج 2 ، باب ترتیل القرآن بالصوت الحسن ، ص 614 ، ح 3 ؛ ورواه أیضاً الطبرسی قدس سره فی مجمع البیان ، ج 1 ، المقدمة ، الفن السابع ، ص 16 ، عن حذیفة بن الیمان ، عنه صلی الله علیه و آله وسلم ؛ والشیخ البهائی قدس سره فی کشکوله ، ج 2 ، ص 16 ، مرسلاً عن أبی عبد اللّه علیه السلام عنه صلی الله علیه و آله وسلم ؛ وهکذا فی الوسائل 6 / 210 ح 1 ، باب 24 من أبواب قراءة القرآن .
2- (2) مجد البیان فی تفسیر القرآن / (185 - 183) .

یوجد الطرب ، أعنی الخفة بالحدِّ الذی مرّ ... »(1) .

ومن عجیب التعاریف للغناء ما نسب إلی المؤسس الحائری من دخالة القصد فیه وقال : « ... قد یکون المقصود الأصلی للإنسان قراءة القرآن أو الدعاء أو المرثیة ، فیقصد تبعاً لهذا المقصود علی الوجه الأتم إلی تحسین صوته وترجیعه وترقیقه عند قراءته ، وقد یکون الأمر بالعکس . فالمقصود الأصلی إظهار حسن الصوت لأجل أن یتفرّج به نفسه والحاضرون ، فیتوسّل إلی تمشیة هذا المقصود إلی قراءة القرآن أو دعاء أو مرثیة أو أشعار من المثنوی وغیره ... فالمدعی شهادة الوجدان والعرف بالفرق بین هذین القسمین فی التسمیة باسم الغناء ... ولو فرض إتحاد القسمین فی جمیع کیفیات الصوت وکونهما بمرتبة واحدة مِنْ الحُسن ، ومن المعلوم عدم تأتی الفرق بینهما حینئذ إلاّ مِنْ قبل إصالیة القصد وتبعیته» .

ثمّ استدرک علی نفسه بعد صفحة : « نعم ، لا مضایقة من کون بعض أفراد الصوت غناءً بحسب الذات لا یتغیر عن الغنائیة ولو فیما کان المقصود الأصلی هو المقروء ، کما لا یبعد ذلک فی ما یُسمی ب- « تصنیف» ، لکن ما ذکرنا من الدوران مدار القصد هو الشائع فی غالب الأصوات الحسنة»(2) .

وأخذ المحقق الایروانی فی تعریف الغناء المحرَّم أربعة اُمور : « بطلان الکلام فی معناه وهواشتماله علی المدّ ، ثمّ الترجیع ، ثمّ الإطراب ، فإذا ارتفع أحد الأربع ارتفع التحریم»(3) .

وقال المحقق الخوئی : «- إنّ الغناء المحرَّم عبارة عن الصوت المرجع فیه علی سبیل اللهو ، فکلّ صوت کان صوتاً لهویاً ومعدوداً فی الخارج من ألحان أهل الفسوق والمعاصی فهو غناء محرّم ... ثمّ إنّ الضابطة المذکورة إنّما تتحقق بأحد أمرین علی سبیل مانعة الخلو :

الأوّل : أن تکون الأصوات المتصفة بصفة الغناء مقترنة بکلام لا یُعدّ عند العقلاء إلاّ باطلاً ، لعدم اشتماله علی المعانی الصحیحة ، بحیث یکون لکلِّ واحد من اللحن وبطلان المادّة

ص:279


1- (1) الروضة الغناء فی تحقیق معنی الغناء ، المطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المکتوبة فی الغناء والموسیقی 2 / (1514 - 1508) طبع قم نشر مرصاد عام 1418 ق .
2- (2) المکاسب المحرمة / (168 - 166) .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 179 .

مدخل فی تحقق معنی السماع والغناء ... .

الثانی : أن یکون الصوت بنفسه مصداقاً للغناء وقول الزور واللهو المحرّم ، کألحان أهل الفسوق والکبائر التی لا تصلح إلاّ للرقص والطرب ، سواء تحققت بکلمات باطلة أم تحققت بکلمات مشتملة علی المعانی الراقیة کالقرآن ونهج البلاغة والأدعیة ، نعم : وهی فی هذه الاُمور المعظمة وما أشبهها أبغض لکونها هتکاً للدین بل قد ینجر إلی الکفر والزندقة ... وعلی الجملة لا ریب أنّ للصوت تأثیراً فی النفوس ، فإن کان إیجاده للحزن والبکاء وذکر الجنة والنار بقراءة القرآن ونحوه لم یکن غناء لیحکم بحرمته ، بل یکون القارئ مأجوراً عند اللّه ، وإن کان ذلک للرقص والتلهی کان غناءً وسماعاً ومشمولاً للروایات المتواترة الدالة علی حرمة الغناء واللّه العالم»(1) .

وقال المحقق الخمینی قدس سره تبعاً لأستاذه جدنا أبی المجد قدس سره فی تعریف الغناء : « بأنّه صوت الإنسان الذی له رقة وحسن ذاتی ولو فی الجملة وله شأنیّة إیجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس ، فخرج بقید الرقة والحسن صوت الأبحّ الردیء الصوت . وإنّما قلنا له شأنیة الإطراب ، لعدم اعتبار الفعلیة بلا شبهة ... وقید التناسب لأجل أن الصوت الرقیق الرخیم إن لم یکن فیه التناسب الموسیقی لا یکون مطرباً ولا غناءً بل لا یتصف بالحسن حقیقة ، فالمدّ الطویل لایکون غناءً ولامطرباً ولو کان فی کمال الرقة والرخامة ... »(2) .

وقال الفقیه السبزواری : « ... إنّ الغناء لها إضافة إلی الصوت وإضافة إلی السامع ولابدّ وأن یشیر فی تفسیره إلی الإضافتین فهی : کیفیة خاصة فی الصوت طبیعیّاً کانت أو صناعیة توجب نحو طرب فی السامع یناسب مجالس اللهو ومحافل الاستئناس والفرح ویلائم مع آلات الملاهی واللعب .

والطرب والفرح أیضاً من الوجدانیات التی تدرک ولا توصف ، فیُسمی المغنیین والمغنیّات بالمطربین والمطربات ، کما یوصف نفس الأصوات أیضاً یقال : أطربنا غناء فلان أو

ص:280


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / (313 - 311) .
2- (2) المکاسب المحرمة 1 / 202 .

فلانة ، بل یطلق علی المرأة الحلوة الجمیلة لفظ « طروب» أیضاً إطلاقاً شائعاً . والطرب هو الإهتزاز فرحاً ... والطرب والفرح بحسب أصل اللغة والوجدان أعم من أن یکون ما یحصل منه حلالاً أو حراماً ، اختیاریاً أو غیر اختیاریٍ .

ثمّ إنّ المنساق ممّا ورد فی تفسیر قول الزور ولهو الحدیث ... إنّما هو کیفیة الصوت بالکیفیات الخاصة ، بقرینة تفاهم العرف من تلک الروایات لا خصوصیات الکلمات التی یتغنی بها .

نعم ، لو کانت تلک الکلمات معنونة بالعناوین الباطلة - کالکذب - وما یوجب تهییج الشهوة المحرَّمة ونحو ذلک من المفاسد تحرم من تلک الجهات أیضاً .

الثانیة : النسبة بین مجرد تحسین الصوت والغناء المحرَّم عموم من وجه ، إذ ربّ صوت حسن لا ینطبق علیه الغناء المحرّم ، وربّ غناء محرّم لا ینطبق علیه الصوت الحسن ، لأن لحسن الصوت مراتب کثیرة جداً ، وکذا الطرب والترجیع والغناء أیضاً لها مراتب کثیرة علی ما یشهد به الوجدان وفصّل فی الفنون المعدة لذلک .

الثالثة : المرجع فی تشخیص هذا الموضوع أهل الخبرة ومتعارف الناس کما صرح به فی الجواهر ، ومع الشک فی الصدق فمقتضی الأصل الموضوعی والحکمی عدم الغناء وعدم الحرمة من حیث الصوت ، وأما من حیث الآت اللهویة المحفوفة به فتحرم من تلک الجهة ، ولکن الأحوط الاجتناب فی الشبهة الموضوعیة أیضاً»(1) .

وقال شیخنا الاُستاذ - مدظله - : « لا ینبغی التأمل فی کون الغناء عرفاً هی الکیفیة للصوت ، ولا دخل فی صدقه بطلان معنی الکلام وعدمه ، ولذا مَنْ سمع مِنْ بعید صوتاً یکون فیه الترجیع الخاص المناسب للرقص وضرب الأوتار یحکم بأنّه غناءٌ وإن لم یتمیّز عنده مواد الکلام ولعلَّ . هذا هو المراد مِنْ قولهم : بأنّه مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، بأن یکون مرادهم تطویل الصوت بنحو خاصٍ ، أی تطویله بترجیعه وتردیده فی الحلق ، بنحو یقتضی الطرب ، أی یناسبه . والطرب حالة تعرض النفس من شدّة الفرح والحزن ، وحقیقته

ص:281


1- (1) مهذب الأحکام 16 / 115 و 114 .

خروج النفس عن اعتدالها ، ولذا ربّما یفعل الإنسان فی ذلک الحال ما لا یفعله فی غیره ، وعلی

کلٍّ فإن أحرز فی مورد کون الکیفیة غناءً فهو وإلاّ فمقتضی الأصل الإباحة ... »(1) .

أقول : هذا ما ذهب إلیه شیخنا الأستاذ الفقیه آیة اللّه المیرزا جواد التبریزی - مدظله العالی - فی بحث مکاسبه وما کتبه فی إرشاده ، ولکن فی بحثه عن کتاب الشهادات عدل عنه وأخذ فی تعریف الغناء بطلان معنی الکلام ومضمونه ومحتواه بحیث لو لم یکن باطلاً لم یصدق علی الصوت أنّه غناءٌ علی ما کتبته من تقریرات بحثه فی کتاب الشهادات(2) ، ولکن لم یدرجه فی کتابه « اُسس القضاء والشهادات » المطبوع ، ولعلّ هذا أمارة عدوله عنه .

والمختار من مجموع ما ذکرناه من کلمات اللغویین والفقهاء والأعلام : أنّ الغناء کیفیة خاصة للصوت ، وهی : « صوت الإنسان الذی من شأنه إیجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس»(3) أو ما یُسمی فی العرف غناءً ، وربّما یقارن بأشیاء اُخری نحو : المدّ والترجیع ورفع الصوت ، وبطلان المحتوی ومضمون الکلام ومعناه ، وآلات الملاهی والمعازف وغیرها .

والطرب : هو الخفة التی تعتری الإنسان من شدّة الفرح أو الحُزن وتوجب خروج النفس عن اعتدالها فتکاد أن تذهب بالعقل ، ولذا ربّما یفعل حینئذ ما لا یفعله فی غیر هذه الحالة . والمراد به شأنیة إیجاد الطرب لا فعلیته ، فلا فرق بین الطرب القلیل أو الکثیر .

وأخذ التناسب فی التعریف یُخرج ما اُوجب الطرب بغیره من حسن الصوت ذاتاً أو حسن ألفاظه ومعانیه أو حسن صاحبه ونحوها .

وقید « ما یُسمی فی العرف غناءً » یدخل کلّما یخرج من تعریفنا - علی فرض وجوده - والعرف الصحیح یعترفون بأنّه غناء ، وظهر منه أنّ المدار الأصلی فی صحة تعریف الغناء هو العرف لا هذا التعریف المذکور ، وهو إنّما یعتبر کالعون للعرف لا کَلاًّ علیه بحیث یمکنه معارضته ، فالحکم حکم العرف لو فارقه .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ الغناء کیفیّة للصوت والمحتوی ومضمون الکلام لا یدخل فیه ، ولذا

ص:282


1- (1) إرشاد الطالب 1 / 179 .
2- (2) کتاب الشهادات / 32 بقلمی وهو مخطوط .
3- (3) هذا القسم من التعریف مأخوذ من جدنا أبی المجد فی رسالته « الروضة الغنّاء فی تحقیق معنی الغناء» .

یمکن التغنّی بالمضامین الحقّ ، نحو : القرآن الکریم ورثاء الحسین علیه السلام ومدح الأئمة علیهم السلام ونحوها .

نعم ، لو کان المضمون کِذباً أو تشبیباً بالمرأة أو تهییجاً للشهوة المحرَّمة ونحوها من المحرّمات ، یحرم من هذه الجهات أیضاً وصارت الحرمة مضاعفة .

هذا ما ظهر لنا مِنْ تعیین موضوع الغناء وتعریفه ، والأمر مؤکول إلی العرف فی البدایة والنهایة ، وبه نختم المقام الأوّل .

المقام الثانی : أدلة حرمة الغناء
اشارة

الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة الغناء :

1 - الإجماع

الأصحاب متفقون علی حرمة الغناء ومجمعون علی تحریمه ، ولعلّ أوّل من نبّه علی الإجماع هو شیخ الطائفة ، قال فی خلافه : « الغناء محرّم ، یفسق فاعله وتردّ شهادته . وقال أبوحنیفة ومالک والشافعی : هو مکروه .

وحکی عن مالک أنّه قال : هو مباح ، والأوّل هو الأظهر ، لأنّه سئل عن الغناء فقال : هو فعل الفسّاق عندنا .

وقال أبو یوسف : قلتُ لأبی حنیفة فی شهادة المغنّی والنائح والنائحة ؟ فقال : لا أقبل شهادتهم .

وقال إبراهیم بن سعد الزهری : هو مباح غیر مکروه ، وبه قال عبید اللّه بن الحسن العنبری .

وقال أبو حامد : ولا أعرف أحداً من المسلمین حرّم ذلک ولم أعرف مذهبنا .

دلیلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم ... »(1) .

ص:283


1- (1) الخلاف 6 / 305 مسألة 54 .

أقول : وهکذا ادعی الإجماع فی حرمة الغناء فی مسألة(1) بعد هذه المسألة وقال فی المبسوط : « ... فالغناء عندنا محرّم یفسق فاعله وتردُّ شهادته ، وقال بعضهم هو مکروه ... »(2) .

والمحقق الأردبیلی قال : « الظاهر أنّه لا خلاف حینئذٍ فی تحریمه وتحریم الاُجرة علیه وتعلّمه وتعلیمه واستماعه»(3) .

وقال المحقق السبزواری : « ولا خلاف عندنا فی تحریم الغناء فی الجملة»(4) .

وقال صاحب الحدائق : « لا خلاف فی تحریمه فیما أعلم»(5) .

وقال الشیخ جعفر : « هو [ أی الغناء ] وتعلّمه وتعلیمه بفعله لا بجنسه وفصله (واستماعه) مراعیّاً صفته أو لا ، دون مجرد سماعه (وأجر المغنیة) حرام لنفسه ، إجماعاً محصّلاً ومنقولاً نقلاً متواتراً ، ومَنْ حرّمه لأجل الملاهی ودخول الرجال علی النساء ونحوهما قائلاً بإباحته لنفسه(6) مخالف للإجماع بل الضرورة من المذهب ، لأنّ حاله کحال الزنا عند الإمامیة ... »(7) .

وقال سید الریاض بعد تعریف الغناء : « علیه إجماع العلماء کما حکاه بعض الأجلاء وهو الحجة»(8) .

وقال الفاضل النراقی : « الدلیل علیها [ أی علی حرمة الغناء ] هو الإجماع القطعی بل

ص:284


1- (2) الخلاف 6 / 307 مسألة 55 .
2- (3) المبسوط 8 / 223 .
3- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 57 .
4- (5) الکفایة 1 / 428 .
5- (1) الحدائق 18 / 101 .
6- (2) وهو الفیض الکاشانی فی مفاتیح الشرائع 2 / 21 مفتاح 465 .
7- (3) شرح القواعد 1 / 193 .
8- (4) ریاض المسائل 8 / 155 .

الضرورة الدینیة ... »(1) .

وقال السید العاملی : « وأمّا حکمه فلا خلاف کما فی مجمع البرهان فی تحریمه وتحریم الاُجرة علیه وتعلّمه وتعلیمه واستماعه ، سواء کان ذلک فی قرآن أو دعاء أو شعر أو غیرها ، حتّی قام المحدث الکاشانی والفاضل الخراسانی فنسجا علی منوال الغزالی وأمثاله من علماء العامة وخصّا الحرام منه بما اشتمل علی محرَّم من خارج مثل اللعب بآلات اللهو ودخول الرجال والکلام فی الباطل ... »(2) .

وقال صاحب الجواهر : « بلا خلاف أجده فیه بل الإجماع بقسمیه علیه ... »(3) .

وهذا المقدار یکفی فی ثبوت الإجماع علی حرمة الغناء ، نعم : یمکن الإشکال فیه بکونه مدرکیّاً .

ولا یبعد دعوی کون حرمة الغناء من ضروریات المذهب کما اعترف به الشیخ جعفر(4) والفاضل النراقی(5) ، فحینئذ یرتفع الإشکال ویتمّ الاستدلال .

2 - العقل

حیث أنّ الطرب الحاصل من الغناءِ کالسُکر الحاصل من الشراب وهما یوجبان إزالة العقل ولذا یفعل فی هذه الحالة أو شدّتها مالا یفعل فی غیرها ، فالعقل یحکم بالإجتناب عنه ولو فی بعض مصادیقه ، وبقاعدة الملازمة یجری الحکم الشرعی علی طبقه ، فالعقل حاکم بحرمة الغناء فی الجملة .

ولم أر أحداً من الأصحاب تعرض لهذا الإستدلال التام ، وللّه الحمد .

3 - الکتاب

خَمْسُ آیات من القرآن الکریم بضمیمة الروایات الواردة فی ذیلها تدلّ علی حرمته :

ص:285


1- (5) مستند الشیعة 14 / 129 .
2- (6) مفتاح الکرامة 12 / 172 .
3- (7) الجواهر 22 / 44 .
4- (8) شرح القواعد 1 / 193 .
5- (9) مستند الشیعة 14 / 129 .

الاُولی : قوله تعالی : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(1) .

قد ذکر فی عدّة من الروایات تفسیر قول الزور بالغناء .

منها : صحیحة زید الشحام قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» فقال : الرجس من الاُوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء(2) .

ومنها : صحیحة حماد بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل للذی یُغنّی : « أحسنت »(3) .

ومنها : صحیحة هشام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرجس من الأوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء ، الحدیث(4) .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه تبارک وتعالی : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الغناء(5) .

ومنها : صحیحة ابن أبی عمیر عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه

عزّ وجلّ : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الاُوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء(6) .

ومنها : خبر عبد الأعلی قال : سألت جعفر بن محمد علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الاُوثان

ص:287


1- (1) سورة الحج / 30 .
2- (2) الکافی 6 / 435 ح 2 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 881 ح 2 ومختصره فی وسائل الشیعة 17 / 303 ح 2 .
3- (3) معانی الأخبار / 349 ح 2 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 6 ووسائل الشیعة 17 / 309 ح21 .
4- (4) تفسیر القمی 2 / 84 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 9 ووسائل الشیعة 17 / 310 ح 26 .
5- (5) الکافی 6 / 431 ح 1 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 881 ح 1 ووسائل الشیعة 17 / 305 ح 9 .
6- (1) الکافی 6 / 436 ح 7 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 881 ح 3 ووسائل الشیعة 17 / 305 ح 8 .

الشطرنج ، وقول الزور الغناء ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر أبی موسی عیسی بن أحمد عن الإمام الهادی علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن الباقر علیه السلام : فی قوله : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»قال : الرجس الشطرنج ، وقول الزور الغناء(2) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن أبی بکر محمد بن عمرو بن حزم قال : قمت إلی متوضَّأ لی ، فسمعتُ جاریةً لجارٍ لی تغنّی وتضرب ، فبقیتُ ساعة أسمع ، قال : ثمّ خرجتُ ، فلما أن کان اللیل دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام ، فحین استقبلنی قال : الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، اجتنبوا قول الزور . قال : فما زال یقول : الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، قال : فضاق بی المجلس ، وعلمتُ أنّه یعنینی ، فلما خرجتُ قلتُ لمولاه مُعْتَب : واللّه ما عنی غیری(3) .

ومنها : روایة زید النرسی فی أصله عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» الغناء ، وإنّ المؤمن عن جمیع ذلک لفی شغل ، الحدیث(4) .

الثانیة : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(5) .

قد وردت فی ذیلها عدّة من الروایات مفسِّرة بالغناء :

منها : حسنة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سمعته یقول : الغناء ممّا وعد اللّه عزّ وجلّ علیه النار ، وتلا هذه الآیة : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن

ص:287


1- (2) معانی الأخبار / 349 ح 1 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 881 ح 5 ووسائل الشیعة 17 / 308 ح20 .
2- (3) أمالی الطوسی . المجلس الحادی عشر ح 22 / 294 الرقم 575 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح10 .
3- (4) أمالی الطوسی . المجلس الثالث والأربعون ح 3 / 720 الرقم 1519 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 309 ح 24 .
4- (5) أصل زید النرسی / 51 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 214 ح 13 .
5- (6) سورة لقمان / 6 .

سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(1) .

ومنها : خبر مهران بن محمد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته یقول : الغناء ممّا قال اللّه : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(2) .

ومنها : خبر الوشاء قال : سمعت أبا الحسن الرضا علیه السلام یقول : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن الغناء ؟ فقال : هو قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(3) .

ومنها : خبر الحسن بن هارون قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : الغناء مجلسٌ لا ینظرُ اللّه إلی أهله ، وهو ممّا قال اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(4) .

ومنها : خبر عبد الأعلی عن الصادق علیه السلام - فی حدیث - قلت : قوله عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ» قال : منه الغناء(5) .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن کسب المغنیّات ، فقال : التی یدخل علیها الرجال حرام ، والتی تُدْعی إلی الأعراس لیس به بأس ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(6) .

ومنها : ما ورد فی الفقه الرضوی : إعلم أنّ الغناء ممّا وعد اللّه علیه النار فی قوله : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً

ص:288


1- (1) الکافی 6 / 431 ح 4 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 2 ووسائل الشیعة 17 / 304 / ح 6 .
2- (2) الکافی 6 / 431 ح 5 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 3 ووسائل الشیعة 17 / 305 / ح 7 .
3- (3) الکافی 6 / 432 ح 8 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 4 ووسائل الشیعة 17 / 306 ح 11 .
4- (4) الکافی 6 / 433 ح 16 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 5 ووسائل الشیعة 17 / 307 ح 16 .
5- (5) معانی الأخبار / 349 ح 1 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 5 و 4 / 362 ح 6 ووسائل الشیعة 17 / 308 ح 20 .
6- (6) الکافی 5 / 119 ح 1 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 361 ح 1 ووسائل الشیعة 17 / 120 ح 1 .

أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن الصادق علیه السلام أنّه سُئل عن قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ» الآیة قال ، قال أبو جعفر علیه السلام : هو الغناء وقد تواعد اللّه علیه بالنار(2) .

ومنها : مرسلة ابن أبی جمهور الأحسائی قال : روی ابن عباس وابن مسعود فی تفسیر قوله تعالی : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» وقوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ» إنّه الغناء(3) .

ومنها : مرسلة الزمخشری عن أبی اُمامة قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحلّ تعلیم المغنیّات ولا بیعُهُنّ ولا شِراؤهُنّ ولا التجارة فیهنَّ وثمنهنَّ حرام ، وما اُنزِلتْ علیَّ هذه الآیة إلاّ فی مثل هذا الحدیث : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ» . ثمّ قال : والذی بعثنی بالحقّ ما رفع رجلٌ عقیرة(4) صوته بالغناء إلاّ بعث اللّه تعالی علیه عند ذلک شیطانَیْن : علی هذا العاتق واحد ، وعلی هذا العاتق واحد ، یضربان بأرجُلِهما فی صدره حتّی یکون هو الذی یسکت(5) .

تنبیهٌ : اعلم أن المستفاد من هذه الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة أنّ الغناء من المعاصی الکبیرة ، لأنّ الوراد فی حسنة محمد بن مسلم : « الغناء ممّا وعد اللّه علیه النار» ونحوها فی غیرها ، بل نفس تطبیق الغناء علی الآیة الشریفة یدلّ علی أنّها من الکبائر ، لأنّ الوارد فی آخر الآیة الشریفة قوله تعالی : «أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ» والعذاب المهین لا یجری إلاّ فی حق الکبیرة ، فثبت أنّ الغناء من المعاصی الکبیرة . ولعلّ هذا سرّ ذکر الأصحاب قدس سرهم الغناء من نواقض العدالة فی کتاب الشهادات ، فراجع کلامهم حتّی یتبین لک الأمر ، وصرح صاحب

ص:289


1- (7) فقه الرضا علیه السلام / 281 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 213 ح 9 .
2- (8) دعائم الإسلام 2 / 207 ح 757 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 212 ح 2 .
3- (1) عوالی اللآلی 1 / 244 ح 173 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 215 ح 18 .
4- (2) عَقیرَةُ الرجل : صوته إذا غَنی أو قرأ أو بَکی .
5- (3) ربیع الأبرار 2 / 569 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 7 .

الریاض(1) بأنّ الغناء من الکبائر بدلالة الآیة الشریفة . وللّه الحمد .

ویؤید کون الغناء من الکبائر بل تدلّ علیه معتبرة مسعدة بن زیاد عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث : قم فاغتسل وسَل ما بدالک فإنک کنت مقیماً علی أمر عظیم ، ما کان أسوء حالک لو متّ علی ذلک ، أحمد اللّه وسَلْه التوبة ، الحدیث(2) .

ویؤیده أیضاً خبر الأعمش عن الصادق علیه السلام أنّه قال فی عدّ الکبائر : والملاهی التی تصدّ عن ذکر اللّه عزّ وجلّ مکروهة کالغناء وضرب الأوتار ، الحدیث(3) .

الثالثة : قوله تعالی : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(4) .

وردت تفسیرها بالغناء فی عدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی الصباح عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قوله عزّ وجلّ : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ» قال : الغناء(5) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وأبی الصباح الکنانی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجلّ : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ» قال : هو الغناء(6) .

ومنها : خبر أبی أیوب الخزاز قال : نزلنا بالمدینة ، فأتینا أبا عبد اللّه علیه السلام فقال : أین نزلتم ؟ فقلنا : علی فلان ، صاحب القیان ، فقال : کونوا کراماً ، فو اللّه ما علمنا ما أراد به ، وظننّا أنّه یقول : تفضّلوا علیه ، فعُدنا إلیه ، فقلنا له : لا ندری ما أردتَ بقولک : « کونوا کراماً » ، فقال : أما سمعتم قول اللّه عزّ وجلّ فی کتابه : «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(7) .

ص:290


1- (4) ریاض المسائل 15 / 265 .
2- (5) وسائل الشیعة 3 / 331 ح 1 وسیأتی تمامها .
3- (6) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 .
4- (1) سورة الفرقان / 72 .
5- (2) الکافی 6 / 431 ح 6 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 153 ح 1 ووسائل الشیعة 17 / 304 ح 3 .
6- (3) الکافی 6 / 433 ح 13 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 154 ح 2 ووسائل الشیعة 17 / 304 ح 5 .
7- (4) الکافی 6 / 432 ح 9 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 154 ح 3 .

أقول : القیان جمع القینة ، وکلّ عبد هو عند العرب قینٌ والأمة قینةٌ ، وبعض الناس یظن القینة المغنیّة خاصةً ویؤیده هذه الروایة .

ومنها : خبر محمد بن أبی عباد - وکان مشتهراً بالسماع ویشرب النبیذ - قال : سألت الرضا علیه السلام عن السماع فقال : لأهل الحجاز فیه رأیٌ وهو فی حیّز الباطل واللهو ، أما سمعت اللّه عزّ وجلّ یقول : «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّه سُئل عن قول اللّه عزّ وجلّ : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً» قال : من ذلک الغناء والشطرنج(2) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّه بلغه قدوم قومٍ قدموا من الکوفة فنزلوا فی دار مغنٍ ، فقال لهم : کیف فعلتم هذا ؟ قالوا : ما وجدنا غیرها یابن رسول اللّه ، وما علمنا إلاّ بعد أن نزلنا ، فقال : أما إذا کان ذلک فکونوا کراماً ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ یقول : «وَإِذَا

مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(3) .

ومنها : مرسلة الطبرسی فی قوله تعالی : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ» عن أبی جعفر علیه السلام وأبی عبد اللّه علیه السلام : هو الغناء(4) .

قال العلامة السید هاشم البحرانی قدس سره بعد نقل هذه الروایة الأخیرة : « ومثله رواه الشیبانی عنهما فی نهج البیان»(5) .

الرابعة : قوله تعالی : «وَالَّذِینَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ»(6) .

بضمیمة ما ورد فی تفسیر علی بن إبراهیم القمی عن الصادق علیه السلام فی حدیث : وقوله :

ص:291


1- (5) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 128 ح 5 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 308 ح 19 .
2- (6) دعائم الإسلام 2 / 208 ح 763 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 213 ح 7 .
3- (1) دعائم الإسلام 2 / 209 ح 766 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 220 ح 1 .
4- (2) مجمع البیان 7 / 283 ونقل عنه فی تفسیر فی البرهان 4 / 154 ح 5 ومرآة العقول 22 / 302 .
5- (3) تفسیر البرهان 4 / 154 ذیل ح 5 .
6- (4) سورة المؤمنون / 3 .

«وَالَّذِینَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» یعنی عن الغناء والملاهی ، الحدیث(1) .

الخامسة : قوله تعالی : «وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً»(2) .

وقد فسّرت فی عدّة من الروایات بأنّ استماع الغناء من المحرَّمات التی یُسأل عنها یوم القیامة :

منها : معتبرة مسعدة بن زیاد قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فقال له رجل : بأبی أنت واُمّی إنّنی أدخل کنیفاً لی ولی جیران عندهم جوار یتغنّین ویضربن بالعود ، فربّما أطلتُ الجلوس استماعاً منّی لهنَّ ، فقال : لا تفعل ، فقال الرجل : واللّه ما آتیهنَّ إنّما هو سماع أسمعه باُذنی ، فقال : للّه أنت ، أما سمعتَ اللّه عزّ وجلّ یقول : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» . فقال : بلی واللّه لکأنّی لم أسمع بهذه الآیة من کتاب اللّه من أعجمیٍّ ولا عربیٍّ لاجرم إنّنی لا أعود إن شاء اللّه ، وإنّی استغفر اللّه ، فقال له : قم فاغتسل وسَل ما بدالک ، فإنّک کنتَ مقیماً علی أمرٍ عظیم ما کان أسوء حالک لو متّ علی ذلک ، أحمد اللّه وسَلْه التوبة من کلِّ ما یکره ، فإنّه لا یکره إلاّ کلّ قبیح ، والقبیح دَعْه لأهله فإنّ لکلٍّ أهلاً(3) .

أقول : رواها الصدوق مرسلاً فی الفقیه 1 / 80 ح 177 والشیخ مرسلاً فی التهذیب

1/116 ح 36 والعیاشی فیتفسیره 3 / 52 ح 76 . وورد فی الفقه الرضوی / 281 أیضاً .

وقال العلامة المجلسی قدس سره « قوله علیه السلام « للّه أنت» إرفاق وإلطاف کقولهم « للّه أبوک» أی ترید أن تکون للّه وموافقاً لرضاه تعالی وتتکلّم بهذا الکلام»(4) .

ومنها : مرسلة العیاشی رفعه عن الحسن قال : کنتُ اُطیل القعود فی المخرج لأسمع غناء بعض الجیران . قال : فدخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فقال لی : یا حسن «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» السمع وما وعی ، والبصر وما رأی ، والفؤاد

ص:292


1- (5) تفسیر القمی 2 / 88 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 14 ح 9 .
2- (6) سورة الإسراء / 36 .
3- (7) الکافی 6 / 432 ح 10ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 532 ح 3 ووسائل الشیعة 3 / 331 ح 1 .
4- (1) مرآة العقول 22 / 303 .

وما عَقَد علیه(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّ رجلاً سأله عن سماع الغناء ، فنهی عنه وتلا قول اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» وقال : یُسأل السمع عمّا سمع ، والفؤاد عمّا عقد ، والبصر عمّا أبصر(2) .

4 - السنة

تواترت الروایات من السنة الشریفة علی حرمة الغناء مضافاً إلی ما ذکرتُها فی ذیل الآیات الشریفة :

منها : صحیحة زید الشحام قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : بیت الغناء لا تؤمن فیه الفجیعة ، ولا تجاب فیه الدعوة ، ولا یدخله الملک(3) .

ومنها : صحیحة معمر بن خلاد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : خرجت وأنا اُرید داود بن عیسی بن علی وکان ینزل بئر میمون وعلیَّ ثوبان غلیظان ، فرأیت عجوزاً ومعها جاریتان ، فقلت : یا عجوز أتباع هاتان الجاریتان ؟ فقالت : نعم ولکن لا یشتریهما مثلک ، قلت : ولم ؟ قالت : لأنّ إحداهما مغنیّة والاُخری زامرة ، فدخلت علی داود بن عیسی فرفعنی وأجلسنی فی مجلسی ، فلما خرجتُ مِنْ عنده قال لأصحابه : تعلمون مَنْ هذا ؟ هذا علی بن موسی الذی یزعم أهل العراق أنّه مفروض الطاعة(4) .

ومنها : خبر أبی اُسامة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الغناء عشُ النفاق(5) .

وفی الوسائل بدّل « العشّ » بالغش بالغین .

ومنها : خبر إبراهیم بن محمد المدینی عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سُئل عن

ص:293


1- (2) تفسیر العیاشی 3 / 52 ح 74 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 534 ح 7 ووسائل الشیعة 17 / 311 ح29 .
2- (3) دعائم الإسلام 2 / 210 ح 770 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 221 ح 2 .
3- (4) الکافی 6 / 433 ح 15 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 303 ح 1 .
4- (5) الکافی 6 / 478 ح 4 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 304 ح 4 .
5- (6) الکافی 6 / 431 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 305 ح 10 .

الغناء وأنا حاضر فقال : لا تدخلوا بیوتاً اللّه معرض عن أهلها(1) .

ومنها : خبر یونس قال : سألت الخراسانی علیه السلام وقلت : إنّ العباس ذکر أنّک ترخّص فی الغناء ، فقال : کذب الزندیق ، ما هکذا قلتُ له ، سألنی عن الغناء ، فقلتُ له : إنّ رجلاً أتی أبا جعفر علیه السلام فسأله عن الغناء ، فقال : یا فلان إذا میّز اللّه بین الحقّ والباطل فأنّی یکون الغناء ؟ فقال : مع الباطل ، فقال : قد حکمت(2) .

رواها الصدوق بسند صحیح فی عیون اُخبار الرضا علیه السلام 2 / 14 ح 32 ونقلت عنه فی الموسوعة 8 / 191 ح 26 .

ومنها : خبر یاسر الخادم عن أبی الحسن علیه السلام قال : مَن نزّه نفسه عن الغناء فإنّ فی الجنة شجرة یأمر اللّه عزّ وجلّ الریاح أن تحرّکها فیسمع لها صوتاً لم یسمع بمثله ، ومَنْ لم یتنزّه عنه لم یسمعه(3) .

ومنها : صحیحة عنبسة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : استماع الغناء واللهو ینبت النفاق فی القلب کما ینبت الماء الزرع(4) .

ومنها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله رجل عن بیع الجواری المغنیات ، فقال : شراؤهنَّ وبیعهنَّ حرام وتعلیمهنَّ کفرٌ واستماعهنَّ نفاق(5) .

ومنها : خبر الحسن بن علی الوشاء قال : سُئل أبو الحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیة فقال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه وما ثمنها إلاّ ثمن کلب ، وثمن الکلب سحت ، والسحت فی النار(6) .

ومنها : خبر نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المغنیة ملعونة ،

ص:294


1- (1) الکافی 6 / 434 ح 18 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 306 ح 12 .
2- (2) الکافی 6 / 435 ح 25 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 306 ح 13 .
3- (3) الکافی 6 / 434 ح 19 ونقلتُ عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 188 ح 13 .
4- (4) الکافی 6 / 434 ح 23 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 188 ح 14 .
5- (5) الکافی 5 / 120 ح 5 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 189 ح 19 .
6- (6) الکافی 5 / 120 ح 4 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 22 .

ملعون مَنْ أکل کسبها(1) .

ومنها : خبر إبراهیم بن أبی البلاد قال : أوصی إسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنیات أن نبیعهنَّ ونحمل ثمنهنّ إلی أبی الحسن علیه السلام . قال إبراهیم : فبعت الجواری بثلاثمائة ألف درهم وحملتُ الثمن إلیه ، فقلتُ له : إنّ مولی لک یقال له إسحاق بن عمر قد اُوصی عند موته ببیع جوار مغنیّات وحمل الثمن إلیک وقد بعتهنَّ وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم ، فقال : لا حاجة لی فیه ، إنّ هذا سحت ، وتعلیمهنَّ کفر ، والاستماع منهنّ نفاق ، وثمنهنَّ سحت(2) .

ومنها : خبر الحسن بن هارون قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : الغناء یورث النفاق ویعقّب الفقر(3) .

ومنها : خبر أبی بکر الحضرمی عن أحدهما علیهماالسلام قال : الغناء عُش النفاق ، والشراب مفتاح کلّ شرّ ، ومدمن الخمر کعابد وثن ، مکذّب بکتاب اللّه ، لو صدّق کتاب اللّه لحرّم حرام اللّه(4) .

ومنها : خبر نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المنجم ملعون ، والکاهن ملعون ، والساحر ملعون ، والمغنیّة ملعونة ، ومَن آواها وأکل کسبها ملعون ، الحدیث(5) .

ومنها : مرسلة الصدوق عن الصادق علیه السلام أنّه قال : شرّ الأصوات الغناء(6) .

ومنها : صحیح علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر قال : سألته عن الرجل یتعمّد الغناء یُجلس إلیه ؟ قال : لا(7) .

ص:296


1- (7) الکافی 5 / 120 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 23 .
2- (1) الکافی 5 / 120 ح 7 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 24 .
3- (2) الخصال 1 / 24 ح 84 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 309 ح 23 .
4- (3) علل الشرائع / 476 ح 3 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 191 ح 27 .
5- (4) الخصال 1 / 297 ح 67 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 191 ح 28 .
6- (5) المقنع / 154 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 309 ح 22 .
7- (6) مسائل علی بن جعفر / 148 ح 186 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 312 ح 32 .

ومنها : مرسلة العیاشی عن جابر بن عبد اللّه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : کان إبلیس أوّل من تغنّی وأوّل من ناح وأوّل من حدا ، لمّا أکل آدم من الشجرة تغنّی ، فلما هبط حدا ، فلما استقر علی الأرض ناح یُذکّره ما فی الجنة(1) .

ومنها : مرسلة اُخری للعیاشی رفعه عن الحسن بن محبوب عن أبی ولاّد قال : قلت

لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک ، إنّ رجلاً من أصحابنا ورعاً مسلماً کثیر الصلاة قد ابتُلی بحبّ اللهو وهو یسمع الغناء ؟ فقال : أیمنعه ذلک من الصلاة لوقتها ، أو من صوم أو من عیادة مریض أو حضور جنازة أو زیارة أخ ؟

قال : قلت : لا ، لیس یمنعه ذلک من شیءٍ من الخیر والبِرّ ، قال : فقال : هذا من خطوات الشیطان ، مغفور له ذلک إن شاء اللّه ، الحدیث(2) .

بتقریب : أنّ الإمام علیه السلام عدّ سماع الغناء من خطوات الشیطان والمعاصی ولکن اللّه یغفر للمؤمن هذا الذنب إن یشاء . فالروایة بأحسن وجه تدلّ علی حرمة الغناء مطلقاً .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن الصادق علیه السلام أنّه سأل رجلاً ممّن یتصل به عن حاله فقال : جعلت فداک ، مرّ بی فلان أمس فأخذ بیدی وأدخلنی منزله وعنده جاریة تضرب وتغنی ، فکنت عنده حتّی أمسینا ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ویحک ، أما خفتَ أمر اللّه أنْ یأتیک وأنت علی تلک الحال ، إنّه مجلس لا ینظر اللّه إلی أهله ، الغناء أخبث ما خلق اللّه ، الغناء شرّ ما خلق اللّه ، الغناء یورث النفاق ، الغناء یورث الفقر(3) .

ومنها : خبر محمد بن محمد بن الأشعث بإسناده عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال : طرق طائفة من بنی إسرائیل لیلاً عذاب ، فأصبحوا وقد فقدوا أربعة أصناف : الطبالین والمغنین ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار رفعه إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الغناءُ

ص:296


1- (7) تفسیر العیاشی 1 / 128 ح 26 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 310 ح 28 .
2- (1) تفسیر العیاشی 2 / 389 ح 42 ، ذیل الآیة 24 من سورة الرعد .
3- (2) دعائم الإسلام 2 / 207 ح 759 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 212 ح 4 .
4- (3) الجعفریات / 169 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 214 ح 12 .

رقیّة الزنا(1) .

الروایات فی هذا المجال کثیرة جداً ، فإن شئت راجع الکافی 6 / 431 ، والوافی 17 / 205 ، ووسائل الشیعة 17 / 303 ، ومستدرک الوسائل 13 / 212 ، وجامع أحادیث الشیعة 22 / 229 ، وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 185 .

المقام الثالث : هل حرمة الغناء مختص بالکلام الباطل ؟

هل حرمة الغناء مطلق ، أی سواء فیها بطلان الکلام وفساد مضمونه ومحتواه أو

حقیّته ، أو تکون الحرمة مختصة بصورة بطلان الکلام وما یُتغنّی به ، فإذا تغنّی بما یکون حقّاً وصحیحاً فلا حرمة حینئذٍ .

ذهب المشهور إلی الإطلاق والبعض إلی التقید ، نحو الفاضل النراقی قال : « إنّ المراد بما یُعصی به من الغناء أو عمل الحرام منه [ إمّا ] هو ما یتکلّم بالباطل ویقترن بالملاهی ونحوهما ، وحینئذٍ فعدم حرمة المطلق واضح ... »(2) .

واستدلوا علی التقیید بوجوه :

منها : قوله تعالی : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(3) .

بتقریب : أنّ الظاهر من الآیة الشریفة لزوم الاجتناب من مقول الزور ، لأنّ اتصاف القول بالزور لا یصح إلاّ باتصاف مقوله بالزور ، ومقول الزور لا یکون إلاّ باطلاً فی نفسه وفاسداً فی محتواه .

ویؤیده صحیحة حماد بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل للذی یُغنّی : « أحسنت »(4) .

بتقریب : أن کلمة « أحسنت » توجب ترغیب المغنی فی غنائه المحرَّم وتشویقه إلیه ،

ص:297


1- (4) جامع الأخبار / 433 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 214 ح 14 .
2- (1) مستند الشیعة 14 / 140 .
3- (2) سورة الحج / 30 .
4- (3) وسائل الشیعة 17 / 309 ح 21 .

فتدخل هذه الکلمة الباطلة والمشوقة للمحرّم فی عنوان الباطل . فیظهر بهذه الصحیحة أنّ قول الزور لابدّ وأن یکون باطلاً فی مضمونه ومحتواه .

ویؤیده أیضاً مرسلة الصدوق قال : سأل رجل علی بن الحسین علیه السلام عن شراء جاریة لها صوت ؟ فقال : ما علیک لو اشتریتها فذکّرتک الجنة - یعنی - بقراءة القرآن والزهد والفضائل التی لیست بغناء ، فأمّا الغناء فمحظور(1) .

بتقریب : أن الإمام أخرج صوت الجاریة من الغناء إذا أوجب التذکّر للجنة ، فتدلّ الروایة علی أنّ الغناء یجب أن یکون مضمونه باطلاً وفاسداً . وهکذا التفسیر الوارد فیها حتّی لو کان من الصدوق رضی الله عنه ولم یکن من الروایة کما هو الظاهر ، فتدلّ علی خروج قراءة القرآن والزهد وفضائل أئمة أهل البیت علیهم السلام وما شابهها من الغناء المحرَّم . فالغناء ما یکون محتواه باطلاً وفاسداً .

وفیه : أنه إذا تأملت فیما سردناه علیک من الروایات الواردة فی تفسیر الآیة الشریفة ظهر لک أنّ الأئمة علیهم السلام طبقوا قول الزور علی الغناء حکومةً ، لأنه قد مرّ منّا فی بحث سبّ المؤمن(2) من ظهور « الزور » فی الباطل ، ولکن الأئمة حکموا بأنّ الغناء مطلقاً من الباطل ، فیجب الاجتناب عنه ، ولم یفصلّوا بین التغنی بالمضامین الصحیحة والفاسدة ، الحقَّة والباطلة .

وأمّا صحیحة حماد بن عثمان فکلمة « أحسنت» الواردة فیها لم تکن من الباطل المطلق ، نعم : حیث وقع الترغیب والتشویق علی مطلق الغناء صار من الباطل ، ووقوعه فی قبال مطلق الغناء یوجب بطلان هذه الکلمة ، فیظهر من نفس هذا التطبیق أنّ مطلق الغناء یکون محرّم ، لأنّ الإمام علیه السلام لم یفصل فیها بین الغناء ، فهذه الصحیحة علی خلاف مااستدل علیه المستدِّل ، دالة علی حرمة مطلق الغناء ، لأنّ الإمام علیه السلام لم یفصل بأنّ کلمة « أحسنت» إذا وقعت فی قبال التغنّی بالباطل فتکون من قول الزور وإذا وقعت فی قبال التغنّی بالمضامین الصحیحة فلیست من قول الزور . بل حکم مطلقاً بأنّها إذا وقعت فی قبال المغنّی صارت من

ص:298


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 . الباب 16 من أبواب ما یکتسب به .
2- (1) راجع صفحة 189 من هذا المجلد .

قول الزور ، فتدلّ بأحسن وجه علی حرمة مطلق الغناء .

وأمّا مرسلة الصدوق - بعد الغمض عن سندها - فان السائل لم یسأل عن التغنّی بل عن جاریة تکون لها صوت ، أعنی لها حسن الصوت الذاتی ، ومن المعلوم أنّ حسن الصوت غیر الغناء . فلا بأس باشتراء جاریة لها حسن الصوت الذاتی وتذکّر صاحبها بالجنة والزهد وفضائل أئمة أهل البیت علیهم السلام وتقرأ له القرآن بصوتها الحسن . ولذا قال صاحب الوسائل قدس سره فی ذیلها : « إنّ المراد لا بأس بحسن الصوت الذی لا یصل إلی حد الغناء ، فإنّه أعم منه»(1) .

وهکذا فسّرها الصدوق بغیر الغناء وقال فی آخرها « فأمّا الغناء فمحظور »(2) .

والحاصل ، ظهر لک بما ذکرناه عدم تمامیة هذا الوجه من الاستدلال .

ومنها : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ»(3) .

بتقریب : أن الظاهر أنّ المراد باللهو هو الباطل ، وإضافة اللهو إلی الحدیث من قبیل إضافة الصفة إلی موصوفهاٌ فصار معناها الحدیث اللهو ، یعنی الحدیث الباطل . وحیث فسر

فی الروایات بالغناء ، یشمل ما یکون مضمونه باطلاً کما یشمل ما إذا تغنّی بالحقِّ ، نحو : التذکّر بالجنة والتشویق إلی العبادة والترغیب إلی المعروف . فالآیة الشریفة لا تشمل الغناء بالمضامین الصحیحة .

بل حیث ورد فیها « لیضلّ عن سبیل اللّه» فیخرج منها الغناء المتعارف ، لأنّه لا یوجب إضلال الناس ، فإنّما یوجب إضلال الناس إذا تغنّی بالباطل ، فالآیة الشریفة ظاهرة فی حرمة التغنّی بالباطل فقط .

وفیه : أن « اللهو » فی الآیة الشریفة مضاف إلی الحدیث ، فصار معناه اللهو فی الحدیث ، أعنی ما یکون فی کیفیته وأدائه من اللهو ، فیدخل الغناء المتعارف ، حیث أنّ أداءه من اللهو . وکذا یشمل التغنّی بالمضامین الصحیحة ، لأنّ نفس هذه الکیفیة والأداء أیضاً من

ص:299


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 123 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 123 .
3- (4) سورة لقمان / 6 .

اللهو . فالکلّ داخل فی الآیة الشریفة ، ولذا وردت فی الروایات المفسرة الماضیة تطبیق الغناء بها من دون تقیید کما مرّت منّا .

ومنها : قوله تعالی : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ»(1) .

بتقریب : أنّ عباد الرحمن لا یجتنبون من المحرَّمات فقط ، بل إنهم یجتنبون من کثیرٍ من المکروهات ، فلا تدلّ علی حرمة الغناء أصلاً . بلا فرق فی ذلک بین التغنّی بالمضامین الباطلة والصحیحة .

وفیه : نعم عباد الرحمن یجتنبون من کثیر من المکروهات ولکن لا یشهدون فی الآیة الشریفة بمعنی لا یحضرون ، وحیث وردت فی الروایات بعدم الحضور فی مجلس الغناء مطلقاً حتّی فی مرسلة القاضی النعمان الثانیة(2) حیث سأل الإمام علیه السلام عن جماعة من الشیعة إنّهم کیف نزلوا فی دار المغنّی ؟ قالوا : ما وجدنا غیرها وما علمنا إلاّ بعد أن نزلنا ، فأمرهم علیه السلام بالمرور والخروج من الدار ، کیف یمکن حملها علی الکراهة .

والظاهر من الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة أنّ الغناء مطلقاً من المحرَّمات التی یجتنب عباد الرحمن منها ولا یشهدون مجلسه .

ویدلّ علی ما ذکرناه من أنّ التغنّی بالمضامین الصحیحة أیضاً من المحرّمات عدّة من الروایات المعتبرة :

منها : حسنة بل موثقة عبد الأعلی بن أعین العجلی [ البجلی ن خ ] قال : سألت أبا

عبد اللّه علیه السلام عن الغناء وقلت : إنّهم یزعمون أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم رخص فی أن یقال : جئناکم جئناکم حیونا حیونا نحیکم ، فقال : کذبوا ، إنّ اللّه عزّ وجلّ یقول : «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْءَرْضَ وَمَا بَیْنَهُمَا لاَعِبِینَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن کُنَّا فَاعِلِینَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَی الْبَاطِلِ فَیَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَکُمُ الْوَیْلُ مِمَّا تَصِفُونَ»(3) ثمّ قال : ویل

ص:300


1- (1) سورة الفرقان / 72 .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 220 ح 1 .
3- (1) سورة الأنبیاء / (18 - 16) .

لفلان ممّا یصف ، رجل لم یحضر المجلس(1) .

بتقریب : أن سند الروایة حسن ، لأن المراد بعبدالأعلی المذکور فیها هو ابن أعین کما مرّ منّا بقرینة روایة یونس بن یعقوب عنه ، وهو (أی عبد الأعلی) فی أعلی مراتب الحسن بل هو ثقة . فصار سند الروایة موثقاً بابن فضال .

وأمّا دلالتها علی حرمة مطلق الغناء فواضحة ، لأنّ مضمون هذا الغناء لم یکن باطلاً ومع ذلک حکم الإمام علیه السلام بحرمته وکذّب رخصة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی ذلک ، فالغناء حرام مطلقاً بدلالة هذه الموثقة .

ومنها : صحیحة الریان بن الصلت قال : سألت الرضا علیه السلام یوماً بخراسان فقلت : یا سیدی إنّ هشام بن إبراهیم حکی عنک أنّک رخّصت له فی استماع الغناء ؟ فقال : کذب الزندیق ، إنّما سألنی عن ذلک فقلت له : إنّ رجلاً سأل أبا جعفر علیه السلام عن ذلک فقال أبو جعفر علیه السلام : إذا میّز اللّه بین الحقّ والباطل فأین یکون الغناء ؟ فقال : مع الباطل ، فقال له أبو جعفر علیه السلام : قد قضیت(2) .

حیث حکم الإمام علیه السلام بأنّها من الباطل ویجب الاجتناب عنه مطلقاً ، بلا فرق بین التغنّی بالحقِّ أو الباطل .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یتعمّد الغناء یجلس إلیه ؟ قال : لا(3) .

حیث لم یفصل الإمام بین التغنّی بالحقِّ أو الباطل .

ومنها : صحیحة إبراهیم بن أبی البلاد قال : قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : جعلت

فداک إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنیّات قیمتهنّ أربعة عشر ألف دینار وقد جعل لک

ص:301


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 307 ح 15 .
2- (3) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 14 ح 32 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 191 ح 26 وروی عنه أیضاً فی وسائل الشیعة 17 / 306 ح 14 .
3- (4) وسائل الشیعة 17 / 312 ح 32 .

ثلثها ، فقال : لا حاجة لی فیها ، إنّ ثمن الکلب والمغنیة سحت(1) .

حیث لم یفصل الإمام علیه السلام بین أنّهنَّ یغنین بالحقِّ أو الباطل .

ومنها : حسنة محمد بن عثمان العمری بخط صاحب الزمان علیه السلام فی توقیعاته الشریفة : ... وثمن المغنیة حرام(2) .

ومنها : خبر الحسن بن علی الوشاء قال : سُئل أبو الحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیة ؟ قال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه ، وما ثمنها إلاّ ثمن الکلب ، وثمن الکلب سحت ، والسحت فی النار(3) .

أقول : فیظهر لک من هذه الروایات وممّا سردناه علیک فی ذیل الآیات والسنة المتواترة أنّ الغناء حرام مطلقاً ، بلا فرق بین أنّ ما یتغنّی به کان حقّاً أو باطلاً . وهذا تمام الکلام فی هذا المقام .

المقام الرابع : هل حرمة الغناء ذاتیٌّ أو عرضیٌّ ؟

الغناء بذاته من المحرّمات أو أنّه بواسطة اقترانه ببعض المحرّمات - نحو : دخول الرجال علی النساء ، وتکلّم المغنّیات بالباطل ، وتلاعبهنَّ بآلات الملاهی ، ومثلها - صار من المحرّمات الشرعیة ، بحیث لو لم تکن هذه المحرّمات العارضیة لم یکن الغناء بذاته محرَّماً . فالغناء علی هذا القول من المباحات الشرعیة ، ولکن لاقترانه غالباً بالمحرَّمات صار من المحرَّمات العرضیة .

ذهب إلی الأوّل أعنی الغناء حرام بذاته المشهور ، بل الإجماع من الطائفة المحقّة . وخالفهم فی ذلک وذهب إلی الثانی جماعة من العامة سبق ذکر أقوالهم فی نقل الشیخ الطائفة عنهم فی الخلاف(4) ومنهم : الغزالی فی إحیاء علوم الدین(5) وتبعه منّا جماعة ، منهم : السید

ص:302


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 4 . الباب 16 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 6 .
4- (4) الخلاف 6 / 305 مسألة 54 ، وقد مرت منا فی صفحة 284 من هذا المجلد .
5- (5) إحیاء علوم الدین 6 / 137 .

ماجد البحرانی - وهو من معاصری الشیخ بهاء الدین العاملی واجتمع به فی دار السلطنة

أصفهان فأعجب به شیخنا البهائی ، وبینه وبین الشیخ الإجازة المدبّجة وتوفی فی اللیلة الحادیة والعشرین من شهر رمضان بدار العلم شیراز عام 1028 ودُفن فی مشهد السید أحمد بن الإمام الکاظم علیه السلام (1) .

وتلمیذه محمد محسن الفیض الکاشانی المتوفی عام 1091 والمولی محمد باقر السبزواری المتوفی 1090 صاحب الکفایة ، واستجوده الشیخ حسن بن علی السنقری المتوفی بعد عام 1322 فی رسالته فی الغناء(2) .

فلابدّ لنا من ملاحظة أدلة هذا القول فنقول :

قال الشیخ فی الاستبصار بعد نقل الروایات المجوّزة للغناء فی الأعراس وجواز کسب المغنیة فیها : « فالوجه فی هذه الأخبار الرخصة فی من لا تتکلّم بالأباطیل ولا تلعب بالملاهی من العیدان وأشباهها ولا بالقصب وغیره ، بل تکون ممّن تزف العروس وتتکلّم عندها بإنشاد الشعر والقول البعید مِن الفحش والأباطیل ، فأمّا مَنْ عدا هؤلاء ممّن یتغنین بسائر أنواع الملاهی فلا یجوز علی حالٍ سواء کان فی العرائِس أو غیرها»(3) .

استفاد المحدث الکاشانی من هذا البیان للشیخ أمراً لا یرتضیه صاحبه وقال : « والذی یظهر من مجموع الأخبار الواردة فیه اختصاص حرمة الغناء وما یتعلّق به من الأجر والتعلیم

ص:303


1- (1) ذکره العلامة النوری فی خاتمة مستدرک الوسائل 20 / (239 - 236) .
2- (2) المطبوعة فی میراث فقهی ، غناء ، موسیقی 2 / 1112 وما بعدها ، وهو من تلامیذ الشیخ هادی الطهرانی رحمهما اللّه . وأمّا انتساب هذا القول إلی أستاده الشیخ هادی الطهرانی قدس سره المتوفی 1321 غیر تام ، لأنّه قال فی أواخر رسالته فی الغناء المطبوعة فی المصدر 2 / 1094 : « ولکن التحقیق أنّ فهم هؤلاء الفحول الأخیار العالمین بالأسرار یوجب ظهور تلک الأخبار فیما ادعوه ، لا أنّ عدم دلالتها فی نفسها یمنع من کشف اتفاقهم عن رضا المعصوم علیه السلام ، فالتحقیق حرمة الغناء فی نفسه بالأخبار والآیات والإجماع ، أما الأخبار فبمعونة فهم الأصحاب ، وأمّا الآیات فبمعونة الأخبار ، وأمّا الإجماع فلتصریح کلّ الفقهاء بحرمته فی نفسه إلاّ قلیل یصلح کلامه للتأویل» .
3- (3) الاستبصار 3 / 92 .

والاستماع والبیع والشراء کلّها بما کان علی النحو المعهود المتعارف فی زمن بنی اُمیة وبنی العباس من دخول الرجال علیهنّ وتکلمهنّ بالأباطیل ولعبهنّ بالملاهی من العیدان والقضیب وغیرها ، دون ما سوی ذلک کما یُشعر به قوله علیه السلام : « لیست بالتی یدخل علیها الرجال » . ثمّ ذکر کلام الشیخ فی الاستبصار وقال : ویُستفاد من کلامه أنّ تحریم الغناء إنّما هو لاشتماله علی أفعال محرّمة ، فإن لم یتضمّن شیئاً من ذلک جاز ، وحینئذ فلا وجه لتخصیص الجواز بزفّ العرائس ، ولا سیما وقد وردت الرخصة به فی غیرها ، إلاّ إنْ یقال : أنّ بعض

الأفعال لا یلیق بذوی المروءات وإن کان مباحاً ، فالمیزان فیه حدیث : مَنْ أصغی إلی ناطق فقد عبده(1) ، وقول أبی جعفر صلوات اللّه علیه : إذا میّز اللّه بین الحقّ والباطل فأین یکون الغناء(2) . وعلی هذا فلا بأس بسماع التغنّی بالأشعار المتضمنة ذکر الجنة والنار والتشویق إلی دار القرار ووصف نعم اللّه الملک الجبار وذکر العبادات والترغیب فی الخیرات والزهد فی الفانیات ، ونحو ذلک کما اُشیر إلیه فی حدیث الفقیه بقوله علیه السلام : فذکّرتک الجنة(3) ، وذلک لأنّ هذه کلّها ذکر اللّه تعالی ، وربّما تقشعرّ منه جلود الذین یخشون ربهم ثمّ تلین جلودهم وقلوبهم إلی ذکر اللّه . وبالجملة لا یخفی علی ذوی الحجی بعد سماع هذه الأخبار تمییز حقّ الغناء من باطله ، وأنّ أکثر ما یتغنّی به المتصوفة فی محافلهم من قبیل الباطل»(4) .

وقال المحقق السبزواری : « ... لأنّ الشائع فی ذلک الزمان الغناء علی سبیل اللهو من الجواری المغنیّات وغیرهنّ فی مجالس الفجور والخمور والعمل بالملاهی والتکلّم بالباطل وإسماعهنّ الرجال وغیرها ، فحمل المفرد علی تلک الأفراد الشائعة فی ذلک الزمان غیر بعید ثمّ ذکر عدّة من الروایات واستفاد منها لمختاره وقال : فإذن لا ریب فی تحریم الغناء علی سبیل اللهو والاقتران بالملاهی ونحوهما ، ثمّ إن ثبت إجماع فی غیره کان متّبعاً ، وإلاّ بقی حکمه علی

ص:304


1- (1) الکافی 6 / 434 ح 24 ونقل عنه فی الوافی 17 / 216 ح 32 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 306 ح 13 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 .
4- (4) الوافی 17 / (223 - 218) .

أصل الإباحة ، وطریق الاحتیاط واضح »(1) .

ویمکن أن یُستدل لهم بعدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی بصیر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أجر المغنیة التی تزفّ العرائس لیس به بأس ، ولیست بالتی یدخل علیها الرجال(2) .

بتقریب : أنّ الحرمة لیست فی الغناء بل الحرمة یختص بدخول الرجال علی النساء وغیره من المحرَّمات التی تتبعه الغناء ، وإلاّ نفس الغناء فلا بأس به .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : سألته عن الغناء هل یصلح فی الفطر والأضحی والفرح ؟ قال : لا بأس به ما لم یزمر به(3) .

بتقریب : أنّ الغناء لا بأس به إذا لم یقترن بآلات الملاهی نحو المزمار وغیره ، فنفس الغناء مباح ، بلا فرق بین الأعیاد والفرح وغیرها لعدم احتمال الفرق .

والجمع بین هذه الصحیحة وماضیها : بأنّ العرس وقع فی الفطر أو الأضحی کما احتمله صاحب الوسائل(4) قدس سره ، لم یکن جمعاً عرفیاً ولم یوجد له شاهد جمع ، فلا یصغی إلیه .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : سأل رجلٌ علی بن الحسین علیه السلام عن شراء جاریة لها صوت ؟ فقال : ما علیک لو اشتریتها فذکّرتک الجنة(5) .

بتقریب : أنه إذا غنت الجاریة بما فیه ذکر الجنّة ونحوها فلا بأس به ، فظهر عدم حرمة الغناء ذاتاً ، بل الغناء لاقترانه غالباً بالمحرَّمات یصیر منها عرضاً .

ومنها : خبر عبد اللّه بن الحسن الدینوری عن أبی الحسن علیه السلام فی حدیث : قال : قلت : جعلت فداک فأشتری المغنیة أو الجاریة تحسن أن تغنّی اُرید بها الرزق لا سوی ذلک ؟

ص:305


1- (5) الکفایة 1 / 434 و 433 .
2- (6) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 3 . الباب 15 من أبواب ما یکتسب به .
3- (7) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 5 .
4- (1) وسائل الشیعة 17 / 122 .
5- (2) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 . الباب 16 من أبواب ما یکتسب به .

قال : اشتر وبع(1) .

بتقریب : أن جواز بیع الجاریة المغنیة یدلّ علی جواز عملها وهو الغناء.

ومنها : ما ذکره الشیخ فی المبسوط حیث قال : « ومن قال الغناء مباح استدلَّ بما روی عن عائشة أنّها قالت : کانت عندی جاریتان تغنّیان ، فدخل أبو بکر فقال : مَن قرر الشیطان فی بیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ؟ فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : دعها ، فإنّها أیّام عید .

وقال عمر : الغناء زاد الراکب .

وکان لعثمان جاریتان تغنّیان باللیل ، فإذا جاء وقت السحر قال : امسکا ، فهذا وقت الاستغفار»(2) .

وتقریب الاستدلال عندهم واضح .

ومنها : خبر عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : لکلِّ شیء حلیة وحلیة القرآن الصوت الحسن(3) .

بتقریب : أنه ظهر من الروایة أنّ التغنّی بالقرآن جائز ، فنفس الغناء لیس من

المحرّمات بل مقارناته من المحرَّمات غالباً .

ومنها : خبر عبد اللّه التمیمی عن الرضا علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حسّنوا القرآن بأصواتکم ، فإنّ الصوت الحسن یزید القرآن حسناً(4) .

بالتقریب الذی مرّ فی سابقه .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام : إذا قرأتُ القرآن فرفعتُ صوتی جاءنی الشیطان فقال : إنّما ترائی بهذا أهلک والناس . قال : یا أبا محمد ، إقرأ قراءة ما بین القراءتین تسمع أهلک ، ورجّع بالقرآن صوتک ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ یحبّ الصوت الحسن یرجّع

ص:306


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 1 .
2- (4) المبسوط 8 / 223 .
3- (5) وسائل الشیعة 6 / 211 ح 3 . الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .
4- (1) وسائل الشیعة 6 / 212 ح 6 .

فیه ترجیعاً(1) .

بتقریب : أن الترجیع بالقرآن عبارة اُخری عن التغنّی به ، فکیف یمکن أنّ یحبّ اللّه تعالی التغنّی بالقرآن وهو حرام ، فتدلّ الروایة علی جواز التغنّی بالقرآن ، حیث أن عدم مدخلیة القرآن فی الغناء ، فیجوز الغناء إلاّ إذا اقترن بالمحرّمات ، وحینئذ نفس المقترنات حرام لا الغناء .

ولکن فی جمیع هذه الروایات نظرٌ بیّنٌ :

وفیه : أولاً : بأنّ الإجماع قد سبقهم ولحقهم ، فلا یسمع إلی ما ذکروه .

وثانیاً : علی فرض تمامیة هذه الروایات سنداً ودلالة تعارض مع ما ذکرناه سابقاً فی أدلة حرمة الغناء ، وبعد المعارضة تطرح هذه الطائفة الأخیرة ، لأنّها موافقة للعامة وأنت تعرف بأنّ الرشد فی خلافهم ، ولذا ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة عن أبی عبد اللّه علیه السلام : « ما خالف العامة ففیه الرشاد»(2) .

وثالثاً : بعد الإغماض عن سندها ودلالتها یمکن حملها علی التقیة أیضاً لموافقتها للعامة ، وقد قال فی المقبولة : « فما وافق حکمه حکم الکتاب والسنة وخالف العامة فیؤخذ به ، ویترک ما خالف حکمه حکم الکتاب والسنة ووافق العامة »(3) .

ورابعاً : یمکن المناقشة فی دلالة هذه الروایات أو سندها علی سبیل منع الخلو :

أمّا صحیحة أبی بصیر : فهی من أدلة استثناء حرمة الغناء فی العرس مع مراعاة عدّة

من الشروط ، ویأتی البحث حولها فی المقام الآتی ، أعنی مستثنیات الغناء .

وأمّا صحیحة علی بن جعفر : فیمکن حملها علی التقیة أو طرحها والأخذ بالطائفة المحرّمة ، أو حملها علی خلاف ظاهرها ، بأنّ یکون من المحتمل فیها حسن الصوت الذی لم یصل إلی حدِّ الغناء کما هو المتعارف بین المؤمنین فی الأعیاد المذهبیة ، بل هو المتعین بعد ثبوت أدلة حرمة الغناء .

ص:307


1- (2) وسائل الشیعة 6 / 211 ح 5 .
2- (3) وسائل الشیعة 27 / 106 ح 1 . الباب 9 من أبواب صفات القاضی .
3- (4) وسائل الشیعة 27 / 106 ح 1 .

وأمّا مرسلة الصدوق : فتحمل علی حسن الصوت الذاتی واستعماله بتوسط الجاریة للتذکّر بالجنة والترغیب إلی العبادات ونحوها ، وإشکال سندها واضح .

وأمّا خبر عبد اللّه بن الحسن الدینوری : فجواز بیع الجاریة المغنیة لا یدلّ علی جواز استماع الغناء ، ولذا قال الشیخ فی المبسوط : « فأمّا ثمن المغنیّات فلیس بحرام إجماعاً ، لأنّها تصلح لغیر الغناء من الاستمتاع بها وخدمتها»(1) .

والروایة ضعیفة سنداً بعبد اللّه بن الحسن الدینوری ، ولیس له فی الفقه إلاّ هذه الروایة ، وهو مهمل .

وأمّا ما ذکره الشیخ فی المبسوط قال قدس سره فی ردّه : « قالوا : وهذا کلّه محمول علی نشید الأعراب مثل الحداء وغیر ذلک ، وعندنا أنّ هذه أخبار آحاد لا یلتفت إلیها وفعل من لا یجب إتباعه»(2) .

أقول : ما ذکره أخیراً من قوله « عندنا » إلی آخره ، تام .

وأمّا خبر عبد اللّه بن سنان : فلا یدلّ علی جواز الغناء ولا علی جواز التغنّی بالقرآن ، بل یدلّ علی استحباب قراءة القرآن بصوت الحسن فقط ، وسندها ضعیف .

وأمّا خبر عبد اللّه التمیمی : فسنده ضعیف ودلالته أضعف من سنده ، والإشکال فیه یظهر من سابقته .

وأمّا خبر أبی بصیر : فالترجیع الوارد فیه غیر الترجیع الغنائی وبحدِّ لم یصل إلیه ، مضافاً إلی ما مرّ فی تعریف الغناء من أنّ الترجیع لیس من مقومات الغناء ، وعلی هذا مطلق الترجیع فی القرآن لیس به بأس ، والروایة تدلّ علیه ، وسندها ضعیف بعلی بن أبی حمزة البطائنی .

وخامساً : علی فرض تمامیة سند هذه الروایات ودلالتها ، وردت فی قبالها روایات

أکثر وأشهر ، فلابدّ من الأخذ بها علی طبق ما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة عن أبی

ص:308


1- (1) المبسوط 8 / 223 .
2- (2) المبسوط 8 / 223 .

عبد اللّه علیه السلام : « ... المجمع علیه عند أصحابک فیؤخذ به مِنْ حکمنا ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک ، فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه»(1) .

والحاصل ، حرمة الغناء فی الشریعة المقدسة والمذهب الحقّ ذاتی إجماعاً ، ولذا قال الشیخ جعفر قدس سره : « ومن حرّمه لأجل الملاهی ودخول الرجال علی النساء ونحوهما قائلاً بإباحته لنفسه مخالف للإجماع بل الضرورة من المذهب ، لأنّ حاله کحال الزنا عند الإمامیة»(2) .

وتبعه تلمیذه السید العاملی فقال : « ... والأولی بأهل التحصیل أن لا یلتفتوا إلی ردّ مثل هذه الأباطیل ، إنْ هی إلاّ آراء باردة ومذاهب فاسدة مخالفة لمذهب الشیعة ، کنّا نعیب علی العامة والصوفیة فما راعنا إلاّ وبعض الإمامیة قد استحسن تلک الترهات وأکبّ علی تلک الخرافات»(3) .

وقال تلمیذه الآخر صاحب الجواهر : « ... بل یمکن دعوی کونه (أی حرمة الغناء ذاتیّاً) ضروریّاً فی المذهب ، فمن الغریب ما وقع لبعض متأخری المتأخرین تبعاً للمحکی عن الغزالی من عدم الحرمة فیما لم یقترن بمحرّم خارجی کالضرب بالعود والکلام بالباطل ونحو ذلک ... ومن هنا کان الإطناب فی إفساد ذلک مِنْ تضییع العمر بما لا ینبغی»(4) .

وقال المحقق الخوئی فی إحدی نقوده علی هذا القول : « إذا کان تحریم الغناء إنّما هو للعوارض المحرّمة کان الإهتمام بالمنع عنه فی هذه الروایات لغواً محضاً ، لورود النهی عن سائر المحرّمات بأنفسها»(5) .

وهذا الإشکال متین جداً نحو الإشکالات الماضیة ، ویظهر بما ذکرنا أنّ حرمة الغناء ذاتیٌّ ولو لم یقترن بغیره من المعاصی .

ص:309


1- (1) وسائل الشیعة 27 / 106 ح 1 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 193 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 173 .
4- (4) الجواهر 22 / 45 و 44 .
5- (5) مصباح الفقاهة 1 / 308 .
المقام الخامس : مستثنیات الغناء
اشارة

قبل الورود فی البحث عن المستثنیات لابدّ لنا من نقل کلام ونقده حتّی ظهر لک إمکان

وقوع الاستثناء فی المقام :

قال الشیخ جعفر : « ... قد ظهر ممّا مرّ أنّه لا ینبغی صدور الاستثناء من أهل النظر ، کیف لا ؟ وتحریم الغناء کتحریم الزنا أخباره متواترة وأدلته متکاثرة عُبّر عنه بقول الزور ولهو الحدیث فی القرآن ، ونادت الأخبار بأنّه المحرّک علی الفجور والعصیان ، فکان تحریمه من الاُمور العقلیة التی لا تقبل تقییداً ولا تخصیصاً بالکلیة . وکیف یخطر بالبال أو یجری فی الخیال أن یقع مثل هذا الکلام من سادات الأنام الآمرین بترک الشبهات خوفاً من الوقوع فی المحرَّمات ، مع أنّه مؤذن بجواز ما فیه معظم اللهو عن ذکر المعاد ومدنٍ إلی الزنا واللواط اللذین هما رأس الفساد ... »(1) .

وتبعه تلمیذه السید العاملی فقال : « ثمّ إنّا قد نقول : أنّ تحریم الغناء کتحریم الزنا أخباره متواترة وأدلته متکاثرة عبّر عنه بقول الزور ولهو الحدیث فی القرآن ونطقت الروایات بأنّه الباعث علی الفجور والفسوق ، فکان تحریمه عقلیّاً لا یقبل تقییداً ولا تخصیصاً ، والأخبار الواردة فی ذلک محمولة علی التقیة فلیلحظ ذلک»(2) .

أقول : ولکن الحقّ أنّ أدلة حرمة الغناء سمعیة والروایات مطلقة ، فیجوز تقییده بها إن ثبتت فی مورد والحکم بجوازها فی ذلک المورد الخاص ویؤید ما ذکرناه بیان صاحب الجواهر(3) فی نقد کلام اُستاذه ، فراجعه إن شئت .

وقد ذکروا فی مقام الاستثناء من حرمة الغناء موارد :

1 - التغنی بالقرآن

قد استدلوا علی جواز التغنّی بالقرآن عدة مِن الروایات :

ص:310


1- (1) شرح القواعد 1 / 200 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 179 .
3- (3) الجواهر 22 / 50 .

منها : ما رواه العامة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : تغنّوا به ، فمن لم یتغنَّ بالقرآن فلیس منّا»(1) .

ومنها : ما نقل الطبرسی عنهم فی تفسیره : « عبد الرحمن بن السائب قال : قدم علینا سعد بن أبی وقاص ، فأتیته مسلّماً علیه ، فقال : مرحباً یا ابن أخی ، بلغنی أنّک حسن الصوت

بالقرآن ، قلت : نعم والحمد اللّه ، قال : فإنّی سمعتُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : إنّ القرآن نزل بالحُزْن ، فإذا قرأتموه فابکوا ، فإن لم تبکوا فتباکوا وتغنّوا به ، فمن لم یتغنّ بالقرآن فلیس منّا»(2) .

أقول : ورواها صاحب جامع الأخبار / 131 ح 16 ونقل عنه فی بحار الأنوار 92 / 188 ح 12 وفی مستدرک الوسائل 4 / 273 ح 7 .

ومنها : خبر أبی بصیر الماضی آنفاً(3) .

أقول : لا یتمّ الاستدلال بهذه الروایات مِنْ وجوه :

أولاً : ضعف إسنادها ، لأنّ الأولان منهما عامیان والثالث ضعیف بعلی بن أبی حمزة البطائنی .

ثانیاً : لیس المراد بالتغنّی بالقرآن رفع الصوت به غناءً ، بل المراد به الاستغناء بالقرآن ، کما ظهر ما ذکرنا بالمراجعة إلی کتب اللغة والتفسیر والحدیث والفقه :

قال ابن الأثیر : « وفی حدیث القرآن « مَن لم یتغنّ بالقرآن فلیس منّا» أی لم یستغن به عن غیره . یقال : تَغَنَّیْتُ وتغانَیْتُ واستغنیتُ . وقیل : أراد مَنْ لم یجهر بالقراءة فلیس منّا . وقد جاء مفسراً .

وفی حدیث آخر « ما أذن اللّه لشیءٍ کإذنه لنبیٍّ یتغنّی بالقرآن یَجْهَرُ به» .

قیل : إنّ قوله « یَجْهَرُ به» تفسیر لقوله « یتغنّی به» .

ص:311


1- (4) سنن ابن ماجة 1 / 424 ح 1337 .
2- (1) مجمع البیان 1 / 16 .
3- (2) وسائل الشیعة 6 / 211 ح 5 .

وقال الشافعی : معناه تحسین(1) القراءة وترقیقُها ... »(2) .

وقال الطبرسی بعد نقل الروایة : « وتأول بعضهم تغنّوا به بمعنی استغنوا به ، وأکثر العلماء علی أنّه تزیین الصوت وتحزینه ... »(3) .

وقال الصدوق بإسناده إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : « لیس منّا من لم یتغن بالقرآن ، ومعناه : لیس منّا من لم یستغن به ، ولا یذهب به إلی الصوت . وقد روی أنّ من قرأ القرآن فهو غنیً لا فقر بعده . وروی أنّ من اُعطی القرآن فظن أنّ أحداً اُعطی أکثر ممّا اُعطی فقد عظّم

صغیراً وصغّر کبیراً . فلا ینبغی لحامل القرآن أن یری أنّ أحداً من أهل الأرض أغنی منه ولو ملک الدنیا برحبها ، ولو کان کما یقوله قوم : أنّه الترجیع بالقراءة وحسن الصوت لکانت العقوبة قد عظمت(4) فی ترک ذلک أن یکن مَنْ لم یرجّع صوته بالقراءة فلیس مِنْ النبی صلی الله علیه و آله وسلم حین قال : (لیس منّا مَنْ لم یتغن بالقرآن) »(5) .

قال الشریف المرتضی یرفعه « عن عبد اللّه بن نهیک أنّه دخل علی سعد فی بیته فإذا مثال(6) رثّ(7) ومتاع رثّ ، فقال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لیس منّا من لم یتغن بالقرآن . قال أبو عبیدة : فذکر المتاع الرث والمثال الرث یدلّ علی أن التغنّی بالقرآن : الاستغناء به عن الکثیر من المال»(8) .

وقال الشیخ فی المبسوط : « وروی عنه [ أی عن رسول اللّه ] صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لیس منّا مَنْ لم یتغنَّ بالقرآن ، وقیل فی أحد تأویلاته یعنی : یحسن صوته به ، وقیل : معناه یستغنی به من

ص:312


1- (3) فی الهروی : تحزین .
2- (4) النهایة 3 / 391 .
3- (5) مجمع البیان 1 / 16 .
4- (1) أی کثرت .
5- (2) معانی الأخبار / 279 ونقل عنه مختصراً فی مستدرک الوسائل 4 / 273 ح 7 .
6- (3) المثال : الفراش .
7- (4) الرث : السقط من متاع البیت .
8- (5) أمالی الشریف المرتضی 1 / 24 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 4 / 273 ح 9 .

غنی المال ... »(1) .

وقال الفاضل الأصبهانی : « ... فقد فسر التغنّی فیه [ أی فی القرآن [بالإستغناء ، کما روی : أنَّ من قرأ القرآن فهو غنی لا فقر بعده ... »(2).(3) .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ المراد بالتغنّی بالقرآن لیس إلاّ الاستغناء به ، لا رفع الصوت به غناءً . ویؤید ما ذکرناه نفی قراءة القرآن غناءً فی عدّة من الروایات وأنّ هذا الفعل یأتی به اُناس فی آخر الزمان إثماً وعصیاناً .

منها : حسنة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر ، فإنّه سیجیء مِنْ بعدی أقوام یرجّعون القرآن ترجیع الغناء والنوح والرهبانیة لا یجوز تراقیهم ، قلوبهم مقلوبة ، وقلوب من یعجبه شأنهم(4) .

سند الروایة حسنٌ ، لأن المراد بابراهیم الأحمر هو إبراهیم بن إسحاق الأحمری النهاوندی ، وضعّفه جمع ولکن قال المامقانی : الأظهر حسنه . والمراد بعبد اللّه بن حماد هو الأنصاری من شیوخ أصحابنا ، ولا أقل من حسنه لو لم یکن ثقة . فالسند صار بهما حسناً .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن الحسن بن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر ، فإنّه سیجیء مِنْ بعدی أقوام یرجّعون القرآن ترجیع الغناء والنوح ، قلوبهم مفتونة وقلوب من یعجبه شأنهم(5) .

وقال صاحب جامع الأخبار مرفوعاً عن حذیفة بن الیمان قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر ، وسیجیء

ص:313


1- (6) المبسوط 8 / 227 .
2- (7) وسائل الشیعة 6 / 178 ح 3 . الباب 6 من أبواب قراءة القرآن .
3- (8) کشف اللثام 10 / 294 .
4- (9) وسائل الشیعة 6 / 210 ح 1 الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .
5- (1) مستدرک الوسائل 4 / 272 ح 1 .

قوم من بعدی یرجّعون بالقرآن ترجیع الغناء والرهبانیة والنوح لا یجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذین یعجبهم شأنهم(1) .

رواها الطبرسی فی مجمع البیان 1 / 16 والشیخ بهاء الدین فی کشکوله 2 / 5 .

فعلی هذا لا یتم دلیل استثناء حرمة الغناء فی القرآن ، فالتغنّی بالقرآن حرام بل أعظم حرمة من التغنی بغیره ، لأنّ فیه نوع استخاف وإهانة بالمقدسات ، وهکذا الأمر فی الأدعیة والأذکار والزیارات ونحوها .

وفی هذا المجال أیضاً راجع إلی ما کتبه جدی العلامة آیة اللّه الحاج الشیخ محمد حسین النجفی الأصفهانی المتوفی عام 1308 فی تفسیره(2) من الفرق بین تحسین الصوت بالقرآن والترجیع به وبینهما وبین التغنّی بالقرآن ، حتّی یظهر لک الحال وکلامه هو الفصل فی المقام .

2 - مراثی ائمة أهل البیت علیهم السلام

الظاهر أنّ أوّل من تعرض لهذا الاستثناء المحقق الثانی المتوفی عام 940 ، قال فی جامع المقاصد : « واستثنی بعضهم مراثی الحسین علیه السلام کذلک»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « وقد استثنی مراثی الحسین علیه السلام أیضاً ، دلیله أیضاً غیر واضح ... ویؤیده أنّ البکاء والتّفجّع علیه علیه السلام مطلوب ومرغوب وفیه ثواب عظیم ، والغناء معین علی ذلک وأنّه متعارف دائماً فی بلاد المسلمین فی زمن المشایخ إلی زماننا هذا من غیر نکیر ، وهو یدلّ علی الجواز غالباً . ویؤیده جواز النیاحة بالغناء وجواز أخذ الاُجرة علیها .ثمّ استدل بالروایات المجوِّزة الواردة فی النیاحة ، ثمّ قال : ویؤیده أنّ التحریم للطرب علی الظاهر ، ولهذا قُیّد بالمطرب ولیس فی المراثی الطرب ، بل لیس إلاّ الحزن ، وأکثر هذا یجری فی استثناء مطلق المراثی ، وکأنّه تُرک للظهور .

وبالجملة ، عدم ظهور دلیل التحریم والأصل وأدلة جواز النیاحة مطلقاً بحیث یشمل

ص:314


1- (2) جامع الأخبار / 130 ح 11 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 4 / 272 ح 3 .
2- (3) مجد البیان فی تفسیر القرآن / 184 .
3- (4) جامع المقاصد 4 / 23 .

الغناء بل الظاهر أنّها لا تکون إلاّ معه ، یفید الجواز ، واللّه یعلم .

ولکن لابدّ مِنْ قصد التفجّع والندبة علیه علیه السلام فی الغناء بمرثیته لا غیر ، وهو ظاهر»(1) .

وقال المحقق السبزواری : « وعن بعضهم استثناء مراثی الحسین علیه السلام وهو غیر بعید»(2) .

ومن الذین تبعهم فی هذا الإستثناء هو الفاضل النراقی فی مستند الشیعة(3) .

وأنت تری أنّ الأصحاب ذکروا مراثی الامام الحسین علیه السلام فقط ، ولکن حیث کلّهم أنّ نور واحد عممنّا العنوان فی جمیعهم .

ولکن أنکر الاستثناء جماعة من الأصحاب ، ولعل الإنکار هو القول المشهور :

ومن المنکرین صاحب الحدائق ، قال : « وبعضهم استثنی مراثی الحسین علیه السلام أیضاً قال ، فی الکفایة : وهو غیر بعید . أقول : بل هو بعید غایة البعد ، لما عرفت ممّا قدمناه من الأخبار المتکاثرة ، إلاّ أنّ ما ذکره جید علی مذهبه فی المسألة ممّا قدمنا نقله عنه»(4) .

ومنهم : الوحید البهبهانی قال فی تعلیقه علی مجمع الفائدة والبرهان : « فی أمثال زماننا نری النکیر ، ونری أنّه لا ینفع ولا ینجع ، ونری أنّه ربما یتقون من الناس والعوام ، فلعلّ السابق کان کذلک ، بل لا ندری أنّه فیما سبق کانوا یغنّون فی المراثی ، فضلاً عن تعارف ذلک بینهم ، وخصوصاً مع دعوی عدم النکیر ، مع أنّ المشایخ صرحوا فی کتبهم بالحرمة من غیر

استثناء أصلاً ، واستثنوا الحِداء والزفّة والعرس للمغنیة ولم یستثنوا شیئاً إلاّ ما نسب إلی نادر منهم .

وربما یتمسّک بقول الصادق علیه السلام للمنشد الذی کان یقرأ عنده : « إقرأ کما کنت تقرأ عندکم بالعراق»(5) ، وفیه أیضاً تأمل ظاهر ، لعدم معلومیة المراد وأنّه کان یغنّی بالعراق

ص:315


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / (63 - 61) .
2- (2) الکفایة 1 / 434 .
3- (3) مستند الشیعة 14 / (146 - 144) .
4- (4) الحدائق 18 / 117 .
5- (1) کامل الزیارات / 104 و 105 ح 1 و 5 .

فتدبر» .

ثمّ قال معلقاً علی قوله : « ویؤیده جواز النیاحة بالغناء» : « لا تأمل فی أنّ النوحة حلال علی کلِّ میت ، سیما علی الحسین علیه السلام ، فلو کان فی الغناء فهو مستثنی وإلاّ فلا استثناء ولا معارضة ، ولعلّه کذلک ، إذ لا یقال فی العرف : أنّه یغنّی ، وإنّ النوحة غناءٌ ، والعرف مقدّم علی اللغة کما حقق . مع أنّ جواز النوحة بلا مضایقة وعدم جواز الغناء مطلقاً ، یؤید التقدیم هنا . وبالجملة ، لم یظهر کون النوحة غناءً حتّی یتوجه ما یقوله ، ویحتاج إلی ارتکاب خلاف الظاهر والتخصیص الذی هو مخالف للأصل ، ومجرد کونه معیناً علی البکاء لا یصلح للتخصیص ، إذ ربما یحصل الإعانة بالأفعال المحرّمة»(1) .

ومنهم : سید الریاض فی کتابه(2) .

ومنهم : جدنا الشیخ جعفر فی شرحه علی القواعد(3) وتلمیذاه وهما صاحبا المفتاح(4) والجواهر(5) .

ومنهم : تلمیذ صاحب الجواهر السید علی آل بحر العلوم قدس سره فی برهان الفقه فی بحث النوح(6) .

ومنهم : الشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(7) .

أقول : لابدّ من متابعة هؤلاء الأعلام ، لأنّ المرثیة تدخل تحت عنوان النوح ، وسوف یأتی فی هذا الکتاب فی محلّه أنّ النوح علی کلّ میت جائز وعلی الأئمة المعصومین علیهم السلام

مستحب .

ص:316


1- (2) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 30 و 29 .
2- (3) ریاض المسائل 8 / 157 .
3- (4) شرح القواعد 1 / 194 .
4- (5) مفتاح الکرامة 12 / 177 .
5- (6) الجواهر 22 / 51 .
6- (7) برهان الفقه - کتاب التجارة / 20 .
7- (8) المکاسب المحرمة / 39 الطبع الحجری - (1 / 308 وما بعدها) .

ثمّ هل یمکن الإتیان بالرثاء والنوح مع الغناء أولا ؟ الظاهر إمکانه ، بل وقوعه ، لأنه قد مرّ أنّ الغناء هو کیفیة خاصة للصوت ، والمحتوی لیس دخیلاً فی معناه . وأیضاً قد مرّ أنّ الطرب الحاصل من الغناء أعمّ من السرور والحزن ، فحینئذ یمکن الإتیان بالمرثیة والنوح علی طریق الغناء ولکنه صار به حراماً ، فلا یمکن الإتیان بالمستحب وهو مرثیة الأئمة علیهم السلام مع الحرام وهو الغناء .

والروایات الآمرة برثائهم خالیة عن استعمال الغناء فیها ، فهو بحرمته باقٍ . والسیرة المستمرة من المسلمین تنفی استعمال الغناء فی المرثیة . وکون الغناء معیناً علی البکاء - وإن کان فی الجملة صحیحاً - ولکن لا یمکن الاستفادة به فی شیءٍ حتّی المحرّمات الشرعیة للإعانة علی البکاء کما هو واضح .

فما ذکره أصحاب جامع المقاصد ومجمع الفائدة والکفایة ومستند الشیعة فی المقام غیر تام ، فلا یتم عندنا استثناء مراثی الأئمة علیهم السلام من حرمة الغناء کما علیه المشهور ، واللّه سبحانه هو العالم .

3 - العرائس

قد نسب إلی المشهور استثناء حرمة الغناء فی الأعراس :

قال الشیخ فی النهایة : « ولا بأس بأجر المغنیة فی الأعراس ، إذا لم یُغَنَّین بالأباطیل ولا یَدْخُلْنَ علی الرجال ولا یَدْخُلُ الرجالُ علیهنّ»(1) .

وهکذا ذهب إلی الجواز المحقق فی النافع(2) .

وقال العلامة فی التذکرة : « أمّا المغنیة فی الأعراس فقد ورد رخصة بجواز کسبها إذا لم تتکلّم بالباطل ولم تلعب بالملاهی ولم یدخل الرجال علیها »(3) .

ص:317


1- (1) النهایة / 367 .
2- (2) المختصر النافع / 116 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 140 .

أقول : ونحوها فی القواعد(1) ونهایة الإحکام(2) واختاره فی المختلف(3) واستدل له .

وقال فی التحریر : « الغناء حرام وتعلیمه وأجر المغنیة کذلک ، وقد وردت رخصة بإباحة أجر المغنیة فی العرائس إذا لم تتکلّم بالباطل ولا تلعب بالملاهی کالعیدان والقصب ، بل تکون ممّن تزفّ العروس وتتکلّم عندها بإنشاد الشعر والقول البعید عن الفحش والباطل ، وما عدا ذلک حرام فی العرس وغیره»(4) .

وذهب إلی هذا الاستثناء جماعة من الأعلام ، نحو : الفاضل المقداد فی التنقیح الرائع(5) وتلمیذه الشیخ شمس الدین محمد بن شجاع القطان الحلّی فی معالم الدین فی فقه آل یاسین(6) والشهید فی الدروس(7) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(8) والشهید الثانی فی المسالک(9) والروضة(10) والمحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(11) والمحقق السبزواری فی الکفایة(12) والبحرانی فی الحدائق(13) وسید الریاض(14) والفاضل النراقی(15) والسید العاملی(16) وصاحب

ص:319


1- (4) قواعد الأحکام 2 / 8 .
2- (5) نهایة الإحکام 2 / 496 .
3- (6) مختلف الشیعة 5 / 18 .
4- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 259 مسألة 3012 .
5- (2) التنقیح الرائع 2 / 11 .
6- (3) معالم الدین فی فقه آل یاسین 1 / 330 .
7- (4) الدروس 3 / 162 .
8- (5) جامع المقاصد 4 / 23 .
9- (6) مسالک الأفهام 3 / 126 .
10- (7) الروضة البهیة 3 / 213 .
11- (8) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 59 .
12- (9) الکفایة 1 / 434 .
13- (10) الحدائق 18 / 116 .
14- (11) ریاض المسائل 8 / 157 .
15- (12) مستند الشیعة 14 / 141 .
16- (13) مفتاح الکرامة 12 / 175 .

الجواهر(1) وتلمیذه صاحب برهان الفقه(2) والشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(3) .

هذا هو القول المشهور فی المقام وهو الجواز وفی قباله قولان آخران :

الأوّل : الحرمة مطلقاً حتّی بالنسبة إلی الغناء فی الأعراس ، والقائل به : أبو الصلاح الحلبی فی الکافی(4) وابن إدریس الحلی فی السرائر(5) وفخر المحققین فی الإیضاح(6) .

وعدّ العلامة فی المختلف المفید وسلاّر من القائلین بالتحریم ، حیث قال : « وقال المفید : کسب المغنیات حرام وتعلّم ذلک وتعلیمه حرام فی شرع الإسلام(7) وأطلق ولم یفصّل . وکذا قال سلاّر(8)»(9) .

ومن القائلین بالحرمة جدنا الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد(10) .

الثانی : کراهة الغناء فی العرس ، ذهب إلیه القاضی ابن البراج(11) وقال فی المفتاح : « لعلّه أراد التحریم ، لأنّه من القدماء ولسانهم فی الکراهیة معلوم»(12) .

قد استدلوا علی جواز التغنّی فی الأعراس بعدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی بصیر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أجر المغنیة التی تزفّ العرائس

ص:319


1- (14) الجواهر 22 / 49 .
2- (15) برهان الفقه . کتاب التجارة / 18 .
3- (16) المکاسب المحرمة / 40 من الطبع الحجری - (1 / 313) .
4- (17) الکافی فی الفقه / 280 .
5- (18) السرائر 2 / 224 .
6- (19) ایضاح الفوائد 1 / 405 .
7- (1) المقنعة / 588 .
8- (2) المراسم / 170 .
9- (3) مختلف الشیعة 5 / 19 .
10- (4) شرح القواعد 1 / 199 .
11- (5) المهذب 1 / 346 .
12- (6) مفتاح الکرامة 12 / 176 .

لیس به بأس ، ولیست بالتی یدخل علیها الرجال(1) .

ومنها : خبر آخر لأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المغنیة التی تزف العرائس لا بأس بکسبها(2) .

ویمکن تصحیح سند هذا الخبر ، لأنّ العدّة فیهم ثقات وأحمد بن محمد ثقة والحسین بن سعید ثقة [ علی فرض وجوده فی السند ] ، والإشکال فی السند لیس إلاّ من جهة حکم الحنّاط ، وهو الحکم بن أیْمن الحنّاط ، قال النجاشی : « روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام وأبی الحسن علیه السلام »(3) وقال الشیخ « له أصل»(4) ، ولیس له توثیق ولکن روی عنه ابن أبی عمیر وصفوان بسند صحیح فی الکافی 2 / 24 ح 1 و 4 / 391 ح 3 .(5) وعلی مبنی أنّ المشایخ الثلاثة لا یروون ولا یرسلون إلاّ عن ثقة فالرجل صار من الثقات ، ولکن فیه ما لا یخفی . ومن

الممکن أن نذهب إلی أنّ النجاشی دیدنه نقل المطاعن الواردة فی الشخص کما اعترف به السید الداماد(6) ، وحیث لم یذکر له طعناً فالرجل صار من المعاریف ، حیث ینقل عنه المشایخ وله أصل ، فیمکن القول بحسنه واعتباره .

ومنها : خبر ثالث لأبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن کسب المغنیات ؟ فقال : التی یدخل علیها الرجال حرام ، والتی تدعی إلی الأعراس لیس به بأس ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(7) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن أبی جعفر علیه السلام : إنّ رجلاً من شیعته أتاه فقال : یابن رسول اللّه وردتُ المدینة فنزلت علی رجل أعرفه ولا أعرفه بشیءٍ من اللهو ،

ص:320


1- (7) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 3 . الباب 15 من أبواب ما یکتسب به .
2- (8) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 2 .
3- (9) رجال النجاشی / 137 الرقم 354 .
4- (10) فهرست کتب الشیعة وأصولهم / 160 الرقم 246 .
5- (11) الموسوعة الرجالیة المیسّرة / 170 .
6- (1) الرواشح السماویة / 115 ، الراشحة السابعة عشر .
7- (2) وسائل الشیعة 17 / 120 ح 1 .

فإذا جمیع الملاهی عنده ، وقد وقعت فی أمر ما وقعت فی مثله ، فقال علیه السلام له : أحسن جوار القوم حتّی تخرج من عندهم ، فقال : یابن رسول اللّه فما تری فی هذا الشأن ؟ قال : أمّا القینة التی تتخذ لهذا فحرام ، وأمّا ما کان فی العرس وأشباهه فلا بأس به(1) .

القینة : الأمة المغنیّة .

الأصحاب افتوا علی طبق هذه الروایات وقیدوا بها إطلاق أدلة حرمة الغناء ، فلا بأس بأخذها والإفتاء علی طبقها والذهاب إلی جواز الغناء فی العرس .

أمّا الشرائط الثلاثة التی اشترطوها فهی خارجة عن الغناء ، وهی محرّمات اُخری ولم تنحصر فی الثلاثة بل یمکن عدّها إلی ثلاثین ، فهذه الاُمور الثلاثة من التکلّم بالباطل والتلاعب بالملاهی ودخول الرجال علی المغنیة بنفسها من المحرّمات ، لا أنّها قیود للحکم بجواز التغنّی فی الأعراس .

نعم ، لابدّ من الاجتناب عنها کغیرها من المحرّمات ، ولذا لا أثر لها فی الروایات المجوِّزة إلاّ عدم دخول الرجال علیها فی صحیحة أبی بصیر(2) ، وهو عنوان مشیر إلیها بأنّها غیر المغنیة المتعارفة عند أهل الغناء .

ولکن لابدّ فی الجواز من التوقف علی العرس ، وهو الزفاف - أی إهداء العروس إلی زوجها حتّی یدخل بها - دون الختان ونحوه ، وهکذا علی المغنیة دون المغنّی لانحصار أدلة

الجواز .

ویأتی منّا عدم تمامیة استثناء الضرب بالدف فی العرس والختان من حرمة آلات اللهو والموسیقی ، فانتظر .

4 - الحُداءُ
اشارة

وهو سَوْق الإبل بالغناء لها ، استثناه جماعة من الأصحاب من حرمة الغناء :

ص:321


1- (3) مستدرک الوسائل 13 / 91 ح 2 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 3 .

منهم : الشیخ قال : « وأمّا الحُداء - وهو الشعر الذی تحثُّ به العرب الإبل علی الإسراع فی السیر - فهو مباح ، وهو ممدود ، لأنّه من الأصوات کالدُعاءٍ والنِداء والثُغاءٍ(1) والرُغاءٍ(2) ، وفیه لغتان حُداء وحِداء والضم أقیس لأنّ أوائل الأصوات مضمومة کالدُعاء والثُغاء والخُوار(3) ، والکسر جائز کالغِناء والنِداء . وإنّما قلنا إنّه مباح لما رواه ابن مسعود قال : کان مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لیلة نام فی الوادی حادیان .

وروی عن عائشة أنّها قالت : کنّا مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی سفر وکان عبد اللّه بن رواحة جیّد الحداء وکان مع الرجال ، وکان أنجشة مع النساء ، فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعبد اللّه بن رواحة : حرّک بالقوم ، فاندفع یرتجز فتبعه أنجشة فاعتنقت الإبل ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم لأنجشة : رویدک رفقاً بالقواریر ، یعنی النساء .

وروی أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم کان فی سفر فأدرک رکباً من تمیم معهم حادٍ ، فأمرهم بأن یحدوا وقال : إنّ حادینا نام آخر اللیل ، فقالوا : یا رسول اللّه نحن أوّل العرب حداء بالإبل ، قال : وکیف ؟ قالوا : کانت العرب تغیر بعضها علی بعض ، فأغار رجل منّا علی إبل فاستاقها فتبددت الإبل ، فغضب علی غلامه فضربه بالعصا فأصابت یده ، فنادی وایداه ، فجعلت الإبل تجتمع فقال له : هکذا فقل - یعنی قل : وایداه - فقال ، والنبی یضحک . فقال : من أنتم ؟ قالوا : من مضر ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ونحن من مضر ، فکیف کنتم أوّل العرب ؟ فانتسب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم تلک اللیلة حتّی بلغ بالنسب إلی مضر ، وضحک النبی صلی الله علیه و آله وسلم من قولهم « نحن أوّل العرب حداء » ، ثمّ قالوا : نحن من مضر ، فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم ونحن أیضاً من مضر فکیف کنتم أوّل العرب حداء »(4) .

ص:322


1- (1) صوت الشاة .
2- (2) رغاءُ البعیر أو النُعام أوالضبع : صوته وضجّته .
3- (3) صوت البقرة .
4- (4) المبسوط 8 / 225 و 224 .

وتبعه أعلام الطائفة ، منهم : المحقق فی شهادات الشرائع(1) والعلامة فی شهادات القواعد(2) والشهید فی شهادات الدروس(3) والشهید الثانی فی المسالک(4) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(5) ، وقال المحقق السبزواری : « المشهور بین الأصحاب استثناء الحداء - وهو سوق الإبل بالغناء لها - ولا أعلم حجة علیه إلاّ أنْ یقال بعدم شمول أدلة المنع له»(6) .

وقال الفاضل النراقی : « الحق فیه : عدم الحرمة للأصل وعدم ثبوت الحرمة الکلیّة »(7) .

ولکن لعلّ المشهور علی خلافهم ، لعدم وجود مستند لهذا الاستثناء ، ومن القائلین بالحرمة : صاحب الحدائق واعترف ب- « أنّ المسألة خالیة عن النص»(8) . والفاضل الأصبهانی(9) والوحید(10) والشیخ جعفر(11) وتلمیذیه السید العاملی(12) وصاحب الجواهر(13) وتلمیذه صاحب برهان الفقه(14) وسید الریاض(15) والشیخ الأعظم(16) .

ص:323


1- (1) الشرائع 4 / 128 .
2- (2) قواعد الأحکام 3 / 495 .
3- (3) الدروس 2 / 126 .
4- (4) مسالک الأفهام 3 / 126 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 59 .
6- (6) الکفایة 1 / 434 .
7- (7) مستند الشیعة 14 / 144 .
8- (8) الحدائق 18 / 116 .
9- (9) کشف اللثام 10 / 294 .
10- (10) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 28 .
11- (11) شرح القواعد 1 / 203 .
12- (12) مفتاح الکرامة 12 / 177 .
13- (13) الجواهر 22 / 50 .
14- (14) برهان الفقه - کتاب التجارة / 18 طبع الحجری .
15- (15) ریاض المسائل 8 / 157 .
16- (16) المکاسب المحرمة / 40 طبع الحجری - (1 / 313) .

وأمّا مستند القائلین بالجواز هو ما روی العامة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم (1) کما مرّ فی کلام الشیخ .

والروایة بل الروایات کماتری عامیة لم تنقل من طرقنا ، فلا یمکن الاعتماد علیها

والحکم بها بالجواز .

ولکن ورد فی معتبرة السکونی عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : زاد المسافر الحُداء ، والشعر ما کان منه لیس فیه جفاء(2) .

الروایة تدلّ علی جواز الحداء ولکن یعارضها الروایتان :

أولاهما : خبر الفضل الهاشمی عن بعض مشیخته عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أما یستحیی أحدکم أن یغنّی علی دابّته وهی تسبّح(3) .

وثانیتهما : مرفوعة بعض أصحابنا قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا تضربوها علی العثار واضربوها علی النفار . وقال : لا تغنّوا علی ظهورها ، أما یستحیی أحدکم أن یغنّی علی ظهر دابّة وهی تسبّح(4) .

ومن المعلوم أنّ الأخیرتان مخالفتان للعامة ، فلابدّ من الأخذ بهما والحکم علی طبقهما من عدم جواز الحُداء والتغنّی علی ظهر الدابة .

لاسیما أنّ راوی الروایة الاُولی السکونی وهو من قضاة العامة فیحتمل فیها التقیة . ولعله لأجل التعارض أو الحمل علی التقیة أعرض جماعة من الأصحاب قدس سرهم عن هذه المعتبرة .

نعم ، لو قلنا بأنّ الحُداء قسیم للغناء بشهادة العرف فیکون خارجاً عن موضوع الغناء

ص:324


1- (17) سنن البیهقی 10 / 227 .
2- (1) وسائل الشیعة 11 / 418 ح 1 . الباب 37 من أبواب آداب السفر - المحاسن 2 / 103 ح 75 .
3- (2) وسائل الشیعة 11 / 419 ح 2 - المحاسن 2 / 124 ح 146 .
4- (3) المحاسن 2 / 468 ح 98 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 419 ح 3 .

لاعن حکمه ، فیمکن القول فیه بالجواز ، کما قاله الشیخ جعفر(1) وتلمیذاه صاحبا مفتاح الکرامة(2) والجواهر(3) . وکما یظهر من الشیخ الطائفة(4) قبلهم حیث لم یأخذ فی تعریفه الغناء کما سبق ذکره والفاضل الأصبهانی حیث یقول : « ... ما لم یخرج إلی حد الغناء ... ولکن لابدّ من أن لا یخرج إلی حد الغناء لانتفاء الدلیل علی حلّه حینئذٍ»(5) .

وعلی هذا - یعنی لو قلنا بأنّه قسیم للغناء - یمکن التعدی من الإبل إلی البغال والحمیر ،

وأمّا لو قلنا بأنّه من الغناء واستثنی من حرمته فلا یتعدی من الإبل إلی البغال والحمیر ، واللّه هو العالم .

وبهذا البیان تمّ المقام الخامس فی المستثنیات وللّه الحمد .

فروعٌ
اشارة

ثم إنّ هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها :

الأوّل :

قال الشیخ جعفر قدس سره : « ویقوی أیضاً خروج أصوات عملة السفن عند مباشرة الأعمال ، وترجیع الاُمّهات لنوم الأطفال ، والنداء لتحریض الرجال علی القتال ، والأصوات المشجیة فی المناجاة ، والأصوات الغیر المشتملة علی الحروف کالهلهلة(6) علی النحو المعروف . ومن الحزم اجتناب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات»(7) .

ص:325


1- (4) شرح القواعد 1 / 205 .
2- (5) مفتاح الکرامة 12 / 177 .
3- (6) الجواهر 22 / 51 .
4- (7) المبسوط 8 / 224 .
5- (8) کشف اللثام 10 / 294 .
6- (1) هلهل الصوت : رجّعه .
7- (2) شرح القواعد 1 / 205 .

وقال السید العاملی : « وأمّا الرقص والهلاهل والروید(1) فی غیر حال الحرب وحضّ الرجال علی القتال فالحزم اجتنابه ، بل لعلّه یحرم فعله ، لأنّه من اللهو أو الباطل ، والحازم یجتنب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات»(2) .

وقال صاحب الجواهر : « نعم لا بأس بالهلهولة علی الظاهر لکونها صوتاً من غیر لفظ والغناء من الألفاظ ، وأمّا التردید المسمی بالحوراب فی عرفنا فربّما ظهر من بعض مشایخنا(3) معلومیة حلّیته فی حال الحرب وحثّ الرجال علی القتال المحلّل ، نعم قال : « الحزم اجتنابه واجتناب الرقص والهلهولة فی غیر ذلک ، بل لعلّه یحرم فعله لأنّه من اللهو أو الباطل ، والحازم یجتنب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات » .

وفیه : أنّه مع فرض عدم اندراجه فی الغناء یمکن فرضه فیما لا یدخل فی اللعب واللهو ، أمّا مع فرض اندراجه فیه فیشکل جوازه فیه(4) ، فضلاً عن غیره من الأحوال لإطلاق أدلة

النهی ، بل قد اقترنت بمؤکدات تقتضی إرادة جمیع الأفراد علی وجه أظهر دلالة من العموم اللغوی ، فتأمل جیداً ، واللّه العالم »(5) .

وقال تلمیذه السید علی آل بحرالعلوم فی برهان الفقه : « ولو أوجد الغناء المحرَّم من غیر ألفاظ ممیزة بل کان مجرد صوت علی لهجة الغناء فالظاهر حرمته ، لأنّ اللفظ غیر معتبرة فی حقیقة الغناء ، بل هو من کیفیات الصوت ، وفی جواهر الأستاد : « لا بأس بالهلهولة علی الظاهر لکونها صوتاً من غیر لفظ والغناء من الألفاظ» . وفیه : ما عرفت بل ادعی هو : « إتفاق الجمیع » فی صدر المسألة « علی أنّه من مقولات الأصوات أو کیفیاتها »(6) قال : « ولا ینافی ذلک عدّه من لهو الحدیث وقول الزور ونحوها ممّا یمکن کون المراد منه أنّه کذلک باعتبار هذه

ص:326


1- (3) رُوَید : مصدر أرْود مُصغّراً تصغیر الترخیم ، یقال : رویداً : أی مهلاً .
2- (4) مفتاح الکرامة 12 / 179 .
3- (5) إشارة إلی کلام صاحب المفتاح .
4- (6) أی فی الحرب .
5- (1) الجواهر 22 / 51 .
6- (2) الجواهر 22 / 44 .

الکیفیة الخاصة »(1) ، فلو اشتملت الهلهولة علی المدّ والترجیع المطرب المعتبر فی الغناء مثلاً تحرم أیضاً»(2) .

أقول : الحقّ موافقة صاحب برهان الفقه قدس سره من عدم مدخلیة الألفاظ فی الغناء ، فعلی هذا لو أوجد الغناء من غیر ألفاظ ممیزة یکون حراماً ، فظهر ممّا ذکرنا حکم کثیر من الفروع المذکورة ، نحو : الهلاهل والروید والحوراب .

نعم ، الأمر یدور مدار صدق الغناء عرفاً ، ففی کلّ مورد یصدق فهو غناء حتّی فی أصوات عملة السفن أو ترجیع الاُمّهات لنوم الأطفال والأصوات المشجیة فی المناجاة ونحوها یحکم بحرمتها ، وکلّ مورد لم یصدق تجری البراءة .

وکلّما کان حراماً لا یجوّزه الحرب إلاّ أن یطرأ علیه عنوانٌ ثانویٌ ، نحو لزومه فی الحرب بحیث ینحصر طریق غلبة المسلمین به .

وسیأتی حکم الرقص ضمن هذه الفروع فانتظر ، واللّه سبحانه هو العالم .

الثانی :

الغناء کما یحرم إذا أتی به المغنّی وحده أو المغنّیة وحدها سواء انضم به آلات الملاهی أم

لا ، کذلک یحرم إذا أتی به المغنیان أو المغنون ، أو المغنیتان أو المغنیات ، أو جماعة من المغنین والمغنیات معاً ، کلّ ذلک یحرم لإطلاق أدلة الغناء .

الثالث : استماع الغناء حرام

التغنّی من المحرّمات الشرعیة واستماعه أیضاً لا سماعه ، ولذا کثیر من الأصحاب فی ذکر تعاریفهم للغناء قیدوا حرمته بالاستماع ، نحو : الشیخ(3) والمحقق(4) والعلامة فی تذکرته(5)

ص:328


1- (3) الجواهر 22 / 45 .
2- (4) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 19 .
3- (1) المبسوط 8 / 214 .
4- (2) الشرائع 4 / 117 .
5- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 140 .

وتلخیص مرامه(1) وعدّ من المکاسب المحرّمة فی نهایته : « الغناء واستماعه وأجر المغنیة»(2) ، والشهید(3) وثانیه(4) والأردبیلی(5) والشیخ جعفر(6) وغیرهم .

ویدلّ علی حرمة الاستماع عدّة من الروایات .

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یتعمّد الغناء یجلس إلیه ؟ قال : لا(7) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن أبی بکر محمد بن عمرو بن حزم(8) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن زیاد(9) .

ومنها : صحیحة عنبسة(10) .

ومنها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه(11) .

ومنها : خبر سعید بن إبراهیم بن أبی البلاد(12) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری(13) .

وعلی هذا استماع الغناء حرام لا سماعه واللّه العالم .

ص:328


1- (4) تلخیص المرام فی معرفة الأحکام / 311 .
2- (5) نهایة الإحکام فی معرفة الأحکام 2 / 469 .
3- (6) الدروس 3 / 162 .
4- (7) مسالک الأفهام 14 / 180 .
5- (8) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 57 .
6- (9) شرح القواعد 1 / 193 .
7- (10) وسائل الشیعة 17 / 312 ح 32 .
8- (11) أمالی الطوسی . المجلس 43 ح 3 / 720 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 309 ح 24 .
9- (12) وسائل الشیعة 3 / 331 ح 1 .
10- (13) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 188 ح 14 .
11- (14) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 189 ح 19 .
12- (15) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 24 .
13- (1) مستدرک الوسائل 13 / 212 ح 4 .
الرابع :

استماع الغناء حرام مطلقاً ، سواء کان عارفاً بلسان المغنیة وعَرِفَ معانی کلامها أو لم یکن کذلک ، وسواء کان ظهر للمستمع مفردات کلامها وتبیین حروفها وتمیّز بین کلماتها وتعیین مقالتها أو لم یظهر ، کلّ ذلک حرام لإطلاق أدلة حرمة استماع الغناء .

ومن هنا لو تغنّت المغنّیة بلسان آخر وهو یستمع إلیها یکون حرام وإن لم یکن من أهل اللسان ، واللّه العالم .

الخامس : حرمة أجر المغنّی والمغنّیة

قال شیخ الطائفة : « کسب المغنیّات وتعلّم الغناء حرام»(1) . ثمّ استدرک بعد صفحة : « ولا بأس بأجر المغنیة فی الأعراس إذا لم یغنین بالأباطیل ولا یدخلن علی الرجال ولا یدخل الرجال علیهن»(2) .

وتبعه أعلام الطائفة أعلی اللّه مقامهم وکلمتهم ، وتدلّ علیه - مضافاً إلی القاعدة الکلیة « من عدم إباحة أعواض المحرّمات» وحرمة اُجورها - وادعی فی الجواهر تواتر الأدلة علی هذه القاعدة ووضوحها(3) - عدّة من الروایات :

منها : خبر نضر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المغنیة ملعونة ، ملعون من أکل کسبها(4) .

ورواه الصدوق فی الخصال / 297 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 91 ح 3 .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن کسب المغنیات ؟ فقال : التی یدخل علیها الرجال حرام ، والتی تدعی إلی الأعراس لیس به بأس ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ :

ص:329


1- (2) النهایة / 365 .
2- (3) النهایة / 367 .
3- (4) الجواهر 22 / 50 .
4- (5) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 4 .

«وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(1) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : روی أنّ أجر المغنّی والمغنّیة سحت(2) .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی عن الغناء وعن شراء المغنیات وقال : إنّ اُجورهنّ من السحت ، الحدیث(3) .

وقد ورد الحکم بأن کسب المغنیة حرام فی المقنع / 362 والهدایة / 314 والفقه الرضوی / 251(4) . ولم یناقش فیها أحدٌ من الأصحاب .

السادس : تعلیم وتعلّم الغناء بفعله

قال الشیخ : « ... وتعلّم الغناء حرام»(5) .

وقال ابن إدریس : « وکسب المغنیات وتعلّم الغناء [ وتعلیمه ] حرام»(6) .

وقال العلامة : « الرابع : ما نص الشارع علی تحریمه عیناً ک- ... والغناء وتعلیمه واستماعه وأجر المغنیة»(7) . ونحوها فی القواعد(8) والتحریر(9) .

وقال الشهید : « الغناء فیحرم فعله وتعلّمه وتعلیمه واستماعه والتکسب به ... »(10) .

وقال الأردبیلی : « الظاهر أنه لاخلاف حینئذٍ فی تحریمه وتحریم الاُجرة علیه وتعلّمه

ص:330


1- (6) وسائل الشیعة 17 / 120 ح 1 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 307 ح 17 .
3- (2) عوالی اللآلی 1 / 261 ح 42 ونقل عنه فیمستدرک الوسائل 13 / 215 ح 19 .
4- (3) کلّها من الطبعات الحدیثة .
5- (4) النهایة / 365 .
6- (5) السرائر 2 / 222 .
7- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 140 .
8- (7) قواعد الأحکام 2 / 8 .
9- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 259 .
10- (9) الدروس 3 / 162 .

واستماعه»(1) .

وقال الشیخ جعفر : « وهو وتعلّمه وتعلیمه بفعله لا بجنسه وفصله واستماعه ... وأجر المغنیة حرام لنفسه»(2) .

وتدلّ علیه عدّة من الروایات :

منها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله رجل عن بیع الجواری المغنیات ، فقال : شراؤهنّ وبیعهنَّ حرام وتعلیمهنّ کفرٌ واستماعهنَّ نفاق(3) .

ومنها : خبر ابراهیم بن أبی البلاد عن أبی الحسن علیه السلام وفیه : « وتعلیمهنّ کفرٌ ، الحدیث»(4) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن الصادق علیه السلام أنّه قال : لا یحلّ بیع الغناء ولا شراؤه واستماعه نفاق وتعلّمه کفر(5) .

ومنها : مرسلة الزمخشری عن أبی أمامة قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحلّ تعلیم المغنیات ، الخبر(6) .

أقول : إن کان التعلیم للتغنّی واستماعه وفعله فیکون حراماً وإن کان لبیان الجنس والفصل وتوصیفه فیکون جائزاً ، للأصل کما یظهر من جدنا الشیخ جعفر والمحقق الخوئی(7) قدس سرهما .

السابع : یجوز بیع الجواری المغنیات

قال الشیخ : « فأمّا ثمن المغنیات فلیس بحرام إجماعاً ، لأنّها تصلح لغیر الغناء من

ص:331


1- (10) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 57 .
2- (11) شرح القواعد 1 / 193 .
3- (1) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 189 ح 19 .
4- (2) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 24 .
5- (3) مستدرک الوسائل 13 / 221 ح 3 .
6- (4) البرهان فی تفسیر القرآن 4 / 362 ح 7 .
7- (5) مصباح الفقاهة 1 / 318 .

الاستمتاع بها وخدمتها »(1) .

قال العلامة الحلی : « ویجوز بیع الجاریة المغنیة وإن کان الغناء أکثر منافعها ، إذ لا یخرج بهذه الصفة عن المالیة . ولو کانت تساوی ألفاً وباعتبار الغناء تساوی ألفین ، فاشتراها بألفین ولولا الغناء لم تطلب إلاّ بألف ، فالوجه الصحة ، أمّا لو اشتراها بشرط الغناء المحرّم بطل »(2) .

قد وردت عدّة من الروایات فی المنع عن بیعهنَّ :

منها : التوقیع الذی ورد بسند معتبر عن مولانا صاحب الزمان (عج) وفیه : « ثمن المغنیة حرام»(3) .

وهذا التوقیع رواه فی وسائل الشیعة 17 / 123 ح 3 عن الصدوق عن محمد بن عصام الکلینی وهو مهمل . فسند الصدوق ضعیف . ولکن سند الشیخ حسن بل معتبر .

ومنها : صحیحة إبراهیم بن أبی البلاد قال : قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : جعلت فداک إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنّیات قیمتهنَّ أربعة عشر ألف دینار وقد جعل لک ثلثها ، فقال : لا حاجة لی فیها ، إنّ ثمن الکلب والمغنیة سحت(4) .

ومنها : خبره عن أبی الحسن علیه السلام وفیه : وثمنهنّ سحت(5) .

ومنها : خبر الحسن بن علی بن الوشاء قال : سُئل أبوالحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیة ؟ قال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه ، وما ثمنها إلاّ ثمن کلب وثمن الکلب سحت والسحت فی النار(6) .

ومنها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله رجل

ص:332


1- (6) المبسوط 8 / 223 .
2- (7) نهایة الإحکام 2 / 467 .
3- (8) الغیبة للشیخ الطوسی / 177 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 92 ح 2 .
4- (1) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 4 .
5- (2) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 5 .
6- (3) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 6 .

عن بیع الجواری المغنیات ؟ قال : شراؤهنّ وبیعهنّ حرام ، الحدیث(1) .

ومنها : غیرها من الروایات(2) .

والکلّ محمول علی دخالة الغناء فی البیع ، بحیث أن یکون باع أو اشتری الجاریة المغنیة بثمن أرفع وأزید من الجاریة العادیة لأجل الغناء المحرَّم .

ولکن إذا اشتراها بقصد خدمتها أو الاستمتاع بها أو أنّها جاریة من دون دخالة قصد الغناء أو مع دخالة قصد الغناء الذی لیس بحرام نحو الأعراس ، فالبیع صحیح ومن دون أداء الزیادة بجهة غنائها أو معها .

وتدلّ علی ما ذکرنا بعض من الروایات :

منها : خبر عبد اللّه بن الحسن الدینوری قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : جعلت فداک ما تقول فی النصرانیة اشتریها وأبیعها من النصرانی ؟ فقال : اشتر وبع ، قلت : فأنکح ؟ فسکت عن ذلک قلیلاً ، ثمّ نظر إلیَّ وقال وشبه الإخفاء : هی لک حلال .

قال : قلت : جعلت فداک فاشتری المغنیة أو الجاریة تحسن أن تغنّی أرید بها الرزق لا

سوی ذلک ؟ قال : اشتر وبع(3) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : سأل رجل علی بن الحسین علیه السلام عن شراء جاریة لها صوت ؟ فقال : ما علیک لو اشتریتها فذکّرتک الجنة(4) .

والحاصل ، یجوز بیع الجواری المغنیات من دون النظر إلی غنائهنّ وملاحظته أو مع الاستفادة منه علی جهة الحلال ، نحو : التغنّی فی الأعراس فقط . والروایات المانعة تحمل علی بیعهنّ لغنائهنّ الذی یستفاد منه فی الحرام . واللّه العالم بالأحکام .

الثامن : الموسیقی
اشارة

استعمال آلات الملاهی والمعازف ، والموسیقی وهی صوت یخرج من بعضها حرام ،

ص:333


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 7 .
2- (5) راجع مستدرک الوسائل 13 / 92 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 1 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 .

وأفتی به الأصحاب قدس سرهم ، منهم المفید ذهب إلی حرمة عمل هذه الأشیاء والإکتساب بها والتصرف فیها(1) .

ومنهم : أبو الصلاح الحلبی قال فی الکافی : « یحرم آلات الملاهی کالعود والطنبور والمزمار وأمثال ذلک وإعمالها للإطراب بها والغناء کلّه»(2) .

ومنهم : شیخ الطائفة قال فی مبسوطه وعدّ من الأصوات المحرّمة : « الثانی : محرّم وهو صوت الأوتار والنایات والمزامیر کلّها ، فالأوتار العود والطنابیر والمعزفة والرباب ونحوها ، والنایات والمزامیر معروفة ، وعندنا کذلک محرَّم تردّ شهادة الفاعل والمستمع . ثمّ ذکر روایتین تأییداً لکلامه قدس سره ثمّ قال : فإذا ثبت أنّ استماعه محرَّم إجماعاً فمن استمع إلی ذلک فقد ارتکب معصیة مجمعاً علی تحریمها ، فمن فعل ذلک أو استمع إلیه عمداً ردّت شهادته »(3) .

وقال فی النهایة : « ومنها (أی من المکاسب المحرّمة) عمل جمیع أنواع الملاهی والتجارة فیها والتکسب بها ، مثل العیدان والطنابیر وغیرهما من أنواع الأباطیل محرّمٌ محظورٌ »(4) .

ومنهم : ابن إدریس الحلی عدّ من المکاسب المحرّمة : « وآلات جمیع الملاهی علی اختلاف ضروبها من الطبول والدفوف والزمر وما یجری مجراه والقضیب والسیر والرقص

وجمیع ما یطرب من الأصوات والأغانی وما جری مجری ذلک والخبال علی اختلاف وجوهه وضروبه وآلاته»(5) .

وقال ابن زهرة : « وأجر عمل المحرّمات من الملاهی وآلات القمار وغیر ذلک من کل محرّم حرام ... کلّ ذلک بدلیل إجماع الطائفة وطریق الإحتیاط »(6) .

ص:334


1- (3) المقنعة / 587 .
2- (4) الکافی / 281 .
3- (5) المبسوط 8 / 214 .
4- (6) النهایة / 363 .
5- (1) السرائر 2 / 215 .
6- (2) غنیة النزوع / 399 .

وقال المحقق : « الثانی : ما یحرم لتحریم ما قُصد به کآلات اللهو ، مثل العود والزمر ... »(1) .

ومنهم : العلامة فی کتبه عدّ فی التذکرة من التجارات المحرّمة : « کلّ ما یکون المقصود منه حراماً کآلات اللهو کالعود ... »(2) .

وقال فی التحریر : « یحرم التکسب بکلِّ ما یکون المقصود منه حراماً کآلات اللهو مثل العود والزمر »(3) .

وقال فی النهایة : « وما لا منفعة فیه نظر الشرع ، کآلات الملاهی مثل المزمار والطنبور وغیرها إن کان ممّا لا یعدّ الرض مالاً لم یجز بیعها ، لأنّ المنفعة فیها لما کانت محرّمة شرعاً اُلحقت بالمنافع المعدومة حسّاً ، وإن عدّ الرض مالاً جاز بیعها قبل الرض للمنفعة المتوقعة . ویحمتمل المنع ، لأنّها علی هیئتها آلة الفسق ولا یقصد بها غیره مادام الترکیب ... »(4) .

وقال فی المنتهی : « ویحرم عمل الأصنام وغیرها من هیاکل العبادة المبتدعة وآلات اللهو کالعود والزّمر وآلات القمار کالنرد والشطرنج والأربعة عشر وغیرها من آلات اللعب بلا خلاف بین علمائنا فی ذلک»(5) .

وقال الشهید : « وثانیها : ما حرم لغایة کالعود والملاهی من الدف والمزمار والقصب والرقص والتصفیق وآلات القمار ... »(6) .

وقال المحقق الثانی : « ... فإنّ آلات اللهو الغرض الأصلی منها علی هذا الوضع

المخصوص هو المحرَّم ، وإن أمکن الانتفاع بها علی حالتها فی أمر آخر فهو مع ندرته أمر غیر مقصود بحسب العادة ، ولا أثر لکون رضاضها بعد تکسیرها ممّا ینتفع به فی المحلّل ویعدّ مالاً ،

ص:335


1- (3) شرائع الإسلام 2 / 10 و 9 .
2- (4) تذکرة الفقهاء 12 / 139 .
3- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 258 مسألة 3010 .
4- (6) نهایة الأحکام 2 / 467 .
5- (7) منتهی المطلب 2 / 1011 .
6- (8) الدروس 3 / 166 .

لأنّ بذل المال فی مقابلها وهی علی هیئتها بذل له فی المحرّم الذی لا یعدّ مالاً عند الشارع .

نعم ، لو باع رضاضها الباقی بعد کسرها قبل أن یکسرها وکان المشتری موثوقاً بتقواه وأنّه یکسرها أمکن القول بصحة البیع»(1) .

قال الشهید الثانی : « ... کما یحرم فعل الغناء یحرم استماعه ، کما یحرم استماع غیره من الملاهی ... »(2) .

وقال أیضاً : « آلات اللهو ونحوها وإن لم یکن الانتفاع بها فی غیر الوجه المحرّم ولم یکن لِمکسورها قیمة فلا شبهة فی عدم جواز بیعها ، لانحصار منفعتها فی المحرَّم ، وإن أمکن الانتفاع بها فی غیر الوجه المحرَّم علی تلک الحالة منفعة مقصودة واشتراها لتلک المنفعة ، لم یبعد جواز بیعها ، إلاّ أنّ هذا الفرض نادر ، فإنّ الظاهر أنّ ذلک الوضع المخصوص لا ینتفع به إلاّ فی المحرَّم غالباً والنادر لا یقدح . ومن ثَمَّ أطلقوا المنع من بیعها . ولو کان لمکسورها قیمة وباعها صحیحة لتکسر وکان المشتری ممّن یوثق بدیانته ففی جواز بیعها وجهان . وقوّی فی التذکرة جوازه مع زوال الصفة ، وهو حسن ، والأکثر أطلقوا المنع»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « الثانی ممّا یحرم بیعه والتکسب به : ما یحرم لتحریم ما یُقصد به کآلات اللهو مثل الدفوف والمزامیر والعود وغیرها وکآلات القمار ...ودلیل تحریم الکلِّ : الإجماع»(4) .

وقال صاحب الحدائق : « لاخلاف بین الأصحاب فی تحریم عمل آلات اللهو والتکسب بها وبیعها ، مثل العود والدفوف والطبول والمزامیر ونحوها ممّا ذکر ... وبالجملة فلا ریب فی تحریم البیع بقصد تلک الأغراض المحرَّمة بل مطلقاً أیضاً ، حیث أنّه لا غرض یترتب علی هذه الأشیاء إلاّ ذلک . أما لو أمکن الانتفاع بها فی غیر ذلک فیحتمل الجواز ، إلاّ أنّه فرض نادر ، فیمکن التحریم مطلقاً ، بناءً علی أنّ الغرض المتکرر المترتب علی تلک الآلات إنّما هو ما

ص:336


1- (1) جامع المقاصد 4 / 15 .
2- (2) مسالک الأفهام 14 / 180 .
3- (3) مسالک الأفهام 3 / 122 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 41 .

ذکرنا ، فلا یلتفت إلی الأفراد النادرة الوقوع . نعم : لو کان الغرض من البیع کسرها مثلاً

وبیعت لأجل ذلک ، فالظاهر أنّه لا ریب فی الجواز إذا کان المشتری ممّن یوثق به فی ذلک ... »(1) .

وقال الفاضل الأصبهانی : « وکذا یحرم عندنا استماع أصوات آلات اللهو کالزمر - وهو مصدر اُرید به الآلة أو الفاعل مجازاً لما یقال لآلته المزمار والزمارة - والعود والصنج والقصب وغیرها ، ویفسق فاعله ومستمعه ... »(2) .

وقال السید الطباطبائی : « الثانی : الآلات المحرّمة کالعود والطبل والزمر ... بإجماعنا المستفیض النقل فی کلام جماعة من أصحابنا ، وهو الحجة»(3) .

وادعی جدنا الشیخ جعفر علی فساد معاملة هذه الآلات : الإجماع فی شرحه علی القواعد(4) .

وقال الفاضل النراقی : « ما یُقصد منه المحرَّم کالآت اللهو من الدف والقصب والمزمار والطنبور و ... لا خلاف فی حرمة بیعها والتکسب بها ، ونقل الإجماع - کما قیل - به مستفیض ، بل هو إجماع محقق ، وهو الحجة فیه ... »(5) .

وقال صاحب الجواهر بعد أن ذکر حرمة التکسب بآلات اللهو مثل العود والزمر : « بلا خلاف أجده فیه ، بل الإجماع بقسمیه علیه والنصوص ... »(6) .

أقول : فظهر ممّا ذکرنا من کلمات الأصحاب أنّ عمل آلات الملاهی واستعمالها والاستماع إلیها والتکسب بها وبیعها کلّها محرّمة عندهم إجماعاً منقولاً مستفیضاً بل متواتراً بل محصَّلاً .

ص:337


1- (1) الحدائق 18 / 201 و 200 .
2- (2) کشف اللثام 10 / 295 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 140 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 156 .
5- (5) مستند الشیعة 14 / 88 .
6- (6) الجواهر 22 / 25 .

وتدلّ علی حرمة استعمال آلات اللهو ، المسماة بآلات الموسیقی عدّة من الروایات :

منها : صحیحة معمر بن خلاد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : خرجتُ وأنا اُرید داود بن عیسی بن علی وکان ینزل بئر میمون وعلیَّ ثوبان غلیظان ، فرأیتُ عجوزاً ومعها جاریتان فقلت : یا عجوز أتباع هاتان الجاریتان ؟ فقالت : نعم ، ولکن لایشتریهما مثلک ، قلت : ولم ؟ قالت : لأن أحداهما مغنّیة والاُخری زامرة ، فدخلتُ علی داود بن عیسی فرفعنی

وأجلسنی فی مجلسی ، فلما خرجت من عنده قال لأصحابه : تعلمون من هذا ؟ هذا علی بن موسی الذی یزعم أهل العراق أنّه مفروض الطاعة(1) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن زیاد قال : کنتُ عند أبی عبد اللّه علیه السلام فقال له رجل : بأبی أنت واُمّی إنّنی أدخل کنیفاً لی ولی جیران عندهم جوار یتغنین ویضربن بالعود ، فربّما أطلتُ الجلوس استماعاً منّی لهنّ ، فقال : لا تفعل ، فقال الرجل : واللّه ما آتیهنَّ إنّما هو سماع أسمعه باُذنی ، فقال : للّه أنت ، أما سمعت اللّه عزّ وجلّ یقول : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً»(2) ؟ فقال : بلی واللّه لکأنّی لم أسمع بهذه الآیة من کتاب اللّه من أعجمیٍّ ولا عربیٍّ ، لاجرم إنّنی لا أعود إن شاء اللّه ، وإنّی أستغفر اللّه ، فقال له : قم فاغتسل وسَلْ ما بدا لک ، فإنّک کنتَ مقیماً علی أمر عظیم ما کان أسوء حالک لو متَّ علی ذلک ، أحمد اللّه وسَلْه التوبة من کلِّ ما یکره ، فإنّه لا یکره إلاّ کلّ قبیحٍ ، والقبیحُ دَعْه لأهله لکلٍّ أهلاً(3) .

ومنها : خبر الأعمش عن جعفر بن محمد فی حدیث شرائع الدین قال : والکبائر محرَّمة ، وهی الشرک باللّه - إلی أن قال : - والملاهی التی تصدّ عن ذکر اللّه عزّ وجلّ مکروهة کالغناء وضرب الاُوتار والإصرار علی صغائر الذنوب(4) .

ومنها : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون قال : واجتناب

ص:338


1- (1) الکافی 6 / 478 ح 4 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 304 ح 4 .
2- (2) سورة الإسراء / 36 .
3- (3) الکافی 6 / 432 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 3 / 331 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 . الباب 46 من أبواب جهاد النفس .

الکبائر وهی - إلی أن قال : - والإشتغال بالملاهی والإصرار علی الذنوب(1) .

ومنها : صحیحة أو موثقة إسحاق بن جریر قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إنّ شیطاناً یقال له : « القَفَنْدَر » ، إذا ضُرب فی منزل الرجل أربعین صباحاً بالبرط ، دخل علیه الرجال وضع ذلک الشیطان کلّ عضو منه علی مثله من صاحب البیت ، ثمّ نفخ فیه نفخة فلا یغار بعدها حتّی تؤتی نساؤه فلا یغار(2) .

رواها الکلینی بسند صحیح فی الکافی 5 / 536 ح 5 وبسند موثق فیه أیضاً 6 / 433 ح 14 ، ونقل عن الأخیر فی وسائل الشیعة 17 / 312 ح 1 .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أنهاکم عن

الزفن والمزمار وعن الکوبات والکبرات(3) .

الزفن : الرقص . الکوب : الطبل الصغیر . الکَبَر : الطبل .

قال الفیض فی بیان ذیل الحدیث : « الزّفن : اللعب والدف ، ویزفنون : یرقصون . والمزمار : مال یزمر به ، والزّمر : التغنّی فی القصب ، ومزامیر داود ما کان یتغنّی به من الزبور . والکوبة : بالضم یقال للنرد والشطرنج والطبل الصغیر والبربط . والکَبَر محرّکة : الطبل»(4) .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن الخمر ؟ فقال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ اللّه بعثنی رحمةً للعالمین ولأمحق المعازف والمزامیر واُمور الجاهلیة والأوثان ، الحدیث(5) .

والسند حسن بخالد بن جریر وأبی الربیع الشامی وهو خلید أو خالد بن اُوفی ، والأخیر فی أوّل مراتب الحُسْن . فالسند معتبر عندنا .

ومنها : خبر محمد بن الریان قال : احتال المأمون علی أبی جعفر علیه السلام بکلّ حیلة فلم

ص:339


1- (5) وسائل الشیعة 15 / 329 ح 33 .
2- (6) وسائل الشیعة 17 / 312 ح 1 . الباب 100 من أبواب ما یکتسب به .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 313 ح 6 .
4- (2) الوافی 17 / 211 .
5- (3) الکافی 6 / 396 ح 1 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 154 ح 2 .

یمکنه فیه شیء ، فلما اعتلَّ وأراد أن یبنی علیه ابنته دفع إلیّ مائتی وصیفة من أجمل ما یکون ، إلی کلِّ واحدة منهنَّ جاماً فیه جوهر یستقبلن أبا جعفر علیه السلام إذا قعد فی موضع الأخیار ، فلم یلتفت إلیهنَّ ، وکان رجل یقال له : مخارق صاحب صوت وعود وضرب طویل اللحیة ، فدعاه المأمون فقال : یا أمیر المؤمنین إن کان فی شیءٍ من أمر الدنیا فأنا اُلفیک أمره ، فقعد بین یدی أبی جعفر علیه السلام فشهق مخارق شهقةً اجتمع علیه أهل الدار وجعل یضرب بعود ویغنّی ، فلما فعل ساعةً وإذا أبو جعفر لا یلتفت إلیه لا یمیناً ولا شمالاً ، ثمّ رفع إلیه رأسه وقال : اتق اللّه یا ذا العثنون . قال : فسقط المضراب من یده والعود ، فلم ینتفع بیدیه إلی أن مات . قال : فسأله المأمون عن حاله قال : لمّا صاح بی أبو جعفر فزعت فزعةً لا اُفیق منها أبداً(1) .

العثنون : اللحیة أو ما فضل منها بعد العارضین أو طولها .

ومنها : مرسلة الشیخ عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إنّ اللّه حرّم علی اُمتی الخمر والمیسر والمرز والکوبة والقنین . فالمرز : شراب الذرة ، والکوبة الطبل ، والقنین : البربط ، والتفسیر فی الخبر(2) .

منها : مرسلة اُخری له عن محمد بن علی المعروف بابن الحنفیّة عن علی علیه السلام أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إذا کان فی اُمّتی خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء : إذا اتخذوا الغنیمة دولة ، والأمانة مغنماً ، والزکاة مغرماً ، وأطاع الرجل زوجته ، وجفا أباه ، وعقّ اُمّه ، ولبسوا الحریر ، وشربوا الخمر ، واشتروا المغنیّات والمعازف ، وکان زعیم القوم أرذلهم ، وأکْرَمَ الرجل السوء خوفاً منه ، وارتفعت الأصوات فی المساجد ، وسبّ آخر هذه الاُمّة أوّلها - وفی بعضها - ولعن آخر هذه الاُمّة أوّلها ، فعند ذلک یرقبون ثلاثاً : ریحاً حمراء وخسفاً ومسخاً(3) .

وقد فاتت الروایة عن صاحب « مسند محمّد ابن الحنفیة» المطبوع فی مجلة علوم الحدیث العدد الخامس عشر / 151 .

تلک عشرة کاملة من الروایات التی تدلّ بإطلاقها علی حرمة الموسیقی ، وأنت إن

ص:340


1- (4) الکافی 1 / 494 ح 4 ونقلتُ عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 155 ح 5 .
2- (5) المبسوط 8 / 224 .
3- (1) المبسوط 8 / 224 .

فحصت تجد أکثر من ثلاثین روایة فی هذا المجال(1) ، والروایات تدلّ علی حرمة الموسیقی مطلقاً والفرق بین الموسیقی اللهوی وغیره والموسیقی الکلاسیک وغیره والموسیقی الأصیل وغیره وأمثال هذه التفاصیل فی غیر محلّه ، مضافاً إلی ثبوت الإجماع فی المقام علی الحرمة الذی مرّ فی ضمن کلمات القوم ، فیظهر الحکم بحرمة الموسیقی مطلقاً .

نعم ، ما یُضرب فی الحرب والعزاء خارج عنه بلا إشکال ، لانصراف الأدلة عنه . واللّه سبحانه هو العالم .

تنبیهٌ

ظهر ممّا ذکرنا أنّ استعمال آلات الملاهی والمعازف والموسیقی حرام ، وکذا صنعها وأخذ الاُجرة فی قبال صنعها وبیعها وشراؤها واستعمالها وأخذ الاُجرة فی قبال استعمالها والتکسب فیها ، کلّ ذلک حرام ، لما مرّ من القاعدة الکلیّة « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنها » ، « وإنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرم أخذ الاُجرة وأخذ العوض فی قبالها » . فکلّ هذه الأفعال من الصنع والبیع والاستعمال وأخذ الاُجرة فی قبالها والتکسب فیها یکون حراماً .

وقد مرّت فی کلمات الأصحاب آنفاً الإشارة إلی ما ذکرناه والإفتاء علی طبقها ، واللّه

العالم .

نعم ، الظاهر أنّ اقتناءها فقط مع الأمن من الفساد لا بأس به .

التاسع : استثناء الدّف فی العرس والختان

قد مرّ منّا حرمة الموسیقی مطلقاً ، فهل یثبت استثناء الدف فی العرس والختان من هذه الحرمة أم لا ؟

ذهب شیخ الطائفة إلی ثبوت الاستثناء علی وجه الکراهیة : « الغناء محرّم ، سواء کان

ص:341


1- (2) راجع إن شئت الوافی 17 / 205 ووسائل الشیعة 17 / 312 ومستدرک الوسائل 13 / 215 وجامع أحادیث الشیعة 22 / 244 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 154 .

صوت المغنّی أو بالقصب أو بالأوتار - مثل : العیدان الطنابیر والنایات والمعازف وغیر ذلک - وأمّا الضرب بالدّف فی الأعراس والختان فإنّه مکروه»(1) .

أقول : ولکنّه لم یستدل للإستثناء فی کتابه الخلاف .

وقال فی المبسوط : « وأمّا المباح [ أی من الأصوات المباحة عند العامة [فالدف عند النکاح والختان ، لما روی ابن مسعود أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : أعلنوا النکاح واضربوا علیها بالغربال ، یعنی الدف .

وروی أنّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : فصل ما بین الحلال والحرام الضرب بالدف عند النکاح .

وعندنا أنّ ذلک مکروه ، غیر أنّه لا تردّ به شهادته ، فأمّا فی غیر الختان والعرس فمحرَّم»(2) .

قال المحقق فی کتاب الشهادات : « واللعب بالشطرنج تردّ به الشهادة ، وکذا الغناء وسماعه والعمل بآلات اللهو وسماعها ، والدف إلاّ فی الإملاک(3) والختان ... »(4) .

وقال فی الشرائع فی عدّ نواقض العدالة : « السادسة : الزّمر والعود والصنج وغیر ذلک من آلات اللهو حرام یفسق فاعله ومستمعه ، ویکره الدّف فی الإملاک والختان خاصةً»(5) .

وقال العلامة : « وکذا یحرم استماع آلات اللهو کالزمر والعود والصنج والقصب وغیرها ، ویُفسَّق فاعله ومستمعه ، ولا بأس بالدف فی الأعراس والختان علی کراهیة»(6) .

وقال فی التحریر : « العود والزمر والصنج والطنبور والمعزفة والرباب والقضیب وغیر ذلک من جمیع آلات اللهو حرام یفسق فاعله ومستمعه ، أمّا الدف فیکره فی الإملاک والختان

ص:342


1- (1) الخلاف 6 / 307 المسألة 55 .
2- (2) المبسوط 8 / 224 .
3- (3) قال فی الریاض 15 / 268 : الإملاک بالکسر : العرس والزفاف .
4- (4) المختصر النافع / 287 کتاب الشهادات .
5- (5) الشرائع 4 / 117 .
6- (6) قواعد الأحکام 3 / 495 کتاب الشهادات .

خاصةً ویحرم فی غیرهما»(1) .

وقال فی الإرشاد : « وترد شهادة ... ومستمع الزمر والعود والصنج ، والدف إلاّ فی الإملاک والختان خاصةً وجمیع آلات اللهو ... »(2) .

وتبع الشیخ علی بن محمد القمی السبزواری شیخ الطائفة الطوسی فی کتابه الخلاف بعین عبارته وقال : « وأمّا الضرب بالدّف فی الأعراس والختان فإنّه مکروه»(3) .

قال الشهید فی بحث نواقض العدالة : « ... واللآهی بالعود والزمر والطنبور وشبهه فاعلاً ومستمعاً ، وکذا الدف بصنج وغیره ، إلاّ فی الإملاک والختان فیکره المجرد عن الصنج»(4) .

وقال المحقق الثانی : « وإنّما یحرم من الملاهی ما لا یجوز مثله فی العرس ، فالدف الذی لا صنج فیه ولا جلاجل له یجوز لعبها به علی الظاهر لاستثنائه»(5) .

وقال ثانی الشهیدین : « واستثنی منه (أی من حرمة الغناء) ... وآخرون ومنهم المصنف فی الدروس فعله للمرأة فی الأعراس إذا لم تتکلم بباطل ولم تعمل بالملاهی ولو بدف فیه صنج لابدونه ( یعنی الغناء فی الأعراس مع الدف إذا لم یکن مع الصنج لیس بحرام) ولم یسمع صوتها أجانب الرجال ولا بأس به»(6) .

وقال صاحب الریاض بعد نقل قول بالحرمة من الحلی والتذکرة ونفی البعد عنه فی الکفایة کما یأتی کلامهم : « ولا ریب أنّه أحوط وإن کان فی تعینه نظر ، لاشتهار القول الأوّل فتویً بل وعملاً أیضاً . فتأمل جدّاً . فینجیر به سند الخبرین(7) جبراً یصلحان معه لتخصیص

ص:343


1- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 251 مسألة 6627 .
2- (2) إرشاد الأذهان 2 / 157 .
3- (3) جامع الخلاف والوفاق / 616 .
4- (4) الدروس 2 / 126 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 24 .
6- (6) الروضة البهیة 3 / 213 .
7- (7) أی النبویان المذکوران فی المبسوط 8 / 224 .

العمومات المستدل بها علی المنع ، سیما مع اعتضادهما بفحوی المعتبرین - وفیهما الصحیح -

المبیحین لأجر المغنیة فی العرائس ، بناءً علی أشدّیة حرمة الغناء لتصریح النص بکونه من الکبائر ، ولا کذلک اللهو کما عرفته ممّا مضی .

ویجبر أخصیتهما من المدعی باختصاصهما بالنکاح دون الختان بعدم القائل بالفرق بینهما ، سیما مع عدم تعقل الفرق وقوّة دعوی کون مناط الجواز قطعیّاً مشترکاً بینهما هذا ... ثمّ إنّ إطلاق الخبرین کالعبارة وغیرها یقتضی عدم الفرق فی الدف المحلَّل بین کونه ذات صنج أو غیره ، وقیّده الشهید والمحقق الثانی بالثانی ، وربّما یظهر من المسالک عدم الخلاف فیه ، فإن تمّ وإلاّ - کما هو الظاهر لإطلاق أکثر العبائر - فالإطلاق متعیَّن .

والمراد بالصنج هنا ما یجعل فی إطار الدف من النحاس المدوّرة صغاراً کما عن المطرزی(1) ، وأما أصله فهو الذی یتخذ من صفر یضرب أحدهما بالآخر کما عنه وعن الجوهری(2) ، وهو من آلات اللهو ، وفی الحدیث : « إیّاک والصوانج فإنّ الشیطان یرکض معک والملائکة تنفر عنک»(3)(4) .

أقول : هذا غایة ما یمکن أن یُستدل به لثبوت الإستثناء ، ولکن قبل البحث حول الأدلة لابدّ من ذکر آراء القائلین بالحرمة وعدم ثبوت الإستثناء ، ومنهم :

القاضی ابن البراج فی المهذب ، عدّ من المکاسب المکروهة : « وأجر المغنیات فی الأعراس إذا لم یغنین بالأباطیل والضرب»(5) .

أقول : أی لم یکن غناؤهنّ مع الضرب ، وإطلاق کلامه وعدم وجود استثناء الدف فیه یُشعر بل یدلّ علی ثبوت الحرمة عنده .

وقال الشیخ نفسه فی وصایا المبسوط : « وإن أوصی فقال : أعطوه دفّاً من دفوفی فإنّه

ص:344


1- (1) المغرب 1 / 309 .
2- (2) الصحاح 1 / 325 .
3- (3) أصل زید النرسی / 51 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 216 ح 4 .
4- (4) ریاض المسائل 15 / 270 و 269 .
5- (5) المهذب 1 / 346 .

تصحّ الوصیة ، لأنّ الدف له منفعة مباحة ، لما روی عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : أعلنوا هذا النکاح واضربوا علیه بالدف ، وعلی مذهبنا لا یصح لأن ذلک محظور استعماله»(1) .

أقول : إنّ هذا الکلام من الشیخ کأنّه عدول منه عمّا ذکره فی شهادات خلافه ومبسوطه ، مع التصریح بأنّ هذه الوصیة علی مذهبنا لا تصح ، لأنّ استعمال الدف محظور أی

حرام . ولذا اختار ابن إدریس هذا الکلام من أقوال الشیخ وقال بعد نقل کلامه : « ونعم ما قال ، لأنّه من اللهو واللعب ، وإن کان قد روی روایة شاذّة بأنّه مکروه ولیس بمحظور»(2) .

ومنهم : العلامة فی التذکرة رجّح القول بالحرمة محتجاً « بأنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم اللهو واللعب وهذا منه»(3) .

ومنهم : المحقق السبزواری قال بعد منع ابن إدریس والعلامة الحلی من ثبوت الاستثناء : « وهو غیر بعید»(4) .

ومنهم : الفاضل الأصبهانی قال بعد نقل الأقوال فی المقام : « الأقوی الحرمة کما فی التذکرة ، لعموم النصوص الناهیة وکثرتها وعدم صلاحیة ما ذکر لتخصیصها»(5) .

ومنهم : السید العاملی قال : « والأقوی فی ذلک عندنا الحرمة»(6) .

واستشکل صاحب الجواهر فی الإستثناء وقال : « ... صرح جماعة - کما قیل - بجواز لعبها فی العرس بالدف الذی لا صنج فیه ولا جلاجل وإن کان هو لا یخلو من إشکال ... »(7) .

ومنهم : کلُّ من لم یذکر هذا الاستثناء فهو قائل بالحرمة وعلی هذا المشهور قائلون

ص:345


1- (6) المبسوط 4 / 20 .
2- (1) السرائر 3 / 205 .
3- (2) تذکرة الفقهاء 2 / 581 السطر 14 ، الطبع الحجری .
4- (3) الکفایة 2 / 752 .
5- (4) کشف اللثام 2 / 193 الطبع الحجری و 10 / 296 .
6- (5) مفتاح الکرامة 12 / 176 .
7- (6) الجواهر 22 / 49 .

بالحرمة خلافاً لما ادعاه سید الریاض ، فلا یمکن جبر ضعف سند النبویین المذکورین فی کلام الشیخ فی المبسوط والمراسیل المذکورة فی کتاب القاضی نعمان المصری(1) والأحسائی(2) لم یثبت به شیئاً .

وبالجملة ، ثبوت الشهرة بفتوی المحققیْن والشهیدین وصاحب الریاض - وهم خمسة فقط - فی غایة الإشکال ، فالأقوی فی المقام تبعاً للمشهور هو الحرمة ونفی هذا الإستثناء ، واللّه سبحانه هو العالم .

العاشر : الرقص والتصفیق

التصریح بحرمة الرقص جاء فی کلمات بعض الأصحاب قدس سرهم :

منهم : ابن إدریس الحلی قال : « وآلات جمیع الملاهی علی اختلاف ضروبها من الطبول والدفوف وما یجری مجراه والقضیب والسیر والرقص وجمیع ما یطرب من الأصوات والأغانی وما جری مجری ذلک ... »(3) . وعدّ جمیع ذلک من المکاسب المحرّمة .

ومنهم : الشهید قال : « وما حرم لغایته کالعود والملاهی من الدف والمزمار والقصب والرقص والتصفیق ... »(4) .

ومنهم : السید العاملی قال : « وأما الرقص والهلاهل والروید فی غیر حال الحرب وحضّ الرجال علی القتال فالحزم اجتنابه ، بل لعلّه یحرم فعله ، لأنّه من اللهو أو الباطل ، والحازم یجتنب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات»(5) .

وقال صاحب الجواهر : « مع فرض اندارجه [ أی اندراج هذه الاُمور المذکورة فی کلام صاحب المفتاح ] فیه [ أی فی اللعب واللهو ] فیشکل جوازه فیه ]أی فی الحرب ] فضلاً

ص:346


1- (7) دعائم الإسلام 2 / 204 ح 749 وما بعدها ح 750 وح 752 .
2- (8) عوالی اللآلی 1 / 260 ح 41 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 218 ح 14 .
3- (1) السرائر 2 / 215 .
4- (2) الدروس 3 / 166 .
5- (3) مفتاح الکرامة 12 / 179 .

عن غیره من الأحوال ، لإطلاق أدلة النهی ، بل قد اقترنت بمؤکدات تقتضی إرادة جمیع الأفراد علی وجه أظهر دلالة من العموم اللغوی ، فتأمل جیداً واللّه العالم»(1) .

أقول : ما ذکره صاحب الجواهر یغنینا عن الاستدلال ، لأنّ الرقص یدخل فی اللهو واللعب بلا ریب ، فحینئذ تشمله مؤکدات أدلة النهی التی تقتضی إرادة جمیع الأفراد ، ولذا عدّ تلمیذه صاحب برهان الفقه مجلس الرقص من مجالس اللهو وحکم برجحان الإبتعاد من تلک المجالس مطلقاً(2) .

ومنهم : الشیخ الأعظم قال فی بحث اللهو : « ویدخل فی ذلک (أی اللهو الحرام) الرقص والتصفیق والضرب بالطشت بدل الدف و ... »(3) .

ما الدلیل علی حرمة الرقص ؟

الأوّل : اللهو حرام فی الشریعة المقدسة ، وأدلة حرمته مطلقة ، والرقص یعدّ من اللهو

عرفاً ، فیحکم بحرمته . کما أشار إلی هذا الاستدلال صاحبا المفتاح والجواهر فی کلامهما الماضیین .

الثانی : تدلّ علی حرمة الرقص بعض الروایات والنصوص :

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أنهاکم عن الزفن والمزمار وعن الکوبات والکبرات(4) .

والمراد بالزفن فیها هو الرقص . وقد مرّ کلام صاحب الوافی(5) بأنّه فسّره بالرقص . وقال العلامة المجلسی فی مرآته : « قال فی الصحاح : الزفن : الرقص ، وقال فی القاموس : الکوبة بالضم : النرد والشطرنج والطبل الصغیر المخصّر ، والفهر والبربط . وقال : الکبر

ص:347


1- (4) الجواهر 22 / 51 .
2- (5) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 الطبع الحجری .
3- (6) المکاسب المحرمة / 54 الطبع الحجری - (2 / 47) .
4- (1) وسائل الشیعة 17 / 313 ح 6 .
5- (2) الوافی 17 / 211 .

بالتحریک : الطبل »(1) .

ومنها : خبر سلیم بن بلال المدنی عن الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : إنّ إبلیس کان یأتی الأنبیاء من لدن آدم علیه السلام إلی أن بعث اللّه المسیح یتحدّث عندهم ویسألهم ، ولم یکن بأحد منهم أشدّ اُنساً منه بیحیی بن زکریا ، فقال له یحیی - إلی أن قال : - فما هذا الجرس الذی بیدک ؟ قال : هذا مجمع کلّ لذّة من طنبور وبربط ومِعْزَفَةٍ وطبل ونای وصرنای ، وإنّ القوم یجلسون علی شرابهم فلا یستلذّونه ، فأحرک الجرس فیما بینهم فإذا سمعوه استخفهم الطرب ، فمن بین مَنْ یرقص ومِنْ بین مَنْ یفرقع أصابه ومن بین مَنْ یشق ثیابه ، الحدیث(2) .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی عن الضرب بالدف والرقص ، وعن اللعب کلّه ، وعن حضوره ، وعن الاستماع إلیه ، ولم یجز ضرب الدف إلاّ فی الإملاک والدخول ، بشرط أن یکون فی البکر ولا یدخل الرجال علیهنَّ(3) .

فدلالة الروایات علی حرمة الرقص واضحة ، فحینئذ یحکم بحرمة الرقص مطلقاً ، حیث لم یذکر فی الروایات وغیرها من الأدلة وکلمات القوم التفریق فی الرقص ، فالرقص حرام مطلقاً ، ولا فرق بین رقص المرأة للنساء والرجل للرجال ، وهکذا بلا فرق بین رقص المرأة لزوجها ، کلّ ذلک یکون حراماً .

والعجب من بعض الفقهاء(4) قدس سره حیث حکم بحرمة رقص ولکن رخص رقص الزوجة لزوجها تمسکاً بأنّه من الاستمتاع ویجوز للرجل أن یستمتع بزوجته حیث شاء .

وأنت تعرف أنه إن ذهبنا إلی حرمة الرقص ، لا یجوّزه الاستمتاع کما لا یجوّز الاستمتاع الغناء وآلات الملاهی وضرب الأوتار وشرب الخمور ونحو ذلک .

ص:348


1- (3) مرآة العقول 22 / 302 .
2- (4) أمالی الطوسی . المجلس الثانی عشر ح 32 / 338 الرقم 692 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 159 ح 18 .
3- (5) مستدرک الوسائل 13 / 218 ح 14 .
4- (1) وهو السید المحقق الخوئی قدس سره فی فتاواه .

وأمّا التصفیق - وإن حکم الشهید فی الدروس(1) بحرمته وتبعه الشیخ الأعظم(2) - ولکن حیث لم یدل علیه دلیل خاص علی نفس التصفیق فتجری البراءة ویحکم بجوازه .

ولکن ظاهر الشهید والشیخ الأعظم أنّهما یدخلانه تحت عنوان اللهو المحرَّم فإن صدق علیه عنوان اللهو لا یبعد الحکم بحرمته وإلاّ فلا .

وأمّا التصفیق فی المساجد والحسینیّات والمهدیّات وکلِّ ما وقف للعبادة ونحوها فلا یجوز التصفیق فیها ، لأنّه خروج فیها عن وقفیتها ، والوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها .

وأمّا التصفیق فی المجالس المنسوبة إلی أئمة أهل البیت علیهم السلام فی موالیدهم وأعیادهم أیضاً لا یجوز ، لعدم مناسبته مع هذه المجالس الروحانیّة النورانیّة الألهیّة .

إلی هنا تمّ بحث الغناء وفروعه ، وللّه الحمد وهو العالم بأحکامه .

ص:349


1- (2) الدروس 3 / 166 .
2- (3) المکاسب المحرمة / 54 - (2 / 47) .

الغِیبة

اشارة

یقع الکلام فی الغیبة ضمن مقامات :

المقام الأوّل : موضوعها

لابدّ لنا من ملاحظة کلمات اللغویین والفقهاء فی هذا المجال :

قال أحمد بن فارس : « الغابة : الأجَمة ، والجمع غاباتٌ وغابٌ ، وسمّیت لأنّه یغاب فیها . والغِیبة : الوَقیعة فی الناس من هذا ، لأنّها لا تقال إلاّ فی غیبته»(1) .

وقال ابن منظور : « الغیبة : من الإغتیاب ، واغتاب الرجل صاحبه إغتیاباً إذا وقع فیه ، وهو أن یتکلّم خلف إنسان مستور بسوءٍ ، أو بما یَغُمُّه لو سمعه وإن کان فیه ، فإن کان صدقاً فهو غیبة ، وإن کان کذباً فهو البَهْتُ والبهتان ، کذلک جاء عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، ولا یکون ذلک إلاّ من ورائه ، والإسم : الغِیبة ... وروی عن بعضهم أنّه سمع : غابه یَغِیبُهُ إذا عابه ، وذکر منه ما یَسُوءُه ... »(2) .

وقال الفیومی : « ... واغتابه اغتیاباً : إذا ذکره بما تُکرُهُ من العیوب وهو حقٌّ ، والإسم الغِیبة فإن کان باطلاً فهو الغیبة فی بُهْتٍ ... »(3) .

وقال فی الصحاح : « أن یتکلّم خلف إنسان مستور بما یغمّه لو سمعه ، فإن کان صدقاً یُسمّی غِیبة ، وإن کان کذباً سمُّی بهتاناً»(4) .

وقال الفیروزآبادی : « غابه : عابه وذکره بما فیه من السوء ، کاغتابه . والغیبة بالکسر

ص:350


1- (1) معجم مقاییس اللغة 4 / 403 .
2- (2) لسان العرب 10 / 152 .
3- (3) المصباح المنیر / 458 .
4- (4) الصحاح 1 / 196 .

فِعْلة منه ، تکون حسنة أو قبیحة»(1) .

وقال ابن الأثیر : « الغیبة : وهو أن یُذکَر الإنسان فی غیبته بسوءٍ وإن کان فیه ، فإذا

ذَکَرْتَه بما لیس فیه فهو البَهْت والبهتان»(2) .

وقال الطریحی : « اغتابه اغتیاباً : إذا وقع فیه ، والإسم الغیبة بالکسر ، وهو أن یتکلّم خلف إنسان مستور بما یغمّه لو سمعه ، فإن کان صدقاً سمی غیبة وإن کان کذباً سمّی بهتاناً ، وتصدیق ذلک ما روی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم ... »(3) .

هذه کلمات اللغویین فی المقام ، وأمّا الفقهاء فیقولون فی تعریفها :

قال الشریف المرتضی : « الغیبة : ذم المرء بعینه فی غیبته لغیر حقٍّ له أو ما یجری مجری الذم بما لو سمعه کرهه»(4) .

وقال الشیخ الطوسی فی تفسیره : « فالغیبة ذکر العیب بظهر الغیب علی وجه تمنع الحکمة منه . ویُروی فی الخبر إذا ذکرت المؤمن بما فیه ممّا یکرهه اللّه فقد اغتبته ، وإذا ذکرته بما لیس فیه فقد بهته»(5) .

وقال الطبرسی فی تفسیره جوامع الجامع : « یقال : غابه واغتابه کغاله واغتاله ، والغیبة من الاغتیاب کالغیلة من الاغتیال ، وهی ذکر السوء فی الغیبة ، وسئل النبی صلی الله علیه و آله وسلم عن الغیبة فقال : أن تذکر أخاک بما یَکْرَه ، فإن کان فیه فقد اغتَبْتَه وإن لم یکن فیه فقد بَهَتَّه»(6) .

وقد قسّم الشهید فی قواعده الغیبة إلی ظاهرة وخفیّة وأخفی ، وعدّ من الثانی الإشارة والتعریض ، ومن الثالث أن یذمّ نفسه بترک طرائق لینبّه علی عورات غیره ...(7) .

ص:351


1- (5) القاموس المحیط 1 / 112 - (والطبع الحجری مادة الغیب) .
2- (1) النهایة فی غریب الحدیث والأثر 3 / 399 .
3- (2) مجمع البحرین / 130 الطبع الحجری .
4- (3) رسالة الحدود والحقائق المطبوعة فی رسائل الشریف المرتضی 3 / 279 .
5- (4) التبیان 9 / 350 .
6- (5) جوامع الجامع 4 / 157 .
7- (6) القواعد والفوائد 2 / 147 و 148 قاعدة 206 ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 12 / 213 .

قال أبو الحسین ورام بن أبی فراس المالکی الأشتری المتوفی عام 605 : « واعلم أنّ الغیبة أن تذکر أخاک بما یکرهه ، سواء ذکرت نقصاناً فی بدنه أو نسبه أو فی خُلقه أو فی فعله أو فی دینه أو فی دنیاه وحتّی فی ثوبه ، فأمّا فی بدنه فتذکر العمش والحول والقصر والقرع(1) والطول والسواد والصفرة وجمیع ما یُتصوَّر أن یوصف به ممّا یکرهه ، وأمّا النسب بأن یقول أبوه نبطیٌّ أو هندیٌّ أو فاسقٌ أو خسیسٌ أو شیءٌ ممّا یکرهه کیف کان ، وأمّا الخُلق بأن یقول له سیّی ء الخُلق بخیل متکبر مراء شدید الغضب عاجز ضعیف القلب متهور وما یجری مجراه ،

وأمّا أفعاله المتعلّقة بالدین کقولک : سارق وکذّاب وشارب خمر وخائن وظالم ومتهاون بالصلاة والزکاة ولا یحسن الرکوع والسجود ولا یحترز عن النجاسات ولیس بارّاً بوالدیه ولا یضع الزکاة فی مواضعها ، وأمّا فعله المتعلّق بالدنیا کقولک : إنّه قلیل الأدب یتهاون بالناس ، ولا یری لأحدٍ حقّاً علی نفسه ویری لنفسه حقّاً ، وإنّه کثیر الکلام کثیر الأکل وإنّه نؤوم وینام إلی غیر وقته ویجلس فی غیر موضعه ، وأمّا فی ثوبه فإنّه واسع الکُم ، طویل الذیل ، وسخ الثیاب .

وقال قوم : لا غیبة فی الدین ، لأنّه ذمّ ما ذمه اللّه فذکره بالمعاصی ، وذمّه یجوز ، بدلیل ما روی أنّه ذکر لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم امرأة وکثرة صومها وصلاتها لکنّها تؤذی جیرانها ، فقال : هی فی النار ، وذکر له امرأة اُخری بأنّها بخیلة ، فقال : فما خیرها إذن ، وهذا فاسد لأنّهم کانوا یذکرون ذلک بحاجتهم إلی الأحوال بالسؤال ولم یکن غرضهم التنقّص ، والدلیل علیه إجماع الاُمّة ... »(2) .

وقال المحقق الثانی : « الغیبة : هی بکسر الغین المعجمة ، وحدّها علی ما فی الأخبار : أن یقول المرء فی أخیه ما یکرهه - لو سمعه - ممّا فیه ، وکذا ما فی حکم القول : من الإشارة بالید وغیرها من الجوارح أو التحاکی بفعله أو قوله کمشیة الأعرج . وقد یکون بالتعریض مثل قول القائل : أنا لا أفعل کذا معرضاً بمن یفعله ، ولو قال ذلک فیه بحضوره فتحریمه أغلظ ، وإن

ص:352


1- (7) العمش : ضعف الرؤیة مع سیلان الدمع فی أکثر الأوقات . القرع : مرض جلدیٌّ یسقط شعر الرأس .
2- (1) تنبیه الخواطر ونزهة النواظر / 125 .

کان ظاهرهم أنّه لیس غیبة .

وضابط الغیبة : کلّ فعل یُقصد به هتک المؤمن والتفک به ، أو إضحاک الناس منه ، فأمّا ما کان لغرض صحیح فلا یحرم ، کنصیحة المستشیر ، والتظلم وسماعه ، والجرح والتعدیل ، وردّ من ادّعی نسباً لیس له ، والقدح فی مقالةٍ أو دعوی باطلة خصوصاً فی الدین ، وغیر ذلک » .

ویوجد فی کلام بعض الفضلاء : أنّ من شرطها أن یکون متعلَّقها محصوراً وإلاّ فلا تعدّ غیبة ، فلو قال عن أهل بلدة غیر محصورة ما لو قاله عن شخص واحد مثلاً یُعدّ غیبةٌ ، لم یحتسب غیبة »(1) .

وقال ثانی الشهیدین فی کشف الریبة عن أحکام الغیبة : « الغِیبة : - بکسر الغین المعجمة وسکون الیاء المثناة التحتانیة وفتح الباء الموحدة - اسم لقولک : اغتاب فلانٌ فلاناً إذا

اُوقع فیه فی غیبته ، والمصدر الاغتیاب ، یقال : إغتابه إغتیاباً ، والاسم : الغیبة . هذا بحسب المعنی اللغوی ، وأمّا بحسب الاصطلاح فلها تعریفان :

أحدهما المشهور ، وهو : ذکر الإنسان حال غیبته بما یکره نسبته إلیه ممّا یعدّ نقصاناً فی العرف بقصد الإنتقاص والذمّ . واحترز بالقید الأخیر - وهو قصد الإنتقاص - عن ذکر العیب للطبیب مثلاً أو لإستدعاء الرحمة من السلطان فی حقِّ الزَمِن والأعمی بذکر نقصانهما . ویمکن الغناء عنه بقید کراهیة نسبته إلیه .

والثانی : التنبیه علی ما یکره نسبته إلیه إلی آخره . وهو أعمّ من الأوّل ، لشمول مورده اللسان والإشارة والحکایة وغیرها ، وهو أولی لما سیأتی من عدم قصر الغیبة علی اللسان »(2) .

وقال العلامة المجلسی فی تعریف الغیبة : « ... وأمّا بحسب عرف الشرع فهو ذکر الإنسان المعیّن أو من بحکمه فی غیبته بما یکره نسبته إلیه ، وهو حاصل فیه ویعدّ نقصاً فی

ص:353


1- (2) جامع المقاصد 4 / 27 .
2- (1) کشف الریبة عن أحکام الغیبة المطبوع فی ضمن المصنفات الأربعة / 29 .

العرف بقصد الإنتقاص والذم قولاً أو إشارة أو کنایة ، تعریضاً أو تصریحاً ، فلا غیبة فی غیر معیّن ، کواحد مبهم غیر محصور کأحد أهل البلد .

وقال الشیخ البهائی قدس سره : وبحکمه لإدراج المبهم من محصور کأحد قاضیی البلد فاسق مثلاً ، فإنّ الظاهر أنّه غیبة ولم أجد أحداً تعرّض له . انتهی .

وقولنا « فی غیبته » لإخراج ما إذا کان فی حضوره ، لأنّه لیس بغیبة وإن کان إثماً لإیذائه ، إلاّ بقصد الوعظ والنصیحة ، والتعرض حینئذ أولی إن نفع .

وقولنا « بما یکره » لإخراج غیبة من لا یکره نسبة الفسق ونحوه إلیه ، بل ربّما یفرح بذلک ویعدّه کمالاً .

وقولنا « وهو حاصل فیه » لإخراج التهمة وإن کانت أشدّ .

وقولنا « ویعدّ نقصاً » لإخراج العیوب الشائعة التی لا تعدّ فی العرف نقصاً ، وفی الفسوق الشائعة التی لا یعدّها أکثر الناس نقصاً مع کونها مخفیّة وعدم مبالاته بذکرها وعدم عدّ أکثر الناس نقصاً لشیوعها ، ففیه إشکال ، والأحوط ترک ذکرها وإن کان ظاهر الأصحاب جوازه .

وقولنا « بقصد الانتقاص » لخروج ما إذا کان للطبیب لقصد العلاج وللسلطان

للترحم أو للنهی عن المنکر»(1) .

وقال صاحب الحدائق فی تعریف الغیبة : « القول بما یکرهه ویغیظه وإن کان حقّاً»(2) .

وقال الشیخ جعفر قدس سره : « الغیبة بالإضافة إلی المؤمنین - واللام عوضها بقرینة السوق - العقلاء منهم والممیّزین من أولادهم بذکر معایبهم مع الرضا وبدونه أو ذکر ما یغمّهم ویحزنهم مع ذکر العیب وعدمه أو ذکرهما معاً علی اختلاف الآراء فی معناها بین العلماء ، وعلی القول بأنّها مطلق الذکر فلابدّ من التقیید لترتب الحظر . ویُعتبر کونهامن مقولة الکلام کما علیه بعض الأعلام ، أو جمیع ما یفید مفاده من فعل أو تعریض أو إشارة أو تغییر عادة . وفی المغتاب

ص:354


1- (1) مرآة العقول 10 / 407 .
2- (2) الحدائق 18 / 146 .

- اسم مفعول - عدم الحضور وإنْ تشارکا فی لزوم المحظور . وخلاف الکذب لئلا تدخل فی البهتان وتخرج عن الإسم وإن کان أشدّ فی العصیان . وحیث اختلف فیها کلام الأساطین من الفقهاء واللغویین فالمرجع إلی العرف الذی هو المیزان مع اختلاف کلام اللغویین فی التفسیر والتبیان»(1) .

وقال الفاضل النراقی : « الغیبة ... وهی أن یُذکر إنسانٌ مِنْ خلفه بما هو فیه من السوء ، فلو لم یکن من خلفه لم یکن غیبته ، کما هو مقتضی مادّة اللفظ»(2) .

وذکر المحقق الإیروانی اُموراً فی حقیقة الغیبة ، ملخصها : « الأوّل : أن یکون المذکور سوءً خَلقیّاً أو خُلقیّاً أو اعتباریّاً أو شرعیّاً ، فلو ذُکر شخصٌ بغیر ذلک لم یکن غیبةً ، کما إذا ذکره بفعل المباحات أو بالمواظبة علی النوافل أو التهجّد أو حمل الصدقات فی اُطراف الثیاب إلی الفقراء فی جوف اللیل لم یکن ذلک من الغیبة وإن کره ذکره بذلک . فإنّ مجرد کراهته الذکر لا یدرجه فی الغیبة وإنْ حرم من جهة الإیذاء .

الثانی : أن یکون ممّا یسوء المغتاب - بالفتح - فلو ذکر سوءً لا یسوء المغتاب لخصوصیة فی المغتاب - بالفتح - أو فی المغتاب - بالکسر - لم یکن ذلک من الغیبة .

الثالث : أن یکون ذکره فی مقام التنقیص .

الرابع : أن یکون المذکور عیباً مستوراً علی الناس ، أمّا لو کان ظاهراً لم یکن ذکره غیبةً .

الخامس : وجود المخاطب ، فلو ذکره بلا مخاطب فلا غیبة .

السادس : ذکر المغتاب - بالفتح - علی وجه یرتفع عنه الجهالة والإبهام رأساً ، فلو ذکر مجهولاً بسوءٍ مردّدٍ بین أطراف غیر محصورة - کواحد من البشر أو من أهل البلد - أو ذکر مجهولاً مردّداً بین أطراف محصورة - کمسمّی بزیدٍ المردّد بین اثنین - لم یکن ذلک غیبةً .

ولو شک فی تحقق شیءٍ من القیود المعتبرة فی الغیبة أو فی موضوع الحرمة لزم الحکم

ص:355


1- (3) شرح القواعد 1 / 221 .
2- (4) مستند الشیعة 14 / 159 .

بالجواز »(1) . انتهی ملخصاً .

قالت العلویة الأمینیة الأصفهانیة (1308- 1403) : « الغیبة : أن تذکر أخاک فی غیابه بما یکرهه ممّا یُعدّ نقصاناً فی العرف بقصد الإنتقاص . وقید « بقصد الانتقاص » لخروج ما إذا کان ذکر العیب للطبیب بقصد العلاج أو للسلطان بقصد الاسترحام أو للحاکم بقصد رفع الظلم أو غیر ذلک ، من الموارد التی لا یکون فیها قصدُ ذمّ وانتقاص .

وبعض آخر قیّد التعریف بقید آخر وهو « کونه بحیث یعدُّ نقصاناً فی العرف» ، فإن لم یعدّ نقصاناً فی العرف کالعیوب الشائعة بین الناس ولو کانت مخفیّة لم تکن من الغیبة المحرّمة ، وفیه نظر ... »(2) .

وقال المحقق الخوئی فی تعریف الغیبة : « هو أن تقول فی أخیک ما ستره اللّه علیه ، وأمّا فی المقدار الزائد فیرجع إلی الاُصول العملیة ، وقد ذکر هذا فی جملة من الروایات ، وهی وإن کانت ضعیفة السند ولکن مفهومها موافق للذوق السلیم والفهم العرفی ، ویؤیده ما فی لسان العرب وغیره من أنّ الغیبة أن تتکلّم خلف إنسان مستور بسوء أو بما یغمّه لو سمعه ، بل ینطبق علیه جمیع تعاریف الفقهاء وأهل اللغة ، لکونه المقدار المتیقَّن من مفهوم الغیبة کما عرفت ، وقد اُشیر إلیه فی بعض أحادیث العامة ... »(3) .

وقد اختار شیخنا الاُستاذ - مدظله - تعریف اُستاذه الخوئی قدس سره فی إرشاده وقال : « حدّ الغیبة کشف ما ستره اللّه علی المؤمن من عیبه ... »(4) .

وقال الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری قدس سره : « وخلاصة الکلام : أنّ کراهة القول والمقول والإنتقاص وکشف الستر فی الجملة من مقومات الغیبة بحسب اللغة والأخبار

والإعتبار ... »(5) .

ص:356


1- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / (199 - 195) .
2- (2) أربعین الهاشمیة / 347 الطبعة الثانیة فی عام 1379 ق .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 326 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 194 .
5- (1) مهذب الأحکام 16 / 123 .

أقول : حیث ورد تعریف الغیبة فی الروایات فلابدّ من ملاحظتها بعد المرور علی تعاریف أهل اللغة والفقهاء ، بحیث یظهر تعریفها بلا فرق بین أنّ لها معنی عرفی متداول بین أهل العرف غیر متلقّی من الشرع - کما فی مثل الهجاء والمدح والسبّ والتعییر کما علیه بعض ولعلّه هو المشهور - أو أنّها من المجعولات الشرعیة وتعریفات أهل اللغة راجعة إلی تعیین ما تعلّمه أهل العرف من الشرع کما علیه بعض آخر ومنهم المؤسس الحائری(1) قدس سره . لأنه بعد ثبوت التقیید الشرعی لابدّ من تقیید التعاریف العرفیة به کما لا یخفی . وأمّا الروایات الواردة فی تعریفها فهی تکون متعددة :

منها : معتبرة أو صحیحة داود بن سرحان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الغیبة ، قال : هو أن تقول لأخیک فی دینه ما لم یفعل ، وتبثّ علیه أمراً قد ستره اللّه علیه لم یقم علیه فیه حدّ(2) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ معلی بن محمد البصری وإن قلنا بوثاقته کما علیه المحقق الخوئی فی معجم رجال الحدیث(3) . فالروایة صحیحة الإسناد ، وإن قلنا باعتباره وأنّ الرجل من المعاریف ولم یرد فیه قدح کما علیه شیخنا الأستاذ - مدظله -(4) فهی معتبرة الإسناد .

ومنها : معتبرة عبد الرحمن بن سیابة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : الغیبة أن تقول فی أخیک ما ستره اللّه علیه ، وأمّا الأمر الظاهر فیه مثل الحِدَّة والعجلة فلا ، والبهتان أن تقول فیه ما لیس فیه(5) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ عبد الرحمن بن سیابة ، والرجل مورد وثوق الإمام علیه السلام فی

ص:357


1- (2) المکاسب المحرمة / 193 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
2- (3) الکافی 2 / 375 ح 3 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 219 ح 2 ونقل عن الکافی فی وسائل الشیعة 12 / 288 ح 1 . الباب 154 من أبواب العشرة .
3- (4) معجم رجال الحدیث 18 / 258 .
4- (5) نقل عنه فی الموسوعة الرجالیة المیسرة / 470 الرقم 6084 .
5- (6) الکافی 2 / 358 ح 7 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 219 ح 3 ونقل عن الکافی فی الوسائل 12 / 288 ح 2 .

الأمانة ، لأنّه قسّم دنانیر أبی عبد اللّه علیه السلام بین عیالات من استشهد مع عمّه زید سلام اللّه علیه(1) ، وأسند عنه الشیخ الطوسی فی رجاله(2) وحکم العلامة المجلسی بمدحه فی

الوجیزة(3) ، وهو من مشایخ ابن أبی عمیر(4) ومن المذکورین مع الواسطة فی کامل الزیارات(5) ، وله 37 روایة فی الکتب الأربعة(6) ، فالرجل من المعاریف لم یرد فیه قدح فثبت به وثاقته ولا أقل من اعتباره ، ولذا حکم العلامة المامقانی بوثاقته علی الأقوی فی التنقیح(7) وشیخنا الأستاذ - مدظله - فی الإرشاد(8) . وبما ذکرنا ظهر ضعف ما استظهره شیخنا التستری قدس سره فی قاموسه(9) من مذمومیته ، واللّه العالم بالحال .

والروایة رواها الصدوق بسنده المعتبر عن عبد الرحمن فی کتابیه الأمالی المجلس الرابع والخمسین ح 17 / 417 الرقم 550 ومعانی الأخبار / 184 ح 1 ، ونقل عنهما صاحب الوسائل 12 / 282 ح 14 . الباب 152 من أبواب أحکام العشرة .

ومنها : صحیحة یحیی بن عبد الرحمن الأزرق الأنصاری قال : قال لی أبو الحسن علیه السلام : من ذکر رجلاً من خلفه بما هو فیه ممّا عرفه الناس لم یغتبه ، ومن ذکره من خلفه بما هو فیه ممّا لا یعرفه الناس اغتابه ، ومن ذکره بما لیس فیه فقد بهته(10) .

ورجال السند کلّهم ثقات ، لأنّ « العباس بن عامر بن رَباح أبو الفضل الثقفی القَصْبانی

ص:358


1- (7) کما فی اختیار معرفة الرجال / 338 الرقم 622 .
2- (8) رجال الطوسی / 230 الرقم 120 .
3- (1) الوجیزة فی علم الرجال / 101 الرقم 1019 .
4- (2) کما فی إرشاد الطالب 1 / 193 .
5- (3) کامل الزیارات / 79 ح 1 الباب 23 .
6- (4) الموسوعة الرجالیة المیسرة / 255 الرقم 3131 .
7- (5) نتائج التنقیح / 83 .
8- (6) إرشاد الطالب 1 / 193 .
9- (7) قاموس الرجال 6 / 116 .
10- (8) الکافی 2 / 358 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 220 ح 4 ونقل عن الکافی فی الوسائل 12 / 289 ح 3 .

الشیخ الصدوق الثقة کثیر الحدیث له کتب» کما قاله النجاشی(1) ، والراوی الأخیر أیضاً ثقة ، وهکذا البواقی ثقات فالسند صحیح .

ومنها : ما رواه الشیخ بسنده المتصل إلی أبی الأسود الدؤلی عن أبی ذر رضی الله عنه فی حدیث طویل قال : قلت : یا رسول اللّه ما الغیبة ؟ قال : ذکرک أخاک بما یکرهه ، قلت : یا رسول اللّه فإن کان فیه ذاک الذی یذکر به ؟ قال : إعلم إذا ذکرته بما هو فیه فقد اغتبته ، وإذا

ذکرته بما لیس فیه فقد بهتّه ، الحدیث(2) .

ومنها : ما رواه العیاشی فی تفسیره عن عبد اللّه بن حماد الأنصاری عن عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : الغیبة أن تقول فی أخیک ما هو فیه ممّا قد ستره اللّه علیه ، فأمّا إذا قلت ما لیس فیه فذلک قول اللّه : «فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِیناً»(3)(4) .

ومنها : ما رواه ورام بن أبی فراس وثانی الشهیدین مرفوعاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : هل تدرون ما الغیبة ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم ، قال : ذکرک أخاک بما یکره ، قیل : أرأیت إن کان فی أخی ما أقول ؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم : إن کان فیه ما تقول اغتبته وإن لم یکن فیه فقد بهتَّه(5) .

أقول : الذی یظهر للمتأمل من هذه الروایات أنّ الغیبة کشف ما ستره اللّه علی المؤمن بما فیه ولکن لم یعرفه الناس ، ومن الطبیعی أنّ هذا الکشف یوجب کراهته وغمّه غالباً .

المقام الثانی :
اشارة

الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة الغیبة :

الأوّل : الاجماع

حرمة الغیبة فی الجملة إجماعیٌّ بین المسلمین ، بل هی من ضروریات الدین ، واعترف

ص:359


1- (9) رجال النجاشی / 281 الرقم 744 .
2- (1) أمالی الطوسی . المجلس التاسع عشر ح 1 / 537 الرقم 1162 ونقل عنه فی الوسائل 12 / 280 ح 9 .
3- (2) سورة النساء / 112 .
4- (3) تفسیر العیاشی 1 / 442 ح 272 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 286 ح 22 .
5- (4) تنبیه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورام / 126 وکشف الریبة عن أحکام الغیبة / 11 .

بها جمع من الأصحاب قدس سرهم :

منهم : العلامة فی التذکرة قال : « ... وکذا یحرم هجاء المؤمنین والغیبة ، قال اللّه تعالی : «وَلاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً»(1) و ... بلا خلاف فی ذلک کلّه»(2) .

ومنهم : ثانی الشهیدین قال : « وتحریم الغیبة فی الجملة إجماعیٌّ ، بل هی کبیرةٌ موبقةٌ ، للتصریح بالتوعدّ علیها بالخصوص فی الکتاب والسنة ... »(3) .

ومنهم : الشیخ جعفر قدس سره قال : « الأدلة الأربعة متفقة علی حظرها ... »(4) .

ومنهم : الفاضل النراقی قال : « ثمّ إنّه لا ریب فی حرمة الغیبة ، ویدلّ علیها الإجماع والکتاب والسنة ... »(5) .

ومنهم : السید جواد العاملی ، عدّ حرمتها وحرمة التکسب بها من الضروریات(6) .

ومنهم : السید علی آل بحر العلوم قال : « فاعلم أنّ حرمتها باتفاق النص والفتوی بل الأدلة الأربعة علیها متطابقة ... »(7) .

ومنهم : الشیخ الأعظم فی متن المکاسب المحرّمة قال : « الغیبة حرام بالأدلة الأربعة»(8) .

ومنهم : المحقق الخوئی قال : « ... بل حرمتها من ضروریات الدین وممّا قام علیه

ص:360


1- (5) سورة الحجرات / 12 .
2- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 144 ذیل مسألة 649 .
3- (7) کشف الریبة / 30 .
4- (8) شرح القواعد 1 / 222 .
5- (1) مستند الشیعة 14 / 161 .
6- (2) راجع مفتاح الکرامة 12 / 212 .
7- (3) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 21 طبع الحجری .
8- (4) المکاسب المحرمة / 40 الطبع الحجری - (1 / 315) .

إجماع المسلمین ... »(1) .

الثانی : الکتاب

تدلّ علی حرمة الغیبة أربعة من آیات کتاب اللّه العزیز وهی :

1 - قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا کَثِیراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً فَکَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِیمٌ»(2) .

شبّه اللّه تعالی المؤمن بالأخ والغیبة بأکل لحمه حالکونه میتاً ، یعنی عدم شعور المؤمن حال الغیبة بها شُبّه بالموت ، فکما أن أکل لحم الأخ المؤمن میتاً حرام کذلک الغیبة . واستفادة الحرمة من الآیة واضحة ، مضافاً إلی النهی الوارد فی الآیة عن الغیبة قبل التشبیه .

ولذا قال الشیخ فی معنی الآیة الشریفة : « معناه أنّ مَنْ دُعی إلی أکل لحم أخیه فعافته نفسه ، فکرهته من جهة طبعه ، فإنّه ینبغی إذا دعی إلی عیب أخیه فعافته نفسه من جهة عقله ، فینبغی أن یکرهه ، لأنّ داعی العقل أحقّ أن یتبع من داعی الطبع ، لأنّ داعی الطبع أعمی وداعی العقل بصیر ، وکلاهما فی صفة الناصح ، وهذا من أحسن ما یدلّ علی ما ینبغی أن

یجتنب من الکلام . وفی الکلام حذف ، وتقدیره أیحبّ أحدکم أن یأکل لحم أخیه میتاً فیقولون : لا ، بل عافته نفوسنا ، فقیل لکم : فکرهتموه ، فحذف لدلالة الکلام علیه»(3) .

ویوید ما ذکرناه شأن نزول الآیة الشریفة ، قال الشیخ الطبرسی : « ورُوی أنّ أبا بکر وعمر بعثا سلمان إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لیأتی لهما بطعام ، فبعثه إلی اُسامة بن زید وکان خازن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی رحله ، فقال : ماعندی شیءٌ ، فعاد إلیهما ، فقالا : بخل اُسامة ولو بعثنا سلمان إلی بئر سُمَیحة(4) لغار ماؤُها . ثمّ انطلقا إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال لهما : مالی أری خُضْرَةَ اللحم فی أفواهکما ؟ قالا : یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ما تناولنا الیوم لحماً ، قال : ظَلمتُم ، تأکلون لحم

ص:361


1- (5) مصباح الفقاهة 1 / 318 .
2- (6) سورة الحجرات / 12 .
3- (1) التبیان 9 / 350 .
4- (2) بئر بالمدینة .

سلمانَ واُسامةَ ، فنزلت»(1) .

أقول : ذکر هذه الروایة فی مجمع البیان 9 / 135 أیضاً ، ولکن فیه لم یسمهما .

2 - قوله تعالی : «وَیْلٌ لِّکُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ»(2) .

بتقریب : أنه قد یقال فی تعریف الهُمَزة بأنّها : الکثیر الطعن علی غیره بغیر حقٍّ العائب له بما لیس بعیب لجهله وسفهه وشدّه إقدامه علی مکاره غیره کما فی التبیان(3) ، وتبعه صاحب مجمع البیان(4) . والطعن والعیب کما یمکن أن یکون بحضور المطعون والمعیوب ، یمکن أن یکون بغیابه والأخیر هو الغالب ، وهو لیس إلاّ الغیبة ، فالآیة الشریفة تشمل بإطلاقها علی حرمة الغیبة فی الجملة .

ویؤید هذا التقریب تفسیر ابن عباس الهُمَزة بالطّعان ، واللمزة بالمغتاب(5) ، وتفسیر الطبرسی الهمزة بالذی یکسر أعراض الناس بالغض منهم واغتیابهم ، واللمزة بالذی یطعن فیهم ، وقال : « هذا وعید من اللّه لکلِّ مغتابٍ عیّابٍ مشّاءٍ بالنمیمة مُفرِّق بین الأحبّة»(6) .

ولکن الإنصاف : أنّ بین العنوانین عموم وخصوص من وجه ، وبعض أفراد الغیبة داخل فی عنوان الهمزة أو اللمزة ، فدلالة هذه الآیة الشریفة علی حرمة الغیبة غیر تامة ، کما

ذکره المحقق الخوئی قدس سره فی المصباح(7) .

3 - قوله تعالی : «إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ الْفَاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ فِی الدُّنْیَا وَالاْآخِرَةِ وَاللَّهُ یَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(8) .

ص:362


1- (3) جوامع الجامع 4 / 158 ونقل عنه فی تفسیر کنز الدقائق 9 / 612 .
2- (4) سورة الهمزة / 1 .
3- (5) التبیان 10 / 407 .
4- (6) مجمع البیان 10 / 537 .
5- (7) نقل عنه فی التبیان 10 / 407 .
6- (8) جوامع الجامع 4 / 535 .
7- (1) مصباح الفقاهة 1 / 319 .
8- (2) سورة النور / 19 .

بتقریب : أن ظاهر الآیة الشریفة یدلّ علی حرمة شیوع الفاحشة بین المؤمنین لاحبّها فقط(1) ، لأنّ الحبّ بذاته لا یمکن أن یکون من المحرّمات التی تتعلق بالأفعال .

نعم ، الحبّ إذا برز إلی مرحلة الظهور والفعل - نحو دعوة المؤمنین إلی الفواحش وتحریضهم علیها صار - من المحرّمات ، ولذا قال الشیخ : « إنّ الذین یحبون ، یؤثرون ، أن تشیع الفاحشة أی تظهر الأفعال القبیحة»(2) . ومن جملة إشاعة الفواحش بعض مصادیق الغیبة ، فتکون محرّمة .

ویؤید ما ذکرناه صحیحة ابن أبی عمیر عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من قال فی مؤمن ما رأته عیناه وسمعته اُذناه فهو مِنْ الذین قال اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ الْفَاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ»(3) .

والروایة منقولة بسند صحیح عن الصدوق إلی محمد بن حمران عن الصادق علیه السلام ، وبهذا السند صارت صحیحة(4) . والعجب غفلة الفاضل النراقی عن هذا السند وعبّر عنها بمرسلة ابن أبی عمیر(5) .

الآیة الشریفة تدلّ بوضوح علی أنّ الغیبة من المعاصی الکبیرة حیث وعد اللّه علیه العذاب الألیم فی الدنیا والآخرة .

4 - قوله تعالی : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَکَانَ اللّهُ سَمِیعاً عَلِیماً»(6) .

بتقریب : أنّ اللّه تعالی لا یحبّ القول بالسوءِ جهراً ، أی یحرم القول بالسوءِ وإظهاره

إلاّ من المظلوم ، ومن الواضح أنَّ الغیبة تدخل فی القول بالسوء عرفاً فتحرم .

ص:363


1- (3) کما هو ظاهر المحقق الخوئی بل صریحه فی مصباح الفقاهة 1 / 319 .
2- (4) التبیان 7 / 419 .
3- (5) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 6 .
4- (6) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 6 .
5- (7) مستند الشیعة 14 / 161 .
6- (8) سورة النساء / 148 .

ویؤید ما ذکرناه مرسلة العیاشی عن أبی الجارود عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : الجهر بالسوء مِن القول أن یُذکر الرجل بما فیه(1) .

ومِنْ المعلوم أنّ جُلّ ذکر الرجل بما فیه یکون فی غیبته لولا کلّه ، فالغیبة تدخل فی الآیة الشریفة وتحرم بها .

وأمّا الإشکال علی الاستدلال بالآیة الشریفة - بأنّ عدم المحبوبیة أعمّ من الحرمة ومن الکراهة المصطلحة کما ففی مصباح الفقاهة(2) - ففی غیر محلّه ، لأنّ اللّه تعالی فی کتابه یکون فی مقام الجعل والتشریع ، وفی هذا المقام الحبّ یلازم المصلحة والوجوب وعدمه یلازم المفسدة والحرمة .

فکلمة «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ» یُحمل علی الحرمة ، ولذا حکم الأصحاب قدس سرهم بحرمة الجهر بالقول السوء واستثنی منها المظلوم فقط .

ولذا قال الشیخ : « والتأویل فیه لا یحبّ اللّه أن یجهر أحدٌ لأحدٍ بالسوء من القول إلاّ من ظُلم ، فلا حرج علیه أنْ یخبر بما اُسیء إلیه»(3) .

وقال الطبرسی : « فإنّ المحبة إذا تعلقت بالفعل فمعناها الإرادة»(4) .

فالمظلوم لا حرج علیه بأن یجهر بالسوء ، وأمّا غیره فثبت علیه الحرج ، یعنی أنّه یعصی إذا جهر بالسوء . والإرادة فی مقام التشریع إذا تعلقت بالکراهة تفید معنی الحرمة فالآیة الشریفة دالة علی حرمة الغیبة . واللّه العالم بکتابه العزیز وأسراره .

الثالث : الروایات المتواترة

مضافاً إلی ما مرّ ذکره من الروایات فی تعریف الغیبة تدلّ علی حرمتها متواتر الروایات :

منها : موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال : من عامل الناس فلم

ص:364


1- (1) تفسیر العیاشی 1 / 454 ح 300 ونقل عنه فی البرهان 2 / 194 ح 2 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 319 وقبله المحقق الإیروانی فی حاشیة المکاسب 1 / 192 .
3- (3) التبیان 3 / 372 .
4- (4) مجمع البیان 2 / 131 .

یظلمهم وحدَّثهم فلم یکذبهم ووعدهم فلم یخلفهم کان ممّن حرمت غیبته وکملت مروءته وظهر عدله ووجبت اُخوته(1) .

ومنها : حسنة سلیمان بن خالد عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ألا اُنبّئکم بالمؤمن ؟ مَنْ ائتمنه المؤمنون علی أنفسهم وأموالهم ، ألا اُنبّئکم بالمسلم ؟ من سلم المسلمون من لسانه ویده ، والمهاجر مَن هجر السیئات وترک ما حرّم اللّه ، والمؤمن حرامٌ علی المؤمن أنْ یظلمه أو یخذله أو یغتابه أو یدفعه دفعةً(2) .

رجال السند کلّهم ثقات ، والمذکور فی الکافی الشریف الحسن بن علی وهو ابن فضال بدل الحسین بن علی الموجود فی الوسائل وهو ثقة جلیل ، إلاّ أبی کَهْمَس وهو الهیثم بن عبد اللّه حسّنه العلامة المامقانی قدس سره فی نتائج التنقیح(3) وما ذکر فی الموسوعة الرجالیة المیسرة(4) من أنّ العلامة المجلسی حسّنه فی الوجیزة ، غیر تام ، لأنّه قال فی الوجیزة : « أبو کهمس کنیة لمجاهیل»(5) وقال : « هیثم بن عبید أبو کهمس ، اُسند عنه»(6) . ولعلّ الرجلین والکتابین قد خلط فی المسودة من الکتاب . وبالجملة الرجل عندنا حسنٌ ، فالروایة به حسنة سنداً .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الغیبة أسرع فی دین الرجل المسلم من الآکلة فی جوفه . قال : وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الجلوس فی المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم یُحْدِث ، قیل : یا رسول اللّه وما یحدث ؟ قال : الاغتیاب(7) .

ومنها : معتبرة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال :

ص:365


1- (5) وسائل الشیعة 12 / 278 ح 2 .
2- (1) الکافی 2 / 235 ح 19 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 278 ح 1 .
3- (2) نتائج التنقیح / 164 .
4- (3) الموسوعة الرجالیة المیسرة / 542 .
5- (4) الوجیزة / 209 .
6- (5) الوجیزة / 195 .
7- (6) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 7 و 8 وفی الکافی 2 / 356 ح 1 کلاهما یکونان حدیثاً واحداً وهو الصحیح .

تحرم الجنة علی ثلاثة : علی المنّان ، وعلی المغتاب ، وعلی مدمن الخمر(1) .

رجال السند کلّهم ثقات حتّی الحسین بن علوان ، لأنّه یمکن رجوع توصیف الثقة فی کلام النجاشی إلیه حیث یقول : « کوفی عامی وأخوه الحسن یکنی أبا محمد ثقة ، رویا عن أبی عبد اللّه علیه السلام »(2) کما استظهره المحقق الخوئی(3) قدس سره ونقل العلامة عن ابن عقده انّه قال : « إنّ

الحسن کان أوثقُ من أخیه وأحمدُ عند أصحابنا»(4) .

وهذا الکلام من العلامة یقوی رجوع کلمة « الثقة » فی کلام النجاشی إلی الحسن کما هو الظاهر ، ولکنّه یدلّ علی توثیق الحسین أیضاً ولکن الحسن اُوثق منه وأحمد ، ولذا حکم بتوثیقه العلامة المجلسی قدس سره مع إقراره بأنّه غیر إمامیٍّ علی الأظهر(5) . فالرجل لو لم یکن ثقة ، یکون معتبراً عندنا ، والروایة صارت به معتبرة .

ومنها : خبر نوف البکّالی قال : أتیتُ أمیر المؤمنین علیه السلام وهو فی رَحبة مسجد الکوفة ، فقلت : السلام علیک یا أمیر المؤمنین ورحمة اللّه وبرکاته ، فقال : وعلیک السلام یا نوف ورحمة اللّه وبرکاته ، فقلت له : یا أمیر المؤمنین عظنی ، فقال : یا نوف أحْسِنْ یُحْسَنُ إلیک ، فقلت : زدنی یا أمیر المؤمنین ، فقال : إرحم تُرْحَم ، فقلت : زدنی یا أمیر المؤمنین ، قال : یا نوف قُلْ خیراً تُذْکَر بخیر . فقلت : زدنی یا أمیر المؤمنین ، قال : اجتنب الغیبة فإنّها إدام کلاب النار . ثمّ قال : یا نوف کَذَبَ مَنْ زَعَم أنّه وُلِدَ من حلالٍ وهو یأکُل لُحوم الناس ، وکذب من زعم أنّه وُلِدَ من حلالٍ وهو یحبُّ الزنا ، وکذب من زعم أنّه یعرف اللّه عزّ وجلّ وهو مُجْتَرِی ءٌ علی معاصی اللّه کلّ یوم ولیلة ، الحدیث(6) .

ص:366


1- (7) وسائل الشیعة 12 / 281 ح 10 .
2- (8) رجال النجاشی / 52 الرقم 116 .
3- (9) معجم رجال الحدیث 6 / 31 .
4- (1) ترتیب خلاصة الأقوال / 165 الرقم 23 طبع الآستانة المقدسة الرضویة .
5- (2) الوجیزة / 64 .
6- (3) أمالی الصدوق . المجلس السابع والثلاثون ح 9 / 277 الرقم 308 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 12 / 283 ح 16 .

ومنها : خبر أسباط بن محمد یرفعه إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : الغیبة أشدّ من الزنا ، فقیل : یا رسول اللّه ولم ذلک ؟ قال : أمّا صاحب الزنا فیتوب فیتوب اللّه علیه ، وأمّا صاحب الغیبة فیتوب فلا یتوب اللّه علیه حتّی یکون صاحبه الذی یحلّه(1) .

ومنها : خبر سیف بن عمیرة عن الصادق علیه السلام أنّه قال : إنّ للّه تبارک وتعالی علی عبده المؤمن أربعین جُنَّة ، فمتی أذنب ذنباً کبیرة رفع عنه جُنّته ، فإذا اغتاب أخاه المؤمن بشیءٍ یعلمه منه انکشفت تلک الجنّن عنه ویبقی مهتک الستر ، فیفتضح فی السماء علی ألسنة الملائکة وفی الأرض علی ألسنة الناس ، ولا یرتکب ذنباً إلاّ ذکروه ، تقول الملائکة الموکلون به : یا ربّنا قد بقی عبدک مهتک الستر وقد أمرتنا بحفظه ، فیقول عزّ وجلّ : ملائکتی لو أردتُ بهذا العبد خیراً ما فضحته ، فارفعوا أجنحتکم عنه ، الحدیث(2) .

ومنها : مرسلة ثانی الشهیدین فی خبر معاذ الطویل المشهور عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ الحفظة تصعد بعمل العبد وله نور کشعاع الشمس ، حتّی إذا بلغ السماء الدنیا والحفظة تستکثر عمله وتزکیّه ، فإذا انتهی إلی الباب ، قال الملک الموکَّل بالباب : اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ، أنا صاحب الغیبة ، أمرنی ربّی أن لا أدع عمل من یغتاب الناس یتجاوزنی إلی ربّی(3) .

ومنها : مرسلة ورام بن أبی فراس عن أنس قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : مررت لیلة اُسری بی علی قوم یخمشون وجوهَهم بأظفارههم ، فقلت : یا جبرئیل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء الذین یغتابون الناس ویقعون فی أعراضهم(4) .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی رفعه إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَنْ اغتاب مؤمناً فکأنّما قتل نفساً متعمداً(5) .

ص:367


1- (4) وسائل الشیعة 12 / 284 ح 18 .
2- (5) الاختصاص / 220 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 226 ح 26 .
3- (1) کشف الریبة / 30 .
4- (2) تنبیه الخواطر ونزهة النواظر / 123 .
5- (3) لب اللباب / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 125 ح 48 .

تلک عشرة کاملة من الروایات ، فإن شئت أکثر ممّا ذکرناه فراجع الوافی 5 / 977 ووسائل الشیعة 12 / 278 ومستدرک الوسائل 9 / 113 وجامع أحادیث الشیعة 20 / 518 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 219 وکتابی الآخر ألف حدیث فی المؤمن / 103 و 192 .

الرابع : حکم العقل

العقل مستقل بقبح الغیبة ، لأنّها ظلم وإیذاء فی حقِّ المؤمن ، وبقاعدة الملازمة یتبعه الحکم الشرعی بحرمتها .

المقام الثالث : فروعٌ
اشارة

لابدّ من التنبیه علیها :

الأوّل : حرمة الغیبة منحصرة بالمؤمن

ذهب المشهور إلی أنّ حرمة الغیبة تختص بالمؤمن ، وخالفهم بعض الأصحاب قدس سرهم ، کما هو ظاهر الشهید فی قواعده(1) وصریح المقدس الأردبیلی حیث یقول : « الظاهر أنّ عموم أدلة

تحریم الغیبة من الکتاب والسنة یشمل المؤمنین وغیرهم ، فإنّ قوله تعالی : «وَلاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً» إمّا للمکلَّفین کلّهم أو المسلمین فقط ، لجواز غیبة الکافر ولقوله تعالی بعده : «لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً»وکذا الأخبار فإنّ أکثرها بلفظ الناس أو المسلم . [ ثمّ ذکر عدة من الروایات ثمّ قال : [وبالجملة ، عموم أدلة الغیبة وخصوص ذکر المسلم یدلّ علی التحریم مطلقاً وأنّ عرض المسلم کدمه وماله ، فکما لا یجوز أخذ مال المخالف وقتله لا یجوز تناول عرضه الذی هو الغیبة ، وذلک لایدل علی کونه مقبولاً عند اللّه ، کعدم جواز أخذ ماله وقتله کما فی الکافر ... »(2) .

ص:368


1- (4) القواعد والفوائد 2 / 147 و 148 قاعدة 206 ونقل عنه صاحب مجمع الفائدة والبرهان 8/ 78 بلفظ « أظن أنّی رأیت فی قواعد الشهید أنّه یجوز غیبة المخالف من حیث مذهبه ودینه الباطل وکونه فاسقاً من تلک الجهة لا غیرها ، مثل أنْ یقال : أعمی ونحوه» .
2- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 77 و 78 .

وهو ظاهر الشهید الثانی فی دیباجة رسالته کشف الریبة حیث یقول : « ... فلمّا رأیتُ أکثر أهل هذا العصر ممّن یتّسم(1) بالعلم ویتّصف بالفضل وینسب إلی العدالة ویترشح للرئاسة یحافظون علی أداء الصلوات والدؤوب(2) فی الصیام وکثیر من العبادات والقربات ، ویجتنبون جملة من المحرّمات کالزنا وشرب الخمر نحوهما من القبائح الظاهرات ، ثمّ هم - مع ذلک - یصرفون کثیراً من أوقاتهم ویتفکّهون فی مجالسهم ومحاوراتهم ویغذون نفوسهم بتناول أعراض إخوانهم من المؤمنین ونظرائهم من المسلمین ، ولا یعدّونه من السئیات ولا یحذرون معه من مؤاخذة جبّار السماوات ... »(3) . ثمّ ذکر بعض الروایات الواردة فی حرمة الغیبة بالنسبة إلی الناس والمسلمین فی مقدمته بعد صفحة .

ولکن الشهید الثانی نفسه صرّح فی الروضة(4) بتخصیص الحکم بالمؤمن .

والمحقق السبزواری(5) حیث نقل کلام الأردبیلی بلفظ بعض المتأخرین ولکن لم یتعرض لردِّه ولا للقدح فیه .

ولکن أوّل من أنکر هذا القول علیهم من الذین کلامهم وکتبهم بأیدینا وذهبوا إلی تخصیص الحکم بالمؤمن ، هو الشیخ حسن ابن الشهید الثانی حیث یقول فی أجوبة المسائل

التی سأله عنها بعض السادة الکرام(6) ، قال : « لا ریب فی اختصاص تحریم الغیبة بمن یعتقد الحقّ ، فإنّ أدلة الحکم غیر متناولة لأهل الضلال ... »(7) .

ص:369


1- (2) اتّسم الرجل : إذا جعل لنفسه سمةً یعرف بها .
2- (3) الدأب : الجدّ والتعب والشأن والملازمة للشیء . الدؤوب : کثیر الملازمة .
3- (4) کشف الریبة / 29 .
4- (5) الروضة البهیة 3 / 214 .
5- (6) الکفایة 1 / 436 .
6- (1) وهو السید محمد بن جویبر المدنی ، کما ذکره العلامة الطهرانی تحت عنوان « جوابات المسائل المدنیات» فی الذریعة 5 / 233 .
7- (2) نقل عنه المجلسی فی مرآة العقول 10 / 423 وبحار الأنوار 72 / 235 .

ثمّ تبعه الأصحاب منهم : صاحب الحدائق(1) والوحید البهبهانی فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(2) وصاحب الریاض(3) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(4) والفاضل النراقی فی المستند(5) وصاحبا مفتاح الکرامة(6) والجواهر(7) والشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(8) والسید علی آل بحر العلوم(9) قدس سرهم .

والحق فی المقام تخصیص الحرمة بالمؤمن ، وهو الذی أقرّ بولایة مولانا وإمامنا أمیر المؤمنین علیه صلوات المصلین والأئمة المعصومین من ولده علیهم السلام من أوّلهم إلی آخرهم وهو القائم المنتظر المهدی الإمام الثانی عشر عجل اللّه تعالی فرجه الشریف وروحی وأرواح العالمین لتراب مقدمه الفداء(10) .

والوجه فی ذلک تخصیص الآیة الواردة فی سورة الحجرات بخطاب المؤمنین والضمیر الوارد فی «لاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً»(11) راجع إلیهم ، مضافاً إلی التشبیه بالأخ الذی لا یتمّ إلاّ فی المؤمن .

وهکذا ما ورد فی معتبرة داود بن سرحان(12) ومعتبرة عبد الرحمن بن سیابة(13) فی

ص:370


1- (3) الحدائق 18 / 148 وما بعدها .
2- (4) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 32 .
3- (5) ریاض المسائل 8 / 162 .
4- (6) شرح القواعد 1 / 221 .
5- (7) مستند الشیعة 14 / 162 .
6- (8) مفتاح الکرامة 12 / 213 .
7- (9) الجواهر 22 / 62 .
8- (10) المکاسب المحرمة / 40 الطبع الحجری - (1 / 319) .
9- (11) برهان الفقه . کتاب التجارة / 20 طبع الحجری .
10- (12) کتابة هذه الأسطر وقعت فی لیلة النصف من شعبان 1425 وهی لیلة مولده (عج) وللّه الحمد .
11- (13) سورة الحجرات / 12 .
12- (14) وسائل الشیعة 12 / 288 ح 1 .
13- (15) وسائل الشیعة 12 / 288 ح 2 .

تعریف الغیبة : « أن تقول فی أخیک» ، والأخ لا یطلق فی أحادیثنا إلاّ فی المؤمن . وغیرهما من

الروایات الماضیة .

فلابدَّ من تخصیص المطلقات الواردة بلفظ « الناس» و « المسلم» بهذه المقیّدات والحکم باختصاص الحرمة بالمؤمن کما علیه المشهور .

ویؤید ما ذکرناه تعریفنا عن الغیبة فراجعه .

فعلی ما ذکرنا من أنکر واحداً من الأئمة علیهم السلام یخرج عن عنوان المؤمن فلا یشمله الحکم ، لما ورد فی صحیحة عبد اللّه بن مسکان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من أنکر واحداً من الأحیاء فقد أنکر الأموات(1) .

وهذه الصحیحة تدلّ علی أنّ إنکار واحد منهم علیهم السلام فی حکم إنکار کلّهم علیهم السلام ، فحینئذ تختص الحرمة فی المقام بالشیعة الإمامیة الإثنی عشریة ، واللّه العالم .

الثانی : هل یشمل الحکم الصبی من المؤمنین أم لا ؟

الموضوع الوحید فی حرمة الغیبة هو المؤمن ، وحیث یمکن صدقه علی الصبی الممیز - بل یمکن أن یکون إیمانه أکمل وأفضل وأعلی درجة مِنْ مراتب إیمان بعض البالغین - فلذا یلحق بالمؤمن فیحرم غیبته ، وأفتی به الشیخ جعفر(2) والشیخ الأعظم(3) قدس سرهما . وأمّا إذا لم یصدق علیه المؤمن لصباوته أو جنونه فیخرج عن الحکم .

وأمّا خروج الصبی الممیز من قلم التکلیف نفیه عنه إجماعیٌ بین المسلمین ، فلا یصغی إلی ما ذکره المحقق الأردکانی قدس سره فی المقام بأنه : « لو عُدّ أطفال المؤمنین منهم فی الآیة تغلیباً للزم شمول الخطاب لهم فیحرم علیهم الغیبة ... ولا یظن بأحدٍ أنْ یلتزم بشمول الخطاب لهم ، فتأمل»(4) .

ص:371


1- (1) کمال الدین وتمام النعمة / 410 ح 1 ونقلتُ عنه فی کتابی الأربعون حدیثاً فی مَنْ یملاء الأرض قسطاً وعدلاً / 51 الحدیث 20 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 221 .
3- (3) المکاسب المحرمة / 41 الطبع الحجری - (1 / 319) .
4- (4) غنیة الطالب 1 / 148 .

وذهبت إلی عدم حرمة غیبة الصغیر صاحبة الأربعین الهاشمیة(1) قدس سرهم ، وقد مرّ منّا عدم تمامیة هذا القول .

الثالث : هل یشترط فی حرمة الغیبة تأثر المغتاب ؟

تدلّ علی اشتراط تأثر المغتاب بعض الروایات الماضیة ، نحو خبر أبی ذر عن

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی تعریف الغیبة : ذکرک أخاک بما یکرهه ، الحدیث(2) .

ومرسلة ورام وثانی الشهیدین عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی تعریفها : ذکرک أخاک بما یکره ، الحدیث(3) .

وقد اُخذ هذا الشرط فی کلام جماعة مِن الأصحاب ، کالشریف المرتضی والشیخ والطبرسی وورام والمحقق الکرکی والمجلسی والعلویة الأمینیة فیما نقلت عنهم آنفاً ، والشیخ الأعظم حیث یقول : « لعلّه من جهة أنّ الإطلاقات منصرفة إلی مَنْ یتأثر لو سمع»(4) .

وتبعه المحقق الإیروانی(5) فی ثانی مقومات الغیبة حیث مرّ کلامه فراجعه ، والمحقق الأردکانی فی غنیة الطالب(6) .

ولکن الظاهر أنّ الکراهة المذکورة فی النبویین - مع الغض عن ضعف إسنادهما - تحمل علی الغالب ، کما اعترف بذلک المؤسس الحائری قدس سره (7) ، فلا یمکن أخذها فی التعریف ، لإلغاء القید الغالبی فی التعاریف والموضوعات .

فاشتراط التأثر أو الکراهة فی المغتاب - بالفتح - فی غیر محلّه وغیر تام .

الرابع : هل یعتبر فی الغیبة قصد الهتک أو إضحاک الناس ؟

قال العلامة المولی محمد مهدی النراقی : « الغیبة إنّما تحرم إذا قصد بها هتک عرضه أو

ص:372


1- (5) الأربعین الهاشمیة / 378 .
2- (1) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 9 .
3- (2) مجموعة ورام / 126 وکشف الریبة / 11 .
4- (3) المکاسب المحرمة / 41 - (1 / 320) .
5- (4) حاشیة المکاسب 1 / 196 .
6- (5) غنیة الطالب 1 / 148 .
7- (6) المکاسب المحرمة / 197 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .

إضحاک الناس منه ، وأمّا إذا کان ذلک لغرض صحیح لا یمکن التوصل إلیه إلاّ به فلا تحرم»(1) .

أقول : الظاهر أنّ الغیبة فعلٌ خارجیٌ لا یدور مدار القصد ولیست من الاُمور القصدیة ، فما ذکره قدس سره غیر تام . نعم : فی موارد یجوز الغیبة ویدلّ علیه الأدلة ، نحو : ذکر العیب للطبیب بقصد العلاج ، أو للقاضی بقصد رفع الظلم وطرح الدعوی ، أو لأِرباب الحکم والسلطة بقصد الإسترحام وغیرها ، وفی هذه الموارد یصدق عنوان الغیبة ولکنّها تجوز ولا تحرم .

وبالجملة ، لا یُعتبر فی صدق الغیبة قصد الهتک أو إضحاک الناس ، ولذا ناقش الفاضل

النراقی کلام والده فی المستند ویقول : « وفی إطلاقه نظر ، والظاهر الاقتصار فی الجواز فیما ورد فی جوازه رخصة خصوصاً أو عموماً ... »(2) .

الخامس : ذکر الأوصاف الظاهرة أو العادیة لم تکن من الغیبة

قد مرّ فی تعریف الغیبة أنّها : کشف ما ستره اللّه علی المؤمن بما فیه ولکن لم یعرفه الناس . وعلی هذا التعریف ذکر الأوصاف الظاهرة والاُمور العادیة حیث لم یصدق علیه کشف الستر فلیس بغیبةٍ .

فإذا ذُکر الرجل بأنّه یأکل ویشرب وینام ویشتغل ونحوها من الاُمور العادیة فلا بأس به .

وإذا ذُکر الرجل بأنّه مریض أو صحیح ، أو طویل أو قصیر ، أو أعمی أو بصیر ، ونحوها من الاُمور الظاهرة التی یعرفها الناس ولیست تخفی علیهم فلا بأس بها . وتؤید ما ذکرناه بل تدلّ علیه معتبرة عبد الرحمن بن سیابة(3) .

ربما یخطر بالبال تنافی بعض الروایات مع ما ذکرناه ، نحو مرسلتا عائشة :

أولاهما : أنّها قالت : إنّی قلت لإمرأة وأنا عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ هذه لطویلة

ص:373


1- (7) جامع السعادات 2 / 320 .
2- (1) مستند الشیعة 14 / 164 .
3- (2) وسائل الشیعة 12 / 288 ح 2 .

الذیل ، فقال : إلفظی إلفظی(1) ، فلفظت بضعة من لحم(2) .

وثانیتهما : أنّها قالت : دخلت علینا إمرأة فلمّا ولّت أو مأت بیدی أنّها قصیرة فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : قد اغتبتیها ، ونهانی عن مثل ذلک(3) .

وقد یناقش فیهما : أولاً : بأنّهما ضعیفتا السند لإرسالهما ولم تنقلا من طرقنا بل هما عامیان کما فی الدر المنثور 7 / 575 .

وثانیاً : یمکن أنّها قالت فی حقِّهما شیئاً غیر الأمرین الظاهرین ، فیصیر کلامها به غیبة ، ثمّ حذفته فی الروایة عمداً أو سهواً ، ومثله عن مثلها غیر بعید .

وثالثاً : لا یمکن إثبات شیءٍ بهاتین المرسلتین ، بعد ثبوت تعریف الغیبة بالروایات المعتبرة بأنّها الکشف ، وحیث لم یصدق الکشف علی ذکر الأوصاف الظاهرة والاُمور العادیة

فذکرهما لیسا بغیبة .

فلذا ذکروا فی مستثنیات الغیبة : أن یکون الإنسان معروفاً باسم یُعرب عن غیبته کالأعرج والأعمش والأشتر ونحوها . قالوا : فلا إثم علی مَنْ یقول ذلک ، فقد فعل العلماء ذلک لضرورة التعریف کما فی الحدائق(4) .

نعم : قد یکون ذ کر الأوصاف الظاهرة والاُمور العادیة محرّماً ، لانطباق شیءٍ من العناوین المحرَّمة علیه ، کالتعییر والهجاء والسبّ والهتک والظلم وغیرها ، فحینئذ یکون حراماً من هذه الجهات(5) . ویمکن أن تحمل المرسلتان علی هذه الجهات أیضاً .

السادس : الغیبة لا تنحصر باللسان

کلّما یفهم منه نقصان الغیر ویعرّف ما یستر علیه ویکشف ستره به یدخل فی تعریف الغیبة ، فما ذُکر فی تعریف الغیبة من لغة « الذکر» المراد به معناه العام ، فیدخل فیه القول أو

ص:374


1- (3) اللفظ : الرمی والدفع ، أی استفرغی وادفعی من فمک .
2- (4) مجموعة ورام 1 / 126 .
3- (5) مجموعة ورام 1 / 126 ، وکشف الریبة / 37 إلی قوله : اغتبتیها .
4- (1) الحدائق 18 / 169 .
5- (2) کما ذکره المحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة 1 / 328 .

الفعل أو الکتابة أو التصریح أو الإشارة أو التعریض أو الغمز أو الإیماء أو الرمز أو الحرکة أو الحکایة ، لأنّ المدار فی الغیبة کشف ما ستره اللّه ولا خصوصیة للکاشف ، فبأیّ طریق من الطرق یکشف الستر یصدق علیه الغیبة . فراجع إن شئت فی هذا المجال مستند الشیعة(1) .

السابع : المغتاب لابدّ أن یکون معلوماً

المغتاب - بالفتح - لابدّ بأن یکون معلوماً عند السامع والمخاطب علی وجه یرتفع عنه الجهالة والإبهام ، فلو ذکر المغتاب - بالفتح - مجهولاً بین أطراف غیر محصورة - کواحد من أهل البلد أو السوق أو التجار أو أهل العلم بحیث لا یتمکن المخاطب من تطبیق المقول علی أحدهم - فلیس بغیبة .

نعم ، یمکن أن ینطبق علیه عنوان محرَّم آخر ، کالإیذاء والسخریة وغیرهما .

وهکذا یمکن أن یکون غیبة إذا قال : أهل البلد الفلانی کذا وأهل الصنف الفلانی کذا ، لأنّه یعدّ غیبة بعدد أفراد البلد والصنف ، لانحلال الکلی بعدد أفراده . فلذا صار غیبة جمیعهم إذا صدق علیه الکشف ، وأمّا إذا کان بحیث لا یصدق علیه الکشف لاشتهاره بین الناس فلا یکون غیبة .

وأمّا إن ذُکر المغتابُ - بالفتح - بین أطراف محصورة - کمسمی بزید المردّد بین إثنین أو

أحد قضاة البلد وفیه ثلاثة أو خمسة من القضاة - هل یعدّ من الغیبة أم لا ؟

ذهب المحقق الإیروانی(2) وتبعه السید الخوئی(3) بأنه لیس بغیبة ، ولکن الإنصاف أنّه من الغیبة ، لصدق الکشف ویمکن التعیین مجملاً علیهما أو علی الثلاثة أو الخمسة ونحوها . ووافقنا علی هذا الشیخ بهاء الدین محمد العاملی حیث یقول : « وبحکمه لإدراج المبهم من محصور کأحد قاضی البلد فاسق مثلاً ، فإنّ الظاهر أنّه غیبة ولم أجد أحداً تعرض له»(4) .

ص:375


1- (3) مستند الشیعة 14 / 163 .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 198 .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 329 .
4- (3) نقل عنه العلامة المجلسی فی مرآة العقول 10 / 407 .

وعمّنا آیة اللّه الشیخ محمد علی النجفی المتوفی عام 1318 فی رسالته فی المعاصی الکبیرة(1) واللّه العالم .

الثامن : الغیبة من الکبائر

إذا تأملت فی الآیات والروایات الماضیة تجد فی نفسک السکون والإقرار بأنّ الغیبة من الذنوب الکبائر ، وصرح بکونها من الکبائر جماعة من الأصحاب ، منهم : الشهید الثانی(2) .

قد یقال : إنّ الکبیرة کلّ ذنب وعد اللّه علیه بالعذاب فی کتابه ، وقد نسب هذا القول إلی المشهور ، وقد وعد اللّه فی کتابه بالعذاب الألیم للمغتاب - بالکسر - کما مرّ عند بیان الآیات الدالة علی حرمة الغیبة .

ومن نظر فی الروایات الماضیة والآتیة تیّقن بأنّها من الکبائر :

منها : صحیحة برید بن معاویة العجلی عن أبی جعفر علیه السلام قال : وجدنا فی کتاب علیٍّ علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال - وهو علی منبره - والذی لا إله إلاّ هو ما اُعطی مؤمن قطّ خیر الدنیا والآخرة إلاّ بحسن ظنّه باللّه ورجائه له وحُسن خُلقه والکفّ عن اغتیاب المؤمنین ، والذی لا إله إلاّ هو لا یعذِّب اللّه مؤمناً بعد التوبة والاستغفار إلاّ بسوء ظنّه باللّه وتقصیره من رجائه وسوء خُلقه واغتیابه للمؤمنین ، والذی لا إله إلاّ هو لا یحسن ظنّ عبد مؤمن باللّه إلاّ کان اللّه عند ظنِّ عبده المؤمن ، لأنّ اللّه کریم بیده الخیرات ، یستحیی أن یکون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثمّ یُخلف ظنّه ورجاءه ، فأحسنوا باللّه الظن وارغبوا إلیه(3) .

وروی نحوها فی الفقه الرضوی / 360 .

ومنها : خبر حفص بن غیاث عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أربعة یؤذون أهل النار علی ما بهم من الأذی ، یُسْقَون من الحمیم والجحیم ینادون بالویل والثُّبور ، یقول أهل النار بعضهم لبعض : ما بال هؤلاء الأربعة قد

ص:376


1- (4) معاصی کبیرة / 58 الطبع الحجری . فارسیٌ .
2- (5) کشف الریبة / 30 .
3- (6) الکافی 2 / 71 ح 2 باب حسن الظن باللّه عزّ وجلّ .

آذونا علی ما بنا من الأذی ؟ فرجلّ مُعلَّق فی تابوت من جمر ، ورجل یَجُرّ أمعاءَه ، ورجلٌ یسیل فوه قیحاً ودَماً ، ورجلٌ یأکُلُ لحمه .

فیقال لصاحب التابوت : ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی ؟ فیقول : إنّ الأبعد مات وفی عنقه أموال الناس ، ولم یجد لها فی نفسه أداءً ولا وفاءً .

ثم یُقال للذی یجرُّ أمعاءه : ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی ؟ فیقول : إنّ الأبعد کان لا یبالی أین أصاب البول من جسده .

ثم یقال : للذی یسیل فُوه قَیحاً ودَماً : ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی ؟ فیقول : إنّ الأبعد کان یُحاکی ، فینظُر إلی کلِّ کلمةٍ خبیثةٍ فیُسْنِدها ویحاکی بها .

ثم یقال للذی یأکل لحمه : ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی ؟ فیقول : إنّ الأبعد کان یأکل لحوم الناس بالغیبة ویمشی بالَّنمیمة(1) .

ورواه فی عقاب الأعمال / 295 والشهید الثانی فی کشف الریبة / 33 . وأمّا معنی « الأبعد » فقال الجزری : « إنّ رجلاً جاء فقال : إنّ الأبعد قد زنا ، معناه المتباعد عن الخیر والعصمة ، یقال : بَعِدَ - بالکسر - فهو باعد أی هلک ، والأبعد : الخائن أیضاً»(2) .

ومنها : خبر علقمة عن الصادق علیه السلام فی حدیث قال : ولقد حدّثنی أبی علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : مَن اغتاب مؤمناً بما فیه لم یجمع اللّه بینهما فی الجنة أبداً ، ومن اغتاب مؤمناً بما لیس فیه فقد انقطعت العِصمة بینهما ، وکان المغتاب فی النار خالداً فیها وبئس المصیر ، الحدیث(3) .

ورواه صاحب جامع الأخبار / 412 ح 9 .

ومنها : مرسلة ورام عن أنس قال : خطبنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فذکر الربا وعظّم شأنه ،

فقال : إنّ الدرهم یُصیبه الرجل من الربا أعظم عند اللّه فی الخطیئة من ست وثلاثین زنیة

ص:377


1- (1) أمالی الصدوق . المجلس الخامس والثمانون ح 21 / 676 الرقم 919 .
2- (2) النهایة فی غریب الحدیث والأثر 1 / 140 ونقل عنه فی بحار الأنوار 8 / 281 (3 / 563) .
3- (3) أمالی الصدوق . المجلس الثانی والعشرون ح 3 / 164 الرقم 163 .

یزنیها الرجل ، وأربی الربا عرض الرجل المسلم(1) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن جابر قال : کنّا مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی مسیر فأتی علی قبرین یعذَّب صاحبهما ، فقال : إنّهما لا یعذّبان فی کبیرة ، أمّا أحدهما فکان یغتاب الناس ، وأمّا الثانی فکان لا یستبریء من بوله ، ودعا بجریدة رطبة أو جریدتین فکسرهما ، ثمّ أمر بکلِّ کسرٍ فغُرستْ علی قبر ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : أما إنّه سیهوّن من عذابهما ما کانتا رطبتین ، أو ما لم یبسا(2) .

أقول : « إنّهما لا یعذبان فی کبیرة » یعنی أنّهما لا یعذبان بجهة ارتکاب الأعمال الکبیرة عند الناس وفی أعیانهم ، لا المعاصی الکبیرة کما هو واضح .

ومنها : مرسلة ثالثة له عن الباقر علیه السلام قال : إذا کان یوم القیامة أقبل قومٌ علی اللّه عزّ وجلّ فلا یجدون لأنفسهم حسنات ، فیقولون : إلهنا وسیّدنا ما فعلتْ حسناتُنا ؟ فیقول اللّه عزّ وجلّ : أکلتها الغیبة ، فإنّ الغیبة لتأکل الحسنات کما تأکل النار الحطب(3) .

روی نحوها المفید فی الروضة کما نقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 124 ح 42 .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : إنّه نظر فی النار لیلة الإسراء فإذا قوم یأکلون الجیف ، فقال : یا جبرئیل مَنْ هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذین یأکلون لحم الناس(4) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إنّی لأعرف أقواماً تدخل النار فی أفواههم وتخرج من أدبارهم ، یسمع لها بطونهم دویّ کالسیل ، فقیل : مَنْ هم یا رسول اللّه ؟ قال : الذین یغتابون الناس(5) .

ومنها : مرسلة أبی القاسم الکوفی عن علی علیه السلام قال : من اغتاب مؤمناً حبسه فی طینة

ص:378


1- (1) تنبیه الخواطر ونَزْهَة النواظر / 124 .
2- (2) تنبیه الخواطر ونَزْهَة النواظر / 124 .
3- (3) تنبیه الخواطر ونَزْهَة النواظر / 345 .
4- (4) لب اللباب / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 125 ح 43 .
5- (5) لب اللباب / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 125 ح 45 .

خبال ثلاثین خریفاً . قیل : وما طینة خبال ؟ قال : ما یصیر طیناً من صدید فروج الزوانی(1) .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم یقبل اللّه تعالی صلاته ولا صیامه أربعین یوماً ولیلة إلاّ أن یغفر له صاحبه .

وقال صلی الله علیه و آله وسلم : من اغتاب مسلماً فی شهر رمضان لم یؤجر علی صیامه(2) .

تلک عشرة کاملة من الروایات المتواترة تدلّ بوضوح علی أنّ الغیبة من المعاصی الکبیرة ، لأنّ الثابت بها التوعید للعذاب علیها ، فصارت من الکبائر . ولا ینظر إلی ضعف أسناد بعضها ، لأنّ هذا المضمون ورد متواتراً فیها وأفتی المشهور علی طبقها ، أعنی علی أنّ الغیبة من الکبائر الموبقة . نستعیذ باللّه تعالی منها ومن غیرها وعصمنا اللّه وإیّاکم منها وهو العاصم .

التاسع : استماع الغیبة حرام

ذهبوا إلی حرمة استماع الغیبة ، وقد اُدعی علیها عدم الخلاف(3) بل الإجماع(4) واستدلوا لِترک ذکره فی کلمات الأصحاب بظهوره(5) ، وقد أفتی بحرمة استماعها الشهید الثانی فی الروضة(6) وکشف الریبة(7) والشیخ یوسف فی الحدائق(8) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(9) وتلمیذاه صاحبا المفتاح(10) والجواهر(11) والشیخ الأعظم(12) والسید علی آل

ص:379


1- (6) کتاب الأخلاق / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 114 ح 6 .
2- (1) جامع الأخبار / 412 ح 7 و 8 .
3- (2) کما فی المکاسب المحرمة / 46 (1 / 359) للشیخ الأعظم ، والجواهر 22 / 71 .
4- (3) کما فی مهذب الأحکام 16 / 128 للفقیه السید عبد الأعلی السبزواری .
5- (4) کما فی مفتاح الکرامة 12 / 219 ، وبرهان الفقه . کتاب التجارة / 23 الطبع الحجری .
6- (5) الروضة البهیة 3 / 214 .
7- (6) کشف الریبة / 39 .
8- (7) الحدائق 18 / 159 .
9- (8) شرح القواعد 1 / 231 .
10- (9) مفتاح الکرامة 12 / 129 .
11- (10) الجواهر 22 / 71 .
12- (11) المکاسب المحرمة / 46 - (1 / 359) .

بحر العلوم(1) والمحقق الإیروانی(2) والمؤسس الحائری(3) والعلویة الأمینیة(4) والمحقق الأردکانی(5) والفقیه السبزواری(6) قدس سرهم .

ولکن ناقش فی الحرمة المحقق الخوئی ، لعدم تمامیة المستند عنده(7) ، وذهب إلی الجواز ،

وتبعه تلمیذاه شیخنا الأستاذ(8) والفقیه القمی(9) - مدظلهما- .

والعمدة ملاحظة الأدلة ، فقد استدلوا للحرمة بعدّة من الروایات :

منها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن الغیبة والاستماع إلیها ونهی عن النمیمة والاستماع إلیها ، الحدیث(10) .

والروایة وإن کانت ضعیفة الإسناد ولکن دلالتها علی الحرمة التکلیفیة واضحة . وأمّا ذیلها المذکور فیها : « ألا ومن تطوّل علی أخیه فی غیبة سمعها فیه فی مجلس فردّها عنه ردّ اللّه عنه ألف باب من الشرِّ فی الدنیا والآخرة ، فإن هو لم یردّها وهو قادر علی ردّها کان علیه کوزر من اغتابه سبعین مرّة»(11) ، فلیست قرینة بأنّ المراد من الاستماع فی الصدر هو الاستماع مع عدم الرد فقط(12) ، لأنّ کل منهما موضوع فارد کما یظهر من ملاحظة المتن .

ومنها : صحیحة عبد الأعلی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من

ص:380


1- (12) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 23 .
2- (13) حاشیة المکاسب 1 / 212 .
3- (14) المکاسب المحرمة / 231 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
4- (15) أربعین الهاشمیة / 363 .
5- (16) غنیة الطالب 1 / 159 .
6- (17) مهذب الأحکام 16 / 128 .
7- (18) مصباح الفقاهة 1 / 357 .
8- (1) إرشاد الطالب 1 / 209 .
9- (2) عمدة المطالب 1 / 286 .
10- (3) وسائل الشیعة 12 / 282 ح 13 .
11- (4) وسائل الشیعة 12 / 282 ح 13 .
12- (5) کما علیه المحقق الخوئی 1 / 358 .

کان یؤمن باللّه والیوم الآخر فلا یجلس فی مجلس یُسبُّ فیه إمامٌ أو یُغتاب فیه مسلمٌ ، إنّ اللّه یقول فی کتابه : «وَإِذَا رَأَیْتَ الَّذِینَ یَخُوضُونَ فِی آیَاتِنَا» إلی قوله : «مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ»(1)(2) .

وروی ابن إدریس من کتاب ابن قولویه عن عبد الأعلی مثله(3) .

وهذه الصحیحة کافیة لاثبات المطلوب دلالةً وسنداً .

ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ورأیت الغیبة تستملح ویبشّر بها الناس بعضهم بعضاً ، الحدیث(4) .

ومن الواضح أن البشارة بالغیبة یستلزم استماعها مرّتین من المُبَشِّر والمُبَشَّر .

ومنها : مرسلة المفید قال : نظر أمیر المؤمنین علیه السلام إلی رجل یغتاب رجلاً عند الحسن

ابنه علیه السلام ، فقال : یا بنیّ نزّه سمعک عن مثل هذا ، فإنّه نظر إلی أخبث ما فی وعائه فأفرغه فی وعائک(5) .

ومنها : مرسلة الشهید نقلاً عن روضة المفید عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : الغیبة کفر والمستمع لها والراضی بها مشرک . قلت : فإن قال ما لیس فیه ؟ فقال : ذاک بهتان(6) .

ومنها : مرسلة أبی الفتوح الرازی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : السامع للغیبة أحد المغتابین(7) .

ورواها ثانی الشهیدین مرسلاً عن علی علیه السلام (8) .

ص:381


1- (6) سورة الأنعام / 68 .
2- (7) تفسیر القمی 1 / 204 ونقل عنه فی بحار الأنوار 72 / 264 ح 9 .
3- (8) السرائر 3 / 639 .
4- (9) الکافی 8 / 40 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 221 ح 10 .
5- (1) الاختصاص / 225 .
6- (2) مستدرک الوسائل 9 / 133 ح 6 .
7- (3) مستدرک الوسائل 9 / 133 ح 7 .
8- (4) کشف الریبة / 39 .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من سمع الغیبة ولم یغیّر کان کمن اغتاب ، ومن ردّ عن عرض أخیه المؤمن کان له سبعون ألف حجاب من النار(1) .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : المستمع أحد المغتابین(2) .

ورواها ورّام فی مجموعته / 127 .

ومنها : مرسلة ورّام بن أبی فراس عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الساکت شریک المغتاب(3) .

ومنها : مرسلة الآمدی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : مستمع الغیبة کقائِلِها(4) .

تلک عشرة کاملة من الروایات وفیها الصحیحة ، وادعاء جعل جمیعها خلاف العقل السلیم فهذا المضمون ثبت صدورها عن أئمتنا علیهم السلام ، وهی تدلّ علی حرمة استماع الغیبة لا سماعها ، ولا تلازم بین حرمة الغیبة وحرمة استماعها کما لا یخفی(5) .

العاشر : وجوب ردّ غیبة المؤمن

عدّة من الروایات تدلّ علی وجوب ردّ غیبة المؤمن :

منها : حسنة أبی الورد عن أبی جعفر علیه السلام قال : من اغتیب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه نصره اللّه وأعانه فی الدنیا والآخرة ، ومن اغتیب عنده أخوه المؤمن فلم ینصره ولم یعنه ولم یدفع عنه وهو یقدر علی نصرته وعونه إلاّ خفضه اللّه فی الدنیا والآخرة(6) .

قد حکم العلامة المجلسی قدس سره بأنّ أبی الورد ممدوح فی الوجیزة(7) ولذا وصفتُ الروایة بالحسنة . ورواها البرقی فی المحاسن 1 / 188 ح 96 بسنده عن أبی الورد .

ص:382


1- (5) مستدرک الوسائل 9 / 133 ح 8 .
2- (6) کشف الریبة / 39 .
3- (7) مجموعة ورام / 127 .
4- (8) غرر الحکم ح 9760 .
5- (9) راجع مصباح الفقاهة 1 / 361 .
6- (1) وسائل الشیعة 12 / 291 ح 2 . الباب 156 من أبواب أحکام العشرة .
7- (2) الوجیزة / 210 الرقم 2284 .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : مَنْ ردّ عن عرض أخیه المسلم وجبت له الجنة البتة(1) .

ومن مصادیق الردّ عن عرض الأخ ، هو الردّ عن غیبته .

ومنها : معتبرة بل صحیحة إبراهیم بن عمر الیمانی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما من مؤمن یعین مؤمناً مظلوماً إلاّ کان أفضل من صیام شهر واعتکافه فی المسجد الحرام ، وما من مؤمن ینصر أخاه وهو یقدر علی نصرته إلاّ نصره اللّه فی الدنیا والآخرة ، وما من مؤمن یخذل أخاه وهو یقدر علی نصرته إلاّ خذله اللّه فی الدنیا والآخرة(2) .

الصحیحة تدل بإطلاقها علی وجوب ردّ غیبة المؤمن لأنّه من مصادیق نصرته وعدم خذلانه .

ومنها : ما ورد فی خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم للوصی علیه السلام : یا علی ، من اغتیب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ینصره خذله اللّه فی الدنیا والآخرة(3) .

ومنها : ما ورد فی خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة أنّه قال فیها : ومن ردّ عن أخیه غیبة سمعها فی مجلس ردّ اللّه عنه ألف باب من الشر فی الدنیا والآخرة ، فإن لم یردَّ عنه وأعجبه کان علیه کَوِزْرِ مَن اغتاب(4) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : ألا ومن تطوَّل علی أخیه فی غیبة سمعها فیه فی مجلس فردّها عنه ردّ اللّه عنه ألف باب من الشرّ فی الدنیا والآخرة ، فإن هو لم یردّها وهو قادر علی ردّها کان علیه کَوِزْرِ من اغتابه سبعین مرّة(5) .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر أنّه قال : یا أبا ذر مَنْ ذبّ عن أخیه المؤمن الغیبة کان حقّاً علی اللّه أن یعتقه من النار . یا أبا ذر من اغتیب عنده أخوه المؤمن وهو یستطیع

ص:383


1- (3) وسائل الشیعة 12 / 292 ح 3 .
2- (4) وسائل الشیعة 12 / 292 ح 4 .
3- (5) وسائل الشیعة 12 / 291 ح 1 .
4- (6) وسائل الشیعة 12 / 292 ح 5 .
5- (7) الفقیه 4 / 15 ونقلت عنه فی کتابی ألف حدیث فی المؤمن / 192 ح 1 .

نصره فنصره ، نصره اللّه عزّ وجلّ فی الدنیا والآخرة ، وإن خذله وهو یستطیع نصره خذله اللّه فی الدنیا والآخرة(1) .

ومنها : ما رواه المفید(2) والطوسی(3) بإسنادهما عن أبی الدرداء قال : نال رجل مِنْ عرض رجل عند النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فردّ رجل من القوم علیه ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من ردّ عن عرض أخیه کان له حجاباً من النار .

ومنها : خبر أبی محمد القاسم بن محمد بن جعفر العلوی عن أبیه عن آبائه علیهم السلام عن علیٍّ علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : للمسلم علی أخیه ثلاثون حقّاً لا براءة له منها إلاّ بالأداء أو العفو ، یغفر زلّته ، ویرحم عبرته ، ویستر عورته ، ویقبل عثرته ، ویقبل معذرته ، ویردّ غیبته ، ویدیم نصیحته ، ویحفظ خلّته ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من سمع الغیبة ولم یغیّر کان کمن اغتاب ، ومن ردّ عن عرض أخیه المؤمن کان له سبعون ألف حجاب من النار(5) .

تلک عشرة کاملة من الروایات المستفیضة الدالة علی وجوب ردّ غیبة المؤمن ، والمراد من ردّ الغیبة هو نصرة المغتاب وتنزیهه عن تلک الوقیعة ، بأنّ یقال : العیب لیس إلاّ ما عابه اللّه من المعاصی إذا کان العیب یرجع إلی الاُمور الدنیویة ، أو یخرج العیب عن کونه معصیة إن کان یرجع إلی الأمور الدینیة ، وإن لم یقبل التوجیه والخروج عن کونه معصیة ، یقال : بعدم ثبوت الأمر فی حقِّه وعدم قبوله .

ومن الواضح أنّ ردّ الغیبة یرجع بالمآل إلی إسکات المغتاب - بالکسر - وهو لیس إلاّ

ص:384


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 293 ح 8 .
2- (2) أمالی المفید . المجلس الأربعون ح 2 / 337 ونقلتُ عنه فی کتابی ألف حدیث فی المؤمن / 194 ح 6 .
3- (3) أمالی الطوسی . المجلس الرابع ح 31 / 115 الرقم 177 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 293 ح 7 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 212 ح 24 . الباب 122 من أبواب أحکام العشرة ، وجامع أحادیث الشیعة 20 / 326 ح 18 (الطبعة الحدیثة) .
5- (5) مستدرک الوسائل 9 / 133 ح 8 .

النهی عن المنکر واللّه العالم .

تنبیهٌ : قال الشیخ محمد بهاء الدین العاملی : « ولا یبعد أن یجعل استماع غیبة المؤمن لقصد ردّها مجوّزاً ، ولم أجد أحداً جوّز ذلک ، وتجویزه قویٌّ »(1) .

أقول : وهو فی محلّه .

الحادی عشر : هل یجوز غیبة الراضی باغتیابه ؟

فی جواز غیبة مَنْ یکون راضیاً باغتیابه وأعلن ذلک أو نعلم من الخارج برضائه وجهان ، الظاهر واللّه سبحانه هو العالم - عدم الجواز ، لأنّا نعلم بحرمة الغیبة ثمّ نشک بعد العلم برضائه ، هل الحرمة باقیة أم لا ؟ نستصحب بقاء حرمة الغیبة . هذا بالنسبة إلی الأصل العملی . مضافاً إلی أنّ الإطلاقات الواردة فی أدلة الغیبة تعمّ فرضی رضی المغتاب (بالفتح) وعدمه ، وبهذه الإطلاقات نحکم بحرمة غیبة الراضی باغتیابه .

لاسیما أنّ المستفاد من الأدلة أنّ الغیبة وحرمتها ذو الوجهین وذو الحقین : حقٌّ ووجهٌ بالنسبة إلی المغتاب (بالفتح) وبه صارت الغیبة من حقوق الناس ولذا یجب الاستحلال والاستعفاء منه کما یأتی توضیح ذلک فی الفرع الآتی إن شاء اللّه تعالی ، وحیث یکون راضیاً قبل الاغتیاب أو بعده ترتفع الحرمة بالنسبة إلی هذا الوجه .

ولکن للغیبة حقٌّ ووجهٌ آخر بالنسبة إلی اللّه تعالی حیث حرّمه والإتیان بها خروج عن نواهی اللّه عزّ وجلّ وعصیانه . وهذا الوجه سُمّی بحقِّ اللّه فی الغیبة ، ورضی المغتاب (بالفتح) لایرفعه ولذا علی المغتاب (بالکسر) بعد الاستعفاء من المغتاب (بالفتح) أو قبله الإستغفار من اللّه تعالی والتوبة إلیه وطلب العفو منه .

فعلی ما ذکرناه رضی المغتاب (بالفتح) لا یجوّز الغیبة وهی باقیة علی حرمتها ، لأنّها تعدّ من عصیان اللّه تعالی وارتکاب معاصیه والإتیان بنواهیه . أعاذنا اللّه منها .

ولذا قال المحقق الخوئی فی بحث مستثنیات الغیبة : « إنّ رضاه (أی رضی المغتاب

ص:385


1- (1) الأربعون حدیثاً / 406 طبع جماعة المدرسین .

بالفتح) لا یرفع الحرمة التکلیفیة »(1) .

الثانی عشر : کفارة الغیبة

یمکن أن یقال فی بیان کفارة الاغتیاب وجوه :

الأوّل : الاستحلال من المغتاب (بالفتح) .

الثانی : الاستغفار له . ذهب إلی وجوبه جمع من الأعلام ، نحو : أصحاب الحدائق(2)

وشرح القواعد(3) ومفتاح الکرامة(4) .

الثالث : کلا الأمرین معاً . نقله العلامة المامقانی عن بعض مشایخه کما فی المصباح(5) ، وهو مختار المؤسس الحائری(6) .

الرابع : أحدهما علی سبیل التخییر .

الخامس : التفصیل بین وصول الغیبة إلی المغتاب فکفارتها الاستحلال منه ، وبین عدم وصولها إلیه فکفارتها الاستغفار له فقط . ذهب إلیه جمع من الأصحاب کالشهید الثانی(7) والعلامة المجلسی(8) والمحقق الطوسی فی التجرید(9) وتبعه شارحاه العلامة(10) والقوشجی(11) .

السادس : التفصیل بین إمکان الاستحلال منه وبین عدمه لموت أو بُعد مکان أو کون الإعتذار موجباً لإثارة الفتنة والإهانة . فعلی الأوّل یجب الاستحلال منه ، وعلی الثانی یجب

ص:386


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 353 .
2- (3) الحدائق 18 / 159 .
3- (1) شرح القواعد 1 / 232 .
4- (2) مفتاح الکرامة 12 / 220 .
5- (3) مصباح الفقاهة 1 / 334 .
6- (4) المکاسب المحرمة / 214 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی .
7- (5) کشف الریبة / 78 .
8- (6) مرآة العقول 10 / 433 .
9- (7) تجرید الاعتقاد / 307 .
10- (8) کشف المراد / 422 .
11- (9) شرح التجرید للقوشجی / 389 سطر 26 .

الاستغفار له . ألحقه ثانی الشهیدین(1) بالتفصیل المتقدم وهو مورد إحتیاط شیخنا الأعظم الأنصاری(2) ومختار صاحبة الأربعین الهاشمیة(3) .

السابع : عدم وجوب شیءٍ منهما فی جمیع الصور ، بل الواجب علی المغتاب (بالکسر) الاستغفار لنفسه والتوبة من ذنبه . وهو مختار صاحب الجواهر(4) وتبعه تلمیذه السید علی آل بحر العلوم(5) والمحقق الخوئی(6) قدس سره .

کما أنّ هذا التقسیم من الوجوه السبعة له(7) ، ویمکن زیادة وجهین آخرین وهما :

الثامن : أنّ الغیبة من حقوق اللّه وحقوق الناس معاً ، فبالنسبة إلی حقِّ اللّه یسقط بالاستغفار لنفس المغتاب (بالکسر) ، وبالنسبة إلی حقِّ الناس والمغتاب (بالفتح) ، الأحوط الإسترضاء ، ومع عدم الإمکان یستغفر له وهذا هو مختار جمع من الأصحاب منهم : الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری(8) ، وهذا هو القول المختار عندنا فی کفارة الإغتیاب .

التاسع : التوبة بالنسبة إلی نفس المغتاب (بالکسر) مع وجوب الجمع بین الأمرین ، أی الإستغفار والإسترضاء معاً من المغتاب (بالفتح) . ذهب إلیه المحقق الإیروانی(9) .

ما هو الأصل العملی فی المقام ؟

علی فرض عدم ثبوت الدلیل اللفظی فی المقام فهل الأصل العملی یقتضی البراءة أو

ص:387


1- (10) کشف الریبة / 79 .
2- (11) المکاسب المحرمة / 44 طبع الحجری (1 / 341) .
3- (12) الأربعین الهاشمیة / 375 .
4- (13) الجواهر 22 / 72 .
5- (14) برهان الفقه . کتاب التجارة / 23 طبع الحجری .
6- (15) مصباح الفقاهة 1 / 335 .
7- (16) مصباح الفقاهة 1 / 331 .
8- (1) مهذب الأحکام 16 / 136 .
9- (2) حاشیة المکاسب 1 / 202 .

الإحتیاط ؟ ذهب المحقق الخوئی(1) إلی الأوّل ، والمحقق الإیروانی(2) والمؤسس الحائری(3) إلی الثانی .

والصحیح أنّ الأصل العملی فی المقام هو الإحتیاط ، لأنّ بعد وقوع الغیبة وثبوت کونها من المحارم بل من الکبائر یترتب العقاب علی المغتاب (بالکسر) ویتوجه إلیه النار ، فحینئذ یجب علیه التخلص من العقاب والنار بحکم العقل وتحصیل القطع بالأمن والبرأة منه ، فلابدّ له إلاّ من الاتیان بکلِّ شیءٍ یحتمل دخله فی البراءة من العقاب والأمن منه من الإستغفار لنفسه وللمغتاب (بالفتح) والإستحلال منه . وهذا یفیدنا بأنّ الأصل العملی فی المقام هو الإحتیاط لا البراءة .

والذی یسهّل الخطب أنّ الأمر فی المقام لم یصل إلی الأصل العملی ، لأنه إن ثبت بالدلیل اللفظی لزوم الاستغفار للمغتاب (بالفتح) أو الإستحلال منه أو کلاهما فهو وإلاّ یرجع إلی الإطلاقات والعمومات الواردة فی أدلة التوبة ، وبها یثبت أنّ الاستغفار للمغتاب (بالکسر) نفسِهِ والتوبة بینه وبین ربّه یکفی للأمن من العذاب والتخلص من العقاب . وقد نبّه علی هذا البیان شیخنا الأستاذ - مدظله - فی الإرشاد وهو متین جداً(4) .

وهذه العمومات والإطلاقات کثیرة جداً نذکر لک نموذج منها حتّی یرضی نفسک بها :

منها : موثقة سلیمان بن خالد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : «إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء»(5) الکبائر فما سواها ، قال قلت : دخلتْ الکبائر فی الاستثناء ؟ قال : نعم(6) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة اسحاق بن عمار قال : قلت : لأبی عبد اللّه علیه السلام : الکبائر

ص:388


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 331 .
2- (4) حاشیة المکاسب 1 / 201 .
3- (5) المکاسب المحرمة / 214 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی .
4- (6) إرشاد الطالب 1 / 197 .
5- (1) سورة النساء / 48 و 116 .
6- (2) الکافی 2 / 284 ح 18 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 277 ح 2 .

فیها استثناء أن یغفر لمن یشاء ؟ قال : نعم(1) .

ومنها : صحیحة أبی عبیدة الحذاء قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : إنّ اللّه تعالی أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده فی لیلة ظلماء فوجدها فاللّه أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلک الرجل براحلته حین وجدها(2) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَی اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً»(3) ؟ قال : هو الذنب الذی لا یعود فیه أبداً ، قلت : وأیّنا لم یعد ؟ فقال : یا أبا محمد إنّ اللّه یحبّ من عباده المفتّن التواب(4) .

ومنها : غیرها من العمومات والإطلاقات الواردة فی أدلة التوبة ، فإن شئت راجع إلی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / (284 - 257) .

ما هو دلیل الاستحلال من المغتاب (بالفتح) ؟

قد استدلوا علی وجوب الاستحلال بعدّة من الروایات :

منها : خبر أسباط بن محمد یرفعه إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : الغیبة أشدّ من الزنا ، فقیل : یا رسول اللّه ولم ذلک ؟ قال : أما صاحب الزنا فیتوب اللّه علیه ، وأمّا صاحب الغیبة فیتوب فلا یتوب اللّه علیه حتّی یکون صاحبه الذی اغتابه یُحلّه(5) .

دلالة الروایة علی لزوم الاستعفاء والاستحلال واضحة ، ولکن فی سندها ضعفٌ ورفعٌ .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر أنّه قال فیها : یا أباذر إیّاک والغیبة ، فإنّ الغیبة أشدّ من الزنا . قلت : ولم ذاک یا رسول اللّه ؟ قال : لأنّ الرجل یزنی فیتوب إلی اللّه علیه ،

ص:389


1- (3) الکافی 2 / 284 ح 19 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة احادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 277 ح 3 .
2- (4) الکافی 2 / 435 ح 8 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة احادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 259 ح 6 .
3- (5) سورة التحریم / 8 .
4- (6) الکافی 2 / 432 ح 4 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 258 ح 4 .
5- (7) وسائل الشیعة 12 / 284 ح 18 .

والغیبة لا تغفر حتّی یغفرها صاحبها ، الحدیث(1) .

دلالتها واضحة ، وفی سندها ضعف .

ومنها : خبر القاسم بن محمد بن جعفر العلوی عن أبیه عن آبائه عن علی علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : للمسلم علی أخیه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلاّ بالأداء أو العفو . ثمّ ذکرها علی التفصیل ، ثمّ قال : سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : إنّ أحدکم لیدع من حقوق أخیه شیئاً فیطالبه به یوم القیامة فیقضی له وعلیه(2) .

الروایة ضعیفة سنداً ودلالةً لاشتمالها علی حقوق لا قائل بوجوب أدائها ، والظاهر أنّها حقوق أخلاقیة ینبغی للمسلم أن یراعیها ویواظب علیها ، بل هی فی الجملة من مقتضیات طبع العقلاء والبشر فی اُمورهم الإجتماعیة ، حتّی مع قطع النظر عن الشریعة والدین ، ویأتی منّا توضیحه فی خاتمة هذا المبحث عند البحث عن حقوق الإخوان .

ومنها : مرسلة جابر وأبی سعید قالا : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إیّاکم والغیبة ، فإنّ الغیبة أشدّ من الزنا ، إنّ الرجل یزنی ویتوب فیتوب اللّه علیه ، وإنّ صاحب الغیبة لا یغفر له حتّی یغفر له صاحبه(3) .

دلالتها واضحة ، وفی سندها إرسال .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : عقوبة الغیبة أشدّ من الزنا . قیل : ولم یا رسول اللّه ؟ قال : لأنّ صاحب الزنا یتوب فیغفر اللّه [ له ] ، ولا تغفر الغیبة إلاّ أن یحلّله صاحبه(4) .

سندها مرسل ودلالتها واضحة .

ومنها : مرسلة سعید بن جبیر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : یؤتی بأحد یوم القیامة یوقف

بین یدی اللّه ویدفع إلیه کتابه فلا یَری حسناته ، فیقول : إلهی لیس هذا کتابی فإنّی لا أری فیها

ص:390


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 212 ح 24 .
3- (3) مستدرک الوسائل 9 / 118 ح 21 .
4- (4) مستدرک الوسائل 9 / 130 ح 3 .

طاعتی ، فیقال : إنّ ربّک لا یضلّ ولا ینسی ، ذهب عملک باغتیاب الناس ، ثمّ یؤتی بآخر ویدفع إلیه کتابه فیری فیها طاعات کثیرة ، فیقول : إلهی ما هذا کتابی فإنّی ما عملت هذه الطاعات ، فیقول : إنّ فلاناً اغتابک فدفعت حسناته إلیک(1) .

الروایة لا تدلّ علی وجوب الاستحلال ، وفی سندها إرسال .

ومنها : مرسلة المفید عن الباقر علیه السلام أنّه قال : إذا کان یوم القیامة أقبل قوم علی اللّه عزّ وجلّ فلا یجدون لأنفسهم حسنات ، فیقولون : إلهنا وسیدنا ما فعلت حسناتنا ؟ فیقول اللّه عزّ وجلّ : أکلتها الغیبة ، إنّ الغیبة تأکل الحسنات کما تأکل النار الحلفاء(2) .

الحلفاء : نبات معروف ، الروایة لا تدلّ علی لزوم الاستحلال وفی سندها إرسال .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : یعطی رجل کتابه فیری حسنات لم یکن عملها ، فیقول : یا ربّ مِنْ أین هذا لی ؟ فیقول : هذا ممّا اغتابک وأنت لا تشعر ، ویدفع لآخر کتاب فیقول : ما هذا کتابی ، فیقول اللّه : بلی ولکن ذهب عملک باغتیابک الناس(3) .

سند الروایة مرسلة ، ولا تدلّ علی لزوم الاستحلال .

ومنها : مرسلة صاحب مصباح الشریعة عن الصادق علیه السلام : الغیبة تأکل الحسنات کما تأکل النار الحطب(4) .

الروایة لا تدلّ علی لزوم الاستحلال ، وسندها مرسل أیضاً .

ومنها : قال الشهید الثانی : روی عن بعضهم أنّ رجلاً قال له : إنّ فلاناً قد اغتابک ، فبعث إلیه طبقاً من الرطب ، وقال : بلغنی أنّک قد أهدیت إلیّ حسناتک فأردتُ أن اُکافئک علیها ، فاعذرنی فإنّی لا أقدر أن اُکافئک علی التمام(5) .

ص:391


1- (1) مستدرک الوسائل 9 / 121 ح 30 .
2- (2) مستدرک الوسائل 9 / 124 ح 42 .
3- (3) مستدرک الوسائل 9 / 125 ح 49 .
4- (4) مستدرک الوسائل 9 / 118 ح 19 .
5- (5) کشف الریبة / 79 .

الروایة عامیة منقولة فی إحیاء علوم الدین 3 / 154 لأبی حامد الغزالی مع إرسالها وإضمارها ، ولا تدلّ علی وجوب الاستحلال .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَنْ کانت لأخیه عنده مظلمة فی عرضٍ أو مالٍ فَلْیَتَحِلِّلَها منه قبل أن یأتی یوم لیس هناک دینار ولا درهم ، یؤخذ من حسناته ، فإن لم یکن له حسنات اُخذ من سیئات صاحبه فتزید علی سیئاته(1) .

الروایة عامیة منقولة فی البخاری 2 / 865 و 5 / 2394 ، ولکن دلالتها علی وجوب الاستحلال واضحة .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَن اغتاب مسلماً أو مسلمة لم یقبل اللّه تعالی صلاته ولا صیامه أربعین یوماً ولیلة ، إلاّ أن یغفر له صاحبه(2) .

دلالتها علی لزوم الاستحلال واضحة ، ولکن فی سندها إرسال .

ومنها : ما روی فی مصباح الشریعة عن الصادق علیه السلام أنّه قال : فإن إغتبتَ فبلغ المغتاب ، فلم یبق إلاّ أن تستحلَّ منه ، وإن لم یبلغه ولم یلحقه عِلْمُ ذلک فاستغفر له(3) .

الروایة مرسلة سنداً ، واضحة الدلالة علی لزوم الاستحلال بعد وصول الغیبة إلی المغتاب (بالفتح) ، وإن لم یصل لزم الاستغفار له . فهذه الروایة من أدلة الوجه الخامس من وجوه کفارة الاغتیاب . وفی الجملة تدلّ علی لزوم الاستحلال .

ومنها : ما ورد فی الدعاء التاسع والثلاثین من أدعیة الصحیفة السجادیة الشریفة : « اللهم وأیّما عبد من عبیدک أدرکه منّی دَرَکٌ أو مَسَّهُ مِنْ ناحیتی أذیً أو لَحِقَهُ بی أو بسببی ظلمٌ فَفُتُّه بحقّهِ أو سَبَقْتُهُ بمَ-ظْلِمَتِهِ فصلِّ علی محمد وآله وأرْضِهِ عنّی مِنْ وُجْدِکَ وأوْفِهِ حَقَّهُ من عندک ثمّ قِنی ما یوجب له حُکْمُکَ وخَلِّصنی ممّا یحکم به عدلُکَ ، فإنّ قوتی لا تَسْتَقِلُّ بنقمتک وإنّ طاقتی لا تنهض بسخطک ، فإنّک إن تُکافِنی بالحقِّ تُهْلِکنی وإلاّ تَغَمَّدنی تُوبِقْنی»(4) .

ص:392


1- (1) کشف الریبة / 78 .
2- (2) مستدرک الوسائل 9 / 122 ح 34 .
3- (3) مصباح الشریعة / 32 ونقل عنه فی بحار الأنوار 72 / 242 (29 / 264) .
4- (4) الصحیفة السجادیة . الدعاء 39 فی طلب العفو والرحمة .

الصحیفة الشریفة وصلت إلینا بأسناد صحیحة ، فلا یمکن المناقشة فی سندها ، لا سیما بعد تلقیها بالقبول عند الأصحاب . نعم یمکن المناقشة فی دلالتها :

أولاً : بأنّ الفعل الصادر من الإمام علیه السلام لا یدلّ علی الوجوب ، لکونه أعم من الوجوب والاستحباب .

وثانیاً : الدعاء لا یدلّ علی لزوم الاستحلال من المغتاب (بالفتح) بل ناجی

الإمام علیه السلام ربّه ، بأنّ اللّه تعالی یرضیه ویوفی حقّه من عنده ، وهذا غیر لزوم الاستعفاء والاستحلال من المغتاب (بالفتح) ، وإن کان فیه إشارة ضمنیة أو دلالة إلتزامیة بلزوم هذا . وإن تمت هذه الاشارة أو الدلالة فیتم المطلوب وإلاّ فلا .

ومنها : دعاء یوم الإثنین من ملحقات الصحیفة الشریفة ، قال علیه السلام فیها :

« وأسئلُکَ فی مظالم عبادک عندی ، فأیّما عبدٍ من عبیدک أو أمَةٍ من إمائک کانت له قبلی مظلمةٌ ظَلَمْتُها إیّاه فی نفسه أو فی عرضه أو فی ماله أو فی أهله ووَلَدِهِ أو غیبةٌ اغْتَبتُهُ بها أو تَحامُلٌ علیه بمیلٍ أو هَویً أو أنَفَةٍ أو حمیّةٍ أو رِئاءٍ أو عَصَبیّةٍ ، غائِباً کان أو شاهداً ، وحیّاً کان أو میّتاً فَقَصُرَتْ یَدی وضاقَ وُسْعی عن ردّها إلیه والتَّحَلُّل منه ، فأسألکَ یا من یملکُ الحاجاتِ وهی مستجیبةٌ لمشیّتِهِ ومُسْرِعةٌ إلی إرادته أن تصلّی علی محمد وعلی آل محمد وأن تُرْضِیَهُ عنّی بما شئتَ وتَهَبَ لی من عندک رحمةً إنّه لا یَنْقُصُکَ المغفرة ولا تَضُرُّک الموهبة یا أرحم الراحمین»(1) .

وهذا الدعاء الشریف کالنص علی لزوم الاستحلال والاستعفاء من المغتاب (بالفتح) ، ولا یمکن المناقشة فی إسنادها ، فلابدّ من الأخذ به .

المستفاد من أدعیة الصحیفة الشریفة وغیرها من الروایات - وإن یمکن المناقشة فی إسناد بعضها ودلالة بعضها الآخر - ومن الجمیع بعد بلوغها إلی حدّ الاستفاضة إن لم نقل بوجوب الاستحلال والإستعفاء مِن المغتاب (بالفتح) لا أقل من أنّه هو الأظهر والأولی والأحوط ، ولکن إن لایصیر ذلک سبباً لمزید الإهانة أو الإیذاء أو إثارة الفتنة أو جلب

ص:393


1- (1) دعاء یوم الاثنین من ملحقات الصحیفة السجادیة .

الضغائن ، ویمکن الاستعفاء مع الإبهام مع خوف هذه الاُمور ، کما نبّه علیه الشیخ الأکبر فی شرحه علی القواعد(1) .

قال الشهید الثانی : « ویُستحبّ للمعتذر إلیه قبول العذر والمحالّة استحباباً مؤکداً ، قال اللّه تعالی : «خُذِ الْعَفْوَ»(2) الآیة ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یا جبرئیل ما هذا العفو ؟ فقال : إنّ اللّه یأمرک أن تعفو عمّن ظلمک ، وتَصِلَ مَنْ قطعک ، وتعطی مَنْ حَرَمَک(3) .

وفی خبر آخر : إذا جثی الاُمم بین یدی اللّه تعالی یوم القیامة نودوا : لیقم من کان أجْرُهُ

علی اللّه ، فلا یقوم إلاّ من عفی فی الدنیا»(4)(5) .

دلیل الاستغفار للمغتاب (بالفتح)

قد استدلوا علی وجوب الاستغفار له بعدّة من الروایات :

منها : خبر حفص بن عمر الکوفی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سُئل النبی صلی الله علیه و آله وسلم ما کفارة الاغتیاب ؟ قال : تستغفر اللّه لمَن اغتبتَهُ کلّما ذکرتَهُ(6) .

الروایة ضعیفة سنداً بحفص بن عمر الکوفی ، لعدم ثبوت وثاقته کما هو الظاهر وإن لم یثبت أنّه الکوفی ، لأنّه مشترک بین أفراد لا توثیق لهم . والظاهر أنّ المراد ب- « کلّما ذکرتَهُ » أی کلّما ذکرتَ المغتاب (بالفتح) تستغفر له ، أو کلّما ذکرت الاغتیاب . ویناقش فی دلالتها بأنّها « خلاف الضرورة ولم یلتزم به فقیه فیما نعلم وإن ذکره بعض أهل الأخلاق ، وعلیه فتحمل الروایة علی الجهات الأخلاقیة» کما فی المصباح(7) .

ص:394


1- (2) شرح القواعد 1 / 232 .
2- (3) سورة الأعراف / 199 .
3- (4) التبیان 5 / 63 .
4- (1) إحیاء العلوم الدین 3 / 154 .
5- (2) کشف الریبة / 79 .
6- (3) وسائل الشیعة 12 / 290 ح 1 الباب 155 من أبواب أحکام العشرة .
7- (4) مصباح الفقاهة 1 / 333 .

نعم ، بناءً علی کون النسخة « کما ذکرته» کما نقل العلامة المجلسی فی المرآة(1) والبحار(2) عن بعض النسخ فلا یرد علیها هذا الإشکال .

وممّا یؤید هذه النسخة الأخیرة - أی « کما ذکرته» - الروایة الآتیة :

ومنها : خبر أنس بن مالک عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : کفارة الإغتیاب أن تستغفر لمن اغتبتَهُ(3) .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی والمجلسی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : کفارة مَنْ اغتبته أن تستغفر له(4) .

ومنها : خبر محمد بن محمد بن الأشعث فی الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : مَن ظلم أحداً فعابه ،

فلیستغفر اللّه له کما ذکره فإنّه کفارة له(5) .

ومن المعلوم أنّ الغیبة داخلة فی العیب والظلم ، فعلی المغتاب (بالکسر) الاستغفار للمغتاب (بالفتح) کما تدلّ علیه الروایة ، ولکنّها ضعیفة الإسناد .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من ظلم أحداً وفاته فلیستغفر اللّه له فإنّه کفارة له(6) .

قال العلامة المجلسی : ( « ففاته » أی لم یدرکه لیطلب البراءة ویرضیه ، ولعلّه محمول علی ما إذا لم یکن حقّاً مالیّاً کالغیبة وأمثالها ، وإلاّ فیجب أن یتصدّق عنه ، إلاّ أن یقال :

ص:395


1- (5) مرآة العقول 10 / 431 .
2- (6) بحار الأنوار 72 / 242 (29 / 462) .
3- (7) أمالی المفید . المجلس الحادی والعشرون ح 7 / 171 وأمالی الطوسی . المجلس السابع ح 27 / 192 الرقم 325 ونقل عن الأول فی مستدرک الوسائل 9 / 130 ح 2 .
4- (8) کشف الریبة / 78 وبحار الأنوار 72 / 242 (29 / 462) .
5- (1) الجعفریات / 228 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 130 ح 1 .
6- (2) وسائل الشیعة 16 / 53 ح 5 . الباب 78 من أبواب جهاد النفس .

التصدق عنه أیضاً طلب مغفرة له )(1) .

أقول : الغیبة تدخل فی الظلم ، وحیث لم یتمکن المغتاب (بالکسر) من الإستحلال والإسترضاء والإستعفاء من المغتاب (بالتفح) لموته أو غیره ، یجب علیه الإستغفار له . وحیث أن روایات الاستغفار کلّها ضعاف إلاّ هذه الروایة وورد فیها الترتیب وعلّل الاستغفار بالفوت وعدم التمکن بالاستحلال من المظلوم ، فلابدّ من أخذها مرتباً .

فذلکة الکلام فی کفارة الاغتیاب : یجب علی المغتاب (بالکسر) الاستحلال والاسترضاء والاستعفاء من المغتاب (بالفتح) أوّلاً ، وإن لم یتمکن منه لموته أو لإثارة الفتنة أو لشدّة الإیذاء والإهانة فیجب حینئذ الاستغفار له ، وعلی کلِّ تقدیر یجب علیه أیضاً الاستغفار لنفسه والتوبة من ذنبه إلی اللّه تعالی ، واللّه العالم .

المقام الرابع : مستثنیات الغیبة
اشارة

قد ذکروا فی هذا المقام اُموراً :

الأوّل : المتجاهر بالفسق

یجوز غیبة الفاسق المتجاهر والمعلن لفسقه فی الجملة ، وإنّما الخلاف بین أصحابنا بین تقیید هذا الجواز بالذنب الذی یتجاهر به - کما ذهب إلیه الشهید فی القواعد والفوائد(2) والمحقق الثانی فی رسائله(3) والشهید الثانی فی کشف الریبة(4) وصاحب الجواهر(5) والمؤسس

الحائری(6) والمحقق الخوئی(7) - أو أنّ الجواز مطلق ، بأن تجوز غیبته ولو فیما لم یتجاهر به کما هو

ص:396


1- (3) مرآة العقول 10 / 308 .
2- (4) القواعد والفوائد 2 / 148 .
3- (5) رسائل المحقق الکرکی 2 / 45 .
4- (6) کشف الریبة / 51 .
5- (7) الجواهر 22 / 69 .
6- (1) المکاسب المحرمة / 222 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی .
7- (2) مصباح الفقاهة 1 / 341 .

ظاهر کلام جملة من الأصحاب - کما فی الحدائق(1) - وذهب إلیه أصحاب شرح القواعد(2) والمستند(3) وبرهان الفقه(4) ومهذب الأحکام(5) وإرشاد الطالب(6) .

والذی یظهر من الشیخ الأعظم التفصیل بین المعاصی التی هی دون ما تجاهر فیه فی القبح وبین غیرها ، فیجوز اغتیابه فی الأوّل ولا یجوز فی الثانی . وهذا التفصیل من إبداعاته ومتفرداته ، ومثّل له بقوله : « ... فمن تجاهر باللواط - والعیاذ باللّه - جاز اغتیابه بالتعرض للنساء الأجانب ، ومن تجاهر بقطع الطرق جاز اغتیابه بالسرقة ، ومن تجاهر بکونه جلاّد السلطان یقتل الناس وینکّل بهم جاز اغتیابه بشرب الخمر ، ومن تجاهر بالقبائح المعروفة جاز اغتیابه بکلِّ قبیحٍ ... »(7) .

والعمدة فی المقام ملاحظة الأدلة وما یُستفاد منها ، نحو :

حسنة هارون بن الجهم عن الصادق علیه السلام قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غیبة(8) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ أحمد بن هارون وهو حسنٌ ، وبه عبّرنا عن الروایة بالحسنة . ودلالتها علی جواز غیبة المتجاهر بالفسق مطلقاً ظاهرة ، حیث لم تقیّد الجواز بشیءٍ بل أطلقته . وقوله علیه السلام « فلا حرمة له ولا غیبة » ، یعنی بعد التجاهر بالفسق وهتک الشریعة علانیّةً فلا حرمة لهذا الهاتک المتجاهر ، فیجوز غیبته مطلقاً لذهاب حرمته .

ومنها : خبر أبی البختری عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : ثلاثة لیس لهم حرمة :

ص:397


1- (3) الحدائق 18 / 166 .
2- (4) شرح القواعد 1 / 166 .
3- (5) مستند الشیعة 14 / 167 .
4- (6) برهان الفقه . کتاب التجارة / 22 طبع الحجری .
5- (7) مهذب الأحکام 16 / 130 .
6- (8) إرشاد الطالب 1 / 202 .
7- (9) المکاسب المحرمة / 44 الطبع الحجری (1 / 346) .
8- (10) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 4 . الباب 154 من أبواب أحکام العشرة .

صاحب هوی مبتدع ، والإمام الجائر ، والفاسق المعلن بالفسق(1) .

والروایة ضعیفة سنداً بأبی البختری ، وهو وهب بن وهب الذی کان کذّاباً عامیّاً قاضیّاً متروک العمل فیما یختص به . والعجب من ابن الغضائری حیث یقول : « إلاّ أنّ له عن جعفر بن محمد علیه السلام أحادیث کلّها یوثق بها»(2)(3) . وإنْ تمّ ما ذکره ابن الغضائری صارت الروایة موثق بها ، ولکن فیه ما لا یخفی . وأمّا دلالتها علی الجواز مطلقاً واضحة .

ومنها : روایة السید فضل اللّه الراوندی فی نوادره بإسناده عن موسی بن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أربعةٌ لیس غیبتهم غیبةً : الفاسقُ المُعْلِنُ بفسقه ، والإمامُ الکذّابُ إن أحسنتَ لم یشکر وإن أسأتَ لم یَغْفُر ، والمتفکّهونَ بالاُمّهات ، والخارجُ من الجماعة الطاعنُ علی اُمتی الشاهُر علیها سیفه(4) .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا غیبة لثلاثة : سلطان جائر ، وفاسق معلن ، وصاحب بدعة(5) .

ومنها : مرسلة المفید عن الرضا علیه السلام قال : من ألقی جلباب الحیاء فلا غیبة له(6) .

رواها ابن شعبة الحرانی فی تحف العقول / 45 مرسلاً عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم .

الظاهر أنّ المراد بها : من هتک ستره وأعلن فسقه فلا غیبة له .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا غیبة لفاسق(7) .

رواها ابن أبی جمهور الأحسائی فی عوالی اللآلی 1 / 438 ح 153 مع زیادة « أو فی

ص:398


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 5 .
2- (2) مجمع الرجال 6 / 198 للمولی عنایة اللّه بن علی القهبائی .
3- (3) رجال ابن الغضائری / 100 الرقم 151 ، ولکن فی المطبوعة : « إلاّ أنّ له عن جعفر بن محمد أحادیث کلّها لا یوثق بها» .
4- (4) النوادر / 133 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 128 ح 2 .
5- (5) مستدرک الوسائل 9 / 128 ح 1 .
6- (6) مستدرک الوسائل 9 / 129 ح 3 .
7- (7) کشف الریبة / 51 .

فاسق »(1) .

والروایة تحمل علی الفاسق المعلن بقرینة ما سبقها .

وهذه الروایات بإطلاقها وظاهرها تدلّ علی جواز غیبة الفاسق المتجاهر مطلقاً ، أی بلا فرق بین ما تجاهر به وغیره ، وبلا فرق بین دون ما تجاهر به وغیره ، کما علیه جملة من

الأصحاب قدس سرهم .

نعم ، لو أبدی المتجاهر عذراً شرعیّاً لما تجاهر به ، وادعاه ، قبل منه ، فحینئذ لا یجوز غیبته . وهکذا لو ارتکب الحرام الواقعی لشبهة حکمیة أو موضوعیة بأن یأکل مثلاً لحم الأرانب باعتقاد إباحتها بحسب اجتهاده أو اجتهاد مَنْ یقلده ، أو شرب الخمر باعتقاد أنّها ماءٌ ، ووطئ إمرأة أجنبیة باعتقاد أنّها زوجته ، وقتل المؤمن باعتقاد أنّه مهدور الدم ، ففی جمیع هذه الموارد إذا تمّ له أو لمقلَّده الاجتهاد أو لم یکن مقصِّراً ، کان معذوراً ، فلا یجوز غیبته لعدم ظهور فسقه مع هذه المعاذیر .

تنبیهٌ : قال صاحب الحدائق : « وکیف کان فالظاهر أنّ حکام الجور والظلمة وأتباعهم المتظاهرین بالظلم والفسق وأخذ أموال الناس واللعب بالباطل - کما هو معروف الآن فی جمیع الأصقاع والبلدان من الشیعة وغیرهم - من هذا القبیل ، بل من أظهر أفراد هذه الأخبار»(2) .

أقول : مضافاً إلی ما ذکره قدس سره إنّهم یدخلون فی عنوان الإمام الجائر والإمام الکذّاب والسلطان الجائر وغیرها من العناوین الواردة فی الروایات الماضیة ، فلذا یجوز غیبتهم مطلقاً . أعاذنا اللّه وإیّاکم من شرّهم وظلمهم وجورهم وفسقهم وأتباعهم وأنصارهم والراضین بأفعالهم وأعمالهم .

الثانی : التظلّم

یجوز للمتظلّم عند من یرجو إزالة ظلمه غیبة الظالم بذکر الظلم .

ص:399


1- (8) کما نقل عنه فی مستدرک الوسائل 12 / 129 ح 6 .
2- (1) الحدائق 18 / 167 .

وقال المحقق السبزواری بعد عنوانه المسألة : « ولعلّ الأحوط الإقتصار علی قدر الحاجة»(1) .

قد استدلوا علی هذا الإستثناء بعدّة من الآیات والروایات :

منها : قوله تعالی : «لاَ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَکَانَ اللّهُ سَمِیعاً عَلِیماً»(2) .

من المعلوم أنّ الغیبة تدخل فی القول بالسوء ، فجوّزتها الآیة الشریفة للمظلوم ، فله غیبة الظالم وإظهار جرائمه وآثامه ومعایبه عند من یرجو أن یتمکن من رفع الظلم عنه لا

مطلقاً(3) ، لأنّ ظهور الآیة الشریفة جواز التظلم لرفع الظلم وإلاّ صار عمله عبثاً لا یفیده شیئاً ، والعقلاء یتوقفون عند الأعمال التی لا فائدة لهم فیها .

ولذا قیّد بعض الأصحاب(4) قدس سرهم العنوان بقیدین :

الأوّل : یختص الجواز عند من یرجو رفع الظلم عنه لا عند کلّ أحدٍ .

الثانی : یجوز له غیبة الظالم بذکر ظلمه فقط لا غیره .

والحق أخذ القیدین فی المقام ، لعدم ثبوت الإطلاق فی الأدلة المجوّزة بعد انعقاد القدر المتیقَّن فی المقام ، وهو فرض القیدین .

وبالجملة ، فالآیة الشریفة تکفی دلیلاً فی جواز غیبة الظالم للمظلوم ، ولکن مع القیدین

ص:400


1- (2) الکفایة 1 / 436 .
2- (3) سورة النساء / 148 .
3- (1) والعجب من المحقق الخوئی فی مصباحه 1 / 434 وتبعه شیخنا الاُستاذ - مد ظله - فی إرشاده 1 / 205 حیث ذهبا إلی الإطلاق .
4- (2) نحو أصحاب کشف الریبة / 49 ومفتاح الکرامة 12 / 218 والجواهر 22 / 66 ، والمحققون الشیخ الأعظم والإیروانی والسبزواری ، وصرحوا بالثانی فی المکاسب المحرمة / 44 (1 / 348) والحاشیة علی المکاسب 1 / 210 ، ومهذب الأحکام 16 / 132 ، وکثیر منهم صرح بالأوّل منهم : أصحاب الکفایة 1/436 والحدائق 18 / 160 والمستند 14 / 168 وبرهان الفقه . کتاب التجارة / 22 والمؤسس الحائری فی المکاسب المحرمة / 225 والمحقق الأردکانی فی غنیة الطالب 1 / 158 .

المذکورین ، من دون احتیاج إلی الروایات الشریفة الواردة فی ذیلها .

ومنها : الآیات الواردة فی سورة الشوری ، وهی قوله تعالی : «وَالَّذِینَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْیُ هُمْ یَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَی اللَّهِ إِنَّهُ لاَ یُحِبُّ الظَّالِمِینَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِکَ مَا عَلَیْهِم مِّن سَبِیلٍ * إِنَّمَا السَّبِیلُ عَلَی الَّذِینَ یَظْلِمُونَ النَّاسَ وَیَبْغُونَ فِی الاْءَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِکَ لَهُم عَذَابٌ أَلِیمٌ»(1) .

بتقریب : ظهور الآیة الثانیة منها فی جواز الإعتداء علی الظالم والانتقام منه ، نحو قوله تعالی : «فَمَنِ اعْتَدَی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَی عَلَیْکُمْ»(2) ، ولکن ظهور الآیات الثلاث لا ینکر فی المقام . وتفسیر الآیات الشریفة بالقائم عجل اللّه تعالی فرجه الشریف کما فی بعض الروایات(3) الواردة فی ذیلها ، لا ینافی ما ذکرناه ، لأنّها من باب تعیین المصداق وتنقیح الصغری لا الإنحصار .

ومنها : قوله تعالی فی سورة الشعراء وفی ذمّهم حیث استثنی من المذمومین «إِلاَّ

الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَکَرُوا اللَّهَ کَثِیراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنقَلَبٍ یَنقَلِبُونَ»(4) .

بتقریب : أن الآیة الشریفة جوّز الانتصار للمظلوم ودفع الظلم عنه مطلقاً ، بلا فرق بین غیبة الظالم وحضرته ، سواء کان بالشعر أو النثر .

ومنها : صحیحة ثعلبة بن میمون عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان عنده قومٌ یحدّثهم إذ ذکر رجلٌ منهم فوقع فیه وشکاه ، فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : وأنّی لکَ بأخیک کلِّه - وأیُّ الرجال المهذّب(5) .

ص:401


1- (3) سورة الشوری / (42 - 39) .
2- (4) سورة البقرة / 194 .
3- (5) راجع فی هذا المجال البرهان فی تفسیر القرآن 4 / 829 .
4- (1) سورة الشعراء / 227 .
5- (2) الکافی 2 / 651 ح 1 باب الإغضاء - أی الإغماض - ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 85 ح 1 . الباب 56 من أبواب أحکام العشرة .

بتقریب : أنّ الرجل شکا بعض إخوانه فی الدین ، والإمام علیه السلام لم ینه عنه بل قال : « أنّی لک بأخیک کلِّه» ، أی لم یوجد الأخ الکامل التام فی هذا الزمان ولا یحصل إلاّ نادراً وتوقّع ذلک کتوقع أمر محال ، فارض عن الناس بالقلیل ، حیث لم یؤدوا حقوق الاُخوة والأمر یکون علیک سهلاً ، ثمّ تمسک الإمام علیه السلام بقطعة من مصراع هذا البیت :

ولستَ بمستبق أخاً لا تلمه علی شعث ، أیُّ الرجال المهذبُ

وبهذا البیان یظهر أنّ الإمام علیه السلام لم ینه الرجل عن الشکایة والوقوع فی أخیه ، والظاهر أنّه فی مقام بیان التظلم والشکوی عنه ، فأقرّه الإمام علیه السلام علی شکایته ولکن سلاّه بأنّ الأخ التام الکامل والرجال المهذبین لا یوجدون فی هذا العصر ، فدلالة الروایة تامة ولکن فی سندها إرسال ظاهر .

ومنها : خبر هارون بن عمرو المجاشعی عن الصادق علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لَیّ الواجد بالدِّین یُحلّ عرضه وعقوبته ، ما لم یکن دینه فیما یکره اللّه عزّ وجلّ(1) .

دلالة الروایة واضحة ، لأنّ لیّ(2) الواجد - أی مطله عن أداء الدین مع التمکن علیه - یحلّ عرضه ، لأنه قد ورد عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَطَل الغنیِّ ظلمٌ(3) .

ماطله بحقّه : أی سوّفه بوعد الوفاء ، وهذا ظلم ، وهذا الامتناع یحلّ عرض الممتنع ،

لأنّه ظلم ، فالظلم یحلّ عرض الظالم للمظلوم ، ولکن فی سندها ضعفٌ .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لصاحب الحقّ مقالٌ(4) .

الروایة عامیة رویت فی البخاری 2 / 2183 وسنن الترمذی 3 / 608 وإحیاء علوم الدین 3 / 152 ، ودلالتها مجملة .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال لهند بنت عتبة - امرأة أبی سفیان -

ص:402


1- (3) أمالی الطوسی . المجلس الثامن عشر ح 53 / 520 الرقم 1146 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 333 ح 4 . الباب 8 من أبواب الدین والقرض .
2- (4) اللَّیّ : مطل الدَّین .
3- (5) الفقیه 4 / 380 ح 5819 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 333 ح 3 .
4- (1) کشف الریبة / 49 .

حین قالت : إنّ أبا سفیان رجل شحیح لا یعطینی وولدی ما یکفینی ، فقال لها : خُذی لکِ ولولدک ما یکفیک بالمعروف(1) .

دلالة الروایة غیر تامة ، لأنّ أبا سفیان لم یکن محرَّم الغیبة عندنا ، بل هو منافق کافر کما صرح به صاحب الحدائق(2) قدس سره ، أو یکون معلناً بالبخل ویضرب به المثل کما عن بعض(3) ، وفی سندها إرسالٌ .

ومنها : غیر ذلک من الروایات ولکن فی دلالة الآیات کفایة فی المقام .

فذلکة القول : یجوز غیبة الظالم للمظلوم فی مقام التظلم عند من یرجو إزالة ظلمه ، وبالنسبة إلی الظلم الذی ظلمه فقط ، لعدم ثبوت الإطلاق فی الأدلة المجوّزة کما مرّ ، واللّه سبحانه هو العالم .

تنبیهٌ : هل یجوز الغیبة فی ترک الأولی أم لا ؟

قد استدلوا علی جوازها بعدّة من الروایات :

منها : معتبرة حماد بن عثمان قال : دخل رجل علی أبی عبد اللّه علیه السلام فشکا إلیه رجلاً من أصحابه ، فلم یلبث أن جاء المشکّو ، فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : ما لفلان یشکوک ؟ فقال له : یشکونی إنّی استقضیتُ منه حقّی . قال : فجلس أبو عبد اللّه علیه السلام مغضباً ، ثمّ قال : کأنّک إذا استقضیت حقّک لم تسی ء ، أرأیت ما حکی اللّه عزّ وجلّ فی کتابه : «یَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ»(4) ، أتری أنّهم خافوا اللّه أن یجور علیهم ، لا واللّه ما خافوا إلاّ الإستقضاء ، فسمّاه

اللّه عزّ وجلّ سوء الحساب ، فمن استقضی به فقد أساء(5) .

معلی بن محمد البصری من المعاریف ولم یثبت قدحه ، فهو معتبر عندنا وصار سند

ص:403


1- (2) عوالی اللآلی 1 / 438 ح 155 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 129 ح 4 .
2- (3) الحدئق 18 / 162 .
3- (4) نحو : المؤسس الحائری فی المکاسب المحرمة / 228 والمحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة 1 / 352 .
4- (5) سورة الرعد / 21 .
5- (1) الکافی 5 / 100 ح 1 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 348 ح 1 الباب 16 من أبواب الدین والقرض .

الروایة به معتبراً .

وأمّا دلالتها : الإستقضاء : طلب الحقّ والقضاء ، وحیث أنّ الرجل من أصحاب الصادق علیه السلام طلب حقّه أو دینه من الشاکی فلم یظلمه ، إلاّ فی فرض إعساره وعدم تمکنه من الأداء ، فحینئذ لو استقضی منه فقد ظلمه . ودخلت المعتبرة فی أدلة جواز الغیبة فی فرض التظلم ، لأنّ الواجد یجب علیه أداء الدین ولا یجوز له التأخیر .

هذا کلّه بناءً علی أنّ « النسخة الاستقضاء » بالضاد المعجمة کما فی نسخة الکافی المطبوع والوسائل وهکذا فی نقل الشیخ الطوسی(1) من الروایة وإن کان فی سنده ضعف بمحمد بن یحیی الصیرفی لأنّه إمامیٌ مجهولٌ .

وأمّا بناءً علی أنّ نسخة الروایة « الإستقصاء » بالصاد المهملة کما نقل فی هامش الکافی المطبوع عن بعض النسخ واختاره المحدث الفیض فی الوافی(2) ونقل هذه النسخة ، ونقله العلامة المجلسی عن بعض النسخ القدیمة فی مرآة العقول(3) .

والاستقصاء فی الحقِّ : البلوغ إلی الغایة فی المطالبة ، والدقة التامة فیه إلی حدّ النهایة ، ومن المعلوم أنّ ذلک قد یؤدی إلی الهتک والظلم فیکون حراماً ، فالمعتبرة علی کلا النسختین صارت من أدلة جواز الغیبة فی فرض التظلم ، ولا تدلّ علی ما نحن فیه من جواز الغیبة فی ترک الاُولی .

والظاهر - واللّه العالم - أنّ نسخة الاستقصاء بالصاد المهملة هی الصحیحة ، لما ورد فی صحیحة حماد بن عثمان المرویة فی معانی الأخبار(4) بالصاد المهملة . وهکذا نقلت الروایة فی تفسیر علی بن إبراهیم القمی(5) وتفسیر العیاشی عن حماد بن عثمان(6) وعن محمد بن

ص:404


1- (2) التهذیب 6 / 194 ح 50 .
2- (3) الوافی 18 / 801 .
3- (4) مرآة العقول 19 / 54 .
4- (5) معانی الأخبار / 246 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 349 ح 3 .
5- (6) تفسیر القمی 1 / 363 .
6- (7) تفسیر العیاشی 2 / 388 ح 39 .

عیسی(1) والسرائر لابن إدریس الحلی(2) ومشکاة الأنوار لسبط الطبرسی(3) .

ومنها : مرسلة العیاشی عن الفضل بن أبی قُرّة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه تعالی : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوْءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ»(4) ، قال : من أضاف قوماً فأساء ضیافتهم فهو ممّن ظلم ، فلا جناح علیهم فیما قالوا فیه(5) .

الظاهر أنّ المراد من إساءة الضیافة هو الهتک والإهانة اللذان یعدان من الظلم ، وإلاّ لم یصح تطبیق الآیة الشریفة علیها . وعلی هذا فالروایة من أدلة جواز الغیبة فی التظلم ، ولکن فی سندها إرسالٌ .

ونظیرها فی الدلالة والسند الروایة الآتیة :

ومنها : مرسلة الطبرسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی ذیل الآیة الشریفة : إنّه الضیف ینزل بالرجل فلا یُحسِنُ ضیافَتَه ، فلا جُناح علیه فی أنْ یذکره بسوء ما فعله(6) .

وبالجملة ، حیث لم یدل دلیل علی جواز الغیبة فی ترک الاُولی واستثناؤه عن حرمة الغیبة ، فتبقی علی حرمتها الاُولی ، واللّه سبحانه هو العالم .

الثالث : نُصح المستشیر

قد استدلوا علی جواز الغیبة فی نصح المستشیر بعدّة من الروایات :

منها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أتی رجل أمیر المؤمنین علیه السلام فقال له : جئتُک مستشیراً ، إنّ الحسن والحسین وعبد اللّه بن جعفر خطبوا إلیّ ، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : المستشار مؤتمن ، أمّا الحسن فإنّه مِطْلاق للنساء ، ولکن زوّجها

ص:405


1- (8) تفسیر العیاشی 2 / 388 ح 40 .
2- (9) السرائر 3 / 571 .
3- (10) مشکاة الأنوار 1 / 231 ح 492 طبع مؤسسة آل البیت ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 405 ح 1 .
4- (1) سورة النساء / 148 .
5- (2) تفسیر العیاشی 1 / 453 ح 299 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 289 ح 6 .
6- (3) مجمع البیان 3 / 201 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 290 ح 7 .

الحسین فإنّه خیر لابنتک(1) .

ومنها : خبر عمر بن یزید عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من استشار أخاه فلم ینصحه محض الرأی سلبه اللّه عزّ وجلّ رأیه(2) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن سلیمان النوفلی عن الصادق علیه السلام أنّه کتب إلی عبد اللّه

النجاشی : أخبرنی یا عبد اللّه ، أبی علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی الطالب علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، أنّه قال : من استشاره أخوه المؤمن ، فلم یمحضه النصیحة سلبه اللّه لبّه(3) .

ومنها : خبر عبایة قال : کتب علی علیه السلام إلی محمد - وإلی أهل مصر - وذکر الکتاب إلی أن قال : وانصح لمن استشارک(4) .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال لفاطمة بنت قیس حین شاورتْه فی خُطّابها : أمّا معاویة فرجلٌ صُعْلُوک لامال له ، وأما أبوجهم فلا یضع العصا عن عاتقه(5) .

الروایة عامیة رویت فی مسلم 2 / 1114 الباب 6 من کتاب الطلاق وسنن أبی داود 1 / 532 وسنن الترمذی 3 / 440 وکنز العمال 3 / 411 ، ورواها الشهید الثانی فی کشف الریبة / 51 . الصُعْلُوک : الفقیر .

الروایات بلغت إلی حدِّ الاستفاضة ، وفیها الصحیحة الدالة علی وجوب نصح المستشیر ، فإذا تزاحم مع حرمة الغیبة یقدّم نصح المستشیر . بل لو لم نقل فی جمیع الموارد یصح أن نقول فی أکثر موارد أن النصح للمستشیر یلازم الغیبة ، فإذا وجب نصحه ارتفعت حرمة الغیبة ، لعدم إمکان الجمع بینهما . وقد أفتی جماعة من الأصحاب بل المشهور علی طبقها . فلیس لنا بدّ إلاّ موافقتهم .

ص:406


1- (4) وسائل الشیعة 12 / 43 ح 1 . الباب 23 من أبواب أحکام العشرة .
2- (5) وسائل الشیعة 12 / 44 ح 2 .
3- (1) مستدرک الوسائل 8 / 346 ح 1 . الباب 22 من أبواب أحکام العشرة .
4- (2) مستدرک الوسائل 8 / 346 ح 2 .
5- (3) عوالی اللآلی 1 / 438 ح 155 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 129 ح 5 .
تنبیهٌ : هل یجوز الغیبة فی مطلق النصح أم لا ؟

یُعلم من الروایات المعتبرة المتعددة وجوب مطلق النصح :

منها : صحیحة عیسی بن أبی منصور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : یجب للمؤمن علی المؤمن النصیحة له فی المشهد والمغیب(1) .

ومنها : صحیحة معاویة بن وهب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : یجب للمؤمن علی المؤمن النصیحة له فی المشهد والمغیب(2) .

ومنها : صحیحة أبی عبیدة الحذاء عن أبی جعفر علیه السلام قال : یجب للمؤمن علی المؤمن النصیحة(3) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ أعظم الناس منزلة عند اللّه یوم القیامة أمشاهم فی أرضه بالنصیحة لخلقه(4) .

ومنها : موثقة سماعة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : أیّما مؤمن مشی فی حاجة أخیه فلم یناصحه فقد خان اللّه ورسوله(5) .

ونظیرها موثقة اُخری له(6) .

هذه الروایات ونظائرها الکثیرة تدلّ علی وجوب نصیحة المؤمن ، فإذا تزاحم النُصح مع حرمة الغیبة یؤخذ بأقواهما مصلحة وملاکاً ، فإذا کان ترک النصح یوجب تلف النفس أو هتک العرض أو فساد الدِّین أو ذهاب المال الکثیر ، یقدّم علی حرمة الغیبة بلا إشکال ، واللّه العالم .

ص:407


1- (4) وسائل الشیعة 16 / 381 ح 1 . الباب 35 من أبواب فعل المعروف .
2- (5) وسائل الشیعة 16 / 381 ح 2 .
3- (6) وسائل الشیعة 16 / 381 ح 3 .
4- (1) وسائل الشعیة 16 / 382 ح 5 .
5- (2) وسائل الشیعة 16 / 383 ح 2 . الباب 36 من أبواب فعل المعروف .
6- (3) وسائل الشیعة 16 / 384 ح 6 .
الرابع : الاستفتاء

من موارد جواز الغیبة الاستفتاء ، ولکن إذا توقف علی ذکر المغتاب (بالفتح) بأن یقول للمفتی : ظلمنی أبی أو أخی أو فلان فکیف طریقی فی الخلاص .

وإذا أمکن الاستفتاء بغیر الغیبة فلا تجوز الغیبة ، ولذا قال المحقق السبزواری : « والأسلم هاهنا التعریض ، بأن یقول : ما قولک فی رجل ظلمه أبوه أو أخوه ؟ . ثمّ قال بعد الاستدلال بخبر هند : وفی هذا الحکم إشکال إذا کان سبیل إلی التعریض وعدم التصریح»(1) .

وتبع السبزواریُ الشهید الثانی فی لزوم التعریض إن أمکن فی کشف الریبة(2) .

ویمکن الاستدلال علی هذا الاستثناء بوجوه :

الأوّل : استمرار طریقة الاستفتاء علی ذلک فی طول القرون والأعصار وعند الأجیال فی الأمصار ولم ینفه أحد . وذکر هذا الاستدلال الشیخ جعفر قدس سره فی شرحه علی القواعد(3) ، وتلمیذه صاحب الجواهر(4) .

الثانی : الاستفتاء داخل فی التظلم ورفع الظلم ، فإذا جازت الغیبة فی مقام التظلم جاز الاستفتاء مع الغیبة ، لأنّها من موارد التظلم . وذکر هذا الاستدلال صاحب الجواهر واختاره(5) .

وأنت تری بأنّ هذا الاستدلال علی نحو الموجبة الجزئیة تام لا علی نحو الموجبة الکلیة .

الثالث : الأدلة الشرعیة نقلیة کانت أو عقلیة بل ضرورة المذهب تدلّ علی وجوب تعلّم الأحکام الشرعیة التی تکون فی معرض الإبتلاء بها ، فحینئذ إذا توقف ذلک علی ترک واجب أو إرتکاب حرام فإنّ العمل علی طبق أقوی الملاکین . ومن المعلوم أنّ التعلّم أهم من

ص:408


1- (4) الکفایة 1 / 436 و 437 .
2- (5) کشف الریبة / 50 .
3- (6) شرح القواعد 1 / 225 .
4- (7) الجواهر 22 / 67 .
5- (1) الجواهر 22 / 67 .

ارتکاب الغیبة ، لأنّ ترک التعلّم ینجر إلی اضمحلال الدین ، وذکر هذا الاستدلال المحقق الخوئی فی مصباحه(1) .

الرابع : عدّة من الروایات الدالة علی جواز الاستفتاء لو استلزمت الغیبة :

منها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : جاء رجلٌ إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال : إنّ اُمّی لا تدفع ید لامس ، فقال : فاحبسها ، قال : قد فعلت ، قال : فامنع من یدخل علیها ، قال : قد فعلت ، قال : قیّدها ، فإنّک لا تبرُّها بشیءٍ أفضل من أن تمنعها من محارم اللّه عزّ وجلّ(2) .

بتقریب : أنّ الرجل ذکر اُمّه واستغابها بذکر أنّها زانیة ، وسأل عن النبی أنّها هی الزانیة ، لأنّه یحتمل الفرق بین وظیفته بالنسبة إلی اُمّه وغیرها ، فالروایة تدلّ علی جواز الغیبة فی مقام الاستفتاء إذا توقفت علیها .

وأمّا الإشکال فی دلالتها بأنّ « من المحتمل کون اُمّ السائل کافرة ، ولا أصل یقتضی إسلامها ، ولا یعلم غلبة مسلمی المدینة حین السؤال حتّی یحکم بمقتضی الغلبة باسلامها» کما عن المؤسس الحائری(3) غیر تام

أولاً : بأنّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر الصحیحة ، لاسیما مع ملاحظة التعلیل الوارد فی ذیلها .

وثانیاً : لا داعی للمسلم فی نهی الکافرة عن الزنا ، لأنّ الداعی إلی إسلامها أقوی من ذلک ، ولو کانت کافرة لابدّ أن یسأل ابنه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم کیف یدعوها إلی الإسلام ثمّ کیف ینهیها عن الزنا ؟ !

وأمّا الإشکال فی دلالتها : فبأنّ الأم علی هذه الکیفیة الخاصة متجاهرة بالزنا ، فحینئذ تدخل فی الاستثناء الأوّل ، أعنی المتجاهر بالفسق . کما علیه المحققون الإیروانی(4)

ص:409


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 351 .
2- (3) وسائل الشیعة 28 / 150 ح 1 . الباب 48 من أبواب حد الزنا .
3- (4) المکاسب المحرمة / 229 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
4- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 211 .

والخوئی(1) والأردکانی(2) غیر تام أیضاً ، لأنّ التجاهر بالزنا شیءٌ وعدم دفع ید لامس شیءٌ آخر ، بینهما عموم وخصوص من وجه .

وهکذا الإشکال علیها بأنّ المرأة لم تکن معروفة عند النبی صلی الله علیه و آله وسلم فیجوز غیبتها لعدم معروفیتها کما عن المحقق الخوئی(3) ، أیضاً لا یتمّ ، لأنّ العلم بعنوان اُمومة الرجل یستلزم التعیین ، وهذا المقدار من التعیین یکفی فی التعریف .

وبالجملة ، الاستدلال بالصحیحة تام عندنا ، فتدلّ علی جواز الغیبة فی الاستفتاء ، ولکن لا مطلقاً بل إذا توقف الاستفتاء علیها .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی جواب هند بنت عتبة إمرأة أبی سفیان الماضیة(4) .

وقد مرّ منّا الإشکال فی دلالتها وسندها .

ومنها : خبر محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی امرأة زنت وشردت أن یربطها إمام المسلمین بالزوج کما یربط البعیر الشارد بالعقال(5) .

بتقریب : أنّ ثبوت الزنا والشرود - أی النفر والفرار من البیت - عند إمام المسلمین لا یتمّ إلاّ بغیبتها .

وفیه : أن فی سندها ضعف بعبد اللّه بن هلال ، وفی دلالتها أیضاً إشکال لإمکان ثبوتهما بالبیّنة الشرعیة الأربعة فی الأوّل والثانیة فی الثانی ، وإن کان هذا الثبوت خلاف ظاهرها ، وإلاّ یجب حدّ الزنا علیها .

وبالجملة ، یثبت بالوجوه الأربعة الماضیة جواز الغیبة إذا توقف الاستفتاء علیها ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص:410


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 352 .
2- (3) غنیة الطالب 1 / 158 .
3- (4) مصباح الفقاهة 1 / 352 .
4- (5) عوالی اللآلی 1 / 438 ح 155 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 129 ح 4 .
5- (6) وسائل الشیعة 28 / 148 ح 1 . الباب 44 من أبواب حد الزنا .
الخامس : النهی عن المنکر

هل تجوز الغیبة عند النهی عن المنکر إذا توقف علیها ، أم لا ؟ وعلی الأوّل فیجب الوقیعة فی بعض العصاة حتّی یرتدعوا عن معصیتهم کما عن شرح القواعد(1) فحینئذ یجب الغیبة .

ولکن زاد صاحب الجواهر علی کلام اُستاده قدس سرهما : « ولکن ینبغی فی هذا أیضاً مراعاة المیزان ، إذ مع فرض کونه من التعارض بین الأدلة فهو من وجه کما هو واضح»(2) .

وکیف ما کان فقد استدلوا علی هذه الاستثناء بوجوه :

الأوّل : الغیبة هنا إحسان فی حقّ فاعل المنکر ، لأنّها وإن اشتملت علی إهانته وهتکه ولکن توجب نجاته من المهلکة الأبدیة والعذاب الاُخروی .

وفیه : أولاً : الدلیل هنا أخص مِن المدعی ، إذ ربّما لا یرتدع المغتاب بالفتح عن فعل المنکر ولم یترکه .

وثانیاً : الغیبة محرّمة علی المغتاب بالکسر ، ولا یجوز الإحسان بالأمر الحرام ، فهل یتوهم أحدٌ جواز الإحسان بالمال المغصوب أو المسروق ؟ ! وورد فی الآیة الشریفة : «إِنَّمَا یَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِینَ»(3) .

الثانی : عمومات أو إطلاقات أدلة وجوب النهی عن المنکر تشمل المقام فیجب .

وفیه : لا یجوز ردع المنکر بالمنکر لانصراف الأدلة عن ذلک ، وإلاّ جاز ردع الزناة بالزنا بأعراضهم وردع السراق بسرقة أموالهم ، ولم یتفوه به أحدٌ .

نعم ، فی موارد خاصة ثبت جواز دفع المنکر بالمنکر ، نحو جواز شتم المبدع والوقیعة فیه والبهت علیه ، بل وجوبها کما یدلّ علیه صحیحة داود بن سرحان(4) الماضیة فی بحث السبّ وأفتی بها الأصحاب قدس سرهم .

ص:411


1- (1) شرح القواعد 1 / 228 .
2- (2) الجواهر 22 / 69 .
3- (3) سورة المائدة / 27 .
4- (4) وسائل الشیعة 16 / 267 ح 1 . الباب 39 من ابواب الامر والنهی .

الثالث : المغتاب (بالفتح) إذا ترتب ترکه المنکر علی غیبته رضی بها ، وبعد رضایته فلا حرمة .

وفیه : أولاً : ثبوت رضایته محل تأمل بل منع .

وثانیاً : قد سبق فی الفرع الحادی عشر من فروع هذا البحث حرمة غیبة مَنْ رضی بغیبته ، لأنّ رضاه لا یرفع الحرمة التکلیفیة ، فراجع لتفصیله إلی هذا الفرع .

فحینئذ الأدلة قاصرة عن ثبوت جواز الغیبة إذا توقف علیها النهی عن المنکر . نعم فی موارد خاصة تجوز الغیبة ، وهی الموارد التی نعلم من الخارج بأنّ الردع عن المنکر وجب بأیِّ طریق کان ومِنْ أیّ شخص وقع ، وهذا لم یتفق إلاّ إذا کان المنکر من الاُمور الخطیرة ، نحو : قتل النفوس ، وهتک الأعراض المحترمة ، وأخذ الأموال الخطیرة وغیرها . ولعلّ هذا البیان هو مراد صاحب الجواهر فیما نقلناه عنه فی أول هذا البحث ، واللّه العالم .

السادس : ذکر المبتدعة

تجوز غیبة المبدع فی الدین الذی یخشی من إضلاله للناس ، ویجوز ذکرهم بالسوء وتصانیفهم ومناقضتهم حذراً من میل نفوس الناس إلیهم وظهور فسادهم فی العباد .

ذکر هذا الاستثناء جماعة من الأصحاب ، منهم : الشهید(1) وثانیه(2) والسبزواری(3) والمحدث البحرانی قال : « ومنهم الصوفیة»(4) والشیخ جعفر(5) وتلمیذاه السید العاملی(6) والشیخ النجفی(7) والشیخ الأعظم(8) والسید علی آل بحر العلوم(9) قدس سرهم .

ص:412


1- (1) القواعد والفوائد 2 / 151 و 147 قاعدة 206 .
2- (2) کشف الریبة / 50 ضمن : الرابع : تحذیر المسلم من الوقوع فی الخطر والشرّ .
3- (3) الکفایة 1 / 437 .
4- (4) الحدائق 18 / 164 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 228 .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 219 .
7- (7) الجواهر 22 / 68 .
8- (8) المکاسب المحرمة / 45 - (1 / 353) .
9- (9) برهان الفقه . کتاب التجارة / 22 .

وتدلّ علیه صحیحة داود بن سرحان(1) وخبر أبی البختری(2) الماضیتان ، ومرفوعة محمد بن جمهور العمی قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا ظهرت البدع فی اُمتی فلیظهر العالم

علمه ، فمن لم یفعل فعلیه لعنة اللّه(3) .

ومرسلة السبزواری صاحب الکفایة حیث یقول : وفی الخبر : من کمال الدین الوقوع فی أهل الریبة(4) .

ومرسلة السید فضل اللّه الراوندی فی نوادره(5) الماضیة .

وغیرها من الروایات المذکورة فی مستدرک الوسائل 12 / (324 - 317) . الباب 37 من أبواب الأمر والنهی وما یناسبها .

فلابدّ من الأخذ بها والإفتاء علی طبقها واللّه العالم .

السابع : جرح الشهود والرواة

قد اتفق الأصحاب قدس سرهم علی جواز اغتیاب الرواة بجرحهم وتضعیفهم حفظاً للدین ، صیانةً للشریعة ، ومن ثَمَّ وضع العلماء الکتب الرجالیة وقسّموا الرواة إلی الثقات والمجروحین ، وذکروا أسباب جرحهم غالباً من کون الروای کذّاباً أو وضّاعاً للحدیث ، وعلی ذلک جرت عادة السلف الصالح ولم ینکر علیهم أحدٌ . وبذلک یُعرف ترجیح الروایة بعدالة الراوی وخلافها ، وأعدلیته وخلافها وإلاّ لانسد باب التعادل والترجیح الذی هو من أعظم أبواب الإجتهاد .

وقد ورد عن الأئمة علیهم السلام ذم بعض الرواة من الکذّابین والغالّین وغیرهما من الفرق المنحرفة .

وقد اتفقوا علی جواز اغتیاب الشهود وجرحهم وإظهار فسقهم بل إقامة البیّنة علی ذلک صوناً لأموال الناس وأعراضهم وأنفسهم وحقوقهم ، وعلی ذلک دیدن الفقهاء والحکّام

ص:413


1- (10) وسائل الشیعة 16 / 267 ح 1 .
2- (11) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 16 / 269 ح 1 .
4- (2) الکفایة 1 / 437 .
5- (3) النوادر / 133 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 128 ح 2 .

علی الناس والقضاة فی الأعصار والأمصار .

قد صرح بهذه الاستثناء أصحاب کشف الریبة(1) والکفایة(2) والحدائق(3) وشرح القواعد(4) ومفتاح الکرامة(5) والمستند(6) والجواهر(7) والمکاسب المحرمة(8) وقال فیها :

« الإجماع دل علی جوازه» وبرهان الفقه(9) .

الثامن : دفع الضرر عن المغتاب (بالفتح )

یجوز الاغتیاب لدفع الضرر عن المغتاب بالفتح فی دم أو عرض أو مال أو ضرر ، فحینئذٍ غیبته جائزة لدفع الاُمور المذکورة عنه ، وقد رضی المغتاب (بالفتح) بذلک ، ولأنّ دفع الضرر عنه أهم فی الشریعة المقدسة مِنْ ستر ما فیه من العیوب .

وقد استدلوا علی ذلک بما ورد عن الأئمة علیهم السلام فی الطعن فی بعض الثقات من الرواة ومشایخهم وفقهائهم حفظاً لهم وصیانة علیهم ، ویشهد علیه صحیحة عبد اللّه بن زرارة المرویة فی رجال الکشی عن الصادق علیه السلام أنّه قال له : إقرأ منّی علی والدک السلام وقل له : إنّی إنّما أعیبک دفاعاً منّی عنک ، الحدیث(10) .

ونحوها ممّا ورد فی طعن الهشامَیْن ابنی الحکم(11) وسالم(12) وغیرهم من ثقات الرواة .

ص:414


1- (4) کشف الریبة / 51 .
2- (5) الکفایة 1 / 438 .
3- (6) الحدائق 18 / 165 .
4- (7) شرح القواعد 1 / 226 .
5- (8) مفتاح الکرامة 12 / 218 .
6- (9) مستند الشیعة 14 / 168 .
7- (10) الجواهر 22 / 68 .
8- (11) المکاسب المحرمة / 45 الطبع الحجری - (1 / 354) .
9- (1) برهان الفقه . کتاب التجارة / 22 الطبع الحجری .
10- (2) اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی / 138 الرقم 221 .
11- (3) اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی / 278 الرقم 496 و 497 و 498 و 499 .
12- (4) اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی / 284 الرقم 503 .

فإن شئت راجع رجال الکشی .

ولکن یمکن أن یناقش فی دلالتها : بأنه لیس فیهم عیب دینیٌ أو غیر دینیٌ لیکون ذکره غیبة ، فمقالة الإمام علیه السلام فی حقِّهم لیس من الغیبة ، بل ذمّهم الإمامُ علیه السلام وتبرأ منهم لحفظ دمائهم ودفع الأخطار عنهم . فقدح الإمام علیه السلام فی أمثالهم یدلّ علی رفعة شأنهم وعظم مقامهم عنده ، بحیث لا یرضی علیه السلام بضررهم وخوفهم والتعرض علیهم من جانب الأعداء والظالمین .

اللهم إلاّ أن یقال : إنّ الروایات تدلّ علی جواز التهمة والبهتان علیهم لوجود المصلحة وهی حفظهم من شر الأعداء والظالمین ، فإذا جاز الإفتراء والبُهت علیهم بطریق اُولی جاز اغتیابهم .

ومع ذلک کلّه هذا الاستثناء تام . ولعلّ أوّل مَنْ نبّه علیه صاحب الحدائق(1) ثمّ تبعه

أصحابنا منهم : الشیخ جعفر(2) وتلمیذاه(3) والشیخ الأعظم(4) والسید علی آل بحر العلوم(5) وغیرهم . قدس اللّه أسرارهم .

التاسع : من ادّعی نسباً لیس له

یجوز اغتیاب مَنْ ادعی نسباً لیس له إذا ترتب علیه أثر شرعی من المواریث والنفقات والأنکحة وغیرها لئلا تختل هذه الاُمور ، وأمّا إذا لم یترتب علی الدعوی أثر شرعیٌ بل ادعاه لصیانة نفسه أو عرضه أو ماله من الظالم فلا تجوز الغیبة بردّ هذه الدعوی .

العاشر : القدح فی مقالة باطلة

یجوز القدح فی مقالة باطلة ولو استلزم ذلک غیبة القائل ، لأنّ حفظ الحقِّ اُولی من احترام القائل . ومن هنا ظهر بأنَّ ذکر المناقشات العلمیّة وطرح آراء أصحاب النظر والردَّ علیهم فی جمیع العلوم الدینیّة والدنیویّة یجوز ولم یدخل فی حرمة الإغتیاب ، واللّه العالم .

ص:415


1- (5) الحدائق 18 / 167 .
2- (1) شرح القواعد 1 / 227 .
3- (2) مفتاح الکرامة 12 / 218 ، والجواهر 22 / 68 .
4- (3) المکاسب المحرمة / 45 الطبع الحجری - (1 / 354) .
5- (4) برهان الفقه . کتاب التجارة / 22 الطبع الحجری .
الحادی عشر : تفضیل أرباب الفنون والعلماء

یجوز تفضیل بعض الصنّاع وأرباب الفنون والعلماء بعضهم علی البعض وإن استلزم انتقاص الآخر ، لتوقف الفرض الأهم علیه ، وعلی هذا دیدن الأصحاب فی تعیین الأعلم والمرجع .

الثانی عشر : ذکر العیب ثمّ تعقیبه بما یدلّ رفعه

یجوز ذکر المعایب والمناقص لشخص ثمّ تعقیبها بما یدلّ علی رفعها ورجوعه عنها وعود کماله ، کالنقل عن الحرِّ وأضرابه ، ولکن بشرط أن یکون هذا النقل موعظة لغیره ، وأمّا إذا کان موجباً لهتک المنقول فقط فالحرمة باقیّة بلا ریب .

الثالث عشر : ذکر عیوب المرأة

یجوز ذکر عیوب المرأة فی النکاح لئلا یترتب علیه التدلیس ، وکذا ذکر عیوب المملوک لإسقاط الخیار .

الرابع عشر : ذکر التابع والقریب تأدیباً لهم

یجوز ذکر عیوب أولاده وعیاله وأتباعه الملحقین به تأدیباً لهم وخوفاً علیهم من الوقوع فیما هو أعظم منه ، لأنّ الحکمة والمصلحة والسیرة تقتضی ذلک .

وغیر ذلک من الموارد التی ذکروها بعنوان الاستثناء ، فقد ذکر الشیخ جعفر قدس سره فی شرحه علی القواعد(1) سبعاً وعشرین مورداً . فراجعه إن شئت وإن کان بعض الموارد یخرج عن الغیبة موضوعاً لا حکماً .

وبالجملة ، فی کلِّ مورد کان للغیبة غرض صحیح یرجع إلی المغتاب بالکسر أو الفتح أو غیرهما ، وکان ذلک الغرض والمصلحة أهم من احترام المؤمن والستر علیه ، یؤخذ به ویحکم بجواز الغیبة فی ذلک المورد الخاص ، ولذا قال المحقق الثانی فی بحث الغیبة : « فأما ما کان لغرض صحیح فلا یحرم ، کنصیحة المستشیر والتظلم وسماعه و ... »(2) .

ص:416


1- (1) شرح القواعد 1 / (231 - 223) .
2- (2) جامع المقاصد 4 / 27 .

فالمدار فی جواز الغیبة وجود مصلحة وغرض أهم من مصلحة حرمة المؤمن والستر علیه ، وعلی هذا النهج یمشی فی جمیع موارد التزاحم فی الواجبات والمحرّمات ، سواء کانت مِنْ حقوق اللّه تعالی أم مِنْ حقوق الناس . وهذه قاعدة مهمّة لا تحصی ثمراتها فی الفقه فاغتنمها ، واللّه سبحانه هو العالم . وهذا تمام الکلام فی المقام الرابع من البحث وهو مستثنیات الغیبة والحمد للّه أولاً وآخراً .

المقام الخامس : تضاعف عقاب المغتاب (بالکسر )

قد یتضاعف عقاب المغتاب بالکسر إذا کان ممّن یمدح المغتاب بالفتح فی حضوره ، لأنّه حینئذ یدخل فی کون الإنسان ذا لسانین ویُسمی منافقاً ویترتب علیه عقابه ، ویترتب علیه عقاب الغیبة أیضاً ، وربّما یترتب علیه عقاباً ثالثاً وهو عقاب الکذب إذا مدحه فی حضوره بما لیس فیه . وهذا واضح لا ریب فیه .

ولکن العمدة فی المقام أدلة حرمة کون الإنسان ذا لسانین ، أعنی لسان ذمٍّ فی الغیاب ولسان مدحٍ فی الحضور . وأمّا هذا المدح إن لم یکن فی الممدوح فصار کذباً ، وإنْ کان فیه إذا کان مسبوقاً أو ملحوقاً بالذمِّ یدخل المادح فی ذی لسانین ویترتب علیه حرمته وعقابه ، وتدلّ علی حرمته عدّة من الروایات المستفیضة :

منها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یجیء یوم القیامة ذو الوجهین دالعاً لسانه فی قفاه وآخر من قدّامه ، یلتهبان ناراً حتّی یلهبا جسده ، ثمّ یقال له : هذا الذی کان فی الدنیا ذا وجهین ولسانین ، یُعرف بذلک یوم القیامة(1) .

دلع لسانه : أی أخرجه من فمه .

ومنها : خبر ابن أبی یعفور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : مَنْ لقی المسلمین بوجهین ولسانین جاء یوم القیامة وله لسانان من نار(2) .

ص:417


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 258 ح 5 . الباب 143 من أبواب أحکام العشرة .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 256 ح 1 .

ومنها : خبر الزهری عن أبی جعفر علیه السلام قال : بئس العبد یکون ذا وجهین وذا لسانین ، یطری أخاه شاهداً ویأکله غائباً ، إن اُعطی حسده ، وإن ابتلی خذله(1) .

وللعلامة المجلسی توضیح فی شرح هذین الحدیثین فراجع إن شئت مرآة العقول 10/353 .

ومنها : خبر أبی هریرة قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ شر الناس عند اللّه یوم القیامة ذو الوجهین(2) .

ومنها : خبر الصدوق بسنده المتصل إلی آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة وفیها : ... ومَنْ کان ذا وجهین وذا لسانین کان ذا وجیهن وذا لسانین یوم القیامة ، الحدیث(3) .

والروایات فی تحریم کون الإنسان ذا لسانین وذا وجهین فوق حدِّ الاستفاضة بل یمکن إدعاء تواترها إجمالاً ، فراجع فی هذا المجال إن شئت الکافی 2 / 343 والوافی 5 / 937 وبحار الأنوار 72 / 202 ووسائل الشیعة 12 / 256 ومستدرک الوسائل 9 / 69 وجامع أحادیث الشیعة 17 / 176 (من الطبعة الحدیثة) وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 74 .

ثمّ إنّ النسبة بین الغیبة وبین ذی اللسانین هی العموم من وجه ، فإنّه قد توجد الغیبة ولا یوجد ذو اللسانین ، وقد یوجد ذو اللسانین ولا توجد الغیبة ، کأن یمدح المقول فیه حضوراً ویذمّه بالسب والفحش والبهتان غیاباً ، وقد یجتمعان کما هو واضح .

فائدة : النسبة بین الغیبة والبهتان هی التباین ، لأنّه قد ذکرنا فی تعریف الغیبة أنّها

کشف ما ستره اللّه علی الأخ المؤمن ، وأمّا البهتان فکما سبق فی بعض الأخبار نحو معتبرة عبد الرحمن بن سیابة(4) وصحیحة یحیی بن عبد الرحمن الأزرق الأنصاری(5) « ذکرک أخاک بما لیس فیه » ، فهما متباینان مصداقاً ومفهوماً .

ص:418


1- (3) وسائل الشیعة 12 / 257 ح 2 .
2- (4) وسائل الشیعة 12 / 259 ح 6 .
3- (5) وسائل الشیعة 12 / 259 ح 8 .
4- (1) وسائل الشیعة 12 / 288 ح 2 .
5- (2) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 3 .

فعلیه ما ورد فی خبر علقمة بن محمد عن الصادق علیه السلام من قوله : ومن اغتاب مؤمناً بما لیس فیه فقد انقطعت العصمة بینهما وکان المغتاب فی النار خالداً فیها وبئس المصیر(1) .

مع ضعف أسنادها یحمل علی ضرب من التجوز والمسامحة .

نعم ، بناءً علی مقالة بعض الأصحاب - ولعلّه هو المشهور - من أنّ الغیبة ذکرک أخاک بما یکرهه فیمکن اجتماع الغیبة والبهتان فی بعض الموارد ، فصارت النسبة بینهما عموماً وخصوصاً من الوجه .

والظاهر أن عقاب التهمة والبهتان أشد من عقاب الغیبة ، لاشتمالهما علی الفریة والهتک معاً .

هذا تمام الکلام فی بحث الغیبة ، ثم إنّ الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره فی خاتمة هذا المبحث تعرض لحقوق الإخوان فإنّا نتبع أثره ، فنقول :

ص:419


1- (3) وسائل الشیعة 12 / 285 ح 20 .

خاتمة : حقوق الإخوان

اشارة

قبل أن أذکر لک حقوقهم یحسن تعریف الاُخوّة ، فقد قال اللّه تعالی : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ»(1) وقد وردت فی الروایات المستفیضة بأنّ المؤمن أخو المؤمن(2) ، والمراد بها هو الإشتراک فی الإنتساب إلی أبٍ واحدٍ روحانی ، وهو صاحب الشریعة المقدسة صلی الله علیه و آله وسلم کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(3) . بل هو مع صاحب الولایة وهو أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام وأحد عشر من اُولاده المعصومین علیهم السلام ، کما ورد فی الحدیث الصحیح عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : « أنا وعلیٌّ أبوا هذه الاُمّة»(4) .

فعلی هذا جمیع المؤمنین یکونون إخوة .

وأمّا حقوقهم :

قد وردت فی عدّة من الروایات :

منها : رسالة الحقوق للإمام زین العابدین علی بن الحسین السجاد علیه السلام المذکورة مرسلاً فی تحف العقول(5) المشتملة علی خمسین حقّاً ، ورواها الصدوق مع اختلاف بسند

ص: 420


1- (1) سورة الحجرات / 10 .
2- (2) راجع کتابی ألف حدیث فی المؤمن / الحدیث 178 و 179 و 182 و 963 .
3- (3) الحاشیة علی المکاسب 1 / 216 .
4- (4) رواها الصدوق بسنده الموثق فی ثلاثة من کتبه : عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 85 ح 29 ومعانی الأخبار / 52 ح 3 وعلل الشرائع 1 / 127 ح 2 ، وبسنده فی أمالیه . المجلس الرابع ح 6 / 65 الرقم 30 ، ورواها أیضاً بسند صحیح ابن شاذان القمی أستاد الکراجکی فی مائة منقبة (المناقب) / 46 المنقبة الثانیة والعشرون - ورواها أیضاً السروی فی المناقب 2 / 300 وغیرهم فی غیرها .
5- (5) تحف العقول / (272 - 255) .

ضعیف فی الخصال(1) ، ورواها مختصراً بسند حَسَنٍ فی الفقیه(2) .

ولکن لهذه الرسالة الشریفة سنداً صحیحاً ذکره النجاشی فی ترجمة أبی حمزة الثمالی ، قال : « وله رسالة الحقوق عن علی بن الحسین علیهماالسلام أخبرنا أحمد بن علی قال : حدثنا الحسن بن حمزة قال : حدثنا علی بن ابراهیم عن أبیه عن محمد بن الفضیل عن أبی حمزة عن علی بن

الحسین علیه السلام »(3) .

فعلی ما ذکرنا صارت رسالة الحقوق صحیحة الإسناد ، ونبّه علی تصحیح سندها المحدث النوری(4) قدس سره ، وحیث کانت مفصلة فعلیک بمراجعتها .

ومنها : صحیحة مرازم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما عُبد اللّه بشیءٍ أفضل من أداء حقّ المؤمن(5) .

والروایة تدلّ علی أنّ أداء حقوق المؤمن من المستحباب الأکیدة التی لها ثواب عظیم .

ومنها : صحیحة أبی المَغْراء حمید بن المثنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المسلم أخو المسلم لا یظلمه ولا یخذله ولا یخونه ، ویحقّ علی المسلمین الاجتهاد فی التواصل والتعاون علی التعاطف ، والمواساة لأهل الحاجة ، وتعاطف بعضهم علی بعض حتّی تکونوا کما أمرکم اللّه عزّ وجلّ رحماء بینکم متراحمین مغتمّین لما غاب عنکم من أمرهم علی ما مضی علیه معشر الأنصار علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم (6) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة إبراهیم بن عمر الیمانی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : حقّ المسلم علی المسلم : أن لا یشبع ویجوع أخوه ، ولا یروی ویعطش أخوه ، ولا یکتسی ویعری أخوه ، فما أعظم حقّ المسلم علی أخیه المسلم . وقال : أحبّ لأخیک المسلم ما تحبّ لنفسک ،

ص:421


1- (6) الخصال 2 / (570 - 564) .
2- (7) الفقیه 2 / (626 - 618) الرقم 3214 .
3- (1) رجال النجاشی / 84 من الطبعة الحجریة (115 الرقم 296 من طبعة جماعة المدرسین) .
4- (2) مستدرک الوسائل 11 / 169 .
5- (3) وسائل الشیعة 12 / 203 ح 1 . الباب 122 من أبواب أحکام العشرة .
6- (4) وسائل الشیعة 12 / 203 ح 2 .

وإن احتجت فسله ، وإن سألک فأعطه ، لا تملّه خیراً ، ولا یملّه لک ، کن له ظهراً فإنّه لک ظهرٌ ، إذا غاب فاحفظه فی غیبته ، وإذا شهد فزره وأجلّه وأکرمه فإنّه منک وأنت منه ، وإن کان علیک عاتباً فلا تفارقه حتّی تسلّ سخیمته ، وإن أصابه خیر فاحمد اللّه ، وإن ابتلی فاعضده ، وإن تمحّل له(1) فأعنه ، وإذا قال الرجل لأخیه : « اُف » انقطع ما بینهما من الولایة ، وإذا قال له : « أنت عدوّی » کفر أحدهما ، فإذا اتّهمه إنماث الإیمان فی قلبه کما ینماث(2) الملح فی الماء . وقال : بلغنی أنّه قال : إنّ المؤمن لیزهر نوره لأهل السماء کما تزهر نجوم السماء لأهل الأرض . وقال : إنّ المؤمن ولیُّ اللّه یعینه ویصنع له ، ولا یقول علیه إلاّ الحقّ ولا یخاف غیره(3) .

قال الفیض : « ولعلّ المراد بقوله لا تمله خیراً ولا یمل لک : لا تسأمه مِنْ جهة إکثارک الخیر له ولا یسأم هو من جهة إکثاره الخیر لک ، یقال : مللته ومللت منه : إذا سأمه . والسّلُّ : انتزاعک الشیء وإخراجه فی رفق کالإسلال . والسخیمة : الحقد . تمحل له : أی کید ، یقال رجل محلّ أی ذو کید ، ومحلّ بفلان : إذا سعی به إلی السلطان ، والِمحال بالکسر : الکید»(4) .

ومنها : موثقة علی بن عقبة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : للمسلم علی المسلم من الحقِّ أن یسلّم علیه إذا لقیه ، ویعوده إذا مرض ، وینصح له إذا غاب ، ویسمّته إذا عطس ، ویجیبه إذا دعاه ، ویتبعه إذا مات(5) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن الصادق علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : للمؤمن علی المؤمن سبعة حقوق واجبة من اللّه عزّ وجلّ : الإجلال له فی غیبته ، والودّ له فی صدره ، والمواساة له فی ماله ، وأن یحرم غیبته ، وأن یعوده فی مرضه ، وأن یشیّع جنازته ، وأن لا یقول فیه بعد موته إلاّ خیراً(6) .

ص:422


1- (5) تمحّل له : کید .
2- (6) ینماث : یذاب .
3- (7) الکافی 2 / 170 ح 5 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 206 ح 8 .
4- (1) الوافی 5 / 560 .
5- (2) وسائل الشیعة 12 / 270 ح 9 .
6- (3) وسائل الشیعة 12 / 208 ح 13 .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن مسکان عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال : أحبّ أخاک المسلم وأحبّ له ما تحبّ لنفسک ، واکره له ما تکره لنفسک ، إذا احتجت فسله وإذا سألک فاعطه ، ولا تدّخر عنه خیراً فإنّه لا یدّخر عنک ، کن له ظهراً فإنّه لک ظهر ، إن غاب فاحفظه فی غیبته ، وإن شهد فزره وأجلّه وأکرمه ، فإنّه منک وأنت منه ، وإن کان علیک عاتباً فلا تفارقه حتّی تسلّ سخیمته وما فی نفسه ، فإذا أصابه خیر فاحمد اللّه ، وإن ابتلی فاعضده وتمحّل له(1) .

السخیمة : الضغینة ، یقال : سللتُ سخیمتَهُ باللطف والترضی ، جمعها سَخَائِم .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أمرهم بسبع ونهاهم عن سبع : أمرهم بعیادة المرضی واتّباع الجنائز وإبرار القسم وتسمیت العاطس ونصر المظلوم وإفشاء السلام وإجابة الداعی ، ونهاهم عن التختم بالذهب والشرب فی آنیة الذهب والفضة وعن المیاثر(2) الحمر وعن لباس الإستبرق والحریر والقَزّ والاُرجوان(3) .

ومنها : صحیحة عیسی بن أبی منصور قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام أنا وابن أبی یعفور وعبد اللّه بن طلحة ، فقال ابتداءً منه : یا ابن أبی یعفور ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ست خصال مَنْ کنَّ فیه کان بین یدی اللّه تعالی وعن یمین اللّه تعالی . فقال ابن أبی یعفور : وما هی جعلت فداک ؟ قال : یحبّ المرء المسلم لأخیه ما یحبّ لأعزّ أهله علیه ، ویکره المرء المسلم لأخیه ما یکره لأعزّ أهله علیه ، ویناصحه الولایة . فبکی ابن أبی یعفور وقال : کیف یناصحه الولایة ؟ قال : یا ابن أبی یعفور ، إذا کان منه بتلک المنزلة بثّه همّه ، ففرح لفرحه إن هو فرح وحزن لحزنه إن هو حَزِن ، وإن کان عنده ما یفرّج عنه فرّج عنه وإلاّ دعا اللّه له . قال : ثمّ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ثلاث لکم وثلاث لنا : أن تعرفوا فضلنا وأن تطأوا عقبنا وأن تنتظروا عاقبتنا ، فمن کان هکذا کان بین یدی اللّه تعالی ، فیستضیء بنورهم من هو أسفل منهم . وأمّا

ص:423


1- (4) وسائل الشیعة 12 / 210 ح 19 .
2- (5) المیاثر : جمع میثرة ، وهی ما یوضع علی ظهر الفرس لیحول بین الفارس وظهر الفرس . والمیاثر الحمراء من مراکب العجم ، وهی من دیباج أو حریر . (الصحاح 2 / 844) .
3- (6) قرب الإسناد / 71 ح 228 ونقل عنه صدرها فی وسائل الشیعة 12 / 213 ح 25 .

الذین عن یمین اللّه فلو أنّهم یراهم مَنْ دونهم لم یهنأهم العیش ممّا یرون مِنْ فضلهم . فقال ابن أبی یعفور : ما لهم لا یرون وهم عن یمین اللّه ؟ فقال : یا ابن أبی یعفور إنّهم محجوبون بنور اللّه ، أما بلغک الحدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان یقول : إنّ للّه خلقاً عن یمین العرش بین یدی اللّه وعن یمین اللّه تعالی وجوههم أبیض من الثلج وأضوء من الشمس الضاحیة ، یسأل السائل ما هؤلاء ؟ فیقال : هؤلاء الذین تحابّوا فی جلال اللّه(1) .

وللفیض بیانٌ بذیل هذا الحدیث فراجعه إن شئت . وقال العلامة المجلسی : « ومناصحة الولایة : خلوص المحبّة عن الغش والعمل بمقتضاها ... . الثلاث الأول : الحبّ والکراهة والمناصحة ، وقیل : الفرح والحزن والتفریج ، ولا یخفی بُعده . ثمّ بیّن علیه السلام الثلاث الذی لهم علیهم السلام بقوله :

- أن « تعرفوا فضلنا » أی علی سائر الخلق بالإمامة والعصمة ووجوب الطاعة ، ونعمتنا علیکم بالهدایة والتعلیم والنجاة من النار واللحقوق بالأبرار .

- و« أن تطؤوا عقبنا » أی تتابعونا فی الأقوال والأفعال ولا تخالفونا فی شیءٍ .

- و« أن تنتظروا عاقبتنا » أی ظهور قائمنا وعود الدولة إلینا فی الدنیا ، أو الأعم منها ومن الآخرة کما قال : اللّه تعالی : «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»(2)»(3) .

ومنها : خبر معلی بن خنیس عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : ما حقّ المسلم علی المسلم ؟ قال : له سبع حقوق واجبات ما منهنّ حقٌ إلاّ وهو علیه واجب ، إنْ ضیّع منها شیئاً خرج من ولایة اللّه وطاعته ولم یکن للّه فیه من نصیب . قلت له : جعلت فداک وما هی ؟ قال : یا معلّی إنّی علیک شفیق أخاف أن تضیّع ولا تحفظ ، وتعلم ولا تعمل . قال : قلت له : لا قوة إلاّ باللّه ، قال :

أیسر حقِّ منها أن تحبَّ له ما تحبُّ لنفسک وتکره له ما تکره لنفسک .

والحقّ الثانی : أن تجتنب سخطه وتتّبع مرضاته وتطیع أمره .

ص:424


1- (1) الکافی 2 / 172 ح 9 ونقل عنه فی الوافی 5 / 562 ح 11 .
2- (2) سورة القصص / 83 .
3- (3) مرآة العقول 9 / 42 .

والحقّ الثالث : أن تعینه بنفسک ومالک ولسانک ویدک ورجلک .

والحقّ الرابع : أن تکون عینه ودلیله ومرآته .

والحقّ الخامس : [ أن ] لا تشبع ویجوع ، ولا تروی ویظمأ ، ولا تلبس ویعری .

والحقّ السادس : أن یکون لک خادمٌ ولیس لأخیک خادمٌ فواجب أن تبعث خادمک فیغسل ثیابه ویصنع طعامه ویمهّد فراشه .

والحقّ السابع : أن تبرّ قَسَمه وتجیب دعوته وتعود مریضه وتشهد جنازته ، وإذا علمت أنّ له حاجة تبادر إلی قضائها ولا تلجئه أن یسألکها ولکن تبادره مبادرة ، فإذا فعلت ذلک وصلتْ ولایتک بولایته وولایته بولایتک(1) .

سند الروایة ضعیف بعبد اللّه بن بکیر الهَجَری ، لأنّه مهمل ولیس له فی الکتب الأربعة إلاّ هذه الروایة فقط ، ولکن یمکن الحکم باعتباره بسند الشیخ الطوسی فی أمالیه . المجلس الرابع ح 3 / 98 الرقم 149 ، ورجال سنده کلّهم ثقات إلاّ محمد بن الفیض . وعلی فرض أنّه التِّیْمی تِیْم الرباب حسّنه العلامة المجلسی فی ذکر طریق الصدوق إلیه(2) ، ویروی عنه ابن أبی عمیر فی الصحیح(3) ، فهو من مشایخه وعلی القول بوثاقة مشایخ ابن أبی عمیر فهو یدخل فی الثقات .

وعلی ما ذکرنا تدخل الروایة فی الروایات الحسان . والمراد بإبرار قسمه : قبوله .

وتلک عشرة کاملة من الروایات المعتبرة فی حقوق الإخوان وإن شئت أکثر من هذا فراجع الکافی 2 / 169 والوافی 5 / 557 وبحار الأنوار 71 / 221 ووسائل الشیعة 12/203

ومستدرک الوسائل 9 / 39 وکتابَیَّ موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 1 / 166 وألف حدیث فی المؤمن / 173 .

ثمّ فلیعلم : بأن ظهور هذه الروایات فی الاستحباب واضحٌ ، وحیث لا یمکن للمؤمن الإتیان بجمیع هذه الحقوق بالنسبة إلی جمیع إخوانه المؤمنین ، فیقع التزاحم فی مرحلة

ص:425


1- (1) الکافی 2 / 169 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 205 ح 7 .
2- (2) الوجیزة / 246 الرقم 322 .
3- (3) الموسوعة الرجالیة المیسرة / 445 الرقم 5724 ینقله عن الوحید البهبهانی قدس سره .

الامتثال ، فیؤتی بالأهم فالأهم کما یظهر من المحقق الخوئی(1) وشیخنا الاُستاذ(2) - مدظله - .

ویمکن أن یقال : بتخصیص هذه الروایات بالمؤمن العارف بهذه الحقوق المؤدّی ، لها وأمّا المؤمن المضیّع لها فلم یرد تأکد استحبابها فی حقّه ، لأنّ التهاتر کما یقع فی الأموال یقع فی الحقوق المستحبة أیضاً ، کما یظهر من الشیخ الأعظم(3) .

ویمکن أن یُستدل له : بما رواه الرضی مرسلاً عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : مَنْ قضی حَقَّ مَنْ لا یقضی حَقَّهُ فَقَدْ عَبَدَهُ(4) .

وبالنبوی : لا خیر فی صحبة من لا یری لک من الحقِّ مثل ما تری له(5) .

وأمّا استدلال الشیخ الأعظم بما ذکر من الروایات فیتم مع ملاحظة هذه القرینة ، وهی :

للأخ علی الأخ حقوق ، فإذا قام بها صدق فی إداء الاُخوة ، فصار صدیقاً ویدخل فی عنوان الصداقة ، وأمّا إذا لم یقم لها ولا یصدق فی أدائه فلا یکون صدیقاً ویدخل فی الإخوان المکاشرة(6) ، وورد ذکرهم بأنّ : « ما هؤلاء بإخوة»(7) أو « ما هذا لک بأخٍ»(8) ونحوها .

وعلی هذا الأخ الصدیق فی أدائه لحقوق الاُخوة هو الذی قام بوظائفها ، علی المؤمن أن یؤدی حقوقها . وأمّا الأخ الذی یدعی الاُخوة فقط ولم یقم بوظائفها ، فلم یؤکّد استحباب القیام بحقوقها .

والحاصل ، رحجان القیام بأداء الحقوق بالنسبة إلی الجمیع مطلق غیر مقید بقیام

ص: 426


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 368 .
2- (2) ارشاد الطالب 1 / 213 .
3- (3) المکاسب المحرمة 1 / 366 طبع مجمع الفکر الإسلامی .
4- (4) نهج البلاغة . الحکمة 164 .
5- (5) نهج الفصاحة / 522 ح 2493 - ونقل عنه بعض أساتیذنا - مدظله - فی رسالته فی الحقوق / 111 .
6- (6) راجع وسائل الشیعة 12 / 13 ح 1 . الباب 3 من أبواب أحکام العشرة .
7- (7) وسائل الشیعة 12 / 26 ح 1 . الباب 14 من أبواب أحکام العشرة .
8- (8) وسائل الشیعة 12 / 27 ح 3 .

الآخر ، ولکن عدم قیام الآخر بأداء الحقوق بعد قیام هذا رافع لشدّة الرجحان ولتأکّد رجحانها . کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(1) فی الجملة . واللّه سبحانه هو العالم .

إلی هنا إنتهی بحث الحقوق إجمالاً وللتفصیل مقام آخر . والحمد للّه أولاً وآخراً . وقد فرغنا من تدریسه فی النصف من ذی القعدة الحرام عام 1425 فی الحوزة العلمیة بإصبهان بمدرسة الصدر ، وأنا العبد هادی النجفی مصنف هذا الکتاب الشریف .

ص: 427


1- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 216 .

المجلد 3

اشارة

سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -

عنوان و نام پدیدآور : الاراء الفقهیه قسم المکاسب المحرمه/ تالیف هادی النجفی.

مشخصات نشر : اصفهان: مهر قائم، 1387.

مشخصات ظاهری : 3 ج.

شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2

وضعیت فهرست نویسی : فاپا/ برون سپاری.

یادداشت : عربی.

یادداشت : ج. 2 و 3 ( چاپ اول: 1429ق. = 1387).

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : معاملات (فقه)

موضوع : کسب و کار حرام

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ4 1387

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : 1245417

ص: 1

اشارة

ص: 2

الاراء الفقهیه قسم المکاسب المحرمه

تالیف هادی النجفی

ص: 3

ص: 4

تتمة النوع الرابع: الاکتساب بما هو حرام فی نفسه

القِمار

اشارة

یقع الکلام فیه فی مقامات :

المقام الأوّل : ما هو القِمار ؟

قبل الورود فی البحث لابدّ من ملاحظة کلمات اللغویین فی القمار :

قال أحمد بن فارس : « القاف والمیم والراء أصلٌ صحیحٌ یدلّ علی بیاض فی شیءٍ ثمّ یفرّع منه . من ذلک القَمَر : قَمَر السماء ، سمِّی قمراً لبیاضه ، وحمارٌ أقمر : أی أبیض ... .

فأمّا قولُهم : قَمَر یَقْمِرُ قَمْرَاً ، والقِمار من المقامرة ، فقال قوم : هو شاذّ عن الأصل الذی ذکرناه ، وقال آخرون : بل هو منه . وذلک أنّ المُقامِرَ یزید ماله وینْقُص ولا یبقی علی حالٍ . وهذا شیءٌ قد سمعناه . واللّه أعلم بصحته . قال ابن درید : تَقَمَّرَ الرجل : إذا طلب من یقامره ، ویقال : قَمَرْتُ الرجلَ أقْمُره وأقْمِرُه»(1) .

وقال الزمخشری : « ومن المجاز : تَقَمَّره : خَدَعَه ، ومنه القِمار لأنّه خِدَاع ، تقول : قَامَرْتُهُ فَقَمَرتُه أقْمُرُه : غلبته ... »(2) .

وقال ابن منظور : « وقامَرَ الرجلَ مُقامَرَةً وقِمارَاً : راهنه ، وهو التقامر . والقِمارُ : المُقامَرَةُ : وتَقَامَرُوا : لعبوا القِمارَ . وقَمیرُکَ : الذی یُقامِرُک عن ابن جنی ، وجمعه أقْمارٌ ، عنه أیضاً وهو شاذٌ کنصیر وأنصار ، وقد قَمَره یَقْمِرُه قَمْراً . وفی حدیث أبی هریرة : مَنْ قال تَعالَ أُقامِرْکَ فلیتصدَّق بقدر ما أراد أن یجعله خَطَراً فی القِمار . الجوهری : قَمَرْتُ الرجل أقْمِرُه بالکسر ، قَمْرا : إذا لاعبتُهُ فیه فَغَلَبْتُهُ . وقامَرْتُه فَقَمَرْتُه أقْمُرُه ، بالضم ، قَمْراً : إذا فاخرته فیه فغلبته . وتَقَمَّر

ص: 5


1- (1) معجم مقاییس اللغة 5 / 26 .
2- (2) أساس البلاغة / 377 .

الرجلُ : غلب مَنْ یُقامِرُه ... »(1) .

وقال الفیومی : « قَامَرْتُهُ قِمَاراً : مِنْ باب قَاتَلَ ، فَقَمَرْتُهُ قَمْرَاً ، من بابی قَتَل وضَرَبَ ؛ غَلَبْتُهُ فی القِمارِ»(2) .

وقال الفیروزآبادی : « قامَرَهُ مُقامَرَةً وقِمارَاً فَقَمَرهُ کنَصَرَهُ وتَقَمَّرَه : راهَنَه فَغَلَبَهُ وهو التَّقَامُرُ ، وقَمیرُک : مَقامِرُک ، جمعه : أقْمارٌ»(3) .

وقال الطریحی : « القِمار بالکسر : المقامرة ، وتقامروا : لعبوا بالقمار واللعب بالآلات المعدّة له علی اختلاف أنواعها نحو الشطرنج والنرد وغیر ذلک ، وأصل القمار : الرهن علی اللعب بشیءٍ من هذه الأشیاء ، وربّما أطلق علی اللعب بالخاتم والجوز وعود»(4) .

أقول : قد نَطقت کلمات اللغویین علی أنّ القمار لابدّ له من رهان ولا یصدق علی صِرْفِ اللعب بلا رهان . ولکن هل یصدق القمار علی اللعب بالآلات المُعَدِّة له فقط ؟ أو یصدق علی اللعب بکلِّ شیءٍ سواءٌ عُدّ للقمار أم لا ولکن مع الرهان ؟ الظاهر هو الأخیر ، لأنّ الغلبة فی الرهن یصدق مع کلِّ آلة ، سواء فی ذلک الآلات المعدّة له وغیرها ، نحو : الجوز والبیض والکتاب والخاتم وعود وبعض الظروف ونحوها کما صرح به الطریحی فی مجمع البحرین .

ثمّ هل یُطلق القمار علی اللعب بالآلات المعدّة له ولکن مع عدم الرهان ؟ ذهب فی جامع المقاصد علی صحة إطلاق القمار مع عدم الرهان وقال : « ربّما اُطلق علی اللعب بها مطلقاً»(5) أی یصدق إطلاق القمار علی اللعب بالآلات المعدّة له مطلقاً ، أعنی مع الرهان وبدونه .

وقال فی مفتاح الکرامة : « وظاهر الصحاح والمصباح المنیر وکذلک التکملة والذیل أنّه قد یُطلق علی اللعب بهذه الأشیاء مطلقاً ، أی مع الرهن ودونه ، وبه صرّح فی جامع

ص: 6


1- (1) لسان العرب 11 / 300 .
2- (2) المصباح المنیر / 515 .
3- (3) القاموس / الطبع الحجری مادة : القمرة . (2 / 121) .
4- (4) مجمع البحرین / الطبع الحجری مادة : قمر (3 / 463) .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 24 .

المقاصد»(1) .

وتبعه صاحب الجواهر(2) ، وقبلهما قال سید الریاض فی السبق والرمایة من کتابه : « ودعوی صدق القمار والرهانة علی بذل العوض غیر معلوم الصحة ، مع صدقهما سیما الرهانة بدونه عرفاً وعادة»(3) .

أقول : قد عرفت أنّ مقوم القمار وجود الرهن ، فمع عدمه لا یصدق القمار ، فلا یتمّ ما ذکره هؤلاء الأعلام قدس سرهم . ویظهر ما ذکرناه من الفاضل النراقی(4) حیث ذهب إلی جواز اللعب بآلات القمار مع عدم الرهان فی غیر الشطرنج والنرد . فهو لا یطلق القمار علی اللعب بالآلة بدون الرهن ، فلذا حکم بالجواز فی غیرهما . وعدم صحة اطلاق القمار صحیح ، وسیأتی حکم الفرع المذکور فی کلامه قدس سره فیما بعد إن شاء اللّه تعالی .

ووافقنا علی ذلک الشیخ الأعظم حیث یقول فی حکم اللعب بآلات القمار من دون رهن : « فی صدق القمار علیه نظر لما عرفت ... »(5) .

ووافقنا أیضاً المحقق الخمینی فی الأخیر فقط ، حیث یقول : « ولا یبعد عدم صدقهما (أی صدق القمار والمیسر) علی اللعب بالآلات بلا رهان ، کما تشهد به کلمات کثیر من اللغویین کصاحب القاموس والمجمع والمنجد ومنتهی الأرب ومحکی لسان العرب ، فإنّها طفحت بقید الرهان»(6) .

والمحقق الخوئی وافقنا فی المسألتین ، حیث یقول : « إنّ المستفاد من کلمات أهل العرف واللغة أنّ القمار وکذلک المیسر موضوع للعب بأیّ شیءٍ مع الرهان ویعبّر عنه فی لغة الفرس

ص: 7


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 186 .
2- (2) الجواهر 22 / 109 .
3- (3) ریاض المسائل 10 / 239 .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 106 فما ذکره فی مصباح الفقاهة 1 / 369 من وجود عدم الخلاف فی المستند علی المسألة الثانیة غیر تام ونفی الخلاف فیه یرجع إلی المسألة الأولی .
5- (5) المکاسب المحرمة 1 / 372 .
6- (6) المکاسب المحرمة 2 / 3 .

بکلمة (برد و باخت) ، وعلیه فاللعب بالآلات بدون الرهن خارج عن المطلقات موضوعاً وتخصصاً»(1) .

وقال أیضاً فی حرمة المراهنة علی اللعب بغیر الآلات المعدّة للقمار : « الثانی : صدق مفهوم القمار علیه بغیر عنایة وعلاقة ، فقد عرفت أن الظاهر من أهل العرف واللغة أنّ القمار هو الرهن علی اللعب بأیّ شیء کان ، وتفسیره باللعب بالآلات المعدّة للقمار دور ظاهر»(2) .

أقول : یظهر من کلمات أهل اللغة أنّ القمار یصدق إذا کان فی البین رهانٌ ، بلا فرق بین أن یکون بآلات القمار وغیرها . وأمّا إذا لم یکن رهان بین الطرفین فلا یصدق القمار ، سواء کان اللعب بآلات القمار أو غیرها ، ویؤید ما استفدناه من أهل اللغة إطلاق کلمة « القمار » عند أهل العرف .

المقام الثانی : أدلة حرمة القمار
اشارة

الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة القمار :

1 - من الکتاب

الف : قوله تعالی : «یَسْأَلُونَکَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ قُلْ فِیهِمَا إِثْمٌ کَبِیرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَکْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا»(3) .

المیسر هو القمار ، وقرنه اللّه تعالی بالخمر وحکم فیهما بأنهما أثم کبیر . وظهور الآیة الشریفة فی الحرمة واضحٌ .

ویدلّ علی أنّ المیسر هو القمار خبر الوشاء عن أبی الحسن علیه السلام قال : سمعته یقول : المیسر هو القمار(4) .

ورواه العیاشی فی تفسیره 2 / 72 ح 183 عن الرضا علیه السلام .

ص: 8


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 372 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 375 .
3- (3) سورة البقرة / 219 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 165 ح 3 . الباب 35 من أبواب ما یکتسب به .

وفی تفسیر العیاشی عن حمدویه عن محمد بن عیسی قال : سمعته یقول : کتب إلیه إبراهیم بن عَنْبَسَة - یعنی إلی علی بن محمّد علیهماالسلام - إن رأی سیدی ومولای أن یخبرنی عن قول اللّه تعالی : «یَسْأَلُونَکَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ» الآیة ، فما المیسر جعلت فداک ؟ فکتب : کلّ ما قُومر به فهو المیسر ، وکلّ مسکر حرام(1) .

الروایة معتبرة الإسناد .

فی خبر جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لما أنزل اللّه علی رسوله صلی الله علیه و آله وسلم «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ» قیل : یا رسول اللّه ما المیسر ؟ فقال : کلّ ما تقومر به حتّی الکِعاب(2) والجوز . قیل : فما الأنصاب ؟ قال : ما ذبحوا لآلهتم . قیل : فما الأزلام ؟ قال : قداحهم التی یستقسمون بها(3) .

ب : قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا یُرِیدُ الشَّیْطَانُ أَن یُوقِعَ بَیْنَکُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِی الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ وَیَصُدَّکُمْ عَن ذِکْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ»(4) .

عُدّ فی الآیة الشریفة القمار - وهو المیسر - من الرجس وعمل الشیطان ، ولذا أمر باجتنابه ، وعلّل حرمته بأنّه یوجب العداوة والبغضاء بین المؤمنین ویصدّهم عن ذکر اللّه تعالی وعن الصلاة . فدلالة الآیتین علی الحرمة ظاهرة .

روی العیاشی فی ذیلها عن یاسر الخادم عن الرضا علیه السلام قال : سألته عن المیسر ؟ قال : الثّقل من کل شیءٍ . قال الحسین : والثّقل ما یخرج بین المُتَراهِنَیْن من الدراهم وغیرها(5) .

رواها الشیخ الحر ، ولکن بدّل الحسین بالخبز والثقل بالتفل ، ولکن الصحیح کما فی

ص: 9


1- (1) تفسیر العیاشی 1 / 218 ح 314 .
2- (2) الکعاب : جمع الکَعْب : یقال للعظم الذی یلعب به .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 165 ح 4 .
4- (4) سورة المائدة / 91 و 90 .
5- (5) تفسیر العیاشی 2 / 75 ح 189 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 167 ح 12 مع اختلاف .

تفسیر العیاشی « الحسین» ، ولعلّه هو من رواة الخبر قد حُذف بإسقاط السند ، ولعلّ الثّقل الموجود فی تفسیر العیاشی والتفل الموجود فیالوسائل کلاهما تصحیف الثُّفل - بالثاء المنقوطة بثلاث والفاء - وهو ما سفل من کلّ شیءٍ ، واُطلق هنا مجازاً علی ما یخرج بین المتراهنین .

قال الشیخ الطوسی : « المیسر : قال ابن عباس وعبد اللّه بن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وابن سیرین : هو القمار ، وهو الظاهر فی روایاتنا »(1) .

بدلّ الطبرسی قوله الأخیر ب- « هو المروی عن أئمتنا» وأضاف إلیه : « حتّی قالوا : إنّ لعب الصبیان بالجوز هو قمارٌ»(2) .

وقال فی تفسیره الآخر : « أکَّدَ سبحانه تحریم الخَمر والمیسر بوجوه من التأکید :

منها : أنّه قرنهما بعبادة الأنصاب التی هی الأصنام ، ومنه قوله علیه السلام : شارب الخمر کعابد الوثن .

ومنها : أنّه جعلهما رجساً کما قال : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ»(3) .

ومنها : أنّه جعلهما من عمل الشیطان .

ومنها : أنّه أمر بالاجتناب .

ومنها : أنّه جعل الاجتناب من الفلاح ، والهاء فی « فاجتنبوه» یعود إلی عمل الشیطان أو إلی مضافٍ محذوفٍ ، کأنّه قیل : إنّما شأن الخمر والمیسر أو تعاطی الخمر والمیسر ونحو ذلک .

ومنها : أنّه ذکر نتائِجَهما من المفاسد التی هی وقوع التعادی والتباغض بین أصحاب الخمر والقَمْر وما یؤدّیان إلیه من الصَّدِّ «عَن ذِکْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ» التی هی عماد الدین .

وقوله : «فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ» نهیٌ بلیغ ، أی فهل أنتم مع ما تُل-ِیَ علیکم من هذه الصوارف منتهون»(4) .

ص: 10


1- (1) التبیان 2 / 212 .
2- (2) مجمع البیان 2 / 316 .
3- (3) سورة الحج / 30 .
4- (4) جوامع الجامع 1 / 351 .

ونحوها فی الکشاف 1 / 674 للزمخشری .

ج : قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنکُمْ»(1) .

الآیة الشریفة نهت عن أکل الأموال بالأسباب الباطلة ، ومنها : القمار ، ولذا ورد فی عدّة من الروایات تطبیق السبب الباطل بالقمار :

منها : صحیحة زیاد بن عیسی - وهو أبو عبیدة الحذاء(2) - قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قوله عزّ وجل : «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ» فقال : کانت قریش تقامر الرجل بأهله وماله ، فنهاهم اللّه عزّ وجل عن ذلک(3) .

روی العیاشی مرسلاً عن محمد بن علی عن أبی عبد اللّه علیه السلام مثله فی تفسیره 1 / 390 ح 103 مع زیادة .

ومنها : صحیحة محمد بن عیسی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل : «لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ» قال : ذلک القمار(4) .

ومنها : ما رواه العیاشی فی تفسیره مرسلاً عن أسباط بن سالم قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فجاءه رجلٌ فقال له : أخبرنی عن قول اللّه : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ» قال : عنی بذلک القمار ، الحدیث(5) .

ومنها : ما رواه العیاشی مرسلاً عن أسباط قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ» قال : هو القمار(6) .

فالآیة الشریفة مع هذه التطبیقات فی الروایات المعتبرة تدلّ بوضوح علی

ص: 11


1- (1) سورة النساء / 29 .
2- (2) کذا فی الکافی الشریف 5 / 122 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 164 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 167 ح 14 .
5- (5) تفسیر العیاشی 1 / 388 ح 98 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 166 ح 8 .
6- (6) تفسیر العیاشی 1 / 389 ح 100 .

حرمة القمار .

2 - من السنة

عدّة من الروایات المعتبرة المستفیضة تدلّ علی حرمته مضافاً إلی ما مرّ ذکره فی ذیل الآیات :

منها : صحیحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال : لا تصلح المقامرة ولا النهبة(1) .

ومنها : حسنة عبد الحمید بن سعید قال : بعث أبو الحسن علیه السلام غلاماً یشتری له بیضاً ، فأخذ الغلام بیضة أو بیضتین فقامر بها ، فلمّا أتی به أکله ، فقال له مولیً له : إنّ فیه من القمار ، قال : فدعا بطشت فتقیّأه(2) .

قال الشیخ جعفر فی شأن الروایة : « وراویه أدری به»(3) .

وقال صاحب الجواهر : « إنّه لا یخلو من بحث بالنسبة إلی منافاة العصمة التی هی الطهارة من الرجس»(4) .

وقال الشیخ الأعظم : « ولکن یشکل بأنّ ما کان تأثیره کذلک ... إلی قوله قدس سره : هذا کلّه لتطبیق فعلهم علی القواعد ، وإلاّ فلهم فی حرکاتهم من أفعالهم وأقوالهم شؤون لا یعلمها غیرهم»(5) .

وقال المحقق الخوئی : « ویمکن أن یقال : إنّ الاعتراض علی الروایة مبنی علی کون علم الأئمة بالموضوعات حاضراً عندهم من غیر توقف علی الإرادة ، وقد دلت علیه جملة من الروایات ، کما أن علمهم بالأحکام کذلک . وأمّا بناءً علی أنّ علمهم بالموضوعات تابع لإرادتهم واختیارهم - کما دلت علیه جملة اُخری من الروایات - فلا یتوجّه الإشکال علی

ص: 12


1- (1) الکافی 5 / 123 ح 5 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 165 ح 5 .
2- (2) الکافی 5 / 123 ح 3 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 165 ح 2 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 207 .
4- (4) الجواهر 22 / 110 .
5- (5) المکاسب 1 / 379 .

الروایة ، لإمکان صدور الفعل عنهم علیهم السلام جهلاً قبل الإرادة»(1) .

وقال شیخنا الأستاذ - مدظله - : « إنّ الإمام علیه السلام لا یمکن غفلته أو جهله بالأحکام المجعولة فی الشریعة ، حیث أنّ ذلک ینافی کونه هادیاً ودلیلاً علی الحقِّ ومبیّناً لأحکام الشرع . وأمّا الموضوعات الخارجیة فعلمه بجمیعها مطلقاً أو عند إرادته الإطلاع علیها ، فلا سبیل لنا إلی الجزم بشیءٍ حتّی نجعله منشأ الإشکال فی مثل الروایة»(2) .

أقول : هذا البیان من شیخنا الأستاذ - مدظله - کلام فصل یحلّ به الإشکال فی الروایة ، وأمّا ما ذکره الفقیه السبزواری قدس سره فی المهذب(3) لا یتم لوجهین :

الأوّل : لا یمکن بیان الطرق والأمارات والأصول والأحکام الظاهریة وجعلها فی حقّ العالم بالواقع ونفس الأمر ، لأنّ اعتبار هذه الأمور یجری فی فرض الجهل بالواقع .

والثانی : بعد الأکل والإزدراد لا یبقی ملکیة الغیر للمادّة ، لأنّها یصدق علیها أنّها تلفت ، وبقاعدة الإتلاف الآکل ضامن لها .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان ینهی عن الجوز یجیء به الصبیان من القمار أن یؤکل ، وقال : هو سحتٌ(4) .

ومنها : معتبرة اسحاق بن عمار قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : یلعبون بالجوز والبیض ویقامرون ، فقال : لا تأکل منه فإنّه حرام(5) .

3 - الاجماع

لا خلاف بین المسلمین من حرمة اللعب بالآلات المعدّة للقمار مع المراهنة ، بل یمکن أن یقال بأنّ حرمته من ضروریات الدین :

قال الشیخ فی النهایة : « عمل الأصنام والصلبان والتماثیل المجسَّمة والصور والشطرنج

ص: 13


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 379 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 220 .
3- (3) مهذب الأحکام 16 / 144 .
4- (4) الکافی 5 / 123 ح 6 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 166 ح 6 .
5- (5) الکافی 5 / 124 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 166 ح 7 .

والنرد وسائر أنواع القمار حتّی لعب الصبیان بالجوز ، فالتجارة فیها والتصرف والتکسب بها حرامٌ محظورٌ»(1) .

قال العلامة فی المنتهی : « القمار حرام بلا خلاف بین العلماء ، وکذا ما یؤخذ منه ... إلی أن قال : فإن جمیع أنواع القمار حرام من اللعب بالنرد والشطرنج والأربعة عشر(2) واللعب بالخاتم ، حتّی لعب الصبیان بالجوز علی ما تضمنته الأحادیث ، ذهب إلیه علماؤنا أجمع ، وقال الشافعی : یجوز اللعب بالشطرنج ، وقال أبو حنیفة بقولنا»(3) .

وقال الشهید الثانی : « مذهب الأصحاب تحریم اللعب بآلات القمار کلّها من الشطرنج والنرد والأربعة عشر وغیرها ، ووافقتهم علی ذلک جماعة من العامة منهم أبو حنیفة ومالک وبعض الشافعیة ... »(4) .

وذکر المحقق الأردبیلی کلام العلامة فی المنتهی ثمّ قال : « لعلّه یرید بقوله « بلا خلاف» فی تحریمه فی الجملة ، لا جمیع أنواعه»(5) .

وقال : « القمار هو : اللعب بالآلات المعدّة له ، کالنرد والشطرنج حتّی اللعب بالخاتم والجوز والکعاب ... ودلیل تحریم الکلّ الإجماع»(6) .

والفاضل الأصبهانی فی ذیل قول العلامة فی شهادات القواعد : « واللاعب بآلات القمار کلّها فاسق» قال : عندنا(7) .

أقول : الظاهر أنّ مراده عند الشیعة الإمامیة .

ص: 14


1- (1) النهایة / 363 .
2- (2) الأربعة عشر : قطعة من خشب حُفر فی ثلاثة أسطر ویجعل فی الحفر حصی صغار یلعب بها کذا فی المبسوط 8 / 222 ، والمسالک 14 / 177 ، وکشف اللثام 10 / 291 .
3- (3) منتهی المطلب 2 / 1012 .
4- (4) المسالک 14 / 176 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 82 .
6- (6) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 41 .
7- (7) کشف اللثام 10 / 290 .

وذکر المحدث البحرانی کلام العلامة الحلی فی المنتهی من دون تعلیق(1) .

وقال الشیخ جعفر بعد تعریف القمار والحکم بحرمته : « للإجماع المنقول»(2) .

وقال سید الریاض : « والقمار بالآلات المعدّة له کالنرد والشطرنج والأربعة عشر واللعب بالخاتم والجوز والبیض بلا خلاف فی شیء من ذلک ، بل عن المنتهی وفی غیره الإجماع علیه ، وهو الحجة بعد الکتاب والسنة المستفیضة ... »(3) .

وقال الفاضل النراقی بعد تعریف القمار : « بل فی المنتهی وغیره الإجماع علیه ، وهو الحجة فی المقام وعلیه المعوّل»(4) .

وقال السید العاملی : « إنّ عمل القمار حرام ... والتحریم مذهب الأصحاب ... »(5) .

وقال فی الجواهر : « بلا خلاف أجده فیه بل الإجماع بقسمیه علیه»(6) .

وقال الشیخ الأعظم : « القمار حرام إجماعاً»(7) .

وقال المحقق الخوئی بعد ذکر عدم الخلاف بین الفقهاءمن الشیعة والسنة « بل علی حرمة القمار ضرورة مذهب الإسلام»(8) .

4 - العقل

العقل حاکم بأنّ القمار « منشأ للفساد والإفساد وتضییع المال والعمر»(9) . فیحکم بقبحه الذی یتبع الحرمة الشرعیة .

ص: 15


1- (1) الحدائق 18 / 186 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 205 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 169 .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 103 .
5- (5) مفتاح الکرامة 12 / 184 .
6- (6) الجواهر 22 / 109 .
7- (7) المکاسب المحرمة 1 / 371 .
8- (8) مصباح الفقاهة 1 / 368 .
9- (9) کما فی مهذب الأحکام 16 / 140 .

« وأنّ أخذ المال بغیر تجارة ومشقة یوجب لإلقاء العداوة والبغضاء والاشتغال به یصدّ عن ذکر اللّه وعن امتثال الأحکام الإلهیة»(1) والعقل حاکم بقبح الجمیع .

المقام الثالث : مسائل أربع
الأُولی : اللعب بآلات القمار مع المراهنة

قد سبق أن اللعب مع المراهنة هو المصداق التام للقمار ، ولم یسشکل فیه أحدٌ ، فما ذکر من الآیات والروایات والإجماع وحکم العقل علی حرمة القمار تشمل هذه المسألة وتدلّ علی حرمتها ، بلا إشکال بل هی القدر المتیقَّن منها .

ثمّ فلیعلم أنّ هاهنا أموراً :

الأوّل : صنع الآلات المعدّة للقمار .

الثانی : أخذ الاُجرة علی صنعها .

الثالث : بیع الآلات المعدّة للقمار .

الرابع : اللعب بها مع المراهنة .

الخامس : أخذ الرهن أی المال المجعول فی البین .

وبما مرّ من الأدلة یحکم بحرمة الجمیع تکلیفاً وبحرمة الثانی والثالث والخامس وضعاً .

ومن أظهر مصادیق القمار فی زماننا هذا « الحظ والنصیب» أو « یا نصیب» أو المعبَّر عنه فی لغة الفرس ب- « بلیط بَخت آزمائی » ، لأنّه نظیر اللعب بالأقداح فی زمن الجاهلیة وفیه الرهان وکثیراً ما یقع بآلات القمار أو ما شابهها ، فیحکم بحرمته بلا إشکال .

الثانیة : اللعب بالآلات المعدّة للقمار بدون المراهنة

بأنّ یکون الغرض من هذا اللعب مجرد الاشتغال والأنس کما هو المتداول الیوم بین بعض الشباب ، فهل هو محرّم أم لا ؟ استدلوا علی حرمته بوجوه :

الأوّل : وجود الإجماع وعدم الخلاف اللذین یشملان هذه المسألة .

ص: 16


1- (1) کما فی مصباح الفقاهة 1 / 369 .

وفیه : إن ثبت الإجماع فهو ، ولکن یمکن أنْ یناقش فیه بأنّ معقد الإجماع وعدم الخلاف فی المسألة الأولی فقط .

وقد مرّ منّا أن عدم الخلاف المذکور فی المستند یرجع إلی المسألة الأولی لا إلی الثانیة ، فما ورد فی المصباح(1) غیر تام .

نعم ، ورد التصریح بالحرمة فی القواعد(2) والدروس(3) فی شهاداتهما ، وقال المحقق الثانی : « لا ریب فی تحریم اللعب بذلک (أی بآلات القمار) وإن لم یکن رهن»(4) . وتبعهم الفاضل الأصفهانی(5) وسیأتی تفصیل کلمات الأصحاب فی هذا المجال فی المقام الخامس من البحث فانتظر .

الثانی : صدق القمار فی اللعب بها ولو لم یکن فی البین رهان .

وفیه : قد سبق عدم صدق القمار بمجرد اللعب وأنّ مقوم القمار هو الرهان فإذا لم یکن لم یصدق القمار ، ولذا قال الشیخ الأعظم : « وفی صدق القمار علیه نظر»(6) .

الثالث : قد وردت فی الروایات بأنّ کلّ ما قومر علیه فهو میسر ، ووردت عدّة من الروایات فی النهی عن اللعب بالشطرنج والنرد وسنذکر بعضها فیما بعد فی المقام الخامس من البحث إن شاء اللّه تعالی ، ولو کنّا وهذه الروایات فقط لا تفید فی المقام شیئاً ، ولذا استشکل الفاضل النراقی(7) فی حرمة اللعب بغیرهما من دون رهان وأنّ الأصل عدم الحرمة .

هذا البیان منه تام لو لم یکن فی البین صحیحة معمر بن خلاد عن أبی الحسن علیه السلام قال : النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة ، وکلّ ما قومر علیه فهو میسر(8) .

ص: 17


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 369 .
2- (2) قواعد الأحکام 3 / 494 .
3- (3) الدروس 2 / 126 .
4- (4) جامع المقاصد 4 / 24 .
5- (5) کشف اللثام 10 / 291 .
6- (6) المکاسب المحرمة 1 / 372 .
7- (7) مستند الشیعة 14 / 106 .
8- (8) وسائل الشیعة 17 / 323 ح 1 . الباب 104 من أبواب ما یکتسب به .

بتقریب : أن فی هذه الصحیحة أضاف الإمام علیه السلام الأربعة عشر التی لم ترد ذکرها فی غیرها من الروایات ، ثمّ حکم علیه السلام بأنهنَّ بمنزلة واحدة ، ثمّ عطف علیهنّ کلّ ما قومر علیه - أعنی کلّ ما یکون من آلات القمار - فهو میسر ، یعنی قمار . ومن الواضح أنه لو کان فی البین رهان لا یحتاج الإمام علیه السلام إلی الحکم بکونه من المیسر والقمار لوضوحه ، فما ورد فی هذه الصحیحة اللعب بآلات القمار من دون رهان وحکم الإمام علیه السلام تعبداً بأنّه من المیسر وهو القمار .

والإستدلال بهذه الصحیحة فی حرمة اللعب بآلات القمار ولو من دون رهان تام عندنا .

ویؤیدها خبر الفضیل قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن هذه الأشیاء التی یلعب بها الناس : النرد والشطرنج حتی انتهت إلی السُدَّر(1) ؟ فقال : إذا میّز اللّه الحقّ من الباطل مع أیّهما یکون ؟ قال : مع الباطل ، قال : فما لک وللباطل(2) ؟ !

رجال السند کلّهم ثقات حتّی عبد اللّه بن عاصم ، أمّا علی بن إسماعیل المیثمی حسنٌ لو لم یکن ثقة ، ولکن فیه سهل بن زیاد الآدمی القمی وفیه ما فیه ، إلاّ أن یقال - کما عن شیخنا البهائی قدس سره - بأنّ الأمر فی سهل سهلٌ . ولکن حیث أنّه لم یثبت وثاقته عندنا لذا عبرنا عن السند بالخبر .

وأمّا دلالتها : حیث عدّ السائل بعد النرد والشطرنج ، بعض آخر من آلات القمار وختمها بالسُدَّر ، وحکم الإمام علیه السلام بأنّ اللعب بها من الباطل أی حرامٌ . والسائل یسأل عن اللعب بها فقط وظهور السؤال فی عدم الرهان ، وهذه الروایة کالنص فی مسألتنا هذه ، ولکن فی سندها ضعف بسهل ، ولذا جئتُ بها علی نحو التأیید .

ویؤید ما ذکرنا اتفاق الأصحاب قدس سرهم علی الحرمة فی اللعب بآلات القمار من دون

ص: 18


1- (1) السُدَّر : لعبة یقامر به ، فارسیة معربة عن ثلاثة أبواب . قال الشیخ فی المبسوط 8 / 222 : « والقرق وقال أهل اللغة هی القرقة ویقال لها بالفارسیة سدره ، وهی دایرة مربّعة یخط فیها خطّان کالصلیب ویجعل علی رؤوس الخط حصیً یلعبون بها» .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 324 ح 3 .

الرهان ، ولم أجد مخالفاً بینهم إلاّ ما حُکی عن بعض مشایخنا طاب ثراه . نعم ، وقع الخلاف فیها بین العامة .

الثالثة : المراهنة علی اللعب بغیر الآلات المعدّة للقمار

ذهب الأصحاب إلی حرمة هذه المراهنة ، واستدلوا بوجوه :

الأوّل : عدم وجود الخلاف بین أصحابنا قدس سرهم فی حرمتها کما مرّ التصریح بذلک فی المقام الثانی من هذا البحث عن العلامة فی المنتهی(1) ، وصرح بها فی التذکرة حیث یقول : « القمار حرام وتعلّمه واستعماله وأخذ الکسب به حتی لعب الصبیان بالجوز والخاتم»(2) وهکذا فی القواعد(3) والتحریر(4) ، والمحقق الثانی فی ذیل قول العلامة « حتّی لعب الصبیان بالجوز والخاتم» قال : « ویمکن أن یکون مراد العبارة : ویحرم القمار حتّی لعب الصبیان - إلی آخره ، فتکون حتّی عاطفة علی القمار ، والعبارة علی هذا المعنی أدلّ ، إلاّ أنّ إطلاق التحریم علی هذا القسم مشکل ، لأنّ فعل الصبی لا یوصف بالحرمة ولا بغیرها من الأحکام الشرعیة ، إلاّ أن یأوّل : بأنّ تکلیف التحریم وغیره فی ذلک یتعلق بالولی»(5) .

أقول : الظاهر - واللّه العالم - أنّ مثالهم بلعب الصبیان بالجوز والخاتم ، یکون مثلاً لمسألتنا هذه ، أعنی المراهنة علی اللعب بغیر الآلات المعدّة للقمار وأظهر مصادیق هذه الآلات الجوز والخاتم ولذا مثّلوا بهما واللاعب بهما علی الأغلب الصبیان ، ولذا حذف الشهید الثانی من المثال الصبیان وقال : « ومنه (أی من القمار) اللعب بالخاتم والجوز»(6) .

ومن اللذین حکموا بالحرمة المحقق الأردبیلی وقال : « دلیل تحریم الکلّ : الإجماع»(7) .

ص: 19


1- (1) منتهی المطلب 2 / 1012 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 12 / 141 المسألة 646 .
3- (3) قواعد الأحکام 2 / 8 .
4- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 25 .
6- (6) المسالک 3 / 129 .
7- (7) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 41 .

ومنهم : المحقق السبزواری فی الکفایة(1) .

ومنهم : کاشف اللثام قال : « (والخاتم وإن قصد) اللاعب بأحدها (الحذق أو اللهو أو القمار) فلا فرق بین القصود یحکم بفسقه و(ترد شهادته) لنحو ما سمعت»(2) .

ومنهم : السید مهدی بحر العلوم الطباطبائی ، صرح بعدم الخلاف فی الحرمة والفساد(3) .

ومنهم : الشیخ جعفر فی شرحه علی القواعد ، وادعی علیه الإجماع المنقول(4) .

ومنهم : سید الریاض ، وادعی عدم الخلاف فی حرمتها(5) .

ومنهم : الفاضل النراقی فی المستند(6) .

ومنهم : صاحب الجواهر فی کتاب السبق والرمایة(7) .

ومنهم : الشیخ الأعظم الأنصاری فی المکاسب المحرمة(8) .

الظاهر أنّ الإجماع فی حرمة المراهنة علی اللعب بغیر الآلات المعدّة للقمار حاصل عند أصحابنا أعلی اللّه کلمتهم ، وأکثر العامة أیضاً یوافقونا(9) .

الثانی : صدق مفهوم القمار کما مرّ منّا فی المقام الأوّل علی هذه المراهنة بغیر مسامحة وعنایة ، بل صرح بعض الأصحاب بأنَّها قمار ، نحو : سید الریاض(10) والشیخ الأعظم(11)

ص: 20


1- (1) کفایة الأحکام 1 / 441 .
2- (2) کشف اللثام 10 / 291 .
3- (3) المصابیح / مخطوط ونقل عنه الشیخ الأنصاری فی المکاسب 1 / 357 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 205 و 306 .
5- (5) ریاض المسائل 8 / 169 .
6- (6) مستند الشیعة 14 / 104 .
7- (7) الجواهر 28 / 218 و 219 .
8- (8) المکاسب 1 / 375 .
9- (9) کما نقل عنهم فی مصباح الفقاهة 1 / 374 .
10- (10) ریاض المسائل 10 / 238 .
11- (11) المکاسب 1 / 375 .

والمحقق الخوئی(1) ، فإذا صدق علیها القمار تشملها الأدلة المحرّمة وإطلاقاتها .

الثالث : الروایات الواردة فی حرمة هذه المراهنة :

منها : معتبرة إسحاق بن عمار الماضیة(2) ، وهی کالنص فی المقام تدلّ علی الحرمة التکلیفیة والوضعیة .

ومنها : حسنة عبد الحمید بن سعید الماضیة(3) ، فهی أیضاً تدلّ علی الحرمة التکلیفیة والوضعیة .

ومنها : صحیحة حفص عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا سبق إلاّ فی خف أو حافر أو نصل ، یعنی النضال(4) .

والمراد بها : عدم جواز المسابقة مع الرهان فی غیر الموارد المستثناة .

ومنها : حسنة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لیس شیءٌ تحضره الملائکة

إلاّ الرهان وملاعبة الرجل أهله(5) .

والمراد بها الرهان فی الموارد المستثناة ، والشاهد علی ذلک مرسلة الصدوق عن الصادق علیه السلام قال : « إنّ الملائکة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخفّ والریش والنصل ، وقد سابق رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم اُسامة بن زید وأجری الخیل(6) .

وهکذا صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام إنّه کان یحضر الرمی والرهان(7) .

یعنی أنّه یحضر الرهان فی الرمی أو الرهان فی مسابقة الخیل أو الجمل .

ص: 21


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 375 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 166 ح 7 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 165 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 19 / 252 ح 1 . الباب 3 من أبواب کتاب السبق والرمایة .
5- (5) وسائل الشیعة 19 / 250 ح 4 ، و 19 / 251 ح 1 .
6- (6) وسائل الشیعة 19 / 251 ح 6 .
7- (7) وسائل الشیعة 19 / 252 ح 4 .

ومنها : صحیحة محمد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال : قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی رجل آکل وأصحاب له شاةً ، فقال : إن أکلتموها فهی لکم وإن لم تأکلوها فعلیکم کذا وکذا ، فقضی فیه : أنّ ذلک باطل لا شیء فی المؤاکلة من الطعام ما قلَّ منه وما کثر ومنع غرامته فیه(1) .

رجال السند کلّهم ثقات حتّی یوسف بن عقیل البجلی ، قال النجاشی فی حقه : « کوفی ثقة قلیل الحدیث یقول القمیّون : إنّ له کتاباً ، وعندی أنّ الکتاب لمحمد بن قیس»(2) .

بتقریب : أنه قضی أمیر المؤمنین علیه السلام ببطلان عقد المؤاکلة فی مثل شاة أو نحوها وهی إباحة الشاة ونحوها بشرط متأخر ، والشرط هو أکل الجمیع أو مقدار معین منها ، فإذا صار العقد باطلاً لم تتحقق الإباحة علی فرض الأکل ، وعلی فرض عدم الأکل أیضاً لم یتحقق الضمان المذکور فی العقد ، ومنع الغرامة فی ختام الحدیث یرجع إلی هذا الأخیر . ثمّ بعد بطلان العقد - حیث أنّهم أتلفوا الشاة أو غیرها من المأکولات بأکلها - کانت ذمّتهم مشغولة بالضمان . وهذا المعنی من الروایة یظهر للمتأمل فیها . وهذا العقد فی الواقع قسم من القمار ویصیر من القسم الثالث .

ومن هذا القسم الإشتراط بین الأثنین علی شیءٍ من المال علی الأمور العادیة أو العلمیة ونحوهما ، بأنه لو غلب أو صدق أحدهما فله الشیء ، وحیث کان فی البین رهان فیدخل فی عنوان القمار ویحرم ، خلافاً لعمّنا الأکرم آیة اللّه الحاج الشیخ محمد علی النجفی قدس سره المتوفی 1318 ق حیث ذهب إلی الجواز فی رسالته فی المعاصی الکبیرة(3) .

الرابعة : المسابقة بغیر رهان

هل تجوز المسابقة بغیر آلات القمار ومن دون رهان أم لا ؟ ذهب جماعة من

ص: 22


1- (1) الکافی 7 / 428 ح 11 ، التهذیب 6 / 290 ح 10 ونقل عنهما فی وسائل الشیعة 23 / 192 ح 1 . الباب 5 من أبواب کتاب الجعالة .
2- (2) رجال النجاشی / 452 الرقم 1221 .
3- (3) معاصی کبیرة / 111 .

الأصحاب قدس سرهم إلی المنع ، ولعله هو المشهور ، وذهب بعض منهم إلی الجواز :

ومن القائلین بالمنع : شیخ الطائفة ، فی مبسوطه قال : « فأمّا ما لم یرد فیه الخبر فمذهبنا أنّه لا یجوز المسابقة علیه ... »(1) .

الظاهر أنّ کلامه یحمل علی الإطلاق ، أی مع العوض وبدونه لما یظهر فیما بعده فراجع کتابه .

ومنهم : العلامة فی التذکرة حیث یقول : « لا تجوز المسابقة علی المصارعة بعوض ولا بغیر عوض عند علمائنا أجمع ، لعموم النهی إلاّ فی الثلاثة : الخفّ والحافر والنصل ، ... لا تجوز المسابقة علی رمی الحجارة بالید والمِقْلاع والمَنْجنیق ، سواء کان بعوض أو بغیر عوض عند علمائنا ... لا یجوز المسابقة علی المراکب والسفن والطیارات عند علمائنا ... لا یجوز المسابقة علی مُناطَحَة الغنم ومُهارَشة الدیک بعوض ولا بغیر عوض ، وکذلک لا یجوز المسابقة علی ما لا ینتفع به فی الحرب ... »(2) .

ومنهم : المحقق الثانی قال : « وکیف کان فظاهر المذهب التحریم ، إلاّ أنّ وجهه غیر ظاهر ، لأنّ هذه قد تراد لهواً ولعباً - إلی أن قال : - لم نجد إلی القول بتحریم ذلک سبیلاً . ولا ریب أنّه إن انضم إلی آخر فتعادیا کان أدخل فی مطلوبه ولیس للضمیمة أثر فی التحریم»(3) .

أقول : وأنت تری أنّه وإن نقل أن ظاهر المذهب التحریم ولکن قال : « أنّ وجهه غیر ظاهر» وذهب بنفسه إلی الجواز واستدل له . فالصحیح أن یُعد المحقق الکرکی من القائلین بالجواز لا المنع .

ومنهم : ابن فهد الحلی قال : « ولا یجوز فی غیرها (أی فی غیر الثلاثة) سواء کان بعوض أو خلت عنه ... »(4) .

ومنهم : سید الریاض یقول : « وفی جوازها بدونه إشکال (أی فی جواز المسابقة من

ص: 23


1- (1) المبسوط 6 / 291 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 2 / 354 من الطبع الحجری .
3- (3) جامع المقاصد 8 / 326 .
4- (4) المهذب البارع 3 / 82 .

دون عوض إشکال) ینشأ من اختلاف الروایات فی فتح الباء من لفظ « سبق » وسکونه ... ولکن الأشهر خلافه ، بل ظاهر المهذب(1) والمحقق الثانی(2) وصریح المحکی عن التذکرة(3) أنّ علیه إجماع الامامیة فی جمیع الاُمور المذکورة ، فالمنع أظهر لحجیة الإجماع المنقول ، سیما مع التعدد والإعتضاد بالشهرة وبما ... »(4) .

وأما القائلون بالجواز :

قد سبق أن المحقق الثانی هو القائل بالجواز .

ومنهم : الشهید الثانی قال فی المسالک : « والمراد (أی المراد بروایة لا سبق) أنّه لا یصح بذل العوض فی هذه المعاملة إلاّ فی هذه الثلاثة ، وعلی هذا لا ینفی جواز غیرها بغیر تعویض»(5) . وأیضاً صریحاً أفتی بجوازها ولو فی غیر الثلاثة من دون عوض(6) .

ومنهم : المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(7) .

ومنهم : المحقق السبزواری یقول : « وبالجملة الأصل الجواز والتحریم یحتاج إلی دلیل ، وقد ذُکر تحریم القمار سابقاً حتّی لعب الصبیان بالجوز ، وقد علم أیضاً تحریم بعض الأشیاء بآلات القمار وإن لم یکن فیه رهن وعوض مثل النرد والشطرنج ، وأمّا مثل السبق بالأقدام وغیر ذلک فلا أعلم حجة علی تحریمها إذا لم یکن فیها عوض ومراهنة»(8) .

ومنهم : صاحب الحدائق قال : « وأنت خبیر بأنّه باعتبار تعارض الاحتمالین المذکورین لا یمکن الاستدلال بالخبر علی المنع ، فتبقی أصالة الجواز خالیةً من المعارض

ص: 24


1- (1) لم أجده فی المهذب للقاضی ، نعم قد ورد فی المهذب البارع کما مرّ .
2- (2) جامع المقاصد 8 / 326 .
3- (3) وقد مرّ کلام التذکرة .
4- (4) ریاض المسائل 10 / 238 .
5- (5) المسالک 6 / 70 .
6- (6) المسالک 6 / 87 .
7- (7) مجمع الفائدة والبرهان 10 / 168 .
8- (8) کفایة الأحکام 1 / 718 .

وتخرج الأخبار المذکورة شاهداً علی ذلک ، مضافاً إلی ما ذکر من الفوائد المترتبة علیها»(1) . ومنهم : الوحید البهبهانی فی تعلیقته علی مجمع الفائدة والبرهان(2) .

ومنهم : الشیخ جعفر قال : « ... وأمّا مجرد فعله فلم یقم دلیل معتبر علی تحریمه ، فالمسابقة والمغالبة من دون رهان لا بأس بها ومعه حرام إلاّ ما استثنی ... »(3) .

ومنهم : تلمیذه صاحب الجواهر یقول : « أمّا فعله لا علی جهة کونه عقد سبق ، فالظاهر جوازه ، للأصل والسیرة المستمرة علی فعله فی جمیع الأعصار والأمصار من الأعوام والعلماء ، وما ورد من مصارعة الحسن والحسین علیهماالسلام ومکاتبتهما والتقاطهما حبّ قلادة اُمّهما بل ... »(4) .

ثمّ قد استدلوا علی الحرمة بوجوه :

الأوّل : الإجماع المدعی فی الریاض(5)

وفیه : قد عرفت عدم تمامیته ، لوجود المخالف فی المسألة وعدم کونه تعبدیّاً .

الثانی : ما ورد فی الروایات فی انحصار جواز المسابقة فی الثلاثة :

منها : صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا سبق إلاّ فی خفّ(6) أو حافر(7)أو نصل(8) ، یعنی النضال(9) .

بتقریب : أن الروایة وأمثالها فی المقام حصرت المسابقة فی هذه الثلاثة ، فلا یجوز

ص: 25


1- (1) الحدائق 22 / 366 .
2- (2) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 534 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 206 .
4- (4) الجواهر 28 / 220 .
5- (5) ریاض المسائل 10 / 238 .
6- (6) الخف : الإبل ، ویتناول الفیلة أیضاً لغة .
7- (7) الحافر : الفرس ، ویتناول الحمار والبغل لغةً .
8- (8) النصل : الرمی .
9- (9) وسائل الشیعة 19 / 252 ح 1 . الباب 3 من أبواب کتاب السبق والرمایة .

فی غیرها .

وفیه : أوّلاً : المراد بالمسابقة هنا ، المسابقة مع العوض والرهان ، ولذا أفتی الفقهاء بجواز أخذ الرهان فی المسابقة مع الفرس والإبل والرمی .

وثانیاً : الاستدلالُ مبنیٌ علی قراءة « السَبْق » بسکون الباء فصار حینئذ مصدر سَبَقَ یَسْبِقُ ، ولم یثبت ذلک ، لأنه من المحتمل قراءته بفتح الباء فیصیر معناه العوض والرهان ، یعنی أخذ العوض والرهان لا یجوز فی المسابقة إلاّ فی الثلاثة ، وحیث لم یثبت إحدی القراءتین فلا یمکن الاستدلال بها علی حرمة المسابقة فی غیرها من دون العوض والرهان .

الثالث : قد یقال : بأنّ مفهوم القمار صادق علی المسابقات ولو کانت من غیر رهان .

وفیه : قد مرّ أنّ مقوم القمار لغةً وعرفاً وجود العوض والرهان فی البین ، وحیث لم یکن هنا عوض ورهان لم یصدق علیه القمار .

الرابع : هذه المسابقات داخة فی عنوان اللهو واللعب المحرّمان ، ویدلّ علیه : خبر عبد اللّه بن علی عن الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : کلّما ألهی عن ذکر اللّه فهو من المیسر(1) .

ومرفوعة علی بن إسماعیل رفعه قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ارکبوا وارموا ، وإن ترموا أحبّ إلیّ من أن ترکبوا . ثمّ قال : کلّ لهو المؤمن باطل إلاّ فی ثلاث : فی تأدیبه الفرس ورمیه عن قوسه وملاعبته إمرأته ، فإنهنّ حقٌّ ، ألا إنّ اللّه عزّ وجلّ لیدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة : عامل الخشبة ، والمقوّی به فی سبیل اللّه ، والرامی به فی سبیل اللّه(2) .

وفیه : أوّلاً : لم تثبت حرمة مطلق اللهو واللعب ، نحو اللعب بالأحجار والأشجار والسبحة واللحیة ونحوها .

وثانیاً : النسبة بین اللهو والمسابقات العموم من وجه ، لأنّ من المسابقات ما فیها الأغراض العقلائیة من صحة البدن وتربیته ومعالجته والتنّزه والتفریح ونحوها .

ص: 26


1- (1) أمالی الطوسی . المجلس الثانی عشر ح 21 / 336 الرقم 681 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 315 ح 15 الباب 100 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 15 / 140 ح 3 . الباب 58 من أبواب جهاد العدو .

وثالثاً : قوله تعالی حکایةً عن إخوة یوسف : «أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً یَرْتَعْ وَیَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(1) یدلّ علی إباحة بعض أقسام اللعب .

والحاصل ، لا یدلّ دلیل علی حرمة المسابقات المختلفة بغیر رهان ، فهی جائزة عندنا وأفتی به جمع من الأصحاب قدس سرهم .

ویؤید ما ذکرناه معتبرة بل صحیحة زید الشحام عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام فی حدیث : فأقبل [ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ] بهما [ بالحسن والحسین علیهماالسلام ] إلی منزل فاطمة وقد ادخرت لهما تُمیرات ، فوضعتها بین أیدیهما فأکلا وشَبِعا وفَرِحا ، فقال لهما النبی صلی الله علیه و آله وسلم : قوما الآن فاصطرعا ، فقاما لیصطرعا وقد خرجت فاطمة علیهاالسلام فی بعض حاجتها ، فدخلت فَسَمِعَت النبیَّ صلی الله علیه و آله وسلم وهو یقول : إیهٍ یا حسن ، شُدّ علی الحسین فاصْرَعْه ، فقالت له : أبه ، واعجباه ، أتُشجّع هذا علی هذا ؟ أتُشجّع الکبیر علی الصغیر ؟ ! فقال لها : یا بُنَیّة ، أما ترضین أن أقول أنا ، یا حسن شُدّ علی الحسین فاصْرَعه ، وهذا حبیبی جبرئیل یقول : یا حسین شُدّ علی الحسن فاصْرَعْه(2) .

ویؤیده أیضاً صحیحة غیاث بن إبراهیم عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام قال : مرّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بقوم یرفعون حجراً ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : نعرف بذاک أشدّنا وأقوانا ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : ألا اُخبرکم بأشدّکم وأقواکم ؟ قالوا : بلی یا رسول اللّه ، قال : أشدّکم وأقواکم الذی إذا رضی لم یدخله رضاه فی إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم یخرجه سخطه من قول الحقِّ ، وإذا قَدَر لم یَتَعاطَ ما لیس له بحقٍّ(3) .

ویدل علیه صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن ال-مُحرم یصارع هل یصلح له ؟ قال : لا یصلح له مخافة أن یصیبه جراح أو یقع بعض شعره(4) .

ص: 27


1- (1) سورة یوسف / 12 .
2- (2) أمالی الصدوق . المجلس الثامن والستون ح 8 / 530 الرقم 718 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 14/81 ح 1 .
3- (3) معانی الأخبار / 366 ونقل عنه فی بحار الأنوار 72 / 28 ح 16 (29 / 317) .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 563 ح 2 . الباب 94 من أبواب تروک الإحرام .

ویؤیده خبر أبی رافع قال : کنتُ اُلاعب الحسن بن علی علیه السلام وهو صبی بالمداحی(1) ، فإذا أصابت مدحاتی مدحاته قلت : احملنی ، فیقول : ویحک أترکب ظهراً حمله رسول اللّه فأترک ، فإذا أصاب مدحاته مدحاتی ، قلت : لا أحملک کما لم تحملنی ، فیقول : أو ما ترضی أن تحمل بدناً حمله رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فأحمله(2) .

ویؤیده ما رواه العامة من أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم سابق عائشة بالقدم کما ذکره الشیخ فی المبسوط(3) والمحدث البحرانی فی الحدائق(4) والوحید البهبهانی فی تعلیقته علی مجمع الفائدة(5) .

ورواها أحمد فی مسنده 6 / 264 وأبو داود فی سننه 2 / 34 ح 2578 وابن ماجه فی سننه 1 / 636 ح 1979 وابن قدامة فی المغنی 9 / 368 .

ویؤیده مرسلة الشیخ قال : « روی أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم خرج إلی الأبطح فرأی یزید بن رکانة یرعی أعنزاً له ، فقال للنبی : هل لک فی أن تصارعنی ؟ فقال له النبی صلی الله علیه و آله وسلم : ما تسبّق لی ؟ فقال : شاة ، فصارعه فصرعه النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال للنبی : هل لک فی العود ؟ فقال النبی : ما تسبّق لی ؟ فقال : شاة ، فصارعه فصرعه ، فقال للنبی : هل لک فی العود ؟ فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : ما تسبّق لی ؟ فقال شاة ، فصارعه فصرعه ، فقال للنبی أعرض علیَّ الإسلام ، فما أحد وضع جنبی علی الأرض ، فعرض علیه الإسلام فأسلم وردّ علیه غنمه»(6) .

أقول : هذه الروایة وما قبلها کلتاهما عامیتان وثانیتهما مذکورة فی سیرة ابن هشام 2/31 وسنن أبی داود 2 / 452 کتاب اللباس باب فی العمائم ح 4087 مع اختلاف ، ولم یرویا

ص: 28


1- (1) المداحی : وهی أحجار أمثال القرصة ، کانوا یحفرون حفیرة ویدحون فیها بتلک الأحجار ، فإن وقع الحجر فیها قد غلب صاحبها ، وإن لم یقع غُلب کما فی النهایة 2 / 106 ، ونحوها فی الفائق 1 / 418 .
2- (2) بشارة المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم لشیعة المرتضی علیه السلام / 140 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 14 / 83 ح 3 .
3- (3) المبسوط 6 / 291 .
4- (4) الحدائق 22 / 364 .
5- (5) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 534 .
6- (6) المبسوط 6 / 292 .

من طرقنا کما قال المحدث البحرانی : « لم یثبت شیء من ذلک فی أخبارنا»(1) .

ویمکن حمل العوض فی هذه الروایة بأنّه من قبیل استنقاذ مال الکافر ، لعدم حرمة فی حقِّ ماله ، أو علی أنّه لیس من قبیل العوض والرهان بل من قبیل الجائزة والهدیة ، والذی یسهّل الخطب خلو روایاتنا منها .

ویدلّ علیه قوله تعالی نقلاً عن إخوة یوسف : «قَالُواْ یَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَکْنَا یُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَکَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ کُنَّا صَادِقِینَ»(2) وهذه الآیة الشریفة تدلّ علی جواز المسابقة من دون رهان فی ملّة إبراهیم علیه وعلی نبینا وآله السلام وهی الحنیفیّة البیضاء ، لأنّهم أولاد حفیده وهو یعقوب بن إسحاق ابن إبراهیم علیهم السلام ، ویکونون متدینین بشریعة جدهم إبراهیم علیه السلام ، وبالإستصحاب نحکم بالجواز حتّی یثبت النسخ . وأشار إلی هذا الإستدلال الأخیر الوحید البهبهانی قدس سره فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(3) .

المقام الرابع : حکم المال المأخوذ بالقمار

قد سبق فی المقام الثانی حرمة القمار تکلیفاً ، وأمّا حرمته وضعاً - أعنی فساد انتقال المال إلی المغالب ووجوب ردّه علی مالکه - فیدلّ علیه وجهان :

الأوّل : قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنکُمْ»(4) .

بتقریب : أنّها نهت عن أکل المال بالأسباب الباطلة ومنها القمار ، کما ورد فی صحیحة

ص: 29


1- (1) الحدائق 22 / 365 .
2- (2) سورة یوسف / 17 .
3- (3) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 532 .
4- (4) سورة النساء / 29 .

زیاد بن عیسی أبی عبیدة الحذاء(1) وصحیحة محمد بن عیسی(2) ومرسلتی أسباط(3) الماضیة ، ومع هذه التصریحات فی الروایات المفسرة للآیة الشریفة یتضح دلالتها علی الحرمة الوضعیة للقمار ، أی أن المال المأخوذ بالقمار لم ینتقل إلی المغالب ، فلا یجوز له التصرف فیه .

الثانی : عدّة من الروایات المعتبرة دالة علی بطلان هذا الانتقال وعدم جواز تصرف المغالب فی المال ، نحو :

معتبرة إسحاق بن عمار(4) ومعتبرة السکونی(5) وحسنة عبد الحمید بن سعید(6) .

وهذان الدلیلان یدلان علی عدم صحة تملّک الأجر والجُعل والرهن بواسطة المغالب ، فإن تملکّه وتصرَّف فیه فهو ضامنٌ وعلیه الردّ إن کانت العین موجودةً ومع فرض تلفها فعلیه القیمة إن کانت قیمیّة أو المثل إن کانت مثلیّة .

هذا کلّه إن تمکن من الردّ إلی صاحبه ، وإلاّ صار فی حکم مجهول المالک إن عرف صاحبه ولکن لم یتمکن من الردّ إلیه ، أو نفس مجهول المالک إن لم یعرف صاحبه ، وهذا واضح لا غبار علیه .

المقام الخامس : حکم اللعب بالشطرنج والنرد من دون المراهنة
1 - الأقوال فیه :

قال الصدوق : « واعلم أنّ الشطرنج قد روی فیه نهی وإطلاق ولکنّی ... فالصواب والإحتیاط فی ذلک نهی النفس عنه واللعب به ذنبٌ»(7) .

ص: 30


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 164 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 167 ح 14 .
3- (3) تفسیر العیاشی 1 / 389 و 388 ح 98 و 100 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 166 ح 7 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 166 ح 6 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 165 ح 2 .
7- (7) المقنع / 458 و 457 .

وقد مرّ کلام الشیخ فی النهایة(1) من أنّه عطف عمل الشطرنج والنرد وغیرهما من أنواع القمار علی الأصنام والصلبان والتماثیل المجسَّمة والصور .

وقال فی شهاداته : « وتُرَدُّ شهادة اللاّعب بالنَّردِ والشطرنج وغیرهما من أنواع القمار والأربعةَ عشَر والشاهین»(2) .

وقال فی الخلاف : « اللعب بالشطرنج حرام علی أیّ وجه کان ویفسق فاعله به ولا تقبل شهادته . وقال مالک وأبو حنیفة : مکروه ، إلاّ أنّ أبا حنیفة قال : هو یلحق بالحرام . وقالا جمیعاً : تُردُّ شهادته . وقال الشافعی : هو مکروه ولیس بمحظور ، ولا تُردّ شهادة اللاّعب به إلاّ ما کان فیه قماراً ، وترک الصلاة حتّی یخرج وقتها متعمّداً ، أو یتکرر ذلک منه وإن لم یتعمد ترک الصلاة حتّی یذهب وقتها ، وقال سعید بن المسیب وسعید بن جبیر : هو مباح ، دلیلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم ... »(3) .

وقال فیه : « اللاّعب بالنرد یفسق وتُردّ شهادته ، وبه قال أبو حنیفة ومالک ، وقال الشافعی - علی ما نص علیه أبو إسحاق فی الشرح - : أنّه مکروه ولیس بمحظور ولا یفسق فاعله ولا تردّ شهادته وهو أشدّ کراهة من الشطرنج . وقال قوم من أصحابه : أنّه حرام ، تُردّ شهادة اللاّعب به . دلیلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ... »(4) .

قال الشیخ فی المبسوط : « اللاّعب بالشطرنج عندنا لا تقبل(5) شهادته بحال ، وکذلک النرد والأربعة عشر وغیر ذلک من أنواع القمار ، سواء کان علی وجه المقامرة أو لم یکن .

وقال بعضهم من لعب به لا یخلو من أحد أمرین : إمّا أن یلعب بعوض أو بغیره ، فإن لعب بعضو نظرت فإن کان قماراً - وهو أن یخرج کلّ واحد منهما شیئاً علی أنّ من غلب کان المخرَج کلّه له فهو - القمار وأکل المال بالباطل ، تردّ به شهادته . وإن کان العوض غیر قمار -

ص: 31


1- (1) النهایة / 363 .
2- (2) النهایة / 325 .
3- (3) الخلاف 6 / 302 مسألة 51 .
4- (4) الخلاف 6 / 304 مسألة 53 .
5- (5) ولکن فی المطبوعة « تقبل» وهو غلط مطبعی واضح .

وهو علی معنی النضال والمسابقة علی الخیل مثل أن یخرج العوض أحدهما فیقول إن غلبتنی فهو لک وإن غلبتک فلا شیء لک ولا لی - فهذا لا تردّ به شهادته .

فأمّا إن کان بغیر عوض : فإما أن یترک الصلاة أو لا یترک ، فإن ترک الصلاة حتّی یخرج وقتها ، فإن کان عامداً فقد فسق بترک الصلاة لا باللعب بالشطرنج ، لأنّ فعل هذا فسق وإن کان لتشاغله بصلاة النافلة ، وإن کان ترک الصلاة بغیر عمد مثل أن فاته وقت الصلاة لتشاغله بها ولم یعلم ذلک ، فإن کان هذا مرّة واحدة لم تردّ شهادته وإن کان الخطأ موضوعاً عنه ، وإن تکرر هذا منه فسق وردّت شهادته . وإن کان محافظاً علی صلاته مداوماً علیها فی أوقاتها وإنّما یتشاغل بها فی غیر أوقاتها لم یحرم ذلک علیه غیر أنّه مکروه ، وقال بعض التابعین وهو سعید بن المسیب وسعید بن جبیر أنّه مباح طلق ، وذکر أنّه کان یلعب به استدباراً ، ومعناه أن یولی ظهره ویقول : بماذا دفع ؟ قالوا له : دفع بکذا ، یقول : فادفع أنت بکذا»(1) .

وقال بعد صفحة : « قد بیّنا أنّ سائر أنواع القمار من النرد والأربعة عشر حکمه حکم الشطرنج یفسّق به ویردّ به شهادته»(2) .

وقال المحقق : « اللعب بآلات القمار کلّها حرامٌ کالشطرنج والنرد والأربعة عشر وغیر ذلک ، سواءٌ قصد اللهو أو الحذق أو القمار»(3) .

وقال العلامة فی القواعد : « واللاعب بآلات القمار کلّها فاسق ، کالشطرنج والنرد والأربعة عشر والخاتم وإن قصد الحذق أو اللهو أو القمار تُردّ شهادته»(4) .

وقال فی التحریر : « اللعب بآلات القمار کلّها حرامٌ کالنرد والشطرنج والأربعة عشر وغیر ذلک یفسق فاعله وتردّ شهادتُهُ إلاّ أن یتوب ، سواء قصد الحذق أو اللهو أو القمار وهو المشتمل علی العوض ، وسواء اعتقد تحریمه أو لا»(5) .

ص: 32


1- (1) المبسوط 8 / 221 .
2- (2) المبسوط 8 / 222 .
3- (3) الشرائع 4 / 117 .
4- (4) القواعد 3 / 494 .
5- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 250 مسألة 6626 .

وقال الشهید : « ... والقمار حتّی بالجوز والبیض والخاتم والبقیری واستعمال النرد والشطرنج وإن لم یکن فیه رهان ... »(1) .

وقال الشیخ علی بن محمد بن محمد القمی السبزواری : « اللعب بالشطرنج حرام علی أیّ وجه کان یفسق فاعله ولا تقبل شهادته ... »(2) .

وقال المحقق الثانی فی تعریف القمار : « وهو اللعب بالآلات المعدة له علی اختلاف أنواعها من الشطرنج والنرد وغیر ذلک ، وأصل القمار : الرهن علی اللعب بشیءٍ من هذه الأشیاء ، ربما اُطلق علی اللعب بها مطلقاً ، ولا ریب فی تحریم اللعب بذلک وإن لم یکن رهن ، والاکتساب به وبعمل آلاته»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « قد عُلِمَ أیضاً تحریم بعض اللهو بآلات القمار وإن لم یکن فیه رهن وعوض ، مثل النرد والشطرنج»(4) .

وقال المحقق السبزواری : « والأخبار الواردة فی تحریم خصوص الشطرنج کثیرة وکذا النرد ، وفی بعض الأخبار مبالغة عظیمة فی تحریم الشطرنج ، وفیه کون اللعب به کبیرة»(5) وقال أیضاً : « ... قد علم أیضاً تحریم بعض الأشیاء بآلات القمار وإن لم یکن فیه رهن وعوض مثل النرد والشطرنج ... »(6) .

والفاضل الإصفهانی ذهب إلی حرمة اللعب بالشطرنج والنرد وذکر بعض أخبار تحریمهما ، ثمّ أنکر علی الشافعی قوله فیهما بالکراهة وقال : « لم یردّ الشافعی(7) شهادة اللاّعب بالنرد أو الشطرنج ولم یحرّمهما ولکن جعل النرد أشدّ کراهیةً»(8) .

ص: 33


1- (1) الدروس 2 / 126 .
2- (2) جامع الخلاف والوفاق / 614 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 24 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 10 / 167 .
5- (5) الکفایة 1 / 442 .
6- (6) الکفایة 1 / 718 .
7- (7) الاُمّ 6 / 208 ، المجموع 20 / 228 .
8- (8) کشف اللثام 10 / 292 .

وقال الفاضل النراقی : « هل یحرم اللعب بالآلات المعدّة له من غیر قمار ؟ لا إشکال فی تحریم الشطرنج والنرد کما صرح به الصدوق ، بل لا خلاف فیه . ثمّ ذکر بعض الروایات الواردة فی تحریمهما ثمّ قال : وأمّا فی غیرهما فیشکل الحکم بالتحریم ، بل الأصل مع عدمه»(1) .

والفقیه الشیخ جعفر ذکر بعض الروایات الواردة فی الشطرنج ثمّ علّق علیها : « وهو معمول علیه ، غیر أنّ نجاسة الید وبطلان الصلاة بدون الغسل مبالغة کالکفر والشرک ومعصیة السلام ، والنظر والجلوس لیست علی إطلاقها»(2) .

وقال السید العاملی بعد نقل خبر مستطرفات السرائر : « ولا مانع من العمل بهذه الأخبار الموافقة للإعتبار إلاّ الأصل وعدم العامل بجمیع ما تضمّنته ، ثم أنّه لا ریب فی تحریم اللعب بذلک وإن لم یکن فیه رهان ، سواء کان قصد الحذق أو اللهو ... »(3) .

وقد ذکر صاحب الجواهر بعد نقل کلام المحقق عدّة من الروایات المستفیضة فی تحریم الشطرنج ، ثمّ أبدی استغرابه من کلام صاحب المسالک(4) من حمله النهی علی الذنوب الصغیرة وذهابه إلی عدم قدحه فی العدالة إلاّ مع الإصرار وتبعیة صاحب الریاض(5) له ، ثمّ قال : « وأغرب منه ما عن الشافعی من عدم تحریم الشطرنج والنرد وإنّما هما مکروهان والثانی أشدّ کراهة من الأوّل ، واللّه العالم»(6) .

أقول : فصاحب الجواهر ذهب إلی کون اللعب بهما من الذنوب الکبائر ویقدح فی العدالة .

2 - وأمّا الروایات :

عدّة من الروایات المعتبرة المستفیضة تدلّ علی حرمة اللعب بالشطرنج والنرد ولو کان

ص: 34


1- (1) مستند الشیعة 14 / 106 و 105 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 208 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 185 .
4- (4) المسالک 14 / 177 .
5- (5) ریاض المسائل 15 / 265 .
6- (6) الجواهر : 41 / (46 - 43) .

من دون رهان ، وحکمت فیها بأنّهما من المیسر تعبداً :

منها : صحیحة زید الشحام قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(1) قال : الرجس من الأوثان : الشطرنج ، وقول الزور : الغناء(2) .

ورُوی نحوها فی الصحیح عن ابن أبی عمیر عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام (3) .

ومنها : روایة عمر بن یزید عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ للّه عزّ وجلّ فی کلِّ لیلة من شهر رمضان عتقاء من النار إلاّ مَنْ أفطر علی مسکر ، أو مشاحن أو صاحب شاهین . قلت : وأیّ شیءٍ صاحب الشاهین ؟ قال : الشطرنج(4) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ محمد بن الحکم أخی هشام لم یرد توثیقه ولا تضعیفه ، وعلی القول بأنّ محمد بن أبی عمیر لا یروی إلاّ عن ثقة یحکم بوثاقته ، فصارت الروایة صحیحة الإسناد ، ولکنّه لا یتم عندنا . ونحوها خبر الحسین بن عمر بن یزید(5) . المُشاحِن : عدوٌّ مشاحنٌ : مباغض شدید العداوة .

ومنها : موثقة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سُئل عن الشطرنج وعن لعبة شبیب التی یقال لها : لعبة الأمیر وعن لعبة الثلاث ؟ فقال : أرأیتک إذا میّز اللّه الحقّ والباطل مع أیّهما تکون ؟ قال : مع الباطل ، قال : فلا خیر فیه(6) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن زیاد عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سئل عن الشطرنج فقال : دعوا المجوسیة لأهلها لعنها اللّه(7) .

ص: 35


1- (1) سورة الحج / 30 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 318 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 318 ح 3 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 4 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 6 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 5 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 7 .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن اللعب بالشطرنج والنرد(1) .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سُئل عن الشطرنج والنرد ؟ فقال : لا تقربوهما ، الحدیث(2) .

ومنها : صحیحة بکیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن اللعب بالشطرنج ، قال : إنّ المؤمن لفی شغل عن اللعب(3) .

ومنها : صحیحة حماد بن عیسی قال : دخل رجل من البصریین علی أبی الحسن الأوّل علیه السلام فقال له : جعلت فداک إنّی أقعد مع قوم یلعبون بالشطرنج ولست ألعب بها ولکن أنظر ، فقال : ما لک ولمجلس لا ینظر اللّه إلی أهله(4) .

ومنها : صحیحة معمر بن خلاد الماضیة(5) .

ومنها : روایة الفضیل الماضیة(6) .

ومنها : ما فی الفقه الرضوی : « ... مثل الذی یلعب بها (أی بالنرد) - من غیر قمار - مثل الذی یضع یده فی الدم ولحم الخنزیر ، ومثل الذی یلعب فی شیءٍ من هذه الأشیاء کمثل الذی مصرٌ علی الفرج الحرام ... »(7) .

ومنها : مرسلة ابن إدریس نقلاً عن جامع البزنطی عن أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : بیع الشطرنج حرام ، وأکل ثمنه سحت ، واتخاذها کفر ، واللعب بها شرک ، والسلام علی اللاهی بها معصیة وکبیرة موبقة ، والخائض فیها یده کالخائض یده فی لحم الخنزیر ، لا صلاة

ص: 36


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 320 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 320 ح 10 .
3- (3) قرب الإسناد / 174 ح 641 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 321 ذیل ح 11 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 322 ح 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 323 ح 1 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 324 ح 3 .
7- (7) الفقه الرضوی / 284 .

له حتّی یغسل یده کما یغسلها من مسّ لحم الخنزیر ، والناظر إلیها کالناظر فی فرج اُمّه واللاهی بها والناظر إلیها فی حال ما یلهی بها ، والسلام علی اللاهی بها فی حالته تلک فی الإثم سواء ، ومن جلس علی اللعب بها فقد تبوأ مقعده من النار ، وکان عیشه ذلک حسرة علیه فی القیامة ، وإیّاک ومجالسة اللاهی والمغرور بلعبها ، فإنّها من المجالس التی باء أهلها بسخط من اللّه ، یتوقعونه فی کلِّ ساعة فیعمک معهم(1) .

ومنها : روایة علی بن جعفر عن أخیه موسی علیه السلام عن أبیه جعفر علیه السلام قال : النرد والشطرنج من المیسر(2) .

سند الروایة لا بأس بها ، لأنّ المراد بالحسین هو ابن إشکیب الثقة(3) ، وهو من مشایخ العیاشی . وموسی بن القاسم البجلی ثقة . وأمّا محمد بن علی بن جعفر العریضی من أصحاب الرضا علیه السلام کما عدّه الشیخ فی رجاله مکرراً(4) من المعاریف ، ولم یرد فیه قدح ، فالرجل ثقة عدل ، ولا أقل من حسنه . ووالده علی بن جعفر فوق حد الوثاقة . فالسند معتبرٌ عندنا .

ومنها : مرسلة الشیخ أبی الفتوح الرازی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه مرّ بقوم یلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثیل التی أنتم لها عاکفون ؟ وأخذ قدراً من التراب وطرحه فیه . قال الشیخ : یقول الذین یتعاطون لعب الشطرنج : أنّه کلّما بسط نطعه وجد فیه شیئاً من التراب(5) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إیّاکم وهاتین الکَعْبَتَیْن المَوْشُومتین ، فإنّهما من میسر العجم(6) .

ومنها : مرسلة ثالثة له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من لعب بالنرد فقد عصی اللّه َ

ص: 37


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 323 ح 4 .
2- (2) تفسیر العیاشی 1 / 218 ح 315 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 224 ح 3 .
3- (3) وله روایة فی قراءة الصحیفة السجادیة الشریفة المطبوعة أخیراً بأصبهان عام 1383 ه- . ش .
4- (4) رجال الشیخ / 386 و 387 الرقم 5 و 19 .
5- (5) تفسیر أبی الفتوح الرازی 3 / 214 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 223 ح 6 .
6- (6) تفسیر أبی الفتوح الرازی 3 / 214 .

ورسولَهُ(1) .

ومنها : مرسلة الثعلبی عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام قال فی النرد والشطرنج : هی من المیسر(2) .

وحمل هذه الروایات ونظائرها الکثیرة علی أنّ اللعب بهما مع الرهان مجازفة ، وحملها علی أنّهما من آلات القمار مکابرة . والظاهر أنّهما اُلحقا بالمیسر تعبداً فی الروایات ، کما یظهر من عدّة منها ، نحو : مرسلة عبد اللّه بن جندب(3) ومرسلة إسماعیل الجعفی(4) وخبر أبی بصیر(5) ومرسلة أبی الجارود(6) وصحیح عبد اللّه بن جندب عمّن أخبره عن أبی عبداللّه علیه السلام (7) وخبر عبد الملک القمی(8) وغیرها من الروایات المذکورة فیما مضی .

قال النجاشی فی ترجمة حفص بن البَخْتَرِی : « مولی بغدادیٌّ أصله کوفیٌّ ، ثقةٌ روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام وأبی الحسن علیه السلام ، ذکره أبو العباس ، وإنّما کان بینه وبین آل أعْیَنِ نَبْوَةً(9) فغمزوا علیه بلعب الشطرنج»(10) .

وهذه الروایات تدلّ بوضوح علی حرمة اللعب بالشطرنج والنرد ولو کان بدون رهان وخرجا عن کونهما آله قمار وأفتی به ألاصحاب قدس سرهم ، ولذا آل أعْیَن تمکنوا من الغمز علی حفص الثقة بأنّه یلعب بالشطرنج .

ص: 38


1- (1) تفسیر أبی الفتوح الرازی 3 / 213 .
2- (2) الکشف والبیان المعروف بتفسیر الثعلبی 2 / 151 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 321 ح 14 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 322 ح 15 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 324 ح 2 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 321 ح 12 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 324 ح 4 .
8- (8) وسائل الشیعة 17 / 324 ح 5 .
9- (9) النبوة : الجفاء والتباعد والنفور وعدم القبول .
10- (10) رجال النجاشی / 134 الرقم 334 .

وأمّا عدّ اللعب بهما من الکبائر - کما عن صاحب الجواهر(1) غیر تام لعدم وجود الدلیل ، وفی هذه الجهة یکون الحقّ مع صاحبی المسالک(2) والریاض(3) قدس سرهم من عدّ اللعب بهما من الذنوب الصغار ، فلا یقدح فی العدالة إلاّ مع الإصرار علی مبنی المشهور بین القوم فی تعریف العدالة من أنّها ملکة نفسانیة ، وأمّا علی المبنی المختار من أنّها الإستقامة فی جادة الشریعة فینقضها کلّ معصیة ، بلا فرق بین أن تکون صغیرة أو کبیرة والتفصیل یطلب من محلّه واللّه العالم .

خاتمة : القمار من الکبائر

تدلّ علی أنّ القمار من المعاصی الکبیرة قوله تعالی : «یَسْأَلُونَکَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ قُلْ فِیهِمَا إِثْمٌ کَبِیرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَکْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا»(4) ، هذه الآیة الشریفة تدلّ بوضوح علی أنّه من الکبائر ، ولاینافی ذلک وجود منفعة ظاهریة للمغالب مع التصریح فیها بأنّ الإثم أکبر من النفع .

وهکذا تدلّ علی أنّه من الکبائر عطفه علی الخمر ، ولاریب أنّ شرب الخمر من الکبائر ، نحو قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا یُرِیدُ الشَّیْطَانُ أَن یُوقِعَ بَیْنَکُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِی الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ وَیَصُدَّکُمْ عَن ذِکْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ»(5) .

وفی مرسلة أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام فی الآیة الاُولی من الآیتین قال : أمّا الخمر فکلّ مسکر من الشراب - إلی أن قال : - وأمّا المیسر فالنرد والشطرنج وکلّ قمار میسر ، وأمّا

ص: 39


1- (1) الجواهر 41 / 46 .
2- (2) المسالک 14 / 177 .
3- (3) ریاض المسائل 15 / 265 .
4- (4) سورة البقرة / 219 .
5- (5) سورة المائدة / 91 و 90 .

الأنصاب : فالأوثان التی کانت تعبدها المشرکون ، وأمّا الأزلام : فالأقداح التی کانت تستقسم بها المشرکون من العرب فی الجاهلیة ، کلّ هذا بیعه وشراؤه والانتفاع بشیء من هذا حرام من اللّه محرّم ، وهو رجس من عمل الشیطان ، وقرن اللّه الخمر والمیسر مع الأوثان(1) .

أقول : نفس هذا الاقتران یثبت کونه من الکبائر .

وتدلّ علی أنّ القمار من الکبائر عدّة من الروایات :

منها : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون قال فی عدّ الکبائر : المیسر وهو القمار ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر الأعمش عن الصادق علیه السلام فی حدیث شرائع الدین قال فی عدّ الکبائر : المیسر ، الحدیث(3) .

ومنها : معتبرة عمر بن یزید الماضیة(4) .

بتقریب : أن عدم غفران اللعب بالشطرنج الذی مرّ منّا إنّه قمار تعبدی فی شهر رمضان تدلّ بطریق أولی علی أنّ القمار الواقعی لیس من الذنوب المتداولة بل هو من الکبائر .

ومنها : خبر الحسین بن عمر بن یزید(5) ، وهو نظیر الروایة السابقة فی الدلالة حیث ظهر منها أنّ المراد بصاحب الشاهین هو الشطرنج .

وهذه الأدلة تدلّ بوضوح علی أنّ القمار من الکبائر کما أفتی به الأصحاب أعلی اللّه کلمتهم ، واللّه العالم . وإلی هنا تمّ بحث القمار وللّه الحمد أولاً وآخراً .

ص: 40


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 321 ح 12 .
2- (2) وسائل الشیعة 15 / 329 ح 33 . الباب 46 من أبواب جهاد النفس .
3- (3) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 4 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 6 .

القیادة

تعریفها

هی السعی بین شخصین لجمعهما علی الوطی المحرّم ، وقد یُعبَّر عنها بکلمة « الدیاثة » ، وهی قسم خاص منها . وحرمتها من ضروریات الإسلام وضعاً وتکلیفاً کما فی المصباح(1) .

ویمکن أن یقال بانها من الکبائر لقوله تعالی : «إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ الْفَاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ فِی الدُّنْیَا وَالاْآخِرَةِ وَاللَّهُ یَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(2) .

ومن أظهر مصادیق إشاعة الفحشاء وحبّها بل العمل فی طریقها القیادة ، فهذه الآیة الشریفة تدلّ بوضوح علی أنّها من الکبائر .

وتدلّ علی حرمتها وعلی أنّها من الکبائر عدّة من الروایات :

منها : خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة قال فیها : ومن قاد بین رجل وامرأة حراماً حرّم اللّه علیه الجنة ومأواه جهنم وساءت مصیراً ، ولم یزل فی سخط اللّه حتّی یموت(3) .

ومنها : خبر عبد العظیم بن عبد اللّه الحسنی عن محمد بن علی الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی حدیث طویل : وأمّا التی کانت تحرق وجهها وبدنها وهی تجرّ أمعاءها فإنّها کانت قوّادة ، الحدیث(4) .

ومنها : معتبرة إبراهیم بن زیاد الکرخی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : لعن

ص: 41


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 381 .
2- (2) سورة النور / 19 .
3- (3) عقاب الأعمال / 337 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 20 / 351 ح 2 . الباب 27 من أبواب النکاح المحرّم .
4- (4) وسائل الشیعة 20 / 213 ح 7 . الباب 117 من أبواب مقدمات النکاح .

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الواصلة والمستوصلة ، یعنی الزانیة والقوّادة(1) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ الحسین بن إبراهیم المکتب ، وهو من مشایخ الصدوق ، وإن لم یکن ثقة فهو حسنٌ . وأمّا إبراهیم بن زیاد الکرخی وإن لم یکن له توثیق خاص ولکن روی عنه ابن أبی عمیر بسند صحیح فی الکافی 2 / 292 ح 11 وصفوان بن یحیی فیه 6 / 30 ح 1 والحسن بن محبوب وغیرهم وله أکثر من أربعین روایة فی الکتب الأربعة ، فهو لا أقل من کونه من المعاریف ولم یرد فیه قدح ، فهو معتبر عندنا . ودلالتها علی الحرمة واضحة .

ومنها : معتبرة سعد الإسکاف قال : سُئل أبو جعفر علیه السلام عن القرامل(2) التی تضعها النساء فی رؤوسهنّ یصلنه بشعورهنّ ، فقال : لا بأس علی المرأة بما تزیّنت به لزوجها .

قال : فقلت : بلغنا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لعن الواصلة والموصولة ، فقال : لیس هنالک ، إنّما لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الواصلة التی تزنی فی شبابها ، فلمّا کبرت قادت النساء إلی الرجال ، فتلک الواصلة والموصولة(3) .

ومنها : مرسلة أبی سعید قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یدخل الجنة عاقٌ ولا منّان ولا دیّوث ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة ورام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم عن جبرئیل علیه السلام قال : إطلعت فی النار فرأیت وادیّاً فی جهنم یغلی ، فقلتُ : یا مالک لمن هذا ؟ فقال : لثلاثة : المحتکرین ، والمدمنین الخمر ، والقوادین(5) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم الواصلة والمؤتصلة ، یعنی : الزانیة والقوادة(6) .

ص: 42


1- (1) وسائل الشیعة 20 / 351 ح 1 .
2- (2) القرامل : ما تشدّه المرأة فی شعرها من خیوط .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 132 ح 3 . الباب 19 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) مستدرک الوسائل 13 / 111 ح 7 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 426 ح 11 . الباب 27 من آداب التجارة .
6- (6) وسائل الشیعة 28 / 172 ح 2 . الباب 5 من أبواب حد السحق والقیادة .

وقد ورد حدّها فی بعض الروایات بخمسة وسبعین سوطاً ، وأفتی بها المشهور ، وهی خبر عبد اللّه بن سنان قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أخبرنی عن القوّاد ما حدّه ؟ قال : لا حدّ علی القوّاد ، ألیس علی أن یعطی الأجر علی أن یقود ؟ ! قلت : جعلت فداک ، إنّما یجمع بین الذکر والاُنثی حراماً ، قال : ذاک المؤلِّف بین الذکر والاُنثی حراماً ، فقلت : هو ذاک ، قال : یضرب ثلاثة أرباع حدّ الزانی خمسة وسبعین سوطاً ، وینفی من المصر الذی هو فیه ، الحدیث(1) .

ورجال السند کلّهم ثقات إلاّ محمد بن سلیمان ، وهو البصری الدیلمی لأنّه المعروف المشهور کما فی معجم رجال الحدیث(2) ، ولکنّه ضعیف کما فی النجاشی(3) ورجال الشیخ(4) ، وقد یرمی بالغلو(5) . وبه صار السند ضعیفاً ، فالتعبیر عنها بالصحیحة(6) غیر تام .

نعم ، یمکن جبران ضعف سندها بإفتاء المشهور علی طبقها .

ویؤیدها ما ورد فی الفقه الرضوی : وإن قامت بیّنة علی قوّاد جُلد خمسة وسبعین ونفی عن المصر الذی هو فیه ، وروی أنّ النفی هو الحبس سنة أو یتوب(7) .

والحاصل ، أنّ القیادة من المحرّمات الشرعیة وضعاً وتکلیفاً ، بل هی من الکبائر الموبقة کما عدّه عمّنا الأکرم فی رسالته فی المعاصی الکبیرة(8) ، ویثبت له الحدّ خمس وسبعون جلدة ثلاثة أرباع حدّ الزانی کما هو المشهور . قال فی الجواهر : « بلا خلاف أجده فیه ، بل فی

ص: 43


1- (1) وسائل الشیعة 28 / 171 ح 1 .
2- (2) معجم رجال الحدیث 16 / 134 .
3- (3) رجال النجاشی / 365 الرقم 987 .
4- (4) رجال الشیخ / 386 الرقم 2 .
5- (5) رجال الشیخ / 359 الرقم 10 .
6- (6) کما فی المکاسب 1 / 385 للشیخ الأنصاری قدس سره .
7- (7) الفقه الرضوی / 310 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 18 / 87 ح 1 . الباب 5 من أبواب حد السحق والقیادة .
8- (8) معاصی کبیرة / 111 لآیة اللّه الشیخ محمد علی النجفی المتوفی عام 1318 .

المسالک(1) ومحکی الإنتصار(2) والغنیة(3) الإجماع علیه»(4) . بلا فرق بین أن یکون القواد رجلاً أو إمرأة ، وبلا فرق بین أن یجمع بین الرجل والمرأة للزنا أو بین رجل ورجل آخر للواط ، وقد نقل عن بعضهم(5) بین المرأة والمرأة للسحق .

وقد ناقش شیخنا الأستاذ - مدظله -(6) فی ثبوت الحدّ ، لضعف الروایة ، وذهب إلی أنّ للحاکم تعزیره بما یراه من المصلحة ، وهذا مناسباً لتأدیبه .

وفیه : ما مرّ منّا من انجبار ضعف سندها بفتوی المشهور علی طبقها ، والشهرة ینجبر ضعفها فی الجلدة ونفی البلد ، وأمّا حلق الرأس والإشهار کما ذهب إلی الأخیر ابن إدریس(7) وعن الإنتصار(8) والغنیة(9) الإجماع کما نقل عنهم صاحب الجواهر(10) ، وکما أفتی به فی الجملة المفید(11) والشیخ(12) وأبو الصلاح(13) والسلار(14)

ص: 44


1- (1) المسالک 14 / 422 .
2- (2) الإنتصار / 515 .
3- (3) الغنیة / 427 .
4- (4) الجواهر 41 / 400 .
5- (5) کما عن الکافی / 410 لأبی الصلاح الحلبی ، ویمکن حمل عبارة یحیی بن سعید فی الجامع / 557 علیه وحمل العبارة الموجودة فیه علی الغلط المطبعی بعد الرجال والنساء ، والصحیح : النساء والنساء ، وکما عن جامع الخلاف والوفاق / 584 والغنیة / 427 والإصباح / 519 ونقل عنهم فی کشف اللثام 10 / 507 والجواهر 41 / 399 .
6- (6) إرشاد الطالب 1 / 224 .
7- (7) السرائر 3 / 471 .
8- (8) الإنتصار / 515 .
9- (9) الغنیة / 427 .
10- (10) الجواهر 41 / 400 .
11- (11) المقنعة / 791 .
12- (12) النهایة / 710 .
13- (13) الکافی فی الفقه / 410 .
14- (14) المراسم / 257 .

والبیهقی(1) وابن سعید(2) .

فإن ثبت الإجماع فی الحلق والإشهار فهو وإلا إنکار الاستاذ - مدظله - فی هذین الأخیرین فی محلّه .

فیثبت حدّ القیادة بثلاثة أرباع حدّ الزانی ، خمسة وسبعون سوطاً ونفی البلد بالنسبة إلی الرجل ، وأمّا الحلق والإشهار منوط بثبوت الإجماع ، والتفصیل یطلب من کتاب الحدود ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 45


1- (1) إصباح الشیعة / 519 .
2- (2) الجامع للشرائع / 557 .

القیافة

اشارة

هاهنا مقامات من البحث حول القیافة :

المقام الأوّل : تعریف القیافة

لابدّ فی تعریفها من ملاحظة کلمات أهل اللغة وتعاریف الفقهاء :

قال أحمد بن فارس : « القاف والراء والفاء کلمةٌ ، وهی من باب القَلْب ولیست أصلاً ، یقولون : هو یقوف الأثَرَ ویَقْتافُه بمعنی یقفو . ویقولون : أخذ بقُوفَةِ قَفاه ، وهو الشَّعْرُ المتدلِّی فی نُقْرة(1) القَفا»(2) .

وقال ابن منظور : « القائف الذی یَعرف الآثار ، والجمع القافة ... القائف الذی یتتبع الآثار ویعرفها ویعرف شبَه الرجل بأخیه وأبیه ... ومنه قیل للذی ینظر إلی شبه الولد بأبیه : قائف ، والقیافة : المصدر ... »(3) .

وقال الفیومی : « قاف الرجلُ الأثَرَ قَوْفاً من باب قال ، تَبِعَهُ ، واقْتَافَهُ کذلک ، فهو قَائِف ، والجمع قَافَةٌ مِثْل کَافِر وکَفَرَةِ ، ومُقْتاف»(4) .

وقال ابن الأثیر : « القائف : الذی یتتبع الآثار ویعرفها ، ویعرف شبه الرجل بأخیه وأبیه ، والجمع : القافة . یقال : فلان یقوف الأثر ویقتافه قیافة ، مثل قفا الأثر واقتفاه»(5) .

وقال الجوهری : « القائف : الذی یعرف الآثار والجمع القَافَةُ ، تقول : قفتُ أثَرَه : إذا

ص: 46


1- (1) ثقب فی القفا .
2- (2) معجم مقاییس اللغة 5 / 42 .
3- (3) لسان العرب 11 / 349 .
4- (4) المصباح المنیر / 519 .
5- (5) النهایة 4 / 121 .

تبعْتَه ، مثل قفوت أثره»(1) .

قال فی القاموس : « القائف : مَنْ یَعْرِفُ الآثارَ ، جمعه قافَةٌ ... »(2) .

وقال الطریحی : « وفی الحدیث : لا آخذ بقول قائفٍ ، هو الذی یعرف الآثار ویُلحق الولد بالوالد والأخ بأخیه ، والجمع قافة ، من قولهم قفت أثره إذا تبعته مثل قفوت أثره . وقاف الرجل یقوف قوفاً من باب قال : تبعه»(3) .

وقال فی المنجد : « القائف : اسم الفاعل ، الذی یعرف النسب بفراسته ونظره إلی أعضاء المولود ، جمعه قافة ، والقَوَاف والقَوَّاف : الذی یتتبَّع الآثار ویعرفها»(4) .

أقول : قد ظهر من کلمات أهل اللغة أنّ القائف هو الذی یعرف شبه الرجل بأبیه وأخیه ویحکم بالنسب بنظره إلی أعضاء المولود .

وأمّا الفقهاء أعلی اللّه کلمتهم یقولون فی تعریفها :

قال الفاضل المقداد : « التفرّس لإلحاق الأبناء بالآباء بسبب اتفاقهم فی صفة من الصفات»(5) .

وقال المحقق الثانی : « هی إلحاق الأنساب بما یزعم أنه یعلمه من العلامات ، أو إلحاق الآثار إذا رتّب علیه محرّماً ، أو جَزْمٌ بنسبه مِنْ زَعْمِ عِلْمه بکونه أثَرَه»(6) .

وعرّفها الشهید الثانی بقوله : « هی الإستناد إلی علامات ومقادیر یترتب علیها إلحاق بعض الناس ببعض ونحوه ، إنّما یحرم إذا جزم به ، أو رتّب علیه محرّماً»(7) .

ص: 47


1- (1) الصحاح 2 / 1084 .
2- (2) قاموس اللغة / الطبع الحجری مادة قوف ، (3 / 188) .
3- (3) مجمع البحرین / 420 الطبع الحجری ، مادة قوف ، (5 / 110) .
4- (4) المنجد / 702 .
5- (5) التنقیح الرائع 2 / 13 .
6- (6) جامع المقاصد 4 / 33 .
7- (7) المسالک 3 / 129 .

أقول : قد عرّفها فی الروضة البهیة(1) بنحو هذا التعریف أو قریباً منه .

وقال المحقق الأردبیلی : « قیل : القیافة هی الإستناد إلی علامات یترتب علیها إلحاق بعض الناس ببعض ونحوهم ، وإنّما تحرم إذا جزم أو رتب علیه محرّماً . والظاهر أنّ ترتب الأحول من الحفظ والذکاء والبلاهة وغیرها علی علامات - مثل علو الجبهة وعلوّ القفا ومؤخر الرأس - داخل فیها»(2) .

وقد نقل أصحاب الکفایة(3) والحدائق(4) وشرح القواعد(5) وریاض المسائل(6) والمستند(7) والجواهر(8) فی تعریفها ما ذکره ثانی الشهیدین فی المسالک .

أقول : القیافة کما یظهر من تعاریفهم هی الإلحاق فی النسب بالإستناد إلی علامات وتقادیر وصفات وآثار ، وقد قیّد الشهید فی الدروس(9) بماذا إذا ترتب علیها محرّم ، وزید فی المیسیة(10) وجامع المقاصد(11) والمسالک(12) والروضة(13) والمفاتیح(14) بما إذا جزم بها . والتقیید فی محلّه .

ص: 48


1- (1) الروضة البهیة 3 / 215 .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 80 .
3- (3) کفایة الأحکام 1 / 441 .
4- (4) الحدائق 18 / 182 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 261 .
6- (6) ریاض المسائل 8 / 168 .
7- (7) مستند الشیعة 14 / 117 .
8- (8) الجواهر 22 / 92 .
9- (9) الدروس 3 / 165 .
10- (10) المیسیة مخطوطة کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12 / 271 .
11- (11) جامع المقاصد 4 / 33 .
12- (12) المسالک 3 / 129 .
13- (13) الروضة البهیة 3 / 215 .
14- (14) مفاتیح الشرائع 2 / 24 .

وبالجملة ، الحرام فی الشریعة المقدسة بالنسبة إلیها حرمة العمل بقول القافة وترتیب الأثر المحرَّم علیه .

المقام الثانی : أدلة حرمتها
1 - الإجماع وعدم وجود المخالف فی حرمتها :

قد أفتی بالحرمة الشیخ فی النهایة(1) وابن إدریس فی السرائر(2) والمحقق فی النافع(3) والشرائع(4) والعلامة فی التذکرة قال : « والقیافة حرام عندنا»(5) . وقال فی النهایة : « القیافة حرام عند علمائنا کافة ، لأنّ النسب عندنا لا یثبت بها بل بالقرعة ، فلا یجوز سلوک هذا الطریق»(6) . وقد أفتی بالتحریم فی القواعد(7) والتحریر(8) ، وفی المنتهی(9) ذهب إلی وجود الإجماع علی حرمتها . وقال الشهید : « ویحرم القیافة والتکسّب بها ، سواء استعمل فی إلحاق الأنساب أو فی قفو الآثار إذا ترتب علیها حرام»(10) . وقال الفاضل المقداد : « القیافة حرام عندنا»(11) . وقال الأردبیلی : « ولعلّ دلیل التحریم الإجماع المذکور فی المنتهی»(12) . وقال

ص: 49


1- (1) النهایة / 366 .
2- (2) السرائر 2 / 218 .
3- (3) المختصر النافع / 117 .
4- (4) الشرائع 2 / 4 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 145 مسألة 650 .
6- (6) نهایة الإحکام 2 / 472 .
7- (7) القواعد 2 / 9 .
8- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 .
9- (9) منتهی المطلب 2 / 1014 من الطبع الحجری .
10- (10) الدروس الشرعیة 3 / 165 .
11- (11) التنقیح الرائع 2 / 13 .
12- (12) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 80 .

السبزواری : « لا أعلم خلافاً بینهم أیضاً فی تحریم القیافة»(1) . وقال صاحب الحدائق : « المسألة السابعة فی السحر ونحوه من القیافة والکهانة والشعبذة ، ولا خلاف فی تحریم الجمیع وأخذ الاُجرة علیه»(2) . وقال الشیخ جعفر بعد الحکم بالحرمة : « لصریح نقل الإجماع فیه من بعض وظهوره من آخرین»(3) . وقال فی الریاض : « بلا خلاف»(4) . وقال فی الجواهر : « وکأنّه لا خلاف فی تحریمها نحو الکهانة بل لعلّها فرد منها فتندرج تحت ما دلّ علی حرمتها»(5) .

وقال فی برهان الفقه بعد نقل عدم الخلاف والإجماع عن الأصحاب « وهو الحجة»(6) .

ولکن مع ذلک وسوس صاحب الحدائق فی أصل الحرمة(7) وقال : « وبالجملة فالدلیل من الأخبار علی التحریم غیر ظاهر ولیس إلاّ ما یدعی من الإجماع»(8) .

وتبعه الفاضل النراقی وقال : « فإن ثبت الإجماع فهو المتّبع وإلاّ ففیه نظر»(9) .

أقول : الظاهر أنّ الإجماع علی الحرمة ثابت عند أصحابنا قدس سرهم ، وقد حکی الفاضل المقداد(10) الخلاف فیه عن بعض المخالفین لبعض روایاتهم ، وقال فی المصباح : « خلافاً لأکثر العامة ، فإنّهم جوّزوا العمل بقول القافة استناداً إلی جملة من الروایات الواردة من طرقهم »(11) .

ص: 50


1- (1) کفایة الأحکام 1 / 441 .
2- (2) الحدائق 18 / 171 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 261 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 168 .
5- (5) الجواهر 22 / 92 .
6- (6) برهان الفقه / کتاب التجارة ، 32 الطبع الحجری .
7- (7) کما عبر هکذا صاحب الجواهر 22 / 92 .
8- (8) الحدائق 18 / 184 .
9- (9) مستند الشیعة 14 / 117 .
10- (10) التنقیح الرائع 2 / 13 .
11- (11) مصباح الفقاهة 1 / 382 .
2 - النسب لا یثبت إلاّ بالأدلة الشرعیة

من المعلوم أن الأصل النافی والاستصحاب یقتضیان نفی النسب ، وطریق ثبوته منحصر بالإقرار أو الولادة علی الفراش ونحوهما ممّا ورد فی الشریعة المقدسة ، وأمّا الإعتماد علی الاستحسانات الحاصلة من ملاحظة أعضاء البدن علی الوجه الذی قرّر فی علم القیافة یوجب نقض أحکام الإرث والنکاح والدیات وغیرها ، ویوجب الفضیحة علی المسلمین حیث یرون أنّ أولادهم یلحقون بغیرهم بحکم القافة ، بل نفس مشروعیة اللعان أوضح شیء علی عدم اعتبار هذا العلم حیث انحصر نفی النسب الثابت به .

مضافاً إلی أنّ قول القافة لا یحصل به إلاّ الظن ، والآیات الواردة فی النهی عن اتباع الظن والروایات الکثیرة الناهیة عن العمل بالظن تشملانه ، ولم یدل دلیل علی اعتبار الظن الحاصل من قولهم ، بل روایاتنا تدلّ علی عدم العبرة بقولهم کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی .

قال الفقیه المتتبع السید جواد العاملی قدس سره فی بطلان القیافة وحرمتها : « وهو الموافق لأصول المذهب والإعتبار ، لأنّه یلزم منها إلحاق شخص بآخر الموجب لترتب الأحکام الکثیرة بممجرد ظن لا دلیل علیه شرعاً بل الدلیل علی خلافه ، وذلک ممّا تأباه أصول المذهب ومحاسن الشریعة ، بل یحکم أهل العقول بطیش عقل الملحق به أو أنّه أحمق»(1) .

3 - الروایات تنهی عن اتباع قول القافة

بعض الروایات تنفی اعتبار علم القیافة :

منها : صحیحة محمد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال : کان أمیر المؤمنین علیه السلام یقول : لا آخذ بقول عرّاف(2) ولا قائف ولا لصّ ، ولا أقبل شهادة فاسق إلاّ علی نفسه(3) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من تکّهن أو تکّهن له فقد بریء من دین محمد صلی الله علیه و آله وسلم . قال : قلت : فالقیافة ؟ قال : ما اُحبّ أن تأتیهم ، وقیل : ما یقولون شیئاً إلاّ کان قریباً ممّا یقولون ، فقال : القیافة فضلة من النبوة ذهبت فی الناس حین بعث

ص: 51


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 269 .
2- (2) قال صاحب الوسائل 17 / 149 : « فسّر بعض أهل اللغة العرّاف بالکاهن وبعضهم بالمنجم» .
3- (3) وسائل الشیعة 11 / 370 ح 2 . الباب 14 من أبواب آداب السفر .

النبی صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

ومنها : خبر الجعفریات بسنده المتصل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : من السحت ثمن المیتة . إلی أن قال : وأجر القافی(2) .

ومنها : مرسلة الطریحی قال : فی الحدیث : لا آخذ بقول قائفٍ(3) .

وأمّا قضیة عرض مولانا وإمامنا محمد بن علی الجواد علیه السلام فی زمن والده مولانا وإمامنا علی بن موسی الرضا علیه السلام ، التی وردت فیها روایتان :

الأولی : ما رواه أبو جعفر محمد بن جریر بن رستم الطبری الصغیر فی کتابه دلائل الإمامة بسنده إلی الإمام العسکری علیه السلام أنّه قال فی حدیث : وإنّهم أخذوه والرضا علیه السلام عند المأمون ، فحملوه إلی القافة وهو طفل بمکة فی مجمع من الناس بالمسجد الحرام فعرضوه علیهم ، فلمّا نظروا إلیه وزرقوه بأعینهم خرّوا لوجوههم سجداً ، ثمّ قاموا وقالوا لهم : یا ویحکم مثل هذا الکوکب الدری والنور المنیر یعرض علی أمثالنا ، وهذا واللّه الحسب الزکی والنسب المهذّب الطاهر ، واللّه ما تردّد إلاّ فی أصلاب زاکیة وأرحام طاهرة ، واللّه ما هو إلاّ من ذریة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام ورسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فارجعوا واستقیلوا اللّه واستغفروه ولا تشکّوا فی مثله . إلی أن قال : وبلغ الخبر الرضا علی بن موسی علیه السلام وما صُنع بابنه محمد علیه السلام ، فقال : الحمد للّه . ثمّ التفت إلی بعض مَنْ بحضرته من شیعته فقال : هل علمتم ما قد رُمِیَتْ به ماریة القِبطیّة وما ادُّعِی علیها من ولادتها إبراهیم ابن رسول اللّه ؟ - ثم بیّن علیه السلام قضیة إفک ماریة وقال فی ختام الحدیث : الحمد للّه الذی جعل فیَّ وفی ابنی محمد اُسوةً برسول اللّه وابنه إبراهیم ، الحدیث(4) .

وعلی هذه الروایة العرض علی القافة لم یکن بمحضر الرضا علیه السلام ورضایته ، بل عُرض

ص: 52


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 149 ح 2 . الباب 26 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 110 ح 1 . الباب 23 من أبواب ما یکتسب به ، و 13 / 69 ح 1 . الباب 5 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) مجمع البحرین / 420 الطبع الحجری مادة قوف ، (5 / 110) .
4- (4) دلائل الإمامة / (388 - 384) .

الإمام الجواد علیه السلام بمکة فی المسجد الحرام علی القافة ، ومن الواضح أنّه من کید المأمون وسیاسة سلطة الوقت .

فهذا النقل لا یدل علی اعتبار علم القیافة بوجه . مضافاً إلی ضعف سنده بأبی المفضل محمد بن عبد اللّه وهو ضعیف ، ومحمد بن إسماعیل الحسنی وهو إمامیٌ مجهول .

الثانیة : ما رواه الکلینی بسند لا یبعد حسنه ، وفیه : قالوا : فإن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قد قضی بالقافة فبیننا وبینک القافة ، قال : ابعثوا أنتم إلیهم فأمّا أنا فلا ، ولا تُعلموهم لما دعوتموهم ولتکونوا فی بیوتکم ... ثمّ جاؤوا بأبی جعفر علیه السلام فقالوا : ألحقوا هذا الغلام بأبیه ، فقالوا : لیس له ههنا أبٌ ولکن هذا عمّ أبیه وهذا عمّ أبیه وهذا عمّه وهذه عمته وإن یکن له ههنا أبٌ فهو صاحب البستان ، فإنّ قدمیه وقدمیه واحدة ، فلما رجع أبو الحسن علیه السلام قالوا : هذا أبوه ، الحدیث(1) .

وقد یُستشکل علی الروایة بوجوهٍ :

أوّلاً : بضعف السند ، لأنّ زکریا بن یحیی الصیرفی مجهولٌ .

وثانیاً : أنّها مشتملة علی تقریر الإمام علیه السلام بأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قد قضی بالقافة .

وثالثاً : اشتملت علی عرض أخوات الإمام علیه السلام وعمّاته علی القافة ، وهو حرام بلا ریب لا یصدر منه علیه السلام .

ویمکن أن یجاب :

عن الأوّل : بأنّ الروایة متلقاة بالقبول من جانب الأصحاب قدس سرهم ، مضافاً إلی قول المامقانی فی حقِّ زکریا بأنّه إمامیٌّ لا یبعد حسنه ، وبعد قبول هذا القول صار السند حسناً .

وعن الثانی : بأنّه یؤید الإمام علیه السلام قضاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالقافة ، بل بعد أن أجبر بواسطة إخوته وعمومته قال : « ابعثوا أنتم إلیهم فأمّا أنا فلا» وهذه الفقرة تدلّ بوضوح إلی عدم اعتبار قول القافة عند الإمام وعدم جواز تبعیتهم .

وعن الثالث : بأنّ الضرورات تبیح المحذورات ، وضرورة إثبات الإمامة تکون أهمّ

ص: 53


1- (1) الکافی 1 / 322 ح 14 .

من ستر أخوات الإمام وعمّاته .

ویمکن أن یقال : بأنّ عرضهنَّ وقع من جانب إخوة الإمام وعمومته ولم یأمر الإمام بها بل ولم یرض بها .

وبالجملة ، عرض مولانا وإمامنا أبی جعفر محمد بن علی الجواد علیه السلام علی القافة أمرٌ قطعیٌّ وقع فی تلک الأعصار لکن دون إثبات أنّ العرض کان بأمر الإمام علی بن موسی الرضا علیه آلاف التحیة والثناء أو بأمر ابنه الإمام الجواد علیه السلام أو برضایتهما أو رضایة أحدهما خرط القتاد . فلا یدلّ هذا العرض علی حجیة قول القافة ولا یثبت صحة أو تأیید علم القیافة . واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 54

الکذب

اشارة

یقع الکلام فیه فی ضمن فصول :

الفصل الأوّل : تعریفه

الکلام إمّا إنشاءٌ وإمّا إخبارٌ ، والإخبار إمّا مطابقٌ للواقع فیُسمی صدقاً وإمّا غیر مطابقٍ للواقع فیسمی کذباً .

وهذا التعریف یؤیده الوجدان ویقرّ به الناس علی مختلف طبقاتهم وأعصارهم وأمصارهم .

الفصل الثانی : أدلة حرمة الکذب
اشارة

الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمته :

1 - الکتاب :

آیات کثیرة من الکتاب تدلّ علی حرمته :

منها : قوله تعالی : «وَیَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَی مَکَانَتِکُمْ إِنِّی عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن یَأْتِیهِ عَذَابٌ یُخْزِیهِ وَمَنْ هُوَ کَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّی مَعَکُمْ رَقِیبٌ»(1) .

ومنها : قوله تعالی : «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن یَقُولَ رَبِّیَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءکُم بِالْبَیِّنَاتِ مِن رَّبِّکُمْ وَإِن یَکُ کَاذِباً فَعَلَیْهِ کَذِبُهُ وَإِن یَکُ صَادِقاً یُصِبْکُم بَعْضُ الَّذِی یَعِدُکُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ یَهْدِی مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ کَذَّابٌ»(2) .

ص: 55


1- (1) سورة هود / 93 .
2- (2) سورة غافر / 28 .

ومنها : قوله تعالی : «وَیَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا یَکْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْکَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَی لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ»(1) .

2 - السنة الشریفة :

عدّة من الروایات المعتبرة المتواترة تدلّ علی حرمة الکذب :

منها : معتبرة فضیل بن یسار بل موثقته عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ أوّل مَنْ یُکَذِّبُ الکذّابَ اللّه عزّ وجلّ ، ثمّ الملکان اللذان معه ، ثمّ هو یعلم أنّه کاذب(2) .

ومنها : صحیحة عمر بن یزید قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إنّ الکذّاب یهلک بالبینات ویهلک أتباعه بالشبهات(3) .

ومنها : موثقة أو صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ جعل للشرّ أقفالاً وجعل مفاتیح تلک الأقفال الشراب ، والکذب شرّ من الشراب(4) .

ومنها : موثقة عبید بن زرارة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إنّ ممّا أعان اللّه به علی الکذّابین النسیان(5) .

ومنها : صحیحة معمر بن خلاد عن الرضا علیه السلام قال : سُئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یکون المؤمن جباناً ؟ قال : نعم ، قیل : ویکون بخیلاً ؟ قال : نعم ، قیل : ویکون کذّاباً ؟ قال : لا(6) .

ومنها : حسنة عبد اللّه بن عجلان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إنّ العبد إذا صدق کان أوّل من یصدّقه اللّه ونفسه تعلم أنّه صادق ، وإذا کذب کان أوّل من یکذّبه اللّه ونفسه تعلم أنّه کاذب(7) .

ص: 56


1- (1) سورة النحل / 62 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 243 ح 1 . الباب 138 من أبواب أحکام العشرة .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 243 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 244 ح 3 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 245 ح 7 .
6- (6) المحاسن 1 / 209 ح 154 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 245 ح 11 .
7- (7) وسائل الشیعة 12 / 247 ح 15 .

ومنها : صحیحة ابن رئاب قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إنّ المؤمن لا یکون سجیته الکذب والبخل والفجور ، وربّما ألمّ من ذلک شیئاً لا یدوم علیه . قیل : فیزنی ؟ قال : نعم ، ولکن لا یولد له من تلک النطفة(1) .

ومنها : صحیحة معاویة بن وهب قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إنّ آیة الکذّاب بأن یخبرک خبر السماء والأرض والمشرق والمغرب ، فإذا سألته عن حرام اللّه وحلاله لم یکن عنده شیءٌ(2) .

ومنها : صحیحة أبی الصباح الکنانی عن الصادق علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث : شرّ الروایة الکَذِبَ ، الحدیث(3) .

ومنها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ فی من ینتحل هذا الأمر لمن یکذب حتّی یحتاج الشیطان إلی کذبه(4) .

تلک عشرة کاملة من الروایات المعتبرة حول حرمة الکذب وقبحه ، فإن شئت أکثر ممّا تلوناه علیک فراجع الکافی 2 / 338 وعقاب الأعمال / 318 وجامع الأخبار / 417 والوافی 5 / 927 وبحار الأنوار 69 / 232 ووسائل الشیعة 12 / 243 ومستدرک الوسائل 9 / 83 وجامع أحادیث الشیعة 17 / 143 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 305 .

3 - الإجماع :

الإجماع من المؤمنین بل من المسلمین قائم علی حرمة الکذب ، بل حرمته من ضروریات المذهب ، بل الدین ، بل جمیع الأدیان الإلهیة .

ص: 57


1- (1) الکافی 2 / 442 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 307 ح 11 .
2- (2) الکافی 2 / 340 ح 8 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 308 ح 14 .
3- (3) أمالی الصدوق . المجلس الرابع والسبعون ح 1 / 576 الرقم 788 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 311 ح 27 .
4- (4) أمالی الطوسی . المجلس الرابع عشر ح 81 / 414 الرقم 933 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 312 ح 33 .

ولکن من المعلوم أنّ هذا الإجماع مستند إلی ما مرّ من أدلة الکتاب والسنة ، فهو إجماع مدرکیٌّ ولیس بتعبدی .

4 - العقل :

العقل یحکم بقبح الکذب فطرةً ، سواء ترتب علیه المفسدة والمضرة أم لا ! وإذا ترتب علیه المفاسد والمضرات دنیویة کانت أو اُخرویة والحکم بقبحه وحرمته واضح ، ولکنه حینئذ لا یختص بالکذب فقط ، بل یجری فی کلِّ ما استلزم شیئاً من هذه الاُمور ولو کان صدقاً .

فحکم العقل بقبح الکذب لا یختص بترتب المفسدة والمضرة حتّی یستلزم هذا الإشکال ، خلافاً للمحقق الخوئی قدس سره فی مصباحه(1) حیث قیّد حکم العقل بقبح الکذب بترتب المفسدة والمضرة علیه .

الفصل الثالث : هل الکذب مطلقاً من الکبائر ؟

یمکن أن یُستدل بأنّ الکذب من الکبائر مطلقاً بعدّة من الروایات :

منها : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون : عدّ الکذب من الکبائر(2) .

ومنها : خبر الأعمش عن الصادق علیه السلام فی حدیث شرائع الدین : عدّ الکذب من الکبائر(3) .

ومنها : موثقة أو صحیحة محمد بن مسلم(4) الماضیة .

ومنها : خبر أنس قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : المؤمن إذا کذب بغیر عذر ، لعنه سبعون ألف ملک ، وخرج من قلبه نتن حتّی یبلغ العرش فیلعنه حملة العرش ، وکتب اللّه علیه بتلک

ص: 58


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 385 .
2- (2) وسائل الشیعة 15 / 329 ح 33 . الباب 46 من أبواب جهاد النفس .
3- (3) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 244 ح 3 .

الکذبة سبعین زنیة ، أهونها کمن یزنی مع اُمّه(1) .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی عن الإمام العسکری علیه السلام أنّه قال : جعلت الخبائث فی بیت وجُعل مفتاحه الکذب(2) .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر قال فیها : یا أبا ذر ویلٌ للذی یحدّث فیکذب لیُضحک به القوم ، ویل له ، ویل له ، الحدیث(3) .

ویمکن أن یُستدل بأنّ الکذب من الکبائر بقوله تعالی : «إِنَّمَا یَفْتَرِی الْکَذِبَ الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ بِآیَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِکَ هُمُ الْکَاذِبُونَ»(4) .

بتقریب : أن الآیة جعلت الکاذب غیر مؤمن بآیات اللّه ، کافراً بها : ویؤید هذا التقریب تطبیق الإمام الرضا علیه السلام الآیة الشریفة علی الکذّاب فی مرسلة العباس بن هلال عن أبی الحسن الرضا علیه السلام أنّه ذکر رجلاً کذّاباً ، ثم قال : قال اللّه : «إِنَّمَا یَفْتَرِی الْکَذِبَ الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ»(5) .

ولکن وردت فی قبالها عدّة من الروایات یظهر منها بأنّه لیس بإطلاقه من الکبیرة :

منها : حسنة أبی خدیجة سالم بن مکرم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الکذب علی اللّه وعلی رسوله من الکبائر(6) .

ومنها : خبر آخر له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الکذب علی اللّه وعلی رسوله وعلی الأوصیاء علیهم السلام من الکبائر(7) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من قال علیَّ ما لم أقل فلیتبّوأ

ص: 59


1- (1) مستدرک الوسائل 9 / 86 ح 15 .
2- (2) الدرة الباهرة / 43 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 251 ح 4 .
4- (4) سورة النحل / 105 .
5- (5) تفسیر العیاشی 3 / 24 ح 70 ونقل عنه فی البرهان 3 / 456 ح 1 .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 248 ح 3 .
7- (7) وسائل الشیعة 15 / 327 ح 25 . الباب 46 من أبواب جهاد النفس .

مقعده من النار(1) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : الکذّاب هو الذی یکذب فی الشیء ؟ قال : لا ، ما من أحد إلاّ یکون ذاک منه ، ولکن المطبوع علی الکذب(2) .

ومنها : ما رواه سیف بن عمیرة فی الصحیح عمّن حدثه عن أبی جعفر علیه السلام قال : کان علی بن الحسین علیه السلام یقول لولده : اتقوا الکذب الصغیر منه والکبیر فی کلِّ جدٍّ وهزل ، فإنّ الرجل إذا کذب فی الصغیر اجترأ علی الکبیر ، أما علمتم أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : ما یزال العبد یصدق حتّی یکتبه اللّه صدّیقاً وما یزال العبد یکذب حتّی یکتبه اللّه کذّاباً(3) .

وأنت تری بأنّ ضعف أسناد بعضها وضعف دلالة بعضها الاُخر یوجب عدم تقیید المطلقات الماضیة بها ، فالکذب مطلقاً یکون من الکبائر ، لإطلاق ما ورد فی معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام (4) وغیرها وعدم ثبوت مقید لها .

واللّه سبحانه هو العالم .

الفصل الرابع : هل یحرم الکذب فی الهزل أم لا ؟

الکلام ینقسم إلی الجدّ والهزل ، ولا ریب فی حرمة الکذب فی الأوّل وأمّا الثانی فظاهر بعض الروایات حرمته فی الهزل أیضاً :

منها : صحیح سیف بن عمیرة عمّن حدثه عن أبی جعفر علیه السلام الماضیة آنفاً(5) .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر الماضی(6) .

ص: 60


1- (1) وسائل الشیعة 15 / 327 ح 26 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 245 ح 9 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 250 ح 1 الباب 140 من أبواب أحکام العشرة .
4- (4) وسائل الشیعة 15 / 329 ح 33 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 250 ح 1 .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 251 ح 4 .

ومنها : معتبرة الأصبغ بن نباتة قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا یجد عبد طعم الإیمان حتّی یترک الکذب هزله وجدّه(1) .

رجال السند کلّهم ثقات حتّی قاسم بن عروة ، لأنّه من المعاریف وله أکثر من 125 روایة ، وصرح المفید بوثاقته فی المسائل الصاغانیة ، فالرجل أیضاً ثقة ولا أقل من اعتباره .

ومنها : خبر الحارث عن علی علیه السلام قال : لا یصلح من الکذب جدّ ولا هزل ، ولا أن یَعِدَ أحدکم صبیّه ثمّ لا یفی له ، إنّ الکذب یهدی إلی الفجور والفجور یهدی إلی النار ، وما یزال أحدکم یکذب حتّی یقال : کذب وفجر ، وما یزال أحدکم یکذب حتّی لا یبقی فی قلبه موضع إبرة صدق ، فیسمّی عند اللّه کذّاباً(2) .

ومنها : خبر جبلة الأفریقی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : أنا زعیم ببیت فی رَبَض الجنة وبیت فی وسط الجنة وبیت فی أعلی الجنة لمن ترک المراء وإن کان حقّاً ولمن ترک الکذب وإن کان هازلاً ولمن حسن خُلقه(3) .

ومنها : الإطلاقات الواردة فی حرمة الکذب التی مرّ بعضها ، وهی تشمل الکذب فی الهزل أیضاً .

ولکن الکل یحمل علی الهزل الذی یکون إخباراً عن الواقع ، کأن یخبر بحدوث حادث أو قدوم مسافر ونحوهما ، وهذا الذی یکون حراماً بدلالة الروایات .

وأمّا الهزل الذی یکون إنشاءً فهو خارج عن الکذب موضوعاً وحکماً ، فلا یصیر حراماً بأدلته ، نحو أن ینشیء وصفاً لأحد بداعی الهزل ، کإطلاق العالم الکبیر علی الجاهل أو الأسد علی الجبان ، والفطن الذکی علی الأبله ونحوها . وهذا الهزل الإنشائی لا یدخل فی عنوان الکذب ، فلا یکون حراماً من جهته . نعم یمکن أن یصیر حراماً لانطباق بعض عناوین اُخری علیه ، نحو : الغیبة أو التهمة أو إیذاء المؤمن أو السخریة به أو غیرها .

ص: 61


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 250 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 250 ح 3 .
3- (3) الخصال 1 / 144 ح 170 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 237 ح 8 . الباب 135 من أبواب أحکام العشرة ، ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 310 ح 24 .
الفصل الخامس : هل خلف الوعد یدخل فی عنوان الکذب أم لا ؟

الوعد عبارة : أن یخبر المتکلِّم عن عزمه علی الوفاء بشیءٍ لِشخص آخر ، کأن یقول : إنّی عازم علی طبع کتابک ، أو إنّی ملتزم بالمجیء إلی زیارتک أو إکرامک . هذا الفرد یدخل فی عنوان الخبر فیصدق علیه الصدق والکذب ، غایة الأمر أنّه إخبارٌ عن الاُمور النفسانیة فإنّ کان صادقاً فی هذا الإخبار فهو من الصادقین وإلاّ فلا .

ثمّ بعد عزمه الأوّل علی الوفاء بحیث یکون صادقاً فیه ، یجب علیه الوفاء فی المستقبل والإتیان بما وعد أم لا ؟ یعنی هل یجب علیه تنجز وعده وتحقق عزمه فی الخارج بحیث لا یصیر کلامه ووعده کذباً أم لا ؟

ظهور بعض الروایات علی وجوب الوفاء بالوعد :

منها : خبر الحارث الأعور عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : لا یصلح من الکذب جدّ ولا هزل ولا أن یَعِدَ أحدکم صبیه ثمّ لا یفی له ، الحدیث(1) .

ومنها : صحیحة شعیب العقرقوفی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من کان یؤمن باللّه والیوم الآخر فلیفِ إذا وعد(2) .

ومنها : صحیحة هشام بن سالم قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : عِدَةُ المؤمن أخاه نذر لا کفارة له ، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ ، ولمقته تعرّض ، وذلک قوله : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * کَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ»(3)(4) .

ومنها : ما رواه الرضی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه کتب فی عهده إلی مالک الأشتر النخعی : وإیّاک والمنّ علی رعیتک بإحسانک ، أو التَّزَیُّدَ فیما کان من فعلک ، أو أن یَقِدَهم فَتُتْبِ-عَ موعدک بخُلفک ، فإنّ المَنَّ یُبطل الإحسان ، والتزیّد یذهب بنور الحقّ ، والخلف یوجب المقت

ص: 62


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 250 ح 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 165 ح 2 . الباب 109 من أبواب أحکام العشرة .
3- (3) سورة الصف / 2 و 3 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 165 ح 3 .

عند اللّه والناس . قال اللّه تعالی : «کَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ»(1) .

قد سبق أنّ لهذا العهد الشریف سنداً معتبراً . التزید : إظهار الزیادة فی الأعمال عن الواقع منها فی معرض الإفتخار .

ومنها : خبر أنس بن مالک قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : تقبّلوا لی بستٍّ أتَقبّل لکم بالجنة : إذا حدّثتم فلا تَکْذِبوا ، وإذا وَعَدْتُم فلا تُخْلِفوا ، وإذا إئتُمِنْتُم فلا تَخُونوا ، وغُضّوا أبصارکم ، واحْفَظُوا فُرُوجکم ، وکفّوا أیدیکم وألسنتکم(2) .

والروایات الواردة حول الصدق فی الوعد متعددة ، فإن شئت راجع وسائل الشیعة 12 / 164 ومستدرک الوسائل 8 / 458 وجامع أحادیث الشیعة 17 / 172 وکتابَیَّ ألف حدیث فی المؤمن / 333 وموسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 12 / 199 .

نعم ، ورد فی بعض الروایات أنّ الوعد بالنسبة إلی الزوجة والأهل یحسن وإن لم یف به ، نحو : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعلیٍّ علیه السلام (3) وخبر المحاربی(4) وخبر عیسی بن حسان(5) وخبری الجعفریات(6) ، فإن ظاهر هذه الروایات وجوب الوفاء بالوعد إلاّ بالنسبة إلی الزوجة والأهل . ولکن الأصحاب أعرضوا عن الوجوب وحکموا فیه بالإستحباب ، والسیرة القطعیة بین المتشرعة أیضاً تدلّ علی جواز خلف الوعد ، فلو کان حراماً لاشتهر وبان . وإن کان الاحتیاط فی الوفاء به موافق للروایات ، والوفاء موجب لعدم سقوط الفرد عن الاعتبار فی المجتمع ، والعقل والعقلاء أیضاً یحکمون بلزوم الوفاء به .

وأمّا الوعید : فالروایات والعقل والعقلاء والإعتبارات الأخری کلّها غیر حاکمة

ص: 63


1- (1) نهج البلاغة / الکتاب 53 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 8 / 459 ح 6 .
2- (2) أمالی الصدوق . المجلس العشرون ح 2 / 150 الرقم 147 - الخصال 1 / 321 ح 5 ونقل عنهما فی جامع أحادیث الشیعة 17 / 173 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 252 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 252 ح 2 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 253 ح 5 .
6- (6) الجعفریات / 171 و 176 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 94 ح 1 و 4 .

بلزوم الوفاء به ، بل تحسّن العفو والإغماض . وقد یحرم الوفاء به إذا کان الوعید یدخل فی الظلم والعدوان ، واللّه سبحانه هو العالم .

الفصل السادس : هل المبالغة ونظائرها من الکذب أم لا ؟

المبالغة ونظیرها من الکنایة والتشبیه والاستعارة والمجاز إذا اُرید بها الإخبار عن الواقع تتصف بالصدق والکذب أعنی أنه لابدّ من وجود أصل الشیء ثمّ التعبیر به علی هذه الوجوه من نصب القرینة علیه فحینئذ تتصف بالصدق . وأمّا إذا لم یکن أصل الشیء ثمّ عبر عنه بهذه الوجوه - نظیر استعمال الأسد فی الجبان والقمر فی الکریهة المنظر وکثیر الرماد وهزال الفصیل فی الخسیس ونحوها - فیصیر کذباً بلا فرق بین المبالغة ونظائرها .

وإمّا إذا کانت المبالغة ونظائرها استعملت فی إنشاء المدح أو الذم فإنّها لا تتصف بالصدق والکذب ، لأنّها إنشاء ، والإنشائیات کما مرّ لا تتصف بهما بخلاف الإخباریات . ولعلّ إلی هذا القسم ینظر مَنْ رأی خروج المبالغة عن الکذب موضوعاً . واللّه العالم .

وهذا البیان یجری فی النظم والنثر والهزل والجدّ ، فالمبالغة ونظائرها فی النظم والهزل الإخباری یمکن أنْ یتصف بالکذب ، ولذا قال المحقق فی شهادات الشرائع : « یحرم من الشعر ما تضمّن کذباً»(1) . وأمّا إذا کانت المبالغة ونظائرها فی النظم والهزل الإنشائی دون الإخباری زادت فی حسنه ، بل قیل : أکذبه أعذبه . ویخرج عن الاتصاف بالصدق والکذب .

الفصل السابع : التوریة

وهی استعمال اللفظ فی معنیین أحدهما قریب والآخر بعید ، فیقصد المتکلّم المعنی البعید ویوهم السامع المعنی القریب . ویسمّها العرب بالملاحن والمعاریض وتقول فیها : إنّ فی المعاریض مندوحة عن الکذب . واختلف الفقهاء فی وجوبها لدی الإضطرار إلی الکذب ، قال العلامة فی مسألة الودیعة إذا طالبها ظالم : « ویجوز الحلف کاذباً للمصلحة ، ویجب التوریة علی

ص: 64


1- (1) الشرائع 4 / 128 .

العارف»(1) . وقال المحقق الکرکی : « ولو اقتضت المصلحة الکذب وجبت التوریة»(2) . وناقش کلام العلامة بقوله : « حیث تقتضی ثبوت الکذب مع التوریة ومعلوم أن لا کذب معها»(3)(4) .

وقال الفقیه العاملی بعد نقل کلام المحقق الکرکی الأوّل منهما : « فتأمّل ، لأنّ ظواهر الأدلة علی خلاف ذلک»(5) . وذهب إلی عدم وجوبها فی الجواهر(6) تبعاً لأستاذهما فی شرح القواعد(7) .

والتوریة نحو قولک : « ما رأیتُ زیداً ولا کلّمته» ، فإنّک تُفهِم السامع عدم رؤیتک له وتکلّمک معه ، وتضمر فی نفسک أنّک ما ضربتَ ریته ولا جرحتَه .

والفرض فی هذه التوریة إغفال السامع عن المراد وإخفاء الواقع علیه وتمویه الأمر علیه ، فلزم فیها اختلاف المعنیین ظهوراً وخفاءً وکون المراد هو الخفی منهما ولکن السامع ینتقل إلی المعنی القریب والظاهر . هذه هی التوریة العرفیة ، ولکن التوریة البدیعیة غیرها ، وهی التی یقصد المتکلّم إفهام المعنیین معاً ، وربّما لم یکن بینهما خفاء فی الظهور بل یکونان متکافئین فی ظهور . وإذا کانا کذلک ، کانت أبدع فی الصنعة وأملح فی الذوق ، ومع اختلافهما فی الظهور فکثیراً ما یرشّح البعید بما یقرّبه إلی المعنی الآخر احتیالاً من المتکلّم فی جعلهما فی مرتبة واحدة أو فی درجتین متقاربتین .

ص: 65


1- (1) قواعد الأحکام 2 / 188 .
2- (2) جامع المقاصد 4 / 27 .
3- (3) جامع المقاصد 6 / 38 .
4- (4) ومن القائلین بوجوب التوریة : المفید فی المقنعة / 556 وابن زهرة فی الغنیة / 283 مدعیاً علیه الإجماع وابن إدریس فی السرائر 3 / 43 والمحقق فی الشرائع 2 / 163 و 3 / 32 والعلامة فی التحریر 3 / 193 و 4 / 79 والشهیدین فی اللمعة وشرحها راجع الروضة 1 / 358 . وقد ذکر بعضهم الشیخ الأعظم فی المکاسب 2 / 22 و 23 .
5- (5) مفتاح الکرامة 12 / 221 .
6- (6) الجواهر 22 / 73 .
7- (7) شرح القواعد 1 / 233 .

والحاصل ، أنّ بین التوریتین بون بعید ، فراجع لمعرفة التفصیل بینهما رسالة « سمطا اللآل فی مسألتی الوضع والإستعمال»(1) وکتاب « السیف الصنیع لرقاب منکری علم البدیع»(2) وکلاهما للعلامة الجد آیة اللّه أبی المجد الشیخ محمد الرضا النجفی الإصفهانی المتوفی عام 1362 طاب اللّه ثراه وجعل الجنة مثواه .

ثمّ فلیعلم أنّ کلامنا فی التوریة العرفیة لا البدیعیة ، ومن الواضح أنّها إذا کانت فی مقام الإخبار لا الإنشاء ، حیث أنّ ظاهر الألفاظ یکون حجة ولم یقم المتکلّم قرینة علی خلافه وإلاّ التفت السامع إلی المعنی البعید ، فالتوریة العرفیة بظاهرها داخلة فی عنوان الکذب ویترتب علیها حکمه ، ولذا حکم جمع من الأصحاب بأنّ التوریة من غیر قرینة تدخل فی اسم الکذب أو حکمه کما فی شرح القواعد(3) ومفتاح الکرامة(4) والجواهر(5) . ولعلّ الوجه فی ذلک ما ذکره المحقق القمی من « أنّ المعتبر فی اتصاف الخبر بالصدق والکذب هو ما یفهم من ظاهر الکلام لا ما هو المراد منه»(6) .

ثمّ یبقی الکلام فی روایة عبد اللّه بن بکیر بن أعین عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یستأذن علیه فیقول للجاریة قولی : لیس هو هاهنا ، قال : لا بأس لیس بکذب(7) .

ویمکن أن یستشکل علیها : أوّلاً : بإرسالها ، لأنّ ابن إدریس لم ینقل سنده إلی عبد اللّه ، فصارت الروایة مرسلة سنداً .

وثانیاً : یمکن حملها علی جواز الکذب لدفع الضرر والخطر ، کما سیأتی بیانه فی

ص: 66


1- (1) سمطا الّلآل فی مسألتی الوضع والإستعمال / (97 - 88) .
2- (2) السیف الصنیع لرقاب منکری علم البدیع / 97 وما بعدها .
3- (3) شرح القواعد 1 / 232 .
4- (4) مفتاح الکرامة 12 / 220 .
5- (5) الجواهر 22 / 72 .
6- (6) القوانین 1 / 419 .
7- (7) وسائل الشیعة 12 / 254 ح 8 .

مسوغات الکذب ، وعلیه تحمل مرسلة الشیخ فی المبسوط(1) والخلاف(2) ، قال : روی سوید بن حنظلة قال : خرجنا ومعنا وائل بن حجر نرید النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فأخذه أعداء له ، وتحرّج القوم أن یحلفوا فَحَلَفْتُ باللّه أنّه أخی ، فخلی عنه العدو ، فذکرتُ ذلک للنبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال : صدقت المسلم أخو المسلم .

تنبیهٌ

وأمّا الآیات التی وردت فیها نسبة غیر الصدق إلی بعض الأنبیاء بظاهرها نظیر ، قوله تعالی نقلاً عن إبراهیم علی نبینا وآله وعلیه السلام : «إِنِّی سَقِیمٌ»(3) وقوله تعالی نقلاً عنه أیضاً : «بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن کَانُوا یَنطِقُونَ»(4) وقوله تعالی نقلاً عن مؤذن یوسف أنّه قال بأمره : «أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسَارِقُونَ»(5) أحسن تأویل فیها ما ورد فی الإحتجاج مرسلاً عن الصادق علیه السلام أنّه سُئل عن قول اللّه عزّ وجلّ فی قصة إبراهیم علیه السلام : «بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن کَانُوا یَنطِقُونَ»قال : ما فعله کبیرهم وما کذب إبراهیم علیه السلام . قیل : وکیف ذلک ؟ فقال : إنّما قال إبراهیم : «فَاسْأَلُوهُمْ إِن کَانُوا یَنطِقُونَ» فإن نطقوا فکبیرهم فعل وإن لم ینطقوا فکبیرهم لم یفعل شیئاً ، فما نطقوا ، وما کذب إبراهیم علیه السلام .

فسئل عن قوله فی سورة یوسف : «أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسَارِقُونَ» ، قال : إنّهم سرقوا یوسف من أبیه ، ألاتری أنّه قال لهم : «قَالُواْ ... مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِکِ»(6) ، ولم یقل سرقتم صواع الملک ، إنّما سرقوا یوسف من أبیه .

ص: 67


1- (1) المبسوط 5 / 95 .
2- (2) الخلاف 4 / 490 مسألة 60 .
3- (3) سورة الصافات / 89 .
4- (4) سورة الأنبیاء / 63 .
5- (5) سورة یوسف / 70 .
6- (6) سورة یوسف / 72 و 71 .

فسئل عن قول إبراهیم : «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِی النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّی سَقِیمٌ»(1) قال : ما کان إبراهیم سقیماً وما کذب ، إنّما عنی سقیماً فی دینه ، أی مرتاداً(2) .

الإرتیاد : أی الطلب والمیل ، أی إنّی طالب ومُجِدٌّ فی دینی لتحصیل الإعتقاد الصحیح بالمبدأ والمعاد .

ورویت نظیرها مختصراً فی خبر عطاء(3) وفی حسنة الحسن الصیقل(4) الآتیة ، المحمولة علی ارادة الإصلاح .

الفصل الثامن : مسوّغات الکذب :
1 - جواز الکذب لدفع الضرر
اشارة

إطلاق حرمة الکذب یمکن أن یقیّد ، ومن مقیّداته دفع الضرر أو الضرورة إلیه ،

واستدلوا علیه بالأدلة الأربعة :
الف : الکتاب

تدلّ علی جواز الکذب لدفع الضرر قوله تعالی : «مَن کَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إیمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِیمَانِ وَلَکِن مَّن شَرَحَ بِالْکُفْرِ صَدْراً فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ * ذَلِکَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَیَاةَ الْدُّنْیَا عَلَی الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الْکَافِرِینَ»(5) .

بتقریب : أن الآیة الشریفة تدلّ علی جواز الإرتداد والتکلم بالکفر ظاهراً - مع الإیمان الواقعی والعقد القلبی علیه - عند الإکراه والإضطرار ، فإذا جاز إظهار الکفر والإرتداد کذباً لدفع الضرر وعند الضرورة ، جاز الکذب بطریق أولی حینئذ .

ص: 68


1- (1) سورة الصافات / 89 و 88 .
2- (2) الإحتجاج 2 / 354 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 254 ح 7 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 253 ح 4 .
5- (5) سورة النحل 107 و 106 .

ویدلّ علیه أیضاً قوله تعالی : «لاَّ یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکَافِرِینَ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُوْنِ الْمُؤْمِنِینَ وَمَنْ یَفْعَلْ ذَلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَیُحَذِّرُکُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَی اللّهِ الْمَصِیرُ»(1) .

بتقریب : أنه لا یجوز للمؤمنین أنْ یتخذوا الکافرین أولیاء لأنفسهم ویظهروا المحبّة لهم ویلتجؤوا إلیهم ویستعینوا بهم ، إلاّ أنْ یخافوا منهم ویتقوا منهم تقاةً ، فحینئذ یجوز إظهار المودة والمحبّة لهم کذباً وغیرها تقیّة منهم ، فثبت جواز الکذب تقیةً لدفع الضرر أو الضرورة إلیه .

ب : الروایات

عدّة من الروایات المستفیضة بل المتواترة إجمالاً تدلّ علی جواز الکذب لدفع الضرر :

منها : صحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری عن أبی الحسن الرضا علیه السلام - فی حدیث - قال : سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غیر ذلک فحلف ، قال : لا جناح علیه ، وعن رجل یخاف علی ماله من السلطان ، فیحلف لینجو به منه ، قال : لا جناح علیه ، وسألته : هل یحلف الرجل علی مال أخیه کما یحلف علی ماله ؟ قال : نعم(2) .

ومنها : صحیحة أبی الصباح الکنانی قال : واللّه قال لی جعفر بن محمد علیه السلام : إنّ اللّه علّم نبیّه التنزیل والتأویل ، فعلّمه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علیاً علیه السلام ، قال : وعلّمنا واللّه ، ثمّ قال : ما صنعتم من شیءٍ ، أو حلفتم علیه من یمین فی تقیّة فأنتم منه فی سعة(3) .

ومنها : معتبرة السکونی عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : احلف باللّه کاذباً ونجّ أخاک من القتل(4) .

ومنها : موثقة زرارة قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام : نمرّ بالمال علی العشّار ، فیطلبون منّا أن نحلف لهم ویخلّون سبیلنا ، ولا یرضون منّا إلاّ بذلک ، قال : فاحلف لهم ، فهو أحلّ (أحلی ،

ص: 69


1- (1) سورة آل عمران / 28 .
2- (2) وسائل الشیعة 23 / 224 ح 1 . الباب 12 من أبواب کتاب الأیمان .
3- (3) وسائل الشیعة 23 / 224 ح 2 . الباب 12 من أبواب کتاب الأیمان .
4- (4) وسائل الشیعة 23 / 225 ح 4 .

ن ل) من التمر والزبد(1) .

ومنها : صحیحة الحلبی أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یحلف لصاحب العشور ، یحرز بذلک ماله ، قال : نعم(2) .

ومنها : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون قال : والتقیة فی دار التقیة واجبة ، ولا حنث علی من حلف تقیّةً ، یدفع بها ظلماً عن نفسه(3) .

ومنها : صحیحة أبی بکر الحضرمی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام رجل حلف السلطان بالطلاق والعتاق ، فقال : إذا خشی سیفه وسطوته فلیس علیه شیءٌ ، یا أبا بکر إنّ اللّه عزّ وجلّ یعفو والناس لا یعفون(4) .

ومنها : صحیحة صفوان بن یحیی وأحمد بن محمد بن أبی نصر البزنطی کلاهما عن أبی الحسن علیه السلام فی الرجل یستکره علی الیمین ، فیحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما یملک ، أیلزمه ذلک ؟ فقال : لا ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : وضع عن اُمّتی ما اُکرهوا علیه ، وما لم یطیقوا ، وما أخطأوا(5) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة معاذ بیّاع الأکسیة قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّا نستحلف بالطلاق والعتاق ، فماتری أحلف لهم ؟ فقال : أحلف لهم بما أرادوا إذا خفت(6) .

معاذ بن کثیر بیّاع الأکسیة لاأقل من اعتباره بل وثقه المفید فی الإرشاد وذکره فی ضمن شیوخ أصحاب أبی عبد اللّه علیه السلام وخاصّته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحین رضوان اللّه علیهم(7) .

ص: 70


1- (1) وسائل الشیعة 23 / 225 ح 6 .
2- (2) وسائل الشیعة 23 / 225 ح 8 .
3- (3) وسائل الشیعة 23 / 226 ح 10 .
4- (4) وسائل الشیعة 23 / 226 ح 11 .
5- (5) وسائل الشیعة 23 / 226 ح 12 .
6- (6) وسائل الشیعة 23 / 227 ح 13 .
7- (7) الإرشاد 2 / 216 .

ومنها : موثقة اُخری لزرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : إنّا نمرّ علی هؤلاء القوم فیستحلفونا علی أموالنا وقد أدّینا زکاتها ، فقال : یا زرارة إذا خفتَ فاحلف لهم ما شاؤوا ، قلت : جعلت فداک بالطلاق والعتاق ؟ قال : بما شاؤوا(1) .

ومنها : صحیحة معمر بن یحیی قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام : إنّ معی بضائع للناس ونحن نمرّ بها علی هؤلاء العشار ، فیحلّفونا علیها فنحلف لهم ، فقال : وددتُ أنّی أقدر علی أن اُجیز أموال المسلمین کلّها وأحلف علیها ، کلّما خاف المؤمن علی نفسه فیه ضرورة فله فیه التقیة(2) .

ومنها : صحیحة إسماعیل الجعفی قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام : أمرُّ بالعشار ومعی المال ، فیستحلفونی ، فإن حَلفتُ ترکونی ، وإن لم أحلف فتّشونی وظلمونی ، فقال : أحلف لهم ، قلت : إن حلّفونی بالطلاق ؟ قال : فاحلف لهم ، قلت فإنّ المال لا یکون لی ، قال : تتّقی مال أخیک(3) .

ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا حلف الرجل تقیّة لم یضرّه إذا هو اُکره واضطرَّ إلیه ، وقال : لیس شیءٌ ممّا حرّم اللّه إلاّ أحلّه لِمَنْ اضطرّ إلیه(4) .

ومنها : صحیحة أبی بکر الحضرمی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : نحلف باللّه لصاحب العشور نجیز بذلک مالنا ؟ قال : نعم ، الحدیث(5) .

ومنها : مرسلة الصدوق عن الرضا علیه السلام قال : إنّ الرجل لیصدق علی أخیه فیناله عنت من صدقه فیکون کذّاباً عند اللّه ، وإنّ الرجل لیکذب علی أخیه یرید به نفعه فیکون عند اللّه صادقاً(6) .

قد یتوهم معارضة هذه الروایات بروایة اُخری ، وهی مرسلة الشریف الرضی عن

ص: 71


1- (1) وسائل الشیعة 23 / 227 ح 14 .
2- (2) وسائل الشیعة 23 / 227 ح 16 .
3- (3) وسائل الشیعة 23 / 227 ح 17 .
4- (4) وسائل الشیعة 23 / 228 ح 18 .
5- (5) وسائل الشیعة 23 / 228 ح 19 .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 255 ح 10 . الباب 141 من أبواب أحکام العشرة .

أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : علامة الإیمان أن توثر الصدق حیث یضرّک علی الکذب حیث ینفعک ، وألاّ یکون فی حدیثک فضلٌ عن علمک ، وأن تتقی اللّه فی حدیث غیرک(1) .

یمکن أن تعالج المعارضة بوجوه :

الأوّل : هذه الروایة مرسلة فلا یمکن أخذها فی قبال الروایات الصحاح الماضیة ، وعلی فرض التعارض الترجیح معهنّ .

الثانی : یمکن حمل المرسلة علی جلب المنفعة مع الکذب لا دفع الضرر معه ، فلا یجوز جلب النفع مع الکذب .

الثالث : ویمکن حمل المرسلة علی استحباب تحمل الضرر المالی الغیر المعتدّ به کما حملها الشیخ الأعظم(2) . وحملهنَّ علی جواز الکذب عند الضرر النفسانی والعرضی والمالی المعتدّ به .

وکذا تحمل معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من أجلّ اللّه أن یحلف به أعطاه اللّه خیراً ممّا ذهب منه(3) .

وهذه المعتبرة لسانها فی الاستحباب أظهر من المرسلة .

ثم ظاهر بعض الأعلام وجوب التوریة عند الإضطرار إلی الکذب ، ولکن الأدلة الماضیة مطلقة بالنسبة إلی هذا التقیید ، فلا یمکن الأخذ به ، مضافاً إلی ما سبق فی الفصل السابع من أنّ التوریة أیضاً داخلة فی عنوان الکذب فلا یفید شیئاً فی المقام .

ج : الإجماع

الإجماع بین الأصحاب قدس سرهم بالنسبة إلی جواز الکذب فی صورة الإضطرار ودفع الضرر موجود ، ولکنّه إجماع مدرکیٌ لا تعبدیٌّ ، فلا یستفاد منه شیئاً .

د : العقل

قد مرّ فی الفصل الثانی بأنّ العقل یحکم بقبح الکذب فطرةً ، سواء ترتب علیها المفسدة

ص: 72


1- (1) نهج البلاغة . الحکمة 458 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 255 ح 11 .
2- (2) المکاسب 2 / 29 .
3- (3) وسائل الشیعة 23 / 198 ح 3 . الباب 1 من أبواب کتاب الأیمان .

والمضرة أم لا ، ولکن العقل نفسه یحکم بحُسن الکذب إذا کان هناک ضرر یجب التحفظ منه ، کحفظ النفس المحترمة أو عرض المؤمن أو ماله المعتدّ به . لأنّ العقل حینئذٍ یحکم بأخذ أقل المحظورین أو أقل القبیحین لدفع الضرر الأکثر أو القبح الأعظم أو الخطر الأتم أو الإضطرار .

2 - جواز الکذب فی الإصلاح

عدّة من الروایات المعتبرة المستفیضة تدلّ علی جواز الکذب عند إرادة الإصلاح :

منها : صحیحة معاویة بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المصلح لیس بکذّاب(1) .

ومنها : صحیحة معاویة بن وهب أو معاویة بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال : أبلغ عنّی کذا وکذا - فی أشیاء أمر بها - قلت : فاُبلّغهم عنک وأقول عنّی ما قلت لی وغیر الذی قلت ؟ قال : نعم ، إنّ المصلح لیس بکذّاب [ إنّما هو الصلح لیس بکذب (2)] .

ومنها : حسنة الحسن الصیقل قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّا قد روینا عن أبی جعفر علیه السلام (3) فی قول یوسف علیه السلام : «أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسَارِقُونَ»(4) فقال : واللّه ما سرقوا وما کذب ، وقال إبراهیم علیه السلام : «بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن کَانُوا یَنطِقُونَ»(5) ، فقال : واللّه ما فعلوا وما کذب . فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ما عندکم فیها یاصیقل ؟ قلت : ما عندنا فیها إلاّ التسلیم . قال فقال : إنّ اللّه أحبّ اثنین وأبغض اثنین ، أحبّ الخطر فیما بین الصفّین وأحبّ الکذب فی الإصلاح ، وأبغض الخطر فی الطرقات وأبغض الکذب فی غیر الإصلاح ، إنّ إبراهیم علیه السلام إنّما قال : «بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هَذَا» إرادة الإصلاح ودلالة علی أنّهم لا یفعلون ، وقال یوسف علیه السلام إرادة الإصلاح(6) .

ص: 73


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 252 ح 3 . الباب 141 من أبواب أحکام العشرة .
2- (2) الکافی 2 / 210 ح 7 ونقلتُ عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 310 ح 22 .
3- (3) وقد رویت فی الکافی 2 / 343 ح 22 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 254 ح 7 ، وفی تفسیر العیاشی 2 / 353 ح 49 ونحوها ح 47 و 48 وروی الأوّل منها فی مستدرک الوسائل 9 / 95 ح 6 .
4- (4) سورة یوسف / 70 .
5- (5) سورة الأنبیاء / 63 .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 253 ح 4 .

ومنها : خبر عیسی بن حسان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : کلّ کذب مسؤول عنه صاحبه یوماً إلاّ کذباً فی ثلاثة : رجل کائد فی حربه فهو موضوع عنه ، أو رجل أصلح بین اثنین یَلقی هذا بغیر ما یلقی به هذا یرید بذلک الإصلاح ما بینهما ، أو رجل وعد أهله شیئاً وهو لا یرید أن یتمّ لهم(1) .

ونحوها فی الجعفریات / 176 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 94 ح 4 .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعلیٍّ علیه السلام أنّه قال صلی الله علیه و آله وسلم : یا علی إنّ اللّه أحبّ الکذب فی الصلاح وأبغض الصدق فی الفساد . إلی أن قال : یا علی ثلاث یحسن فیهنّ الکذب : المکیدة فی یالحرب ، وعدتک زوجتک ، والإصلاح بین الناس(2) .

ومنها : خبر المحاربی عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن النبی علیه السلام قال : ثلاثة یحسن فیهنّ الکذب : المکیدة فی الحرب ، وعدتک زوجتک ، والإصلاح بین الناس ، وثلاثة یقبح فیهنّ الصدق : النمیمة ، وإخبارک الرجل عن أهله بما یکرهه ، وتکذیبک الرجل عن الخبر ، الحدیث(3) .

ومنها : خبر أبی یحیی الواسطی عن بعض أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الکلام ثلاثة : صدق وکذب وإصلاح بین الناس . قال : قیل له : جعلتُ فداک ما الإصلاح بین الناس ؟ قال : تسمع من الرجل کلاماً یبلغه فتخبث نفسه [ فتلقاه [فتقول : سمعتُ من فلان قال فیک من الخیر کذا وکذا ، خلاف ما سمعت منه(4) .

ومنها : خبر معاویة بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - انّه قال له : أبلغ أصحابی کذا وکذا ، وأبلغهم کذا وکذا . قال : قلتُ : فإنّی لا أحفظ هذا فأقول ما حفظتُ ولم أحفظ أحسن ما یحضرنی ؟ قال : نعم ، المصلح لیس بکذّاب(5) .

ص: 74


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 253 ح 5 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 252 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 252 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 254 ح 6 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 254 ح 9 .

ومنها : خبر ابن الأشعث بإسناده عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یصلح الکذب إلاّ فی ثلاثة مواطن : کذب الرجل لامرأته ، وکذب الرجل یمشی بین الرجلین لیصلح بینهما ، وکذب الإمام عدوّه فإنّما الحرب خدعة(1) .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار عن الصادق علیه السلام قال : الکذب مذموم إلاّ فی أمرین : دفع شرّ الظلمة ، وإصلاح ذات البین(2) .

تلک عشرة کاملة من الروایات تدلّ علی جواز الکذب فی الإصلاح وظاهرها عدم لزوم التوریة کما التزمنا به فی الإستثناء السابق .

إلی هنا تمّ بحث الکذب والحمد للّه أولاً وآخراً .

ص: 75


1- (1) الجعفریات / 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 94 ح 1 .
2- (2) جامع الأخبار / 417 ح 5 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 96 ح 8 .

الکِهانَةُ

اشارة

قبل الخوض فی الحکم لابدّ من تعریف الکهانة موضوعاً ، فلا محیص من مراجعة کلمات اللغویین والفقهاء فی هذا المقام :

تعریفها

قال ابن الأثیر فی نهایته : « الکاهن : الذی یَتَعاطَی الخبر عن الکائنات فی مستقبل الزمان ویَدَّعی معرفة الأسرار ، وقد کان فی العرب کَهَنة کِشقّ وسَطِیح وغیرهما ، فمنهم من کان یَزْعُم أنّ له تابعاً من الجنّ ورئِیّاً یُلْقی إلیه الأخبار ، ومنهم من کان یزعم أنّه یعرف الاُمور بمقدمات أسباب یَسْتَدِلُّ بها علی مواقعها مِنْ کلام مَنْ یسأله أو فعله أو حاله ، وهذا یَخُصُّونه باسم العَرّاف ، کالذی یدَّعی معرفة الشیءِ المسروق ومکان الضَّالّة ونحوهما ... والعرب تُسَمِّی کلّ من یتعاطی عِلْماً دقیقاً : کاهناً . ومنهم من کان یُسَمّی المنجم والطبیب کاهناً»(1) .

وزاد ابن منظور : « قال الأزهری : وکانت الکهانة فی العرب قبل مبعث سیدنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، فلما بعث نبیّاً وحُرِسَتْ السماء بالشُّهُب ومُنِعَت الجّنُ والشیاطین من استراق السمع وإلقائه إلی الکَهَنة بطل علم الکهانة ، وأزهق اللّه أباطیلَ الکُهّان بالفرقان الذی فَرَق اللّه عزّ وجلّ به بین الحقِّ والباطل ، وأطلع اللّه سبحانه نبیَّه صلی الله علیه و آله وسلم بالوحی علی ما شاء من علم الغیوب التی عجزت الکهنة عن الإحاطة به ، فلا کهانة الیوم بحمد اللّه ومنّه وإغنائه بالتنزیل عنها ... »(2) .

قال أحمد بن فارس : « کهن : الکاف والهاء والنون کلمةٌ واحدة وهی الکاهن ، وقد تکهَّنَ یَتَکهَّنُ . واللّه العالم»(3) .

وقال الزمخشری : « ک- ه- ن - هو کاهِنٌ بیّن الکَهانة وقد کَهَنَ وکَهُنَ . وعن ابن عباس :

ص: 76


1- (1) النهایة فی غریب الحدیث والأثر 4 / 214 .
2- (2) لسان العرب 13 / 363 .
3- (3) معجم مقاییس اللغة 5 / 145 .

لا تتّبع النجوم فإنّها تؤدی إلی الکِهانة ، وتکهّن : قال ما یُشْبه قول الکَهَنَة»(1) .

وقال الفیّومی : « کَهَنَ یَکْهُنُ من باب قَتَلَ ، کَهَانَةً بالفتح ، فهو کاهنٌ والجمع کَهَنَةٌ وکُهّانٌ مثل کافِرٍ وکَفَرةٍ وکُفّارٍ ، وتَکَهَّنَ مثله ، فإذا صارت الکَهانَةُ له طبیعة وغریزة ، قیل : کَهُنَ بالضم والکِهانة بالکسر الصَناعة»(2) .

وقال فی الصحاح : « کهن یکهن کهانةً مثل کتب کتابة إذا تکهّن ، وإذا أردت أنّه صار کاهناً قلت : کَهُنَ بالضم - کَهانة - بالفتح - »(3) .

وفی القاموس : « کَهَنَ له کمَنَعَ ونَصَرَ وکرُم ، کَهانةً بالفتح وتکَهَّنَ تَکَهُّناً قضی له بالغیب فهو کاهن جمعه کَهَنَةٌ وکُهّان ، وحرفَتُه الکِهانة بالکسر»(4) .

وقال الطریحی : « قال بعض الشارحین : الکهانة عمل یوجب طاعة بعض الجانّ له فیما یأمره به ، وهو قریب من السحر وأخص منه ، والکاهن : الساحر»(5) .

وقال ابن الأثیر فی معنی رَئِیٍّ : « یقال للتابع من الجن رَئیٌّ بوزن کَمِیٍّ ، وهو فَعیل أو فَعُول ، سُمِّی به لأنّه یتراءَی لِمَتْبوعه ، أو هو من الرّأی من قولهم فلانٌ رَئِیُّ قومه ، إذا کان صاحب رأیهم ، وقد تُکْسَرُ راؤُه لإتباعها ما بعدها»(6) .

وقال الفیروز آبادی : « رَئِیَ کَغَنِیَ ، جنٌّی یُری فیحبّ»(7) .

هذه کلمات أهل اللغة فی المقام ، وأمّا الکهانة فی تعاریف الفقهاء :

قال الشیخ فی تفسیره : « الکاهن الذی یزعم أنّ له خَدَمة مِن الجن تأتیه بضربٍ مِنْ الوحی»(8) .

ص: 77


1- (1) أساس البلاغة / 400 .
2- (2) المصباح المنیر / 534 .
3- (3) الصحاح 6 / 2191 .
4- (4) قاموس اللغة . مادة کهن من الطبع الحجری (4 / 264) .
5- (5) مجمع البحرین / 569 من الطبع الحجری (6 / 306) .
6- (6) النهایة 2 / 178 .
7- (7) القاموس ، مادة الرؤیة من الطبع الحجری (4 / 331) .
8- (8) التبیان 10 / 109 .

وقال العلامة فی التذکرة : « یحرم تعلّم الکهانة وتعلیمها ، والکاهن هو الذی رَئیٌّ من الجن یأتیه بالأخبار ، یُقْتَلُ ما لم یتب»(1) وذکر نحوها فی نهایته(2) وقواعده(3) ، وفی بعض نسخ التحریر(4) نسب التعریف إلی القیل وحکم بحرمة أخذ الاُجرة علیها(5) .

وقال الفاضل المقداد : « المشهور أنّ الکاهن هو الذی له رَئِیٌّ - أی صاحب مِن الجن - یأتیه بالأخبار بالمغیبات ، کما کان لعمرو بن لحی رَئِیٌّ من الجن - وهو أوّل مَنْ بَحَر(6) البحائر(7) وسیّب(8) السوائب(9) وغیّر دین إسماعیل علیه السلام ، وعند الحکماء : أنّ النفوس ما یقوی علی الإطلاع علی ما سیکون من الاُمور ، فإن کانت خیّرة فاضلة فتلک نفوس الأنبیاء والأولیاء ، وإن کانت شریرة فهی نفوس الکَهنة»(10) .

قال المحقق الثانی : « رئیّ بوزن کَمِیّ ، وهو التابع للإنسان یتراءی له ، أی هو موضع رأیه ، وقد تکسر راؤه اتباعاً لما بعدها . ثمّ نقل کلام ابن الأثیر الّذی سبق عن النهایة ثمّ قال : ومثله فی الفائق(11)»(12) .

ص: 78


1- (1) تذکرة الفقهاء 12 / 145 .
2- (2) نهایة الإحکام 2 / 472 .
3- (3) القواعد 2 / 9 .
4- (4) تحریرالأحکام الشرعیة 2 / 261 .
5- (5) التحریر 2 / 260 .
6- (6) بَحَرَ : أی شَقّ .
7- (7) البحائر جمع البحیرة : فهی الناقة شقّ اُذُنها .
8- (8) سیّبه : ترکه یسیب وأهمله .
9- (9) السوائب والسُّیَّب جمع السائبة : وهی الناقة التی کانت تُسَیِّب فی الجاهلیة لنذر ونحوه أو لأنّها ولدت عشرة أبطن کلّها اُناث ، فکانت لا تُرکب ولا یُشرب لبنها إلاّ ولدها أو الضیف ولا تمنع عن ماءٍ ولا کِلاءٍ حتّی تموت .
10- (10) التنقیح الرائع 2 / 13 .
11- (11) الفائق 2 / 22 .
12- (12) جامع المقاصد 4 / 31 .

وقال الشهید الثانی : « الکهانة : هی - بکسر الکاف - عمل یوجب طاعة بعض الجانّ له واتباعه له ، بحیث یأتیه بالأخبار الغائبة . وهو قریب من السحر»(1) .

ونحوها فی الروضة البهیة(2) .

وقال المحقق الأردبیلی : « قیل : الکِهانة - بالکسر - قریب من السحر ، قال فیه أیضاً : الکاهن : هو الذی له رَئِیٌّ من الجن یأتیه بالأخبار ، یقتل أیضاً إلاّ أن یتوب ویحرم علیه أخذ الاُجرة ... ثمّ قال : لعلّه یرید قتل المستحلّ والذی لم یتب ... »(3) .

وقال الشیخ جعفر : « (الکاهن هو الذی له رئیّ) - ککمیّ - تابع للإنسان یترائی له أو متبوع له یتبع رأیه (من الجن یأتیه بالأخبار) أو مَنْ تنکشف له بعض الاُمور لشرارة نفسه کما تنکشف لبعض الاُولیاء لطهارة ذاته ، والأوّل أظهر وأشهر . وأما ملائکة اللّه فلا ربط معهم لغیر أولیاء اللّه»(4) .

وقال سید الریاض : « الکِهانة - بکسر الکاف - قالوا : هی عمل یوجب طاعة بعض الجانّ له فیما یأمره به ، وهو قریب من السحر أو أخص منه»(5) .

أقول : قد استعملت لفظة « کاهن» فی القرآن الکریم مرّتین فی قوله تعالی : «فَذَکِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّکَ بِکَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ»(6) وفی قوله تعالی : «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِیلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ کَاهِنٍ قَلِیلاً مَا تَذَکَّرُونَ * تَنزِیلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِینَ»(7) .

والوجه فی هذا الاستعمال أنّ الکهنة فی کلامهم لجهة انجذاب الناس البسطاء استعملوا

ص: 79


1- (1) المسالک 3 / 128 .
2- (2) الروضة البهیة 3 / 215 .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 79 .
4- (4) شرح القواعد 1 / (254 - 252) .
5- (5) ریاض المسائل 8 / 167 .
6- (6) سورة الطور / 29 .
7- (7) سورة الحاقة / (43 - 40) .

السجع کثیراً ، بل کانوا یستعملون السجع فی الألفاظ بلا وجود معنی فیها ، کما یظهر من بعض أهل اللغة(1) . ولذا قال اللّه سبحانه فی الآیتین بأنّ القرآن الکریم لیس بقول کاهن ولیس رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بکاهن أیضاً .

وأمّا أصل الکِهانة وأنّها ما هی ؟ فأحسن بیان فیها هو کلام مولانا الصادق علیه السلام حیث یقول - علی ما روی أبو منصور الطبرسی مرسلاً فی الإحتجاج - فی جواب الزندیق حیث سأل : فمن أین أصل الکهانة ومن أین یخبر الناس بما یحدث ؟ قال : إنّ الکهانة کانت فی الجاهلیة فی کلّ حین فترة من الرسل ، کان الکاهن بمنزلة الحاکم یحتکمون إلیه فیما یشتبه علیهم من الاُمور بینهم فیخبرهم عن أشیاء تحدث وذلک من وجوه شتی : فراسة العین ، وذُکاء القلب ، ووسوسة النفس ، وفتنة الروح مع قذف فی قلبه ، لأنّ ما یحدث فی الأرض من الحوادث الظاهرة ، فذلک یعلم الشیطان ویؤدیه إلی الکاهن ویخبره بما یحدث فی المنازل والأطراف .

وأمّا أخبار السماء : فإنّ الشیاطین کانت تعقد مقاعد استراق السمع إذ ذاک ، وهی لا تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وإنّما منعت من استراق السمع لئلا یقع فی الأرض سبب تشاکل الوحی من خبر السماء ، فیلبس علی أهل الأرض ما جاءَهم عن اللّه ، لإثبات الحجة ونفی الشبهة ، وکان الشیطان یسترق الکلمة الواحدة من خبر السماء بما یحدث من اللّه فی خلقه فیختطفها ، ثمّ یهبط بها إلی الأرض فیقذفها إلی الکاهن فإذاً قد زاد کلمات من عنده فیخلط الحقّ بالباطل ، فما أصاب الکاهن من خبر ممّا کان یخبر به فهو ما أداه إلیه الشیطان لما سمعه وما أخطأ فیه فهو من باطل ما زاد فیه ، فمنذ منعت الشیاطین عن استراق السمع انقطعت الکهانة ، والیوم إنّما تؤدی الشیاطین إلی کهانها أخباراً للناس بما یتحدثون به وما یحدثونه ، والشیاطین تؤدی إلی الشیاطین ما یحدث فی البُعد من الحوادث من سارق سرق ومن قاتل قتل ومن غائب غاب ، وهم بمنزلة الناس أیضاً ، صدوق وکذوب ، الحدیث(2) .

ص: 80


1- (1) نحو ابن الأثیر فی النهایة 4 / 215 وابن منظور فی لسان العرب 13 / 363 .
2- (2) الاحتجاج 2 / 339 .

ویؤید هذا الحدیث الشریف القرآن الکریم فی آیات سورة الجن حیث ورد فیه : «وَأَنَّهُ کَانَ رِجَالٌ مِّنَ الاْءِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا کَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن یَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِیداً وَشُهُباً * وَأَنَّا کُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن یَسْتَمِعِ الاْآنَ یَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً * وَأَنَّا لاَ نَدْرِی أَشَرٌّ أُرِیدَ بِمَن فِی الاْءَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً * وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِکَ کُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً»(1) .

وورد فی تفسیرها معتبرة بل صحیحة زرارة قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول اللّه : «وَأَنَّهُ کَانَ رِجَالٌ مِّنَ الاْءِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً» قال : کان الجن ینزلون علی قوم من الإنس یعوذون برجال من الجن . فزادوهم رَهَقاً ، قال : کان الرجل ینطلق إلی الکاهن الذی یوحی إلیه الشیطان ، فیقول : قل لشیطانک : فلان قد عاذ بک(2) .

ویثبت وجود الکهنة فی العرب خبر أبی جهم عن أبی طالب عن عبد المطلب قال : بینا أنا نائم فی الحِجر إذ رأیت رؤیا هالتنی فأتیتُ کاهنة قریش ، الحدیث(3) .

وخبر ابن عباس عن والده أنّه أتی کاهنة بنی مخزوم فی رؤیاه فی حقِّ أخیه عبد اللّه والد النبی صلی الله علیه و آله وسلم (4) .

وقد ورد فی خبر أبی حازم أنّه قال : قدم کاهن مکة ورسول اللّه ابن خمس سنین ... فقال : یا معشر قریش اقتلوا هذا الصبی ...(5) .

ولا یضر بإثبات وجود الکهنة ضعف سند الروایات ، لأنّ متنها لیس من الأحکام الشرعیة .

وورد فی خبر أبان بل معتبرته عن الصادق علیه السلام فی ذکر عجائب لیلة ولادة

ص: 81


1- (1) سورة الجن / (11 - 6) .
2- (2) تفسیر القمی 2 / 389 ونقل عنه فی البرهان فی تفسیر القرآن 5 / 507 ح 1 .
3- (3) أمالی الصدوق . المجلس الخامس والأربعون ح 1 / 334 الرقم 391 .
4- (4) أمالی الصدوق . المجلس الخامس والأربعون ح 2 / 335 الرقم 392 .
5- (5) بحار الأنوار 15 / 402 .

النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال فی حدیث : وانْتُزِعَ علمُ الکهنة ، وبطل سحر السَّحَرة ، ولم تَبْقَ کاهنة فی العرب إلاّ حُجِبَتْ عن صاحبها ، الحدیث(1) .

وظاهر هذه الروایة أنّ أخبار السماء انقطعت عن الکهنة ورئیهم بولادة النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، ولکن قبل ولادة النبی کان یمکن استراق سمع أخبار السماء لبعض الشیاطین ، ومن الواضح أنّهم من الأجنة ، ویدلّ علیه قوله تعالی : «وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِی السَّمَاء بُرُوجاً وَزَیَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِینَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن کُلِّ شَیْطَانٍ رَّجِیمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِینٌ»(2) .

وعن ابن عباس فی تفسیر قوله تعالی : «إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ» کان فی الجاهلیة کهنة ومع کلّ واحد شیطان ، وکان یعقد من السماء مقاعد للسمع ، فیستمع من الملائکة ما هو کائن فی الأرض ، فینزل ویخبر به الکاهن ، فیفشیه الکاهن إلی الناس(3) .

وفی مرسلة القاضی نعمان المصری عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : کنّا مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ذات لیلة إذ رمی نجمٌ فاستنار ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم للقوم : ما کنتم تقولون فی الجاهلیة إذا رأیتم مثل هذا ؟ قالوا : کنّا نقول : مات عظیم وولد عظیم . قال : فإنّه لا یرمی لموت أحد ولا لحیاة أحد ، ولکن ربّنا إذا قضی أمراً سبّح حملة العرش وقالوا : قضی ربّنا بکذا ، فتسمع ذلک أهل السماء التی تلیهم فیقولون ذلک ، حتّی یبلغ ذلک إلی السماء الدنیا فیسرق الشیاطین السمع ، فربّما اعتقلوا شیئاً فأتوا به الکهنة فیزیدون وینقصون فتخطیء الکهنة وتصیب ، ثمّ إنّ اللّه عزّ وجلّ منع السماء بهذه النجوم فانقطعت الکهانة فلا کهانة ، وتلا جعفر بن محمد علیه السلام : «إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِینٌ»(4) وقوله عزّ وجلّ : «وَأَنَّا کُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن یَسْتَمِعِ الاْآنَ یَجِدْ لَهُ شِهَاباً

ص: 82


1- (1) أمالی الصدوق . المجلس الثامن والأربعون ح 1 / 361 الرقم 444 .
2- (2) سورة الحِجْر / (18 - 16) .
3- (3) مجمع البیان 3 / 332 .
4- (4) سورة الحجر / 18 .

رَّصَداً»(1)(2) .

والحاصل ، أنّ الکهانة کانت موجودة فی جاهلیة العرب ویخبر الشیطانُ الذی من الجن - الرئی - الکاهن وهو یخبر الناس بالأخبار الغیبیّة ، ولکن لما ولد النبی صلی الله علیه و آله وسلم منع الشیاطین عن استراق سمع أخبار السماءِ تمهیداً لمبعثه صلی الله علیه و آله وسلم .

والعجب من الشریف المرتضی قدس سره حیث أنکر الکهانة ووجود الکهان وقال : « إنّما وردت به أخبار شاذه ضعیفة سخیفة لا توجب علماً ولا ظناً ، وما یرد هذا المورد لا یلتفت علیه ، فضلاً عن أن یصدق به والکهانة غیر مستندة إلی أصل ولا لها طریق فی مثله شبهة ... إلی أن قال : ولو کانت الکهانة صحیحة ، إما باستراق السمع الذی قیل أو بغیره من التخمین والترجیم لما کان الخبر عن الغیوب معجزاً ولاخارقاً للعادة ولا دالاً علی نبوة وقد علمنا خلاف ذلک»(3) .

وقد قسّم المحقق الخوئی قدس سره الکهانة علی قسمین :

« الأوّل : أن یخبر الکاهن عن الحوادث المستقبلة لاتصاله بالشیاطین القاعدین مقاعد استراق السمع من السماء ، فیطلعون علی أسرارها ثمّ یرجعون إلی اُولیائهم لکی یؤدوها إلیهم .

الثانی : أن یخبر الکاهن عن الکائنات الأرضیة والحوادث السفلیة لاتصاله بطائفة من الجن والشیاطین التی تلقی إلیه الأخبار الراجعة إلی الحوادث الأرضیة فقط ، لأنّ الشیاطین قد منعت عن الإطلاع إلی السماء وأخبارها بعد بعثة النبی صلی الله علیه و آله وسلم »(4) .

وبالجملة ، الکهانة بالمعنی الأوّل قد انقطعت لعدم إمکان استراق سمع أخبار السماء بعد ولادة النبی صلی الله علیه و آله وسلم توطئة للبعثة وأمّا الکهانة بالمعنی الثانی باقیة ، ویمکن أن یُعبَّر عنها بنحو

ص: 83


1- (1) سورة الجن / 9 .
2- (2) دعائم الإسلام 2 / 142 ح 498 ونقلا عنه فی بحار الأنوار 60 / 280 ح 168 (24 / 408) ومستدرک الوسائل 13 / 110 ح 4 .
3- (3) رسائل الشریف المرتضی 1 / 471 فی جوابات المسائل الطرابلسیات الثالثة .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 416 .

ارتباط مع الأجنة للکاهن بحیث یخبرونه عمّا وقع فی الأرض من الحوادث والوقائع فیما مضی . وأمّا الإخبار عمّا یأتی من الحوادث والاُمور المستقبلة فلا یتمکن منها الجان لانسداد أبواب السماء بالنسبة إلیهم بعد مولد النبی صلی الله علیه و آله وسلم تمهیداً لبعثته صلی الله علیه و آله وسلم ، فلا یخبر الکاهن الیوم بالنسبة إلی المستقبل ولکن یمکن له أن یخبر عمّا مضی . ولابدّ أن یحمل کلام الشریف المرتضی قدس سره علی القسم الأوّل من الکهانة أی بالنسبة إلی الاُمور المستقبلة بعد بعثة النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، وإن کان ظاهر کلامه لایوافقه ، حملاً لکلام الأعاظم علی الصحة مهما أمکن .

هذا تمام الکلام بالنسبة إلی موضوع الکهانة ، واللّه سبحانه هو العالم .

أدلة حرمة الکهانة

قد أفتی الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم بحرمتها :

منهم : الشیخ فی النهایة(1) والعلامة فی کتبه القواعد(2) والتحریر(3) والتذکرة(4) والنهایة(5) والإرشاد(6) والفاضل المقداد فی التنقیح(7) والمحقق الکرکی فی جامع المقاصد(8) وثانی الشهیدین فی المسالک(9) والروضة(10) ، ونفی الخلاف عن حرمتها الأردبیلی فی مجمع الفائدة(11) والسبزواری فی الکفایة(12) ، وادعی الإجماع علی حرمته الفاضل القطیفی فی إیضاح

ص: 84


1- (1) النهایة / 366 .
2- (2) القواعد 2 / 9 .
3- (3) التحریر 2 / 261 .
4- (4) التذکرة 12 / 145 .
5- (5) نهایة الأحکام 2 / 472 .
6- (6) إرشاد الأذهان 1 / 357 .
7- (7) التنقیح الرائع 2 / 13 .
8- (8) جامع المقاصد 4 / 31 .
9- (9) المسالک 3 / 128 .
10- (10) الروضة البهیة 3 / 215 .
11- (11) مجمع الفائدة 8 / 79 .
12- (12) کفایة الأحکام 1 / 440 .

النافع(1) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(2) وسید الریاض(3) والفاضل النراقی فی المستند(4) ، ونفی صاحب الجواهر(5) الریب فی حرمتها ، والشیخ الأعظم قال : « فلا خلاف فی حرمة الکهانة»(6) .

وتدلّ علی حرمتها عدّة من الروایات :

منها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من تکهَّن أو تُکُهِّن له فقد بریء من دین محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، الحدیث(7) .

ومنها : خبر مناهی النبی أنّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن إتیان العرّاف وقال : من أتاه صدّقه فقد بریء ممّا أنزل اللّه عزّ وجلّ علی محمد صلی الله علیه و آله وسلم (8) .

أقول : قد مضی نقل کلام ابن الأثیر حیث یقول : « ومنهم (أی من الکهنة) من کان یزعم أنّه یعرف الاُمور بمقدمات أسباب یَسْتَدِلُّ بها علی مواقعها من کلام من یسأله أو فعله أو حاله ، وهذا یَخُصُّونه باسم العرّاف ، کالذی یدّعی معرفة الشیء المسروق ومکان الضّالّة ونحوهما ... »(9) .

وقال الراغب فی مفرداته : « العّراف کالکاهن إلاّ أنّ العَرّافَ یختصُّ بمَنْ یُخْبِرُ بالأحوال المستقبلة والکاهن بمن یخبر عن الأحوال الماضیة»(10) .

ص: 85


1- (1) إیضاح النافع / ونقل عنه فی شرح القواعد 1 / 252 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 251 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 167 .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 116 .
5- (5) الجواهر 22 / 91 .
6- (6) المکاسب 2 / 37 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 149 ح 2 . الباب 26 من أبواب ما یکتسب به .
8- (8) وسائل الشیعة 17 / 149 ح 1 .
9- (9) النهایة 4 / 214 .
10- (10) مفردات القرآن / 343 .

وذکر ابن منظور فی لسان العرب(1) کلام ابن الأثیر فی النهایة .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : من جاء عرّافاً فسأله وصدّقه بما قال ، فقد کفر بما أنزل اللّه علی محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، الحدیث(2) .

ومنها : مرسلة جعفر بن أحمد القمی عن عطاء عن عبد اللّه بن عباس قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یدخل الجنة عاقّ ، ولا قاطع رحم ، ولامدمن خمر ، ولامؤمن بسحر ، ولاقتّات ، ولامنّان ، ولادیوث ولاکاهن ، ومَنْ مشی إلی کاهن فصدّقه بما یقول ، فقد بریء ممّا أنزل اللّه علی محمد صلی الله علیه و آله وسلم .

فقال عطاء : سألته عن القتّات والدیوث ، فقال : أمّا القتّات : فالذی یسعی بصاحبه إلی السلطان ، فیهلک نفسه وأخاه وسلطانه ، والدیُّوث . الذی یجلب علی حلیلته الرجال(3) .

ومنها : خبر أبی سعید هاشم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أربعة لا یدخلون الجنة : الکاهن ، والمنافق ، ومُدْمِن ، الخمر ، والقتّات وهو النمّام(4) .

والروایة ضعیفة السند بأبی سعید المُکاری ، وهو هاشم بن حیّان ، قال النجاشی فی شأنه : « أبو سعید المکاری روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، له کتاب یرویه جماعة»(5) وقال فی ترجمة ابنه الحسین : إنّه « کان هو وأبوه وجهین فی الواقفة ، وکان الحسین ثقة فی حدیثه ، ذکره أبو عمرو الکشی فی جملة الواقفة وذکر فیه ذموماً »(6) وضعّفه المامقانی فی نتائج التنقیح وقال : « ضعیف علی الأقوی »(7) .

ص: 86


1- (1) لسان العرب 13 / 363 .
2- (2) دعائم الإسلام 2 / 483 ح 1737 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 110 ح 3 .
3- (3) الأعمال المانعة من الجنة المطبوع ضمن جامع الأحادیث / 282 ونقل عنه باختلاف فی مستدرک الوسائل 13 / 111 ح 7 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 309 ح 11 . الباب 164 من أبواب أحکام العشرة .
5- (5) رجال النجاشی / 436 الرقم 1169 وذکره فی / 460 الرقم 1260 .
6- (6) رجال النجاشی / 38 الرقم 78 .
7- (7) نتائج التنقیح / 162 الرقم 12771 .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : من صدّق کاهناً فقد کفر بما اُنزل علی محمد صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

ومنها : خبر عقبة بن بشیر الأسدی قال : دخلت علی أبی جعفر علیه السلام فقلت له : إنّی فی الحسب الضخم من قومی ، وإنّ قومی کان لهم عرّیف فهلک فأرادوا أن یعرّفونی علیهم ، فماتری لی ؟ فقال أبو جعفر علیه السلام : تمّن علینا بحسبک ! إنّ اللّه رفع بالإیمان من کان الناس یسمّونه وضیعاً إذا کان مؤمناً ، ووضع بالکفر من کان یسمّونه شریفاً إذا کان کافراً ، ولیس لأحد علی أحد فضل إلاّ بتقوی اللّه ، وأمّا قولک : إنّ قومی کان لهم عرّیف فهلک فأرادوا أن یعرّفونی علیهم ، فإن کنت تکره الجنة وتبغضها فتعرّف علی قومک ، ویأخذ السلطان جائر بأمری ء مسلم یسفک دمه فتشرکهم فی دمه وعسی أن لا تنال من دنیاهم شیئاً(2) .

ومنها : خبر نوف البکالی عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : یا نوف إقبل وصیتی : لا تکونن نقیباً ولا عرّیفاً ولا عشّاراً ولا بریداً(3) .

ومنها : مرسلة الرضی عن نوف البکالی قال : رأیت أمیر المؤمنین علیه السلام ذات لیلة وقد خرج من فراشه فنظر فی النجوم فقال : یا نوف إنّ داود علیه السلام قام فی مثل هذه الساعة من اللیل فقال : إنّها ساعة لا یدعو فیها عبد إلاّ استجیب له إلاّ أن یکون عشّاراً أو عرّیفاً أو شرطیّاً ، الحدیث(4) .

ومنها : خبر أبی خالد الکابلی عن علی بن الحسین علیه السلام أنّه قال فی حدیث : والذنوب التی تظلم الهواء : السحر ، والکهانة ، والإیمان ، بالنجوم والتکذیب بالقدر ، وعقوق الوالدین ، الحدیث(5) .

ومنها : مرسلة ابن إدریس نقلاً عن کتاب المشیخة للحسن بن محبوب عن الهیثم قال :

ص: 87


1- (1) مستدرک الوسائل 13 / 112 ح 8 .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 112 ح 11 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 112 ح 10 .
4- (4) مستدرک الوسائل 13 / 112 ح 9 .
5- (5) وسائل الشیعة 16 / 281 ح 8 . الباب 41 من أبواب الأمر والنهی .

قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ عندنا بالجزیرة رجلاً ربّما أخبر من یأتیه یسأله عن الشیء یسرق أو شبه ذلک فنسأله ، فقال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من مشی إلی ساحر أو کاهن أو کذّاب یصدّقه بما یقول فقد کفر بما أنزل اللّه من کتاب(1) .

والعجب من الشیخ الأعظم حیث عبّر عنها بالصحیحة(2) مع أنّ ابن إدریس لم یذکر سنده إلی کتاب المشیخة للحسن بن محبوب ، فلذا صارت الروایة مرسلة سنداً .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغی ، والرشوة فی الحکم ، وأجر الکاهن(3) .

ومنها : مرسلة المحقق والعلامة والشهیدین عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : من صدّق کاهناً أو منجّماً فهو کافر بما اُنزل علی محمد صلی الله علیه و آله وسلم (4) .

وقد ورد بأنّ أجر الکاهن من السحت فی عدّة من الروایات الاُخر ، نحو : مرسلة الصدوق أو مضمرته(5) وخبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعلیِّ علیه السلام (6) وخبر ابن الأشعث فی الجعفریات(7) وخبر کتاب جعفر بن محمد بن شریح الحضرمی عن عبد اللّه بن طلحة(8) .

ودلالة هذه الروایات علی حرمة عمل الکاهن والرجوع إلیه والعمل علی طبق قوله وأخذه الاُجرة علی الکهانة واضحة . والنسبة بینها وبین التسخیر بالنسبة إلی الأجنة عموم وخصوص مطلق یعنی کلّ کهانةٍ تسخیر ولیس کلّ تسخیرٍ بکهانة ، والکهانة قسم خاص من التسخیر ، فالکهانة حرام بدلیل الروایات الماضیة ، ولکن التسخیر الذی یکون غیر الکهانة فلا بأس به کما مرّ منّا فی بحث السحر ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 88


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 150 ح 3 .
2- (2) المکاسب 2 / 38 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 5 . الباب 5 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 144 ح 11 . الباب 24 من أبواب ما یکتسب به .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 8 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 9 .
7- (7) مستدرک الوسائل 13 / 110 ح 1 ، و 13 / 69 ح 1 .
8- (8) مستدرک الوسائل 13 / 111 ح 6 ، و 13 / 71 ح 6 .
أمّا حکم الإخبار عن الاُمور المستقبلة

عدّ الفیض فی المفاتیح من المعاصی المنصوص علیها « الإخبار عن الغائبات عن البتّ لغیر نبیٍّ أو وصی نبیٍّ سواء کان بالتنجیم أو الکهانة أو القیافة أو غیر ذلک - ثمّ ذکر أخباراً دالة علی تحریم الکهانة والتنجیم ، ثمّ قال : وإن کان الإخبار علی سبیل التفاؤُل من دون جزم فالظاهر جوازه ، لأنّ أصل هذه العلوم حقّ ولکن الإحاطة بها لا یتیسّر لکل أحدٍ والحکم بها لا یوافق المصلحة»(1) .

أقول : الإخبار عن الاُمور المستقبلة ، إن کان الُمخْبِر شاکاً فی وقوعها ولکن أخبر بها علی سبیل الجزم والبتّ بوقوع المخبر به فی الخارج فهو کاذب فی إخباره ، وإنّ صادف الواقع اتفاقاً یکون المخبر متجریّاً .

وأمّا إذا کان المخبر جازماً فی وقوع مایخبر به فلا وجه لحرمته ، لخروجه عن الکذب والقول بغیر علم موضوعاً وحکماً . بلا فرق فیما ذکرنا بین سبب الإخبار من الکهانة والتنجیم والقیافة والرمل والجفر والفال ونحوها .

والروایات لا تنافی ما ذکرناه ، ظاهراً واللّه سبحانه هو العالم .

خاتمةٌ : حدّ الکهانة

قال العلامة : « یُقتل ما لم یتب»(2) .

وقال الأردبیلی : « لعلّه یرید قتل المستحلّ والذی لم یتب ، وإنّه لا خلاف فیه أیضاً فلا یضر أیضاً ، عدم صحة السند»(3) .

وقال الشیخ جعفر : « وهو (أی الکاهن) کالساحر (یُقتل ما لم یتب) بل أشدّ منه ، حیث أنّ حدّه لا یتوقف علی الاستحلال کما یظهر من کلامه ، وظاهر الأخبار تشبیهه

ص: 89


1- (1) مفاتیح الشرائع 2 / 24 و 23 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 12 / 145 - القواعد 2 / 9 - التحریر 2 / 261 .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 79 .

بالساحر والساحر کافر ، ومساواتهما فی الحکم بردّ حکم السحر إلیه أو ردّ حکمه إلی السحر أقرب إلی التحقیق وعدم اشتراط الاستحلال فی استحقاق القتل بهما أوفق بالدلیل»(1) .

وقال السید العاملی : « وأمّا أنّه یقتل ما لم یتب ففی مجمع البرهان لا خلاف فیه ، وکذا المستحلّ ، بل هو اُولی ، والحکم معلومٌ وإن کان المصرَّح به قلیلاً»(2) .

أقول : قدّ مرّ منّا أنّ حدّ ساحر المسلمین هو القتل ، والروایة المعتبرة شبّهت الکاهن بالساحر ، فصار حدّ کاهن المسلمین قتلاً أیضاً . بلا فرق بین المستحِل وغیره کما مرّ عن الشیخ جعفر قدس سره ، وأمّا الروایة :

فهی معتبرة أو صحیحة نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المنجم ملعون ، والکاهن ملعون ، والساحر ملعون ، والمغنّیة ملعونة ، ومن آواها وأکل کسبها ملعون . وقال علیه السلام : المنجم کالکاهن ، والکاهن کالساحر ، والساحر کالکافر ، والکافر فی النار(3) .

وقال الصدوق فی ذیلها : المنجم الملعون هو الذی یقول بقدم الفلک ، ولا یقول بمفلِّکه وخالقه عزّ وجلّ(4) .

سند الروایة معتبر بل صحیح ، لأنّ المراد بالحسن بن علی الکوفی هو الحسن بن علی النعمانی الکوفی الثقة الثبت . وأمّا إسحاق بن إبراهیم ونصر بن قابوس فکلاهما ثقتان علی الأقوی ، فالسند صحیح .

وأمّا دلالتها علی تشابه حدّ الکاهن والساحر فواضحة ، وأمّا المنجم مع توضیح الصدوق أیضاً فمشترک معهما فی الحدّ .

نعم ، حیث أنّ الأصحاب قیدوا الحکم بعدم ورود التوبة ، ولکن الدلیل مطلق ، نأخذ بالقید . لأنّ الحدود تدرءُ بالشبهات(5) .

ص: 90


1- (1) شرح القواعد 1 / 255 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 242 .
3- (3) الخصال 1 / 297 ح 67 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 143 ح 7 و 8 . الباب 24 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) الخصال 1 / 298 .
5- (5) وسائل الشیعة 28 / 47 ح 4 . الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود .

وتدلّ علی حدّ القتل للساحر معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ساحر المسلمین یُقتل وساحر الکفار لا یُقتل ، فقیل : یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ولم لا یقتل ساحر الکفار ؟ قال : لأنّ الکفر أعظم من السحر ولأنّ السحر والشرک مقرونان(1) .

فعلیه حد القتل مختص بساحر المسلمین وکاهنهم ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 91


1- (1) وسائل الشیعة 28 / 365 ح 1 . الباب 1 من أبواب بقیة الحدود .

اللهو

هل اللهو مطلقاً حرام ؟
تعاریف اللهو واللعب واللغو

قبل الورود فی البحث عن اللهو لابدّ من التنبیه علی معانی لغات ثلاث لتعیین الموضوع ، وهی : اللهو ، واللعب ، واللغو .

أمّا اللّهو فقد قال ابن الأثیر « اللهو : اللَّعب ، یقال : لَهَوْت بالشیء ألْهُو لَهْواً ، وتَلَهَّیْتُ به إذا لَعِبْتَ به وتشاغَلتَ وغَفَلْتَ به عن غیره . وألهاه عن کذا أی شَغَله»(1) .

وقال ابن منظور : « اللّهو : ما لَهَوْتَ به ولعبت به وشغلک من هویً وطربٍ ونحوهما»(2) . ثم ذکر کلام ابن الأثیر فی طیّ کلامه .

وقال الراغب : « اللّهو : ما یشغلُ الإنسانَ عمّا یَعْنِیهِ ویَهِمُّهُ ، یقال : لهوتُ بکذا ولهیتُ عن کذا : اشتغلتُ عنه بلهو ... »(3) .

وقال الفیومی : « أصل اللهو : الترْویحُ عن النفس بما لا تقتضیه الحکمة»(4) .

وأمّا اللعب فقد قال ابن منظور : « اللَّعِبُ واللَّعْبُ : ضد الجِدِّ»(5) .

وقال الراغب : « لعب : أصل الکلمة اللُّعابُ وهو البزاقُ السائل ، وقد لَعَبَ یَلْعَبُ لَعْباً : سأل لُعَابُهُ ، ولَعِبَ فلانٌ إذا کان فِعْلُه غیرَ قاصِد به مَقْصداً صحیحاً یَلْعَبُ لَعِباً ... »(6) .

وأمّا اللغو فقد قال أحمد بن فارس : « لغو : اللام والغین والحرف المعتلّ أصلان

ص: 92


1- (1) النهایة 4 / 282 .
2- (2) لسان العرب 15 / 258 .
3- (3) مفردات القرآن / 475 .
4- (4) المصباح المنیر / 559 .
5- (5) لسان العرب 1 / 739 .
6- (6) مفردات القرآن / 471 .

صحیحان أحدهما : یدلّ علی الشیء لا یعتدّ به ، والآخر علی اللَّهَج بالشیء - إلی أن قال - ویقال : إنّ اشتقاق اللغة منه ، أی یَلْهَجُ صاحبُها بها»(1) .

وقال فی النهایة : « یُقال : لغا الإنسان یَلْغُو ولَغَی یَلْغَی ولَغِیَ یَلْغَی : إذا تکَلَّم بالمُطْرَح من القول ومالا یَعْنی ، وألْغی : إذا أسْقَطَ»(2) .

وقال فی لسان العرب : « اللَّغو واللَّغا : السَّقَط وما لا یُعتدّ به من کلام وغیره ولا یُحصَل منه علی فائدة ولا نفع»(3) .

وقال فی المفردات : « اللّغو من الکلام ما لا یُعْتَدُّ به ، وهو الذی یُورَدُ لاعن رَویَّةٍ وفِکْرٍ ، فیجری مجری اللَّغا ، وهو صوت العصافیر ونحوها من الطیور ... وقد یُسَمَّی کلُّ کلامٍ قبیحٍ لَغْواً»(4) .

قال السید نور الدین بن نعمة اللّه الجزائری فی فروق اللغات : « اللهو : ما یُشغل الإنسان عما یعنیه ویهمّه . واللعب : طلب المزح بما لا یحسن أن یطلب به ، قیل : واشتقاقه اللعاب ، وهو المرور علی غیر استواء ، کلعاب الطفل»(5) .

وقال المحقق الإیروانی فی الفرق بینها : « ثمّ الظاهر أنّ بین اللهو واللعب واللغو عموم من وجه ، فاللهو فعل النفس واشتغالها باللذائذ الشهویة بلا قصد غایة ، وإن کانت الغایة حاصلة سواء صدرت حرکة جوارحیّة من الشخص أو لا ، کما فی إستماع آلات الأغانّی ، قال اللّه تعالی : «وَهُمْ» فی خوضهم «یَلْعَبُونَ * لاَهِیَةً قُلُوبُهُمْ»(6) .

واللعب : هو العمد إلی حرکات جوارحیّة لغایة الالتذاذ بها بلا قصد غایة اُخری ، وإن کانت الغایة الاُخری حاصلة کأکثر أفراد اللعب المترتب علیه غایات عقلائیة من فطانة

ص: 93


1- (1) معجم مقاییس اللغة 5 / 255 .
2- (2) النهایة 4 / 257 .
3- (3) لسان العرب 15 / 250 .
4- (4) مفردات القرآن / 472 .
5- (5) فروق اللغات / 205 .
6- (6) سورة الأنبیاء / 2 و 3 .

النفس وجودتها وجولان الفکر وقوة الأعصاب والعضلات .

واللغو : الحرکات الخارجیة الخالیة عن الغایات»(1) .

أقول : تبعه الفقیه السبزواری فی الجملة(2) ، ولکن الظاهر عدم تمامیة التعریفات الثلاثة ، لأنّها غیر مستندة إلی العرف واللغة کما یظهر هذا الإشکال من المحقق الأردکانی(3) أیضاً .

ثمّ الظاهر من اللغة والعرف أنّ اللهو هو من الأفعال الإختیاریة للإنسان یشغله عمّا یعنیه ویَهِمُّهُ ، ویوجب ترویح نفسه ولذّته ، وهذان غایتان له . ولذا یُطلق علی اللذائذ الشهویة أیضاً . وقد یُعبَّر عنه بالفارسیة ب- « کیف کردن» .

وأمّا اللعب : فهو من الأفعال الاختیاریة بحیث لا یکون بجدٍّ ، والغرض منه نفس الفعل ولا یقصد به مقصداً وإن کان یمکن أن یترتب علیه اُمور اتفاقاً أو غالباً ولکن لا یُقصد ، وهو الذی یُعبَّر عنه فی الفارسیة ب- « سرگرمی» أو « بازی کردن» . ولعله أشار إلی ما ذکرناه الشیخ الأعظم(4) وتبعه شیخناالأستاذ - مدظله -(5) .

وأمّا اللغو : هو کلّ فعل أو قول لم یترتب علیه فائدة فی الخارج ولا نفع . ویُعبَّر عنه بالفارسیة ب- « بیهوده» .

ومن هنا ظهر أنّ النسبة بین اللغو وصاحبیه التباین ، وأمّا النسبة بین اللهو واللعب عموم وخصوص مطلق ، فإنّ کل لهو لعبٌ ولکن لیس کل لعب بلهوٍ .

ویؤید ما ذکرناه ما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : أوّل اللهو لعبٌ وآخره حربٌ(6) .

ص: 94


1- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 241 .
2- (2) مهذب الأحکام 16 / 159 .
3- (3) غنیة الطالب 1 / 182 .
4- (4) المکاسب 2 / 48 .
5- (5) إرشاد الطالب 1 / 249 .
6- (6) غرر الحکم ح 3132 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل الیبت علیهم السلام 10 / 81 ح 22 .

وهذا الذی یظهر لی بالتأمل فی کلمات أهل اللغة وموارد استعمالها عند العرف .

ثمّ إنّ الأصحاب قدس سرهم تعرضوا لحکم اللهو واللعب فی فروع عدیدة نذکر لک بعضها لمزید البصیرة :

قال الشیخ فی المبسوط : « السفر علی أربعة أقسام : واجب مثل الحجّ والعمرة ، وندب مثل الزیارات وما أشبهها ، ومباح مثل تجارة وطلب معیشة وقوت وما أشبهها ، فهذه الأنواع الثلاثة کلّها یجب فیها التقصیر فی الصوم والصلاة . والرابع سفر معصیة مثل باغٍ أو عادٍ أو سعایةٍ أو قطع طریق وما أشبه ذلک من أتباع سلطان جائر فی طاعته مختاراً أو طلب صید اللهو والبطر ، فإنّ جمیع ذلک لا یجوز فیه التقصیر لا فی الصوم ولا فی الصلاة»(1) .

وقد أفتی فی النهایة بقبول شهادة من یلعب بالحمام ، وقال : « تُقبل شهادةُ من یلعب بالحَمام إذا لم یُعرف منه فسق»(2) .

وعدّ القاضی ابن البراج مِن السفر القبیح (أی الحرام) مَنْ طلب الصید للّهو والبطر(3) .

وقال ابن إدریس : « ... فصار سفر الصید علی ثلاثة أضرب ، وکلّ ضرب منها یخالف الآخر ویباینه ، فصید اللهو والبطر یجب فیه تمام الصلاة والصوم ، وصید القوت للعیال والنفس یجب فیه تقصیر الصلاة والصوم بالعکس من الأوّل ، وصید التجارة یجب فیه تمام الصلاة وتقصیر الصوم»(4) .

وقال : « یُقبل شهادة المتخذ للحمام غیر اللاعب بها والمسابق والمراهن علیها إذا لم یعرف منه فسق» . ثم واستشکل علی کلام الشیخ فی نهایته وقال : « وقول شیخنا فی نهایته « وتقبل شهادة من یلعب بالحمام » غیر و [ ا ] ضح ، لأنّه سمّاه لاعباً واللعب بجمیع الأشیاء قبیح ، فقد صار فاسقاً بلعبه ، فکیف تقبل شهادته»(5) .

ص: 95


1- (1) المبسوط 1 / 136 .
2- (2) النهایة / 327 .
3- (3) المهذب 1 / 107 .
4- (4) السرائر 1 / 327 .
5- (5) السرائر 2 / 124 .

وقال المحقق : « مسألة : قال علماؤنا اللاهی بسفره کالمتنزه بصیده بطراً لا یترخص فی صلاته ولا فی صومه ، وقال الشافعی وأبو حنیفة : یترخص . لنا : أنّ اللهو حرام فالسفر له معصیة ، ولأنّ الرخصة لِتسهیل الوصول إلی المصلحة ولا مصلحة فی اللهو ، ویؤید ذلک روایة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام ... »(1) .

قال العلامة فی القواعد : « الخامس (من شرائط تقصیر الصلاة) : إباحة السفر ، فلا یقصِّر العاصی به کتابع الجائر والمتصید لهواً دون المتصید للقوت أو التجارة - علی رأی - ... »(2) .

وقال فی النهایة فی حرمة بیع الجاریة المغنیة : « أما التی یطلب بها اللهو فإنّه یحرم بیعها ، لأنّ الرضا علیه السلام ... »(3) .

وقال فی المختلف : « قال أبو الصلاح(4) : ومن المحرمات الرمی عن قوس الجلاهق ، و الإطلاق لیس بجیّد ، بل ینبغی التقیید بطلب اللهو والبطر ، أمّا لو قصد به الصید للقوت أو للتجارة أو فعل لدفع الخصم أو لغیر ذلک ممّا هو مباح فالوجه الإباحة»(5) .

وقال الشهید : « والصید لهواً وبطراً معصیة ، فلا ترخص فیه ، ورواه زرارة عن الباقر علیه السلام »(6) .

وابن فهد الحلی بعد حکمه بعدم جواز المسابقة فی غیر الثلاثة - سواء کان بعوض أو غیره - قال : « عملاً بعموم النهی عن الرهان فی غیر الثلاثة ولأنّها لهو وقداح إلاّ ما خرج بالنص ... »(7) .

ص: 96


1- (1) المعتبر 2 / 471 .
2- (2) قواعد الأحکام 1 / 325 .
3- (3) نهایة الإحکام 2 / 469 .
4- (4) الکافی / 282 .
5- (5) مختلف الشیعة 5 / 18 .
6- (6) ذکری الشیعة 4 / 314 .
7- (7) المهذب البارع 3 / 82 .

والمحقق الثانی قال فی شرائط السفر : « الرابع : کون السفر سائغاً ، فالآبق والناشز وتارک وقوف عرفة أو الجمعة مع الوجوب وسالک ما یظن فیه العطب والمتصید لهواً وتابع الجائر وذو الغایة المحرمة لا یترخصون»(1) .

قال سید الریاض فی حرمة المسابقة فی غیر الثلاثة ولو کانت بغیر رهان : « فالمنع أظهر ، لحجّیة الإجماع المنقول ، سیما مع التعدد والاعتضاد بالشهرة وبما دلّ علی حرمة اللهو واللعب ، لکون المسابقة فی المذکورات منهما بلا تأمل ... »(2) .

وفی کتاب الشهادات قوّی قول ابن إدریس فی عدم مقبولیة شهادة اللاعب بالحمام بقوله : « فلأنّ ما دلّ علی قبحه (أی قبح اللعب) وورد بذمّه من الآیات والروایات أظهر من أن تخفی ، فإذا ثبت القبح والذمّ ثبت النهی ، إذ لا ذمّ علی ما لم ینه عنه اتفاقاً ، ولولا شذوذه بحیث کاد أن یعدّ للإجماع مخالفاً لکان المصیر إلی قوله لیس بذلک البعید جدّاً»(3) .

وقد أفتی بوجوب التمام والصیام لمن کان غرضه من الصید اللهو جدُّنا العلامة التقی صاحب الهدایة فی کتاب فتواه(4) . المطبوع أخیراً .

وأنت تجد بعض هذه العبائر صریحة فی حرمة اللهو أو اللعب ، نحو : کلام ابن إدریس حیث یقول : « واللعب بجمیع الأشیاء قبیحٌ ، فقد صار فاسقاً بلعبه»(5) .

وکلام المحقق حیث یقول : « أنّ اللهو حرامٌ»(6) . وبیان العلامة فی المختلف(7) الذی ذکرته آنفاً ، وما ذکره ابن فهد الحلی(8) ، ویظهر من استدلال سید الریاض أیضاً حرمة اللهو

ص: 97


1- (1) الرسالة الجعفریة المطبوعة ضمن رسائل المحقق الکرکی 1 / 123 .
2- (2) ریاض المسائل 10 / 238 .
3- (3) ریاض المسائل 15 / 263 .
4- (4) رساله صلاتیه / 411 .
5- (5) السرائر 2 / 124 .
6- (6) المعتبر 2 / 471 .
7- (7) راجع مختلف الشیعة 5 / 18 .
8- (8) المهذب البارع 3 / 82 .

واللعب عنده(1) .

نعم ، حرمة الصید اللهوی ووجوب التمام والصیام فی سفره لا تدلّ علی حرمة مطلق اللهو ، وکذا حرمة بیع الجواری المغنیات لهواً المذکورة فی کلام العلامة فی نهایته(2) .

ومن هنا ظهر عدم تمامیة کلام المحقق الإیروانی قدس سره ، حیث یقول : « لیس فی شیء ممّا نقله من العبائر دلالة علی حرمة اللهو بقول مطلق عدا عبارة المعتبر ... »(3) .

والوجه فیه عدم مراجعته لکلمات الأصحاب فی کتبهم واکتفی بما نقل عنهم الشیخ الأعظم فی مکاسبه کما یظهر ذلک من قوله « ممّا نقله» .

والعمدة فی المقام ملاحظة الأدلة الواردة فی حرمة اللهو أوّلاً ثمّ اللعب ثانیاً ثمّ اللغو ثالثاً :

روایات حرمة اللهو
أربع طوائف من الروایات

قد یقال بأنّ ظهور الروایات علی حرمة اللهو علی طوائف أربع :

الأولی : الطائفة الدالة علی أنّ السفر للصید اللهوی وجب فیه التمام ، نحو موثقة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عمّن یخرج عن أهله بالصقورة والبزاة والکلاب یتنزّه اللیلتین والثلاثة ، هل یقصّر من صلاته أم لا یقصّر ؟ قال : إنّما خرج فی لهو ، لا یقصّر(4) .

وفیه : غایة ما یُستفاد من الروایة وجوب التمام فی السفر للصید اللهوی ، وهذا الدلیل أعم من المدعی وهو حرمة اللهو ، وقد نُقل هذا البیان عن المحقق البغدادی(5) .

ص: 98


1- (1) ریاض المسائل 10 / 238 و 15 / 263 .
2- (2) نهایة الإحکام 2 / 469 .
3- (3) الحاشیة علی المکاسب 1 / 239 .
4- (4) وسائل الشیعة 8 / 478 ح 1 . الباب 9 من أبواب صلاة المسافر .
5- (5) نقل عنه المحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة 1 / 421 ، والمحقق البغدادی هو السید محسن الأعرجی المقدس الکاظمی (1227 - 1130) صاحب المحصول فی علم الاصول ووسائل الشیعة إلی أحکام الشریعة فی الفقه الإستدلالی .

والثانیة : الطائفة الدالة علی أنّ الإشتغال بالملاهی من الکبائر ، نحو : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون عدّ فیه من الکبائر : الإشتغال بالملاهی والإصرار علی الذنوب(1) .

وخبر الأعمش عن الصادق علیه السلام فی حدیث شرائع الدین عدّ من الکبائر : والملاهی التی تصدّ عن ذکر اللّه عزّ وجلّ مکروهة ، کالغناء وضرب الاُوتار والإصرار علی صغائر الذنوب(2) .

بتقریب : أنّ الملاهی جمع الملهی مصدراً أو وصفاً ، لا الملهاة آلة ، لأنّه لا یناسب التمثیل بالغناء کما عن الشیخ الأعظم(3) . فتدلّ علی أنّ اللهو مطلقاً من المحرّمات بل من الکبائر .

وفیه : الملاهی جمع الملهاة ، وهی اسم آلة ، والشاهد علی ذلک تمثیله بضرب الاُوتار . وأمّا الغناء فَمِن أظهر طرق اللهو أیضاً ، ولو لم یکن هذا متعیّناً فلا أقل من کونه من المحتمل ، وإذا جاء الاحتمال بطل الإستدلال ، فتصیر الروایة مجملة .

مضافاً إلی زیادة « الملاهی التی تصدّ عن ذکر اللّه عزّ وجلّ» فی روایة الأعمش ، فلو فرض عدم وجود هذا القید فلم یمکن عدّها من الکبائر . مضافاً إلی ضعف سندها .

والثالثة : الطائفة الدالة علی حرمة استعمال الملاهی والمعازف وآلات الموسیقی وهی روایات متواترة قد سبق ذکرها فی بحث الغناء ، فلا نعیدها فراجعها هناک .

وفیه : إن حرمة الغناء والموسیقی وهذا القسم من اللهو من ضروریات الدین ، وقال المحقق الخوئی : « بحیث یعدّ منکرها خارجاً عن زمرة المسلمین»(4) ، ولکن لا تدلّ علی حرمة اللهو مطلقاً .

والرابعة : الطائفة الدالة علی حرمة اللهو علی نحو الإطلاق ، نحو : خبر عبد اللّه بن علی عن علی بن موسی علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : کلّ ما ألهی عن ذکر اللّه فهو

ص: 99


1- (1) وسائل الشیعة 15 / 329 ح 33 .
2- (2) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 .
3- (3) المکاسب 2 / 44 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 422 .

من المیسر(1) .

ومنها : خبر موسی المروزی عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أربعة یفسدن القلب وینبتن النفاق فی القلب کما ینبت الماء الشجر : اللهو ، والبذاء ، وإتیان باب السلطان ، وطلب الصید(2) .

ومنها : مرفوعة علی بن إسماعیل قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إرکبوا وارموا وأن ترموا أحبّ إلیَّ من أن ترکبوا . ثم قال : کلّ لهو المؤمن باطل إلاّ فی ثلاث : فی تأدیبه الفرس ، ورمیه عن قوسه ، وملاعبته امرأته ، فإنهنَّ حقٌّ ، الحدیث(3) .

ومنها : ما رواه الکلینی بإسناده عنهم علیهم السلام فیما وعظ اللّه عزّ وجلّ به عیسی علیه السلام فی حدیث : یا عیسی ... ولا تَلْهِ فإنّ اللهو یفسد صاحبه ، الحدیث(4) .

ومنها : معتبرة حماد بن عیسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال لقمان لابنه فی حدیث : وللغافل ثلاث علامات : السهو واللهو والنسیان ، الحدیث(5) .

ومنها : خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لهو المؤمن فی ثلاثة أشیاء : التمتع بالنساء ومفاکهة الإخوان والصلاة باللیل(6) .

ومنها : مرسلة علی بن ابراهیم رفعه إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : سیکون قوم یبیتون وهم علی اللهو وشرب الخمر والغناء فبیناهم کذلک إذ مسخوا من لیلتهم وأصبحوا قردة وخنازیر(7) .

ص: 100


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 315 ح 15 . الباب 100 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 8 / 481 ح 9 . الباب 9 من أبواب صلاة المسافر .
3- (3) الکافی 5 / 50 ح 13 ونقلتُ عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 76 ح 2 ، ونقل عن الکافی فی وسائل الشیعة 19 / 250 ح 5 مختصراً مع إیراد سند لیس فی المصدر .
4- (4) الکافی 8 / 134 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 77 ح 5 .
5- (5) الخصال 1 / 121 ح 113 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 78 ح 8 .
6- (6) الخصال 1 / 161 ح 210 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 78 ح 9 .
7- (7) تفسیر القمی 1 / 181 ونقل عنه فی بحار الأنوار 76 / 240 ح 1 (31 / 503) ونقلت عن البحار فی موسوعتی 10 / 82 ح 30 .

ظاهر هذه الروایات حرمة اللهو مطلقاً ، ولکن الضرورة تقتضی جواز اللهو فی کثیر من الموارد ، نحو : المسافرة للتفرج ، وبعض الریاضات لأهلها ، ومطالعة بعض القصص والحکایات لأهلها ومثلها . فلا یمکن الأخذ بإطلاق هذه الروایات ، مضافاً إلی ضعف إسناد جمیعها . نعم بعض أقسام اللهو حرام قطعاً کما مرّ منّا قسماً منه فی بحث الغناء . هذا تمام الکلام فی اللهو .

أمّا اللعب

قد مضی تعریفه ولم یفتِ بحرمته إلاّ ابن إدریس الحلی فی السرائر(1) وتبعه العلامة وأفتی بحرمة المسابقة علی جمیع الملاعب(2) .

وقال سید الریاض : « فلأنّ ما دلّ علی قبحه (أی قبح اللعب) وورد بذمّه من الآیات والروایات أظهر من أن تخفی ، فإذا ثبت القبح والذمّ ثبت النهی ... »(3) .

وقد ادعی علی تحریمه بعض الروایات :

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن اللعب بأربعة عشر وشبهها ؟ قال : لا یستحب شیئاً من اللعب غیر الرهان والرمی(4) .

وأنت تری أنّ دلالتها علی الحرمة ممنوعة . قال المحقق الإیروانی : « هی تدلّ علی الکراهة»(5) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة بکیر بن أعین عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن اللعب بالشطرنج ، فقال : إنّ المؤمن لمشغول عن اللعب(6) .

ص: 101


1- (1) السرائر 2 / 124 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 2 / 354 من الطبع الحجری .
3- (3) ریاض المسائل 15 / 263 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 315 ح 14 . الباب 100 من أبواب ما یکتسب به .
5- (5) الحاشیة علی المکاسب 1 / 241 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 320 ح 11 ، الباب 102 من أبواب ما یکتسب به .

دلالة هذه الروایة أیضاً علی الحرمة ممنوعة .

وعلی هذا لم یثبت حرمة اللعب ، مضافاً إلی ورود بعض الروایات بجوازها :

نحو : معتبرة غیاث بن إبراهیم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس أن ینام الرجل بین أمتین والحرّتین ، إنّما نساؤکم بمنزلة اللعب(1) .

وخبر العلاء بن سیّابة قال : سألت أبا عبد اللّه عن شهادة من یلعب بالحمام ، فقال : لا بأس إذا کان لا یُعرف بفسق(2) .

ورواه الصدوق بسنده الصحیح إلی العلاء(3) ولکنّه إمامی مجهول ، فسنده ضعیف به .

وقد أفتی به الشیخ فی النهایة(4) والأصحاب یتبعونه بحیث کاد أن یکون إجماعاً(5) .

وعلی هذا لا یمکن القول بحرمة اللعب مطلقاً ، وفی مورد خاص إذا ثبتت حرمة اللعب نحو اللعب بالشطرنج والنرد وآلات القمار أخذنا به ، وفی غیره نرجع إلی أصل البراءة من الحرمة .

وأمّا اللغو

قد مرّ منّا تعریفه وربما استعمل فی معنی اللهو أیضاً ، وغایة ما یُستدل علی حرمته ظهور بعض الآیات والروایات :

فمن الکتاب قوله تعالی : «وَالَّذِینَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ»(6) .

وقوله تعالی : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(7) .

ص: 102


1- (1) الکافی 5 / 560 ح 16 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 50 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 27 / 412 ح 1 . الباب 54 من أبواب کتاب الشهادات .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 413 ح 3 . الباب 54 من أبواب کتاب الشهادات .
4- (4) النهایة / 327 .
5- (5) کما یظهر من صاحب الریاض فی کتابه 15 / 263 .
6- (6) سورة المؤمنون / 3 .
7- (7) سورة الفرقان / 72 .

وقوله تعالی : «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَکُمْ أَعْمَالُکُمْ سَلاَمٌ عَلَیْکُمْ لاَ نَبْتَغِی الْجَاهِلِینَ»(1) .

وقد ورد تطبیق اللغو علی الغناء فی روایتی محمد بن أبی عباد(2) وأبی أیوب الخرّاز(3) ، وهو من موارد استعمال اللغو فی معنی اللهو ، وقد مرّ ذکر حرمة بعض أقسام اللهو نحو الغنا والموسیقی .

مضافاً إلی ضعف سندیهما ، فلا یثبت بهما حرمة مطلق اللغو .

وقد استدل علی حرمة مطلق اللغو بعدّة من الروایات :

منها : خبر أبی خالد الکابلی عن زین العابدین علی بن الحسین علیه السلام فی حدیث : والذنوب التی تهتک العصم : شرب الخمر ، واللعب بالقمار ، وتعاطی ما یضحک الناس من اللغو ، والمزاح ، وذکر عیوب الناس ، ومجالسة أهل الریب ، الحدیث(4) .

والروایة ضعیفة الإسناد بعدّة من المجاهیل ، ولا تدلّ علی حرمة اللغو والمزاح مطلقاً ، بل ما کان فیها من السخریة والإستهزاء والغیبة وإدخال الإذی علی المؤمن وتعییره وهجائه . وأمّا إضحاک الناس بغیر هذه الاُمور التی هی من المعاصی ، فلا بأس به قطعاً ، بل یدخل فی عنوان إدخال السرور علی المؤمنین ، کما تدلّ علیه خبر یونس الشیبانی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : کیف مداعبة بعضکم بعضاً ؟ قلت : قلیل ، قال : فلا تفعلوا ، فإنّ المداعبة من حسن الخلق وإنّک لتدخل بها السرور علی أخیک ، ولقد کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یداعب الرجل یرید أن یسّره(5) .

وتحمل علی ما ذکرنا وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر(6) رضی اللّه عنه ، بل هی قرینة علیه .

ص: 103


1- (1) سورة القصص / 55 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 308 ح 19 . الباب 99 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 316 ح 2 . الباب 102 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 16 / 282 ح 8 . الباب 41 من أبواب الأمر والنهی .
5- (5) الکافی 2 / 663 ح 3 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 3 / 444 ح 2 .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 251 ح 4 . الباب 140 من أبواب أحکام العشرة .

وأمّا صحیحة سلیمان بن خالد عن الصادق علیه السلام فی حدیث أنّه قال : وکلّ کلام لیس فیه ذکر فهو لغو ، الحدیث(1) .

تحمل علی أحسن الإستفادة من التکلّم وقدرة البیان فی ذکر اللّه تعالی وذکر أولیائه وکتابه ودینه ، ففی الحقیقیة إرشاد إلی ما ذکرناه ولا تحمل علی المولویة ، فلا تدلّ علی حرمة مطلق اللغو .

ونحوها مرفوعة المفید عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال کلّ قول لیس للّه فیه ذکر فلغوٌ ، الحدیث(2) .

وأمّا مرفوعة نجل الطبرسی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لأبی ذر فی وصیته له : ... فاترک اللغو ما دمت فیها (أی فی المساجد) ، فإن لم تفعل فلا تلومنّ یوم القیامة إلاّ نفسک ... یا أبا ذر کل جلوس فی المسجد لغو إلاّ ثلاث : قراء مصلّ ، أو ذکر اللّه ، أو سائل عن علم(3) .

تحمل هذه المرفوعة أیضاً علی الإرشاد بحسن الإستفادة من المساجد والأوقات ، فلا تدلّ علی المولویة وحرمة اللغو مطلقاً .

والحاصل إثبات حرمة مطلق اللغو مشکل جداً بل ممنوع .

إلی هنا انتهی البحث عن اللهو واللعب واللغو والحمد للّه أوّلاً وآخراً .

ص: 104


1- (1) أمالی الصدوق . المجلس الثامن ح 2 / 79 الرقم 47 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 61 ح 2 .
2- (2) الإرشاد 1 / 297 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 63 ح 5 .
3- (3) مکارم الأخلاق / 467 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 65 ح 9 .

مدح مَنْ یستحق الذَّمّ أو عکسه

اشارة

قد أفتی العلامة فی کتبه بحرمة هذا المدح أو عکسه ، أی ذم مَنْ یستحق المدح ، بل ادعی عدم الخلاف فیه ، قال فی التذکرة : « ویحرم سبّ المؤمنین والکذب علیهم والنمیمة ومدح مَنْ یستحق الذمّ وبالعکس والتشبیب بالمرأة المعروفة المؤمنة بلا خلاف فی ذلک کلّه»(1) . وفی القواعد(2) والنهایة(3) عدَّ مِن المحرّمات مدح مَنْ یستحق الذَّم وبالعکس . وزاد فی التحریر(4) أنّ الأمر به أیضاً من المحرّمات ، وکذا أخذ الاُجرة علیه .

والشهید فی الدروس عدَّ من المحرّمات : « الذَّم لغیر أهله والمدح فی غیر موضعه»(5) .

وقال المحقق الکرکی فی تعیین المراد فی المقام : « المراد مدح مَنْ یستحق الذم مِن الوجه الذی یستحق به الذَّم ، وکذا عکسه . أمّا إعطاء الشخص الواحد حقّه من المدح والذم باعتبار مقتضاهما فإنّه یحسن ، ولا یبعد أن یقال بتحریم مدح من یستحق الذم وإن لم یکن من الوجه الذی یستحق به الذم إذا فهم السامع منه کونه ممدوحاً ، لما فیه من إیهام الباطل ، وإنّما ذکر هذا بخصوصه وإن کان نوعاً من الکذب لأنّه أغلظ من غیره ، ولما فی ذمّ من یستحق المدح من زیادة إیذائِه»(6) .

وکیف ما کان فقد استدل للحرمة بوجوهٍ :

الاستدلال لحرمته بوجوه

الأوّل : حکم العقل بقبح مدح مَنْ یستحق الذَّم أو عکسه .

ص: 105


1- (1) تذکرة الفقهاء 12 / 144 وذکر نحوها فی المنتهی 2 / 1013 من طبع الحجری .
2- (2) قواعد الأحکام 2 / 8 .
3- (3) نهایة الإحکام 2 / 471 .
4- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
5- (5) الدروس الشرعیة 3 / 163 .
6- (6) جامع المقاصد 4 / 27 .

بتقریب : أنّ العقل مستقل بقبح ذلک وبمقتضی قاعدة التلازم بین حکمی العقل والشرع یحکم بحرمته .

وفیه : أن العقل لا یحکم بقبحه ما لم ینطبق علیه عنوان آخر ممّا یستقل العقل بقبحه ، نحو : الکذب ، أو زیادة قوة الضالمین وسلطانهم ، أو إهانة المظلوم ، أو الإغراء بالجهل .

الثانی : قوله تعالی : «وَلاَ تَرْکَنُواْ إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّکُمُ النَّارُ وَمَا لَکُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِیَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ»(1) .

بتقریب : أن إنّ مدح الظالم یدخل فی الرکون إلیه ، وهو من « رکونِ مودَّةٍ ونصیحةٍ وطاعةٍ»(2) المنهی عنه ، فیحرم . وکذا قارن بین المدح والرکون فی حدیث مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم (3) الآتی .

وفیه : أن الدلیل أخصٌ من المدعی ، حرمة الرکون إلی الظالمین ومعونتهم واضحة ، وبعض مِن المدایح یدخل فیه أیضاً مِن الواضحات ، ولکن مدح مَنْ یستحق الذَّم أو عکسه بإطلاقهما لا یدخلان فی الرکون ، کما هو واضح لِمَنْ تأمل .

الثالث : ما ورد فی خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة ، وفیها : من عظّم صاحب دنیا وأحبّه لطمع فی دنیاه سخط اللّه علیه وکان فی درجته مع قارون فی التابوت الأسفل من النار(4) .

بتقریب : أنّ المادح یکون من المعظمین لصاحب الدنیا والمحبّین له طمعاً فی دنیاه .

وفیه : أوّلاً : أنّها ضعیفة الإسناد .

وثانیاً : بعض أقسام مدح من لا یستحق یدخل فی الروایة ، ولکن بعضها الآخر لم یندرج تحتها .

الرابع : ما ورد فی خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من مدح سلطاناً جائراً وتحفّف

ص: 106


1- (1) سورة هود / 113 .
2- (2) کذا فی تفسیر القمی 1 / 338 وفی مجمع البیان 5 / 306 روی عنهم علیهم السلام .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 184 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 181 ح 14 . الباب 42 من أبواب ما یکتسب به .

وتضعضع له طمعاً فیه کان قرینه فی النار . قال : وقال صلی الله علیه و آله وسلم : قال اللّه عزّ وجلّ : «وَلاَ تَرْکَنُواْ إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّکُمُ النَّارُ» ، الحدیث(1) .

حَفَّف القوم حوله وحَفَّفوه : أحدقوا به . تَضَعْضَع : خَضَع وذلَّ .

وفیه : أوّلاً : الروایة ضعیفة الإسناد .

وثانیاً : أنّها تشمل مدح السلطان الجائر طمعاً فی دنیاه ، وأما غیره فیخرج من مدلولها ، فالدلیل أخصٌ من المدعی .

الخامس : خبر هشام بن سالم عن الصادق علیه السلام قال : من جالس لنا عائباً ، أو مدح لنا قالیاً ، أو واصل لنا قاطعاً ، أو قطع لنا واصلاً ، أو والی لنا عدواً ، أو عادی لنا ولیّاً ، فقد کفر بالذی أنزل السبع المثانی والقرآن العظیم(2) .

القالی : هو المُبْغِض .

وفیه : أوّلاً : أنّها ضعیفة الإسناد ، لأنّ أبا أیوب سلیمان بن مقبل المدینی مجهول حاله . وثانیاً : تدلّ علی حرمة مدح مبغض أهل البیت لا غیره .

والحاصل ، هذه الأدلة لا تدلّ علی حرمة مطلق مدح من لا یستحق المدح أو عکسه . نعم إذا کانا یدخلان فی عنوان الکذب أو الإغراء بالجهل أو تقویة الظالم وشوکته أو إهانة المؤمن والمظلوم أو الغیبة أو السبّ ونحوها یحکم بحرمتهما ، لوضوح حرمة هذه العناوین .

ولعلّ أحسن مقال فی هذا المجال هو قول جدنا الشیخ جعفر حیث یقول : « وتفصیل الحال بعد الإجمال : أنّه ینبغی إعطاء کلّ ذی حقٍّ حقّه ، فمَنْ سلم من أسباب الذم فهو ممدوح لا یذمّ ، وبالعکس العکس . ولو کان ذا جهتین کان الإنسان معه ذا حالتین قد یمدح ویبالغ وقد یذمّ محافظاً علی الوجه السائغ . ومَنْ نقل الإجماع فی المنع علی الإطلاق مردود إلاّ أن یکون جاریاً علی هذا المذاق »(3) .

ص: 107


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 183 ح 1 . الباب 43 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) أمالی الصدوق . المجلس الثالث عشر ح 7 / 111 الرقم 87 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 184 ح 6 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 236 .

وتبعه تلمیذاه صاحبا المفتاح(1) والجواهر(2) ، وکذا تلمیذ تلمیذه صاحب برهان الفقه(3) .

قال فی الجواهر : « فإنّ الذی ینبغی إعطاء کلّ ذی حقٍّ حقّه ، فمن لم یکن فیه صفة للذم فلیس له إلاّ المدح وبالعکس ، فذو الجهتین یستحق الأمرین . ودعوی أنّ مستحق الذم یحرم مدحه ومستحق المدح یحرم ذمّه کذلک ، ممنوعة بالسیرة القاطعة وغیرها فضلاً عن دعوی الإجماع علیها ، واللّه أعلم»(4) .

والمدح الحرام قد یکون سائغاً إذا رفع عن المادح أو غیره الضرر أو الظلم أو المفسدة أو کان لابدّ منه تقیة(5) ، قال شارح القواعد : « وهذه عادة العلماء مع الاُمراء ، خصوصاً مَنْ کانوا مِنْ أهل الحقّ ولو أنّهم من شرار الخلق»(6) .

وقال صاحب الغنیة : « قال بعض الأعلام رحمه الله : عمل ذلک بالنسبة إلی السلاطین الغیر الغاصبین لحقوق الأئمة الطاهرین علیهم السلام الموالین ما لم یکن إعانة لهم فی شیء من ظلمهم لا بأس به أیضاً»(7) .

وإذا صار المدح حراماً فأخذ الجائزة والاُجرة والفائدة علیه أیضاً حرام ، کما أفتی به العلامة فی التحریر(8) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(9) .

ص: 108


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 222 .
2- (2) الجواهر 22 / 74 .
3- (3) برهان الفقه . کتاب التجارة / 24 الطبع الحجری .
4- (4) الجواهر 22 / 75 .
5- (5) کما تدل علیه عمومات التقیة وخبر درست عن أبی الحسن موسی علیه السلام ، راجع مستدرک الوسائل 13 / 127 ح 1 .
6- (6) شرح القواعد 1 / 236 للشیخ جعفر قدس سره .
7- (7) غنیة الطالب 1 / 184 .
8- (8) التحریر 2 / 260 .
9- (9) شرح القواعد 1 / 236 .
وظیفة المادح والممدوح فی الروایات

وفی ختام البحث نجلب أنظار القراء الکرام إلی بعض الروایات فی المقام حیث یعلم منها المادح والممدوح وظیفتهما :

منها : حدیث مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، قد ورد فیه أنّه نهی عن المدح وقال : أحثوا وجوه المداحین التراب(1) .

وعن علی أمیر المؤمنین علیه السلام : الثناء بأکثر من الإستحقاق مَلَق والتقصیر عن الإستحقاق عیٌّ أو حسدٌ(2) .

وعنه علیه السلام : ربّ مفتون بحسن القول فیه(3) .

وعنه علیه السلام : أجهل الناس المغتر بقول مادح متملق یحسّن له القبیح ویبغّض إلیه النصیح(4) .

وعنه علیه السلام : مادحک بما لیس فیک مستهزءٌ بک ، فإن لم تُسعِفهُ بنوالک بالغ فی ذمّک وهجائک(5) .

وعنه علیه السلام : من مدحک فقد ذبحک(6) .

وعنه علیه السلام فی حدیث : طلبتُ المدح فما وجدت إلاّ بالسخاوة ، کونوا أسخیاء تمدحوا ، الحدیث(7) .

وعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إذا مدح الفاجر اهتزّ العرش وغضب الربّ(8) .

ص: 109


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 183 ح 1 .
2- (2) نهج البلاغة . الخطبة 347 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10/185 ح9 .
3- (3) نهج البلاغة ، الحکمة 462 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10/185 ح10 .
4- (4) غ-رر الح-ک-م ح 3262 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 185 ح 13 .
5- (5) غ-رر الح-ک-م ح 9838 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 186 ح 19 .
6- (6) غ-رر الح-ک-م ح 7766 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 186 ح 15 .
7- (7) جامع الاخبار/341 ح1ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 185 ح12 .
8- (8) بحار الأنوار 74 / 150 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 186 ح20 .

وعن أبی محمد الحسن العسکری علیه السلام أنّه قال : من مدح غیر المستحق فقد قام مقام المتهم(1) .

وعن أمیر المؤمنین أنّه مدحه قوم فی وجهه ، فقال : اللهم إنّک أعلم بی من نفسی وأنا أعلم بنفسی منهم ، اللهم اجعلنا خیراً ممّا یظُنُّون واغفر لنا ما لا یعلمون(2) .

والحمد للّه ربّ العالمین .

ص: 110


1- (1) أعلام الدین / 313 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 185 ح 11 .
2- (2) نهج البلاغة . الحکمة 100 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 10 / 185 ح 8 .

معونة الظالمین

اشارة

قد أفتی الأصحاب قدس سرهم بحرمة معونة الظالمین فی الجملة ، نحو : المفید فی المقنعة(1) والشیخ فی النهایة(2) وسالار بن عبد العزیز الدیلمی فی المراسم(3) وابن إدریس فی السرائر(4) والمحقق فی الشرائع(5) والنافع(6) والعلامة فی التذکرة(7) والقواعد(8) والتحریر(9) والنهایة(10) والإرشاد(11) والشهید فی الدروس(12) واللمعة(13) والکرکی فی جامع المقاصد(14) وثانی الشهیدین فی المسالک(15) والروضة(16) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(17) والسبزواری فی

ص: 111


1- (1) المقنعة / 589 .
2- (2) النهایة / 365 .
3- (3) المراسم / 170 .
4- (4) السرائر 2 / 222 .
5- (5) الشرائع 2 / 4 .
6- (6) المختصر النافع / 117 .
7- (7) تذکرة الفقهاء 12 / 143 مسألة 648 .
8- (8) قواعد الأحکام 2 / 8 .
9- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
10- (10) نهایة الإحکام 2 / 470 .
11- (11) ارشاد الأذهان 1 / 357 .
12- (12) الدروس الشرعیة 3 / 163 .
13- (13) اللمعة الدمشقیة / 108 .
14- (14) جامع المقاصد 4 / 26 .
15- (15) مسالک الأفهام 3 / 127 .
16- (16) الروضة البهیة 3 / 213 .
17- (17) مجمع الفائدة 8 / 64 .

الکفایة(1) والشیخ یوسف فی الحدائق(2) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(3) وسید الریاض(4) وأصحاب المفتاح(5) والمستند(6) والجواهر(7) وبرهان الفقه(8) والوسیلة(9) .

وأمّا أدلتها :
1 - الإجماع

قد عرفت أنّ الحکم بالحرمة فی معونة الظالمین فی الجملة إجماعیٌّ بین أصحابنا أعلی اللّه کلمتهم ، وقد اعترف بوجود هذا الإجماع جمع منهم ، نحو : المحقق الأردبیلی(10) وسید الریاض(11) والفاضل النراقی(12) والشیخ الأعظم(13) ، وعن المحقق الخوئی فی معونتهم فی ظلمهم قال : « إنّها غیر جائزة بلا خلاف بین المسلمین قاطبة»(14) وعن الفقیه السبزواری فیه : « إجماع المسلمین بل الضرورة من الدین»(15) .

ص: 112


1- (1) الکفایة 1 / 435 .
2- (2) الحدائق 18 / 119 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 214 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 176 .
5- (5) مفتاح الکرامة 12 / 200 .
6- (6) مستند الشیعة 14 / 152 .
7- (7) الجواهر 22 / 51 .
8- (8) برهان الفقه / کتاب التجارة / 41 من الطبع الحجری .
9- (9) وسیلة النجاة 2 / 5 الطبع الحجری .
10- (10) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 64 .
11- (11) ریاض المسائل 8 / 176 .
12- (12) مستند الشیعة 14 / 152 : قال فیه « بالثلاثة» ومراده دلالة الکتاب والسنة والإجماع علی حرمتها .
13- (13) المکاسب المحرمة 2 / 53 .
14- (14) مصباح الفقاهة 1 / 426 .
15- (15) مهذب الأحکام 16 / 161 .

وقال قبلهما صاحب برهان الفقه فیه : « وبالجملة لا خلاف نصاً وفتوی فی حرمة ما یتحقق به الإعانة علی الإثم والظلم أو کان الفعل محرَّماً فی نفسه ولو لغیر الإعانة ... »(1) .

أقول : الإجماع بقسمیه علی الحرمة فی الجملة حاصل فی المقام ، ولکن العمدة أنّه مدرکیٌّ ولیس بتعبدیٍّ حتّی یفیدنا شیئاً .

2 - حکم العقل

العقل یحکم مستقلاً بقبح إبقاء مادة الفساد وإشاعته وترویجه ومعونتهم منها ، فالعقل یحکم بقبحه ، وبقاعدة الملازمة یترتب علیه الحکم الشرعی ، أی الحرمة .

وقد ذکر دلالة العقل علی الحرمة هنا جمع من الأصحاب ، نحو : المحقق الأردبیلی(2) والشیخ الأعظم(3) والسیدان الخوئی(4) والسبزواری(5) .

3 - الکتاب

تدلّ علی حرمتها من الکتاب قوله تعالی فی سورة هود : «وَلاَ تَرْکَنُواْ إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّکُمُ النَّارُ وَمَا لَکُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِیَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ»(6) .

بتقریب : أنّ معونتهم فی ظلمهم وکون الرجل من أتباعهم وممّن یُعرف بهم من أظهر مصادیق الرکون المنهی عنه فی الآیة الشریفة .

قال الزمخشری : « رَکَنَ إلیه رُکوناً وهو راکن إلی فلان وساکن إلیه»(7) .

وقال الفیومی : « رَکِنْتُ إلی زیدٍ : اعتمدتُ علیه ... »(8) .

ص: 113


1- (1) برهان الفقه . کتاب التجارة / 41 الطبع الحجری .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 64 .
3- (3) المکاسب المحرمة 2 / 53 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 427 .
5- (5) مهذب الأحکام 16 / 161 .
6- (6) سورة هود / 113 .
7- (7) أساس البلاغة / 177 .
8- (8) المصباح المنیر / 237 .

وقال الفیروزآبادی : « رَکَنَ إلیه ... رُکوناً : مال وسَکَنَ ... »(1) .

وقال ابن منظور : « رَکَنَ إلی الشیء ... : أی مال إلیه وسکن ... وفی التنزیل العزیز «وَلاَ تَرْکَنُواْ إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُواْ» قُری ء بفتح الکاف من رَکِنَ یَرْکَنُ رُکوناً : إذا مال إلی الشیء واطمأنَّ إلیه ... »(2) .

وفی مجمع البحرین بعد الآیة الشریفة : «أی لا تطمئنوا إلیهم وتسکنوا إلی قولهم وتظهروا الرضا بفعلهم ومصاحبتهم ومصادقتهم ومداهنتم ... »(3) .

أقول : فالرکون فی اللغة المیل والسکون والاعتماد والإطمئنان ، ومن الواضح أنّ الرکون یحصل غالباً إلی أرباب الحکم والقدرة والسلطة والثروة بحیث یمکن أنْ یعتمد علیهم عند أعین الناس الذین یعلمون ظاهراً من الدنیا وهم عن الآخرة غافلون .

والآیة الشریفة نهت عن هذا الرکون إلی الظلمة وساوت الرکون إلیهم بالدخول إلی النار واشتعال الراکن .

ومن الواضح بأنّ معونتهم من أتم مصادیق الرکون إلیهم ، فتحرم بالآیة الشریفة .

4 - السنة المتواترة القطعیة

الروایات المتواترة(4) تدلّ علی حرمة معونتهم ، ویأتی ذکر بعضها فانتظر .

ثمّ یقع الکلام فی ثلاث مقامات :

الأوّل : إعانة الظالمین علی ظلمهم .

الثانی : کون الإنسان من أعوانهم وفی جملتهم .

الثالث : معونتهم علی المباحات .

ص: 114


1- (1) القاموس : مادة رکن من الطبع الحجری .
2- (2) لسان العرب 5 / 305 طبع بیروت عام 1408 .
3- (3) مجمع البحرین / 558 الطبع الحجری .
4- (4) راجع وسائل الشیعة 17 / 177 . الباب 42 من أبواب ما یکتسب به ، وبحار الأنوار 72 / 367 ومستدرک الوسائل 13 / 122 وجامع أحادیث الشیعة 22 / 327 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 258 .
المقام الأوّل : حرمة إعانتهم علی ظلمهم

تدلّ علیها مضافاً إلی الآیة الشریفة عدّة من الروایات نتبرک بذکر بعضها :

منها : صحیحة أبی حمزة عن علی بن الحسین علیه السلام فی حدیث قال : إیّاکم وصحبة العاصین ومعونة الظالمین(1) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن أعمالهم ؟ فقال لی : یا أبا محمد لا ولا مَدّة قلم ، إنّ أحدهم لا یصیب من دنیاهم شیئاً إلاّ أصابوا من دینه مثله ، أو حتّی یصیبوا من دینه مثله(2) .

ومنها : حسنة جهم بن حمید الرواسی قال : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : أما تغشی سلطان هؤلاء ؟ قلت : لا ، قال : ولم ؟ قلت : فراراً بدینی ، قال : وعزمت علی ذلک ؟ قلت : نعم ، قال لی : الآن سلم لک دینک(3) .

ومنها : معتبرة السکونی عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا کان یوم القیامة نادی مناد : أین أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواةً أو ربط کیساً أو مَدّ لهم مَدّة قلم فاحشروهم معهم(4) .

رواها السید فضل اللّه الرواندی فی النوادر / 158 ح 234 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 123 ح 7 .

ومنها : معتبرة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّ تباعد من اللّه ، ولا کثر ماله إلاّ اشتدّ حسابه ، ولا کثر تبعه إلاّ کثرت شیاطینه(5) .

ص: 115


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 177 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 179 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 180 ح 7 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 180 ح 11 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 181 ح 12 .

ومنها : معتبرة ثالثة له عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إیّاکم وأبواب السلطان وحواشیها ، فإنّ أقربکم من أبواب السلطان وحواشیها أبعدکم من اللّه عزّ وجلّ ، ومن آثر السلطان علی اللّه أذهب اللّه عنه الورع وجعله حیراناً(1) .

ومنها : خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة حیث قال صلی الله علیه و آله وسلم فیها : من تولّی خصومة ظالم أو أعانه علیها نزل به ملک الموت بالبشری بلعنه ونار جهنم وبئس المصیر ، الحدیث(2) .

الروایة ضعیفة سنداً وتامة الدلالة . ویمکن تصحیف « معونة » بخصومة فی متنها کما کتبته قریباً من عشر سنین حین ألقیت هذه الخطبة الشریفة محاضرة لجماعة من المؤمنین علی هوامش کتاب عقاب الأعمال(3) لشیخنا الصدوق قدس سره .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : من أعان ظالماً علی مظلوم لم یزل اللّه علیه ساخطاً حتّی ینزع عن معونته(4) .

ومنها : خبر طلحة بن زید عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : العامل بالظلم والمعین له والراضی به شرکاء ثلاثتهم(5) .

ومنها : مرسلة ابن أبی فراس عن اوس بن شرحبیل رفعه : من مشی مع ظالم لیعینه وهو یعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام(6) .

رواها صاحب جامع الأخبار / 436 ح 10 مرفوعاً عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، ونقلت عنه فی الموسوعة 4 / 263 ح 18 .

ومنها : مرسلة اُخری له قال : قال بعضهم لمّا أراده ابن هبیرة للقضاء قال : ما کنتُ

ص: 116


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 181 ح 13 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 181 ح 14 .
3- (3) عقاب الأعمال / 331 .
4- (4) وسائل الشیعة 16 / 57 ح 5 . الباب 80 من أبواب جهاد النفس .
5- (5) وسائل الشیعة 16 / 155 ح 1 - و - 17 / 177 ح 2 .
6- (6) تنبیه الخواطر / 62 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 182 ح 15 .

لألی لک بعد ما حدّثنی إبراهیم . قال : وما حدّثک ؟ قال : حدّثنی عن علقمة عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا کان یوم القیامة نادی منادٍ : أین الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتّی مَنْ بری لهم قلماً أو لاق لهم دواة ، فیجعلون فی تابوت حدید ثمّ یرمی بهم فی نار جهنم(1) .

ومنها : خبر ابن بنت الولید بن صبیح الکاهلی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من سوّد اسمه فی دیوان ولد سابع حشره اللّه یوم القیامة خنزیراً(2) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : ألا ومن علق سوطاً بین یدی سلطان جعل اللّه ذلک السوط یوم القیامة ثعباناً من النار طوله سبعون ذراعاً ، یسلّطه اللّه علیه فی نار جهنم وبئس المصیر(3) .

وهذه الروایات المتواترة تدلّ علی حرمة إعانة الظالمین علی ظلمهم بوضوح .

المقام الثانی : حرمة کون الانسان من أعوانهم وفی جملتهم

بحیث یعدّ منهم ومِن المنسوبین إلیهم ، بأن یقال له : هذا من خدمه أو عماله أو مرتزقته أو أنّه معماره أو طباخه أو خیاطه ونحوها .

تدلّ علی حرمة ذلک مضافاً إلی الآیة الشریفة ، الروایات الماضیة فی المقام السابق ، لعدم تقییدها بالحرام ، کما نص علی ذلک المحقق الإیروانی(4) قدس سره .

ویدلّ علیها أیضاً : خبر کتاب مسائل الرجال عن أبی الحسن علی بن محمد الهادی علیه السلام : أنّ محمد بن علی بن عیسی کتب إلیه یسأله عن العمل لبنی العباس وأخذ ما یتمکن من أموالهم هل فیه رخصة ؟ فقال : ما کان المدخل فیه بالجبر والقهر فاللّه قابل العذر ، وما خلا ذلک فمکروه ، ولا محالة قلیله خیر من کثیره ، وما یکفر به ما یلزمه فیه من یرزقه

ص: 117


1- (1) تنبیه الخواطر / 62 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 182 ح 16 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 180 ح 9 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 180 ح 10 .
4- (4) الحاشیة علی المکاسب 1 / 243 .

ویسبب علی یدیه ما یسرّک فینا وفی موالینا ، الحدیث(1) .

إطلاق العمل یشمل المقام لو لم نقل بأنّه ظاهر فیه . ولکن السند مرسل ، لأنّ ابن إدریس لم یذکر سنده إلی کتاب المسائل .

المقام الثالث : حکم إعانة الظالم علی الأفعال المباحة

هل یجوز إعانة الظالم علی الفعل المباح أم یحرم ؟ یظهر من بعض الروایات حرمتها :

منها : خبر عذافر قال : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : یا عذافر نُبئتُ أنّک تعامل أبا یوب والربیع ، فما حالک إذا نُودی بک فی أعوان الظلمة ؟ قال : فوجم أبی ، فقال له أبو عبد اللّه لما رأی ما أصابه : أی عذافر إنّی إنّما خوّفتُک بما خوّفنی اللّه عزّ وجلّ به . قال محمد ابنه : فقدم أبی فما زال مغموماً مکروباً حتّی مات(2) .

والروایة ضعیفة سنداً بسهل وعذافر ، وأمّا دلالتها أیضاً فیمکن المناقشة فیها بأنّه یعامل معهم دائماً کما یدلّ علیه فعل المضارع ، فیدخل فی أدلة المقام الثانی ، أی کون الرجل من المنسوبین إلیهم وفی جملتهم .

ومنها : حسنة ابن أبی یعفور قال : کنتُ عند أبی عبد اللّه علیه السلام إذ دخل علیه رجل من أصحابنا فقال له : جعلت فداک إنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضیق أو الشدّة فیدعی إلی البناء یبنیه أو النهر یکریه أو المسناة یصلحها فما تقول فی ذلک ؟

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : فما اُحبُّ أنّی عقدتُ لهم عقدة أو وکیتُ لهم وکاءً ، وإن لی ما بین لابتیها ، لا ولا مَدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة یوم القیامة فی سرادق من نار حتّی یحکم اللّه بین العباد(3) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ بشیر وهو بشیر بن عاصم البجلی الکوفی(4) ، ولا یبعد

ص: 118


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 190 ح 9 . الباب 45 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 178 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 179 ح 6 .
4- (4) جامع الرواة 1 / 124 .

حسنه(1) ، فالسند حسنٌ به .

المسناة : السَّد وما یبنی علی وجه السیل . الوکاء : ما یسُدّ به رأس القُربة . والواو فی « وإن لی ما بین لابتیها » أی وإن کان لی ما بین لابتی المدینة . واللابتان تثنیة اللابة ، وهی أرض ذات أحجار سود ، وکأن المراد بهما الجبلان فی ناحیتی المدینة . والسرادق : الخیمة ، کما ذکره شیخنا الأستاذ - مدظله -(2) .

وأمّا دلالتها علی الحرمة أیضاً فغیر واضحة لظهور « ما اُحبُّ أنّی » فی الکراهة . والحکم بأنّ أعوانهم فی سرادق من نار یدلّ علی حرمة المقام الأوّل ونهایة المقام الثانی .

قال المحقق الخوئی : « فقوله علیه السلام « ما اُحبُّ أنّی عقدت لهم عقدة الخ » لو لم یکن ظاهراً فی الکراهة فلا ظهور له فی الحرمة ، فتکون الروایة مجملة»(3) .

ومنها : صحیحة یونس بن یعقوب قال : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : لا تعنهم علی بناء مسجد(4) .

سندها صحیح ، ودلالتها علی الحرمة أیضاً واضحة .

ومنها : صحیحة سلیمان الجعفری قال : قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام : ما تقول فی أعمال السلطان ؟ فقال : یا سلیمان الدخول فی أعمالهم والعون لهم والسعی فی حوائجهم عدیل الکفر ، والنظر إلیهم علی العمد من الکبائر التی یُستحق بها النار(5) .

دلالتها تامة ، وسندها صحیح ، لأنّ العیاشی أدرک الجعفری فنقل الروایة عنه بلا واسطة .

ومنها : موثقة صفوان بن مهران الجمال قال : دخلت علی أبی الحسن الأوّل علیه السلام فقال لی : یا صفوان کلّ شیءٍ منک حسن جمیل ما خلا شیئاً واحداً ، قلت : جعلت فداک أیّ شیءٍ ؟

ص: 119


1- (1) نتائج التنقیح / 21 الرقم 1252 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 252 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 438 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 180 ح 8 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 191 ح 12 . الباب 45 من أبواب ما یکتسب به .

قال : إکراؤک جمالک من هذا الرجل - یعنی هارون - قلت : واللّه ما أکریته أشراً ولا بطراً ولا للصید ولا للهو ، ولکنّی أکریته لهذا الطریق - یعنی طریق مکة - ولا أتولاّه بنفسی ولکنّی أبعث معه غلمانی .

فقال لی : یا صفوان أیقع کراؤک علیهم ؟ قلت : نعم ، جعلت فداک ، قال : فقال لی : أتحبّ بقاءهم حتّی یخرج کراؤک ؟ قلت : نعم ، قال : من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن کان منهم کان ورد النار .

قال صفوان : فذهبت فبعت جمالی عن آخرها ، فبلغ ذلک إلی هارون ، فدعانی فقال لی : یا صفوان بلغنی أنّک بعتَ جمالک ، قلت : نعم ، قال : ولم ؟ قلت : أنا شیخ کبیر وإنّ الغلمان لا یفون بالأعمال ! فقال : هیهات هیهات إنّی لأعلم من أشار علیک بهذا ، أشار علیک بهذا موسی بن جعفر علیه السلام ، قلت : ما لی ولموسی بن جعفر ؟ فقال : دع هذا عنک ، فو اللّه لو لا حسن صحبتک لقتلتک(1) .

سند الروایة صحیح ، لأنّ الکشی من الثقات وحَمْدُوَیه بن نصیر ثقة ، والمراد بمحمد بن إسماعیل الرازی هو البرمکی الثقة ، والشاهد علی ذلک روایة الکلینی فی الکافی(2) عن محمد بن جعفر الأسدی عن محمد بن إسماعیل البرمکی الرازی ، وذهب إلی اتحادهما المحقق الخوئی(3) قدس سره ، وابن فضال موثق ، وصفوان بن مهران الجمال أیضاً من الثقات ، فالسند موثق ، ولذا نفی البعد عن کونها موثقة فی الإرشاد(4) .

ودلالتها علی الحرمة واضحة .

وبالجملة ، دلالة بعض هذه الروایات - مع اعتبار سند بعضها - علی الحرمة معلومة ، ولذا قال صاحب الحدائق : « وهی (أی الأخبار) صریحة فی تحریم معونة الظالمین بالاُمور

ص: 120


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 182 ح 17 .
2- (2) الکافی 1 / 78 ح 3 .
3- (3) معجم رجال الحدیث 15 / 108 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 252 .

المحلَّلة علی أبلغ وجه وآکده ... »(1) .

ولکن العمدة فی المقام إعراض المشهور عن هذه الروایات ، لأنّ أکثرهم قیّدوا الحکم بالحرمة فی معونتهم بالحرام کما فی الشرائع(2) والنافع(3) والإرشاد(4) وشرحه(5) والکفایة(6) ، أو قیّدوا الحکم بالظلم کما فی السرائر(7) والتذکرة(8) والتحریر(9) والدروس(10) واللمعة(11) ، بل صرّح بعضهم بجواز معونتهم فی غیر الظلم من المباحات منهم أصحاب جامع المقاصد(12) والمسالک(13) والروضة(14) ومجمع الفائدة(15) والکفایة(16) .

وقال سید الریاض : « وإن کان ظاهر الأصحاب بغیر خلاف یُعرف اختصاص التحریم بالإعانة فی المحرَّم»(17) .

ص: 121


1- (1) الحدائق 18 / 121 .
2- (2) الشرائع 2 / 4 .
3- (3) المختصر النافع / 117 .
4- (4) إرشاد الأذهان 1 / 357 .
5- (5) مجمع الفائدة 8 / 63 .
6- (6) کفایة الأحکام 1 / 435 .
7- (7) السرائر 2 / 222 .
8- (8) تذکرة الفقهاء 12 / 143 .
9- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
10- (10) الدروس 3 / 163 .
11- (11) اللمعة الدمشقیة / 108 .
12- (12) جامع المقاصد 4 / 26 .
13- (13) مسالک الأفهام 3 / 127 .
14- (14) الروضة البهیة 3 / 213 .
15- (15) مجمع الفائدة 8 / 63 .
16- (16) الکفایة 1 / 435 .
17- (17) ریاض المسائل 8 / 177 .

وقال بحر العلوم فی المصابیح « إنّه مشهور»(1) .

ومنهم : الفاضل النراقی(2) والشیخ جعفر(3) وتلمیذاه صاحبا المفتاح(4) والجواهر(5) والشیخ الأعظم(6) وصاحب برهان الفقه(7) .

فهذا الإعراض وقیام السیرة القطعیة علی خلاف ذلک یدلّنا علی حمل الروایات إمّا علی الکراهة أو علی المقام الثانی الذی قد مرّ منّا .

ثمّ إنّ هاهنا تنبیهات :
الأوّل : هل الظالم یختص بمن ادعی الإمامة من العامة

الأوّل : هل الظالم یختص بمن ادعی الإمامة من العامة وانحرف عن مذهب الحقّ ، أو أنّه یشمل سلاطین الشیعة ورؤساءهم أیضاً ؟

الظاهر أنّ عنوان الظالم مطلق یشمل جمیعهم بلا فرق بین مدعی الإمامة وغیره ، وإن کان الأوّل أظلم ، وأنّ المدعین فی عصر صدور الأخبار ظلمة ولکن لا یوجب الإنحصار .

فما ورد فی بعض العبارات(8) من تخصیص کراهة معونتهم فی المباحات بأنّهم من العامة ولا یشمل سلاطین الشیعة ، غیر تام .

الثانی : هل الظالم هنا ینحصر بالظالم للغیر

الثانی : هل الظالم هنا ینحصر بالظالم للغیر من أرباب الحکم والقدرة والسلطة أو یشمل العاصین الذین یظلمون أنفسهم ؟ الظاهر - بقرینة الحکم والموضوع والصدق العرفی -

ص: 122


1- (1) کما نقل عنه حفیده السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه . کتاب التجارة / 41 الطبع الحجری .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 156 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 215 .
4- (4) مفتاح الکرامة 12 / 202 و 203 .
5- (5) الجواهر 22 / 53 .
6- (6) المکاسب 2 / 59 .
7- (7) برهان الفقه . کتاب التجارة / 42 الطبع الحجری .
8- (8) نحو ریاض المسائل 8 / 179 و شرح القواعد 1 / 216 ومفتاح الکرامة 12 / 203 والجواهر 22 / 54 والمکاسب المحرمة 2 / 103 للسید الخمینی قدس سرهم .

أنّه یختص بالظالم للغیر من السلاطین ونحوهم ولا یشمل العاصین والآثمین . مضافاً إلی ظهور بعض الروایات ونص بعضها الاُخری بالإختصاص ، فما یظهر من سید الریاض من شمول الحکم « حتّی للظالم لنفسه بعصیانه مع حرمانه عن الرئاسة وخذلانه»(1) وتبعه الفاضل النراقی(2) غیر تام عندنا .

الثالث : هل تجوز المعاملة معهم ؟

تجوز المعاملة معهم بنحو البیع والشراء ، وقیام السیرة القطعیة المتصلة إلی زمن المعصومین علیهم السلام علی المعاملة معهم ، ولو لم یکن ذلک لم یقم للمسلمین سوق .

الرابع : یجوز معونتهم للإضطرار .

معونتهم المحرَّمة ترتفع حرمتها لأجل الإضطرار والتقیة ، لإطلاق أدلتهما . وقد اعترف بالجواز بعض الأصحاب فی صورتی الضرورة والتقیة ، نحو صاحبی المفتاح(3) والجواهر ، والأخیر ذهب إلی کراهة معونتهم فی المباحات ثمّ قال : « وإن کان هو لا یخلو من کراهة ، ما لم تدع الضرورة من تقیة ونحوها إلیه ... »(4) .

الخامس : إنّ معونتهم من الکبائر .

تدلّ علی کون معونتهم من الکبائر - مضافاً إلی الآیة الناهیة عن الرکون إلیهم - معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام حیث عدّ فیها من الکبائر : معونة الظالمین(5) .

وخبر الأعمش عن الصادق علیه السلام عدّ من الکبائر فیه : وترک معاونة المظلومین والرکون إلی الظالمین ، الحدیث(6) .

ص: 123


1- (1) ریاض المسائل 8 / 179 .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 156 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 203 .
4- (4) الجواهر 22 / 54 .
5- (5) وسائل الشیعة 15 / 329 ح 33 .
6- (6) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 .

وصحیحة سلیمان الجعفری عن الرضا علیه السلام (1) وحسنة ابن أبی یعفور(2) وخبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم (3) وخبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة(4) ومرسلتی ابن أبی فراس(5) الماضیة کلّها تدلّ بوضوح علی کون معونتهم من الکبائر ، ولذا صرّح بکونها من الکبائر الشیخ الأعظم(6) . وعمّنا الأکرم آیة اللّه الشیخ محمد علی النجفی المعروف بثقة الإسلام المتوفی عام 1318 فی رسالته الخاصة بالمعاصی الکبیرة(7) .

إلی هنا تمّ بحث معونة الظالمین ، والحمد للّه الذی یقطع دابرهم وهو قاصمهم ومبیرهم ومهلکهم بظهور حجته عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف .

ص: 124


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 191 ح 12 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 179 ح 6 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 180 ح 10 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 181 ح 14 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 182 ح 15 و 16 .
6- (6) المکاسب 2 / 53 .
7- (7) معاصی کبیرة / 37 .

النَّجَْش

اشارة

بالنون المفتوحة والجیم الساکنة کما فی جامع المقاصد(1) ، أو بفتحتین ویُسَکّن کما فی شرح القواعد(2) أی بالنون المفتوحة والجیم الساکنة أو المفتوحة کما فی المکاسب المحرمة(3) ، ولابدّ من تعریفه أوّلاً ثمّ بیان حکمه :

المقام الأوّل : تعریفه

قال الزمخشری : « نهی عن النجش ، وروی « لا تناجشوا » وهو أن تستام السِلعة بأزید من ثمنها لیراک الآخر فیقع فیها ، وکذلک فی النکاح وغیره ... »(4) .

وقال الفیومی : « نجش الرجل نجشاً من باب قتل : إذا زاد فی سلعةٍ أکثر من ثمنها ولیس قصده أن یشتریها ، بل لِیَغُرَّ غیره فیوقعه فیه ، وکذلک فی النکاح وغیره والإسم النَجَش ... »(5) .

وقال الفیروزآبادی : « النجش : أن تُواطِیءَ رجلاً إذا أراد بیعاً أن تمدحه ، أو أن یرید الإنسان أن یبیع بِیاعه فتساومه فیها بثمن کثیر لینظر إلیک ناظر فیقع فیها ... »(6) .

وقال الجوهری : « النجش : أن تزاید فی المبیع لیقع غیرک ولیس من حاجتک»(7) .

ص: 125


1- (1) جامع المقاصد 4 / 39 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 306 .
3- (3) المکاسب المحرمة 2 / 61 للشیخ الأنصاری .
4- (4) أساس البلاغة / 447 .
5- (5) المصباح المنیر / 594 .
6- (6) القاموس . مادة نجش من الطبع الحجری (2 / 289) .
7- (7) الصحاح 3 / 1021 .

وقال الطریحی : « فی الحدیث أنّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن النجش ، النَجَش بفتحتین هو : أن یمدح السلعة فی البیع لینفقها ویروّجها أو یزید فی ثمنها وهو لا یرید شراءها لیقع غیره فیها ، یقال : نجش الرجل نجشاً من باب قتل ، والإسم النجش ، والفاعل ناجشٌ ونجّاش مبالغة ... »(1) .

وفی المنجد : « نَجَشَ فی البیع : واطأ رجلاً یرید بیعاً أن یَمَدحه . وقیل : النجش : أن یرید رجل بیع بیاعة فیساومه الآخر فیها بثمن کثیر ینظر إلیه الناظر فیقع فیها ، أو أن ینفر الناسَ عن الشیء إلی غیره ... »(2) .

هذه کلمات اللغویین وأمّا الفقهاء فقد قالوا فی تعریفه :

قال الشیخ الطوسی : « النجش حرام ، وهو أن یزید رجل فی ثمن سلعة زیادة لا تسوی بها وهو لا یرید شراءها وإنّما یزید لیقتدی به المستام ، فهذا هو النجش ... »(3) .

وقال ابن إدریس الحلی : « ونهی عن النجش - بالنون والجیم والشین المعجمة - وحقیقته الاستثارة ، وهی أن یزید رجل فی ثمن سلعة ، زیادة لا تساوی بها وهو لایرید شراءها وإنّما یرید لیقتدی به المستام ، فهذا هو النجش الحرام»(4) .

وقال ابن زهرة الحلبی : « ونهی عن النجش فی البیع ، وهو أن یزید فی الثمن من لا رغبة له فی الشراء لیخدع المشتری ... »(5) .

وورد نظیر هذا التعریف فی جامع الخلاف والوفاق(6) .

وقال المحقق : « ... النجش وهو أن یزید لزیادة مَنْ واطأهُ البائعُ »(7) .

ص: 126


1- (1) مجمع البحرین / 343 .
2- (2) المنجد / 857 .
3- (3) المبسوط 2 / 159 .
4- (4) السرائر 2 / 240 .
5- (5) غنیة النزوع / 216 .
6- (6) جامع الخلاف والوفاق / 254 .
7- (7) الشرائع 2 / 15 .

وقال فی النافع : « ... والزیادة فی السلعة مواطأة للبائع وهو النجش»(1) .

وقال یحیی بن سعید الحلی : « یحرم النجش ، وهو أن یزید فی الثمن لیغرّ غیره ولا خیار للمشتری فیه»(2) .

وعدّ العلامة تبعاً لأستاذه وخاله المحقق فی مکروهات البیع النجش وقال : « النجش : وهو الزیادة لمن واطأه البائع»(3) .

ونحوها من التعریف فی القواعد(4) والمختلف(5) ، ولکن ذهب فیهما إلی حرمته .

وقال فی التذکرة : « ومعناه أن یزید الرجل فی ثمن سلعة لا یرید شراءها لیقتدی به المشترون بمواطأة البائع»(6) .

وقال فی التحریر : « هو الزیادة لا للشراء بل لیغرّ المشتری فیزید»(7) .

وقال فی النهایة : « وصورته : أن یزید فی ثمن السلعة المعروضة للبیع وهو غیر راغب فیها لیخدع الناس ویرغّبهم فیها»(8) .

وقال ابن فهد الحلی فی تعریفه : « ومعناه أن یزید الإنسان فی سلعة البائع ولا یرید شراءها ، قصداً لتغریر الغیر ببذل الزیادة ، وتسمیه العامة التحریص»(9) .

وقال الشهید : « النجش وهو رفع السعر ممّن لا یرید الشراء للحضّ علیه»(10) .

وقال المحقق الثانی بعد تعریف العلامة فی القواعد : « بل التعریف الصحیح : أنّه الزیادة

ص: 127


1- (1) المختصر النافع / 120 .
2- (2) الجامع للشرائع / 257 .
3- (3) ارشاد الأذهان 1 / 359 .
4- (4) قواعد الأحکام 2 / 10 .
5- (5) مختلف الشیعة 5 / 44 .
6- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 157 .
7- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 252 .
8- (8) نهایة الإحکام 2 / 520 .
9- (9) المهذب البارع 2 / 366 .
10- (10) الدروس 3 / 178 .

فی السلعة ممّن لا یرید شراءها بمواطأة البائع له علی ذلک لإیقاع غیره»(1) .

وقال الشهید الثانی : بعد نقد تعریف المحقق فی الشرائع : « فالأجود فی تعریفه أنّه الزیادة فی السلعة ممّن لا یرید شراءها لیحضّ غیره علیه وإن لم یکن بمواطأة البائع»(2) .

وزاد علی هذا التعریف فی تعالیقه علی قواعد العلامة : « وکلام أهل اللغة موافق لما ذکرناه ، قال الهروی : أصل النجش مدح الشیء وإطراؤه . قال : ومعناه لا یمدح أحدکم السِلْعَة ویزید فی ثمنها وهو لا یرید شراءها لیسمعه غیره فیزید»(3)(4) .

وقال المحقق الأردبیلی بعد نقل کلام الجوهری فی الصحاح : « والمراد أنّه یکره أن یزید شخص علی ثمن بذل المبیع لیرغب الناس فی بیع ذلک المبیع من غیر قصد للشراء»(5) .

أقول : بعد نقل تعاریف الفقهاء أعلی اللّه کلماتهم فی ألف سنة یظهر لک تعریف النجش ، ولعلّ أحسن التعاریف تعریفی الشهیدین قدس سرهما .

ومنه یظهر أنّ للنجش ثلاث إطلاقات :

الأوّل : مدح سلعة الغیر لتحریض المشتری علی شرائه بالزیادة ، ویُعبِّر عنه فی زماننا هذا بالإعلانات التجاریة . کما مرّ هذا التعریف من الفیروز آبادی والطریحی والهروی وصاحب المنجد من اللغویین .

الثانی : الزیادة فی ثمن السلعة لمن لا یرید شراءها لیخدع المشتری ویرغبه فیها ، سواء کانت بمواطأة البائع أم عدمها ، والفقهاء یطلق علی هذا القسم عنوان النجش غالباً .

الثالث : ما مرّ من صاحب المنجد أنّ نفور الناس من الشیء إلی غیره أیضاً یطلق علیه النجش .

وستأتی آنفاً أحکام الصور الثلاث مع زیادة إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .

ص: 128


1- (1) جامع المقاصد 4 / 39 .
2- (2) مسالک الأفهام 3 / 190 .
3- (3) غریب الحدیث 2 / 10 و 3 / 36 .
4- (4) فوائد القواعد / 521 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 137 .
المقام الثانی : حکمه
اشارة

یقع الکلام فی هذا المقام فی الحکمین التکلیفی والوضعی :

أمّا الحکم التکلیفی

لا أشکال فی حرمته التکلیفیة ، لأنّه خیانة وخدعة وتلبیس وتدلیس وظلم وإضرار ، والعقل حاکم بقبحه . وقد ورد إدعاء الإجماع علی حرمته فی بعض العبائر نحو منتهی المطلب(1) وجامع المقاصد(2) ، وقال ابن فهد الحلی : « ولا أعلم فی تحریمه خلافاً بین الأصحاب»(3) . ومال إلی قبول الإجماع فی الریاض وقال : « وهو الحجة»(4) .

ولکن الصحیح أنّ الأکثر یقولون بحرمته کما فی المستند(5) ، وأمّا المحقق فی الشرائع(6) والنافع(7) والعلامة فی الإرشاد(8) ، والفاضل الآبی فی کشف الرموز(9) نقل عن شیخه المحقق القول بالکراهة ، والفاضل المقداد فی التنقیح(10) یذهبون إلی کراهته ، وقال الشهید فی الدروس : « وکرهه قوم والأقرب التحریم»(11) . فالإجماع غیر ثابت .

وقد ورد فی حرمته روایة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول

ص: 129


1- (1) منتهی المطلب 2 / 1004 من الطبع الحجری .
2- (2) جامع المقاصد 4 / 39 .
3- (3) المهذب البارع 2 / 366 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 282 .
5- (5) مستند الشیعة 14 / 43 .
6- (6) الشرائع 2 / 15 .
7- (7) المختصر النافع / 120 .
8- (8) إرشاد الأذهان 1 / 359 .
9- (9) کشف الرموز 1 / 455 .
10- (10) التنقیح الرائع 2 / 40 .
11- (11) الدروس 3 / 178 .

اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الواشمة والمتوشمة ، والناجش والمنجوش ملعونون علی لسان محمد صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

وَشَمَ الیدَ : غرزها بالإبرة ثمّ ذرّ علیها النیلج فصار فیها رسوم وخطوط ، ویقال له بالفارسیة : « خالکوبی » .

وفی خبر أبی عبید القاسم بن سلام بأسانید متصلة إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا تناجشوا ولا تدابروا . معناه أن یزید الرجل فی ثمن السلعة وهو لا یرید شراءها ولکن لیسمعه غیره فیزید لزیادته . والناجش : الخائن . وأمّا التدابر فالمصارعة والهجران مأخوذ من أن یولّی الرجل صاحبه دبره ویعرض عنه بوجهه(2) .

الظاهر أن التفسیر من الصدوق أو مِنْ أحد الرواة .

وقال الشیخ الطوسی : رُوی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی عن النجش(3) .

وقال أیضاً : روی عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وکونوا عباد اللّه إخواناً(4) .

وروی العلامة الأخیر فی التذکرة(5) مرسلاً .

وقد ورد فی مرسلة القاضی نعمان المصری أنّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن النجش(6) .

ونحوها مرسلة ابن أبی جمهور الأحسائی(7) .

دلالة هذه الروایات علی حرمة النجش واضحة ، وإنّما الاشکال فی سندها ، وبعد ذهاب المشهور إلی الحرمة ینجبر ضعف أسنادها ، کما قال صاحب الحدائق : « المشهور فی کلام الأصحاب : تحریمه»(8) . وقد مرّ نقل القول بعدم الخلاف فی تحریمه بین الأصحاب عن

ص: 130


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 458 ح 2 .
2- (2) معانی الأخبار / 284 . ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 459 ح 4 .
3- (3) المبسوط 2 / 159 .
4- (4) المبسوط 2 / 159 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 157 .
6- (6) دعائم الإسلام 2 / 30 ح 62 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 286 ح 2 .
7- (7) عوالی اللآلی 1 / 147 ح 87 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 286 ذیل ح 4 .
8- (8) الحدائق 18 / 46 .

ابن فهد(1) والإجماع علیه عن العلامة(2) والمحقق الثانی(3) وسید الریاض(4) .

فالشهرة تجبر ضعف أسناد الروایات ، ویمکن الإستناد إلیها فی الحرمة .

فإذا کان النجش حراماً ، فأخذ الأجرة فی قباله من المنجوش أیضاً یصیر حراماً .

وأمّا الحکم الوضعی

(5)

أعنی حکم المعاملة التی وقع فیها النجش وحکم أخذ الزیادة التی یأخذه البائع ، فهاهنا أقوال :

الأوّل : البیع یکون صحیح ولا خیار للمشتری ، وهو مختار الشیخ الطوسی فی المبسوط(6) ، وقواه فی الخلاف(7) ، ونقل فیه أنّه قول ابن أبی هریرة ، وظاهر قول الشافعی وبعض أصحابه من العامة ، ونسبه العلامة فی التذکرة(8) إلی الشافعی ، وهو مختار یحیی بن سعید الحلی من أصحابنا(9) .

الثانی : یصح البیع وللمشتری الخیار مطلقاً ، وهو مختار الشیخ فی الخلاف(10) ، ونسبه العلامة فی المختلف(11) إلی القاضی ابن البراج ، ونسبه الشیخ فی الخلاف(12) إلی أبی إسحاق

ص: 131


1- (1) المهذب البارع 2 / 366 .
2- (2) منتهی المطلب 2 / 1004 طبع الحجری .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 39 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 282 .
5- (5) لم یتعرض الشیخ الأعظم قدس سره لهذا الحکم الوضعی فی الموردین اللذین تعرّض فیهما البحث عن النجش لا فی المکاسب المحرمة 2 / 61 ولا فی أواخر البیع 4 / 355 .
6- (6) المبسوط 2 / 159 .
7- (7) الخلاف 3 / 172 مسألة 280 .
8- (8) تذکرة الفقهاء 12 / 158 .
9- (9) الجامع للشرائع / 257 .
10- (10) الخلاف 3 / 171 مسألة 280 .
11- (11) مختلف الشیعة 5 / 45 .
12- (12) الخلاف 3 / 171 .

المروزی من أصحاب الشافعی .

الثالث : یصح البیع وللمشتری الخیار مع الغبن ، ذهب إلیه المحقق فی الشرائع(1) والنافع(2) والعلامة فی المنتهی(3) والتذکرة(4) والمختلف(5) والقواعد(6) والتحریر(7) والنهایة(8) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(9) والشهید الثانی فی المسالک(10) والمقدس الأردبیلی فی مجمع الفائدة(11) وسید الریاض(12) والشیخ جعفر(13) والفاضل النراقی(14) وصاحب الجواهر(15) .

الرابع : بطلان البیع إذا کان النجش من البائع ، نسبه العلامة فی المختلف(16) إلی أبی علی ابن الجنید الإسکافی وفی التذکرة(17) إلی مالک من العامة .

أقول : المختار هو القول الثالث ، أی صحة البیع وثبوت الخیار للمشتری مع الغبن

ص: 132


1- (1) الشرائع 2 / 15 .
2- (2) المختصر النافع / 120 .
3- (3) منتهی المطلب 2 / 1004 الطبع الحجری .
4- (4) تذکرة الفقهاء 12 / 158 .
5- (5) مختلف الشیعة 5 / 45 .
6- (6) قواعد الأحکام 2 / 11 .
7- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 252 .
8- (8) نهایة الإحکام 2 / 520 .
9- (9) جامع المقاصد 4 / 39 .
10- (10) المسالک 3 / 191 .
11- (11) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 137 .
12- (12) ریاض المسائل 8 / 282 .
13- (13) شرح القواعد 1 / 309 .
14- (14) مستند الشیعة 14 / 44 .
15- (15) الجواهر 22 / 477 .
16- (16) مختلف الشیعة 5 / 44 .
17- (17) تذکرة الفقهاء 12 / 158 .

فقط ، لأنّ البیع وقع صحیحاً وتشمله العمومات الواردة فی صحة البیع ، والنجش وإن ذهبنا إلی حرمته التکلیفیة ولکن لا تسری الحرمة إلی البیع . نعم لو کان المشتری مغبوناً فله خیار الغبن لعموم أدلته .

ولو لم یکن للمشتری غبن فلیس له خیار أصلاً . ولا فرق فیما ذکرنا أنّ یکون النجش بمواطأة البائع وعلمه أم لا . هذا ما تقتضیه قواعد الفقاهة .

ثم إنّ هاهنا فروعاً :
الأوّل : حکم النجش فی غیر البیع من المعاملات .

ممّا ذکرنا ظهر حکمه فی غیر البیع من المعاوضات من الإجارة والمصالحة والهبة والمضاربة والمزارعة والمساقاة ونحوها ، فی الجمیع یکون النجش حراماً تکلیفاً ویوجب الخیار للمشتری إن بلغ إلی حد الغبن فقط .

وذهب إلی التعدی من البیع إلی غیره من المعاملات والمعاوضات الشیخ جعفر(1) والفاضل النراقی(2) والسید العاملی(3) قدس سرهم .

الثانی : قال العلامة فی التذکرة : « ولو قال البائع : أعطیتُ فی هذه السلعة کذا وکذا ، فصدّقه المشتری فاشتراها بذلک ، ثمّ ظهر له کذبه ، فإن البیع صحیح ، والخیار علی هذین الوجهین . والأقرب عندی انتفاء الخیار هنا ، لأنّ التفریط من المشتری»(4) .

أقول : أمّا الوجهان المذکوران فی کلامه قدس سره ثبوت الخیار لأنّه تدلیس من جهة البائع ونفی الخیار لأنّ المشتری أفرط حیث اشتری ما لا یعرف قیمته .

فقد ذهب المحقق الثانی فی هذا الفرع إلی ثبوت الخیار للمشتری مع الغبن وقال : « ولا یأثم البائع إلاّ أن یکون کاذباً»(5) .

ص: 133


1- (1) شرح القواعد 1 / 308 .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 44 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 351 .
4- (4) تذکرة الفقهاء 12 / 158 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 39 .

وقال الشهید الثانی فیه : « فإنّه یتخیر لو ظهر الغبن وإن کان البائع صادقاً ، ولو کان کاذباً فکالنجش فی التحریم ویزید عنه بالکذب»(1) .

والصحیح عندنا ثبوت الخیار للمشتری حینئذ مع الغبن وفاقاً للثانیین وخلافاً للعلامة ، لأنّ الغبن إذا ثبت یجیء خیاره بلا إشکال . ولذا قال صاحب الجواهر : « ولعلّ فی حکم النجش قول البائع کذباً « أعطیتُ فی هذه السلعة کذا » وصدّقه المشتری فی الحرمة والخیار مع الغبن ، ولو کان صادقاً فله الخیار خاصة معه ولا أثم»(2) .

الثالث : لو استعمل الناجش النجش لتقلیل الثمن وترک الزیادة لیشتریها بالثمن القلیل بلا فرق بین أن یکون بمواطأة المشتری وعدمه ، فهل یجری علیه أحکام النجش أم لا ؟

قال المحقق الثانی : « وهل المواطأة علی ترک الزیادة فی السلعة لیشتریها بالثمن القلیل مثلها ؟ لا أعلم فیه شیئاً ، والأصل العدم ، نعم یثبت الخیار لو ظهر غبن»(3) .

وتبعه ثانی الشهیدین وقال : « ولا یلحق به ترک الزیادة فی السلعة لیشتریها بالثمن القلیل للأصل»(4) .

وتبعهما صاحب الجواهر وقال : « ولا یلحق بالنجش ترک الزیادة فی السلعة لیشتریها بالثمن القلیل وإن کان هو محرّماً فی بعض الأحوال المشتملة علی المواطأة مع المشتری لإرادة خدعة البائع وإضراره وإغرائه بالجهل ونحو ذلک»(5) .

أقول : الظاهر أنّ الفرع یلحق بالنجش فی الحرمة التکلیفیة وثبوت الخیار مع الغبن للبائع ، لاشتراکه مع النجش فی الدلیل ولو لم یصدق علیه النجش فی مصطلح الفقهاء . خلافاً للأعلام الثلاثة ووفاقاً لجدنا الشیخ جعفر حیث یقول فی شرح القواعد : « ومثله فی الحکم أن یواطئه المشتری فی دفع الناقص لیرغب البائع فی بیعه بأقل ثمن»(6) . وتبعه تلمیذه فی

ص: 134


1- (1) مسالک الأفهام 3 / 191 .
2- (2) الجواهر 22 / 477 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 39 .
4- (4) مسالک الأفهام 3 / 191 .
5- (5) الجواهر 22 / 477 .
6- (6) شرح القواعد 1 / 308 .

المفتاح(1) .

الرابع : لو أعطی أحد المشترین مبلغاً من المال لرفع یدهم عن الشراء وبعد ذهابهم إشتری هو بثمن بخس دراهم معدودة ، فهل یحرم هذا العمل تکلیفاً أم لا ؟ وهل یوجب بطلان البیع أم لا ؟

قال الشیخ جعفر قدس سره : « ونحوه (أی نحو الفرع السابق) مواطأة المشتری فی دفع الزائد إلیه والذهاب عنه لیمتنع عن بیعه برجاء الزیادة ، حتّی یتفرّق الطالبون ویبقی حیراناً ، فیشتریه بأقلّ ثمن إلی غیر ذلک من أسباب الحیل والخدع والمکر»(2) .

وتبعه تلمیذه صاحب المفتاح(3) .

أقول : نفس أعطاء المال لغیره من المشترین لا بأس به ، ولا یمکن الذهاب فیه إلی الحرمة التکلیفیة ، لعدم وجود دلیل علیه ، فافترق من العلامة الجد قدس سره من هذه الناحیة .

وأمّا الحرمة الوضعیة وبطلان البیع فهو قدس سره ونحن نقول معاً بصحة البیع حتّی لو اشتراه بثمن بخس . نعم ، للبائع خیار الغبن مع حصول التفاوت الفاحش . کما فی غیره من موارد الغبن ومع عدم الغبن ، صح البیع بلا إشکال ، واللّه العالم .

الخامس : حکم مدح السلعة فی البیع لینفقها ویروّجها (الإعلانات التجاریة) .

قد فُسر النجش بأن یمدح السلعة فی البیع لینفقها ویروّجها لمواطأة بینه وبین البائع کما فی أقرب الموارد(4) أو بدونها کما فی النهایة(5) والمجمع(6) .

ذکر العلامة الجد الشیخ جعفر قدس سره هذا التفسیر ثم أتبعه بقوله : « وتحریم القسم الثانی من المعنی الثانی لا یخلو من بُعد »(7) .

ص: 135


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 351 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 308 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 351 .
4- (4) أقرب الموارد 2 / 1274 .
5- (5) النهایة 5 / 21 .
6- (6) مجمع البحرین 4 / 154 .
7- (7) شرح القواعد 1 / 307 .

وقال تلمیذه صاحب الجواهر : « وعن آخر تفسیره بأن یمدح السلعة فی البیع لینفقها ویروّجها لمواطأة بینه وبین البائع أو بدونها علی اختلاف فی تعریفهم ، ولعلّ اعتبار المواطأة فیه غیر بعید ، وإن کان حرمة الثانی لا تخلو من قوة ، لکونه خدعاً وإغراءً وإضراراً وخیانة للمسلم»(1) .

أقول : الأستاذ لایذهب هنا إلی حرمة مدح السلعة مع عدم مواطأه البائع ویری أن حرمته لا یخلو من بُعد ، ولکن تلمیذه ذهب إلی قوة حرمة هذا المدح مطلقاً .

وقال الشیخُ الأعظم تبعاً للشیخ جعفر : « وحرمته بالتفسیر الثانی - خصوصاً لامع المواطأة - یحتاج إلی دلیل ، وحُکی الکراهة عن بعض»(2) .

وبالجملة ، مدح السلعة فی البیع لینفقها ویروّجها أو قبل البیع سواء کان مع مواطأة البائع أو بدونها - ومنه یظهر حکم الإعلانات التجاریة فی زماننا هذا - فإن کان المدح بما لیس فیها من الأوصاف والمختصات کان حراماً من جهة الکذب ، وأمّا إن مدحها بما فیها من الأوصاف والمختصات فلا بأس به .

وإن مدح السلعة ولکن بالغ فی المدح مع قیام القرینة علی إرادة المبالغة فلا بأس به إن کان فی مقام الإنشاء لعدم صدق الکذب حینئذٍ ، وإن کان فی مقام الإخبار فیصدق علیه عنوان الکذب فیصیر حراماً به .

وفی موارد یصیر حراماً للکذب ، فأخذ الأجرة علی هذا المدح والإعلان أیضاً یصیر حراماً وإلاّ فلا .

وأمّا ثبوت هذه الحرمة فی مواردها فلا ینتقل إلی الحرمة الوضعیة ولا یحکم ببطلان المعاملة التی وقعت علی هذا المدح والإعلان والتحریص ، إلاّ فی موارد ثبوت الخیارات المعینة من الغبن والعیب وعدم الوصف ونحوها . هذا تمام الکلام فی النجش واللّه سبحانه هو العالم وله الحمد .

ص: 136


1- (1) الجواهر 22 / 476 .
2- (2) المکاسب المحرمة 2 / 62 .

النمیمة

اشارة

یقع الکلام فیها فی مقامین :

المقام الأوّل : تعریفها

قال الزمخشری : « ن م م : هو نمّام بیّن النمیم والنمیمة ، وهو یمشی بالنمائم ، نم الحدیث یَنُمُّهُ ، نمّ علی الرجُل ، وسمعت نمیمة القانص : هَمْس کلامه ... »(1) .

وقال الفیومی : « نمّ الرجلُ الحدیث نَمّاً ، من بابی قتل وضرب ، سعی به لیُوقِعَ فتنةً أو وحشةً ، فالرجل نمٌّ ، تسمیةً بالمصدر ، ونمّام مبالغةٌ والإسم النمیمة والنمیمُ أیضاً»(2) .

وقال ابن الأثیر : « النمیمة : وهی نقل الحدیث من قوم إلی قوم علی جهة الإفساد والشَّرّ . وقد نَمَّ الحدیث یَنِمُّه ویَنُمُّه نَمّاً فهو نَمَّام ، والإسم النمیمة ، ونمّ الحدیث إذا ظهر ، فهو مُتَعَدٍّ ولازم»(3) .

وقال ابن منظور : « النَّمُّ : التوریش والإغراء ، رفع الحدیث علی وجه الإشاعة والإفساد ، وقیل : تزیین الکلام بالکذب ... ثمّ ذکر فی تعریف النمیمة ما ذکره ابن الأثیر»(4) .

وقال الراغب فی مادة نمّ : « النَّمُّ : إظهار الحدیث بالوشایة ، النمیمة : الوشایة»(5) .

وقال فی مادة وشی : « الواشی یُکنی به عن الّنمام»(6) .

ص: 137


1- (1) أساس البلاغة / 473 .
2- (2) المصباح المنیر / 626 .
3- (3) النهایة 5 / 120 .
4- (4) لسان العرب 12 / 592 .
5- (5) مفردات القرآن / 527 .
6- (6) مفردات القرآن / 561 .

وقال الفیروزآبادی : « النَّم : التَوْریش والإغراء ورفع الحدیث إشاعة له وإفساداً ، وتزیین الکلام بالکذب ... »(1) .

وقال الطریحی : « نمم : قوله تعالی : «مَّشَّاء بِنَمِیمٍ»(2) أی قتات نقّال للحدیث من قوم إلی قوم علی وجه السعایة والإفساد ، یقال : نمّ الحدیث ینمّه من باب ضرب وقتل : سعی به لیوقع فتنةً أو وحشةً ، فالرجل نمٌّ تسمیة بالمصدر ، ونمّام مبالغة والإسم النمیمة والنمیم . ونمّ الحدیث : إذا ظهر ، وهو متعد ولازم ... »(3) .

وفی المنجد : « نمَّ ِ ُ نَمّاً : الحدیث : أظهره بالوشایة ورفعه علی وجه الإشاعة والإفساد . - الحدیثُ : ظهر - بین الناس : ورَّش وأغری - الکلامَ : زیّنهُ بالکذب ... .

الَنمَّام : الذی یتحدَّث مع القوم فینمُّ علیهم فیکشف ما یُکْرَهُ کَشْفُهُ»(4) .

قال الشهید الثانی : « واعلم أنّ النمیمة تُطلق فی الأکثر علی من ینمّ قول الغیر إلی المقول فیه ، کما یقول : « فلان کان یتکلّم فیک بکذا وکذا» ، ولیست مخصوصة به ، بل تطلق علی ما هو أعمّ من القول کما مرّ فی الغیبة . وحدّها بالمعنی الأعم : کشف ما یکره کشفه ، سواء کرهه المنقول عنه أم المنقول إلیه أم کرهه ثالث ، وسواء کان الکشف بالقول أم بالکتابة أم الرمز أم الإیماء ، وسواء کان المنقول من الأعمال أم من الأقوال ، وسواء کان ذلک عیباً ونقصاناً علی المنقول عنه أم لم یکن ، بل حقیقة النمیمة : إفشاء السرّ وهتک السّتر عمّا یکره کشفه ، بل کلّما رآه الإنسان فی أحوال الإنسان فینبغی أن یسکت عنه إلاّ ما کان فی حکایته فائدة لمسلم أو دفع لمعصیة ، کما إذا رأی من یتناول مال غیره فعلیه أن یشهد به مراعاةً لحقِّ المشهود علیه ، فأمّا إذا رآه یخفی مالاً لنفسه فذکره نمیمة وإفشاء للسرّ ، فإن کان ما ینمّ به نقصاناً أو عیباً فی المحکی عنه کان قد جمع بین الغیبة والنمیمة»(5) .

ص: 138


1- (1) قاموس اللغة / الطبع الحجری مادة النُمّ .
2- (2) سورة القلم / 11 .
3- (3) مجمع البحرین / 541 .
4- (4) المنجد / 916 .
5- (5) کشف الریبة / 58 المطبوع ضمن المصنفات الأربعة .

ونقل الفیض الکاشانی هذا التعریف فی کتابه المحجة البیضاء(1) من دون ذکر صاحبه ، وهکذا نقله الشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(2) بعنوان القیل .

قال الشیخ جعفر : « والنمیمة علیهم (أی علی المؤمنین) فیزداد إثمها بنسبتها إلیهم ، کالکذب علیهم - أو مطلقها (مطلقاً ن ل) من قولهم : نمَّ الحدیث - من باب ضرب وقتل : سعی به لإیقاع فتنة أو وحشة»(3) .

وقال تلمیذه السید العاملی : « أمّا النمیمة فهی نقل الحدیث من قوم إلی قوم علی وجه السعایة والإفساد ، یقال : نمّ الحدیث وینمّه من باب ضرب وقتل ، سعی به لیوقع فتنة أو وحشة»(4) .

وقال تلمیذه الآخر صاحب الجواهر : « فالمراد بها (أی بالنمیمة) السعایة بنقل حدیث کلٌّ إلی الآخر أو ما کان بمنزلته لإیقاع فتنة أو وحشة»(5) .

وقال الشیخ الأعظم : « هی نقل قول الغیر إلی المقول فیه ، کأن یقول : تکلّم فلان فیک بکذا وکذا»(6) .

وعلّق المحقق الإیروانی علی کلام الشیخ بقوله : « بشرط أن یکون سوءً مِنْ شتمٍ أو غیبةٍ ، وأمّا لو نقل مدحه فصدق النمیمة علیه ممنوع وإنْ أوجب النفورة والکدورة ، کما أنّ إطلاق حرمة النمیمة لما إذا لم توجب التوحّش والتنفر ممنوع»(7) .

أقول : ظهر مما ذکرناه أنّ المراد بالنمیمة نقل کلام شخص إلی المقول فیه لإیقاع الفتنة والإفساد ، ولا عبرة فی صدقها بکراهة الکشف مطلقاً ، سواء کانت الکراهة من المنقول عنه أم

ص: 139


1- (1) المحجة البیضاء 5 / 277 .
2- (2) المکاسب المحرمة 2 / 64 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 234 .
4- (4) مفتاح الکرامة 12 / 221 .
5- (5) الجواهر 22 / 73 .
6- (6) المکاسب 2 / 63 .
7- (7) الحاشیة علی المکاسب 1 / 248 .

المنقول إلیه أم ثالث ، بل المعیار فی صدقها نقل ما یکون وقیعة بینهما .

المقام الثانی : حکمها
اشارة

قال العلامة : « ویحرم سبّ المؤمنین والکذب علیهم والنمیمة ... بلا خلاف فی ذلک کلّه»(1) .

وأفتی بحرمتها فی القواعد(2) والتحریر(3) وظاهر کلامه قدس سره فی کتبه الثلاثة اختصاص التحریم بالنمیمة بین المؤمنین .

وتبعه الأصحاب أعلی اللّه کلمتهم فی الحکم بالتحریم واستدلوا علیه بالأدلة الأربعة :

الاستدلال علیها بالادلة الأربعة
1 - حکم العقل

العقل مستقلٌ بقبحها ، لأنّها منشأ فساد و إفساد ، بل ربّما یترتب علیها آلاف من المفاسد ومنها : القتل . ولذا العقل یستقل بقبحها وبعد حکم العقل فبقاعدة الملازمة یترتب الحکم الشرعی علی حرمتها .

2 - الإجماع

الإجماع بقسمیه قائم علی حرمتها کما مرّ نقل عدم الخلاف فی تذکرة العلامة . وقال المحقق الخوئی : « لا خلاف بین المسلمین فی حرمتها ، بل هی من ضروریات الإسلام ، وهی من الکبائر المهلکة ... »(4) .

وأدعی الفقیه السبزواری : « إجماع المسلمین علی حرمتها»(5) .

أقول : الإجماع بین المسلمین قائم علی حرمتها ، ولکنّه إجماع مدرکیٌّ فلا یفید شیئاً فی المقام .

ص: 140


1- (1) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
2- (2) قواعد الأحکام 2 / 8 .
3- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 مسألة 3018 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 432 .
5- (5) مهذب الأحکام 16 / 168 .
3 - الکتاب

قد استدلوا علی حرمتها بعدّة من الآیات الشریفة :

منها : قوله تعالی : «وَالْفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ»(1) .

قال الشیخ جعفر : « وهی المعنیّة بقوله تعالی : «وَالْفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» »(2) .

وتبعه تلمیذه فی الجواهر وقال : « ولعلّها المراد بقوله تعالی : «وَالْفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» »(3) .

والظاهر من الشیخ الأعظم(4) قبوله ، لأنّه ذکره بعنوان القیل ولم یستشکل علیه .

ولکن قال الشیخ الطوسی : « قوله «وَالْفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» معناه الفتنة فی الدین - وهی الکفر - أعظم من القتل فی الشهر الحرام»(5) .

وتبعه الطبرسی فی مجمع البیان(6) ، وقال فی جوامع الجامع : « الفتنة : الإخراج أو الشرک»(7) .

وفی تفسیر القمی : « والفتنة - یعنی الکفر باللّه - أکبر من القتل»(8) .

وفی نهج البیان : « عن أبی جعفر علیه السلام : الفتنة هیهنا : الشرک»(9) .

فعلی ما ذکرناه من أعلام المفسرین الفتنة فی الآیة الشریفة هی الکفر والشرک فلا تشمل النمیمة . فالاستدلال بها علی حرمتها غیر تام .

ص: 141


1- (1) سورة البقرة / 217 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 234 .
3- (3) الجواهر 22 / 73 .
4- (4) المکاسب 2 / 63 .
5- (5) التبیان 2 / 207 .
6- (6) مجمع البیان 2 / 312 .
7- (7) جوامع الجامع 1 / 119 .
8- (8) تفسیر القمی 1 / 71 .
9- (9) نهج البیان 1 / 52 ونقل عنه فی البرهان 1 / 454 ح 2 .

ومنها : قوله تعالی : «وَالَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِیثَاقِهِ وَیَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن یُوصَلَ وَیُفْسِدُونَ فِی الأَرْضِ أُوْلَئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ»(1) .

بتقریب : أنّ النمام قاطع لما أمر اللّه به أن یوصل من بسط المحبة فیما بین المؤمنین وتألیف قلوبهم ، ویفسد فی الأرض فساداً کبیراً فتلحق به اللعنة وسوء الدار .

وبعبارة اُخری وأوجز : النمام قاطع أمر اللّه بصلته ، مضافاً إلی إفساده وأنّه مفسدٌ .

وفیه : أن الآیة الشریفة أجنبیة عن النمیمة ، لأنّها بقرینة الآیات الواردة قبلها من قوله تعالی : «الَّذِینَ یُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ یَنقُضُونَ الْمِیثَاقَ» إلی قوله : «فَنِعْمَ عُقْبَی الدَّارِ»(2) وردت فی شأن ولایة أمیر المؤمنین علیه السلام وأولاده المعصومین علیهم السلام وعبر عنها بعهد اللّه والمیثاق وما أمر اللّه به أن یوصل ، وهی رحم آل محمد علیهم السلام کما ورد ذلک فی خبر محمد بن الفضیل عن أبی الحسن علیه السلام قال : إنّ رحم آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم معلّقة بالعرش تقول : اللهم صِلْ من وَصَلَنی واقْطَع من قطعنی ، وهی تجری فی کلِّ رحم ، ونزلت هذه الآیة فی آل محمد وما عاهدهم علیه وما أخذ علیهم من المیثاق فی الذّر من ولایة أمیر المؤمنین والأئمة علیهم السلام ، وهو قوله : «الَّذِینَ یُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ یَنقُضُونَ الْمِیثَاقَ» الآیة ، ثمّ ذکر أعداءهم فقال: «الَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِیثَاقِهِ»یعنی فی أمیر المؤمنین علیه السلام ، وهو الذی أخذ علیهم فی الذّر وأخذ علیهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بغدیر خم ، ثمّ قال : «أُوْلَئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» »(3) .

نعم ، یمکن التعدی من رحم آل محمد علیهم السلام إلی کلِّ رحم ، کما ورد فی خبر محمد بن مسلم أو أبی حمزة عن أبی عبد اللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : قال لی علی بن الحسین علیه السلام : یا بنیّ أنظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم فی طریق ، فقلت : یا أبه مَنْ هم ؟ قال : إیّاک ومصاحبة الکذّاب ... وإیّاک ومصاحبة الفاسق ... وإیّاک ومصاحبة البخیل ... وإیّاک ومصاحبة الأحمق ... إلی أن قال : إیّاک ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّه وجدته ملعوناً فی کتاب اللّه عزّ وجلّ فی ثلاث مواضع ، قال اللّه عزّ وجلّ ... وقال : «الَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ

ص: 142


1- (1) سورة الرعد / 25 .
2- (2) سورة الرعد / (24 - 20) .
3- (3) تفسیر القمی 1 / 363 ونقل عنه فی البرهان 3 / 246 ح 7 .

مِیثَاقِهِ وَیَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن یُوصَلَ وَیُفْسِدُونَ فِی الأَرْضِ أُوْلَئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» ...(1) .

ومن المعلوم أنّ ولایة أمیر المؤمنین علیه السلام وأولاده ورحمه بل کلّ رحم ، غیر النمیمة التی نبحث عنها . فالآیة الشریفة أجنبیة عنها .

وأما الاستدلال علی حرمتها بقوله تعالی فی آخر الآیة : «وَیُفْسِدُونَ فِی الأَرْضِ» بأنّ النمیمة یوجب الفساد والّنمام مفسد أیضاً ، غیر تام . لأنّ الآیة الشریفة تدلّ علی حرمة الفساد والإفساد ولاتدلّ علی حرمة النمیمة . وغایة ما یمکن أن یقال : أنّ الآیة الشریفة تحرم النمیمة التی توجب قطع الرحم أو الفساد والإفساد ، ولکن حرمة قطع الرحم والفساد والإفساد فی الآیة واضحة ولکن النمیمة یمکن أن لا یترتب علیها شیء من الأمور المذکورة ، فحینئذ حرمتها لا تُستفاد من الآیة الشریفة .

ومنها : قوله تعالی «هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِیمٍ»(2) .

بتقریب : أنّه تعالی نهی عن طاعة جماعة منهم : النمیم ، فنفس النهی عن إطاعتهم یدلّ علی حرمة فعلهم . بل عدّ اللّه تعالی فی الآیة الشریفة النمیمة من الصفات الرذیلة القبیحة ، وما شأنها کذلک لابدّ من حرمتها .

ولکن نقل شیخنا الأستاذ - مدظله - عن أستاذه المحقق الخوئی قدس سره « بأنّ مدلولها حرمة المبالغة فی النمیمة ، ولا تدلّ علی حرمة أصلها»(3) .

ثمّ اُورد علیه بقوله : « لا دلالة لها علی حرمتها أصلاً لا مع المبالغة ولا بدونها ، بل هی واردة فی بیان حکم آخر ، وهو عدم جواز الإتباع والطاعة للحلاّف الهمّاز المشّاء بنمیم مناع للخیر معتد أثیم»(4) .

ولکن لا یبعد أن یقال : بأنّ ما یوجب حرمة طاعتهم وإتباعهم هو أفعالهم ، فما ورد فی

ص: 143


1- (1) الکافی 2 / 376 ح 7 .
2- (2) سورة القلم / 11 .
3- (3) إرشاد الطالب 1 / 256 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 256 .

الآیات الشریفة وهو من قبیل فعل یُستفاد حرمتها ، قال اللّه تعالی : «وَلاَ تُطِعْ کُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِینٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِیمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَیْرِ مُعْتَدٍ أَثِیمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِکَ زَنِیمٍ»(1) . فعلی ما ذکرنا الآیات تدلّ علی حرمة فعل الحلاّف والهمّاز(2) والمشّاء بنمیمة ومنّاع الخیر والإعتداء والأثیم . والعتل : العظیم الکفر المستهزیء بکفره . والزنیم : الدعی ، وهو الذی لا أصل له ، وهذا الأخیر لم یکن بفعل . وأمّا کلّ ما کان من قبیل الفعل فالآیة أشارت إلی حرمتها . وما یکون حراماً یکون المبالغة فیه أیضاً بطریق أولی حراماً . فتأمّل .

4 - السنة

قد وردت الروایات المستفیضة بل المتواترة علی حرمتها :

منها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ألا اُنبّئکم بشرارکم ؟ قالوا : بلی یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، قال : المشاؤون بالنمیمة ، المفرّقون بین الأحبّة ، الباغون للبراء المعایب(3) .

ومنها : صحیحة محمد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال : الجنة محرّمة علی القتّاتین المشّائین بالنمیمة(4) .

القتّات : الّنمام .

ومنها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام قال : قال علی علیه السلام : تحرم الجنة علی ثلاثة : علی المنّان ، وعلی القتّات ، وعلی مدمن الخمر(5) .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أبی الحسن موسی علیه السلام قال : حرمت الجنة علی ثلاثة : ال-نّمام ، ومدمن الخمر ، والدیوث وهو الفاجر(6) .

ص: 144


1- (1) سورة القلم / (13 - 10) .
2- (2) الهُمَزَةُ : الکثیر الطعن علی غیره بغیر حقٍّ ، العائب له بما لیس بعیب ، راجع مجمع البیان 10 / 537 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 306 ح 1 . الباب 164 من أبواب أحکام العشرة .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 306 ح 2 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 308 ح 8 .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 308 ح 9 .

والروایات الواردة فی هذا المجال متواترة ، فإن شئت راجع الکافی 2 / 369 وعقاب الأعمال / 262 والوافی 5 / 981 وبحار الأنوار 72 / 263 ووسائل الشیعة 12 / 306 ومستدرک الوسائل 9 / 149 وجامع أحادیث الشیعة 20 / 566 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 426 وغیرها من کتب الأخبار .

ثم إنّ هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها :
الأوّل : هل النمیمة مطلقاً تکون حراماً

الأوّل : هل النمیمة مطلقاً تکون حراماً أم إذا کانت بین المسلمین فقط أو بین المؤمنین فقط . ثلاث احتمالات ، ولکن الروایات الواردة فی المقام مطلقة ، فلا وجه لتخصیصها بالمسلمین والمؤمنین فقط .

نعم ، قد یجوز بل یستحب بل یجب إیقاع الفتنة بین المشرکین وتفریق کلمتهم وکسر شوکتهم وتقویة المحقّین علی المبطلین ، ولکن هذا فی مقام الحرب والدفاع ودفع الضرر عن نفسه أو غیره من المؤمنین ، فتجوز أو تجب للضرورة وجریان قواعد باب التزاحم .

الثانی : النسبة بینها وبین الغیبة وبینها وبین الکذب وبینها وبین ذی اللسانین والوجهین

الثانی : النسبة بینها وبین الغیبة وبینها وبین الکذب وبینها وبین ذی اللسانین والوجهین عموم وخصوص من وجه ، یشتدّ العقاب والإثم فی مورد الإجتماع ولکلِّ حکمه فی مورد الإفتراق .

الثالث: استماع النمیمة

الثالث : قال الشیخ جعفر قدس سره : « وفی الأخبار ما یدلّ علی حرمة استماعها»(1) .

وتبعه تلمیذه صاحب الجواهر وقال : « بل فی بعض الأخبار ما یدلّ علی حرمة استماعها أیضاً»(2) .

أقول : لم أجد ما ذکراه فی روایاتنا ، ولعلّهما وجدا ذلک ولم یصل إلینا ، واللّه العالم .

الرابع: لا تختص بالأقوال والأفعال

الرابع : قال صاحب الجواهر : « الظاهر عدم اختصاصها بالأقوال کما أومأنا إلیه سابقاً ، بل تکون بالکتابة والرمز والغمز»(3) .

ص: 145


1- (1) شرح القواعد 1 / 234 .
2- (2) الجواهر 22 / 73 .
3- (3) الجواهر 22 / 73 .

أقول : هذا البیان منه قدس سره متین جدّاً ، وتبع الشهید الثانی(1) فی هذا ، المجال لعدم اختصاص النمیمة بالقول ، بل یمکن أن تکون بالکتابة وغیرها . للعموم الوارد فی بعض الروایات وتشملها إطلاقات حرمة النمیمة .

الخامس: لا تختص بکون المنقول قولاً أو عیباً أو

الخامس : قال صاحب الجواهر : « وعدم اختصاصها بکون المنقول قولاً أو عیباً أو ما یقتضی نقصاً ، ضرورة کون حقیقتها إفشاء السِّر وهتک الستر عمّا یکره کشفه»(2) .

أقول : ما ذکره قدس سره من عدم الاختصاص تامٌّ وأمّا تعلیله فلیس بتام عندنا ، لأنّ حقیقتها ما یکون وقیعة بین المنقول والمنقول إلیه(3) لا ما ذکره صاحب الجواهر قدس سره من إفشاء السِّر وهتک الستر عمّا یکره کشفه .

السادس : هل هی من الکبائر ؟

ذهب الشیخ الأعظم(4) قدس سره إلی أنّها من الکبائر ، وتبعه عمّنا الأکرم آیة اللّه الحاج الشیخ محمد علی النجفی المتوفی عام 1318 فی رسالته فی المعاصی الکبیرة(5) والمحقق الخوئی(6) والفقیه السبزواری(7) . ویمکن تأیید الأعلام بما ورد فی بعض الروایات :

منها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر رضی الله عنه (8) .

ومنها : خبر حفص بن غیاث(9) .

ومنها : خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة(10) .

ص: 146


1- (1) کشف الریبة / 58 .
2- (2) الجواهر 22 / 73 .
3- (3) کما عن شیخنا الأستاذ مدظله فی إرشاد الطالب 1 / 256 .
4- (4) المکاسب المحرمة 2 / 63 .
5- (5) معاصی کبیرة / 80 .
6- (6) مصباح الفقاهة 1 / 432 .
7- (7) مهذب الأحکام 16 / 168 .
8- (8) وسائل الشیعة 12 / 307 ح 4 .
9- (9) وسائل الشیعة 12 / 307 ح 5 .
10- (10) وسائل الشیعة 12 / 308 ح 6 .

ومنها : خبر الربیع صاحب المنصور(1) .

ومنها : مرسلة أبی منصور الطبرسی فی الإحتجاج(2) .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی(3) .

ومنها : خبر عبد العظیم الحسنی عن أبی جعفر محمد بن علی الجواد علیه السلام (4) .

ومنها : مرسلة الطبرسی عن البراء بن عازب(5) .

فیمکن من هذه الروایات المستفیضة استفادة کونها من الکبائر ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 147


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 309 ح 10 .
2- (2) الإحتجاج 2 / 340 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 151 ح 7 .
3- (3) مستدرک الوسائل 9 / 151 ح 8 .
4- (4) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 10 ح 24 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 249 ح12 .
5- (5) مجمع البیان 5 / 423 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 20 / 527 ح 23 .

النِّیاحة

تعریفها :

قال الزمخشری : « ن و ح - ناحت علی المیت نوحاً ونیاحةً ، وهی نَوّاحة بنی فلان ، ونساءٌ نوائحٌ ونوحٌ وأنواحٌ ، واجتمعن فی المناحة والمناحات والمناوح ، والطیر تَنُوحُ وتَتَناوحُ»(1) .

وقال الفیومی : « ناحت المرأةُ علی المیت نوحاً من باب قال ، والاسم : النُّوَاحُ وزان غُرابٍ ، وربّما قیل النِّیاحُ بالکسر ، فهی نائِحَةٌ ، والنیاحة بالکسر اسم منه ، والمناحةُ بفتح المیم موضع النوح ... »(2) .

وقال الفیروزآبادی : « التناوح : التقابل ، وناحت المرأة زوجها وعلیه نوحاً ونواحاً بالضم ونیاحاً ونیاحةً بکسرهما ومَناحاً ، والاسم : النیاحة ، ونساءٌ نوحٌ وأنواحٌ ونَوَّح ونوائحٌ ونائحات ، وکنّا فی مناحة فلان ... »(3) .

وقال الطریحی : « وناحت المرأة تنوح نوحاً ونیاحاً ، والاسم النیاحة بالکسر ، ونساء نوائح ونائحات ، والتّناوح : التقابل ، ومنه سمیت النوائح لأنّ بعضهنَّ یقابلن بعضاً ... »(4) .

وقال ابن منظور : « نوح ، النّوحُ مصدر ناحَ یَنُوحُ نوحاً ، ویقال : نائحة ذات نیاحة ، ونَوّاحةٌ ذات مَناحةٍ . والمَناحةُ : الاسم ویجمع علی المناحات والمناوح . والنوائح : اسم یقع علی النساء یجتمعن فی مناحة ویُجمع علی الأنْواح ، قال لبید :

قوماً تَنُوحان مع الأنواح

ص: 148


1- (1) أساس البلاغة / 476 .
2- (2) المصباح المنیر / 629 .
3- (3) قاموس اللغة / الطبع الحجری مادة التناوح .
4- (4) مجمع البحرین / 191 الطبع الحجری .

نساء نَوْحٌ وأنواحٌ ونَوَّحُّ ونائحاتٌ ... والمَناحةُ والنّوْحُ : النساء یجتمعن للحزن ... »(1) .

الأقوال فی النیاحة

ذهب الأصحاب قدس سرهم إلی أقوال مختلفة فی المقام :

1 - حرمة النوح مطلقاً ، کما ذهب إلیه الشیخ فی المبسوط(2) وأدعی علیه الإجماع ، وابن حمزة فی الوسیلة(3) .

2 - کراهة النوح مطلقاً ، وهو ظاهر الشیخ فی التهذیب(4) ، وقال سید الریاض : « نعم ، الکراهة علی الإطلاق غیر بعیدة»(5) ، ومال إلیه الشیخ جعفر(6) وتبعهما السید العاملی فقال : « والقول بالکراهة مطلقاً غیر بعید»(7) ، وتبعهم فی الجواهر فقال : « نعم ، لا یبعد الحکم بکراهة للخبر بل لا یبعد شدّتها مع الشرط ... »(8) .

3 - التفصیل بین النوح بالباطل فیحرم والنوح بالحقِّ فیجوز ، وذهب إلیه المشهور : منهم المفید فی المقنعة(9) والشیخ فی النهایة(10) وسالار فی المراسم(11) وابن إدریس فی

ص: 149


1- (1) لسان العرب 2 / 627 .
2- (2) المبسوط 1 / 189 .
3- (3) الوسیلة / 69 .
4- (4) التهذیب 6 / 359 ذیل ح 149 .
5- (5) ریاض المسائل 8 / 161 .
6- (6) شرح القواعد 1 / 203 .
7- (7) مفتاح الکرامة 12 / 183 .
8- (8) الجواهر 22 / 55 .
9- (9) المقنعة / 588 .
10- (10) النهایة / 365 .
11- (11) المراسم / 170 .

السرائر(1) والمحقق فی الشرائع(2) والنافع(3) والعلامة فی المنتهی(4) - وأدعی فیه علی طرفی التفصیل الإجماع - والتذکرة(5) والقواعد(6) والتحریر(7) والإرشاد(8) والنهایة(9) والشهید فی الدروس(10) واللمعة(11) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(12) وثانی الشهیدین فی الروضة(13) والمسالک(14) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(15) والمحقق السبزواری فی الکفایة(16) والشیخ یوسف فی الحدائق(17) .

والمراد بالنیاحة بالحقِّ ذکر أوصاف المیت الموجودة فیه والمستحسن شرعاً أو عرفاً نحو وا رجلاه ، وا کریماه ، وا أبا الأیتام ، وازوج الأرامل .

والمراد بالنیاحة بالباطل ذکر الاُوصاف التی لم یستحسن شرعاً أو عرفاً ، نحو : وا

ص: 150


1- (1) السرائر 2 / 222 .
2- (2) الشرائع 2 / 4 .
3- (3) المختصر النافع / 117 .
4- (4) منتهی المطلب 7 / 423 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 134 مسألة 640 .
6- (6) القواعد 2 / 8 .
7- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 259 .
8- (8) إرشاد الأذهان 1 / 357 .
9- (9) نهایة الإحکام 2 / 469 .
10- (10) الدروس 3 / 162 .
11- (11) اللمعة / 108 .
12- (12) جامع المقاصد 4 / 24 .
13- (13) الروضة البهیة 3 / 213 .
14- (14) المسالک 3 / 127 .
15- (15) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .
16- (16) الکفایة 1 / 435 .
17- (17) الحدائق 18 / 136 .

شارب خمراه ، وا قاتلاه ، وا ظالماه ، وا زانیاه ، وا آکل المال بباطلاه .

وأمّا الکذب والتغنی واستعمال آلات اللهو واختلاط الرجال والنساء فی النیاحة وتحریک الرجال بتلطیف صوتها ونحوها محرّمات اُخری ولکنها غیر داخلة فی النوح بالباطل ، وان اختلط الأمر علی بعض ، واللّه العاصم .

والقائلون بالتفصیل وجواز النوح بالحقِّ ذهبوا إلی أقوال ثلاثة :

الف : ذهب بعضهم إلی جواز النوح بالحقِّ من دون کراهة ، وهو ظاهر ثانی الشهیدین(1) والأردبیلی(2) وصاحب الحدائق ، وحمل الأخیر روایات الکراهة علی التقیة(3) .

ب : وذهب بعضهم إلی الجواز مع کراهة ، کما نسبه المحقق الخوئی(4) إلیهم .

ج : وذهب بعضهم إلی أنّ النوح بالحق إذا اشترطت فیه الاُجرة کان مکروهاً وإلاّ فلا بأس به ، کما نص علیه العلامة فی التذکرة(5) والنهایة(6) والتحریر(7) .

ولتحقیق الأقوال فلابدّ من المراجعة إلی الروایات والجمع بینها ، ولذا نقول :

الروایات
اشارة

الواردة فی النیاحة علی طوائف :

الطائفة الأولی:

الطائفة الأولی : ما دلّ علی المنع من النیاحة مطلقاً ، سواء کانت بالباطل أم بالحقّ :

منها : خبر عمران بن إسحاق الزعفرانی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : مَنْ أنعم اللّه علیه بنعمة فجاء عند تلک النعمة بمزمار فقد کفرها ، ومن اُصیب بمصیبة فجاء عند تلک المصیبة

ص: 151


1- (1) المسالک 3 / 126 .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .
3- (3) الحدائق 4 / 168 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 434 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 134 .
6- (6) نهایة الإحکام 2 / 469 .
7- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .

بنائحة فقد کفرها(1) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم : أنّه نهی عن الرنّة عند المصیبة ، ونهی عن النیاحة والاستماع إلیها ، ونهی عن تصفیق الوجه(2) .

رنَّ : رفع صوتَهُ بالبکاء .

ومنها : خبر الحسین بن زید بن علی عن أبیه عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أربعة لا تزال فی اُمتی إلی یوم القیامة : الفخر بالأحساب ، والطعن فی الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، وإنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم یوم القیامة وعلیها سربال من قَطْران ودرع من جَرِب(3) .

القَطْران والقِطْران والقَطِران : سیالٌ دهنی یتّخذ من بعض الأشجار کالصنوبر والاُرز . الجَرَب : وهو داء یُحدث فی الجلد بثوراً صغاراً لها حکّة شدیدة .

ونحوها مختصراً مرسلة القاضی نعمان المصری فی الدعائم(4) .

ومنها : مرسلة اُخری للقاضی نعمان عن علی علیه السلام أنّه کتب إلی رفاعة بن شدّاد قاضیه علی الأهواز : « وإیّاک والنوح علی المیت ببلد یکون لک به سلطان»(5) .

ومنها : مرسلة ثالثة له عن علی علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : صوتان ملعونان یبغضها اللّه : إعوال عند مصیبة ، وصوت عند نغمة ، یعنی النوح والغناء(6) .

ومنها : خبر جابر فی حدیث وفاة إبراهیم ابن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : فقال عبد الرحمن : أتبکی یا رسول اللّه ! أو لم تنه عن البکاء ؟ قال : لا ولکن نهیتُ عن النوح ، الحدیث(7) .

ص: 152


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 127 ح 5 . الباب 17 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 128 ح 11 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 128 ح 12 .
4- (4) دعائم الإسلام 1 / 226 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 93 ح 2 .
5- (5) دعائم الإسلام 1 / 227 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 93 ح 3 .
6- (6) دعائم الإسلام 1 / 227 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 93 ح 4 .
7- (7) کتاب التعازی / 9 ح 8 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 94 ح 5 .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لعن أربعة : امرأة تخون زوجها فی ماله أو فی نفسها ، والنائحة ، والعاصیة لزوجها ، والعاقّ(1) .

وأنت تجد ضعف أسناد هذه الطائفة وإرسالها .

الطائفة الثانیة:

الطائفة الثانیة : ما دلّ علی الکراهة مطلقاً :

منها : موثقة سماعة قال : سألته عن کسب المغنیة والنائحة ، فکرهه(2) .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن النوح علی المیت أیصلح ؟ قال : یکره(3) .

ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن النوح فکرهه(4) .

وحمل الکراهة فی هذه الروایات الثلاث علی الکراهة المصطلحة مشکلٌ ولذا تحمل علی التحریم والمنع مطلقاً ، فتلحق بالطائفة الاُولی .

الطائفة الثالثة:

الطائفة الثالثة : ما دلّ علی جواز النیاحة وجواز أخذ الاُجرة علیها مطلقاً :

منها : موثقة بل صحیحة یونس بن یعقوب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال لی أبی : یا جعفر اُوقف لی من مالی کذا وکذا لنوادب تندبننی عشر سنین بمنی أیام منی(5) .

قال العلامة الحلی : « الندب لا بأس به ، وهو عبارة عن تعدید محاسن المیت وما یلقون بفقده بلفظة النداء ب- « وا » ، مثل قولهم : وا رجلاه ، وا کریماه ، وا انقطاع ظهراه ، وا مصیبتاه ... »(6) .

وقال فی الحدائق : « قیل : الندب أن تذکر النائحة المیت بأحسن أوصافه وأفعاله

ص: 153


1- (1) مستدرک الوسائل 13 / 94 ح 6 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 128 ح 8 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 129 ح 13 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 129 ح 14 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 125 ح 1 .
6- (6) منتهی المطلب 7 / 422 .

والبکاء علیه ، الاسم : النُدبة - بالضم - . قال بعض مشایخنا : یدلّ الخبر علی رجحان الندبة علیهم وإقامة مأتم لهم ، لما فیه من تشیید حبّهم وبغض ظالمیهم فی القلوب ، وهما العمدة فی الإیمان ، فالظاهر : اختصاصه بهم علیهم السلام ، لما ذکرنا . انتهی»(1) .

أقول : لا وجه للاختصاص ، لاسیما إذا کان المجلس مجلس ذکر وموعظة ونصیحة وتوسل وتوبة ودعاء وقراءة القرآن ونحوها ، وإیصال ثوابها إلی روح المیت .

ومنها : صحیحة أبی حمزة عن أبی جعفر علیه السلام قال : مات الولید بن المغیرة ، فقالت اُمّ سلمة للنبی صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ آل المغیرة قد أقاموا مناحة فأذهب إلیهم ؟ فأذن لها فلبست ثیابها وتهیّات وکانت من حسنها کأنّها جانٌّ وکانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفیه خلخالها ، فندبت ابن عمّها بین یدی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقالت :

أنعی الولید بن الولید أبا الولید فتی العشیرة

حامی الحقیقة ماجد یسمو إلی طلب الوتیرة

قد کان غیثاً فی السنین وجعفراً غَدِقاً ومیرَة

فما عاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ذلک ولا قال شیئاً(2) .

الجعفر : النهر الواسع والملآن . والغدق : الماء الکثیر ، ومنه الآیة «مَّاء غَدَقاً»(3) . والمیرة : الطعام . کذا فی الحدائق(4) .

ومنها : خبر عذافر قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام وسُئل عن کسب النائحة ؟ فقال : تستحلّه بضرب إحدی یدیها علی الاُخری(5) .

الروایة ضعیفة الإسناد بروایة الکلینی ، لأنّ فیها عذافر بن عیسی الخزاعی الصیرفی

ص: 154


1- (1) الحدائق 18 / 137 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 125 ح 2 .
3- (3) سورة الجن / 16 .
4- (4) الحدائق 18 / 137 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 126 ح 4 .

الکوفی ، وهو إمامی مجهول(1) . ورواها الصدوق(2) مرسلاً . والظاهر أنّ المراد بالروایة تصحیح أخذ الاُجرة بما فعلت النائحة من ضرب إحدی یدیها علی الاُخری .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا بأس بأجر النائحة التی تنوح علی المیت(3) .

ورواها الصدوق بسنده الصحیح فی الفقیه(4) .

ومنها : مرسلة الصدوق أنّه سئل الصادق علیه السلام عن أجر النائحة ؟ فقال : لا بأس به ، وقد نیح علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم (5) .

الطائفة الرابعة:

الطائفة الرابعة : ما دلّ علی جواز کسبها إذا قالت صدقاً وعدمه إذا قالت کذباً :

منها : خبر خدیجة بنت عمر بن علی بن الحسین - فی حدیث - قالت : سمعت عمّی محمد بن علی علیه السلام یقول : إنّما تحتاج المرأة إلی النوح لتسیل دمعتها ، ولا ینبغی لها أن تقول هُجراً ، فإذا جاء اللیل فلا تؤذی الملائکة بالنوح(6) .

الهُجر : الإفحاش والخنا کما فی الصحاح(7) والقبیح من الکلام والإفحاش فی النطق کما فی المنجد(8) .

قال فی الجواهر : « فیراد به (أی بالهُجر) حینئذ تعداد أفعاله القبیحة وصفاته المذمومة شرعاً ، نحو النیاحة علی بعض الناس بذکر تهتکهم فی المحرّمات من الزنا واللواط وقتل النفوس والسرقة والنهب ونحو ذلک ، ما لا یشمل المبالغة فی المدح ... »(9) .

ص: 155


1- (1) نتائج التنقیح / 101 .
2- (2) الفقیه 3 / 162 ح 3592 و1 / 183 ح 552 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 127 ح 7 .
4- (4) الفقیه 3 / 161 ح 3589 .
5- (5) الفقیه 1 / 183 ح 551 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 128 ح 10 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 127 ح 6 .
7- (7) الصحاح 2 / 851 .
8- (8) المنجد / 938 .
9- (9) الجواهر 22 / 55 .

الظاهر أنّ ما ذکره صاحب الجواهر فی معنی الهُجر ، هو معنی النیاحة بالباطل کما سبق ، وأمّا معنی الهُجر هو الذی مرّ منّا آنفاً من الصحاح والمنجد .

ومنها : مرسلة الصدوق عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ولا بأس بکسب النائحة إذا قالت صدقاً(1) .

ورواها فی الفقه الرضوی / 252 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 93 ح1 .

الطائفة الخامسة:

الطائفة الخامسة : ما دلّ علی منع المشارطة :

وهی موثقة حنان بن سدیر قال : کانت امرأة معنا فی الحی ولها جاریة نائحة ، فجاءت إلی أبی فقالت : یا عمّ أنت تعلم أن معیشتی من اللّه ثمّ مِنْ هذه الجاریة ، فأحبّ أن تسأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن ذلک ، فإن کان حلالاً وإلاّ بعتُها وأکلتُ من ثمنها حتّی یأتی اللّه بالفرج ، فقال لها أبی : واللّه إنّی لأعظم أبا عبد اللّه علیه السلام أن أسأله عن هذه المسألة . قال : فلما قدمنا علیه أخبرته أنا بذلک ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : أتشارط ؟ فقلت : واللّه ما أدری تشارط أم لا ، فقال : قل لها لا تشارط وتقبل ما أعطیت(2) .

رواها الشیخ بسنده الموثق فی التهذیب 6 / 358 والاستبصار 3 / 60 ، وکذا رواها الحمیری فی قرب الإسناد / 123 ح 434 .

أقول : الطائفتان الأولیان تدلان علی المنع والحرمة بوضوح ، والطائفة الثالثة تدلّ علی الجواز بوضوح ، فلذا لابدّ من حمل الأوّلیین إمّا علی التقیة کما ذهب إلیه صاحب الحدائق(3) أو علی الکراهة المصطلحة کما مال إلیه أصحاب الریاض(4) وشرح القواعد(5) والمفتاح(6) والجواهر(7) .

ص: 156


1- (1) الفقیه 3 / 162 ح 3591 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 128 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 7 / 126 ح 3 .
3- (3) الحدائق 18 / 140 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 161 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 203 .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 183 .
7- (7) الجواهر 22 / 55 .

وعلی الحملین یجوز أخذ الاُجرة علیها . وأمّا الخامسة من الطوائف فتدلّ علی کراهة أخذ الاُجرة مع المشارطة فنحملها علی التقیة أو نذهب إلی شدّة الکراهة علی حمل الکراهة المصطلحة .

وأمّا الطائفة الرابعة : أیضاً نأخذ بها ، لأنّ الکذب من المحرّمات الشرعیة ، فأخذ الاُجرة فی قباله أیضاً من المحرّمات . وکذلک لا یجوز التغنی واستعمال آلات الملاهی والموسیقی وإسماع صوتها الأجانب إذا کان فیه کیفیة توجب الریبة لهم ، ولکن کلّ ذلک خارج عن موضوع النیاحة .

والحاصل ، أنّ النیاحة لکل أحدٍ إمّا تجوز مطلقاً بناءً علی حمل الروایات المانعة علی التقیة کما هو الظاهر ، وإمّا تکره بالکراهة المصطلحة بناءً علی حملها علیها . وفی الصورتین یجوز أخذ الاُجرة علیها ویکره فی الأخیر ، ویکره الأخذ مع الشرط أو هو أشدّ کراهة مع المشارطة . هذا حکم النیاحة بالنسبة إلی عموم الناس .

النیاحة علی المعصومین علیهم السلام

وأمّا النیاحة بالنسبة إلی المعصومین علیهم السلام - نحو النیاحة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وبنته سیدة نساء العالمین فاطمة الزهراء الشهیدة علیهاالسلام وأمیرالمؤمنین علیه السلام والأئمة من ولده سلام اللّه علیهم أجمعین - فإنّها تدخل فی ترویج الشعائر الإسلامیة ویحکم باستحبابها بلاخلاف ، بل یمکن القول بوجوبها الکفائی فی بعض الأحیان ، وتدلّ علیه مضافاً إلی إطلاق قوله تعالی : «وَمَن یُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَی الْقُلُوبِ»(1) ، المتواتر من الروایات :

منها : معتبرة بکر بن محمد الأزدی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : تجلسون وتتحدَّثون ؟ قال : قلت : جعلت فداک ، نعم . قال : إنّ تلک المجالس اُحبّها فأحیوا أمرنا إنّه مَنْ ذکرنا أو ذُکرنا عنده فخرج من عینه مثل جناح الذباب غفر اللّه له ذنوبه ولو کانت أکثر من زبد البحر(2) .

ص: 157


1- (1) سورة الحج / 32 .
2- (2) ثواب الأعمال / 223 ح 1 ونقلها فی وسائل الشیعة 14 / 501 ح 2 ، ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 74 ح 1 .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : کان علی بن الحسین علیه السلام یقول : أیّما مؤمن دمعت عیناه لقتل الحسین علیه السلام حتّی تسیل علی خدّه بوّأه اللّه تعالی بها فی الجنة غرفاً یسکنها أحقاباً ، وأیّما مؤمن دمعت عیناه حتّی تسیل علی خدّه فیما مسّنا من الأذی من عدوّنا فی الدنیا بوّأه اللّه فی الجنة مبوَّأ صدق ، وأیّما مؤمن مسّه أذیً فینا فدمعت عیناه حتّی تسیل علی خدّه من مضاضة ما اُوذی فینا صرف اللّه عن وجهه الأذی وآمنه یوم القیامة من سخطه والنار(1) .

ورواها ابن قولویه بسنده الصحیح فی کامل الزیارات / 100 ح 1 وکذا علی ابن إبراهیم القمی فی تفسیره 2 / 291 .

بَوَّأ المکان : حلّ فیه ، بوّأ له منزلاً : هیّأ له .

ومنها : معتبرة الریان بن شبیب عن الرضا علیه السلام - فی حدیث - قال : یا بن شبیب إن بکیت علی الحسین حتّی تصیر دموعک علی خدیک غفر اللّه لک کلّ ذنب أذنبتَه صغیراً کان أو کبیراً ، قلیلاً کان أو کثیراً ، یابن شبیب إن سرّک أن تلقی اللّه عزّ وجلّ ولا ذنب علیک فزر الحسین علیه السلام . یابن شبیب إن سرّک أن تسکن الغرف المبنیة فی الجنة مع النبی صلی الله علیه و آله وسلم فالعن قتلة الحسین . یا بن شبیب إنّ سرّک أن یکون لک من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسین بن علی علیه السلام فقل متی ذکرته : « یا لیتنی کنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظیماً» . یا بن شبیب إنّ سرّک أن تکون معنا فی الدرجات العُلی من الجنان فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا وعلیک بولایتنا ، فلو أنّ رجلاً أحبّ حجراً لحشر اللّه عزّ وجلّ معه یوم القیامة(2) .

ومنها : معتبرة معاویة بن وهب عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّه قال فی حدیث : یا شیخ ذاک دم یطلب اللّه تعالی به ، ما اُصیب ولد فاطمة ولا یصابون بمثل الحسین علیه السلام ولقد قُتل فی

ص: 158


1- (1) ثواب الأعمال / 108 ح 1 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 14 / 501 ح 3 ، ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت 2 / 77 ح 2 .
2- (2) عیون أخبار الرضا علیه السلام 1 / 299 ح 58 - أمالی الصدوق . المجلس السابع والعشرون ح 5 / 192 الرقم 202 - ونقل عنهما فی وسائل الشیعة 14 / 502 ح 5 ونقلت عنهما أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 77 ح 3 .

سبعة عشر من أهل بیته نصحوا للّه وصبروا فی جنب اللّه ، فجزاهم اللّه أحسن جزاء الصابرین . إنّه إذا کان یوم القیامة أقبل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ومعه الحسین علیه السلام ویده علی رأسه یقطر دماً ، فیقول : یا ربّ سل اُمّتی فیم قتلوا ولدی . وقال علیه السلام : کلّ الجزع والبکاء مکروه سوی الجزع والبکاء علی الحسین علیه السلام (1) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة معاویة بن وهب عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث قال : وارحم تلک الخدود التی تقلّبت علی حفرة أبی عبداللّه [ الحسین ] علیه السلام ، وارحم تلک الأعین التی جرت دموعها رحمةً لنا ، وارحم تلک القلوب التی جزعت واحترقت لنا ، وارحم الصرخة التی کانت لنا ، اللهم إنّی أستودعک تلک الأنفس وتلک الأبدان حتّی نوافیهم علی الحوض یوم العطش ، الحدیث(2) .

أقول : سندا الکلینی للروایة ضعیفان وکذا أسناد ابن قولویه فی کامل الزیارات/116 ومابعدها ، ولکنّه رواها فی إحدیها عن ابن أبی عمیر عن معاویة بن وهب(3) وللشیخ فی الفهرست(4) ثلاثة أسانید صحاح إلی جمیع کتب ابن أبی عمیر وروایاته وبعملیّة تبدیل السند صار سندها معتبراً بل صحیحاً ، ولذا عبّرنا عنها بالمعتبرة بل الصحیحة .

ومنها : صحیحة فضیل بن یسار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : مَنْ ذُکرنا عنده ففاضت عیناه ولو مثل جناح الذباب غفر اللّه ذنوبه ولو کانت مثل زبد البحر(5) .

ورواها ابن قولویه بإسناده فی کامل الزیارات / 103 ح 8 .

ومنها : موثقة الحسن بن علی بن فضال عن الرضا علیه السلام أنّه قال : من تَذَکّر مُصابنا فبکی وأبکی لم تبک عینه یوم تبکی العیون ، ومن جلس مجلساً یُحیی فیه أمرنا لم یمت قلبه یوم

ص: 159


1- (1) أمالی الطوسی . المجلس السادس ح 20 / 161 الرقم 268 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 14 / 505 ح 10 ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 78 ح 4 .
2- (2) الکافی 4 / 582 ح 11 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 15 / 196 ح 1 .
3- (3) کامل الزیارات / 118 .
4- (4) الفهرست / 405 الرقم 618 .
5- (5) المحاسن 1 / 136 ح 123 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 14 / 500 ح 1 .

تموت القلوب ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر علی بن محمد الهرمزانی عن أبی عبد اللّه الحسین بن علی علیهماالسلام قال : لما قبضت فاطمة علیهاالسلام دفنها أمیر المؤمنین علیه السلام سرّاً وعفا علی موضع قبرها ، ثمّ قام فحوّل وجهه إلی قبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، ثمّ قال : السلام علیک یا رسول اللّه عنّی ، والسلام علیک عن ابنتک وزائرتک والبائتة فی الثری ببقعتک والمختار اللّه لها سرعة اللحاق بک ... إلی أن قال : أمّا حزنی فسرمد ، وأمّا لیلی فمسهّد ، وهمٌّ لا یبرح فی قلبی أو یختار اللّه لی دارک التی أنت فیها مقیم ، کمدٌ مقیِّحٌ ، وهمٌّ مهیِّجٌ ، سرعان ما فُرّق بیننا ، وإلی اللّه أشکو ... إلی أن قال : واه واهاً ، والصبر أیمن وأجمل ، ولولا غلبة المستولین لجعلت المُقام واللبث لزاماً معکوفاً ، ولأعولت إعوال الثکلی علی جلیل الرزیة . فبعین اللّه تدفن ابنتک سرّاً ، وتهضم حقّها ، وتمنع إرثها ، ولم یتباعد العهد ، ولم یخلق منک الذکر . وإلی اللّه یا رسول اللّه المشتکی ، وفیک یا رسول اللّه أحسن العزاء ، صلی اللّه علیک وعلیها السلام والرضوان(2) .

السهود : قلة النوم . الکَمَد : الحزن الشدید .

ومنها : ما روی العلامة الحلی عن الجمهور عن فاطمة علیهاالسلام أنّها قالت : یا أبتاه من ربّه ما أدناه ، یا أبتاه إلی جبرئیل أنعاه ، یا أبتاه أجاب ربّاً دعاه(3) .

ومنها : ما رواه أیضاً عن الجمهور عن علی علیه السلام : إنّ فاطمة علیهاالسلام أخذت قبضة من تراب قبر النبی صلی الله علیه و آله وسلم فوضعتها علی عینیها ثمّ قالت :

ما ذا علی مَنْ شمّ تُربة أحمدٍ أن لا یشمّ مَدیَ الزمان غوالیاً

صُبَّت علیَّ مصائبٌ لو أنّها صُبَّت الأیام عدن لیالیاً(4)

ص: 160


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام 1 / 294 ح 48 ، ونحوها فی أمالی الصدوق . المجلس السابع عشر ح 4 / 131 الرقم 119 ونقل عنهما فی وسائل الشیعة 14 / 502 ح 4 .
2- (2) الکافی 1 / 458 ح 3 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8/ 250 ح 4 .
3- (3) منتهی المطلب 7 / 432 - صحیح البخاری 6 / 18 ، سنن ابن ماجه 1 / 552 ، سنن النسائی 4 / 13 . مسند أحمد 3 / 197 . سنن البیهقی 4 / 71 .
4- (4) منتهی المطلب 7 / 423 . المغنی 2 / 411 . الشرح الکبیر بهامشه 2 / 429 .

وکذلک یجوز البکاء علی موتی المؤمنین والعلماء وأبناء الأئمة علیهم السلام ونحوهم ، تدلّ علیه بعض الروایات :

منها : صحیحة علی بن رئاب قال : سمعت أبا الحسن الأوّل علیه السلام یقول : إذا مات المؤمن بکت علیه الملائکة وبقاع الأرض التی کان یعبد اللّه علیها وأبواب السماء التی کان یصعد أعماله ، فیها وثلم ثلمة فی الإسلام لا یسدّها شیء ، لأنّ المؤمنین حصون الإسلام کحصون سور المدینة لها(1) .

ومنها : معتبرة أبی بصیر عن أحدهما قال : لما ماتت رقیة ابنة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إلحقی بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون وأصحابه . قال : وفاطمة علیهاالسلام علی شفیر القبر تنحدر دموعها فی القبر ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر ابن القداح عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : قال لمّا مات إبراهیم ابن رسول اللّه هملت عین رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالدموع ، ثمّ قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : تدمع العین ویحزن القلب ولا نقول ما یُسخط الربّ ، وإنّا بک یا إبراهیم لمحزونون ، الحدیث(3) .

ومنها : مرسلة الصدوق عن الصادق علیه السلام أنّه قال : لما مات إبراهیم ابن رسول اللّه ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حزناً علیک یا إبراهیم وإنّا لصابرون ، ویحزن القلب وتدمع العین ولا نقول ما یسخط الربّ(4) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن الصادق علیه السلام أنّه قال : إنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم حین جاءته وفاة

ص: 161


1- (1) الکافی 3 / 254 ح 13 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 3 / 283 ح 1 ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 73 ح 1 .
2- (2) الکافی 3 / 241 ح 18 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 3 / 279 ح 1 ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 71 ح 1 .
3- (3) الکافی 3 / 262 ح 45 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 3 / 280 ح 3 ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 71 ح 3 .
4- (4) الفقیه 1 / 177 ح 526 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 3 / 280 ح 4 ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 72 ح 4 .

جعفر بن أبی طالب وزید بن حارثة کان إذا دخل بیته کثر بکاؤه علیهما جدّاً ویقول : کانا یحدّثانی ویؤانسانی فذهبا جمیعاً(1) .

ومنها : قال الصدوق : ولما انصرف رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من وقعة اُحد إلی المدینة سمع کلّ دار قُتل مِنْ أهلها قتیل نوحاً وبکاءً ولم یسمع من دار حمزة عمّه ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : لکن حمزة لا بواکی له ، فآلی أهل المدینة أن لا ینوحوا علی میت ولا یبکوه حتّی یبدؤا بحمزة فینوحوا علیه ویبکوه ، فهم إلی الیوم علی ذلک(2) .

آلی یؤلی إیلاءً : أی حلف .

ومنها : خبر هشام بن محمد فی حدیث طویل قال : ولما بلغ أمیر المؤمنین علیه السلام وفاة الأشتر جعل یتلهَّف ویتأسّف علیه ویقول : للّه درّ مالک ، لو کان من جبل لکان أعظم أرکانه ، ولو کان من حجر لکان صلداً ، أما واللّه لیهدَّنَّ موتک عالَماً ، فعلی مثلک فلتبک البواکی . ثمّ قال : إنا للّه وإنّا إلیه راجعون ، والحمد للّه ربّ العالمین ، إنّی أحتسبه عندک ، فإنّ موته من مصائب الدهر ، فرحم اللّه مالکاً فقد وفی بعهده وقضی نحبه ولقی ربّه ، مع أنّا قد وطنّا أنفسنا أن نصبر علی کلِّ مصیبة بعد مصابنا برسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فإنّها أعظم المصیبة(3) .

والروایات فی هذا المجال متواترة ، فإن شئت راجع کامل الزیارات / 100 ووسائل الشیعة 14 / 500 ومستدرک الوسائل 10 / 311 وجامع أحادیث الشیعة 15 / 430 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 74 . والحمد للّه أوّلاً وآخراً .

ص: 162


1- (1) الفقیه 1 / 177 ح 527 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 3 / 280 ح 6 ونقلت عنه أیضاً فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 72 ح 6 .
2- (2) الفقیه 1 / 183 ح 553 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 74 ح 2 .
3- (3) أمالی المفید . المجلس التاسع ح 4 / 83 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 74 ح 3 .

الولایة من قبل الجائر

ما المراد من الولایة والجائر ؟

المراد من « الولایة » هنا تارة یُقصد بها المعنی العام ، نحو : ولایة القضاء أو السیاسة أو تدبیر نظام أو جبایة الضرائب والخراج ، وتارة یقصد بها المعنی الخاص نحو : الولایة علی القاصرین من الأطفال والمجانین أو القیمومیة علی مال غائبٍ أو التولیة لوقفٍ .

فالولایة هنا تشمل المعینین ، فما ذکره السید العاملی(1) من أنّها تشمل المعنی الأوّل فقط غیر تام .

ثمّ یظهر معنی الجائر بعد ظهور معنی العادل الذی هو فی قباله ، والمراد بالعادل فی جملة « الولایة من قبل العادل» هو الإمام المعصوم علیه السلام أو نائبه الخاص أو العام ، فالفقیه المستجمع لشرائط الإفتاء فی زمن الغیبة یدخل فی عنوان العادل .

ولذا قال فی الجواهر : « وقد یلحق به نائبه العام فی هذا الزمان إذا فُرض بسط یده فی بعض الأقالیم»(2) .

وقال أستاده الشیخ جعفر فی المنصوبین علی أیدی ظلمة سلاطین الشیعة قضاة أو شیوخ إسلام أو نوّاباً أو نحوهم أنّهم علی أقسام ، ومنهم : « وأمّا مَنْ لم یداخله الإعتقاد الفاسد مع قابلیته ، فلیس من ولاة الجائرین وعمّالهم ، لأنّ الولایة لهم من قبل اللّه وإنّما أدخلوا أنفسهم تحت هذا الإسم لینالوا بعض منصبهم ولیستوفوا بعض حقّهم ، کما یُستعان بالظالم لاستنقاذ الحقوق ، فمَنْ کانت ولایته من الأئمة علیهم السلام بإذن خاصة کابنی یقطین وابن بزیع والنجاشی ونحوهم ، أو عامّة کعَلَم الهدی والخواجة نصیر الدین والمحقق الثانی والبهائی والمجلسی

ص: 163


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 373 .
2- (2) الجواهر 22 / 156 .

ونحوهم یدخلون فی ولاة إمام العدل»(1) .

وقال أیضاً : « ولو نصب الفقیه المنصوب من الإمام بالإذن العام سلطاناً أو حاکماً لأهل الإسلام ، لم یکن من حکّام الجور ، کما کان ذلک فی بنی إسرائیل ، فإنّ حاکم الشرع والعرف کلیهما منصوبان من الشرع»(2) .

أقول : الکلام الأوّل من الجد الفقیه تام ، و قد وجدناه قبله عند الشیخ فی النهایة(3) والعلامة فی التحریر(4) والشهید فی الدروس(5) ، ویأتی نص کلام الأخیرین فی مطاوی البحث ، وتبعهم ثانی الشهیدین(6) فی ظاهر کلامه . وأمّا کلامه الأخیر ففیه تأمل ، لأنّ الحاکم المنصوب المأذون من قبل الفقیه یجوز تصرفاته فی ما أذن له الفقیه وحدوده المأذونة ، کما أذن هو قدس سره لفتحعلی شاه القاجاری بالنسبة إلی الحرب مع الروس ودفع فتنتهم من بلاد المسلمین(7) ، فتصرفات الشاه القاجاری بالنسبة إلی ذاک الحرب المأذون فیه من قبل الفقیه جائزة لا جمیع تصرفاته ، ولم یصر الشاه القاجاری مع هذا الإذن عادلاً ولم یخرجه الإذن الخاص عن عنوان الظلمة . فکلامه الأخیر بإطلاقه غیر تام ، ولعله إلی ما ذکرنا أشار تلمیذه صاحب الجواهر بعد نقل کلامه الأخیر بقوله : « وإن کان فیه ما فیه»(8) .

والحاصل ، أن المراد بالجائر کلّ من ادعی الإمامة والرئاسة العامة ولیس بإمام معصوم أو لیس بفقیه فی زمن الغیبة ، سواء کان مسلماً أو کافراً ، مؤمناً أو مخالفاً . هذا کلّه بالنسبة إلی المراد من ألفاظ العنوان .

ص: 164


1- (1) شرح القواعد 1 / 331 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 335 .
3- (3) النهایة / 302 .
4- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 270 .
5- (5) الدروس الشرعیة 3 / 174 .
6- (6) المسالک 3 / 111 .
7- (7) راجع فی هذا المجال کشف الغطاء 4 / 333 .
8- (8) الجواهر 22 / 156 .
تطور البحث فی کلمات الفقهاء

جعل الشیخ فی أوّل کتاب المکاسب من النهایة « باب عمل السلطان وأخذ جوائزهم » ، وقال فیه : « تَوَلِّی الأَمرِ من قِبَل السّلطان العادل الآمر بالمعروف والنَّاهی عن المنکر الواضع الأشیاء مواضعها ، جائزٌ مَرَغَّبٌ فیه . ورُبَّما بلغ حدَّ الوجوب ، لما فی ذلک من التمکُّن من الأَمر بالمعروف والنَّهی عن المنکر ، ووضعِ الأشیاء مواضعها .

وأمّا سلطان الجور ، فمتی علم الإنسان أو غلب علی ظنِّه : أنَّه متی تولّی الأمر من قبله ، أمکنه التَّوصّل إلی إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنَّهی عن المنکر وقَسْم الأَخماس والصّدقات فی أربابها وصلة الإخوان ، ولا یکون فی جمیع ذلک مُخِلاًّ بواجبٍ ولا فاعلاً لقبیح ؛ فإنّه یستحبُّ له أن یتعرّض لتولِّی الأمر من قبلهم .

ومتی علم أو غلب علی ظنِّه : أنّه لا یتمکَّنُ من جمیع ذلک ، وأنّه لابدّ من أن یلحَقَهُ ضربٌ من التَّفریط فی القیام بالواجبات أو یحتاج إلی ارتکاب شیءٍ من المقبَّحات ؛ فلا یجوز له التعرُّضُ له علی حال . فإن أُلزِمَ الولایة إلزاماً لا یبلغُ ترکه إلی الخوف علی النَّفس وسلب الأموال ، غیر أنَّه یلحقه بعض الضّرر وتَحَمُّل بعض الأَثقال ؛ فالأولی له أن یتحمَّل ذلک ولا یتعرّض لعمل السّلطان .

فإن خاف من الإمتناع من ذلک علی النَّفس أو علی الأَهل أو علی المال أو علی بعض المؤمنین فی ذلک ، جاز له أن یتولّی الأَمر ، ویجتهد أن یضع الأشیاءَ مواضعها . فإن لم یتمکَّن من الجمیع ، فما یتمکَّن منه یجتهدُ فی القیام به . وإن لم یُمکنهُ ذلک ظاهراً فَعَلَه سرّاً وإخفاتاً ، وخاصةً ما یتعلَّقُ بقضاءِ حقوق الإخوان والتّخفیف عنهم فیما یَلْزِمُهُم مِنْ جهة السّلاطین الَجَورةِ مِنْ الخراج وغیره . فإن لم یتمکَّن مِنْ إقامة حقٍّ علی وجه ، والحالُ وصفناه فی التَّقیّة ؛ جاز له أن یتَّقی فی جمیع الأحکام والأمور ، ما لم یَبْلُغ ذلک إلی سفک الدِّماء المحرَّمة ، فإنّه لا تقیّةَ له فی سفکها علی حال .

ومتی ما تولّی شیئاً من أمور السّلطان من الإمارة والجبایة والقضاءِ وغیر ذلک من أَنواع الولایات ، فلا بأسَ أن یَقْبَلَ علی ذلک الأرزاق والجوائز والصِّلات . فإن کان ذلک من

ص: 165

جهة سلطان عادل ، کان ذلک حلالاً له طِلْقاً ، وإن کان من جهة سلطان الجَوْر ؛ فقد رُخِّصَ له فی قبول ذلک من جهتهم ، لأن له حظّاً فی بیت المال .

ویجتهِدُ أن یُخرج من جمیع ما یَحصُلُ له من جهتهم الخمس ویَضَعَه فی أربابه ، والباقی یواسی منه إخوانه مِن المؤمنین ویصلهم ببعضه وینتفع هو بالبعض . ولا یجوز له أن یَقْبَلَ مِنْ جوائزهم وصلاتهم ما یَعْلَمُهُ ظلماً وغصباً ویتعیّنُ له ، فإن لم یتعیّن له ذلک ، وإن عَلِم أنّ الُمجیزَ له ظالم لم یکنْ به بأسٌ بقبول جوائِزه ویکون مباحاً له والإثم علی ظالمه»(1) .

وقال القاضی عبد العزیز بن البراج : « السلطان علی ضربین : أحدهما سلطان الإسلام والآخر السلطان الجائر ، فأمّا سلطان الإسلام العادل فهو مندوب إلی خدمته ومُرَغَّبٌ فیها ، وربّما وجب ذلک علی المکلَّف طائفة لما فیه من وجوب إتباعه وطاعته فی أمره ونهیه .

فإذا ولّی السلطانُ إنساناً إمارة وحکماً أو غیر ذلک مِن الولاة علیه وجب علیه طاعته فی ذلک وترک الخلاف له فیه ، وجاز قبول جوائزه وصلاته والتصرف فی الجمیع علی کلِّ حال .

وأمّا السلطان الجائر : فلا یجوز لأحدٍ أن یتولّی شیئاً من الاُمور مِنْ قِبَلِه إلاّ أن یعلم أو یغلب علی ظنِّه أنّه إذا تولّی ولایة من جهته ، تمکَّن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، وقسمة الأخماس والصدقات علی مستحقّها وصلة الإخوان ، ولا یکون فی شیءٍ من ذلک تارکاً لواجب ولا مخلاً به ولا فاعلاً بشیءٍ من القبائح ، فإنّه حینئذ مستحب له التعرض لتولّی الاُمور من جهته . وإن علم أو غَلَب علی ظنِّه أنّه لا یتمکَّن مِنْ ذلک وأنّه لا یخلو من تفریط یلحقه فی الواجبات ویحتاج إلی ارتکاب بعض المقبَّحات ، لم یجز له تولّی ذلک . فإن ألزمه السلطان الجائر بالولایة إلزاماً لا یبلغ ترکه الإجابة إلی ذلک الخوف علی النفس وسلب المال وإن کان ربّما لحقه بعض الضرر أو لحقه فی ذلک مشقة فالاُولی أن یتحمَّل تلک المشقة ویتکلّف مضرتها ، ولا یتعرَّض للولایة من جهته .

ص: 166


1- (1) النهایة / (358 - 356) .

وإن خاف علی نفسه أو علی أحدٍ مِنْ أهله أو بعض المؤمنین أو علی ماله جاز له أن یتولّی ذلک ویجری علی وضع الأمور فی مواضعها ، وإن لم یتمکن من فعل ذلک اجتهد فیما یتمکَّن منه ، وإن لم یتمکن من فعل ذلک ظاهراً فَعَلَه سرّاً ، لا سیما حقوق الإخوان والتخفیف عنهم من جور السلاطین الجور من خراج أو غیره .

وإذا لم یتمکن من القیام بحقٍّ من الحقوق والحال فی التقیة علی ما ذکرناه جاز له أنْ یتقی فی سائر الاُمور والأحکام التی لا یبلغ إلی سفک دمٍ محرّمٍ ، لأنّ هذا الدم لیس فی سفکه تقیة . وإذا تولّی إنسانٌ من قبل السلطان الجائر ولایةً ، جاز له علی جهة الرخصة قبول الأرزاق والجوائز منه ، لأنّ له قسطاً مِنْ بیت مال المسلمین»(1) .

وقال قطب الدین الراوندی فی فقه القرآن : « اعلم أن تقلّد الأمر من قبل السلطان الجائر إذا تمکن من إیصال الحقِّ إلی مستحقه جائز .

یدلّ علیه - بعد الإجماع المتردّد والسنة الصحیحة - قول اللّه تعالی حکایة عن یوسف علیه السلام «قَالَ اجْعَلْنِی عَلَی خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ»(2) طلب ذلک إلیه لیحفظه عمّن لا یستحقه ویوصله إلی الوجوه التی یجب صرف الأموال إلیها ولذلک رغب إلی الملک فیه ، لأنّ الأنبیاء لا یجوز أن یرغبوا فی جمع أموال الدنیا إلاّ لما قلناه . فقوله : «حَفِیظٌ» أی حافظ للمال عمّن لا یستحقه علیهم بالوجوه التی یجب صرفه إلیها . ومتی علم الإنسان أو غلب علی ظنه أنّه لا یتمکن مع جمیع ذلک فلا یجوز له التعرض له علی حال ... »(3) .

وقال ابن إدریس الحلی : « السلطان علی ضربین ، أحدهما سلطان الحقّ العادل والآخر سلطان الجور الظالم المتقلب ، فأمّا الأوّل فمندوب إلی خدمته ومعاونته ومرغب فیها ، وربّما وجب ذلک علی المکلف ، بأن یدعوه فیجب امتثال أمره ، فإذا ولّی هذا السلطان إنساناً إمارةً أو حکماً أو غیر ذلک من ضروب الولایات وجب علیه طاعته فی ذلک وترک الخلاف له فیه ، وجائز قبول جوائزه وصلاته وأرزاقه وسائغ التصرف فی ذلک علی کلِّ حالٍ .

ص: 167


1- (1) المهذب 1 / 347 و 346 .
2- (2) سورة یوسف / 55 .
3- (3) فقه القرآن 2 / 24 .

وأمّا السلطان الجائر فلا یجوز لأحدٍ أن یتولّی شیئاً من الاُمور مختاراً من قبله ، إلاّ من یعلم أو یغلب علی ظنه أنّه إذا تولّی ولایةً من جهته ، تمکن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وقسمة الأخماس والصدقات إلی مستحقیها وصلة الإخوان ، ولا یکون فی شیءٍ من ذلک تارکاً لواجب ولا مخلاًّ به ولا فاعلاً لقبیح ، فإنّه حینئذ مستحبٌ له التعرض لتولی الأمر من جهته . فإن عَلِم أو ظنّ أنّه لا یتمکن من ذلک وأنّه لابدّ من الإخلال بواجب ، أو أن یفعل قبیحاً لم یجز له تولّی ذلک ، فإن ألزمه السلطان الجائر بالولایة إلزاماً لا یبلغ ترکه الإجابة إلی ذلک ، الخوف علی النفس وسلب المال . وإن کان ربّما کان لحقه بعض الضرر أو لحقته فی ذلک مشقة ، فالاُولی أن یتحمّل تلک المشقة ویتکلّف مضرّتها ، ولا یتعرّض للولایة من جهته ، فإن خاف علی نفسه أو علی أحد من أهله أو المؤمنین أو علی ماله جاز أن یتولّی ذلک ، وساغ له عند هذا الخوف الدخول فیه بعد إلزامه له وخوفه المذکور منه ، ویجتهد ویحرص بعد هذا کلّه علی وضع الاُمور الشرعیة مواضعها ، وإقرار الحقّ مقره ، فإن لم یتمکن من ذلک اجتهد فیما یتمکن منه . فإن لم یتمکن من فعل شیءٍ ظاهراً فعله سرّاً ، لا سیما فیما یتعلق بحقوق الإخوان فی الدین والتخفیف عنهم من ظلم السلاطین الجورة ، من خراج وغیره . فإن لم یتمکن من القیام بحقٍّ من الحقوق والحال فی التقیة علی ما ذکرناه جاز له أن یتقی فی جمیع الأشیاء وسائر الاُمور والأحکام التی لا تبلغ إلی قتل النفوس وسفک الدماء المحرّمة ، لأنّ ذلک لیس فیه تقیة عند أصحابنا ، لاخلاف بینهم أن لا تقیة فی قتل النفس وسفک الدماء . فإذا کان الأمر فی التقیة ما ذکرناه جاز له قبول جوائزه وصلاته ما لم یعلم أن ذلک ظلم بعینه ، فإذا لم یعلم أنّه بعینه ظلم فلا بأس بقبوله وإن کان المجیز له ظالماً . وینبغی له أن یخرج الخمس من کلِّ ما یحصل من ذلک ویوصله إلی أربابه ومستحقیه ، وینبغی له أن یصل إخوانه من الباقی بشیءٍ ویتصرف هو فی منافعه بالبعض الذی یبقی من ذلک»(1) .

وقال المحقق فی الشرائع : « الرابعة : الولایة من قبل السلطان العادل جائزةٌ وربّما وجبت کما إذا عیَّنه إمام الأصل ، أو لا یمکن دفع المنکر أو الأمر بالمعروف إلاّ بها . وتحرم من

ص: 168


1- (1) السرائر 2 / 203 و 202 .

قبل الجائر إذا لم یأمن اعتماد ما یحرم ، ولو أمِنَ ذلک وقدر علی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر استُحِبَّت . ولو أکره جاز له الدخول دفعاً للضرر الیسیر علی کراهیة وتزول الکراهیة ، لدفع الضرر الکثیر ، کالنفس أو المال أو الخوف علی بعض المؤمنین .

الخامسة : إذا أکرهه الجائر علی الولایة جاز له الدخول والعمل بما یأمره مع عدم القدرة علی التفصِّی ، إلاّ فی الدماء المحرّمة فإنّه لا تقیة فیها»(1) .

وقال فی النافع : « السادسة : الولایة من العادل جائزة وربما وجبت وعن الجائر محرّمة إلاّ مع الخوف . نعم لو تَیَقَّن التخلص من المآثم والتمکن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر استحبت . ولو أکره لا مع ذلک أجاب دفعاً للضرر ، وینفذ أمره ولو کان محرّماً إلاّ فی قتل المسلم»(2) .

وقال العلامة فی التذکرة : « الولایة من قبل العادل مستحبة ، وقد تجب إذا ألزمه بها أو کان الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لا یتمّ إلاّ بولایته .

وتحرم من الجائر إلاّ مع التمکن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أو مع الإکراه بالخوف علی النفس أو المال أو الأهل أو بعض المؤمنین ، فیجوز حینئذ اعتماد ما یأمره إلاّ القتل الظلم ، فإنّه له فعله وإن قُتل .

ولو خاف ضرراً یسیراً بترک الولایة ، استحبّ له تحمّله وکرهت له الولایة»(3) .

وقال فی نهایة الإحکام : « ویحرم الولایة من قبل الجائر لما فیه من المساعدة علی الظلم ، لقول الصادق علیه السلام : « لا تعنهم علی بناء مسجد(4) » ، ولو عرف أنّه یتمکن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والتحرز عن المظالم ، جاز بل استحب ، ولو لم یأمن الدخول فی الظلم حرم . فإن أکره علی الدخول جاز دفعاً للضرر الیسیر علی کراهیة ، ولو کان الضرر کثیراً کالنفس أو المال أو الخوف علی بعض المؤمنین جاز وزالت الکراهیة ، فإن تعذّر جاز مع

ص: 169


1- (1) الشرائع 2 / 6 .
2- (2) المختصر النافع / 118 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 149 مسألة 657 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 180 ح 8 وهی صحیحة یونس بن یعقوب .

الإلزام اعتماد ما لا یسوغ من الظلم ، إلاّ أن یبلغ حد القتل فلا یجوز ، وإن خاف علی نفسه القتل ، فإنّه لا تقیة فی الدماء .

أما الولایة من قبل العادل فإنّها جائزة ، وربما وجبت ، کما لو عیّنه أو لم یکن الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر إلاّ بولایته»(1) .

وقال فی التحریر : « سلطان الحقّ یُستحب خدمته والعمل من قبله ویجب مع الإلزام ویجوز أخذ جوائزه . أمّا الجائر فلا تجوز الولایة منه اختیاراً إلاّ مع العلم بالمکنة من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، ومع انتفاء العلم والظن بذلک تحرم الولایة من قبله ، ومع العلم بالتمکن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، ووضع الأشیاء من الصدقات والمواریث وغیرها مواضعها ، تجوز الولایة من قبل الجائر معتقداً أنّه یفعل ذلک من قبل سلطان الحقّ علی سبیل النیابة .

ولو قهره علی الولایة مع عدم العلم جازت الولایة ولا یعمل بغیر الحقّ ما أمکن ، فإنْ اضطرّ إلی ظلم جاز للضرورة ما لم یبلغ الدماء ، فلا یجوز التقیة فیها علی حالٍ . ولو أمکنه دفع الجائر فی عدم الولایة وجب ، ویُستحبّ مع تحمل الضرر الیسیر . ولو خاف علی نفسه أو ماله أجمع أو علی بعض المؤمنین جازت الولایة»(2) .

وقال فی القواعد : « الولایة من قبل العدل مستحبَّة ، وقد تجب إنْ اُلزم أو افتقر فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر إلیها ، وتحرم من الجائر إلاّ مع التمکن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، أو مع الإکراه بالخوف علی النفس أو المال أو الأهل أو بعض المؤمنین ، فیجوز - حینئذٍ - اعتماد ما یأمره إلاّ القتل الظلم ، ولو خاف ضرراً یسیراً بترک الولایة کره له الولایة حینئذ»(3) .

وقال فی الإرشاد : « ولا بأس ... والولایة من قبل العادل ، ومن الجائر مع علمه بالقیام بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أو بدونه مع الإکراه ... »(4) .

ص: 170


1- (1) نهایة الإحکام 2 / 525 .
2- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 270 مسألة 3057 .
3- (3) القواعد 2 / 11 .
4- (4) إرشاد الأذهان 1 / 358 .

وقال الشهید : « والولایة عن العادل جائزة بل مستحبة ، وتجب مع الإلزام أو عدم وجود غیره . ویحرم عن الجائر إلاّ مع الإکراه فینفذ ما أکره علیه إلاّ الدماء المحرّمة ... ولو ظنَّ القیام بالحقِّ والاحتساب المشروع لم یحرم . ویجوز له إذا کان مجتهداً إقامة الحدود معتقداً أنّه عن العادل . ویُستحبّ له تحمل الضرر الیسیر فی ترک الولایة ، ولا یجوز تحمّل الضرر الکثیر فی نفسه أو بدنه أو من یجری مجراه من قریب ومؤمن . ویجوز تحمّله فی المال ولا یجب»(1) .

وقال الشیخ شمس الدین محمد بن شجاع القطان الحلّی : « وتجوز الولایة من قبل الإمام ، وقد تجب إذا تعیّن أو توقف الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر علیها . وتحرم من قبل الجائر ، فإن أمِنَ من ارتکاب المحرّم وتمکّن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر استحبّت . ولو أکرهه علیها جازت لدفع الضرر الکثیر کالقتل أو الیسیر علی کراهیة ، ویمتثل ما یؤمر به إلاّ القتل ظلماً»(2) .

وعلّق المحقق الثانی علی قول العلامة فی القواعد : « وتحرم من الجائر إلاّ مع التمکن من الأمر بالمعروف ... » بقوله : « إذا علم ذلک علماً یقینیّاً کما صرح به فی المنتهی(3) ، وأمن إدخال الجائر له فیما لا یجوز ، وبدون ذلک یحرم»(4) .

وعلّق المقدس الأردبیلی علی قوله فی الإرشاد : « والولایة من قبل الظالم ... » بقوله : « الظاهر أنّ المراد بالولایة : السلطنة والغلبة علی بعض الناس والبلاد أو کونه حاکماً علیهم من قبله أو کونه عاملاً له ووکیلاً له ونائباً عنه . وقد مرّ ما یدلّ علی تحریمها من تحریم معاونة الظالمین ، والدلیل علیه أکثر من أن یحصی»(5) .

وقال المحقق السبزواری : « لا یجوز التولّی من قبل الجائر إذا لم یأمن الحرام ، ولو أمن

ص: 171


1- (1) الدروس الشرعیة 3 / 174 .
2- (2) معالم الدین فی فقه آل یاسین 1 / 333 .
3- (3) منتهی المطلب 2 / 1024 من الطبع الحجری .
4- (4) جامع المقاصد 4 / 44 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 68 .

ذلک وتمکّن من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر جاز ، وعبّر بعضهم بالإستحباب(1) . وقال بعضهم : مقتضی هذا الشرط الوجوب ، لأنّ القادر علی الأمر بالمعروف یجب علیه وإن لم یولّه الظالم(2) . وهو متّجه إن ثبت أنّ الأمر بالمعروف بالقیاس إلی القدرة لیس واجباً مشروطاً ، بل مطلق حتّی یجب علیه تحصیل القدرة إن أمکنه .

ولو أکرهه الجائر علی الولایة جاز القبول بل وجب . وفی المسالک : ضابط الإکراه المسوِّغ للولایة الخوف علی النفس أو المال أو العرض علیه أو علی بعض المؤمنین علی وجه لا ینبغی تحمّله عادةً ، بحسب حال المکرَه فی الرفعة والضعة بالنسبة إلی الإهانة(3) .

وقال جماعة(4) : ولو اُکره جاز له الدخول دفعاً للضرر الیسیر علی کراهیة وتزول الکراهة لدفع الضرر الکثیر . ولو اُکره علی الولایة واُمر بمحرَّم جاز إذا اُکره علیه إلاّ الدماء کما مرّ تحقیق ذلک»(5) .

وقال المحدث البحرانی : « والتحقیق إنّ هنا مقامات ثلاثة :

الأوّل : أن یدخل فی أعمالهم لحبّ الدنیا وتحصیل لذّة الرئاسة والأمر والنهی ، وهو الذی یُحمل علیه أخبار المنع .

الثانی : أن یکون کذلک ، ولکن یمزجه بفعل الطاعات وقضاء حوائج المؤمنین وفعل الخیرات . وهذا هو الذی اُشیر إلیه فی الأخبار المتقدمة ، کما عرفت من قوله علیه السلام : ذابذا(6) . وقوله علیه السلام : واحدة بواحدة(7) . وقوله علیه السلام : وهو أقلّهم حظاً(8) . ونحو ذلک .

ص: 172


1- (1) منهم : الشهید الثانی فی المسالک 3 / 140 .
2- (2) المسالک 3 / 111 .
3- (3) المسالک 3 / 139 .
4- (4) منهم : المحقق فی الشرائع 2 / 6 والعلامة فی المنتهی 2 / 1025 من الطبع الحجری .
5- (5) الکفایة 1 / 447 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 201 ح 1 صحیحة حسن بن حسین الأنباری .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 194 ح 9 حسنة زیاد بن أبی سلمة .
8- (8) وسائل الشیعة 17 / 186 ح 4 ، خبر مهران بن محمد بن أبی نصر .

الثالث : أن یکون قصده من الدخول فیها إنّما هو محض فعل الخیر ودفع الأذی عن المؤمنین واصطناع المعروف إلیهم ، وهو الفرد النادر وأقل قلیل ، حتّی قیل إنّه من قبیل إخراج اللبن الخالص من بین فرث دم»(1) .

ثمّ یحمل علی هذا القسم دخول أجلاء الشیعة علی السلاطین الظلمة .

وتبعه السید العاملی فی مفتاح الکرامة(2) .

أقول : هذا تطور البحث فی کلماتهم أعلی اللّه مقامهم .

هل الولایة من قبل الجائر محرّم ذاتیٌّ أم لا ؟
اشارة

قد یظهر من بعض أعلام الطائفة أنّ الولایة من قبل الجائر ، نفسها من المحرّمات ، سواء انجرت إلی محرّم خارجی أم لا . نحو العلامة فی کتبه الثلاثة التذکرة(3) والقواعد(4) والتحریر(5) والشهید فی الدروس(6) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(7) والمقدس الأردبیلی فی مجمع الفائدة(8) والمحقق السبزواری فی الکفایة(9) والسید مهدی بحر العلوم فی المصابیح کما نقل عنه فی الجواهر(10) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(11) والسید الطباطبائی فی الریاض(12)

ص: 173


1- (1) الحدائق 18 / 132 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 374 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 149 .
4- (4) القواعد 2 / 11 .
5- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 270 .
6- (6) الدروس 3 / 174 .
7- (7) جامع المقاصد 4 / 44 .
8- (8) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 86 .
9- (9) الکفایة 1 / 447 .
10- (10) الجواهر 22 / 159 .
11- (11) شرح القواعد 1 / 331 .
12- (12) ریاض المسائل 8 / 207 .

والشیخ الأعظم(1) وعمّنا آیة اللّه الشیخ محمد علی النجفی(2) والمؤسس الحائری(3) والمحققان الخمینی(4) والخوئی(5) .

وقد یظهر من بعضهم أنّ حرمتها عرضیة ، یعنی إذا ارتکب الوالی من قبلهم المحرَّمات یکون فعله حراماً وإذا لم یرتکب الحرام فلیس علیه شیءٌ . کما هو الظاهر من الشیخ فی النهایة(6) والقاضی ابن البراج فی المهذب(7) وقطب الدین الراوندی فی فقه القرآن(8) وابن إدریس فی السرائر(9) والمحقق فی الشرائع(10) والنافع(11) والعلامة فی نهایته(12) وابن قطان الحلی فی معالم الدین(13) وثانی الشهیدین فی المسالک(14) والإیروانی فی حاشیته علی المکاسب(15) والأردکانی فی الغنیة(16) .

هذان القولان الرئیسیان فی المقام ، وهناک أقوال اُخری :

ص: 174


1- (1) المکاسب 2 / 70 .
2- (2) معاصی کبیرة / 116 .
3- (3) المکاسب المحرمة / 82 من تقریر تلمیذه آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی .
4- (4) المکاسب المحرمة 2 / 115 .
5- (5) مصباح الفقاهة 1 / 436 .
6- (6) النهایة / 356 .
7- (7) المهذب 1 / 346 .
8- (8) فقه القرآن 2 / 24 .
9- (9) السرائر 2 / 202 .
10- (10) الشرائع 2 / 6 .
11- (11) المختصر النافع / 118 .
12- (12) نهایة الإحکام 2 / 525 .
13- (13) معالم الدین فی فقه آل یس 1 / 333 .
14- (14) المسالک 3 / 140 .
15- (15) حاشیة المکاسب 1 / 252 .
16- (16) غنیة الطالب 1 / 192 .

نحو : قول صاحب المستند حیث یقول : « فالقول الفصل أن یقال : إنّ الکلام فی التولیة عنهم (أی عن سلاطین عهد الأئمة المعصومین علیهم السلام من أبناء اُمیّة والعباس لعنهم اللّه تعالی) أو عن غیرهم من سلاطین الجور ، أمّا الأوّل فالأصل فیه الحرمة وإن إنفکّ عن العمل وارتکاب المآثم لإطلاق المستفیضة و ... .

وأمّا الثانی : فلا تحرم نفس التولیة إلاّ إذا کانت إعانة علی محرَّم آخر ، للأصل وقد تُستحب وقد تجب ... »(1) .

وقول صاحب الجواهر حیث یقول : « والأحسن منه الجمع بحمل نصوص المنع علی الولایة علی المحرّمات أو الممزوجة بالحرام والحلال ونصوص الجواز علی الولایة علی المباح کجبایة الخراج ونحوه ممّا جوّز الشارع معاملة الجائر فیه معاملة العادل ... »(2) .

ومستند الکلّ هو الروایات ، فلابدّ من ملاحظتها وهی علی طوائف :

طوائف من الروایات
الطائفة الأولی : ما دلّ علی حرمتها الذاتیة .

منها : مرسلة الحسن بن علی بن شعبة عن الصادق علیه السلام فقال فی حدیث : فإحدی الجهتین من الولایة ولایة ولاة العدل الذین أمر اللّه بولایتهم علی الناس والجهة الاُخری ولایة ولاة الجور ، فوجه الحلال من الولایة ولایة الوالی العادل وولایة ولاته بجهة ما أمر به الوالی العادل بلا زیادة ولا نقصان ، فالولایة له والعمل معه ومعونته وتقویته حلال محلّل . وأما وجه الحرام من الولایة فولایة الوالی الجائر وولایة ولاته ، فالعمل لهم والکسب معهم بجهة الولایة لهم حرام محرّم معذب فاعل ذلک علی قلیل من فعله أو کثیر ، لأنّ کلّ شیءٍ من جهة المؤونة له معصیة کبیرة من الکبائر ، وذلک أنّ فی ولایة الوالی الجائر دروس الحقّ کلّه ، فلذلک حرّم العمل معهم ومعونتهم والکسب معهم إلاّ بجهة الضرورة ، نظیر الضرورة إلی الدم والمیتة ، الحدیث(3) .

ص: 175


1- (1) مستند الشیعة 14 / 198 .
2- (2) الجواهر 22 / 161 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 83 ح 1 . الباب 2 من أبواب ما یکتسب به .

أقول : قد مرّ البحث حول هذه المرسلة الشریفة مفصلاً فی أوائل المجلد الأوّل من الکتاب فلا نعیده ، فراجعه إن شئت(1) .

ومنها : صحیحة الولید بن صبیح الأسدی قال : دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فاستقبلنی زرارة خارجاً من عنده ، فقال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : یا ولید أما تعجب من زرارة ؟ سألنی عن أعمال هؤلاء أیّ شیءٍ کان یرید ؟ أیرید أن أقول له : « لا» فیروی ذاک علیَّ . ثمّ قال : یاولید متی کانت الشیعة تسأل عن أعمالهم ؟ إنّما کانت الشیعة تقول : یؤکل من طعامهم ویشرب من شرابهم ویستظل بظلّهم ، متی کانت الشیعة تسأل عن هذا(2) ؟

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم قال : کنّا عند أبی جعفر علیه السلام علی باب داره بالمدینة فنظر إلی الناس یمرون أفواجاً فقال لبعض من عنده : حدث بالمدینة ، أمرٌ ؟ فقال : أصلحک اللّه ولّی المدینة والٍ فغدا الناس یهنّؤونه ، فقال : إنّ الرجل لیفدی علیه بالأمر یهنّیء به ، وإنّه لباب من أبواب النار(3) .

ومنها : صحیحة حُمید قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی ولیت عملاً فهل لی من ذلک مخرجٌ ؟ فقال : ما أکثر مَنْ طلب المخرج مِنْ ذلک فعسر علیه ! ، قلت : فماتری ؟ قال : أری أنْ تتقی اللّه عزّ وجلّ ولا تعد(4) .

الظاهر أنّ المراد بحمید هو « ابن المثنی العِجْلِیّ أبو المغراء مولاهم روی عن أبی عبداللّه علیه السلام وأبی الحسن علیه السلام ، کوفیٌّ ثقة ثقة»(5) .

ومنها : موثقة مسعدة بن صدقة قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام عن قوم من الشیعة یدخلون فی أعمال السلطان یعملون لهم ویحبّون لهم ویوالونهم ، قال : لیس هم من الشیعة ولکنّهم من أولئک ، ثمّ قرأ أبو عبد اللّه علیه السلام هذه الآیة : «لُعِنَ الَّذِینَ کَفَرُواْ مِن بَنِی إِسْرَائِیلَ

ص: 176


1- (1) راجع هذا الکتاب 1 / 16 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 187 ح 1 . الباب 45 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 188 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 189 ح 5 .
5- (5) رجال النجاشی / 133 الرقم 340 .

عَلَی لِسَانِ دَاوُودَ وَعِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ» إلی قوله «وَلَکِنَّ کَثِیراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ»(1) قال : الخنازیر علی لسان داود والقردة علی لسان عیسی «کَانُواْ لاَ یَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنکَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا کَانُواْ یَفْعَلُونَ»(2) . قال : کانوا یأکلون لحم الخنزیر ویشربون الخمور ، ویأتون النساء أیام حیضهنَّ ، ثمّ احتج اللّه علی المؤمنین الموالین للکفّار ، فقال : «تَرَی کَثِیراً مِّنْهُمْ یَتَوَلَّوْنَ الَّذِینَ کَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ» إلی قوله «وَلَکِنَّ کَثِیراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ»(3) فنهی اللّه عزّ وجلّ أن یوالی المؤمنُ الکافرَ إلاّ عند التقیة(4) .

ومنها : صحیحة سلیمان بن الجعفری قال : قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام : ما تقول فی أعمال السلطان ؟ فقال : یا سلیمان الدخول فی أعمالهم والعون لهم والسعی فی حوائجهم عدیل الکفر ، والنظر إلیهم إلی العمد من الکبائر التی یستحق بها النار(5) .

قد مرّ فی بحث معونة الظالمین(6) أنّ هذه الروایة صحیحة الإسناد ، لأنّ العیاشی نقل عن الجعفری بلا واسطة ، وهو ینقل عن الرضا علیه السلام ، فالروایة صارت صحیحة الإسناد .

ومنها : جمیع ما دلّ من الروایات علی تحریم معونة الظالمین(7) الّتی مرّت منّا بعضها(8) .

ومنها : الروایات التی دلّت علی تحریم صحبة الظالمین ومحبة بقائهم(9) .

ص: 177


1- (1) سورة المائدة / (81 - 78) .
2- (2) سورة المائدة / 79 .
3- (3) سورة المائدة / 80 و 81 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 190 ح 10 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 191 ح 12 .
6- (6) راجع هذا المجلد ، صفحة 119 .
7- (7) راجع وسائل الشیعة 17 / 177 الباب 42 من أبواب ما یکتسب به ، ومستدرک الوسائل 13 / 122 الباب 35 من أبواب ما یکتسب به .
8- (8) راجع هذا المجلد ، صفحة 114 ومابعدها .
9- (9) راجع وسائل الشیعة 17 / 185 . الباب 44 من أبواب ما یکتسب به ومستدرک الوسائل 13 / 128 . الباب 37 من أبواب ما یکتسب به .
الطائفة الثانیة : ما دلّ علی حرمتها العرضیة .

منها : صحیحة داود بن زُرْبی قال : أخبرنی مولی لعلّی بن الحسین علیه السلام قال : کنت بالکوفة فقدم أبو عبد اللّه علیه السلام الحیرة فأتیته ، فقلت : جعلت فداک لو کلّمت داود بن علی أو بعض هؤلاء فأدخل فی بعض هذه الولایات ، فقال : ما کنت لأفعل . إلی أن قال : جعلت فداک ظننت أنّک إنّما کرهت ذلک مخافة أن أجور أو أظلم ، وإنّ کلّ إمرأة لی طالق وکلّ مملوک لی حرٌّ وعلیَّ وعلیَّ إن ظلمتُ أحداً أو جرتُ علیه ، وإن لم أعدل . قال : کیف قلت ؟ فأعدت علیه الأیمان ، فرفع رأسه إلی السماء ، فقال : تناول السماء أیسر علیک من ذلک ! !(1) .

الروایة ضعیفة الإسناد ، لأن المولی لعلی بن الحسین علیه السلام المذکور فی الروایة لم یعیّن شخصه ، فهو کالمجهول عندنا من حیث الوثاقة . ولکن السند إلی داود صحیح وداود بن زُرْبی ثقة علی الأظهر ، فالتعبیر عنها بالصحیحة کما عن الشیخ الأعظم(2) قدس سره غیر تام .

وأمّا دلالتها علی الحرمة العرضیة ، قال الشیخ الأعظم بعد نقلها : « بناءً علی أنّ المشار إلیه هو العدل وترک الظلم ، ویحتمل أن یکون هو الترخّص فی الدخول»(3) .

ثمّ استشکل علیه المحقق الإیروانی بقوله : « لا دلالة فی الروایة علی الجواز حتّی علی هذا البناء ، غایتها الإشعار ، بل لا إشعار أیضاً بعد ملاحظة أنّ السائل من العامة ، کما یظهر من حلفه بالطلاق والعتاق ، فإن التخلّص منه حینئذ ینحصر بما صنعه علیه السلام بعد عدم تیسّر التصریح بحکم الکبری ، وأنّ الدخول فی أعمالهم حرام علی کلّ حالٍ»(4) .

وأجابه شیخنا الأستاذ - مدظله - ب- « أنّ حمل الکلام علی رعایة التقیة خلاف الأصل ، والحلف بالطلاق والعتاق لا تکون قرینة علی ذلک ، کما یظهر ذلک لمن راجع الروایات الواردة فی ذلک الحلف ، حیث یظهر منها أن بطلانه لم یکن فی ذلک الزمان ظاهراً کظهوره فی زماننا ، والحاصل أنّ مجرد الحلف فی ذلک الزمان لم یکن قرینة علی کون الحالف

ص: 178


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 188 ح 4 الباب 45 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) المکاسب 2 / 70 .
3- (3) المکاسب 2 / 71 .
4- (4) الحاشیة علی المکاسب 1 / 253 .

عامیّاً»(1) .

أقول : الحقّ مع شیخنا الأستاذ - مدظله - من عدم ظهور الفرع فی ذاک الزمان ، ویظهر لک بعد ملاحظة الروایات الواردة فی الباب 14 من أبواب کتاب الأیمان من وسائل الشیعة 23/230 ، ولکن دلالة الروایة علی الحرمة العرضیة غیر تامة ، لأنّها مستفادة من کلام الراوی لا الإمام علیه السلام ، ولم یرد فی کلامه علیه السلام ما یدلّ علیها إلاّ اسم الإشارة ، والمشار إلیه کما یمکن أن یکون ما ذکره شیخنا الأنصاری ، یمکن أن یکون أداء الأیمان أو الدخول فی الحکم والولایة أو الدخول فیها والعمل علی العدالة أو غیر ذلک ، وإذا جاء الإحتمال بطل الإستدلال . واللّه سبحانه هوالعالم .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من تولّی عرافة قوم اُتی به یوم القیامة ویداه مغلولتان إلی عنقه ، فإن قام فیهم بأمر اللّه عزّ وجلّ أطلقه اللّه وإن کان ظالماً هوی به فی نار جهنم وبئس المصیر(2) .

ومنها : خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة أنّه قال فیها : من تولّی عرافة قوم حُبس علی شفیر جهنم بکلّ یوم ألف سنة وحُشر ویده مغلولة إلی عنقه ، فإن قام فیهم بأمر اللّه أطلقها اللّه ، وإن کان ظالماً هوی به فی نار جهنم سبعین خریفاً(3) .

ومنها : صحیحة علی بن یقطین قال : قال لی أبو الحسن موسی بن جعفر علیه السلام : إنّ للّه تبارک وتعالی مع السلطان أولیاء یدفع بهم عن أولیائه(4) .

ومنها : حسنة عبید بن زرارة أنّه قال : بعث أبو عبد اللّه علیه السلام رجلاً إلی زیاد بن عبید اللّه فقال : وأدِ نقص عملک(5) .

ومنها : حسنة زید الشحام قال : سمعت الصادق جعفر بن محمد علیه السلام یقول : مَنْ تولّی

ص: 179


1- (1) إرشاد الطالب 1 / 259 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 189 ح 6 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 189 ح 7 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 192 ح 1 . الباب 46 من أبواب ما یکتسب به .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 193 ح 4 .

أمراً من اُمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر فی اُمور الناس کان حقّاً علی اللّه عزّ وجلّ أن یؤمن روعته یوم القیامة ویدخله الجنة(1) .

ومنها : صحیحة الحلبی قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل مسلم وهو فی دیوان هؤلاء وهو یحب آل محمد علیهم السلام ویخرج مع هؤلاء فی بعثهم فیقتل تحت رأیتهم ؟

قال : یبعثه اللّه علی نیته .

قال : وسألته عن رجل مسکین خدمهم رجاء أن یصیب معهم شیئاً فیعنیه اللّه به فمات فی بعثهم ؟ قال : هو بمنزلة الأجیر ، إنّه إنّما یعطی اللّه العباد علی نیّاتهم(2) .

ومنها : جمیع ما ورد من الروایات فی جواز قبول الولایة من الجائر لنفع المؤمنین والدفع عنهم(3) .

الطائفة الثالثة : ما دلّ علی حرمة العمل لبنی أمیّة والعباس المعاصرین للأئمّة .

بعض الروایات تدلّ حرمة العمل للخلفاء المعاصرین لأئمتنا المعصومین علیهم السلام :

منها : مرسلة ابن إدریس نقلاً عن کتاب مسائل الرجال عن أبی الحسن علی بن محمد علیه السلام : إنّ محمد بن علی بن عیسی کتب إلیه یسأله عن العمل لبنی العباس وأخذ ما یتمکن من أموالهم هل فیه رخصة ؟ فقال : ما کان المدخل فیه بالجبر والقهر فاللّه قابل العذر ، وما خلا ذلک فمکروه ، ولا محالة قلیله خیر من کثیره ، وما یکفر به ما یلزمه فیه من یرزقه ویسبب علی یدیه ما یسرّک فینا وفی موالینا . قال : فکتبت إلیه فی جواب ذلک أعلمه أنّ مذهبی فی الدخول فی أمرهم وجود السبیل إلی إدخال المکروه علی عدوه ، وانبساط الید فی التشفی منهم بشیءٍ أن نقرّب به إلیهم ، فأجاب : من فعل ذلک فلیس مدخله فی العمل حراماً بل أجراً وثواباً(4) .

أقول : دلالة ذیل الحدیث علی الحرمة العرضیة واضحة ، وإن کان صدرها یدلّ علی

ص: 180


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 193 ح 7 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 201 ح 2 . الباب 48 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) راجع فی هذا المجال وسائل الشیعة 17 / 192 الباب 46 من أبواب ما یکتسب به ، ومستدرک الوسائل 13 / 130 الباب 39 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 190 ح 9 . الباب 45 من أبواب ما یکتسب به .

الحرمة الذاتیة .

ومنها : خبر ابن بنت الولید بن صبیح الکاهلی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من سوّد اسمه فی دیوان ولد سابع حشره اللّه یوم القیامة خنزیراً(1) .

« سابع » قلب « عباس » ورواها الصدوق بإسناده عنه : من سوّد اسمه فی دیوان الجبارین من ولد فلان - الخ(2) .

ومنها : خبر الولید بن صبیح الکاهلی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من سوّد اسمه فی دیوان بنی شیصبان حشره اللّه یوم القیامة مسوداً وجهه ، إلاّ من دخل فی أمرهم علی معرفة وبصیرة وینوی الإحسان إلی أهل ولایته(3) .

الشیصبان : اسم للشیطان ، وقیل : أبو قبیلة من الجن ، وهو کنایة عن ولاة الجور والطواغیت فی تلک الأیام .

ومنها : موثقة مسعدة بن صدقة(4) الماضیة فی الطائفة الاُولی من الروایات ، لأنّ المراد بالسلطان المذکور فیها هو سلطان الوقت ، أعنی خلفاء الجور کما هو الظاهر .

ومنها : صحیحة سلیمان الجعفری(5) الماضیة بعین الاستدلال الوارد فی الروایة السابقة .

ومنها : خبر علی بن أبی حمزة البطائنی قال : کان لی صدیق من کتّاب بنی أمیّة ، فقال لی : استأذن لی علی أبی عبد اللّه علیه السلام ، فاستأذنت له فأذن له ، فلمّا دخل سلّم وجلس ثمّ قال : جعلت فداک إنّی کنتُ فی دیوان هؤلاء القوم فأصبت من دنیاهم مالاً کثیراً وأغمضت فی مطالبه ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : لو لا أنّ بنی أمیّة وجدوا لهم من یکتب ویجبی لهم الفیء ویقاتل عنهم ویشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا ، ولو ترکهم الناس وما فی أیدیهم ما وجدوا شیئاً إلاّ ما

ص: 181


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 180 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 186 ح 6 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 131 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 190 ح 10 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 191 ح 12 .

وقع فی أیدیهم ، الحدیث(1) .

رواها الکلینی فی الکافی 5 / 106 ح 4 والشیخ فی التهذیب 6 / 332 ح 41 وروی الکلینی نظیرها فی خبر أبی بصیر فراجع الکافی 1 / 474 ح 5 .

ومنها : صحیح وهب بن عبد ربه وعبید اللّه الطویل عن شیخ من النخع قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام : إنّی لم أزل والیاً منذ زمن الحجاج إلی یومی هذا ، فهل لی من توبة ؟ قال : فسکت ، ثمّ أعدت علیه ، فقال : لا حتّی تؤدّی إلی کلّ ذی حقٍّ حقّه(2) .

أقول : حرمة الدخول فی ولایة بنی أمیّة مفروغ عنها فی الروایات الأخیرة ، أعنی خبر علی بن أبی حمزة البطائنی وخبر أبی بصیر وخبر شیخ من النخع ، أی الدخول أمرٌ محرَّم ویعلمه حتّی الداخلین .

الطائفة الرابعة : ما دلّ علی معاملة الجائر فی الخراج والمقاسمة معاملة العادل

الطائفة الرابعة : ما دلّ علی معاملة الجائر فی الخراج والمقاسمة معاملة العادل عدة من الروایات تدلّ علی جواز المعاملة مع الجائر وعماله فی غلات المقاسمة وأموال الخراج وأنعام الزکاة ، وأنّ المعاملة معه کالمعاملة مع العادل :

منها : صحیحة زرارة قال : إشتری ضریس بن عبد الملک وأخوه هبیرة اُرزاً بثلاثمائة ألف . قال : فقلت له : ویلک أو ویحک أنظر إلی خمس هذا المال ، فابعث به إلیه ، واحتبس الباقی ، فأبی علیَّ . قال : فأدّی المال وقدم هؤلاء . فذهب أمر بنی اُمیّة ، قال : فقلت ذلک لأبی عبداللّه علیه السلام ، فقال مبادراً للجواب : هوله هوله ، فقلت له : إنّه قد أدّاها ، فعضّ علی إصبعه(3) .

ومنها : صحیحة معاویة بن وهب قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أشتری من العامل الشیء وأنا أعلم أنّه یظلم ؟ فقال : إشتر منه(4) .

ومنها : صحیحة أبی عبیدة عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل منّا یشتری من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو یعلم أنّهم یأخذون منهم أکثر من الحقّ الذی

ص: 182


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 199 ح 1 . الباب 47 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 16 / 52 ح 3 . الباب 78 من أبواب جهاد النفس .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 218 ح 2 . الباب 52 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 219 ح 4 .

یجب علیهم ؟ قال : فقال : ما الإبل إلاّ مثل الحنظة والشعیر وغیر ذلک ، لا بأس به حتّی تعرف الحرام بعینه . قیل له : فما تری فی مصدّق یجیئنا فیأخذ منّا صدقات أغنامنا فنقول : بعنا فیبیعناها ، فما تقول فی شرائها منه ؟ فقال : إن کان قد أخذها وعزلها فلا بأس . قیل له : فما تری فی الحنطة والشعیر یجیئنا القاسم فیقسم لنا حظّنا ، ویأخذ حظّه فیعزله بکیل فما تری فی شراء الطعام منه ؟ فقال : إن کان قبضه بکیل وأنتم حضور ذلک فلا بأس بشرائه منه من غیر کیل(1) .

ومنها : صحیحة جمیل بن صالح قال : أرادوا بیع تمر عین أبی ابن زیاد فأردت أن أشتریه ، فقلت : حتّی أستأذن أبا عبد اللّه علیه السلام ، فأمرت مصادف فسأله ؟ فقال له : قل له : فلیشتره ، فإنّه إن لم یشتره إشتراه غیره(2) .

ومنها : معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل أیشتری من العامل وهو یظلم ؟ فقال : یشتری منه(3) .

وجه الجمع بین الطوائف الأربع
اشارة

الطائفة الاُولی هی مستند القول الأوّل بأنّ الولایة من قبل الجائر نفسها من المحرّمات الخارجیة .

والطائفة الثانیة هی مستند القول الثانی بأنّ حرمتها عرضیة ، أی إذا ارتکب الوالی من قبلهم المحرَّمات یکون فعله حراماً .

والطائفة الثالثة هی مستند قول صاحب المستند بأنّ الولایة فی زمن خلفاء بنی أمیّة وبنی العباس المعاصرین للأئمّة المعصومین حرام ذاتاً ، وأمّا غیرهم من سلاطین فلا بأس قبول الولایة منهم إلاّ إذا ارتکب محرّم خارجی أو أعانة علیه ، کما یُستفاد هذا الأخیر من الروایات المجوّزة .

والطائفة الرابعة هی مستند قول صاحب الجواهر ، وهی شاهد جمع بین الطائفتین من

ص: 183


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 219 ح 5 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 220 ح 1 . الباب 53 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 221 ح 3 .

حمل الروایات المجوِّزة علی الولایات المحلّلة من جبایة الخراج وجمع الزکاة ونحوهما ، وحمل الروایات المانعة علی الولایات المحرّمة نحو غیرهما من الولایات .

فذلکة القول فی المقام

وأقول : آخذ بجمیع الطوائف الأربع ، لأنّها کلّها من المثبتات ولا تنافی بینهنَّ ، ولذا آخذ بالطائفة الاُولی وأقول بأنّ الولایة من قبل الجائر من المحرّمات الذاتیة فنفس قبولها حرام شرعاً .

وآخذ بالطائفة الثانیة وأقول : بأنّ مَن ارتکب فی ولایته الجائرة بعض معاصی اللّه یکتب علیه .

وآخذ بالطائفة الثالثة وأقول : بأنّ قبول الولایة من قبل خلفاء بنی أمیّة والعباس محرَّم شرعاً ، کما أنّ قبولها من غیرهم أیضاً من المحرّمات الشرعیة .

وآخذ بالطائفة الرابعة لا بعنوان شاهد جمع بین الطائفتین بل بأنّ المعاملة مع الخلفاء وعمّالهم فی الخراج والمقاسمة ونحوها لا بأس بها .

فذلکة القول فی المقام : نحن نذهب إلی أنّ الولایة من قبل الجائر من المحرّمات الذاتیة ، ونأخذ أیضاً بمفاد جمیع الطوائف الأربع لأنّها من المثبتات ولا تنافی بینهنَّ کما مرّ ، واللّه سبحانه هو العالم .

ثمّ یسوّغ الولایة المذکورة أمران :

یسوّغ الولایة المذکورة أمران
الأوّل : القیام بمصالح العباد
اشارة

الولایة المحرَّمة یجوّزها الشارع لأجل القیام بمصالح العباد وإیصال النفع إلی المؤمنین ودفع المضارّ عنهم ، وتدلّ علیه قبل الإجماع المحکی(1) عدّة من الروایات المستفیضة :

منها : صحیحة علی بن یقطین الماضیة(2) .

ومنها : حسنة زید الشحام الماضیة(3) .

ومنها : حسنة زیاد بن أبی سلمة قال : دخلت علی أبی الحسن موسی علیه السلام فقال لی : یا

ص: 184


1- (1) الحاکی هو الشیخ الأعظم فی المکاسب 2 / 72 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 192 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 193 ح 7 .

زیاد إنّک لتعمل عمل السلطان ؟ قال : قلت : أجل ، قال لی : ولم ؟ قلت : أنا رجل لی مروءة وعلیّ عیال ولیس وارء ظهری شیء ، فقال لی : یا زیاد لئن أسقط من حالق فأتقطع قطعة أحبّ إلیّ من أن أتولّی لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم إلاّ لماذا ؟ قلت : لا أدری جعلت فداک ، قال : إلاّ لتفریج کربة عن مؤمن أو فکّ أسره أو قضاء دینه ، الحدیث(1) .

ومنها : معتبرة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ذکر عنده رجل من هذه العصابة قد ولّی ولایة ، فقال : کیف صنیعه إلی إخوانه ؟ قال : قلت : لیس عنده خیر ، قال : اُفّ یدخلون فیما لا ینبغی لهم ولا یصنعون إلی إخوانهم خیراً(2) .

رجال السند کلّهم ثقات ، لأنّ المراد بالحبیب هو ابن یسار الکندی الکوفی ثقة(3) ، إلاّ ابن سنان وهو محمد والمشهور علی تضعیفه والبعض علی توثیقه ، وعلی قول البعض - کما هو المختار - صار سند الروایة معتبراً .

ومنها : صحیحة محمد بن عیسی العبیدی قال : کتب أبوعمرالحذاء إلی أبی الحسن علیه السلام وقرأت الکتاب والجواب بخطه ، یعلمه أنّه کان یختلف إلی بعض قضاة هؤلاء وأنّه صیر إلیه وقوفاً ومواریث بعض ولد العباس أحیاءً وأمواتاً ، وأجری علیه الأرزاق ، وأنّه کان یؤدی الأمانة إلیهم ، ثمّ إنّه بعد عاهد اللّه أن لا یدخل لهم فی عمل وعلیه مؤونة وقد تلف أکثر ما کان فی یده وأخاف أن ینکشف عنه ما لا یجب أن ینکشف من الحال ، فإنّه منتظر أمرک فی ذلک فما تأمر به ؟ فکتب علیه السلام إلیه : لا علیک وإن دخلت معهم ونحن ما أنت علیه(4) .

الروایة صحیحة الإسناد ، لأن سند الشیخ إلی محمد بن علی بن محبوب صحیح وهو ثقة ، ومحمد بن عیسی العبیدی ثقة علی الأقوی ، وهو شهد بخط الإمام علیه السلام ، فلا یضرّ جهالة أبی عمر الحذاء ، لأنّه لم یدخل فی السند .

ص: 185


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 194 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 195 ح 10 .
3- (3) جامع الرواة 1 / 179 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 197 ح 14 .

وتدلّ علی جواز الدخول فی أمرهم وقبول الولایة منهم لأجل تحصیل المعاش والأرزاق مع أداء الأمانة ، حتّی عدم مراعاة العهد فی ترکه . کما تدلّ علی جواز الدخول معهم لتحصیل المعاش صحیحة الحلبی الماضیة(1) ، ولکن الصحیحة الأخیرة یضاف إلیها عدم لزوم مراعاة العهد فی اللّه فی ترکها ، لأنّ تحصیل المعاش یکون أهمّ واُوجب . والحاصل هاتان الصحیحتان تدلان علی جواز قبول الولایة منهم والدخول فی اُمورهم لأجل تحصیل المعاش والمؤونة ، ولکن الجواز مختص بمن لا یقدر علی تحصیل مؤونته إلاّ بذای عادةً وعرفاً لا عقلاً ، کما تدلّ علیه موثقة عمار بن موسی الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام سُئل عن أعمال السلطان یخرج فیه الرجل ؟ قال : لا إلاّ أن لا یقدر علی شیءٍ یأکل ولا یشرب ولا یقدر علی حیلة ، فإن فعل فصار فی یده شیءٌ فلیبعث بخمسه إلی أهل البیت(2) .

ولعلّ تقیید الإمام علیه السلام الجواز فی مَنْ لا یقدر علی حیلة علی معاشه عادة وعرفاً یوجب سرّ انصراف الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین عن الإفتاء علی طبق هذه الروایات الثلاث ، لأنّ الغالب بل الأغلب عادةً وعرفاً یمکن تحصیل المعاش والحیلة علیه من طرق اُخری . نعم : فی فرض انحصار الطریق وطرو الإضطرار أیضاً الأمر واضح لإباحته بالإضطرار وبأنّ الضرورات تبیح المحظورات .

ومنها : صحیحة علی بن یقطین أنّه کتب إلی أبی الحسن موسی علیه السلام : إنّ قلبی یضیق ممّا أنا علیه من عمل السلطان - وکان وزیراً لهارون - فإن أذنتَ لی - جعلنی اللّه فداکَ - هربتُ منه . فرجع الجواب : لا آذن لکَ بالخروج من عملهم واتق اللّه ، أو کما قال(3) .

رجال السند کلّهم ثقات ، ولایضر دخول زید بأو علی محمد بن عیسی العبیدی الیقطینی ، لأنّ المراد به هو زید بن یونس اُبو اُسامة الشحام الکوفی ، روی عن أبی عبد اللّه وأبی الحسن علیهماالسلام ثقة(4) .

ص: 186


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 201 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 202 ح 3 . الباب 48 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) قرب الإسناد / 305 ح 1198 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 198 ح 16 .
4- (4) جامع الرواة 1 / 344 .

ومنها : خبر یونس بن حماد قال : وصفتُ لأبی عبد اللّه علیه السلام من یقول بهذا الأمر ممّن یعمل عمل السلطان ، فقال : إذا ولّوکم یدخلون علیکم المرفق وینفعونکم فی حوائجکم ؟ قال : قلت : منهم من یفعل ومنهم من لا یفعل ، قال : من لم یفعل ذلک منهم فابرأوا منه بریء اللّه منه(1) .

دلالة الروایة علی الجواز بالمفهوم واضحة ، ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : مرسلة الصدوق عن الصادق علیه السلام أنّه قال : کفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان(2) .

ومنها : مرسلة العیاشی عن مفضل بن مریم الکاتب قال : دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام وقد أمرت أن أخرج لبنی هاشم فلم أعلم إلاّ وهو علی رأسی ، فوثبت إلیه ، فسألنی عمّا اُمر لهم ، فناولته الکتاب ، فقال : ما أری لإسماعیل هاهنا شیئاً ؟ فقلت : هذا الذی خرج إلینا . ثمّ قلت : جعلت فداک قد تری مکانی مِنْ هؤلاء القوم ، فقال : أنظر ما أصبت فعد به علی أصحابک ، فإنّ اللّه تعالی یقول : «إِنَّ الْحَسَنَاتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئَاتِ»(3)(4) .

ومنها : غیر ذلک من الروایات الواردة فی الباب 46 من أبواب ما یکتسب به من وسائل الشیعة 17 / 192 ، والباب 39 من أبواب ما یکتسب به من مستدرک الوسائل 13 / 130 وتعددها وکثرتها یغنینا عن ملاحظة أسنادها .

کیفیة الجمع بین هذه الروایات والطوائف الأربع الماضیة

الشارع الذی حرّم قبول الولایة والدخول فی أعمال الظلمة جوّزها بهذه الروایات لِمَنْ یقصد وینوی من الدخول إیصال النفع إلی المؤمنین ودفع الشرّ عنهم ، فیعمل بهذه المهمّة بقدر

ص: 187


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 196 ح 12 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 192 ح 3 وفی بحار الأنوار 75 / 206 ح 57 : کفارة عمل السلطان الإحسان إلی الإخوان .
3- (3) سورة هود / 114 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 198 ح 17 .

وُسعه وطاقته وإمکانیّاته . فمع هذه النیّة وذاک العمل یجوز الدخول فی أعمالهم .

فإذا کان هذا النفع کثیراً أو ذاک الدفع مهمّاً یکون الدخول مستحباً ، وإذا کان النفع أکثراً أو الدفع أهم بحیث لا یجوز ترکه یکون الدخول واجباً .

فالجواز المستفاد من الروایات یکون بالمعنی الأعم ، فیشمل الاستحباب ، بل یشمل الوجوب هنا بالمعنی الذی مرّ آنفاً .

بهذا البیان یرتفع غائلة معرکة الآراء بین الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین : من أنّ المحرّم کیف یکون جائزاً أو صار مستحباً أو انقلب واجباً ؟ ! فظهر ممّا ذکرنا جوابه ، واللّه سبحانه هو العالم .

هل الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر یجوّز الدخول فی أعمالهم ؟

الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فریضة عظیمة بها تقام الفرائض وهما أسمی الفرائض ، وأشرفها(1) ، بل هما من أفضل فرائض الإسلام(2) ، وأنّهما خلقان من خلق اللّه ، فمن نصرهما أعزّه اللّه ومن خذلهما خذله اللّه(3) . وحیث یهتم الشارع بهذا الاهتمام ولعلّهما یکونان أنفع بحال المجتمع الإسلامی من المصالح الفردیة ومنافعها ، فیمکن القول تبعاً لبعض الأصحاب قدس سرهم بجواز الدخول فی أعمال الظلمة وولایتهم إذا تمکن الداخل من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، بل إذا کانا مهمّین فالدخول یکون مستحباً ، وإذا کانا أشد أهمیة فالدخول یکون واجباً .

وهذا البیان جارٍ حتّی علی القول بأنّهما مشروطان بالقدرة کما هو الصحیح ، ولا یجب تحصیل هذه القدرة لو لم یکن المکلَّف واجداً لها کما هو الأصح ، ومع ذلک یجوَّز الدخول لأهمیتهما فی الشریعة المقدسة ، أهمیتها بالنسبة إلی المنافع الفردیة للمؤمنین ومصالحهم ، والشارع الذی یجوّز الدخول للأخیر کما مرّ آنفاً فبطریق اُولی یجوّز الدخول لهما . واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 188


1- (1) کما فی خبر جابر ، راجع وسائل الشیعة 16 / 119 ح 6 . الباب 1 من أبواب الأمر والنهی .
2- (2) کما فی خبر عبد اللّه بن محمد ، راجع وسائل الشیعة 16 / 121 ح 11 .
3- (3) کما فی مرفوعة یعقوب بن یزید ، راجع وسائل الشیعة 16 / 124 ح 20 .
الثانی : الإکراه والخوف

الثانی من مسوغات قبول الولایة من قبل الجائر الإکراه علیه بالتوعید علی ترکه بما یوجب ضرراً علی نفسه أو عرضه أو ماله أو ضرراً بمَنْ یعدّ ضرره ضرراً علیه کالأب والولد ومن یجری مجراهما .

تدلّ علیه مضافاً إلی حدیث الرفع(1) وعمومات التقیة(2) والإضطرار(3) عدّة من الروایات المستفیضة المعتبرة :

منها : صحیحة الحسن بن الحسین الأنباری عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : کتبت إلیه أربع عشرة سنة أستأذنه فی عمل السلطان ، فلمّا کان فی آخر کتاب کتبته إلیه أذکر أنّی أخاف علی خیط عنقی ، وأنّ السلطان یقول لی إنّک رافضیٌ ، ولسنا نشک فی إنّک ترکت العمل للسلطان للرفض . فکتب إلیَّ أبو الحسن علیه السلام : فهمتُ کتابک وما ذکرت من الخوف علی نفسک ، فإن کنت تعلم أنّک إذا ولیت عملت فی عملک بما أمر به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ثمّ تصیر أعوانک وکتّابک أهل ملتک وإذا صار إلیک شیءٌ واسیت به فقراء المؤمنین حتّی تکون واحداً منهم کان ذابذا وإلاّ فلا(4) .

وهذه الصحیحة تدلّ علی کلی مسوغی قبول الولایة من قبل الجائر .

ومنها : حسنة الحسن بن موسی الخشاب قال : روی أصحابنا عن الرضا علیه السلام أنّه قال له رجل : أصلحک اللّه کیف صرت إلی ما صرت إلیه من المأمون ؟ فکأنّه أنکر ذلک علیه .

فقال له أبو الحسن الرضا علیه السلام : یا هذا أیّما أفضل النبی أو الوصی ؟ فقال : لا بل النبی ، فقال : أیّما أفضل مسلم أو مشرک ؟ فقال : لا بل مسلم ، قال : فإنّ العزیز عزیز مصر کان مشرکاً وکان یوسف نبیّاً ، وإنّ المأمون مسلم وأنا وصی ، ویوسف سأل العزیز أن یولیه حین

ص: 189


1- (1) وهو صحیحة حریز بن عبد اللّه ، راجع وسائل الشیعة 15 / 369 ح 1 . الباب 56 من أبواب جهاد النفس .
2- (2) نحو صحیحة زرارة ، راجع وسائل الشیعة 16 / 214 ح 1 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
3- (3) نحو موثقتی سماعة ، راجع وسائل الشیعة 5 / 482 و 483 ح 6 و 7 . الباب 1 من أبواب القیام .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 201 ح 1 . الباب 48 من أبواب ما یکتسب به .

قال : «اجْعَلْنِی عَلَی خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ»(1) واُجبرت علی ذلک ، الحدیث(2) .

ومنها : صحیحة الریان بن الصلت قال : دخلت علی علی بن موسی الرضا علیه السلام فقلت له : یا ابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إنّ الناس یقولون : إنّک قبلت ولایة العهد مع إظهارک الزهد فی الدنیا ، فقال علیه السلام : قد علم اللّه کراهتی لذلک ، فلما خیّرتُ بین قبول ذلک وبین القتل اخترت القبول علی القتل ، ویحهم أما علموا أنّ یوسف علیه السلام کان نبیّاً رسولاً ، فلما دفعته الضرورة إلی تولّی خزائن العزیز قال له : «اجْعَلْنِی عَلَی خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ» ، ودفعتنی الضرورة إلی قبول ذلک علی إکراه وإجبار بعد الإشراف علی الهلاک ، علی أنّی ما دخلت فی هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه ، فإلی اللّه المشتکی وهو المستعان(3) .

ومنها : حسنة أو معتبرة أبی الصلت الهروی فی حدیث طویل للرضا علیه السلام مع المأمون ، قال المأمون فیه : فباللّه اُقسم لئن قبلت ولایة العهد وإلاّ أجبرتک علی ذلک ، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقک .

فقال الرضا علیه السلام : قد نهانی اللّه أن ألقی بیدی إلی التهلکة ، فإن کان الأمر علی هذا فافعل ما بدالک ، وأنا أقبل ذلک علی أن لا اُولّی أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سنةً ، وأکون فی الأمر من بعید مشیراً ، فرضی بذلک منه وجعله ولی عهده علی کراهیة منه علیه السلام لذلک(4) .

ومنها : خبر محمد بن عرفة(5) .

ومنها : خبر عبد السلام بن صالح الهروی(6) .

ومنها : خبر الفضل بن سهل(7) .

ص: 190


1- (1) سورة یوسف / 55 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 202 ح 4 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 203 ح 5 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 203 ح 6 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 205 ح 7 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 205 ح 8 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 205 ح 9 .

ومنها : مرسلة محمد بن زید الرزامی(1) .

ومنها : خبر الفضل عن موسی بن جعفر علیه السلام فی حدیث طویل قال : لو لا أنّی سمعت فی خبر عن جدی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّ طاعة السلطان للتقیة واجبة إذاً ما أجبت(2) .

فهذه الروایات تدلّ علی جواز قبول الولایة من الجائر فی صورة الجبر والإکراه والإضطرار والخوف علی النفس والمال والعرض ، واللّه سبحانه هو العالم .

وینبغی التنبیه علی اُمور :
الأول : الإکراه یسوّغ الدخول فی الولایة فکذلک یباح به ما یلزمها من المحرّمات الاُخری

الأول : الإکراه یسوّغ الدخول فی الولایة من قبل الجائر فکذلک یباح به ما یلزمها من المحرّمات الاُخری وما یتفق من خلالها ممّا یصدر الأمر به من الجائر ، عدا إراقة الدم ، فإنّ التقیة إنّما شرعت لیحقن بها الدماء فإذا بلغت الدم فلا تقیة فیه ، کما تدلّ علیه صحیحة محمد بن مسلم(3) وموثقة أبی حمزة الثمالی(4) ، وتدلّ علی إباحة المحرّمات بالإکراه عموم أدلة التقیة نحو : صحیحة الفضلاء(5) وصحیحة زرارة(6) ، وعموم أدلة نفی الإکراه نحو : صحیحة حریز بن عبد اللّه(7) وأنّ الضرورات تبیح المحظورات . فما اُلزم من المحرّمات فلا بأس بالاتیان بها بعد جواز الدخول فی الولایة ، وهذا ممّا لا إشکال فیه .

إنّما الإشکال فی أنّه هل یجوز الإضرار بالناس إذا اُکره الشخص علی الإضرار بهم ، کنهب أموالهم وهتک أعراضهم وجرح أبدانهم ما لم یصل إلی حدّ النفس أم لا ؟ أو أنّ الإکراه یرفع المحرّمات التی هی حقّ اللّه خاصةً دون ما کان حقّاً للناس دماً کان أو عرضاً أو مالاً ؟

ص: 191


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 206 ح 10 .
2- (2) وسائل الشیعة 16 / 221 ح 3 . الباب 27 من أبواب الأمر والنهی .
3- (3) وسائل الشیعة 16 / 234 ح 1 . الباب 31 من أبواب الأمر والنهی .
4- (4) وسائل الشیعة 16 / 234 ح 2 . الباب 31 من أبواب الأمر والنهی .
5- (5) وسائل الشیعة 16 / 214 ح 1 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
6- (6) وسائل الشیعة 16 / 214 ح 2 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
7- (7) وسائل الشیعة 15 / 369 ح 1 . الباب 56 من أبواب جهاد النفس .

ففیه وجوه ثلاثة :

الأوّل : الجواز مطلقاً ، لإطلاق أدلة الإکراه والإضطرار .

والثانی : لابدّ من إعمال قواعد باب التزاحم ودفع الضرر الأکثر بالضرر الأقل . یعنی لابدّ من الأخذ بأقل الضررین ، سواء کان علی نفسه أو غیره .

الثالث : اختصاص المرفوع بالإکراه بالمحرّمات التی هی حقّ اللّه خاصة دون ما کان حقّاً للناس ، دماً کان أو عرضاً أو مالاً(1) .

واستدل الشیخ الأعظم علی الأوّل بوجوه :

الف : عموم دلیل نفی الإکراه یعم الجمیع من المحرَّمات حتّی الإضرار بالغیر ما لم یبلغ الدم .

ب : عموم أدلة نفی الحرج ، لأنّ إلزام الغیر بتحمل الضرر وترک ما اُکره علیه حرج .

ج : قوله علیه السلام فی صحیحة محمد بن مسلم وموثقة أبی حمزة الثمالی الماضیتان(2) : « إنّما جعلت التقیة لیحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فلیس تقیة» . حیث دلتا علی أنّ حد التقیة بلوغ الدم فتشرع ما عداه(3) .

وفیه : دلیلی نفی الإکراه والحرج فی الشریعة المقدسة إمتنانیٌّ ، ولذا لا یجریان فی فرض خلاف الإمتنان ، وحیث کان الإضرار بالغیر خلافاً للإمتنان به ولذا لا یجریان .

وأمّا أدلة التقیة عامة والتی تجری فی کلِّ شیءٍ إلاّ الدم لأنّها إنّما شرعت لیحقن بها الدم وهو التحفظ علی النفس من التلف ، فیوجب جواز کلّ محرّم حتّی الإضرار بالغیر مالاً أو عرضاً ولکن لا یجوز به إراقة الدم وتلف النفس . وأمّا التحفظ علی الضرر المالی ونحوه فخارج عن مدلول أدلة التقیة ، فما ذکره الشیخ الأعظم فی المقام من الأدلة الثلاثة غیر تام .

وأمّا التفصیل الذی ذکره المحقق الإیروانی قدس سره واختاره فلم یدلّ علیه دلیل . فیبقی الوجه الثانی ، وهو إعمال قواعد باب التزاحم ودفع ضرر الأکثر بالضرر الأقل ، ومن

ص: 192


1- (1) أضاف هذا الوجه المحقق الإیروانی قدس سره واختاره فی الحاشیة علی المکاسب 1 / 262 .
2- (2) وسائل الشیعة 16 / 234 ح 1 و 2 .
3- (3) المکاسب 2 / 87 .

الاستدلال علیه یظهر بطلان التفصیل بین حقی اللّه والناس .

تقریب الاستدلال : لو أجبر الجائر شخصاً وخیّره بین قتله أو أخذ أموال الغیر فکیف یعمل ؟ هل یجوز له أخذ أموال الغیر مع الضمان لو أتلفه ومع عدم الإتلاف إرجاعها إلیه ، أم لا یجوز له الأخذ فی-ُقتل ؟ ! الجواب واضح : یجوز له أخذ أموال الغیر ونجاة نفسه ویدفع القتل عن نفسه .

ثمّ لو أجبر الجائر شخصاً وخیّره بین القتل وبین التعرض إلی عِرض غیره فما وظیفته ؟ فمن الواضح نجاة نفسه ودفع القتل عنه ، ویجوز له حینئذ التعرض لعِرض غیره أیضاً .

ثمّ لو أجبر الجائر شخصاً بین القتل وبین إیجاد الجرح الذی لم یبلغ إلی حدِّ القتل أو قطع عضو الغیر الذی لم یبلغ إلی حدِّ القتل أو إسقاط الجنین فی الحمل قبل حلول الروح فما تکلیفه ؟ یجوز حینئذ إیجاد الجرح وقطع العضو وإسقاط الجنین قبل حلول الروح فراراً من القتل ونجاة لنفسه . ولکن هذا بالنسبة إلی الحکم التکلیفی ، وأمّا الحکم الوضعی - أی الدیة فی الموارد الثلاثة - فتکون علی الجارح والقاطع والمُسْقِط .

وأمّا لو أجبره بین القتل وبین قتل غیره بأنّه لو لم یقتل الغیر لقتله الجائر ، فلا یجوز له قتل غیره ، لأنّ التقیة شرعت لیحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلیس تقیة .

إلاّ أن أجبره بین قتله وبین قتل غیره الذی لیس بمحقون الدم - نحو : الکافر الحربی أو الناصب الذی یظهر العداوة والبغضاء لآل محمد علیهم السلام أو الساب للنبی صلی الله علیه و آله وسلم أو الأئمة علیهم السلام أو فاطمة الزهراء علیهاالسلام - فحینئذ حیث إنّهم لم یکونوا بمحقونی الدم بل هم یکونون مهدوری الدم بالنسبة إلی جمیع الناس فیجوز قتله ونجاة نفسه .

وأمّا لو أجبره بین قتله وبین قتل غیره الذی قد حُکم بقتله إمّا قصاصاً أو حدّاً ، فلا یجوز له الإقدام علی قتله ، لأنّ إجراء الحدّ منوط بإذن الحاکم الشرعی وهو الفقیه وإجراء القصاص منوط بإذن أولیاء الدم ، فلا یجوز له قتل ذاک الغیر نجاةً لنفسه إلاّ بعد الإستیذان من الفقیه فی الحدِّ الشرعی أو من أولیاء الدم للقصاص .

وأمّا لو أجبر بین قتله وبین قتل الذمی والمعاهد والمخالف ، یجوز له قتلهم ، لأنّ الفرض من التقیة حفظ دماء الشیعة وأدلتها ساکت عن قتل غیر الشیعة ، فإذا تزاحم حفظ نفوس

ص: 193

الشیعة وغیرهم ، یُقدم حفظ نفوس الشیعة وصار قتلهم من المحرّمات التی ترتفع حکمها بالإکراه والإضطرار والتقیة ، ولکن مع ثبوت الدیة لکلٍّ منهم .

والحاصل ، لابدّ للمجبور والمکرَه من ملاحظة الضرر الذی یتوجّه إلی نفسه والضرر الذی یتوجه إلی غیره ، فیأخذ بأقل الضررین وأدون الضررین مع وجود الضمان بالنسبة إلی الغیر ، لأنّ الأدلة النافیة ینفی الحکم التکلیفی فقط لا الحکم الوضعی ، فالضمان باقٍ علی کلِّ حال . هذا ما یخطر بالبال مع تشتت الأحوال والحمد للّه علی کلِّ حالٍ .

الثانی : الاکراه یتحقق بماذا ؟

الإکراه یتحقق بتوعد الضرر علی المکرَه نفساً أو عِرضاً أو مالاً ، وفی الأخیر بحیث لا یتحمله عادةً أو یحسب فی العرف أنّه کثیر لا الضرر المالی القلیل . علی نفس المکره أو ما یتعلق به من والده أو ولده أو غیرهما ممن یعدّ الضرر علیهم ضرراً علی نفسه .

وألحق الأصحاب قدس سرهم دفع الضرر عن المؤمنین الأجانب بالضرر علی المکرَه أو ما یتعلق به . کما نقلت کلماتهم فی عنوان تطور البحث ، فمنهم : الشیخ فی النهایة(1) والقاضی فی المهذب(2) وابن إدریس فی السرائر(3) والمحقق فی الشرائع(4) والعلامة فی التذکرة(5) والتحریر(6) والقواعد(7) والنهایة(8) والشهید فی الدروس(9) .

ص: 194


1- (1) النهایة / 357 .
2- (2) المهذب 1 / 347 .
3- (3) السرائر 2 / 203 .
4- (4) الشرائع 2 / 6 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 149 .
6- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 270 .
7- (7) القواعد 2 / 11 .
8- (8) نهایة الإحکام 2 / 525 .
9- (9) الدروس 3 / 174 .

قال ثانی الشهیدین فی تحقق الإکراه : « ویتحقّق بالخوف من المخالفة علی نفسه أو ماله أو عرضه ، ویختلف ذلک بحسب اختلاف أحوال الناس فی احتمال الإهانة وعدمها»(1) .

وقال أیضاً : « قد تقدّم فی باب الأمر بالمعروف أنّ ضابط الإکراه المسوِّغ للولایة الخوف علی النفس أو المال أو العرض علیه أو علی بعض المؤمنین علی وجه لا ینبغی تحمله عادةً بحسب حال المکرَه فی الرفعة والضعة بالنسبة إلی الإهانة »(2) .

وتبعه المحقق السبزواری فی الکفایة(3) .

ومنهم : سید الریاض(4) والشیخ جعفر(5) والفاضل النراقی(6) والشیخ الأعظم(7) .

أقول : الحقّ موافقة الأعلام قدس سرهم ، لأننا قد ذکرنا أنّ إیصال النفع إلی المؤمنین ودفع المضار یکون من مسوّغات قبول الولایة المحرَّمة . فإذا تمکن مع قبول الولایة المحرَّمة مِنْ دفع الضرر علی المؤمنین مالاً أو عرضاً أو نفساً یجوز له الدخول والدفع عنهم بل ربّما وجب .

ولکن هل یجوز له الإضرار بالغیر دفعاً للضرر عن غیره ، بأنّ نهب مال زید لئلا ینهب مال عمرو أو تعرّض لعِرْض بکر لئلا یتعرض لعرض خالد أم لا ؟

یظهر ممّا ذکرنا فی التنبیه السابق حکم هذا الفرع : بأنّه یلاحظ فیه أحکام باب التزاحم ، فیجوز أخذ مال الغیر دفعاً للضرر المتوجِّه إلی غیره عرضاً أو نفساً ، أو التعرض إلی عرض الغیر دفعاً للضرر المتوجِّه إلی نفس غیره ونحوها مع ثبوت الضمان علی المباشر للفعل کما مرّ منّا سابقاً . واللّه العالم .

ص: 195


1- (1) المسالک 3 / 111 .
2- (2) المسالک 3 / 139 .
3- (3) الکفایة 1 / 447 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 207 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 333 .
6- (6) مستند الشیعة 14 / 192 .
7- (7) المکاسب 2 / 90 .
الثالث : هل یعتبر العجز عن التفصی فی الإکراه أم لا ؟

قال المحقق فی الشرائع : « إذا أکره الجائر علی الولایة جاز له الدخول والعمل بما یأمره مع عدم القدرة علی التفصِّی ، إلاّ فی الدماء المحرَّمة فإنّه لا تقیة فیها»(1) .

قال ثانی الشهیدین : « قد ذکر المصنف رحمه الله فی هذه المسألة شرطین : أحدهما الإکراه ، والثانی : عدم قدرة المأمور علی التفصّی ، وهما متغایران ، فإنّ الإکراه یجوز أن یجتمع مع القدرة - کما عرفت من تعریفه - فالثانی أخص من الأوّل ، والظاهر أنّ مشروطهما مختلف ، فالأوّل شرط لأصل قبول الولایة والثانی شرط للعمل بما یأمره من المظالم ، وهما متغایران أیضاً ... »(2) .

أقول : الظاهر - واللّه العالم - أنّ عدم القدرة علی التفصِّی هو من مقوّمات الإکراه ، بحیث لو تمکن من التفصی لم یصدق أنّه مکرَهٌ . وعلی هذا ما ذکره الشهید ثانی من إرجاعه إلی الشرطین غیر تام . بلا فرق فی ذلک بین قبول الولایة والعمل فیها ، وفی کلیهما إذا أمکن التفصی لم یصدق الإکراه فلا یجوز الدخول فی ولایة الظالم ، وهکذا لا یجوز العمل علی طبق أوامره الدالة علی معاصی اللّه تعالی أو الإضرار بالغیر ، لأنّه مع إمکان التفصی یصدق علیه أنّه غیر مُکرَه بالفعل ، فلا یشمله أدلة الجواز .

الرابع : قبول الولایة عن الجائر مع الضرر المالی رخصة

إذا أجبر الظالم أحداً بین قبول الولایة من طرفه أو إعطاء مبلغاً من المال ، یجوز له قبول الولایة وعدم الإعطاء .

نعم ، لو کان المال قلیلاً یستحب له الإعطاء وعدم القبول .

ولو کان المال کثیراً بحیث یضرّ بحاله لو أعطاه مع ذلک یجوز له الإعطاء وعدم القبول .

ص: 196


1- (1) الشرائع 2 / 6 .
2- (2) المسالک 3 / 139 .

والوجه فی ذلک : أدلة نفی الإکراه والضرر ترفع الإلزام فقط عن موردهما ولم تثبت شیئاً ، فهما یرفعان حرمة قبول الولایة ولکنّهما لم یثبتا وجوب قبولها .

فما یظهر من الشیخ الأعظم من التفصیل بین الضرر المالی الذی لایضرّ بالحال وغیره فی غیر محلّه ، واللّه العالم .

الخامس : حرمة قتل المؤمن بالإکراه أو التقیة

قتل المؤمن حرام ولا یسوّغه الإکراه أو التقیة ، لأنّ أدلة نفی الإکراه إمتنانیة ولا إمتنان علی الغیر فی قتله ، وأدلة التقیة مقیِّدة بعدم بلوغها مرتبة الدم ، فلا یجوز قتل المؤمن بهما .

مضافاً إلی قوله : «وَکَتَبْنَا عَلَیْهِمْ فِیهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»(1) حیث تدلّ علی التکافؤ بین الدماء المحترمة .

وتدلّ علیه أیضاً صحیحة عبد اللّه بن أبی یعفور عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم خطب الناس فی مسجد الخیف فقال : نضّر اللّه عبداً سمع مقالتی فوعاها وحفظها وبلّغها من لم یسمعها ، فربّ حامل فقه غیر فقیه وربّ حامل فقه إلی من هو أفقه منه ، ثلاث لا یغلُّ علیهنَّ قلب امریء مسلم : إخلاص العمل للّه ، والنصیحة لأئمة المسلمین ، واللزوم لجماعتهم ، فإنّ دعوتهم محیطةٌ من ورائهم ، المسلمون إخوة تتکافیء دماؤهم ویسعی بذمّتهم أدناهم(2) .

وعلی هذا لا یجوز لأحد قتل المؤمن ولو توجّه القتل إلیه ، وأمّا غیرهم قد مرّ الکلام فی ذلک فلا نعیده .

إلی هنا تمّ بحث الولایة من قبل الجائر فی یوم الجمعة 29 جمادی الثانیة 1426 ببلدة إصبهان صانها اللّه تعالی عن الحدثان علی ید مؤلفه الفقیر إلی اللّه الغنی هادی النجفی کان اللّه له ویکون .

والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلّی اللّه علی سیدنا محمد وآله أجمعین .

ص: 197


1- (1) سورة المائدة / 45 .
2- (2) الکافی 1 / 403 ح 1 .

هجاء المؤمن

موضوعه :

لابدّ أوّلاً من مراجعة أهل اللغة لتعیین موضوع الهجاء فنقول :

قال الزمخشری : « ومن المجاز : فلان یهجو فلاناً هِجاءً : یعدِّد معایبه ، وهو هجَّاء ، وله أهاجِیُّ ، وهاجاه مهاجاةً ، وتهاجِیا ، وبینهما تهاجٍ ، والمرأة تهجو زوجَها هجاءً قبیحاً : إذا ذمّت صحبته وعدّدت عیوبه»(1) .

قال الفیومی : « هَِجَاهُ یَهْجُوهُ هَجْواً : وقع فیه بالشعر وسَبَّهُ وعابه ، والاسمُ الهِجاءُ مثل کِتَابٍ»(2) .

قال ابن الأثیر : « هجا ، فیه : « اللهم إنّ عمرو بن العاص هجانی وهو یعلم أنّی لست بشاعر فاهْجُه ، اللهم والعنه عدد ما هجانی أو مکان ما هجانی» ، أی جازه علی الهِجاء جزاء الهجاء ، وهذا کقوله « من یُرائی یُرائی اللّه به» أی یُجازیه علی مُراآته »(3) .

قال ابن منظور : « هَجاه یَهْجُوه هَجْواً وهِجاء وتَهْجاء ، ممدود : شتمه بالشعر وهو خلاف المدح . قال اللیث : هو الوقیعة فی الأشعار . وروی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : اللهم إنّ فلاناً هجانی فاهْجُه اللهم مکان ما هَجانی ، معنی قوله اهْجُه أی جازه علی هجائه إیّای جزاء هِجائه ... والمهاجاة بین الشاعرین : یتهاجیان ... »(4) .

وقال الفیروزآبادی : « هَجاهُ هَجْواً وهِجاءً : شَتَمَهُ بالشعر ... »(5) .

وقال الطریحی : « الهِجاء : خلاف المدح ، وهجی القوم ذکر معایبهم ، والمرأة تهجو

ص: 198


1- (1) أساس البلاغة / 480 .
2- (2) المصباح المنیر / 635 .
3- (3) النهایة 5 / 248 .
4- (4) لسان العرب 15 / 353 .
5- (5) القاموس المحیط / مادة هجاه من الطبع الحجری و 4 / 402 من الطبع الحروفی .

زوجها أی تذمّ صحبته»(1) .

أقول :قد عرفت بأنّ بعض اللغویین خصص الهجو بالشعر کالفیومی وابن منظور والفیروزآبادی ، وبعضهم أطلق کالزمخشری والطریحی وصاحب الصحاح(2) . وهذا الخلاف بین اللغویین سری إلی کلمات الفقهاء أیضاً ، فبعضهم خصص الهجو بالشعر کالمحقق الثانی قال فی تعریف الهجاء : « هو بکسر الهاء والمدّ : ذکر المعایب بالشعر»(3) ، وتبعه الشهید الثانی فی المسالک(4) والروضة(5) والمحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(6) والمحقق السبزواری فی الکفایة(7) والشیخ یوسف فی الحدائق(8) وسید الریاض(9) والفاضل النراقی فی المستند(10) .

وبعضهم صرح بالإطلاق ، کالعلامة فی شهادات القواعد(11) والشیخ جعفر فی شرحه(12) وتلمیذیه صاحبی المفتاح(13) والجواهر(14) ، والشیخ الأعظم(15) وصاحبی برهان

ص: 199


1- (1) مجمع البحرین / 99 من الطبع الحجری .
2- (2) الصحاح 2 / 1834 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 26 .
4- (4) المسالک 3 / 127 .
5- (5) الروضة البهیة 3 / 213 .
6- (6) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 76 .
7- (7) الکفایة 1 / 436 .
8- (8) الحدائق 18 / 146 .
9- (9) ریاض المسائل 8 / 162 .
10- (10) مستند الشیعة 14 / 158 .
11- (11) القواعد 3 / 495 .
12- (12) شرح القواعد 1 / 219 .
13- (13) مفتاح الکرامة 12 / 212 .
14- (14) الجواهر 22 / 60 .
15- (15) المکاسب 2 / 118 .

الفقه(1) ومعاصی کبیرة(2) .

وغیرهم أطلق حرمة الهِجاء ولم یخصه بالشعر ، کما فی المقنعة(3) والنهایة(4) والمراسم(5) والسرائر(6) والشرائع(7) والنافع(8) ومکاسب القواعد(9) والتحریر(10) والتذکرة(11) والمنتهی(12) ، وفی الأخیرین ادعی عدم الخلاف فیه .

والحاصل ، لا وجه لاختصاص الحرمة بالهجاء الشعری ، بل الأدلة عامة تشمل غیره أیضاً . بل لا وجه لاختصاص تعریف الهجو بالشعر فقط ، والهجاء کما یمکن أن یکون به یمکن أن یکون بالنثر أیضاً ، فما ورد فی کلمات بعض اللغویین لم یرد علی سبیل التخصیص بل هو ذکر إحدی المصادیق .

وعلی هذا ما ورد من اختصاصه بالشعر فی کلمات بعض الفقهاء أعلی اللّه مقامهم غیر تام عندنا .

فالهجو : هو ذکر معایب الشخص وشتمه وفحشه والوقیعة فیه ، سواء کان بالشعر أو النثر أو غیرهما .

ثم الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة الهجاء :
اشارة

ص: 200


1- (1) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 20 من الطبع الحجری .
2- (2) معاصی کبیرة / 82 .
3- (3) المقنعة / 589 .
4- (4) النهایة / 365 .
5- (5) المراسم / 170 .
6- (6) السرائر 2 / 215 .
7- (7) الشرائع 2 / 4 .
8- (8) المختصر النافع / 117 .
9- (9) القواعد 2 / 8 .
10- (10) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 مسألة 3018 .
11- (11) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
12- (12) منتهی المطلب 2 / 1013 من الطبع الحجری .
1 - فمن الکتاب

قوله تعالی : «إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ الْفَاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ»(1) .

بتقریب : أنّ هجو المؤمن من أظهر مصادیق إشاعة الفاحشة فی الذین آمنوا ، فیحرم بدلالة الآیة الشریفة . وقد ورد عدّة من الروایات(2) فی ذیلها یمکن تطبیقها علیه ، فسیأتی بعضها فی عنوان السنة .

وقوله تعالی : «وَیْلٌ لِّکُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ»(3) .

حیث فُسرت « الهمزة » ب- « الکثیر الطعن علی غیره بغیر حقّ ، والعائب له بما لیس بعیب»(4) ، فیدخل بعض مصادیق الهجو تحت عنوان الهَمْز واللمز فیحرم .

أمّا الفرق بین اللُّمزة والهمزة : «قیل هما بمعنی [ واحد ] ، وقیل بینهما فرقٌ ، فإنّ الهمزة : الذی یعکس بظهر الغیب ، واللمزة : الذی یعکس فی وجهک .

وقیل : الهمزة : الذی یؤذی جلیسه بسوء لفظه ، اللمزة : الذی یکثر عیبه علی جلیسه ویشیر برأسه ویؤمیء بعینه» . کذا فی فروق اللغات(5) .

وقال الشیخ یحیی بن حسین بن عشیرة البحرانی فی الفرق بین الهمّاز واللمّاز : « أنّ الأوّل هو الذی یعیب فی الوجه ، والثانی هو الذی یعیب مع الغیبة ، کقوله تعالی : «وَیْلٌ لِّکُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ» .

الهَمْز : الطعن فی الوجه بالعین ، واللَّمْز الذی یغتاب الناس عند الغیبة . وقیل : الهمز : الذی همز الناس بیده ویضربهم ، واللمز الذی یلمزهم بلسانه ویعیبهم»(6) .

وقوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ یَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَی أَن یَکُونُوا خَیْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَی أَن یَکُنَّ خَیْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ

ص: 201


1- (1) سورة النور / 19 .
2- (2) راجع البرهان فی تفسیر القرآن 4 / 55 .
3- (3) سورة الهمزة / 1 .
4- (4) مجمع البیان 10 / 537 .
5- (5) فروق اللغات / 205 للسید نور الدین بن نعمة اللّه الجزائری .
6- (6) بَهْجَةُ الخاطر ونُزْهَةُ الناظر / 84 الرقم 161 .

بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ وَمَن لَّمْ یَتُبْ فَأُوْلَئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(1) .

بتقریب : أنّ بعض أقسام الهجاء یدخل فی عنوان السخ-ریة وال-لُّمزة والتنابز بالألقاب فتحرم بالآیة الشریفة .

وقوله تعالی : «لاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً»(2) .

بتقریب : أن بعض أقسام الهجو یدخل فی عنوان الغیبة بلا ریب فیحرم بالآیة الشریفة .

2 - ومن السنة

عدّة من الروایات تدلّ علی حرمة الهجاء لأنّه یدخل فی عنوان الظلم(3) والقذف(4) والفحش(5) والبذاء(6) وإیذاء المؤمن(7) وإهانته(8) واحتقاره(9) واستخفافه(10) وإحصاء عثراته(11) وعوراته(12) ، وتعییره(13) وتأنیبه(14)(15) وبهتانه(16) وغیبته(17) ، والروایات الواردة

ص: 202


1- (1) سورة الحجرات / 11 .
2- (2) سورة الحجرات / 12 .
3- (3) راجع وسائل الشیعة 16 / 46 .
4- (4) راجع وسائل الشیعة 16 / 36 .
5- (5) راجع وسائل الشیعة 16 / 31 .
6- (6) راجع وسائل الشیعة 16 / 35 .
7- (7) راجع وسائل الشیعة 12 / 264 .
8- (8) راجع وسائل الشیعة 12 / 265 .
9- (9) راجع وسائل الشیعة 12 / 269 .
10- (10) راجع وسائل الشیعة 12 / 272 .
11- (11) راجع وسائل الشیعة 12 / 274 .
12- (12) راجع وسائل الشیعة 12 / 274 .
13- (13) راجع وسائل الشیعة 12 / 276 .
14- (14) راجع وسائل الشیعة 12 / 276 .
15- (15) نّبه : عنّفه ولامه .
16- (16) راجع وسائل الشیعة 12 / 287 .
17- (17) راجع وسائل الشیعة 12 / 278 .

حول حرمة جمیعها تدلّ علی حرمتها أیضاً :

معتبرة محمد بن حُمران عن الصادق علیه السلام قال : من قال فی أخیه المؤمن ما رأته عیناه وسَمِعته اُذناه فهو ممّن قال اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ الْفَاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ فِی الدُّنْیَا وَالاْآخِرَةِ»(1)(2) .

ونحوها صحیحة هشام عن أبی عبداللّه علیه السلام المرویة فی تفسیر القمی 2 / 100.

ومنها : موثقة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ أقرب ما یکون العبد إلی الکفر أن یؤاخی الرجلُ الرجلَ علی الدین فیحصی علیه زلاّته لیعنفه بها یوماًما(3) .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من عیّر مؤمناً بذنب لم یمت حتّی یرکبه(4) .

ومنها : موثقة إسحاق بن عمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من أذاع فاحشةً کان کمبتدئها ، ومن عیّر مؤمنّاً بشیءٍ لم یمت حتّی یرکبه(5) .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من خاف الناس لسانه فهو فی النار(6) .

ومنها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : یقول اللّه عزّ وجلّ : لیأذن بحرب منّی من آذی عبدی المؤمن ، الحدیث(7) .

ص: 203


1- (1) سورة النور / 19 .
2- (2) أمالی الصدوق . المجلس الرابع والخمسون ح 16 / 417 الرقم 549 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 274 ح 2 . الباب 150 من أبواب أحکام العشرة .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 276 ح 1 . الباب 151 من أبواب أحکام العشرة .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 277 ح 2 .
6- (6) وسائل الشیعة 16 / 31 ح 9. الباب 70 من أبواب جهاد النفس.
7- (7) وسائل الشیعة 12 / 264 ح 1 . الباب 145 من أبواب أحکام العشرة .
3 - أمّا الإجماع

فقد مرّ منّا ادعاء عدم الخلاف من المنتهی(1) والتذکرة(2) وصرّح بوجود الإجماع فی المسألة أصحاب مجمع الفائدة والبرهان(3) وکشف اللثام(4) وشرح القواعد(5) ومفتاح الکرامة(6) وریاض المسائل(7) ومستند الشیعة(8) والجواهر(9) والمکاسب حیث قال : « هجاء المؤمن حرام بالأدلة الأربعة»(10) .

وقال المحقق الخوئی قدس سره : « لا خلاف بین المسلمین فی حرمة هجاء المؤمن»(11) .

4 - أمّا حکم العقل

هجاء المؤمن ظلم فی حقّه ، والعقل مستقل بقبح الظلم ، ومع ضم قاعدة الملازمة بین حکمی العقل والشرع ینتج حکم الشرع بحرمة هجاء المؤمن .

هذا کلّه بالنسبة إلی حرمة هجو المؤمن .

ثمّ إنّ هاهنا فروعاً :
الأوّل : هل الحرمة تختص بالمؤمن ؟

نعم ، الحرمة من مختصات المؤمن ، فلا بأس بهجو غیره ، ولذا الأصحاب قدس اللّه

ص: 204


1- (1) منتهی المطلب 2 / 1013 من الطبع الحجری .
2- (2) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 76 .
4- (4) کشف اللثام 10 / 294 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 220 للشیخ جعفر قدس سره .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 210 .
7- (7) ریاض المسائل 8 / 162 .
8- (8) مستند الشیعة 14 / 158 .
9- (9) الجواهر 22 / 60 .
10- (10) المکاسب 2 / 117 .
11- (11) مصباح الفقاهة 1 / 456 .

أسرارهم قیدوا الموضوع بالمؤمن أو المؤمنین ، وهذا التقیید أدلّ دلیل علی الاختصاص .

مضافاً إلی ظهور الأدلة فی التخصیص کما مرّ فی بحث الغیبة .

قال الشیخ جعفر قدس سره : « یَعْلَمُ مَنْ تتّبع الأدلة أنّ کلاًّ من الکافرین الإسلامی والإیمانی علی حدّ سواء فی جواز لعنهم وهجوهم وسبّهم وشتمهم ما لم یکن قذفاً مع عدم شرطه أو فحشاً ، بل الظاهر منها أنّ هجاءَهم علی روؤس الأشهاد من أفضل عبادة العباد ، وقد أمر علّة الإیجاد وسید العباد حسّاناً بهجو المشرکین معلّلاً بأنّه أشدّ علیهم من رشق السهام(1) ...»(2) .

أقول : وتبعه تلمیذه صاحب الجواهر(3) ، أنت تری أنّ الشیخ الأکبر استثنی القذف والفحش، والاستثناء فی محله .

ولکن قد مرّ منّا عدم جواز سبّهم فی بحث السبّ ، فراجعه إن شئت .

الثانی : هل یجوز هجاء الفاسق المعلن ؟

لا یجوز هجو الفاسق غیر المعلن لإطلاقات الأدلة ولوجود الحرمة له ، وأمّا المتجاهر بالفسق فیشمله إطلاقات الأدلة أیضاً فلا یجوز هجوه .

قال ثانی الشهیدین : « لا فرق فی المؤمن هنا بین الفاسق وغیره ، اللهم إلاّ أن یدخل هجاء الفاسق فی مراتب النهی عن المنکر ، بحیث یتوقف ردعه علیه ، فیمکن جوازه حینئذ إن فرض»(4) .

وقال قریباً من هذا المضمون فی الروضة(5) ، وتبعه المحقق السبزواری فی الکفایة(6) .

وقال الشیخ جعفر : « ولو کان لمصلحة عظیمة أو دفع مفسدة عن المهجو دنیویة کدفع الهلکة عن نفسه ، أو المؤاخذة بعد الحلول فی رمسه بالنهی عن الفساد حَسُنَ ولو بالهجو علی

ص: 205


1- (1) سنن البیهقی 10 / 238 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 220 .
3- (3) الجواهر 22 / 62 .
4- (4) المسالک 3 / 127 .
5- (5) الروضة البهیة 3 / 213 .
6- (6) الکفایة 1 / 436 .

روؤس الأشهاد»(1) .

أقول : لو کان الهجو لدفع القتل والهلکة فلا بأس به ، وأمّا بالنسبة إلی النهی عن المنکر لا سیما بالنسبة إلی بعض أفراده ومراتبه ، فجواز الهجو محل تأمل بل منع ، کما ذهب إلیه صاحب الجواهر(2) .

وأمّا ما ورد فی الخبر من قوله « محّصوا ذنوبکم بغیبة الفاسقین»(3) - مضافاً إلی عدم وروده فی مجامیع حدیثنا بل نقله صاحب مفتاح الکرامة(4) عن حواشی الشهید علی القواعد - فإنّها روایة مرسلة .

مضافاً إلی أنّه مختص بالغیبة فلا یشمل الهجو ، وعلی فرض الشمول فلابدَّ من حمله علی الخارجین من الإیمان کما عن الشیخ الأعظم(5) ، أو تذکّر أحوالهم وعاقبة أمرهم فی یوم القیامة وأن مصیرهم إلی النار کی یتّعظوا بذلک ویرتدعوا عن القبائح کما عن المحقق الإیروانی(6) .

وأمّا حمل الخبر علی الفاسق المتجاهر بفسقه کما عن الشیخ الأعظم(7) أیضاً غیر تام .

الثالث : حرمة استماع الهجو ثابت أم لا ؟

قال السید العاملی فی المفتاح : « کما یحرم الهجاء یحرم استماعه کما ستسمع»(8) .

أقول : نکلت حوالته ولم یأت بدلیل علی ماأفتی ، وحیث أنّ الدلیل علی حرمة استماع الهجاء مفقودٌ والملازمة بین الحرمتین ممنوعة ، فلابدَّ من جریان البراءة عن الحرمة

ص: 206


1- (1) شرح القواعد 1 / 221 .
2- (2) الجواهر 22 / 61 .
3- (3) لم یرد فی مجامیع حدیثنا .
4- (4) مفتاح الکرامة 12 / 211 .
5- (5) المکاسب 2 / 118 .
6- (6) الحاشیة علی المکاسب 1 / 272 .
7- (7) المکاسب 2 / 118 .
8- (8) مفتاح الکرامة 12 / 211 .

عقلاً وشرعاً .

نعم ، إذا کان الهجو یدخل فی عنوان الغیبة - کما ربّما یدخل - یحرم استماعه ، لأنّ استماع الغیبة من المحرَّمات الشرعیة .

الرابع : یجوز هجو المبدع فی الدین .

الدلیل علیه صحیحة داود بن سرحان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا رأیتم أهل الریب والبدع من بعدی فأظهروا البراءة منهم ، وأکثروا من سبّهم ، والقول فیهم ، والوقیعة ، وباهتوهم کیلا یطمعوا فی الفساد فی الإسلام ، ویحذرهم الناس ولا یتعلّمون من بدعهم ، یکتب اللّه لکم بذلک الحسنات ویرفع لکم به الدرجات فی الآخرة(1) .

وهذه الصحیحة صریحة فی جواز هجو أهل البدع ، والتعلیل الوارد فیها بأن «لا یتعلّمون الناس من بدعهم» یجری بالنسبة إلی الهجو أیضاً .

وأمّا خبر أبی حمزة عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : إنّ بعض أصحابنا یفترون ویقذفون من خالفهم ، فقال : الکفّ عنهم أجمل . ثمّ قال : یا أبا حمزة واللّه إنّ الناس کلّهم أولاد بغایا ما خلا شیعتنا . ثمّ قال : نحن أصحاب الخمس والفیء ، وقد حرّمناه علی جمیع الناس ما خلا شیعتنا ، الحدیث(2) .

هذه الروایة لا تعارض صحیحة داود بن سرحان لما فیها :

أولاً : من ضعف إسنادها لمجهولیة الحسن بن عبد الرحمن وضعف علی بن العباس .

ثانیاً : موضوعها المخالفین وقذفهم ، وقد مرّ منّا تبعاً للشیخ الأکبر الشیخ جعفر قدس سره عدم جواز قذفهم وفحشهم ، ولم یکن موضوعها أهل البدع والقول فیهم .

ثالثاً : تحمل « الکف عنهم أجمل» علی موارد التقیة ، وفی غیر مواردها یجوز قذفهم کما قال علیه السلام فی نفس الروایة : « واللّه إنّ الناس کلّهم أولاد بغایا ما خلا شیعتنا» ، فهل هذا إلاّ القذف ؟ فلابدّ من حملها علی التقیة وإلاّ یتنافی صدرها وذیلها .

ص: 207


1- (1) وسائل الشیعة 16 / 267 ح 1 . الباب 39 من أبواب الأمر والنهی .
2- (2) وسائل الشیعة 16 / 37 ح 3 . الباب 73 من أبواب جهاد النفس .

فحینئذ یجوز هجو المبدع فی الدین بما فیه من المعایب وما لیس فیه لئلا یتعلّم الناس منهم البدع والآراء الفاسدة ، بشرط أن لا تترتب علی هذا الهجو مفسدة أو فتنة وإلاّ فیحرم لترتبهما . ویمکن حمل خبر أبی حمزة أیضاً علی فرض ترتب المفسدة أو الخوف من الفتنة ، واللّه سبحانه هو العالم .

الخامس : هل یجب إمحاءِ الهجو کفایة ؟ !

قال الشیخ جعفر قدس سره : « ومن کتب هجو المؤمن فی دیوانه وجب علیه کفایةً محوه ، ووجب علی الناس ردعه ... »(1) .

وتبعه تلمیذه السید العاملی فقال فی المفتاح : « ولیعلم أنّه لا تجوز المقاصّة فیه ویجب علیه هجره کفایةً ویجب علی الناس ردعه ... »(2) .

ولکن قال صاحب الجواهر بعد نقل هذا الکلام من أستاذه : « وإن کان لا یخلو من إشکال فی الجملة»(3) .

أقول : الحقُّ مع صاحب الجواهر ، لأنّ الدلیل ورد علی حرمة الهجو ولم یرد علی إمحائه کفایة ، وأمّا ردعه بتوسط الناس واجب علی نحو وجوب النهی عن المنکر وبشرائطه ، وأمّا ثبوت وجوب آخر غیر النهی عن المنکر فمحل تأمل بل منع .

نعم ، یحرم المقاصة فی الهجو والتهاجی والمهاجاة کما عن المفتاح ، لأنّ الإتیان بالحرام لا یسوّغه لآخر ، واللّه العالم وله الحمد .

ص: 208


1- (1) شرح القواعد 1 / 221 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 212 .
3- (3) الجواهر 22 / 61 .

الهُجْر

موضوعه :

لابدّ فی تعیین موضوع الهجر من مراجعة کلمات اللغویین :

قال أحمد بن فارس : « هجر : الهاء والجیم والراء أصلان یدلُّ أحدهما علی قطیعةٍ وقَطْعٍ ، والآخر علی شَدِّ شیءٍ وربطه . فالأوّل الهَجْر : ضد الوصل وکذلک الهِجْران - إلی أن قال : - الهُجْر : الإفحاش فی المنطق ، یقال : أهجر الرجل فی منطقه . قال :

کما جدةِ الأعراق قال ابنُ ضَرَّةٍ علیها کلاماً جارَ فیه وأهْجَرا

ورماه بالهاجراتِ وهی الفضائح ، سمّی هذا کلُّه لأنّه من المهجور الذی لاخیر فیه ... »(1) .

وقال الزمخشری : « أهْجَرَ : نطق بالهُجْر ، بالضم وهو الفحش»(2) .

وقال الفیومی : « الهُجْرُ : بالضم الفُحْشُ ، وهو اسمٌ من هَجَرَ یَهْجُرُ من باب قَتَلَ ، وفیه لغة اُخری»(3) .

وقال الفیروزآبادی : « الهَجْر ... وبالضم ، القبیح من الکلام کالهَجْراءِ ... »(4) .

وقال الطریحی : « قوله : «سَامِراً تَهْجُرُونَ»(5) هو من الهَجْر : وهو الهذیان ، وتهجرون من الهُجْر أیضاً ، وهو الإفحاش من المنطق»(6) .

أقول : الحاصل مما قالوه : أنّ الهُجْر : بالضم الفحش ، وهو أخص من البَذاء ، وهی

ص: 209


1- (1) معجم مقاییس اللغة 6 / 34 .
2- (2) أساس البلاغة / 479 .
3- (3) المصباح المنیر / 634 .
4- (4) القاموس / مادة هجر الطبع الحجری .
5- (5) سورة المؤمنون / 67 .
6- (6) مجمع البحرین / 310 من الطبع الحجری .

خروج الشیء عن طریقة الإحماد ، تقول : هو بذیء اللسان کما قاله أحمد بن فارس(1) . وقال الزمخشری : « فلان بَذِی ءُ اللسان»(2) ، وقال الفیومی : « بَذَا : علی القوم یَبْذُو وبَذَاءً بالفتح والمَدِّ : سَفُِهُ وأفحش فی منطقه وإن کان کلامه صدقاً فهو بَذِیٍّ علی فعیلٍ وامرأة بَذِیَّةٌ کذلک ... »(3) . فمرادف البذاء بالفارسیة « بد زبانی» وهو أعم من الفحش . وعلی هذا کلّ فحش بذاء ولیست کلّ بذاء بفحش . ولذا قد بحثنا عن البذاء فی أوّل الکتاب فی حرف الباء وعن الهُجْر أی الفحش هنا .

وقد تدلّ علی حرمته عدّة من الروایات المستفیضة :

منها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ الفحش لو کان مثالاً لکان مثال سوءٍ(4) .

ومنها : موثقة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ من علامات شَرَک الشیطان الذی لا یشک فیه أن یکون فحّاشاً ، لا یبالی ما قال ولا ما قیل فیه(5) .

ومنها : معتبرة سلیم بن قیس عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ اللّه حرّم الجنة علی کلّ فحّاش بذیء قلیل الحیاء ، لا یبالی ما قال وما قیل له ، فإنک إن فتّشته لم تجده إلاّ لَغیَّة أو شَرَک شیطان . قیل : یا رسول اللّه وفی الناس شَرَک شیطان ؟ فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أما تقرأ قول اللّه عزّ وجلّ : «وَشَارِکْهُمْ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ»(6) ، الحدیث(7) .

ولد غیّة : أی ولد زنا .

ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ من شرّ

ص: 210


1- (1) معجم مقاییس اللغة 1 / 217 .
2- (2) أساس البلاغة / 18 .
3- (3) المصباح المنیر / 41 .
4- (4) الکافی 2 / 324 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 323 ح 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 16 / 31 ح 1 . الباب 71 من أبواب جهاد النفس .
6- (6) سورة الإسراء / 64 .
7- (7) وسائل الشیعة 16 / 35 ح 2 . الباب 72 من أبواب جهاد النفس .

عباداللّه من تکره مجالسته لفحشه(1) .

ومنها : موثقة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم بینا هو ذات یوم عند عائشة إذ استأذن علیه رجل فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : بئس أخو العشیرة ، فقامت عائشة فدخلت البیت ، وأذن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم للرجل ، فلما دخل أقبل علیه بوجهه وبُشْره إلیه یحدثه حتّی إذا فرغ وخرج من عنده ، قالت عائشة : یا رسول اللّه بینا أنت تذکر هذا الرجل بما ذکرته به إذ أقبلت علیه بوجهک وبُشرک ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عند ذلک : إنّ من شرّ عباد اللّه من تکره مجالسته لفحشه(2) .

ومنها : صحیحة جابر الأنصاری عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث أنّه قال : أفلا اُخبرکم بشرّ رجالکم ؟ فقلنا : بلی ، قال : إنّ من شرّ رجالکم البهّات الفاحش ، الآکل وحده ، المانع رفده ، الضارب أهله وعبده ، البخیل ، الملجیء عیاله إلی غیره، العاق بوالدیه(3) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کان لا یقبل شهادة فحّاش ولا ذی مخزیة فی الدین(4) .

ومنها : خبر الحسن الصیقل قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : إنّ الفحش والبذاء والسلاطة من النفاق(5) .

علی القول بوثاقة محمد بن سنان کما لا یبعد صار سند الروایة معتبراً .

ومنها : خبر جابر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ اللّه یحبّ الحیی الحلیم الغنی المتعفّف ، ألا وإنّ اللّه یبغض الفاحش البذیء السائل المُلْحِف(6) .

ومنها : صحیحة یونس عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول

ص: 211


1- (1) الکافی 2 / 325 ح 8 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 325 ح 11 .
2- (2) الکافی 2 / 326 ح 1 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 325 ح 12 .
3- (3) التهذیب 7/400 ح6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 328 ح 23 .
4- (4) الکافی 7 / 396 ح 7 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 324 ح 7 .
5- (5) وسائل الشیعة 16 / 32 ح 3 .
6- (6) وسائل الشیعة 16 / 33 ح 9 .

اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ألا اُخبرکم بأبعدکم منّی شبهاً ؟ قالوا : بلی یا رسول اللّه ، قال : الفاحش المتفحش البذیء البخیل المختال الحقود الحسود ، القاسی القلب ، البعید من کلِّ خیر یُرجی ، غیر المأمون من کلّ شرٍّ یُتّقی(1) .

تلک عشرة کاملة من الروایات المستفیضة تدلّ بوضوح علی حرمة الهُجْر والفحش وأکثرها معتبرة الإسناد ، وإن شئت أکثر من هذا فراجع الکافی 2 / 323 باب البذاء ووسائل الشیعة 16 / 31 ومستدرک الوسائل 12 / 80 وجامع أحادیث الشیعة 16 / 559 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 323 .

تنبیهٌ

نقل صاحب غنیة الطالب(2) أنّ بعض المحققین ذهب إلی حرمة الفحش من حیث نفسه ، لا من حیث أنّه إیذاء وهتک وتوهین ، ولا فرق بین کون المخاطب مؤمناً أو مسلماً أو فاسقاً أو کافراً ، ذکراً أو اُنثی ، حُرّاً أو مملوکاً صغیراً أو کبیراً ، وهو مقتضی إطلاق کلماتهم ، بل قال رحمه الله : یمکن دعوی شموله لما إذا کان المقول له غیر الممیز من الأطفال ، بل والبهائم ، ویُشعر به ممّا ورد فی لعن المرکوب والتوبیخ علیه .

أقول : قد استظهرنا فی بحث السبّ هذا البیان بإطلاقه ، فراجعه إن شئت . وهذا المحقق الجلیل الذی لا نعلم اسمه ولا نعرف شخصه موافق لنا والحمد للّه .

تبصرةٌ

إنّ الفحش یختلف باختلاف البلدان والأشخاص والأقوام والعادات ، ففی کلِّ مورد یصدق أنّه فحش عندهم یحکم بحرمته ، وفی مورد الشک فی الشبهات الموضوعیة أو المفهومیة تجری البراءة العقلیة والشرعیة من الحرمة ویحکم بالجواز ، مع أنّ حُسن الاحتیاط باقٍ علی حاله(3) ، والحمد للّه العالم بأحکامه .

ص: 212


1- (1) الکافی 2 / 291 ح 9 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 325 ح 8 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 203 .
3- (3) وردت هذه التبصرة بغیر هذه الالفاظ فی مهذب الاحکام 16 / 182 للفقیه السبزواری قدس سره .

هِجْران المؤمن

اشارة

(1)

لابدّ أولاً من معرفة تعیین موضوع الهجران بمراجعة کلمات اللغویین ثمّ البحث عن حکمه :

موضوعه
اشارة

قد مرّ فی العنوان السابق کلام أحمد بن فارس حیث قال : « هجر : ... أصلان یدلُّ أحدهما علی قطیعةٍ وقَطْعٍ ... فالأوّل الهَجْر : ضد الوصل وکذلک الهجران ... »(2) .

وقال الفیومی : « هَجَرتُهُ هَجْراً من باب قَتَل : قَطَعْتُهُ ، والإسم الهِجْران ، وفی التنزیل «وَاهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضَاجِعِ»(3) أی فی المنام توصّلاً إلی طاعتهنَّ ، وإنْ رَغِبَتْ عن صُحْبَتِهِ ودامتْ علی النشوز ارتقی الزوج إلی تأدیبها بالضرب ، فإن رجعتْ صَلَحَتِ العشرةُ ، وإن دامت علی النشوز اسْتُحِبَّ الفراقُ ... »(4) .

وقال الفیروزآبادی : « هَجَرَه هَجْراً بالفتح وهِجْراناً بالکسر : صَرَمَه والشیء تَرَکَه ... »(5) .

وقال الطریحی : « وهَجَرْتُه هَجْراً بالفتح وهِجْراً بالکسر من باب قَتَلَ تَرَکْتُهُ ورفضته ، وفی الحدیث : « لا هجرة فوق ثلاث» الهَجْر : ضد الوصل ، یعنی فیما یکون بین المسلمین من عتب وموجدة أو تقصیر یقع فی حقوق العشرة والصحبة دون ما کان فی جانب الدین ، فإنّ هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة علی ممرّ الاُوقات ما لم تظهر التوبة»(6) .

ص: 213


1- (1) لم یذکره الشیخ الأعظم ولکن ذکرناه لکثرة الإبتلاء به .
2- (2) معجم مقاییس اللغة 6 / 34 .
3- (3) سورة النساء / 34 .
4- (4) المصباح المنیر / 634 .
5- (5) القاموس / مادة هجر من الطبع الحجری .
6- (6) مجمع البحرین / 311 .

أقول : فالمراد بالهجران بین المؤمنین هو التقاطع وعدم المواصلة فی العشرة بینهم ، وتدلّ علی حرمتها عدّة من الروایات المستفیضة :

تدل علی حرمته عدة من الروایات

منها : صحیحة هشام بن الحکم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا هجرة فوق ثلاث(1) .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ الشیطان یغری بین المؤمنین ما لم یرجع أحدهم عن دینه ، فإذا فعلوا ذلک استلقی علی قفاه وتمدَّد ، ثمّ قال : فزتُ ، فرحم اللّه امرءاً ألّف بین ولیّین لنا ، یا معشر المؤمنین تألّفوا وتعاطفوا(2) .

أغری بینهم العداوة : ألقاها . التمدّد : الاستراحة وإظهار الفراغ من العمل .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یزال إبلیس فرحاً ما اهتجر المسلمان ، فإذا التقیا اصطکّت رکبتاه ، وتخلّعت أوصاله ونادی : یا ویله ما لقی من الثبور(3) . اصطکاک الرکبتین : اضطرابهما . التخلّع : التفکک . الأوصال : المفاصل . الثبور : الهلاک . ومنها : خبر مرازم قال : کان عند أبی عبد اللّه علیه السلام رجل من أصحابنا یلقب شَلْقان وکان قد صیّره فی نفقته وکان سیّیء الخُلْق فهجره ، فقال لی یوماً : یا مرازم [ و ] تُکلّم عیسی ؟ فقلت : نعم ، فقال : أصبتَ لاخیر فی المهاجرة(4) .

شَلْقان : لقب عیسی بن أبی منصور ، قیل : لقّب بذلک لسوء خُلقه ، من الشلق : وهو الضرب بالسوط وغیره ، وقد وردت أخبار کثیرة فی مدحه وأنّه ثقة من أصحابنا روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام .

ومنها : فی خبر وصیة المفضل قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : لا یفترق رجلان

ص: 214


1- (1) وسائل 12 / 260 ح 1 . الباب 144 من أبواب أحکام العشرة .
2- (2) الکافی 2 / 345 ح 6 ونقلت عنه فی کتابَیْ موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 12 / 14 ح 6 - و - ألف حدیث فی المؤمن / 334 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 262 ح 6 .
4- (4) الکافی 2 / 344 ح 4 ونقلت عنه فی کتابَیْ موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 12 / 14 ح 4 وألف حدیث فی المؤمن / 334 ، ونقل عن الکافی مختصراً فی وسائل الشیعة 12 / 261 ح 2 .

علی الهجران إلاّ استوجب أحدهما البراءة واللعنة ، وربّما استحقَّ ذلک کلاهما . فقال له معتّب : جعلنی اللّه فداک هذا الظالم فما بال المظلوم ؟ قال : لأنّه یدعو أخاه إلی صلته ولا یتغامس له عن کلامه ، سمعت أبی یقول : إذا تنازع اثنان فعازَّ أحدهما الآخر فلیرجع المظلوم إلی صاحبه حتّی یقول لصاحبه : أی أخی أنا الظالم ، حتّی یقطع الهجران بینه وبین صاحبه ، فإنّ اللّه تعالی حکمٌ عدلٌ یأخذ للمظلوم من الظالم(1) .

ومنها : خبر داود بن کثیر قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : قال أبی علیه السلام : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أیّما مسلِمَیْن تهاجرا فمکثا ثلاثاً لا یصطلحان إلاّ کانا خارجین من الإسلام ولم تکن بینهما ولایة ، فأیّهما سبق إلی کلام أخیه کان السابق إلی الجنة یوم الحساب(2) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : ونهی عن الهجران ، فمن کان لابدّ فاعلاً فلا یهجر أخاه أکثر من ثلاثة أیّام ، فمن کان مهاجراً لأخیه أکثر من ذلک کانت النار أولی به ، الحدیث(3) .

ومنها : خبر أبی هریرة قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحلّ لمسلم أن یهجر أخاه فوق ثلاثة أیّام ، والسابق یسبق إلی الجنة(4) .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر فی حدیث : یا أباذر إیّاک والهجران لأخیک المؤمن ، فإنّ العمل لا یتقبّل مع الهجران ، الحدیث(5) .

ومنها : خبر الشیخ جعفر بن أحمد القمی بإسناده إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هجر الرجل أخاه سنة کسفک دمه(6) .

تلک عشرة کاملة من الروایات المستفیضة تدلّ علی حرمة هجران المؤمن ، فإن شئت

ص: 215


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 261 ح 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 262 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 262 ح 8 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 263 ح 11 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 264 ح 12 .
6- (6) جامع الأحادیث / 131 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 12 / 16 ح 13 .

أکثر من هذا فراجع الکافی 2 / 344 والوافی 5 / 919 وبحار الأنوار 72 / 184 ووسائل الشیعة 20 / 496 وکتابَیْ موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 12 / 13 وألف حدیث فی المؤمن / 334 لهذا العبد .

ص: 216

النوع الخامس ممّا یحرم التکسب به

اشارة

ص: 217

ص: 218

أخذ الاُجرة علی الواجب

قبل الورود فی البحث عن أخذ الأجرة علی الواجب لابدّ من ملاحظة کلمات الأصحاب قدس اللّه أسرارهم فی المقام :

کلمات الأصحاب فیه

قال المفید : « والتکسب بتغسیل الأموات وحملهم ودفنهم حرام ، لأنّ ذلک فرض علی الکفایة أوجبه اللّه تعالی علی أهل الاسلام .

ولا بأس بالأجر علی تعلیم القرآن والحکم کلّها ، والتنزّه عن التکسب بذلک أفضل .

والأجر علی الأذان والصلاة بالناس حرام .

ولا بأس بالأجر علی الحکم والقضاء بین الناس ، والتبرع بذلک أفضل وأقرب إلی اللّه تعالی .

والأجر علی کَتْب المصاحف وجمیع علوم الدین والدنیا جائز»(1) .

قال أبو الصلاح الحلبی : « وأجر تعلیم المعارف والشرائع وکیفیة العبادة من النظر فیها والفتیا بها وتنفیذ الأحکام وتلقین القرآن وعَقْد الجُمَع والجماعات والأذان والإقامة وتغسیل الأموات وتجهیزهم وحملهم والصلاة علیهم ومواراتهم وجهاد الکفار والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وسائر العبادات والمعونة علی ذلک محرَّمٌ»(2) .

وقال الشیخ الطوسی : « وأخذ الاُجرة علی غُسْل الأموات وحملهم ومواراتهم حرام ، لأنّ ذلک فرضٌ علی الکفایة علی أهل الإسلام . وأخذ الأجْرِ علی الأذان والصلاة بالناس حرام »(3) .

ص: 219


1- (1) المقنعة / 588 .
2- (2) الکافی / 283 .
3- (3) النهایة / 365 .

وقال القاضی ابن البراج : « إعلم أنّ غسل المیت فرض علی الکفایة وکذلک الصلاة علیه ، ودفنه ولا یجوز أخذ الأجر علی غسله ، وهو مذهب شیخنا أبی جعفر محمد بن الحسن الطوسی رحمه الله وغیره من علماء الطائفة ، وقد کان شیخنا المرتضی رحمه الله أجازه ، یقول : یجوز أخذ الأجر علی ذلک بشرط أن تتکفل مأمور الناس بعض الناس ، قال : فإذا تکفل هذا مأموره سقط الفرض عن غیره وجاز للغیر أخذ الأجر علی ذلک ، والظاهر من المذهب والأحوط هو ما قدمناه»(1) .

عدّ ابن البراج من المکاسب المحرَّمة أیضاً : « والأذان والإقامة لأجل الأجر علیهما والصلاة بالناس لمثل ذلک وتغسیل الموتی وتکفینهم وحملهم والصلاة علیهم ودفنهم»(2) .

وقال ابن إدریس الحلی : «ولا یجوز أخذ الاُجرة علی الأذان والاقامة ولا علی الصلاة بالناس وتغسیل الأموات وتکفینهم وحملهم ودفنهم والصلاة علیهم ، والاُجرة المحرّمة علی حملهم هی إلی المواضع التی یجب علی مَنْ حضرهم الحمل إلیها ، وهی ظواهر البلدان والجبانة المعروفة بذلک ، فأمّا ما بعد عن ذلک من المواضع المعظمة والأمکنة الشریفة المقدسة فلا یجب حمل المؤمن إلیها علی مَنْ حضرهم ، ولا تحرم الاُجرة علی مَنْ استؤجر للحمل إلی المواضع المذکورة النائیة »(3) .

وقال المحقق فی المکاسب المحرّمة من الشرائع : « الخامس ما یجب علی الإنسان فعله کتغسیل الموتی وتکفینهم ودفنهم ، وقد یُحرم الاکتساب بأشیاء اُخر تأتی فی أماکنها إن شاء اللّه .

مسألة : أخذ الأجرة علی الأذان حرام ولا بأس بالرزق من بیت المال ، وکذا الصلاة بالناس والقضاء علی تفصیل سیأتی ، ولا بأس بأخذ الاُجرة علی عقد النکاح»(4) .

وقال أیضاً فی النافع : « السادس : الاُجرة علی قدر الواجب من تغسیل الموتی

ص: 220


1- (1) شرح جمل العلم والعمل / 148 .
2- (2) المهذب 1 / 345 .
3- (3) السرائر 2 / 217 .
4- (4) الشرائع 2 / 5 .

وتکفینهم وحملهم ودفنهم ، والرُّشا فی الحکم ، والاُجرة علی الصلاة بالناس والقضاء . ولا بأس بالرزق من بیت المال ، وکذا علی الأذان»(1) .

وقال فی المعتبر : « قال(2) : یجوز أن یعطی المؤذّن من بیت المال ومن خاص الإمام ، وقال فی الخلاف(3) : لا یجوز أخذ الاُجرة علی الأذان ... وقال علم الهدی فی المصباح : یکره أخذ الاُجرة علی الأذان»(4) .

قال العلامة فی القواعد : « ما یجب علی الإنسان فعله یحرم الاُجرة علیه : کتغسیل الموتی وتکفینهم ودفنهم ، وتحرم الاُجرة علی الأذان وعلی القضاء . ویجوز أخذ الرزق علیهما من بیت المال . ویجوز أخذ الاُجرة علی عقد النکاح والخطبة فی الإملاک(5) . وتحرم الاُجرة علی الإمامة والشهادة وأدائها»(6) .

وقال فی التحریر : « یحرم أخذ الاُجرة علی تغسیل الأموات وتکفینهم ودفنهم والصلاة علیهم وعلی کلّ ما یجب علیه فعله ، وأخذ الاُجرة علی الأذان . ویجوز أخذ الرزق فیه من بیت المال . وکذا یحرم أخذ الاُجرة علی القضاء ، ویجوز أخذ الرزق فیه من بیت المال ، وکذا الصلاة بالناس ، ویجوز أخذ الاُجرة علی عقد النکاح والخطبة فی الإملاک»(7) .

وقال فی نهایته : « السادس عشر : ما یجب علی الإنسان فعله یحرم أخذ الاُجرة فیه . أمّا لو أخذ الاُجرة علی المستحب کما لو أخذ اُجرةً علی تکرار کلّ غسلة ثلاثاً أو توصیة المیت أو تکفینه بالمستحب أو دفنه فی اللحد ، فالأقرب الجواز ، لأنّه عمل مقصود محلّل ، فجاز أخذ الاُجرة علیه کغیره ، وکذا یجوز أخذ ثمن الکفن وماء تغسیل المیت .

ص: 221


1- (1) المختصر النافع / 117 .
2- (2) القائل هو الشیخ فی المبسوط 1 / 98 .
3- (3) الخلاف 1 / 290 مسألة 36 .
4- (4) المعتبر 2 / 133 .
5- (5) الإملاک : التزویج .
6- (6) القواعد 2 / 10 .
7- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 265 .

السابع عشر : یحرم أخذ الاُجرة علی الأذان للروایة(1) ، ولأنه من أعظم شعائر الإسلام .

الثامن عشر : یحرم أخذ الاُجرة علی القضاء وسیأتی تفصیله ، ویجوز أخذ الرزق علیه وعلی الأذان من بیت المال . وکذا یجوز أخذ الاُجرة علی عقد النکاح والخطبة فی الإملاک . ویحرم أخذ الاُجرة علی الإمامة فی الصلاة والشهادة وأدائها .

التاسع عشر : الأقرب تحریم أخذ الاُجرة علی تعلیم القرآن ، لأنّه مِنْ أعظم المعجزات التی تجب تداولها ونقلها بالتواتر ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علیه ویجوز قبول الهدیّة علیه - ثمّ ذکر روایتین فی المقام - »(2) .

وقال فی المنتهی : « یحرم أخذ الاُجرة علی تغسیل الموتی وتکفینهم ودفنهم والصلاة علیهم ، لأنّ ذلک واجب علیهم ، فلا یجوز لهم أخذ الاُجرة علی فعله کالفرائض»(3) .

وقال فی التذکرة : « یحرم أخذ الاُجرة علی الأذان ، وبه قال أبوحنیفة وأحمد والاُوزاعی - ثم ذکر روایتین بطریقی العامة والخاصة ، ثمّ قال : - وقال المرتضی : یکره عملاً بالأصل ، وقال الشافعی ومالک بالجواز ، لأنّه عمل معلوم یجوز أخذ الرزق علیه فجاز أخذ الاُجرة علیه والملازمة ممنوعة»(4) .

وقال فیه أیضاً : « الخامس : ما یجب علی الإنسان فعله یحرم أخذ الأجر علیه کتغسیل الموتی وتکفینهم ودفنهم . نعم ، لو أخذ الأجر علی المستحب منها فالأقرب الجواز . وتحرم الاُجرة علی الأذان وقد سبق ، وعلی القضاء لأنّه واجب ، ویجوز أخذ الرزق علیهما من بیت المال . ویجوز أخذ الاُجرة علی عقد النکاح والخطبة فی الإملاک . ویحرم الأجر علی الإمامة والشهادة وقیامها»(5) .

ص: 222


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 157 ح 1 . الباب 30 من أبواب ما یکتسب به . موثقة عمرو بن خالد .
2- (2) نهایة الإحکام 2 / 475 و 474 .
3- (3) منتهی المطلب 2 / 1018 (الطبع الحجری) .
4- (4) تذکرة الفقهاء 3 / 81 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 148 .

وقال فی المختلف : « قال الشیخ فی النهایة : یکره أخذ الاُجرة علی تعلیم شیءٍ من القرآن ونسخ المصاحف ولیس بمحظور ، وإنّما یکره إذا کان هناک شرط ، فإن لم یکن هناک شرط لم یکن به بأس(1) . وکذا قال ابن البراج(2) .

والمفید قال : لا بأس بالاُجرة علی تعلیم القرآن والحِکَم کلِّها ، والتنزّه عن التکسّب بذلک أفضل(3) .

وقال أبو الصلاح : یحرم أجر تعلیم المعارف والشرائع وکیفیة العبادة عن النظر فیها والفتیابها وتنفیذ الأحکام وتلقین القرآن(4) .

وقال الشیخ فی الإستبصار : یحرم مع الشرط ویکره بدونه(5) .

وقال ابن إدریس : یکره مع الشرط ولا بأس بدونه(6) .

والأقرب إباحته علی کراهیة ، لنا : الأصل الإباحة ، لأنّ فیه منفعة تعلیم القرآن وتعمیم إشاعة معجزة النبی صلی الله علیه و آله وسلم . ولأنّه یجوز جعله مَهْراً فجاز أخذ الاُجرة علیه ، إذ لو حرمت الاُجرة لحرم جعله مهراً»(7) . ثمّ ذکر بعض الروایات فی المقام وحملها علی الکراهة ، فراجعه .

وقال فیه : « قال ابن البراج فی أقسام المحرّمات : الأذان والإقامة لا یحلّ الأجر علیهما ، وکذا الصلاة بالناس وتغسیل الموتی وتکفینهم وحملهم ودفنهم(8) .

والأقرب تحریم الأجر أمّا الفعل فلا ، ویحتمل أن یقال : الفعل إنّما کان طاعة لو وقع

ص: 223


1- (1) النهایة / 367 .
2- (2) المهذب 1 / 346 .
3- (3) المقنعة / 588 .
4- (4) الکافی / 283 .
5- (5) الاستبصار 3 / 66 و 65 ذیل ح 219 و 216 .
6- (6) السرائر 2 / 223 .
7- (7) مختلف الشیعة 5 / 16 و 15 .
8- (8) المهذب 1 / 345 .

علی الوجه المأمور به شرعاً ، ووقوعه علی هذا الوجه لیس بشرعیٍّ فیکون بدعةً فیکون حراماً»(1) .

فخر المحققین فی ذیل قول والده فی القواعد : « وهل یجوز (أی الاستیجار) علی تعلیم الفقه المنع مع الوجوب والجواز معه» ، قال : « البحث هنا فی موضعین :

الف : من حیث الفریضة ووجه القرب أنّه إذا تعیّن التعلیم علیه کان من الواجبات المعینة ، فلا یجوز أنْ یأخذ الأجر علیها ، ولأنّ کلّما هو فی مقابله عوض لم یلزمه فعله عند عدم وصول العوض إلیه ، وإلاّ لم یکن معاوضة ولم یکن العوض عوضاً ، ویلزمه کلّما یلزمه فعله علی تقدیر عدم وصول العوض ، فلا یکون فی مقابلة عوض . لکن هنا ، کذلک ، لأنّه قد تعیّن علیه فلا تصح الإجارة ، ومع عدمه یجوز لوجود المقتضی وانتفاء المانع : أمّا الأوّل فلأنّه فعل مقصود ، وأمّا الثانی فلأنّه لا مانع إلاّ وجوبه علی الکفایة ، ولا یصلح للمانعیة ،ّلأنّ جمیع الصنائع واجبة علی الکفایة ، فإنّ کلّما ینتظم به أمر النوع واجب علی الکفایة . والحقّ عندی أنّ کلّ واجب علی شخص معین لا یجوز للمکلف به أخذ الاُجرة علیه ، والذی علی الکفایة ، فإنّ کان لو أوقعه بغیر نیّة لم یصح ولم یترک الوجوب به لا یجوز أخذ الاُجرة علیه ، لأنّه عبادة محضة وقال تعالی : «وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِینَ»(2) حصر غرض الآمر فی انحصار غایة الفعل فی الإخلاص ، وما یفعل بالعوض لا لذلک فلا یصح ، وغیر ذلک یجوز أخذ الأجر علیه إلاّ ما نص الشارع علی تحریمه کالدفن .

ب : فی العمل وضبطه فنقول : الفقه هوالعلم بالأحکام الشرعیة الفرعیة المکتسبة عن أدلتها التفصیلیة بالاستدلال ، فإمّا أن یستأجره للتدریس فیه بتعیین المدّة لا مَنْ یتعلّم وما یتعلّم فالأصح الصحة وجازت الجهالة للحاجة کالجهاد ، ویحتمل العدم لعدم الضبط ، وإمّا أن یستأجره مع تعیین من یتعلّم أو ما یتعلّم فلابدَّ مِنْ ضبط المسائل التی یتعلّمها »(3) .

وقال الشهید فی عداد المکاسب المحرّمة : « ما یجب علی المکلّف فعله إمّا عیناً کالصلاة

ص: 224


1- (1) مختلف الشیعة 5 / 18 .
2- (2) سورة البینة / 5.
3- (3) إیضاح الفوائد 2 / 264 و 263 .

الیومیة أو کفایة کتغسیل المیت وتکفینه والصلاة علیه ودفنه ، وفی فتاوی المرتضی هذا واجب علی الولی ، فإذا استأجر علیه جاز ، والوجه التحریم ، أمّا ثمن الکفن والماء والکافور فلیس بحرام .

ولو استؤجر علی مازاد علی الواجب من هذه جاز کالغسلات المندوبة والزیادة فی الکفن وتعمیق القبر والحمل إلی المشاهد الشریفة ، فلو بذل له اُجرة تزید علیه لم تحرم إذا کان هو المقصود .

ومن الواجب الذی یحرم أخذ الاُجرة علیه تعلیم الواجب عیناً أو کفایةً من القرآن العزیز والفقه والإرشاد إلی المعارف الإلهیّة بطریق التنبیه . ...وکذا تحرم الاُجرة علی وظیفة الإمامة وإقامة الشهادة وتحمّلها وإن قام غیره مقامه . ولو أخذ الاُجرة علی مازاد علی الواجب من الفقه والقرآن جاز علی کراهیّة ، ویتأکّد مع الشرط ولا یحرم ... ولو دفع إلیه بغیر شرط فلا کراهیة ... ویجوز الإستئجار علی عقد النکاح وغیره من العقود ، وأمّا علی تعلیم الصیغة وإلقائها علی المتعاقدین فلا . وکذا لا تجوز الاُجرة علی الخطبة والخطبة فی الإملاک»(1) .

وعلّق المحقق الثانی علی قول العلامة فی القواعد : « نعم لو أخذ الاُجرة علی المستحب منها فالأقرب جوازه» بقوله : « أی : من هذه الاُمور کتکفین القدر المندوب ، وحفر مازاد علی الواجب للأصل ، ولأنّه فعل سائغ ، فجاز أخذ الاُجرة علیه کالحج والصلاة . وقال ابن البراج : لا یجوز لإطلاق النهی(2) وعن المرتضی : جواز الاُجرة علی الواجب بناءً علی اختصاص الوجوب بولی»(3)(4) .

وعلّق علی قوله : « ویجوز أخذ الاُجرة علی عقد النکاح» بقوله : « إنّما یجوز إذا کان وکیلاً لأحد الزوجین أولهما ، فیتولّی الصیغة ویکون وکیلاً بجُعْل ، أما إلقاء الصیغة علی

ص: 225


1- (1) الدروس 3 / 173 و 172 .
2- (2) المهذب 1 / 345 .
3- (3) شرح جمل العلم والعمل / 148 .
4- (4) جامع المقاصد 4 / 35 .

المتعاقدین فلا یجوز أخذ الاُجرة علیه إجماعاً ، لأنّه من الواجبات الکفائیة ، وکذا باقی العقود»(1) .

وعلّق علی قوله : « والخُطبة فی الإملاک» بقوله : « الخُطْبة بالضم : ما اشتمل علی حمد اللّه والصلاة علی رسوله وآله صلوات اللّه علیهم ، والإملاک بکسر الهمزة : التزویج ، والزوج مملَکٌ بفتح اللاّم . وأما الخِطبة بکسر الخاء : فهو طلب المرأة من ولیّها ونحوه»(2) .

وعلّق علی قوله : « وتحرم الاُجرة علی الإمامة والشهادة» بقوله : « المراد إمامة الناس فی الصلوات من غیر فرق بین الواجبة والمندوبة ، ویجوز الإرتزاق من بیت المال . وأمّا الشهادة تحمّلاً وإقامةً فلأن-ّها من الواجبات إمّا العینیة أو الکفائیة»(3) .

وعلّق الشهید الثانی علی قول المحقق فی الشرائع : « ما یجب علی الإنسان فعله» . بقوله : « هذا هو المشهور بین الأصحاب ، وعلیه الفتوی . وذهب المرتضی إلی جواز أخذ الاُجرة علی ذلک لغیر الولیِّ ، بناءً علی اختصاص الوجوب به . وهو ممنوع ، فإنّ الوجوب الکفائی لا یختصّ به . وإنّما فائدة الولایة توقف الفعل علی إذنه ، فیبطل منه ما وقع بغیره ممّا یتوقف علی النّیة .

وخرج ب- « ما یجب فعله» من ذلک ما یستحبّ ، کتغسیله بالغسلات المسنونة من تثلیث الغُسل وغَسْل یدیه وفرجه ووَضوئه - علی القول بندبه - وتکفینه بالقطع المندوبة ، وحفر قبره قامة مع تأدّی الفرض بدونها ، ونقله إلی ما یدفن فیه مع إمکان دفنه فی القریب ، فإنّ أخذ الاُجرة علی ذلک کلّه جائز للأصل وعدم المانع ، خلافاً لبعض الأصحاب محتجّاً بإطلاق النهی»(4) .

وعلّق علی قوله : « أخذ الاُجرة علی الأذان حرام» بقوله : « هذا هو المشهور بین الأصحاب وعلیه العمل . وذهب المرتضی إلی جواز أخذ الاُجرة علیه ، تسویة بینها وبین

ص: 226


1- (1) جامع المقاصد 4 / 37 .
2- (2) جامع المقاصد 4 / 37 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 37 .
4- (4) المسالک 3 / 130 .

الإرتزاق . وهو متروک . والفرق بینهما أنّ الاُجرة تفتقر إلی تقدیر العمل والعوض وضبط المدّة والصیغة الخاصة ، وأمّا الإرتزاق فمنوط بنظر الحاکم ، لا یقدّر بقدر . ومحلّه من بیت المال ما اُعدّ للمصالح من خراج الأرض ومقاسمتها ونحوها . ولا فرق فی تحریم أخذ الاُجرة بین کونها من معیّن ومن أهل البلد والمحلّة وبیت المال .

وهل یوصف أذان آخذ الاُجرة بالتحریم فلا یعتدّ به ، أم یکون أخذ الاُجرة خاصة محرّماً ؟ نص بعض الأصحاب علی الأوّل ، ووجّهه العلامة فی المختلف بأنّ الأذان علی هذا الوجه لا یکون مشروعاً فیکون محرّماً ، وهو متجه . لکن یُشکل بأنّ النیة غیر معتبرة فیه ، والمحرّم هو أخذ المال لا نفس الأذان ، فإنّه عبادة أو شعار . وأمّا أخذ ما یعدّ للمؤذنین من أوقاف مصالح المساجد ونحوها فلیس باُجرة ، وإن کان مقدّراً وکان هو الباعث علی الأذان . نعم لا یثاب فاعله علیه إلاّ مع تمحّض إرادة القربة إلی اللّه تعالی به»(1) .

وعلّق علی قول المحقق « ولا بأس بأخذ الاُجرة علی عقد النکاح» بقوله : « أی علی مباشرة الصیغة من أحد الجانبین أو منهما ، فإنّ ذلک غیر واجب ، أمّا تعلیم الصیغة وإلقاؤها علی المتعاقدین فهو من باب تعلیم الواجب ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علیه . وکذا غیره من العقود . وأمّا الخُطبة - بالضم - بمعنی حمد اللّه تعالی والصلاة علی رسوله وذکر ما یناسب مقام العقد عنده ، و - بالکسر - بمعنی طلب الزوجة من نفسها أو ولیّها أو أقاربها ومحاورتهم فی ذلک ، فیجوز أخذ الاُجرة علیه أیضاً ، لأنّه لیس بواجب»(2) .

وقال المحقق الأردبیلی فی المقام : « الظاهر أنّه لا خلاف فی عدم جواز أخذ الاُجرة علی فعل واجب علی الأجیر ، سواء کان عینیّاً أم کفائیّاً ، فکأنّ الإجماع دلیله . وأیضاً إنّه لما استحقّ فعله للّه لغیر غرض آخر ، یحرم علیه فعله لذلک الغرض ویحرم الأجر علیه . هذا ظاهرٌ .

ولکن یرد علیه إشکال ، وهو : أنّ أکثر الصناعات واجب کفائیٌّ علی ما صرّحوا ،

ص: 227


1- (1) المسالک 3 / 131 .
2- (2) المسالک 3 / 132 .

فیلزم عدم جواز الأجر ، وکذا یحرم علی الطبیب أخذ الأجر لوجوب الطبابة کفائیّاً کالفقه ... فالتحقیق بحیث یستحقّ ببعضه الاُجرة دون البعض یحتاج إلی التأمل والدلیل .

ویمکن أن یقال : بعضها خارج بنصٍّ أو إجماع ، فکلّ ما دلّ علیه أحدهما یخرج ویبقی الباقی تحت التحریم ... »(1) .

وقال المحقق السبزواری : « ومن ذلک : (أی من المکاسب المحرّمة) ما یجب علی الإنسان فعله کتغسیل الموتی ودفنهم علی المشهور بین الأصحاب خلافاً للمرتضی ، حیث ذهب إلی جواز أخذ الاُجرة علی ذلک لغیر الولیّ ، بناءً علی اختصاص الوجوب بالولیّ ، وهذا لا یستقیم علی القول بالوجوب الکفائی . وأخذ الاُجرة علی المندوبات جائز علی المشهور خلافاً لبعض الأصحاب .

... المشهور بین الأصحاب حرمة أخذ الاُجرة علی الأذان ولا بأس بالرزق من بیت المال ، وذهب المرتضی إلی جوازها ولعلّ الأقرب الأوّل ... وهل یوصف أذان آخذ الاُجرة بالتحریم ؟ فیه قولان ، والقول بالتحریم إذا کان غرضه من الأذان منحصراً فی الاُجرة متّجه ، والظاهر أنّ أخذ ما یعدّ للمؤذنین من أوقاف مصالح المساجد ونحوها جائز لیس باُجرة ، ولا یثاب فاعله علیه إلاّ مع تمحّض إرادة القربة فی فعله .

... یجوز أخذ الاُجرة علی النکاح أی علی مباشرة الصیغة وکذا الخطبة»(2) .

قال الشیخ یوسف البحرانی : « المشهور فی کلام الأصحاب - من غیر خلاف یُعرف - أنّ تغسیل الموتی وتکفینهم ودفنهم والصلاة علیهم من الواجبات الکفائیة علی مَن علم بالموت مِنْ المسلمین ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علی شیءٍ من ذلک ... ونحن ... ذکرنا أنّ الخطابات الواردة من الشارع فی هذه المواضع إنّما توجهت إلی الولی بأن یفعل ذلک أو یأمر مَنْ یفعله ، إلاّ أن لا یکون للمیت ولیٌّ ، وعلی ما ذکرنا لا یتجه تحریم أخذ الاُجرة علی الإطلاق کما ذکروه ، وإن کان ظاهرهم الإتفاق علی ما نقلناه عنهم .

ص: 228


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 89 .
2- (2) الکفایة 1 / 444 و 443 .

إلاّ أنْ یقال : إنّه إذا أذن الولی وجب علیه حینئذ . وهو بعید ، لعدم الدلیل علیه ، فإنّا لم نقف لهم فی دعوی الوجوب الکفائی فی هذا المقام علی دلیل یُعتمد علیه من الأخبار ، ولیس إلاّ ظاهر اتفاقهم علیه»(1) .

وقال الوحید البهبهانی معلِّقاً علی قول الأردبیلی « وأیضاً لمّا استحقّ فعله للّه لغیر غرض آخر» بقوله : « ولأنّه إذا خوطب بفعل شیءٍ بعنوان الوجوب ، فالقول بأنّی لا أفعله إلاّ أن تعطونی أجراً عصیان ، کما لو قال : لا اُصلّی الظهر إلاّ کذلک . مع أنّه لا یصیر عمله ملکاً والأخذ حتّی یأخذ عوضه منه ، بل لا یخرج عن ملکه ، فکیف یأخذ العوض ، ویجمع بین العوض والمعوّض ؟ ! فلا معنی لکون ما یأخذ عوضاً ولا اُجرةً وأجراً وملکاً والأخذ تملّکاً .

... والحاصل أنّه لا فرق بین وجوب إعطاء الأعیان ووجوب إعطاء المنافع ، ولا بین الوجوب العینی والوجوب الکفائی ، ولا بین العبادات - وهی التی لا تصحّ إلاّ بالنیّة - وبین غیر العبادات - وهی التی تصحّ بغیر النیّة - فی أنّه إذا خوطب بفعله وثبت وجوب تحقّقه لا یجوز توقیفه علی أخذ الاُجرة ، فیکون الأخذ حراماً أیضاً لما عرفت ... »(2) .

قال سید الریاض معلّقاً علی قول المحقق فی المختصر « أخذ الاُجرة علی القدر الواجب من تغسیل الأموات وتکفینهم وحملهم ودفنهم» بقوله : « ونحوها الواجبات الاُخری التی تجب علی الأجیر عیناً أو کفایةً ، وجوباً ذاتیّاً ، بلا خلاف بل علیه الإجماع فی کلام جماعة ، وهو الحجة مع منافاته الإخلاص المأمور به کتاباً ، وأخرج بالذاتی التوصلی کأکثر الصناعات الواجبة کفایةً توصّلاً إلی ما هو المقصود من الأمر بها ، وهو انتظام أمر المعاش والمعاد ... »(3) .

قال الشیخ جعفر : « الخامس : ما یجب علی الإنسان فعله وجوباً مطلقاً أو مشروطاً بغیر العوض وقد تحقق شرطه ، لتعلّق ملک أو حقٍّ مخلوقی أو خالقی تحرم الاُجرة والجعل وسائر الأعواض علیه ، عینیّاً کان کصلاة الفریضة وصوم شهر رمضان أو کفائیّاً کتغسیل الموتی وتکفینهم وتحنیطهم والصلاة علیهم وحفر قبورهم ودفنهم وحملهم إلی محالّها ،

ص: 229


1- (1) الحدائق 18 / 212 و 211 .
2- (2) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 36 و 37 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 180 .

ونحوها ... »(1) .

أقوالهم فیه بلغ إلی أحد عشر قولاً

أقول : هذا مجمل کلمات القوم فی المقام ، وأنت تری أنّ أقوالهم فی التکسب بالواجبات بلغ إلی أحد عشر قولاً . فیظهر من الأقوال عدم وجود الإجماع فی المسألة .

الأوّل : المنع مطلقاً ، وقد مرّ عن الشهید الثانی أنّه هو المشهور بین الأصحاب وعلیه الفتوی(2) ، وعن المحقق الأردبیلی کأنّه إجماعیٌّ(3) .

الثانی : التفصیل المذکور عن فخر المحققین(4) بین التعبدیات والتوصلیات التی تکون بالنیة فلا یجوز أخذ الاُجرة بها ، وأما التوصلیات التی تکون بغیر النیة فیجوز أخذ الاُجرة علیها إلاّ ما نص الشارع علی تحریمه کالدفن .

الثالث : التفصیل الذی مرّ عن صاحب الریاض(5) بین الواجبات التی تجب علی الأجیر عیناً أو کفایةً وجوباً ذاتیّاً فلا یجوز ، وبین الواجبات الکفائیة التوصلیة کالواجبات النظامیة فیجوز .

الرابع : التفصیل المذکور عن صاحب مفتاح الکرامة(6) بین کلّ ما کان الغرض الأهمّ منه الآخرة إمّا بجلب نفع فیها أو دفع ضرر لا یجوز أخذ الاُجرة علیه ، وکلّ ما کان الغرض الأهمّ منه الدنیا سواء کان بجلب النفع أو دفع الضرر فإنّه یجوز أخذ الاُجرة علیه وإن کان قد یرجع بالأخرة إلی المهمات الدینیة باعتبار کونه وسیلة إلیها .

الخامس : ما حکاه فی البلغة عن جده فی المصابیح من التفصیل بین التعبدی منه والتوصلی ، فمنع فی الأوّل مطلقاً ، وفصّل فی الثانی بین الکفائی منه والعینی ، فجوّز فی الأوّل مطلقاً ، وفصّل فی الثانی بین ما کان وجوبه للضرورة أو لحفظ النظام ، فجوّز فی الأوّل ومنع فی

ص: 230


1- (1) شرح القواعد 1 / 279 .
2- (2) المسالک 3 / 130 .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 89 .
4- (4) إیضاح الفوائد 2 / 263 .
5- (5) ریاض المسائل 8 / 180 .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 305 .

الثانی مطلقاً ، سواء کان الواجب ذاتیّاً أم غیریّاً(1) .

السادس : ما نسب إلی السید المرتضی من الجواز فی الواجب الکفائی کتجهیز المیت ، وإن کان تعبدیّاً .

وفیه : الشریف المرتضی(2) مخالف فی الموضوع لا الحکم ، لأنّه ذهب إلی وجوب التجهیز علی الولی فقط ، ومع فقده یجب علی الغیر ، فإذا أمر الولیُّ الغیرَ یجوز له أخذ الأجرة لعدم وجوبه علیه . وتبعه صاحب الحدائق(3) وآیة اللّه السید علی البهبهانی الرامهرمزی المتوفی عام 1395 فی تعلیقته الفتوائیة علی الوسیلة(4) .

فانتساب القول إلی الشریف المرتضی غیر تام .

السابع : ما حکاه الشیخ الأعظم(5) من المصابیح عن فخر المحققین وجماعة من التفصیل بین العبادات والتوصلیات ، فلا یجوز فی الأوّل ویجوز فی الثانی .

الثامن : ما ذکره السید الیزدی(6) رحمه الله عن بعضهم من التفصیل بین الواجب الأصلی فلا یجوز والمقدِّمی فیجوز .

التاسع : ما یظهر من الشیخ الأعظم(7) من التفصیل بین العینی التعینی والکفائی التعبدی فلا یجوز ، وبین الکفائی التوصلی والتخییری التوصلی فیجوز ، والتردد فی التخییری التعبدی .

العاشر : جواز أخذ الاُجرة علی الواجب مطلقاً ، وهو مختار المحقق الخوئی(8) .

ص: 231


1- (1) نقل عن البلغة فی مصباح الفقاهة 1 / 460 .
2- (2) کما مر کلامه عن تلمیذه القاضی ابن البراج فی شرح جمل العلم والعمل / 148 .
3- (3) الحدائق 18 / 212 .
4- (4) الوسیلة 2 / 7 طبعت تعلیقته فی الهامش من منشورات مکتبة الصدر فی طهران .
5- (5) المکاسب 2 / 132 .
6- (6) حاشیة کتاب المکاسب 1 / 131 .
7- (7) المکاسب 2 / (137 - 134) .
8- (8) مصباح الفقاهة 1 / 460 .

الحادی عشر : قول السید الیزدی ، وهو « أنّ الوجوب بما هو وجوب لا یقتضی عدم جواز أخذ الاُجرة وإن کان تعبدیّاً عینیّاً ، نعم لو فرض استفادة المجانیّة من دلیله لا یجوز أخذ الاُجرة علیه ، ولا یبعد دعوی ذلک فی مثل تجهیز المیت ونحوه»(1) .

أقول : ونحو وجوب الإفتاء علی الفقیه مجانیّاً والقضاء علیه کذلک علی القول المختار . ویمکن إرجاع القولین الأخیرین إلی قول واحد ، ومع نفی ما نسب إلی المرتضی صار عدد الأقوال تسعة .

تبیین موضوع البحث وحکمه

الإجارة هی تملیک منافع العین المستأجرة للمستأجر بالعوض فی المدّة المعلومة . والکلام هنا - بعد الفراغ من الاُمور المعتبرة فی عقد الإجارة وما یلحق بها من الجعالة وإباحة المنفعة بالعوض ونحوهما - هل جهتی العبادة أو الوجوب مانعتان عن صحة عقد الإجارة أو ما شابهها ؟

قد یقال : إنّ حقیقة الإجارة هی تبدیل منفعة معلومة بعوض معلوم ، فلابدَّ من وصول المنفعة إلی المستأجر ، لأنّه الدافع للعوض المعلوم وإلاّ انتفت حقیقة الإجارة . وفی البلغة(2) : إنّ الإجارة بدون هذا الشرط سفهیة وأکل للمال بالباطل .

ولکن نقول : الإجارة لا تقتضی إلاّ دخول العمل فی ملک المستأجر ، وأمّا کون المنفعة راجعة إلیه فلا موجب له ، ألا تری أنّه یصح الإستیجار لکنس باب صدیق لصدیقه الآخر لمجرد وجود الصداقة بینهما . ومنعنا بطلان المعاملة السفهیة ، والصحیح بطلان معاملة السفیه ، لأنّه محجور عن التصرف فی أمواله . ومنعنا أیضاً سفهیة الإجارة فی جمیع الموارد ، فیمکن تعلق غرض صحیح فی بعض الموارد ، نحو : إظهار عظمة الإسلام وإخضاع العاصین والمتمردین . فعلی ما ذکرنا یصح عقد الإجارة ونحوها من الجعالة وغیرها علی الواجبات

ص: 232


1- (1) حاشیة کتاب المکاسب 1 / 131 .
2- (2) نقل عنه فی مصباح الفقاهة 1 / 461 .

والعبادات إذا تمت سائر الشروط المعتبرة فیهما ، والوجوب والعبادة لا تنافیان عقد الإجارة أو الجعالة فتشملهما عموماتهما .

نعم ، قد اُورد علیه بإشکال یظهر فی بادئ النظر ، وهو : أخذ الاُجرة ینافی قصد القربة والإخلاص المعتبر فی العبادات .

بتقریب : أنّ عقد الإجارة یوجب تغییر داعی الإخلاص فی العمل إلی داعی أخذ الاُجرة ، فیلزم من صحة الإجارة فساد العبادة .

وفیه : أولاً : إنّ هذا الإشکال لا یثبت دعوی عدم جواز أخذ الاُجرة علی مطلق الواجبات ، لأنّ الإشکال یجری فی العبادات فقط ، فیصح أخذ الاُجرة فی التوصلیات . وهکذا لا یختص بالواجبات العبادیة ، بل یجری فی المستحبات منها .

وثانیاً : لا تنافی بین قصد القربة والإخلاص وأخذ الأجرة ، والنسبة بینهما عموم وخصوص من وجه ، لأنّه یمکن أن یقصد القربة ویأتی بالعمل بداعی الإخلاص من دون أخذ الاُجرة ، ویمکن أن یأخذ الاُجرة ولم یأت بالعمل أصلاً أو لم یأت بالعمل مع قصد القربة والإخلاص ویمکن أن یجمع بینهما بأن یأتی بالعمل مع قصد القربة ویأخذ الأجرة أیضاً .

وثالثاً : لا تنافی بین وجوب الفعل علی المکلف ابتداءً وتعلق الوجوب به ثانیاً بعنوان وجوب الوفاء بالعقد ، وتعلق الوجوب الثانی یؤکد الإخلاص ولا ینافیه .

کما أشار إلی هذا الشیخ الأکبر فی شرحه علی القواعد(1) وتلمیذه فی الجواهر(2) ، ولکن یناقشه الشیخ الأعظم بالمناقشات الثلاث الآتیة .

ورابعاً : الإخلاص وقصد القربة لا تنافی مع المنافع الدنیویة والاُخرویة ، لأنّ جلّ الناس لو لا کلّهم یقصدون تلک المنافع والأغراض ومع ذلک تکون عبادتهم صحیحة عند المشهور المختار(3) ، وتدل علیه صحیحة هارون بن خارجة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : [ إنّ [

ص: 233


1- (1) شرح القواعد 1 / 279 .
2- (2) الجواهر 22 / 117 .
3- (3) خلافاً لشیخنا البهائی فی أربعینه / 225 حیث ذهب إلی بطلان العبادة إذا قصد بفعلها تحصیل الثواب أو الخلاص من العقاب . ونقل الفخر الرازی اتفاق المتکلّمین علی أنّ من عبد اللّه لأجل الخوف من العقاب أو الطمع فی الثواب لم تصح عبادته ، أورده عند تفسیر قوله تعالی : «ادْعُواْ رَبَّکُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْیَةً»[ سورة الأعراف / 55 ] راجع التفسیر الکبیر 14 / 134 . وجزم الفخر فی أوائل تفسیر الفاتحة 1 / 250 بأنّه لو قال : اُصلّی لثواب اللّه أو للهرب من عقابه فسدت صلاته . راجع فی هذا المجال حاشیة المکاسب / 53 و 54 لآیة اللّه المیرزا أبی الفضل النجم آبادی المتوفی عام 1385 ق .

العبّاد ثلاثة(1) : قوم عبدوا اللّه عزّ وجل خوفاً فتلک عبادة العبید ، وقوم عبدوا اللّه تبارک وتعالی طلباً للثواب فتلک عبادة الاُجراء ، وقوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلک عبادة الأحرار ، وهی أفضل العبادة(2) .

ومن تلک المنافع الدنیویّة ، أخذ الاُجرة ، فلا ینافی صحة العبادة .

الاشکالات الثلاثة من الشیخ الأعظم علی ما ذکره صاحبا شرح القواعد والجواهر وأجوبتها

الاشکال الأوّل : علی فرض تضاعف الوجوب بعقد الإجارة فی الواجبات فیصح بعنوان الاجارة ولکن لا یتضاعف بعقد الجعالة ، لإنّه لا یجب فیها العمل ، فحینئذ الأخذ فیها یکون منافیّاً للإخلاص المعتبر(3) .

وفیه : لو صح تضاعف الوجوب ولو بعنوان الوفاء بعقد الإجارة وتأکیده للإخلاص المعتبر فی العبادات ، فلازمه عدم منافاة الأخذ مع الإخلاص ، فحینئذ یکون أخذه بعنوان الجعالة أیضاً صحیحاً ولا تنافی بینه وبین الإخلاص .

نعم ، فی عقد الجعالة لا یتأکد الوجوب ، وعدم تأکده لا یضرّ بالإخلاص .

ص: 234


1- (1) وفی بعض النسخ : العبادة ثلاث .
2- (2) الکافی 2 / 84 ح 5 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 7 / 41 ح 9 .
3- (3) راجع المکاسب 2 / 127 للشیخ الأعظم قدس سره .

الاشکال الثانی : حدیث تضاعف الوجوب فی الإجارة کیف یصحح قصد القربة ؟ لأنّ وجوب الوفاء بالعقد وغیرها من المعاملات توصلیّ فکیف یوجب تأکد اشتراط قصد القربة فی العمل .

وإن ذهبت إلی أنّ تعدد الوجوب ولو مع الاختلاف فی التوصلیة والتعبدیة یؤکد الإخلاص فهو خلاف الوجدان ، لأنّه یقضی بأنّ العمل بدون الاُجرة تکون القربة فیه أخلص(1) .

وفیه : یظهر جوابه ممّا مرّ فی الجواب عن الإشکال الأوّل من أنّ حدیث تضاعف الوجوب یلزم عدم منافاة أخذ الاُجرة مع الإخلاص بالوجدان ، مضافاً إلی عدم الذهاب إلی تأکید الإخلاص ولو مع الاختلاف فی التوصلیة والتعبدیة ، وهذا الاحتمال ممّا یقطع بعدم إرادته کما عن السید الیزدی(2) قدس سره .

الإشکال الثالث : وجوب الوفاء بعقد الإجارة توصلیٌّ یسقط بالإتیان بذات العمل . نعم ترتب الثواب موقوف علی قصد القربة فیه ، وقصد أمر الشارع بالوفاء به بأنّه ملک للغیر . ولکن قصد القربة فی العبادات هی الإتیان بالفعل بما أنّه حقُّ للّه تعالی ، فلا یجتمع قصد القربة فی التوصلیّات مع قصد القربة فی التعبدیّات ، لأنّ الأوّل بما أنّه ملک للغیر وحقّ له ، والثانی بما أنّه ملک للّه وحقٌّ له . وهذه الإشکالات الثلاثة من الشیخ الأعظم(3) قدس سره .

وفیه : نعم ، وجوب الوفاء بالعقود فی المعاملات توصلیٌّ ولکن لا تنافی بین هذا الوجوب وقصد القربة ، هذا أولاً .

وثانیاً : ترتب الثواب علی الإتیان بالعمل فی التوصلیات منوط بقصد القربة وقصد أمر الشارع ولا یقیّد بأنّه ملک للغیر ، بحیث لو أتی به مع قصد القربة وقصد أمر الشارع بدون تقییده بأنّه ملک للغیر لکان مثوباً .

وثالثاً : یمکن اجتماع قصدی القربة فی التوصلیات بعد إلغاء ملکیة الغیر فیها ، وفی

ص: 235


1- (1) راجع المکاسب 2 / 127 للشیخ الاعظم قدس سره .
2- (2) راجع حاشیته علی المکاسب 1 / 134 .
3- (3) راجع المکاسب 2 / 127 .

التعبدیات أیضاً بعد إلغاء ملکیة اللّه له ، بل یکفی فی التعبدیات إضافة العمل إلی اللّه تعالی، أعنی یقصد المکلَّف أمر الشارع فی الوفاء بالمعاملة ویأتی بالعبادة مضافاً إلی اللّه تعالی . فلعمری لا أدری لماذا لا یجتمعان ؟ ! فلا تضرّ المعاملة بصحة العبادة . واللّه سبحانه هو العالم .

تصحیح العبادة المستأجرة

الوجه فی العبادة المستأجرة أمران :

أحدهما : النیابة ، وهی تنزیل الأجیر نفسه منزلة المنوب عنه . ونفس النیابة عن الغیر فی العبادات تعدّ من المستحبات النفسیّة التوصلیة ، لأنّها إحسان فی حقِّ المنوب عنه ، ویکون أخذ الاُجرة علی هذه النیابة والتنزیل .

ثانیهما : نفس العبادة وعمل النائب .

وعلی هذا یأخذ الأجیر الاُجرة فی قبال النیابة ویأتی بالعمل العبادی مع قصد القربة ، فتصح العبادة المستأجرة .

وقد ناقش شیخنا الاُستاذ - مدظله - فی هذا الاستدلال بقوله : « إن أراد أنّ تنزیل نفسه منزلة المنوب عنه فعل خارجی ، والصلاة مثلاً فعل آخر ولا یرتبط أحدهما بالآخر أصلاً ، وأنّ الإجارة فی موارد الاستیجار علی العبادة تقع علی الأوّل . فیردّه أنّ لازم ذلک فراغ ذمة الأجیر واستحقاقه المطالبة بالاُجرة بمجرد قصده النیابة ، أی اعتبار نفسه منزلة المنوب عنه ... .

وإن أراد أنّ الموجود خارجاً شیءٌ واحد ، غایة الأمر أنّ فیه جهتان وعنوانان :

أحدهما : متعلق الإجارة ولم یؤخذ فیه قصد القربة ، ثانیهما : ما اُخذ فیه قصدها ولکن لم تتعلق به الإجارة ... .

فلا یمکن المساعدة علیه :

أمّا أولاً : فلأنّ الاستیجار علی العبادة صحیح حتّی فیما إذا لم یقصد الأجیر النیابة بالمعنی المتقدم ، کمن یقضی ما علی المیت ویأتی بالعبادة إفراغاً لذمّته ... .

وأمّا ثانیاً : فلأنّ تعدد العنوان مع الإتحاد بحسب الوجود لا یفید فی رفع المنافاة

ص: 236

الموهومة بین أخذ الاُجرة علی العمل والإخلاص فیه ، وذلک فإنّ المطلوب فی العبادات والغرض منها لا یحصل إلاّ بکون الداعی إلی إیجادها أمر الشارع وطلبه ، فلابدَّ من تحقق العبادة بداعی أمر الشارع بها ، وإذا فرض الإتحاد خارجاً فکیف یکون ذلک الوجود مع أخذ الاُجرة علیه بداعی القربة»(1) .

أقول : أصل هذا الإشکال مأخوذ من السید الیزدی رحمه الله فی حاشیته علی المکاسب(2) . وحیث کان أصل الاستدلال من الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره فی مکاسبه(3) استجوده المحقق النائینی طاب ثراه فی تقریرات بحثه(4) ، وتعجّب من السید وأجاب عن إشکاله بقوله : « لم یدّعِ شیخنا الأنصاری أنّ الاُجرة بإزاء نفس قصد النیابة من دون العمل ، ولا أنّ الفعل من جهة واحدة قربی ویجوز أخذ الاُجرة علیها ، لما عرفت أنّ له جهتین ، والحامل علی العمل علی جهة النیابة وإن کان هو الاُجرة ، إلاّ أنّ الحامل له علی جهة المنوب عنه التی هی عبارة عن کونه بدلاً تنزیلیّاً له هو أمر اللّه سبحانه المتوجه إلی المنوب عنه .

وملخص الکلام : أنّه لو وقعت الاُجرة بإزاء إتیان ذات العمل ، أو بإزاء إتیان العمل بقصد القربة ، فهذا ینافی العبادیّة ، مضافاً إلی أنّه لا یسقط بهذا النحو من الإجارة ما هو الواجب علی المستأجر ، لأنّه لم یأت بداعی الأمر المتوجه إلی المنوب عنه ، بل بداعی الأمر الإجاری .

وأمّا لو وقعت الاُجرة بازاء إتیان العمل بأمره المتوجه إلی المنوب عنه بالأمر الأعمّ من المباشرة والاستنابة فهذا لا ینافی القربة المعتبرة فی العبادة ، لأنّه لم یُعتبر فی الأمر الإجاری القربة ، ولا وقعت الاُجرة فی طول داعی نفس العمل ... .

وبعبارة اُخری : الفعل إذا اعتبر فیه المباشرة فمعناه أنّه یجب أن تصدر هذه النتیجة من نفس الفاعل الذی تعلّق به التکلیف . وأمّا إذا لم یُعتبر فیه المباشرة فمعناه أنّ الجامع بین إیجاد

ص: 237


1- (1) ارشاد الطالب 1 / 285 و 284 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 135 .
3- (3) المکاسب 2 / 128 .
4- (4) منیة الطالب 1 / 54 .

غیره نائباً تبرعیّاً أو إجاریّاً وإیجاد نفسه متعلّق للتکلیف ، فإذا کان الجامع متعلّقاً للتکلیف ولم یجب علی الغیر الجهة الإصداریّة فله أن یؤجر نفسه بازاء اُجرةٍ لتحصیل ما هو واجب علی الغیر ، فلابدّ أن یقصد فی إیجاده نتیجة الفعل بفعله ، وقوعه عن الغیر لیستحقّ الاُجرة ولیسقط عنه ، فیترتب علی فعله أمران متغایران :

أحدهما : وقوع متعلّق الإجارة عنه ، وهذا لا یُعتبر فیه القربة ، لأنّ إیجاده العمل من حیث فعل نفسه لا یُعتبر فیه القربة .

وثانیهما : وقوع العمل عن الغیر ، لکونه فرداً من أفراد الجامع ، وبه یحصل فراغ ذمّته ، وبه یحصل التقرّب له ، وهذا معتبر فیه القربة ولکنّه للمنوب عنه لا للنائب»(1) . إنتهی کلامه .

أقول : وأنت خبیر بأنّ ما ذکره المحقق النائینی قدس سره مع تمامیته لا یندفع به الإشکال ، وهو أنّ الفعل الواحد - ولو مع تعدد العنوان - لا یخرج عن وحدته ، ومع الوحدة کیف یمکن أنْ یؤتی به مع قصد القربة وأخذ الاُجرة ، وإذا جاءت الاُجرة إرتفعت القربة . فالإشکال علی الشیخ الأعظم قدس سره وارد .

ثم استشکل الشیخ علی استدلال عدم جواز أخذ الاُجرة علی الواجبات العبادیة لأنها تنافی مع قصد القربة المعتبرة فیها بقوله : « فإن قلت : یمکن للأجیر أن یأتی بالفعل مخلصاً للّه تعالی ، بحیث لا یکون للإجارة دخل فی إتیانه فیستحقّ الاُجرة ، فالإجارة غیر مانعة عن قصد الإخلاص»(2) .

وبعبارة اُخری : یمکن أن یکون داعی الأجیر إلی العبادة أمر الشارع بها ، بحیث لو لا أمر الشارع وطلبه لم یأت بها أصلاً ، حتّی مع بذل الاُجرة علیها ، وإذا فُرض الإتیان بها والداعی إلیها أمرُ الشارع یحصل قصد القربة ویستحق الاُجرة ، ولا تنافی بین أخذ الاُجرة وقصد القربة .

وأجاب الشیخ عنه بقوله : « قلتُ : الکلام فی أنّ مورد الإجارة لابدّ أن یکون عملاً

ص: 238


1- (1) منیة الطالب 1 / 56 و 55 .
2- (2) المکاسب 2 / 128 .

قابلاً لأنْ یوفّی به بعقد الإجارة ، ویؤتی به لأجل استحقاق المستأجر إیّاه ومن باب تسلیم مال الغیر إلیه ، وما کان من قبیل العبادة غیر قابل لذلک»(1) .

وحاصل جوابه بتوضیح منّا : أنّ الإجارة لابدّ أن تتعلّق بما أمکن أنْ تدعو إلیه وتُبعث نحوه ، أی لابدّ من القدرة علی عنوان الوفاء بعنوان أنّه مال الغیر ، والعبادة لا تکون کذلک .

وبعبارة اُخری : الإجارة تستلزم أن یکون العمل بحیث یمکن الإتیان به بداعی أنّه ملک للمستأجر ، وفی العبادة لا تجری هذه الملازمة .

أقول : یمکن أن یناقش فی هذا الجواب بعدم اعتبار ذلک فی عقد الإجارة ، أعنی أنه لا یُعتبر فی عقد الإجارة أن یکون العمل بحیث أن یؤتی به لأجل استحقاق المستأجر إیّاه ومن باب تسلیم مال الغیر إلیه ، بل یکفی فیه أن یأتی الأجیر بذات العمل من دون أیُّ تقییدٍ أو قصدٍ ، ألا تری لو أتی الخیاط بالخیاطة المستأجرة ذاتها من دون تقیید بأنّ المستأجر یستحقه أو من باب تسلیم مال الغیر إلیه أو أنّه ملک للمستأجر ، ومن دون قصد هذه الاُمور - بمعنی أنّها یکون الداعی له نحو العمل وتحرّکه بالإتیان به ، بل یکفی الإتیان بذات العمل مع توصیفه بأنّه هو العمل المستأجر علیه . هذا أولاً .

وثانیاً : حتّی علی القول باعتبار هذه الحیثیّة أو القید فی عقد الإجارة یمکن أن یأتی به الأجیر فی العبادات ، لأنّه قد مرّ منّا عدم التنافی بین قصد القربة والإخلاص وأخذ الاُجرة واستحقاقها ، وعلی هذا یمکن للأجیر أن یأتی بالعمل المستأجر علیه والوفاء به .

وثالثاً : لو تنزّلنا مرّتین وقبلنا من الشیخ الأعظم قدس سره اعتبار هذا القید فی عقد الإجارة ، وعدم إمکان الإتیان به فی العبادات ، مع ذلک کلّه یمکن القول بصحة الإجارة ، لأنّ دلیل صحتها لا ینحصر بعموم «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(2) حتّی یستلزم عنوان الوفاء ذلک التقیید ، بل یکفی للحکم بالصحة عموم قوله تعالی : «تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ»(3) کما نبّه علیه المحقق

ص: 239


1- (1) المکاسب 2 / 129 .
2- (2) سورة المائدة / 1 .
3- (3) سورة النساء / 29 .

الإیروانی رحمه الله (1) .

ثمّ استشکل الشیخ ثانیاً علی استدلال عدم جواز أخذ الاُجرة علی العبادات للمنافاة بینها وبین قصد القربة المعتبرة فیها بقوله : « فإن قلت : یمکن أن یکون غایة الفعل التقرّب ، والمقصود من إتیان هذا الفعل المتقرَّب به استحقاق الاُجرة ، کما یؤتی بالفعل تقرّباً إلی اللّه ویُقصد منه حصول المطالب الدنیویة : کأداء الدین وسعة الرزق وغیرهما من الحاجات الدنیویة»(2) .

توضیحه : کما یمکن أن تکون الحوائج الدنیویة هی الباعث والمحرّک إلی الإتیان ببعض العبادات نحو : صلة الرحم والصدقة وصلاة اللیل والحج والعمرة ، کذلک أخذ الاُجرة یکون باعثاً علی الإتیان بالعمل العبادی مع قصد القربة .

وأجاب عنه بقوله : « قلت : فرق بین الغرض الدنیوی المطلوب من الخالق الذی یُتقرّب إلیه بالعمل ، وبین الغرض الحاصل من غیره وهو استحقاق الاُجرة ، فإن طلب الحاجة من اللّه تعالی سبحانه - ولو کانت دنیویّة - محبوب عند اللّه ، فلا یقدح فی العبادة ، بل ربّما یؤکّدها»(3) .

توضیح الجواب : الحاجة والغرض والاُجرة إذا کانت مطلوبةً من الشارع بلا فرق بین أن تکون دنیوّیةً أو اُخرویّةً ، لا تضرّ بالقربة والإخلاص ، وأمّا إذا کانت مطلوبة من غیره نحو استحقاق الاُجرة للأجیر فلا تجتمع مع قصد القربة .

أقول : یمکن أن یناقش فی الجواب : بأنّ غرض الأجیر من عمله العبادی هو استحقاق الاُجرة فی الشریعة وحکم الشارع به ، ولذا یأتی بالعبادة فی غیاب المستأجر أو بعد أخذ الاُجرة منه ، ولا یکون غرضه مجرد أخذ المال واستخلاصه من المستأجر لکی ینافی مع قصد القربة کما ذکره شیخنا الاُستاذ - مدظله(4) - وأضاف : « فتحصل ممّا ذکرنا أنّه لا منافاة بین

ص: 240


1- (1) راجع حاشیته علی المکاسب 1 / 281 .
2- (2) المکاسب 2 / 129 .
3- (3) المکاسب 2 / 129 .
4- (4) راجع إرشاد الطالب 1 / 287 .

العمل [ العبادی ] للآخر بالإستیجار ، وبین قصد القربة فی ذلک العمل ، سواء کان واجباً تعبدیّاً أو مستحبّاً کذلک ، ... بل بناءً علی ما ذکرناه فی الاُصول من أن قصد التقرب المعتبر فی العبادة لیس خصوص الفعل بداعی الأمر المتعلّق به ، بل مطلق إضافة العمل إلی اللّه سبحانه ، فتکون الصلاة علی میت بداعی استحقاق الاُجرة المقرَّرة بإزائها شرعاً عبادة ، لحصول القربة المعتبرة فیها بغرض [ وجود ] الداعی وهو استحقاق الاُجرة شرعاً . وعلی ذلک فلو لم یلتفت الأجیر إلی استحباب الصوم أو الصلاة عن المیت ، بل صام أو صلی بغرض استحقاقه شرعاً الاُجرة المقرَّرة لهما ، حکم بصحة عمله ووقوعها عبادة ، بلا حاجة إلی حدیث الداعی إلی الداعی لیقال أنّه لا یجری فی صورة الغفلة عن استحباب نفس العمل أو وجوبه کما لا یخفی »(1) .

استدلال الشیخ الأکبر فی عدم جواز أخذ الاُجرة علی الواجبات ونقده

قال الشیخ جعفر قدس سره : « لأنّ المملوک والمستَحَق لا یُمْلَک ولا یُسْتَحَق ثانیاً ، ولأنّ الإجارة لو تعلّقت به کان للمستأجر سلطان علیه فی الإیجاد والعدم علی نحو سلطان المُلاّک ، وکان له الإبراء والإقالة والتأجیل ، وکان للأجیر قدرة علی التسلیم . وفی الواجب یمتنع ذلک ، وهو فی العینی بالأصل أو بالعارض واضح .

وأمّا الکفائی : فلأ نّه بفعله یتعیّن له ، فلا یدخل فی ملک آخر ، ولعدم نفع المستأجر فیما یملکه أو یستحقّه غیره ، لأنّه بمنزلة قوله : « استأجرک لتملّک منفعتک المملوکة لک أو لغیرک » ، ولأنّ الظاهر عدم الدخول فی عمومات المعاملات فی الکتاب والسنة ، فیبقی علی أصل عدم الانتقال عن الحالة الأولی .

وأمّا ما کان واجباً مشروطاً فلیس بواجب قبل حصول الشرط ، فتعلّق الإجارة به قبله لا مانع منه ، ولو کانت هی الشرط فی وجوبه ، فکلّ ما وجب کفایة من حِرَف وصناعات لم یجب إلاّ بشرط العوض بإجارة أو جعالة أو نحوهما . فلا فرق بین وجوبها العینی للإنحصار

ص: 241


1- (1) إرشاد الطالب 1 / 287 .

ووجوبها الکفائی ، لتأخر الوجوب عنها وعدمه قبلها ، کما أنّ بذل الطعام والشراب للمضطر إن بقی علی الکفایة أو تعیّن یستحقّ فیه أخذ العوض علی الأصح ، لأنّ وجوبه مشروط بخلاف ما وجب مطلقاً ، بالإصالة کالنفقات أو بالعارض کالمنذورات ونحوها»(1) .

قال الشیخ الأعظم فی توضیح استدلاله فی الواجبات العینیة : « إنّ الذی یقابل المال لابدّ أنْ یکون کنفس المال ممّا یَمْلِکُهُ المؤجر حتی یُمَلِّکُه المستأجر فی مقابل تملیکه المال إیّاه ، فإذا فرض العمل واجباً للّه لیس للمکلف ترکه ، فیصیر نظیر العمل المملوک للغیر...»(2) .

ثمّ استشکل علیه تلمیذه صاحب الجواهر علی اُستاذه الشیخ الأکبر بقوله : « لا مانع من تعدد أسباب الوجوب ، کما یقضی به صحة نذر الواجب والحلف علیه وأمر الوالد والسید به . نعم هو کذلک بالنسبة إلی أسباب المِلْک ، ولا تعدد فیها هنا . والسلطان من حیث الإجارة بالإبراء والإقالة ونحوها متحقِّقٌ هنا ، والأجیر له قدرة علی التسلیم فی الواجبات التی تعتبر فیها النیّة ونفعها حاصل للغیر کأحکام الأموات ونذر خیاطة الثوب لزیدٍ مثلاً ونحو ذلک ، بل جواز أخذ الاُمّ الاُجرة علی إرضاع الولد اللّباء مع وجوبه علیها ، کاستحقاق أخذ العوض عمّا یدفعه للمضطر من المال وما یأخذه الوصی عوضاً عن عمله ، أوضح شاهد علی عدم منافاة صفة الوجوب للتکسب ، بل هو مقتضی القواعد والضوابط ... »(3) .

أقول : قوله قدس سره : « لا مانع من تعدد أسباب الوجوب» مأخوذ من اُستاده فی نفس الکتاب ، لأنّه ذهب إلی تأکّد القربة بتضاعف الوجوب(4) . ومنه یظهر القول بجواز تعدّد أسباب الوجوب أیضاً .

بل استدلال الشیخ جعفر یرجع إلی أنّ المعتبر فی المعاملات نحو الإجارة لابدّ للمؤجر أن یَمْلک مورد الإجارة حتّی یُمَلِّکه المستأجر ، إذا کان العمل واجباً للّه تعالی فلیس مملوکاً للمؤجر ، لأنّه لا یقدر علی ترکه شرعاً فلا تصح الإجارة کما یظهر هذا البیان من الشیخ

ص: 242


1- (1) شرح القواعد 1 / 279 الی 282 .
2- (2) المکاسب 2 / 130 .
3- (3) الجواهر 22 / 117 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 279 .

جعفر ، فما ذکره صاحب الجواهر - وإن کان صحیحاً فی نفسه - ولکن لم یردّ علی الاستدلال .

نعم ، یردّ علی الاستدلال ما ذکره الشیخ الأعظم بقوله : « لإمکان منع المنافاة بین الوجوب الذی هو طلب الشارع الفعل ، وبین استحقاق المستأجر له ، ولیس استحقاق الشارع للفعل وتملّکه المنتزع من طلبه من قبیل استحقاق الآدمی وتملّکه الذی ینافی تملّک الغیر واستحقاقه»(1) .

أقول فی توضیح کلام الشیخ : إنّ ملکیة المستأجر فی طول طلب الشارع واستحقاقه ، لأنّه استأجره للعمل الواجب علیه من اللّه بأن یأتی به للّه تعالی ، فهو - أی الأجیر - یأتی بالعمل الواجب للّه تعالی ثمّ یجعل ذلک العمل الذی یأتی به قربةً إلی اللّه تعالی للمستأجر ویملِّکه له حتّی یستحقَّ الاُجرة شرعاً ، فالإتیان بالفعل الواجب للّه تعالی أوّلاً ثمَّ تملیکه للمستأجر لا یتنافیان ، لأنّ الثانی فی طول الأوّل .

نعم ، إذا کانا فی عرض واحد لا یمکن اجتماعهما فی بعض الفروض ، نحو : إیجاد فعل واحد لشخصین أو نیابة عنهما فی زمان واحد . ولتفصیل هذا البحث راجع إلی حاشیة الفقیه الیزدی قدس سره علی المکاسب(2) .

وأمّا مناقشة المحقق الإیروانی فی کلام الشیخ الأعظم - وکذلک یردّ علی استدلال الشیخ الأکبر أیضاً - من نفی الکبری ، وهی أنّ المملوک لا یملک ثانیاً قال : « وأمّا نحن ننکر الأصل وننکر أن المملوک لا یملک ثانیاً ، بل یمکن أن تجتمع ملکیّتان عرضیّتان مستقلّتان علی مال واحد ، کما تجتمع أوصیاء متعدّدون ووکلاء متعدّدون علی مالٍ واحدٍ ، کلٌّ مستقل فی وصیته ووکالته»(3) .

غیر تام ، فتکون الکبری تامة ، لأنّ المملوک لا یملک ثانیاً . وما ذکره قدس سره بعنوان المثال لیس من قبیل المِلْک بل من قبیل السُلطة علی نحو الوکالة أو الوصایة علی مِلْکٍ واحدٍ . والملکیّة مرکبة من عقدین : إثباتی وسلبی :

ص: 243


1- (1) المکاسب 2 / 131 .
2- (2) حاشیته علی المکاسب 1 / 141 .
3- (3) الحاشیة علی المکاسب 1 / 283 للمحقق الإیروانی .

أمّا الإثباتی : فهو السلطنة علی التصرفات بلا مراجعة أحد ، وأمّا السلبی : فهو السلطنة علی منع الغیر من التصرف .

ونفی العقد السلبی من الإیروانی تحکّم ولم یدل علی کلامه دلیل(1) . مضافاً إلی أنّ المراد بالعقد الإثباتی هنا هو العقد الإثباتی الأصلی لا غیر الأصیل مثل الوکالة والوصایة ونحوهما .

والحاصل ، أنّ ما ذکره قدس سره فی نفی الکبری غیر تامّ.

وکذا لا ینقض علی استدلال الشیخ الأکبر قدس سره ببیع الکلّی فی الذمة ، لأنّ فیه - وإن یمکن عدم مالکیة البائع حین إنشاء العقد - ولکن له القدرة علی التسلیم وفاءً بالعقد بعد تملیک المبیع .

وکذا لایردّ علیه : بأنّ الحرّ یؤجر نفسه مع أنّه لا یملک عمله . لأنّ الحرّ له القدرة علی تسلیم العمل فی مدّة الإجارة ، ونفس القدرة تکفی فی صحة الإجارة أو المعاملة .

فالإشکال منحصر بما ذکره الشیخ الأعظم علی القسم الأوّل من الاستدلال .

وأمّا ما ذکره الشیخ جعفر فی الواجب الکفائی : فیرجع إلی أنّ المکلف إذا اشتغل بالواجب الکفائی یتعیّن له ، أی ترجع مصالحه وثوابه إلیه ، فتصیر منافعه إلیه . وما هذا شأنه من الإختصاص لا ینتقل إلی الغیر ، فلا تجوز الإجارة علیه .

وقد ناقش الشیخ الأعظم فیه بقوله : « منع وقوع الفعل له بعد إجارة نفسه للعمل للغیر ، فإنّ آثار الفعل حینئذ ترجع إلی الغیر ، فإذا وجب إنقاذ غریق کفایةً ، أو إزالة النجاسة عن المسجد ، فاستأجر واحدٌ غیره ، فثواب الإنقاذ والإزالة یقع للمستأجر دون الأجیر المباشر لهما .

نعم ، یسقط الفعل عنه ، لقیام المستأجر به ولو بالاستنابة ، ومن هذا القبیل الاستئجار للجهاد مع وجوبه کفایةً علی الأجیر والمستأجر »(2) .

والمناقشة فی محلّها .

ص: 244


1- (1) راجع حاشیته علی المکاسب 1 / 284 .
2- (2) المکاسب 2 / 131 .

وقد ناقش المحقق المیرزا محمد تقی الشیرازی قدس سره فی حاشیته علی استدلال الشیخ الأکبر بقوله : « إن اُرید بذلک (أی بأنّ الفعل متعیّن له) أّن الواجب الکفائی ممّا لا ینتفع به الغیر أصلاً انتفاعاً یصح باعتباره استیجاره فهو واضح المنع ، فإنّ من أوضح الفوائد سقوطه عن المؤجر إذا کان واجباً کفائیاً علیهما جمیعاً إلی غیر ذلک من الفوائد الکثیرة . وإن کان اُرید بذلک عدم إنتفاع الغیر بخصوص ثوابه فهو غیر مضرٍّ مع فرض ثبوت غیره من الفوائد التی یصح باعتباره الإجارة ... »(1) .

أقول : والحاصل ، الإشکال علی الشیخ جعفر قدس سره بأنّ الواجب الکفائی مع الإتیان به لا یتعیّن ولا یصیر واجباً عینیّاً ولا ینقلب من الکفائیة إلی العینیّة ، کما هو الواضح لمن راجع مصادیقه ، هذا أولاً .

وثانیاً : ترجع الفائدة إلی المستأجر فی الواجبات الکفائیة بسقوطه مِنْ ذمّته وإیصال الثواب إلیه .

وأمّا ما ذکره الشیخ الأکبر فی الواجب المشروط ، ذکره الشیخ الأعظم رحمهما اللّه بعنوان الوجه السادس من وجوه التفصّی عن إشکال الواجبات النظامیّة ویردّ علیه ب- : « أنّ وجوب الصناعات لیس مشروطاً ببذل العوض ، لأنّه لإقامة النظام التی هی من الواجبات المطلقة ، فإنّ الطبابة والفصد والحجامة وغیرها - ممّا یتوقف علیه بقاء الحیاة فی بعض الأوقات - واجبةٌ بُذل له العوض أم لم یبذل»(2) .

وحاصل إیراده : أنّ بعض الواجبات النظامیة واجبٌ مطلقاً ولو لم یبذل العوض فی مقابله ، فلا یصح أخذه بعنوان الواجب المشروط ، والإیراد فی محلّه إلاّ أن یحمل کلام الشیخ الأکبر « لم یجب إلاّ بشرط العوض»(3) علی الغالب ، فیدفع به الإیراد ، ولکنه خلاف ظاهر کلامه قدس سره ، واللّه العالم .

ص: 245


1- (1) حاشیته علی المکاسب 1 / 149 .
2- (2) المکاسب 2 / 140 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 281 .

بیان المحقق النائینی ونقده

ذکر المحقق النائینی فی مقدمة بحثه أمرین : الأوّل منهما - وهو مورد المناقشة - قال : « أن یکون العمل الذی یأخذ الأجیر أو العامل بإزائه الاُجرة والجُعل ملکاً له بأنْ لا یکون مسلوب الاختیار بإیجابٍ أو تحریمٍ شرعیٍّ علیه ، لأنّه إذا کان واجباً علیه فلا یقدر علی ترکه ، وإذا کان محرَّماً علیه فلا یقدر علی فعله . ویُعتبر فی صحة المعاملة علی العمل کون فعله وترکه تحت سلطنته واختیاره»(1) .

أقول : یمکن أن یناقش فی ما ذکره بأنّ المعتبر فی صحة المعاملة علی العمل تمکن الأجیر من تسلیم العمل الذی هو مورد المعاملة ، وإیجاب الفعل لا ینافی تسلیم العمل . نعم مع تحریم الفعل لا یمکن تسلیمه شرعاً ، وتمّ ما ذکره النائینی بالنسبة إلی التحریم فقط لا الوجوب ، وقد نبّه علی هذه المناقشة شیخنا الاُستاذ - مدظله(2) - .

والحاصل ، ظهر لک إلی هنا عدم التنافی بین وجوب شیءٍ وأخذ الاُجرة علیه ، کما تدلّ علیه أیضاً صحیحة هشام بن الحکم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عمّن تولّی مال الیتیم ما له أن یأکل منه ؟ فقال : ینظر إلی ما کان غیره یقوم به من الأجر لهم ، فلیأکل بقدر ذلک(3) .

وظاهر هذه الصحیحة أنّ الأکل أو الأخذ یصح بعنوان اُجرة المثل ، ولیس فقط مجرد تجویز الأکل من مال الیتیم .

وهکذا ظهر عدم التنافی بین قصد القربة وأخذ الاُجرة ، کما تدل علیه الروایات الکثیرة فی الحج النیابی ، منها : موثقة عمار بن موسی الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یأخذ الدراهم لیحجّ بها عن رجل ، هل یجوز له أن ینفق منها فی غیر الحج ؟ قال : إذا ضمن الحجّة فالدراهم له یصنع بها ما أحبّ وعلیه حجّة(4) .

ص: 246


1- (1) منیة الطالب 1 / 45 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 289 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 251 ح 5 . الباب 72 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 11 / 180 ح 3 . الباب 10 من أبواب النیابة فی الحج .

فراجع فی هذا المجال وسائل الشیعة 10 / 180 الباب 10 و 11 و 12 و 13 و 14 وغیرها من أبواب النیابة فی الحج .

وبالجملة ، حیث ذهبنا إلی جواز أخذ الاُجرة حتّی فی الواجبات العینیّة التعبدیّة لعدم تنافی قصد القربة مع أخذ الاُجرة کما مرّ مفصلاً ، فنحن فی فسحة من الإشکال المشهور فی الواجبات النظامیة حتّی إذا بلغت إلی حدِّ الوجوب العینی لجواز اُخذ الاُجرة علیها .

نعم ، لو ثبت فی مورد مجانیّة العمل فی الشرع الأقدس - نحو : وجوب الإفتاء أو القضاء علی الفقیه مجاناً - نأخذ به ، فلا یجوز حینئذ أخذ الاُجرة علیه .

هذا کلّه فی أخذ الاُجرة فی الواجبات .

أمّا المحرَّمات : فقد مرّ منّا عدم جواز أخذ الاُجرة علیها .

وأمّا المباحات والمکروهات والمستحبات فیجوز أخذ الاُجرة علیها ، وجوازها فی الاُولیین ظاهر وأمّا الأخیر حیث قد مرّ منّا عدم تنافی قصد القربة مع أخذ الاُجرة فی الواجبات فالأمر فی المستحبات سهلٌ .

وأمّا النیابة والإستیجار فی العبادات

الروایات المتواترة إجمالاً تدلّ علی أنّ النیابة عن المیت فی العبادات من المستحبات الشرعیة لجمیع الناس :

منها : صحیحة عمر بن یزید قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام [ أ ] یصلّی عن المیت ؟ فقال : نعم حتّی أنّه لیکون فی ضیق فیوسّع اللّه علیه ذلک الضیق ، ثم یؤتی فیقال له : خُفّف عنک هذا الضیق بصلاة فلان أخیک عنک . قال : فقلت له : فأُشرکُ بین رجلین فی رکعتین ، قال : نعم ، فقال علیه السلام : إنّ المیت لیفرح بالترحّم علیه والاستغفار له کما یفرح الحیُّ بالهدیّة تهدی إلیه(1) .

سند الصدوق إلی عمر بن یزید صحیح والرجل ثقة ، فالروایة صحیحة الإسناد ودلالتها علی استحباب النیابة عن المیت فی العبادات واضحة .

ص: 247


1- (1) الفقیه 1 / 183 ح 554 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 6 / 399 ح 4 .

ومنها : معتبرة بل صحیحة معاویة بن عمار الدهنی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیّ شیءٍ یلحق الرجل بعد موته ؟ قال : یلحقه الحج عنه والصدقة عنه والصوم عنه(1) .

رجال السند کلّهم ثقات من البرقی وأبیه ، وأبان بن عثمان الأحمر التمیمی إن لم یکن ثقة کان صحیح الروایة ، ومعاویة بن عمار الدهنی ثقة ، فالسند باعتبار صحة روایة أبان یکون معتبراً وباعتبار وثاقته یکون صحیحاً .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر سأل عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام : عن الرجل هل یصلح له أن یصلی أو یصوم عن بعض موتاه ؟ قال : نعم ، فیصلی ما أحبّ ویجعل ذلک للمیت ، فهو للمیت إذا جعل ذلک له(2) .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن جندب قال : کتبت إلی أبی الحسن موسی علیه السلام أساله عن الرجل یرید أن یجعل أعماله من الصلاة والبرّ والخیر أثلاثاً : ثلثاً له وثلثین لأبویه ، أو یفردهما من أعماله بشیءٍ ممّا یتطوع به بشیءٍ معلوم ، وإن کان أحدهما حیّاً والآخر میتاً . فکتب إلیَّ : أمّا للمیت فحسنٌ جائزٌ ، وأمّا للحی فلا إلاّ البرِّ والصلة(3) .

رجال السند کلّهم ثقات من الحمیری وأحمد بن محمد وابن محبوب وعبد اللّه بن جندب .

ومنها : خبر عمر بن یزید قال : کان أبو عبد اللّه علیه السلام یصلی عن ولده فی کلّ لیلة رکعتین ، وعن والدیه فی کلّ یوم(4) رکعتین ، قلت له : جعلت فداک وکیف صار للولد اللیل ؟ قال : لأنّ الفراش للولد . قال : وکان یقرأ فیهما إنا أنزلناه فی لیلة القدر ، وإنا أعطیناک الکوثر(5) .

ص: 248


1- (1) المحاسن 1 / 150 ح 166 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 6 / 399 ح 3 .
2- (2) مسائل علی بن جعفر / 199 ح 429 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 8 / 277 ح 2 .
3- (3) قرب الاسناد / 311 ح 1212 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 6 / 402 ح 22 .
4- (4) کذا فی جامع أحادیث الشیعة وهو الصحیح ، ولکن فی المطبوع من التهذیب لیلة وفی الجامع أشار بأنّ « لیلة » نسخة بدل .
5- (5) التهذیب 1 / 467 ح 178 ونقل عنه فی جامع أحادیث الشیعة 6 / 399 ح 5 .

الشیخ لم یذکر سنده إلی محمد بن عبد الحمید فی مشیخة التهذیب ، والسند المذکور فی الفهرست(1) ضعیف ، فالروایة من حیث السند ضعیفة .

والروایات فی هذا المجال متواترة إجمالاً کما مرّ ، فإنْ شئت راجع وسائل الشیعة 8 / 276 ومستدرک الوسائل 6 / 437 وجامع أحادیث الشیعة 6 / 398 .

وحیث ثبت بالروایات استحباب النیابة فی العبادات عن المیت ، بل عن الحیِّ فی بعض الموارد ، یجوز أخذ الاُجرة للإتیان بهذا الأمر الإستحبابی . نعم بعد عقد الإجارة یصیر واجباً علی الأجیر . وهذا أحسن الطرق لتصحیح العبادات المستأجرة . وله طرق اُخَر أغمضنا عن ذکرها روماً للاختصار(2) .

ثم إنّ هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها :

الفرع الأوّل : لو استؤجر لإطافة غیره هل یجوز احتساب الطواف لنفسه أم لا ؟

فی المسألة خمسة أقوال :

1 - القول بجواز الاحتساب مطلقاً ، وقد نُسب إلی الشرائع(3) والقواعد(4) علی إشکال فی الثانی ، وجم غفیر من الأصحاب(5) .

2 - عدم جواز الاحتساب مطلقاً ، وقد نسب إلی بعض الشافعیة(6) .

3 - عدم جواز الاحتساب عن نفسه إذا استؤجر للإطافة بغیره أو لحمله فی الطواف ، وقد نسبه الشیخ الأعظم إلی جماعة منهم الإسکافی(7) .

ص: 249


1- (1) الفهرست / 435 الرقم 690 .
2- (2) راجع فی هذا المجال مصباح الفقاهة 1 / 473 .
3- (3) الشرائع 1 / 233 .
4- (4) القواعد 1 / 411 .
5- (5) نسبه إلیهم المحقق الخوئی فی المصباح 1 / 477 وفی الثانی حکایة عن بعض الأعاظم .
6- (6) نسبه إلیهم المحقق الخوئی فی المصباح 1 / 477 .
7- (7) المکاسب 2 / 147 وأنت تجد قول الإسکافی فی المختلف 4 / 185 .

4 - التفصیل بین الاستیجار للطواف به وبین الاستیجار لحمله فی الطواف ، فلا یجوز الاحتساب فی الأوّل ویجوز فی الثانی . وهو مختار العلامة فی المختلف(1) .

5 - التفصیل بین ما إذا کان الحامل متبرعاً أو حاملاً بجعالة أو کان مستأجَراً للحمل فی طوافه أمکن أن یحتسب الطواف لنفسه أیضاً ، وأمّا لو کان مستأجراً للحمل مطلقاً فلم یحتسب ، لأنّ الحرکة المخصوصة قد صارت مستحقة علیه لغیره فلا یجوز صرفها إلی نفسه . وهذا التفصیل من الشهید الثانی فی المسالک(2) .

أقول : حیث أنّ الإطافة والحمل فی الطواف - ولو کانت بالإجارة أو الجعالة أو نحوهما - تکون غیر النیابة ، فلذا صح احتساب الطواف لنفسه مطلقاً فی صورة الإطافة ، سواء کانت بالإجارة أو الجعالة أو التبرع .

والمستأجر بعد عقد الإجارة یملک الإطافة أو الحمل فی الطواف فقط ، وقد حمله الأجیر ووفی بعقد الإجارة ، وأمّا الحامل والأجیر لو نوی الطواف وله شرائطه فقد تمّ طوافه ، ولیس للمستأجِر منعه بعقد الإجارة .

نعم ، لو آجره علی منع الإتیان بالطواف من قبله ، لو أتی بالطواف حینئذ صح طوافه أیضاً ولکن حیث لم یعمل بعقد الإجارة مع شرائطه لم یستحق اُجرة المسمی ولکن له اُجرة المثل .

فصحة الطواف واحتسابه لنفسه علی جمیع الفروض جاریة.

وتدلّ علی جواز الاحتساب فی صورة التبرع - الذی لا فرق بینه وبین صورتی الإجارة والجعالة کما صرح بعدم الفرق الفقیه الیزدی(3) وباطلاق الروایات حتّی تشمل الإجارة المحقق الخوئی(4) - عدّة من الروایات :

منها : صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی المرأة تطوف بالصبی

ص: 250


1- (1) مختلف الشیعة 4 / 186 .
2- (2) المسالک 2 / 177 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 155 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 478 .

وتسعی به ، هل یجزی ذلک عنها وعن الصبی ؟ فقال: نعم(1) .

ومنها : صحیحة هیثم بن عروة التمیمی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : رجل کانت معه صاحبة لا تستطیع القیام علی رجلها فحملها زوجها فی محمل فطاف بها طواف الفریضة بالبیت وبالصفا والمروة ، أیجزیه ذلک الطواف عن نفسه طوافه بها ؟ فقال : إیها اللّه إذا(2) .

قال صاحب الوسائل : معناه : أی واللّه یکون ذا ، فالهاء عوض عن واو القسم ، ذکره جماعة من النحویین واللغویین ، « وإیها » کلمة تصدیق وارتضاء ذکره جماعة أیضا ، وعلی تقدیر ثبوت واو القسم فالأمر أوضح(3) .

ومنها : صحیحة اُخری لهیثم بن عروة التمیمی(4) .

ومنها : صحیحة ثالثة لهیثم التمیمی(5) .

الفرع الثانی : هل یجوز أخذ الاُجرة علی الأذان أم لا ؟
اشارة

المشهور بین الأصحاب عدم الجواز ، وادعی الشیخ فی الخلاف(6) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(7) الإجماع علیه . ولکن حکی(8) عن المرتضی القول بالکراهة ، وتبعه الشهید فی الذکری(9) والسید محمد العاملی فی المدارک(10) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(11) والمجلسی فی

ص: 251


1- (1) وسائل الشعیة 13 / 395 ح 3 ، الباب 50 من أبواب الطواف .
2- (2) وسائل الشیعة 13 / 396 ح 4 .
3- (3) وسائل الشیعة 13 / 396 ذیل ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 13 / 395 ح 2 .
5- (5) وسائل الشیعة 13 / 395 ح 1 .
6- (6) الخلاف 1 / 290 .
7- (7) جامع المقاصد 4 / 36 .
8- (8) الحاکی هو المحقق فی المعتبر 2 / 133 والعلامة فی التذکرة 3 / 81 ، ولکن ثانی الشهیدین فی المسالک 3 / 131 حکی عنه القول بالجواز وتبعه السبزواری فی الکفایة 1 / 443 .
9- (9) ذکری الشیعة 3 / 223 .
10- (10) مدارک الأحکام 3 / 276 .
11- (11) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 92 .

بحار الأنوار(1) .

وأمّا العامة فقد ذهب أبو حنیفة وأحمد والأوزاعی إلی حرمة أخذ الاُجرة ، وأمّا الشافعی ومالک فقد ذهبا إلی الجواز کما نقل عنهم العلامة فی التذکرة(2) . فلابدَّ فی المقام من ملاحظة الروایات :

منها : معتبرة السکونی عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی علیه السلام قال : آخر ما فارقت علیه حبیب قلبی أن قال : یا علی ، إذا صلّیت فصلِّ صلاة أضعف مَنْ خلفک ، ولا تتّخذنَّ مؤذّناً یأخذ علی أذانه أجراً(3) .

ومنها : موثقة زید بن علی عن أبیه علیه السلام عن آبائه(4) علیهم السلام عن علی علیه السلام أنّه أتاه رجلٌ فقال : یا أمیر المؤمنین واللّه إنّی اُحبّک للّه ، فقال له : لکنّی أبغضک للّه ، قال : ولم ؟ قال : لأنّک تبغی فی الأذان ، وتأخذ علی تعلیم القرآن أجراً ، وسمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : مَنْ أخذ علی تعلیم القرآن أجراً کان حظّه یوم القیامة(5) .

ولکن فی نقل الصدوق : لأنّک تبغی فی الأذان کسباً وتأخذ علی تعلیم القرآن أجراً(6) .

أقول : قد عبّرنا عن هذه الروایة بالموثقة ولکن فی السند عبد اللّه بن المنبه فی مطبوعات التهذیب(7) والإستبصار(8) والوسائل(9) وهو مجهول ، فلابدَّ من القول بضعف

ص: 252


1- (1) بحار الانوار 81 / 161 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 3 / 81 .
3- (3) وسائل الشیعة 5 / 447 ح 1 . الباب 38 من أبواب الأذان والاقامة .
4- (4) الظاهر عن أبیه علیه السلام .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 157 ح 1 . الباب 30 من أبواب ما یکتسب به .
6- (6) وسائل الشیعة 5 / 447 ح 2 .
7- (7) التهذیب 6 / 376 ح 220 .
8- (8) الاستبصار 3 / 65 ح 2 .
9- (9) وسائل الشیعة 17 / 157 ح 1 .

السند به . ولکن الصحیح أنّ الوارد فی السند هو منبه بن عبد اللّه أبو الجوزاء الثقة بقرینة روایة الصفار عنه وهو عن الحسین بن علوان ، وعلی هذا صار سند الروایة موثقاً کما ذکرنا . وأوّل من تنبّه علی هذا التصحیح هو الشیخ محمد بن علی الأردبیلی رحمه الله صاحب جامع الرواة(1) وتبعه شیخنا الاُستاذ - مدظله -(2) .

ویؤید ما ذکرنا أنّ المحقق الأردبیلی یستشکل فی السند وقال : « الخبر لیس بصحیح لکون عمروبن خالد بتریّا ولمجهولیّة الحسین بن علوان»(3) ولم یتعرض لضعف الروایة بواسطة مجهولیّة عبد اللّه بن المنبه ، وهو الذی یتفق الکلّ علی أنّه مجهول ، وهذا البیان منه قدس سره یؤید الواقع فی سند الروایة فی النسخة الموجودة عنده هو منبه بن عبد اللّه . هذا کلّه فی السند .

وأمّا دلالتها بضمیمة نقل الصدوق الوارد فیه لفظة « الکسب » وما ورد فی صحیحة سیف التمار عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : لم یکن علی علیه السلام یکره الحلال(4) . علی الحرمة ، واضحة .

وحیث کان الأصل فی الروایة عدم الزیادة فلابدَّ من الأخذ بنقل الصدوق ومضافاً إلی صحیحة سیف التمار نستنتج الحرمة من الروایة .

ومنها : خبر العلاء بن سیّابة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا یصلّی خلف من یبتغی علی الأذان والصلاة الأجر ، ولا تقبل شهادته(5) .

فی طریق الصدوق إلی محمد بن مسلم راویان مجهولان ، وهما : علی بن أحمد بن عبد اللّه ابن أحمد بن أبی عبد اللّه ، وأبوه ، فالتعبیر بالصحیحة عن هذه الروایة - کما فی الریاض(6)

ص: 253


1- (1) جامع الرواة 1 / 513 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 301 .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 91 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 1 . الباب 15 من أبواب الربا .
5- (5) وسائل الشیعة 27 / 377 ح 2 . الباب 32 من أبواب الشهادات .
6- (6) ریاض المسائل 8 / 183 .

والمستند(1) - غیر تامٍّ ، ولعلّ سرّ تعبیرهما بالصحیحة عن الروایة لأنّهما وغیرهما یأخذون بظاهر کلام الصدوق فی أوّل الفقیه بأنّ کتابه « مستخرج من کتب مشهورة علیها المعوَّل وإلیها المرجع»(2) ، فذکر المشیخة والأسناد فی آخر الفقیه أشبه شی ءٍ بالتشریفات والتیمن والتبرک ، لأنّ الکتب المشهورة لا تحتاج إلی السند ، لاسیّما إذا کان لها سنداً صحیحاً عند الآخرین ، کما هو الأمر بالنسبة إلی الروایات أو کتاب محمد بن مسلم الثقفی .

وفیه : ما لا یخفی .

ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث طویل : ورأیتُ الأذان بالأجر والصلاة بالأجر ، الحدیث(3) .

ومنها : خبر الجعفریات بسنده عن علیّ علیه السلام أنّه قال : من السحت ثمن المیتة - إلی أن قال - : وأجر المؤذن ، إلاّ مؤذن یجری علیه من بیت المال(4) .

ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن علیّ علیه السلام أنّه قال : من السحت أجر المؤذن - یعنی إذا استأجره القوم یؤذن لهم - وقال : لا بأس بأن یجری علیه من بیت المال(5) .

هذه الروایات وإن کان سند بعضها ضعیفاً ولکن ینجبر ضعفها بعمل المشهور کما قال الشیخ جعفر : « والسند منجبر»(6) وقال سید الریاض : « المنجبر قصور سنده لو کان بالشهرة بین الأعیان»(7) ، فلابدَّ من الأخذ بها والإفتاء علی طبق المشهور بأنّ أخذ الاُجرة علی الأذان حرام .

ص: 254


1- (1) مستند الشیعة 14 / 183 .
2- (2) الفقیه 1 / 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 16 / 279 ح 6 .
4- (4) الجعفریات / 180 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 4 / 51 ح 1 و 13 / 117 ح 1 .
5- (5) دعائم الإسلام 1 / 147 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 4 / 51 ح 2 .
6- (6) شرح القواعد 1 / 286 .
7- (7) ریاض المسائل 8 / 185 .
تنبیهٌ

لو عصی المؤذن وأخذ الاُجرة علی الأذان أثم ولکن یؤخذ بأذانه الإعلامی أو الصلاتی ، ویمکن الإکتفاء بها فی الصلاة فرادی کانت أم جماعة ، لعدم تنافی قصد القربة مع أخذ الاُجرة کما مرّ ، والحرمة الوضیعة لا تسری إلی نفس الأذان حتّی تبطله ، فصح أذانه . وهذا هو المختار الأوّل للعلامة فی المختلف(1) ، ومال إلیه ثانی الشهیدین فی المسالک(2) ، وهو صریح جدنا الشیخ جعفر(3) قدس سره .

الفرع الثالث : حکم أخذ الأجرة علی الإمامة فی الصلاة

هل یجوز أخذ الاُجرة علی إمامة الصلوات التی تُعتبر فیها الجماعة نحو الجمعة أو الإستقساء ، أو لا تُعتبر فیها الجماعة نحو الصلوات الیومیة أو العیدین فی زمن الغیبة أم لا ؟

المشهور بین الأصحاب عدم جواز أخذ الاُجرة علی الإمامة ، کما علیه المفید فی المقنعة(4) وأبو الصلاح الحلبی فی الکافی(5) والشیخ فی النهایة(6) وابن البراج فی المهذب(7) وابن إدریس فی السرائر(8) والمحقق فی الشرائع(9) والنافع(10) ، والعلامة فی القواعد(11)

ص: 255


1- (1) مختلف الشیعة 5 / 18 .
2- (2) المسالک 3 / 132 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 288 .
4- (4) المقنعة / 588 .
5- (5) الکافی / 283 .
6- (6) النهایة / 365 .
7- (7) المهذب 1 / 345 .
8- (8) السرائر 2 / 217 .
9- (9) الشرائع 2 / 5 .
10- (10) المختصر النافع / 117 .
11- (11) قواعد الأحکام 2 / 10 .

والتحریر(1) والنهایة(2) والتذکرة(3) ، والشهید فی الدروس(4) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(5) وغیرهم فی غیرها .

ولکن ناقش المحقق الأردبیلی فی الحکم ب- « عدم ورود نصّ هنا علی ما رأیتُ»(6) .

وتبعه صاحب الحدائق وقال : « ولم یحضرنی الآن خبر فی هذا الحکم ، ومِنْ جملة مَنْ صرّح بذلک صاحب الوسائل ، مع أنّه لم یورد فی الباب ما یدلّ علیه ، وإنّما أحال علی ما قدّمه من أحادیث التظاهر بالمنکرات واختتال الدنیا بالدین وجهاد النفس . وفی استفادة الدلالة علی ذلک منها نظر ، لا سیما مع ورود الاستیجار علی العبادات ومشروعیته ، وکیف کان فالإحتیاط فیما ذکروه»(7) .

أقول : مراده من تصریح صاحب الوسائل عدم ذکره من الروایات ما یدلّ علی الحکم فی الباب الذی عقده تحت عنوانه ، وهو الباب 30 من أبواب ما یکتسب به فی وسائل الشیعة 17 / 157 ، ولکنّه قدس سره وإن لم یذکر ما یدلّ علی الحکم هناک ولکن أحاله بما تقدّم ویأتی کما هو دأبه فی کثیر من الأبواب .

وتدلّ علی الحکم عدّة من الروایات الماضیة :

منها : خبر العلاء بن سیّابة(8) وخبر محمد بن مسلم(9) ومعتبرة حمران(10) المذکورة فیما سبق .

وتدلّ علیه أیضاً أولویة عدم جواز أخذ الاُجرة علی الإمامة بالنسبة إلی عدم جواز

ص: 256


1- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 265 .
2- (2) نهایة الإحکام 2 / 474 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 148 .
4- (4) الدروس 3 / 173 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 37 .
6- (6) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .
7- (7) الحدائق 18 / 218 .
8- (8) وسائل الشیعة 27 / 377 ح 2 .
9- (9) وسائل الشیعة 27 / 378 ح 6 .
10- (10) وسائل الشیعة 16 / 279 ح 6 .

أخذ الاُجرة علی الأذان ، بحیث ما دلّ علی عدم جواز أخذ الاُجرة علی الأذان من الروایات نحو : معتبرة السکونی(1) وموثقة زید بن علی(2) الماضیتین وغیرهما تدلّ علیه أیضاً بطریق أولی ، لأنّ الأذان مقدمة للصلاة فإذا لم یجز أخذ الأجرة علی المقدمة کذلک الأمر بطریق أولی علی ذی المقدمة .

وقد اعترف جماعة من الأصحاب بدلالة الروایات الثلاث الاُوَل علی عدم جواز أخذ الاُجرة علی الإمامة ، نحو : الشیخ جعفر(3) وصاحب الریاض حیث یقول فی شأن روایة محمد بن مسلم : « وهو نص فی التحریم»(4) . والفاضل النراقی(5) ، وصاحب الجواهر(6) والفقیه الیزدی(7) .

وعلی هذا ینجبر ضعف سند الروایات بفتوی المشهور ودلالتها أیضاً تامة ، فینتج منها القول بعدم جواز أخذ الأجرة علی الإمامة .

وأمّا الذهاب إلی عدم جواز أخذ الاُجرة علی الإمامة لأجل التنافی بین قصد القربة وأخذ الاُجرة ، فقد مرّ منّا الإشکال فیه وعدم التنافی بینهما ، فلا یتمّ فی المقام ما ذکره الشیخ الأعظم(8) من التنافی بینهما ، والقاعدة التی ذکرها من أنّ « شرط العمل المستأجر علیه قابلیة إیقاعه لأجل المستأجر له حتّی یکون وفاءً بالعقد وما کان من قبیل العبادة غیر قابل لذلک »(9) .

ص: 257


1- (1) وسائل الشیعة 5 / 447 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 157 ح 1 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 293 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 183 .
5- (5) مستند الشیعة 14 / 186 .
6- (6) الجواهر 22 / 122 .
7- (7) حاشیة المکاسب 1 / 159 .
8- (8) المکاسب 2 / 151 .
9- (9) المکاسب 2 / 151 .

کلاهما غیر تامین عندنا ، وظهر ممّا مرّ المناقشة فیهما فلا نعیدها ، والحمد للّه .

الفرع الرابع : أخذ الاُجرة علی تحمّل الشهادة

تحمّل الشهادة من الواجبات عند المشهور من أصحابنا رضوان اللّه تعالی علیهم ،رفقد ذهب جماعة منهم إلی وجوبه العینی نحو : المفید(1) وأبی الصلاح الحلبی(2) وسلاّر الدیلمی(3) وابنی البراج(4) وزهرة(5) .

وذهب آخرون إلی الوجوب الکفائی نحو : الشیخ فی النهایة(6) والمبسوط(7) وابن الجنید(8) والمحقق(9) والعلاّمة(10) وولده(11) والشهید(12) .

ولکن ابن إدریس الحلی(13) ذهب إلی نفی الوجوب فی تحمّل الشهادة عیناً وکفایةً .

ویدلّ علی الوجوب عیناً قوله تعالی : «وَلاَ یَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ»(14) بضمیمة الروایات المفسّرة فی ذیلها :

ص: 258


1- (1) المقنعة / 728 .
2- (2) الکافی / 436 .
3- (3) المراسم / 234 .
4- (4) المهذب 2 / 560 .
5- (5) غنیة النزوع 2 / 441 .
6- (6) النهایة / 328 .
7- (7) المبسوط 8 / 186 .
8- (8) نقل عنه العلامة فی المختلف الشیعة 8 / 508 .
9- (9) شرائع الإسلام 4 / 138 .
10- (10) قواعد الأحکام 3 / 502 .
11- (11) إیضاح الفوائد 4 / 442 .
12- (12) الدروس 2 / 123 .
13- (13) السرائر 2 / 126 .
14- (14) سورة البقرة / 282 .

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجلّ : «وَلاَ یَأْبَ الشُّهَدَاء» قال : قبل الشهادة ، وقوله : «وَمَن یَکْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(1) قال : بعد الشهادة(2) .

ومنها : صحیحة أبی الصباح عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قوله تعالی : «وَلاَ یَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ» قال : لا ینبغی لأحدٍ إذا دُعی إلی شهادة لیشهد علیها أن یقول : لا أشهد لکم علیها(3) .

عبّرنا عن الروایة بالصحیحة مع ما فی سندها من محمد بن الفضیل المشترک بین الصیرفی الضعیف ومحمد بن قاسم بن الفضیل الثقة حیث نُسب إلی جده مع اشتراکهما فی الطبقة والمشایخ والراوی ، لأنّ الذی ینقل عنه کثیراً ما مشایخ الطائفة أمثال : الحسین بن سعید ومحمد بن إسماعیل بن بزیع وأحمد بن محمد بن عیسی ، هو محمد بن قاسم بن الفضیل الثقة کما نبّه علی هذا صاحب جامع الرواة(4) .

فلذا سند الروایة صار صحیحاً . مضافاً إلی أنّ الکلینی یذکر الروایة بسنده الصحیح وهی صحیحة الحلبی(5) .

ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجلّ : «وَلاَ یَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ» فقال : لا ینبغی لأحد إذا دُعی إلی شهادة لیشهد علیها أن یقول : لا أشهد لکم(6) .

رواها العیاشی فی تفسیره(7) مرسلاً عن زید بن یونس أبی أسامة الشحام المعروف

ص: 259


1- (1) سورة البقرة / 283 .
2- (2) وسائل الشیعة 27 / 309 ح 1 . الباب 1 من أبواب الشهادات .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 309 ح 2 .
4- (4) جامع الرواة 2 / 183 .
5- (5) وسائل الشیعة 27 / 310 ح 4 .
6- (6) وسائل الشیعة 27 / 310 ح 5 .
7- (7) تفسیر العیاشی 1 / 282 ح 526 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27 / 311 ح 10 عن یزید ابن أبی اُسامة ولکن الصحیح ما ضبطناه .

بزید الشحام .

ومنها : صحیحة محمد بن الفضیل عن أبی الحسن علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجلّ : «وَلاَ یَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ» فقال : إذا دعاک الرجل لتشهد له علی دَیْن أو حقٍّ لم ینبغ لک أن تقاعس عنه(1) .

تقاعس عن الأمر : تأخر .

وحیث أنّ الروایات تدلّ علی وجوب الإجابة عیناً إذا دُعی ، تعلیق الإجابة علی أخذ الاُجرة یعدّ نوعاً من الإباء المحرَّم ، فتحمّل الشهادة تکون من الواجبات المجانیّة .

وأمّا إقامتها : فواجبٌ کفائیٌ إجماعاً کما ذکره المحقق(2) والعلاّمة(3) والشهید(4) ، ویدلّ علیه قوله تعالی : «وَلاَ تَکْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن یَکْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِیمٌ»(5) وقوله تعالی : «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن کَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ»(6) وعدّة من الروایات :

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمَن یَکْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» قال : بعد الشهادة(7) .

ومنها : خبر جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من کتم شهادة أو شهد بها لیهدر بها دم امری ء مسلم ، أو لیزوی بها مال امری ء مسلم ، اُتی یوم القیامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر ، وفی وجهه کُدوح ، تعرفه الخلائق باسمه ونسبه ، ومن شهد شهادةً حقّ لیحیی بها حقّ امری ء مسلم ، اُتی یوم القیامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه

ص: 260


1- (1) وسائل الشیعة 27 / 310 ح 7 .
2- (2) شرائع الإسلام 4 / 138 .
3- (3) قواعد الأحکام 3 / 503 .
4- (4) الدروس 2 / 123 .
5- (5) سورة البقرة / 283 .
6- (6) سورة البقرة / 140 .
7- (7) وسائل الشیعة 27 / 312 ح 1 . الباب 2 من أبواب الشهادات .

ونسبه . ثمّ قال أبو جعفر علیه السلام : ألا تری أنّ اللّه عزّ وجلّ یقول : «وَأَقِیمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ»(1)(2) .

الکُدوح : الخدوش ، وقیل : هی أکبر من الخدوش .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ أبو جمیلة ، وهو مفضل بن صالح ، ولم یثبت توثیقه ولکن إن ذهبنا إلی حُسن حاله واعتباره - کما مال إلیه الوحید قدس سره علی ما فی منتهی المقال 6 / 308 - صار السند معتبراً .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی فیه عن کتمان الشهادة وقال : مَنْ کتمها أطعمه اللّه لحمه علی روؤس الخلائق ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «وَلاَ تَکْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن یَکْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(3) .

هذه الآیات الشریفة والروایات تدلّ علی وجوب إقامة الشهادة ، وحیث أنّ وجوبها مغیی بإقامة الحقّ فیصیر وجوبها کفائیاً ، وبعد إقامة الحقّ یسقط الوجوب . وهذا سرّ ذهاب الأصحاب إلی وجوبها الکفائی .

ویمکن القول بأنّ الشاهد إذا دُعی إلی التحمّل فأجاب یجب علیه الإقامة ، وأمّا إذا لم یدع إلی التحمّل ولکن اتفق له الشهادة فلا یجب علیه الإقامة ، إلاّ إذا کانت إقامة الحقّ منوطة بإقامته للشهادة فیجب علیه حینئذ . وتدلّ علی هذا التفصیل عدّة من الروایات :

منها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : إذا سمع الرجل الشهادة ولم یشهد علیها فهو بالخیار إن شاء شهد وإن شاء سکت(4) .

ومنها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا سمع الرجل الشهادة ولم یشهد علیها فهو بالخیار ، إن شاء شهد وإن شاء سکت . وقال : إذا أشهد لم یکن له إلاّ أن یشهد(5) .

ص: 261


1- (1) سورة الطلاق / 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 27 / 312 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 313 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 27 / 317 ح 1 . الباب 5 من أبواب الشهادات .
5- (5) وسائل الشیعة 27 / 318 ح 2 .

ومنها : صحیحة اُخری لمحمد بن مسلم أو موثقته عن أبی جعفر علیه السلام قال : إذا سمع الرجل الشهادة ولم یشهد علیها فهو بالخیار إن شاء شهد وإن شاء سکت ، إلاّ إذا علم مَن الظالم فلیشهد ، ولا یحلّ له إلاّ أن یشهد(1) .

وعلی ما ذکرنا حیث وجبت إقامة الشهادة تجب مجانّا ، لأنّ فی أخذ الاُجرة نوعاً من الکتمان أو لا أقل ینتهی فی بعض الموارد - وهی عدم إعطائه الاُجرة - إلی الکتمان المحرَّم ، فلذا أخذ الشارع المجانیّة فیها ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علیها .

ولذا أفتی جماعة من الأصحاب وصرحوا بمجانیّة الشهادة - تحمّلها وإقامتها - وعدم جواز أخذ الاُجرة علیها ، منهم : العلامة فی القواعد(2) والنهایة(3) والتذکرة(4) والشهید فی الدروس(5) والمحقق الکرکی فی جامع المقاصد(6) وغیرهم فی غیرها .

الفرع الخامس : ما المراد من الإرتزاق من بیت المال ؟

قد مرّ منّا کلام ثانی الشهیدین فی الفرق بین الاُجرة والإرتزاق من بیت المال ، قال قدس سره : « والفرق بینهما أنّ الاُجرة تفتقر إلی تقدیر العمل والعوض وضبط المدّة والصیغة الخاصة ، وأمّا الارتزاق فمنوط بنظر الحاکم ، لا یقدَّر بقدر ، ومحلّه من بیت المال ما اُعدّ للمصالح من خراج الأرض ومقاسمتها ونحوهما . ولا فرق فی تحریم أخذ الاُجرة بین کونها من معیّن ومن أهل البلد والمحلّة وبیت المال»(7) .

والمقدس الأردبیلی ذکر کلامه ثمّ اعترض علیه بقوله : « هذا یُشعر بأنّ کلّما لم یشتمل

ص: 262


1- (1) وسائل الشیعة 27 / 318 ح 4 .
2- (2) القواعد 2 / 10 .
3- (3) نهایة الإحکام 2 / 474 .
4- (4) تذکرة الفقهاء 12 / 148 .
5- (5) الدروس الشرعیة 3 / 173 .
6- (6) جامع المقاصد 4 / 37 .
7- (7) المسالک 3 / 131 .

علی القیود المذکورة فی الاُجرة لا یکون حراماً ویکون ارتزاقاً وأنّها لا تکون عن بیت المال .

وفیه تأمل : لأنّ الظاهر أنّ المراد من الأجر هاهنا ما یؤخذ من غیر ما ذکرناه لفعله الأذان بحیث لو لم یکن ، لم یفعل ، بأن قیل له : نعطیک کذا وکذا لتؤذّن ، وهو یؤذّن لذلک ، سواء عیّن المدّة والاُجرة بحیث لا یقبل الزیادة والنقیصة أصلاً أم لا ، وسواء وقع الصیغة المخصوصة العربیّة أم لا ، وسواء کان من بیت المال وغیره ومن شخص معیّن أو قریة أو بلد أم لا . لأنّ الظاهر أنّه یُسمّی ذلک أجراً حینئذ فیشمله دلیله . ولأنّ المتبادر من الأجر فی أمثال هذا المقام ذلک . ولأنّ الظاهر أنّ الحکم هنا لا یتغیّر بالصیغة والتعیین وعدمهما ، بل بالشرط والقصد مع عدم تعیّنه فی نفس الأمر للمؤذنین وعدم حصوله إلاّ بالأذان وعدمهما ، فتأمل»(1) .

وتبع صاحب الحدائق(2) الأردبیلیَّ فی المقام .

ذکر سید الریاض أوّلاً تعریف الأردبیلی ثمّ تعریف الشهید الثانی فی الفرق بینهما ثمّ قال : « وفی هذا الفرق نظر ، بل الأوّل أولی وأظهر ، والأمر سهلٌ لمَنْ تدبّر»(3) .

وقال فاضل النراقی : « المراد بالإرتزاق منه : أن یعطیه الحاکم منه وإن کان لکونه مؤذّناً ، بل وإن ارتزق منه للأذان ویکون ذلک من جهة أذانه ، ولکن لا یجوز الأذان لذلک بأن یوقفه علیه ویؤذّن لذلک ، لصدق الأجر المحرَّم بالأخبار علیه لغةً وعرفاً وإن لم یکن فیه ولا فی المدّة والعمل تقدیر ولم یجر صیغة .

فالتفرقة بین الارتزاق والأجر بعدم التقدیر والصیغة فی الأوّل - کما فی المسالک - غیر صحیح ، بل الصحیح فی الفرق ما ذکرنا»(4) .

أقول : الاُجرة لغة وعرفاً ما یقابل العمل وتوقف العمل علیها کما فی الریاض(5) ، وغالباً - لا دائماً - تحتاج إلی تقدیر العمل والعوض وضبط المدّة والصیغة الخاصة کما فی

ص: 263


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 92 .
2- (2) الحدائق 18 / 215 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 185 .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 185 .
5- (5) ریاض المسائل 8 / 184 .

المسالک(1) ، بحیث لو لم یعمل لم تعط له الاُجرة ولو أتی بالعمل تعطی له الاُجرة .

وأمّا الارتزاق : أن یعطی الحاکمُ العاملَ مصارفه ومخارجه بقدر الکفاف والعفاف أو الأکثر ، ولا یقدّر بالفقر وعدم إمکان الاکتساب ، بل أنّ « المتصدین لهذه الأعمال من جملة مصارف بیت المال فی عرض الفقیر» کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(2) .

هذا هو الفارق بین الارتزاق والاُجرة ، وقد عرفتَ عدم اعتبار قصد العامل والتعیین وعدمه ، فی الفرق بینهما .

ص: 264


1- (1) المسالک 3 / 131 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 301 .

خاتمةٌ: تشتمل علی مسائل

اشارة

ص: 265

ص: 266

الأولی : بیع المصحف

اشارة

(1)

المشهور بین أصحابنا حرمة بیع المصحف ، وإلیک نصوص کلماتهم :

نصوص کلمات الأصحاب

1 - قال الشیخ الطوسی : « ولا بأس بشراء المصاحف وبیعها والتکسّب بها ، غیر أنّه لا یجوز أن یبیع المکتوب ، بل ینبغی له أن یبیع الجلد والورق . وأمّا غیرها من الکتب فلا بأس ببیعها وشرائها بالإطلاق»(2) .

2 - وعدّ ابن إدریس الحلّی فی المکاسب المحرّمة : « بیع المصاحف إذا کان ذلک فی المکتوب»(3) .

3 - وقال العلامة فی القواعد : « ویحرم بیع المصحف ، بل یباع الجلد والورق ، ولو اشتراه الکافر فالأقرب البطلان ، ویجوز أخذ الاُجرة علی کتابة القرآن»(4) .

4 - وقال فی التحریر : « یحرم بیع المصحف ویجوز بیع الجلد والورق ، لا بیع کلام اللّه تعالی ، ولو اشتری المصحف وعقد البیع علی الجلد والورق جاز وإلاّ حرم کالبیع ، ولو اشتری الکافر مصحفاً لم ینعقد البیع . وقال بعض أصحابنا : یجوز ویجبر علی بیعه . ویجوز أخذ الاُجرة علی کتابة القرآن »(5) .

ص: 267


1- (1) وفی القاموس 3 / 161 أنّه مثلث المیم ، وفی المصباح المنیر / 334 ومجمع البحرین 5 / 78 أنّ الضم أشهر ، ونقل الصغانی عن تغلب أنّ الفتح لغة صحیحة فَصِیحَة ، کذا فی مفتاح الکرامة 12 / 275 . وفیه أیضاً : المصحف جمع صحیفة ، والصحیفة قطعة من جلد أو قرطاس کتب فیها .
2- (2) النهایة / 368 .
3- (3) السرائر 2 / 218 .
4- (4) قواعد الاحکام 2 / 9 .
5- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 مسألة 3022 .

5 - وقال فی التذکرة : « یحرم بیع المصحف ، لما فیه من الإبتذال له وانتفاء التعظیم ، بل ینبغی أن یبیع الجلد والورق . ثمّ ذکر الحدیثین فی المقام وقال : ولا بأس بأخذ الاُجرة علی کِتْبة القرآن ... »(1) .

6 - وقال فی نهایته : « بیع المصحف وشراؤه حرام ، بل یباع الجلد والورق ، لمنع الصحابة منه ولم یعلم لهم مخالف ، ولأنّه یشتمل علی کلام اللّه فیجب صیانته عن البیع والإبتذال . ثمّ ذکر حدیثاً وقال : والشراء أسهل من البیع ، لأنّه استنقاذ للمصحف وبذل ماله فیه . ویجوز أخذ الاُجرة علی کتابة القرآن لأنّها منفعة مباحة ، فجاز أخذ العوض علیها . نعم یحرم نقشه بالذهب»(2) .

7 - وقال الشهید فی الدروس : « ویحرم بیع خط المصحف دون الآلة ، ولا یحرم بیع کتب الحدیث والعلم المباح »(3) .

8 - وذیّل المحقق الثانی قول العلامة فی القواعد « ویحرم بیع المصحف» بقوله : « للنصوص فی الکتاب والسنة »(4) .

9 - وقال صاحب الحدائق : « صرح جملة من الأصحاب بأنّه لا یجوز بیع المصحف ، وإنّما یباع الورق والجلد ونحوهما من الآلات التی اشتمل علیها ذلک الکتاب . وعلیه تدلّ الأخبار المکثرة ... »(5) .

10 - وقال الشیخ جعفر علیه السلام : «ویحرم بیع ما دخل فی رسم المصحف - مثلّث المیم - وکتابته ، جوهریّة أو عرضیة من کلمات وحروف ومدّات وشدّات ، مجتمعات أو متفرّقات ، ولو فی ورقات متفردات للدخول تحت الإسم أو القطع بشمول الحکم من کلّ ما یُسمّی کتابة قرآن والمعاوضة علیها ، مستقلاّت أو منضمّات إلی جلد أو ورق أو نحوهما . وکذا رسم أسماء

ص: 268


1- (1) تذکرة الفقهاء 12 / 145 مسألة 651 .
2- (2) نهایة الإحکام 2 / 472 .
3- (3) الدروس الشرعیة 3 / 165 .
4- (4) جامع المقاصد 4 / 33 .
5- (5) الحدائق 18 / 218 .

اللّه وصفاته الخاصة فی وجه قویّ . وما دخل من الآیات فی بعض الکتب ، وباقی الکتب السماویة ، وکتب الحدیث وغیرها ، لا یجری فیه الحکم»(1) .

وفی قبال هذا القول ، قول بالکراهة ، وقد ذهب إلیه المحقق السبزواری فی الکفایة حیث یقول : « ... فإذن غایة ما یُستفاد من الأخبار الکراهة»(2) .

وتبعه العلامة السید مهدی بحر العلوم الطباطبائی فی مصابیحه کما نقل عنه صاحب الجواهر(3) واختاره ، وتبعهم تلمیذ صاحب الجواهر الفقیه السید علی آل بحر العلوم(4) ، والمحققون الإیروانی(5) والخوئی(6) والأردکانی(7) وشیخنا الاُستاذ(8) - مدظله - .

والعمدة فی المقام ملاحظة الأدلة ، وهی الروایات وهنّ علی الطائفتین :

الطائفتان من الروایات
الطائفة الأولی : تدل علی حرمة بیعه

منها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن بیع المصاحف وشرائها ؟ فقال : لا تشتر کتاب اللّه ، ولکن اشتر الحدید والورق والدفتین ، وقل : أشتری منک هذا بکذا وکذا(9) .

ومنها : معتبرة عبد الرحمن بن سیابة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته یقول : إنّ المصاحف لن تشتری ، فإذا اشتریت فقل : إنّما اشتری منک الورق ، وما فیه من الأدیم وحلیته

ص: 269


1- (1) شرح القواعد 1 / 264 .
2- (2) الکفایة 1 / 445 .
3- (3) الجواهر 22 / 128 .
4- (4) برهان الفقه - کتاب التجارة / 52 .
5- (5) حاشیة المکاسب 1 / 304 .
6- (6) مصباح الفقاهة 1 / 485 .
7- (7) غنیة الطالب 1 / 245 .
8- (8) إرشاد الطالب 1 / 307 .
9- (9) وسائل الشیعة 17 / 158 ح 2 . الباب 31 من أبواب ما یکتسب به .

وما فیه من عمل یدک بکذا وکذا(1) .

الأدیم : الجلد المدبوغ . وفی نسخة الأدم : وهو باطن الجلد وظاهره .

ولکن فی المطبوع من الکافی 5 / 121 ح 1 عبد الرحمن بن سلیمان بدل عبد الرحمن بن سیابة وهو (ابن سلیمان) مجهول ، ولذا صار السند به ضعیفاً .

ومنها : موثقة بل صحیحة عثمان بن عیسی قال : سألته عن بیع المصاحف وشرائها ؟ فقال : لا تشتر کلام اللّه ، ولکن اشتر الحدید والجلود والدفتر ، وقل : أشتری هذا منک بکذا وکذا(2) .

الروایة مضمرة ، ولکن لا بأس بإضمارها لأنّ مضمره عثمان بن عیسی وهو من الفقهاء وأصحاب الإجماع الذین لا یروون إلاّ من الإمام المعصوم علیه السلام . مضافاً إلی أنّ الکلینی رواها فی الکافی الشریف 5 / 121 ح 2 عن العدة عن أحمد بن محمد عن عثمان بن عیسی عن سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، فالسند موثق ولیس فیه إضمارٌ .

ومنها : خبر عبد اللّه بن سلیمان ومضمرته قال : سألته عن شراء المصاحف ؟ فقال : إذا أردت أن تشتری فقل : أشتری منک ورقة وأدیمه وعمل یدک بکذا وکذا(3) .

ومنها : حسنة جراح المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی بیع المصاحف ، قال : لا تبع الکتاب ولا تشتره ، وبع الورق والأدیم والجلد(4) .

ومنها : خبر سماعة بن مهران قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : لا تبیعوا المصاحف فإنّ بیعها حرام . قلت : فما تقول فی شرائها ؟ قال : اشتر منه الدفتین والحدید والغلاف ، وإیّاک أن تشتری منه الورق وفیه القرآن مکتوب فیکون علیک حراماً وعلی من باعه حراماً(5) .

والسند ضعیف بأبی عبد اللّه الرازی ، وهو محمد بن أحمد الجامورانی ، ضعّفه القمیون

ص: 270


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 158 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 158 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 159 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 159 ح 7 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 160 ح 11 .

واستثنوه من کتاب نوادر الحکمة ، وفیه الحسن بن علی ابن أبی حمزة وهو واقف ابن واقف وضعیف . وإن کان فی السند أبوه کما فی المطبوع من التهذیب 7 / 231 فضعفه ظاهر . فالتعبیر عن الروایة بالموثقة کما عن الشیخ الأعظم(1) والمحقق الإیروانی(2) ، غیر تام ، کما نبّه علیه المحققون الخوئی(3) قدس سره والروحانی(4) وشیخنا الاُستاذ(5) - مدظلهما - .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : لا بأس أن یکتب بأجرٍ ، ولا یقع الشراء علی کتاب اللّه ، ولکن علی الجلود والدفتین ، یقول : أبیعک هذا بکذا(6) .

الطائفة الثانیة : تدل علی جواز بیعه
اشارة

منها : خبر روح بن عبد الرحیم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن شراء المصاحف وبیعها ؟ فقال : إنّما کان یوضع الورق عند المنبر ، وکان ما بین المنبر والحائط قدر ما تمر الشاة أو رجل منحرف ، قال : فکان الرجل یأتی فیکتب من ذلک ، ثمّ إنّهم اشتروا بعد . قلت : فما تری فی ذلک ؟ فقال لی : أشتری أحبّ إلیّ من أن أبیعه ، قلت : فما تری أن أعطی علی کتابته أجراً ؟ قال : لا بأس ، ولکن هکذا کانوا یصنعون(7) .

دلالة الروایة علی جواز البیع واضحة ، ولکن فی سندها غالب بن عثمان وهو ضعیف ، فالتعبیر عن الروایة بالموثقة کما فی الإرشاد(8) غریب .

ص: 271


1- (1) المکاسب 2 / 155 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 303 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 484 .
4- (4) منهاج الفقاهة 2 / 287 .
5- (5) إرشاد الطالب 1 / 305 .
6- (6) دعائم الإسلام 2 / 19 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 118 ح 1 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 158 ح 4 .
8- (8) إرشاد الطالب 1 / 306 و 307 .

ومنها : خبر عنبسة الوراق قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام فقلت : أنا رجل أبیع المصاحف ، فإن نهیتنی لم أبعها ، فقال : ألستَ تشتری ورقاً وتکتب فیه ؟ قلت : بلی واُعالجها ، قال : لا بأس بها(1) .

دلالتها علی جواز بیع المصحف واضحة ، ولکن سندها ضعیف بسابق السندی وهو مهمل ، وعنبسة الوراق وهو مجهول .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن بیع المصاحف وشرائها ؟ فقال : إنّما کان یوضع عند القامة والمنبر ، قال : کان بین الحائط والمنبر قید ممرّ شاة ورجل وهو منحرف ، فکان الرجل یأتی فیکتب البقرة ویجیء آخر فیکتب السورة کذلک کانوا ، ثمّ إنّهم اشتروا بعد ذلک ، فقلت : فما تری فی ذلک ؟ فقال : أشتریه اُحبّ إلیَّ من أن أبیعه(2) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن علی علیه السلام أنّه قال : لا بأس ببیع المصاحف وشرائها(3) .

مقتضی اُصول الفقاهة الجمع بین الطائفتین بحمل الروایات المانعة علی الکراهة حیث ورد الترخیص ، ولذا أفتی بالکراهة جمع من الأصحاب کما مرّ .

مضافاً إلی أنّ فی الروایات المانعة قرینة داخلیة تدلّ علی حملها علی الکراهة ، وهی الأمر الوارد فیها بالشراء بعد النهی عنه ، ونفس هذا التعبیر قرینة قطعیة علی حمل الروایات المانعة علی الکراهة .

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة إشکال الشیخ الأعظم علی دلالة روایتی أبی بصیر وروح بن عبد الرحیم علی جواز بیعه ، حیث یقول : « لکن الإنصاف أنْ لا دلالة فیها علی جواز اشتراء خط المصحف ، وإنّما تدلّ علی أنّ تحصیل المصحف فی الصدر الأوّل کان بمباشرة کتابته ، ثمّ قصرت الهمم فلم یباشروها بأنفسهم ، وحصّلوا المصاحف بأموالهم شراءً واستیجاراً ، ولا دلالة فیها علی کیفیة الشراء ، وأنّ الشراء والمعاوضة لابدّ أن لا یقع إلاّ علی ما

ص: 272


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 159 ح 5 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 160 ح 8 .
3- (3) دعائم الإسلام 2 / 19 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 118 ح 1 .

عدا الخط من القرطاس وغیره»(1) .

وفیه : نعم ورد فی الروایتین أنّ تحصیل المصحف کان بالکتابة - لا بالمباشرة فقط کما ذکره الشیخ الأعظم - فی الصدر الأوّل ، ولکن ورد فیهما شراء المسلمین المصاحف بعده ، والإمام علیه السلام ذهب إلی أنّ شراءه، أحبَّ إلیه من بیعه .

وهذا البیان الأخیر منه علیه السلام صریح فی جواز بیعه . وحیث کان فی مقام البیان ولم یتصدّ لکیفیة الشراء أو البیع یُعلم منه عدم اعتبار کیفیة خاصة فیه ، ولذا تحمل الروایات المانعة علی الکراهة .

ویظهر ممّا ذکرنا أخیراً المناقشة الاُخری مع الشیخ الأعظم حول الروایات المجوِّزة حیث یقول قدس سره : « وهی وإن کانت ظاهرة فی الجواز إلاّ أنّ ظهورها من حیث السکوت عن کیفیة البیع فی مقام الحاجة إلی البیان ، فلا تعارض ما تقدّم من الأخبار المتضمّنة للبیان»(2) .

مراده أنّ الأخبار المجوِّزة ساکتةٌ بالنسبة إلی کیفیة البیع ولم تتعرّض لها ، ولکن فی الأخبار المانعة تعرّض إلی کیفیة خاصة من البیع - وهی بیع الجلد والورق والحدید ما عدا الکتابة والخط - فلا تعارض بینهما ، فلابدّ فی بیع المصحف من مراعاة الکیفیة الآمرة بها .

وجه المناقشة فی کلامه قدس سره : أنّ الروایات المجوِّزة فی مقام البیان ولم تذکر فیها کیفیة خاصة لشراء المصحف ، فیعلم من إطلاقها عدم اعتبار کیفیة خاصة فیه .

وبعبارة اُخری : « مورد السؤال فی هذه الأخبار [ المجوّزة ] وتلک الأخبار [ المانعة [ واحدٌ ، وهو بیع المصحف الذی قوام عنوانه بالخط ، وهذا هو الذی یتوهّم المنع عنه ... ولم یکن یتوهم المنع فی الورق حتّی یسألوا عن ذلک ، مع أن قوله علیه السلام : « أشتریه أحبُّ إلیَّ من أن أبیعه» کالصریح فی أنّ المراد منه الورق مع الخط ، وإلاّ فنفس الورق لا کراهة فی بیعه» کذا قاله المحقق الإیروانی(3) قدس سره ، وهو تام . وتبعه المحقق الخوئی(4) رحمه الله .

ص: 273


1- (1) المکاسب 2 / 158 .
2- (2) المکاسب 2 / 159 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 304 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 485 .

ومن الغریب ما ذکره فی الإرشاد بقوله : « أنّ ظاهر السؤال فی مثل صحیحة أبی بصیر بقوله : « فما تری فی شرائها» هو السؤال عن جواز شراء المصاحف بالنحو المتعارف فی سائر الکتب ، فیکون جوابه علیه السلام بالجواز راجعاً إلی ذلک النحو ، وهذا من الظهور الوضعی لا الإطلاقی لیتوقف علی تمامیّة مقدماته ، وذلک فإنّ دلالة اللفظ الموضوع للکتاب علیه بالوضع وإضافة البیع إلیه ظاهرة بمقتضی وضع الإضافة ، فی تعلّقه بعنوان ذلک الکتاب کما لا یخفی»(1) .

وجه الغرابة : أنه لم یرد فی الصحیحة وغیرها من الأخبار المجوِّزة لفظ « الکتاب » حتّی یدعی - دام ظله - دلالته علی الخط والمکتوب والسطور بالوضع . وإن کان مراده - دامت برکاته - أنّ لفظة « الکتاب » تدلّ بالوضع علی أن بیعها مطلق - لا علی کیفیة خاصة من البیع ، فهو أغرب من الأوّل ، وإن کان مراده - دامت إفضاله - أنّ الشراء والبیع یتعلّقان بالمصحف کما یتعلّقان بغیره من الکتب من دون کیفیة خاصة فی المصحف ، فهو صحیح تام ، ولکن إنّما یتم بالتمسک بالإطلاق لا بالوضع کما مرّ .

مؤیدات ونقدها

ثمّ یؤید ما ذکرناه من جواز بیع المصحف ما ذکره الفقهاء - أعلی اللّه کلمتهم - من أنّ بیع المصحف للکافر لا یجوز - کما علیه المشهور - فلو لم یجز بیعه للمسلم ، فهذا الفرع لا یطرح .

قال فی الجواهر : « والتحقیق الجواز لإطلاق الأدلة وإطلاق کثیر من الفتاوی فی مقام ذکر شرائط البیع وغیره ، حتّی فی مسألة بیع المصحف من الکافر ، فإنّ کلامهم هناک بإطلاقه شامل لجواز بیعه من المسلم من غیر تقیید بالآلات»(2) .

ولکن قال اُستاذه فی شرح القواعد : « ومنعهم من بیعه للکافر المؤذن بجواز بیعه مطلقاً للمسلم منزّل علی ما ذکرناه»(3) . یعنی علی کیفیة خاصة من بیعه .

ویؤید ما ذکرنا بل یدلّ علیه جریان السیرة القطعیة المتصلة إلی زمن المعصومین علیهم السلام علی معاملة المصاحف معاملة بقیة الأموال ، کما تظهر هذه السیرة من الأسئلة الواردة فی

ص: 274


1- (1) إرشاد الطالب 1 / 307 .
2- (2) الجواهر 22 / 126 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 266 .

الروایات الماضیة .

أشار إلی ما قلناه صاحب الجواهر قال : « بل السیرة القاطعة أقوی شاهدعلی ذلک»(1) .

ویؤید ما ذکرناه أیضاً الروایات الواردة حول الحبوة التی تنتقل إلی الولد الأکبر بموت والده ، نحو : صحیحة ربعی بن عبد اللّه(2) وصحیحة اُخری له(3) وصحیحة حریز(4) . وعُدّت فیها المصحف من الحبوة ، فلو لم یکن مالاً أو ملکاً أو لم یکن قابلاً للإنتقال فیکف یرثه الولد الأکبر من والده .

ویؤیدنا أیضاً أنه لو لم یکن کذلک ، فکیف یحکم بالضمان لصاحبه لو أتلف شخص مصحف غیره أو أحدث فیه نقصاً .

ولکن یمکن أن یناقش فی هذه المؤیدات الأربعة بما ذکره جدنا الفقیه الشیخ جعفر قدس سره بقوله : « ولا مانع من تعلّق الملک والتملیک المجانی ، بل التملیک التبعی فیترتّب الضمان لمشتریه علی متلفه ، بل لو قیل بالتملیک الأصلی ، والنهی إنّما هو عن الصوری المنافی للإحترام والآداب ، لم یکن بعیداً ، غیر أنّ العمل علی ظواهر الأدلة أقوی»(5) .

بتوضیح : أنّ المصحف حیث صار ملکاً لمالکه ینتقل منه قهراً بالموت إلی ولده الأکبر ویحکم بضمان متلفه ، بل یجوز بیعه بالکیفیة الخاصة الواردة فی الروایات ، ویمکن أن تکون السیرة القطعیة علی هذه الکیفیة الخاصة . ولذا عبّرنا عن هذه الأربعة بالمؤیدات .

المراد من حرمة بیع المصحف

النهی الوارد فی الروایات تعلَّق بنفس الشراء أو البیع کما فی حسنة أو معتبرة عبد الرحمن بن سیّابة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته یقول : إنّ المصاحف لن تشتری ،

ص: 275


1- (1) الجواهر 22 / 126 .
2- (2) وسائل الشیعة 26 / 97 ح 1 . الباب 3 من أبواب میراث الأبوین والاولاد .
3- (3) وسائل الشیعة 26 / 97 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 26 / 98 ح 3 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 265 .

الحدیث(1) .

وفی موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا تشتر کتاب اللّه ، الحدیث(2) .

وفی صحیحة عثمان بن عیسی : لا تشتر کلام اللّه ، الحدیث(3) .

وفی حسنة جراح المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : لا تبع الکتاب ، الحدیث(4) .

وحیث أنّ النهی تعلّق بالبیع والشراء فظهوره فی الحرمة الوضعیة واضح ، أعنی بطلان البیع لا الحرمة التکلیفیة واعترف بذلک المحقق الأردکانی(5) .

فظهوره ممّا ذکرنا فساد القول بأنّ « المراد من الحرمة ما یعمّ الفساد دون مجرد الحکم التکلیفی» أی أن المراد بالحرمة أعمّ من الحرمة الوضعیة والتکلیفیة کماعن المحقق الإیروانی(6) قدس سره ، وفساد القول بأنّ المراد بها الحرمة النفسیة - أی التکلیفیة - کما یظهر من الفقیه الیزدی(7) قدس سره .

والحاصل ، لو کنّا والروایات المانعة فقط کان لابدّ من الذهاب إلی بطلان بیع المصحف . ثمّ ورد فی نفس الروایات بیان الکیفیة الخاصة فی بیعه ، وهو بیعه باعتبار الورق والجلد والحدید والدفتین والأدیم والحلیة والدفتر وعمل الید .

ولکن مع ذلک حیث أنّ خط القرآن ونقوش کتابته من الاُمور التی یدور علیها التسمیة فی نظر العرف ، ولذا المصحف عندهم شیءٌ والصحیفة المبارکة السجادیة - علی منشئها آلاف التحیة والسلام - مثلاً شیءٌ آخر ، فکیف یمکن البیع مع عدم قصد تلک الخطوط والسطور والکتابة ؟

ص: 276


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 158 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 158 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 158 ح 3 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 159 ح 7 .
5- (5) غنیة الطالب 1 / 252 .
6- (6) حاشیة المکاسب 1 / 303 .
7- (7) حاشیة المکاسب 1 / 163 .

یمکن التخلص عن هذا الإشکال بأحد وجهین :

الأوّل : أنّ الخطوط والکتابة فی جمیع الکتب من المقوّمات التی تدور علیها التسمیة ، ولکن بعد نهی الشارع من بیع المصحف ، یجری المتعاملین العقد علی الورق والجلد وغیرهما الذی فیه الخطوط والنقوش ، فتدخل الأخیران تبعاً فی ملک المشتری .

وبعبارة اُخری : « لو لا النهی لکانت النقوش جزءاً للمبیع ، بل کانت هی المقصودة الأصلیة من المعاملة ، وکانت غیرها تابعةً ، ولکنّه بملاحظة النهی ینعکس الأمر ، ورعایة التبعیة أمر ممکن قصدها من المتعاوضین ... » . کما قاله المحقق النائینی(1) وتبعه تلمیذه السید الخوئی(2) قدس سرهما ، وأشار إلی هذا الإستدلال الشیخ جعفر(3) وتلمیذه صاحب الجواهر(4) أعلی اللّه مقامهما .

ولکن یمکن أن یناقش فیه : بأنّ النقوش والخطوط من المقوّمات ، وهی المقصودة الأصلیة فی بیع الکتب عموماً والمصحف خصوصاً ، والأصلیة والتبعیّة لیستا من الاُمور القصدیة حتّی یقصدهما المتعاملان ، بل هما من الاُمور المتحققة فی الخارج والمعینة عند عرف أهله ، فقصد المتعاملین لا یفید فی المقام شیئاً .

الثانی : أن یکون المبیع هو الورق والجلد وغیرهما ولکن یشترط المشتری علی البائع فی ضمن العقد أن یملّکه الخطوط والنقوش والکتابة مجاناً ، ولا یلزم التصریح بذلک الشرط ، لأنّه بعد البناء علی حرمة بیع المصحف فالقرینة القطعیة قائمة علی اعتبار ذلک الشرط فی العقد أو صار کالشروط الإرتکازیة فی العقد .

وأشار إلی هذا الإستدلال الشیخ جعفر(5) وتبعه الفقیه الیزدی(6) والمحقق

ص: 277


1- (1) منیة الطالب 1 / 57 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 488 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 265 حیث قال : « لا مانع ... بل التملیک التبعی» .
4- (4) الجواهر 22 / 126 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 265 : حیث قال : « لا مانع من تعلّق الملک والتملیک المجانی» .
6- (6) حاشیة المکاسب 1 / 162 .

الخوئی(1) قدس سرهم .

ثمّ إنّ هاهنا فروعاً کثیرة لابدّ من التنبیه علی بعضها
الأوّل : جواز أخذ الاُجرة علی کتابة القرآن

صرّح بجواز أخذ الاُجرة علیها سلاّر بن عبد العزیز الدیلمی فی المراسم(2) والعلامة فی التحریر(3) والنهایة(4) وتجارات القواعد(5) والتذکرة(6) وإجارتهما(7) وإجارة جامع المقاصد(8) ، وفی إجارتی التذکرة وجامع المقاصد نسبة ذلک إلی أکثر علمائنا . وقال فی الحدائق : « الظاهر أنّه لا خلاف فیه»(9) . ولکن فی النهایة(10) والنافع(11) أنّه مکروه مع الشرط .

وکذا عدّه ابن إدریس فی المکاسب المکروهة وقال : « ... ونسخ المصاحف مع الشرط فی ذلک ومع ارتفاعه فهو حلال طلق ، وهذا مذهب جمیع أصحابنا وعلیه إجماعهم منعقد »(12) .

ص: 278


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 488 .
2- (2) المراسم / 170 .
3- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 .
4- (4) نهایة الإحکام 2 / 472 .
5- (5) قواعد الأحکام 2 / 9 .
6- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 146 .
7- (7) قواعد الأحکام 2 / 294 وتذکرة الفقهاء 2 / 305 من الطبعة الحجریة .
8- (8) جامع المقاصد 7 / 177 .
9- (9) الحدائق 18 / 220 .
10- (10) النهایة / 367 .
11- (11) المختصر النافع / 117 .
12- (12) السرائر 2 / 223 .

وتدلّ علی جواز أخذ الاُجرة علی کتابة القرآن عدّة من الروایات :

منها : خبر عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ اُمّ عبد اللّه بن الحارث أرادت أن تکتب مصحفاً ، واشترت ورقاً من عندها ودعت رجلاً فکتب لها علی غیر شرط ، فأعطته حین فرغ خمسین دیناراً ، وأنّه لم تبع المصاحف إلاّ حدیثاً(1) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ القاسم بن محمد الجوهری لم یذکر لنا توثیقه الخاص وقد ضعّفه العلامة الحلّی(2) والمجلسی(3) والمامقانی(4) ، ولکن لم یرد تضعیفه من القدماء وروی عنه مشایخ الطائفة نحو محمد بن أبی عمیر وصفوان بن یحیی والحسین بن سعید وأبی عبد اللّه البرقی ، ذکره النجاشی وقال : « کوفی سکن بغداد روی عن موسی بن جعفر علیه السلام له کتاب» . ثمّ ذکر سنده المعتبر بل الصحیح إلی کتابه(5) . وذکره الشیخ بعنوان « الکوفی له کتاب» ثمّ ذکر سنده الصحیح إلیه(6) . وله أکثر من سبعین روایة فی الکتب الأربعة ، ولذا لا یبعد حسنه واعتباره عندنا ، فصار السند معتبراً به .

والروایة تدلّ علی جواز أخذ الأجرة علی کتابة القرآن من دون شرط .

ومنها : خبر روح بن عبد الرحیم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث قال : قلت : ما تری أن أعطی علی کتابته أجراً ؟ قال : لا بأس ، الحدیث(7) .

ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکتب المصحف بالأجر ، قال : لا بأس(8) .

ص: 279


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 160 ح 10 .
2- (2) ترتیب خلاصة الأقوال / 341 الرقم 9 .
3- (3) الوجیزة / 141 الرقم 1464 .
4- (4) نتائج التنقیح / 123 .
5- (5) راجع رجال النجاشی / 315 الرقم 862 .
6- (6) الفهرست / 371 الرقم 576 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 160 ح 9 .
8- (8) وسائل الشیعة 17 / 161 ح 12 .

ومنها : خبر آخر لعلیّ بن جعفر قال : وسألته عن الرجل هل یصلح له أن یکتب المصحف بالأجر ؟ قال : لا بأس(1) .

ومنها : مرسلة دعائم الإسلام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ولا بأس أن یکتب بأجر ، الحدیث(2) .

والروایات کما تری کلّها ضعاف ، ولکن ینجبر ضعف أسنادها بالشهرة . والاشتراط لم یذکر إلاّ فی خبر عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه ، ولا یمکن تقیید المطلقات به ، فالأقوی جواز أخذ الاُجرة علی کتابة القرآن مطلقاً ، ولکن الأحوط عدم الاشتراط فیها .

ثمّ فلیعلم علی القول بکراهة أخذ الاُجرة مع الشرط ، تجری فی ما تُسمّی کتابة القرآن ، فلا بأس به فی کتابة آیات التعوّذ والحرز والحفظ ونحوها .

وکذا الکراهة لا تجری بالنسبة إلی إصلاحه وتصحیفه وتجلیده . وهکذا لا تجری بالنسبة إلی غیره من الکتب السماویة أو کتب الحدیث والفقه والتفسیر وغیرها .

الثانی : حکم تعشیر المصحف

المراد به جعل العواشر فیه . وعواشر القرآن : الآی التی یتمّ بها العَشَر ، والعاشرة : حلقة التعشیر من عواشر المصحف ، والمراد بالتعشیر تزیین آخر الآیة العاشرة بالذهب وبترسیم شبهة الدائرة بعدها . کما أنّ المتداول فی زماننا هذا ترسیمها بعد کلّ آیة .

قال العلامة فی التحریر : « یکره تعشیر المصاحف بالذهب ، فیکره الاُجرة علیه»(3) .

وکذا أفتی بکراهته فی القواعد(4) ، وسیأتی کلامه فی التذکرة ، وتبعه المحقق الثانی(5)

ص: 280


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 161 ح 13 .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 118 .
3- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 266 .
4- (4) قواعد الأحکام 2 / 6 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 10 .

والفیض الکاشانی(1) وأصحاب الکفایة(2) والحدائق(3) والریاض(4) وشرح القواعد(5) والمفتاح(6) .

وقد ورد النهی عن ذلک فی بعض الروایات :

منها : موثقة سماعة قال : سألته عن رجل یعشّر المصاحف بالذهب ؟ فقال : لا یصلح ، فقال : إنّه معیشتی ، فقال : إنّک إن ترکته للّه جعل اللّه لک مخرجاً(7) .

یشمّ من الروایة کراهة تعشیر المصحف بالذهب ، والقرینة علیها قوله علیه السلام : « لا یصلح» و« إن ترکته» ولو کان حراماً فلابدَّ من ترکه .

ومنها : خبر محمّد بن الوراق قال : عرضتُ علی أبی عبد اللّه علیه السلام کتاباً فیه القرآن مختّم معشّر بالذهب وکتب فی آخر سورة بالذهب فأریته إیّاه ، فلم یَعِبْ فیه شیئاً إلاّ کتابة القرآن بالذهب ، فإنّه قال : لا یعجبنی أن یکتب القرآن إلاّ بالسواد کما کتب أوّل مرّة(8) .

ومنها : خبر داود بن سرحان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لیس بتحلیة المصاحف والسیوف بالذهب والفضة بأس(9) .

ظهور الروایات - مع فهم الأصحاب وإفتائهم - یدلّ علی کراهة تعشیر المصحف بالذهب .

ص: 281


1- (1) مفاتیح الشرائع 3 / 14 .
2- (2) الکفایة 1 / 445 .
3- (3) الحدائق 18 / 220 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 175 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 115 .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 30 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 162 ح 1 . الباب 32 من أبواب ما یکتسب به .
8- (8) وسائل الشیعة 17 / 162 ح 2 .
9- (9) وسائل الشیعة 5 / 105 ح 3 . الباب 64 من أبواب أحکام الملابس .

تذییلٌ :

قال الشیخ علی : « وکتابة القرآن بالذهب أشدّ کراهة ، والظاهر أنّ کتبة الأحزاب بالذهب وجدوله به ونقشه کالتعشیر»(1) .

وقال الشیخ جعفر : « وإلحاق تذهیب الأجزاء والأنصاف والأحزاب والجداول ونحوها بالتعشیر غیر بعید»(2) .

ولکن قال العلامة فی نهایته : « نعم یحرم نقشه بالذهب»(3) .

وقال فی التذکرة : « یحرم تعشیر المصاحف بالذهب وزخرفتها - ثمّ ذکر موثقة سماعة الماضیة وقال : - والأولی عندی الکراهة دون التحریم ، عملاً بالأصل واستضعافاً للروایة ، لأنّها غیر مستندة إلی إمام والرواة ضعفاء . ویکره کِتْبة القرآن بالذهب - ثم ذکر خبر محمّد بن الوراق - »(4) .

أقول : الظاهر أنّ متابعة الشیخین من حیث الأدلة تامة ، ویمکن الحکم بکراهة تعشیر المصحف وتذهیب الأجزاء والأنصاف والأحزاب وکتابته بالذهب(5) ، بل لا یبعد القول بکراهة کتابة القرآن بغیر سواد ، کما اختاره فی الحدائق(6) والمفتاح(7) واللّه العالم .

الثالث : هل یملّک الکافر للمصحف

یظهر من الشیخ الطوسی قدس سره فی فصل حکم ما یغنم ومالا یغنم من جهاد المبسوط تملّک الکافر للمصحف ، حیث یقول : « إذا وجد فی المغنم کتب نُظر فیها فإن کانت مباحة یجوز إقرار الید علیها مثل کتب الطب والشعر واللغة والمکاتبات فجمیع ذلک غنیمة ، وکذلک المصاحف

ص: 282


1- (1) جامع المقاصد 4 / 10 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 115 .
3- (3) نهایة الإحکام 2 / 472 .
4- (4) تذکرة الفقهاء 12 / 146 مسألة 652 .
5- (5) کما ذهب إلی الأخیر المحقق السبزواری فی الکفایة 1 / 445 .
6- (6) الحدائق 18 / 220 .
7- (7) مفتاح الکرامة 12 / 30 .

وعلوم الشریعة کالفقه والحدیث ونحوه ، لأنّ هذا مالٌ یُباع ویُشتری کالثیاب ... »(1) .

ولو لم یدخل المصحف فی ملک الکافر فلا وجه لدخوله فی الغنیمة ، بل یکون من قبیل مجهول المالک ، ولکن الشیخ نظر إلیه بعنوان الغنیمة .

وإرادة غیر القرآن من المصاحف المذکور فی کلامه بعیدة ، کما نبّه علیه الشیخ الأعظم(2) قدس سره .

مضافاً إلی أنّ الأصل الأوّلی فی المقام هو الجواز ، وهو تملّک کلّ شخصٍ لأیّ مال إلاّ ما خرج بالدلیل ، والمصحف ملکٌ ومالٌ فیجوز لکلِّ شخصٍ تملّکه حتّی الکافر ، وإنّا لم نجد ما یدلّ علی حرمة تملک الکافر للمصحف کما اعترف به المحقق الخوئی(3) قدس سره .

ولکن یظهر من الشیخ جعفر قدس سره عدم تملّکه المصحف حیث یقول : « ولو تعقّب الکُفر الملک أبطله وبقی بلا مالک »(4) .

والأوّل هو الأظهر .

الرابع : بیع المصحف من الکافر

هل یصح بیع المصحف من الکافر أم لا ؟ ذهب إلی البطلان الشیخ فی المبسوط(5) والمحقق فی الشرائع(6) وابن أخته العلاّمة فی القواعد(7) والتحریر(8) والإرشاد(9) والنهایة(10)

ص: 283


1- (1) المبسوط 2 / 30 .
2- (2) المکاسب 2 / 162 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 490 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 267 .
5- (5) المبسوط 2 / 62 .
6- (6) شرائع الإسلام 1 / 305 .
7- (7) قواعد الأحکام 2 / 9 .
8- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 .
9- (9) إرشاد الأذهان 1 / 360 .
10- (10) نهایة الإحکام 2 / 456 .

والتذکرة(1) ، وولده فی إیضاح الفوائد(2) وابن اخته السید عمید الدین فی کنز الفوائد(3) والشهید فی الدروس(4) واللمعة(5) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(6) وثانی الشهیدین فی المسالک(7) والروضة(8) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(9) والشیخ یوسف فی الحدائق(10) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(11) .

ویمکن القول بصحة البیع کما حکاه المحقق فی الشرائع(12) والعلاّمة عن بعض أصحابنا فی التحریر وقال : « وقال بعض أصحابنا یجوز ویجبر علی بیعه»(13) . وکذا احتمله فی النهایة وقال : « ویحتمل الصحة فیقهر علی بیعه»(14) . وقال المحقق الثانی : « وقیل : یَصِحُّ ویؤمر ببیعه»(15) ونحوها فی الحدائق(16) ، ولکن قال فی المفتاح : « لم أجد القائل بصحة البیع وإجباره علی بیعه . نعم قد قیل ذلک فی العبد المسلم ، فتأمل ، ولعلّ الفرق أنّ القرآن أعظم حرمةً»(17) .

ص: 284


1- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 23 .
2- (2) إیضاح الفوائد 1 / 407 .
3- (3) کنز الفوائد 1 / 377 .
4- (4) الدروس الشرعیة 3 / 175 .
5- (5) اللمعة الدمشقیة / 111 .
6- (6) جامع المقاصد 4 / 33 .
7- (7) المسالک 3 / 166 .
8- (8) الروضة البهیة 3 / 243 .
9- (9) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 161 .
10- (10) الحدائق 18 / 428 .
11- (11) شرح القواعد 1 / 267 و 2 / 51 .
12- (12) شرائع الإسلام 1 / 305 .
13- (13) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 .
14- (14) نهایة الإحکام 2 / 457 .
15- (15) جامع المقاصد 4 / 33 .
16- (16) الحدائق 18 / 428 .
17- (17) مفتاح الکرامة 12 / 277 .

وکیف ما کان فقد استدلّ علی البطلان بوجوه :

الاستدلال علی البطلان بوجوه
الأوّل : فحوی ما دلّ علی عدم تملّک الکافر للمسلم

ذهب الفقهاء إلی عدم تملّک الکافر المسلمَ ، قال الشیخ : « لا یجوز لکافر أن یشتری عبداً مسلماً ولا یثبت ملکه علیه ، وفیه خلاف لقوله تعالی : «وَلَن یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکَافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً»(1) »(2) .

والآیة الشریفة کافیة فی الاستدلال لعدم تملّک الکافر المسلم ، لأنّ تملّکه إیّاه ذلّ وسبیل إلیه وقد نفته الآیة الشریفة . ویؤیدها مرفوعة حماد بن عیسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّ أمیر المؤمنین اُتی بعبد لذمّیّ وقد أسلم ، فقال : إذهبوا فبیعوه من المسلمین وادفعوا ثمنه إلی صاحبه ولا تقرّوه عنده(3) .

وحیث لا یجوز للکافر تملّک المسلم فبالطریق الأولی لا یجوز تملّک المصحف الذی هو کلام اللّه تعالی .

قرّبنا الشیخ جعفر قدس سره هذا الاستدلال بقوله : « أنّ منع تملّک الکافر لأهل الإیمان - للزوم الإهانة بثبوت السلطان - یتمشّی بطریق الاُولویة إلی القرآن ، مع أنّ الإهانة له عین الإهانة للإسلام والإیمان»(4) .

وفیه : تملّک الکافر المسلم ذلّ واستخفاف علیه ، ولکن تملّکه للمصحف لا یکون کذلک ، بل ربّما یزید فی احترامه کما إذا جعله فی مکان نظیف ویراجع آیاته وبراهینه وقصصه وحکایاته وأحکامه ، ولعلّ ذلک یوجب هدایته إلی الإسلام ولذا تأمّل الشیخ الأعظم فی هذا الدلیل ومنعه فی بیعه(5) .

ص: 285


1- (1) سورة النساء / 141 .
2- (2) المبسوط 2 / 167 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 380 ح 1 . الباب 28 من أبواب عقد البیع - ووسائل الشیعة 23 / 109 ح 1 . الباب 73 من أبواب کتاب العتق .
4- (4) شرح القواعد 2 / 51 .
5- (5) المکاسب 3 / 602 .
الثانی : النبوی المشهور « الإسلام یعلو ولا یُعلی علیه »

روی الصدوق مرسلاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الإسلام یعلو ولا یُعلی علیه(1) . بتقریب : أنّ تملّک الکافر للمصحف یوجب الاستعلاء علی الإسلام فلا یجوز .

ونقل الشیخ الأعظم عن الشیخ الطوسی(2) استدلاله بالنبوی علی عدم تملّک الکافر للمسلم ثم زاد علیه : « ومن المعلوم أنّ ملک الکافر للمسلم إن کان علوّاً علی الإسلام فملکه للمصحف أشدّ علوّاً علیه»(3) .

وفیه : أوّلاً : هذه الروایة مرسلة لیس لها سند .

ویمکن أن یناقش فی هذا الجواب : بأنّ شهرتها عند العامة والخاصة کافیة عن السند .

وثانیاً : لا تتمّ دلالة هذه الروایة علی المطلوب ، قال الفقیه الیزدی : « هذا الخبر یُحتمل معان خمسة : أحدها : بیان کون الإسلام أشرف المذاهب ، وهو خلاف الظاهر جداً .

الثانی : بیان أنّه یعلو من حیث الحجة والبرهان .

الثالث : أنّه یعلو بمعنی یغلب علی سائر الأدیان .

الرابع : أنّه لا ینسخ .

الخامس : ما أراده الفقهاء من إرادة بیان الحکم الشرعی الجعلی بعدم علو غیره علیه . وإذا جاء الاحتمال بطل الإستدلال فتدبّر»(4) .

وثالثاً : علی فرض تمامیة السند والدلالة فمجرد تملّک الکافر المصحف لا یکون علوّاً للکفر علی الإسلام ، کما أنّ مجرد تملّک المسلم التوراة والأنجیل لا یکون علوّاً للإسلام علی الکفر ، کما نبّه علی ذلک شیخنا الأستاذ(5) - مدظله - .

ص: 286


1- (1) الفقیه 4 / 334 ح 5719 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 26 / 14 ح 11 . الباب 1 من أبواب موانع الإرث .
2- (2) ذکره الشیخ الطوسی فی الخلاف 6 / 419 .
3- (3) المکاسب 2 / 162 .
4- (4) حاشیة المکاسب 1 / 164 .
5- (5) إرشاد الطالب 1 / 311 .
الثالث : بیع المصحف من الکافر یوجب هتکه واستخفافه

بتقریب : أنّ الکافر لا یبالی بهتک حرمات اللّه وبیعه المصحف یوجب تسلیطه علیه وهتکه . وهکذا من الواجبات تعظیم کلام اللّه تعالی ولکن بیعه من الکافر استخفاف ، لأنّ الظن حاصل بأنّ الکافر یستخف بالقرآن ویستهین به ، کما أشار إلی الأخیر الوحید البهبهانی(1) قدس سره .

وتبعه تلمیذه الشیخ جعفر وقال : « والأصل فی أصل هذا الحکم لزوم الإهانة ومنافاة التعظیم الباعث علی تحریم تملیکه»(2) .

وفیه : نعم لا یجوز هتک القرآن واستخفافه ، ولکن بینهما وبین بیعه من الکافر عموماً من وجه ، کما إذا اشتراه الکافر واحترمه فوق ما یحترمه نوع المسلمین وجعله فی مکتبة نظیفة . مضافاً إلی أن الهتک یتحقق بتسلیطه علی المصحف خارجاً لا علی مجرد بیعه منه ، ولذا ناقش صاحب الجواهر هذا الحکم بقوله : « لإمکان منع منافاة ملکیة الکافر للإحترام ، خصوصاً إذا اتخذه هو علی جهة التبجیل والتبرک والاحترام ، کما یصنعه بعض النصاری فی تراب الحسین علیه السلام عند الطوفان»(3) .

الرابع : بیعه من الکافر یستلزم تنجّسه

بیع المصحف من الکافر یستلزم تنجّسه ، للعلم العادی بمسّ الکافر إیّاه بالرطوبة ، فیکون حراماً من هذه الجهة .

وفیه : أوّلاً : بین تنجّس المصحف وبیعه من الکافر عموماً من وجه .

وثانیاً : علی فرض تمامیة الإستدلال إنّما یتم إذا حکمنا بحرمة الإعانة علی الإثم ، وقد مرّ منّا المناقشة فیها .

تنبیه : لو تمت هذه الأدلة الأربعة - ولم تتم - لا تدلّ إلاّ علی حرمة بیعه من الکافر

ص: 287


1- (1) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 94 .
2- (2) شرح القواعد 2 / 51 .
3- (3) الجواهر 22 / 340 .

تکلیفاً ، وبین الحرمة التکلیفیة والحرمة الوضعیة بون بعید ، لعدم التلازم بینهما .

والحاصل ، أنّ للمناقشة فی هذا الحکم مجالاً واسعاً کما ذهب إلیه صاحب الجواهر وقال : « بل لا یخلو أصل المسألة من ذلک (أی من بحث) أیضاً »(1) .

الخامس : حکم بیع أبعاض المصحف

إذا قلنا بحرمة بیع المصحف أو کراهته فهل یختص الحکم بمجموعه أو یسری إلی الأبعاض أیضاً ؟

قال الشیخ جعفر : « مصحفاً أو أبعاضه المنفصلة أو المتصلة بما لا یغلب علیه اسمه - وفیالغالب إشکال - غیر منسوخة التلاوة - وفی المنسوخ منها بحث - منسوخة الحکم أولا ، ومع الإشتراک فالمدار علی قصد الکاتب ، ومع الشک فالعمل علی أصل الإباحة . والمحافظة علی جادّة الإحتیاط فیه - کما فی الخالی عن القصد - اُولی»(2) .

ونقل هذا البیان صاحب الجواهر عن اُستاده فی کتابه(3) فراجعه .

وقال صاحب المفتاح : « ولا ریب أنّ أبعاض المصحف کالمصحف عندهم ، فلا یفرّق فیها بین المجتمع والمتفرّق ، وفی إطلاق کلامهم ما یعطی أنّه یُطلق علی البعض والکلّ ، وهو الموافق لکلام أهل اللغة»(4) .

أقول : المصحف لغةً وعرفاً یُطلق علی البعض والأجزاء ، وتدلّ علیه أیضاً خبر سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : وإیّاک أن تشتری منه الورق وفیه القرآن مکتوب فیکون علیک حراماً وعلی من باعه حراماً(5) .

فعلیه ما یجری فی حقّ الکل یجری فی حق الأجزاء أیضاً ولکن إذا کانت مستقلة ، وأمّا

ص: 288


1- (1) الجواهر 22 / 340 .
2- (2) شرح القواعد 2 / 51 .
3- (3) الجواهر 22 / 338 .
4- (4) مفتاح الکرامة 12 / 275 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 161 ح 11 .

المتفرقة فلا یبعد عدم اللحوق کما عن الشیخ الأعظم(1) قدس سره .

السادس : هل تلحق الأحادیث بالمصحف ؟

ألحقها به الشیخ فی المبسوط(2) ، ولکن صریح المحقق فی الشرائع(3) الکراهة ونسبه الصیمری(4) إلی المشهور ، وتردّد العلاّمة فی التذکرة(5) فی الإلحاق وعدمه ، ولکن قال فی نهایته : « وهل تجری الأحادیث عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بیته علیهم السلام مجری المصحف فی المنع من البیع ؟ إشکال ، فإن قلنا به منعنا من الکتب المشتملة علی الأخبار والآثار من کتب الفقه دون غیرها»(6) .

وذهب ولده فی « شرح الإرشاد» إلی جواز بیع الأحادیث النبویة علی الکافر(7) .

ولکن المحقق الثانی ألحقها بالمصحف فی « فوائد الشرائع» وقال : «التحریم وبطلان البیع اُولی وأحوط ، ولا تکاد الأحادیث تخلو من الآیات القرآنیة فالمنع لا یخلو من قوّة »(8) .

وقال الشیخ جعفر : « وتسریة الحکم إلی الکتب المحترمة من کتب الحدیث والفقه والدعوات ونحوها غیر بعید»(9) .

وقال أیضاً : « ویقوی إلحاق کتب الحدیث والتفسیر والفقه والمزارات والخطب والمواعظ والدعوات والتربة الحسینیة وتراب الضرائح المقدسة ورضاض الصنادیق

ص: 289


1- (1) المکاسب 2 / 163 .
2- (2) المبسوط 2 / 62 .
3- (3) الشرائع 1 / 306 .
4- (4) غایة المرام 1 / 540 ونقل عنه الشیخ الأعظم فی بیع المکاسب 3 / 602 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 10 / 23 .
6- (6) نهایة الإحکام 2 / 457 .
7- (7) نقل عنه صاحب مفتاح الکرامة 12 / 277 .
8- (8) فوائد الشرائع ، المطبوع ضمن حیاة المحقق الکرکی وآثاره 11 / 103 .
9- (9) شرح القواعد 1 / 267 .

الشریفة وثوب الکعبة زاد اللّه شرفها»(1) .

وذهب إلی الإلحاق تلمیذه صاحب مفتاح الکرامة(2) .

ولم یختر الشیخ الأعظم(3) قدس سره فی المقام شیئاً وکذا فی بیعه(4) ولکن قال فیه : « ولا یبعد أن یکون الأحادیث المنسوبة إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم من طرق الآحاد حکمها حکم ما عُلم صدوره منه ، وإن کان ظاهر ما ألحقوه بالمصحف هو أقوال النبی صلی الله علیه و آله وسلم المعلوم صدورها عنه » .

أقول : ما ذکره متینٌ وحیث ذهبنا إلی جواز بیع المصحف من الکافر فالجواز فی کتب أحادیث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بیته علیهم السلام یجری مجری المصحف بطریق أولی ، کما ذهب إلی الجواز فخر المحققین قدس سره .

نعم ، لو تمت الأدلة هناک یقوی الإلحاق کما سمعت من الشیخ جعفر . وعلی الإلحاق لا فرق بین الأحادیث النبویة وغیرها ، کما ذکره جدنا الشیخ جعفر وعمّم الحکم .

السابع : هل یلحق اسم النبی صلی الله علیه و آله وسلم وآله علیهم السلام بأحادیثهم ؟

علی فرض لحوق الأحادیث بالمصحف الشریف فهل تلحق أسماء النبی صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة علیهم السلام واُمّهم فاطمة الزهراء علیهاالسلام بأحادیثهم أم لا ؟

استشهد الشیخ الأعظم(5) قدس سره باللحوق بطریق الاُولویة ، لأنّ اسمه صلی الله علیه و آله وسلم أعظم من کلامه . ثمّ فرّع علیه الإشکال فی تملّک الکفار الدراهم والدنانیر المکتوبة علیها اسم النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، ثمّ أجاب عن الإشکال بأنّ الثمن أو جزءه لا یقع بازاء اسمه صلی الله علیه و آله وسلم ، فالإسم ینتقل إلی البائع تبعاً .

ثمّ استشکل فی جوابه بأن یقال : مناط الحرمة هو التسلیط الخارجی لا المعاوضة ولا

ص: 290


1- (1) شرح القواعد 2 / 51 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 277 .
3- (3) المکاسب 2 / 163 .
4- (4) المکاسب 3 / 602 .
5- (5) المکاسب 2 / 163 و 164 .

التملیک ، مضافاً إلی وجود العلم العادی بمسّ الکافر إیّاه مع الرطوبة .

وفیه : أولاً : نحن ذهبنا إلی عدم إلحاق الأحادیث النبویة وغیرها بالمصحف الشریف ، فنحن فی فسحة من هذا البحث .

وثانیاً : بمنع أعظمیة اسمه صلی الله علیه و آله وسلم علی کلامه ، ولا أقل من أنّها غیر معلومة . « ومجرد جواز مسّ المحدِّث لکلامه دون اسمه صلی الله علیه و آله وسلم لا یکون شاهداً علی الأعظمیة وإلاّ کان اسمه صلی الله علیه و آله وسلم أعظم من نفسه صلی الله علیه و آله وسلم الجائز مسّه بلا وضوء» کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(1) قدس سره .

ثالثاً : یمکن أن یقع بإزاء أسمائهم علیهم السلام جزءٌ من الثمن ، کما یظهر ذلک من خبر دعبل بن علی الخزاعی(2) فی الدنانیر الرضویة ، حیث باع کلّ دینار منها بمائة درهم لأن اسم الإمام الهمام علی بن موسی الرضا علیه آلاف التحیة والثناء کان مضروباً علیها .

ورابعاً : علی فرض تمامیة الأعظمیة ، الحرمة تجری بالنسبة إلی التسلیط أو التنجیس الخارجیین لا المعاوضة والتملیک ، وعلی هذا لا بأس بهما .

وخامساً : السیرة المستمرة بین المسلمین تنفی هذا اللحوق من جریان المعاوضة والمبایعة علی الدراهم والدنانیر المکتوبة علیها اسم النبی صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بیته علیهم السلام .

الثامن : هبة المصحف

علی القول بحرمة بیع المصحف فهل یجوز هبته أم لا ؟

الظاهر عدم وجود إشکال فی جواز هبة المصحف مجاناً ، وأمّا الهبة المعوّضة فیمکن الحکم بالجواز ، لأنّ الأدلة المانعة تختص بالبیع فقط ، بل یمکن أن یقال : بأنّ العوض یقابل الهبة لا المصحف . ویمکن الحکم بالمنع ، لأنّ المستفاد من الأدلة حصول الهتک بالمصحف إذا قوبل بمال سواء فی البیع أو غیره ، لأنّ العوض فی الهبة أیضاً یصدق علیه العوض عرفاً ، فلا تجوز الهبة المعوّضة بالنسبة إلی المصحف .

ص: 291


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 307 .
2- (2) راجع فی هذا المجال کتابنا : « الأربعون حدیثاً فی مَنْ یملأ الارض قسطاً وعدلاً» / 39 - وکمال الدین وتمام النعمة / (376 - 372) .

وهذا البیان یجری فی تملیک المصحف بنحو الشرط فی ضمن العقد من أنّ الشرط لا یقابل بالعوض ، ومن صدق أخذ العوض عرفاً .

ولکن ما یتمّ عندنا من الأدلة جواز الهبة المعوّضة ، لأنّ الأدلة المانعة - لو تمت - تجری بالنسبة إلی البیع فقط . وکذا یجوز تملیک المصحف بنحو الشرط فی ضمن العقد ، لأنّ الشروط لا تقابل بجزءٍ من الثمن .

فظهر ممّا ذکرنا جواز جعل المصحف عوضاً فی الإجارة أو الجُعالة أو جعله صِداقاً أو جزءً من الصداق . وقد أشار إلی هذا الفرع الفقیه الیزدی(1) والمحقق الأردکانی(2) قدس سرهما .

التاسع : ما المراد من الهدیّة فی معاملة المصحف ؟

المتعارف عند المتشرعة فی بیع المصحف أنّهم یسمّون ثمن القرآن هدیّة ، والمراد بها تملیک القرآن مجاناً من طرف البائع وبذل الثمن مجاناً أیضاً من طرف المشتری . لأنّهم یراعون الأدب بالنسبة إلی آیات اللّه تعالی ولا یجعلونها مورداً للبیع کسائر الأمتعة ، وهم یرون کلام اللّه أرفع من أن یقابل بالثمن ، ولذا یعبرون عن معاملة المصحف باسم الهدیّة .

وهذه المعاملة لیس بها بأس وحتّی علی القول بحرمة بیع المصحف یمکن التخلص عن الحرام بهذه الهدیّة ، کما نبّه علیه الفقیه الیزدی(3) قدس سره .

وقد مرّ منّا جواز المهاباة المعوّضة بالنسبة إلی المصحف فی الفرع السابق آنفاً ، ویمکن أن تُعد الهدیّةُ منها .

وکذا یجوز مبادلة المصحف بالمصحف وإن کان مع أحدهما شیء آخر ، لانصراف دلیل المنع عنه - لو تمّ - کما اعترف به الفقیه الیزدی(4) قدس سره أیضاً .

ص: 292


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 163 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 251 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 162 .
4- (4) حاشیة المکاسب 1 / 163 .
العاشر : هل یثبت الخیار بالعیب فی الخط ؟

علی القول بحرمة بیع المصحف لو ظهر عیب فی الکتابة والخط فهل یثبت خیار العیب أم لا ؟

وجهان : من أنّ الخط والکتابة والسواد علی القول بالمنع یدخل فی الملک تبعاً ، فلم یلاحظ فی البیع ، فلا یقع فی مقابله جزءٌ من الثمن ، فإذا بان معیوباً لم یثبت به الخیار .

لا یقال : یکفی فی إثبات الخیار کون الخط والکتابة والسواد هو الداعی ا¨لی البیع .

لأنّا نقول : تخلف الداعی فی البیع لا یوجب الخیار کما هو واضح .

ومن أنّ العیب فی الخط أیضاً عیب فی المصحف فیثبت به خیار العیب .

ولکن الظاهر أنه علی القول بالمنع لا یثبت الخیار ، کما ذهب إلیه الفقیه الیزدی(1) والمحقق الأردکانی(2) ، وعلی القول بالجواز یثبت الخیار .

وحیث ذهبنا إلی جواز بیع المصحف فإذا ظهر العیب فی الخط یثبت به خیار العیب للمشتری ، واللّه سبحانه هو العالم .

وإلی هنا تمّ البحث حول بیع المصحف والحمد للّه .

ص: 293


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 163 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 252 .

الثانیة : جوائز السلطان وعمّاله

اشارة

قبل الورد فی البحث لابدّ من استعراض کلمات الأصحاب قدس اللّه أسرارهم فی المقام ، فلذا نقول :

قال الشیخ : « ... وإن کان (الأرزاق والجوائز والصلات) من جهة سلطان الجور فقد رُخِّص له فی قبول ذلک من جهتِهم ، لأنّ له حظَّاً فی بیت المال ویجتهِدُ أن یُخْرِجَ من جمیع ما یَحْصُلُ له من جهتهم الخمس ، ویضعه فی أربابه ، والباقی یُواسی منه إخوانه من المؤمنین ویَصِلُهم ببعضه وینتفع هو بالبعض . ولا یجوز له أن یَقْبَلَ من جوائزهم وصلاتهم ما یَعْلُمُه ظلماً وغصباً ویتعیّنُ له ، فإن لم یتعیّن له ذلک - وإن عَلِمَ أنّ المجیز له ظالم - لم یکن به بأسٌ بقبول جوائزه ویکون مباحاً له والإثم علی ظالمه . إلی أن قال : فإن خاف من ردّ جوائزهم التی یَعْلَمُها غصباً علی نفسه وماله ، فَلْیَقْبلها فإن أمکنه أن یردّها إلی أربابها فعل ، وإن لم یتمکّن من ذلک تصدّق بها عن صاحبها»(1) .

وقال ابن إدریس الحلی : « ... فإذا کان الأمر فی التقیة ما ذکرناه جاز له قبول جوائزه وصلاته ما لم یعلم أنّ ذلک ظلم بعینه ، فإذا لم یعلم أنّه بعینه ظلم فلا بأس بقبوله وإن کان المجیز له ظالماً ، وینبغی له أن یُخرج الخمس من کلّ ما یحصل من ذلک ویوصله إلی أربابه ومستحقیه ، وینبغی له أن یصل إخوانه من الباقی بشی ءٍ ویتصرف هو فی منافعه بالبعض الذی یبقی من ذلک ... فإنْ خاف من ردّ جوائزهم وصلاتهم التی یعلمها ظلماً بأعیانها وغصباً ، علی نفسه وماله جاز له قبولها عند هذه الحال ویجب علیه ردّها علی أربابها إن عرفهم ، فإن لم یعرفهم عرّف ذلک المال واجتهد فی طلبهم . وقد روی(2) أصحابنا أنّه یتصدق به عنهم ویکون

ص: 294


1- (1) النهایة / 358 و 357 .
2- (2) نحو خبر علی بن أبی حمزة البطائنی راجع وسائل الشیعة 17 / 199 ح 1 . الباب 47 من أبواب ما یکتسب به .

ضامناً إذا لم یرضوا بما فعل . والإحتیاط حفظه والوصیة به . وقد رُوی(1) أنّه یکون بمنزلة اللقطة ، وهذا بعید من الصواب ، لأنّ إلحاق ذلک باللقطة یحتاج إلی دلیل»(2) .

وقال المحقق فی الشرائع : « جوائز الجائر إن عُلمت حراماً بعینها فهی حرام [ وإلاّ فهی حلال ] فإن قبضها أعادها علی المالک ، وإن جهله أو تعذّر الوصول إلیه تصدّق بها عنه ، ولا یجوز إعادتها علی غیر مالکها مع الإمکان»(3) .

وقال فی المختصر : « جوائز الظالم محرّمة إن علمت بعینها وإلاّ فهی حلال»(4) .

قال العلامة فی التذکرة : «جوائز الجائر إن علمت حراماً لغصبٍ وظلمٍ وشبهه حرم أخذها ، فإنْ أخذها وجب علیه ردّها علی المالک إن عرفه ، وإن لم یعرفه تصدّق بها عنه ویضمن أو احتفظها أمانةً فی یده أو دفعها إلی الحاکم . ولا یجوز له إعادتها إلی الظالم ، فإن أعادها ضمن ، إلاّ أن یقهره الظالم علی أخذها فیزول التحریم . وأمّا الضمان فإن کان قد قبضها اختیاراً لم یزل عنه بأخذ الظالم لها کرهاً ، وإن کان قد قبضها مکرهاً زال الضمان أیضاً . وإن لم یعلم تحریمها کانت حلالاً بناءً علی الأصل ... »(5) .

وقال فی النهایة : «وأمّا جوائز الجائر فإن علمت بعینها حراماً ، فهی حرام فإن قبضها أعادها علی المالک ، فإن جهله أو تعذّر الوصول إلیه تصدّق بها عنه ، ولا یجوز إعادتها علی غیر مالکها ، وإن لم یعلم حراماً جاز تناولها ... وینبغی الصدقة ببعضها وأن یواسی إخوانه المؤمنین ، والأقرب أنّه علی سبیل الإستحباب»(6) .

وقال فی التحریر : « وجوائز الجائر إن علمت حراماً وجب دفعها إلی أربابها مع

ص: 295


1- (1) نحو خبر حفص بن غیاث المروی فی وسائل الشیعة 25 / 463 ح 1 . الباب 18 من أبواب کتاب اللقطة .
2- (2) السرائر 2 / 204 و 203 .
3- (3) الشرائع 2 / 6 .
4- (4) المختصر النافع / 118 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 152 مسألة 658 .
6- (6) نهایة الإحکام 2 / 527 و 526 .

المکنة ، ومع عدمه یتصدّق بها عنه ، ولو لم یعلم تحریمها جاز تناولها ، وینبغی إخراج الخمس منها ویصل إخوانه من الباقی»(1) .

وقال فی القواعد : « جوائز الجائر إن عُلمت غصباً حرمت ، وتُعاد علی المالک إن قبضها ، فإن جهله تصدّق بها عنه ، ولا یجوز إعادتها إلی الظالم اختیاراً»(2) .

أقول : ونحو هذه العبائر فی منتهی المطلب(3) .

وقال الشهید فی الدروس : « و[ یجوز ] تناول الجائزة منه [ أی من الظالم ] إذا لم یعلم غصبیّتها ، وإن علم ردّت علی المالک ، فإن جهله تصدّق بها عنه ، واحتاط ابن إدریس بحفظها والوصیة بها ، وروی أنّها کاللقطة ، قال [ ابن إدریس ] : وینبغی إخراج خمسها والصدقة علی إخوانه منها ، والظاهر أنّه أراد الإستحباب فی الصدقة . وترک أخذ ذلک من الظالم مع الإختیار أفضل . ولا یعارضه أخذ الحسنین علیهماالسلام جوائز معاویة ، لأنّ ذلک من حقوقهم بالأصالة»(4) .

وقال ثانی الشهیدین معلِّقاً علی عبارة الشرائع : « التقیید بالعین إشارة إلی جواز أخذها وإن علم أنّ فی ماله مظالم کما هو مقتضی حال الظالم ، ولا یکون حکمه حکم المال المختلط بالحرام فی وجوب اجتناب الجمیع للنص علی ذلک . نعم یکره أخذها حینئذٍ»(5) .

وقال المحقق الأردبیلی : « الظاهر أنّه یجوز قبول ما لم یعلم کونه حراماً علی کراهیة ، وإن علم کونه حلالاً فلا کراهة . ولا یبعد قبول قوله فی ذلک ، خصوصاً مع القرائن ، بأن یقول : هذا من زراعتی أو من تجارتی أو أنّه اقترضت من فلان ، وغیر ذلک ممّا علم حلیّة ذلک من غیر شبهة وقول وکیله المأمون حین یعطی وغیر ذلک ، والظاهر أنّ کونه زکاةً کذلک ، ولا ینبغی ردّه لما مرّ ، والظاهر أنّه کذلک سائر الواجبات . وإذا کان مشتبهاً محتملاً للأمرین فالظاهر أنّه مکروه (للشبهة ، ن . ل) ویمکن استحباب إخراج خمسه ، ومواساة الإخوان لتزول کما تدلّ

ص: 296


1- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 271 .
2- (2) القواعد 2 / 12 .
3- (3) منتهی المطلب 2 / 1025 من الطبع الحجری .
4- (4) الدروس الشرعیة 3 / 170 .
5- (5) مسالک الإفهام 3 / 141 .

علیه الروایات وکلمات الأصحاب ... ولا شبهة فی أنّ الإجتناب أولی ، وهو واضح عقلاً ونقلاً ولا یحتاج إلی البحث ... إلاّ أنّه یخطر بالبال أنّه قد یکون الأخذ والقبول وصرفه فی المحاویج أولی . ویمکن الأولی منه جعله فی المحاویج من المؤمنین بإذن أهله من غیر تصرّف . ویمکن فهمه من الأخبار المتقدمة من الإهتمام بحال المؤمنین ومواساتهم بعد الأخذ ، وأنّه لیس بحرام . ویحصل به قضاء حوائج المؤمنین المحتاجین مثل سدّ خلّتهم وقضاء دیونهم وتزویج أراملهم بل یمکن أن یحصل الأذی للمعطی بالردّ ، فإذا کان مؤمناً یشکل الردّ إلاّ أن یردّ به عن عمله ، أو أنّه قد حصل له الأذی ویستأهل الإرتکاب ما ارتکب .

ولکن یخطر بالبال أنّه لو کان ذلک حسناً لکان القبول له حسناً ، مع أنّه قد علم اُولویة الإجتناب . وأیضاً کما یکره للآخذ کذا یکره لغیره ، فکیف یجعله لهم . إلاّ أنّه قد یقال : الأخذ لنفسه یکون مکروهاً لا لغیره ، وإلاّ یلزم کراهة قضاء حوائج الإخوان فی مثل هذا الزمان ، لأنّ أکثر حوائجهم إلی الحکّام للجوائز إمّا تبرّعاً أو اُجرة حج ونحوه ، وإن خلی ذلک من التحریم فقلیلاً ما یسلم من الشبهة ، إلاّ أن یکونوا مضطرّین ولا یعلموا به ... »(1) .

وقال المحقق السبزواری : « جوائز الجائر إن علمت حرمتها بعینها فهی حرام ، فإن قبضها أعادها علی المالک إن أمکنه ، ولا یجوز إعادتها إلی غیر المالک مع الإمکان إلاّ أن یأخذها الظالم قهراً . وهل یضمن حینئذٍ ؟ قیل : نعم ، وقوّی بعضهم التفصیل ، وهو أنّ القبض إن کان بعد العلم بکونها مغصوبة ضمن واستمرّ الضمان ، وإن کان قبل العلم ولم یقصّر فی إیصالها إلی من یجوز إیصالها إلیه لم یضمن . والفرق أنّ الید فی الأوّل عادیة مستصحبة للضمان وفی الثانی أمانة . وهو حسنٌ . وإن جهل المالک أو تعذّر إیصالها إلیه تصدّق بها عنه . وإن لم یعلم حرمتها بعینها جاز الأخذ وإن علم أنّ فی ماله مظالم ، للأخبار الکثیرة ، واشتهر بینهم أنّه مکروه ... »(2) .

وقال صاحب الحدائق : « لا إشکال ولا خلاف فی حلّ جوائز السلطان وجمیع الظلمة

ص: 297


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / (88 - 86) .
2- (2) الکفایة 1 / 447 .

علی کراهیة ما لم یخبره بأنّ ذلک من ماله ، فإنّه لا کراهة ، وما لم یعلم بکونه حراماً ، فیجب ردّه علی مالکه أو الصدقة به عنه»(1) .

وقال الشیخ جعفر : « ... ولو لم یعلم کونها غصباً جاز أخذها من الجائر مطلقاً للإجماع والأخبار ومن غیره ، ما لم یعلم إقدامه علی المشتبه المحصور لقضاء الید وإصالة الصحة فیجوز الأخذ حینئذٍ ، وإن جاء بها من دار أو دکان أو حجرة أو صندوق فیه غصب ، أو أشار إلی معیّن من جملة کذلک ، ولا یعلم حصوله فی المدفوع والمعیّن ، إلاّ أنّ التجنّب مع الانحصار من شیم الأبرار وتختلف مراتب الرجحان باختلافه ... »(2) .

وقال سید الریاض : «... وإلاّ یعلم حرمتها بعینها فهی حلال مطلقاً ، وإن علم أنّ فی ماله مظالم بلا خلاف فیه ... »(3) .

وقال الفاضل النراقی : « جوائز السلطان - بل مطلق الظالم بل من لا یتورّع المحارم من الأموال - محرَّمة إن علمت حرمتها بعینها ، فإن قبضها حینئذٍ أعادها علی المالک إن عرف ، ویتصدّق بها إن لم یعرف کما صرّح به فی روایة علی بن أبی حمزة ، وإن لم یعلم حرمتها کذلک فهی حلال مطلقاً ، وإن علم أنّ فی ماله مظالم ، بلا خلاف فیه للأصل والمستفیضة ... »(4) .

وقال فی الجواهر : « جوائز السلطان الجائر وعمّاله إن علمت حراماً بعینها فهی حرام بلا خلاف ولا إشکال ، لا یجوز تملّکها والتصرف بها وقبولها ، وإلاّ فهی حلال مطلقاً وإن علم أنّ فی ماله محرّماً بلا خلاف ولا إشکال أیضاً کما اعترف به فی الحدائق والریاض ، بل فی المصابیح الإجماع علیه ، للأصل والمعتبرة المستفیضة ... »(5) .

أقول : قسّم الشیخ الأعظم(6) المال المأخوذ من الجائر إلی أربعة أقسام :

ص: 298


1- (1) الحدائق 18 / 261 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 338 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 205 .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 199 .
5- (5) الجواهر 22 / 170 .
6- (6) المکاسب 2 / 165 .
المال المأخوذ من الجائر تنقسم إلی أربعة أقسام

الأوّل : الآخذ لا یعلم - ولو إجمالاً - أنّ فی أموال الجائر مالاً محرّماً . وفی هذا القسم لا إشکال فی جواز أخذه ، لأنّ نفس کونه الشخص ظالماً لا یوجب حرمة أخذ جوائزه أو المعاملة معه .

الثانی : الآخذ یعلم إجمالاً أنّ فی أموال الجائر محرَّماً ولکن لا یعلم - لا تفصیلاً ولا إجمالاً - بالحرام فی المأخوذ منه ، فحینئذ یجوز التصرف فیما أخذ منه ، بلا فرق بین أنّ یکون محل ابتلائه جمیع أمواله أو بعضه .

الثالث : الآخذ یعلم إجمالاً أنّ فی أموال الجائر محرَّماً ولکن یعلم تفصیلاً أیضاً بأنّ المأخوذ منه یکون حراماً ، فحینئذ لا یجوز له التصرف فیما أخذ منه .

الرابع : هذا القسم الأخیر ولکن مع العلم الإجمالی بوجود الحرام فی المأخوذ منه . ویأتی حکمه فیما بعد .

وهذه إجمال الأقسام ، وأمّا تفصیلها :

القسم الأوّل :
اشارة

استدل الشیخ الأعظم قدس سره لجواز الأخذ وحلیّة التصرف ب- « الأصل والإجماع والأخبار»(1) .

المراد من الأصل فی کلام الشیخ

« قد یقال : بأنّ المراد بالأصل فی کلامه قدس سره هو أصالة الإباحة الثابتة بالأدلة العقلیة والنقلیة .

وفیه : أنّ أصالة الإباحة إنّما تجری فی الأموال إذا لم تکن مسبوقة بید اُخری ، کالمباحات الأصلیة التی ملکها الجائر بالحیازة . وأما إذا کانت مسبوقة بید اُخری فإنّ أصالة الإباحة محکومة بأصل آخر ، وهو عدم انتقال الأموال المذکورة إلی الجائر من مالکها السابق ،

ص: 299


1- (1) المکاسب 2 / 165 .

فیحرم تناول تلک الأموال من الجائر» . کذا قاله المحقق الخوئی(1) قدس سره .

وإن کان المراد بالأصل هو أصالة الصحة وهی التی تقتضی حمل فعل المسلم علی الصحة - والمفروض أنّ الجائر أیضاً یکون من المسلمین فیعامل معه معاملة بقیة المسلمین .

وفیه : الدلیل الوارد علی اعتبار أصالة الصحة - هی السیرة الجاریة علی حمل المعاملات الصادرة عن الغیر علی الصحة والسیرة من الأدلة اللبیّة ، فیؤخذ بالمقدار المتیقَّن منها ، وهو إحراز أهلیة المتصرِف للتصرف أو السلطة له ، ومن المحتمل عدم جواز التصرف فی المال للجائر لعدم کونه مالکاً له ، وحینئذ لا یمکن الحکم بجواز التصرف والأخذ منه بأصالة الصحة .

والظاهر أنّ مراد الشیخ من الأصل هو قاعدة الید ، وهی تدلّ علی أنّ الجائر یکون مالکاً لما فی یده فعلیه یکون تصرفاته نافذةً ، وحیث أعطی ماله لشخص یجوز له التصرف فیه وأخذه . وفی التعبیر عن هذه القاعدة بالأصل مسامحة واضحة .

ثمّ إنّ المراد بالأصل فی کلام الشیخ لم یکن استصحاباً ، لأنّ استصحاب عدم کون المال ملکا للجائر وکذا استصحاب عدم طیب نفس المالک بالتصرف فی ماله یمنعان من الأخذ والتصرف . وهکذا استصحاب عدم انتقال المال من مالکه وعدم دخوله فی ملک المجاز له ، وعلی هذا الاستصحاب یجری علی خلاف ما ینتجه الشیخ فلم یکن مراده .

ولکن یمکن أن یناقش فی جریان قاعدة الید فی المقام أیضاً : بأنّ الید تکون أمارة للملکیة إذا لم یعلم حالتها السابقة وحیث أنّ الجائرین فی أوّل أمرهم لیس لهم مال أو ملک غالباً ولکن حصل لهم مال کثیر فی زمن قلیل بحیث لم یحصل لغیرهم ، فعلیه الاعتماد علی جریان قاعدة الید فی المقام مشکل .

ولکن هنا شبهة اُخری غیر شبهة الغصبیة وعدم جواز الحلیّة ، وهی احتمال حرمة أخذ الجائزة والصلة وغیرهما من الجائرین ، واحتمال عدم جواز أکل أموالهم والتصرف فیها کحرمة معونتهم ومصاحبتهم والدخول علیهم بالحرمة التکلیفیة . وهذه الشبهة الأخیرة

ص: 300


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 493 .

مدفوعة بأصالة البراءَة وأصالة الحلیّة . ولعلّ تمسک الشیخ الأعظم بالأصل - وهو هنا أصلی البراءَة والحلیّة - لدفع الشبهة الأخیرة ، لا الغصبیة وعدم جواز حلیّة المال ، کما نبّه علیه المحقق الخمینی(1) قدس سره .

ولکن یمکن أن یناقش فیه : بأنّ حمل الإجماع فی کلمات القوم والروایات الواردة فی المقام علی ما ذکره مشکلٌ . ولعلّ هذا صار قرینة علی أنّ المراد بالأصل فی کلام الشیخ الأعظم قدس سره یجری فی الشبهة الاُولی فقط .

وأمّا المراد بالإجماع فی کلامه

فقد یظهر من مطاوی ما ذکرناه لک من کلمات القوم الإجماع علی هذا الحکم ، کما صرح بعدم الخلاف فی المقام أو الإجماع أصحاب الحدائق(2) والمصابیح(3) وشرح القواعد(4) والریاض(5) والمستند(6) والجواهر(7) والمکاسب(8) . ولم یظهر خلاف هذا الحکم ممّن تأخر عنهم بل یظهر موافقتهم معهم .

ولکن من المحتمل جداً أنّ مدرک المجمعین الأصول المرخِّصَة والروایات المجوِّزة فی المقام ، فحینئذ صار الإجماع مدرکیّاً لا یغنی ولا یسمن من جوع .

وأمّا المراد بالروایات

یأتی منّا تفصیلاً الروایات الواردة فی المقام وأمّا بعضها :

فمنها: صحیحة أبی ولاّد - الحنّاط وهو حفص بن سالم وقیل ابن یونس ، ثقةٌ - قال :

ص: 301


1- (1) المکاسب المحرّمة 2 / 223 .
2- (2) الحدائق 18 / 261 .
3- (3) المصابیح للسید بحر العلوم الطباطبائی النجفی قدس سره حیث نقل عنه فی الجواهر 22 / 170 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 338 .
5- (5) ریاض المسائل 8 / 205 .
6- (6) مستند الشیعة 14 / 199 .
7- (7) الجواهر 22 / 170 .
8- (8) المکاسب 2 / 165 .

قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : ما تری فی رجل یلی أعمال السلطان لیس له مکسب إلاّ من أعمالهم ، وأنا أمرّ به فأنْزلُ علیه فیضیفنی ویحسن إلیَّ ، وربّما أمر لی بالدرهم والکسوة ، وقد ضاق صدری من ذلک ؟ فقال لی : کُلْ وخُذْ منه فلک المهنأ وعلیه الوزر(1) .

ومنها : صحیحة أبی المغرا - وهو حمید بن المثنی الثقة - قال : سأل رجل أبا عبد اللّه علیه السلام وأنا عنده ، فقال : أصلحک اللّه أمرّ بالعامل فیجیزنی بالدراهم آخذها ؟ قال : نعم ، قلت : وأحج بها ؟ قال : نعم(2) .

ومنها : حسنة أو معتبرة محمد بن مسلم وزرارة قالا : سمعناه یقول : جوائز العمال لیس بها بأس(3) .

ومنها : صحیحة أحمد بن محمد بن عیسی عن أبیه عن أبی جعفر علیه السلام قال : لا بأس بجوائز السلطان(4) .

ومنها : حسنة محمد بن هشام أو غیره قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أمرّ بالعامل فیصلنی بالصلة أقبلها ؟ قال : نعم ، قلت : وأحجّ منها ؟ قال : نعم وحجّ منها(5) .

لا یخفی أنّ کلمة « أو غیره» یوجب الإخلال بسند الروایة ، ولکن متنها ودلالتها واضحة .

ومنها : معتبرة أبی بکر الحضرمی قال : دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام وعنده إسماعیل ابنه ، فقال : ما یمنع إبن أبی السماک أن یخرج شباب الشیعة فیکفونه ما یکفیه الناس ، ویعطیهم ما یعطی الناس ؟ ثمّ قال لی : لم ترکت عطاءک ؟ قال : مخافة علی دِیْنی ، قال : ما منع إبن أبی السماک أن یبعث إلیک بعطائک ؟ أما علم أنّ لک فی بیت المال نصیباً(6) ؟ !

ص: 302


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 213 ح 1 . الباب 51 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 213 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 214 ح 5 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 218 ح 16 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 214 ح 3 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 214 ح 6 .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان عن أبی جعفر علیه السلام أنّه سُئل عن جوائز المتغلبین ، فقال : قد کان الحسن والحسین علیهماالسلام یقبلان جوائز معاویة لأنّهما کانا أهل لما یصل من ذلک إلیهما ، وما فی أیدی المتغلبین علیهم حرام وهو للناس واسع إذا وصل إلیهم فی خیر وأخذوه من حقّه(1) .

وهذه الروایات المستفیضة المعتبرة تدلّ بإطلاقها علی حکم هذا القسم من جوائز الجائر بلا إشکال .

ثمّ ذکر الشیخ الأعظم قدس سره مکاتبة الحمیری(2) وقال قبلها : « ربّما یوهم بعض الأخبار أنّه یُشترط فی حلّ مال الجائر ثبوت مال حلال له»(3) ، ثمّ قال : « لکن هذه الصورة قلیلة التحقق »(4) .

أقول : مورد مکاتبة الحمیری وجود العلم بوجود الحرام فی جملة أموال الجائر ، وهو مفقود فی هذا القسم ، فعلیه المکاتبة تحمل علی القسم الثانی کما حملها الفقیه الیزدی(5) والمحققون الإیروانی(6) والأردکانی(7) والخوئی(8) قدس سرهم .

ولم یکن موردها قلیل التحقق بل کثیراً ما یتحقّق .

القسم الثانی :
اشارة

وهو أن یکون الآخذ علم إجمالاً أنّ فی أموال الجائر محرَّماً ولکن لیس له علماً - لا

ص: 303


1- (1) دعائم الإسلام 2 / 323 ح 1223 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 181 ح 18 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 217 ح 15 .
3- (3) المکاسب 2 / 165 .
4- (4) المکاسب 2 / 167 .
5- (5) حاشیة المکاسب 1 / 165 .
6- (6) حاشیة المکاسب 1 / 310 .
7- (7) غنیة الطالب 1 / 257 .
8- (8) مصباح الفقاهة 1 / 494 .

تفصیلاً ولا إجمالاً - بالحرام فی المأخوذ منه ، وهذا القسم ینقسم إلی صورتین :

الصورة الأولی : عدم تعارض الاُصول والأمارات فی أطراف العلم الاجمالی

ذکر الشیخ الأعظم(1) جواز التصرف فی هذه الصورة بأحد شرطین علی سبیل منع الخلو :

الأوّل : إذا کانت الشبهة فی أطراف العلم الإجمالی غیر محصورة .

الثانی : إذا کانت الشبهة محصورة بین ما لا یبتلی المکلَّف به وبین ما من شأنه الإبتلاء به ، ثمّ مثّل بما « إذا علم أنّ الواحد المردّد بین هذه الجائزة وبین اُمّ ولده المعدودة من خواصّ نسائه (أی نساء الجائر) مغصوب»(2) .

فإذا کان بعض أطراف العلم الإجمالی خارجاً عن محل الإبتلاء فلا یتنجز .

واستدلّ علیه فی الفرائد(3) بوجوه أشار هنا إلی واحد منها ، وهی : من شرائط تنجز العلم الإجمالی کون التکلیف المتعلّق بالواقع فعلیّاً علی کلِّ تقدیر ومع عدم کونه مشروطاً بالإبتلاء فی بعض الأطراف ، وإلاّ صار فی ما هو فی معرض الإبتلاء کالشبهة البدویة ، فلا یتنجز العلم الإجمالی فیه .

أقول : بنظرنا القاصر العلم الإجمالی منجز بالنسبة إلی التکلیف الواقعی ، لتعارض الاُصول النافیة فی أطرافه ولکن إذا جری فی بعضها دون البعض کما فی الموردین اللذین ذکرهما الشیخ الأعظم قدس سره لأنه إذا کان بعض الموارد خارجاً عن محلِّ ابتلاء المکلّف فلا یجری الأصل النافی بالنسبة إلیه لعدم طرو الفائدة علیه بالنسبة إلی المکلّف ، فیصیر الأصل النافی فی الطرف الآخر بلا معارض ، فیجری وصار کالشبهة البدویة .

وهکذا مآل الشبهة غیر المحصورة ترجع إلی خروج ابتلاء المکلّف عن کثیر من أفراده فصار کالمورد الأوّل .

وما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره بالنسبة إلی عدم تنجز العلم الاجمالی فی الموردین تام

ص: 304


1- (1) المکاسب 2 / 167 .
2- (2) المکاسب 2 / 167 .
3- (3) فرائد الأصول 2 / 233 التنبیه الثالث .

عندنا ، ولکن یختلف طریقنا وطریقه فی الاستدلال ، مع الإتحاد فی النتیجة . والتفصیل یطلب من علم الأصول .

ولعله أشار إلی ما ذکرنا المحقق الإیروانی فی ذیل قول الشیخ الأعظم : « فإن کانت الشبهة فیها غیر محصورة ... »(1) حیث یقول : « أو وإن کانت محصورةً لکن کان العلم الإجمالی بین ما بقی فی ید الجائر وما خرج من یده بغصبٍ أو إباقٍ أو نحو ذلک ، فإنّ هذا مشارک فی الحکم للصورة الاُولی»(2) .

والحاصل ، الحکم بالجواز فی هذه الصورة مبنیٌّ علی عدم تنجز العلم الإجمالی فی المقام کما مرّ ، وأمّا ابتناؤها علی قاعدة الید فمشکل بما مرّ فی القسم الأوّل ، بأنّها معتبرة بالنسبة إلی ما لا یعلم حالته السابقة ، وأمّا إذا ظهرت حالته السابقة فلا اعتبار بها ، فالتمسک بقاعدة الید فی المقام مطلقاً لا یتمّ .

خلافاً للمحقق الخوئی(3) قدس سره وشیخنا الاُستاذ(4) - مدظله - .

هل أخذ الجائزة من الجائر مکروه مع العلم بوجود الحرام فی أمواله ؟

ذهب إلی الکراهة جمع من الأصحاب ، منهم : العلاّمة فی المنتهی(5) والشهید فی الدروس قال : « وترک أخذ ذلک من الظالم مع الاختیار أفضل»(6) ، وثانیه فی المسالک(7) والأردبیلی فی مجمع الفائدة بعد الحکم بأنّه مکروه للشبهة قال : «ولا شبهة فی أنّ الإجتناب أولی ، وهو واضح عقلاً ونقلاً ولا یحتاج إلی البحث»(8) .

ص: 305


1- (1) المکاسب 2 / 167 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 311 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 495 .
4- (4) ارشاد الطالب 1 / 313 .
5- (5) منتهی المطلب 2 / 1026 الطبع الحجری .
6- (6) الدروس 3 / 170 .
7- (7) مسالک الأفهام 3 / 141 .
8- (8) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 88 .

والسبزواری فی الکفایة قال : « واشتهر بینهم أنّه مکروه»(1) ولکن ناقش هو فیها ، واختار الکراهة المحدث البحرانی(2) والسید بحر العلوم الطباطبائی(3) ، وقال الشیخ جعفر : « والأقوی استحباب التجنّب مطلقاً ، لما دلّ علی رجحان التعفّف وعزة النفس والتباعد عن منّة الفسّاق والفجّار ، بل التجنّب عن منّة الخلق جمیعاً اُولی»(4) ، وقال فی الریاض : « والأفضل التورّع عنها بلا خلاف إن لم یخبر المجیز بالإباحة للشبهة الموجبة للکراهة»(5) ، وقال فی المستند : « والأفضل التورع عنها فی غیر ما علم حلّه إجماعاً ، لصدق الشبهة المأمور باجتنابها ، إلاّ مع إخبار المخبر بالإباحة فلا تکره کما قیل بل نفی عنه الخلاف . وهو مشکل ، لعدم خروجه عن الشبهة إذا احتمل کذبه ... »(6) . وقال فی الجواهر : « ولا ریب فی أنّه أحوط کما أنّه لا ریب فی استحباب التنزه عن جوائزهم ... »(7) .

الاستدلال علیها بوجوه
اشارة

ثم قد استدلوا علیها بوجوه :

الأوّل : الدلیل قائم علی جواز أخذها ظاهراً

ولکن یحتمل فی الواقع أن تکون حراماً ، فلذا الإجتناب عنها اُولی ، فیکون أخذها مکروهاً . ولعلّ هذا مراد العلامة(8) فی الإستدلال علیها باحتمال الحرمة .

وفیه : کبری هذا الاستدلال هی حکم العقل برجحان الإحتیاط ، وهو تام ولکن لا تثبت الکراهة الشرعیة کما ذکره المحقق الإیروانی(9) . مضافاً إلی أنّها لو تثبتت الکراهة

ص: 306


1- (1) الکفایة 1 / 447 .
2- (2) الحدائق 18 / 261 .
3- (3) حکاه عنه السید محمد المجاهد فی المناهل / 303 ونقل الشیخ الأعظم عن المجاهد فی المکاسب 2 / 169 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 340 .
5- (5) ریاض المسائل 8 / 206 .
6- (6) مستند الشیعة 14 / 200 .
7- (7) الجواهر 22 / 176 .
8- (8) منتهی المطلب 2 / 1026 الطبع الحجری .
9- (9) الحاشیة علی المکاسب 1 / 311 .

الشرعیة لثبتت بالنسبة إلی جمیع الناس حتّی المتورعین فی اُمورهم لوجود هذا الإحتمال فی أموالهم أیضاً ، ولکن لم یلتزم به أحدٌ .

اللهم إلاّ أنْ یقال : إنّ الدلیل « لیس مجرد الإحتمال وإلاّ لعمّت کراهة أخذ المال من کلِّ أحدٍ ، بل الموجب له کون الظالم مظنّة الظلم والغصب وغیر متورِّع عن المحارم ، نظیر کراهة سؤر مَنْ لا یتوقّی النجاسة» کما ذکره الشیخ الأعظم(1) قدس سره . فحینئذ یتم الدلیل ، ولکن دون إثبات کراهة الأخذ من غیر المتورِّع ومَنْ یکون فی مظنّة الظلم والغصب خرط القتاد .

الثانی : الروایات الواردة علی حُسن الاحتیاط ، وهی کثیرة :

منها : معتبرة عمر بن حنظلة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : فإنّ الوقوف عند الشبهات خیرٌ من الإقتحام فی الهلکات(2) .

ومنها : مرسلة الطبرسی أنّه قال : وفی الحدیث : دع ما یریبک إلی ما لا یریبک(3) .

قال الطبرسی : « الریب مصدر رابه یریبه : إذا حصل فیه الریبة ، وحقیقة الریبة قلق النفس واضطرابها . ثمّ ذکر الحدیث وقال : والمعنی أنّه من وضوح دلالته بحیث لا ینبغی أن یرتاب فیه ، إذ لا مجال للریبة فیه»(4) .

ومنها : خبر أبی هشام الجعفری عن الرضا علیه السلام أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قال لکمیل بن زیاد : أخوک دینک فاحتط لدینک بما شئت(5) .

ومنها : خبر نعمان بن بشیر قال : سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : إنّ لکلِّ ملک حمی وإنّ حمی اللّه حلاله وحرامه والمشتبهات بین ذلک ، کما لو أنّ راعیّاً رعی إلی جانب الحمی لم تثبت غنمه أن تقع فی وسطه ، فدعوا المشتبهات(6) .

ص: 307


1- (1) المکاسب 2 / 170 .
2- (2) وسائل الشیعة 27 / 157 ح 9 . الباب 12 من أبواب صفات القاضی .
3- (3) جوامع الجامع 1 / 13 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27 / 167 ح 43 .
4- (4) جوامع الجامع 1 / 13 .
5- (5) وسائل الشیعة 27 / 167 ح 46 .
6- (6) وسائل الشیعة 27 / 167 ح 45 .

وفیه : هذه الروایات إرشاد إلی حسن الإحتیاط شرعاً کما هو حسنٌ عقلاً ، فلا یمکن إثبات الکراهة الشرعیة بها ، مضافاً إلی عدم اختصاصها بالمقام بل هی جاریة فی جمیع الشبهات .

الثالث : أخذ المال والجائزة من الظالمین یوجب محبّتهم ومودّتهم

لأنّ القلوب مجبولة علی حبّ من أحسن إلیها ، وقد ورد النهی فی الروایات المستفیضة عن محبّتهم ومودّتهم والتقرب إلیهم ، ویترتب علیها من المفاسد ما لا یخفی .

ومن الروایات الناهیة صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن أعمالهم فقال لی : یا أبا محمد ، لا ولا مَدّة قلم ، إنّ أحدهم لا یصیب من دنیاهم شیئاً إلاّ أصابوا من دینه مثله ، أو حتّی یصیبوا من دینه مثله . الوهم من ابن أبی عمیر(1) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّ تباعد من اللّه ، ولا کثر ماله إلاّ اشتدَّ حسابه ، ولا کثر تبعه إلاّ کثرت شیاطینه(2) .

ومنها : معتبرة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إیّاکم وأبواب السلطان وحواشیها ، فإنّ أقربکم من أبواب السلطان وحواشیها أبعدکم من اللّه عزّ وجلّ ، ومن آثر السلطان علی اللّه أذهب اللّه عنه الورع وجعله حیراناً(3) .

ومنها : مرفوعة سهل بن زیاد عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجلّ : «وَلاَ تَرْکَنُواْ إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّکُمُ النَّارُ»(4) ، قال : هو الرجل یأتی السلطان فیحبّ بقاءه إلی أن یدخل یده إلی کیسه فیعطیه(5) .

ومنها : معتبرة أو حسنة محمد بن هشام عمّن أخبره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ

ص: 308


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 179 ح 5 . الباب 42 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 181 ح 12 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 181 ح 13 .
4- (4) سورة هود / 113 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 185 ح 1 . الباب 44 من أبواب ما یکتسب به .

قوماً ممّن آمن بموسی علیه السلام قالوا : لو أتینا عسکر فرعون فکنّا فیه ونلنا من دنیاه حتّی إذا کان الذی نرجوه من ظهور موسی علیه السلام صرنا إلیه ، ففعلوا ، فلمّا توجه موسی علیه السلام ومَنْ معه هاربین من فرعون رکبوا دوابّهم وأسرعوا فی السیر لیلحقوا موسی علیه السلام وعسکره فیکونوا معهم ، فبعث اللّه ملکاً فضرب وجوه دوابّهم فردّهم إلی عسکر فرعون ، فکانوا فی من غرق مع فرعون(1) .

ومنها : موثقة أو معتبرة علی بن عقبة عن بعض أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : حقّ علی اللّه عزّ وجلّ أن تصیروا مع من عشتم معه فی دنیاه(2) .

ومنها : صحیحة الولید بن صبیح عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : یا ولید متی کانت الشیعة تسأل عن أعمالهم ؟ إنّما کانت الشیعة تقول : یؤکل من طعامهم ، ویشرب من شرابهم ، ویستظل بظلِّهم ، متی کانت الشیعة تسأل عن هذا(3) ؟

بتقریب : أنّ المرتکز فی أذهان الشیعة حزازة الأکل مِنْ طعامهم والشرب مِنْ شرابهم حتّی الإستظلال بظلِّهم ، ولذا یسألون أئمتهم أئمة الهدی علیهم السلام عنها ، ونفس هذا السؤال الذی نشأ من ارتکازهم یدلّ علی الکراهة . والسؤال عن الإستظلال لا یضرّ بالمطلوب ، لعدم قرینیة السیاق ، ولأنّ الاستظلال بظلِّهم لا یتحقق إلاّ بالتقرب إلیهم وإلی قصورهم ومنازلهم « وهم النار هم النار هم النار » کما ورد فی خبر إبراهیم بن مهاجر(4) . وقد ورد فی مرسلة سلیمان الجعفری عن الرضا علیه السلام أنّ « النظر إلیهم علی العمد من الکبائر التی یستحق بها النار »(5) .

وفیه : أنه یمکن أن یناقش فی الجمیع إلاّ صحیحة الولید ، بأنّ بین أخذ الجائزة منهم ومحبّتهم عموم من وجه ، یمکن أن یأخذ الجائزة منهم ولا یحبّهم بل یبغضهم ، ویمکن أن لا یأخذ منهم شیئاً ولکن یحبّهم . وظاهر الروایات أنّ محبتهم من المحرَّمات الشرعیة دون مجرد

ص: 309


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 185 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 185 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 187 ح 1 . الباب 45 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 188 ح 3 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 191 ح 12 .

الکراهة کما اعترف به المحقق الإیروانی(1) قدس سره ، ولکن بینه وبین الأخذ عموم من وجه کما مرّ .

ولکن صحیحة الولید تامة السند والدلالة کما مرّ ، فیمکن إثبات الکراهة الشرعیة بها ، واللّه العالم .

ویؤید الکراهة خبر الفضل بن ربیع أنّ الرشید أمر بإحضار موسی بن جعفر علیه السلام یوماً فأکرمه وأتی بها بحُقَّة الغالیة ففتحها بیده فغلفه بیده ، ثمّ أمر أن یُحمل بین یدیه خلع وبدرتان دنانیر ، فقال موسی بن جعفر علیه السلام : واللّه لو لا أنّی أری مَنْ اُزوّجه مِنْ عزّاب بنی أبی طالب لئلا ینقطع نسله ما قبلتها أبداً(2) .

وخبر آخر له قال : لما اصطبح الرشید یوماً ، استدعی حاجبه فقال له : امض إلی علی بن موسی العلوی علیه السلام وأخرجه من الحبس وألقه فی برکة السباع ، إلی أن ذکر أمره بإخراجه وإدخاله علیه ، فلما حضر بین یدی الرشید عانقه ، ثمّ حمله إلی مجلسه ، ورفعه فوق سریره ، وقال : یابن العم ، إن أردت المقام عندنا ففی الرحب والسعة ، وقد أمرنا لک ولأهلک بمال وثیاب ، فقال له : لا حاجة لی فی المال ولا الثیاب ، ولکن فی قریش نفر یفرّق ذلک علیهم ، وذکر له قوماً فأمر لهم بصلة وکسوة ، الحدیث(3) .

قال ابن طاوس بعد نقل هذا الخبر : لربّما کان هذا الحدیث عن الکاظم موسی بن جعفر علیه السلام لأنّه کان محبوساً عند الرشید ، لکنّنی ذکرت هذا کما وجدته(4) .

ویؤیده أیضاً مرسلة الصدوق قال : کان الحسن والحسین علیهماالسلام یأخذان من معاویة الأموال ، فلا ینفقان من ذلک علی أنفسهما وعلی عیالهما ما تحمله الذبابة بفیها(5) .

والحاصل ، ذهبنا - تبعاً للمشهور - إلی کراهة أخذ جوائز الظالمین بدلالة صحیحة الولید کما مرّ ، ویؤیدها هذه الروایات المذکورة ، واللّه العالم .

ص: 310


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 311 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 216 ح 11 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 177 ح 8 .
4- (4) مهج الدعوات / 249 .
5- (5) مستدرک الوسائل 13 / 180 ح 16 .
اُمور ترتفع بها الکراهة
اشارة

ثمّ ذکروا لإرتفاع الکراهة اُموراً :

منها : إخبار المجیز بحلّیّتها

وأنّها من أمواله الخاصّة ، بأن یقول : هذه الجائزة من تجارتی أو زراعتی أو حدیقتی أو معملی أو نحو ذلک . ولعلّ أوّل من تعرض لها المحقق الأردبیلی(1) کما مرّ کلامه فی أوّل البحث وتبعه أصحاب الحدائق(2) والمصابیح(3) والریاض(4) والمناهل(5) والمکاسب(6) ، وقال فی الجواهر : « بل قیل : لا کراهة فی قبولها مع الإخبار بأنّها من الحلال ، والأمر فی ذلک کلّه سهلٌ»(7) .

وأمّا مستند هذا الأمر یمکن أن یکون قبول قول ذی الید الذی یرجع بالمآل إلی اعتبار قاعدة الید .

وفیه : ما قد مرّ منّا من عدم جریان قاعدة الید بإطلاقها بالنسبة إلی أموال الجائر ، أعنی بالنسبة إلی الأموال التی نعلم فیها ملکیتها السابقة ولا نعلم کیفیة انتقالها إلیه ، وفی هذه الموارد لا تقبل قوله أیضاً ، لرجوع قبول قوله إلی تصحیح یده ، وهکذا الأمر بالنسبة إلی قول وکیله المأمون .

ولکن لا ینقض علی المستند بأنّ إخبار الثقة یکون حجة عند العقلاء والمتشرعة والشریعة ، والجائر لا یکون ثقة فقوله لیس بمعتبر .

ص: 311


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 86 .
2- (2) الحدائق 18 / 261 .
3- (3) نقل عنه السید المجاهد فی المناهل / 303 .
4- (4) ریاض المسائل 8 / 206 .
5- (5) المناهل / 303 .
6- (6) المکاسب 2 / 169 .
7- (7) الجواهر 22 / 177 .

لأنّ قول الثقة معتبر عندهم وفی الأحکام الشرعیة ، وأمّا بالنسبة إلی قول ذی الید فقوله معتبر ولو لم یکن ثقة أو لم یحرز وثاقته . نعم الإحتیاط بالنسبة إلی قول المتّهم حسنٌ لو لم نقل بعدم اعتبار قوله . فلو دخل المستشکل من هذا الوجه - وهو عدم اعتبار قول المتّهم - لکان حسناً . ومن الواضح أنّ الجائرین من أظهر مصادیق المتّهمین .

ولکن لا ینقض علی الاستدلال بما ذکره الفاضل النراقی بقوله : « وهو مشکلٌ ، لعدم خروجه عن الشبهة إذا احتمل کذبه ، ووجوب حمل قول المسلم علی الصدق إن کفی فی رفع الشبهة لکفی وجوب حمل فعله علی الصحة فی رفعها بمجرد الإعطاء أیضاً ، فلا یکون مکروهاً مطلقاً»(1) .

لعدم استناد الکراهة إلی الشبهة کما سبق وکذا لا یتمّ ما ذکره المحقق الخوئی(2) تبعاً له .

وکذا لا یتم ما ذکره شیخنا الاُستاذ(3) - مدظله - بأنّ أخبار الإحتیاط والتوقف عند الشبهات تجری فی المقام أیضاً ، لما مرّ منّا من عدم استناد الکراهة إلی هذه الروایات .

ومنها : إخراج الخمس .

ذهب إلی استحباب إخراج الخمس من الجوائز جماعة من الأصحاب ، منهم :

الشیخ فی النهایة(4) وابن إدریس الحلّی(5) والعلاّمة فی التحریر(6) وقال فی المنتهی : « من أنّ الخمس مطهّر للمال المختلط یقیناً بالحرام ، ما لم یعلم فیه الحرام»(7) . والأردبیلی قال : « فالظاهر أنّه مکروه (للشبهة خ) ویمکن استحباب إخراج خمسه ومواساة الإخوان

ص: 312


1- (1) مستند الشیعة 14 / 200 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 498 .
3- (3) إرشاد الطالب 1 / 315 .
4- (4) النهایة / 357 .
5- (5) السرائر 2 / 203 .
6- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 271 .
7- (7) منتهی المطلب 2 / 1025 من الطبع الحجری .

لتزول »(1) . وقال الشیخ جعفر : « ولا یجب إخراج الخمس منها ولیس من قسم ما یتعلّق به لکن إخراجه لاحتمال الإختلاط لا بأس به»(2) . وقال سید الریاض فی ما یوجب انتفاء الکراهة : « ... أو إخراج الخمس لکونه مطهّراً للمال المختلط بالحرام علماً ، فلأن یطهر المختلط به ظنّاً أو احتمالاً أولی ثمّ أولی»(3) . وقال فی الجواهر : « قد یرفعها (أی یرفع الکراهة) أیضاً إخراج الخمس لمعلومیة کونها لإختلاط ماله والخمس یطهّر المختلط»(4) .

الاستدلال علیه بوجوه
اشارة

واستدلوا علی هذا الإستحباب أو هذه الرافعیة للکراهة بوجوه :

الأوّل : موثقة عمار

عن أبی عبد اللّه علیه السلام سُئل عن أعمال السلطان یخرج فیه الرجل ؟ قال : لا إلاّ أن لا یقدر علی شیءٍ یأکل ولا یشرب ولا یقدر علی حیلة ، فإن فعل فصار فی یده شیءٌ فلیبعث بخمسه إلی أهل البیت»(5) .

وفیه : أن مورد الموثقة هو الدخول فی أعمالهم وحصول شیء له من ذلک ، والفرق بینه وبین الجائزة واضح کما نبّه علیه صاحب الحدائق(6) . والأصحاب قدس سرهم لم یعملوا بالموثقة فی موردها ، وهو وجوب إعطاء الخمس لمن یدخل فی أعمال الجائرین والظلمة ، فکیف نعمل بها فی جوائزهم .

مضافاً إلی أنّ ظاهرها وجوب إعطاء الخمس لا استحبابه ، ولکن لیس ظاهرها ثبوت الخمس بعنوان ربح المکسب وفاقاً للمحقق الإیروانی(7) ، لأنّ ظاهرها ثبوت الخمس

ص: 313


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 87 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 341 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 206 .
4- (4) الجواهر 22 / 176 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 202 ح 3 و 9 / 506 ح 2 .
6- (6) الحدائق 18 / 265 .
7- (7) حاشیة المکاسب 1 / 314 ولذا قال فیها : « محتمل الموثقة وظاهر باقی الأخبار ثبوت الخمس بعنوان ربح المکسب» ولا یقول ظاهر الموثقة فقبل ظهورها فی المال المشتبه .

بعنوان المال المشتبه ، کما ورد نظیره فی صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : خذ مال الناصب حیثما وجدته وادفع إلینا الخمس(1) .

والأصحاب أعرضوا عن الموثقة وحملوها علی خمس الأرباح ولکن عملوا بالصحیحة . وبالجملة الموثقة لا تدلّ علی ثبوت الخمس فی جوائز الجائرین .

الثانی : الروایات الواردة حول وجوب الخمس فی المال الحلال إذا اختلط بالحرام

إذا لم یتمیّز قدر المال ولم یعرف صاحبه ، فیصیر إخراج الخمس منه بدلاً واقعیاً من الحرام ، فیرتفع به أثره ، وهو وجوب الإجتناب من جمیعه ، فحینئذ صار المال حلالاً واقعیّاً . فإذا کان هذا حکم المال المختلط بالحرام واقعاً ویوجب تطهیره ، فمحتمل الحرمة اُولی بالتطهیر بالخمس ، فیصیر أداء خمسه ندباً ویوجب خروجه عن الشبهة .

وأمّا روایاتها متعددة :

فمنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أتی رجل أمیر المؤمنین علیه السلام فقال : إنّی کسبت مالاً أغمضت فی مطالبه حلالاً وحراماً ، وقد أردت التوبة ولا أدری الحلال منه والحرام وقد اختلط علیَّ ، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : تصدّق بخمس مالک ، فإنّ اللّه رضی من الأشیاء بالخمس وسائر المال لک حلال(2) .

ومنها : صحیحة عمار بن مروان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : فیما یخرج من المعادن والبحر والغنیمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم یعرف صاحبه والکنوز الخمس(3) .

ومنها : خبر الحسن بن زیاد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ رجلاً أتی أمیر المؤمنین علیه السلام فقال : یا أمیر المؤمنین إنّی أصبتُ مالاً لا أعرف حلاله من حرامه ، فقال له : أخرج الخمس من ذلک المال ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد رضی من المال بالخمس ، واجتنب ما کان صاحبه یُعلم(4) .

وفیه : أوّلاً : ما ورد فی الروایات وأفتی به الأصحاب هو إخراج الخمس من المال

ص: 314


1- (1) وسائل الشیعة 9 / 487 ح 6 .
2- (2) وسائل الشیعة 9 / 506 ح 4 وروی نظیرها فی 18 / 130 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 9 / 494 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 9 / 505 ح 1 . الباب 10 من أبواب ما یجب فیه الخمس .

المختلط بالحرام ، فیکون کالمصالحة فی نظر الشارع ، وأمّا المال المحتمل کونه حراماً کلَّها فلا معنی لتطهیره بإخراج خمسه ، فلابدَّ من الإجتناب من جمیعه .

وثانیاً : سرایة الحکم من المال المختلط إلی المال المشتبه قیاس مع الفارق ، کما نبّه علیه صاحب الحدائق(1) .

وثالثاً : لو أغمضنا وقبلنا تمامیة الاستدلال ، یصیر أداء الخمس من المال المشتبه مستحباً ، وأمّا المُدعی - وهی رافعیة الخمس لکراهة أخذ الجائزة - لم تثبت .

الثالث : الروایات الواردة حول وجوب الخمس فی مطلق الجوائز

وردت عدّة من الروایات تدلّ علی وجوب الخمس فی الجائزة مطلقاً ولکن الأصحاب لم یفتوا بمضونها وحملوها علی الاستحباب ، فیمکن الحکم باستحباب إخراج الخمس من جوائز الجائر أیضاً ، لانّها تدخل فی مطلق الجوائز . وأمّا الروایات :

فمنها : صحیحة علی بن مهزیار الطویلة عن أبی جعفر الثانی علیه السلام أنّه قال فی ما یتعلَّق به الخمس : والغنائم والفوائد یرحمک اللّه فهی الغنیمة یغنمها المرء والفائدة یفیدها والجائزة من الإنسان للإنسان التی لها خطر ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کتبت إلیه فی الرجل یهدی إلیه مولاه والمنقطع إلیه هدیةً تبلغ ألفی درهم أو أقلّ أو أکثر هل علیه فیها الخمس ؟ فکتب علیه السلام : الخمس فی ذلک ، الحدیث(3) .

سند الروایة : ابن إدریس رواها عن خط جده الشیخ الطوسی عن نوادر محمد بن علی بن محبوب الأشعری الجوهری القمی کما صرح بذلک فی السرائر(4) وللشیخ سند صحیح إلی کتب ابن محبوب(5) ، فصار السند إلی ابن محبوب صحیحاً ، ولکن الإشکال فی أحمد بن هلال

ص: 315


1- (1) الحدائق 18 / 266 .
2- (2) وسائل الشیعة 9 / 501 ح 5 .
3- (3) وسائل الشیعة 9 / 504 ح 10 .
4- (4) السرائر 3 / 601 .
5- (5) الفهرست / 411 الرقم 624 .

العبر تأئی ، لأنّه ملعون فی لسان الأئمة(1) علیهم السلام (2) ، فلا یمکن الأخذ بروایته بمجرد قول النجاشی فی حقِّه : « صالح الروایة»(3) ، فالسند ضعیف بأحمد .

وأمّا دلالتها : علی وجوب الخمس فی الهدیة والجائزة واضحة ولا یصغی إلی ما ذُکر فی الروایة بأنّها « لا خمس فی ذلک»(4) بقرینة « حصر الخمس فی الهدیة ولم یعمل به أحد»(5) . لعدم الإعتناء بهذا الإحتمال والقرینة کما ناقشه مقرّر هذا المحتمِل(6) .

ومنها : صحیحة یزید بن إسحاق شَعَر قال : کتبت : جعلت لک الفداء ، تعلّمنی ما الفائدة وما حدّها ؟ رأیک أبقاک اللّه أن تمنّ علیَّ ببیان ذلک لکی لا أکون مقیماً علی حرام لا صلاة لی ولا صوم ، فکتب : الفائدة ممّا یفید إلیک فی تجارة من ربحها وحرث بعد الغرام ، أو الجائزة(7) .

أقول : قد حملتُ « یزید » فی السند إلی ابن إسحاق شَعَر الثقة ، وهو الذی یروی عن موسی بن جعفر علیه السلام وعلی بن موسی الرضا علیه السلام ، ورجع عن القول بالوقف علی فرض ذهابه إلیه ، لأنّ أحمد بن محمد بن عیسی یروی عنه فقط ، فصار سند الروایة صحیحاً . والعجب من السید البروجردی قدس سره مع کمال تبحره فی علم الرجال قال فی مجلس درسه الشریف : « ولیعلم أنّ الراوی عن یزید فی هذه الروایة هو أحمد بن محمد بن عیسی ولم یرو عنه فی الکتب الأربعة

ص: 316


1- (1) راجع رجال الکشی / 535 ح 1020 والغیبة / 214 للشیخ الطوسی .
2- (2) ورد فی الروایة الصحیحة التی ذکرها الشیخ الصدوق فی کمال الدین / 489 هکذا : « ولما ورد نعی ابن هلال لعنه اللّه جاءنی الشیخ [ أی الحسین بن روح ] فقال لی : أخرج الکیس الذی عندک ، فأخرجته إلیه ، فأخرج إلیَّ رقعةً فیها : وأمّا ما ذکرت فی أمر الصوفی المتصنع - یعنی الهلالی - فبتر اللّه عمره ، ثم خرج من بعد موته : فقد قصدنا فصبرنا علیه فبتر اللّه تعالی عمره بدعوتنا» .
3- (3) رجال النجاشی / 83 الرقم 199 .
4- (4) کما ذکره المحقق البروجردی فی تقریرات بحثه الشریف / 406 من خمس تفصیل الشریعة .
5- (5) زبدة المقال فی خمس الرسول والآل / 83 .
6- (6) الخمس والانفال من تفصیل الشریعة / 131 .
7- (7) وسائل الشیعة 9 / 503 ح 7 .

إلاّ هذه الروایة ، ولا یعلم مَن یزید ولم یعلم أبوه فهو مجهول الحال رأساً»(1) .

ومنها : خبر علی بن الحسین بن عبدربّه قال : سرّح الرضا علیه السلام بصلة إلی أبی ، فکتب إلیه أبی : هل علیَّ فیما سرّحت إلیّ خمسٌ ؟ فکتب إلیه : لا خمس علیک فیما سرّح به صاحب الخمس(2) .

رجال السند کلّهم ثقات وحسان إلاّ السهل ، وعلی القول بأنّ الأمر فیه سهل تمّ السند .

وتقریب الاستدلال هو ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره فی کتاب الخمس(3) ، حیث وجّه الإمام علیه السلام « عدم الخمس فی المسرَّح هو کون المسرِّح صاحب الخمس لا لکونه تسریحاً» ، وأعمیّة الصلة عن مطلق الجائزة فضلاً عن جائزة الظالم ظاهرة کما نبّه علیه المحقق التقی الشیرازی(4) قدس سره .

وفیه : أوّلاً : علی فرض تمامیة الاستدلال فیستحب إخراج الخمس من مطلق الجوائز ومنها جوائز الجائر ، وأین هذا من رفع الکراهة بهذا الإخراج ؟

وثانیاً : لم یحرز إعراض الأصحاب بالنسبة إلی الروایات ، فیمکن القول بوجوب إخراج خمس الجوائز والهدایا إمّا مطلقاً أو إذا کانت لها خطراً أی ذاقیمة یعتنی بها کما علیه البعض ، وهو المختار ، فلا تتم أرکان الاستدلال .

وثالثاً : علی القول بوجوب إخراج الخمس من الجوائز إمّا مطلقاً أو إذا کان لها خطر یدخل فی خمس أرباح المکاسب ویُستثنی منه مؤنة السنة ، لأنّ المال الواحد لا یخمّس مرّتین . فالهدیة أو الجائزة إذا کانت خطیرة وذاقیمة کثیرة ولم تصرف فی مؤنة السنة یتعلَّق بها الخمس ، واللّه العالم .

ص: 317


1- (1) تقریرات بحث الخمس للمحقق البروجردی / 406 بقلم آیة اللّه الفاضل - مدظله - المطبوعة ضمن تفصیل الشریعة ، وزبدة المقال فی خمس الرسول والآل / 83 .
2- (2) وسائل الشیعة 9 / 508 ح 2 .
3- (3) کتاب الخمس / 86 الطبعة الحدیثة عام 1415 ق .
4- (4) حاشیة المکاسب 1 / 165 .
ومنها : الأخذ لغیره

کراهة أخذ جوائز الجائرین تختص بما إذا أخذها لنفسه وأنفقها فی حوائجه ، ولکن إذا أخذها لغیره والإنفاق علیهم وقضاء حوائجهم ، فلا یکره کما سبق ذکر کلام المحقق الأردبیلی(1) فی هذا المقام .

وتبعه الشیخ جعفر وقال : « غیر أنّه لو حصلت مرجّحات أقوی منها غلبت علیها ، کما إذا کان الغرض التوصل إلی طلب العلم وإعانة الفقراء وصلة الأرحام وغیر ذلک ، فإنّه ینقلب الرجحان»(2) .

وتلمیذاه صاحبا المفتاح والجواهر ، قال الأوّل منهما : « لو حصل مرجّحات اُخر أقوی غلبت الکراهیة ، کما إذا کان الغرض تحصیل العلم وإعانة الفقراء والأرحام المضطرین إلی غیر ذلک»(3) .

وقال ثانیهما : « کما أنّه أیضاً یرفعها أیضاً اقترانها بمرجّحات تقتضی قبولها علی حسب غیرها من المکروهات»(4) .

وقال الشیخ الأعظم : « إنّ الکراهة ترتفع بکلِّ مصلحة هی أهمّ فی نظر الشارع من الإجتناب عن الشبهة»(5) .

وقال المحقق الإیروانی : « لا إشکال فی ارتفاع الکراهة بکلِّ مصلحة هی أهمّ من اجتناب المشتبه ، بلا حاجة إلی التمسک لإثباته بهذه الروایة (أی روایة الکاظم علیه السلام ) ، وإنّما الکلام فی الصغری وأنّ کلَّ مصلحةٍ وإن کانت ضعیفةً هی أهمّ فی نظر الشارع من مفسدة إرتکاب المشتبه ، وهذه الکلّیّة غیر مستفادة من الروایة ... »(6) .

ص: 318


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 88 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 340 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 387 .
4- (4) الجواهر 22 / 177 .
5- (5) المکاسب 2 / 173 .
6- (6) حاشیة المکاسب 1 / 315 .

أقول : ما ذکره الأعلام فی المقام تام ، والکراهة إذا تعارضت مع مصلحة أقوی منها ترتفع بلا إشکال . ویؤیدها خبران للفضل بن ربیع(1) ومرسلة الصدوق(2) الماضیة . وخبر مفضل بن قیس بن رمانة قال : دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فذکرت له بعض حالی ، فقال : یا جاریة هاتی ذلک الکیس ، هذه أربعمائة دینار وصلنی بها أبو جعفر فخذها وتفرَّج بها .قال : فقلت : لا واللّه جعلت فداک ما هذا دهری ، ولکن أحببت أن تدعو اللّه عزّ وجلّ لی . قال فقال : إنّی سأفعل ، ولکن إیّاک أن تخبر الناس بکلِّ حالک فتهون علیهم(3) .

ومنها : الکراهة تزول بالإنتقال

قال الشیخ جعفر : « والظاهر أنّ الکراهة - علی القول بها - تختص بالمرتبة الاُولی ، فلو انتقل إلی الثانیة أو الثالثة زالت الکراهة»(4) .

أقول : إن کان منشأ الکراهة اجتناب الشبهة أو أخبار الإحتیاط لا تختص بالمرتبة الاُولی بل تعمّ غیرها من المراتب کما نبّه علیه المحقق الأردکانی(5) قدس سره ، ولکن إن کان منشأها حرمة محبّتهم أو صحیحة الولید بن صبیح فتختص بالمرتبة الاُولی ،

وحیث أنّ التمسک بالصحیحة کان مختارنا فإذا انتقلت الجائزة إلی الثانیة أو الثالثة فقد زالت الکراهة .

تنبیهٌ : کیف یأخذ الأئمة علیهم السلام جوائزهم مع ثبوت الکراهة فی أخذها ؟

عدّة من الروایات تدلّ علی أنّهم علیهم السلام یأخذون جوائز الجائرین کما مرّ منّا بعضها فیما سبق وأمّا غیرها :

فمنها : موثقة الحسین بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبیه علیهماالسلام : أنّ الحسن

ص: 319


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 216 ح 11 ، ومستدرک الوسائل 13 / 177 ح 8 .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 180 ح 16 .
3- (3) الکافی 4 / 21 ح 7 ونقل عنه مختصره فی وسائل الشیعة 17 / 215 ح 9 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 341 .
5- (5) غنیة الطالب 1 / 262 .

والحسین علیهماالسلام کانا یغمزان معاویة ویقعان فیه ویقبلان جوائزه(1) .

ومنها : خبر الرشید أنّ موسی بن جعفر علیه السلام دخل علیه یوماً فأکرمه ، ثم ذکر أنّه أرسل إلیه مائتی دینار(2) .

ومنها : مرسلة الطبرسی عن الحسین علیه السلام أنّه کتب کتاباً إلی معاویة وذکر الکتاب وفیه تقریع(3) عظیم وتوبیخ بلیغ ، قال : فما کتب معاویة بشیءٍ یسوؤه ، وکان یبعث إلیه فی کلِّ سنة ألف ألف درهم سوی عروض وهدایا من کلّ ضرب(4) .

ومنها : خبر محمد بن عیسی(5) وخبر الحسن بن الفضل(6) ومرسلتان للربیع(7) وخبران آخران له(8) وخبر محمد بن الزبرقان الدامغانی(9) ومرسلة الطبری(10) وغیرها من الروایات .

یمکن حملها علی وجوه :

الأوّل : أنّ الأرض وما فیها کلّها لهم ، کما ورد بذلک عدّة من الروایات المعتبرة نحو خبر أبی خالد الکابلی(11) وصحیحة عمر بن یزید(12) وصحیحة حفص بن البختری(13)

ص: 320


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 216 ح 13 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 216 ح 12 .
3- (3) تقریع : تنقیص ویعاب ، قرع صفاته : أی تنقَّصهُ وعابَهُ .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 217 ح 14 .
5- (5) مستدرک الوسائل 13 / 173 ح 1 .
6- (6) مستدرک الوسائل 13 / 174 ح 2 .
7- (7) مستدرک الوسائل 13 / 174 ح 3 ، و 13 / 175 ح 5 .
8- (8) مستدرک الوسائل 13 / 176 ح 6 و 7 .
9- (9) مستدرک الوسائل 13 / 177 ح 9 .
10- (10) مستدرک الوسائل 13 / 178 ح 10 .
11- (11) الکافی 1 / 407 ح 1 . ویأتی توضیح حول سند هذه الروایة فی هذا المجلد ، صفحة 472 .
12- (12) الکافی 1 / 408 ح 3 .
13- (13) الکافی 1 / 409 ح 8 .

وغیرها(1) .

الثانی : أنّ لهم حقّاً بل حقوقاً فی بیت المال ، فتکون الجوائز من حقوقهم الواجبة ، کما نبّه علیه الشهید وقال : « لأنّ ذلک من حقوقهم بالأصالة»(2) .

بل هم الذین یجوز لهم التصرف فی بیت المال أوّلاً وبالذات وبالأصالة .

الثالث : إنّهم علیهم السلام أخذوها ووزّعوها بین أرباب الحاجة وفقراء المؤمنین وغیرهم کما مرّ منّا أخبارها .

الرابع : یجوز لهم عقلاً وشرعاً فعل المکروه وترک المستحب إحیاناً ، لاسیما إذا کان لإظهار جواز الفعل أو ترکه کما اعترف به أصحاب روضة المتقین(3) والحدائق(4) والجواهر(5) .

نعم ، لیس لهم الاستمرار علی ذلک لمنافاتهما مع قدسیتهم وأفضلیتهم وأعلمیتهم کما لا یخفی . هذا کلّه فی الصورة الأولی من القسم الثانی .

الصورة الثانیة من القسم الثانی
اشارة

وهی فرض تعارض الأصول والأمارات فی أطراف العلم الإجمالی ویقع الکلام فیها فی مقامین :

المقام الأوّل : من حیث جریان القواعد

المقام الثانی : من حیث الروایات الواردة

فأمّا المقام الأوّل :

قد مرّ منّا أنّ العلم الإجمالی منجزٌ بالنسبة إلی التکلیف الواقعی لتعارض الأصول النافیة فی أطرافه ، وحیث تتعارض الاُصول النافیة والأمارات فی هذه الصورة الثانیة فالعلم

ص: 321


1- (1) راجع فی هذا المجال الکافی 1 / 407 باب أنّ الأرض کلَّها للإمام علیه السلام .
2- (2) الدروس 3 / 170 .
3- (3) روضة المتقین 1 / 333 .
4- (4) الحدائق 18 / 265 .
5- (5) الجواهر 22 / 176 .

الإجمالی منجّز بالنسبة إلی التکلیف الواقعی ، فلابدَّ من الإحتیاط وعدم جواز أخذ الجائزة من الظالم . هذا کلّه بناءً علی الأصل الأوّلی فی المقام .

ولکن یمکن أن یقال بإنحلال العلم الإجمالی الموجود فی موارد :

منها : إذا أجاز الجائر لشخص التصرف فی شیءٍ معین من أمواله أو یعطیه مطلقاً - أی بلا فرق بین أن یعطیه مجاناً أو مع العوض - فحینئذ ینحل العلم الإجمالی إلی شک بدویٍّ وعلم تفصیلیٍّ ، لأنّ الآخذ یعلم تفصیلاً بحرمة التصرف فی بقیة أموال الجائر ، إمّا لأنّه لم یجز التصرف فیها وإما لکونها مغصوبة . وأمّا خصوص ما أخذه فیجوز التصرف فیها لقاعدة الید .

ومنها : إذا أجاز الجائر أن یتصرف المجاز فی شیءٍ من أمواله علی نحو العموم البدلی - کما إذا أعطی الجائر کیسه للمجاز وأجاز له أن یأخذ منه دینارا والمجاز یعلم إجمالاً بأنّ فی الکیس دیناراً محرّماً - فحینئذ یجری فیه جمیع ما یجری فی المورد الأوّل ، من انحلال العلم الاجمالی ، لأنّ اختیاره دیناراً خاصاً یعیّن متعلّق الأذن فصار کالمورد الأوّل .

ومنها : إذا أجاز الجائر أن یتصرف المجاز فی جمیع أمواله علی نحو العموم الاستیعابی - کما إذا کان له أموال وأجاز له أن یتصرف فی جمیعها ویعلم المجاز إجمالاً بوجود أموال محرَّم فیها - ولکن حیث لم تکن جمیع أمواله محلّ إبتلائه وإن کان إذنه عاماً ولکن عملاً لم یتصرف المجاز إلاّ فی بعض الأموال وبعضها یخرج من تصرفاته ، فحینئذ صار تصرفه العملی کتعین متعلَّق الإذن فی المورد الثانی وکالإجازة الخاصة فی التصرف فی شی ءٍ معیّن من أمواله فی المورد الأوّل ، فالعلم الإجمالی ینحلّ - إمّا واقعاً أو حکماً - إلی شک بدویٍّ وعلم تفصیلیٍّ .

أقول : قد مرّ أنّ العلم الإجمالی منجّز بالنسبة إلی التکلیف الواقعی ، ففی جمیع الموارد الثلاثة : الإذن الخاص فی شی ءٍ من أموال الجائر أو اختیار المجاز أو التصرف العملی کلها لاتحلّ العلم الإجمالی الوارد فی المقام ، فالعلم الإجمالی منجّز ، فلا یجوز التصرف فی شیءٍ من أمواله حینئذٍ .

نعم ، لو فرض فی مورد إنحلال هذا العلم الإجمالی - کما فی المورد الأوّل - ولکن مع جریان قاعدة الید فی الجائزة بحیث لم تکن ید الجائر مسبوقة بید الغیر ، فحینئذ ینحل العلم

ص: 322

الإجمالی ویجوز الجائزة .

والمحقَّق عندنا فی علم الأصول أنّ العلم الإجمالی بالنسبة إلی المخالفة القطعیة یصیر کالعلّة التامة ، فلا یمکن مخالفته القطعیة . وأمّا بالنسبة إلی المخالفة الإحتمالیة فیصیر کالمقتضی ، فیمکن للشارع أن یتصرف فیه ویأذن بارتکاب بعض محتملاته ، ویمکن أن یکون أخذ الجائزة منها ، فیقع الکلام فی المقام الثانی فی ثبوت هذا الإذن .

المقام الثانی : الروایات
اشارة

وهی علی طوائف ثلاث :

الطائفة الأولی : الروایات الواردة حول الربا

الدالة علی حلّیّته إذا کان مالکه مجهولاً :

منها : صحیحة أبی المغرا قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : کلّ ربا أکله الناس بجهالة ثمّ تابوا فإنّه یقبل منهم إذا عرف منهم التوبة . وقال : لو أنّ رجلاً ورث من أبیه مالاً وقد عرف أنّ فی ذلک المال ربا ولکن قد اختلط - فی التجارة - بغیره حلال کان حلالاً طیباً فلیأکله ، وإن عرف منه شیئاً أنّه ربا فلیأخذ رأس ماله ولیردّ الربا . وأیّما رجل أفاد مالاً کثیراً قد أکثر فیه من الربا فجهل ذلک ثمّ عرفه بعد فأراد أن ینزعه فما مضی فله ویدعه فیما یستأنف(1) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم قال : دخل رجل علی أبی جعفر علیه السلام من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّی کثر ماله ، ثمّ إنّه سأل الفقهاء ؟ فقالوا : لیس یقبل منک شیءٌ إلاّ أن تردّه إلی أصحابه ، فجاء إلی أبی جعفر علیه السلام فقصّ علیه قصّته ، فقال له أبوجعفر علیه السلام : مخرجک من کتاب اللّه «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی اللّهِ»(2) والموعظة : التوبة(3) .

ومنها : صحیحة محمد بن عیسی قال : إنّ رجلاً أربی دهراً من الدهر فخرج قاصداً أبا

ص: 323


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 128 ح 2 . الباب 5 من أبواب الربا .
2- (2) سورة البقرة / 275 .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 7 .

جعفر الجواد علیه السلام ، فقال له : مخرجک من کتاب اللّه یقول اللّه : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ» والموعظة هی التوبة فجهله بتحریمه ثم معرفته به ، فما مضی فحلال وما بقی فلیتحفظ(1) .

ومنها : صحیحة اُخری له قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن ، ومن أکله جاهلاً بتحریمه لم یکن علیه شیء(2) .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی - وهو خالد بن اُوفی - قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أربی بجهالة ثمّ أراد أن یترکه ، قال : أمّا ما مضی فله ، ولیترکه فیما یستقبل ، الحدیث(3) .

قد مرّ منّا فی آخر بحث الربا بأنّ جماعةً من الفقهاء أفتوا بمضمون هذه الروایات وذهبوا إلی جواز أکل الربا مع الجهل بها حکماً أو موضوعاً ومع الجهل بصاحبه والذهاب إلی التوبة من قبل آخذه أعنی الإنتهاء عن الربا ، ویدلّ علیه قوله تعالی : «فَلَهُ مَا سَلَفَ» .

ثمّ قد ذهب الفقیه الیزدی(4) إلی التمسک بهذه الروایات فی حلیّة جوائز الجائرین ولو مع وجود العلم الإجمالی باشتمالها علی الحرام .

وفیه : نعم نحن نقول بهذه الروایات فی بحث الربا کما مرّ ، ولکن تسریة حکم الربا إلی جوائز الجائرین مع الفارق وأشبه شیء بالقیاس .

الطائفة الثانیة : الروایات الدالة علی حلیّة الأشیاء ما لم یعلم حرمتها

منها : معتبرة عبد اللّه بن سلیمان قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الجبن ؟ فقال : لقد سألتنی عن طعام یعجبنی ، ثم أعطی الغلام درهماً ، فقال : یا غلام ابتع لنا جبناً ، ثم دعا بالغداء ، فتغدّینا معه فأتی بالجبن ، فأکل وأکلنا ، فلمّا فرغنا من الغداء ، قلت : ما تقول فی الجبن ؟ قال : أو لم ترنی آکله ؟ قلت : بلی ولکنّی اُحبّ أن أسمعه منک ، فقال : ساُخبرک عن الجبن وغیره ، کلّ

ص: 324


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 10 .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 11 .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 4 .
4- (4) حاشیة المکاسب 1 / 173 .

ما کان فیه حلال وحرام فهو لک حلال ، حتّی تعرف الحرام بعینه فتدعه(1) .

رجال السند ثقات إلاّ عبد اللّه بن سلیمان لم یرد توثیقه ، وهو مشترک بین أربعة لم یرد توثیق أحدهم ، وحمله الأردبیلی(2) علی النخعی الکوفی ، وهو غیر تام . ولکن بهذا العنوان ورد فی 45 روایة من الکتب الأربعة ، ونقل کثیر من مشایخ الطائفة عنه أمثال : أبان وابن أبی عمیر وصفوان بن یحیی والنضر بن سوید وابن مسکان ویونس بن عبد الرحمن ویحیی الحلبی ومحمد بن الحسن العطار وابن اُذینة وعبد اللّه بن سنان(3) ، فیکشف ذلک عن اعتبار الرجل وشهرته ، ولم یرد قدح فیه فهو معتبر ، ولذا قال الوحید : « إنّ عبد اللّه بن سلیمان حسّنه خالی لوجود طریق للصدوق رحمه الله إلیه ، ویروی عنه صفوان وابن ابی عمیر ، ولیس بمعلوم أنّه أیّهم هذا ، الظاهر أنّه الصیرفی علی تقدیر التعدد»(4) . وبالجملة السند عندنا معتبر ولو لم یظهر لنا أنّ ابن سلیمان هوالصیرفی أو العامری أو العبسی أو النخعی أو غیرهم . ولکنّه لم یضر باعتباره .

ومنها : صحیح معاویة بن عمار عن رجل من أصحابنا قال : کنت عند أبی جعفر علیه السلام فسأله رجل من أصحابنا عن الجبن ؟ فقال أبو جعفر علیه السلام : إنّه لطعام یعجبنی فسأخبرک عن الجبن وغیره ، کلّ شیءٍ فیه الحلال والحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام فتدعه بعینه(5) .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کلّ شیءٍ یکون فیه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه(6) .

ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : إن کان خلط الحرام بالحلال

ص: 325


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 117 ح 1 . الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة .
2- (2) جامع الرواة 1 / 486 .
3- (3) جامع الرواة 1 / 486 .
4- (4) نقل عنه المامقانی فی تنقیح المقال 2 / 158 من الطبع الحجری .
5- (5) وسائل الشیعة 25 / 119 ح 7 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 87 ح 1 . الباب 4 من أبواب ما یکتسب به - وسائل الشیعة 24 / 236 ح 2 الباب 64 من أبواب الأطعمة المحرمة .

فاختلطا جمیعاً فلم یُعرف الحرام من الحلال فلا بأس(1) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کلّ شیءٍ هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک ، وذلک مثل الثوب یکون قد اشتریته وهو سرقة أو المملوک عندک ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبیع قهراً أو امرأة تحتک وهی اُختک أو رضیعتک ، والأشیاءُ کلّها علی هذا حتّی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البیّنة(2) .

أقول : لا إشکال فی شمول هذه الروایات وجریان إطلاقها بالنسبة إلی محلِّ البحث ، ولکن لا یمکن الأخذ بإطلاقها ، لأنّها تقتضی الحکم بجواز ارتکاب جمیع الشبهات ، سواء کانت مقرونةً بالعلم الإجمالی أم لا ، وسواء کانت الشبهة محصورة أم لا . ومن الواضح أنّ هذا ممّا لا یمکن الالتزام به ، وعلیه فلابدَّ من حملها علی الشبهات البدویة ، وإلاّ یلزم من إطلاقها المخالفة القطعیة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی ، ولا یقول به أحدٌ کما نبّه علیه المحقق الخوئی(3) قدس سره .

ثم قال الشیخ الأعظم قدس سره : « قد تقرر حکومة قاعدة الإحتیاط علی ذلک»(4) یعنی علی هذه الطائفة الثانیة من الروایات الدالة علی الحلّیّة .

وقد قرره الشیخ الأعظم فی فرائده(5) ، ثمّ استشکل علیه المحققون الإیروانی(6) والخوئی(7) والأردکانی(8) قدس سرهم بمنع حکومة قاعدة الإحتیاط علی أصالة الحلّیّة . ولکن الحقّ مع الشیخ الأعظم قدس سره ، لأنّ قاعدة الإحتیاط حاکمة علی أصالة الحلّیّة فی موارد العلم الإجمالی ،

ص: 326


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 88 ح 2 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 89 ح 4 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 503 .
4- (4) المکاسب 2 / 175 .
5- (5) فرائد الأصول 2 / 200 .
6- (6) حاشیة المکاسب 1 / 318 .
7- (7) مصباح الفقاهة 1 / 503 .
8- (8) غنیة الطالب 1 / 264 .

وخصوص الأموال کما نبّه علی الأوّل صاحب عمدة المطالب(1) - مدظله - .

الطائفة الثالثة : الروایات الخاصة التی تدلّ علی جواز أخذ الجائزة من الظالم

وقد مرّ منّا فی القسم الأوّل بعض هذه الروایات المعتبرة بل المستفیضة ، وبعضها فی التنبیه التی ذکرتُها فی آخر الصورة الاُولی من القسم الثانی ، وبعضها الاُخری أذکرها لک هنا :

فمنها : صحیحة محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحمیری أنّه کتب إلی صاحب الزمان «عجل اللّه فرجه» یسأله عن الرجل من وکلاء الوقف مستحلّ لما فی یده لا یرع عن أخذ ماله ، ربّما نزلتُ فی قریته وهو فیها ، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه فیدعونی إلیه ، فإن لم آکل من طعامه عادانی علیه ، فهل یجوز لی أن آکل من طعامه ، وأتصدق بصدقة ، وکم مقدار الصدقة ؟ وإن أهدی هذا الوکیل هدیّة إلی رجل آخر فیدعونی إلی أن أنال منها وأنا أعلم أنّ الوکیل لا یتورع عن أخذ ما فی یده ، فهل علیَّ فیه شی ءٌ إنْ أنا نلت منها ؟

الجواب : إن کان لهذا الرجل مال أو معاش غیر ما فی یده فکُلْ طعامَهُ واقبلْ برَّه ، وإلاّ فلا(2) .

أقول : قد عبّرنا عن سند هذه الروایة بالصحیحة مع أنّها مرویّة فی احتجاج(3) الطبرسی مرسلة ، ولکن للشیخ الطوسی سنداً صحیحاً إلی مکاتبات الحمیری مع الناحیة المقدسة رواها الشیخ عن « جماعة عن أبی الحسن محمد بن أحمد بن داود القمی قال : وجدت بخط أحمد بن إبراهیم النوبختی وإملاء أبی القاسم الحسین بن روح رضی الله عنه »(4) .

وهذا السند من الشیخ صحیح ، لأنّ الجماعة لا أقل من دخول واحد من الثقات فیهم . وأمّا أبو الحسن محمد بن أحمد بن داود بن علی القمی « شیخ هذه الطائفة وعالمها وشیخ القمیین فی وقته وفقیهم ، حکی أبو عبد اللّه الحسین بن عبید اللّه [ الغضائری ] أنّه لم یرَ أحداً

ص: 327


1- (1) عمدة المطالب 1 / 474 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 217 ح 15 .
3- (3) الاحتجاج 2 / 485 .
4- (4) الغیبة / 228 وفی المطبوعة الحسین بن نوح ، وهو إمّا تصحیف روح أو غلط مطبعی ، لأنّ حسین بن نوح لم یوجد فی کتب الرجال . وکذا نقل العلامة المجلسی فی بحار الأنوار 53 / 150 الحسین بن روح .

أحفظ منه ولا أفقه ولا أعرف بالحدیث ... ومات سنة ثمان وستین وثلاثمائة ودفن بمقابر قریش [ ببغداد ] » کما ذکره النجاشی(1) .

وهذا الفقیه والحافظ والمحدِّث الجلیل شهد بأنّ هذه المکاتبات من إملاء أبی القاسم الحسین بن روح النائب ، ولذا لا یضرّ إهمال أحمد بن إبراهیم النوبختی ، لأنّه لیس فی سند الروایة بل هو کاتب فقط .

والشاهد علی ما ذکرناه سند آخر للشیخ بهذه المکاتبات والتوقیعات ، لأنّه قال : « قال ابن نوح : أوّل من حدثنا بهذا التوقیع أبو الحسن محمد بن علی بن تمام وذکر أنّه کتبه من ظهر الدَّرْج الذی عند أبی الحسن بن داود ، فلما قدم أبو الحسن بن داود قرأته علیه ، وذکر أنّ هذا الدَّرْج بعینه کتب به أهل قم إلی الشیخ أبی القاسم ، وفیه مسائل فأجابهم علی ظهره بخط أحمد بن إبراهیم النوبختی وحصل الدرج عند أبی الحسن بن داود»(2) .

والمراد بابن نوح هو أبو العباس أحمد بن علی بن محمد بن أحمد بن العباس بن نوح السیرافی البصری ، قال النجاشی فی شأنه : « کان ثقة فی حدیثه متقناً لما یرویه ، فقیهاً بصیراً بالحدیث والروایة ، هو اُستاذنا وشیخنا ومن استفدنا منه»(3) .

وأمّا أبو الحسن محمد بن علی بن تَمّام بن سُکَیْن - وکان لقّب بسُکَیْن بسبب إعظامهم له - وکان ثقة عیناً صحیح الإعتقاد جیّد التصنیف ، کما ذکره النجاشی(4) . وأمّا أبو الحسن بن داود هو نفس محمد بن أحمد بن داود القمی الذی کان فی السند السابق .

والمراد بالشیخ أبی القاسم هو الحسین بن روح النائب الخاص للناحیة المقدسة . وأنت تری التصریح فی هذا السند بأنّ النوبختی لم یکن إلاّ أنّ الدَّرْج یکون بخطه ، یعنی أنّه لیس إلاّ کاتباً ولم یدخل فی سند الروایة ، فلا یضر إهماله بالسند . هذا کلّه بالنسبة إلی اعتبار سند هذا التوقیع الشریف .

ص: 328


1- (1) رجال النجاشی / 384 الرقم 1045 .
2- (2) الغیبة / 229 .
3- (3) رجال النجاشی / 86 الرقم 209 .
4- (4) رجال النجاشی / 385 الرقم 1046 .

وأمّا دلالتها : فمورد التوقیع وإن کان فی بعض وکلاء الوقف الذی لیس له ورع ولا یرعی مصالح الوقف ولا یصرف مال الوقف فی الموقوف علیهم ولذا صار تصرفه فیه محرّماً ، وبه یصیر أمواله محل الشبهة والحرمة ، ولکن أجاز الإمام علیه السلام التصرف فی أمواله بشرط أن یکون له مال أو معاش غیر ما فی یده من الوقف . وعلی هذا جواز التصرف فی جوائز الظالمین یُستفاد من هذا التوقیع ، لأنّ الغالب وجود أموال لهم غیر الأموال المحرَّمة . مضافاً إلی أنّ الجائر یعطی غالباً من بیت المال لا من مال الوقف الخاص ، وحیث أنّ للآخذ حقٌّ فی بیت المال فیجوز له أخذه بطریق اُولی . وهذا التوقیع الشریف یدلّ علی جواز أخذ جوائز الظالمین ، وقد حملها علی القسم الثانی جماعة من المحققین نحو : السید الیزدی(1) والإیروانی(2) والأردکانی(3) والخوئی(4) قدس سرهم کما مرّ سابقاً .

ومنها : خبر عمر أخی عذافر قال : دفع إلیَّ إنسان ستمائة درهم أو سبعمائة درهم لأبی عبد اللّه علیه السلام ، فکانت فی جوالقی ، فلما انتهیت إلی الحفیرة شقَّ جوالقی وذهب بجمیع ما فیه ، ووافقت عامل المدینة بها ، فقال : أنت الذی شقت زاملتک فذهب بمتاعک ؟ فقلت : نعم ، فقال : إذا قدمنا المدینة فأتنا حتّی اُعوِّضک . قال : فلمّا انتهیت إلی المدینة دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فقال : یا عمر شقّت زاملتک وذهب بمتاعک ؟ فقلت : نعم ، فقال : ما أعطاک اللّه خیر ممّا اُخذ منک . إلی أن قال إئت عامل المدینة فتنجز منه ما وعدک ، فإنّما هو شیءٌ دعاک اللّه إلیه لم تطلبه منه(5) .

والحفیرة : موضع بالعراق . وافقت : أی صادفت . الزاملة : بعیر یستظهر به الرجل یحمل متاعه وطعامه علیه . وما أعطاک اللّه من دین الحقِّ والولایة .

وهذه الروایة نصٌّ فی جواز أخذ جوائزهم ، ولکن فی السند ضعف بعمر بن عیسی

ص: 329


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 165 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 310 .
3- (3) غنیة الطالب 1 / 257 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 494 .
5- (5) الکافی 8 / 221 ح 278 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 215 ح 8 .

أخی عذافر ، وهو ضعیف أو مجهول ولیس له إلاّ هذه الروایة وبغیره .

ومنها : صحیحة داود بن زُرْبی قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّی اُخالط السلطان فتکون عندی الجاریة فیأخذونها أو الدابة الفارهة فیبعثون فیأخذونها ، ثمّ یقع لهم عندی المال فلی أن آخذه ؟ قال : خذ مثل ذلک ولا تزد علیه(1) .

والصحیحة تدلّ علی جواز المقاصّة من مال الظالم ، وماله یُحتمل فیه الحرمة ولکن أجاز الإمام التصرف فیه بقدر ماله المأخوذ لا أزید منه ، لأنّ الظالم لم یجز له ، وأمّا بالنسبة إلی جوائزه المجازة فلا بأس بها .

وهذه الروایات وما مضی منها وفیها الصحاح مطلقة بالنسبة إلی الشبهة البدویة والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی ، فتشمل المقام . وحیث ذهبنا إلی أنّ العلم الإجمالی یکون مقتضیّاً بالنسبة إلی المخالفة الإحتمالیة ولا یکون علّة تامة - تبعاً للشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره وخلافاً للمحقق الخراسانی طاب ثراه - فحینئذ الروایات المجوِّزة المطلقة تثبت الإذن فی ارتکاب المخالفة الإحتمالیة لهذا العلم الإجمالی فی المقام .

مال إلی ما ذکرناه السید العاملی فی مفتاح الکرامة(2) وصرح به الفقیه الیزدی(3) والمحقق النائینی(4) . ولعلّ إلی ما ذهبنا إلیه ترجع کلمات الأصحاب قدس سرهم ، حیث أخذوا کلمة « التعین» أو « بعینها» فی حرمة جوائز الظالم نحو الشیخ فی النهایة حیث یقول : « ولا یجوز له أن یقبل من جوائزهم وصلاتهم ما یَعْلَمُهُ ظلماً وغصباً ویتعیّنُ له»(5) ، وکلمة « یتعیّن » له تفسر مراده من العلم بأنّه التفصیلی لا الإجمالی .

وکذا کلام ابن إدریس حیث یقول : « جاز له قبول جوائزه وصلاته ما لم یعلم أنّ ذلک

ص: 330


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 214 ح 7 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 384 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 174 .
4- (4) منیة الطالب 1 / 61 .
5- (5) النهایة / 385 .

ظلم بعینه ، فإذا لم یعلم أنّه بعینه ظلم فلا بأس بقبوله ... »(1) .

ونحوها عبائر المحقق فی الشرائع(2) والنافع(3) والعلامة فی النهایة(4) وثانی الشهیدین فی المسالک(5) والمحقق السبزواری فی الکفایة(6) والفاضل النراقی فی المستند(7) الماضیة .

هذا تمام الکلام فی الصورة الثانیة من القسم الثانی والحمد للّه .

القسم الثالث : الآخذ یعلم تفصیلاً بکون الجائزة محرّمة
اشارة

لا یجوز التصرف فی هذا المال بلا إشکال . ثمّ تعرّض الشیخ الأعظم(8) قدس سره لفروع لابدّ أن نقتفی أثره :

الفرع الأوّل : لو علم الآخذ بحرمة الجائزة قبل وقوعها فی یده لم یجز له أخذها

إذا کان مختاراً فی أخذها ، وإذا أخذها ارتکب محرّماً شرعیّاً وعلیه الضمان بقاعدة تعاقب الأیدی .

وأمّا إذا کان مجبوراً فی الأخذ ، فأخذها فلم یرتکب محرّماً للإضطرار من الأخذ ، وحینئذ هل یضمن أم لا ؟

یمکن أن یقال : بعدم الضمان ، لأنّه کان مجبوراً ومضطراً للأخذ ، وأخذه حینئذ کلا أخذ ، فلا یوجب الضمان .

وقد یقال : بعدم الضمان إذا کان مجبوراً فی أخذه وأخذه بقصد الردّ إلی مالکه ، فحینئذ لا

ص: 331


1- (1) السرائر 2 / 203 .
2- (2) الشرائع 2 / 6 .
3- (3) المختصر النافع / 118 .
4- (4) نهایة الإحکام 2 / 526 .
5- (5) المسالک 3 / 141 .
6- (6) الکفایة 1 / 447 .
7- (7) مستند الشیعة 14 / 199 .
8- (8) المکاسب 2 / 182 وما بعدها .

ضمان له ، لأنّه مضطرٌّ إلی أخذه من حیث الحدوث فصار کالعدم ، ومن حیث البقاء لا یقتضی الضمان مع قصده الردّ إلی المالک لأنّه محسنٌ .

ولکن الصحیح عندنا هو الضمان مطلقاً ، سواء کان مختاراً فی أخذه أو مجبوراً - والجبر ینفی الحرمة التکلیفیة فقط لا الحکم الوضعی وهو الضمان - وسواء کان الأخذ بقصد الردّ إلی المالک وعدمه ، وسواء کان أخذه بلا قصد أو بقصد التملّک ، وسواء کان الأخذ بقصد التملّک ترتب علیه التوبة والندم ورجع إلی قصد الردّ إلی مالکه ، أو لم یترتب . فی جمیع هذه الصور الآخذ یکون ضامناً بقاعدة تعاقب الأیدی ، فإن الآخذ جعل یده علی مال الغیر فیکون له ضامناً .

فلیعلم أنّ صرف نیة الردِّ لا یوجب عدم الضمان ولا یصیر الآخذ بها محسناً کما ادعاه الشیخ الأعظم(1) قدس سره ، لأنّ عنوان الإحسان لیس عنواناً قصدیاً ، بل هو عنوان واقعی ینطبق علی ردّ المال إلی مالکه فی الخارج ، وبعد تحققه فلا ینطبق علی الأخذ من ید الغاصب والجائر ولو کان الأخذ بنیّة الردّ کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(2) .

نعم ، یمکن أن یقال فی الأخذ أنّه مقدمة للردِّ خارجاً الذی هو من مصادیق الإحسان ، ومن المعلوم أن اشتراط صفة المحبوبیة للمقدمة إذا ترتب التوصل بها إلی ذیها أو فی حال الوصول أو علی فرض الإیصال خارجاً ولکن المحبوبیة تغایر مع ترتب حکم ذی المقدمة علی المقدمة . والتفصیل یُطلب من بحث مقدمة الواجب فی علم الأصول .

الفرع الثانی : لو لم یعلم الآخذ بحرمة الجائزة ولکن علمها بعد وقوعها فی یده

من المعلوم أنّ الحرمة التکلیفیة منتفیة بالجهل بالحرمة حین الأخذ ، وأمّا بعد العلم بها لو نوی إبقاء یده علیه وأکل المال فیرتکب الحرمة ، ولوی نوی الردّ إلی صاحبه وقام به فلم یرتکب الحرام التکلیفی .

وأمّا حکمه الوضعی من الضمان وعدمه : فقد مرّ منّا أنّ الضمان أثر وضع الید علی مال

ص: 332


1- (1) المکاسب 2 / 183 .
2- (2) الحاشیة علی المکاسب 1 / 327 .

الغیر أو إتلافه ، وحیث أنّ الآخذ وضع یده علی مال الغیر بلا رضی صاحبه فیکون ضامناً مطلقاً . بلا فرق بین أنّ یکون الآخذ نوی التملّک أوّلاً ، لأنّه یکون جاهلاً بالحرمة ، وسواءً أدامت هذه النیة بعد العلم بالحرمة أم ترجع إلی نیة الردِّ بعده ، أو أنّه لم ینو التملّک أوّلاً بل أخذه حتّی یظهر له مالکیة الجائزة وجواز تصرفه فیها أم لا ؟

فی جمیع هذه الصور کان علی الآخذ الضمان ، لأنّه وضع الید علی مال الغیر ، وبقانون تعاقب الأیدی کان علیه الضمان ولو مع الجهل . غایة الأمر المغرور یرجع إلی مَنْ غرّ ، وحیث لم یمکن رجوعه إلی الظالم عادّةً یستقر الضمان علی ذمّته ویخرج عنه بإرجاع المال إلی صاحبه . ووافقنا علی الضمان مطلقاً فی هذا الفرع المحقق الإیروانی(1) قدس سره وتبعه الأردکانی(2) .

فلا یصغی إلی ما ذکره فی المسالک(3) من عدم الضمان مع الأخذ جهلاً مستدّلاً علیه بأنّ یده ید أمانة ، لأن الفرض عدم علمه بالغصب حتّی قبضها فتستصحب ، ووافقه علی ذلک السید بحر العلوم فی مصابیحه(4) .

لأنّ الآخذ جعل یده علی مال الغیر فهو ضامن ، مضافاً إلی عدم وجود الید الأمانی من أوّل الأمر حتّی تستصحب .

وکذا لا یصغی إلی ما ذکره الفقیه الیزدی(5) من أنّ الضمان یرتفع بنیة الردِّ إلی المالک ، لأنّه یدخل تحت عنوان الإحسان الموجب لعدم الضمان . لأنّه قد مرّ منّا من أنّ الأحسان لیس من العناوین القصدیة ، بل یتحقق بإیصال المال إلی صاحبه خارجاً وأدائه واقعاً . فالنیّة والقصد لا یُدخل الآخذ فی عنوان المحسن ، فلا یرتفع عنه الضمان . مضافاً إلی أنّ الآخذ بجعل الید علی مال الغیر یکون ضامناً ولا یخرج من هذا الضمان إلاّ بالأداء خارجاً ، وتعویض النیة والقصد لا یخرجه من الضمان ما لم یتحقق الأداء خارجاً .

ص: 333


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 328 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 272 .
3- (3) المسالک 3 / 142 .
4- (4) نقل عنه صاحب الجواهر فی کتابه 22 / 179 .
5- (5) حاشیة المکاسب 1 / 181 .
الفرع الثالث : وجوب الردّ هل یکون فوریّاً ؟

لأنّ جعل الید علی مال الغیر محرّم ابتداءً واستدامةً ، فالتأخیر فی الأداء یساوق بقاء الید علی مال الغیر بلا رضی صاحبه ، فیکون من المحرّمات الشرعیة . فالأداء یکون واجباً فوریّاً عرفیّاً ولا یکون واجباً فوریّاً عقلیّاً ، لأنّ الأحکام الشرعیة تنزل علی العرف .

الفرع الرابع : هل یتحقق الردّ بمجرد التخلیة بین المال وصاحبه أو یجب الإقباض ؟

الظاهر أنّ الأداء والردّ یتحقق بکلیهما ، وإن کان مجرد التخلیة بین المال وصاحبه ورفع الید والسلطة عن المال وإعلام المالک بأنّ المال تحت سلطته وتصرفه کافٍ فی الأداء والردّ وعلی المالک الأخذ خارجاً .

وإمّا إقباض المال توسط المالک هو الأداء والرد الخارجی أو الجوانحی کما اعترف به المحقق الإیروانی(1) قدس سره وتبعه الأردکانی(2) .

ونفقة حمل المال علی الرادّ ، وکذا لو تلف فی النقل فهو ضامن إلاّ إذا کان بأمر المالک .

الفرع الخامس : وجوب الفحص عن المالک

قد استدلوا علی وجوب الفحص إذا کان المالک مجهولاً مع الإمکان بقوله تعالی : «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَی أَهْلِهَا»(3) .

بتقریب : أنّ اللّه یأمر بأداء الأمانة إلی أهلها ومالکها ، والأداء یقتضی وجوب الفحص عن المالک إذا کان مجهولاً ، وحیث أنّ المال فی ید المجاز فی مسألتنا أمانة حتّی یؤدیه إلی مالکه المجهول فعلاً فیجب علیه الفحص حتّی یعرفه ویؤدی ماله إلیه .

وبعدّةٍ من الروایات :

منها : خبر حفص بن غیاث قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل من المسلمین أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً واللصّ مسلم ، هل یردّ علیه ؟ فقال : لا یردّه ، فإن أمکنه أن یردّه إلی أصحابه فعل ، وإلاّ کان فی یده بمنزلة اللقطة یصیبها ، فیعرّفها حولاً فإن

ص: 334


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 330 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 273 .
3- (3) سورة النساء / 58 .

أصاب صاحبها ردّها علیه وإلاّ تصدق بها ، فإن جاء طالبها بعد ذلک خیّره بین الأجر والغرم ، فإن اختار الأجر فله الأجر وإن اختار الغرم غرم له وکان الأجر له(1) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : واللقطة یجدها الرجل ویأخذها ، قال : یعرّفها سنة ، فإن جاء لها طالب وإلاّ فهی کسبیل ماله(2) .

یمکن أن یناقش فی دلالة هذه الصحیحة ونظائرها من الروایات الواردة فی باب اللقطة بأنّها مختصة ببابها ولا تعمّ غیرها کما نبّه علیه المحقق الخوئی(3) قدس سره .

ومنها : معتبرة یونس بن عبد الرحمن قال : سئل أبو الحسن الرضا علیه السلام - وأنا حاضر - إلی أن قال : فقال : رفیق کان لنا بمکة فرحل منها إلی منزله ورحلنا إلی منازلنا ، فلمّا أن صرنا فی الطریق أصبنا بعض متاعه معنا ، فأیّ شیءٍ نصنع به ؟ قال : تحملونه حتّی تحملوه إلی الکوفة . قال : لسنا نعرفه ، ولا نعرف بلده ، ولا نعرف کیف نصنع ؟ قال : إذا کان کذا فبعه وتصدّق بثمنه ، قال له : علی من جعلت فداک ؟ قال : علی أهل الولایة(4) .

ظاهر السند صحیح إلاّ أنّ الشیخ الصدوق نقل عن اُستاده ابن الولید أنّه قال : « ما تفرّد به محمد بن عیسی من کتب یونس وحدیثه لا أعتمد علیه»(5) . ثمّ قال النجاشی : « ورأیت أصحابنا ینکرون هذا القول ویقولون مَنْ مِثْلِ أبی جعفر محمد بن عیسی»(6) .

وأنت تری أن الأصحاب قدس سرهم لم یقبلوا هذا القول من ابن الولید ولذا نقل النجاشی إنکارهم علیه .

وقد نقل المولی الأردبیلی صاحب جامع الرواة بیان معاصره الفاضل السراب فی کتابه وقال : « ذکر الفاضل الکامل مولانا محمد الجیلانی الملقب بالسراب - مدظله العالی - ما یتعلق

ص: 335


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 463 ح 1 . الباب 18 من أبواب اللقطة .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 441 ح 1 . الباب 2 من أبواب اللقطة .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 513 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 450 ح 2 . الباب 7 من أبواب اللقطة .
5- (5) رجال النجاشی / 333 الرقم 896 .
6- (6) رجال النجاشی / 333 الرقم 896 .

بتوثیق محمد بن عیسی وبیان عدم صلاحیة ما یتوهم کونه جرحاً له عن المعارضه بکلام مشبع بتقریب بیان اعتبار سند حدیث فننقل کلامه بلفظه وهو قوله»(1) فراجعه إن شئت .

والحقّ عندنا أیضاً عدم تمامیة قول ابن الولید . هذا کلّه بالنسبة إلی السند .

وأمّا دلالتها : فالروایة وإن کانت واردة فی حکم المال المعلوم مالکه ولکنّه مع تعذر تسلیم المال إلیه صار حکمه حکم مجهول المالک ، فإنّهما فی الحکم مشترکان . وأخذ الإمام علیه السلام الجملة الشرطیة فی جواب السائل فقال : « إذا کان کذا فبعه وتصدّق بثمنه» أی إذا لم تتمکن من إیصال المال إلی مالکه فبعه وتصدّق بثمنه ، وهذه الجملة الشرطیة بالمفهوم تدلّ علی أنّه إذا تمکن من إیصال المال إلی صاحبه ولو بالفحص وجب ذلک ، فالروایة دالّة علی المطلوب کما نبّه علیه شیخنا الاُستاذ(2) - مدظله - .

ومنها : معتبرة بل صحیحة هشام بن سالم قال : سأل خطاب الأعور أبا إبراهیم علیه السلام وأنا جالس - فقال : إنّه کان عند أبی أجیر یعمل عنده بالاُجرة ، ففقدناه وبقی من أجره شیء ، ولا یُعرف له وارث ؟ قال : فاطلبوه ، قال : قد طلبناه فلم نجده ، قال : فقال : مساکین - وحرّک یده - قال : فأعاد علیه ، قال : أطلب واجهد ، فإن قدرت علیه وإلاّ فهو کسبیل مالک حتّی یجیء له طالب ، فإن حدث بک حدث فأوصِ به : إن جاء له أن یدفع إلیه(3) .

دلالة الروایة علی وجوب الفحص واضحة ، حیث یقول الإمام علیه السلام فیها : « أطلب واجهد» .

ومنها : صحیحة معاویة بن وهب قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل کان له علی رجل حقٌّ ففقد ولا یدری أحیُّ هو أم میّت ؟ ولا یعرف له وارث ولا نسب ولا بلد ؟ قال : أطلبه ، قال : إنّ ذلک قد طال فأصدّق به ؟ قال : أطلبه(4) .

ص: 336


1- (1) جامع الرواة 2 / 166 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 327 .
3- (3) وسائل الشیعة 26 / 296 ح 1 . الباب 6 من أبواب میراث الخنثی والمال المجهول المالک .
4- (4) التهذیب 6 / 188 ح 21 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 362 ح 2 . الباب 22 من أبواب الدین والقرض .

هذه الروایة دلالتها علی وجوب الفحص واضحة وسندها أیضاً صحیح ، لأن سند الشیخ بأحمد بن محمد تامٌ وحماد ومعاویة ثقتان ، فالروایة صحیحة الإسناد .

ولکن روی نحوها المشایخ الثلاثة فی الکتب الأربعة(1) وفی سندها أبی (ابن) ثابت وابن عون أو أحدهما فی طبقة واحدة ، وهما مهملان ، فالتعبیر عن هذا السند بالصحیحة ، کما عن الفقیه الیزدی(2) والنائینی(3) والأردکانی(4) وشیخنا الاُستاذ(5) - مدظله - ، غیر تام إلاّ علی القول بأنّ السند إذا وصل إلی أصحاب الإجماع - وهو یونس هنا - لا ینظر إلی ما بعده ، ولکن هذا المبنی عندنا ولعلّ عند کثیر منهم فاسد .

وقد نبّه علی الخدشة فی هذا السند وتمامیة سندها الآخر الفقیه القمی(6) - مدظله - . وکذا نبّه أستاذه السید الخوئی(7) علی صحة سندها الأوّل .

هذه الروایات تدلّ علی وجوب الفحص عن المالک ، ولکن قال الشیخ الأعظم قدس سره : « ویُحتمل غیر بعید عدم وجوب الفحص ، لإطلاق غیر واحد من الأخبار»(8) .

لعلّ مراد الشیخ الأعظم قدس سره الأخبار التی ستذکر فتأمل بدقَّة فیها حتّی تعرف هل تدلّ علی عدم وجوب الفحص أم لا ؟ وهل لها إطلاق بحیث تعارض الروایات الماضیة أم لا ؟

ومن الروایات المشار إلیها بها صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجل ترک غلاماً له فی کرم له یبیعه عنباً أو عصیراً ، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثمّ باعه ، قال : لا

ص: 337


1- (1) الکافی 7 / 153 ح 2 - الفقیه 4 / 331 ح 5710 - التهذیب 9 / 389 ح 5 - الاستبصار 4 / 196 ح 737 ونقل عنهم فی وسائل الشیعة 26 / 297 ح 2 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 184 .
3- (3) منیة الطالب 1 / 64 .
4- (4) غنیة الطالب 1 / 275 .
5- (5) إرشاد الطالب 1 / 327 .
6- (6) عمدة المطالب 1 / 486 .
7- (7) مصباح الفقاهة 1 / 512 .
8- (8) المکاسب 2 / 185 .

یصلح ثمنه . إلی أن قال : إنّ أفضل خصال هذه التی باعها الغلام أن یتصدق بثمنها(1) .

ومنها : صحیحة أبی علی [ الحسن ] بن راشد قال : سألت أبا الحسن علیه السلام قلت : جعلت فداک اشتریت أرضاً إلی جنب ضیعتی بألفی درهم ، فلمّا وفیت المال خُبّرت أنّ الأرض وقف ، فقال : لا یجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلّة فیمالک وادفعها إلی من وقفت علیه ، قلت : لا أعرف لها ربّاً ، قال : تصدّق بغلّتها(2) .

ومنها : حسنة علی الصائغ قال : سألته عن تراب الصوّاغین وإنّا نبیعه ؟ قال : أما تستطیع أن تستحله من صاحبه ؟ قال : قلت : لا ، إذا أخبرته اتّهمنی . قال : بعه ، قلت : بأیّ شیءٍ نبیعه ؟ قال : بطعام ، قلت : فأیّ شیءٍ أصنع به ؟ قال : تصدّق به إمّالک وإمّا لأهله ، قلت : إن کان ذا قرابة محتاجاً أصِلْه ؟ قال : نعم(3) .

قد عبّرنا عن الروایة بالحسنة لأنّ المراد بعمران هو ابن موسی الزیتونی القمی الثقة ظاهراً ، والمراد بأیوب الذی یروی عنه عمران هو أیوب بن نوح بن دراج الثقة ، والمراد بعلی الصائغ هو علی بن میمون حسنٌ ، فصار السند به حسناً ولکن الروایة مضمرة .

ومنها : خبر آخر لعلی بن میمون الصائغ(4) نظیر الذی مرّ ذکره ، ولکن سنده ضعیف بعلی بن حدید .

ومنها : خبر علی بن حمزة البطائنی(5) .

وهذه الروایات ونظائرها تُحمل علی صورة عدم إمکان إیصال المال إلی المالک ، أو الجهل به ولو بعد الفحص . فلیس فیها إطلاق حتّی تعارض الروایات الدالة علی وجوب الفحص .

وعلی فرض التعارض یُرجع إلی روایات حرمة التصرف فی مال الغیر بدون إذنه ،

ص: 338


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 223 ح 1 . الباب 55 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 364 ح 1 . الباب 17 من أبواب عقد البیع وشروطه .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 202 ح 2 . الباب 16 من أبواب الصرف .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 202 ح 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 199 ح 1 . الباب 47 من أبواب ما یکتسب به .

ونتیجتها عدم جواز التصدق بالمال قبل الفحص عن صاحبه والیأس عنه .

الفرع السادس : هل یسمع قول من یدّعیه ؟
وجوه ثلاثة
اشارة

قال الشیخ الأعظم : « ثم لو ادّعاه مدّع ففی سماع قول من یدّعیه مطلقاً لأنّه لا معارض له ، أو مع الوصف تنزیلاً له منزلة اللقطة ، أو یُعتبر الثبوت شرعاً للأصل ، وجوه»(1) .

الوجه الأول

أقول: دلیل الوجه الأوّل: - وهو سماع قول مَنْ یدّعیه مطلقا لأنّه لیس له معارض - بعض الروایات:

منها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - قال : واللقطة یجدها الرجل ویأخذها ؟ قال : یعرّفها سنة ، فإن جاء لها طالب وإلاّ فهی کسبیل ماله(2) .

ومنها : خبر کثیر قال : سأل رجل أمیر المؤمنین علیه السلام عن اللقطة ؟ فقال : یعرّفها ، فإن جاء صاحبها دفعها إلیه وإلاّ حبسها حولاً ، فإن لم یجی ء صاحبها أو من یطلبها تصدَّق بها ، الحدیث(3) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال : سألته عن اللقطة ؟ قال : لا ترفعوها ، فإن ابتلیت فعرّفها سنة ، فإن جاء طالبها وإلاّ فاجعلها فی عَرْض مالک ، یجری علیها ما یجری علی مالک إلی أن یجیء طالب ، الحدیث(4) .

ومنها : صحیحة البزنطی قال : سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن الرجل یصید الطیر الذی یسوی دراهم کثیرة ، وهو مستوی الجناحین وهو یعرف صاحبه ، أیحلّ له إمساکه ؟ فقال : إذا عرف صاحبه ردّه علیه ، وإن لم یکن یعرفه ملک جناحه فهو له ، وإن جاءک طالب لا تتّهمه ردّه علیه(5) .

ومنها : صحیحة منصور بن حازم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : عشرة کانوا

ص: 339


1- (1) المکاسب 2 / 185 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 441 ح 1 . الباب 2 من أبواب اللقطة .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 441 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 442 ح 3 .
5- (5) وسائل الشیعة 25 / 461 ح 1 . الباب 15 من أبواب اللقطة .

جلوساً ووسطهم کیس ، فیه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضاً : ألکم هذا الکیس ؟ فقالوا کلّهم : لا ، وقال واحد منهم : هو لی ، فلمن هو ؟ قال : للّذی ادّعاه(1) .

الروایة صحیحة الإسناد بسند الشیخ ، والمراد بمحمد بن الولید هو البجلی الثقة بقرینة روایته عن یونس . وأمّا سند الکلینی فمرسل .

هذه الروایات تدلّ علی قبول قول مَنْ یدعیه ، ولکنّها إمّا مختصَّة باللقطة أو مختصَّة بعدم ثبوت الید علی المال ، کما فی صحیحة منصور بن حازم . وفی الصورتین مختصَّة بحصول العلم العادی وهو الإطمئنان بالملکیّة فی الدعوی .

وأمّا الوجه الثانی :

فلیس له دلیل أصلاً ، إلاّ أنّ بالتوصیف یحصل العلم العادی وهو الإطمئنان بالملکیّة غالباً وهو حجة . وأمّا إذا لم یحصل الإطمئنان فالتوصیف لیس له وجه واعتبار .

وأمّا الوجه الثالث :

وهو الثبوت شرعاً بالبیّنة الشرعیة أو حکم الحاکم له أو حصول العلم العادی ونحوها ، فیعتبر عند الشرع و« هو الموافق للتحقیق لاشتغال ذمّة ذی الید بمجرد وضع یده علی مال الغیر ، فلا تبرأ ذمّته إلاّ بإیصاله إلی مالکه الواقعی أو الشرعی» کما فی مصباح الفقاهة(2) .

تنبیهٌ :

من هنا أنه ظهر لو أدی المال إلی غیر مالکه إمّا بمجرد الإدعاء أو الطلب أو معهما بقید التوصیف أو بالبینّة الشرعیة أو العلم العادی ونحوها ، فهل هو ضامن بالنسبة إلی مالکه الأصلی أم لا ؟

الظاهر هو الضمان مطلقاً ، لأنّه وضع یده علی مال الغیر ، فلا تبرأ ذمّته إلاّ بإیصال المال إلی مالکه الواقعی ، فإذا أداه إلی غیره لم یخرج من الضمان مطلقاً . ومن هنا ظهر أن ما ذکره الفقیه الیزدی قدس سره من الوجوه الستة(3) فی المقام غیر تام . والعجب من المحقق الأردکانی(4)

ص: 340


1- (1) وسائل الشیعة 27 / 273 ح 1 . الباب 17 من أبواب کیفیة الحکم .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 515 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 187 .
4- (4) غنیة الطالب 1 / 276 .

حیث ذهب إلی عدم الضمان مطلقاً .

فرعٌ :

إذا دخل الحیوان داره أو اُرسل شیءٌ فیه أو جاء به الریح ، فلا یبعد القول بعدم لزوم الفحص عن مالکه بل عدم الضمان . نعم یجب علیه الردّ إذا عرفه . ویمکن أن یستأنس لهذا الفرع بذیل صحیحة البزنطی(1) الماضیة ، کما نبّه علیه شیخنا الاُستاذ(2) - مدظله - وقال فی الجواهر : « لو أطارته الریح منه إلیه اتجه عدم ضمانه لأنّه حینئذ بمنزلة الأمانة فی یده لا یضمنه إلاّ بالتعدی أو التفریط»(3) .

أقول : وفی کونه أمانة إشکال .

الفرع السابع : مقدار الفحص وکیفیته

هل المال الذی لم یُعرف مالکه یلحق باللقطة فیجب الفحص عن مالکه سنة کاملة ؟ کما علیه عدّة من الروایات المستفیضة فی اللقطة نحو : صحیحة الحلبی(4) الماضیة وصحیحة محمد بن مسلم(5) ومعتبرة حنان(6) وصحیحة اُخری لمحمد بن مسلم(7) التی یمکن إتحادها مع الأولی وغیرها من الروایات(8) .

بلا فرق بین أن یکون تقیید الأمر بوجوب الفحص فی اللقطة بالسنة أمراً تعبدیاً أو أنّه مشروط بعدم الیأس عن الظفر بالمالک ، ولکن إذا یئس عن الظفر - ولو کان فی أقل من السنة - فلا یجب الفحص من بعده ، ولکن غایة الفحص عن المالک هی سنة کاملة فإذا تمت فلا یجب الفحص بعدها .

ص: 341


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 461 ح 1 .
2- (2) ارشاد الطالب 1 / 329 .
3- (3) الجواهر 22 / 178 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 441 ح 1 . الباب 2 من أبواب اللقطة .
5- (5) وسائل الشیعة 25 / 442 ح 3 .
6- (6) وسائل الشیعة 25 / 442 ح 6 .
7- (7) وسائل الشیعة 25 / 444 ح 10 .
8- (8) راجع الباب 2 من أبواب اللقطة فی وسائل الشیعة 25 / 441 .

یحتمل أن تکون السنة هی التی یظهر الیأس فیها عادةً ، وأمّا خبر أبان بن تغلب(1) الذی ورد فی تقیید الفحص بثلاثة أیام یُرمی بضعف الإسناد ، لأنّ محمد بن موسی الهمدانی ضعیف أو مجهول ، ویحمل علی حصول الیأس من معرفة صاحبه بعد ثلاثة أیّام کما فی الوسائل . وبالجملة الأصحاب أعرضوا عن التقیید بثلاثة أیام . هذا کلّه فی اللقطة .

وأمّا المال المجهول مالکه فلا یلحق باللقطة فی وجوب التعریف سنة - علی القول بهذا التحدید فیها - لعدم دلیل علی الإلحاق ، والأمر فی مقدار الفحص فیه یدور مدار الیأس ، فیجب علیه الفحص عن مالکه ما لم ییأس ولو صار أزید من سنة أو سنوات ولم یحصل له الیأس . وإذا حصل الیأس فی أقل من سنة أو أکثر فقد تمّ تکلیفه بالیأس .

وخبر حفص بن غیاث(2) الماضی لا یدلّ علی الإلحاق لضعف سنده وعدم إمکان التعدی من اللص إلی غیره من الغاصبین بل الظالمین ومنهم إلی المال المجهول مالکه .

وما ذکرناه هو مقتضی أصل البراءة فی المقام أیضاً ، واختاره جمع من الأصحاب ، منهم : صاحب الجواهر(3) والشیخ الأعظم(4) والفقیه الیزدی(5) والمحقق النائینی(6) والسید الخوئی(7) وشیخنا الاُستاذ(8) - مدظله - . هذا کلّه فی مقدار الفحص .

وأمّا کیفیة الفحص : فتدور مدار العرف ، وتختلف فی الأعصار والأمصار ، فکلّما یصدق الفحص عرفاً فهو عامل بوظیفته إنْ عمل علیه ، ولم تتقدر کیفیته شرعاً ، فیرجع ذلک کله إلی العرف ، واللّه العالم .

ص: 342


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 443 ح 7 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 463 ح 1 . الباب 18 من أبواب اللقطة .
3- (3) الجواهر 22 / 177 .
4- (4) المکاسب 2 / 186 و 188 .
5- (5) حاشیة المکاسب 1 / 188 .
6- (6) منیة الطالب 1 / 65 .
7- (7) مصباح الفقاهة 1 / 515 .
8- (8) إرشاد الطالب 1 / 330 .
الفرع الثامن : اُجرة الفحص علی مَنْ ؟

لو احتاج الفحص علی بذل مال ، فهل هو علی الآخذ أو علی المالک أو التفصیل فی المقام ؟

الظاهر أنّ الحق فی المقام هو التفصیل ، لأنّ الأخذ لو کان إحساناً فی حقِّ المالک -نحو أخذ المال من مواضع التلف والفناء - فهذا الآخذ محسن بالنسبة إلی المالک ، وآیة نفی السبیل علی المحسنین ینفی عن الآخذ اُجرة الفحص .

وأمّا لو لم یکن الآخذ محسناً للمالک وجعل یده علی المال علی سبیل العدوان والغصب والجهل ، فحینئذ اُجرة الفحص تکون علی الآخذ ، لأنّه لم یکن محسناً . وإطلاق الروایات الواردة فی وجوب الفحص علیه تشمل الموارد التی یلزم علیه بذل المال ، فکان البذل علیه .

ویمکن أن یقال : بأنّ الفحص عن المالک یکون وظیفة الآخذ ومن المقدمات الموصلة أو من مقدمات الإیصال أو من مقدمات حال الوصول فی بعض الموارد وکذا بذل المال للفحص ، فحینئذ یکون البذل واجباً علی الآخذ . وبالجملة فی هذا الفرض الأخیر تکون اُجرة الفحص علی الآخذ .

وذهب إلی هذا التفصیل المحقق الخوئی(1) قدس سره وشیخنا الاُستاذ(2) - مدظله - .

الفرع التاسع : مصرف هذا المال بعد الیأس عن الظفر بصاحبه
الوجوه المتصورة
اشارة

المال المعلوم صاحبه ولکن لا یمکن إیصاله إلی مالکه فی الحکم یشترک مع المال المجهول صاحبه ، ولذا الوجوه المتصوَّرة فیهما متعددة :

الوجه الأوّل :

یحفظه الواجد حتّی یتبیّن صاحبه ویصله إلیه ، ویوصی به عند وفاته . وذلک لأنه یجب الحفظ والإیصال إلی المالک مهما أمکن ، فیجب الإبقاء مقدمة له ، وکذا الوصیة عند موته مقدمة لحفظه .

ولکن هذا البیان لا یجری فی صورة العلم بعدم إمکان الإیصال إلی المالک ، کما نبّه علیه

ص: 343


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 517 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 330 .

الفقیه الیزدی(1) قدس سره .

وتدلّ علی هذا الوجه جملة من الروایات :

منها : صحیحة هشام بن سالم(2) الماضیة .

ومنها : ذیل صحیحة اُخری لهشام بن سالم قال الصادق علیه السلام فیها : توصی بها فإن جاء لها طالب ، وإلاّ فهی کسبیل مالک(3) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال فی حدیث : وإلاّ فاجعلها فی عرض مالک یجری علیها ما یجری علی مالک حتّی یجی ء لها طالب ، فإن لم یجی ء لها طالب فأوص بها فی وصیتک(4) .

ومنها : خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : یعرّفها سنة ، فإن لم یعرف صاحبها حفظها فی عرض ماله حتّی یجیء طالبها فیعطیها إیّاه ، وإن مات اُوصی بها ، فإن أصابها شیء فهو ضامن(5) .

ورواه الصدوق(6) بسنده الصحیح عن علی بن جعفر الثقة ، فسنده إلی الروایة صحیح . وکذا رواه علی بن جعفر فی کتابه(7) ، ولصاحب الوسائل سند صحیح إلی کتابه ، فالروایة بهذین السندین صحیحة الإسناد .

أقول : الروایتان الأخیرتان مختصتان باللقطة فلا تجریان فی مطلق مجهول المالک أو ما بحکمه ، ویمکن حمل کلّها علی فرض عدم الیأس بل رجاء وجدان صاحبه ، وأمّا الإلتزام بها ولو مع الیأس عن وجدانه فمشکل جدّاً .

ص: 344


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 195 .
2- (2) وسائل الشیعة 26 / 296 ح 1 . الباب 6 من أبواب میراث الخنثی .
3- (3) وسائل الشیعة 26 / 254 ح 7 . الباب 4 من أبواب ضمان الجریرة .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 444 ح 10 ، الباب 2 من أبواب اللقطة .
5- (5) وسائل الشیعة 25 / 444 ح 13 .
6- (6) الفقیه 3 / 292 ح 4049 .
7- (7) مسائل علی بن جعفر / 165 ح 265 .

وأمّا حملها علی أنّها وردت فی الحقِّ الکلّی الثابت فی الذمة ، أو أنّها وردت فی قضیة شخصیة فلا یمکن التعدی عن موردها - کما ذکرهما المحقق الخوئی(1) قدس سره - فی الاُولیین ممکن ولکن فی الأخیرتین مشکل جداً . والروایات لا تنحصر بهما ، والاُولی حملها علی ما ذکرنا من احتمال وجدان صاحبه وعدم الیأس عن الظفر به .

وکذا حمل جملة « کسبیل مالک» فی الأولیین علی حقیقته - یعنی أنّه یدخل فی ملکک کما عن الإیروانی(2) - مشکل جداً بل الظاهر أنّ المراد بحرف التشبیه الظاهر فی الغیریة حفظه کما لک ثمّ الوصیة به . وما ذکرناه فی الأخیرتین اُوضح ، لأنّ التعبیر بعرض مالک ظاهر فی الحفظ لا الأکل وإلاّ لم یبق مصداق للوصیة ، واللّه العالم .

الوجه الثانی :

هذا المال بمنزلة مال الإمام علیه السلام ، لأنّه بمنزلة مال من لا وارث له .

عدّة من الروایات تدلّ علی أنّ من مات ولیس له وارث فما له یحسب من الأنفال والأنفال للإمام علیه السلام :

منها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : من مات ولیس له وارث من قرابته ولا مولی عتاقه قد ضمن جریرته فماله من الأنفال(3) .

ومنها : صحیحة محمد الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه تعالی : «یَسْأَلُونَکَ عَنِ الأَنفَالِ»(4) قال : من مات ، ولیس له مولی فما له من الأنفال(5) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من مات وترک دیناً فعلینا دینه وإلینا عیاله ، ومن مات وترک مالاً فلورثته ، ومن مات ولیس له موالی فما له من الأنفال(6) . وقد اُلحق هذا المال ومجهول المالک بمال الإمام والأنفال فی معتبرة داود بن أبی یزید

ص: 345


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 521 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 338 .
3- (3) وسائل الشیعة 26 / 246 ح 1 . الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجریرة والإمامة .
4- (4) سورة الأنفال / 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 26 / 427 ح 3 .
6- (6) وسائل الشیعة 26 / 247 ح 4 .

عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رجل : إنّی قد أصبت مالاً وإنّی قد خفت فیه علی نفسی ، ولو أصبت صاحبه دفعته إلیه وتخلّصت منه . قال : فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : واللّه أن لو أصبتَهُ کنتَ تدفعه إلیه ؟ قال : أی واللّه ، قال : فأنا واللّه ما له صاحب غیری ، قال : فاستحلفه أن یدفعه إلی من یأمره ، قال : فحلف ، فقال : فاذهب فاقسمه فی إخوانک ، ولک الأمن ممّا خفت منه ، قال : فقسّمته بین إخوانی(1) .

قد عبّرنا عن الروایة بالمعتبرة لأنّ موسی بن عمر المذکور فی سندها هو موسی بن عمر بن یزید بن ذبیان الصیقل بقرینة روایة أحمد بن محمد عنه وهو عن الحجال کما فی جامع الرواة(2) وعنونه النجاشی(3) وذکر کتبه وکذا الشیخ(4) ، والنجاشی مقید بذکر الغمز والقدح ، وحیث لم یذکر له قدحاً ظهر عدم ورود قدحٍ فی شأنه ، کما وافقنا علی هذا البیان بل سابقنا إلیه المحقق المیر محمد باقر الداماد فی الرواشح السماویة(5) وتبعه الفاضل الدربندی فی القوامیس(6) .

وروی عنه جماعة من المشایخ منهم : محمد بن علی بن محبوب ومحمد بن أحمد ابن یحیی و محمد بن الحسین ومحمد بن الحسن الصفار کما فی جامع الرواة(7) وسعد بن عبد اللّه الأشعری القمی کما فی النجاشی(8) وعبد الرحمن بن حماد کما فی الفهرست(9) للشیخ . وبما ذکرنا ظهر أنّه من المشاهیر والمعاریف ولم یذکر بقدح فهو معتبر عندنا .

ص: 346


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 450 ح 1 . الباب 7 من أبواب اللقطة .
2- (2) جامع الرواة 2 / 279 .
3- (3) رجال النجاشی / 405 الرقم 1075 .
4- (4) الفهرست / 456 الرقم 727 .
5- (5) الرواشح السماویة / 115 الراشحة السابعة عشر .
6- (6) راجع المنتقی النفیس من درر القوامیس / 186 و 235 المطبوع فی العدد 24 من مجلة تراثنا .
7- (7) جامع الرواة 2 / 279 و 278 .
8- (8) رجال النجاشی / 406 .
9- (9) الفهرست / 457 .

والمراد بالحجّال هو عبد اللّه بن محمد الأسدی الثقة ، وداود بن أبی یزید أیضاً ثقة ، وباقی رجال السند ثقات ، فالسند یصیر عندنا معتبراً .

وأمّا دلالتها علی أنّ مجهول المالک للإمام علیه السلام فواضحة ، والمناقشة فیها بأنّ من المحتمل أنّ یکون المال للإمام واقعاً ، أو أنّ المال له لعلمه بموت مالکه وأنّه لم یترک وارثاً غیره ، أو أنّ المال یکون من صفو دار الحرب الذی هو خاص للإمام . وإن کان الکلّ محتمل کما فی مصباح الفقاهة(1) ولکنّ کلّها خلاف الظاهر . وظاهرها أنّ المال المجهول مالکه کان للإمام علیه السلام والإمام أمر بتقسیمه للشیعة ، وظهورها فقراؤهم لا أغنیاؤهم بقرینة الحکم والموضوع ، کما ورد الأمر بذلک فی عدّة من الروایات نحو معتبرة خلاّد السندی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان علی علیه السلام یقول فی الرجل یموت ویترک مالاً ولیس له أحد : أعطِ المال همشاریجة(2) .

الروایة معتبرة بخلاد لأنّه حسنٌ ومعتبر عندنا . همشاریجة کلمة معرّبة وأصلها فارسیة « همشهری» یعنی أهل بلده ومدینته .

وقد وردت فی هذا المجال روایات اُخری ، نحو : مرفوعة السری(3) ومرسلة داود(4) ومرسلة الصدوق(5) وغیرها(6) .

والحاصل ، استفیدت من مجموع الروایات أنّ مجهول المالک یصیر ملکاً للإمام علیه السلام وأجاز الإمام تقسیمه بین فقراء الشیعة .

الوجه الثالث : أن یکون لمَنْ وضع یده علیه

قد ورد فی صحیحة علی بن مهزیار عن أبی جعفر علیه السلام أنّه کتب فیما یجب فیه الخمس ...

ص: 347


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 519 .
2- (2) وسائل الشیعة 26 / 252 ح 1 . الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجریرة والإمامة .
3- (3) وسائل الشیعة 26 / 252 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 26 / 252 ح 3 .
5- (5) وسائل الشیعة 26 / 253 ح 4 .
6- (6) مستدرک الوسائل 17 / 209 ح 4 .

ومثل مال یؤخذ لا یُعرف له صاحب ، الکتاب(1) .

استظهر المحقق الهمدانی(2) من الصحیحة جواز تملّک مجهول المالک بعد إخراج خمسه ، وتبعه المحقق الإیروانی وقال : « وهذه الصحیحة صریحة فی جواز تملّک مجهول المالک بعد إخراج خمسه»(3) .

أقول : إطلاق هذه الفقرة من الصحیحة وإن یشمل مجهول المالک ولکن الأصحاب قدس سرهم أعرضوا عن هذا الإطلاق ، کما اعترف به المحقق الأردکانی(4) . مضافاً إلی أنّها بصدد بیان ما یجب فیه الخمس ، لا فی مقام بیان حکم مجهول المالک ، فلیس لها إطلاق حتّی یشمل مجهول المالک . وعلی فرض إطلاقها وشمولها تقیّد بالروایات الماضیة الواردة فی خصوص مجهول المالک من حفظها والوصیة بها ، أو أنّه للإمام علیه السلام ، أو وجوب التصدّق به .

أو الإطلاق یحمل علی الموارد التی یجوز تملک اللقطة إمّا ابتداءً لقلّة قیمتها - کما إذا کان دون الدرهم علی ما ورد فی بعض الروایات(5) - أو إذا وجدها فی الدار الخربة قد جلا عنها أهلها کما فی بعضها الاُخری(6) ، أو علی من اشتری دابة فوجد فی بطنها مالاً ولم یعرف البائع کما فی بعضها الاُخری(7) ، أو علی مَنْ وجد مالاً فی جوف سمکة کما فی بعضها الاُخری(8) .

والحاصل ، لا یمکن الأخذ بإطلاق الصحیحة علی فرض وجوده ، فلا یمکن الأخذ بهذا الوجه .

ولذا قال المحقق الهمدانی بعد البحث عن الصحیحة : « لکن قد یُشکل التعویل علی هذا

ص: 348


1- (1) وسائل الشیعة 9 / 501 ح 5 . الباب 8 من أبواب ما یجب فیه الخمس .
2- (2) مصباح الفقیه 14 / 168 کتاب الخمس من الطبعة الحدیثة .
3- (3) الحاشیة علی المکاسب 1 / 337 .
4- (4) غنیة الطالب 1 / 284 .
5- (5) وسائل الشیعة 25 / 446 . الباب 4 من أبواب اللقطة .
6- (6) وسائل الشیعة 25 / 447 . الباب 5 من أبواب اللقطة .
7- (7) وسائل الشیعة 25 / 452 . الباب 9 من أبواب اللقطة .
8- (8) وسائل الشیعة 25 / 453 . الباب 10 من أبواب اللقطة .

الظاهر بعد مخالفته للمشهور أو المجمع علیه(1) ... والاُولی ردّ علمها إلی أهله ، والرجوع فی حکم ما لا یعرف صاحبه إلی أخبار الصدقة ، کما هو المشهور»(2) .

الوجه الرابع : یتصدّق به

عدّة من الروایات المعتبرة المستفیضة تدلّ علی وجوب التصدّق بهذا المال :

منها : حسنة علی الصائغ(3) الماضیة وخبره(4) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة أبی علی الحسن بن راشد(5) الماضیة .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم(6) الماضیة .

ومنها : خبر علی بن أبی حمزة البطائنی(7) الذی قد مرّ منّا فیما سبق .

ومنها : صحیحة هشام بن سالم(8) الماضیة .

ومنها : معتبرة داود بن أبی یزید(9) الماضیة آنفاً .

ومنها : صحیحة یونس بن عبد الرحمن(10) الماضیة .

ومنها : خبر حفص بن غیاث(11) الذی قد مرّ منّا .

ص: 349


1- (1) مصباح الفقیه 14 / 168 کتاب الخمس من الطبعة الحدیثة .
2- (2) مصباح الفقیه 14 / 169 کتاب الخمس من الطبعة الحدیثة .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 202 ح 2 . الباب 16 من أبواب الصرف .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 202 ح 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 364 ح 1 . الباب 17 من أبواب عقد البیع - و - 19 / 185 ح 1 . الباب 6 من أبواب الوقوف .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 223 ح 1 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 199 ح 1 . الباب 47 من أبواب ما یکتسب به .
8- (8) وسائل الشیعة 26 / 254 ح 7 . الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجریرة .
9- (9) وسائل الشیعة 25 / 450 ح 1 .
10- (10) وسائل الشیعة 25 / 450 ح 2 .
11- (11) وسائل الشیعة 25 / 463 ح 1 . الباب 18 من أبواب اللقطة .

ومنها : خبر أبان بن تغلب(1) الذی قد مرّ منّا .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه قال : وسألته عن الرجل یصیب اللقطة فیعرّفها سنة ثمّ یتصدّق بها ، فیأتی صاحبها ، ما حال الذی تصدّق بها ؟ ولِمَنْ الأجر ؟ هل علیه أن یردّ علی صاحبها أو قیمتها ؟ قال : هو ضامن لها ، والأجر له ، إلاّ أن یرضی صاحبها فیدعها والأجر له(2) .

وقد عبّرنا عن الروایة بالصحیحة لأنّها رواها علی بن جعفر فی کتابه(3) .

ومنها : خبر نصر أو قیصر أو فیض بن حبیب صاحب الخان قال : کتبت إلی عبد صالح علیه السلام : لقد وقعت عندی مائتا درهم وأربعة دراهم وأنا صاحب فندق ومات صاحبها ولم أعرف له ورثة ، فرأیک فی إعلامی حالها وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعاً ، فکتب : إعمل فیها وأخرج صدقة قلیلاً قلیلاً حتّی تخرج(4) .

سند الروایة ضعیف بابن حبیب ، لأنّه مجهول أو مهمل فی الرجال ولیس له إلاّ هذه الروایة . وأمّا دلالتها علی لزوم التصدق بالمال واضحة ، ولکن بعد الفحص عن الورثة وعدم وجدانهم ، حیث قال السائل فیها : « لم أعرف له ورثةً» . ومن المحتمل أن تکون فقرة « إعلامی حالها» فی الروایة ناظرة إلی إعلام الموت وعدم وجدان الورثة إلی سلطة الوقت ، ونتیجته تصرف السلطة فی الأموال بالکلّیّة وضبطها ، ولذا أمره الإمام علیه السلام بالعمل فی الأموال بحیث لم یُعرف أنّه مال الغیر ، ثمّ یتصدق به شیئاً فشیئاً حتّی یتمّ المال ولا تعرف السلطة من أین حصل له هذا المال . فلزوم العمل فی المال وخروجه شیئاً فشیئاً مختص بالمورد الخاص ، وهذه قضیة شخصیة علی فرض ثبوت الروایة لا یجب مراعاته فی غیره من المال المجهول مالکه . وأمّا لزوم التصدق فمشترک بینها وغیرها من الروایات ، فلابدّ من الأخذ به .

ولا تنافی بین ما ذکرنا من الروایات وخبر الهیثم بن أبی روح صاحب الخان قال :

ص: 350


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 443 ح 7 . الباب 2 من أبواب اللقطة .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 445 ح 14 .
3- (3) مسائل علی بن جعفر / 165 ح 266 .
4- (4) وسائل الشیعة 26 / 297 ح 3 . الباب 6 من أبواب میراث المفقود والمال المجهول المالک .

کتبت إلی عبد صالح علیه السلام : إنّی أتقبّل الفنادق فینزل عندی الرجل فیموت فجأة ولا أعرفه ، ولا أعرف بلاده ولا ورثته ، فیبقی المال عندی ، کیف أصنع به ؟ ولمن ذلک المال ؟ قال : أترکه علی حاله(1) .

لأنّه محمول علی عدم الفحص عن الورثة أو عدم الیأس عن وجدانهم ، فأمر الإمام علیه السلام بترک المال علی حاله أی حفظه . مضافاً إلی ضعف سنده ، لأنّ الهیثم صاحب الخان مجهول أو مهمل ولیس له إلاّ هذه الروایة .

والحاصل من مجموع الروایات الماضیة والوجوه المذکورة : أنه یمکن أن یقال بالنسبة إلی المال المجهول مالکه ویشترک معه المال المعلوم مالکه ولکن یتعذر ولا یمکن إیصاله إلیه ، یجب حفظه والوصیة به عند الوفاة علی فرض رجاء وجدان صاحبه وعدم الیأس منه ، وعلی فرض الیأس عن وجدان مالکه یجب التصدق به علی فقراء الشیعة . والأحوط الاستئذان من الفقیه فی التصدق ، لأنّه من المحتمل أن یکون للإمام علیه السلام ، ولکن حیث ورد فی نفس روایات ملکیته للإمام علیه السلام الأمر منهم علیهم السلام بالتصدق کما مرّ کأنّه إذن عام عنهم فیه . ومع ذلک کلّه الاحتیاط حسنٌ ولا یترک بالنسبة إلی الاستئذان . هذا کلّه فی حکم مصرف هذا المال والمجهول مالکه ، واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع العاشر : مَنْ یستحق هذه الصدقة ؟

حیث ورد الإذن بل الأمر بالتصدق بمجهول المالک ، وظهوره بقرینة الحکم والموضوع بل ظهوره من دون هذه القرینة هو التصدق علی الفقراء فقط ولا یشمل الأغنیاء کما اعترف به الشیخ الأعظم حیث یقول : « إنّ مستحق هذه الصدقة هو الفقیر ، لأنّه المتبادر من إطلاق الأمر بالتصدق»(2) .

وتدلّ أیضاً علی أنّ المراد بالتصدق هو الصدقة علی الفقراء قوله تعالی : «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاکِینِ»(3) .

ص: 351


1- (1) وسائل الشیعة 26 / 298 ح 4 .
2- (2) المکاسب 2 / 193 .
3- (3) سورة التوبة / 60 .

والمراد بالفقراء هنا فقراء أهل الإیمان فقط ، وتدلّ علیه معتبرة داود بن أبی یزید(1) ومعتبرة یونس بن عبد الرحمن(2) الماضیتان .

ثمّ هل یجوز إعطاؤها للهاشمی أم لا ؟ وجهان بل قولان ، أظهرهما الجواز ، لأنّ المحرَّم علی الهاشمیین هی الصدقة الواجبة ، أی الزکاة المفروضة مطلقاً ، أی بلا فرق بین زکاة المال وزکاة الفطرة التی هی زکاة الأبدان ، وتدلّ علیه عدّة من الروایات :

منها : صحیحة جعفر بن إبراهیم الهاشمی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : أتحلّ الصدقة لبنی هاشم ؟ فقال : إنّما تلک الصدقة الواجبة علی الناس لا تحلّ لنا ، فأمّا غیر ذلک فلیس به بأس ، ولو کان کذلک ما استطاعوا أن یخرجوا إلی مکة ، هذه المیاه عامّتها صدقة(3) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : لو حرمت علینا الصدقة لم یحلّ لنا أن نخرج إلی مکّة لأنّ کل ماءٍ بین مکة والمدینة فهو صدقة(4) .

ومنها : معتبرة إسماعیل بن الفضل الهاشمی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الصدقة التی حرّمت علی بنی هاشم ما هی ؟ فقال : هی الزکاة ، قلت : فتحلّ صدقة بعضهم علی بعض ؟ قال : نعم(5) .

والقاسم بن محمد المذکور فی السند هو الجوهری ، لأنّ الحسین بن سعید یروی عنه ، وذکره النجاشی(6) ولم یذکر فیه قدحاً ، وکذلک الشیخ فی الفهرست(7) ، وعنونه فی ثلاث مواضع من رجاله فی أصحاب الإمام الصادق علیه السلام (8) وأصحاب الإمام الکاظم علیه السلام (9)

ص: 352


1- (1) وسائل الشیعة 25 / 450 ح 1 .
2- (2) وسائل الشیعة 25 / 450 ح 2 .
3- (3) وسائل الشیعة 9 / 272 ح 3 . الباب 31 من أبواب المستحقین للزکاة .
4- (4) وسائل الشیعة 9 / 272 ح 1 .
5- (5) وسائل الشیعة 9 / 274 ح 5 . الباب 32 من أبواب المستحقین للزکاة .
6- (6) رجال النجاشی / 315 الرقم 832 .
7- (7) الفهرست / 371 الرقم 576 .
8- (8) رجال الطوسی / 276 الرقم 49 .
9- (9) رجال الطوسی / 358 الرقم 1 .

وصرح بکونه واقفیاً ، ومَنْ لم یرو عن الأئمة علیهم السلام (1) . ضعّفه العلاّمة فی الخلاصة(2) وتبعه العلاّمة المجلسی(3) والمامقانی(4) ، ولکن الرجل من المعاریف له أکثر من سبعین روایة فی الکتب الأربعة ، وروی عنه مشایخ الأصحاب ، وذکره النجاشی ولم یغمز علیه بقدح ، فهو معتبر عندنا ، فالسند به صار معتبراً . ورواها الکلینی(5) بسند معتبر بل صحیح ، ولذا عبّر عن الروایة شیخنا الاُستاذ(6) - مدظله - بالمعتبرة .

فظهر من هذه الروایات أنّ المحرَّم علی بنی هاشم هی الصدقات الواجبة ، أی الزکاة . وأمّا غیرها من الصدقات المندوبة لا سیما إذا کانت غیر مقرونة بالمنّ والأذی والإهانة فلا بأس بإعطائهم . نعم الصدقات المندوبة محرَّمة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة المعصومین علیهم السلام من ولده ، ومقالة اُمّ کلثوم بنت أمیر المؤمنین علیه السلام وعملها عند ورود قافلة الاُسراء إلی الکوفة حیث « کان أهلها یناولون الأطفال الذین علی المحامل بعض التمر والخُبز والجوز ، فصاحت بهم وقالت : یا أهل الکوفة إنّ الصدقة علینا حرام ، وصارت تأخذ ذلک من أیدی الأطفال وأفواههم وترمی به إلی الأرض» کما نقله العلاّمة المجلسی فی بحاره(7) ، تحمل علی التعریف بأنّها والأطفال من أهل البیت العصمة والطهارة .

وتدلّ علیه أیضاً معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم الجمّال عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : اُعطوا الزکاة من أرادها من بنی هاشم ، فإنّها تحلّ لهم ، وإنّما تحرم علی النبی صلی الله علیه و آله وسلم وعلی الإمام الذی بعده وعلی الأئمة علیهم السلام (8) .

ص: 353


1- (1) رجال الطوسی / 490 الرقم 5 .
2- (2) ترتیب خلاصة الأقوال / 341 الرقم 9 .
3- (3) الوجیزة / 141 الرقم 1464 .
4- (4) نتائج التنقیح / 122 الرقم 9602 .
5- (5) الکافی 4 / 59 ح 5 .
6- (6) إرشاد الطالب 1 / 339 .
7- (7) بحار الأنوار 45 / 114 (18 / 582) کلاهما من طبع بیروت - وکذا نقله الطریحی فی منتخبه / 477 .
8- (8) وسائل الشیعة 9 / 269 ح 5 . الباب 29 من أبواب المستحقین للزکاة .

سند الکلینی(1) والشیخ(2) إلی الروایة معتبر ، وأبو خدیجة ثقة عندنا ، فالسند لا بأس به . والزکاة فی الروایة تحمل علی الصدقات المندوبة .

وعلی هذا یجوز إعطاء مجهول المالک إلی بنی هاشم ، وکذا یجوز إعطاؤهم من الصدقات المستحبة .

الفرع الحادی عشر : التصدق بمجهول المالک هل یوجب الضمان ، لو ظهر المالک ولم یرض به ؟

حیث ذهبنا إلی وجود الضمان فی مجهول المالک مطلقاً ، فإذا تصدّق مَنْ بیده المال خرج من تکلیفه بحسب الشریعة والأمر الاُخروی ، وأمّا بالنسبة إلی المالک إذا ظهر ورضی بالصدقة فلا ضمان ، ولکن لو لم یرض بها فالأصل یقتضی ضمانه . ویؤیده استصحاب الضمان وقاعدتا الإتلاف وجعل الید علی مال الغیر یوجب الضمان وخبر حفص بن غیاث عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث بعد الأمر بالتصدق أنّه قال : فإن جاء طالبها بعد ذلک خیّره بین الأجر والغرم ، فإن اختار الأجر فله الأجر وإن اختار الغرم غرم له ، وکان الأجر له(3) .

ولا تعارضه معتبرة داود بن أبی یزید عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث أنّه قال : فاذهب فاقسمه فی إخوانک ولک الأمن ممّا خفت منه ، قال : فقسّمته بین إخوانی(4) .

لأن فقرة « ولک الأمن ممّا خفت منه» لا تنفی الضمان ، والسائل یخاف من اشتغال ذمّته بالنسبة إلی المالک فی الآخرة ، ولذا أمر الإمام علیه السلام بالصدقة ، ومع التصدق یخرج من هذا الخوف وذمّته بریئة فی الآخرة . ولکن فی الدنیا لو ظهر المالک ولم یرض بالصدقة ، ذمّته مشغولة بالضمان الأوّل .

فعلی ما ذکرنا یثبت الضمان بمجرد جعل الید علی المال ولایرتفع بالتصدق ، ولا یردّ التصدق من جانب المالک ، بل بنفس جعل الید السابق .

ص: 354


1- (1) الکافی 4 / 59 ح 6 .
2- (2) التهذیب 4 / 160 ح 161 ، والاستبصار 2 / 36 ح 110 .
3- (3) وسائل الشیعة 25 / 436 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 25 / 450 ح 1 .

ووافقنا علی الضمان جماعة من الفقهاء ، منهم : الشهید فی البیان(1) وثانیه فی المسالک(2) ، وخالفنا سید الریاض(3) وصاحب المدارک(4) مستدلاً بأنّه أوفق بالأصل وبأنّه مأمور بذلک شرعاً .

ولو مات المالک ینتقل حقّ الردّ أو إجازة التصدق إلی ورثته ، فلو ردّوا الصدقة فذمّة المتصدِّق مشغولة بالمال .

وکذا لو مات المتصدِّق وردّ المالک الصدقة یتعلق الضمان بذمّة الدافع ویخرج من ترکته أوّلاً ، ثمّ یقسم الباقی بین ورثته .

هذا کلّه لو قام المتصدِّق بأمر الصدقة من قِبَل نفسه ، ولکن لو استجاز من الحاکم الشرعی - وهو الفقیه العادل فی زمن الغیبة - فلیس علیه الضمان . وکذا لیس الضمان علی الفقیه ولا علی الفقیر الذی أخذ الصدقة حتّی مع بقاء العین ، ولذا قال الشیخ الأعظم : « لم یقل أحد برجوع المالک علی الفقیر مع بقاء العین»(5) .

وکذا لا یثبت الضمان علیهم ، فلو أعطی المال مَنْ جعل یده علیه للفقیه والفقیه أعطاه للفقیر فلا ضمان ولو کانت العین باقیة فی ید الفقیر .

نعم ، لو أعطاه للفقیه وکانت العین موجودة فی ید الفقیه یجب علیه أداء المال إلی المالک لو طلبه منه ولم یرض بالصدقة ، لأنّه من مجهول المالک الذی وُجد صاحبه ، فعلی الفقیه أن یرجع ماله إلیه لو طلبه .

وهاهنا وجوه واحتمالات أغمضنا عن ذکرها روماً للإختصار .

الفرع الثانی عشر : هل هذه الأحکام تختص بالجائزة المأخوذة من ید السلطان ؟

الظاهر أنّ السلطان والظالم یُذکر فی المقام بعنوان المثال ، فلا فرق بینه وبین غیره من

ص: 355


1- (1) البیان / 218 .
2- (2) مسالک الأفهام 1 / 467 .
3- (3) ریاض المسائل 5 / 239 .
4- (4) مدارک الأحکام 5 / 389 .
5- (5) المکاسب 2 / 195 .

الآخذین للأموال بالباطل ، ولذا عمم الشیخ جعفر قدس سره الحکم إلی غیره وقال : « الآخذ للأموال بالباطل - مع العلم بوجودها فی جملة أمواله - من سلطان أو عامل أو عشّار أو سارق أو مُرْبٍ أو مرتشٍ إلی غیر ذلک ، وإن کان الظاهر الأوّل والثانی»(1) .

وتبعه فی الجواهر وقال : « ... وحینئذ یکون الجائر کغیره فی الحکم المزبور ، وإنّما ذُکر بالخصوص لتعرض النصوص ، ولا ریب فی أنّه الأحوط»(2) .

أقول : النصوص لا تختص بالظالم ، بل ورد فی عدّة من الروایات ذکر غیر الظالم وجواز التصرف فی جوائزه وهدایاه :

منها : صحیحة أبی بصیر قال : سألت أحدهما علیهماالسلام عن شراء الخیانة والسرقة ؟ قال : لا ، إلاّ أن یکون قد اختلط معه غیره ، الحدیث(3) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث انّه قال : لو أنّ رجلاً ورث من أبیه مالاً وقد عرف أنّ فی ذلک المال ربا ولکن قد اختلط فی التجارة بغیره حلال کان حلالاً طیّباً فلیأکله ، وإن عرف منه شیئاً أنّه ربا فلیأخذ رأس ماله ولیرّد الربا ، الحدیث(4) .

فی الوسائل « أبی المغرا عن أبی عبد اللّه علیه السلام » ، ولکن فی الکافی(5) « أبی المغرا عن الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام » والصحیح أنّه صحیحة الحلبی لا أبی المغرا .

ومنها : صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : وإن کان مختلطاً فکُلْه هنیئاً ، فإنّ المال مالک ، واجتنب ما کان یصنع صاحبه ، الحدیث(6) .

ومنها : مکاتبة الحمیری - التی صححنا سندها فیما مضی - عن صاحب الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشریف أنّه کتب فی جوابه : إن کان لهذا الرجل مال أو معاش غیر ما فی یده

ص: 356


1- (1) شرح القواعد 1 / 335 .
2- (2) الجواهر 22 / 176 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 90 ح 6 . الباب 4 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 128 ح 2 . الباب 5 من أبواب الربا .
5- (5) الکافی 5 / 145 ح 4 .
6- (6) وسائل الشیعة 18 / 129 ح 3 .

فکُلْ طعامه واقبل برّه وإلاّ فلا(1) .

والظاهر أنّ منشأ الحلّیّة فی الجمیع هو الإختلاط والاشتباه وعدم تعیّن الحرام فی المقام ، ولذا تأتی جمیع هذه الأقسام الأربعة فی أموال السرّاق والعشّار والمربی والمرتشی وغیرهم من الذین یأخذون أموال الناس بالباطل ولا یرعون الحدود الشرعیة وضوابطها فی تحصیل الأموال .

والحاصل ، أن جوائز السلطان وعمّاله وأمثاله من الذین یأکلون الحرام تشترک فی الحکم ویأتی فیها ما مضی من أقسامه الثلاثة ، وکذا یأتی فیها القسم الرابع الآتی . وهذا تمام الکلام فی القسم الثالث .

القسم الرابع:
اشارة

القسم الرابع : الآخذ یعلم إجمالاً أنّ فی أموال الجائر محرّماً ویعلم إجمالاً بوجود الحرام فی المأخوذ منه

هذا القسم الأخیر یشترک مع القسم الثالث ، إلاّ أنّ العلم بوجود الحرام فی المأخوذ منه فی القسم الثالث علم تفصیلی وفی القسم الرابع علم إجمالی .

صورها الثمانیة:

وهذا العلم الإجمالی یقسّم المال المأخوذ إلی صورتین رئیستین :

1 - العلم الإجمالی الذی یوجب حصول الإشاعة والإشتراک فی المال المأخوذ .

2 - العلم الإجمالی الذی لا یوجب حصول الإشاعة والإشتراک فی المال المأخوذ .

وعلی الصورة الاُولی فالقدر المال المأخوذ ومالکه إمّا معلومان أو مجهولان أو مختلفان ، والأخیر تارة القدر معلوم والمالک مجهول وتارة عکسه .

وعلی الصورة الثانیة -وهی ما کان المال مفروزاً واشتبه الحرام بالحلال - فحینئذ أیضاً إمّا المالک وقدر ماله معلومان أو مجهولان أو مختلفان ، والأخیر تارة القدر معلوم والمالک مجهول وتارة عکسه .

فهاتان الصورتان فی کلّ صورة منها أربعة فروض ، فصار المجموع ثمانیة فروض نتعرض لها . فظهر ممّا ذکرنا أنّ فروض الصورة الاُولی تجری فی الصورة الثانیة أیضاً ، ولکن

ص: 357


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 217 ح 15 .

ظاهر الشیخ الأعظم(1) قدس سره انحصارها بصورة مجهولیة القدر ومعلومیة المالک ، وقد نبّه علی تعمیم الفروض واشتراکها فی الصورتین الفقیه الیزدی(2) والمحقق الخوئی(3) قدس سره ، وتبعهما شیخنا الاُستاذ(4) - مدظله - وهو متین .

وأمّا حکم فروض الاشاعة والاشتراک :

الف : إذا کان القدر ومالکه معلومین فیجب ردّ القدر إلی مالکه المعلوم .

ب : إذا کان القدر والمالک کلاهما مجهولین فصار من صغریات المال المختلط بالحرام فیجب فیه الخمس .

وقد مرّ ذکر معتبرة السکونی(5) وصحیحة عمار بن مروان(6) وخبر الحسن بن زیاد(7) ولیراجع مرسلة الصدوق(8) وکلّها تدل علی کفایة إخراج الخمس فی المقام ، أی إذا کان القدر مجهولاً . ولکن إذا کان القدر معلوماً إجمالاً لاسیما إذا کان أزید من الخمس فیجب إخراج أزید منها کما أفاده العلامة فی التذکرة(9) ، والشهید الثانی فی المسالک(10) والمحققان الهمدانی(11) والنائینی(12) حکموا باختصاص الروایات بما إذا کان القدر مجهولاً ، وتبعهم السید الخوئی(13) .

ص: 358


1- (1) المکاسب 2 / 198 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 218 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 529 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 343 .
5- (5) وسائل الشیعة 9 / 506 ح 4 وروی نظیرها فی وسائل الشیعة 18 / 130 ح 5 .
6- (6) وسائل الشیعة 9 / 494 ح 6 .
7- (7) وسائل الشیعة 9 / 505 ح 1 .
8- (8) وسائل الشیعة 9 / 506 ح 3 .
9- (9) تذکرة الفقهاء 5 / 422 .
10- (10) مسالک الأفهام 1 / 467 .
11- (11) مصباح الفقیه 14 / 172 . کتاب الخمس من الطبعة الحدیثة .
12- (12) منیة الطالب 1 / 76 .
13- (13) مصباح الفقاهة 1 / 530 .

فما ذکره السید الیزدی(1) تبعاً لصاحب المناهل(2) من إطلاق أخبار الخمس بالنسبة إلی ما لو شک فی کون الحرام بمقدار الخمس أو أقل منه أو أکثر ، غیر تام .

لأنّ جعل وجوب الخمس فی المال المختلط بالحرام للإمتنان علی العباد لتخلّصهم من الحرام ، ومن المعلوم عدم صدق الإمتنان لو کان المقدار أقل من الخمس .

وکذا لو کان الإختلاط أزید من الخمس ، صار بالنسبة إلی الزائد کغیرها من المحرَّمات لا ترفع الحرمة عنه وإلاّ کان ذلک حیلة لأکل أموال الناس ، مضافاً إلی عدم القول بالفصل بین صورتی العلم بالزیادة والنقیصة کما ذکره السید الخوئی(3) .

فالأخبار تختص بفرض مجهولیة المقدار والمالک .

ج : إذا کان القدر معلوماً والمالک مجهولاً فیصیر من مصادیق مجهول المالک الذی سبق حکمه مفصلاً .

د : وإذا کان المالک معلوماً والقدر مجهولاً ذهب جماعة إلی لزوم المصالحة مع المالک ، منهم العلامة فی النهایة(4) والشهیدان(5) والفاضل المقداد(6) والشیخ جعفر(7) والشیخ الأعظم(8) ، وزاد النائینی علی المصالحة « أو یحکم بالتنصیف بینهما قهراً»(9) واستدلّ له بصحیحة عبد اللّه بن المغیرة عن غیر واحد من أصحابنا عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی رجلین کان معهما درهمان فقال أحدهما : الدرهمان لی ، وقال الآخر : هما بینی وبینک ، فقال : أمّا الذی

ص: 359


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 208 .
2- (2) المناهل / 303 الطبع الحجری .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 531 .
4- (4) نهایة الإحکام 2 / 525 .
5- (5) البیان / 217 ، والروضة البهیة 2 / 67 .
6- (6) التنقیح الرائع 1 / 337 .
7- (7) شرح القواعد 1 / 347 .
8- (8) المکاسب المحرمة 2 / 198 .
9- (9) منیة الطالب 1 / 76 .

قال : هما بینی وبینک فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمین لیس له وأنّه لصاحبه ، ویقسّم الآخر بینهما(1) .

أقول : ویؤید ما ذکره بل یدلّ علی التنصیف معتبرة السکونی عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام فی رجل استودع رجلاً دینارین فاستودعه آخر دیناراً فضاع دینار منها ؟ قال : یعطی صاحب الدینارین دیناراً ، ویقسّم الآخر بینهما نصفین(2) .

فقد یُستفاد من الخبرین : « أنّ کلّ مالٍ کان مشاعاً بین شریکین ولم یُعلم مقدار حقّهما فالحکم التنصیف ، ومورده وإن کان مورد التنازع إلاّ أنّ المناط مطّرد فی مقامنا أیضاً» کما ذکره المحقق النائینی(3) .

واستشکل المحقق الخوئی علی إطلاق وجوب المصالحة فی کلام الشیخ الأعظم فی مورد الجهل بالمقدار ومعلومیة المالک وقال قدس سره : « لأنّ المال المذکور قد یکون فی ید أحدٍ وقد لا یکون کذلک ، وعلی الأوّل فالمقدار الذی یعلم صاحبه یردّ إلیه والمقدار الذی لا یعلم صاحبه فهو لذی الید لأنّها أمارة الملکیة . وعلی الثانی فما هو معلوم المالک أیضاً یردّ إلی صاحبه وفی المقدار المشتبه یرجع إلی القرعة . ویحتمل الحکم بالتنصیف للمصالحة القهریة ، ویستأنس حکم ذلک ممّا ورد فی الودعی ، ولکن الظاهر أنّ الروایة غیر نقیّة السند»(4) .

وتبعه شیخنا الاُستاذ - مدظله - فی فرضه الأوّل وقال : « ... بل یحکم بأنّ سهم المشاع فی ذلک المال هو الأقل ، أخذاً بمقتضی ید الجائر الجاریة علی جمیع المال ، فإنّه لم یعلم عدم مالکیته للمال إلاّ بالاضافة إلی السهم الأقل»(5) .

أقول : بالنسبة إلی ما ذکره المحقق الخوئی : الید أمارة الملکیة فیما إدعی ذو الید بأنّه صاحب المال ولکن إذا لم یدع ذلک أو علم أنّ مقداراً منه یکون لغیره فلا اعتبار بیده مطلقاً أو

ص: 360


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 450 ح 1 . الباب 9 من أبواب الصلح .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 452 ح 1 . الباب 12 من أبواب الصلح .
3- (3) منیة الطالب 1 / 77 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1 / 529 .
5- (5) إرشاد الطالب 1 / 342 .

فیما علم وأقرّ ، والروایة المشار إلیها فی کلامه هی معتبرة السکونی التی قد مرّ ذکرها وهی تامة السند .

وأمّا بالنسبة إلی ما ذکره الاُستاذ - مدظله - قد مرّ منّا عدم اعتبار ید الجائر فی أوائل البحث إذا علم سابقة ید الغیر علی المال ، أو اعترافه أو علمنا بأن جمیع المال أو المقدار المجهول منه لیس له . وبهذا یظهر الإشکال فی ما ذکره فی الفرض الثالث من الصورة الثانیة(1) .

وفی هذا الفرض یمکن الحکم بالتنصیف فی المقدار المشاع ، کما تدلّ علیه الروایتان ، أو المصالحة ، والأخیر أحوط . هذا تمام الکلام فی فروض الصورة الأولی .

وأمّا حکم فروض عدم حصول الإشاعة والإشتراک :

قد سبق أنّه یفرض فیما إذا کان المال مفروزاً واشتبه الحلال بالحرام ، وهی أیضاً علی أربعة أقسام :

الف : إذا کان المقدار والمالک کلاهما معلومین فیجب ردّه إلی مالکه ، وعلی فرض عدم التعیین یرجع فیه إلی القرعة .

ب : إذا کان المقدار والمالک کلاهما مجهولین فیجب فیه إخراج الخمس ، لأنّه من صغریات المال المختلط بالحرام ، لعدم انحصاره بصورة الإشاعة والإشتراک .

ج : وإذا کان القدر معلوماً والمالک مجهولاً فیصیر ذلک المقدار من مصادیق مجهول المالک الذی مرّ حکمه فی القسم الثالث .

د : وإذا کان المالک معلوماً والقدر مجهولاً فیتعین بالقرعة ، لأنّها لکلِّ أمر مشکل ، أو یباع المجموع ویشترکان فی الثمن . ویدلّ علی الوجه الثانی موثقة إسحاق بن عمار قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یبضعه ثلاثین درهماً فی ثوب وآخر عشرین درهماً فی ثوب ، فیبعث الثوبین فلم یعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه ؟ قال : یباع الثوبان فیعطی صاحب الثلاثین ثلاثة أخماس الثمن والآخر خمسی الثمن . قال : قلت : فإن صاحب العشرین قال لصاحب الثلاثین : اختر أیّهما شئت ، قال : قد أنصفه(2) .

ص: 361


1- (1) راجع کلامه فی ارشاد الطالب 1 / 343 .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 451 ح 1 . الباب 11 من أبواب الصلح .

أبضع الشیء : أی جعله بضاعة ، وهی من المال ما أعدّ للتجارة .

سند الصدوق والشیخ والکلینی إلی هذه الروایة ضعیفة بموسی بن سعدان ، ولکن للشیخ طریقاً آخر رواها فی التهذیب(1) بإسناده عن الحسین بن أبی العلاء عن إسحاق بن عمار ، وسند الشیخ إلی الحسین بن أبی العلاء صحیح فی الفهرست(2) . فالروایة بهذا السند موثقة علی القول بفطحیة اسحاق .

ویمکن القول باشتراکهما فی العین بعد الاشتباه بحسب المالیّة ، فلا یجب البیع بل لهما أن یقتسما العینین أو الأعیان کما ذکره الفقیه الیزدی(3) قدس سره .

وهذا تمام الکلام فی فروض الصورة الثانیة ، وبه ظهر حکم الأقسام الأربعة .

تنبیهان
اشارة

وبقی فی المقام تنبیهان تعرّض لهما الشیخ الأعظم قدس سره :

الاُولی : حکم أخذ المال من الجائر

قال الشیخ الأعظم قدس سره : « أنّ أخذ ما فی ید الظالم ینقسم باعتبار نفس الأخذ إلی الأحکام الخمسة»(4) .

أقول : الظاهر أنّ فی کلام الشیخ الأعظم نوعاً من المسامحة فی التعبیر ، لأنّ شأن الأخذ شأن سائر الأفعال التی لا تتصف بحکم إلاّ باعتبار العوارض والطواریء والإضافة ، فإنّ الأخذ بالنسبة إلیها قد یکون حراماً کأخذ مال الغیر بدون إذنه ، وقد یکون مکروهاً کأخذ المال المشتبه ، وقد یکون مباحاً کأخذ المال من الجائر مع عدم العلم بحرمته لتکثیر الثروة وإزدیاد المال ، وقد یکون مستحباً کأخذ المال منه کذلک لزیارة المشاهد المشرفة والتوسعة علی العیال ، وقد یکون واجباً کأخذ حقوق الناس من الجائر .

فرع :

قال الشیخ الأعظم : « یجب علی الحاکم الشرعی استنقاذ ما فی ذمّته (أی ذمّة الجائر)

ص: 362


1- (1) التهذیب 6 / 208 ح 13 .
2- (2) الفهرست / 140 الرقم 204 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 218 .
4- (4) المکاسب 2 / 198 .

من حقوق السادة والفقراء ولو بعنوان المقاصّة ، بل یجوز ذلک لآحاد الناس ، خصوصاً نفس المستحقین مع تعذّر استئذان الحاکم»(1) .

ووافقه علی الحکم وعمّمه المحقق الإیروانی حیث یقول : « لأنّه ولی بیت مال المسلمین ، فیجب علیه حفظه عن التلف وأخذه من ذمم الناس ولو بالمقاصّة من أموالهم»(2) . وزاد : « بل یجب ذلک علی آحادهم من باب النهی عن المنکر مع اجتماع شرائطه»(3) .

أقول : لا فرق بین الجائر وغیره فی الحقوق الشرعیة ، فتعمیم الحکم من الإیروانی فی محلّه ، ولکن الحکم بوجوب المقاصّة علی الحاکم الشرعی - وهو الفقیه الجامع لشرائط الإفتاء - مشکل بل معلوم العدم . ووجه ظاهر ، لعدم صدق بیت المال علیه قبل إخراجه ، وغایة ما یمکن أن یقال فی حقّه جواز المقاصّة من أموالهم لا وجوبه .

وأمّا جواز التقاصّ لآحاد الناس لاسیما المستحقین ، فلا یجوز قطعاً من دون الاستئذان من الفقیه ، فنفی وجوبه اُوضح من أن یخفی .

ولو کان الأمر کما ذکره العلمان فلم یبق حجرٌ علی حجرٍ ، ووافقنا علی عدم جواز التقاصّ لآحاد الناس من دون الاستئذان شیخنا الاُستاذ(4) - مدظله - .

الثانیة : هل تخرج أموال الناس من ترکة الجائر ؟

الجائر إذا کان حیّاً یجب علیه ردّ أموال الناس إلیهم وکانت ذمّته مشغولة بما أتلفه من أموالهم لقاعدة الإتلاف وغیره ، فیجب علیه إفراغ ذمّته من هذا الاشتغال بردِّ العین إن کانت موجودة أو بردِّ المثل فی المثلی أو القیمة فی القیمی إن کانت العین تالفة .

وإذا مات یجب إخراج أموال الناس من أصل ترکته ، لأنّها من دیونه ، ویدلّ علیه قوله تعالی : «مِن بَعْدِ وَصِیَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَیْنٍ»(5) ثمّ تقسیم ما بقی من الأموال بین ورثته .

ص: 363


1- (1) المکاسب 2 / 198 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1 / 348 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 348 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 343 .
5- (5) سورة النساء / 12 .

ولکن خالف فیما ذکرناه جدنا الفقیه الشیخ جعفر وقال : « وتؤخذ من الظالم قهراً مع الإمکان إنْ بقیت فی یده ، وعوضها مع التلف ، ویقاصّ بها من أمواله مع حیاته ولو کانت ودائع - علی نحو ما سیجیء فی کتاب الغصب - إلاّ أنّ ما فی یده من المظالم تالفاً لا یلحقه حکم الدیون فی التقدیم علی الوصایا والمواریث ، لعدم انصراف الدین إلیه وإن کان منه ، وبقاء عموم الوصیة والمواریث علی حاله ، وللسیرة المأخوذة یداً بیدٍ من مبدأ الإسلام إلی یومنا هذا . فعلی ذلک لو اُوصی بها بعد التلف خرجت من الثلث ، وما کان منها باقیّاً یجب ردّه ، ولو امتنعوا عنه حلّ الحلال وحرم الحرام»(1) .

نقل صاحب الجواهر هذا المقال من الجدّ ثمّ قال رادّاً علیه : « وفیه : مع أنّه لم نجد له موافقاً علیه منع واضح ، خصوصاً بعد معلومیة المغصوب منه ، ودعوی عدم الإنصراف کدعوی السیرة المجدیة ممنوعتان أشدّ المنع . وما فی التحریر من أنّ الأفضل للمظلوم عدم أخذه ما ظلم به وإن تمکن منه أجنبیٌّ عن ذلک ، ویمکن أن یکون وجهه مراعاة التقیة ، واللّه أعلم»(2) .

أقول : أشار صاحب الجواهر إلی ما ذکره العلامة فی التحریر بقوله : « إذا غصب الظالم شیئاً ثمّ تمکّن المظلوم من أخذه وأخذ عوضه ، کان ترکه أفضل ، ولو کان الظالم قد أودعه ففی جواز الأخذ من الودیعة بقدر ماله قولان ، أقربهما الکراهیة»(3) .

وذکر الشیخ الطوسی نحو هذا فی النهایة(4) .

وقد ناقش الشیخ الأعظم(5) فی استدلال الشیخ جعفر بعین ما ذکره صاحب الجواهر مع توضیح بمنع دعوی الإنصراف وأنّ السیرة ناشئ عن قلّة مبالاة الناس کما هو دیدنهم فی أکثر السِیَر التی استمرّوا علیها ، وزاد : « مع أنّه لا إشکال فی جریان أحکام الدَّیْن علیه فی

ص: 364


1- (1) شرح القواعد 1 / 338 .
2- (2) الجواهر 22 / 180 .
3- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 272 مسألة 3061 .
4- (4) النهایة / 359 .
5- (5) راجع المکاسب 2 / 199 .

حال حیاته من جواز المقاصّة من ماله کما هو المنصوص وتعلّق الخمس والاستطاعة وغیر ذلک»(1) .

مراده من النصوص الروایات الواردة فی الباب 83 من أبواب ما یکتسب به فی وسائل الشیعة 17 / 272 ، منها : صحیحة داود بن زربی(2) وموثقة أبی العباس البقباق(3) وموثقة أبی بکر الحضرمی(4) وصحیحته(5) وخبر علی بن جعفر(6) .

وما ورد من الروایات المانعة من المقاصّة نحو صحیحة سلیمان بن خالد(7) وصحیحة معاویة بن عمار(8) وخبر ابن أخی الفضیل بن یسار(9) وخبر زید الشحام(10) تحمل علی الکراهة جمعاً بین الطائفتین .

ومراده من تعلّق الخمس : عدم تعلق الخمس بما زاد عن مؤنة سنته فیما إذا کان البدل بمقدار الزائد علیها .

ومراده من الاستطاعة : عدم حصول الاستطاعة للحج فیما إذا کان البدل مساویاً لما عنده من المال الکافی لمصارف حجه .

کما أنّ الأخیرین مذکوران فی کلام المحقق الأردکانی(11) وشیخنا الاُستاذ(12) - مدظله - .

ص: 365


1- (1) راجع المکاسب 2 / 199 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 214 ح 7 و 17 / 272 ح 1 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 272 ح 2 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 273 ح 4 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 274 ح 5 .
6- (6) وسائل الشیعة 17 / 276 ح 13 .
7- (7) وسائل الشیعة 17 / 274 ح 7 .
8- (8) وسائل الشیعة 17 / 275 ح 11 .
9- (9) وسائل الشیعة 17 / 273 ح 3 .
10- (10) وسائل الشیعة 17 / 276 ح 12 .
11- (11) غنیة الطالب 1 / 302 .
12- (12) ارشاد الطالب 1 / 345 .

والحاصل ، ما ذکره العلامة الجدّ لم یذهب إلیه أحدٌ من فقهائنا کما اعترف به تلمیذه صاحب الجواهر(1) . وعدم تمامیته واضحة(2) ، بل أوضح من أن یحتاج إلی بیان(3) ، فلا فرق بین حیاة الجائر ومماته ، فذمّته مشغولة بالمظالم وتخرج من أصل ترکته ، ثمّ تعمل بوصیته فی ثلث ما ترک أو فی جمیعه مع إذن الورثة ، ثمّ یقسم ما بقی بین ورثته ، واللّه سبحانه هو العالم . هذا تمام الکلام فی المسألة الثانیة من مسائل الخاتمة .

ص: 366


1- (1) الجواهر 22 / 180 .
2- (2) کما فی غنیة الطالب 1 / 302 .
3- (3) کما فی حاشیة المکاسب 1 / 219 للفقیه الیزدی .

الثالثة : ما یأخذه الجائر من الخراج والمقاسمة والزکاة

اشارة

قبل الورود فی البحث عن هذه المسألة لا بدّ بأن نعرّف الخراج والمقاسمة وأنّهما یتعلّقان بأیّ شیءٍ ولماذا ؟

تعریف الخراج والمقاسمة
اشارة

لا بدّ من تقدیم مقدمة لتبیین البحث ، وهی بیان أقسام الأرضین وأحکامها ، فنقول تبعاً لبعض أساتیذنا - مد ظله - :

الأرض إمّا موات وإمّا عامرة ، وکلٌّ منهما إمّا أن تکون کذلک بالأصالة أو عرض لها ذلک ، فهی أربعة أقسام :

أقسام الأرضین و أحکامها

1 - أمّا الموات بالأصالة : فلا إشکال ولا خلاف منّا فی کونها من الأنفال وکونها للإمام بما هو إمام .

2 - وأمّا العامرة بالأصالة : أی العامرة لا من معمِّر مثل الموات بالأصالة فی الحکم أی أنّها من الأنفال .

وأمّا هاتان لا فرق بینهما من أنّهما فی بلاد الإسلام أو فی بلاد الکفر ، إذ لم یتحقق ما هو الملاک الرئیسی للتملِّک وهو الإحیاء .

3 - وأمّا الموات بالعرض :

ألف : فإن کانت العمارة السابقة فیها أصلیة أو من معمِّر بقصد الملک ولکن باد أهلها بالکلّیة أو أعرض عنها بالکلّیة ، فهی للإمام أیضاً وحکمها حکم الموات بالأصالة .

ب - وإن کانت من معمّر بقصد الملک ولم یُبد أهلها ولم یعرض عنها ففی بقائها بعد الموت علی ملک معمِّرها أو خروجها عن ملکه أو یفصّل بین ما کان الملک بغیر الإحیاء کالمیراث والشراء ونحوهما فیبقی أو بالإحیاء فیزول ؟ وجوه .

ص: 367

4 - وأمّا العامرة بالعرض :

ألف : فإن کانت العمارة بنفسها فهی أیضاً للإمام قطعاً .

ب - وإن کانت من معمِّر بقصد التملّک فهی له ویملکها المحیی بلا فرق بین المسلم والکافر ، فلا تخرج من ملکه إلاّ بالإعراض أو المعاملات الناقلة أو النواقل القهریة کالمیراث .

وفی هذا القسم الأخیر إذا کان المالک المحیی کافراً محارباً فملکه یزول بما یزول به ملک المسلم بانضمام الاغتنام عنوة کسائر أموالهم فتصیر ملکاً للمسلمین ، والمتولّی للتصرف فیها وتقبیلها هو الإمام یصرف حاصلها فی مصالحهم .

وأمّا إن انجلی أهلها وأُخذت بغیر حرب وعنوة أو صولح علیها علی أن تکون للإمام صارت للإمام وتکون من الأنفال والفیء .

وأمّا إن صولح علیها علی أن تبقی ملکاً لأنفسهم ویؤدّوا عنها الخراج سمیّت أرض الجزیة .

وهذه الأقسام الثلاثة الأخیرة من الصورة الثانیة من القسم الرابع تُسمّی الأراضی الخراجیّة ، لأنّ کلّها مشترکة من أنّ الإمام یتصرف فیها من حیث تقبیلها ویأخذ خراجها .

ثمّ ظهر ممّا ذکرنا بأن الخراج والمقاسمة یطلقان علی الطَّسْق(1) الذی یؤخذ من الثلاثة الأخیرة ، فإن کان التقبیل بمال معیّن بنحو الإجارة سمّی خراجاً ، وإن کان بسهم مشاع من عوائد الأرض سمّی مقاسمة ، وربما یطلق علی کلیهما الخراج ، ومقداره فی جمیع الأقسام الثلاثة بید الإمام(2)(3) .

ص: 368


1- (1) قال الشهید الثانی فی حاشیته علی الإرشاد المطبوع ضمن غایة المراد 1/489 : «الطسق فارسی معرَّب والمراد به أُجرتُها» .
2- (2) فی هذا المجال راجع نظام الحکم فی الإسلام/ 529 و 528 .
3- (3) ویشیر إلی أقسام الأراضی فقهاؤنا قدیماً وحدیثاً ، فراجع إن شئت إلی النهایة للشیخ الطوسی/ (196 - 194) ومبسوطه 2/28 ، ومنتهی العلامة 2/932 [14 / 253 ] ، وتذکرته 9/183 ، رسالة قاطعة اللجاج فی حلّ الخراج/239 للمحقق الثانی المطبوعة ضمن المجلد الأولّ من رسائل المحقق الکرکی وکذا طبعت فی ضمن الخراجیات ، والأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان 7/469 ، والمحقق السبزواری فی الکفایة 1/373 وما بعدها ، وصاحب الریاض فی کتابه 8/115 ، وصاحب الجواهر فیه 21/157 ، والسید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه ، کتاب التجارة/58 ، والسید الحکیم فی نهج الفقاهة/ 535 ، ودراسات فی ولایة الفقیه 3/181 لبعض أساتیذنا - مد ظله - .

هذا معنی الخراج والمقاسمة ، ومعنی الزکاة واضحة ، ولذا نشرع فی أصل البحث :

جماعة من أصحابنا عرّفوا الخراج والمقاسمة فی کلماتهم :

کلمات الأصحاب فی الخراج و المقاسمة

منهم : الفاضل المقداد قال : «أمّا المقاسمة فهو أن یأخذ من الغلاّت باسم المقاسمة عن الأرض ، ومن الأموال باسم الخراج عن حقّ الأرض»(1) .

ومنهم : المحقق الثانی قال : «المقاسمة هی : مقدار معین یؤخذ من حاصل الأرض نسبته إلیه بالجزئیة کالنصف والثلث . والخراج : مقدار معین من المال یضرب علی الأرض أو علی البستان ، کأن یجعل علی کلّ جریب کذا درهماً»(2) .

ومنهم : ثانی الشهیدین قال : «المقاسمة حصة من حاصل الأرض تؤخذ عوضاً عن زراعتها ، والخراج مقدار من المال یضرب علی الأرض أو الشجر حسبما یراه الحاکم»(3) .

ومنهم : المحقق الأردبیلی قال : «المقاسمة : الحصّة المعینة من حاصل تلک الأرض (أی الأرض الخراجیة ، وهی الأرض المعمورة المفتوحة عَنْوة بإذن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أو الإمام علیه السلام علی المشهور ، أو المأخوذة بالصلح بأن تکون الأرض للمسلمین ولهم السکنی) مثل العُشر ، والخراج : المال المضروب علیها غالباً ، فلا یضرّ إطلاق الخراج علی المقاسمة کما ورد فی بعض الروایات والعبارات ، والأمر فی ذلک هیّن ، فإنّ المقصود ظاهر ، لأنّ المراد منهما ومن الطَّسْق والقبالة واحد ، وهو ما یؤخذ من الأرض المذکورة بمنزلة الأُجرة»(4) .

ص: 369


1- (1) التنقیح الرائع 2/18 .
2- (2) جامع المقاصد 4/45 .
3- (3) المسالک 3/142 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8/97 .

وقال أیضاً فی رسالته الخراجیة - التی کتبها تأییداً للشیخ إبراهیم القطیفی الذی هو ردّ علی رسالة قاطعة اللجاج للمحقق الکرکی فی رسالته المسماة ب- « السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج » - فقال الأردبیلی فی تعریف الخراج : «علی ما فهم من کلامهم : أنّه کالاُجرة المضروبة علی الأرض التی فُتحت عنوةً وکانت عامرة حین الفتح ، وفی معناه : المقاسمة ، سواء کانت عین حاصل الأرض کالثلث ، أو من النقد بل غیره أیضاً ، وقیل : إنّه مختص بالقسم الثانی ، والمقاسمة بالأوّل ، وقد یفرّق بالمضروب علی الأرض والمواشی . . . »(1) .

ومنهم :الفیض الکاشانی قال : «الخراج ما یضرب علی الأرض کالأُجرة لها وفی معناه المقاسمة ، غیر أنَّ المقاسمة یکون جزءاً من حاصل الزرع والخراج مقدار من النقد یضرب علیها ، وقد یُسمّی کلاهما بالقبالة»(2) .

ومنهم : الشیخ یحیی بن حسین بن عشیرة البحرانی قال : « . . . المقاسمة : مقدار معین من حاصل الأرض الخراجیة - وهی المفتوحة عنوةً - نسبته إلیه بالجزئیة کالنصف والثلث . والخراج : مقدار معیّن من المال کان یضرب لکلِّ جریب من الأرض کذا درهماً فهو کالأجرة لها»(3) .

ومنهم : الفاضل النراقی قال : «المراد بالمقاسمة : الحصّة المعینة من حاصل الأرض یؤخذ عوضاً عن زراعتها ، وبالخراج : المال المضروب علیها أو علی الشجر حسبما یراه الحاکم ، وقد یُطلق الثانی علی الأوّل »(4) .

ومنهم : الفقیه الیزدی قال : «المراد بالخراج ما جعل علی الأرض من الدرهم والدینار ونحوهما ، وبالمقاسمة الحنطة والشعیر ونحوهما إذا جعل علیه أن یزرع بالنصف أو الثلث أو نحوهما»(5) .

ص: 370


1- (1) الخراجیات/ الرسالة الأولی للمحقق الأردبیلی/ 17 .
2- (2) الوافی 18/984 .
3- (3) بهجة الخاطر ونزهة الناظر/ 93 الرقم 188 .
4- (4) مستند الشیعة 14/201 .
5- (5) حاشیة المکاسب 1/219 .

ومنهم : المحقق النائینی عممّ التعریف وقال : «والظاهر أنّ الخراج هو الأعمّ ممّا یؤخذ من حاصل الأرض وممّا یؤخذ ضریبة ، المعروف فی إیران ب- « المالیات » وفی العراق ب- « المیری » ، وکیف کان مورد السؤال فی الأخبار یشمل کلّ ما یؤخذ من الأرض جنساً أو نقداً»(1) .

أقول : یظهر من کلمات الأصحاب أنّ المراد بالخراج ما جعل علی الأرض الخاصة من النقود والمقاسمة ما جعل علیها من حصادها وثمرتها من نصف أو ثلث أو عشر أو غیرها ، وقد یُطلق الخراج علی المقاسمة أیضاً ، وأمَّا تعمیمه علی کلِّ ضریبة کما ذهب إلیه المحقق النائینی قدس سره ففی غایة البُعد .

تطور البحث

قال الشیخ الصدوق : «ولا بأس بشراء الطعام والثیاب من السلطان»(2) .

قال الشیخ الطوسی فی النهایة : « . . . فأمّا ما یأخذونه (أی یأخذ سلاطین الجور) من الخراج والصدقات وإن کانوا غیر مستحقَّین لها ، جاز له شِراؤها منهم»(3) .

وقال فیه أیضاً : «ولا بأس أن یشتری من السلطان الإبلِ والغنم والبقر إذا أخذها من الصدقة وإن لم یکن هو مستحِقّاً لها ، وکذلک الحکمُ فی الأطعمة والحبوب»(4) .

وقال القاضی ابن البراج : «یجوز للإنسان أن یبتاع ما یأخذه السلطان الجور من الصدقات والخراج ، وإن کانوا غیر مستحقین لأخذ شیء من ذلک ، إلاَّ أن یتعین له فی شیء منه معیّن أنّه غصب فإنَّه لا یجوز له أن یبتاعه»(5) .

وقال ابن إدریس : «یجوز للإنسان أن یبتاع ما یأخذه سلطان الجور من الزکوات :

ص: 371


1- (1) منیة الطالب 1/79 .
2- (2) المقنع/ 365 .
3- (3) النهایة/ 358 .
4- (4) النهایة/ 369 .
5- (5) المهذب 1/348 .

الإبل والبقر والغنم والغلات ، والخراج وإن کان غیر مستحق لأخذ شیء من ذلک ، إلاّ أن یتعینّ له شیء منه بانفراده أنهّ غصب ، فإنّه لا یجوز له أن یبتاعه ، وکذلک یجوز له أن یبتاع منهم ما أراد من الغلات علی اختلافها وإن کان یعلم أنّهم یغصبون أموال الناس ویأخذون ما لا یستحقونه ، إلاَّ أن یعلم أیضاً ویتعیّن له شیء منه بانفراده أنّه غصب ، فلا یجوز له أن یبتاعه منهم»(1) .

وقال المحقق : «ما یأخذه السلطان الجائر من الغلاّت باسم المقاسمة ، أو الأموال باسم الخراج عن حقّ الأرض ومن الأنعام باسم الزکاة یجوز ابتیاعه وقبول هبته ، ولا تجب إعادته علی أربابه وإن عُرف بعینه»(2) .

وقال فی المختصر : «یجوز أن یشتری من السلطان ما یأخذه باسم المقاسمة واسم الزکاة من ثمرة وحبوب ونَعَم وإن لم یکن مستحقّاً له»(3) .

وقال یحیی بن سعید الحلی : «یجوز شراء الغلّة والثمر والأنعام من سلطان جور أخذها علی جهة الخراج والزکاة والمقاسمة وإن أخذ فوق الواجب»(4) .

وقال السید [عمید الدین] ابن عبد الحمید الحسینی فی شرحه للنافع : «وإنّما یحلّ بعد قبض السلطان أو نائبه ولهذا قال المصنف ما یأخذه باسم المقاسمة فقیّده بالأخذ وهو علی الجائر ونائبه حرام»(5) .

وقال العلامة فی القواعد : «والذی یأخذه الجائر من الغلات باسم المقاسمة ومن الأموال باسم الخراج عن حقّ الأرض ، ومن الأنعام باسم الزکاة یجوز شراؤه واتّهابه ولا

ص: 372


1- (1) السرائر 2/204 .
2- (2) شرائع الإسلام 2/7 .
3- (3) المختصر النافع/ 118 .
4- (4) الجامع للشرائع/260 .
5- (5) نقل عنه الشیخ إبراهیم القطیفی فی « السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج » ، المطبوع ضمن الخراجیات/ 115 .

تجب إعادته علی أصحابه وإن عرفوا»(1) .

ونحوها فی نهایته(2) وإرشاده(3) .

وقال فی التحریر : «ما یأخذه الظالم بشبهة الزکاة من الإبل والبقر والغنم ، وما یأخذه عن حقِّ الأرض بشبهة الخراج ، وما یأخذه من الغلاّت باسم المقاسمة حلال ، وإن لم یستحق أخذ ذلک ، ولا یجب إعادته علی أربابه وإن عرفهم ، إلاَّ أن یعلم فی شیءٍ منه بعینه أنّه غصب ، فلا یجوز تناوله ولا شراؤه»(4) .

وقال فی التذکرة : «ما یأخذ الجائر من الغلاّت باسم المقاسمة ، ومن الأموال باسم الخراج عن حقّ الأرض ، ومن الأنعام باسم الزکاة یجوز شراؤه وأتّهابه ، ولا تجب إعادته علی أصحابه وإن عُرفوا ، لأنّ هذا المال لا یملکه الزارع وصاحب الأنعام والأرض ، فإنّه حقّ للّه أخذه غیر مستحقّه فبرئت ذمتّه وجاز شراؤه»(5) .

ونحوها فی منتهی المطلب 2/1027 من الطبع الحجری .

وقال الشهید : «ویجوز شراء ما یأخذ الجائر باسم الخراج والزکاة والمقاسمة وإن لم یکن مستحقاً له . . . ولا یجب ردّ المقاسمة وشبههاً علی المالک ولا یُعتبر رضاه ، ولا یمنع تظلّمه من الشراء . وکذا لو عَلِمَ أن العامل یظلم ، إلاَّ أن یعلم الظلم بعینه . نعم یکره معاملة الظلمة فلا یحرم . . . ، ولا فرق بین قبض الجائر إیّاها أو وکیله ، وبین عدم القبض ، فلو أحاله بها وقَبِلَ الثلاثة ، أو وکلّه فی قبضها أو باعها ، وهی فی ید المالک أو فی ذمّته جاز التناول ویحرم علی المالک المنع . وکما یجوز الشراء یجوز سائر المعاوضات والهبة والصدقة والوقف ، ولا یحل تناولها بغیر ذلک »(6) .

ص: 373


1- (1) القواعد2/12 .
2- (2) نهایة الإحکام 2/526 .
3- (3) إرشاد الأذهان 1/358 .
4- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 2/272 مسألة 3060 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 12/153 مسألة 659 .
6- (6) الدروس الشرعیة 3/169 و170 .

وفی هذا المجال راجع إحیاء الموات من اللمعة/ 241 .

وقال الفاضل المقداد : «إنّ الدلیل علی جواز شراء الثلاثة من الجائر - مع کونه غیر مستحقّ - النص الوارد عنهم علیهم السلام ، والإجماع وإن لم نعلم مستنده ، ویمکن أن یکون مستنده أنّ ذلک حقّ الأئمة علیهم السلام ، وقد أذنوا لشیعتهم فی شراء ذلک ، فیکون تصرف الجائر کتصرف الفضولی إذا انضمّ إلیه إذن المالک»(1) .

وقال محمد بن القطان الحلّی : «وما یأخذه الجائر من الغلاّت باسم المقاسمة ومن الأموال باسم الخراج ومن الأنعام باسم الزکاة و(2) لا تجب إعادته علی ربّه وإن عرفه»(3) .

وقال المحقق الثانی : «وعبّر بقوله (باسم المقاسمة) و(باسم الخراج) لأذن ذلک لا یعدّ مقاسمة ولا خراجاً حقیقة ، إذ تحقق ذلک إنّما یکون بأمر الإمام علیه السلام . ولا فرق بین قبض الجائر إیّاها وإحالته بها إجماعاً . ولا یُعتبر رضی المالک قطعاً ، لأنّ ذلک حقّ علیه لا یجوز له منعه بحال . والجائر وإن کان ظالماً بالتصرف فیه ، إلاّ أنَّ الإجماع من فقهاء الإمامیة والأخبار المتواترة عن أئمة الهدی دلّت علی جواز أخذ أهل الحقّ لها عن قول الجائر تفصّیّاً من الحرج العظیم ، فإنَّ حقّ التصرف فی ذلک لأهل البیت علیهم السلام وقد رفعوا الحجر من قبلهم . نعم لا یجوز أخذها بغیر أمر الجائر قطعاً . وکذا ثمرة الکرم والبستان ، صرّح به شیخنا الشهید فی حواشیه»(4) .

وقریب منها عبارة حاشیته علی الإرشاد المطبوعة ضمن حیاة المحقق الکرکی وآثاره 9/324 .

وقال ثانی الشهیدین : « أنّ ما یأخذه الجائر فی زمن تغلّبه قد أذن أئمتنا علیهم السلام من تناوله منه ، وأطبق علیه علماؤنا ، لا نعلم فیه مخالفاً وإن کان ظالماً فی أخذه ، ولإستلزام ترکه والقول بتحریمه الضرر والحرج العظیم علی هذه الطائفة . ولا یُشترط رضی المالک ولا یقدح فیه

ص: 374


1- (1) التنقیح الرائع 2/18 و 19 .
2- (2) الظاهر زیادة الواو .
3- (3) معالم الدین فی فقه آل یاسین 1/333 .
4- (4) جامع المقاصد 4/45 .

تظلمه ، ما لم یتحقق الظلم بالزیادة عن المعتاد أخذه من عامة الناس فی ذلک الزمان . . . وکما یجوز ابتیاعه واستیهابه ، یجوز سائر المعاوضات ، ولا یجوز تناوله بغیر إذن الجائر ، ولا یُشترط قبض الجائر له . . . فلو أحاله به أو وکلّه فی قبضه أو باعه وهو فی ید المالک أو ذمّته حیث یصح البیع کفی ووجب علی المالک الدفع . . . الظاهر أنّ الحکم مختص بالجائر المخالف للحقِّ نظراً إلی معتَقَده من استحقاقه ذلک عندهم ، فلو کان مؤمناً لم یحل أخذ ما یأخذه منهما لاعترافه بکونه ظالماً فیه ، وإنّما المرجع حینئذ إلی رأی حاکمهم الشرعی مع احتمال الجواز مطلقاً ، نظراً إلی إطلاق النص والفتوی . . .»(1) .

وذکر مختصر هذه العبارة فی حاشیته علی الشرائع/329 ، وذهب إلی الجواز فی الروضة 7/153 فی کتاب إحیاء الموات .

وقال الشیخ ماجد بن فلاح الشیبانی رحمه الله فی رسالته الخراجیة فی الردّ علی المحقق الأردبیلی المعاصر له : « . . ومن ذلک یفهم جواز غیر الشراء فتأمل ، وما ورد من الروایات التی یدلّ بعضها صریحاً وبعضها بالفکر الصائب وإن کان فی بعضها ضعف ، وعبارات الفقهاء التی هی صریحة بحلّه ممّا یدلّ علی تحلیله . . . ومن أعجب الأمور أنّ هذا الخراج لم یذهب إلی تحریمه أحدٌ من المسلمین فضلاً عن المؤمنین ، حتّی أنّ الشیخ إبراهیم رحمه الله الذی نسب إلیه الخلاف فی ذلک قال فی نقض الخراجیة بما یدلّ علی اعتقاده بأنّ الخراج حلال للمسلمین وإن حرم أخذ الجائر له . . .»(2) .

وقال المحقق السبزواری : «ما یأخذه السلطان الجائر من الغلات باسم المقاسمة أو الأموال باسم الخراج عن حقّ الأرض ومن الأنعام باسم الزکاة یجوز ابتیاعه وقبول هبته ، ولا یجب إعادته علی أربابه وإن علم بعینه»(3) .

وقال قبله فی کتاب الجهاد : «المعروف من مذهب الأصحاب حلّ الخراج فی زمان

ص: 375


1- (1) المسالک 3/ (144 - 142) .
2- (2) رسالة الفاضل الشیبانی فی الخراج/15 و 14 المطبوعة ضمن الخراجیات .
3- (3) الکفایة 1/447 .

غیبة الإمام علیه السلام فی الجملة ، لا أعرف فی ذلک خلافاً بینهم »(1) وقال بعد نقل کلام الشهید الثانی : «والظاهر أنّ الأئمة علیهم السلام لمّا علموا انتفاء تسلّط السلطان العدل إلی القائم علیه السلام ، وعلموا أنّ للمسلمین حقوقاً فی الأراضی المفتوحة عنوة ، وعلموا أنّه لا یتیسّر لهم الوصول إلی حقوقهم فی تلک المدّة المتطاولة إلاّ بالتوسل والتوصل إلی السلاطین والأُمراء حکموا علیهم السلام بجواز الأخذ منهم ، إذ فی تحریم ذلک حرج وغضاضة علیهم وتفویت لحقوقهم بالکلّیَّة »(2) .

وأضاف المحدث الکاشانی فی المفاتیح(3) علی حکم المسألة أنّه لا خلاف فیه وقال : «وکذلک ما یأخذه باسم المقاسمة أو الخراج أو الزکاة ، فإنّه جائز الأخذ منه ومن مالکه بحوالته علیه بلا خلاف للنصوص . وقیل : یُشترط أن لا یزید علی المعتاد أخذه من عامة الناس فی ذلک الزمان ، وزاد آخرون إتفاق السلطان والعمال علی القدر»(4) .

وقال المحدث البحرانی : «الظاهر أنّه لا خلاف بین الأصحاب رضوان اللّه علیهم فی أنَّ ما یأخذه السلطان الجائر باسم المقاسمة والخراج من الأراضی والغلات وما یأخذه باسم الزکاة من الأنعام والغلات ونحو ذلک یجوز شراؤه وقبول إتهابه ، بل ظاهر کلام جملة من الأصحاب دعوی الإجماع علی ذلک»(5) .

وفی مصابیح العلامة الطباطبائی أنّ علیه إجماع علمائنا(6) .

وقال حفیده السید علی آل بحر العلوم : «حکی الإجماع والروایات جدی العلامة فی المصابیح علی أن ما یأخذه الجائر باسم المقاسمة والخراج من أراضی الصلح والمفتوحة عنوة وباسم الزکاة فی حکم ماله . . . »(7) .

ص: 376


1- (1) الکفایة 1/380 .
2- (2) الکفایة 1/382 .
3- (3) مفاتیح الشرائع 3/10 .
4- (4) مفاتیح الشرائع 3/10 .
5- (5) الحدائق 18/243 .
6- (6) کما نقل عنه صاحب الجواهر فی کتابه 22/180 .
7- (7) برهان الفقه . کتاب التجارة/ 54 الطبع الحجری .

قال الشیخ جعفر : « (والذی یأخذه الجائر) المتغلّب بجنوده وأتباعه ، ذا طبل أو جمعة أو عید أو لا ، فرعاً أو أصلاً ، مؤمناً أو مخالفاً ، مستحلاًّ أو لا ، من مؤمن أو مخالف - وإن کان الوجه فی المخالفین أظهر - للعمومات فی الروایات وأکثر العبارات وبعض منقول الإجماعات (من الغلاّت) وغیرها من حاصل الأرض (باسم المقاسمة) جری علی السیرة المألوفة أو لا - ما لم یفرط فی التعدّی - من غیر فرق بین ما کان فی أرض الخراج أو الصلح أو غیرهما ممّا جرت عادة السلاطین بالتسلط علیها ، مع التوافق مع العمّال أو الرعیة وبدونه ، (ومن الأموال باسم الخراج عن حقِّ الأرض) کذلک بتوزیع النقود علیها ، أو علی زروعها أو أشجارها (ومن الأنعام) وغیرها ممّا تتعلّق به الزکاة فی مذهبهم - إن کان منهم - وإن لم یوافق مذهب أهل الحقّ دون العکس فی وجه ، أو ولو بطریق الإبداع فی وجه ضعیف (باسم الزکاة) ومن الذمیّین باسم الجزیة ومن غیرهم من محترمی المال من الکفار باسم الشرط حیث یصحّ (یجوز) لمؤمن وغیره - علی إشکال فی الأخیر - (شراؤه وإتهابه) وقبول الإحالة به قبل قبضه وبعده وتملّکه بسائر وجوه التملّکات . وکذا حکم ما یأخذه المخالف من مثله علی وجه یحلّ فی مذهبه وإن حرم فی مذهبنا . (ولا یجب إعادته علی أصحابه وإن عُرفوا) ولو طلبوه مُنِعوا . ولا یجوز لهم الإمتناع عن تسلیمه . وفی إباحته لسلطان آخر وجهان . کلّ ذلک للإجماع محصّلاً - وندرة المخالف لا تنافیه - ومنقولاً ، وللروایات المعتبرة مع انجبارها بالإجماع والشهرة . والقدح فی دلالتها یردّه التأمل فی عباراتها وفهم الفقهاء ذلک منها . . .»(1) .

وقال أیضاً : «ولا یُشترط فی السلطان أن یکون مستطیلاً ذارایات وجماعات وجُمُعات وأعیاد وکتّاب وقضاة وعمّال بحیث یکون متصدیّاً لما یُراد من إمام الحقَّ کما ذکره بعضهم ، لأنّ اسم الجائر فی الأخبار وکلام الأصحاب یعمّ کلّ متغلّب طلب الاستقلال لنفسه ولم یدخل فی خدمة غیره ، سواء عمل شیئاً ممّا ذُکر أو لا ، ولفظ « السلطان » فیها لا یبعد انطباقه علی ذلک ، کما یظهر من أهل اللغة . . . فإنّ أکثر أهل الأطراف متغلّبون کأهل خراسان

ص: 377


1- (1) شرح القواعد 1/(344 - 342) .

إلاّ من شذّ وأهل الهند کذلک وکثیر من بلاد الإسلام ولزوم الخراج المتعددة . . .»(1) .

وقال سید الریاض : «یجوز أن یشتری من السلطان الجائر المخالف لا مطلقاً علی الأصح ما یأخذه باسم المقاسمة والخراج واسم الزکاة من ثمرة وحبوب ونَعَم وإن لم یکن السلطان مستحقّاً ، له بشرط أن لا یزید فی الأخذ علی ما لو کان الإمام العادل ظاهراً لأخذه . وهو فی الثالث مقدّرٌ مضبوط ، وقدّر الأوّلین حیث لا تقدیر فیهما فی الشریعة بما یتراضی علیه السلطان ومُلّاک الأرضین فی ذلک الزمان . فلو أخذ الجائر زیادةً علی ذلک کلِّه حرم الزائد بعینه إن تمیّز وإلاّ حرم الکلّ من باب المقدمة . والأصل فی المسألة - بعد عدم الخلاف فی الطائفة والإجماع المستفیض حکایته فی کلام جماعة - المعتبرة المستفیضة ... »(2) .

وقال الفاضل النراقی : «الثانی : وهو جواز الأخذ من الجائر بعد أخذه من المالک قهراً أو لکونه متدیّناً بدین الجائر - فالظاهر عدم الخلاف بل الإجماع فیه فی الجملة ، بل فی المسالک والتنقیح وشرح القواعد للمحقق الثانی ورسالته الخراجیة دعوی الإجماع علیه ، وهو الحجة فی المقام ، وإلاّ فالأخبار التی استدلّوا بها لا تخلو عن مناقشة فی الدلالة ، مع أنّ ما یمکن إتمام دلالتها - ولو بقطع النظر عن بعض الاحتمالات - ولا یُثبت أزید ممّا یثبته الإجماع ، وهو جواز شراء هذه الثلاثة من الجائر فی الجملة .

بل الظاهر وقوع الإجماع علی جواز الأخذ فی الجملة ، سواء کان بالشراء أو غیره ، فیجب الحکم به ، ولکن نقتصر علی موضع الإجماع ، وهو السلطان المخالف کما صرّح به الشهید الثانی . أمّا الشیعة فلا ، والتعدی إلیهم بواسطة بعض التعلیلات قیاس مستنبط العلّة ، مردودٌ عند الشیعة ، ویقتصر فی الأخذ بدون الشراء علی من یستحقّه»(3) .

وقال صاحب الجواهر : «لا خلاف أجده فی أنّ ما یأخذه أو یحول علیه أو یصالح علیه السلطان الجائر من الغلات فی زمن الغیبة ونحوها فی قصور من المؤمنین والمخالفین باسم المقاسمة التی هی قسم أیضاً من الخراج الذی هو بمعنی الاُجرة والطَّسْق أو الأموال باسم

ص: 378


1- (1) شرح القواعد 2/204 .
2- (2) ریاض المسائل 8/195 .
3- (3) مستند الشیعة 14/204 و203 .

الخراج عن حقِّ الأرض من المنتفعین بالأراضی التی مرجع التصرف فیها الإمام العدل حال بسط الید باعتبار ولایته عن المسلمین من غیر فرق بین الدراهم والغلات وغیرهما یکون خراجاً مبرئاً لذمّة من کان علیه کما لو أخذه السلطان العادل ، من غیر فرق بین قسمة الموجود وبین قبض ما کان منه فی الذمّة ، کما أنّه لا خلاف معتدّ به فی جواز شرائه منه وقبول هبته ونحو ذلک ممّا یقع علی المملوک حقیقة . . .»(1) .

وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم : «یجوز أن یشتری من السلطان الجائر ما یأخذه باسم المقاسمة واسم الزکاة من ثمرة وحبوب ونَعَم ، وإن کان المستحق لقبض هذا کلّه الإمام العادل ولم یکن هو - أی الجائر - مستحقِّاً له ، لکن دلّت الأخبار المستفیضة واستفاض نقل الإجماع علی أنّ حکم تصرفات السلطان الجائر فی نحو هذه الأشیاء التی یرجع إلی الإمام حکم تصرف الإمام علیه السلام فی الصحة بالنسبة إلی غیره من الشیعة وإن کان حراماً علی نفسه بغیر إشکال . وهذا الحکم فی الجملة من مُتَّفِقات أصحابنا وإن شذّ مخالف فیه نحو الشیخ إبراهیم بن سلیمان ، ومثله لا یؤ به بخلافه ، بل المسألة کأنّها عندهم قدیماً وحدیثاً من المسلّمات التی لا تعتریها شبهة ولا ریب ، وتکثرت فیها الروایات متفرقة فی مواردها ، وأعتضدت بلزوم العسر والحرج فی الاجتناب منها کما لا یخفی . وظاهر الأصحاب المجوّزین کما اعترف به جماعة صحة جمیع أنحاء التصرفات . . .»(2) .

أقول : هذا کلّه هو القول الأوّل - وهو القول المشهور المُدعی علیه الإجماع - فی المقام ، وفی قباله قولٌ بالحرمة وعدم الجواز ، وهو قول إثنان من فقهائنا فقط ، وهما الشیخ إبراهیم القطیفی وتبعه المقدس الأردبیلی (قدس سرهما) :

قال الشیخ إبراهیم بن سلیمان القطیفی - وکان حیّاً سنة 944 - فی رسالته الخراجیة فی ردّ المحقق الثانی المسماة ب- « السراج الوهّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج » : «الذی أذن أئمتنا علیهم السلام لشیعتهم فی زمن الغیبة المناکح وفی وجهٍ قوی له شاهد من الأثر والمساکن والمتاجر

ص: 379


1- (1) الجواهر 22/180 .
2- (2) برهان الفقه - کتاب التجارة/ 54 طبع الحجری .

وهو فی الأرضین مختصّ بما کان حقّهم علیهم السلام کالأنفال ، أمّا الأرض المفتوحة عنوةً فهی للمسلمین قاطبةً ، فتصرّفهم فیها جائز مع عدم ظهور الإمام . ویدلّ علیه ما یأتی من الأحادیث . . . والظاهر سقوط الخراج زمن الغیبة عن الشیعة لظاهر الأخبار ، ویؤیده أنّه لم ینقل عن السلف منهم والخلف عزل قسط من شیء من الأراضی وإن لم یؤخذ منهم الخراج مع اعتنائهم بالتقوی والتحرّز عن الإشتغال بالحقوق . وقد یُستدلّ علی سقوط الخراج عن المسلمین کافّةً مع عدم ظهور الإمام بظاهر بعض الأحادیث وسیأتی . نعم الظاهر أنّه یستقرّ الضمان علی غیر الشیعة لظاهر حدیث عمر بن یزید .

إذا عرفت هذا فقوله : «وفی حال غیبته صلی الله علیه و آله وسلم قد أذن أئمتنا علیهم السلام لشیعتهم فی تناول ذلک من سلاطین الجور»(1) إن أراد به أنّهم إذ أذنوا فی تناول الأراضی فهو ممنوع ، ولا نعرف قائلاً به ولا أثراً من الحدیث یدلّ علیه . . . ، وإن أراد أنّهم أذنوا فی ابتیاع ما یأخذه الجائر فلیس مخصوصاً بالخراج ، فإنّهم أذنوا فی ابتیاع ما یأخذه من زکاة مَن أسلم طوعاً من الأراضی بل ومن الأنعام ولا بالشیعة ، مع أنّه لا یدلّ علی ما هو فیه من حلّ القریة بشیءٍ من الدلالات . . .»(2) .

وقال أیضاً : «إنّ المراد بالجائر فی کلام الأصحاب مخصوص بمَن له شبهة الإمامة ، وقد أُجیز لنا أن نعاملهم بمقتضی مذهبهم کما جاز ابتیاع عوض الخمر من الیهود ، وحینئذٍ إذا أخذ إمامهم منهم شیئاً فهو مباح بالنسبة إلیه وإلی رعیته المعتقدین إمامته ، فیجوز ابتیاعه وإن لم یکن مستحقاً عندنا . وفی وجوب التخصیص بما أُخذ من معتقدی الإمامة نظر ینشأ : من أن جواز معاملتهم بمذهبهم هل یقتضی العموم فلایُشترط الإباحة أو لایقتضیه فیُشترط ؟ فعلی عدم الإشتراط یجوز وإن أُخذ من الشیعی ، وعلی الإشتراط لا یجوز . وظاهر الأصحاب عدم الإشتراط ، لإطلاقهم الجواز من غیر تفصیل . ولعلّ الأقرب الإشتراط ، وربمّا کان فی الخبر الذی ذکرناه سابقاً عن علی بن یقطین دلالة علیه ، حیث قال علیه السلام : فاتق أموال

ص: 380


1- (1) رسالة قاطعة اللجاج فی تحقیق حلّ الخراج/38 للمحقق الثانی المطبوعة ضمن الخراجیات .
2- (2) السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج/ 31 و30 المطبوع ضمن الخراجیات .

الشیعة(1) . . . .»(2) .

أقول : ما ذکره هذا الفقیه - الشیخ إبراهیم القطیفی قدس سره - فی الواقع ردّ للروایات کلِّها وکلمات الأصحاب - رضوان اللّه تعالی علیهم - لأنّه أخذ بقاعدة الإلزام وحمل المقام علیها ولو لم تکن شیء من الروایات أو فتوی الأصحاب کان یمکن الذهاب إلی ما ذکره بقاعدة الإلزام ، فماذا تکون نتیجة هذه الروایات والفتاوی ؟! وهل هذا البیان إلاّ طرحها وردّها ؟!

وقد قال المحقق النائینی فی شأن رسالته ولنعم ما قال : «قد أرعد وأبرق وترنّم ولم یأت بشیءٍ»(3) .

وتبعه المقدس الأردبیلی رحمه الله وقال فی مجمع الفائدة والبرهان : «وأمّا حلیتهما - کما هو ظاهر أکثر العبارات لکلِّ أحدٍ ، مستحقّاً لذلک کالمصالح أم لا ، قلیلاً کان أو کثیراً بشرط عدم التجاوز عن العادة التی تقتضی کونهما اُجرة بإذن الجائر مطلقاً - سواء کان مخالفاً أو موافقاً ، قبضهما أم لا - وعدمها بدون إذنه مع کونه جائراً وظالماً فی الأخذ والإذن ، وعدم إباحتهما مع وجوب الدفع إلیه وإلی مَن یأمره ، وعدم جواز کتمان الرعیة والسرقة منهما بوجه من الوجوه ، مع کونهما اُجرة للأرض ومنوطة برأی الإمام وبرضی الرعیة للأصل کما هو فی الإجارات ، فهی بعیدة جدّاً .

یدلّ علی العدم : العقل والنقل والأصل ، ولا دلیل علیها مع الإشکال فی تحققها وثبوتها فی نفسها ، ثم العلم بها ، ثم ثبوتها بالنقل وحجیّته ، وما اُدّعی ولا نقل أیضاً الإجماع صریحاً ، بل قیل : إنّه إتفاق . ونقل عبارات البعض فی الرسالة المدوّنة لهذه المسألة بخصوصها مع کثرة الإهتمام بتحقیقها وإثبات الإباحة فیها ، ثم قال : «فهو إجماع» .

وفیه ما فیه ، لعدم ثبوت الإجماع بعبارات البعض مع خلو البعض عنه ، ولهذا تری بعض العبارات خالیة عن هذه .

وقد ذُکر إباحة الشراء فقط مثل عبارة نهایة الشیخ علی ما نقل فی هذه الرسالة ویظهر

ص: 381


1- (1) وسائل الشیعة 17/193 ح8 . الباب 46 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) السراج الوهاج/ 125 و124 المطبوع ضمن الخراجیات .
3- (3) منیة الطالب 1/78 .

من شرح الشرائع أیضاً دعوی الإجماع فی الجملة ، فالسماع منهما مشکل .

وقد ادّعی فیهما دلالة الأخبار المتظافرة علیه وما عرفتُها وما فهمتُها من خبر واحد ، وکأنّه لذلک ما ادّعی فی المنتهی ، بل استدلّ علی ذلک بالضرورة ودفع الحرج ، وإثبات مثله بمثله بعید کما تری »(1) .

وقال فی رسالته الخراجیة الاُولی : « . . . ثمّ علی تقدیر الثبوت فلا دلیل یعتدّ به علیه ، وإن کان ظاهر عبارات الأصحاب یفیده ، لکن بمجرد ذلک من غیر ظهور دلیل ، وثبوت إجماعهم بحیث یقنع النفس به وإن أدعی الشیخ علی ذلک الإجماع فی الخراجیة لما یعلم فی الإجماع . ودعواه فی هذا الزمان فی مثل هذه المسألة مشکلٌ ، لأنّ الظاهر أنّ المال لِمَنْ فی یده من غیر أن یکون لأحدٍ شیئاً ، إذ ثبوت الخراج فی أرضه من الإمام ، وقبوله علی ذلک المقدار المقرّر الآن غیر واضح وإن سلّم أنّ أرضها ممّا یجب فیه الخراج ، فیکون هو غاصباً یلزمه اُجرة المثل ولیس بمعلوم کونها المقدار المقرّر المأخوذ باسمه . ثمّ إنّ ذلک دَینٌ فی ذمّته ، فلا یمکن الأخذ إلاّ برضاه ، ولا یتعیّن کون المأخوذ لذلک إلاّ بأخذهم أو أخذ وکیلهم ، وهو متعذّر حینئذ ، فیکون ثابتاً فی ذمّته یوصی به إلی أن یصل إلی صاحبه أو الحاکم لو أمکن ویکون له ذلک ، إذ الإمام ناظر . ولا یلزم من کون الحاکم نائباً عنه فی الجملة کونه نائباً فی ذلک ، أو یوصل هو إلی أهله ، أی یصرفه فی مصالح المسلمین ، أو یکون ساقطاً سیّما مع الاحتیاج ، إذ هو من المسلمین فقد یکون هذا من نصیبه ، حیث إنّ المفهوم من کلام الشیخ علی رحمه الله أنّ الآخذ إنّما یأخذه لأنّه من بیت مال المسلمین وللآخذ نصیب فیه وحصّة ، ولا شک أنّ ذا الید أیضاً کذلک »(2) .

وقال أیضاً فی رسالته الثانیة فی الخراج : « . . . وبالجملة معلوم عدم جواز التصرف فی مال الناس إلاّ علی الوجه الشرعی المعلوم شرعیته عقلاً ونقلاً وکتاباً وسنة وإجماعاً ، وما رأیتُ دلیلاً منها یدلّ علی جواز أخذ واحد منّا شیئاً ممّا یأخذه الجائر باسم الخراج ، ولم نعلم

ص: 382


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8/100 و 99 .
2- (2) الرسالة الأولی فی الخراج للمقدس الأردبیلی/ 20 و19 المطبوعة ضمن الخراجیات .

هل لکلِّ أحدٍ مِنَ المسلمین أو للفقراء المستحقّین له أو للصالح فی الجملة ، بقدر الحاجة وفوقها ، وهل الجائر هو المخالف أو الأعم وإن کان ظاهر ذلک العموم . ولهذا تردّد فی بعض أفراده بعض المجتهدین المدّعی للإجماع کما أشرنا إلیه ، وذلک لیس بکتاب ولا سنة ولا إجماع ولا برهان عقلی حتّی یکون حجة بالنسبة إلی مَن یدّعی الاستدلال ، وکذا بالنسبة إلی مقلّدیه کما عرفت ، مع أنّه فرع جواز تقلیده ، وهو ظاهر ، مع أنّهم یدّعون الإجماع علی بطلان تقلید الموتی . ومعلوم أنّ حلّه لیس ممّا یحتاج إلی الدلیل ولا التقلید وهو ظاهر . والعجب أنّ الآخذین الآن - وإن کانوا أغنیاء عن هذا وفوق حاجتهم - مستندهم کلام المحقق الثانی ، مع أنّه یُفهم من کلامه رحمه الله فی مواضع التردّد فی جوازه لکلّ أحدٍ مثل الغنیّ وغیر المصالح ، وأنّه مع دعواه البرهان علیه ما اکتفی بذلک فی أخذه بل شارک أهل القریة فی البذر واشتری بعض الأشجار منهم ، صرّح به فی الخراجیّة .

وأعجب منه عدم جواز الأخذ إلاّ بإذن الجائر مع عدم جواز الأخذ له ، وعدمُ جواز التصرف فی الحاصل إلاَّ بعد القسمة وإخراج الحقّ الذی یطلبه ظلماً ، فما علم جواز أخذ الخراج علی الإطلاق ولا لزومه علی الزارع . نعم یلزم أُجرة علی من تصرّف فی الأرض الخراجیّة إن ثبت ، فیکون دَیْناً فی ذمّته یأخذه الوالی أو وکیله یصرفه فی مصالح المسلمین»(1) .

أقول : المخالف فی المسألة کما مرّ منّا منحصر بهذین الفقیهین ، واعترف بالانحصار صاحب الحدائق حیث یقول : «ولم أقف علی مخالف فی الحکم المذکور إلاّ المقدس الأردبیلی فی شرح الإرشاد ، وقبله الفاضل الشیخ إبراهیم بن سلیمان القطیفی أصلاً والحلّی مسکناً . - وهذا الشیخ کان معاصراً للمحقق الشیخ علی بن عبد العالی الکرکی وجرت بینهما مناقشات ومباحثات ، ردّ فیها کلّ منهما علی الآخر ، منها هذه المسألة ، فإنّ المحقق الشیخ علی قد صنّف فیها رسالة فی حلّ الخراج فصنف الشیخ إبراهیم ردّاً علیه رسالة فی تحریمه»(2) .

وکذا نبّه بخلافهما الفقیه الیزدی رحمه الله فی حاشیته علی المکاسب(3) .

ص: 383


1- (1) الرسالة الثانیة فی الخراج للمقدس الأردبیلی/ 28 و 27 ، المطبوعة ضمن الخراجیات .
2- (2) الحدائق 18/243 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1/221 .
أدلة القائلین بالجواز

تدلّ علی الجواز قبل الإجماع المحصَّل الذی مرّ منّا فی تطور البحث ومضافاً إلی أن تحریمه یوجب لزوم الحرج العظیم بل اختلال نظام المعاش کما ذکرهما الشیخ الأعظم(1) ومضافاً إلی الروایات الماضیة فی أخذ الجوائز من السلطان لا سیما الجوائز العظام التی لا یحتمل عادة أن تکون من غیر الخراج کما ذکره(2) ، عدّة من الروایات المستفیضة :

منها : صحیحة أبی عبیدة عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل منّا یشتری من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو یعلم أنّهم یأخذون منهم أکثر من الحقِّ الذی یجب علیهم ؟ قال : فقال : ما الإبل إلاّ مثل الحنطة والشعیر وغیر ذلک ، لا بأس به حتّی تعرف الحرام بعینه .

قیل له : فما تری فی مصدِّقٍ یجیئنا فیأخذ منّا صدقات أغنامنا فنقول : بعناها فیبیعناها ، فما تقول فی شرائها منه ؟ فقال : إن کان قد أخذها وعزلها فلا بأس .

قیل له : فما تری فی الحنطة والشعیر یجیئنا القاسم فیقسم لنا حظّنا ویأخذ حظّه فیعزله بکیل فما تری فی شراء ذلک الطعام منه ؟ فقال : إن کان قبضه بکیل وأنتم حضور ذلک فلا بأس بشرائه منه من غیر کیلٍ(3) .

وأنت تری أنّ شراء الصدقة من عمّال السلطان کان مفروغ الجواز عند السائل وکان من الواضحات التی لاتحتاج إلی السؤال ، وإنَّما سأل :

أوّلاً : عن الجواز مع العلم الإجمالی بحصول الحرام فی أیدی العمّال ، وأجابه الإمام علیه السلام بالجواز حتّی یعرف الحرام منه بعینه .

وثانیاً : سأل من جهة توهم الحرمة أو الکراهة فی شراء ما یخرج فی الصدقة من قبل نفس المزکی ، وأجابه الإمام علیه السلام بلا بأس .

ص: 384


1- (1) المکاسب 2/202 .
2- (2) المکاسب 2/202 .
3- (3) وسائل الشیعة 17/219 ح5 . الباب 52 من أبواب ما یکتسب به .

وثالثاً : سأل من جهة کفایة الکیل الأول فی المقاسمة أو الزکاة ، وأجابه الإمام علیه السلام بکفایته والمشترون حاضرون . وقد نبّه الشیخ الأعظم علی جلّ هذه الأُمور(1) .

واستشکل الفاضل القطیفی فی رسالته الخراجیة المسماة ب- «السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج» فی الفقرة الثالثة من الصحیحة بأنّ : «القاسم یجوز أن یکون مزارعاً أو وکیل المزارع الذی منه الزرع أو منهما أو من الزرع والأرض له ، ولا إشعار فی الخبر بأنّ القاسم قاسم الجور وأن الذی یأخذه من الخراج ، سلّمنا ، لکن جوازه لهم لا یدلّ علی جوازه مطلقاً . . . وربّما کان فی قوله «وأنتم حضور» إشارة إلی ذلک ، لأنّ مع عدم الحضور یحتمل خلطه بغیر ما اُخذ منهم»(2) .

وتبعه الفاضل النراقی فذهب إلی عدم ظهور لفظ القاسم فی المقاسمة «لتحقّق القسمة فی صدقات الغلّات أیضاً ، لأنّها أیضاً کمال المقاسمة تؤخذ بالنسبة والمقابلة للمصدِّق غیر مفیدة لجواز اختصاص استعمال المصدّق عندهم بأخذ صدقات الأنعام . . . ولو سلّم الظهور فکون المأخوذ مال مقاسمة السلطان ممنوع ، لجواز أن تکون الأرض ملک القاسم قاسمها للزارع ، کما یُشعر به قوله « حظّه » ویکون المراد بالقاسم من قاسم الملک . . .»(3) .

وفیه : أوّلاً : ظهور الروایة یقتضی أنّ المراد بالقاسم هو الآخذ للمقاسمة التی قد مرّ تعریفها ، وغایة الأمر یحتمل ضعیفاً أنّ المراد به العامل الآخذ للصدقات . وأمّا کون المراد به المزارع أو وکیله أو المزارع والعامل علی الزرع الذی یزرع ویحصد أو مَن الزرع والأرض له ، کلّها خلاف ظاهر الصحیحة ، وحملها علیهم تحتاج إلی القرینة المفقودة فی المقام .

وثانیاً : ظاهر المشتق هنا هو من کانت القسمة حرفةً وعملاً له ، ولذا لا یُطلق علی المزارع أو وکیله أو مَن الزرع والأرض له أو غیرهم ، نبّه علیه المحقق الإیراونی(4) .

وثالثاً : ما ذکره أخیراً بأن «الجوازلهم لایدلّ علی جوازه مطلقاً» بعید فی الغایة بأنّ

ص: 385


1- (1) المکاسب 2/204 .
2- (2) السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج/ 109 المطبوعة ضمن الخراجیات .
3- (3) مستند الشیعة 14/207 .
4- (4) حاشیة المکاسب 1/352 .

ظهور الصحیحة فی الجواز مطلقاً وعدم دخل المالک فی هذه الشراء ، ولو کان دخیلاً لا بدَّ أن یأخذه الإمام علیه السلام فی الجواب ، لأنّ بقاعدة الإشتراک تحمل علی الجمیع وعدم اختصاص جوازها بالمالک ، وقوله علیه السلام : «وأنتم حضور» یدلّ علی کفایة الکیل الأوّل وعدم لزوم الإکتیال ثانیاً ، والشاهد علیه قوله علیه السلام : «فلا بأس بشرائه منه من غیر کیل» .

ورابعاً : ما ذکره الفاضل النراقی یردّ علیه ما ذکرناه ، مضافاً إلی کفایة الاستدلال حتّی علی القول بأنّ المراد بالقاسم قاسم الزکاة ، وجواز شراء الزکاة من السلطان یثبت جواز شراء الخراج منه ، لعدم القول بالفصل کما نبّه علیه الفقیه الیزدی(1) .

واستشکل أیضاً المحقق الأردبیلی فی دلالتها بل وفی سندها ، أذکر لک کلامه بطوله لإکمال الفائدة :

قال قدس سره : «لا دلالة فیها أیضاً علی إباحة المقاسمة بوجهٍ من الوجوه ، ویمکن أنّ لها دلالة علی جواز شراء الزکاة ، ولهذا جعلها فی المنتهی دلیلاً علیه فقط . وفی الدلالة علیه أیضاً تأمل ، إذ لا دلالة فی قوله : «لا بأس به حتّی تعرف الحرام بعینه » إلاّ علی أنّه یجوز شراء ما کان حلالاً بل مشتبهاً أیضاً ، ولا یجوز شراء ما هو معروف أنّه حرام ، ولا یدلّ علی جواز شراء الزکاة بعینها صریحاً . نعم ظاهرها ذلک ، ولکن لا ینبغی الحمل علیه لمنافاته للعقل والنقل(2) .

ویُحتمل أن یکون سبب الإجمال التقیة .

ویؤید عدم الحمل علی الظاهر أنّه غیر مراد بالإتفاق ، إذ لیس بحلال ما أخذه الجائر ، فتأمل .

وأمّا قوله : «فما تری فی مصدِّق . . . الخ » فإنَّ ظاهره یدلّ علی جواز الشراء ، ولکن لیس بمعلوم کون المصدِّق - أی الذی یقبل الصدقة - من قبل الجائر الظالم ، فیحمل علی کونه

ص: 386


1- (1) حاشیة المکاسب 1/225 .
2- (2) وفی هامش بعض نسخ مجمع الفائدة حاشیة من مؤلفه ، وهی : «فإنّهما یمنعان من شراء الزکاة التی هی للمستحقین من الذی أخذها باسمها ولم یصر زکاة أو صار زکاة ، برئت ذمة المالک أم لا ؟ کما هو رأی المصنف فی التحریر والشهید فی البیان . وکذا المقاسمة ، فإنّ الشراء الحقیقی إنما یتحقق من المالک أو وکیله أو ولیه ولیس الظالم الجائر أحدهم ، وهو الظاهر» .

من قبل العدل لما تقدّم . علی أنّه قد یکون المراد بجوازه حیث کان المبیع مال المشتری ، فإنّه قال : «یأخذ صدقات أغنامنا» ولم یصر متعیّناً للزکاة ، لأخذه ظلماً ، فیکون الشراء استنقاذاً لا شراءً حقیقیّاً ، ویکون الغرض من قوله : «إن کان . . . الخ» بیان شرط الشراء وهو التعیین ، ویعلم منه الکلام فی قوله : «فما تری فی الحنطة . . . . الخ» فتأمل .

ویمکن عدم الصحة أیضاً ، لإحتمال أن یکون أبوعبیدة غیر الحذّاء المشهور .

وبالجملة ، لیست هذه ممّا یصلح أن یُستدل بها علی المطلوب ، بل علی شراء الزکاة أیضاً ، لما عرفت من أنّها مخالفة للعقل والنقل مع عدم الصراحة واحتمال التقیة .

وعلی تقدیر دلالتها علی جواز الشراء من الزکاة فلا یمکن أن یقاس علیه جواز الشراء من المقاسمة .

وعلی تقدیره أیضاً لا یمکن أن یقاس علیه جواز قبول هبتها وسائر التصرفات فیها مطلقاً کما هو المدّعی ، إذ قد یکون ذلک مخصوصاً بالشراء بعد القبض بسبب ما نعرفه ، کسائر الأحکام الشرعیة . ألا تری أنَّ أخذ الزکاة لا یجوز منهم مطلقاً ویجوز شراؤها عندهم(1) .

ویؤیّده أنّه لما وصل العوض إلی السلطان الجائر یکون فی ذمّته عوض مال بیت المال ، بخلاف ما لم یکن له عوض ، فإنّه یصیر کالتضییع ، فتأمل»(2) .

وفیه : أوّلاً : الإشکال السندی فی الروایة ، بأنّ المراد بأبی عبیدة یُحتمل أن یکون غیر الحذاء المشهور ، فهو غیر تام بقرینة الراوی والمروی عنه والطبقة والشهرة ، لأنّ أبا عبیدة المعروف فی تلک الطبقة فهو الحذّاء فقط ، ولو کان المراد غیره لا بدّ من التنبیه علیه .

وثانیاً : الفقرة الاُولی تدلّ علی جواز شراء الزکاة من السلطان الجائر وعماله صریحاً ، ولو تنزلنا لقلنا ظاهراً ، وأمّا إنکار ظهورها فیه یکون مکابرة ، ولو بقرینة مخالفة العقل والنقل له ، لأنه لیس فی العقل(3) ما یقتضی قبح هذا الشراء ، ولا فارق بین هذا وبین تحلیل

ص: 387


1- (1) أی عند الأصحاب .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8/ (103 - 101) .
3- (3) الظاهر أنّ مراده بالعقل : أنّ التصرف فی مال الغیر بدون إذنه ورضایته ظلم فی حقِّه والظلم قبیح عقلاً ، فهذا التصرف - أی الشراء من الظالم - قبیح عقلاً ، ویستتبع الحکم الشرعی بالحرمة بقاعدة الملازمة .

حقوقهم علیهم السلام للشیعة نحو تحلیل خمس المناکح والمساکن ، والید أو الطبقة الثانیة ، وإجازة تصرف الشیعة فی الأنفال ونحوها . وهکذا لیس فی النقل ما یخالف هذا الظهور إلاّ العمومات(1) التی یمکن تخصیصها بمثل هذه الصحیحة وغیرها من الروایات المشهورة بین الأصحاب روایةً وعملاً ، ومع نقل الإجماع ، بل الإجماع المحصَّل الذی قد مرّ منّا . وقد نبّه علی جلِّ هذا الشیخ الأعظم(2) .

إن قلت : الفرق بین ما أحلّوه لشیعتهم من حقوقهم من الخمس والأنفال وبین هذا (الخراج والمقاسمة) وهو حقوق المسلمین الواجب صرفها فی مصالحهم العامة واضح وبیّن ، کما ذهب إلیه المحقق الإیروانی(3) .

قلت : نعم فرق بینهما ، ولکن أمر الخراج والمقاسمة أیضاً إلی إمام المسلمین ، والإمام بما هو الإمام أباح لمصلحة ، وهی تسهیل الأمر علی الشیعة وإدارة معاشهم ، أجازهم التصرف فیها فی عصر الغیبة مثلاً .

وثالثاً : ما ذکره قدس سره من قوله : «ویحتمل أن یکون سبب الإجمال التقیة» قد مرّ منّا عدم إجمالها ، وأمّا الحمل علی التقیة فلا یجوز بمجرّد معارضة العمومات کما عن الشیخ الأعظم قدس سره (4) . ومع أنّ «الظاهر لا داعی إلیه لا سیّما مع کون الحکم من المسلّمات عند الشیعة ، ولا أقل من کونه من المشهورات عندهم» «وأنّ الحمل علیها خلاف الأصل» کما عن الوحید البهبهانی رحمه الله (5) .

ورابعاً : قوله علیه السلام : « لا بأس به حتّی تعرف الحرام بعینه» حیث ورد فی جواب مَن

ص: 388


1- (1) نحو قوله علیه السلام : لا یحل لأحد أن یتصرف فی مال غیره وبغیر إذنه ، وقوله علیه السلام : لا یحلّ مال أمرئ مسلم إلاّ بطیب نفسه .
2- (2) المکاسب 2/206 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1/352 .
4- (4) المکاسب 2/206 .
5- (5) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان/ 41 للوحید البهبهانی .

سأل عن شراء الزکاة من السلطان الجائر الذی یعلم أنّه یأخذ أکثر من الحقِّ ، یظهر منه جواز الشراء حتّی یُعرف أنّ المال بعینه حرام ، فتدلّ علی جواز شراء الزکاة منه حتّی تعرف الحرام بعینه .

وخامساً : قول الأردبیلی قدس سره : «لیس بمعلوم کون المصدِّق . . . من قبل الجائر فیحمل علی کونه من قبل العدل» . وفیه : بقرینة الفقرة الاُولی ظهور المصدِّق فی الذی هو من قبل الجائر لا ریب فیه . مضافاً إلی عدم معهودیة عمّال الزکاة إلاّ من قبل الجائرین فی ذلک الأوان ، کما یدلّ علیه فعل المضارع « یجیئنا » .

وسادساً : قول السائل : «مصدِّق یجیئنا فیأخذ من صدقات أغنامنا فنقول بعناها فیبیعناها» ، لا یدلّ علی أنّ المبیع مال المشتری لیکون الشراء استنقاذاً لا شراءً حقیقیّاً کما ذکره الأردبیلی قدس سره ، بل الظاهر أنّ المصدِّق یجیء إلی مدینة وقبیلة ویأخذ زکاتها ، فهل یجوز للبعض شراء زکاة البعض الآخر .

وسابعاً : وبقرینة حمل المصدِّق فی الفقرة الثانیة علی عامل الزکاة المنصوب من قبل الجائر ، تحمل لفظ « القاسم » فی الفقرة الثالثة علی الذی یجبی الخراج والمقاسمة ، لما مرّ منّا فی جواب الفاضل القطیفی . ولما کان الإمام علیه السلام ترک الاستفصال فی جواب السؤال «یجیئنا القاسم» مع قیام الاحتمال یفید العموم(1) ، بل المدار فی أراضی العراق کان علی المقاسمة غالباً ، والسائل عراقیٌّ وأراضی العراق مفتوحة عنوة ، والمدار فیها علی المقاسمة مع أنّه عبّر عن أخذ الزکاة بالمصدِّق کما نبّه علیه الوحید البهبهانی(2) ، وقد تمسک بهذه الصحیحة العلامة فی التذکرة(3) علی حلیة الثلاثة - أی الزکاة والخراج والمقاسمة - .

وثامناً : قوله قدس سره : «علی تقدیر دلالتها علی جواز الشراء من الزکاة فلا یمکن أن یقاس

ص: 389


1- (1) یعنی إطلاق لفظ « القاسم » وعمومه یشمل الخراج والمقاسمة المصطلحة والزکاتیة ، فلا وجه لانصرافه وتخصیصه بالثانی .
2- (2) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان/ 40 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12/153 .

علیه جواز الشراء من المقاسمة» . بعد دلالة الفقرة الثالثة فلا قیاس فی البین . ثم لو قلنا بعدم دلالتها علی المقاسمة یکفینا تعرض الصحیحة لخصوص الزکاة وجواز شرائه ، فیثبت الحکم فی غیرها بعدم القول بالفصل ، لأنّ کل مَن قال بجواز شراء الزکاة وأخذها قال بجواز شراء المقاسمة والخراج وأخذهما کما نبّه علیه المحقق الخوئی(1) ، وقد مرّ آنفاً فی جواب الفاضل النراقی .

وتاسعاً : ما ذکره الأردبیلی قدس سره من قوله : «لا یمکن أن یقاس علیه جواز قبول هبتها وسائر التصرفات فیها مطلقاً کما هو المُدّعی . . .» ففیه : تعلّق نفی البأس بالأعیان فی الصحیحة من الإبل والغنم وغیرها یدلّ علی أن جمیع الأفعال والمعاملات المناسبة لتلک العین جائزة ، لأنّ الحلیة لکونها حکماً تکلیفیاً أو وضعیّاً یکون متعلقها الفعل أو المعاملة علی القاعدة ، وإضافتها إلی العین یفید جواز عموم المعاملات والتقلبات فی العین ، فلا یختص الجواز بالشراء فقط ، کما نبّه علیه شیخنا الاُستاذ - مد ظله -(2)(3) . ومضافاً إلی عدم القول بالفصل فی المقام .

وعاشراً : قوله قدس سره : «ألا تری أنّ أخذ الزکاة لا یجوز منهم مطلقاً . . .» .

استشکل الوحید بقوله : «فیه ما فیه ، إذ لا نعلم مأخذه ولا ما یشیر إلیه ویوهمه ولا أحداً ذکره . نعم ، إذا صار منشئاً لذلَّته واستخفافه ومهانته لا شبهة فی المنع عنه حال الاختیار ، لأنَّ اللّه تعالی لم یرخّص المؤمن فی إذلال نفسه ، لکن هذا غیر مختص بأخذ الزکاة منهم ، ولا کلّ أخذ الزکاة منهم یوجب الذلّة ، سیما إذا أعطوه بعنوان الهبة والجائزة والهدیة . . .»(4) .

والحاصل : دلالة صحیحة أبی عبیدة الحذّاء علی حلّیة الزکاة والمقاسمة والخراج واضحة عندنا وعند الأصحاب إلاّ الفاضل القطیفی والمحقق الأردبیلی قدس سرهما ، وقد دفعنا ما أورداه .

ص: 390


1- (1) مصباح الفقاهة 1/537 .
2- (2) إرشاد الطالب 1/349 .
3- (3) هذا البیان من الأستاذ - مد ظله - یجری فی الفقرة الأولی والثانیة فقط دون الفقرة الثالثة کما هو واضح .
4- (4) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان/ 41 .

ومنها : معتبرة بل موثقة إسحاق بن عمار قال : سألته عن الرجل یشتری من العامل وهو یظلم ؟ قال : یشتری منه ما لم یعلم أنّه ظلم فیه أحداً(1) .

الروایة مضمرة ، ولکن بقرینة أنّ إسحاق یروی عن الإمامین الصادق والکاظم علیهماالسلام فالروایة عن أحدهما علیهماالسلام . وعبرنا عنها بالموثقة لأنّه والحسن فطحیان . ودلالتها واضحة .

ولکن استشکل الفاضل القطیفی قدس سره فی دلالتها وسندها وقال : « . . . لأنّ دلالته لیس إلاَّ علی جواز الإبتیاع من العامل الذی یظلم إذا لم یعلم أنّه ظلم أحداً بعینه ، فأخذه إن کان ظلماً لم یجز وإلاّ جاز ، فأین الدلالة وهو مع ذلک مرسل وإسحاق بن عمار ضعیف»(2) .

وتبعه الأردبیلی فقال : «ولا دلالة لها أصلاً علی شراء شیءٍ لا یکون ظلم فیه أحداً ، فالاستدلال بها علی المطلوب بعید . . مع ضعف الطریق والإضمار ، لأنّه قال فیه : «أحمد بن محمد عن الحسن بن علی عن إبان عن إسحاق» ، وأحمد مشترک ، وإن سلم أنّه أحمد بن محمد بن عیسی الثقة ، والحسن بن علی بن فضال قیل : فطحی وکذا إسحاق وأبان مشترک ، والظاهر أنّه ابن عثمان قیل : هو أیضاً فطحی»(3) .

أقول : سند الروایة کما سبق معتبر بل موثق . نعم فیه جماعة من الفطحیین ، ولکن کلّهم ثقات ولیس فیها إرسالاً . نعم هی مضمرة فقط وإسحاق - لا سیما فی هذه المسألة المهمة - لم ینقل فیها إلاّ عن المعصوم والحجة ، ولذا قال الأردبیلی کما فی بعض مِن نُسَخ هامش کتابه بخطه : «وظنی أنّ الحسن وإسحاق وأبان بن عثمان کلّهم یُقبل قولهم لا بأس فی الجملة»(4) .

إن کان مراد الفاضل القطیفی أو مرادهما أنّ « العلم » المأخوذ فی کلام الإمام علیه السلام هو بعینه العلم الإجمالی المأخوذ من کلام إسحاق فلا یتم ما ذکراه ، أو ذکرهما لأن هذا خلاف ظاهر الروایة ، ولا یتمّ مع حکم الإمام فی أوّل جوابه ب- «یشتری منه» ، لأنّ المناسب مع هذا الاعتبار « لا یشتری منه» . فنفس حکم الإمام علیه السلام بجواز الشراء یدّل علی أنّ العلم المأخوذ

ص: 391


1- (1) وسائل الشیعة 17/221 ح2 . الباب 53 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) السراج الوهاج/ 180 المطبوع ضمن الخراجیات .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8/106 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8/106 .

فی کلام السائل هو العلم الإجمالی ، والعلم المأخوذ فی کلام الإمام علیه السلام العلم التفصیلی ، ولذا حکم بجواز الشراء مع العلم الإجمالی ما دام لم یبلغ إلی حدّ التفصیلی .

وهکذا دلالتها علی جواز الشراء من عامل السلطان - فیما هو عامل فیه - واضحة ، وحملها علی معاملة الظلمة فی أموالهم الخاصة بعید ، ویدفعه إطلاق الروایة وعدم تفصیل الإمام بین المقامین ، کما نبّه علیه المحقق الخوئی(1) .

وبعبارة اُخری : حتّی لو احتمل أن یرید السائل شراء أملاک العامل الخاصة به ، جواب الإمام علیه السلام مطلق یشمل المقامین : أموال الظالم الشخصیة ، وما فی تصرفه وتحت یده من بیت المال .

ومنها : معتبرة أبی بکر الحضرمی(2) وقد مرّ ذکر هذه الروایة فی بحث جوائز السلطان .

قال المحقق الکرکی بعد نقل الروایة : «هذا الخبر نص فی الباب ، فإنّه علیه السلام بیّن للسائل - حیث قال إنّه ترک أخذ العطاء للخوف علی دینه - أنّه لا خوف علیه ، فإنّه إنّما یأخذ حقّه حیث إنّه یستحقّ فی بیت المال نصیباً ، وقد تقرّر فی الأصول تعدّی الحکم بالعلّة المنصوصة»(3) .

واعترض علیه الفاضل القطیفی وقال : «هذا الخبر أورده العلّامة فی المنتهی(4) دلیلاً علی جواز تناول جوائز الظالم إذا لم یعلم أنّها حرام ، ولم یذکره فی حلّ الخراج وتناوله ، ولا شک أنّ الاستدلال یتبع الدلیل ، والدلیل لا إشعار فیه بالخراج . علی أنّ ما فهمه هذا المؤلِّف من هذا الخبر لیس علی الوجه ، وذلک أنّه علیه السلام أشار إلی الردّ علی ابن أبی سمّاک فی إعراضه عن الشیعة بقوله : «أو لا یمنع . . . الخ» ثم سأل أبا بکر عن ترک العطاء فأجابه إنّ ترکه مخافة فأقرّه علیه وأعرض عنه . ثم رجع إلی تقریع ابن أبی سمّاک وإلزامه بأنّه ترک الدفع مع أنّه یعلم لکلٍ

ص: 392


1- (1) مصباح الفقاهة 1/538 .
2- (2) وسائل الشیعة 17/214 ح6 . الباب 51 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) قاطعة اللجاج فی تحقیق حلّ الخراج/ 76 المطبوعة ضمن الخراجیات .
4- (4) منتهی المطلب 2/1026 من الطبعة الحجریة.

من المسلمین حقّاً فی بیت المال وهو یدفع إلی بعضهم دون بعض . . . .»(1) .

وتبعه المحقق الأردبیلی واستشکل أولاً فی سند الروایة بقوله : «أنّهم ما سموها بالصحة کأنّه لعدم ظهور توثیق أبی بکر الحضرمی . . . . - وهو عبد اللّه بن محمد » . ثم قال : «لیس فیها دلالة أصلاً إلاّ علی الذم علی عدم إعطاء مال من بیت المال الذی للمصالح للمستحقین من الشیعة عند إعطائه لغیرهم . . . وذلک قد یکون من بیت مال یجوز أخذه وإعطاؤه للمستحقین ، مثل أن یکون منذوراً أو وصیةً لهم ، بأن یعطیه ابن أبی سماک أو غیر ذلک ، ولا یقاس علیه الخراج الذی أخذه الظالم باسم الخراج ظلماً . . .»(2) .

أقول : أمّا الإشکال من جهة أبی بکر الحضرمی فی سند الروایة فلا وجه فیه ، لأنّه من المعاریف وله أکثر من مائة وأربعین روایة ، فکان کثیر الروایة ینقل عنه مشایخ الطائفة أمثال محمد بن أبی عمیر ، ولم یرد فیه قدح ، فالرجل معتبر ، ولذا عبّرنا به عن الروایة بالمعتبرة .

وناهیک أنّ الشیخ الأعظم قدس سره عبّر عن روایة ورد فی سندها أبی بکر الحضرمی بالحسنة أو الموثقة فی فرائده(3) فراجعها .

وأمّا ما ذکره العلمان - القطیفی والأردبیلی قدس سرهما - من الإشکال فی دلالتها، فهو غیر تام ، لأنّ المعتبرة ظاهرة فی جواز أخذ ما فی بیت المال للشیعة - بل نصٌّ فی ذلک کما قاله المحقق الکرکی رحمه الله - ومن الواضح أن بیت المال فی ذلک الزمان تشتمل علی الزکاة والخراج والمقاسمة والجزیة ونحوها .

ولکن استشکل المحقق الخوئی فی دلالتها : بأنّ ظاهر التعلیل «أنّ جواز الأخذ من جهة ثبوت الحقّ فی بیت المال فیجوز له الأخذ بمقدار حقّه»(4) وتبعه تلمیذه وزاد علیه : «بل مقتضاها عدم جواز الأخذ لغیر المستحق»(5) .

ص: 393


1- (1) السراج الوهاج/ 105 المطبوع ضمن الخراجیات .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8/104 و103 .
3- (3) فرائد الأصول 1/290 ، والروایة فی الکافی 1/211 ح6 .
4- (4) مصباح الفقاهة 1/538 .
5- (5) إرشاد الطالب 1/351 .

وفیه : ظاهر التعلیل أنّ الإمام علیه السلام علّل أصل الأخذ علی أنّ للآخذ فی بیت المال نصیباً لا مقدار الأخذ أو الإعطاء ، وإلاّ لا بدّ له من التنبیه علی ذلک المقدار والنصیب وهو مفقود فی المعتبرة . ولعله إلی ما ذکرناه أشار المحقق الکرکی فی کلماته الماضیة . هذا أولاً .

وثانیاً : ما ذکره یناقض مع هذه الفقرة من الروایة : «ما منع ابن أبی السمّاک أن یبعث إلیک بعطاءک ؟ » ، ومن الواضح أنّ البعث إلی أبی بکر الحضرمی بعطائِهِ من بیت المال یزید علی نصیبه بکثیر قطعاً .

وثالثاً : ما ذکره شیخنا الاُستاذ - مد ظله - من عدم جواز الأخذ لغیر المستحق أیضاً ، غیر تام ، لأنّ الأخذ من بیت المال لا یُشترط فیه الاستحقاق ، بل أنّها وضعت لأجل مصالح المسلمین . والمصلحة یمکن أن تکون غیر الاستحقاق ویجوز «صرف بیت المال فی سبیل صلاح المسلمین» کما اعترف به شیخنا الاُستاذ - مد ظله - فی الإرشاد(1) قبل أقل من خمسین صفحة .

ورابعاً : غایة ما یقال فی هذه الفقرة ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره قال : «فإنّما یدلّ علی أنّ کلّ مَن له نصیب فی بیت المال یجوز له الأخذ ، لا أنّ کلّ مَن لا نصیب له یجوز أخذه»(2) . وتبعه شیخنا الاُستاذ(3) - مد ظله - .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال لی أبو الحسن موسی علیه السلام : مالک لا تدخل مع علیٍّ فی شراء الطعام ، إنّی أظنّک ضیّقاً . قال : قلت : نعم ، فإن شئتَ وسعتَ علیَّ ، قال : اشتره(4) .

دلالتها علی شراء الطعام من عمّالهم واضحة ، لأنّ لا غبار فی حلیّة شراء الطعام المحض ، فظهر أنّ عبد الرحمن بن الحجاج احتمل فی نفسه أنّ شراء الطعام من عمّال سلاطین الجور الذین یأخذون الزکاة والخراج والمقاسمة محظورٌ وأمره الإمام علیه السلام بالشراء ، والأمر

ص: 394


1- (1) إرشاد الطالب 1/305 .
2- (2) المکاسب 2/237 .
3- (3) إرشاد الطالب 1/368 .
4- (4) وسائل الشیعة 17/218 ح 1 . الباب 52 من أبواب ما یکتسب به .

عقیب توهم الحظر یفید الجواز ، وحیث أن الأمر مطلق یفید إثبات الجواز فی الثلاثة . وقد تمسّک بهذه الصحیحة لإثبات الجواز العلامة فی التذکرة(1) والمحقق الثانی فی قاطعة اللجاج(2) .

ولکن استشکل فی الإستدلال الفاضل القطیفی وقال : «لا یخفی علی من له أدنی تأمل فی العلم أنّ هذا الخبر لایدلّ علی تناول ما یأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة بشیء من الدلالات ، غایة دلالته أنّه یدلّ علی ابتیاع الطعام علی جهة العموم ولیس فیه تصریح بأن الابتیاع من الجائر ، ولو سلّم فنحن لا(3) نمنع من جواز ابتیاع ما یأخذه باسم الخراج .

فإن قیل : یدل من حیث عمومه .

قلنا : قد ثبت أن شرط صحة الابتیاع کون البیع حلالاً ، فالخراج إن کان حلالاً جاز ابتیاعه وإلاّ فلا . ولا دلالة فی الخبر علی أن الخراج حلال کما لا یخفی ، فإن معاملة الغاصب والإبتیاع منه - وإن کان أکثر أمواله غصباً - جائز لعموم الکتاب والسنة ، ولا یدلّ علی ما فی یده من الغصب ، وهذا واضح»(4) .

وتبعه المحقق الأردبیلی فقال : «ما فهمتُ منها الدلالة علی حلّ الخراج والمقاسمة بشیءٍ من الدلالات عقلیة وعرفیة بوجه من الوجوه ولا علی شرائهما ، إلاّ أن یُعلم أن الطعام الذی جوّز شراءه کان من الخراج . وکذا دلالتها علی جواز شراء ما أخذه الظالم باسم الزکاة ، وکأنّه لذلک ما ذکرها العلّامة فی المنتهی دلیلاً علیهما»(5) .

وفیه : أنه لو خصصنا الصحیحة بالطعام المحض تلزم اللغویة ، ولو خصصناها

ص: 395


1- (1) تذکرة الفقهاء 12/153 .
2- (2) قاطعة اللجاج/ 77 المطبوعة ضمن الخراجیات .
3- (3) الظاهر زیادة «لا» وإلاَّ تم المطلوب ، وهو حلیّة الخراج والمقاسمة والزکاة مطلقاً سواء بالشراء وغیرها ، لأنه لو ثبتت حلّیّة شرائها ثبتت حلّیّة جمیع التقلبات ، لعدم القول بالفصل ، ولکن إذا قال القطیفی بالفصل صح وجود کلمة «لا» کما لا یخفی ، والظاهر أنّه یقول به .
4- (4) السراج الوهاج/ 106 و105 المطبوع ضمن الخراجیات .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8/100 .

بالأموال الشخصیة للجائرین یلزم تخصیص الأکثر ، لأنّ الأموال الشخصیة لهم بالنسبة إلی ما فی أیدیهم من الزکاة والخراج والمقاسمة أقلّ قلیل ، فتخصیص الصحیحة بها یوجب خروج الأکثر ، وهو مستهجنٌ وقبیحٌ .

وبما ذکرنا ظهر ضعف ما ذکره بعض المعاصرین - مد ظله - من «أنّ المال کان ملکاً شخصیاً . . . فکان الأمر بیده وبإجازته»(1) . مضافاً إلی أن أمر الخراج أیضاً بیده . ومثله فی الضعف احتمال أنّ الطعام «من عائد الوقف المجهول أربابه أو نحوه »(2) کما عن شیخنا الاُستاذ - مدّ ظله - .

ومنها : صحیحة زرارة قال : إشتری ضریس بن عبد الملک وأخوه من هبیرة أُرزاً بثلاثمائة ألف ، قال : فقلت له : ویلک أو ویحک أنظر إلی خمس هذا المال فابعث به إلیه واحتبس الباقی ، فأبی علیَّ . قال : فأدی المال وقدم هؤلاء فذهب أمر بنی أمیة ، قال : قلت ذلک لأبی عبد اللّه علیه السلام فقال مبادراً للجواب : هو له هو له ، فقلت له : إنّه قد أدّاها ، فعضّ علی أصبعه(3) .

الظاهر أن هبیرة أحد عمّال الظلمة ، ویظهر من طبقات(4) ابن سعد أنّه صاحب الولید بن عبد الملک الأُموی ، وقال فی الوافی : «کان هبیرة من عمّال بنی أمیة»(5) وبیده أُرزٌ کثیرٌ من المقاسمة والخراج واشتری منه ضریس وأخوه وتوهم زرارة - وهو عمّهما - حرمة هذه المعاملة وبطلانها ، ولذا ظن أنّه من مصادیق المال المختلط بالحرام ، فأمر ضریساً - وهو ابن أخیه - بإخراج خمسه ، فأبی أوّلاً ولکن بعد ذلک قَبِلَ من زرارة وأخرج الخمس وأداه ، وبعد سقوط بنی أمیة وظهور دولة بنی العباس سأل زرارة حکم الواقعة من الإمام الصادق علیه السلام ، فقال علیه السلام : « هو له هو له » ، أی المعاملة صحیحة ولا حاجة إلی إخراج الخمس ، لأنّه لم یکن من مصادیق المال المختلط بالحرام ، وحیث قال زرارة : إنّ ضریساً قد أدی خمسها فعضّ

ص: 396


1- (1) عمدة المطالب 1/515 .
2- (2) إرشاد الطالب 1/353.
3- (3) وسائل الشیعة 17/218 ح 2 .
4- (4) الطبقات لابن سعد 8/12 .
5- (5) الوافی 17/297 وتبعه فی الحدائق 18/270 .

الإمام علیه السلام علی أصبعه من خطأ زرارة فی الحکم .

وقد مرّ منّا أن تخصیص الروایة بالأموال الشخصیة لهم یوجب خروج الأکثر ، وهو مستهجن وقبیح .

ولذا قال الشیخ الأعظم : «فإن أوضح محامل هذا الخبر أن یکون الأُرز من المقاسمة»(1) .

ولکن الإشکال فی الروایة إنّما هو من جهة أنّ أداء الخمس فی ذاک الزمان یصح بالنسبة إلی الإمام علیه السلام ، أی إنّهم یؤدونه إلی الإمام علیه السلام ، فکیف أخذه الإمام علیه السلام مع علمه بخطأ المؤدی وأنّه لم یجب علیه .

ویمکن أن یجاب عنه بوجوه :

أولاً : یمکن أن یکون أداء المال بالنسبة إلی ثمن الأُرز أی ثلاثمائة ألف لا بالنسبة إلی أداء الخمس ، فیرتفع الإشکال من رأسه . ولکنّه خلاف ظاهر الروایة وترتب عضّ الإمام علیه السلام أصبعه .

وثانیاً : الأئمة علیهم السلام لهم وکلاء بالنسبة إلی جمع الأخماس ، ولعلَّ وکیل الإمام علیه السلام أخذها وصرفها فی مواردها .

وثالثاً : یمکن القول بعدم وجوب علم الإمام علیه السلام بالنسبة إلی الموضوعات إلاّ إذا أراد وشاء ، وفی هذا المورد لم یشأ ولم یرد . واللّه العالم .

ومنها : صحیحة معاویة بن وهب قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أشتری من العامل الشیء وأنا أعلم أنّه یظلم ؟ فقال : إشتر منه(2) .

حکم الإمام علیه السلام بصحة المعاملة مع عامل الزکاة أو المقاسمة أو الخراج ، لأنّ ظهور العامل فی جابیهم واضح والسائل یعلم أنّهم یظلمون ، ومع ذلک أمر الإمام علیه السلام بالشراء وعدم

ص: 397


1- (1) المکاسب 2/216 وإن لم یوافق معنا هو فی معنی الروایة ، وصاحبا الوافی 17/297 والحدائق 18/270 وتبعهما المحقق الإیروانی فی حاشیته علی المکاسب 1/357 ولکن لم یتم معناهم لا عندنا ولا عند الشیخ الأعظم .
2- (2) وسائل الشیعة 17/219 ح4 .

الإعتناء بهذا العلم الإجمالی ، ویدلّ قوله علیه السلام علی الجواز وأنّ العلم الإجمالی هنا لم یتنجز .

ویمکن أن یقال : بعدم تنجز العلم الإجمالی هنا حتّی لو قال صاحب الزرع أو المتصرف فی الأرض الخراجیة أنّ العامل ظلمنی ، لعدم العبرة بقوله ، لأنّه یظنّ أنّ المحصول کلّه له مع أن الزکاة والمقاسمة أو الخراج حقوق واجبة یجب علیه إخراجها ، والشاهد علیه الروایة الآتیة .

ومنها : معتبرة محمد بن أبی حمزة عن رجل قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أشتری الطعام فیجیئنی من یتظلّم ویقول : ظلمنی ، فقال : إشتره(1) .

الروایة تدلّ علی جواز الشراء حتّی مع إظهار صاحب المال بأنّ العامل ظلمه ، لما مرّ آنفاً ، ولکن فی سندها إرسال .

ومنها : خبر عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : سألته عن الرجل أیشتری من العامل وهو یظلم ؟ فقال : یشتری منه(2) .

ومن الواضح عدم إختصاص الروایة بالأموال الشخصیة للعامل الظالم ، نعم یمکن القول بأنّ إطلاقها یشملها .

ومنها : صحیحة جمیل بن صالح قال : أرادوا بیع تمر عین أبی زیاد(3) ، فأردت أن أشتریه ، فقلت : حتّی أستأذن أبا عبد اللّه علیه السلام ، فأمرتُ مصادف فسأله ؟ فقال له : قل له : فلیشتره ، فإنّه إن لم یشتره إشتراه غیره(4) .

قال المحقق الثانی : «وقد احتجّ بهذا الحدیث لحلّ ذلک العلامة فی المنتهی(5) وصحّحه . لکن قد یُسأل عن قوله : «فإن لم یشتره اشتراه غیره» ، فإنّ شراء الناس للشیء لا مدخلیة له

ص: 398


1- (1) وسائل الشیعة 17/219 ح3 .
2- (2) وسائل الشیعة 17/221 ح3 . الباب 53 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) فی المصدر أبی ابن زیاد نقلاً عن الفقیه ، وهو لا یتم لعدم وجود الاستعمال هکذا وهو یرادف مع زیاد ، وسیأتی منّا توضیح فی ترادفهما .
4- (4) وسائل الشیعة 17/220 ح1 . الباب 53 من أبواب ما یکتسب به .
5- (5) منتهی المطلب 2/1027 من الطبع الحجری.

فی صیرورته حلالاً علی تقدیر أن یکون حراماً ، فأیّ مناسبة له لیعلّل به ؟ ولا یبعد أن یکون ذلک إشارة منه علیه السلام إلی معنی لطیف ، وهو : أنّ کلّ من له دخل فی قیام دولة الجور ونفوذ أوامرها وقوة شوکتها وضعف دولة العدل یحرم علیه هذا النوع ونحوه بشراء وغیره ، بخلاف ما لم یکن کذلک ، فإنّ عدم دخوله فی شراء هذا کدخوله فی أنّه : لا یتعطّل أمر دولة الجور ولا یتناقص(1) بل رواجها بحاله(2) . فأشار علیه السلام بقوله : «إن لم یشتره إشتراه غیره» إلی أنّه لا مانع له من الشراء أو لا دخل له فی دولة الجور بتقویة ولا غیرها ، فإن لم یشتره لم یتفاوت الحال بل یشتریه غیره»(3) .

ویردّ علیه الفاضل القطیفی بأنّه : «لا دلالة فیه علی موضع النزاع ، بل علی ابتیاع مال الظالم ، ونحن لا نمنعه بل نکرهه » . وقال فی ردّ ما ذکره بعنوان معنی لطیف : « هذا خلاف ما أصّله من أن الخراج لجمیع المسلمین ، فإنّه إذا کان لا یفترق الحکم فیه بالنسبة إلی أهل یقوم به الدولة وغیرهم . . . والذی یخطر ببالی أنّ قوله علیه السلام «فإن لم یشتره اشتراه غیره» للإشارة إلی أنّ الإمتناع من أموال الظالم لا فائدة مهمة فیها إلاّ إذا کان أهل العصر جمیعاً أو أکثرهم علی ذلک ، لأنّ الإمتناع یفید تورعه عن المظالم حینئذ بسبب عدم معاملة الناس له ، أمّا إذا لم یکن کذلک لم تظهر فائدته ، خصوصاً أنّ أحداً لا یمنع عن معاملة مَن یعامله وإلاّ لبطل أکثر النظام ، فلا فائدة فی الإمتناع حینئذ ، فقول الإمام ذلک للتنبیه علی هذا»(4) .

وتبعه المحقق الأردبیلی وزاد : «وفی الصحة أیضاً تأمل ، لأنّ الظاهر أنّ مصادفاً نقل إلی جمیل قوله : «قل له فلیشتریه . . . الخ » ، ومصادف ضعیف ذکروه فی محلّه . ویمکن أن یکون المعنی : جواز شراء مال الظلمة مع عدم العلم بالغصب بعینه کما یدلّ علیه الأصل والأخبار

ص: 399


1- (1) کذا فی المطبوعة فی رسائل المحقق الکرکی 1/273 وهو الصحیح ، ولکن فی المطبوعة ضمن الخراجیات / 78 «أو یتناقض» وهو غلطٌ .
2- (2) کذا فی المطبوعة ضمن الخراجیات/ 78 وهو الصحیح ، ولکن فی المطبوعة فی رسائل المحقق الکرکی 1/273 «بحلاله» وهو غلط .
3- (3) قاطعة اللجاج/ 77 المطبوعة ضمن الخراجیات .
4- (4) السراج الوهاج/ 107 و106 المطبوع ضمن الخراجیات .

الکثیرة الدالة علی جواز أخذ جوائزهم مع کراهة لکن تزول عند الضیق . ویحتمل أن یکون قوله «فإن لم یشتره . . . الخ» أنّ اجتناب ذلک للتنزّه لا ینفع ، لأنّه إن لم تشتر أنت یشتریه غیرک ، وأنت مختلط معه وتأکل ممّا یأکل ، أو أنّه لا یُردّ به الظالم عن ظلمه کما قیل»(1) .

أقول : أمّا الإشکال فی السند - وقد مرّ من الأردبیلی أیضاً بأنّ مصادف ضعیف - فهو غیر تام ، لأنّ مصادفاً من موالی أبی عبد اللّه علیه السلام ، وقد ذهبنا فی علم الرجال إلی أنّ الموالی کلّهم معتبرون وحسان ما لم یرد فی حقِّهم تضعیف ، فمصادف حسنٌ عندنا کما ذهب إلیه المحقق المامقانی فی نتائج التنقیح(2) ، وتضعیف ابن الغضائری(3) له لا یثبت تضعیفه لعدم العبرة بتضعیفاته ، والعلامة فی الخلاصة(4) تبعه أیضاً وکذا ابن داود الحلّی(5) ولکنّه ، لا یثبت تضعیفه ، لأنّ مأخذ تضعیفهما قول ابن الغضائری . مع أن العلامة نفسه قد حکم فی المنتهی بصحة الحدیث ، وهذا الحکم إمّا عدول عن رأیه فی حقِّ مصادف وإمَّا بأنّه قدس سره لا یری مصادفاً فی السند ، أو یراه ولکن القرائن تدلّ علی صدقه فی النقل ، وهی قبول جمیل قوله . والحاصل أنّ الإشکال فی السند غیر تام عندنا بوجه .

وأمّا دلالتها علی حلیّة الخراج والمقاسمة والزکاة فلا أقل من إطلاقها لو لم نقل بأنّها تختص بها ظاهرة ، لأنّ تمر عین أبی زیاد - وهو من عمّال السلطان کما فی الوافی(6) - إمّا أن یکون من الثلاثة وإمّا أن یکون من أمواله الشخصیة وقد حکم الإمام علیه السلام بجواز الشراء .

وأمّا قوله علیه السلام : «فإنّه إن لم یشتره إشتراه غیره» . فقد علمنا عدم مدخلیة هذا الکلام

ص: 400


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8/101 .
2- (2) نتائج التنقیح/ 150 الرقم 11822 .
3- (3) رجال ابن الغضائری/90 الرقم 124 ، تحقیق العلامة السید محمد رضا الجلالی ، طبعة دار الحدیث 1422 ق .
4- (4) ترتیب خلاصة الأقوال/ 420 الرقم 14 .
5- (5) رجال ابن داود/ 278 الرقم 500 ، وفیه : لیس بشیءٍ وابنه محمد ثقة . طبع عام 1392 بتحقیق العلامة السید محمد صادق بحر العلوم ، النجف الأشرف .
6- (6) الوافی 17/293 .

فی حلّیّة الشراء ، فإمّا أن یحمل علی أنّ الإمام علیه السلام قاله کذا حتّی یقرّب إلی ذهن جمیل وجه الحلّیّة ، أو یحمل علی الحکمة لا العلّة ، أو علی ما ذکره الشیخ علی المحقق الثانی ، أو علی ما ذکره الفاضل القطیفی من المبارزة المنفیة مع الظالمین ، أو غیرها من المحامل . ومع علمنا بعدم مدخلیة شراء الغیر لحلّیّته ، غایة الأمر أننا نرفع الید عن هذا التعلیل ونأخذ بجواز حکم الشراء الوارد فی الروایة ، فیثبت بها جواز حلّیّة الثلاثة ، ولا بأس بالتقطیع فی حجیّة الروایة بقبول بعضها وردّ بعضها الاُخری .

ولکن العمدة فی دلالة الروایة ما یظهر من بعض الأخبار ، وهو بسند صحیح عن یونس أو غیره عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : جعلت فداک بلغنی أنّک کنت تفعل فی غلّة عین زیاد شیئاً وأنا أُحبّ أن أسمعه منک . قال : فقال لی : نعم ، کنتُ آمر إذا أدرکت الثمرة أن یثلم فی حیطانها الثلم لیدخل الناس ویأکلوا ، وکنت آمر فی کلّ یوم أن یوضع عشر بنیات(1) ، یقعد علی کلِّ بنیة عشرة ، کلّما أکل عشرة جاء عشرة اُخری یُلقی لکلّ نفسٍ منهم مدّ من رطب ، وکنت آمر لجیران الضیعة کلّهم الشیخ والعجوز والصبی والمریض والمرأة ومن لا یقدر أن یجیء فیأکل منها لکلِّ إنسان منهم مُدّ ، فإذا کان الجَُِذاذ(2) وفیت القوّام والوکلاء والرجال أُجرتهم وأحمل الباقی إلی المدینة ، ففرّقت فی أهل البیوتات والمستحقّین الراحلتین والثلاثة والأقل والأکثر علی قدر استحقاقهم ، وحصل لی بعد ذلک أربعمائة دینار ، کان غلّتها أربعة آلاف دینار(3) .

یظهر من الروایة أنّ الأرض کانت مِلکاً للإمام الصادق علیه السلام وأنفق علیه السلام تسعة عُشرِ غلّتِها وهی الرطب والتمر مع مصارفها فبقی له عُشرها . وهذا الإنفاق والإحسان من الإمام علیه السلام کان یوجب زیادة المحبة فی قلوب الناس لهم ، ولذا أخذها الظلمة منه غصبوها ، فحینئذ استأذن جمیل لشراء تمره من أبی عبد اللّه علیه السلام ، وصح ما ورد من التعلیل فی ذیل الصحیحة : «فإنّه إن لم یشتره إشتراه غیره» . وهکذا صح التعبیر عن عین زیاد بعین أبی ابن

ص: 401


1- (1) بنیات مفردة بنیة : مصغر البناء .
2- (2) الجَُِذاذ بالجیم مثلثة : المکسَّر أو المقطوع مِن جَذَّه : أی قطعه أو کسره فانقطع أو أنکسر .
3- (3) وسائل الشیعة 9/205 ح2 . الباب 18 من أبواب زکاة الغلات .

زیاد ، وکلاهما یفیدان معنی واحد .

فعلی ما ذکرناه لا تدلّ الروایة علی حلیّة الخراج والمقاسمة والزکاة ، لأنّها مبنیّة علی کون عین زیاد أو عین أبی ابن زیاد أو عین أبی زیاد من الأراضی الخراجیة ، لکنّها کانت من الأراضی المغصوبة من الإمام علیه السلام الموقوف اشتراء حاصلها علی إذنه ، کما نبّه علیه الشیخ الأعظم رحمه الله (1) تبعاً لصاحب الحدائق(2) . ولعله أول من تعرض لهذه الروایة فی البحث .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام : صدقات أهل الذمة وما یؤخذ من جزیتهم من ثمن خمورهم وخنازیرهم ومیتتهم ؟ قال : علیهم الجزیة فی أموالهم ، تؤخذ من ثمن لحم الخنزیر أو الخمر ، فکلّ ما أخذوا منهم من ذلک فوزر ذلک علیهم وثمنه للمسلمین حلال یأخذونه فی جزیتهم(3) .

ومنها : طائفة من الروایات واردة فی أحکام تقبّل الخراج من السلطان ، ویُستفاد منها کون أصل التقبّل معلوم الجواز عندهم . وهکذا الروایات الواردة فی قبالة الأراضی الخراجیة واستئجارها من السلطان ثم إجارتها للغیر بأزید من ذلک ، کما نبّه علیهما الشیخ الأعظم قدس سره (4) .

فمنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : فی القبالة أن یأتی الرجل الأرض الخربة فیتقبّلها من أهلها عشرین سنة ، فإن کانت عامرة فیها علوج فلا یحلّ له قبالتها إلاّ أن یتقبّل أرضها فیستأجرها من أهلها ولا یدخل العلوج فی شیءٍ من القبالة فإنّه لا یحلّ .

وعن الرجل یأتی الأرض الخربة المیتة فیستخرجها ویجری أنهارها ویعمرها ویزرعها ماذا علیه فیها ؟ قال : الصدقة . قلت : فإن کان یعرف صاحبها ، قال : فلیرد إلیه حقّه . قال : لا بأس بأن یتقبّل الرجل الأرض وأهلها من السلطان .

وعن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث ، قال : نعم ، لا بأس به ، قد قبّل

ص: 402


1- (1) المکاسب 2/210 .
2- (2) الحدائق 18/248 .
3- (3) وسائل الشیعة 15/154 ح1 . الباب 70 من أبواب جهاد العدو .
4- (4) المکاسب 2/208 و209 .

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم خیبر أعطاها الیهود حین فتحت علیه بالخَِبر ، والخَِبر هو النصف(1) .

العُلُوج : جمعُ العِلج : وهو الرجل الضخم القوی من کفّار العجم ، وبعضهم یطلقه علی الکافر عموماً . الخبر بفتح الخاء وکسرها وسکون الباء بمعنی المخابرة ، وهی المزارعة ببعض ما یخرج من الأرض ، وقیل : «أصل المخابرة من خیبر ، لأنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم أقرّها فی أیدی أهلها علی النصف من محصولها ، فقیل خابرهم أی عاملهم فی خیبر»(2) .

ثمّ الصحیحة تدلّ علی أنّ أصل القبالة من الجائر جائز ، وقد نقلنا فیما سبق عن الفیض(3) أنه قد یُسمی کلاهما (أی الخراج والمقاسمة) بالقبالة . لا سیما مع عطف أهل الأراضی علیها وتقبّل الأهل هی المعاملة علی جزیة رؤوسهم أو ما یکون علیهم من الخراج ، کما نبّه علی الأخیر شیخنا الاُستاذ(4) - مد ظله - .

هذا بناءً علی التعدد من أنّ تقبّل الأرض شیءٌ وتقبّل أهل الأرض شیءٌ آخر . ویمکن أن یکونا شیئاً واحداً ، وهو تقبّل ما فی ذمم مستعملیها من الخراج . ونبّه علی هذا الاحتمال المحقق الأردکانی(5) قدس سره ، وعلی المحتملات الثلاثة تدلّ علی حلیّة الخراج ومنها المقاسمة .

فمنها : صحیحة إسماعیل بن الفضل الهاشمی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یتقبّل بجزیة رؤوس الرجال وبخراج النخل والآجام والطیر وهو لا یدری لعلّه لا یکون من هذا شیء أبداً ، أو یکون ، أیشتریه وفی أیِّ زمان یشتریه ویتقبّل منه ؟ قال : إذا علمت أنّ من ذلک شیئاً

ص: 403


1- (1) التهذیب 7/201 ح34 ونقل صدرها عنه فی وسائل الشیعة 19/59 ح3 . الباب 18 من أبواب المزارعة ، وذیلها فی وسائل الشیعة 19/42 ح8 . الباب 8 من أبواب المزارعة عن التهذیب ، والفقیه 3/250 ح3906 ، وفی الفقیه یوجد الذیل فقط . وقد ورد صدرها فی الکافی 5/269 ح3 ، والجمع بین الصدر والذیل یوجد فی التهذیب .
2- (2) مجمع البحرین 3/282 ونقل عنه الفقیه الیزدی فی حاشیته علی المکاسب 1/229 .
3- (3) الوافی 18/984 .
4- (4) إرشاد الطالب 1/352 .
5- (5) غنیة الطالب 1/309 .

واحداً أنّه قد أدرک فاشتره وتقبّل به(1) .

هذه الصحیحة تدلّ علی جواز تقبّل جزیة الرؤوس وخراج النخل والآجام ، بل جواز شرائها یکون مسلَّماً عند السائل وسأل عن زمان الشراء وحدوده .

ومنها : خبر الفیض بن المختار قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک ما تقول فی أرض أتقبّلها من السلطان ثمّ أؤاجرها أُکرتی علی أنّ ما أخرج اللّه منها من شیءٍ کان لی من ذلک النصف أو الثلث بعد حقّ السلطان ؟ قال : لا بأس به ، کذلک أُعامل أُکرتی(2) .

رجال السند کلّهم ثقات وحسان إلاّ أبو نُجیْح المسمعی لأنّه مجهول ، والسند ضعیف به . الأکرة : الحرّاس ، مفرده : الأکّار ، قال الصدوق رحمه الله : «سمّی الأکّار لأنّه یؤاکر الأرض أی یشقّها»(3) . جواز تقبّل الأرض من السلطان مسلَّمٌ عند السائل وقرره الإمام علیه السلام علی ذلک بل قال : «کذلک أُعامل أُکرتی» .

ومنها : روایة الحلبی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أتقبّل الأرض بالثلث أو الربع فأقبّلها بالنصف ؟ قال : لا بأس به .

قلت : فأتقبّلها بألف درهم وأقبّلها بألفین ؟ قال : لا یجوز ، قلت : لم ؟ قال : لأنّ هذا مضمون وذلک غیر مضمون(4) .

فی الکافی(5) لم یعطف أحمد بن محمد بسهل بن زیاد خلافاً لما فی الوسائل المطبوع ، بل ینقل سهل عن أحمد بن محمد عن عبد الکریم ، فحینئذ المراد بأحمد بن محمد هو البزنطی ، وهو ینقل عن عبد الکریم الخثعمی الثقة ، فحینئذ ضعف سند الکافی یکون بسهل . وقد قیل : إنّ الأمر فی سهل سهلٌ .

ص: 404


1- (1) وسائل الشیعة 17/355 ح4 ، الباب 12 من أبواب عقد البیع وشروطه .
2- (2) وسائل الشیعة 19/52 ح3 . الباب 15 من أبواب المزارعة .
3- (3) معانی الأخبار/ 278 .
4- (4) وسائل الشیعة 19/126 ح1 . الباب 21 من أبواب کتاب الإجارة .
5- (5) الکافی 5/272 ح6 .

ولکن الشیخ رواها فی التهذیب(1) بسنده إلی أحمد بن محمد عن عبد الکریم عن الحلبی ، وقد مرّ أن المراد بأحمد هو البزنطی ، وعبد الکریم هو الخثعمی ، فصار سند الشیخ بالروایة صحیحاً .

ولکن رواها الشیخ نفسه فی الإستبصار(2) بزیادة فی السند ، وهی علی بن الحکم الزائد بین أحمد بن محمد وعبد الکریم ، وعلی بن الحکم معتبر وثقة عندنا ، ولکن فی هذه العجالة لم یتبیّن لنا أنّ علی بن الحکم هل یروی عن عبد الکریم الخثعمی أم لا ؟ وهل البزنطی یروی عنه أم لا ؟

وحیث أنّ الأصل عدم الزیادة فلا بدّ من الأخذ بسند الإستبصار - ولعله لهذا ذکر الشیخ الحرّ فی الوسائل(3) سند الإستبصار فقط - فیشکل أمر السند بجهالة عبد الکریم حینئذ لأنّه مشترک .

وأمّا دلالتها علی جواز تقبّل الأرض من السلطان إمّا ظاهرة فیه ومختصة به ، وإمّا تشمله بإطلاقها .

ومنها : صحیحة أُخری لإسماعیل بن الفضل الهاشمی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمّی ثمّ آجرها وشرط لِمَن یزرعها أن یقاسمه النصف أو أقل من ذلک أو أکثر ، وله فی الأرض بعد ذلک فضل ، أیصلح له ذلک ؟ قال : نعم ، إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شیئاً یعینهم بذلک فله ذلک .

قال : وسألته عن الرجل استأجر أرضاً من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام معلوم فیؤاجرها قطعةً قطعةً أو جریباً جریباً بشیءٍ معلوم فیکون له فضل فیما استأجر من السلطان ولا ینفق شیئاً ، أو یؤاجر تلک الأرض قطعاً علی أن یعطیهم البذر والنفقة فیکون له فی ذلک فضل علی إجارته وله تربة الأرض أو لیست له ؟ فقال له : إذا استأجرت أرضاً

ص: 405


1- (1) التهذیب 7/204 ح43 .
2- (2) الاستبصار 3/130 ح5 .
3- (3) وسائل الشیعة 19/127 .

فأنفقت فیها شیئاً أو رممت فیها فلا بأس بما ذکرت(1) .

رَمَّ البناء أو الأمر : أصلحه ، وکذا رمَّم .

ومنها : صحیحة یعقوب بن شعیب قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل یستأجر الأرض بشیءٍ معلوم یؤدی خراجها ویأکل فضلها ومنها قوته ؟ قال : لا بأس(2) .

الإجارة من السلطان بلا واسطة أو منه مع الواسطة ، وکلاهما تدلان علی جواز تقبّل الأرض منه و . . . .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی - وهو خلید بن أوفی - عن أبی عبد اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : سألته عن أرض یرید رجل أن یتقبّلها فأیُّ وجوه القبالة أحلّ ؟ قال : یتقبّل الأرض من أربابها بشیءٍ معلوم إلی سنین مسماة فیعمّر ویؤدی الخراج ، فإن کان فیها علوج فلا یدخل العلوج فی قبالته ، فإن ذلک لا یحلّ(3) .

ومنها : خبر أبی بُردَة بن رجَا قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : کیف تری فی شراء أرض الخراج ؟ قال : ومن یبیع ذلک ؟! هی أرض المسلمین . قال : قلت : یبیعها الذی هی فی یده ، قال : ویصنع بخراج المسلمین ماذا ؟ ثمّ قال : لا بأس اشتری حقّه منها ویحول حقّ المسلمین علیه ، ولعلّه یکون أقوی علیها وأملأ بخراجهم منه(4) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاَّ أبا بُردَة بن رجا لأنّه مجهول .

ومنها : موثقة محمد بن مسلم وعمر بن حنظلة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن ذلک (أی عن الشراء من أرض الیهود والنصاری) فقال : لا بأس بشرائها ، فإنّها إذا کانت بمنزلتها فی أیدیهم تؤدی عنها کما یؤدی عنها(5) .

هذه الروایات تدلّ علی حلّیّة أخذ الخراج والمقاسمة والزکاة - مطلق الأخذ وهو

ص: 406


1- (1) وسائل الشیعة 19/127 ح 3 و4 . الباب 21 من أبواب کتاب الإجارة .
2- (2) وسائل الشیعة 19/59 ح2 . الباب 18 من أبواب المزارعة .
3- (3) وسائل الشیعة 19/60 ح5 . الباب 18 من أبواب المزارعة .
4- (4) وسائل الشیعة 15/155 ح1 . الباب 71 من أبواب جهاد العد .
5- (5) وسائل الشیعة 15/156 ح3 .

یشمل الأخذ مع العوض وبدونه کما صرح به السید الخوئی قدس سره (1) - من السلطان کما علیه المشهور بل الإجماع علیه ، ولعلّ فی هذا المقدار کفایة بل فوقها ، والحمد للّه .

ینبغی التنبیه علی أُمور
الأوّل : هل یعتبر أخذ السلطان خارجاً فی حلّیّة الخراج أم لا ؟

قد یظهر من کلمات الأصحاب (قدس سرهم) إطلاقها بالنسبة إلی اشتراط الأخذ خارجاً وعدمه . نعم قد ذهب إلی اشتراط الأخذ السید عمید الدین الحسینی فی شرحه للنافع - علی ما حکی عنه الشیخ إبراهیم القطیفی فی رسالته(2) - ولکن صرّح جماعة من الأصحاب بعدم الفرق بین الأخذ خارجاً وغیره ، منهم : الشهید فی الدروس(3) ، والفاضل المقداد فی التنقیح(4) ، والمحقق الثانی صرّح بالإجماع علی عدم الفرق فی جامع المقاصد(5) ، وثانی الشهیدین فی المسالک(6) ، والفیض الکاشانی فی المفاتیح(7) ، وجدی الشیخ جعفر فی شرح القواعد(8) ، وسید الریاض صرّح بعدم الخلاف فی عدم الفرق(9) ، وأصحاب الجواهر(10) والمناهل(11) والمکاسب(12) والمحقق النائینی(13) .

ص: 407


1- (1) مصباح الفقاهة 1/539 .
2- (2) السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج/ 115 المطبوع ضمن الخراجیات .
3- (3) الدروس 3/170 .
4- (4) تنقیح الرائع 2/19 .
5- (5) جامع المقاصد 4/45 .
6- (6) المسالک 3/143 .
7- (7) مفاتیح الشرائع 3/10 .
8- (8) شرح القواعد 1/344 .
9- (9) ریاض المسائل 8/199 .
10- (10) الجواهر 22/180 و190 .
11- (11) المناهل/ 310 .
12- (12) المکاسب 2/212.
13- (13) منیة الطالب 1/83 .

والحقّ موافقة هذه الجماعة من الأصحاب من عدم الفرق بین الأخذ خارجاً والتوکیل فی قبضها وبیعها وهی فی ید المالک أو فی ذمّته والحوالة إلی المالک ونحوها لأن یصدق علی الجمیع أخذ الثلاثة من السلطان ، وقد مرّ منّا دلیل حلّیّتها .

مضافاً إلی ذلک الأخبار الواردة فی جواز قبالة الأرض وتقبّل الخراج أو استئجار أرض الخراج من السلطان ثمّ إجارتها للزارع بأزید من ذلک ونحوها :

منها : خبر الفیض بن المختار(1) الماضی .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن الفضل الهاشمی(2) الماضیة .

ومنها : صحیحة یعقوب بن شعیب(3) الماضیة .

ومنها : روایة الحلبی(4) الماضیة .

ومنها : صحیحة اُخری لیعقوب بن شعیب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل تکون له الأرض من أرض الخراج فیدفعها إلی الرجل علی أن یعمرها ویصلحها ویؤدی خراجها وما کان من فضل فهو بینهما ؟ قال : لا بأس ، الحدیث(5) .

ومنها : صحیحة داود بن سرحان عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل تکون له الأرض علیها خراج معلوم ربمّا زاد وربمّا نقص فیدفعها إلی رجل علی أن یکفیه خراجها ویعطیه مائتی درهم فی السنة ، قال : لا بأس(6) .

ومنها : حسنة إبراهیم بن میمون قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قریة لاُناس من أهل الذمّة لا أدری أصلها لهم أم لا غیر أنّها فی أیدیهم وعلیهم خراج فاعتدی علیهم

ص: 408


1- (1) وسائل الشیعة 19/52 ح3 .
2- (2) وسائل الشیعة 17/355 ح4 .
3- (3) وسائل الشیعة 19/59 ح2 .
4- (4) وسائل الشیعة 19/126 ح1 .
5- (5) وسائل الشیعة 19/45 ح2 . الباب 10 من أبواب المزارعة .
6- (6) وسائل الشیعة 19/57 ح1 . الباب 17 من أبواب المزارعة .

السلطان ، فطلبوا إلیّ فأعطونی أرضهم وقریتهم علی أن أکفیهم السلطان بما قلّ أو کثر ، ففضل لی بعد ذلک فضل بعدما قبض السلطان ما قبض ؟ قال : لا بأس بذلک ، لک ما کان من فضل(1) .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یتقبّل الأرض من الدهاقین فیؤاجرها بأکثر ممّا یتقبّلها ویقوم فیها بحظّ السلطان ، قال : لا بأس به ، إنّ الأرض لیست مثل الأجیر ولا مثل البیت ، إنّ فضل الأجیر والبیت حرام(2) .

وهذه الروایات تدلّ علی جواز التقبّل قبل أخذ السلطان خراجها وهکذا جواز إجارة الأرض ، فهذه تصرف فی الخراج قبل أخذها ، فکذلک یجوز أخذ الخراج قبل قبض السلطان أو وکیله .

الثانی : هل یجوز منع الجائر من الخراج وعدم إعطائه أم لا ؟
اشارة

قال الشهید : «ویحرم علی المالک المنع»(3) .

قال المحقق الثانی فی خاتمة رسالته : «لا زلنا نسمع من کثیر ممّن عاصرناهم لا سیّما شیخنا الأعظم الشیخ علی بن هلال - قدس اللّه روحه - وغالب ظنّی أنّه بغیر واسطة بل بالمشافهة ، أنّه لا یجوز لمن علیه الخراج والمقاسمة سرقته ولا جحوده ولا منعه ولا شیئاً منه لأنّ ذلک حقّ واجب علیه»(4) .

وقال الشهید الثانی : «وقد ذکر الأصحاب أنّه لا یجوز لأحدٍ جحدهما ولا منعهما ولا التصرف فیهما إلاّ بإذنه ، بل أدّعی بعضهم الإتفاق علیه »(5) .

ص: 409


1- (1) الکافی 5/270 ح5 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 19/57 ح2 .
2- (2) الکافی 5/271 ح1 .
3- (3) الدروس 3/170 .
4- (4) قاطعة اللجاج/ 91 المبطوعة ضمن الخراجیات .
5- (5) المسالک 3/55 والمدعی للإتفاق هو المحقق الثانی فی حاشیته علی الشرائع .

وقال أیضاً : «ووجب علی المالک الدفع»(1) .

وقال الشیخ جعفر : «ولا یجوز لهم الإمتناع عن تسلیمه»(2) . وقال أیضاً : «ویقوی حرمة سرقة الحصّة وخیانتها والإمتناع عن تسلیمها ، أو عن تسلیم ثمنها - بعد شرائها - إلی الجائر ، وإن حرمت علیه ودخل تسلیمها فی الإعانة علی الإثم فی البدایة والغایة ، لنصّ الأصحاب علی ذلک ، ودعوی الإجماع فیه . وجعلها من الجُعل له علی حمایة بیضة الإسلام فتحلّ له ، لم یقم علیه دلیل . . .»(3) .

وهذه أحد الأقوال فی المسألة ، وهو عدم جواز منع الجائر من الخراج ووجوب إعطائه له إذا طلبه .

وفی المسألة قول آخر ، وهو جواز منعه وعدم إعطائه له ، ذهب إلیه جمع من الفقهاء :

منهم : الشیخ إبراهیم القطیفی ، قال فی رسالته : « . . . ولو شئت أن أقول أنّ اختیار الدفع إلی الظالم مع التمکن من الکتمان والسرقة والجحود ممّا علم عدم جوازه من الدین بالضرورة . لقلتُ لأنّ ذلک حقّ للمسلمین یجب إیصاله إلی والیهم ، فإذا کان غائباً وجب أن یوصل إلی نائبه وهو حاکم الشرع ، فإن لم یکن فإلی مستحقه حسبةً کالمال الذی فی یده لغیره ، فإنّه یدفعه إلی من یستحقّ قبضه شرعاً . . .»(4) .

ومنهم : المحقق الأردبیلی قال بعد نقل روایات الزکاة : «ولعلّک فهمت من هذه الأخبار عدم وجوب إعطاء الزکاة للسلطان الجائر ، بل عدم جواز إعطائها إیَّاه مهما أمکن»(5) .

ومنهم : ملاّ فیض ، قال : «المراد أنّه لا یحل المنع والسرقة ممّن اشتراها مِن الجائر ، وأمّا الجائر فیجوز ذلک بالنسبة إلیه »(6) .

ص: 410


1- (1) المسالک 3/143 .
2- (2) شرح القواعد 1/344 .
3- (3) شرح القواعد 1/345 .
4- (4) السراج الوهاج/ 122 المطبوع ضمن الخراجیات .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8/109 .
6- (6) نقل عنه السید العاملی فی مفتاح الکرامة 13/89 ، والظاهر أنّ المراد منه هو الملاّ محسن الفیض الکاشانی قدس سره ، ولم یشتهر بهذا الاسم غیره .

ومنهم : المحقق السبزواری قال : « ... وما اُسند إلی الأصحاب من عدم جواز الجحد والمنع والتصرف فیهما إلاّ بإذنه محلّ تأمل ، إذ لا أعلم حجّة واضحة علیه ، وادّعاء بعضهم الإتفاق علیه لا یصلح حجّة شرعیة ... »(1) .

ومنهم : الفاضل النراقی قال بعد نقل کلام الشیخ إبراهیم : «ولا یخفی أن ذلک (أی جواز المنع) مقتضی الأصل ، لأنّهما کالزکاة حقّ لجماعة خاصة لیس الجائر منهم ولا قیّماً علیهم ، فالأصل عدم جواز دفع حصتهم إلیهم - سیما مع ما هو علیه من الفسق الظاهر - ما دام یتمکّن من عدم الدفع »(2) .

ومنهم : صاحب الجواهر بعد نقل مقال اُستاذه الشیخ جعفر نقده وقال : «وفیه أوّلاً : أنّه کغیره من الأحکام التی شُرعت للتقیة المعلوم کونها دائرة مدارها ، فمع فرض عدمها فی حال أو فی زمان أو مکان لا ینبغی التأمل فی عدم جواز مراعاتها . . . .

وثانیاً : أن أقصاها جواز الدفع ، أمّا وجوبه علی وجه بحیث لا یجزی لو دفعه إلی حاکم الشرع المنصوب من قبلهم فغیر معلوم ، بل معلوم خلافه ، ولإطلاق ما دل علی ولایته من النص والفتوی . . .»(3) .

ومنهم : الشیخ الأعظم قال بعد نقل کلام الشیخ جعفر فی شرح القواعد : « . . . وإن أرید منعها من خصوص الجائر فلا دلیل علی حرمته ، لأنّ اشتغال ذمّة مستعمل الأرض بالأُجرة لا یوجب دفعها إلی الجائر ، بل یمکن القول بأنّه لا یجوز مع التمکن ، لأنّه غیر مستحقٍّ ، فیسلّم إلی العادل أو نائبه الخاص أو العام ، ومع التعذّر یتولّی صرفه فی المصالح حسبةً »(4) .

ص: 411


1- (1) الکفایة 1/393 .
2- (2) مستند الشیعة 14/202 .
3- (3) الجواهر 22/195 .
4- (4) المکاسب 2/215 .

ومنهم : المحقق الإیروانی فی حاشیته علی المکاسب(1) .

ومنهم : المحقق النائینی قال : «ولکن الأقوی عدم وجوب الدفع إلیه مع التمکن »(2) .

ومنهم : المحقق الخوئی قال : «لا یجوز دفع الخراج إلی الجائر مع الإختیار »(3) .

أدلة القائلین بجواز المنع وعدم الإعطاء له

تمسّک هؤلاء بعدّة من الروایات :

منها : صحیحة العیص بن القاسم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الزکاة قال : ما أخذوا منکم بنو أُمیّة فاحتسبوا به ، ولا تعطوهم شیئاً ما استطعتم ، فإن المال لا یبقی علی هذا أن تزکیّه مرّتین(4) .

ومنها : صحیحة أبی اُسامة زید الشحام قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک ، إنّ هؤلاء المصدِّقین یأتونا ویأخذون منّا الصدقة فنعطیهم إیّاها ، أتجزی عنّا ؟ فقال : لا ، إنّما هؤلاء قوم غصبوکم ، أو قال : ظلموکم أموالکم ، إنّما الصدقة لأهلها(5) .

ومن الواضح أنّ کلمتی « الغصب » و « الظلم » تدلان علی الأخذ بالقهر والغلبة والقوّة والجور ، وهذا ینافی مع الإعطاء .

ومنها : خبر علی بن یقطین قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : ما تقول فی أعمال هؤلاء ؟ قال : إن کنت لا بدّ فاعلاً فاتق أموال الشیعة . قال : فأخبرنی علی أنّه کان یجبیها من الشیعة علانیةً ویردّها علیهم فی السرِّ(6) .

الظاهر من ردّه رحمه الله أموال الشیعة سرّاً ، لأنّهم یأخذونها منهم ظلماً وغصباً ، والشیعة لا

ص: 412


1- (1) حاشیة المکاسب 1/356 .
2- (2) منیة الطالب 1/80 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1/542 .
4- (4) وسائل الشیعة 9/252 ح3 . الباب 20 من أبواب المستحقین للزکاة .
5- (5) وسائل الشیعة 9/253 ح6 .
6- (6) وسائل الشیعة 17/193 ح8 . الباب 46 من أبواب ما یکتسب به .

یعطون إلاّ بالقهر والغلبة والخوف والتقیّة .

ومنها : خبر سهل بن الیسع ، أنّه حیث أنشأ سهل آباد وسأل أبا الحسن موسی علیه السلام عمّا یخرج منها ، ما علیه ؟ فقال : إن کان السلطان یأخذ خراجها فلیس علیک شیء ، وإن لم یأخذ السلطان منها شیئاً فعلیک إخراج عشر ما یکون فیها(1) .

المراد بأبی قتادة هو علی بن محمد بن حفص القمی الثقة ، والمراد بسهل بن الیسع هو ابن عبد اللّه بن سعد الأشعری الثقة ، ولکن الروایة ضعیفة سنداً بعبد اللّه بن مالک النخعی الکوفی ، وهو إمامیٌّ مجهولٌ . هذا کلّه بالنسبة إلی السند .

ولکن تدل الروایة علی أن السلطان کانت سیرته وعمله علی وجه الاستمرار علی الأخذ ، ومن الواضح أنّ الأخذ غیر الإعطاء . وإن لم یأخذ السلطان منه شیئاً أمره الإمام علیه السلام بإخراج العُشر بنفسه لا بإعطاء الخراج له طوعاً واختیاراً .

ومنها : خبر أبی کَهْمَس عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من أخذ منه السلطان الخراج فلا زکاة علیه(2) .

ودلالتها کسابقها ، ولکن فی السند ضعف بأبی کهمس ، وهو یمکن أن یکون الهیثم بن عبد اللّه الکوفی المجهول ، ویمکن أن یکون غیره . ولا فرق فی ذلک ، لأنّ أبا کهمس کنیة لعدّة من المجاهیل .

ومنها : خبر أبی البختری عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیاً علیه السلام کان یقول : أعتد فی زکاتک بما أخذ العشّار منک واخفها عنه ما استطعت(3) .

وقد ورد فی کثیر من الروایات إضافة الأخذ إمّا إلی السلطان نحو : صحیحة سلیمان بن خالد(4) وصحیحة عبید اللّه بن علی الحلبی(5) وصحیحة أبی عبیدة(6) ، وإمَّا إضافته إلی العاشر

ص: 413


1- (1) وسائل الشیعة 9/192 ح1 . الباب 10 من أبواب زکاة الغلاة .
2- (2) وسائل الشیعة 9/193 ح3 .
3- (3) وسائل الشیعة 9/254 ح8 .
4- (4) وسائل الشیعة 9/252 ح4 .
5- (5) وسائل الشیعة 9/253 ح5 .
6- (6) وسائل الشیعة 17/219 ح5 .

أو غیره من عمّال الظلمة نحو : معتبرة السکونی(1) ومرسلة الصدوق(2) . فحینئذ ظهورها یثبت فی الأخذ ظلماً أو زوراً أو قهراً أو غصباً وعدوناً . وعلیه تحمل کلمة « یؤدی » الواردة فی صحیحة رفاعة بن موسی(3) ، فإذا کان کذلک یجوز الفرار من الظلم بعدم الإعطاء والإستتار ونحوها إن أمکن .

فغایة ما یمکن أن یقال فی المستفاد من النصوص والفتاوی : إنّ الجائر إذا أخذ الخراج والمقاسمة بالقهر والغلبة یجزی ذلک عن إعطاء الخراج للإمام العدل ویجوز التصرف حینئذ فی الأراضی الخراجیة . وسیأتی حکم الإجزاء عن الزکاة أو عدمه إن شاء اللّه تعالی .

ولا یدلّ أیُّ دلیل علی وجوب إخراج الثلاثة (الخراج والمقاسمة والزکاة) إلی الجائر ، بل لا یدلّ دلیل علی جواز إخراجها إلیه مع التمکن من عدم الإعطاء . فإذا تمکن المتصرِّف أو المالک من عدم الإعطاء کلّاً أو بعضاً یجب علیه ، ولو أعطاه حینئذ فلا یجزی عنه .

وما ورد فی الروایات من حرمة شراء السرقة والخیانة نحو معتبرة جرّاح المدائنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح شراء السرقة والخیانة إذا عرفت(4) . تحمل علی شراء السرقة والخیانة من محترمی المال ، أو السرقة والخیانة بالحمل الشائع الصناعی . وأمّا إنقاذ مال الخراج والمقاسمة والزکاة من ید الجائر وإیصاله إلی المصالح والمستحقین الواقعیین . وعلی فلا یصدق علیه السرقة والخیانة الواقعیان . وعلی ما ذکرنا تحمل صحیحة أبی بصیر قال : سألت

ص: 414


1- (1) وسائل الشیعة 9/252 ح2 .
2- (2) وسائل الشیعة 9/254 ح7 .
3- (3) وسائل الشیعة 9/193 ح2 .
4- (4) الکافی 5/228 ح4 ، عبرنا عنها بالمعتبرة لأنّ رجال السند کلّهم ثقات إلاّ القاسم بن سلیمان لأنّه یروی عنه الأجلاء وله أکثر من مائة روایة فی الکتب الأربعة ولم یرد فیه قدح ، وأمّا الجراح المدائنی فله خمس وستون روایة مضافاً إلی أنّ النجاشی ذکره ولم یقدح فیه ، فهو أیضاً عندنا معتبر ، ولذا عبرنا بهما عن الروایة بالمعتبرة .

أحدهما علیهماالسلام عن شراء الخیانة والسرقة ؟ فقال : لا إلاّ أن یکون قد اختلط معه غیره ، فأمّا السرقة بعینها فلا إلاّ أن تکون من متاع السلطان فلا بأس بذلک(1) .

وکذلک تحمل علی شرائهما قبل أن یقعا فی ید السلطان وأن یجمعا عنده وفی بیت ماله ، وإلاّ فبعدهما مشکلٌ جدّاً . وعلیه فتحمل علی إخفاء الخراج والمقاسمة والزکاة وإنقاذها من السلطان ، وهذا عنده وعند عماله یرادف مع الخیانة والسرقة .

الثالث : هل تختص حلّیّة الخراج بما یأخذه الجائر من الأراضی الخراجیة ؟

من المعلوم أنّ السلطان کما یأخذ الخراج من الأراضی الخراجیة ، کذلک یأخذها من الأنفال وربّما یأخذها من الأراضی الشخصیة ، فهل أدلة حلیّة الخراج تشمل الجمیع أم لا ؟ وتختص بالأراضی الخراجیة ؟

إطلاق بعض الروایات تدلّ علی التعمیم :

منها : خبر الفیض بن المختار(2) وصحیحة داود بن سرحان(3) وصحیحة یعقوب بن شعیب(4) وصحیحة الحلبی(5) وخبر عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه(6) وصحیحة معاویة بن وهب(7) وصحیحة عبد الرحمن بن الحجاج(8) ومعتبرة أبی بکر الحضرمی(9) وموثقة إسحاق

ص: 415


1- (1) الکافی 5/228 ح1 .
2- (2) وسائل الشیعة 19/52 ح3 .
3- (3) وسائل الشیعة 19/57 ح1 .
4- (4) وسائل الشیعة 19/59 ح2 .
5- (5) وسائل الشیعة 19/59 ح3 .
6- (6) وسائل الشیعة 17/221 ح3.
7- (7) وسائل الشیعة 17/219 ح4 .
8- (8) وسائل الشیعة 17/218 ح1 .
9- (9) وسائل الشیعة 17/214 ح6 .

بن عمار(1) والفقرة الثالثة لصحیحة أبی عبیدة(2) الماضیة کلّها .

ولکن حیث أن غایة ما یُستفاد من روایات الباب أنّ الشارع جعل تصرف الجائر فی الثلاثة بدلاً عن تصرف العادل ، «وأنّه یقوم مقام تصرف العادل فی النفوذ»(3) . فما یأخذه الجائر من الأراضی الخراجیة ومن مال المقاسمة وکذا فی قبالة الأرض ومن الزکاة یحکم بأنّه یأخذه العادل ، لأنّه بدله فی هذه الأمور . وعلی ما ذکرنا فما یأخذه من أراضی المسلمین - وهی الخراجیة - أو من الأنفال - حیث کان أمرها بید الإمام العادل والآن یقوم مقامه الجائر - فتشملها أدلة حلیّة الخراج .

ولکن لو أخذ الخراج من الأراضی الشخصیّة فلا تشمله أدلة حلیّة الخراج ، لعدم جوازه شرعاً حتّی بالنسبة إلی العادل .

والحق عندنا أنه لا تخصیص بالأراضی الخراجیة ولا تعمیم لکلّ ما یأخذه الجائر باسم الخراج بل التفصیل بین ما یجوز الخراج فیه - وهو الأراضی الخراجیة والأنفال - وبین ما لا یجوز الخراج فیه - کالأراضی الشخصیّة - وأدلة حلیّة الخراج تشمل الأوّل ولا تشمل الثانی .

ومن المعلوم أنّ الأنفال أمرها بید الإمام العادل ، ویجوز تصرفاته فیها ، فکذلک الجائر یمکن له أن یأخذ منها الخراج کما کان هو المعمول فی الأزمنة السالفة .

وأمّا التمسّک(4) لأجل التعمیم بأدلة نفی الضرر والحرج للشیعة فی المقام ، فغیر تام ، لما ثبت فی علم الأصول من عدم إثبات الحکم الشرعی بهما . نعم هما یرفعان الحکم .

وکذلک التمسک بالسیرة ، لا سیما أنّها من الأدلة اللبیّة ، فلا بدّ من لحاظ القدر المتیقَّن فیها ، وهو فی المقام الأراضی الخراجیة .

ص: 416


1- (1) وسائل الشیعة 17/221 ح2 .
2- (2) وسائل الشیعة 17/219 ح5.
3- (3) کما صرح به المحقق الإیروانی قدس سره فی حاشیته 1/361 .
4- (4) المتمسِّک بالثلاثة - قاعدة نفی الحرج ، والسیرة واختلال النظام - هو الفقیه الیزدی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب 1/240 .

ونحوهما التمسک بأنّ « الاختصاص یوجب اختلال النظام » الذی وجب حفظه عقلاً ، بالمنع صغرویّاً ، لأنّ القول بالاختصاص لا یوجب اختلال النظام ، لأنّ فیما یعلم أنّه من الأراضی الخراجیة یجوز التصرف والتقلّب فیها وفیما لا یعلم أنّه منها أو من غیرها حیث لا یعلم حرمتها بعینه فیجوز التصرف فیها لإطلاق الروایات الواردة فی حلیّة الجوائز ، والشراء من العامل ، وجواز التقبّل ، وجریان أصل البراءة من الحرمة وغیرها .

الرابع : هل یختص الحکم بالسلطان المخالف ؟

ذهب جماعة من الأصحاب إلی اختصاص الحکم بالسلطان المخالف ، منهم : الفاضل القطیفی فی إیضاح النافع(1) وصرح به فی السراج الوهاج(2) والشهید الثانی فی المسالک(3) وسید الریاض جعل هذا القول الأصح(4) والفاضل النراقی جعل التعدی من المخالف إلی السلاطین الشیعة «بواسطة بعض التعلیلات قیاس مستنبط العلّة مردودٌ عند الشیعة»(5) . والشیخ الأعظم یری أن هذا القول «لا یخلو عن قوة»(6) وتبعهم المحقق النائینی فقال : «لا یمکن الجزم بالتعمیم وإن کانت الأخبار مطلقةً فتدبر»(7) ، والمحقق الخوئی(8) .

ص: 417


1- (1) إیضاح النافع/ مخطوط وحکی عنه الفقیه العاملی فی مفتاح الکرامة 13/91 .
2- (2) السراج الوهاج/ 124 المطبوع ضمن الخراجیات .
3- (3) المسالک 3/144 ، ولکنّه قدس سره احتمل الجواز وقال : «مع احتمال الجواز مطلقاً نظراً إلی إطلاق النص والفتوی» .
4- (4) ریاض المسائل 8/195 .
5- (5) مستند الشیعة 14/204 ، والعجب منه أنّه ذهب بعد صفحات إلی جواز التقبیل من سلاطین الشیعة إذا کان شیئاً من تلک الأراضی فی أیدیهم وجاز لهم التصرف فیها - إلی أن قال - وهؤلاء السلاطین لکونهم من الشیعة یکونون محلّلین ممّا فی أیدیهم» (مستند الشیعة 14/231) . وهذان القولان لا یمکن الجمع بینهما .
6- (6) المکاسب 2/231.
7- (7) منیة الطالب 1/85 .
8- (8) مصباح الفقاهة 1/543 .

وفی قبالهم جماعة یقولون بشمول السلطان للمؤمن أیضاً ، کما یظهر ذلک من المحقق السبزواری(1) والشیخ جعفر(2) وتلمیذیه(3) وصاحب البرهان(4) والفقیه الیزدی(5) والفقیه السبزواری(6) .

وقد استشکل بعض فی القولین ، نحو المحدث الکاشانی حیث یقول : «وفی اختصاص الحکم بالجائر المخالف للحقِّ ، نظراً إلی معتقده من استحقاق ذلک عندهم ، دون غیره لاعترافه بکونه ظالماً فیه ، ولأصالة المنع إلاّ ما أخرجه الدلیل وهو المخالف خاصةً ، لأنّه المسؤول عنه والمدلول علیه بالقرائن ، إلتفاتاً إلی الواقع أو الغالب فیبقی الباقی ، أو التعمیم نظراً إلی إطلاق النص والفتوی إشکال»(7) .

ولعلّ المحقق النائینی حذا حذوه حیث یقول : «یظهر من جماعة الاختصاص ، ویظهر من جملة منهم التعمیم ، ولا یخفی ما فی استدلال الطرفین»(8) .

والحق عندنا هو القول بالشمول ، لإطلاق النصوص والفتاوی ، وحملهما علی القضایا الشخصیة أو الخارجیة والأغلبیة ممنوعة ، ولعلّ لأجل ذلک أمر المحقق النائینی بالتدبر فی آخر کلامه . ولا یبعد شمول الحکم للمنتحلین کما قاله الشیخ جعفر(9) .

نعم ، النصوص والفتاوی منصرفة عن السلطان الکافر ، فلا یدخل فی الحکم وبعد الانصراف لا یبقی إطلاق حتی یدخل الکافر فیه ، کما أنصف فی ذلک الشیخ الأعظم قدس سره وقال :

ص: 418


1- (1) الکفایة 1/392 .
2- (2) شرح القواعد 1/342 ، و2/204 .
3- (3) وهما صاحبا مفتاح الکرامة 13/91 و92 والجواهر 22/190 وما بعدها .
4- (4) برهان الفقه ، کتاب التجارة/ 54 من الطبع الحجری .
5- (5) حاشیة المکاسب 1/242 .
6- (6) مهذب الأحکام 16/187 .
7- (7) مفاتیح الشرائع 3/10 .
8- (8) منیة الطالب 1/84 .
9- (9) شرح القواعد 1/346 .

« لکن الإنصاف انصرافهما (أی النصوص والفتاوی) إلی غیره (الکافر)»(1) .

والعجب من الفقیه الیزدی رحمه الله (2) انه أدخل الکافر فی البحث .

وکذلک النصوص والفتاوی منصرفة عمن دُعِی سلطاناً بلا شوکة وحکومة کبعض سلاطین الهند کما قال الشیخ جعفر(3) .

ولا مدخل فی النسب فی الحکم ، بأن دعی السلطان ابن السلطان والخاقان ابن الخاقان کما یظهر منه أیضاً(4) .

ثم هل « ظاهر الأخبار ومنصرف کلمات الأصحاب الإختصاص بالسلطان المدعی للرئاسة العامة وعماله ، فلا یشمل مَن تسلّط علی قریة أو بلدة خروجاً علی سلطان الوقت ، فیأخذ منهم حقوق المسلمین » ؟ کما علیه الشیخ الأعظم(5) وتبعه المحقق الخوئی(6) وشیخنا الاُستاذ - مد ظله -(7) . أم لا یختص بل یشمل کلّ من ادعی الرئاسة فی بلدة وغلب علی الأمر مستقرَّاً ولو لم تکن رئاسته العامة ، فیدخل فیهما جمیع سلاطین المسلمین فی مختلف البلاد فی آن واحد ؟ .

الظاهر - واللّه العالم - أنه لا وجه للإختصاص ، لعدم ظهور الروایات فیه وعدم انصراف کلمات الإصحاب إلیه .

الخامس : هل یختص الحکم فی المأخوذ منه بمن یعتقد إمامة الجائر ؟

قال الفاضل القطیفی : «إنّ المراد بالجائر فی کلام الأصحاب مخصوص بمن له شبهة الإمامة ، وقد أُجیز لنا أن نعاملهم بمقتضی مذهبهم ، کما جاز ابتیاع عوض الخمر من الیهود ،

ص: 419


1- (1) المکاسب 2/231 .
2- (2) حاشیة المکاسب 1/242 .
3- (3) شرح القواعد 1/347 .
4- (4) شرح القواعد 1/347 .
5- (5) المکاسب 2/227 .
6- (6) مصباح الفقاهة 1/543 .
7- (7) إرشاد الطالب 1/363 .

وحینئذ إذا أخذ إمامهم منهم شیئاً فهو مباح بالنسبة إلیه وإلی رعیته المعتقدین إمامته ، فیجوز ابتیاعه وإن لم یکن مستحقّاً عندنا . . .»(1) .

وقد نقل المحقق الأردبیلی هذا عن الشیخ إبراهیم من دون ذکر إشکاله الظاهر فی قبوله ، قال : «وقد احتمل الشیخ إبراهیم فی النقض کون الجائر مخالفاً یظن إمامته وکذا المعطی»(2) .

أقول : لا وجه لاختصاص الحکم بأنّ المأخوذ منه لا بدّ وأن یکون من المخالفین أو القائلین بإمامة الجائر بعد إطلاق النصوص والفتاوی کما مرّ منّا ، بل فی الروایات أخبار ظاهرها أنّ المأخوذ منه یکون مؤمناً :

منها : صحیحة أبی عبیدة الحذاء(3) وصحیحة أبی بصیر(4) ومعتبرة السکونی(5) وصحیحة عیص بن القاسم(6) وصحیحة سلیمان بن خالد(7) وصحیحة أبی اُسامة(8) وغیرها من الروایات .

ولیس مدرک الحکم قاعدة الإلزام حتّی یقال :

أوّلاً : باختصاصها بالمخالف کما فی الإرث والنکاح والطلاق وجریانها فی بعض المعاملات .

ثانیاً : بعدم تمامیة دلیلها بحیث یجری فی أکثر أبواب الفقه بل له محالّ معینة وهی ما مرّت آنفاً .

ص: 420


1- (1) السراج الوهاج/ 124 المطبوع ضمن الخراجیات .
2- (2) الرسالة الأولی فی الخراج للأردبیلی/ 24 المطبوعة ضمن الخراجیات .
3- (3) وسائل الشیعة 17/219 ح5 .
4- (4) وسائل الشیعة 19/60 ح4 .
5- (5) وسائل الشیعة 9/252 ح2.
6- (6) وسائل الشیعة 9/252 ح3 .
7- (7) وسائل الشیعة 9/252 ح4 .
8- (8) وسائل الشیعة 9/253 ح6.

فالعمدة هنا أنّ مدرک التعمیم إطلاقات النصوص والفتاوی ، بل ظهور بعض الروایات فی المؤمن وظهور بعضها الآخر فی الکافر ، نحو : حسنة إبراهیم بن میمون(1) ، ولیس مدرکها قاعدة الإلزام حتّی یناقش فیها بالإشکالین . والبحث حول هذه القاعدة وتعمیمها أو عدم تعمیمها فی محلّها والحمد للّه .

السادس : لیس للخراج قدر معین

الخراج علی ما تراضی السلطان ومستعمِل الأرض ، لأنّه طسق الأرض فمنوط برضاهما .

قال الشیخ : « . . والضرب الآخر من الأرضین ما أُخذ عَنْوة بالسیف ، فإنّها تکون للمسلمین بأجمعهم ، وکان علی الإمام أن یُقَبِّلَها لِمَن یقومُ بعمارتها بما یراه من النصف أو الثلث أو الربع ، وکان علی المتقبِّل إخراج ما قد قَبِلَ به من حقِّ الرقبة وفیما یبقی فی یده وخاصّةً العشر أو نصف العشر »(2) .

وقال أیضاً فی مبسوطه : «إذا فُتح بلد من بلاد الحرب فلا یخلو من أن یفتح عنوةً أو صلحاً ، فإن فُتح عنوةً کانت الأرض المحیاة . . . وأما الأرضون المحیاة فهی للمسلمین قاطبةً وللإمام التصرف فیها بالتقبیل والضمان علی ما نراه ، وارتفاعها یعود علی المسلمین بأجمعهم وینصرف إلی مصالحهم الغانمین وغیر الغانمین فیه سواء ، فأمّا الموات فإنّها لا تغنم ، وهی للإمام خاصةً ، فإن أحیاها أحد من المسلمین کان أولی بالتصرف فیها ویکون للإمام طَسْقها . . .»(3) .

وقال العلامة فی التذکرة : «الأرض المأخوذ بالسیف عنوةً یُقبّلها الإمام لمن یقوم

ص: 421


1- (1) وسائل الشیعة 19/57 ح2 .
2- (2) النهایة/ 195 .
3- (3) المبسوط 1/29 و 28 .

بعمارتها بما یراه من النصف وغیره ، وعلی المتقبِّل إخراج مال القبالة وحق الرقبة ، وفیما یفضل فی یده إذا کان نصاباً العشر أو نصفه ، فلا یصحّ التصرف فی هذه الأرض بالبیع والشراء والوقف وغیر ذلک ، وللإمام أن ینقله من متقبّلٍ إلی غیره إذا انقضت مدّة قبالته ، وله التصرف فیه بما یراه من مصلحة المسلمین . . .»(1) .

ونحوها فی المنتهی(2) .

وقال أیضاً فی التحریر : «ما تُملک بالاستغنام ویؤخذ قهراً بالسیف فإنّها للمسلمین قاطبةً . . . ویقبّلها الإمام لمن یقوم بعمارتها بما یراه من النصف أو الثلث ، وعلی المتقبّل إخرج مال القبالة وحق الرقبة ، وفیما یفضل فی یده إذا کان نصاباً العشر أو نصف العشر . . .»(3) .

یظهر من هذه العبارات أنّ الأمر فی الخراج بید الإمام علیه السلام ، وحیث أنّه فی الواقع عالم بأمر رعیته ومملکته فلا بدّ له من لحاظ الطرفین ، وحیث أنّه عقد لابدّ من تعیّنه عندهما ، قال الفیض : «وقیل : یُشترط أن لا یزید علی المعتاد أخذه من عامة الناس فی ذلک الزمان ، وزاد آخرون إتفاق السلطان والعمال علی القدر»(4) .

وقال الشیخ الأعظم : «لو استعمل أحدٌ الأرض قبل تعیین الأُجرة تعیّن علیه أُجرة المثل ، وهی مضبوطة عند أهل الخبرة ، وأمّا قبل العمل فهو تابع لما یقع التراضی علیه ، ونُسب ما ذکرناه إلی ظاهر الأصحاب»(5) .

أقول : ما ذکره الفیض عن الآخرین من توافق السلطان والعمال علی القدر وذکره الشیخ الأعظم بعنوان التراضی ، وقبلهما الفاضل المقداد یقول به فی التنقیح(6) وتبعهم المحقق

ص: 422


1- (1) تذکرة الفقهاء 9/186 مسألة 109 .
2- (2) منتهی المطالب 14 / 255 .
3- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 2/169 .
4- (4) مفاتیح الشرائع 3/10 .
5- (5) المکاسب 2/234 .
6- (6) التنقیح الرائع 2/19.

النائینی وقال : «الأقوی کونه موقوفاً علی تراضی السلطان والمأخوذ منه»(1) ، ....کلّ هذا غیر تام ، لما ذکره الشهید الثانی بأنّه بعید الوجه والوقوع(2) . ومراده قدس سره أنّ الأدلة لم یظهر منها الإتفاق ، بل فی جمیعها أنّ أمره راجع إلی الإمام وأنّه علیه السلام یلاحظ الحقّین : حقّ المسلمین وبیت المال وحقّ الرعیة بحیث یراعی الحقین .

نعم ، لا بدّ من التعیین ، ولو لم یعینه الإمام علیه السلام ینتقل إلی أُجرة المثل .

وتدلّ علی أنّ الأمر بید الإمام علیه السلام ما رواه حماد بن عیسی فی الصحیح عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح علیه السلام قال فی حدیث : والأرضون التی أُخذت عنوة بخیل ورجال فهی موقوفة متروکة فی ید من یعمرها ویحییها ویقوم علیها علی ما یصالحهم الوالی علی قدر طاقتهم من الحقِّ النصف أو الثلث أو الثلثین وعلی قدر ما یکون لهم صلاحاً ولا یضرّهم ، فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه العشر من الجمیع ممّا سقت السماء أو سقی سیحاً ونصف العشر ممّا سقی بالدوالی والنواضح فأخذه الوالی فوجّهه فی الجهة التی وجّهها اللّه علی ثمانیة أسهم ، الحدیث(3) .

الروایة دلالتها علی أنّ الأمر بید الإمام وأنّه یصالحهم علی قدر طاقتهم واضحة ولکن فی سندها إرسالٌ ، ولذا تعرف بمرسلة حماد الطویلة عند الفقهاء ، ولکن عمل المشهور علی طبقها جابر لضعف سندها .

وکذلک تدلّ علیه صحیحة أحمد بن محمد بن أبی نصر البزنطی قال : ذکرت لأبی الحسن الرضا علیه السلام الخراج وما سار به أهل بیته ، فقال فی حدیث : وما أُخذ بالسیف فذلک إلی الإمام یقبّله بالذی یری کما صنع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بخیبر قبّل أرضها ونخلها ، والناس یقولون لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا کان البیاض أکثر من السواد ، وقد قبّل رسول اللّه علیه السلام خیبر وعلیهم فی حصصهم العشر ونصف العشر(4) .

ص: 423


1- (1) منیة الطالب 1/86 .
2- (2) المسالک 3/143 .
3- (3) الکافی 1/541 ح4 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 15/111 ح2 .
4- (4) وسائل الشیعة 15/158 ح2 . الباب 72 من أبواب جهاد العدو - 9/189 ح3 .

وکذا یدلّ علیه خبر صفوان بن یحیی والبزنطی(1) ودلالته بعین صحیحة البزنطی ولکن فی سنده ضعف بعلی بن أحمد بن أشیم لأنّه مجهول .

ثم قال الشیخ الأعظم قدس سره : «یُستفاد منه (أی من قول أبی الحسن فی مرسلة حماد الطویلة الماضیة) أنّه إذا جعل علیهم من الخراج أو المقاسمة ما یضرّ بهم لم یجز ذلک کالذی یؤخذ من بعض مزارعی بعض بلادنا ، بحیث لا یختار الزارع الزراعة من کثرة الخراج فیجبرونه علی الزراعة ، وحینئذ ففی حرمة کلّ ما یؤخذ أو المقدار الزائد علی ما تضرّ الزیادة علیه ، وجهان»(2) . ثم اختار الشیخ الأعظم القول بالتفصیل : بأنّ مستعمل الأرض لو کان مختاراً فی استعمالها بلا حرج علیه فی ترکها کان مقدار الخراج ما تراضیا علیه قلیلاً کان أو کثیراً ، وإن کان لا بدّ له من استعمال الأرض - بأن کان ترکها حرجاً علیه ، لأنّها کانت تلک الأرض مزرعة له مدّة سنین بحیث یتضرّر بالإرتحال عن تلک القریة إلی غیرها - ففیها یحکم بفساد المعاملة أو فساد الزائد(3) .

ولکن قال قبله صاحب الجواهر : «وکیف کان فالخراج والمقاسمة لیس لهما مقدار معین فی الشرع ، بلا خلاف أجده فیه ، بل هو راجع إلی نظر الإمام علیه السلام علی حسب ما تقتضیه مصلحة جمیع المسلمین بحسب الأزمنة والأمکنة والأحوال التی تختلف معها الرغبات وغیرها من المنتفعین بالأرض أو بخراجها ، کما فعله أمیر المؤمنین علیه السلام فی أیام خلافته . ثم ذکر مرسلة حماد الطویلة الماضیة وقال : بل فی رسالة الکرکی(4) الإجماع علی ذلک ، وحینئذ فالخراج مقاسمة کان أو غیره ، أُجرة الأرض علی حسب مقتضی المصلحة الجامعة بین الطرفین .

وإلی ذلک یرجع ما قیل من أنّ الخراج ما ینص به الجائر قلَّ أو کثر ما لم یصل إلی حدِّ الظلم ، وحینئذ فمتی زاد الجائر علی ذلک کان حراماً تناوله منه ، وإن سماه باسم الخراج ،

ص: 424


1- (1) وسائل الشیعة 15/157 ح1 - 9/188 ح2 .
2- (2) المکاسب 2/235 و234 .
3- (3) المکاسب 2/235 .
4- (4) قاطعة اللجاج/ 71 المطبوعة ضمن الخراجیات .

ضرورة کونه ظلماً وإن کان هو حلالاً فی مذهبه ، وإن کان لا یُعتبر فیها الإتفاق بین السلطان والرعیة علی الأقوی ، خلافاً لما عن بعضهم(1) من اعتبار ذلک ، وهو بعید الوجه والوقوع کما اعترف به فی ذلک المسالک(2) وغیرها ، فما عن السید العمید : «من أنّه یصح بشرط أن یأخذ الجائر بقدر ما یأخذ سلطان الحق لا أزید إلاّ مع رضی المالک ، وإن زاد ولم یرض المالک حرم الجمیع»(3) . إن أراد به القول المزبور [أی لزوم الإتفاق] کان واضح الضعف ، وإلاّ فهو راجع إلی ما قلناه ، غیر أن قوله أخیراً « حرم الجمیع » فیه ما لا یخفی»(4) .

وتبعه الفقیه الیزدی فی عدم حرمة الجمیع وقال : «والأولی أن یقال : إنّ المحرَّم المقدار الزائد علی أُجرة المثل ، لأنّ المعاملة باطلة من جهة عدم رضاهم بها ، فیکون کما لو استعملوها قبل تعیّن الأُجرة ، ومن ذلک یظهر حکم ما إذا کانوا مجبورین علی الزراعة مع جعله علیهم ما لا یضرّ بهم ، فإنّ فی هذه الصورة أیضاً یتعین علیهم أُجرة المثل ویکون الزائد علیها حراماً وإن لم یکن مضرّاً بهم»(5) .

وذهب شیخنا الاُستاذ - مد ظله - إلی «بطلان المعاملة فی الصورتین ، فإن السلطان وعماله لیست لهم ولایة التصرف فی تلک الأراضی بما یکون فیه إضرار بالمسلمین . . . وأمّا احتمال بطلانها بالإضافة إلی المقدار الزائد فضعیف ، فإنّ التبعیض فی المعاملة بحسب صحتها یختص بموارد انحلالها ، کما إذا باع شیئین بصفقة واحدة أو آجر العین مدّة ، فإنّ انحلال البیع بالإضافة إلی کلِّ منهما وانحلال الإجارة بحسب أبعاض المدّة صحیح . وأمّا انحلالهما بالإضافة إلی بعض الثمن أو بعض الأجرة - بأن تتم المعاملة ویقع تمام المبیع بإزاء بعض الثمن أو تمام المدّة بإزاء بعض الاُجرة - فهذا لیس من انحلال المعاملة . وعلی ذلک یبتنی الحکم ببطلان البیع الربوی وعدم اختصاص البطلان بالمقدار الزائد . . . بخلاف الربا فی باب القرض ، فإنّه لا

ص: 425


1- (1) ذکر القول بالاعتبار الفاضل المقداد فی التنقیح الرائع 2/19 .
2- (2) المسالک 3/143 .
3- (3) نقل السید العاملی فی مفتاح الکرامة 13/89 عن السید عمید الدین .
4- (4) الجواهر 22/199 .
5- (5) حاشیة المکاسب 1/243 .

یوجب بطلان عقد القرض ، فإنّ القرض والاقتراض فی حقیقتهما تملیک المال وتملکه بالضمان ، ومعنی الضمان اشتغال الذمة بمثل ذلک المال فی المثلیات وبقیمته فی القیمیات ، فالزیادة تکون شرطاً فیهما . وبما أن بطلان الشرط لا یوجب بطلان أصل العقد یصح القرض والاقتراض ویبطل الشرط . . .»(1) .

أقول : نعم ، المعاملة فی الصورتین تکون باطلة لعین ما ذکره الاُستاذ - مد ظله - ولکن ذمّة العامل فیهما مشغولة بأُجرة المثل ، لأنّ الأرض للمسلمین وحیث انتفت أُجرة المسمی ببطلان المعاملة ینتقل إلی أُجرة المثل لئلا تبطل حقوقهم . کما ذهب إلیه الفقیه الیزدی فیما نقلناه من کلامه قدس سره .

ولعله یؤید ما ذکرناه بعض الروایات ، منها : معتبرة إسماعیل بن الفضل الهاشمی أو موثقته قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل إکتری أرضاً من أرض أهل الذمة من الخراج وأهلها کارهون ، وإنّما یقبّلها السلطان بعجز أهلها أو غیر عجز ؟ فقال : إذا عجز أربابها عنها فلک أن تأخذها إلاّ أن یضارّوا ، وإن أعطیتهم شیئاً فسخت أنفسهم بها لکم فخذوها ، الحدیث(2) .

تدلّ الروایة علی جواز تقبّل الأرض من السلطان إذا عجز أهلها عن إعطاء الخراج ، إلاّ أن یجعل علیهم خراجاً کثیراً بحیث یتضرّرون فحینئذ لا یجوز أخذ أرضهم من السلطان ، لبطلان جعل الخراج وعدم صدق العجز ، فإذاً إن أراد التقبّل یجب علی المتقبِل إعطاء شیء لهم لترضی نفوسهم علی تحویل الأرض له .

هذا تمام الکلام فی التنبیه السادس والحمد للّه .

السابع : هل یشترط أخذها من الجائر بالاستحقاق ؟

قال المحقق الکرکی : «قد عرفت أنّ الخراج والمقاسمة والزکاة مأخوذة بأمر الجائر أو نائبه حلال تناولها ، فهل تکون حلالاً للآخذ مطلقاً حتی لو لم یکن مستحقّاً للزکاة ولاذا

ص: 426


1- (1) إرشاد الطالب 1/366 و365 .
2- (2) وسائل الشیعة 15/159 ح4 . الباب 72 من أبواب جهاد العدو .

نصیب فی بیت المال حین وجود الإمام علیه السلام ؟ أم إنّما یکون حلالاً بشرط الاستحقاق ، حتّی أنّ غیر مستحق یجب علیه صرف ذلک إلی مستحقیه ؟ إطلاق الأخبار وکلام الأصحاب یقتضی الأوّل ، وتعلیلاتهم بأنّ للآخذ نصیباً فی بیت المال ، وأنّ هذا الحق للّه تعالی یُشعر بالثانی .

وللتوقف فیه مجال ، وإن کان ظاهر کلامهم هو الأوّل ، لأنّ رفع الضرورة لا یکون إلاّ بالحلّ مطلقاً»(1) .

وقال فی جامع المقاصد : «وهل یجوز أخذ الزکاة من الجائر لکلّ أحدٍ وإن کان غنّیاً ؟ ظاهر الأخبار والعبارات الإطلاق »(2) .

وقال ثانی الشهیدین : «ولکن یُشترط هنا (أی فی الزکاة) أن لا یأخذ الجائر زیادةً عن الواجب شرعاً فی مذهبه ، وأن یکون صرفه لها علی وجهها المعتبر عندهم ، بحیث لا یعدّ عندهم غاصباً ، إذ یمتنع الأخذ منه عندهم أیضاً . ویحتمل الجواز مطلقاً نظراً إلی إطلاق النص والفتوی . ویجیء مثله فی المقاسمة والخراج ، لأنّ مصرفهما بیت المال ، وله أرباب مخصوصون عندهم أیضاً»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : «وبعد القول بالجواز (أی جواز أخذ الزکاة والخراج من الجائر) یمکن جواز أخذ الزکاة للفقراء والمستحقین منه لا غیر ، وأنّ الظاهر أنّه یبرأ ذمّة المالک . . .»(4) .

وقال الفاضل النراقی : «ویقتصر فی الأخذ بدون الشراء علی مَن یستحقّه»(5) .

أقول : علی القاعدة الأوّلیة أخذ الزکاة فی غالب مواردها یحتاج إلی الإستحقاق وأخذ الخراج یحتاج إلی المصلحة للمسلمین ، ولکن الإطلاقات الواردة فی حلّ جوائز السلطان

ص: 427


1- (1) قاطعة اللجاج/ 89 المطبوعة ضمن الخراجیات .
2- (2) جامع المقاصد 4/45 .
3- (3) المسالک 3/143 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8/107 .
5- (5) مستند الشیعة 14/204 .

تشمل المقام ، نحو : صحیحة أبی ولاّد(1) وصحیحة أبی المغرا(2) وحسنة أو صحیحة محمد بن مسلم وزرارة(3) وخبر محمد بن هشام أو غیره(4) ، وخبر عمر أخی عذافر(5) وصحیحة محمد بن عیسی(6) .

لأنّ ما یُجمع فی بیت المال فی ذاک الزمان لیس سوی الخراج والمقاسمة والزکاة والجزیة ، وربّما یضاف إلیها بعض الغنائم ونحوها .

وعلی هذا یجوز للآخذ أخذ جوائز الظالم إذا لم یعلم أنّه من أیّ شیءٍ أعطاه ، ومع علمه لو أعطاه من الخراج فلا بأس بأخذه لأنّه للمسلمین ومصالحهم وهو أحدهم ، ولو أعطاه من الزکاة ولم یکن الآخذ من مصارفها الثمانیة ، الحکم بجواز التصرف فیها بهذه الإطلاقات مشکل . نعم یجوز له الأخذ وإیصاله إلی مصرفه الخاص ، واللّه العالم .

فظهر ممّا ذکرنا مواقع النظر فی کلام المحقق النائینی حیث یقول : «فإنّ الزکاة وإن کان لها مصرف خاص ولا تدخل فی مصالح المسلمین إلاّ بعض مصارفها إلاّ أنّ مقتضی النصوص دخولها فی الخراج والمقاسمة حکماً ، وهذا لا إشکال فیه»(7) ، وقال أیضاً : «عدم اختصاص جواز الأخذ بمن کان مستحقّاً له ، أو کان مصرفاً له فإنّ بعض الأخبار وإن کان ظاهره الاختصاص . . . إلاَّ أن ظاهر جملة من الأخبار الإطلاق . . . .»(8) . وتبعه شیخنا الاُستاذ(9) وبعض المعاصرین(10) - مد ظلهما - .

ص: 428


1- (1) وسائل الشیعة 17/213 ح1 . الباب 51 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 17/213 ح2.
3- (3) وسائل الشیعة 17/214 ح5 .
4- (4) وسائل الشیعة 17/214 ح3 .
5- (5) وسائل الشیعة 17/215 ح8 .
6- (6) وسائل الشیعة 17/218 ح16 .
7- (7) منیة الطالب 1/85 .
8- (8) منیة الطالب 1/82 .
9- (9) إرشاد الطالب 1/368 .
10- (10) عمدة المطالب 1/524 .
الثامن : هل یجوز للجائر إقطاع شخص خاص من الأراضی الخراجیة ؟

الأراضی الخراجیة کانت ملکاً للمسلمین وللإمام علیه السلام أن یتصرف فیها بما هو رئیس المسلمین ، یعطیها للغیر ویأخذ منهم الخراج ویصرفه فی مصالح المسلمین وسدّ خلاّتهم . وأمّا الجائر لم یکن ولی الأمر فی زمن الغیبة ولم یکن مأذوناً من قبل الإمام علیه السلام ، فتصرفاته فی الأراضی الخراجیة غیر نافذة . فیحرم علیه التصرف وضعاً وتکلیفاً .

وأجاز الأئمة علیهم السلام تسهیلاً للأمر علی المکلّفین أخذ الخراج والزکاة منه بلا عوض أو مع العوض .

وکذا یظهر من الروایات إجازتهم بشراء الأراضی الخراجیة من أصحابها أو المسلّطین علیها فعلیاً وینتقل إلیه الخراج منهم ، وکذا أخذها من الجائر مع إعطاء الخراج .

تدلّ علی ماذهبنا إلیه عدّة من الروایات :

منها : موثقة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الشراء من أرض الیهود والنصاری ؟ فقال : لیس به بأس ، الحدیث(1) .

ومنها : موثقة أُخری له ولعمر بن حنظلة - عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن ذلک ؟ فقال : لا بأس بشرائها ، فإنّها إذا کانت بمنزلتها فی أیدیهم تؤدی عنها کما یؤدّی عنها(2) .

ومنها : حسنة إبراهیم بن أبی زیاد - الکرخی - قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الشراء من أرض الجزیة ؟ قال : فقال : إشترها ، فإنّ لک من الحق ما هو أکثر من ذلک(3) .

ومنها : خبر أبی بُرْدَة بن رجَا قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : کیف تری فی شراء أرض الخراج ؟ قال : ومن یبیع ذلک ؟! هی أرض المسلمین . قال : قلت : یبیعهاالذی هو فی یده ، قال : ویصنع بخراج المسلمین ماذا ؟ ثم قال : لا بأس ، إشتری حقّه منها ویحول حقّ المسلمین علیه ،

ص: 429


1- (1) وسائل الشیعة 15/156 ح2 . الباب 71 من أبواب جهاد العدو .
2- (2) وسائل الشیعة 15/156 ح3 . الباب 71 من أبواب جهاد العدو .
3- (3) وسائل الشیعة 15/156 ح4 . الباب 71 من أبواب جهاد العدو .

ولعلّه یکون أقوی علیها وأملأ بخراجهم منه(1) .

ولذا قال الشهید الثانی : «ولو أقطع الجائر أرضاً ممّا تقسّم أو تخرّج أو عاوض علیهما ، فهو تسلیط منه علیهما ، فیجوز للمقطَع أو المعاوِض أخذهما من الزارع والمالک کما یجوز إحالته علیه»(2) .

وقد اعترف بجواز التصرف الفقیه العاملی فی مفتاح الکرامة ونسبه فی الظاهر إلی المعظم ، قال قدس سره : «وإنّ من صار فی یده شیء من الخراج أو أقطعه الجائر أرضاً وکان مصلحة للمسلمین کالقاضی والغازی والمشتغل فی طلب العلم لتحصیل الاجتهاد جاز له الاستبداد به من دون کراهیة ، وأمّا مَن سوی ذلک فالأولی له مشارکة بعض إخوانه ، وإن کان مجتهداً مستغنیاً عنه وجب علیه صرفه فی مصالح المسلمین علی الظاهر ، ویصحّ له الاستبداد به عند المعظم علی الظاهر»(3) .

أقول : یتمّ ما ذکرناه من النسبة إذا أرجع الضمیر فی «ویصح له» فی آخر کلامه إلی من «صار فی یده شیء من الخراج أو أقطعه الجائر أرضاً» ولکن إذا أرجع إلی المجتهد - کما هو ظاهر عبارته - فلا یتم ، ولکن حینئذٍ لا وجه لتقییده بالمستغنی ، فتأمل .

التاسع : إذا أخذ الجائر الزکاة فهل یجزی عن المأخوذ منه ؟

بالنسبة إلی الخراج کأنه لا خلاف فی الإجزاء إذا أخذها الجائر ، وإنّما الخلاف وقع بالنسبة إلی الزکاة ، قال المحقق الثانی : «وهل تبرأ ذمّة المالک من إخراج الزکاة مرّة اُخری ؟ یلوح من تجویز الأخذ والتعلیل بکون دفع ذلک حقّاً واجباً علی المالک ، ذلک کما فی الخراج والمقاسمة بلا فرق ، فتعتبر هاهنا النیّة کما یُعتبر فی إخراج مطلق الزکاة . ویُحتمل العدم ، لأنّ الجائر لیس نائب الفقراء ، فتتعذر النیّة ، ولا یصح الإخراج بدونها»(4) .

ص: 430


1- (1) وسائل الشیعة 15/155 ح1 .
2- (2) المسالک 3/143 .
3- (3) مفتاح الکرامة 13/100 .
4- (4) جامع المقاصد 4/45 .

والشهید الثانی نقل الاحتمالین فی کلام الکرکی ثمَّ اختار عدم الإجزاء ، قال : « وهل تبرأ ذمّة المالک من إخراج الزکاة مرةً أُخری ؟ یحتمله کما فی الخراج والمقاسمة ، مع أنّ حقّ الأرض واجب لمستحق مخصوص ، وللتعلیل بکون دفع ذلک حقّاً واجباً علیه وعدمه ، لأنّ الجائر لیس نائب المستحقین فیتعذّر النیّة ، ولا یصح الإخراج بدونها . وعلی الأوّل تُعتبر النیّة عند الدفع إلیه کما تعتبر فی سائر الزکوات . والأقوی عدم الإجتزاء بذلک ، بل غایته سقوط الزکاة عمّا یأخذه إذا لم یفرّط فیه ، ووجوب دفعه إلیه أعمّ من کونه علی وجه الزکاة أو المضی معهم فی أحکامهم والتحرز علی الضرر بمباینتهم »(1) .

ولکن المحقق الأردبیلی مع خلافه مع القوم فی أصل البحث ذهب إلی الإجزاء فی الزکاة ، قال : «وإنّ الظاهر أنّه یبرأ ذمّة المالک . . . . ویؤیده الأخبار »(2) . ثم ذکر روایات الباب .

وقال صاحب الحدائق : «والأظهر فی وجه الجمع ، إنّما هو حمل ما دلّ علی الإجزاء علی عدم التمکن من إنکارها ومنعها وإنّما تؤخذ منه قهراً ، وما دلّ علی العدم علی مَن تمکن من عدم الدفع ودفعها لهم اختیاراً ، کما تدلّ علیه صحیحة العیص المذکورة ، واللّه العالم»(3) .

وقال سید الریاض : «ثم إنّ فی سقوط الزکاة بأخذ الحاکم لها قولین : للأوّل ظواهر الصحاح المستفیضة . . . بل یُستفاد من کثیر من المعتبرة وفیها الصحیح وغیره جواز إحتساب ما یأخذه باسم الخراج مکان الزکاة(4) ، إلاّ أن ظاهر الأصحاب الإطباق علی ردّها ، بل علیه إجماعنا عن المنتهی(5) ، فتکون ، شاذّة ومع ذلک محتملة للتقیة ، فقد حکی القول بمضمونها عن أبی حنیفة(6) .

ص: 431


1- (1) المسالک 3/143 .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8/108 و107 وکذا فی مجمع الفائدة 4/116 حمل صحیحة الشحام علی الإعطاء للجائر اختیاراً .
3- (3) الحدائق 18/260 وراجع أیضاً الحدائق 12/129 .
4- (4) وسائل الشیعة 9/253 ح5 .
5- (5) منتهی المطلب 1/500 من الطبع الحجری (8/210 من الطبعة الحدیثة) .
6- (6) حکاه عنه ابن قدامة فی المغنی 2/587 والمحدث البحرانی فی الحدائق 12/129 .

وللثانی : الأصل والعمومات وخصوص الصحیح . . . ویخصّ الأوّلان بما مرّو یحمل الثالث لقصوره عن مقاومته علی الاستحباب تارة کما عن الشیخ(1) وعلی الإعطاء اختیاراً اُخری کما ذکره جماعة من أصحابنا(2) . وفیهما بُعدٌ ، سیما الثانی جدّاً ، لمکان التعلیل بالظلم ، فالعمل به أحوط»(3) .

وذهب الشیخ جعفر إلی عدم الإجزاء وقال : «والأقوی عدم سقوط حقِّ الزکاة لو أخذها ، لکنّه یحتسب ما بقی بعد أخذها فیزکّی وإن نقص عن النصاب بعده»(4) .

وتبعه تلمیذه السید جواد العاملی وحمل الصحاح الثلاث علی أنّها شاذة أو فیها تقیة ، ثمّ قال : «ویؤیّد صحیحة الشحام الأصل والعموم ، وحملها علی الاستحباب تارة کما عن الشیخ وعلی الإعطاء اختیاراً کما ذکره جماعة بعید جدّاً»(5) .

والفاضل النراقی(6) ذهب إلی عدم الإجزاء مع التمکن من عدم الدفع والإجزاء فی صورة عدم التمکن .

وصاحب الجواهر أیضاً ذهب إلی الإجزاء(7) مطلقاً .

وذهب إلی الإجزاء أیضاً المحقق النائینی حیث یقول : «خروج من اُخذ منه الزکاة والخراج عن عهدة ما یجب علیه إذا لم یتمکّن من دفعه إلی مستحقه وصرفه فی مصالح المسلمین »(8) .

أقول : القائل بعدم الإجزاء هو الشهید الثانی ، وتبعه الشیخ جعفر تلمیذه والسید

ص: 432


1- (1) راجع الاستبصار 2/27 والتهذیب 4/40 ذیل ح13 .
2- (2) کما مرّ عن مجمع الفائدة 4/116 والحدائق 12/129 و18/260 .
3- (3) ریاض المسائل 8/(201 - 199) .
4- (4) شرح القواعد 1/347 .
5- (5) مفتاح الکرامة 11/342 .
6- (6) راجع تفصیل کلامه فی مستند الشیعة 14/205 و204 .
7- (7) الجواهر 22/203 و202 .
8- (8) منیة الطالب 1/82 .

العاملی ، والقائل بالإجزاء هو المحقق الأردبیلی وتبعه أصحاب الحدائق والمستند(1) والجواهر والمنیة .

والکرکی ذکر الاحتمالین فقط من دون اختیار ، وجعل سید الریاض القول بعدم الإجزاء هو الأحوط ، هذا حصیلة الأقوال فی المقام .

وقد سبق عدم جواز إعطائهم اختیاراً ، وأمّا ما أخذوه ظلماً وجوراً من الزکاة تدلّ علی إجزائه عن الزکاة عدّة من الروایات :

منها : صحیحة عیص بن القاسم(2) الماضیة .

ومنها : صحیحة سلیمان بن خالد(3) الماضیة أیضاً .

ومنها : صحیحة عبید اللّه بن علی الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن صدقة المال یأخذه السلطان ؟ فقال : لا آمرک أن تعید(4) .

یُستشم من هذه الصحیحة استحباب الإعادة لا وجوبها .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یأخذ منه هؤلاء زکاة ماله أو خمس غنیمته أو خمس ما یخرج له من المعادن ، أیحسب ذلک له فی زکاته وخمسه ؟ فقال : نعم(5) .

وفی قبال هذه الروایات صحیحة أبی أسامة زید الشحام قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک ، إنّ هؤلاء المصدّقین یأتونا ویأخذون منّا الصدقة فنعطیهم إیّاها أتجزی عنّا ؟

ص: 433


1- (1) قد ذکرنا صاحبی الحدائق والمستند من القائلین بالإجزاء مطلقاً مع أنّهما ذکرا الإجزاء فی صورة عدم التمکن من عدم الدفع إلی الظالم ، وهما یقولان بعدم الإجزاء فی صورة التمکن من عدم الدفع إلی الظالم ، لأنه قد مرّ منّا سابقاً عدم جواز إعطاء الزکاة والخراج والمقاسمة إلی الظالم إذا تمکن من عدم دفعه إلیه ، وحینئذ لو دفعه لم یجزئ عند الکل ، والکلام یقع فی صورة عدم التمکن من عدم الدفع .
2- (2) وسائل الشیعة 9/252 ح3 . الباب 20 من أبواب المستحقین للزکاة .
3- (3) وسائل الشیعة 9/252 ح4 .
4- (4) وسائل الشیعة 9/253 ح5 .
5- (5) وسائل الشیعة 9/254 ح7 .

فقال : لا ، إنّما هؤلاء قوم غصبوکم ، أو قال : ظلموکم أموالکم ، وإنّما الصدقة لأهلها(1) .

حمل هذه الصحیحة علی الإعطاء اختیاراً بعیدٌ ، لوجود کلمة « الغصب » أو « الظلم » الموجودة فیها ، فلا بدّ من حملها علی الاستحباب جمعاً بینها وبین غیرها ، فحینئذ إعادة الزکاة بعد أخذها بتوسط الظالم مستحبة .

فرع آخر یرتبط بالمقام : هل فی الأرض الخراجیة زکاة ؟

بعد ما أخذ السلطان خراج الأرض هل علی الزارع إخراج زکاته إن بلغ إلی حدِّ النصاب سهمه ؟ أم لا ، ویکفی إعطاء الخراج عن الزکاة ؟ .

قال العلامة فی المنتهی : «خراج الأرض یخرج وسطاً ثم یزکّی ما بقی إن بلغ نصاباً ، إذا کان المالک مسلِّماً ، وهو مذهب علمائنا وأکثر الجمهور .

وقال أبو حنیفة : لا زکاة فی الأرض الخراجیة .

لنا : قوله تعالی : «وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَکُمْ مِنْ الاْءَرْضِ»(2) .

وما رواه الجمهور عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : فیما سقت السماء العشر(3) . وذلک عام - ثم ذکر الروایتین من طریقنا - وقال : ولأنّهما حقّان مختلفان لمستحقّین متغایرین یجوز وجوب کلّ واحد منهما علی المسلم ، فجاز اجتماعهما کالکفارة والقیمة فی الصید المملوک . . .»(4) .

هذه المسألة هی التی تعرض لها ولکلام العلامة فیها صاحبا الریاض(5) والمفتاح(6) ، وتدلّ علی لزوم إخراج الزکاة بعد إعطاء الخراج إن بلغ نصیبه إلی النصاب عدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی بصیر ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قالا له : هذه الأرض التی یزارع أهلها ما تری فیها ؟ فقال : کلّ أرض دفعها إلیک السلطان فما حرثته فیها فعلیک ممّا

ص: 434


1- (1) وسائل الشیعة 9/253 ح6 .
2- (2) سورة البقرة/ 267 .
3- (3) صحیح البخاری 2/155 ، سنن أبی داود 2/108 ح1596 وغیرهما .
4- (4) منتهی المطلب 8 / (213 - 210) .
5- (5) ریاض المسائل 8/200 .
6- (6) مفتاح الکرامة 11/342 .

أخرج اللّه منها الذی قاطعک علیه ، ولیس علی جمیع ما أخرج اللّه منها العشر ، إنّما علیک العشر فیما یحصل فی یدک بعد مقاسمته لک(1) .

ومنها : خبر صفوان بن یحیی وأحمد بن محمد بن أبی نصر قالا : ذکرنا له الکوفة وما وضع علیها من الخراج وما سار فیها أهل بیته ، فقال فی حدیث : وعلی المتقبّلین سوی قبالة الأرض العشر ونصف العشر فی حصصهم . . . ، الحدیث(2) .

ومنها : صحیحة البزنطی - فی حدیث - قال : ذکرت لأبی الحسن الرضا علیه السلام الخراج وما سار به أهل بیته ، فقال : ما اُخذ بالسیف فذلک إلی الإمام یقبّله بالذی یری ، وقد قبّل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم خیبر ، وعلیهم فی حصصهم العشر ونصف العشر(3) .

«واو» العاطفة تدلّ علی أنّ بعد وجه قبالة الأرض ، لابدّ للزارع من إخراج العشر ونصف العشر وهی الزکاة ، والعطف علامة التعدد والتغایر .

وفی قبال هذه الروایات عدّة اُخری منها تدلّ علی کفایة إخراج الخراج عن الزکاة :

منها : صحیحة محمد بن مسلم قال : سألته عن الرجل یتکاری الأرض من السلطان بالثلث أو النصف ، هل علیه فی حصّته زکاة ؟ قال : لا ، الحدیث(4) .

ومنها : صحیحة رفاعة بن موسی(5) .

ومنها : خبر أبی کَهْمَس(6) .

ومنها : خبر سهل بن الیسع(7) . الماضیات .

ومنها : مرسلة عبد اللّه بن بکیر عن أحدهما قال فی زکاة الأرض : إذا قبّلها النبی أو

ص: 435


1- (1) وسائل الشیعة 9/188 ح1 ، الباب 7 من أبواب زکاة الغلاّت .
2- (2) وسائل الشیعة 9/188 ح2 - 15/157 ح1 .
3- (3) وسائل الشیعة 9/189 ح3 - 15/158 ح2 .
4- (4) وسائل الشیعة 9/190 ح5 .
5- (5) وسائل الشیعة 9/193 ح2 . الباب 10 من أبواب زکاة الغلات .
6- (6) وسائل الشیعة 9/193 ح3 .
7- (7) وسائل الشیعة 9/192 ح1 .

الإمام بالنصف أو الثلث أو الربع فزکاتها علیها ، ولیس علی المتقبّل زکاة إلاّ أن یشترط صاحب الأرض أنّ الزکاة علی المتقبّل ، فإن اشترط فإنّ الزکاة علیهم ولیس علی أهل الأرض الیوم زکاة إلاّ علی من کان فی یده شیء ممّا أقطعه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

وهذه الطائفة الأخیرة أعرض عنها الأصحاب ، لما قد عرفت من العلاّمة قدس سره أنّ الإخراج للزکاة بعد الخراج إن بلغ إلی حد النصاب «هو مذهب علمائنا»(2) وإعراضهم یوجب الوهن فیها .

ویمکن حملها علی أنه لم یجب علیه الزکاة فی جمیع ما خرج من الأرض ، وإن کان یلزمه زکاة ما یحصل فی یده بعد الخراج إن بلغ حدّ النصاب ، کما حملها الشیخ هکذا فی التهذیب(3) والعلاّمة فی المنتهی(4) .

ویمکن حملها علی عدم بلوغ الباقی فی یده إلی حدّ النصاب ، کما قاله الشیخ الحر العاملی(5) .

وأمّا ما ورد فی ذیل الخبر الأخیر من قوله علیه السلام : «ولیس علی أهل الأرض الیوم زکاة» ، حملها الشیخ فی التهذیب علی أنّ الإمام علیه السلام «رخّص الیوم لمن وجبت علیه الزکاة وأخذ منه السلطان الجائر أن یحتسب به من الزکاة وإن کان الأفضل إخراجه ثانیاً»(6) . وإلاّ فلا یمکن الأخذ به لمخالفته مع الکتاب بالتباین ، ویلزم منه تعطیل حکم الزکاة الذی لم یتفوه به أحدٌ ، واللّه العالم .

العاشر : مَن الوالی علی الخراج فی عصر الغیبة ؟

الولایة علی الأراضی الخراجیة فی زمن الحضور للإمام صلی الله علیه و آله وسلم بلا کلام ، وفی عصر

ص: 436


1- (1) وسائل الشیعة 9/189 ح4 .
2- (2) منتهی المطلب 8/210.
3- (3) التهذیب 4/39 ذیل ح9 .
4- (4) منتهی المطلب 8/213 .
5- (5) وسائل الشیعة 9/190 .
6- (6) التهذیب 4/39 .

الغیبة للفقیه الجامع لشرائط الإفتاء إن کان متمکناً وله بسط یدٍ ، ولذا قال المحقق السبزواری : « وإذا تمکن الحاکم الشرعی من التصرف فیه فالظاهر جواز ذلک له ، والأحوط أن یستأذن الحاکم الشرعی فیما یعطیه الجائر إنّ تمکّن من ذلک »(1) .

وقال قبله المحقق الکرکی فی رسالته قاطعة اللجاج : «فإن قلت : فهل یجوز أن یتولّی من له النیابة حال الغیبة ذلک ، أعنی الفقیه الجامع للشرائط ؟

قلنا : لا نعرف للأصحاب فی ذلک تصریحاً ، ولکن مَن جوّز للفقهاء - فی حال الغیبة - تولّی استیفاء الحدود وغیر ذلک من توابع منصب الإمامة ینبغی تجویزه لهذا بطریق اُولی ، لأنّ هذا أقلّ خطراً ، لا سیّما والمستحقّون لذلک موجودون فی کلّ عصر ، إذ لیس هذا الحقّ مقصوراً علی الغزاة والمجاهدین کما یأتی ، ومن تأمّل فی کثیر من أحوال الکبراء من علمائنا السالفین مثل السید الشریف علم الهدی ، وأعلم المحققین من المتقدمین والمتأخرین نصیر الحقّ والدین الطوسی ، وبحر العلوم مفتی العراق جمال الملّة والدین الحسن بن مطهر وغیرهم - رضوان اللّه علیهم - نظر متأمِّلٍ منصفٍ لم یعترضه الشک فی أنّهم کانوا یسلکون هذا المنهج ویفتحون هذا السبیل ، وما کانوا لیودعوا بطون کتبهم إلاّ ما یعتقدون صحته»(2) .

وأیَّد صاحب الجواهر کلامه وقال : «قلت : قد عرفتَ أنّه لا ینبغی الشک فی الحکم المزبور ، فله حینئذ تسلیم الخراج له إذا لم تکن تقیّة تنافیه ، بل الظاهر تعمیمه لعدم ثبوت الإذن فی التسلیم للجائر فی هذا الحال . . .»(3) .

أقول : یظهر أنّ الولایة علی الخراج فی عصر الغیبة للفقیه ، والعجب من الشیخ جعفر حیث یقول : « . . . ومع عدم السلطان الجائر فالمرجع إلی الفقیه المأمون فیما یتعلّق بأمور المسلمین ، والقول بجواز أخذ الجمیع للمؤمنین فیما یکتسبونه بزراعتهم عند عدم تسلّط الجائر

ص: 437


1- (1) الکفایة 1/394 .
2- (2) قاطعة اللجاج/ 74 المطبوعة ضمن الخراجیات .
3- (3) الجواهر 22/196 .

هو الأقوی . . . لظاهر الأخبار»(1) .

وکذا قال فیه : « وأمّا مع غیبة الإمام العادل وفقد سلطان الجور أو ضعفه عن التسلط - فلم یبق له سوی اسم إکتسبه بالنسب کسلطان الهند - فالرجوع إلی النائب العام من علماء آل محمد علیهم السلام ویلزم تسلیم الخراج إلیهم علی الترتیب المذکور ، ومع فقد الجمیع فللمسلمین أن یتصرفوا فی الأرض . . . »(2) .

وقد علّق علیه تلمیذه صاحب الجواهر بقوله : «وظاهره ترتب ولایة الفقیه علی عدم السلطان الجائر ، کما أنّ ظاهره سقوط الخراج عن المؤمنین حینئذ ، وفیهما معاً منع واضح ، وإن کان ربّما یشهد للثانی فی الجملة نصوص التحلیل(3) ، وما ورد أیضاً(4) من أنّ الأرض کلّها لنا وأنّه قد أبحنا ذلک لشیعتنا إلی ظهور قائمنا ، فیأخذ طَسْقها من الشیعة ویترکها فی أیدیهم ، کما أنّه یأخذ الأرض جمیعاً من أیدی أعدائهم . إلاّ أنّ ذلک مطّرح عند الأصحاب بالنسبة إلی ذلک ، وربّما کان المراد منها خصوص الموات الذی هو لهم من الأنفال أو غیر ذلک دون الأراضی الخراجیة التی للمسلمین ، فإنّ خراجها غیر ساقط عمّن انتفع بها ، ولذا جاز تناوله من ید الجائر ، فإن قضت التقیة بتسلیمه للجائر دفعه إلیه وبرئت ذمّته وإلاّ دفعه إلی حاکم الشرع صرفه فی مصارفه . ودعوی عدم الولایة لحاکم الشرع مع السلطان الجائر - وإن لم تقض التقیة بالدفع إلیه - واضحة المنع کما عرفته فیما تقدّم ، مضافاً إلی أنّه لا شک فی أنّ للإمام حال قصور یده ذلک ، کما صُرّح به فی بعض النصوص ، وکلّما کان له صار لنائبه المنصوب من

ص: 438


1- (1) شرح القواعد 1/346 .
2- (2) شرح القواعد 2/201 .
3- (3) وسائل الشیعة 9/ 543 . الباب 4 من أبواب الأنفال .
4- (4) الکافی 1/407 ح1 معتبرة أبی خالد الکابلی ، وهی مرویة مکررة فی الکافی 5/279 ح5 أیضاً ونقل عنه فی وسائل الشیعة 25/414 ح2 ، والروایة تدلّ علی لزوم الخراج فی عصر الغیبة ، ولکن تدل علی التحلیل صحیحة عمر بن یزید المرویة فی الکافی 1/408 ح3 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 9/548 ح12 .

قبله»(1) .

وما ذکره صاحب الجواهر تام عندنا فی الجملة .

الحادی عشر : شرائط الأراضی الخراجیة
اشارة

إنما ثبتت الأراضی الخراجیة باُمور ثلاثة :

الأوّل : أن تکون الأرض مفتوحة عنوة أو صُلحاً علی أن تکون الأرض للمسلمین أو من الأنفال
اشارة

(2)

وهذه العناوین للأرض تثبت بالعلم والبیّنة ولو کانت من قبیل الشهادة علی الشهادة والشیاع الموجب للعلم ، ویمکن أن یلحق به الشیاع المفید للظنّ المتآخم للعلم المعبَّر عنه بالإطمئنان ، بناءً علی کفایة الأخیر فی کلّ ما یعسر إقامة البیّنة علیه کالنسب والوقف والملک المطلق ونحوها ، أو علی القول بحجیته مطلقاً ، لأنّه علمٌ عادیٌّ . وأمّا ثبوتها بخبر العدل الواحد أو غیره من الأمارات الظنیة حتّی قول من یوثق به من المؤرّخین فمحلّ منع ، والأصل عدم الفتح عَنْوة وعدم تملّک المسلمین .

نعم ، الأصل عدم تملّک غیرهم أیضاً ، وبذلک یدخل فی الأنفال ، وقد ألحقناها بالأراضی الخراجیة فی الحکم ، ویأتی بحث الخراج فیه .

وأمّا ثبوت الفتح عنوة بالسیرة وحمل فعل الجائر علی الصحة أیضاً لا یتم ، لأن المراد بها إن کانت سیرة الظالمین فلا یفید شیئاً ، لأنّهم لا یقیدون بالشریعة ، وإن کانت سیرة الفقهاء علی معاملة جملة من الأراضی الخراجیة فی الجملة وإن کانت صحیحة ولکن لا تفید شیئاً ، لأنّها ثبتت فی الجملة ، مع أنّ إثبات الصغری حینئذٍ مشکلٌ جدّاً .

وحمل فعل الجائر علی الصحة أیضاً لا یتم ، لأنّ أصالة الصحة تجری فی حق الغیر إذا کان الفاعل یحتمل فی حقّه الصحة ، ولکن هذا الاحتمال فی حقِّ الجائرین منفیٌ کما هو واضح .

ص: 439


1- (1) الجواهر 22/197 .
2- (2) علی المختار فی الأخیر کما مرّ فی التنبیه الثالث من هذه التنبیهات .

ثم یقع الکلام فی صغری البحث ، وهی تعیین الأراضی التی فتحت عَنْوة من غیرها :

قال الشیخ : «ظاهر المذهب أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم فتح مکة عَنْوة بالسیف ثم أمنّهم بعد ذلک ، وإنّما لم یقسّم الأرضین والدور لأنّها لجمیع المسلمین کما نقوله فی کلِّ ما یُفتح عنوة إذا لم یمکن نقله إلی بلد الإسلام ، فإنّه یکون للمسلمین قاطبة ، ومَنَّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم علی رجال من المشرکین فأطلقهم ، وعندنا أنّ للإمام أن یفعل ذلک وکذلک أموالهم مَنَّ علیهم لما رآه من المصلحة .

وأمّا أرض السواد فهی الأرض المغنومة من الفرس التی فتحها عمر ، وهی سواد العراق ، فلمّا فتحت بعث عمار بن یاسر أمیراً وابن مسعود قاضیاً ووالیاً علی بیت المال وعثمان بن حنیف ماسحاً ، فمسح عثمان الأرض واختلفوا فی مبلغها ، فقال البیاجی : إثنان وثلاثون ألف ألف جریب ، وقال أبوعبیدة : ستة وثلاثون ألف ألف جریب ، وهی ما بین عبّادان والموصل طولاً وبین القادسیة وحلوان عرضاً ، ثمّ ضرب علی کلِّ جریب نخل ثمانیة دراهم والرطبة ستة والشجر کذلک والحنطة أربعة والشعیر درهمین ، وکتب إلی عمر فأمضاه .

وروی أن ارتفاعها کان من عهد عمر مائة وستین ألف ألف درهم فلمّا کان فی زمن الحجاج رجع إلی ثمانیة عشر ألف ألف درهم ، فلمّا ولّی عمر بن عبد العزیز رجع إلی ثلاثین ألف ألف درهم فی أوّل سنة وفی الثانیة بلغ إلی ستین ألف ألف ، فقال : لو عشت سنة أُخری لرددّتُها إلی ما کان فی أیّام عمر فمات تلک السنة . وکذلک أمیر المؤمنین علیه السلام لما أفضی الأمر إلیه أمضی ذلک لأنّه لم یمکنه أن یخالف ویحکم بما یجب عنده فیه .

والذی یقتضیه المذهب أنّ هذه الأراضی وغیرها من البلاد التی فتحت عنوة أن یکون خمسها لأهل الخمس ، فأربعة أخماسها یکون للمسلمین قاطبةً للغانمین وغیر الغانمین فی ذلک سواء ، ویکون للإمام النظر فیها وتقبیلها وتضمینها بما شاء ، ویأخذ ارتفاعها ویصرفه فی مصالح المسلمین وما ینوبهم مِن سدّ الثغور ومعونة المجاهدین وبناء القناطر وغیر ذلک من المصالح . ولیس للغانمین فی هذه الأرضین خصوصاً شیء ، بل هم والمسلمون فیه سواء .

ولا یصحّ بیع شیء من هذه الأرضین ولا هبته ولا معاوضته ولا تملیکه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجارته ولا إرثه ، ولا یصحّ أن یبنی دوراً ومنازل ومساجد وسقایات ، ولا غیر ذلک من أنواع التصرف الذی یتبّع الملک ، ومتی فعل شیء من ذلک کان التصرف باطلاً ، وهو باقٍ

ص: 440

علی الأصل .

وعلی الروایة التی رواها أصحابنا : أنّ کلّ عسکر أو فرقة غزت بغیر أمر الإمام فغنمت یکون الغنیمة للإمام خاصةً ، هذه الأرضون وغیرها ممّا فتحت بعد الرسول ، إلاّ ما فتح فی أیام أمیر المؤمنین إن صحّ شیء من ذلک یکون للإمام خاصةً ، ویکون من جملة الأنفال التی له خاصّة لا یشرکه فیها غیره»(1) .

وقال فی الخلاف : «مکة فتحت عَنْوة بالسیف ، وبه قال الأوزاعی وأبو حنیفة وأصحابه ومالک . وقال الشافعی : أنّها فتحت صلحاً وبه قال مجاهد . دلیلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم ، . . . ومن قرأ السیر والأخبار وکیفیة دخول النبی صلی الله علیه و آله وسلم مکة علم أنّ الأمر علی ما قلناه . . .»(2) .

قال العلامة فی التذکرة : «وأمّا أرض مکّة : فالظاهر من المذهب أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم فتحها بالسیف ثم آمنهم بعد ذلک ، وبه قال أبوحنیفة ومالک والأوزاعی . . . وقال الشافعی : إنّه صلی الله علیه و آله وسلم فتحها صُلحاً بأمانٍ قدّمه لهم قبل دخوله ، وهو منقول عن أبی سلمة بن عبد الرحمن المجاهد .

وأمّا أرض السواد - وهی الأرض المغنومة من الفُرس التی فتحها عمر بن الخطاب - وهی سواد العراق وحدّها فی العرض من منقطع الجبال بحلوان إلی طرف القادسیة المتصل بعُذیب من أرض العرب ، ومن تخوم الموصل طولاً إلی ساحل البحر ببلاد عبّادان من شرقی دجلة ، فأمّا الغربی الذی تلیه البصرة إنّما هو إسلامی مثل شط عثمان بن أبی العاص وما والاها کانت سباخاً ومواتاً فأحیاها عثمان بن أبی العاص ، وسمّیت سواداً لأنّ الجیش لمّا خرجوا من البادیة رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سمّوها السواد لذلک ، ولمّا فتحها عمر بعث عمار بن یاسر علی صلاتهم أمیراً ، وابن مسعود قاضیاً ، والیاً علی بیت المال ، وعثمان بن حُنیف علی مساحة الأرض ، وفرض للثلاثة فی کلِّ یوم شاة شطرها مع السواقط(3) لعمار وشطرها

ص: 441


1- (1) المبسوط 2/34 و33 .
2- (2) الخلاف 5/527 مسألة 13 .
3- (3) المراد بالسواقط هو مثل الکبد والکرش والأمعاء .

للآخرَیْن وقال : ما أری قریة تؤخذ منها کلّ یوم شاة إلاّ سریع فی خرابها - ثم تعرَّض لکلام الشیخ - »(1) .

وذکر العلامة فی المنتهی(2) والتحریر(3) نحو ما ذکره فی التذکرة .

وقال ثانی الشهیدین : «ویثبت کونها مفتوحة عَنْوة بنقل من یوثق بنقله واشتهاره بین المؤرّخین ، وقد عدّوا من ذلک مکّة المشرفة وسواد العراق وبلاد خراسان والشام . . .»(4) .

وقال : «إنّ أکثر بلاد الإسلام فُتحت عنوةً»(5) .

وتبعه فی هذه الأکثریة الفیض الکاشانی فی المفاتیح 3/21 والشیخ جعفر فی شرح القواعد 2/198 .

وقال المحقق السبزواری : «الظاهر أنّ أرض السواد مفتوحةٌ عنوةً وأنّها خراجیة للمسلمین ، کما یُستفاد من الکتب والتواریخ المعتبرة ، ویُستفاد منها استثناء شیء یسیر منها کالحیرة(6) . . . والظن قد یحصل بالتواریخ المعتبرة إذا کان صاحب الکتاب اشتهر بصحة النقل واشتهر الاعتماد علی کتابه والعمل بقوله بین الناس کابن جریر الطبری وصاحب المغازی و(7) الواقدی والبلاذری والمدائنی وابن الأثیر والمسعودی وأضرابهم ، وقد یحصل باستمرار أخذ السلاطین الخراج منه وأخذ المسلمین من السلاطین . . .»(8) .

وقال صاحب الحدائق : «نقل بعض فضلائنا عن بعض کتب التواریخ قال : وکأنّه من الکتب المعتبرة فی هذا الفن ، أنّ الحیرة وهی من قری العراق تقرب الکوفة فتحت صلحاً ، وأنّ

ص: 442


1- (1) تذکرة الفقهاء 9/189 - 188 .
2- (2) منتهی المطلب 2/937 من الطبع الحجری [14 / 266 من الطبعة الحدیثة] .
3- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 2/173 و172 .
4- (4) المسالک 3/54 .
5- (5) الروضة البهیة 7/136 کتاب إحیاء الموات .
6- (6) الکفایة 1/388 .
7- (7) فی المطبوعة «واو» موجودة ولکنها زائدة لأن صاحب المغازی هو الواقدی .
8- (8) الکفایة 1/390 .

نیسابور من بلاد خراسان فتحت صلحاً ، وقیل : عنوة ، وبلخ وهرات منها ، وقوشج والتوابع فتحت صلحاً ، وبعض آخر فتح صلحاً ، وبعض عنوة . وبالجملة فإنّ بلاد خراسان مختلفة فی کیفیة الفتح . وأمّا بلاد الشام ونواحیها فحکی أنّ حلب وحمی وحمص وطرابلس فتحت صلحاً ، وأنّ دمشق فتحت بالدخول من بعض الأبواب غفلةً بعد أن کانوا طلبوا الصلح ، وأنّ أهل طبرستان صالحوا أهل الإسلام ، وإنّ آذربیجان فتحت صلحاً ، وأنّ أهل أصفهان عقدوا أماناً ، والری فتحت عنوة »(1) .

أقول : وفی هذا المجال راجع إلی شرح القواعد 2/(198 و197) للشیخ جعفر والجواهر 21/167 و166 من کتاب الجهاد .

وبعض الروایات تدلّ علی أنّ مکة وسواد العراق فتحت عنوة :

منها : خبر صفوان بن یحیی والبزنطی عن الرضا علیه السلام قال فی حدیث : وإنّ مکة دخلها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عنوة وکانوا اُسراء فأعتقهم وقال صلی الله علیه و آله وسلم : إذهبوا فأنتم الطلقاء(2) .

ومنها : صحیحة الحلبی قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن السواد ما منزلته ؟ فقال : هو لجمیع المسلمین ، لمن هو الیوم ولمن یدخل فی الإسلام بعد الیوم ولمَنْ لم یخلق بعد ، الحدیث(3) .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا تشتر من أرض السواد شیئاً إلاّ من کانت له ذمّة ، فإنّما هو فیء للمسلمین(4) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عمّا أختلف فیه ابن أبی لیلی وابن شبرمة فی السواد وأرضه ، فقلت : إنّ ابن أبی لیلی قال : إنّهم إذا أسلموا أحرار وما فی أیدیهم من أرضهم لهم ، وأمّا ابن شبرمة فزعم أنّهم عبید وأنّ أرضهم التی بأیدیهم لیست لهم ، فقال فی الأرض ما قال ابن شبرمة وقال فی الرجال ما قال ابن أبی لیلی

ص: 443


1- (1) الحدائق 18/310 و309 .
2- (2) وسائل الشیعة 9/182 ح1 . الباب 4 من أبواب زکاة الغلات .
3- (3) وسائل الشیعة 17/369 ح4 . الباب 21 من أبواب عقد البیع .
4- (4) وسائل الشیعة 17/369 ح5 .

إنّهم إذا أسلموا فهم أحرار ، ومع هذا کلام لم أحفظه(1) .

فظهر ممّا ذکرنا من کلمات الفقهاء ونصوص الروایات أنّ أرض مکة وسواد العراق فتحت عَنْوة بلا شکٍ وریب ، وقال المحقق النائینی : «وأمّا بلاد إیران فالری ونهاوند فتحت عنوة ، وأمّا باقی الأمصار فالتواریخ مختلفة فیها ، سیّما أصفهان وخراسان وآذربایجان ، وأمّا بلاد الشام ونواحیه فکذلک»(2) .

والحاصل ، کل أرض ظهر أنّها مفتوحة عنوة أو مفتوحة صلحاً علی أن تکون الأرض للمسلمین أو الأنفال یجوز علی مسلکنا جعل الخراج علیه شرعاً ولکن دون إثباتها فی الأوّلین خرط القتاد .

الثانی : أن یکون الفتح بإذن الإمام علیه السلام
اشارة

قد مرّ کلام الشیخ فی المبسوط حیث قال : «وعلی الروایة التی رواها أصحابنا أنّ کلّ عسکر أو فرقة غزت بغیر أمر الإمام فغنمت یکون الغنیمة للإمام خاصةً ، هذه الأرضون وغیرها ممّا فتحت بعد الرسول إلاّ ما فتح فی أیام أمیر المؤمنین علیه السلام - إن صح شیء من ذلک - یکون للإمام خاصةً ، ویکون من جملة الأنفال التی له خاصة لا یشرکه فیها غیره»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « علی أنّه قد اشترط فی المشهور عند أصحابنا بل کاد أن یکون إجماعاً فی المفتوحة عنوة کون الفتح بإذن الإمام علیه السلام حتّی یکون غنیمة واشترک فیه المسلمون کلّهم ولا یکون للإمام خاصةً »(4) .

أقول : الروایة التی أشار إلیها شیخ الطائفة هی مرسلة عباس الوراق عن رجل سمّاه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا غزا قوم بغیر إذن الإمام فغنموا کانت الغنیمة کلّها للإمام ، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا کان للإمام الخمس(5) .

ص: 444


1- (1) وسائل الشیعة 25/417 ح3 . الباب 4 من أبواب إحیاء الموات .
2- (2) منیة الطالب 1/80 .
3- (3) المبسوط 2/34 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 7/473 .
5- (5) وسائل الشیعة 9/529 ح16 . الباب 1 من أبواب الأنفال .

دلالة الروایة تامة ، ولکن سندها ضعیف بالحسن بن أحمد بن یسار أو بشار وهو مهمل ، مضافاً إلی إرسالها . ولکن الأصحاب أفتوا بها ، والشهرة جابرة لضعف سندها .

وتدلّ علیه أیضاً صحیحة معاویة بن وهب قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : السریة یبعثها الإمام فیصیبون غنائم ، کیف یقسّم ؟ قال : إن قاتلوا علیها مع أمیر أمّره الإمام علیهم أخرج منها الخمس للّه وللرسول وقسّم بینهم أربعة(1) أخماس ، وإن لم یکونوا قاتلوا علیها المشرکین کان کلّ ما غنموا للإمام یجعله حیث أحبّ(2) .

سندها تام ودلالتها أیضاً کذلک ، لأنّ المراد بالفقرة الثانیة بقرینة الفقرة الأولی هو : وإن لم یکونوا قاتلوا مع أمیر أمّره الإمام علیهم قاتلوا علیها المشرکین - الخ ، فالصحیحة أیضاً تدلّ علی الحکم .

والعجب من المحقق الإیروانی حیث استشکل فی دلالة الصحیحة بقوله : «فلا تخلو عن إجمال ، فإنّ فقرة الذیل لا إشکال فی أنّها تصریح بمفهوم فقرة الصدر ، وحینئذ فالأمر یدور بین أن لا یکون قید (مع أمیر أمّره الإمام) فی الصدر احترازیاً ، فتکون فقرة المفهوم محفوظة عن التصرف ، فلا تجد ما ینافی المقام ، وبین العکس بحفظ فقرة الصدر والتصرف فی فقرة الذیل بالتقدیر وحذف قید (مع أمیر أمّر الإمام) ، وحیث لا ترجیح لأحد التصرفین تخرج الحسنة عن قابلیة الاستدلال»(3) .

وفیه : إن لم تکن قید (مع أمیر أمّره الإمام) احترازیاً یصیر معنی الفقرة الثانیة عدم القتال للمشرکین ، ومع فرض عدم القتال فکیف غنموا ، وهذه القرینة القطعیة تدلّ علی احترازیة القید وترجیح المعنی الثانی فی کلامه ، وهو الذی مرّ منا فی دلالة الصحیحة .

وعلی هذا یلزم فی کون الأرض مفتوحة عَنْوة من ثبوت إذن الإمام علیه السلام ، ومن المعلوم أنّ الإذن غیر الرضی ، وما هو المعتبر فی المعاملات بالمعنی العام هو الإذن لا الرضی ، وقد تمسّکوا لإثبات إذن الإمام بعدّة من الوجوه :

ص: 445


1- (1) هکذا فی الکافی 5/43 ح1 ، ولکن نقل عنه فی الوسائل « ثلاثة » ومن الواضح أنّها غلط أو تصحیف .
2- (2) وسائل الشیعة 9/524 ح3 .
3- (3) حاشیة المکاسب 1/370 .
منها : خبر جابر الجعفی

المروی فی الخصال عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث طویل عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : یا أخا الیهود فإنّ القائم بعد صاحبه کان یشاورنی فی موارد الأمور فیصدرها عن أمری ویناظرنی فی غوامضها فیمضیها عن رأی ، لا أعلم أحداً ولا یعلمه أصحابی یناظره فی ذلک غیری ، الحدیث(1) .

قال الشیخ الأعظم فی دلالة الروایة وسندها : «الظاهر أنّ عموم الاُمور إضافی بالنسبة الی ما لا یقدح فی رئاسته ممّا یتعلق بالسیاسیة ، ولا یخفی أنّ الخروج إلی الکفار ودعاءَهم إلی الإسلام من أعظم تلک الأمور بل لا أعظم منه .

وفی سند الروایة جماعة تخرجها عن حدّ الاعتبار ، إلا أنّ اعتماد القمیین علیها وروایتهم لها - مع ما عُرف من حالهم لمن تتبّعها - مِنْ أنّهم لا یخرّجون فی کتبهم روایة راویها ضعف إلا بعد احتفافها بما یوجب الاعتماد علیها ، جابر لضعفها فی الجملة»(2) .

وفیه : المشورة فی بعض الأمور غیر الإستئذان . نعم قد شاور أمیر المؤمنین علیه السلام فی خروجه مع المقاتلین وعدمه وأمره علیه السلام ببقائه فی المدینة لجهات وقبل قوله علیه السلام ولکن أین هذا من الإذن فی الحرب ، بل هذه المشورة لا تثبت حتّی رضاه علیه السلام . هذا کلّه بالنسبة إلی الدلالة ، وأمّا السند فضعیف بعدّة من الضعاف ، کما اعترف بذلک الشیخ الأعظم ، ولکن نقل القمیین الروایة لا یوجب الاعتماد علیها وإلاّ کانت جمیع روایات الصدوق وأبیه وعلی بن إبراهیم وأبیه وغیرهم منهم معتبرة ولم یقل به أحدٌ . نعم قد ذکرنا فی أبحاثنا الرجالیة أنّ اعتماد القمیین علی الراوی مع کونهم فی أمر الروایة شدیدی الإنکار یدخله فی الحسن الإصطلاحی لو لم یدل علی وثاقته ، وهم أمثال أحمد بن محمد بن عیسی الذی أخرج جماعةً من قم لروایتهم عن الضعفاء واعتمادهم علی المراسیل کأحمد بن محمد بن خالد البرقی ، ومحمد بن الحسن ابن الولید(3) وکان یستثنی من روایات محمد بن أحمد بن یحیی الأشعری عن جماعة ، وغیرهم .

ص: 446


1- (1) الخصال 2/374 ح58 .
2- (2) المکاسب 2/245 .
3- (3) عطف علی أحمد بن محمّد بن عیسی .

مضافاً إلی أنّ هذا الوجه ، لو تم - ولم یتم - یجری بالنسبة إلی الفتوحات التی وقعت فی زمن الثانی فقط لا غیرها .

ومنها : ما هو المشهور من حضور الإمام أبی محمد الحسن علیه السلام فی بعض الغزوات .

بل ورد فی تاریخ الطبری(1) والکامل(2) من حضور الحسنین علیهماالسلام ، وما ورد من دخول بعض خواص أمیر المؤمنین علیه السلام من الصحابة کسلمان وعمار بن یاسر فی أمرهم ، ومن المعلوم أنّهما لایعملان شیئاً إلاّ بعد الاستئذان من إمامهما .

وفیه : نعم ، قد ورد فی بعض التواریخ حضور الإمام الحسن علیه السلام فی إیران أو الحسنین علیهماالسلام ، ولکن ما ذکره أرباب التواریخ لا یوجب إلاّ ظنّاً والظن لا یغنی من الحقِّ شیئاً ولم یدل دلیل علی اعتباره . وعلی فرض ثبوت ورود الحسنین علیهماالسلام بإیران لعلّ ورودهما وحضورهما فی الحرب کان لرعایة التقیة کما ذکره شیخنا الأستاذ(3) - مد ظله - أو أنّهما کانا مضطرین أو مجبورین للحضور ، کما ثبت ذلک بالنسبة إلی أخیهما عبید اللّه بن علی بن أبی طالب وهو ابن النهشلیة قد خرج فی جیش مصعب بن الزبیر لأجل مقاتلة مختار بن أبی عبید الثقفی فی المذار وقتل هناک وقبره مزار . ولکن مصعب قدّمه لأنْ یحارب المختار وبعد قتله یشنع علی المختار ویقول قتل ابن إمامه ، کما کتبتُ تفصیل ذلک قبل خمس عشرة سنة فی کتابی «یوم الطف»(4) فراجعه إن شئت .

وأمّا دخول سلمان وعمار فی أمرهم کان بإذن أمیر المؤمنین علیه السلام قطعاً ، وقد ورد استئذانهما عنه علیه السلام . ولکن الفرق بین الدخول فی أمرهم بعد الفتح لأجل إدارة الأمور وغیرها ، وبین أن یکون الفتح بإذن الإمام علیه السلام واضح ، ولایثبت أحدهما الآخر .

ومنها : العلم بشاهد الحال برضی أمیر المؤمنین علیه السلام .

ص: 447


1- (1) تاریخ الطبری 3/323 .
2- (2) الکامل فی التاریخ 3/109 .
3- (3) إرشاد الطالب 1/379 .
4- (4) یوم الطف/ 184 وما بعدها .

بالفتوحات الإسلامیة الموجبة لتأیید هذا الدین کما ذکره الشیخ الأعظم(1) ، وأنّ الأئمة علیهم السلام راضون بالفتوحات الواقعة فی زمن خلفاء الجور لکونها موجبة لقوة الإسلام وعظمته .

وقد ورد فی خبر أبی عمرو الزبیری عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث طویل أنّه قال : إنّ اللّه ینصر هذا الدین بأقوام لاخلاق لهم ، فلیتق اللّه عز وجل أمرؤ ولیحذر أن یکون منهم ، الحدیث(2) .

وفی صحیحة یونس بن یعقوب عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه کتب إلیه بعض أصحابه یسأله أن یدعو اللّه أن یجعله ممّن ینتصر به لدینه ، فأجابه وکتب فی أسفل کتابه : یرحمک اللّه ، إنّما ینتصر اللّه لدینه بشرّ خلقه(3) .

وقد ورد فی روایات العامة : إنّ اللّه یؤید هذا الدین بالرجل الفاجر(4) .

ورواها العلامة الحلی فی تذکرة الفقهاء 9/49 مسألة 20 مرسلاً ، وهکذا فی منتهی المطلب 2/906 من الطبع الحجری (14 / 69 من الطبعة الحدیثة) .

وفیه أولاً : إدعاء العلم بشاهد الحال برضی أمیر المؤمنین علیه السلام لیس إلا دعوی بلا شاهد وبرهان ، والروایات المذکورة لا تدلّ علیها بأیّ وجه کان .

وثانیاً : ما هو المستند فی المعاملات بالمعنی الأعم هو الإذن وهو غیر الرضی ، وعلی فرض تمامیة الرضی لا ینتج منها الإذن الذی یفید فی المقام . ومن هنا ظهر ما ذکره المحقق الخوئی من قوله : « إذ المناط فی ذلک هو الکشف عن رضاء المعصوم علیه السلام بأیّ طریق کان ، ولا

ص: 448


1- (1) المکاسب 2/246 .
2- (2) وسائل الشیعة 15/40 ح1 . الباب 9 من أبواب جهاد العدو .
3- (3) وسائل الشیعة 7/138 ح1 . الباب 60 من أبواب الدعاء .
4- (4) صحیح البخاری 4/88 و 5/169 و8/155 ، صحیح مسلم 1/105 ، سنن الدارمی 2/241 ، مسند أحمد 2/309 و5/45 ، کنز العمال 1/45 ح115 ، المغنی لابن قدامة 10/371 ، شرح شهاب الأخبار 368 ح763 .

موضوعیة للإذن الصریح »(1) غیر تام عندنا . وما هو الموضوع فی المعاملات هو الإذن لا الرضی .

وثالثاً : قوة الإسلام وعظمته مرضیّة للإمام علیه السلام قطعاً ، ولکن یمکن أن یکون حرباً خاصاً لیس له بمرضی لأجل عدم مناسبة الوقت أو لتوقفه علی إتلاف نفوس الأبریاء أو الأموال الکثیرة ، ولکن لو یؤخر إلی وقت آخر لم تترتب علیه هذه الأمور ، کما أشار إلی هذا المعنی شیخنا الأستاذ(2) - مد ظله - .

ورابعاً : ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره من قوله : «فإنّه لیس کلُّ فتح مرضیّاً للأئمة حتّی ما کان من الفتوح موجباً لکسر الإسلام وضعفه »(3) .

ومنها : قول الشیخ الأعظم : «یمکن أن یقال بحمل الصادر من الغزاة من فتح البلاد علی الوجه الصحیح وهو کونه بأمر الإمام علیه السلام »

(4) .

قد ناقشه المحقق الإیروانی صغرویاً بقوله : «حمل فعل الغزاة علی الصحة عجیب ، فإنّهم هم الذین ترکوا بیعة أمیر المؤمنین علیه السلام وعدلوا به إلی مَن سواه ، فکیف یستأذنوا مع ذلک من أمیر المؤمنین . ولو فرض وجود بعض خواصه وشیعته تحت رایتهم مسترخصاً منه علیه السلام فذلک لا یجدی ، لأنّ الفتح لم یکن بفعل ذلک النفر المعدود ، هذا إن اُرید من الغزاة الجیش ، وإن اُرید أمیرهم وسلطانهم فذلک أشنع»(5) .

ویمکن أن یناقش علی الشیخ الأعظم کبرویاً ب- « أنّ مورد حمل فعل المسلم علی الصحة ما إذا کان الفعل ذا وجهین : الصلاح والفساد ، ودار الأمر بین حمله علی الصحیح أو الفاسد ، فإنّه یحمل علی الأول للقاعدة المذکورة ، وأمّا إذا کان کلا وجهی الفعل صحیحاً - کما فی المقام - فلا مورد لها أصلاً ، فإنّ الغزوات الواقعة إن کانت بإذن الإمام علیه السلام فالغنائم

ص: 449


1- (1) مصباح الفقاهة 1/548 .
2- (2) إرشاد الطالب 1/379 .
3- (3) مصباح الفقاهة 1/548 .
4- (4) المکاسب 2/246 .
5- (5) حاشیة المکاسب 1/371 .

للمسلمین ، وإلاّ فهی للإمام ، ولا شبهة أنّ کلا الوجهین صحیح ، فلا مورد لنفی أحدهما وإثبات الآخر بتلک القاعدة» ، کما ذکره المحقق الخوئی(1) .

فقد ظهر مما ذکرنا عدم تمامیة الوجوه التی أقاموها لإستناد الفتوحات بإذن الأئمة علیهم السلام ، فحینئذ الفتح محرز بالوجدان ، وحیث لم یثبت أنّه بإذن الإمام یحرز عدم الإذن بالأصل ، فیترتب الأثر وهو ملکیة الإمام لمطلق الغنائم من المنقول وغیر المنقول ، فتدخل الأراضی المفتوحة بعد زمن النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی ملک الإمام خاصةً ولم تدخل فی ملک المسلمین ، وحیث صارت ملکاً للإمام فیجوز له التصرف فیها بأیّ نحو کان . ولکن قد ثبت بأنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قد اکتفی فیها بأخذ الجزیة منها ، وفعله حجة لنا ، حیث ورد فی صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن سیرة الإمام فی الأرض التی فتحت بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ؟ فقال : إنّ أمیر المؤمنین قد سار فی أهل العراق سیرةً فهم إمام لسائر الأرضین ، وقال : إنَّ أرض الجزیة لا ترفع عنهم الجزیة ، الحدیث(2) .

وهذه الصحیحة تدلّ علی جواز أخذ الجزیة من أرض العراق وغیرها من الفتوحات الإسلامیة مع أنّها تدخل فی ملک الإمام مع عدم ثبوت إذنه فی الفتح . ومن هنا وجّه ما ذکرناه سابقاً من جواز أخذ الجزیة من الأنفال التی کانت ملکاً للإمام ، حیث کان أمرها بیده ، فیجوز له أخذ الجزیة منها . هذا تمام الکلام فی الشرط الثانی والحمد للّه .

الثالث : أن تکون الأرض محیاة حین الفتح

لتدخل فی الغنائم ویصیر ملکاً للمسلمین بعد إخراج خمسه علی المشهور ، کما أفتی بهذا الشرط الشیخ فی الخلاف(3) والحلی فی السرائر(4) وابن زهرة فی الغنیة(5) والمحقق فی

ص: 450


1- (1) مصباح الفقاهة 1/549 .
2- (2) وسائل الشیعة 15/153 ح2 . الباب 69 من أبواب جهاد العدو .
3- (3) الخلاف 3/525 .
4- (4) السرائر 1/481 .
5- (5) غنیة النزوع / 293 إطلاق کلامه یدل علیه حیث یقول: «إنّ الموات من الأرض للإمام...».

الشرائع(1) وتلمیذه العلامة فی التذکرة(2) والمنتهی(3) والتحریر(4) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(5) إدعی الإجماع علی ذلک ، والشهید الثانی فی المسالک(6) والمحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة(7) والسبزواری فی الکفایة(8) والشیخ یوسف فی الحدائق(9) وسید الریاض(10) ، وقال فی الجواهر : «بلا خلاف أجده بل الإجماع بقسمیه علیه»(11) .

یدل علیه إطلاق ما ورد من الروایات فی أبواب الأنفال بأنّ موات الأرض مطلقاً من الأنفال وملک للإمام علیه السلام :

منها : صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الأنفال ما لم یوجف علیه بخیل ولا رکاب ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأیدیهم ، وکل أرض خربة وبطون الأودیة ، فهو لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وهو للإمام من بعده یضعه حیث یشاء(12) .

ومنها : مرسلة حماد الطویلة عن العبد الصالح علیه السلام فی حدیث قال : وللإمام . . . وله بعض الخمس الأنفال . . . کلّ أرض میتة لا ربّ لها ، الحدیث(13) .

ص: 451


1- (1) شرائع الإسلام 3/216 .
2- (2) تذکرة الفقهاء 9/187 .
3- (3) منتهی المطلب 2/936 من الطبع الحجری [14 / 261 من الطبعة الحدیثة] .
4- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 2/172 مسألة 2766 .
5- (5) جامع المقاصد 7/9 .
6- (6) مسالک الأفهام 12/391.
7- (7) مجمع الفائدة والبرهان 7/470 .
8- (8) الکفایة 1/375 .
9- (9) الحدائق 18/299 .
10- (10) ریاض المسائل 8/118 .
11- (11) الجواهر 21/169 .
12- (12) وسائل الشیعة 9/523 ح1 . الباب 1 من أبواب الأنفال
13- (13) وسائل الشیعة 9/524 ح4 .

ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن الأنفال ؟ فقال : کل أرض خربة ، الحدیث(1) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سمعه یقول : إنّ الأنفال : . . . وما کان من أرض خربة ، الحدیث(2) .

ومنها : صحیحة اُخری له عن أبی جعفر علیه السلام قال : سمعته یقول : الفیء والأنفال . . . وما کان من أرض خربة ، الحدیث(3) .

یظهر من هذه الروایات أنّ الأرض الموات ملک للإمام علیه السلام بلا فرق بین موات دار الإسلام ودار الکفر ، وما یغنم من الکفار فی الحرب هو ما یکون ملکاً لهم ، وأمّا ما لا یکون ملکاً لهم فلا یصح أخذه بعنوان الغنیمة . وحیث کانت الأراضی الموات ملکاً للإمام فلا تدخل فی ملک الکفار فی دار الکفر ، فلا یصح أخذها غنیمة حتّی صارت ملکاً للمسلمین ، وحینئذ الأراضی الموات فی دار الکفر باقیة علی ملکیة الإمام من باب الأنفال .

ولو فرض جریان أیدی الکفار علیها کانت من المغصوبة فلا تعدّ من الغنیمة .

لا یقال : إطلاق أنّ الأرض الموات للإمام علیه السلام یعارض مع إطلاق أنّ الأراضی المفتوح عنوة ملک للمسلمین ، فلا یمکن الأخذ بإطلاق الأوّل لوجود المعارض فی المقام .

لأنّا نقول : علی فرض وجود تعارض الإطلاقین ، یرجّح إطلاق الأوّل لذهاب المشهور إلیه بل الإجماع بقسمیه علیه کما سمعت من صاحب الجواهر آنفاً .

إن قلت : لا نسلم هذا الترجیح بل الإطلاقان متعارضان فیتساقطان .

قلت : علی فرض التعارض والتساقط ، المرجع هو العام الفوق ، أی الروایات الواردة بأنَّ الأرض کلّها للإمام(4) ، فتدخل تحت تصرفه علیه السلام . هذا ما یظهر بالبال .

والحاصل ، إن ثبتت هذه الأمور الثلاثة ثبت أنّ الأرض تکون مفتوحة عنوة وإلاّ فلا ، وأنت تری عدم إمکان إثباتها بل دون إثباتها خرط القتاد ، واللّه العالم .

ص: 452


1- (1) وسائل الشیعة 9/526 ح8 .
2- (2) وسائل الشیعة 9/526 ح10 .
3- (3) وسائل الشیعة 9/527 ح12 .
4- (4) الکافی 1/407 باب أنّ الأرض کلّها للإمام علیه السلام .
فرع : لو ماتت الأرض المحیاة فهل تبقی علی ملکیة مالکها أم لا ؟
اشارة

بل تخرج عنها وتدخل فی الموات وتجری علیها ما یجری علیه ،

وجوه بل أقوال ثمانیة :

الأول : بقاء الأرض علی ملک صاحبها الأول مطلقاً ، یقول صاحب الجواهر : «المحکی عن المبسوط(1) والمهذب(2) والسرائر(3) والجامع(4) والتحریر(5) والدروس(6) وجامع المقاصد(7) أنّها باقیة علی ملکه أو ملک وارثه ، بل قیل(8) : إنّه لم یعرف الخلاف فی ذلک قبل الفاضل فی التذکرة(9)»(10) .

أقول : إختاره المحقق الثانی فی رسالته المعمولة لذلک المسماة ب- « رسالة الأرض المندرسة »(11) .

الثانی : القول بالتفصیل بین ما کان ملکها بالإحیاء فتزول بزوال الحیاة وبین ما کان بغیره من الشراء أو الوراثة أو الإتهاب أو نحوها فتبقی علی ملکه ، قال فی الجواهر : «قیل : ربّما أشعرت به (أی بهذا القول ) عبارة الوسیلة(12) ، واختاره فی المسالک(13) والروضة(14) بعد أن

ص: 453


1- (1) المبسوط 3/269 .
2- (2) المهذب 1/183 .
3- (3) السرائر 1/480 .
4- (4) الجامع للشرائع/ 374 .
5- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 4/483.
6- (6) الدروس 3/57 و56 .
7- (7) جامع المقاصد 7/18 و17 .
8- (8) القائل به هو السید جواد العاملی فی مفتاح الکرامة 7/10 من الطبعة القدیمة .
9- (9) تذکرة الفقهاء 2/401 من الطبع الحجری .
10- (10) الجواهر 38/21 .
11- (11) رسالة الأرض المندرسة ، المطبوعة ضمن رسائل المحقق الکرکی 2/(206 - 199) .
12- (12) الوسیلة/ 133 .
13- (13) المسالک 12/400 .
14- (14) الروضة البهیة 7/139 و138 .

حکاه عن جماعة منهم العلامة فی بعض فتاواه ، ومال إلیه فی التذکرة(1) ، وفی الکفایة : «أنه أقرب»(2) ، وفی المفاتیح : «أنّه أوفق بالجمع بین الأخبار»(3) بل فی جامع المقاصد : «إنّ هذا القول مشهور بین الأصحاب»(4)»(5) .

الثالث : إنّ عملیة الإحیاء توجب ملکیة رقبة الأرض إذا کانت بإذن الإمام علیه السلام ، ولکن إذا لم تکن بإذن الإمام فلا تفید إلاّ الأولویة فی التصرف ، ولکن کل هذا یجری بالنسبة إلی أراضی الأنفال فقط کما ذهب إلیه الشیخ فی المبسوط(6) وابن إدریس فی السرائر(7) ویأتی تفصیل ذلک .

الرابع : وهو القول الثالث ولکن انحصاره فی زمن الحضور فقط وفی زمن غیبة الإمام عملیة الإحیاء لا تفید إلا الأولویة ، ذهب إلیه المحقق فی الشرائع(8) والمختصر(9) وتبعه تلمیذه العلامة فی التذکرة(10) والتحریر(11) والقواعد(12) .

الخامس : من المحتمل أن یقال : بعدم خروجها عن ملکه بمجرد موتها ولکنّها تخرج عن ملکه بإحیاء الغیر لها واستیلائه علیها ، ویوجّهه الجمع بین استصحاب ملکیة الأوّل وبین ما

ص: 454


1- (1) تذکرة الفقهاء 2/401 من الطبع الحجری .
2- (2) الکفایة 2/547 .
3- (3) مفاتیح الشرائع 3/24 ، ولکن نص عبارة الفیض الکاشانی هکذا : «والجمع بینهما بحمل حدیث أحقیّة الأوّل علی ما إذا کان قد ملکها بغیر الإحیاء أوفق» وکأنّ صاحب الجواهر نقلها بمفادها ومضمونها .
4- (4) جامع المقاصد 7/17 .
5- (5) الجواهر 38/21 .
6- (6) المبسوط 3/270 و 269 .
7- (7) السرائر 1/481 .
8- (8) الشرائع 3/216 و215.
9- (9) المختصر النافع/ 259 .
10- (10) تذکرة الفقهاء : 2/401 من الطبع الحجری .
11- (11) تحریر الأحکام الشرعیة 4/484 .
12- (12) قواعد الأحکام 2/267 .

دلّ علی مالکیة الثانی بالإحیاء ، فتبقی ملکیة الأوّل إلی زمن إحیاء الثانی .

السادس : القول ببقائها علی ملک الأوّل ولکن یجوز للغیر إحیاؤها وأداء طسقها إلی الأوّل أو وارثه ، ذهب إلیه العلامة فی الإرشاد(1) والمنتهی(2) ، ونسبه الشهید الثانی فی المسالک : إلی «المبسوط»(3) والمحقق فی کتاب الجهاد(4) والأکثر»(5) ، ونحوها فی حاشیته علی الإرشاد(6) .

السابع : وهو القول الرابع بانضمام لزوم الاستئذان من المالک أو الحاکم إن أمکن وإلاّ فیحیها بنفسه ، وبه قال فی الدروس(7) .

الثامن : خروجها عن ملک الأوّل مطلقاً فیجوز لکلِّ أحد إحیاؤها کسائر الموات ، ولا حقَّ للأوّل فیها أصلاً . لم أجد القائل بهذا القول وإن کان ربّما یلوح من بعض العبائر ، وعدّ أبو الصلاح الحلبی(8) من الأنفال کلُّ أرضٍ عطّلها مالکها ثلاث سنین .

کلمات الأعلام فی المقام
اشارة

وبعد ذکر هذه الوجوه والأقوال الثمانیة ، فلا بدّ من ملاحظة کلمات الأعلام ثمَّ ملاحظة أدلة الأقوال حتّی تبیّن ما هو المختار فی المقام :

قال الشیخ الطوسی فی التهذیب : « . . .وأمّا الأنفال وما یجری مجراها فلیس یصح تملّکها بالشراء والبیع وإنّما أبیح لنا التصرف حسب . . .»(9) .

وقال فی الاستبصار : « قال محمد بن الحسن : الوجه فی هذه الأخبار وما جری مجراها

ص: 455


1- (1) الإرشاد 1/348 .
2- (2) منتهی المطالب 14 / 274 .
3- (3) لم أجده فی المبسوط ولکن قال به فی النهایة/ 420 .
4- (4) الشرائع 1/294 .
5- (5) المسالک 12/401 .
6- (6) حاشیة الإرشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 1/490 .
7- (7) الدروس 3/57 .
8- (8) الکافی/ 170 .
9- (9) التهذیب 4/146 .

ممّا أوردنا کثیراً منها فی کتابنا الکبیر أنّ من أحیا أرضاً فهو أولی بالتصرف فیها دون أن یملک تلک الأرض ، لأنّ هذه الأرضین من جملة الأنفال التی هی خاصة للإمام إلاّ أنّ من أحیاها أولی بالتصرف فیها إذا أدّی واجبها للإمام ، وقد دللنا علی ذلک فی کتابنا المذکور بأدلة مستوفاة وأخبار کثیرة . . . »(1) .

وأنت تری کلام الشیخ فی الکتابین ینحصر بالأنفال فقط ، وهی غیر الأرض التی یسلم أهلها وغیر الأرض التی تؤخذ عنوة أو یصالح علیها .

وقال فی متاجر النهایة بعد تقسیم الأرض إلی أربعة أقسام : « أرض الخراج . . . وأرض الصلح . . . وأرض من أسلم علیها طوعاً . . . ومنها : أرض الأنفال وهی کلّ أرض انجلی أهلها عنها من غیر قتال والأرضون الموات ورؤوس الجبال والآجام والمعادن وقطائعُ الملوک . وهذه کلّها خاصة للإمام یُقَبِّلُها من شاء بما أراد ویَهَبُها ویَبِیعُها إن شاء حسب ما أراد . ومن أحیا أرضاً میتاً کان أملک بالتصرف فیها من غیره ، فإن کانت الأرض لها مالک معروف کان علیه أن یُعطی صاحبَ الأرض طَسقَ الأرض ولیس للمالک انتزاعها من یده ما دام هو راغباً فیها ، وإن لم یکن لها مالک وکانت للإمام وجب علی من أحیاها أن یؤدِّی إلی الإمام طسقها ، ولا یجوز للإمام انتزاعها من یده إلی غیره إلاّ أن لا یقوم بعمارتها کما یقوم غیره أو لا یقبل علیها ما یقبله الغیر »(2) .

ولکن کأنّه عدل عن إطلاق هذا الرأی بعد حدود عشرین صفحة ، لأنّه قال : «ومن أخذ أرضاً میتة فأحیاها کانت له ، وهو أولی بالتصرف فیها إذا لم یُعرف لها ربّ وکان للسلطان طَسْق الأرض ، وإن عُرف لها ربّ کان له خراج الأرض وطسقها ، فإن شرط علی صاحب الأرض أنّه یحییها ویکون إرتفاعها مدّة من الزمان ثم یُسَلِّمُها إلیه کان ذلک جائزاً ، وکذلک إن شرط أن یکون علی صاحب الأرض مؤونة ما علیه للسلطان کان ذلک جائزاً ولصاحب الأرض أن یأخذها منه أیّ وقتٍ شاء»(3) .

ص: 456


1- (1) الاستبصار 3/108 .
2- (2) النهایة/ (420 - 418) .
3- (3) النهایة/ 443 .

والوجه فی العدول أنّه ذهب إلی ملکیة الأرض المیتة حیث قال : «کانت له» ، وذهب إلی أنّه «صاحب الأرض» الظاهران فی الملکیة ، وبهذا أفتی فی إحیاء الموات من المبسوط حیث قال : «الأرضون الموات عندنا للإمام خاصةً لا یملکها أحدٌ بالإحیاء إلاّ أن یأذن له الإمام»(1) .

ویظهر منه حصول الملکیة بالإحیاء إذا کان بإذن الإمام .

ولکن مع ذلک قال فی جهاد المبسوط فی حکم موات المفتوحة عَنْوة : «فأمّا الموات فإنّها لا تغنم وهی للإمام خاصةً ، فإن أحیاها أحدٌ من المسلمین کان أولی بالتصرف فیها ویکون للإمام طسقها . . .»(2) .

أقول : یمکن الجمع بین قولیه بأنّ عملیة الإحیاء إذا لم تکن بإذن الإمام فلا تفید إلاّ الأولویة بالتصرف ، وأمّا إذا کانت بالإذن فتفید الملکیة . والشاهد علیه قوله فی إحیاء الموات من المبسوط : «لا یملکها أحدٌ بالإحیاء إلاّ أن یأذن له الإمام»(3) .

ویدلّ علیه قوله قدس سره فیه : «أمّا الغامر فعلی ضربین : غامر لم یجر علیه ملک المسلم وغامر جری علیه ملک المسلم . . . وأمّا الذی جری علیه ملک المسلم فمثل قری المسلمین التی خربت وتعطّلت ، فإنّه ینظر فإن کان صاحبه معیّناً فهو أحقّ بها وهو فی معنی العامر وإن لم یکن معیّنا فإنّه یملک بالإحیاء لعموم الخبر ، وعند قوم لا یملک . ثم لا یخلو أن یکون لمالکها عقب أو لا عقب له ، فإن کان له عقب فهی لهم وإن لم یکن له عقب فهی للإمام خاصةً ، فإذا ثبت ذلک ثبت أنّها مملوکة لا یحییها أحدٌ إلاّ بإذن الإمام»(4) .

وقال فی غامر بلاد الشرک : «وأما الغامر فعلی ضربین : . . .وأما الذی جری علیه ملک فإنّه ینظر فإن کان صاحبه معیّناً فهو له ولا یملک بالإحیاء بلا خلاف وإن لم یکن معیّناً فهو

ص: 457


1- (1) المبسوط 3/270 .
2- (2) المبسوط 2/29 .
3- (3) المبسوط 3/270 .
4- (4) المبسوط 3/269 .

للإمام عندنا . . .»(1) .

والحاصل ، أنّ الشیخ قدس سره عدل عمّا ذکره فی التهذیبین والنهایة بما ذکره فی المبسوط ، وفیه ذهب إلی مالکیة أراضی الموات إذا کانت عملیة الإحیاء بإذن الإمام علیه السلام ، وذهب أیضاً أنّ طرو الموات علی الأرض لا یوجب خروجها عن ملک مالکها بل یبقی فی ملکه وملک وراثه .

قال القاضی ابن البراج فی ذکر الأنفال : « . . وکلّ أرض کانت آجاماً فاستحدثت مزارع أو کانت مواتاً فأحییت ، فجمیع ذلک من الأنفال . . . وله بعد أنقضاء مدّة القبالة أن یقبضها وینزعها ممّن هی فی یده بالقبالة ، ویقبّلها لغیره إلاّ أن یکون ممّا کانت مواتاً فأحییت ، فإنّها إذا کانت کذلک لم ینتزع من ید من أحیاها ، وهو أولی بالتصرف فیها ما دام یتقبلها بما یتقبلها به غیره ، فإن لم یتقبلها بذلک جاز للإمام علیه السلام أن ینتزعها من یده ویقبّلها لغیره کما یراه ، ویجب علی المتقبل فیما یبقی فی یده بعد إخراج مال القبالة وما لحقه علیها من المؤن العشر أو نصف العشر حسب ما یراه الإمام علیه السلام »(2) .

قال ابن زهرة : «ومن أحیی أرضاً بإذن مالکها ، أو سبق إلی التحجیر علیها کان أحقّ بالتصرف فیها من غیره ولیس للمالک أخذها منه ، وإلاّ أن لایقوم بعمارتها أو لایقبّل علیها ما یقبّل غیره بالإجماع المشار إلیه ، ویحتجّ علی المخالف بما رووه من قوله علیه السلام : من أحیی أرضاً میتة فهی له ، وقوله : من أحاط حائطاً علی أرض فهی له ، والمراد بذلک ما ذکرناه من کونه أحقّ بالتصرف ، لأنّه لا یملک رقبة الأرض بالإذن فی إحیائها»(3) .

أقول : أنت تری هذین الفقیهین ذهبا إلی ما ذهب إلیه الشیخ فی التهذیبین من أن الإحیاء یوجب أولویة التصرف فقط ولا یوجب الملکیة .

ولکن ابن إدریس قال : «والأرضون الموات عندنا للإمام خاصةً لا یملکها أحدٌ

ص: 458


1- (1) المبسوط 3/269 .
2- (2) المهذب 1/183 .
3- (3) غنیة النزوع/ 293 .

بالإحیاء إلا أن یأذن الإمام له»(1) .

وهذا بعینه التفصیل الذی مرّ عن الشیخ وتبعه المحقق ، ولکن زاد وقال : « وأمّا الموات . . . فهو للإمام علیه السلام لا یملکه أحدٌ وإن أحیاه ما لم یأذن له الإمام وإذنه شرط ، فمتی أذن ملکه المحیی له إذا کان مسلماً . . . وکلّ أرض جری علیها ملک لمسلم فهی له أو لورثته بعده ، وإن لم یکن لها مالک معروف معیّنٌ فهی للإمام ولا یجوز إحیاؤها إلاّ بإذنه ، فلو بادر مبادر فأحیاها من دون إذنه لم یملک . وإن کان الإمام علیه السلام غائباً کان المحیی أحقّ بها ما دام قائماً بعمارتها ، فلو ترکها فبادت آثارها فأحیاها غیره ملکها»(2) .

وقال فی المختصر : «الموات . . . فهو للإمام لا یجوز إحیاؤه إلاّ بإذنه ومع إذنه یملک بالإحیاء ، ولو کان الإمام غائباً فمن سبق إلی إحیائه کان أحقّ به»(3) .

أقول : أنت تری أنّ المحقق فصّل بین زمنی الظهور والغیبة ، ذهب فی الظهور إلی ملکیة عملیة الإحیاء مع الإذن وفی الغیبة ذهب إلی الأولویة فقط ، کأنّه لم یثبت لدیه الإذن العام فی عصر الغیبة . وتبعه العلامة الحلّی فی بعض کتبه(4) ، ولکن هذا التفصیل غیر تام ، لورود الإذن العام عنهم علیهم السلام ، ولذا قال سید الریاض فی شأن تفصیله : «ووجهه غیر واضح إن لم ینعقد الإجماع علیه»(5) . وقال فی الجواهر : ( ولکن - مع أنّه لا دلیل علی ذلک - لا تخلو من تنافٍ بین قوله أوّلاً « أحقّ » مشعراً بعدم الملک وبین قوله ثانیاً « ملکها » )(6) .

وقال العلامة الحلی فی إحیاء الموات من التذکرة : «ولا یجوز لأحدٍ إحیاؤها إلا بإذنه ، فإن بادر إلیها إنسان وأحیاها من دون إذنه لم یملکها ، ولو کان الإحیاء حال غیبة الإمام علیه السلام کان المحیی أحق بها ما دام قائماً بعمارتها ، فإن ترکها فزالت آثارها فأحیاها غیره ملکها ، فإذا

ص: 459


1- (1) السرائر 1/481 .
2- (2) الشرائع 3/216 و215 .
3- (3) المختصر النافع/ 259 .
4- (4) نحو تحریر الأحکام الشرعیة 4/484 .
5- (5) ریاض المسائل 14/109 .
6- (6) الجواهر 38/28 .

ظهر الإمام علیه السلام یکون له رفع یده عنها لما تقدم »(1) .

أقول : أنت تری تبع العلاّمةُ أستاذَه المحقق فی التفصیل الذی اختاره ، وقد مرّ الإشکال فیه ، ولکن العلاّمة ذکره فی نفس الکتاب(2) مرّة أُخری وکذا اختاره فی التحریر وقال : «إنّ البلاد ضربان : بلاد الإسلام وبلاد الشرک ، فبلاد الإسلام إمّا عامرةٌ وهی لأربابها خاصةً ، وإمّا موات فإن لم یجر علیها ملکُ مسلمٍ فهی للإمام خاصةً وإن جری علیها ملک ثم عطلت فإن کان المالک أو وارثه معلوماً فهو أحقّ بها ولا تخرج بخرابها عن التملک لصاحبها ولا یصح لغیره إحیاؤها ، وإن لم یکن صاحبها معیّناً فهی للإمام خاصةً لا یملکها المحیی من دون إذن الإمام . . . ولو کان الإمام غائباً کان المحیی أحقّ بها ما دام قائم بعمارتها ، فإن ترکها فزالت آثاره فأحیاها غیره کان الثانی أحقّ ، فإذا ظهر الإمام کان له رفع یده عنها»(3) .

أقول : ونحوها معنیً فی القواعد 2/267 .

وقال الشیخ علی بن محمد بن محمد القمی السبزواری : «ومن أحیی أرضاً بإذن مالکها أو سبق إلی التحجیر علیها ، کان أحقّ بالتصرف فیها من غیره ولیس للمالک أخذها منه ، إلاّ أن لا یقوم بعمارتها [أ] ولا یقبّل علیها ما یقبل غیره ، لقوله علیه السلام : من أحیی أرضاً میتة فهی له ، والمراد بذلک ما ذکرناه من کونه أحقّ بالتصرف فیها ، لأنّه لا یملک رقبة الأرض بالإذن فی إحیائها»(4) .

وقال الشهید : «عامر الأرض ملک لأربابه ، ولو عرض له الموات لم یصح لغیرهم أحیاؤه إلاّ بإذنهم ، ولو لم یعرفوا فهو للإمام ، وکذا کلّ موات من الأرض لم یجر علیه ملک أو ملک وباد أهله ، سواء کان فی بلاد الإسلام أو بلاد الکفر»(5) .

وقال فی رابع شرائط التملّک بالإحیاء : «ورابعها : أن لا یکون مملوکاً لمسلم أو معاهد ،

ص: 460


1- (1) تذکرة الفقهاء 2/401 من طبع الحجری .
2- (2) تذکرة الفقهاء 2/403 من الطبع الحجری .
3- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 4/484 و483 .
4- (4) جامع الخلاف والوفاق/ 362 .
5- (5) الدروس 3/55 .

فلو سبق ملک واحد منهما لم یصحّ الإحیاء . نعم لو تعطّلت الأرض وجب علیه أحد الأمرین : إمّا الإذن لغیره أو الانتفاع ، فلو امتنع فللحاکم الإذن وللمالک طَسْقها علی المأذون ، فلو تعذّر الحاکم فالظاهر جواز الإحیاء مع الإمتناع من الأمرین وعلیه طَسْقها . . . ومجرد ثبوت ید محترمة کافٍ فی منع الغیر من الإحیاء وإن لم یعلم وجود سبب الملک . نعم لو علم إثبات الید بغیر سبب ملک ولا موجب أولویة فلا عبرة به»(1) .

وقال ابن فهد الحلی بعد نقل روایات الإحیاء وجوازها : «وأجمعت الأُمّة علی تملک الأرض المیتة مع إحیائها إذا خلت عن الموانع»(2) .

واختار المحقق الثانی القول ببقاء الملکیة بعد الخراب وعدم جواز إحیاء الثانی إلاّ بإذن الأوّل ، قال : « . . . واللام تقتضی الملک ، وخروج الملک یحتاج إلی سبب ناقل وهو محصور ، ولیس من جملة الأسباب الخراب ، ولأنّ ما ملک ببیع أو إرث ونحوهما لا یخرج عن الملک بخرابه - صرح به فی التذکرة(3) - والظاهر أنّه إتفاقیٌّ ، فکذا ما هنا للإستواء فی الملک ولأنّ مطلق الملک لا بدّ أن ینتهی إلی الإحیاء ، وهذا متین»(4) .

وکذا ذهب فی رسالته المفردة التی کتب فی هذه المسألة - أی رسالة الأرض المندرسة - إلی نفس هذا القول وقال : « . . . ولأنّ الملک واستحقاق التصرف ومنع الغیر منه کان ثابتاً قبل عروض خراب الأرض ، والأصل بقاؤه ، لأنّ أسباب زوال المِلْک محصورة شرعاً ولیس هذا واحداً منها . . . وکأنّ القول بملکیة هذه الأرض بالإحیاء ، مع القول بعدم ملکیة المملوکة بسبب غیر الإحیاء إذا خربت فأحیاها غیر مالکها لا یجتمعان ، والثانی ثابت بالإجماع فینتفی الأول .

بیان التنافی : إنّ عروض الموت للأرض إن کان سبباً للخروج عن الملک وجب الحکم

ص: 461


1- (1) الدروس 3/57 و56 .
2- (2) المهذب البارع 4/285 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 2/401 من الطبع الحجری .
4- (4) جامع المقاصد 7/18 .

بالخروج فی الموضعین معاً ، وإلاّ وجب الحکم بعدم الخروج فیهما معاً»(1) .

وأمّا الشهید الثانی قوّی القول بخروج الأرض عن الملکیة لطرو الخراب وأنّها یملکه الثانی بعد الإحیاء ، قال فی توجیهه بعد ذکر الروایات الواردة فی المقام : « . . .ولأنّ هذه الأرض أصلها مباح ، فإذا ترکها حتّی عادت إلی ما کانت علیه صارت مباحة ، کما لو أخذ ماءً من دجلة ثم ردّه إلیها . ولأنّ العلّة فی تملک هذه الأرض الإحیاء والعمارة ، فإذا زالت العلّة زال المعلول وهو الملک ، فإذا أحیاها الثانی فقد أوجد سبب الملک ، فیثبت الملک له ، کما لو التقط شیئاً ثمّ سقط من یده وضاع عنه فالتقطه غیره ، فإن الثانی یکون أحقّ به . وهذا القول قوی لدلالة الروایات الصحیحة علیه . . .»(2) .

وقال فی الروضة فی شرح قول الشهید : « (وغامرها . . . للإمام) فلا یصح إحیاؤه بغیر إذنه مع حضوره ، أمّا مع غیبته فیملکها المحیی . . . (وکذا کل ما) أی موات من الأرض (لم یجر علیه ملک المسلم) فإنّه للإمام علیه السلام ولا یصح إحیاؤه إلاّ بإذنه مع حضوره ویباح فی غیبته . ومثله ما جری علیه ملکه ثم باد أهله (ولو جری علیه ملک مسلم) معروف (فهو له ولوارثه بعده) کغیره من الأملاک (ولا ینتقل عنه بصیرورته مواتاً) مطلقاً ، لأصالة بقاء الملک وخروجه یحتاج إلی سبب ناقل وهو محصور ولیس منه الخراب . وقیل : یملکها المحیی بعد صیرورتها مواتاً ویبطل حقّ السابق لعموم « من أحیی أرضاً میتة فهی له » و . . . وهذا هو الأقوی . وموضع الخلاف ما إذا کان السابق قد ملکها بالإحیاء ، فلو کان قد ملکها بالشراء ونحوه لم یزل ملکه عنها إجماعاً علی ما نقله العلامة فی التذکرة عن جمیع أهل العلم (وکل أرض ترک أهلها عمارتها فالمحیی أحقّ بها) منهم ، لا بمعنی ملکه لها بالإحیاء لما سبق من أنّ ما جری علیه ملک مسلم لا ینتقل عنه بالموت فبترک العمارة التی هی أعم من الموت أولی ، بل بمعنی استحقاقه التصرف فیها ما دام قائماً بعمارتها (وعلیه طَسْقها) أی أجرتها (لأربابها) الذین ترکوا عمارتها . أمّا عدم خروجها عن ملکهم فقد تقدّم ، وأما جواز إحیائها مع القیام بالأُجرة

ص: 462


1- (1) رسالة الأرض المندرسة ، المطبوعة ضمن رسائل المحقق الکرکی 2/203 و202 .
2- (2) المسالک 12/400 .

فلروایة سلیمان بن خالد . . .»(1) .

وقال فی حاشیته علی الإرشاد معلقاً علی قوله العلامة (وللإمام تقبیل کلّ أرضٍ میتة ترک أهلها عمارتها) ، « هکذا أطلق المصنف رحمه اللّه وجماعة ، والأقوی التفصیل ، وهو أنّ الأرض التی جرت علیها یدُ مالکٍ ثمّ خَرِبَتْ لا تخلو إمّا أن تکون قد انتقلت إلیه بالشراء ونحوه أو بالإحیاء ، والأولی لا یزول ملکه عنها بالخراب إجماعاً نقله المصنف فی التذکرة عن جمیع أهل العلم ، والثانیة - وهی التی مُلِکَتْ بالإحیاء - لا تخلو إمّا أن یکون ملکها مُعَیَّناً أو غیر معیّنٍ ، والثانیة تکون للإمام علیه السلام من جملة الأنفال یملکها الُمحیی لها فی حالة الغیبة ، فإن ترکها حتّی خربت زال ملکه عنها وجاز لغیره تملّکها ، وهکذا الأولی - وهی التی قد خربت ولها مالک معروف - قد اختلف فیها الأصحاب علی أقوال أجودها أنّها تخرج عن ملک الأوّل ویسوغ أحیاؤها لغیره ویملکها الُمحْیی»(2) .

وذهب الشیخ محمّد نظام الدین الساوجی تلمیذ الشیخ بهاء الدین محمد العاملی فی تکملة کتاب جامع عباسی لأستاذه : إلی حصول الملکیة بعملیة الإحیاء وأنّ مِلک المسلم لم یزل بطرو الخراب ، ولا یجوز للغیر إحیاؤه من دون إذن مالکه لو کان حاضراً ، وأمّا إذا کان المالک غائباً فعمّرها الثانی کان هو (أی الثانی) أحقّ بها من غیره ما دام قائم بعمارتها(3) .

وقال المحقق الأردبیلی فی شرح قول العلامة فی الإرشاد (وکل من سبق إلی إحیاء میتة فهو أحقّ بها ولو کان لها مالک معروف فعلیه طسقها له) : «ظاهره یدل علی جواز التصرف بالتعمیر والزراعة فی أرض الغیر ، وصیرورة المتصرف أولی بها إذا ترک عمارتها من غیر إذنه وإن کان معلوماً بعینه ومعروفاً ، إلاّ أنه یلزمه أُجرة المثل . وفیه تأمل ، إلاّ أن یقال : عُلم الإذن من الإعراض والترک کما یُعلم ذلک فی سائر الأموال المعروض عنها غیر الأرض .

وأمّا لزوم الأجرة حینئذ کأنّه لعدم العلم بالإعراض عنها ، مع إمکان العدم ما لم

ص: 463


1- (1) الروضة البهیة 2/210 من الطبع الحجری (7/140 - 136) .
2- (2) حاشیة الإرشاد ، المطبوعة ضمن غایة المراد 1/490 و489 .
3- (3) جامع عباسی/ 231 من الطبع الحجری عام 1321 ق ، و ص 597 و 598 من الطبعة الحدیثة عام 1386 ش من منشورات جماعة المدرسین بقم المقدسة ، والکتاب یکون باللغة الفارسیة .

یطلب(1) ، وإمکان عدم فهم عدم الإذن(2) ، إلاّ أنه ما ذکره لأنّ ذلک معلوم من الخارج بأنّه إن کان بالإذن فهو جائز ولا عقاب ، وإلاّ فلا یجوز ویستلزم استحقاقه ، وعلی التقدیرین الاُجرة لازمة»(3) .

أقول : فی العبارة تشویش ، ومع ذلک ذهب الأردبیلی إلی عدم جواز إحیاء الثانی إلا إذا کان مأذوناً من المالک ، فهو یری بقاء الملک لمالکه الأوّل مطلقاً بعد طرو الخراب علیه .

وقال المحقق السبزواری : «الثالثة : إذا جری علی الأرض ملک أو ما فی حکمه لمسلم معروف ومن بحکمه فما دامت عامرة فهی له ولورثته بعده وإن ترک الانتفاع بها بلا خلاف فی ذلک ، وإن خربت فإن کانت من الأراضی المفتوحة عنوة لم یزل ملک المسلمین عنها ، وإن ملکها بالشراء والعطیّة ونحوها لم یزل ملکه عنها علی المعروف ، ونقله فی التذکرة عن جمیع أهل العلم . وإن ملکها بالإحیاء ثم ترکها حتی رجعت مواتاً ففیه للأصحاب قولان :

أحدهما : ما ذهب إلیه جماعة منهم الشیخ ، وهو بقاؤها علی ملک مالکها .

وثانیهما : ما ذهب إلیه العلامة فی بعض فتاواه ومال إلیه فی التذکرة ، وهو صحة إحیائها وکون الثانی أحقّ بها من الأوّل . وهذا القول أقرب»(4) .

وقال أیضاً : «الرابعة : إذا لم یکن للأرض مالک معروف ، فإن کانت الأرض حیّة فهی مال مجهول المالک یجری فیها حکمه ، وإن کانت مواتاً وکانت فی الأصل لمالک معیّن ثم جهل مالکها فهی للإمام ، فإن کان حاضراً لم یصح إحیاؤها إلاّ بإذنه وإن کان غائباً لم یتوقّف الإحیاء علی الإذن وکان المحیی أحقّ بها من غیره ما دام قائماً بعمارتها ، ولو ترکها فبادت آثارها فأحیاها غیره ملکها ، ومع ظهور الإمام یکون له رفع یده عنها . . .»(5) .

وقال الآقا جمال الدین الخوانساری فی حواشیه علی الروضة : « . . . وبالجملة فالظاهر

ص: 464


1- (1) أی مع إمکان عدم لزوم الأُجرة ما دام لم یطالبها المالک .
2- (2) أی ویمکن لزوم الأُجرة ما دام لم یفهم عدم إذن المالک الأول لإحیاء الثانی .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 7/486 .
4- (4) الکفایة 2/547 و546 .
5- (5) الکفایة 2/548 .

فیما کان السابق بالإحیاء هو القول بأحقیّة الثانی غیر لزوم الطسق ، واللّه تعالی یعلم»(1) .

وقال سید الریاض : « (وکلّ أرض موات سبق إلیها سابق وأحیاها) وأخرجها من عطلتها (فهو أحقّ بها وإن کان لها مالک) ومعروف (فعلیه طَسْقها له) بلا خلاف فی جواز إحیائها مع عدم معروفیة صاحبها ، ولا فی وجوب الأجرة له إذا کان معروفاً وملکها بغیر الإحیاء .

وفی وجوبها له إذا ملکها بالإحیاء خلاف مبنیّ علی الاختلاف فی زوال ملک الأوّل الحاصل له بالإحیاء ، بإحیاء المحیی الثانی أم لا ؟ فقد اختلفوا فیه علی أقوال :

قیل : نعم ولا یستحق شیئاً ویملکه المحیی الثانی لعموم الصحاح . . . .

وقیل : لا ، لأصالة بقاء الملک والصحیح . . . .

فمقتضی الجمع بینهما صرف ظهور الصحیحة الأولی من الملکیة للثانی إلی الأحقیّة جمعاً وإلا لزم طرح الثانیة رأساً . ویُراد من الحق فیها الاُجرة لا الرقبة ، لصراحة الأُولی فی عدم لزوم أدائها وأحقیّة الثانی بها .

والحاصل ، أنّ العمل بالروایتین معاً یقتضی صرف ظاهر کل منهما أو مجمله إلی صریح الآخر أو مبیّنه ، وهذا الجمع أولی من الجموع الأخر . . . .

وعلی المختار ففی توقف الإحیاء علی استئذان المالک مع الإمکان وإلاّ فالحاکم وإلاّ فیحیی هو حِسْبةً ، کما هو مقتضی الاُصول الشرعیة وأفتی به الشهید فی الدروس أم لا کما هو ظاهر الأخبار وأکثر الأصحاب ، وجهان . ولا ریب أنّ الأول إنْ لم نقل بکونه أقوی فهو أحوط واُولی»(2) .

وقال جدی الشیخ جعفر قدس سره : «الأرض التی کانت محیاة بأیدی المسلمین ، والحکم فیها : أنّها إن کانت مملوکة بالإحیاء ثم ماتت ، کان إحیاؤها کإحیاء موات الأصل ، یملکها الُمحیی ، کما أنّ سبب التحجیر فیها إذا اندرس رجعت إلی أصلها . وإن کان الملک لا عن إحیاء ،

ص: 465


1- (1) حاشیته علی الروضة البهیة/ الطبع الحجری من دون الترقیم بل قبل سبعة أوراق بنهایة الکتاب .
2- (2) ریاض المسائل 8/ (126 - 124) .

بل عن بیع وشراء أو میراث أو غیر ذلک من الأسباب ، فإن عمرّها المالک فهو أولی بها ، وإن ترک عمارتها أعطاها ولی الأمر لمن یعمرها وعیّن علیه قدراً من الحاصل لصاحبها»(1) .

وعَدّ من أرض الأنفال : «أرض مُلکت بالإحیاء ثم ماتت»(2) .

وقال فی شرح القواعد فی شأن أرض الأنفال : «وهذه الأرض بأقسامها للإمام علیه السلام ، لا یجوز التصرف بها مع الحضور ورخصّ بذلک مع الغیبة مجاناً ، ویملک المحیی للموات بما یُسمّی إحیاءً عرفاً ما لم یسبق علیه تحجیر أو حریم لعامر . . . وإذا ظهر المالک - روحی له الفداء - رجع الملک إلی أهله . . .»(3) .

وقال فی الأرض المفتوحة عَنْوة : «وأمّا ما عُلم موته حینه فالأقوی أنّه للإمام ویملکه المحیی له بعد الغیبة کافرّاً کان أو مسلماً مخالفاً کان أو مؤمناً - علی إشکال فی القسمین الأوّلین - ملکاً مشروطاً ببقاء التعمیر ویزول بزواله علی الأصح وبغیبة الإمام روحی له الفداء ، فإذا ظهر (عج) رجع المال إلی أهله ولا یجوز التصرف إلا بإذنه ، والظاهر أنّه یأخذ منه ضریبة ویبقیه فی یده»(4) .

وتبعه تلمیذه السید العاملی یری أوّلاً جواز الإحیاء للثانی ولکنه لا یملک ، ثم یری ثانیاً قول المحقق الثانی - أی لا یجوز التصرف فیها أصلاً إلاّ بإذن المالک - هو الأوفق بالضوابط ، ثمّ یری ثالثاً أنّ تفصیل الشهید قوی ، قال قدس سره : «وکیف کان قالترجیح لما علیه الأصحاب من أنّه یجوز إحیاؤها للثانی ولکنه لا یملکها لما عرفت ، بل الأوفق بالضوابط قول المحقق الثانی وتفصیل الشهید قویٌّ جداً»(5) .

وقال المحقق الهمدانی : « ثمّ إنّ التقیید بکون الأرض المیتة المملوکة ممّا باد أهلها فی المتن وغیره بحسب الظاهر للإحتراز عمّا کان لها مالک معروف ، فإنّها له بلا خلاف فیه علی الظاهر

ص: 466


1- (1) کشف الغطاء 4/399 .
2- (2) کشف الغطاء 4/407 .
3- (3) شرح القواعد 2/211 و212 .
4- (4) شرح القواعد 2/209 .
5- (5) مفتاح الکرامة 7/10 الطبعة القدیمة .

ولا إشکال لو لم یکن ملکه لها بالإحیاء . وأمَّا لو کانت مملوکةً بالإحیاء ففی زوال ملکیتها بعروض الخراب لها ورجوعها إلی ملک الإمام کما کان قبل الإحیاء وعدمه قولان فی باب الإحیاء ، لا یخلو ثانیهما عن قوة ، وتحقیقه موکول إلی محلّه»(1) .

وقال المحقق الخوئی : « . . . فیعلم من ذلک أنّ مجرد الخراب لا یستوجب الخروج عن ملک المالک والدخول فی ملک الإمام علیه السلام لیعدّ من الأنفال ، بل هو مشروط بالإعراض والإنجلاء . . .»(2) .

وأمّا الروایات الواردة فی المقام

طائفة منها تدلّ علی مالکیة الأرض لمحییها بلا فرق بین زمنی الحضور والغیبة :

منها : صحیحة الفضلاء عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهماالسلام قالا : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من أحیی أرضاً مواتاً فهی له(3) .

ظهور اللام فی الملکیة واضح ، وضمیر «هی» ترجع إلی الأرض ظاهرة فی ثبوت ملکیته لرقبة الأرض ، وصدور هذا البیان وعدم تقییده بزمن الحضور وعدم ورود المخصص یدلّ علی أنّ الحکم عام یشمل زمنی الحضور والغیبة .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر صلی الله علیه و آله وسلم قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من أحیی مواتاً فهو له(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من غرس شجراً أو حفر وادیاً بدّیاً لم یسبقه إلیه أحد ، وأحیی أرضاً میتة فهی له قضاء من اللّه

ص: 467


1- (1) مصباح الفقیه 14/242 .
2- (2) مستند العروة الوثقی . کتاب الخمس/ 357 .
3- (3) وسائل الشیعة 25/412 ح5 . الباب 1 من أبواب إحیاء الموات .
4- (4) وسائل الشیعة 25/412 ح6 .

ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

وهذا القضاء من اللّه ورسوله فی زمن الحضور والغیبة ، وأنت تری أنّ التفصیل بینهما لا وجه له .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل - وأنا حاضر - عن رجل أحیی أرضاً مواتاً فکری فیها نهراً ، وبنی بیوتاً وغرس نخلاً وشجراً ، فقال : هی له وله أجر بیوتها وعلیه فیها العشر فیما سقت السماء ، أو سیل وادٍ أو عین ، وعلیه فیما سقت الدوالی والقرب نصف العشر(2) .

ومنها : معتبرة محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : أیّما قوم أحیوا شیئاً من الأرض وعمروها فهم أحقّ بها وهی لهم(3) .

وفی هذه المعتبرة قد فسّر الإمام علیه السلام أنّ المراد بالأحقیّة فی إحیاء الأرض هی المالکیة ، بقرینة اللام الظاهرة فی الملکیة ، ومثلها :

صحیحة محمد بن مسلم قال : سألته عن الشراء من أرض الیهود والنصاری ؟ قال : لیس به بأس - إلی أن قال : - وأیّما قوم أحیوا شیئاً من الأرض أو عملوه فهم أحقّ بها وهی لهم(4) .

ظهر من هذه الصحیحة - وقد ذکرها صاحب الوسائل بتمامها فی کتاب الجهاد(5) - وتطبیق الإمام علیه السلام أنّ المراد بمَن فیها مطلق ، ولا یشمل المؤمن أو المسلم فقط بل یشمل الیهود والنصاری ، وبعدم الفرق بین الکافر الکتابی وغیره یظهر حکم الکافر غیر الکتابی .

ونحوها مرسلة الصدوق قال : قد ظهر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی خیبر فخارجهم علی أن یکون الأرض فی أیدیهم یعملون فیها ویعمرونها ، وما بأس لو اشتریت منها شیئاً ، وأیمّا قوم

ص: 468


1- (1) وسائل الشیعة 25/413 ح1 . الباب 2 من أبواب إحیاء الموات .
2- (2) وسائل الشیعة 25/412 ح8 .
3- (3) وسائل الشیعة 25/412 ح4 .
4- (4) وسائل الشیعة 25/411 ح1 .
5- (5) وسائل الشیعة 15/156 ح2 . الباب 71 من أبواب جهاد العدو .

أحیوا شیئاً من الأرض فعمروه فهم أحقّ به وهو لهم(1) .

ومن هنا ظهر معنی کلمة « الأحقیّة » فی غیرها من الروایات الواردة فی شأن الإحیاء أنّ المراد بها هی الملکیة :

ومنها : صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : أیّما قوم أحیوا شیئاً من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها(2) .

فقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ المراد بأداء الحقّ الوارد فی صحیحة سلیمان بن خالد هو ردّ رقبة الأرض للمحیی الأول ، لأنّ حقّه هو ملکیته للأرض ، وإلیک نصها :

صحیحة سلیمان بن خالد قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یأتی الأرض الخربة فیستخرجها ویجری أنهارها ویعمرها ویزرعها ماذا علیه ؟ قال : الصدقة ، قلت : فإن کان یعرف صاحبها ؟ قال : فلیؤدّ إلیه حقّه(3) .

وفی هذه الصحیحة یسأل السائل عن أرضٍ کان لها مالک ولکنّه ترک إحیاءها فصار مواتاً وأحیاها الثانی فماذا علیه ؟ أجاب الإمام بأنّ علیه الصدقة - أی الزکاة فقط - إن کان لا یعرف صاحبها أو یعلم إعراضه عنها ولکنه إذا عرف صاحبها فلیودّ إلیه حقّه أی أرضه ، لأنّه مالک لرقبة الأرض . هذا ما استفدتُهُ منها .

وکذا یُحمل الترک علی الإعراض فی الروایات الآتیة بقرینة أنّ المحیی یصیر مالکاً لرقبة الأرض .

نحو : صحیحة معاویة بن وهب قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : أیّما رجل أتی خربة بائرة فاستخرجها وکری أنهارها وعمرّها فإنّ علیه فیها الصدقة ، فإن کانت أرض لرجل قبله فغاب عنها وترکها فأخرجها ، ثم جاء بعد یطلبها فإن الأرض للّه ولمن عمّرها(4) .

بل لابدّ أن تُحمل فی هذه الصحیحة کلمة « ترکها » ب- « أعرض عنها » ، وإلاّ لا یتم

ص: 469


1- (1) وسائل الشیعة 25/412 ح7 .
2- (2) وسائل الشیعة 25/411 ح2 .
3- (3) وسائل الشیعة 25/415 ح3 .
4- (4) وسائل الشیعة 25/414 ح1 .

تطبیق الکبری الموجودة فی آخرها علی المطلوب ، وهو ملکیة المحیی الثانی علی الأرض ، وهی قوله علیه السلام : « فإنّ الأرض للّه ولمن عمّرها » .

ولأنه لو لم یعرض المحیی الأوّل عن الأرض فالکبری تنطبق علیه لا علی الثانی ، فلابدّ من حمل کلمة « ترکها » فیها علی الإعراض حتّی تنطبق الکبری علی الثانی . والأمر هکذا فی الصحیحة الآتیة ، فلابدّ من حمل کلمة « ترکها أهلها » فی کلام السائل علی إعراض أهلها ، وإلاّ لم تنطبق الکبری الواردة فی کلام الإمام علیه السلام ، وهی قوله : « مَنْ أحیی أرضاً من المؤمنین فهی له » علی المحیی الثانی ، بل تنطبق علی المحیی الأوّل ، وهو خلاف المطلوب . هذا ما ظهر لی عند التأمل .

ومنها : صحیحة عمر بن یزید قال : سمعت رجلاً من أهل الجبل یسأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أخذ أرضاً مواتاً ترکها أهلها فعمّرها وکری أنهارها وبنی فیها بیوتاً وغرس فیها نخلاً وشجراً ؟ قال : فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : کان أمیر المؤمنین علیه السلام یقول : من أحیی أرضاً من المؤمنین فهی له وعلیه طَسْقها یؤدّیه إلی الإمام فی حالة الهدنة ، فإذا ظهر القائم فلیوطن نفسه علی أن تؤخذ منه(1) .

یُحمل بقرینة ما ذکرنا « الترک » الوارد فی کلام السائل علی الإعراض ، ولکن الوارد فی جواب الإمام علیه السلام تقیید المحیی بالإیمان ، ولا یمکن تقیید المطلقات به لأنّهما مثبتان . والظاهر بعد قبول أنّ عملیة الإحیاء توجب الملکیة لا بدّ من حمل الطسق الوارد فیها علی الزکاة ، کما تظهر من صحیحتی سلیمان بن خالد(2) وعبد اللّه بن سنان(3) الماضیتان .

ویمکن أن یبقی علی ظاهره فیصیر معنی کلمة « الطسق » الاُجرة ، لأنّ الأرض الموات من الأنفال ، والأنفال کلّها للإمام علیه السلام ، فیمکن له أن یأذن فی عملیة الإحیاء ولکن مع جعل الطَسْق ، أی الأجرة علی المحیی ، فله أنّ یجعل الطسق والاُجرة . ولکن لم یعهد منهم هذا الجعل ، ویمکن أن یجعله صاحب العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) بعد ظهوره .

ص: 470


1- (1) وسائل الشیعة 9/549 ح13 .
2- (2) وسائل الشیعة 25/415 ح3 .
3- (3) وسائل الشیعة 25/412 ح8 .

وأما التفصیل الوارد فیها بین زمان ظهور القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) وبین غیره فلا بأس به ، أی للقائم (عج) أن یأخذ الأرض من المحیی أو له أن یجعل علیه الطسق أو الأجرة . کما یمکن دعوی أنّ المراد بالهدنة زمن حکومة غیر الأئمة علیهم السلام ، والمراد بزمن الظهور زمن حکومتهم ، لأنّ کلَّهم القائمون بالحقّ .

ویمکن أن یقال بأنّ الضمیر المستتر فی کلمة «تؤخذ» یرجع إلی الزکاة ، فیصیر المعنی : أنّ القائم - بالمعنیین - یأخذ الزکاة فی زمن ظهوره أو اقتداره ولکن فی غیرها من الزمن علی المالک أن یؤدیها . هذا ما ظهر لنا بعد التأمل فی الروایة .

ومنها : خبر أبی خالد الکابلی عن أبی جعفر علیه السلام قال : وجدنا فی کتاب علی علیه السلام : «إِنَّ الاْءَرْضَ للّه ِِ یُورِثُهَا مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»(1) ، أنا وأهل بیتی الذین أورثنا الأرض ونحن المتقون والأرض کلّها لنا ، فمن أحیی أرضاً من المسلمین فلیعمرها ولیؤدّ خراجها إلی الإمام من أهل بیتی وله ما أکل منها ، فإن ترکها وأخربها فأخذها رجل من المسلمین من بعده فعمّرها وأحیاها فهو أحقّ بها من الذی ترکها ، فلیؤدّ خراجها إلی الإمام من أهل بیتی وله ما أکل منها حتی یظهر القائم (عج) من أهل بیتی بالسیف ، فیحویها ویمنعها ویخرجهم منها کما حواها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ومنعها ، إلاّ ما کان فی أیدی شیعتنا ، فإنّه یقاطعهم علی ما فی أیدیهم ویترک الأرض فی أیدیهم(2) .

عبّرنا عن الروایة بالخبر لأنَّ أبا خالد الکابلی إثنان :

أحدهما : الکبیر اسمه کنکر وقیل وردان ، وقد ذکره الشیخ فی أصحاب علی بن الحسین زین العابدین علیه السلام (3) . وهذا الرجل ثقة بلا ریب عندنا .

ثانیهما : الصغیر واسمه وردان ذکره الشیخ فی أصحاب الباقر علیه السلام وقال : «وردان أبو خالد الکابلی الأصغر ، روی عنه علیه السلام وعن أبی عبد اللّه علیه السلام ، والکبیر اسمه کنکر(4)» . وکذا

ص: 471


1- (1) سورة الأعراف/ 128 .
2- (2) وسائل الشیعة 25/414 ح2 .
3- (3) رجال الشیخ/ 100 الرقم 2 .
4- (4) رجال الشیخ/ 139 الرقم 5 .

ذکره فی أصحاب الصادق علیه السلام وقال فی شأنه : «وردان أبو خالد الکابلی الأصغر روی عنهما علیهماالسلام والأکبر کنکر»(1) . وهذا الأصغر لم یرد توثیقه ، ولذا استشکل فی سند الروایة بأن أبا خالد الکابلی إمّا مشترک أو أنّ الراوی عن أبی جعفر علیه السلام هو الأصغر فقط - کما هو الصحیح - ولذا لا یمکن الحکم باعتبار سندها . بل هی ضعیفة الإسناد لعدم اعتبار أبی خالد الکابلی الأصغر الراوی عن أبی جعفر علیه السلام ، ولذا تعجّب الشیخ الحر فی حاشیة الوسائل(2) من الشهید الثانی فی محلِّه » .

وأمّا المذکور فی رجال الشیخ فی أصحاب الصادق علیه السلام بعنوان «کنکر أبو خالد القماط کوفی »(3) ، وکذلک عنونه فی الفهرست وقال : «أبو خالد القماط له کتاب وقال ابن عقدة : اسمه کنکر»(4) . یکون غیرهما لأنّهما الکابلیان وهذا الرجل کوفی بتصریح الشیخ ، ویبعد إتحاد الأخیر مع أبی خالد الکوفی المذکور فی رجال الشیخ فی أصحاب الرضا علیه السلام (5) لبُعد الزمان .

وأمّا دلالتها : فیمکن حملها علی ما ذکرنا ، بأنّ للإمام علیه السلام أن یجعل علی الأراضی الأنفال الخراج أو الطَسْق أو الاُجرة ، والمراد بجملة «وله ما أکل منها» أنّه مالکها ، ولکن لو ترکها وأعرض عنها یجوز للغیر إحیاؤها وتملکها مع أداء الخراج . ولا یمکن الحکم بتقیید مطلقات الإحیاء بالمسلمین ، لأنّهما کما مر مثبتتان . والروایة تدلّ علی أنّ القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) بعد ظهوره یأخذ الأرض من غیر شیعته ویأخذ منهم الخراج .

ولا بأس بالأخذ بما فیها بالنسبة إلی ما بعد الظهور لو تمّ سندها . والأمر فیه سهلٌ ، لأنّ الإمام علیه السلام عالم بوظیفته وعلینا أن نطیعه . ویمکن اختلاف الحکم بین زمنی ما قبل الظهور وما بعده .

والحاصل : ما یظهر لنا من الروایات هو القول بملکیة رقبة الأرض للمحیی - بلا فرق

ص: 472


1- (1) رجال الشیخ/ 328 الرقم 26 .
2- (2) وسائل الشیعة 25/415 .
3- (3) رجال الشیخ / 277 الرقم 9 .
4- (4) الفهرست/ 522 الرقم 830 .
5- (5) رجال الشیخ/ 396 الرقم 2 .

بین کونه مؤمناً أو مسلماً أو کتابیاً أو مشرکاً - ولا تخرج عن ملکه إلاّ بالإعراض أو الأسباب الناقلة للملک ، کما علیه المشهور من أصحابنا ، ولا یجوز لأحد إحیاؤها أو التصرف فیها إلاّ بإذنه .

نعم ، لو لم یکن للأرض مالک معلوم یجوز إحیاؤها ولکن لو علم المحیی أو حضر المالک یجب علی المحیی ردّ رقبة الأرض والاُجرة له .

ومن المعلوم أنّ النزاع یختص بأراضی الأنفال ، وأمّا غیرها من الأراضی لا یختلف أحدٌ بأنّها باقیة علی ملک مالکها ولو طرأ علیه الموات . ومن هنا ظهر حکم الأراضی المفتوحة عَنْوة لو طرأ علیها الخراب ، فهی باقیة علی ملک المسلمین بلا خلاف عند الأصحاب (قدس اللّه أسرارهم) . هذا ما أدی إلیه نظری القاصر بعد التتبع والتأمل فی الروایات ، واللّه سبحانه هو العالم .

الثانی عشر : هل تلحق الضرائب بالخراج والمقاسمة أم لا ؟
اشارة

قد مرّ فی أوّل البحث تعریف الخراج والمقاسمة ، وقد ظهر منه أنّهما غیر الضریبة والمالیات والمیری ، وبعد ثبوت الغیریة فهل تلحق الضرائب بهما من جهة جواز أخذها للغیر أم لا ؟

من المعلوم أنّ جواز أخذ مال الغیر حکم علی خلاف الأصل والقاعدة الأوّلیة ، فلا بدّ من القول به عند مایکون دلیل علیه ، وحیث لم یرد دلیل بالنسبة إلی الضریبة فلا یمکن القول بجواز أخذ الضریبة بأدلة جواز أخذ الخراج والمقاسمة ، لا سیما مع ما ذکرنا من وجود الفارق الموضوعی بینهما وأنّهما (الخراج والضریبة) شیئان مختلفان .

فلا بدّ فیالمقام من البحث حول جهتین :

1 - جواز أخذ الضریبة للحاکم وعدمه .

2 - جواز أخذ هذه الضریبة من الحاکم للغیر .

أمّا الجهة الأولی : هل یجوز للحاکم أن یأخذ الضرائب من رعایاه ؟

قد ورد فی روایاتنا ذمّ العشارین ، وهم الذین یأخذون من الناس العشر لدی إیرادهم

ص: 473

الأمتعة والأموال فی البلاد المسمی الیوم بالجمارک ، وهذه إحدی الضرائب التی یأخذها الحکام فیما سبق من الأیام ، فهل یمکن استفادة حرمة أخذ جمیع الضرائب منها أم لا ؟

من هذه الروایات مرسلة الرضی رفعه عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی حدیث : یا نوف ، إنّ داود علیه السلام قام فی مثل هذه الساعة من اللیل فقال : إنّها ساعة لا یدعو فیها عبد إلا استجیب له إلا أن یکون عشاراً أو عریفاً أو شرطیاً أو صاحب عرطبة - وهی الطنبور - أو صاحب کوبة - وهی الطبل -(1) .

ومنها : حسنة نوف عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : یا نوف إیّاک أن تکون عشّاراً أو شاعراً أو شرطیّاً أو عریفاً أو صاحب عرطبة - وهی الطنبور - أو صاحب کوبة - وهی الطبل - ، فإنّ نبی اللّه علیه السلام خرج ذات لیلة فنظر إلی السماء فقال : إنّها الساعة التی لا یردّ فیها دعوة إلا دعوة عریف أو دعوة شاعر أو شرطیّ أو صاحب عرطبة أو صاحب کوبة(2) .

ومنها : خبر نوف عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : یا نوف إقبل وصیتی ، لا تکوننَّ نقیباً أو عریفاً أو عشّاراً أو بریداً(3) .

ومنها : مرفوعة محمد بن الحسین عن رسول اللّه علیه السلام أنّه قال : لا یدخل الجنة مدمن خمر ولا سکیّر ولا عاقّ ولا شدید السواد ولا دیّوث ولا قلّاع - وهو الشرطی - ولا زنوق - وهو الخنثی - ولا خیوق - وهو النبّاش - ولا عشّار ولا قاطع رحم ولا قدریّ(4) .

ومنها : خبر أبی هریرة وعبد اللّه بن عباس عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة : ومَن منع طالباً حاجته وهو قادر علی قضائها فعلیه مثل خطیئة عشّار . فقام إلیه عوف بن مالک فقال : ما یبلغ خطیئة عشّار یا رسول اللّه ؟ قال : علی العشار کلّ یوم

ص: 474


1- (1) نهج البلاغة - الحکمة/ 104 .
2- (2) الخصال 1/338 ح40 ونقل عنه فی بحار الأنوار 72/342 ح30 (30/31) .
3- (3) أمالی الصدوق . المجلس 37 ح9/ 278 الرقم 309 ونقل عنه فی بحار الأنوار 72/343 ح33 (30/32) .
4- (4) الخصال 2/436 ح23 ، ونقل فی بحار الأنوار 72/343 ح32 (30/32) .

ولیلة لعنة اللّه والملائکة والناس أجمعین ، ومن یلعن اللّه فلن تجد له نصیراً(1) .

إنک تری بأنّ هذه الروایات تنهی عن أخذ العشور ، والنهی یدلّ علی الحرمة . ولا بأس بضعف إسنادها بعد استفاضتها أو القول بتواترها الإجمالی .

وأمّا العشور ما هی ؟

قال أبو یوسف : «یؤخذ من المسلمین ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر ومن أهل الحرب العشر من کلّ ما مرّ به علی العاشر وکان للتجارة وبلغ قیمة ذلک مأئتی درهم فصاعداً أخذ منه العشر ، وإن کانت قیمة ذلک أقل من مأئتی درهم لم یؤخذ منه شیء ، وکذلک إذا بلغت القیمة عشرین مثقالاً أخذ منه العشر . . . [ثم] قال أبو یوسف : فإنّ عمر بن الخطاب وضع العشور ، فلا بأس بأخذها إذا لم یتعدّ فیها علی الناس ویؤخذ بأکثر ممّا یجب علیهم . وکلّ ما أخذ من المسلمین من العشور فسبیله سبیل الصدقة ، وسبیل ما یؤخذ من أهل الذمة جمیعاً وأهل الحرب سبیل الخراج . . .»(2) .

وقال ابن قدامة فی العشر : «إشتهر هذا عن عمر وصحت الروایة عنه به . . .»(3) .

وفی بدائع الصنائع فی فقه الحنفیة : « . . . وأصله ما روینا عن عمر أنه کتب إلی العُشّار فی الأطراف أن خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمی نصف العشر ومن الحربی العشر ، وکان ذلک بمحضر من الصحابة ولم یخالفه أحد منهم ، فیکون إجماعاً منهم علی ذلک . وروی أنّه قال : «خذوا منهم ما یأخذون من تجّارنا ، فقیل له : إن لم نعلم ما یأخذون من تجارنا ؟ فقال : خذوا منهم العشر . . .»(4) .

من هذا یظهر أن عمر أوّل مَن وضع العشور بالکیفیة الخاصة عندهم من مال التجارة وهی نفس الجمارک فی یومنا هذا ، وقد ورد فی روایاتنا عدم جواز أخذها وأنّ آخذها من

ص: 475


1- (1) عقاب الأعمال/ 341 ونقل عنه فی بحار الأنوار 73/369 (30/364) .
2- (2) الخراج/ (134 - 132) .
3- (3) المغنی لابن قدامة 10/597 .
4- (4) بدائع الصنائع 2/38 .

العاصین . فلا یبعد القول بحرمة أخذ العشور المسماة الیوم بالجمارک بدلالة هذه الروایات المستفیضة أو المتواترة إجمالاً . نعم یجوز أخذها من الکافر الحربی ، وأمّا الذمّی فجواز أخذها منه تابع لعقد الذمّة ، وأمّا المعاهد والمسلم فلا یجوز أخذها منهما . وأمّا التعدی من العشور إلی غیرها من الضرائب والحکم بحرمتها بالأدلة الواردة فی حرمة العشور مشکل جداً .

وکذا الحکم بجواز أخذ الضرائب لفعل أمیر المؤمنین علیه السلام من أنّه وضع الزکاة فی أیام خلافته الظاهریة علی الخیل والبراذین لاحتیاج دولته بالأموال . أشکل من سابقه ، وقد ورد فعله فی صحیحة محمد بن مسلم وزرارة عنهما جمیعاً علیهماالسلام قالا : وضع أمیر المؤمنین علیه السلام علی الخیل العتاق الراعیة فی کلّ فرس فی کل عام دینارین وجعل علی البراذین دیناراً(1) .

وقد رواها المفید مرسلاً إلا أنّه قال : وجعل علی البراذین السائمة الإناث فی کلِّ عامٍ دیناراً(2) .

وقد ورد تقیید الخیل بالإناث أیضاً فی صحیحة زرارة قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : هل فی البغال شیءٌ ؟ فقال : لا ، فقلت : فکیف صار علی الخیل ولم یصر علی البغال ؟ فقال : لأنّ البغال لا تلقح والخیل الأُناث ینتجن ، ولیس علی الخیل الذکور شیء . قال : فما فی الحمیر ؟ قال : لیس فیها شیء . قال : قلت : هل علی الفرس أو البعیر یکون للرجل یرکبهما شیء ؟ فقال : لا ، لیس علی ما یعلف شیء ، إنّما الصدقة علی السائمة المرسلة فی مرجها عامها الذی یقتنیها فیه الرجل ، فأمّا ما سوی ذلک فلیس فیه شیء(3) .

هذه الصحیحة تخص الزکاة بالخیل الأناث السائمة المرسلة فی مرجها عامها وتنفیها عن الحمیر ، والصحیحة الأولی تثبتها فیها ، فصارت النتیجة عدم وجوبها وثبوت الاستحباب فی الحمیر . وبعدم القول بالفصل بین الحمیر والخیل ثبت استحباب الزکاة فی الخیل أیضاً . هذا ما تفیدنا الروایات .

وأمّا أمیر المؤمنین علیه السلام بما أنَّ له الولایة فی التشریع فیجوز له أن یجعل حکماً خاصاً فی زمن خلافته ، فإنّه علیه السلام بدّل الاستحباب فی الخیل والحمیر بالوجوب لمصلحة اقتضت ذلک .

ص: 476


1- (1) وسائل الشیعة 9/77 ح1 . الباب 16 من أبواب ما تجب فیه الزکاة .
2- (2) وسائل الشیعة 9/78 ح2 .
3- (3) وسائل الشیعة 9/78 ح3 .

ولکن لیس لغیره علیه السلام هذه الولایة ، فالحکم یختص بزمن خلافته فقط وبه علیه السلام .

ولذا استفادة جواز جعل الضرائب للحاکم من صحیحة محمد بن مسلم وزرارة ، وفعل أمیر المؤمنین علیه السلام مشکل جداً .

ثم هل یمکن تصحیح أخذ الضریبة للحاکم الشرعی بطرق اُخری من العقود الشرعیة أم لا ؟ ذهب المؤسس الحائری قدس سره إلی الجواز بدعوی إمکان خروج سلاطین الشیعة عن عنوان الظالم الوارد فی أخبار منع معونة الظالمین ، ثم قال : « . . . فتبیّن أنّ أصل العمل لیس ظلماً ، ثم إنّه یمکن تمشیته أیضاً علی وجه لا یخالف الشرع من جهات اُخری ، بأن یعلِن هذا السلطان فی جمیع البلاد التی تحت اقتداره وسلطنته بأنّ مَن أراد أن یشمله کفایتی وحفظی وحمایتی فلیدفع إلیَّ فی کلِّ سنة مقداراً من المال وإلاّ فلستُ أنا محامیّاً عنه مجّاناً . ولیس الوجوب أیضاً منافیّاً لجواز أخذ الاُجرة والجعل کما تقدم بیانه سابقاً ، وحینئذ فیکون أخذ المالیة عن الرعیة علی طبق الشرع لأنّها جُعْلٌ له علی عمله . . .»(1) .

وأنت تری بأنّ هذا المحقق الجلیل صحح أخذ الضریبة من الحاکم علی نحو الجعالة .

وکذا یمکن تصحیحها علی نحو الهبة المعوَّضة أو الصلح المعوَّض ، بأنْ وهب الحاکم حمایته وفعاله بإیجاد الأمن والطرق ووسائل العیش للرعیة فی مقابل أنّ الرعیة تهب فی کلّ سنة مبلغاً من المال . أو صالح الحاکم هکذا فی مقابل أن صالحته الرعیة مبلغاً من المال .

والأمر سهل بالنسبة إلی الضرائب التی أخذها الحاکم فی مقابل إعطاء الخدمات ، نحو : الماء والکهرباء والهاتف (التلیفون) والغاز والطرق والبرید والمستشفیات والمستوصفات ونحوها ، لأنّه أخذٌ للمال فی مقابل خدمة ، وأخذ المال فی مقابل العمل والخدمة یمکن تصحیحه شرعاً فی الجملة بوجوه عدیدة ، نحو : البیع والصلح والهبة والجعالة وغیرها .

ویمکن الإشکال فی الکلّ : بأنّ البیع والإجارة والصلح والهبة وکذا الجعالة تحتاج إلی رضایة الطرفین ، وإذا لم تکن الرعیة راضیاً - کما هو الغالب فی إعطاء الضریبة - فیصیر العقد باطلاً .

والجعالة من العقود الجائزة قبل الإتیان بالعمل ، فللرعیة فسخها قبل الإتیان بالعمل من قبل الحاکم أو قبل حلول السنة الآتیة مثلاً .

اللهم إلاّ أن یقال : بأنّ هذه مبادلة قهریة من الطرفین ولا تحتاج إلی رضایتهما بعد

ص: 477


1- (1) المکاسب المحرمة/ 95 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .

إعطاء الطرفین ، کما فی بدل الحیلولة علی القول بالإنتقال القهری إلی المُتلِف فیها ، فتأمل .

نعم ، یمکن للحاکم اشتراط الضریبة فی عقد بیعته ، وإذا قبلت الرعیة هذا الشرط وبایع مع الحاکم یجوز له أن یأخذ الضریبة وفاءً بالشرط .

ولکن هل یصدق علی الإنتخابات أنّها بیعة أم لا ؟ الظاهر هو الثانی .

وأمّا الحاکم فیأخذ أیضاً بعضَ الضرائب ولکنّه لیس فی مقابلها أیّ خدمة أو عمل ، نحو : الجمارک کلّها وما یأخذها بالنسبة إلی رواتب الموظفین أو الاستثمارات والفوائد التی تحصل للرعیة والمدنیین ، أو ما یأخذها بالنسبة إلی البیع والشراء والإنتقالات المالیة ، أو ما یأخذها بالنسبة إلی الضریبة علی المیراث ، أو ما تأخذها البلدیة من السیارات والبیوت والمعامل ولم تقم بأیّ خدمة أو عمل ، وفی هذه القسم الأخیر الحکم بالجواز شرعاً مشکل جدّاً .

والحاصل ، نحن قسّمنا الضرائب إلی قسمین :

1 - ما تقابل الخدمة والعمل فلا بأس بها بشرط وجود التناسب العرفی بین الخدمة والضریبة وقبول الرعیة ذاک ، وإذا لم تقبل فتصحیحه مشکل جدّاً .

2 - ما أخذها ولیس فی قبالها أیّ خدمة أو عمل فلا یجوز له أخذها .

هذا ما ظهر ببالی القاصر علی سبیل العجالة فی الجهة الاُولی .

الجهة الثانیة : هل یجوز للغیر أخذ هذه الضریبة من الحاکم ؟

الآخذ تارة یعلم أنّها بعینها ضریبة وتارة لا یعلم . فإذا علم أنها بعینها من الضرائب تارة یعلم بأنّها ممّا تقابل الخدمة والعمل فلا بأس بأخذها إذا کانت الرعیة راضیاً و تارة یعلم بأنّها ممّا لا تقابل بالخدمة والعمل فلا یجوز أخذها .

وأمّا إذا هو لا یعلم أنّ المأخوذ منه بعینه هل هو من الضرائب أو غیرها ؟ فلا بأس بجواز أخذها للآخذ ، وتشملها الإطلاقات والعمومات الواردة فی أخذ جوائز الظالمین .

والذی یسّهل الخطب أنّ الغالب فی هذه الموارد عدم علم الآخذ بأنّ المال من أین حصل للحاکم ، فلذا یجوز له أخذه منه ، واللّه سبحانه هو العالم .

إلی هنا فرغنا من الفرع الثانی عشر ، وقد تمت مسائل الخاتمة وبحث المکاسب المحرّمة من کتابنا الآراء الفقهیَّة ، وقد استوعبت نصف عقد من حیاتی علی ید مؤلِّفها العبد هادی النجف-ی فی یوم الخمیس منتصف شهر رجب الأصب عام 1427 ببلدة أصبهان صانها اللّه

ص: 478

تعالی عن الحدثان ، والحمد للّه أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلی اللّه علی سیدنا محمد وآله الطیبین الطاهرین المعصومین .

ص: 479

المجلد 4

اشارة

سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -

عنوان و نام پدیدآور : االآراء الفقهیه: قسم البیع/ تالیف هادی النجفی.

مشخصات نشر : تهران: شب افروز، 1393.

مشخصات ظاهری : 448 ص.: نمونه.

شابک : 978-600-92902-8-4

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه: به صورت زیرنویس.

موضوع : معاملات اموال شخصی و منقول (فقه)

موضوع : معاملات (فقه)

رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ36 1393

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : 3555378

ص: 1

اشارة

ص: 2

تاریخ تصحیح الکتاب من نظم فضیلة العلاّمة القدیر الشاعر المُفْلِق

السیّد عبدالستار الحسنی البغدادی حفظه اللّه تعالی :

عَرَضَ عَلَیَّ صاحِبُ السَّماحَةِ، الفَقْیِهُ الْمُحَقِّقُ، آیَةُ اللّه ِ الشَّیْخُ (الهادِیْ) مِنْ آل (أبی الْمَجدِ) النَّجفیّ - دامَ ظِلُّهُ - کِتابَهُ النَّفْیِسَ الْقَیِّمَ الْمَوْسُوْمَ بِ- (الآراء الْفِقهِیَّة) - المُجَلّد الرّابع - قَبْلَ طَبْعِهِ، وَ غِبَّ الاِنْتِهاءِ مِنْ مُطالَعَتِهِ حَضَرَتْنی هذِهِ الاْءَبْیاتُ فی تَقْرِیْظهِ - إِجْمالاً - وَ فِیْ آخِرِها تأْرِیْخُ الاِنْتِهاءِ مِنْ إِتْمامِهِ، راجیا مِنْ سَماحَةِ الشَّیْخِ النَّجَفِیِّ قَبُوْلَها:

بِ- (النَّقْضِ وَ الاْءِبْرامِ) (هادِیْ) الْوَری مِیْزانُهُ الرّاجِحُ دُوْنَ(1) ارْتِیابْ

إذْ سَبَرَ (الاْآراءَ) مُسْتَقْصِیا وَ خاضَ مِنْ (قامُوْسِهِنَّ)(2) الْعُبابْ

مُسْتَکْنِها أَسْرارَ ما جاءَ مِنْ أَحْکامِ دِیْنِ اللّه ِ فی کُلِّ بابْ

شَمَّرَ عَنْ ساعِدِهِ(3) جاهِدا بِهِمَّةٍ لا تَنْشَنِیْ لِلصِّعابْ

ص: 3


1- (1) الوَجْهُ أَنْ یُقالَ: (مِنْ دُوْنِ...) لکِنْ خُذِفَتْ (مِنْ) - هُنا - لِمُراعاةِ الْوَزْنِ.
2- (2) الْقامُوْسُ: مِن أسْماءِ الْبَحْرِ، وَ قَدْ سَمّی الَمجْدُ الفَیْرُوزآبادِیُّ کِتابَهُ فی اللُّغَةِ بِ(القاموس...) تَشْبِیْها لَهُ بِالْبَحْرِ لاِتِّساعِ مَوادِّهِ اللُغَوِیَّةِ، وَ هذِهِ التسْمِیَّةُ هِیَ التّی أَوْ قَعَتِ الْمُتَأَخِّرِیْنِ فی الاِشْتِباهِ؛ فَظَنُّوْا (الْقامُوْسَ) مُرادِفا لِ(الْمُعْجَم) وَ الاْءَمْرُ کَما تَری!
3- (3) یُقالُ: شَمَّرَ عَن ساعِدِهِ، وَ عَنْ ساعِدَیْهِ، کِلاهُما بِمَعنیً واحِدٍ، إذا جَدَّ فِیْ الاْءَمْرِ وَ انْتَدَبَ لَهُ.

وَ کَیْفَ لا یَحْویْ الْعُلا ماجِدٌ مِنْهُ إِلی (الَْمجْدِ)(1) تَجَلّی انْتِسابْ

للّه مِنْ سِفْرٍ أَتانا بِهِ ضَمَّ إِلی الْحِکْمَةِ فَصْلَ الْخِطابْ

أَسْفَرَ مِثْلَ الشَّمْسِ لکِنَّهُ لا یَتَواری نُوْرُهُ بِالْحِجابْ(2)

فُصُوْلُهُ قَدْ حُرِّرَتْ فَاغْتَدَتْ بُغْیَةِ(3) مَنْ یَرُوْمُ مَحْضَ اللُّبابْ

(مَناطُها) (تَنْقِیْحُهُ) مُعْرِبٌ عَنْ فِکْرِ خِرِّیْتٍ، سَدِیْدِ انْتَخابْ

لا یَعْتَرِیْ الاْءِشْکالُ مَضْمُوْنَهُ کَما خَلا فی الْعَرْضِ مِنْ کُلِّ عابْ(4)

مِنْهاجُهُ الْمَهْیَعُ مَنْ یَقْفُهُ یَحْظَ بِتَحْصِیْلِ الْمُنی وَ الرِّغَابْ

وَ بِ- (اللَّیالِیْ الْعَشْرِ) أَرِّخْ: (أَجَلْ قَدْ سَلَکَ الشَّیْخُ سَبِیْلَ الصَّوابْ)

1431 ه. ق

ص: 4


1- (1) فِیْهِ تَوْرِیَةٌ لاِنْتِسابِ آیَةِ اللّه الشَّیْخِ الْهادِیْ - دامَ ظِلُّهُ - إِلی جَدِّهِ الاْءَعْلی، آیَةِ اللّه ِ الْعُظْمی عَلَمِ الْفُقَهاءِ وَ الُْمجْتَهِدِیْنِ الاْءِمامِ الشَّیْخِ مُحَمَّدٍ الرِّضا آلِ (صاحِبِ الْحاشِیَةَ عَلی الْمَعالِمِ) الْمُلَقَّبِ بِ(أَبِیْ الَْمجْدِ) قدس سره .
2- (2) فِیْهِ تَلْمِیْحٌ بِ(الاِقْتِباسِ) مِنْ قَوْلِهِ تَعالی: «... حَتّی تَوارَتْ بِالحِجابِ» و الضَّمْیِرُ فِیْ (تَوارَتْ) عائِدٌ علی الشَّمْسِ.
3- (3) بُِغْیَةَ: بِضَّمِ الْباءِ وَ کَسرِها، لکِنَّ الشّائِعَ الْیَوْمَ الاِقْتِصارُ عَلی الضَّمِّ.
4- (4) العابُ: العَیْبُ. سَلْخُ شَعْبانَ الْمُعَظَّمِ 1431 ه . ق.

الحمدللّه الذی أحلّ البیع و حرّم الربا و الصلاة و السلام علی مؤسس الشریعة و الأحکام محمّد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و علی مبیّنیها أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام و الاْءحَدَ عَشَرَ من ولده الأئمة المعصومین علیهم السلام لا سیما علی الحجة الثانی عشر بقیة اللّه الإمام المنتظر المهدی عجل اللّه تعالی فرجه الشریف و جعل أرواحنا فداه.

تقسیم الفقه

بعد الفراغ من البحث حول المکاسب المحرّمة لابُدَّ من الشروع فی البحث عن کتاب البیع و هو من کتب القسم الثانی من أقسام الفقه، لأنّ الفقه ینقسم إلی أربعة أقسام:

1- العبادات: و هی اُمور اشترط فی صحَّتِها النیة أو شُرِّعَتْ للمصالح الاُخرویة.

2- المعاملات: و هی بنفسها تنقسم إلی ثلاثة أقسام:

أ: العقود: و هی ماللألفاظ فیها مدخلیة و مشتملة علی إیجاب و قبول أو لاأقل مشتملة علی رضا الطرفین أو المتضمنة لقصد من الجانبین.

ب: الایقاعات: و هی ایضا ما للألفاظ فیها مدخلیة ولکن تشتمل علی إیجابات فقط أو مَقاصِد أو رضا من جانب واحد.

ج: الأحکام: و هی ما أثبتها الشرع من غیر توقیف علی لفظ أو قصد أو رضا.(1)

و هذه التعاریف لیست من التعاریف الحقیقیة بل من قبیل شرح الاسم و لذا لا تَطَّرِدُ و لا تَنْعَکِسُ.

ص: 5


1- (1) کذا قسّمها الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره فی شرح القواعد 1/97 و 96.

و ربّما عبّر عن بعض الکتب النهائیة فی الفقه بالسیاسات نحو: القضاء و الشهادات و الحدود و القصاص و الدیات.

و جماعة عبّروا عن هذا الکتاب بالبیع کما فی الانتصار(1) و المبسوط(2) و الخلاف(3) و الغنیة(4) و الجامع للشرائع(5) و الدروس(6) و کذا ربّما بالتجارة کما فی الشرائع(7) و المراد بالتجارة هی البیع وَ تَوابعُهُ، و لیس المراد بها ما ذکره الزمخشری من أنّها «صناعة التاجر و هو الذی یبیع و یشتری للربح»(8).

و کذا ربما عبّروا عن هذا الکتاب بالمتاجر کالعلاّمة فی القواعد(9) و الشهید فی اللمعة(10) و هو مصدر میمی بمعنی التجارة کالمقتل بمعنی القتل.

و حیث کان الإنسان مَدَنِیّا بالطبع و لا یمکنه الاستقلال بحوائجه کلّها فلابدّ فی حفظ النظام من تشریع المعاملات و تعلّم أحکامها و بما أنّ اشتغال الجمیع بها یوجب اختلاف النظام وجب التصدی لها کفایة کما فی مصباح الفقاهة(11).

ص: 6


1- (1) الانتصار /433.
2- (2) المبسوط 2/76.
3- (3) الخلاف 3/3.
4- (4) الغنیة /207.
5- (5) الجامع للشرائع /244.
6- (6) الدروس 3/191.
7- (7) شرائع الاسلام 2/3.
8- (8) الکشاف 3/242.
9- (9) قواعد الاحکام 2/5.
10- (10) اللمعة /103.
11- (11) مصباح الفقاهة 2/3.

الإضافة الحاصلة بین المال و مالکه

قبل الورود فیها لابدّ من التَّذْکِیْرِ مُجَدَّدا بِالْفَرْقِ بین المال و الملک و النسبة بینهما؛ المال: هو ما یبذل بإزائه المال أو الشیء و یتنافسون فیه و یدخرونه و یمیل إلیه النوع فی حدّ ذاته و لا یختص بالأعیان بل یعم المنافع و بعض الحقوق أیضا.

و النسبة بینه و بین الملک هی العموم من وجه، لأنّه قد یوجد الملک و لا یوجد المال کالحبّة من الاُرز فإنّها ملک و لیست بمال، و قد یتحقّق المال من دون الملک کالمباحات الأصلیة قبل حیازتها و قد یجتمعان نحو: الأراضی و الدور و السیارات و نحوها و هی کثیرة.

و أمّا الإضافة بین المال و مالکه: فَتارَةً هی إضافة حقیقیة خالقیة: و هی مالکیة اللّه تعالی بالنسبة إلی جمیع الأشیاء و المخلوقات، فالجمیع ملک للّه تعالی ملکیّة حقیقیة ذاتیة إشراقیة خالقیة: «قل اللهم مالک الملک»(1).

و اُخری: هی إضافة ذاتیة تکوینیة: و المراد بالذاتی هنا هو ما لا یحتاج تحققّه إلی أمر خارجی و لیس المراد به الذاتی فی باب البرهان: أیّ ما ینتزع من مقام الذات، و لا الذاتی فی باب الإیساغوجی أیّ: الجنس و الفصل.

و هذه الاضافة نحو: ملکیّة کلّ فرد لأعضائه و أطرافه و نفسه و أعماله و أفکاره و ذمّته.

و ثالثة: إضافة عرضیة اعتباریة: یظهر تَعْرِیْفُ العرضیة ممّا یقابلها من الذاتیة، فالمراد بها هی ما یحتاج تحققه إلی أمر خارجی و المراد بالإعتباری أیّ لیس لَهُ وجود حقیقی، متأصل بالذات. و هذه الاضافة نحو: ملکیّة کلّ فرد لأمواله الخارجیة.

و هذه الأخیرة إمّا الأوّلیة المنقسمة إلی الأصلیة الاستقلالیة و التبعیة الغیریة.

ص: 7


1- (1) سورة آل عمران /26.

و إمّا الثانویة المنقسمة إلی الاختیاریة و القهریة و تفصیل ذلک:

أ: الاضافة الأوّلیة الأصلیة نحو: الاضافة المالیة الحاصلة بالعمل أو بالحیازة أو بهما معا.

ب: الاضافة الأوّلیة التبعیة فهی ما تکون بین المالک و نتاج أمواله نحو: أنّه اصطاد حیوانا حیّا فولد له.

الاضافة الثانویة: و هی أیضا علی نَوْعَیْنِ:

أ: الاختیاریة: و هی الحاصلة من المعاملات من البیوع و الهبات.

ب: القهریة: و هی الحاصلة من الإرث و الوقف و الوصیة بناءً علی أنّ الأخیر من الإیقاعات.

و لتفصیل هذا البحث راجع مصباحَ الفقاهة 2/(7-4).

ص: 8

تعریف البیع

قال أحمد بن فارس: «بیع: الباء و الیاء و العین اصلٌ واحدٌ، و هو بیع الشیء و رُبّما سمّیَ الشِّرَی بیعا و المعنی واحدٌ. قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لا یبع أحدکم علی بیع أخیه، قالوا: معناه: لا یَشْتَرِ علی شِرَی أخیه، و یقال: بعت الشیء بیعا، فإن عَرَضْتَه للبیع قلتَ أبَعْتُهُ...(1)»(2).

و قال الفیومی: «... و البیع من الأضدادِ مثلُ الشِرَاءِ و یُطلق علی کلِّ واحد من المتعاقدین أنّه بائع، ولکن إذا اُطلق البائعُ فالمتبادر إلی الذهن باذل السِّلْعَةِ، و یُطلق البیع علی المبیع فیقال: بیعٌ جیدٌ و یُجمعُ علی بیوع، و بعتُ زیدا الدارَ یتعدّی إلی مفعولین و کثر الاقتصار علی الثانی لأنّه المقصودُ بالإسناد و لهذا تتمُّ به الفائدة نحو بعتُ الدارَ، و یجوز الاقتصارُ علی الأوّل عند عَدَمِ اللَّبْسِ نحو: بعتُ الأمیرَ لأنّ الأمیر لا یکون مملوکا یُباعُ... و الأصل فی البیع مُبادَلَةُ مالٍ بمالٍ لقولهم بیعٌ رابحٌ و بیعٌ خاسرٌ و ذلک حقیقةٌ فی وصف الأعیان لکنَّهُ اُطلق علی العقد مجازا لأنّه سببُ التملیک و التملُّکِ و قولُهُم: صحَّ البیعُ أو بَطَلَ و نحوه أیّ صیغة البیع لکن لمّا حُذِفَ المضاف اُقیمَ المضافُ إلیه مقامَهُ و هو مذکَّر اُسند الفعلُ و إلیه بلفظ التذکیر...»(3).

و قد عرّفه الفقهاء بکلمات مختلفة اُذکر لک بعضها:

البیع: انتقال عین مملوکة من شخص إلی غیره بعوضٍ مقدّر علی وجه التراضی، فلا ینعقد علی المنافع و لا علی ما لا یصحّ تملّکه و لا مع خلوّه عن العوض و لا مع جهالته و لا

ص: 9


1- (1) و لذا لا یَصحُّ قَوْلُهُمْ: المُباعُ لا یرجِع لاِءنّ مَقْصُوْدَهُمْ: الذی دَفَعَ علیه الْبَیْعُ لا المعروض و الصوابُ: المَبِیْعُ.
2- (2) معجم مقاییس اللغة 1/327.
3- (3) المصباح المنیر /69.

مع الإکراه، و یظهر هذا التعریف من المبسوط(1) و السرائر(2) و التذکرة(3) و نهایة الإحکام(4) و التحریر(5) و التلخیص(6) و القواعد(7).

و فی المختلف(8): أنّه العقد علی الانتقال المذکور و أنّه المتبادر من البیع عند الإطلاق.

و فی الکافی(9): أنّه عقد یقتضی استحقاق التصرف فی المبیع و الثمن و تسلیمهما. و نحوه فی النافع(10) و الدروس(11) و التنقیح(12) من أنّه الإیجاب و القبول علی اختلافها فی القیود زیادة و نقصانا.

و استقرب المحقّق الثانی(13) أنّه نقل الملک من مالک إلی غیره بصیغة مخصوصة. و هو ظاهر الشرائع(14) و اللمعة(15) حیث عرّفا فیهما عقد البیع بما دلّ علی نقل الملک فیکون نقلاً لا انتقالاً و لا عقدا و اختاره السیّد بحرالعلوم فی مصابیحه علی ما حکی عنه تلمیذهُ

ص: 10


1- (1) المبسوط 2/76.
2- (2) السرائر 2/240.
3- (3) تذکرة الفقهاء 10/5.
4- (4) نهایة الإحکام 2/447.
5- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 2/275.
6- (6) تلخیص المرام /94.
7- (7) قواعد الأحکام 2/16.
8- (8) مختلف الشیعة 5/51.
9- (9) الکافی فی الفقه /352.
10- (10) المختصر النافع /118.
11- (11) الدروس 3/191.
12- (12) التنقیح الرائع 2/23.
13- (13) جامع المقاصد 4/55.
14- (14) الشرائع 2/7.
15- (15) اللمعة الدمشقیة /109.

صاحب المفتاح(1)، الذی جمیع هذه المنقولات منه و اختار هو أنّه: «إنشا تملیک العین بعوض علی وجه التراضی»(2).

و لعلّ الصحیح فی تعریفه هو: تملیک خاص بعوض أو تبدیل العین أو الشیء بعوض علی وجه التراضی بین الطرفین. أو «تملیک العین بالعوض فی ظرف تملّک المشتری» کما عن المحقّق النائینی(3). و لازمه التبادل و تعویض طرفی إضافة الملکیّة.

و الذی یسهل الخطب أنّ العرف یعرفون البیع و أنّ مفهومه من المفاهیم الواضحة البدیهیة الارتکازیة التی یعرفها کلّ أحد فی الجملة، و لیس له حقیقة شرعیة و لا حقیقة متشرعة کما اعترف به الشیخ الأعظم(4) رحمه الله فهذه التعاریف المختلفة کلّها إشارة إلی ذاک المفهوم العرفی المرتکز فی الأذهان فلا نَتَرَتَّبُ فائدة علی النقض و الإبرام علیها و تطویل الکلام فیها.

تنبیهات

اشارة

نعم هاهنا اُمورٌ لابدّ من التنبیهِ علیها:

الأوّل: هل یعتبر فی البیع کون المعوَّض من الأعیان؟

المصرَّح به فی کلام جماعة من الأصحاب و لعل المشهور هو هذا الاعتبار کما قال الشیخ الأعظم قدس سره : «الظاهر اختصاص المعوّض بالعین، فلا یعمّ أبدال المنافع بغیرها و علیه استقرّ اصطلاح الفقهاء فی البیع»(5).

و قال قبله صاحب الجواهر: «لا خلاف و لا اشکال فی اعتبار کون المبیع عینا و

ص: 11


1- (1) مفتاح الکرامة 12/476.
2- (2) مفتاح الکرامة 12/482.
3- (3) منیة الطالب 1/114.
4- (4) المکاسب 3/10.
5- (5) المکاسب 3/7.

لذلک اشتهر بینهم أنّه لنقل الأعیان کإشتهار أنّ الإجارة لنقل المنافع»(1).

ولکن یظهر من الشیخ أنّه یستعمل البیع فی نقل غیر الأعیان فی شأن بیع العبد المدبَّر إذا عاد إلی مولاه فهل یعود حکم التدبیر أم لا؟ قال: «و الذی نقوله إن کان حین باعه نقض تدبیره فإنّه لا یعود تدبیره و إن کان لم ینقض تدبیره فالتدبیر باق، لأنّ عندنا یصحّ بیع خدمته دون رقبته مدّة حیاته...»(2).

و قال الشیخ فی نهایته: «و متی أراد المدبِّرُ بیعه من غیر أن یَنْقُصَ تدبیره لم یجزْ له: إلاّ أن یُعْلِمَ المبتاع أنّه یَبِیعُهُ خدمتَه و أنّه متی مات هو، کان حرّا لا سبیل له علیه»(3).

و قد حکی الشهید عن ابن الجنید قوله: «تباع خدمته مدّة حیاة السیّد»(4).

کما ورد فی بعض الروایات استعماله فی غیر نقل الأعیان:

منها: موثقة اسحاق بن عمار عن عبد صالح علیه السلام قال: سألته عن رجل فی یده دار لیست له و لم تزل فی یده و ید آبائه من قبله قد أعلمه من مضی من آبائه أنّها لیست لهم و لا یدرون لِمَنْ هی فیبیعها و یأخذ ثمنها؟ قال: ما اُحبُّ أن یبیع ما لیس له، قلت: فإنّه لیس له، قلت: فیبیع سکناها أو مکانها فی یده فیقول: أبیعک سکنای و تکون فی یدک کما هی فی یدی، قال: نعم یبیعها علی هذا.(5)

و منها: صحیحة اسماعیل بن الفضل الهاشمی قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن رجل اشتری أرضا من أرض أهل الذمة من الخراج و أهلها کارهون و إنّما یَقْبَلُها من السلطان

ص: 12


1- (1) الجواهر 22/208.
2- (2) المبسوط 6/172.
3- (3) النهایة /552.
4- (4) الدروس الشرعیة 2/233.
5- (5) وسائل الشیعة 17/335، ح5، الباب 1 من أبواب عقد البیع و شروطه.

لعجز أهلها عنها أو غیر عجز، فقال: إذا عجز أربابها عنها فلک أن تأخذها إلاّ أن یضاروا و إن أعطیتهم شیئا فسخت أنفس أهلها لکم فخذوها. قال: و سألته عن رجل اشتری أرضا من أرض الخراج فبنی بها أو لم یبن غیر أنّ اُناسا من أهل الذمة نزولوها، له أن یأخذ منهم اُجرة البیوت إذا أدّوا جزیة رؤوسهم؟ قال: یشارطهم فما أخذ بعد الشرط فهو حلال.(1)

و نحوها خبر محمّد بن شریح(2) و خبر أبی بُردَة بن رجَا(3) و صحیحة حریز(4) و حسنة ابراهیم بن أبی زیاد(5) و موثقة محمّد بن مسلم و عمر بن حنظلة(6).

و منها: صحیحة أبی مریم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سُئل عن رجل یعتق جاریته عن دبر، أیطؤها إن شاء أو ینکحها أو یبیع خدمتها حیاته؟ فقال: أیّ ذلک شاء فعل(7).

و نحوها معتبرة السکونی(8) و خبر علیٍّ(9).

و حمل الجمیع علی «مسامحة فی التعبیر»(10) کما عن الشیخ الأعظم قدس سره مشکل جدّا.

مضافا إلی خروج بیع الکلّی فی جمیع أقسامها: من الکلّی فی ذمّه البائع أو فی ذمّة الغیر و الکلّی المشاع و الکلّی فی الخارج، و الکلّ یتفقون علی صحة بیع الکلّی.

فالظاهر أنّ المراد بالعین فی کلماتهم إذا کان الشخص الخارجی فلا یصح جمیع هذه

ص: 13


1- (1) وسائل الشیعة 17/370، ح10، الباب 21 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- (2) وسائل الشیعة 17/370، ح9.
3- (3) وسائل الشیعة 15/155، ح1، الباب 71 من أبواب جهاد العدو.
4- (4) وسائل الشیعة 15/157، ح6.
5- (5) وسائل الشیعة 15/156، ح4.
6- (6) وسائل الشیعة 15/156، ح3.
7- (7) وسائل الشیعة 23/119، ح1، الباب 3 من أبواب التدبیر.
8- (8) وسائل الشیعة 23/120، ح4.
9- (9) وسائل الشیعة 23/120، ح3.
10- (10) المکاسب 3/7.

الموارد ولکن إذا کان المراد بالعین ما یقابل المنفعة لتشمل الشخص الخارجی و الکلّی بجمیع أقسامها و یخرج منه الموارد المذکورة فی الروایات التی مرّت آنفا.

و الذی یختلج بالبال کما مرّ: أنَّ (بِحَذْفِ الباءِ) البیع لیس له حقیقة شرعیة و لا متشرعة و علی هذا کُلّ ما سماه عرف العقلاء بیعا فهو بیع و أمضاه الشارع ب-«أحل اللّه البیع»(1) إلاّ ما خرج بالدلیل نحو: البیع الربوی و غیره. و علی ما ذکرناه تدخل الروایات أیضا من دون مسامحة و لذا قال صاحب الجواهر رحمه الله : «و عن بعض المتأخرین اعتبار عینیة العوضین، و هو وهم»(2) و اللّه العالم.

الثانی: بیع الکلّی

الأعیان فی البیع تارة تکون شخصیّةً و اُخری کُلِّیَّةً.

العین الشخصی إمّا یکون بالفعل موجودا و إمّا أن یکون بالقوة الأوّل نحو: بیع الأعیان الخارجیة، و الثانی نحو: الأثمار المتجددة فی بیع الثمرة علی الشجر.

و أمّا الکلّی فَهُوَ أیضا علی أقسام: الأوّل و الثانی: الکلّی الثابت فی الذمّة، و الذمّة تنقسم إلی ذمّة البائع نفسه أو ذمّة غیره، الکلّی الثابت فی ذمّة الإنسان نفسه نحو: بیع منّ مِن الاُرز حالاًّ أو سَلَما، و الکلّی الثابت فی ذمّة غیره کبیع الدین ممّن هو علیه أو من غیره. فهاتان صورتان.

الثالث: الکلّی المشاع: کثلث الدار أو کسر آخر منها.

الرابع: الکلّی فی المعین: کصاح من الصبرة المعینة.

لا اشکال فی تعلّق البیع بجمیع هذه الصور فی العرف و عند العقلاء و لم یَنْهَ الشارع

ص: 14


1- (1) سورة البقرة /275.
2- (2) الجواهر 22/209.

عنها فصار البیع صحیحا و لا یصغی إلی الاشکالات الباردة فی بیع الکلّی فی الذمّة من أنّ الملکیّة تحتاج إلی محلّ تعرضها و هو هنا غیر موجود، و الکلّی قبل تحقّق العقد لا یعدّ مالاً، و کیف یبیع الإنسان ما لا یملکه؟

و الجواب عن الأوّل: بأنّ الملکیة أمر اعتباری و لیست من الاُمور الحقیقیة المتأصلة من الأعراض حتّی تحتاج إلی محل.

و عن الثانی: المالیة تدور مدار العرف و العقلاء و هی حاصلة فی مَنّ مِن الاُرز حالاًّ أو سَلَما.

و عن الثالث: بأنّ العرف یَعُدُّ الملکیّة ثابتة له ولو علی نحو الإجمال و القوّة لأنّ القدرة القریبة من الفعل تجعل الإنسان مالکا لشیء بالقوة نظیر الثمرة المتجددة علی الشجرة.

و الحاصل: بعد اعتراف العرف و العقلاء بصحة هذه البیوع فلا عبرة بهذه الاشکالات الواهنة.

الثالث: الحقوق و بیعها

اشارة

الحقّ فی اللغة یستعمل بمعنی: ثابتٌ و موجودٌ و فی الاصطلاح یطلق علی مَعْنَیَیْنِ و هما الحقیقی و الإعتباری.

أمّا المعنی الإصطلاحی الحقیقی: فَیُرادُ به وجود الشیء و أنّه واقع فی العالم الوجود و یتحقّق خارجا نحو: قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله : علی علیه السلام مع الحقّ و الحقّ مع علی علیه السلام .(1)

و أمّا المعنی الاصطلاحی الاعتباری فَالْحَقُّ أَنَّ هذا المعنی لا یتحقّق فی الخارج إلاّ مع الاعتبار. کحقّ الزوجیة و حقّ الخیار. و المراد به هو سلطنة و أولویّة شرّعت رعایة لحال

ص: 15


1- (1) تاریخ مدینة دمشق 3/120، شرح نهج البلاغة 2/297، تاریخ بغداد 14/321، کنزالعمال 6/157، مجمع الزوائد 7/235، و نموها فی صحیح الترمذی 2/298، مستدرک الصحیحین 3/119 و 124، مجمع الزوائد 7/243 و 9/134.

المکلّف وَرِفْقا به أو لکونه أهلاً لذلک.

قال أمیرالمؤمنین علیه السلام فی خطبة خطبها بصفین: «أمّا بعد فقد جعل اللّه سبحانه لی علیکم حقّا بولایة أمرکم و لکم عَلَیَّ مِنْ الحقِّ مثل الذی لی علیکم، فالحقّ أوسع الأشیاء فی التواصف و أضیقها فی التناصف، لا یجری لأحدٍ إلاّ جری علیه و لا یَجْری علیه إلاّ جری له ولو کان لإحد أن یجری له و لا یجری علیه لکان ذلک خالصا للّه سبحانه دون خلقه لقدرته علی عباده و لعدله فی کلّ ما جرت علیه صروف قضائه ولکنّه سبحانه جعل حقّه علی العباد أن یطیعوه و جعل جزاءهم علیه مضاعفة الثواب تفضّلاً منه و توسّعا بما هو من المزید أهله»(1).

و علی هذه الاساس ما ورد من الحقّ علی اللّه تعالی لیس منه تعالی إلاّ التفضل و الرحمة نحو قوله تعالی: «و کان حقّا علینا نصر المؤمنین»(2) و قوله تعالی: «کتب ربکم علی نفسه الرحمة»(3) و أمّا بالنسبة إلی غیر اللّه تعالی فَتَکُوْنُ الحقوق متقابلة بین الطرفین فی الغالب.

الفرق بین الحقّ و المال: الحقّ هو سلطنة متعلقة بالمال و لیس بالمال نفسه نحو: حقّ التحجیر و حقّ الرهانة و حقّ الخیار.

و بعبارة اُخری: الحقّ کالملک فی أنّه سلطنة متعلَّقها المال و لیس المال نفسه، نعم یصحّ تعلّقه بما یتعلّق بالمال کحقّ الخیار و الشفعة.

و کذا یصحّ تعلّقه بنفس الغیر کتعلّق حقّ الولایة لولی الصغیر بنفسه.

و کذا یصحّ تعلّقه بذمّة الغیر کحقّ الزوجیة.

ص: 16


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة /216.
2- (2) سورة الروم /47.
3- (3) سورة الانعام /54.

و أمّا الفرق بین الحقّ و بین الملک: فَإِنَّهُما مشترکان فی کونهما سلطنةً ولکن الفرق بینهما أَنَّ الحقّ متعلّقه إمّا أن یکون من سنخ المال - ولکن من مال غیر من هو له - و إمّا أن یکون من غیر سنخ المال.

ولکن الملک لابدّ أن یکون متعلّقه من سنخ المال بل مِن مال مَنْ هو له ولو کان لقلّته و حقارته لا یعدّ مالاً فی العرف.

و الفرق بین الحقّ و الحکم الترخیصی - لا الایجابی و التحریمی - یمکن أن یقال بأنّ الفرق بینهما: أنّ المجعول ابتداءً فی الحقّ هو السلطنة و فی الحکم هو الإباحة.

و بعبارة اُخری: الداعی إلی تشریع الحقّ هو الرعایة من الشارع لحال المکلّف و لیاقته للسطلنة ولکن الحکم الترخیصی الداعی إلی جعله خلوه من المصلحة و المفسدة فی نوعه.

و الحقّ و الحکم الترخیصی کثیرا ما یشتبه أحدهما بالآخر نحو: الرجوع إلی المطلّقة الرجعیة قبل انقضاء العدة، أو الجواز فی العقود الجائزة بالأَصالة.(1)

أقسام الحقوق بالنسبة إلی صحة النقل و الإسقاط

1- ما لا یصح نقله و لا اسقاطه، و لا ینتقل بالموت نحو: حقّ الاُبوة و حقّ الولایة للمجتهد الجامع شرائط الإفتاء، و حقّ الاستمتاع بالزوجة.

2- ما یجوز اسقاطه و لا یصح نقله و لا ینتقل بالموت أیضا: کحقّ الغیبة بناءً علی وجوب إرضاء صاحبه و عدم کفایة التوبة.

3- ما لا یصح نقله ولکن یجوز اسقاطه و ینتقل بالموت: کحّق الشفعة علی

ص: 17


1- (1) و لتفصیل هذا البحث راجع کتابَ البیع 1/(13-10) لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی قدس سره .

وجه.

4- ما یصح نقله و اسقاطه و ینتقل بالموت أیضا: کحقوق الخیار و القصاص و الرهانة و التحجیر و الشرط.

5- ما یجوز اسقاطه و نقله لا بعوض و لا ینتقل بالموت: کحقّ القَسْم علی ما ذکره جماعة کالشیخ فی المبسوط(1) و العلاّمة فی القواعد(2) و الشهید فی اللمعة(3). و فیه نظر بیّن.

6- ما هو محلّ الشک فی صحة الإسقاط و النقل و الإنتقال نحو: حقّ الرجوع فی العدة الرجعیة، و حقّ النفقة فی الأرقاب کالأبوین و الأولاد، و حقّ الفسخ فی النکاح بالعیوب، و حقّ المطالبة فی القرض و الودیعة و العاریة، و حقّ الفسخ فی العقود الجائزة کأمثال: الشرکة و المضاربة و الوکالة و الهبة.(4)

و اعلم: أَنَّ مِنْ لَوازمِ الْحُکْمِ عَدَمُ جَوازِ إِسْقاطِهِ و من لوازم الحقّ جواز إسقاطه ما لم یمنع عنه مانع، و إذا ما شککنا بنُفُوْذِ الإسقاط و عدمه، فالاْءَصْلُ یجری بالنسبة إلی عدم النفوذ و عدم السقوط، کالرجوع فی العدّة إلی المطلقة الرجعیة قبل انقضاء العدة فیشک أنّه حکم حتّی لا یؤثر إسقاطه أو حقّ حتّی یؤثر فیحکم ببقائه بعد الإسقاط لِلاستصحاب.

ثم: إذا تَعَیَّنَت الحقیّة وَ طُرِحَت الحکمیة و شککنا فی أنّها تقبل النقل و الانتقال أم لا؟ فَالاْءَصْلُ یقتضی عدم نفوذ النقل و الانتقال فلا یجوز بیعها.

و قد أسس المؤسس الحائری قدس سره أصلاً ثانیا فی المقام حیث یقول: «لکن یمکن

ص: 18


1- (1) المبسوط 4/325.
2- (2) القواعد 2/45.
3- (3) اللمعة الدمشقیة /174.
4- (4) فی هذه الأقسام راجع حاشیة الفقیه الیزدی علی المکاسب 1/282 و 281.

استفادة الأصل و القاعدة علی القبول من قوله علیه السلام : ما ترک المیت من حقٍّ فلوارثه(1)، و فی روایة: زیادة «أو مال» بعد قوله «من حقّ»، و علی الأوّل: معناه الأعم الشامل للمال و کیف کان فمضمونه تأسیس القاعدة علی أنّ کلّ حقّ ینتقل بالموت إلی الوارث فیستکشف منه القابلیة للنقل فی جمیع الحقوق ضرورة أنّ الانتقال الفعلی الذی هو مضمون الروایة فرع القابلیة فیکون هذا أصلاً ثانویا حاکما علی الأصل الأوّلی، غایة الأمر أنّه خرج ما خرج»(2).

و فیه: أوّلاً: هذه الروایة مرسلة، لم تنقل فی کتب الحدیث بل نقلت فی کتب الاستدلال فقط کما یَظْهَرُ من مصادرها.

و ثانیا: یمکن المناقشة فی دلالتها بأنّ المراد من الحقّ فیها الحقوق التی تقبل النقل و الانتقال.

ولکن یمکن تأیید المؤسس الحائری قدس سره بأنّ الحقّ إذا کان من الحقوق التی تُعُوْرِفَ نقلها و انتقالها عند العرف أمکن القول بامضائها من ناحیة الشارع بعد عدم وصول الردع عنه بخصوصها. لما مرّ فی تعریف البیع.

و أمّا التمسک بعمومات البیع و الصلح و العقد لأجل جواز النقل بنحو القابلیة الشرعیة فلا یتم لأنّه تمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة له.

و لأحدٍ أن یقال: الحقوق التی تقوم بالأشخاص أو العنوان لا یجوز التعدی مِنْها إلی

ص: 19


1- (1) وردت الروایة فی دعائم الإسلام 2/395 هکذا: ما ترک المیت من شیء فلورثته. نعم وردت هذه الألفاظ المذکورة فی کتب الاستدلال نحو: المسالک 12/341 و المفاتیح 3/82 و الحدائق 20/326 و حاشیة مجمع الفائدة /214 للوحید و ریاض المسائل 8/202 و الجواهر 23/75.
2- (2) کتاب البیع 1/17 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی قدس سره .

غیرها نحو: ولایة الفقیه أو حقوق الوصایة بالنسبة إلی الوصیّ أو القیمومیة بالنسبة إلی القیم أو التولیة بالنسبة إلی المتولی، و أمّا غیرها إذا تُعُوْرِفَ نقلها و لم یرد من الشرع النهی عنه فیجوز نقلها و انتقالها.

و بعبارة اُخری: الحقّ بطبیعته یقتضی جواز إسقاطه و نقله، لأنّ من له الحقّ کان مالکا له و مسلَّطا علیه، فالمنع منهما إمّا تعبدی أو من جهة قصور فی کیفیته بحسب الجعل، و تحصیل عدم الأوّل واضح، و الثانی نحو أن یکون الحقّ متقوِّما بشخص خاص أو عنوان خاص کحقّ التولیة فی الوقف و حقّ الشفعة بالنسبة إلی الشریک.

و إذا شک فی کون شیءٍ حقّا، فهل یجوز إسقاطه أو نقله أم لا؟ الظاهر لا، و أمّا إن علم کونه حقّا و علم المنع التعبدی أو کون الشخص أو العنوان مقوّما له فلا اشکال، و إن شک فی المنع فمقتضی العمومات صحة التصرفات فیه، و کذا إن شک فی کون الشخص أو النوع مقوّما بحسب الجعل الشرعی بعد إحراز القابلیة بحسب العرف، مقتضی العمومات یَدُلُ علی صحة التصرفات فیه بعد فرض صدق عناوینها.

و من ذلک یَظْهَرُ أنّ ما یقال من أنّ العمومات لا تثبت القابلیّات، مدفوع بأنّ ذلک إذا کان الشک فی القابلیة العرفیة، ولکن ما نحن فیه هو فی القابلیة الشرعیة و شأن العمومات إثباتها. هذا ما أفاده الفقیه الیزدی(1) قدس سره بتلخیص منّا.

و بما ذکرنا تظهر مواقع النظر فی ما ذهب إلیه المحقّق السیِّدُ الخوئی: «من أنّ الحکم و الحقّ متحدان حقیقة لأنّ قوامهما بالاعتبار الصرف - ثم قسّم المعجولات الشرعیة علی ستة أقسام و قال: - و هذه الامور الاعتباریة و إن اختلف من حیث الآثار اختلافا واضحا ولکنّها تشترک فی أنّ قوامها بالاعتبار المحض و إذن فلا وجه لتقسیم المجعول الشرعی أو

ص: 20


1- (1) حاشیة المکاسب 1/283.

العقلائی إلی الحقّ و الحکم لکی نحتاج إلی بیان الفارق بینهما، بل کلّها حکم شرعی أو عقلائی قد اعتبر لمصالح خاصة...، نعم، تختلف هذه الأحکام فی الأثر اختلافا ظاهرا فبعضها یقبل الاسقاط و بعضها لا یقبله، و السرّ فی هذا الاختلاف هو أنّ زمام تلک الاُمور بید الشارع حدوثا و بقاءً، فقد یحکم ببقائه کما حکم بحدوثه، و قد یحکم بارتفاعه ولو کان ذلک باختیار أحد المتعاملین أو کلیهما، نعم المتبع فی ذلک - فی مقام الإثبات - هو الأدلة الشرعیة و علی الجملة إنّ الجواز و اللزوم الوضعیین کالجواز و اللزوم التکلیفیین فإن جمیعها من الأحکام الشرعیة و لا تفاوت فی ماهیتها و ذواتها و إن اختلفت آثارها.

... نعم لا مانع من تخصیص اطلاق الحقّ اصطلاحا بطائفة من الأحکام - و هی التی تقبل الإسقاط، إذ لا مُشاحَّةَ فی الاصطلاح... و ممّا یدل علی اتحاد الحقّ و الحکم أنّ لفظ الحقّ فی اللغة بمعنی الثبوت و لذا یصح إطلاقه علی کلّ أمرٍ متقرر فی وعائه المناسب له، سواء أکان تقررا تکوینیا أم کان اعتباریا...»(1) و قد استشکل(2) علی هذا المبنی فی عدم جواز جعل الحقّ ثمنا فی البیع لأنّ الحقّ حکم شرعی غیر قابل لأن تتعلَّق به اضافة ملکیة أو غیرها، و غایة الأمر یکون قابلاً للاسقاط و به ینتهی أمده.

أقول: و فیه: أوّلاً: ظهر ممّا ذکرنا الفرق بین الحکم و الحقّ(3) و اعتباریتهما لا تدلّ علی کونهما شیئا واحدا و إلاّ صار جمیع العقود و الأحکام شیئا واحدا لأنّ الجمیع مُشْتَرِکٌ فی الاعتباریة.

و ثانیا: الحقوق ممّا یبذلُ العقلاء فی قبالها الأموال و تکون موردا لرغبتهم و

ص: 21


1- (1) مصباح الفقاهة 2/(47-45).
2- (2) مصباح الفقاهة 2/43.
3- (3) و لتفصیل الفرق بینهما راجع کتاب البیع 1/12 و 11 من تقریرات المؤسس الحائری بقلم شیخنا آیة اللّه الأراکی.

تنافسهم فیصدق علیها أنّها مال بالحمل الشائع فلا مانع من جواز المعاوضة علیها کما اعترف(1) قدس سره به قبل هذا الاشکال. و کذا یجوز بیعها.

و ثالثا: إنّ ثبوت الحقّ فی موارد عدم ثبوت الحکم - و هو الجواز أو اللزوم - یدلّ علی افتراقهما و أنّهما شیئان مختلفان کما إذا باع داره ببیع الخیار ثم عرض له السفه، فإنّه یقوم ولیه مقامه، مع أنّ الخیار کان مجعولاً للبائع، أو کان شریک مالک الحصة سفیها لا یصح له الأخذ بالشفعة فإنّه یقوم ولیُّه مقامه مع أنّ الشفعة مجعولة للشریک نفسه لا لِوَلِیّهِ.

و لذا مثل حقّ التحجیر أو السبق یعدّ اُولویة اعتباریة للشخص بالإضافة إلی الأرضِ الموات أو المسجد و المدرسة و نحوهما و هذه الاُولویة فی نفسها قابلة للنقل إلی الآخر مجانا کان أو بالعوض فتشملها أدلة حلیة البیوع و اوفوا بالعقود و جواز الصلح و نحوها. و قد تعرض لهذا الجواب شیخنا الاُستاذ(2) - مد ظله - .

و کذا تظهر مواقع النظر فی کلام المحقّق النائینی(3) من أنّ قوام الحقّ بقابلیة للإسقاط بخلاف الحکم تبعا للشهید(4) و تعجّب من الفقیه الیزدی کیف یقسم الحقوق إلی ما یقبل الإسقاط و ما لا یقبل!

لما مرّ أنّ من لوازم الحق جواز إسقاطه ما لم یمنع عنه مانع تعبدی أو من جهة قصور فی کیفیة جعله بحیث یکون متقوما بشخص خاص أو عنوان خاص، لا من مقوماته و علی هذا یوجد فی الحقوق ما لا یجوز إسقاطه کحقوق اللّه علی الانسان و حقوق رسول اللّه صلی الله علیه و آله و الأئمة علیهم السلام علیه، و کبعض الحُقوقِ المتقابلة بین المؤمنین من الفردیّة و الاجتماعیّة و العائلیّة و

ص: 22


1- (1) مصباح الفقاهة 2/42.
2- (2) ارشاد الطالب 2/13.
3- (3) منیة الطالب 1/107.
4- (4) القواعد و الفوائد 2/43.

الحکومیّة و الحقوق المتقابلة بین الملل و کذا الحقوق بین الانسان و الطبیعة و الحیوانات و نحوها.(1)

فما ذکره المحقق النائینی یوجب خروج عدّة متناهیة من الحقوق و هو غیر سدید.

و الحاصل: حیث أنّ الحقوق التی یجوز نقلها و انتقالها بل یجوز إسقاطها تُعَدُّ فی العرف مالاً فلا بأس ببیعها و العجب من الجد الشیخ جعفر کاشف الغِطاء قدس سره حیث ذهب إلی عدم صحة بیعها و قال: «و أمّا الحقوق: فالظاهر أنّها لا تقع ثمنا و لا مثمنا لخفاء الملکیّة فیها فلاتتبادر من الملک»(2).

و لعلّ لما ذکرنا استشکل تلمیذه صاحب الجواهر علیه بقوله: «فی شرح الأستاد اعتبار عدم کونه حقّا مع أنّه لا یخلو من منع لما عرفته من الإطلاق المزبور [أی من إطلاق العوض و الثمن بحیث یدخل الشخصی و الکلّی و العین و المنفعة] المقتضی لکونه کالصلح الذی لا إشکال فی وقوعه علی الحقوق، فلا یبعد صحة وقوعها ثمنا فی البیع و غیره، من غیر فرق بین اقتضاء ذلک سقوطها کبیع العین بحقّ الخیار و الشفعة علی معنی سقوطهما و بین اقتضائه نقلها کحقّ التحجیر و نحوه، و کان نظره رحمه الله فی المنع إلی الأوّل باعتبار معلومیّة کون البیع من النواقل لا من المسقطات بخلاف الصلح.

و فیه: إنّ من البیع، بیع الدین علی من هو علیه، و لا ریب فی اقتضائه حینئذ الإسقاط ولو باعتبار أنّ الإنسان لا یملک علی نفسه ما یملکه غیره علیه الذی بعینه یقرر فی نحو حقّ الخیار و الشفعة، و اللّه أعلم»(3).

ص: 23


1- (1) فی هذا المجال راجع «رساله حقوق» لبعض أساتذتنا - مد ظله - باللغة الفارسیة و قد أتعب نفسه الشریفة فی عدّ الحقوق المختلفة.
2- (2) شرح القواعد 2/11.
3- (3) الجواهر 22/209.

أقول: قد عرفت أنّ صاحب الجواهر قدس سره ذهب إلی جواز بیع الحقوق التی یجوز إسقاطها و نقلها و انتقالها بجعلها فی البیع ثمنا. و الصحیح عندنا جواز بیعها بلا فرق بین کونها ثمنا أو مثمنا لما مرّ فی تعریف الحقّ و البیع ما یصح معاملتها و بیعها، و اللّه العالم.

الرابع: هل یعتبر فی البیع کونه بالصیغة؟

اشارة

انشاء العقد باللفظ و قراءةُ الصیغة هل یعتبران فی البیع أم لا؟ ذهب المشهور علی الاعتبار بل کاد أن یکون إجماعا، ولکن جماعة من الفقهاء یقولون بعدم الاعتبار:

منهم: الشیخ المفید قال: «و البیع ینعقد علی تراض بین الاثنین فیما یملکان التبایع له، إذا عرفاه جمیعا و تراضیا بالبیع و تقابضا و افترقا بالأبدان»(1).

و استفاد من هذه المقالة جماعة من الفقهاء نحو الشَّهِیْدَیْنِ(2) و المحقّق الکرکی(3) عدم اعتبار الصیغة و الإکتفاء بالمعاطاة فحینئذ ما ذکره العلاّمة فی المختلف: «بأنّ للمفید قولاً یوهم الجواز - ثم ذکر کلام المفید - و قال: لیس فی هذا تصریح بصحته إلاّ أنّه موهم»(4)، غیر تام.

و منهم: الشیخ الطوسی فی ظاهر المبسوط یقول: «البیع هو انتقال عین مملوکة من شخص إلی غیره بعوض مقدّر علی وجه التراضی»(5) و لم یشترط العقد هنا و إن اشترطه فی غیرها.

ص: 24


1- (1) المقنعة /591.
2- (2) الدروس 3/192؛ المسالک 3/147.
3- (3) جامع المقاصد 4/58.
4- (4) مختلف الشیعة 5/51.
5- (5) المبسوط 2/76.

و منهم: ابن ادریس الحلّی فی السرائر(1) ذهب إلی تعریف الشیخ و لم یشترط العقد.

و العلاّمة أخذ هذا التعریف فی عدّة من کتبه نحو: التذکرة(2) و النهایة(3) و التلخیص(4) و التحریر(5) و القواعد(6) و لکنّه بعده تعرّض لاِشتراط الصیغة أو خروج المعاطاة کما فی النهایة حیث یقول فیها: «المعاطاة لیست بیعا»(7).

ترجمة السید حسن ابن السید جعفر من مشایخ الشهید الثانی

و منهم: السیّد حسن ابن السیّد جعفر(8) و هو من مشایخ الشهید الثانی حیث قال

ص: 25


1- (1) السرائر 2/240.
2- (2) تذکرة الفقهاء 10/5.
3- (3) نهایة الإحکام 2/447.
4- (4) تلخیص المرام /94.
5- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 2/275.
6- (6) قواعد الأحکام 2/16.
7- (7) نهایة الإحکام 2/449.
8- (8) هو بدرالدین الحسن بن جعفر بن فخرالدین بن الحسن بن نجم الدین الأعرج الحسینی العاملی الکرکی - من مشایخ علی بن هلال الکرکی و الشهید الثانی و الشیخ حسین بن عبدالصمد والد البهائی - و کان ابن خالة المحقّق الکرکی و وصفه الشهید الثانی فی إجازة للوالد البهائی بقوله: «شیخنا الأجل الأعلم الأکمل ذی النفس الطاهرة الزکیة أفضل المتأخرین فی قوّتَیْه: العلمیَّة و العملیّة»... ثم ذکر نسبه و کتبه. [راجع رسائل الشهید الثانی 2/1116 و 1117]. المتوفی عام 933 کما فی الأمل، أو 6 شهر رمضان 936 کما فی نظام الأقوال و له أقوال فی الفقه لعلّه بعضها مختصة به: منها: تطهیر الماء النجس إذا وقعت قطرة واحدة من المطر علیه. کما نقل عنه ثانی الشهیدین فی روض الجنان 1/172، المحدّث البحرانی فی الحدائق 1/221، و المحقق القمی فی غنائم الأیام 1/530. و منها: اشتراطه فی دم الحیض فی الثلاثة رؤیته فی أوّل الأوّل و آخر الثالث و أیّ وقت من الثانی. کما نقل عنه فی الحدائق 3/169 و المستند 2/194 و الجواهر 3/157 [3/284]. منها: أنّه جعل مقارنة النیة مع تکبیرة الإحرام فی الصلاة من ارکانها کما نقل عنه صاحب الجواهر 12/240. و منها: لو أجنب فنام فطلع الفجر صح صومه لو نوی الاغتسال لیلاً ولکن شرط هو اعتیاده الانتباه و إلاّ کان کمتعمِّد البقاء، کما فی المسالک 2/18، و نسب فی هامش بعض نسخه إلیه. و منها: أنّه یری جعل وضع الحدیدة فی عصا المداقق حیلة علی جواز الفعل، نظرا إلی دخوله بذلک فی النصل [فی الرمایة]، کما نقل عنه فی المسالک 6/85. و له مصنفات منها: المحجة البیضاء و العمدة الجلیة و مقنع الطلاب و شرح الطیبة الجزریة، انظر ترجمته فی أمل الآمل 1/56 و تعلیقته للأفندی /42 و طبقات أعلام الشیعة، القرن العاشر /49.

فی المسالک: «و قد کان بعض مشایخنا المعاصرین یذهب إلی ذلک أیضا، لکن یشترط فی الدال کونه لفظا و إطلاق کلام المفید أعم منه، و النصوص المطلقة من الکتاب و السنة الدالة علی حلّ البیع و انعقاده من غیر تقیید بصیغة خاصة یدلّ علی ذلک، فأنّا لم نقف علی دلیل صریح فی اعتبار لفظ معین غیر أنّ الوقوف مع المشهور هو الأجود...»(1).

و منهم: المحقّق الأردبیلی قال: «فاعلم أنّ الذی یظهر أنّه لا یحتاج فی انعقاد عقد البیع المملِّک الناقل للملک من البائع إلی المشتری و بالعکس إلی الصیغة المعینة کما هو المشهور، بل یکفی کلّ ما یدلّ علی قصد ذلک مع الإقباض و هو المذهب المنسوب إلی الشیخ المفید من القدماء و إلی بعض معاصری الشهید الثانی رحمه الله . و هو المفهوم عرفا من البیع لأنّه کثیرا ما یقال فی العرف و یراد بذلک، بل إنّما یفهم عرفا ذلک من لم یسمع من المتفقهة شیئا و لهذا تسمع یقولون بِعْنا و یریدون ذلک من غیر صدور تلک الصیغة بل بدون الشعور بها و لهذا یصح أنّه اُوقع البیع بدون الصیغة و بالجملة الاطلاق واضح... و الأصل و الاستصحاب متروک بالأدلة التی ذکرناها و هی أربعة عشر دلیلاً من الکتاب و السنة و الإجماع و ترک البیان و عدم نقل الصیغة و التصرف المفید للملکیّة و الشریعة السهلة و لزوم الحرج و

ص: 26


1- (1) المسالک 3/147.

الضیق المنفی عقلاً و نقلاً و اللزوم بعد التصرف و التجارة عن تراض و العلم به و الملک بدون اللزوم عند الأکثر و غرض حصول العلم و بقاء المال للوارث بعد موت البائع... و بالجملة ما نری له دلیلاً قویّا إلاّ أنّه مشهور...»(1).

و منهم: المحدّث الکاشانی فی المفاتیح(2).

و منهم: المحقّق السبزواری قال: «و قول المفید غیر بعید و النصوص المطلقة من الکتاب و السنة دالة علی حلّ البیع و انعقاده من غیر التقیید بصیغة مخصوصة. و لم ینقل عنهم علیهم السلام اعتبار خصوص لفظ مع توفّر الدواعی فی ذلک لو کان شرطا»(3).

و منهم: المحدّث البحرانی یقول فی شأن هذا القول: «... و إلیه یمیل والدی و الشیخ عبداللّه بن صالح البحرانی، و نقلاه عن شیخهما العلاّمة الشیخ سلیمان بن عبداللّه البحرانی، و هو الظاهر عندی من أخبار العترة الأطهار التی علیها المدار فی الإیراد و الإصدار کما سیظهر لک إن شاء اللّه تعالی علی وجه لا تعتریه غشاوة الإنکار هذا...»(4).

و منهم: الفاضل النراقی قال: «و الثالث: ظاهر المفید و جمع من المتأخرین و هو الحقّ...»(5).

و منهم: الفقیه الیزدی قال: «أنّ المسألة (أیّ أنّ المعاطاة بیع) راجعة إلی الشک فی شرطیة الصیغة فی انعقاد البیع و لا دلیل علیها، و عدم الدلیل فی مثل هذه المسألة دلیل العدم لأنّه لو کان کذلک لبان و وجب علی الشارع البیان، مع أنّه لم یرد ذلک فی شیء ممّا

ص: 27


1- (1) مجمع الفائدة و البرهان 8/(142-139).
2- (2) مفاتیح الشرائع 3/48، مفتاح 896.
3- (3) الکفایة 1/449.
4- (4) الحدائق 18/350.
5- (5) مستند الشیعة 14/253.

وصل إلینا من الأخبار لا من طرق العامة و لا من طرق الخاصة مع توفر الدواعی علی نقل مثله فی مثل هذه المسألة...»(1).

و جماعة من العامة یذهبون إلی هذا القول منهم: بعض الشافعیة و أحمد بن حنبل و مالک بن أنس کما نقل عن الأخیرین العلاّمة فی التذکرة(2) و قال ثانی الشهیدین: «... و الذی اختاره متأخرو الشافعیة و جمیع المالکیة انعقاد البیع بکلّ مادلّ علی التراضی و عدّه الناس بیعا و هو قریب من قول المفید و شیخنا المتقدم، و ما أحسنه و أمتن دلیله إن لم ینعقد الإجماع علی خلافه»(3).

أقول: لا یبعد تمامیة هذا القول و عدم احتیاج البیع و غیره من المعاملات إلی الصیغة الخاصة و اللفظ و تشمله الإطلاقات و العمومات الواردة فی حلّیّة البیوع و الوفاء بالعقود فحینئذ تدخل المعاطاة فی البیع و غیره علی الأصل الأوّلی، فلا نحتاج عن البحث حول صیغة البیع أو المعاملة ما هی؟ و صیغة الإیجاب و صیغة القبول ما هما؟ و تقدیم الایجاب علی القبول لازم أم لا؟ و لزوم النطق بهما فلا تکفی الإشارة إلاّ مع العجز! و لزوم التصریح فلا یقع بالکنایة، و لزوم الجزم فلو علّق العقد علی شرط لم یصح، و لزوم التطابق فی المعنی بین الصیغتین و عدمه! لأنّا استغینا عن جمیع هذه الأبحاث.

نعم: بالنسبة إلی النکاح خصوصا الأحوط جریان الصیغة و التلفظ بها و یلحق به بعض الإیقاعات نحو: الطلاق و الظهار و اللعان و الإیلاء و نحوها و التفصیل یطلب من محلّه.

ص: 28


1- (1) حاشیته علی المکاسب 1/336.
2- (2) تذکرة الفقهاء 10/7.
3- (3) المسالک 3/152.
تنبیه:

و أمّا ما ورد فی ألسن الفقهاء - أعلی اللّه مقامهم - من «أنّ المحلّل و المحرّم هو اللفظ»(1) أو «إنّما یحرّم و یحلّل الکلام»(2) أو إقامة التعلیل من صاحب الجواهر للسیّد حسن بن جعفر الحسینی رحمه الله حیث اشترط «فی الدال کونه لفظا»(3) بقوله: «محافظة علی حصر التحلیل و التحریم بالکلام»(4) إنّما نشأت من معتبرة خالد بن الحجاج(5) قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یجیء فیقول: اشتر هذا الثوب و أربحک کذا و کذا قال: ألیس إن شاء ترک و إن شاء أخذ؟ قلت: بلی، قال: لا بأس به إنّما یحلّ الکلام و یحرّم الکلام.(6)

مفاد هذه المعتبرة مفاد عدّة من الروایات حیث واعد الرجل أحدا شِراءِ شیءٍ منه و لیس عنده الآن موجودا فاشتراه من أجله فهل یلزم الوفاء بهذا الوعد و الشراء منه فأجابه الإمام علیه السلام بعدم لزوم الوفاء بل إن شاء اشتراه و إن شاء ترکه.

و من هذه الروایات صحیحة عبدالرحمن بن الحجاج(7) وَ صَحِیْحَتا منصور بن حازم(8).

ولکن إنّما الکلام فی ذیلها «إنّما یحلّ الکلام و یحرّم الکلام» ما معناها؟ قال صاحب الوسائل رحمه الله : «فیه دلالة علی عدم انعقاد البیع بغیر صیغة، فلا یکون بیع المعاطاة معتبرا،

ص: 29


1- (1) حاشیة مجمع الفائدة و البرهان /64 للوحید البهبهانی رحمه الله .
2- (2) ریاض المسائل 8/214.
3- (3) کما فی المسالک 3/147.
4- (4) الجواهر 22/212.
5- (5) و فی الکافی 5/201، ح6 خالد بن نَجیح.
6- (6) وسائل الشیعة 18/50، ح4. الباب 8 من أبواب أحکام العقود.
7- (7) وسائل الشیعة 18/51، ح9.
8- (8) وسائل الشیعة 18/52، ح11 و 12.

فتدبر»(1).

و قد حملها صاحب الحدائق(2) علی عدم لزوم البیع حتّی یحرم الرد و الرجوع إلاّ إذا حصل من الکلام ما یوجب الانتقال.

و تبعه فی الحمل الوحید(3) و سیّد الریاض(4).

ولکن ذکر الشیخ الأعظم قدس سره أرْبَعَة محتملات(5) لهذا الذیل و اختار هو اثْنَیْنِ منها و هما کما قال: «فتعیّن: المعنی الثالث: و هو أن الکلام الدال علی الالتزام بالبیع لا یحرّم هذه المعاملة إلاّ وجوده قبل شراء العین التی یریدها الرجل لأنّه بیع ما لیس عنده، و لا یحلِّل إلاّ عدمه، إذ مع عدم الکلام الموجب لإلتزام البیع لم یحصل إلاّ التواعد بالمبایعة، و هو غیر مؤثر. فحاصل الروایة أنّ سبب التحلیل و التحریم فی هذه المعاملة منحصر فی الکلام عدما و وجودا.

أو المعنی الرابع و هو: أنّ المقاولة و المراضاة مع المشتری الثانی قبل اشتراء العین محلِّل للمعاملة، و ایجاب البیع معه محرّم لها.

و علی کلا المعنیین یسقط الخبر عن الدلالة علی اعتبار الکلام فی التحلیل...»(6).

و ذکر المحقّق النائینی خمسة وجوه محتملة لهذا الذیل و قال: «... و علی أیّ تقدیر لا تدّل الروایة علی اعتبار اللفظ فی المعاملات...»(7).

ص: 30


1- (1) وسائل الشیعة 18/50.
2- (2) الحدائق 18/355.
3- (3) حاشیة مجمع الفائدة و البرهان /64.
4- (4) ریاض المسائل 8/214.
5- (5) راجع المکاسب 3/(63-61).
6- (6) المکاسب 3/64.
7- (7) منیة الطالب 1/161.

و قال المحقّق السیِّدُ الخوئی قدس سره بعد المناقشة فی محتملات الشیخ الأعظم: «و المتحصل من جمیع ما ذکرنا أنّه لا دلالة فی روایة ابن نجیح علی اعتبار اللفظ فی صحة البیع أو لزومه لکی تدلّ علی فساد المعاطاة أو علی عدم لزومه»(1).

و قال شیخنا الاستاذ: «و الصحیح أنّ ذکر الکلام باعتبار فرض المقاولة و المساومة فی الروایة و أنّها ربّما تکون متضمنة لإنشاء البیع و الالتزام قبل تملک المتاع و ربّما لا تکون، لا لأنّ لإنشاء البیع بالکلام خصوصیة لا تجری فی المعاطاة»(2).

ولکن بنظرنا القاصر إن ناقشت أنت فی کلام الشیخ الأعظم و غیره لا یمکن الأخذ بإطلاق ذیل الروایة لأنّ مقتضاه عدم تحقتّق الإباحة و لا یقول به أحد کما نبّه علیه الفقیه الیزدی(3)، و حملت علی أنّ التحلیل و التحریم فی جمیع العقود - من حیث الجمیع حتّی تشمل النکاح و الطلاق و نحوهما - إنّما هو بالکلام. أو حملت علی الأغلبیة و الأکثریة أو علی الحصر الإضافی لا علی الحصر الحقیقی لا سیما بعد ما علمنا من الخارج بأنّ غیر الکلام أیضا یحلل و یحرّم نحو الرضاع و الرجوع فی العدّة فعلاً لا قولاً و الدخول فی الاُمّ بعد عقد النکاح الذی یوجب حرمة بنتها و بعد مَبْنانا من عدم صحة الاستدلال بالحروف أو الالفاظ الخاصة - و هی هنا کلمة «إنّما» - فی الروایات لأنّها نقلت بالمعنی لا باللفظ.

و علی هذا البیع کما ینعقد بالعقد ینعقد بالفعل و اللّه العالم.

و فی ختام هذا المبحث أذکر لک کلام المحقّق السیِّد الخوئی قدس سره حیث یقول: «... و المتحصل من جمیع ذلک: أنّ إطلاق کلمة البیع علی الإیجاب و القبول من الأغلاط الواضحة

ص: 31


1- (1) مصباح الفقاهة 2/154.
2- (2) ارشاد الطالب 2/64.
3- (3) حاشیة المکاسب 1/338.

لا من الاستعمالات المجازیة»(1).

الخامس: هل وضعت أسماء المعاملات للأعم؟

اشارة

محل هذا البحث هو علم الأصول ولکن نتعرض إلیه تبعا للشیخ الأعظم قدس سره و لما فیه من الفوائد منها جواز التمسک بالإطلاقات.

قال الشهید الأوّل: «الماهیّات الجعلیة کالصلاة و الصوم و سائر العقود لا تطلق علی الفاسد إلاّ الحج لوجوب المضی فیه»(2).

و قال الشهید الثانی فی المسالک فی ذیل قول المحقّق فی الشرائع: «إطلاق العقد ینصرف إلی العقد الصحیح دون الفاسد»(3) مالفظه: «عقد البیع و غیره من العقود حقیقةٌ فی الصحیح، مجازٌ فی الفاسد، لوجود خواص الحقیقة و المجاز فیهما کمبادرة المعنی إلی ذهن السامع عند إطلاق قولهم: باع فلان داره و غیره، من ثَمَّ حمل الإقرار به علیه، حتّی لو إدّعی إرادةَ الفاسد لم یُسمع إجماعا و عدم صحة السلب و غیر ذلک من خواصِّه، ولو کان مشترکا بین الصحیح و الفاسد لَیُقبَل تفسیره بأحدهما کغیره من الألفاظ المشترکة و انقسامه إلی الصحیح و الفاسد أعمّ من الحقیقة، و حیث کان الإطلاق محمولاً علی الصحیح لا یبرُّ بالفاسد. ولو حَلَفَ علی الإثبات سواء کان فساده لعدم صلاحتیه للمعاوضة کالخمرو الخنزیر أو لفقد شرط فیه کجهالة مقداره و عینه سیأتی البحث فیه»(4).

و قد نوقش کلامهما بأنّ مفهوم البیع أَمْرٌ عُرْفیٌّ و هو الذی یمضیه الشارع تارة و یرده اُخری و علیه فلا یعقل أخذ الصحة الشرعیة فی مفهومه إلاّ علی القول بالحقیقة الشرعیة فی

ص: 32


1- (1) مصباح الفقاهة 2/79.
2- (2) القواعد و الفوائد 1/158.
3- (3) الشرائع 3/138.
4- (4) المسالک 11/263.

ألفاظ العقود و هو بدیهی البطلان.

و لذا قال الفقیه الیزدی: «الظاهر أنّه أعم من الصحیح العرفی أیضا، بمعنی أنّ الفاسد فی نظر العرف أیضا بیع، فکلّ تملیک عین بعوض مع التعقب بالقبول بیع سواء أمضاه العرف و الشرع أم لا، و هذا واضح جدّا»(1).

ولکن أجاب الشیخ الأعظم عن هذه المناقشة بقوله: «نعم، یمکن أن یقال: أنّ البیع و شبهه فی العرف إذا استعمل فی الحاصل من المصدر الذی یراد من قول القائل: «بعت» عند الإنشاء لا یستعمل حقیقة إلاّ فی ما کان صحیحا مؤثّرا - ولو فی نظر القائل - ثم إذا کان مؤثّرا فی نظر الشارع کان بیعا عنده و إلاّ کان صورة بیع نظیر بیع الهازل عند العرف، فالبیع الذی یراد منه ما حصل عقیب قول القائل: «بعت» عند العرف و الشرع حقیقة فی الصحیح المفید للأثر و مجاز فی غیره...»(2).

و بعبارة اُخری: یمکن أن یوضع البیع لما هو المؤثر فی الملکیّة واقعا، و یکون الإمضاء، من الشرع أو العرف طریقا إلی ذلک، و قد یحکم الشارع بعدم حصول الملکیّة، إلاّ أنّ ذلک من ناحیة تخطئة الشارع أهل العرف و إذن فلا منافاة بین أن یکون البیع مفهوما عرفیّا و بین أن یکون موضوعا لخصوص الحصة الصحیحة.

و الحاصل: إنّ البیع بمعنی الاسْمِ المصدری حقیقة فیما هو المؤثر فی الملکیّة واقعا و من الظاهر أنّ هذا لا یتوقف علی القول بثبوت الحقیقة الشرعیة فی المفاهیم العرفیة - هذا ما افاده المحقّق السیّدُ الخوئی(3) فی توضیح کلام الشیخ - .

ص: 33


1- (1) حاشیة المکاسب 1/315.
2- (2) المکاسب 3/20.
3- (3) مصباح الفقاهة 2/80.
ترجمة شیخنا الاستاذ آیة الله الشیخ المیرزا جواد التبریزی قدس سره بمناسبة ارتحاله

ولکن شیخنا الاستاذ(1) - قدس اللّه روحه - تعدی من البیع بمعنی الاسم المصدری إلی المصدری و وجّه استدلال الشیخ بقوله: «... فالبیع ولو بمعناه المصدری من العناوین القصدیة فیمکن أن یکون المستعمل فیه أمرا واحدا عند الشرع و العرف و هو ما یترتب علیه الأثر المترقب - فإنّ الأثر المترقب فی البیع انتقال المالین - فالمعنی مبهمٌ من حیث

ص: 34


1- (1) ارتحل إلی رحمة ربّه شیخنا الاُستاذ آیة اللّه العظمی الحاج الشیخ المیرزا جواد التبریزی قدس سره فی الساعة العاشرة من اللیل المسفر صَباحُهُ عَنْ یوم الاثنین الثامن و العشرین من شهر شوال المکرم عام 1427 بعد مرض لازمه أربع سنوات و صار حلیفا للفراش قریبا من شهرین و لعلّ شهرا منهما کان فی المستشفی أوّلاً بقم و ثانیا بطهران حتّی لبّی داعی اللّه، و نقل جثمانه الشریف إلی قم - عش آل محمّد علیهم السلام - فی نفس اللیل و وصل إلیه بعد منتصفه و استقبله لیلاً شیخنا الاُستاذ آیة اللّه العظمی الشیخ حسین الوحید الخراسانی - مدظِلُّهُ - عند مدخل المدینة وَ شَیَّعَهُ حتّی بیته الشریف و دخله و عزّی أبْناءَهُ قریبا من السّاعةِ الثّانِیَةِ بعد منتصف اللیل. و لأجل ارتحاله عُطِّلَتْ دروس الحوزات العلمیّة الشیعیّة فی جمیع البلدان یومین، و کَما عُطِّلَتْ قُمُّ فی یوم تشییعه و هو یوم الأربعاء الثلاثین من شوال و قد حضرت تشییعه و الصلاة علیه و لم أر فی حیاتی نظیرا لَهُ منْ حیث کثرة الازْدِحام من جمیعَ الطبقات و قد صلی علیه شیخنا الاستاذ الوحید الخراسانی و دفن فی زاویة مسجد «بالاسر» فوق رأس مرقد المؤسس الحائری قدس سره ، و قد أقمتُ له مجلسا ترحیمیّا فی مسجدی فی یوم الأربعاء القعد الحرام 1427 بأصبهان و کذا مجلسا تأبینیا بعد عام واحد علی ارتحاله فی یوم 25 شهر شوال المکرم 1428 یوم الثلاثاء استشهاد الإمام الصادق علیه السلام و قد کتبت ترجمته فی کتابی «طریق الوصول إلی أخبار آل الرسول علیهم السلام » فراجعه، رَحِمَهُ اللّه رَحمَةً واسَعةً وَ حَشَرَهُ مَعَ مولاهُ أمیرالمؤمنین و أولاده المعصومین علیهم السلام آمین ربّ العالمین. و قد حضرت علیه أربعة عشر عاما فی الفقه و أصوله و حتی مجلس تعلیقه علی المنهاج و العروة و الوسیلة کما قرأت علیه فی هذه المدّة عدّة من الکتب الفقهیة منها: الطهارة و الصلاة و الخمس و القضاء و الشهادات و الحدود و القصاص و الدیات، و من الاُصول دورتین فی الأدلة العقلیة و دورة فی مباحث الألفاظ و قد کتبتُ جمیع هذه الدروس علی نحو التقریر منه فی قریب من عشرین مجلدا، فحقوقه قدس سره علیَّ کثیر لایسعها هذه الأسطر.

الذات و القیود، و مبیَّنٌ من حیث الأثر و إذا کان المعاطاة مثلاً أمرا یترتب علیه انتقال المالین فی اعتبار العرف و الشرع تکون بیعا عندهما، و لو لم یترتب علیه انتقال شرعا فهی لا تکون بیعا عند الشارع و بالجملة یمکن أن لا یکون خلاف بین الشرع و العرف فی المعنی المصدری أو الاسم المصدری و یصح القول بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصحیحة فلا تطلق علی الفاسدة إلاّ بطور المجاز»(1)

أقول: الملکیّة الحاصلة من البیع و غیره من الاُمور الاعتباریة التی تدور مدار الاعتبار من حیث الوجود و العدم، و لیست من الاُمور التکوینیة المتأصلة فی الخارج نحو الخمر و الخنزیر، و علی هذا فلا یتصور التخطئة فی الملکیّة بأن یوجد مورد توجد فیه الملکیة و لم یلتفت إلیها العرف و یکشف عنها الشارع تخطئة له.

و لذا لو قلنا بوضع لفظ البیع لما هو المؤثِّر فی الملکیة فإن کان المراد منه الاعتبار العقلائی أو الأعم منه و من الاعتبار الشرعی فلابدّ من الالتزام بوضع البیع للأعم.

و إن کان المراد من الاعتبار هو خصوص الاعتبار الشرعی فلابدّ من القول بالحقیقة الشرعیة فی ألفاظ العقود و حینئذ یعود المحذور المتقدم أیّ أخذ الصحة الشرعیة فی المفهوم العرفی. هذا ما افاده السیّد الخوئی(2) رحمه الله .

لا یقال: التخطئة فی الاُمور الاعتباریة لم تتم ولکن یمکن قبول التخطئة من ناحیة الملاکات و المصالح و المفاسد.

لأنّا نقول: الأحکام التکلیفیة تدور مدار الملاکات و المصالح و المفاسد غالبا ولکن الأحکام الوضعیة لا تقاس بها و الملاک و المصلحة فی نفس اعتبارهِما کالاحکام الطریقیة

ص: 35


1- (1) ارشاد الطالب 2/26.
2- (2) مصباح الفقاهة 2/81 و 80.

التی تکون المصلحة فی نفسها کحجیّة البیّنة الشرعیة و أخبار الآحاد.

نعم، ربّما تصح التخطئة فی الملاک أو فی نفس الاعتبار، لأنّ الاعتبار لابدّ أن یکون ناشئا من المصلحة الواقعیة الداعیة إلیه، و مع عدم وجود تلک المصلحة یحکم الشارع بعدم صحة اعتبار الملکیّة و یکشف عنه خطأ العقلاء فی اعتبارهم نحو: عدم ملکیّة الخمر و الخنزیر و المیتة عند الشارع أو الحکم ببطلان الْبَیْعِ الربوی و الغرری و نَحْوِهِما، و هذا الاستدراک هو المختار عندنا.

تذکرة لابدّ من التنبیه علیها:

الظاهر أنّ مراد الشیخ الأعظم قدس سره هو ما ذکره جدّنا العلاّمة التقی صاحب الهدایة قدس سره فی آخر بحث الصحیح و الأعم بعد اختیاره القول بالأعم ثم ذکر کلام الشهیدین و سَعَی فی توجیه کلامهما - و لعلّ الشیخ أخذه منه رحمهماالله - حیث یقول: «فالأظهر أن یقال بوضعها لخصوص الصحیحة أیّ المعاملة الباعثة علی النقل و الانتقال أو نحو ذلک ممّا قرّرله تلک المعاملة الخاصة، فالبیع و الإجارة و النکاح و نحوها إنّما وضعت لتلک العقود الباعثة علی الآثار المطلوبة منها، و إطلاقها علی غیرها لیس إلاّ من جهة الْمُشاکَلَةِ أو نحوها علی سبیل المجاز.

لکن لا یلزم من ذلک أن تکون حقیقة فی خصوص الصحیح الشرعی حتّی یلزم أن تکون توقیفیته متوقّفة علی بیان الشارع لخصوص الصحیحة منها، بل المراد منها إذا وردت فی کلام الشارع قبل أَنْ یقوم دلیل علی فساد بعضها هو العقود الباعثة علی تلک الآثار المطلوبة فی المتعارف بین الناس، فیکون حکم الشرع بحلّها أو صحتها أو وجوب الوفاء بها قاضیّا بترتب تلک الآثار علیها فی حکم الشرع أیضا فَتَتطابَقُ صحتها العرفیة و الشرعیة، و إذا دلّ الدلیل علی عدم ترتب تلک الآثار علی بعضها خرج ذلک عن مصداق تلک المعاملة فی حکم الشرع و إن صدق علیه اسمها بحسب العرف نظرا إلی ترتب الأثر علیه

ص: 36

عندهم. و حینئذ فعدم صدق اسم البیع - مثلاً - علیه حقیقة عند الشارع و المتشرعة لا ینافی صدقه علیه عند أهل العرف مع اتحاد العرفین، و عدم ثبوت عرف خاص عند الشارع، إذ المفروض اتحاد المفهوم منه عند الجمیع، و إنّما الاختلاف هناک فی المصداق، فأهل العرف إنّما یحکمون بصدق ذلک المفهوم علیه من جهة الحکم بترتب الأثر المطلوب علیه، و إنّما یحکم بعدم صدقه علیه بحسب الشرع للحکم بعدم ترتب ذلک الأثر علیه، ولو انکشف عدم ترتب الأثر علیه عند أهل العرف لا من قبل الشارع لم یحکم عرفا بصدق ذلک علیه أیضا کما أنّ البیوع الفاسدة فی حکم العرف خارجة عندهم عن حقیقة البیع.

فظهر أنّه لا منافاة بین خروج العقود الفاسدة عند الشارع عن تلک العقود علی سبیل الحقیقة و کون المرجع فی تلک الألفاظ هو المعانی العرفیة من غیر أن تتحقق هناک حقیقة شرعیة جدیدة فتأمل جیّدا».(1)

أقول: أنت تری بأنّ ما اوردناها علی الشیخ الأعظم لم یرد علی العلاّمة الجدّ رحمهماالله لأنّه صرّح بعدم ثبوت عرف خاص عند الشارع و عدم تحقّق حقیقة شرعیة فی المعاملات، و قد نبّه علی هذا الأخذ الفقیه الیزدی رحمه الله فی حاشیته(2) ولکن استشکل علیه بقوله: «... إنّ الملکیّة و کذا أخواتها من الزوجیة و الحریة و الرقیة و نحوها أحکام مجعولة للعقلاء أو الشارع و اعتبارات عقلائیة أو شرعیة و لا واقع بها إلاّ هذا الاعتبار... إذ لا معنی حینئذ لتخطئة العرف فی المصداق إذ المفروض أنّ العقد بدون الشرط الشرعی الفلانی سبب عندهم مفید للملکیّة فلا یمکن أن یقال ما تراه سببا لیس بسبب لأنّ الفرض أنّه هو الجاعل للسبب و الواضع للاسم. نعم: یمکن تخطئته فی أصل الجعل بأن یقال أنّ مقتضی المصلحة أن

ص: 37


1- (1) هدایة المسترشدین 1/492.
2- (2) حاشیة المکاسب 1/319.

لا یجعل هذا سببا، و هذا غیر التخطئة فی المصداق...»(1).

و فیه: بنظری القاصر یمکن ارجاع التخطئة فی أصل الجعل إلی التخطئة فی المصداق بادّعاء أنّ البیع الربوی أو الغرری أو المجهول ثمنا أو مثمنا لم یکن عند الشارع بیعا، و هذه أیضا بعینها هی التخطئة فی مصداقیته لِعنوان البیع فیتم ما ذکره العلاّمة الجد صاحب الهدایة قدس سره .

و قد اعترف الفقیه الیزدی قدس سره بعد صفحة بإمکان التخطئة فی المصداق حین استشکل علی بعض الأفاضل بقوله: «أوّلاً: فما ذکره من عدم امکان التخطئة فی المصداق کماتری»(2).

ثمرة هذا البحث:

قد یقال: بأنّ ثمرة بحث الصحیح و الأعم فی المعاملات تظهر فی صحة التمسک بالاطلاقات الواردة فیها و عدمها، و قبل الورود فی البحث لابدّ لنا من تعریف الإطلاق و النسبة بینه و بین التقیید و التذکر بمقدمات أو مقدمة الحکمة:

فَأَمّا الإطلاق: فَهُوَ رفض القیود عندنا لا جمعها، و أنّ الملاک فیه کون حیثیة الطبیعة تمام الموضوع.

و النسبة بینه و بین التقیید: فی مقام الثبوت هی التضاد لا یجتمعان و لا یرتفعان، ولکن فی مقام الإثبات هی تَقابُلُ العدم و الملکیّة، إی إذا استحیل التقیید لجهة من الجهات لایمکن الحکم بالإطلاق من هذه الجهة.

ص: 38


1- (1) حاشیة المکاسب 1/321.
2- (2) حاشیة المکاسب 1/323.

و أمّا مقدمات الحکمة أو مقدمتها فهی:

1- کون المتکلم فی مقام البیان و یمکن إحرازه بالأصل العقلائی. ولکنّه إذا علمنا أنّه من جهة فی مقام البیان ثم شککنا فی أنّه من یَأْتِ سائر الجهات أیضا فی مقام البیان أم لا؟ لا تجری أصالة أنّه فی مقام البیان.

2- تمکن المتکلم من الاتیان بالقید و لم یَأْتِ به. لما مرّ أن التَّقابُلَ بین الاطلاق و التقیید فی مقام الإثبات هو العدم و الملکة. و الکلام فی هذا المقام.

3- عدم ورود القید فی کلام المتکلم لا متصلاً و لا منفصلاً. لأنّ مع ورود القید متصلاً لم یبق مجال لتوهم الاطلاق و مع وروده منفصلاً یمحو الاطلاق السابق لاأقل من جهة هذا القید.

و أمّا وجود الْقَدَرِ المتیقن فی مقام التخاطب، کقدر المتیقن فی الخارج فَلا یمنع من الاطلاق. الأوّل: نحو القیود المأخوذة فی أسئلة السائلین و إجابة الإمام بالاطلاق. و الثانی: نحو قول الْمَوْلی: اکرم العالم، و وجود العلم من الخارج بأنّ الفقیه هو الْقَدَرُ المتیقن منه، وَلکنَّ وُجُوْدَ الْقَدَرِ المتیقن فی الخارج لا یوجب رفع الید عن إطلاق العالِم.

و یمکن إرجاع المقدمتین الثانیة و الثالثة إلی الاُولی فحینئذ تَصِیْرُ المقدمة الوحیدة فی المقام هو کون المتکلم فی مقام البیان.(1)

ثم بعد التذکر بهذه المقدمة علی القول بأنَّ ألفاظ المعاملات موضوعة للأعم فلا بأس بالتمسک بإطلاق خطابات المعاملات و علی القول بأنّها موضوعة للصحیح عند العرف أو المعاملة الباعثة علی النقل و الانتقال - کما ذکره العلاّمة الجدّ قدس سره فی توجیه کلام الشهیدین رحمهماالله - فلا بأس أیضا بالتمسک بإطلاقها، أمّا علی القول بأنّها موضوعة للصحیح

ص: 39


1- (1) فراجع نهایة الاصول /383 تقریرات السیّد المحقّق البروجردی رحمه الله لتوضیح ذلک.

عند الشرع فلا یصح التمسک بإطلاقها و تصیر مجملة و علیه فلو احتمل اعتبار شیءٍ شرعا فی معاملةٍ یلزم من القول بکونها موضوعة للصحیحة عدم جواز التمسک بالاطلاق، لأنّها صارت مجملة.

ولکن مع ذلک نحن نری أنَّ دیدن الفقهاء التمسک بالاطلاقات فی ألفاظ المعاملات، حتی القائلون بالصحیح یتمسّکون بها و الشیخ الأعظم رحمه الله (1) یستدل لهم بوجهین علی سبیل منع الخلو:

الأوّل: حمل لفظ البیع و غیره من العقود فی الخطابات الشرعیة علی ما هو الصحیح المؤثِّر عند العرف فی النقل و الانتقال، یعنی حمل لفظ البیع علی البیع الصحیح العرفی المؤثِّر فی النقل.

و فیه: أنت تری أنَّ هذا الوجه لا یَتُمُّ علی القول بالصحیح، بل هو الوجه الذی ذکره العلاّمة الجد و تبعه الشیخ الأعظم فی توجیه کلام الشهیدین من حمل الصحیح فی کلامهما علی الصحیح العرفی و علیه قد مرّ منّا جواز التمسک بالاطلاق، ولکن البحث هنا حول جواز التمسک بالاطلاق علی القول بالصحیح الشرعی - لأنّ ما یصدق علیه البیع الصحیح العرفی یمکن أن یکون فی الشرع باطلاً - و هذا الوجه لا ینتج بالنسبة إلیه.

و لذا قال المحقّق السَّیِّدُ الخوئی رحمه الله إنّ هذا البیان یکون «عبارة اُخری عن القول بوضع ألفاظ المعاملات للأعم»(2).

الثانی: أن یحمل البیع علی المصدر الذی یراد من لفظ «بعت» بتقریب: أنّ البیع فی مثل قوله تعالی: «أحلّ اللّه البیع» یستعمل فی معناه المصدری و اُرید منه الحلّیّة التکلیفیة

ص: 40


1- (1) المکاسب 3/20.
2- (2) مصباح الفقاهة 2/84.

أو الوضعیة و یحمل علی المصادیق العرفیة، لأنّ بیان جعل الحکم التکلیفی علی المصادیق الشرعیة لغو محضٌ.

و یمکن ان یستعمل فی معنی الاسْمِ المصدری و اُرید منه الحلیة الوضعیة و لابدّ أنْ یحمل علی امضاء المصادیق العرفیة لأنّ بیان جعل الحکم الوضعی علی المصادیق الشرعیة لغو محض.

و بعبارة ثالثة: هذا الخطاب انحلالی فیعم جمیع المصادیق العرفیة و إلاّ یصیر لغوا. و هذا التقریب مستفاد من کلام شیخنا الاستاد(1) قدس سره .

و فیه: و أنت تری أیضا بأنّ حمل البیع علی المصادیق العرفیة لا یجمع مع القول بالصحیح، بل هذا عین القول بالأعم.

و الظاهر عدم الفرق بین الوجهین بل یرجعان لبّا إلی وجه واحد.

و لذا قد تمسّکوا لصحة الاستدلال باطلاقات للصحیح بوجوه اُخر:

منها: البیع و نحوه من العقود یطلق تارة علی السبب اُخری علی المُسَبَّبَ:

البیع السببی: عبارة عن العقد المرکب من صیغتی الإیجاب و القبول، أو التعاطی خارجا بقصد تحقّق المبادلة.

البیع المسببی: عبارة عن تبادل الإضافتین المتحقِّق بالطرفین أو ما یحصل من الانشاء و یعتبر أمرا باقیا فی عالم الاعتبار.

ثم إذا کان المراد من البیع هو السببی و کان الشارع فی مقام إِمضاء الأسباب العرفیة و لم یرد شیئا علی ما هو سبب عندهم فحینئذ یصح التمسک بالاطلاق فی نفی اشتراط العربیة فی صیغة العقد مثلاً.

ص: 41


1- (1) إرشاد الطالب 2/27.

و أمّا إذا کان المراد من البیع هو المُسَبَّبی لأنّه أمرٌّ مستقَّرٌ قارٌّ و یعتبر أمرا باقیا فی عالم الاعتبار فلا یصح التمسک بالاطلاق لأنّ أمر المسبَّب یدور مدار الصحة و الفساد، و الوجود و العدم و لا یلاحظ الأسباب.

و الظاهر أنّ المطلقات الواردة فی الکتاب و السنة کلّها واردة فی مقام إمضاء المسببات دون الأسباب حتّی قوله تعالی «اُوفوا بالعقود»(1) بقرینة تعلّق وجوب الوفاء بها تکون ظاهرة فی المسببات لأنّ الأسباب آنیة الحصول و غیر قابلة للبقاء حتّی تکون متعلقة لوجوب الوفاء بل القابل هی المسببات التی لها نحو بقاء بعد انعدام أسبابها(2)، فحینئذ لا یمکن التمسک باطلاقات المعاملات.

و بعبارة اُخری: أنّ العرف لا یری الدلیل المتکفل لحکم علی المسبَّب من إمضاء و نحوه ناظرا إلی إثبات ذلک الحکم أو لازمه لسببٍ، لعدم کونه فی مقام البیان من هذه الجهة.(3)

و الحاصل: أنّ المسبّب حیث أنّه موجود آخر فی قبال السبب فلا دلیل علی أن یکون إمضاء المسبب إمضاءً للسبب.(4)

و قد نُسِبَ(5) إلی الشیخ الأعظم جوابٌ فی حلّ هذا الاشکال: بأنّ العرف حیث یری حصول المسبّب بسببٍ معین عندهم فإمضاء المسبب یستلزم امضاء السبب.

و استشکل علیه الناسب بقوله: «إنّ المتّبع هو أنظار العرف فی تعیین المفاهیم لا فی

ص: 42


1- (1) سورة المائدة /1.
2- (2) کما ذکره المحقّق النائینی فی أجود التقریرات 1/72 و تقریرات مکاسبه 1/112.
3- (3) کما ذکره السیّد الروحانی رحمه الله فی منتقی الاصول 1/291 و 290.
4- (4) کما ذکره السیّد الروحانی رحمه الله فی منتقی الاصول 1/291 و 290.
5- (5) الناسب هو المحقّق النائینی فی الأجود 1/72 و فوائد الاصول 1/80.

التطبیق، فهم و إن رأوا حصول المسبّب عند وجود أمر خاص إلاّ أنّ امضاء المسبّب لا دلیل علی کونه إمضاءً لنظره فی التطبیق أیضا، بل المتّبع هو نظر الشارع فإن ثبت و إلاّ فیتمسّک بإصالة عدم حصول المسببات...»(1).

و یمکن أن یقال: إنَّ أمر المسبّب و السبب یتصور علی ثلاثة وجوه:

أ: مسبَّبٌ لیس له إلاّ سبب واحد.

ب: مسبَّبٌ له أسباب متعددة فی عرض واحد.

ج: مسبَّبٌ له أسباب متعددة و نحن نقطع بتأثیر أسباب فیه و تأثیر بعض اُخر منها مشکوک.

و إمضاء المسبّب یکون إمضاءً للسبب فی الصورتین الاُولیین و أمّا فی الصورة الثالثة فلا و العمدة فی التمسک بالاطلاقات من قبیل هذه الصورة الأخیرة.

و قد أجاب المحقّق النائینی عن الإشکال بجواب آخر و هو:

«أنّ نسبة العقود إلی المعاملات لیست نسبة الأسباب إلی مسبباتها حتّی یکونا موجودین خارجیین یترتب أحدهما علی الآخر ترتبا قهریا و الارادة تکون متعلّقة بالمسبَّب بتبع تعلّقها بالسبب حیث أنّ اختیارتیه باختیارتیه... بل نسبتها إلیها نسبة الآلة إلی ذیها... بداهة أن قول: بعت لیس بنفسه موجدا للملکیّة نظیر الإلقاء الموجد للإحراق، بل الموجد هو الارادة المتعلّقة بإیجاده إنشاءً، فإذا لم یکن من قبیل الأسباب و المسبَّبات فلیس هناک موجودان خارجیان حتّی لا یکون امضاء أحدهما إمضاءً للآخر بل الموجود واحدٌ غایة الأمر أنّه باختلاف الآلة ینقسم إلی أقسام عدیدة فالبیع المنشأ باللفظ العربی قسم و بغیر العربی قسم آخر، فإذا کان المتکلِّم فی مقام البیان و لم یقیّده بنوع دون نوعٍ

ص: 43


1- (1) أجود التقریرات 1/72.

فیستکشف منه عمومه لجمیع الأنواع و الأصناف، کما فی سائر المطلقات طبقَ النعل بالنعل»(1).

و قد قرّر هذا الجواب عن النائینی فی تقریرات بحث مکاسبه بما ملخّصه: «باب المنشأ بالألفاظ الإنشاء لیس من باب المسببات و الأسباب بل هو من قبیل إیجاد ذی الآلة بآلة إیجاده و ألفاظ العقود آلات لإیجاد المعانی الإنشائیة بها، و الفعل المباشری الصادر عن الفاعل إمّا أن لا یتوقف صدوره عنه علی آلة کإیجاد النفس للصور الذهنیة فی صقعها، أو یتوقف صدوره عنه علی آلة، و الآلة إمّا تکون من أعضائه کالتکلّم المتوقف علی اللسان أو یکون أمرا خارجا کالکتابة المتوقفة علی القلم فعلی هذا صدور هذه المعانی الإیجادیة الإنشائیة عن الفاعل یکون بالمباشرة لکن باستعانة تلک الألفاظ فی إنشائها و إیجادها فتلک الألفاظ کالأفعال فی باب المعاطاة آلات لإیجاد تلک المنشآت فلا یصح وصفها بالمسبَّبات و لا وصف آلاتها بالأسباب.

و هذه المنشآت لها اعتباران، اعتبار نفس ذاتها من حیث هی هی مع قطع النظر عن انتسابها إلی الفاعل، و اعتبارها من حیث انتسابها إلی الفاعل، فهی بالاعتبار الأوّل معنی اسم مصدری، و بالاعتبار الثانی معنی مصدری و هذان الاعتباران واردان علی حقیقة واحدة و إنّما الفرق بالاعتبار و علیهما فامضاء المُنْشَأ بالإنشاء عین إمضاء إنشائه بالآلة المعدّة لإنشائه، سواءً کان الإمضاء متعلِّقا بالمعنی المصدری أو بالاسم المصدری، أمّا علی الأوّل فواضح ضرورة أنّ إیجاد کلّ شیءٍ له آلة تخصّه فإمضاء الکتابة بالمعنی المصدری عین إمضاء إیجادها بالقلم فالممضی هو الکتابة بالقلم و إمضاء الفعل باعتبار صدوره عن الفاعل عین إمضاء إیجاده بالآلة المعدّة لإیجاده عرفا. و أمّا علی الثانی حیث أنّ المعنی

ص: 44


1- (1) أجود التقریرات 1/74 مع تلخیص.

المصدری یکون عینا للمعنی الاسم المصدری بحسب الواقع و إنّما التغایر بینهما بالاعتبار، فإمضاء معنی الاسم المصدری عین إمضاء المصدری لأنّ المعتبَر فی صدق الإمضاء هو صدق العنوان الذی تعلّق به الإمضاء علی المصداق الخارجی فیکون إمضاء البیع بالمعنی الاسم المصدری عین إمضاء البیع بالمعنی المصدری فالکلام الکلام»(1).

أقول: و فیه: لو سلّمنا و قبلنا من المحقّق النائینی رحمه الله بأنّ نسبة المنشَأ بألفاظ الإنشاء هی نسبة ذی الآلة بآلة إیجاده و أن ألفاظ العقود الآت لإیجاد المعانی الإنشائیة بها، و مع ذلک لا یمکننا التمسک بالاطلاق لأنّ دلیل إمضاء المعاملة لا یکون فی مقام البیان من جهة إمضاء الآلة و مع عدم کونه فی مقام البیان فلا یصح التمسک بالاطلاق بلا فرق بین کون الألفاظ من الأسباب أو الآلات. و ما ذکره من أنّ الآلة و ذیها موجودان بوجود واحد مع عدم تمامیتها لایفیدنا فی المقام شیئا من عدم نظر دلیل الإمضاء إلی جهة العقد أو السبب أو الآلة علی حدِّ تعبیره و تسمیته السبب آلة لا یُغَیِّرُ واقعه و عدم النظر إلیه.(2)

و المحقّق السیّد الخوئی أجاب عن الاشکال بجواب آخر علی ما سلکه فی معنی الإنشاء المختص به قال فی تعریفهِ: «فالتحقیق أنّ حقیقة الإنشاء لیست عبارة عن إیجاد معنی - کالطلب و غیره - باللفظ کما هو المعروف... بل الصحیح أنّ الإنشاء حقیقة هو إبراز أمر نفسانی باللفظ غیر قصد الحکایة، فالمتکلِّم بمقتضی تعهّده و إلتزامه یکون اللفظ الصادر منه مبرزا لاعتبار من الإعتبارات القائمة بنفسه و أنّه هو الداعی لإیجاده...»(3)

و علی مَبْناهُ استشکل علی اُستاذه بقوله: «بل التحقیق أن یقال: أنّ المراد من المسبَّب فی المعاملة لیس هو الإمضاء الشرعی أو إمضاء العقلاء، ضرورة أنّ البیع و نحوه اسم لفعل

ص: 45


1- (1) راجع المکاسب و البیع 1/(116/112) بقلم العلاّمة الشیخ محمّد تقی الآملی رحمه الله .
2- (2) راجع منتقی الاصول 1/292 و 291.
3- (3) تعلیقة السیّد الخوئی علی أجود التقریرات 1/37 و 36.

البائع، و هو یصدر منه لا من غیره، بل المراد منه هو الاعتبار الصادر من البائع، المُظْهَرُ باللفظ أو بغیره و الاعتبار أمر قائم بالمعتبِر بالمباشرة بلا احتیاج إلی سبب أو آلة.

و قد عرفت سابقا أنّه لا أساس لما هو المعروف من کون الإنشاء عبارة عن إیجاد المعنی باللفظ و علی ما ذکرناه فإذا کان دلیل الإمضاء واردا فی مقام إمضاء الاعتبارات الصادرة من المتعاملین فمقتضی إطلاقه و عدم التقیید بمظهِرٍ خاصٍ یثبت عموم الإمضاء لکلّ ما یمکن أن یکون مظهِرا له، و بذلک یستغنی عن جمیع ما اُفید فی المقام فی وجه التمسک بالإطلاقات فی المعاملات مع عدم تمامیتها فی أنفسها فافهم و اغتنم»(1).

أقول: لو تمَّ هذا المبنی صح ما بنی علیه ولکن قد بحثنا فی أبحاثنا الاُصولیة عدم تمامیتهِ و أنّهُ مذهب متفرد به قدس سره و الشاهد علی بطلانهِ أنّ العقلاء یَحْدِثون الأمور الإنشائیة نحو المعاملة و النکاح بنفس إجراء الصیغة و لا یکفی فیها التوافقات القبلیّة، و الوجدان یشهد علی ذلک. کما أنّه یشهد بعدم صدق الإنشاء و الاعتبار قبل إیجاد اللفظ و حدوثه و التفصیل موکول إلی محلّه.

قد عرفت إلی هنا عدم تمامیة الأجوبة و الذی نذهب إلیه أنّ أدلة الإمضاء فی المعاملات تدور مدار المسبَّبات ولکن العرفیة منها لا الشرعیة و إلاّ تکون لغوا کما مرّ، و إمضاء المسبّب العرفی إمضاء لأسبابه العرفیة فکلَّما یدخل فی الأسباب العرفیة یدخل فی الإمضاء، و علی هذا یصح التمسک بالإطلاقات.

و بعبارة اُخری: أنّ العرف یری أنّ الدلیل المتکفل لإمضاء المسبَّب ناظر إلی إمضاء أسبابه، فعلیه یمکن التمسک بالإطلاق لکون المتکلِّم فی مقام البیان من هذه الجهة(2). فیرتفع الإشکال و الحمدللّه علی کلِّ حالٍ.

ص: 46


1- (1) تعلیقته علی أجود التقریرات 1/73 - و راجع أیضا مصباح الفقاهة 2/84 و 53.
2- (2) و لتفصیل البحث راجع منتقی الاُصول 1/295 و 294 تقریر أبحاث السیّد الروحانی قدس سره .

فَصْلٌ: المُعاطاةُ

اشارة

ص: 47

ص: 48

المُعاطاةُ

اشارة

و هی مُفاعَلَةٌ من الإعطاء(1) و باب المفاعلة یرد للمشارکة بین الاثنین کالتفاعل ولکن لا ینحصر به و لذا قال شارح النَّظّام: «و فاعل لنسبة أصله و هو مصدر ثلاثیة إلی أحد الأمرین متعلقا بالآخر للمشارکة صریحا، فیجیء العکس ضمنا نحو: ضاربتُه و شارکتُه...، و بمعنی فعَّل نحو: ضاعفتُه بمعنی: ضعّفتُ، و بمعنی فَعَلَ نحو: سافرتُ بمعنی سفرتُ...»(2).

و علیه کما یمکن أن یرد باب المفاعلة للمشارکة بین الاثنین فی عمل أو فعل کذا یرد و یستعمل فیما إذا فَعَله واحدٌ من دون اشتراکٍ. فلذا استعمال المعاطاة لغة و عرفا فی العقود التی بین الاثنین و الإیقاعات التی تحتاج إلی طرف واحد یجوز حقیقة من دون استعمال مجاز فی البین و علی هذا یجوز استعمال لفظة المعاطاة فی الإیقاعات أیضا من دون تجوّز. هذا کلّه بالنسبة إلی التعریف اللغوی.

أمّا المعاطاة فی مصطلح الفقهاء فَهِیَ «أن یُعطی کلّ من الاثنین عوضا عمّا یأخذه من

ص: 49


1- (1) جامع المقاصد 4/57.
2- (2) شرح النظّام /55.

الآخر»(1) أو «هی إعطاء کلّ واحد من المتبایعین من المال عوضا عمّا یأخذه من الآخر باتفاقهما علی ذلک بغیر العقد المخصوص»(2).

التعریف الثانی و إن ورد فی البیع ولکن لا یختص به و قد اعترف المحقّق الثانی بأنّ فی کلام بعض الفقهاء «ما یقتضی اعتبار المعاطاة فی الإجارة و کذا فی الهبة»(3). و علی هذا یمکن جریانها فی جمیع العقود. بل الإیقاعات نحو الوقف و غیره.

و قال الشیخ یحیی بن حسین بن عشیرة البحرانی رحمه الله فی الفرق بین المعاطاة البیعی و نفس البیع: «أنّ المعاطاة لا یلزم إلاّ بذهاب أحد العوضین أو بعضه بخلاف البیع بالعقد، فإنّه یلزم بنفس العقد و التقابض للثمن و المثمن و لا یبطل إلاّ بالإقالة أو بحصول فسخ من عیبٍ أو خیارٍ. و المعاطاة یفید إباحةً لا ملکا»(4).

و قال السیّد عبدالفتاح المراغی: «إنّ سیرة المسلمین قدیما و حدیثا علی کون الوقف و الإذن و الإجازة و البذل و الأخذ بالشفعة و الفسخ و الإسقاط بالأفعال کما یکون بالأقوال...»(5).

صورها بحسب قصد المتعاطین

قد ذکر صاحب الجواهر رحمه الله لها أربع، إثنان منها غیر مشهور:

1- أن یقع الفعل من المتعاطین من غیر قصد البیع و لا تصریح بالإباحة بل یعطی

ص: 50


1- (1) المکاسب 3/24.
2- (2) ریاض المسائل 8/212.
3- (3) جامع المقاصد 4/59.
4- (4) بهجة الخاطر و نزهة الناظر /94.
5- (5) العناوین 2/99.

البقال مثلاً شیئا لیتناول عوضه فیدفعه إلیه.(1).

و استشکل الشیخ الأعظم رحمه الله علیه بأنّ المعاطاة عمل إرادیٌّ و اختیاریٌّ من الطرفین وحیث أنّ المعاملات محصورة فی اُمور معینة و معلومة من البیع و القرض و الهبة و نحوها التی تفید ملک العین، و من الإجارة التی تفید ملک المنفعة و من العاریة التی تفید إباحة الانتفاع، و من طرف آخر یمکن لهما أن یقصدا أیّ منها شاءَا بلا مانع فی البین فعلیهما أن یقصدا إحدی المعاملات المعروفة.

و فیه: لم یتم عندنا انحصار المعاملات فی العقود الدراجة المعروفة و یمکن إیجاد و إحداث العقود الجدیدة نحو: التأمین بجمیع أقسامها و علی هذا لا یتم ما ذکره شیخنا الأعظم قدس سره ، و ظاهر الشهید(2) فی حواشیه علی القواعد أنّها معاوضة مستقلة.

ثم لو قلنا بأنّها معاوضة مستقلة لا بأس بها و تبعه جدّنا الشیخ جعفر فی شرحه علی القواعد(3).

و بما ذکرنا یظهر عدم تمامیة ما ذکره صاحب الجواهر بأنّ: «دعوی کونها معاوضة مستقلة لا تدخل تحت اسم شیءٍ من المعاوضات، لکن فیه: أنّه لا دلیل علیه، بل ظاهر حصر الأصحاب النواقل فیما ذکروه من الاُمور المخصوصة خلافه، مضافا إلی إصالة عدمه، اللهم إلاّ أن یستندفیه إلی السیرة و إن کان دون إثباتها علی وجه تکون معتبرة خرط القتاد»(4).

ص: 51


1- (1) الجواهر 22/226 ثالثها.
2- (2) نقل عنه صاحبا مفتاح الکرامة 12/511 و الجواهر 22/226.
3- (3) شرح القواعد 2/32.
4- (4) الجواهر 22/227.

2- أن یقصد الملک المطلق(1) دون خصوص البیع(2).

ولکن استشکل صاحب الجواهر نفسه علی هذه الصورة بأنّ: «لا ریب فی فساده عند من اعتبر الصیغة الخاصة فی ملک المعاوضة لانتفاء المشروط حینئذ بانتفاء شرطه، و أمّا القائل بعدم اشتراطه فقد یقول بصحته و تنزیله علی البیع بناءً علی أنّه الأصل فی نقل الأعیان و لا یخرج عنه إلاّ بقصد غیره کما صرح به بعض مشایخنا(3)، لکن قد یناقش فی ثبوت الأصل المزبور لعدم الدلیل علیه و مطلق النقل جنس مشترک بینه و بین الصلح و الهبة بعوض فلا یتشخص إلاّ بقصده و لذا لا یکفی فی صیغة البیع ملّکتُک و نحوها، و قد یقول بصحته علی أن یکون من الهبة المعوضة، و فیه أنّها محتاجة إلی القصد أیضا»(4).

و استشکل علیه أیضا الشیخ الأعظم بأنّ التملک الخاص هو البیع أیّ «التملیک بالعوض علی وجه المبادلة هو مفهوم البیع لا غیر»(5). فهذا التملیک المطلق لیس بیعا عند الشیخ الأعظم.

و یمکن أن ندافع عن هذه الصورة بما ذکرناه آنفا من عدم حصریة العقود و المعاملات بِما هو المذکور عند قدماء أصحابنا قدس سرهم و من الممکن إحداث عقود و معاملات جدیدة تشملها الإطلاقات الواردة فی شأن العقود نحو قوله تعالی: «اُوفوا بالعقود»(6)، و

ص: 52


1- (1) الجواهر 22/227.
2- (2) المکاسب 3/23.
3- (3) و هو الشیخ جعفر قال فی شرحه علی القواعد 2/10: «انّ الأصل فی مطلق التملیک للأعیان التنزیل علی البیع». و قال ایضا فیه 2/32: «فالبیع أصل فی المعاوضة علی الأعیان مقدَّم علی الصلح و الهبة المعوّضة، و الإجارة فی نقل المنافع مقدَّمة علی الصلح و الجُعالة».
4- (4) الجواهر 22/227.
5- (5) المکاسب 3/24.
6- (6) سورة المائدة /1.

لأحدٍ أن یقال: بأنّ الملک المطلق أحدی هذه العقود.

و یؤید ما ذکرنا من عدم انحصار المعاملات کلام الشیخ الأعظم قدس سره بأنّ: «یظهر من غیر واحد منهم فی بعض العقود - کبیع لبن الشاة مدّة و غیر ذلک - کون التملیک المطلق أعمّ من البیع»(1).

قال الشیخ فی النهایة: «لا بأس أن یُعطی الانسانُ الغنمَ و البقرَ بالضریبة مدّةً من الزمان بشیءٍ من الدراهم و الدنانیر و السَّمن و إعطاء ذلک بالذهب و الفضة أجودُ فی الاحتیاط»(2).

و علّق العلاّمة علیه: «و التحقیق أنّ هذا لیس ببیع و إنّما هو نوع معاوضة و مرضاة غیر لازمة بل سائغة و لا منع من ذلک»(3).

و المحقّق الثانی وافق العلاّمة و قال فی هذا الفرع: «لم یکن بیعا حقیقیا بل نوع معاوضة و مراضاة غیر لازمة بل جائزة وفاقا لاختیاره فی المختلف...»(4).

یظهر من هذه الکلمات لأساطین الفقه عدم انحصار المعاملات عندهم فی العقود الدّارِجَةِ المتعارفة و علیه فلا وجه لمنع ابن إدریس(5) أو حمل هذه المعاملة علی الصلح کما ذکره الشهید بعنوان قول(6).

و کذا یؤیده جواز تقّبل أحد الشریکین حصّة شریکه بشیءٍ معلوم، إذا کان بینهما

ص: 53


1- (1) المکاسب 3/24.
2- (2) النهایة /400.
3- (3) مختلف الشیعة 5/249.
4- (4) جامع المقاصد 4/110.
5- (5) السرائر 2/322.
6- (6) الدروس 3/197.

نخل أو شجر.

قال ثانی الشهیدین: «و ظاهر الأصحاب أنّ الصیغة تکون بلفظ القبالة و أنّ لها حکما خاصّا زائدا علی البیع و الصلح لکون الثمن و المثمن واحدا، و عدم ثبوت الربا لو زاد أو نقص... کما لا دلیل علی إیقاعه بلفظ التقبیل أو اختصاصه به، و إنّما المعلوم من الروایة(1) أنّه معاملة علی الثمرة و أنّه لازم بحیث یملک المتقِّبل الزائد و یلزمه لو نقص...»(2).

ظاهر الشهید الثانی أنّه معاملة مستقلة غیر البیع.

و قال المحقّق الأردبیلی: «یجوز أن یتقبَّل أحد الشریکین أو أکثر من الشریک حصته واحدا کان أو أکثر من الثمرة بمقدار معلوم من الثمر عشر تغارات مثلاً، لا علی سبیل البیع، بل هو علی سبیل القبول و المراضاة و دلیله الأصل و الحاجة لأنّها قد تدعو إلیه...»(3).

و قال صاحب الحدائق فی شأن هذا الفرع: «... و لیس هذا من قبیل البیع و إنّما هی معاوضة مخصوصة تسمی القبالة و هی مستثناة من المزابنة و المحالقة...»(4) و لکنّه حملها علی الصلح و قال: «... و هذا هو الصلح بلا إشکال»(5).

و قال المتتبع العاملی: «أنّ هذا التقبیل هل هو معاملة برأسها غیر الصلح و البیع؟ أو أحدهما و یکون مستثنی من القاعدة؟ ظاهر الأصحاب الأوّل کما فی المسالک و هو کما قال بل هو صریح جماعة و فی الروضة(6) نسبه إلی ظاهر الشهید و جماعة...»(7).

ص: 54


1- (1) صحیحة یعقوب بن شعیب المرویة فی وسائل الشیعة 18/231، ح1. الباب 10 من أبواب بیع الثمار.
2- (2) المسالک 3/370.
3- (3) مجمع الفائدة و البرهان 8/221.
4- (4) الحدائق 19/362.
5- (5) الحدائق 19/363.
6- (6) الروضة البهیة 3/369.
7- (7) مفتاح الکرامة 13/523.

و أمّا الاثنان المشهوران فَهُما:

3- أن یبیح کلّ منهما للآخر التصرف فیما یعطیه.

4- أن یتعاطیا علی وجه التملیک الحاصل من البیع.

قیّدنا هذه الصورة الأخیرة بالبیع حتّی لا تتحد مع الصورة الثانیة - و هی الملک المطلق - .

و من المعلوم وقوع الإباحة و التملیک تابع لقصد البائع و المشتری و علی هذا لا تَنْحَصِرُ الصور بالاْءَرْبَع بل یمکن زیادتها بأن یقصد البائع الإباحة و المشتری الملک أو العکس و قد تعرض الشیخ الأعظم لأحکام بعض هذه الصور فی التنبیه الرابع(1) و نحن نقتفی أثره إن شاء اللّه تعالی فانتظر.

الأقوال فیها

1- المعاطاة البیعیّة بیعٌ و نحوها من المعاملات المعاطاتِیّة و أنّها تدل علی اللزوم إذا کانت عقدا لازمة سواء أکان الدال علی التراضی لفظا أم غیره و قد مرّ فی الأبحاث السابقة نسبة هذا القول إلی ظاهر المفید(2) و اطلاق کلام الشیخ فی المبسوط(3) و المقدس الأردبیلی(4) و المحدث الکاشانی(5) و السبزواری(6) و الشیخ سلیمان البحرانی و تلمیذیه الشیخ عبداللّه البحرانی و والد الشیخ یوسف البحرانی صاحب الحدائق علی ما نقل عنهم

ص: 55


1- (1) المکاسب 3/80.
2- (2) المقنعة /591.
3- (3) المبسوط 2/76.
4- (4) مجمع الفائدة و البرهان 8/142.
5- (5) مفاتیح الشرائع 3/48.
6- (6) الکفایة 1/449.

صاحب الحدائق فی کتابه(1) و اختاره هو أیضا و الفاضل النراقی(2) و الفقیه الیزدی(3)، و هو مختار أحمد و مالک و بعض الشافعیة من العامة.

2- و هو القول الأوّل ولکن مع التقیید بأنّ الدال علی التراضی أو المعاملة یکون لفظا و قد نسب هذا القول ثانی الشهیدین إلی شیخه السیّد حسن ابن السیّد جعفر الحسینی العاملی الکرکی المتوفی عام 933 أو 936 و هو ابن خالة المحقّق الکرکی و له اخْتِیاراتٌ مُخْتَصَّةٌ به فی الفقه کما مرّ منّا(4)، و استجود هذا القول فی المسالک(5) إلاّ أنّه خلاف المشهور و قال: «ما أحسنه و أمتن دلیله إن لم ینعقد الاجماع علی خلافه»(6).

3- أنّها تفید الملکیة الجائزة و تصیر لازمة بذهاب إحدی العینین و هو مختار المحقّق الثانی(7) و حمل علیه کلام کلّ من قال بالإباحة فی المعاطاة، و الحمل بعید من کلماتهم و قد حمل ثانی الشهیدین(8) مقالة العلاّمة فی التحریر(9) علیه، و هو أیضا بعید ولکن قال المحقّق النائینی: «فالأقوی أن یقال: إنّ التعاطی بقصد التملیک یفید الملک الجائز...»(10).

4- إنّها تفید الإباحة ولکن اباحة جمیع التصرفات حتّی التصرفات المتوقفة علی الملک، مع بقاء کلّ من العینین علی ملک صاحبه و یحصل الملک اللازم بتلف إحدی العینین

ص: 56


1- (1) الحدائق 18/350 و 361.
2- (2) مستند الشیعة 14/253.
3- (3) حاشیة المکاسب 1/336.
4- (4) فی صفحة 25 من هذا المجلّد.
5- (5) المسالک 3/147.
6- (6) المسالک 3/152.
7- (7) جامع المقاصد 4/58.
8- (8) المسالک 3/148.
9- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2/275.
10- (10) منیة الطالب 1/122.

أو ما هو بمنزلة التلف و قد نُسب هذا القول إلی أبی الصلاح الحلبی(1) و الشیخ فی الخلاف(2) و المبسوط(3) و أبناء البَرّاج(4) و زُهْرَة(5) و إدریس(6) و سعید(7) و العلاّمة فی تذکرة الفقهاء(8) و الشهید فی الدروس(9) و قال ثانی الشهیدین: «... لأنّ من أجاز المعاطاة سوّغ أنواع التصرفات»(10)و نحوها فی الروضة(11) و ذهب إلی هذا القول سیّد الریاض(12).

5- المعاطاة تفید اباحة جمیع التصرفات إلاّ ما یتوقف علی الملک کالوطی و العتق و البیع، قال الشهید فی حواشیه علی القواعد: «لا یجوز لأحدهما أن یخرجها فی زکاةٍ و خمسٍ أو ثمن الهدی قبل التلف - یرید تلف العین الاُخری - و قال: و یجوز أن یکون الثمن و المثمن مجهولین لأنّها لیست عقدا و کذا جهالة الأجل، و قال: ولو اشتری أمة بالمعاطاة لم یجز له نکاحها قبل تلف الثمن فإن وطئ کان بشبهة»(13).

و علیه یحمل کلام الشیخ(14) بأنّ الجاریة لا تملک بالهدیة العاریة عن الإیجاب و

ص: 57


1- (1) الکافی فی الفقه /353.
2- (2) الخلاف 3/41، مسألة 59.
3- (3) المبسوط 2/87.
4- (4) جواهر الفقه /56.
5- (5) غنیة النزوع /214.
6- (6) السرائر 2/250.
7- (7) الجامع للشرائع /251.
8- (8) تذکرة الفقهاء 10/7.
9- (9) الدروس الشرعیة 3/192.
10- (10) المسالک 3/149.
11- (11) الروضة البهیة 3/222.
12- (12) ریاض المسائل 8/214.
13- (13) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/510.
14- (14) المبسوط 3/315.

القبول و لا یحلّ و طؤها.

6- أنّها معاملة فاسدة تفرد به العلاّمة فی نهایته و قال: «المعاطاة لیست بیعا... و هل هو إباحة؟ أو یکون حکمه حکم المقبوض بسائر العقود الفاسدة الأقرب الثانی، فلکلِّ منهما مطالبة الآخر بما سلمه إلیه مادام باقیا و یضمنانه إن کان تالفا...»(1). ولکنّه رجع عنه فی التحریر(2) و التذکرة(3).

7- أنّها معاملة مستقلة غیر البیع قاله الشهید(4) فی حواشیه علی القواعد و تبعه جَدُّنا الشیخ جعفر کما فی شرح القواعد(5) و الفرق بینهما أنّ الشهید ذهب إلی إباحة جمیع التصرفات بالمعاطاة إلاّ ما یتوقف علی الملک کما مرّ ولکن الشیخ جَعْفَرا ذهب إلی أنّها تفید الملکیّة کما نبّه علیه الفقیه الیزدی(6).

المختار من الأقوال

و هو یبنی علی اُمور:

الأوّل: المعاطاة المقصود بها البیع، بیعٌ أو تجارةٌ عرفا و المنکر مکابرٌ کما قال الشیخ الأعظم: «و أمّا منع صدق البیع علیه عرفا فمکابرة»(7).

و أمّا ما ذکره ابن زهرة من أنّ المعاطاة «لیس ببیع و أنّما هو إباحة للتصرف»(8) ثم

ص: 58


1- (1) نهایة الإحکام 2/449.
2- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 2/275.
3- (3) تذکرة الفقهاء 10/7.
4- (4) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/511.
5- (5) شرح القواعد 2/32.
6- (6) حاشیة المکاسب 1/335.
7- (7) المکاسب 3/40.
8- (8) غنیة النزوع /214.

ادعی علیه الإجماع، فَإنْ کان مراده نفی صِدْقِ البیع علی المعاطاة عرفا و حقیقة فهو مردود و من الممکن أنّه نفی الصحة أو اللزوم و لذا قال: «إنّما هو إباحة للتصرف».

الثانی: بیعیة المعاطاة راجعة إلی الشک فی شرطیة الصیغة فی انعقاد البیع و قد مرّ فی الأبحاث السابقة عدم الدلیل علی هذا الاشتراط و عدم الدلیل فیها دلیل العدم لأنّه لو کان لظَهَرَ و بانَ و لزم علی الشارع البیان، مع أنّه لم یرد فی روایاتنا و حتّی روایات العامة مع توفر الدواعی علی نقله.

الثالث: «السیرة المستمرة علی معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملک فی التصرف فیه بالعتق و البیع و الوطأ و الإیصاء و توریثه و غیر ذلک من آثار الملک»(1) کما قاله الشیخ الأعظم.

أی أَنَّ سِیْرَةَ المتشرعة قائمة من زمننا هذا إلی زمن النبی صلی الله علیه و آله علی جریان أحکام البیع علی المأخوذ بالمعاطاة من دون فرق بین المأخوذ بالمعاطاة أو بالصیغة.

و دعوی: بنائُها علی عدم المبالاة و المسامحة کما عن صاحب الجواهر(2) و تبعه الشیخ الأعظم(3) ممّا لا یصغی إلیها، لأنّ الْعامِلِیْنَ بِهذِهِ السیرة عدّة أشخاص لا یُمْکِنُ رَمْیُهُمْ بعدم المبالاة نحو العلماء و الفقهاء بل أصحاب الأئمة علیهم السلام و لذا قال الفقیه الیزدی قدس سره : «من المعلوم أنّ الأئمة علیهم السلام و أصحابهم بل سائر الناس من العلماء و العوام کانوا یتصرّفون فی الهدایا و العطایا تصرّف الملاّک، و لم یعهد من أحدٍ منهم إجراء الصیغة فیها، مع أنّه لا فرق بینها و بین البیع بناءً علی اعتبارها فی الملکیّة فتدبر»(4).

ص: 59


1- (1) المکاسب 3/40.
2- (2) الجواهر 22/243.
3- (3) المکاسب 3/42.
4- (4) حاشیة المکاسب 1/336.

الرابع: بعد صدق البیع علی المعاطاة عرفا أو التجارة یشملها قوله تعالی: «أحل اللّه البیع»(1) و قوله تعالی: «إلاّ أن تکونَ تجارةً عن تراضٍ»(2) و لذا قال الشیخ الأعظم: «و کیف کان ففی الآیتین مع السیرة کفایة»(3).

بل یَدُلُّ علیها قوله تعالی: «اوفوا بالعقود»(4) بعد ما مرّ من عدم اشتراط العقد بالصیغة، و حتّی علی القول باشتراطها فیه، لأنّ المراد بالعقود العهود و لا إِشکال فی صدق العهد علی المعاطاة. فالمعاطاة بیع لازم.

الخامس: إذا وافقت أنت معی فهو، و إلاّ یتَحقَّقُ ما ذکره الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء من أنّ القول بالإباحة فی المعاطاة یستلزم تأسیس «قواعد جدیدة:

منها: أنّ العقود و ما قام مقامها لا تتبع القصود، و قصد الملک و التملیک عند المعاملة و البناء علیهما لا محض الإباحة بها لا ینافیها.

و منها: أنّ ارادة التصرف من المملّکات فتملک العین و المنفعة بإرادة التصرف بهما أو معه دفعة، و إن لم یخطر ببال المالک الأوّل الإذن فی شیءٍ من هذه التصرفات لأنّه قاصد للنقل من حین الدفع و أنّه لا سلطان له بعد ذلک بخلاف من قال: اعتق عبدی، و تصدّق بمالی عنک.(5)

و منها: أنّ الأخماس و الزکوات و الاستطاعة و الدیون و النفقات و حقّ المقاسمة و الشفعة و المواریث و الربا و الوصایا تتعلّق بما فی الید مع العلم ببقاء مقابله و عدم التصرف

ص: 60


1- (1) سورة البقرة /275.
2- (2) سورة النساء /29.
3- (3) المکاسب 3/42.
4- (4) سورة المائدة /1.
5- (5) لتوضیح الاشکال راجع إلی ما قاله المحقّق النائینی فی منیة الطالب 1/133.

به أو عدم العلم به فینفی بالأصل فتکون متعلّقة بغیر الأملاک، و أنّ صفة الغنی و الفقر تترتّب علیه کذلک فیصیر ما لیس من الأملاک بحکم الأملاک.(1)

و منها: کون التصرف من جانب مملّکا للجانب الآخر، مضافا إلی غرابة استناد الملک إلی التصرف.

و منها: جعل التلف السماوی من جانب مملِّکا للجانب الآخر و التلف من الجانبین معیّنا للمسمّی من الطرفین و لا رجوع إلی قیمة المثل حتّی یکون له رجوع التفاوت. و مع حصوله فی ید الغاصب أو تلفه فیها فالقول بأنّه المطالِب - لأنّه تملَّک بالغصب أو التلف فی ید الغاصب - غریب و القول بعدم الملک بعید جدّا. مع أنّ التلف القهری: إنْ التالف قبل التلف فهو عجیب، و معه بعید لعدم قابلیته حینئذ، و بعده ملک معدوم، و مع عدم الدخول فی الملک یکون ملک الآخر بغیر عوض و نفی الملک مخالف للسیرة و بناء المتعاملین.

و منها: أنّ التصرف إن جعلناه من النواقل القهریة، فلا یتوقّف علی النیة فهو بعید و إن اوقفناه علیها کان الواطی للجاریة من غیر علم واطئا بالشبهة، و الجانی و المتلِف جانیا علی مال الغیر و متلِفا له.

و منها: أنّ النماء الحادث قبل التصرف إن جعلنا حدوثه مملِّکا له دون العین فبعید أو معها فکذلک، و کلاهما منافٍ لظاهر الأکثر. و شمول الإذن له خفی.

و منها: قصر التملِّک علی التصرف مع الاستناد فیه إلی أنّ إذن المالک به إذن بالتملّک فیرجع إلی کون المتصرّف فی تملیکه نفسَه موجبا قابلاً، و ذلک جار فی القبص بل هو أولی منه لاقترانه بقصد التملیک دونه و إیراد عدم الملازمة بین صحة التملیک مجّانا و صحّته

ص: 61


1- (1) لتوضیح الاشکال راجع إلی ما قاله المحقّق النائینی فی منیة الطالب 1/136.

معاوضة مشترک الإلزام و الکلام الکلام»(1).

و مقصود هذا الفقیه صرف استبعاد هذا القول کما نبّه علیه الشیخ الأعظم(2) لا الاستدلال بهذه الوجوه و لذا لا ینبغی النقض فیها و العجب منه أنّه تصدّی له(3) مع اعترافه بأنّه «لم یذکرها للاعتماد و الإنصاف أنّها استبعادات فی محلِّها»(4).

وَهْمانِ

الأوّل منهما: تخیّل استفادة لزوم الصیغة من بعض الروایات:

منها: خبر أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام فی شراء الأجمة لیس فیها قصب إنّما هی ماء، قال: یصید کفّا من سمک تقول: أشتری منک هذا السمک و ما فی هذه الأجمة بکذا و کذا.(5)

و منها: صحیحة رفاعة النخاس قال: سألت أباالحسن موسی علیه السلام قلت له: أیصلح لی أن أشتری من القوم الجاریة الآبقة و أعطیهم الثمن و أطلبها أنا؟ قال: لا یصلح شراؤها إلاّ أن تشتری منهم معها ثوبا أو متاعا، فتقول لهم: أشتری منکم جاریتکم فلانة و هذا المتاع بکذا و کذا درهما فإنّ ذلک جائز.(6)

و منها: موثقة سماعة عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الرجل یشتری العبد و هو آبق عن أهله، قال: لا یصلح إلاّ أن یشتری معه شیئا آخر، و یقول: أشتری منک هذا الشیء و عبدک

ص: 62


1- (1) شرح القواعد 2/(27-23).
2- (2) المکاسب 3/46.
3- (3) راجع المکاسب 3/(50-46).
4- (4) المکاسب 3/50.
5- (5) وسائل الشیعة 17/355، ح6، الباب 12 من أبواب عقد البیع و شروطه.
6- (6) وسائل الشیعة 17/353، ح1، الباب 11 من أبواب عقد البیع و شروطه.

بکذا و کذا، فإن لم یقدر علی العبد کان الذی نقده فیما اشتری منه.(1)

و منها: موثقة اُخری له عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سألته عن بیع المصاحف و شرائها؟ فقال: لا تشتر کتاب اللّه ولکن اشتر الحدید و الورق و الدفّتین و قل: اشتری منک هذا بکذا و کذا.(2)

و منها: حسنة عبدالرحمن بن سیابة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سمعته یقول: إنّ المصاحف لن تشتری فإذا اشتریت فقل: إنّما أشتری منک الورق و ما فیه من الأدیم و حلیّته و ما فیه من عمل یدک بکذا و کذا.(3)

و منها: موثقة و مضمرة عثمان بن عیسی قال: سألته عن بیع المصاحف و شرائها؟ فقال: لا تشتر کلام اللّه ولکن اشتر الحدید و الجلود و الدفتر، و قل أشتری هذا منک بکذا و کذا.(4)

و منها: صحیحة بُرَیْدِ بن معاویة عن أبی عبداللّه علیه السلام فی رجل اشتری من رجل عشرة آلاف طن قصب فی أنبار بعضه علی بعض من أجمة واحدة و الأنبار فیه ثلاثون ألف طن، فقال البائع: قد بعتک من هذا القصب عشرة الآف طن، فقال المشتری: قد قبلت و اشتریت و رضیت، فأعطاه من ثمنه ألف درهم، و وکّل المشتری من یقبضه فأصبحوا و قد وقع النار فی القصب فاحترق منه عشرون ألف طن و بقی عشرة الآف طن، فقال: العشرة آلاف طن التّی بقیت هی للمشتری و العشرون التّی احترقت من مال البائع.(5)

ص: 63


1- (1) وسائل الشیعة 17/353، ح2، الباب 11 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- (2) وسائل الشیعة 17/158، ح2، الباب 31 من أبواب ما یکتسب به.
3- (3) وسائل الشیعة 17/158، ح1، الباب 31 من أبواب ما یکتسب به.
4- (4) وسائل الشیعة 17/158، ح3، الباب 31 من أبواب ما یکتسب به.
5- (5) وسائل الشیعة 17/365، ح1، الباب 19 من أبواب عقد البیع و شروطه.

الطنّ: حزمةٌ من حطب أو قصب

و منها: موثقة سماعة قال: سألته عن بیع الثمرة هل یصلح شراؤها قبل أن یخرج طلعها؟ فقال: لا إلاّ أن یشتری معها شیئا غیرها رطبة أو بَقْلاً(1) فیقول: أشتری منک هذا الرطبة و هذا النخل و هذا الشجر بکذا و کذا، فإن لم تخرج الثمرة کان رأس مال المشتری فی الرطبة و البقل، الحدیث.(2)

و منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قدم لأبی متاع من مصر فصنع طعاما و دعا له التجار، فقالوا: نأخذه منک بده دوازده، قال لهم أبی: و لم یکون ذلک؟ قالوا: فی عشرة آلاف ألفین، فقال لهم أبی: فإنّی أبیعکم هذا المتاع بإثنی عشر ألفا، فباعهم مساومة.(3)

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: فی رجلین کان لکلِّ واحدٍ منهما طعام عند صاحبه و لا یدری کلّ واحد منهما کم له عند صاحبه، فقال کلّ واحد منهما لصاحبه: لک ما عندک ولی ما عندی، فقال: لا بأس بذلک إذا تراضیا و طابت أنفسهما.(4)

تلک عشرة کاملة من الروایات و أنت تری بأنّ غایة مایمکن أن یقال فیها: أنّ المعاملات الواردة فی هذه الروایات اُنشأت باللفظ و لا إشعار فیها بإعتبار اللفظ فضلاً عن الدلالة. مضافا إلی جریان السیرة علی المعاطاة، فالنهی الوارد عنها لابدّ بأن یکون طائفة

ص: 64


1- (1) البَقْل: هو ما ینبت فی بزره لا فی أصل ثابت جمعه بُقْول و أبقال، و بزر الحبوبَ: أی بذرها، فحینئذٍ فالخضروات قسم من البقل لا جمیعها.
2- (2) وسائل الشیعة 18/219، ح1، الباب 3 من أبواب بیع الثمار.
3- (3) وسائل الشیعة 18/61، ح1، الباب 14 من أبواب أحکام العقود.
4- (4) وسائل الشیعة 18/445، ح1، الباب 5 من أبواب کتاب الصلح.

من النصوص الصریحة الصحیحة کالنهی عن القیاس، و لا یفید بعض الإطلاقات و العمومات.

الثانی منهما: قد یتوهم أنّ النهی الوارد عن بیع المنابذة و الملامسة و الحصاة یشمل المعاطاة أو أنّ المعاطاة تکون من مصادیقها.

قد ذکر الصدوق بسند ضعیف عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه نهی عن المنابذة و الملامسة و بیع الحصاة.(1)

و قال فی تفسیرها: «ففی کلّ واحدة منها قولان: أما المنابذة فیقال: إنّها أن یقول الرجل لصاحبه: انبذ إلیَّ الثوب أو غیره من المتاع أو انبذه إلیک و قد وجب البیع بکذا و کذا. و یقال: إنّما هو أن یقول الرجل: إذا نبذت الحصاة فقد وجب البیع و هو معنی قوله أنّه نهی عن بیع الحصاة.

و الملامسة أن تقول: إذا لمست ثوبی أو لمست ثوبک فقد وجب البیع بکذا و کذا. و یقال: بل هو أن یلمس المتاع من وراء الثوب و لا ینظر إلیه فیقع البیع علی ذلک.

و هذه بیوع کان أهل الجاهلیة یتبایعونها فنهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنها لأنّها غرر کلّها»(2).

و قد فسروا بیع الحصاة بثلاثة تفاسیر(3):

أحدها: أن یجعل اللمس للشیء و النبذ له و إلقاء الحصاة بیعا موجبا کما عن ابن

ص: 65


1- (1) معانی الأخبار /278 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 17/358، ح 13، الباب 12 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- (2) معانی الأخبار /278 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 17/358 ذیل ح13.
3- (3) حکاها الرافعی فی المجموع 8/194 و 193 و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/516.

زهرة فی الغنیة(1)، و وجه بطلانها جعل اللمس و النبذ بیعا و عقدا موجبا للانتقال و اللزوم.

الثانی: أن یقول: بعتک ثوبا من هذه الأثواب و ارم بهذه الحصاة فعلی أیّها وقعت فهو مبیعٌ و وجه بطلانه جهل المبیع.

الثالث: أن یقول: بعتک هذا علی أنّک بالخیار إلی أن أرمی بهذه الحصاة، و بطلانه لإبهام مدّة الخیار.

فقد کان معنی النهی عن هذه البیوع: لا تعقدوا بالنبذ و لا باللمس کما کان أهل الجاهلیة یفعلون.

دفعه: المعاطاة شیءٌ و هذه البیوع أشیاء اُخَر، فالمعاطاة لیست من مصادیقها و لاتشمل هذه البیوع المعاطاة. هذا أوّلاً.

و ثانیا: الروایة عامیة ضعیفة الإسناد.

و ثالثا: الظاهر أنّ تعیین المبیع فی هذه البیوع بهذه الأفعال، لا أصل إیجابه و قبوله و انشائه بأن یقول: «بعتک مایقع علیه الحصاة أو ما لامسته أو ما نبذته» فتکون علة النهی أنّها بیعٌ غرریٌ کما نبّه علیه الفقیه الیزدی(2) قدس سره فلا ربط لها بالمعاطاة.

و ینبغی التنبیه علی امور:
الأوّل: إعتبار شروط البیع فی المعاطاة و عدمه و هل یلحق بها أحکام البیع أم لا؟
اشارة

قال الشیخ جعفر: «أنّها هل هی داخلة فی إسم المعاملة التّی جاءَت فی مقامها فیجری فیها شرائطها و أحکامها؟

الظاهر من جماعة من الأصحاب إختیار ذلک فیجری فیها قائمةً مقام البیع مثلاً

ص: 66


1- (1) غنیة النزوع /214.
2- (2) حاشیة المکاسب 1/338.

أحکام الشفعة و الخیار و الصرف و السَلَم و بیع الحیوان و الثمار و جمیع شرائطه سوی الصیغة. و لم یقم علی ذلک شاهد معتبر من کتاب أو سنة أو إجماع»(1).

أقول: هاهنا مقامان من البحث:

المقام الأوّل: إعتبار شروط البیع فیها

1- بناءً علی المختار من أنّ البیع المعاطاتی بیع فی الواقع فحینئذ تعتبر فیها جمیع شروط البیع و لا دلیل علی أنّها تختص بالبیع القولی.

2- و أمّا بناءً علی القول بالإباحة بمعنی کون قصد التملیک داعیا إلی إنشاء ما هو مصداق للإباحة و هو التسلیط عن قصدٍ و ارادةٍ فَتَقَعُ الإباحة لأنّها المقصودة بالإنشاء الفعلی عن اختیار و یتخلف قصد التملیک من باب تخلف الداعی، و علی هذا المسلک و هو مختار المحقّق النائینی(2) علی القول بالإباحة أیضا یعتبر فیها جمیع ما یعتبر فی البیع من الشروط، لأنّ فی هذه المعاملة الخاصة کون العوضین فیها مضمونا بالمسمی لا بالمثل أو القیمة فلابدّ فی إثبات صحتها من قیام دلیل و الدلیل هو السیرة و هی دلیل لُبّی لا إطلاق لها و لا عموم فیجب الأخذ بالمتیقن منها و هو ما اجتمع فیه الشرائط المعتبرة فی البیع.

لا یقال: عموم دلیل السلطنة ینفی اعتبارها.

لأنّا نقول: دلیل السلطنة و عمومها ناظرٌ إلی إیجاد المسببات و لا ینظر إلی الأسباب بل لا یعقل جعلها فی ناحیة الأسباب بعد کونها أسْبابا شرعیة و لابدّ فیها من الجعل التشریعی.

3- و أمّا بناءً علی القول بالإباحة بمعنی أنّه مع الاْءنْشاءِ الفعلی للمتعاملین التملیک مع

ص: 67


1- (1) شرح القواعد 2/31.
2- (2) المکاسب و البیع 1/191 و 193.

قصدهما به، حکم الشارع تعبدا بحصول الإباحة و عدم حصول الملک إلی زمان تحقق إحدی الملزمات. فحینئذ یجری فیها جمیع مایعتبر فی البیع لأنّ المفروض کون قصدهما التملیک و کان هو المُنشأ بإنشائهما، غایة الأمر لم یترتب المُنشأ بواسطة حکم تعبدی من الشارع و صار ترتبه منوطا علی أمر متأخر من وجود إحدی الملزمات و هذا لا یخرجه من کونه بیعا و یصیر نحو توقف الملکیة فی بیع الصرف علی القبض.

قال الُْمحَقِّقَ النائینی فی ذیل هذا الْمَبْنی: «لا أظنُّ لهذا المسلک قائلاً و لا أصدقُ بوجود القائل به»(1).

أقول: إنَّما یَأْتِیْ ما ذکره المحقّق النائینی علی القول بانحصار العقود فی الرائج و الدارج فی ألسنة الفقهاء و علیه فلابدّ من حمل هذه المعاملة علی البیع و تَأْتِیْ فیه الشروط المعتبرة فیه و لکن علی القول بعدم انحصارها کما مرّ سابقا فلم یدل دلیل علی أنّ هذه المعاملة بیع حتّی أجرینا شروطه، و لأحد أن یَقُوْلَ: أنّها معاملة جدیدة حدیثة و لم تَجْرِ فیها شرائط البیع، فتأمل.

و قد مرّ منّا فی القول الرابع من الأقوال فی المعاطاة ذِکْرُ القائلین به، و هم کثیرون و الظاهر عدم تمامیة ما ذکره النائینی قدس سره من عدم القائل به.

4- و أمّا بناءً علی القول بالإباحة بمعنی أنّ قصد المتعاطیین من أوّل الأمر هو الإباحة و کان الدلیل علی صحتها أدلة التسلیط کما ذکره صاحب الجواهر(2) فحینئذ تدلّ اطلاق الدلیل علی صحتها ولو مع فقد الشروط.

ولکن قد مَرَّت المناقشة فی إطلاق دلیل السلطنة أو عمومها من أنّها ناظِرَةٌ إلی إیجاد

ص: 68


1- (1) المکاسب و البیع 1/192 تقریر أبحاث المحقّق النائینی بقلم العلاّمة الشیخ محمّد تقی الآملی رحمه الله .
2- (2) الجواهر 22/224.

المسببات و لا ینظر إلی إیجاد الأسباب. فحینئذ یَقْتَصِرُ الدلیل علی السیرة وَ یَنْحَصِرُ بِها، و هی دلیل لبّی فیجب الأخذ بالمتیقن منها و هو ما إجتمع فیه الشرائط المعتبرة فی البیع. فقد عرفت اعتبار شروط البیع فی المعاطاة علی جمیع المبانی إلا المبنی الثالث، و قد مرّ من النائینی عدم وجود القائل به و قد مرّت منّا المناقشه فی هذا کلّه فی المقام الأوّل.

المقام الثانی: لحوق أحکام البیع للمعاطاة

بعض أحکام البیع یلحق بالمعاطاة نحو: الربا لأنّه یجری فی کلّ معاملة و معاوضة و لایختص بالبیع، فعلی القول بأنّها بیعٌ فواضح و علی القول بالإباحة علی جمیع وجوهه الأربعة المتقدمة فی المقام الأوّل فلأنّها معاوضة یکون الضمان فیها بالمسمی لا بالمثل أو القیمة فتکون إمّا بیعا أو معاملة معاوضیة و علی التقدیرین فیجری فیها الربا.

و أمّا انفساخ العقد بالتلف قبل القبض و إن اسْتُفِیْدَ من النص ولکن لیس من التعبدیات الصرفة بل هُوَ منطبق علی التزام المتعاملین بالتسلیم ضمنا فإذا امتنع التسلیم انْفَسَخَت المعاملة، فهو یجری فی المعاطاة لعدم اختصاصه بالبیع بل یجری فی کلّ معاملة و معاوضة، فعلی القول بأنّها بیع فالأمر فیه واضح و علی القول بالإباحة بالوجوه المتقدمة فالأمر کذلک لأنّ المعاوضة المفیدة لإباحة العوض المسمّی قوامها بوجود المباح فلو تلف لا یبقی مورد للإباحة و تعلُّق الإباحة بالمثل أو القیمة لا وجه له.

و أمّا الخیارات فأمرها مختلف بالنسبة إلی قبل لزوم المعاملة و بعده.

و أمّا عدم جریانها قبل اللزوم فَواضِحٌ؛ لأنّ الخیار حقّ و سلطنة لذی الخیار علی التزام الآخر، بحیث إن شاء حلّ العقد اللازم و إن شاء أمضاه و لیس لصاحبه هذه السلطنة و الحقّ، فمع عدم لزوم المعاملة فلا وجه لهذه السلطنة. و یکون نفی الخیار فیه من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

اللهم إلاّ أن یقال: علی القول بأنها بیع أو بیع یفید الإباحة شرعا قبل الملزمات یجری فیها

ص: 69

الخیار أیضا لأنّ جوازها من وجه لا ینافی جوازها من وجه آخر، و هذا هو المختار.

و یمکن أن یقال: إنّ المعاطاة من المعاملات اللازمة فیجری فیه الخیارکما لا یبعد.

و أمّا جریانها بعد اللزوم علی القول بأنّها بیع لازم أو القول بأنّها تفید الإباحة و بعد تحقق إحدی الملزمات یفید الملکیة و اللزوم فلا إشکال فی جریان أحکام الخیار، لکون المعاطاة حینئذ بیعا فیقع فیها ما یقع فی البیع من الخیارات.

و علی القول بأنّها بیع جائِزٌ أو القول بالإباحة بمعنی کون التملیک داعیا إلی إنشاء ما هو مصداق للإباحة کما ذهب إلیه المحقّق النائینی، أو القول بالإباحة بمعنی أنّ قصد المتعاطیین من أوّل الأمر هو الإباحة کما ذکره صاحب الجواهر، فحینئذٍ قد یقال(1) بأنّ ثبوت الخیار فیها بعدُ اللزوم مبنیٌّ بأن کون اللزوم المتحقِّق بإحدی الملزمات حکمیّا أو حقّیا، علی القول الاوّل لا تجری الخیارات، و علی القول الثانی تجری ولکن تصویر کونه حقیّا لُِیمْکِنَ فیه ثبوت الخیار مشکل و سیأتی البحث عن هذه المقالة فی بعض التنبیهات الآتیة(2) إن شاء اللّه تعالی.

الثانی: لا یعتبر فی المعاطاة قبض العوضین بل یکفی أحدهما
اشارة

قال الشهید: «من المعاطاة أن یدفع إلیه سلعة بثمن یوافقه علیه من غیر عقد ثم تهلک عند القابض فیلزم الثمن المسمی...»(3).

و نحوهُ فی حواشیه علی القواعد(4) و کذا فی حواشی المحقّق الثانی علی الإرشاد(5). و

ص: 70


1- (1) و القائل المحقّق النائینی رحمه الله فی تقریرات بحثه الشریف فراجع المکاسب و البیع 1/196.
2- (2) یأتی فی التنبیه السابع.
3- (3) الدروس 3/192.
4- (4) کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/509.
5- (5) حاشتیه علی إرشاد الأذهان /334 المطبوعة فی المجلّد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی و آثاره، و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/509.

تبعهما الشیخ یوسف فی الحدائق(1) و السیّد المجاهد فی المناهل(2) و قال الشیخ جعفر: «هل یُعتبر فیها قبض العوضین معا - کما یظهر من لفظهما أو یکفی أحدهما فیجری فیه السَلَم و النسیئة، و یجری حکمها فی قابض أحد الطرفین إذا تلف فی یده قبل قبض الآخر؟ الظاهر الثانی، لقضاء السیرة بقیامها مقام عقود المعاوضات بأسرها»(3). و تبعهم أصحاب المفتاح(4) و الجواهر(5) و المکاسب(6).

و قال ثانی الشهیدین: «لو وقعت المعاملة بقبض أحد العوضین خاصة - کما لو دفع إلیه سلعةً بثمن وافقه علیه، أو دفع إلیه ثمنا عن عین موصوفة بصفات السلم فتلف العوض المقبوض - ففی لحوق أحکام المعاطاة و لزوم الثمن المسمی و المثمن الموصوف نظر، من عدم صدق إسمها، لأنّها مفاعلة تتوقف علی العطاء من الجانبین و لم یحصل و الإقتصار بما خرج عن الأصل علی موضع الیقین إن کان، و من صدق التراضی علی المعاوضة و تلف العین المدعی کونه کافیا فی التقابض من الجانبین، و الظاهر أنّ الحکم واحد. و قد ذکر أوّلهما شیخنا رحمه الله فی الدروس و ألحقه بها»(7).

و قال نحوهُ فی الروضة.(8)

ص: 71


1- (1) الحدائق 18/364.
2- (2) المناهل /270.
3- (3) شرح القواعد 2/31.
4- (4) مفتاح الکرامة 12/509.
5- (5) الجواهر 22/238.
6- (6) المکاسب 3/75 للشیخ الأعظم قدس سره .
7- (7) المسالک 3/151.
8- (8) الروضة البهیة 3/224.

و أنت تری أنّ الشهید الثانی لم یختر أحد طرفی الحکم بل ذکرهما علی وجه الاحتمال.

و بعد نقل هذه الأقوال لتنقیح محل النزاع و تحریر مَوْضِعِ الخِلافِ یمکن أن یقال: أنّ لَفْظَ المعاطاة لم یرد فی آیة و لا روایة و لا أنّه معقد للإجماع التعبدی حتّی یحفظ علی هذا العنوان و یؤخذ بالقدر المتیقن منه. بل الإجماع و السیرة قائمان علی جواز التصرف فی المأخوذ بالمعاطاة و إن کان الإعطاء أو التعاطی من طرف واحد.

مضافا إلی ما مرّ منّا فی أوّل بحث المعاطاة بأنّ باب المفاعلة لا ینحصر بالمشارکة بین الإثنین بل یجی ء أیضا من طرف واحد نحو: ضاعفته بمعنی ضعّفتُ و سافرتُ بمعنی سفرت، و علی هذا الإعطاه أو التعاطی من طرف واحد أیضا یصدق علیه المعاطاة بلا إشکال و تجوّز و بالْقَدَرِ الْمُتَیَقَّنِ، فیجری علیه ما یجری علیها علی جمیع المبانی فی المعاطاة.

فرعان تعرّض لهما الشیخ الأعظم قدس سره

الأوّل: هل مجرد وصول الثمن إلی البائع و المثمن إلی المشتری بأیّ نحواتفق یُعدّ معاطاة؟ استظهر الشیخ الأعظم من کلام المحقّق الأردبیلی حیث یقول: «و لأنّ الظاهر أنّ الفرض حصول العلم بالرضا و هو حاصل»(1)، «أنّ المعیار فی المعاطاة وصول العوضین أو أحدهما مع الرضا بالتصرف»(2) و قال فی توضیح ذلک: «أنّ الظاهر أنّ عنوان التعاطی فی کلماتهم لمجرد الدلالة علی الرضا و أنّ عمدة الدلیل علی ذلک هی السیرة، و لذا تعدّوا إلی ما إذا لم یحصل إلاّ قبض أحد العوضین، و السیرة موجودة فی المقام أیضا...»(3).

ثمّ مثّل بالأمثلة الثلاثة:

1- تعارف أخذ الماء مع غیبة السقّاء و وضع الفلس فی المکان المعدّ له إذا علم من

ص: 72


1- (1) مجمع الفائدة و البرهان 8/141.
2- (2) المکاسب 3/75.
3- (3) المکاسب 3/113.

حال السقّاء الرضا بذلک»(1).

2- إنّ بناء الناس علی أخذ الماء و البقل و غیر ذلک من الجزئیات من دکاکین أربابها مع عدم حضورهم و وضعهم الفلوس فی الموضع المعدّ له»(2).

3- «الدخول فی الحمام و وضع الاُجرة فی کوز صاحب الحمام مع غیبته»(3).

أقول: الظاهر عدم کفایة الرضا فی المعاملات بالمعنی الأخص و الأعم و الذی یُصَحِّحُ المعاملة هو استنادها إلی البائع و المشتری، أو الطرفین فی غیر البیع، و هذا الاستناد لا یتم إلاّ بأقل من الإذن، و صِرْف الرضا لا یکفی فی تصحیح المعاملة، فحینئذٍ فی أیّ صورة یکشف الإذن مع تعاطی الطرفین بل مع الإعطاء من طرف واحد صحت المعاملة و إلاّ فلا کما ذکر الشیخ الأعظم کفایة الرضا علی القول بأنّ المعاطاة یوجب الإباحة فقط لا التملیک و قال: «فالمعیار فی المعاطاة: وصول المالین أو أحدهما مع التراضی بالتصرف، و هذا لیس ببعید علی القول بالإباحة»(4).

هذا کلّه بالنسبة إلی أصل المسألة و أمّا الأمثلة المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم قدس سره فَهِیَ و إن صَحَّحَتْ هذه المعاملات ولکن لا لجهة التّی ذکرها و هی الرضا فقط، بل لأنّها من قبیل المعاوضة الخاصة التملیکیة أو الإباحة بالعوض، نعم یمکن حمل الثانی منها علی البیع المعاطاتی المتعارف ولکن إیجابه لیس بمباشرة المالک بل إنّما هو بمباشرة وکیله و فی الکلِّ حصل التعاطی من الجانبین و یمکن تحصیل الإذن بأنّ الحَمّامی إذا فتح باب حَمّامَهُ أو إذا فتح الخضار أو البقال أو العطار دکانه لبیع المحقرات التّی فیها أو إذا مَلاَءَ السُّقاءُ قِرْبَتَهُ من الماء و

ص: 73


1- (1) المکاسب 3/75.
2- (2) المکاسب 3/113.
3- (3) المکاسب 3/75.
4- (4) المکاسب 3/114.

جعله فی المعرض فیکشف من نفس هذه العملیة الإذن العام فی المعاوضة أو المعاملة کما هو الظاهر. فإنّا نحکم بصحة المعاملة فی هذه الموارد لا من جهة أنّها کلّها من البیع المعاطاتی و أنّها یکفی فیها الرضا، بل من جهة أنّها معاوضة خاصة تملیکیّة أو إباحة بالعوض و یوجد فیها إذن طرفی المعاوضة أو الإباحة أو المعاملة.

و یمکن القول بأنّ الثلاثة کلّها بیعٌ معاطاتیٌّ و دفع الغرر من المثالین الأوّل و الثالث بأنّهما حُملا علی القدر المتعارف عند الناس.

نعم، قد تتحقّق المعاملة بلا عطاء من الجانبین و هو أن یکون مال کلّ من الجانبین عند الجانب الآخر نحو إذا کان المالان عند کلّ منهما بسبق أمانةٍ أو غصب أو إطارة ریحٍ فحینئذ إن ثبت الإذن بالنسبة إلی المالین تمت المعاملة و إلاّ لم یصدق عنوان المعاملة بمجرد الرضا لما مرّ و قد إعترف الشیخ الأعظم به فیما بعد و قال: «و ربّما یستعمل فی المعاملة الحاصلة بالفعل و لو لم یکن عطاء و فی صحته تأمل»(1).

و کذا یجوز الأکل فی هذه الأمثلة الأخیرة حتّی مع عدم الرضا بشرط صدق عنوان التقاص و حدوده.

الثانی: قال الشیخ الأعظم قدس سره : «لو قلنا بأنّ اللفظ الغیر المعتبر فی العقد کالفعل فی إنعقاد المعاطاة، أمکن خلوّ المعاطاة من الإعطاء و الإیصال راسا، فیتقاولان علی مبادلة شیءٍ بشیءٍ من غیر إیصال و لا یبعد صحته مع صدق البیع علیه بناءً علی الملک و أمّا علی القول بالإباحة فالإشکال المتقدم هنا آکد(2)»(3).

ص: 74


1- (1) المکاسب 3/81.
2- (2) الإشکال هو العلم بعدم قیام السیرة هذه علی إباحة التصرف دون الصورة السابقة و هی أن یکون التعاطی من طرف واحد. کما فی المصباح 2/172.
3- (3) المکاسب 3/76.

أقول: حتّی علی القول بأنّ اللفظ الغیر المعتبر فی العقد کالفعل فی المعاطاة لا یمکن القول بإمکان خلوّ المعاطاة من التعاطی أو لاأقل من الإعطاء من طرف واحد، لاِءنَّهُ حتّی علی القول بأنّ المعاطاة بیع فعلیٌّ لا یتم إلاّ باعطاء أحد طرفی البیع من الثمن فصار البیع سلما أو من المثمن فصار البیع نسیةً أو منهما فصار نقدا و أمّا مع خلوّهما فصار بیع الکالی بکالی و یکون باطلاً عند الجمیع. فما تعرّض له الشیخ الأعظم فی هذا الفرع غیر تام.

و وافقنا المحقّق العراقی(1) علی عدم إیجاد البیع حینئذ و استغرب کلام الشیخ الأعظم رحمه الله من عدم استبعاد الصحة کصدق البیع علیه فی هذا الفرع.

الثالث: بماذا یتمیّز البائع عن المشتری؟

یتمیّز البائع من المشتری فی المعاطاة بل و فی العقد القولی بأنّ البائع هو الذی بذل ماله مع خصوصیاته ولکن أمسک بمالیته بأخذ البدل لیحفظ تموّله و لئلاینقص ماله بدفع العین و یختار البائع فی الأغلب من الأبدال النقود لأنّها أسهل فی الحمل و الاشتراء و المصرف.

و أمّا المشتری فَإِنْ رغب فی خصوصیات العین التّی یرید شراءها فمقصوده العین لرفع حاجاته ولکن حیث لا یعطی مجانا و بلا بدل الْتَجَأَ إلی إحضار بدلها.

و یمکن أن یقال بأنّ تمییز مفهوم البائع عن مفهوم المشتری من الواضحات التی لا تحتاج إلی البیان و إنّما الغرض من عقد هذا التنبیه بیان صدق مفهوم البائع أو المشتری من جهة السعة و الضیق لیبیّن مقدار صدقهما و بالمآل یرجع إلی الشبهة فی المفهوم فلذا نقول:

إذا کان أحد العوضین نقدا و الآخر سلعةً أو عرضا، فَصاحِبُ النقد یکون مشتریا و

ص: 75


1- (1) حاشیة المکاسب /129 لآیة اللّه المیرزا أبوالفضل النجم آبادی کتبه من تقریر أبحاث المحقّق العراقی.

صاحب السلعة و العرض یکون بائعا، لقیام سیرة العقلاء علی ذلک.

و أمّا إذا کان کلا العوضین نقدا أو سلعة، فَمَنْ یُرِدْ حفظ تموّله أو ازدیاده یَکُنْ بائعا و من یُرِدْ رفع حاجاته و سدّ خلاّته فهو المشتری.

و فی هذه الصورة إذا کان غرض کلّ من المتعاملین هو التحفظ علی مالیّة ماله و تموّله و کسب الربح و المنفعة أو رفع الحاجة و سدّ الخلّة نحو تبدیل بیت ببیت أو سیارة باُخری و نحوها فأیّهما یکون بائعا و أیّهما یکون مشتریا؟ ذکر الشیخ الأعظم أربعة وجوه فی تعینهما:

1- یکون بیعا و شراءً بالنسبة إلی کلّ منهما لأنّ البیع لغة مبادلة مالٍ بمالٍ کما مرّ عن المصباح(1)، و الاشتراء هی ترک الشیء و الأخذ بغیره کما عن صاحب اللسان(2) و القاموس(3) فحینئذ یصدق علی کلّ منهما أنّه بائعٌ وَ مُشْتَرٍ لکن لا تَتَرَتَّبُ علیهما أحکام البائع و المشتری المختصة بهما لأنّها تجری فی حقِّ البائع المحض و المشتری کذلک.

2- یکون بیعا بالنسبة إلی المعطی أوّلاً متاعه و شراءً بالنسبة إلی الآخذ و الذی یعطی متاعه ثانیا.

3- یکون من قبیل المصالحة لأنّها بمعنی التسالم علی شیءٍ و لذا حملوا صحیحة محمّد بن مسلم الواردة فی رجلین کان لکلِّ واحد منهما طعام عند صاحبه و لا یدری کلُّ واحد منهما کم له عند صاحبه فقال کلّ واحد منهما لصاحبه: لک ما عندک ولی ما عندی، فقال علیه السلام : لا بأس بذلک إذا تراضیا و طابت أنفسهما(4). حملوها علی الصلح.

4- یکون معاوضة مستقلة حیث لا یدخل تحت العناوین المتعارفة السابقة.

ص: 76


1- (1) المصباح المنیر /69.
2- (2) لسان العرب 7/103.
3- (3) قاموس اللغة 4/348.
4- (4) وسائل الشیعة 18/445، ح1، الباب 5 من أبواب الصلح.

فهذه أربعة وجوه مذکورة فی کلام الشیخ الأعظم قدس سره و اختار هو الثانی منها(1) و تبعه المحققان النائینی(2) و الإصفهانی(3).

و اختار الرابع منها الفقیه الیزدی(4) و المؤسّس الحائری(5) و المحقّقون العراقی(6) و الإیروانی(7) و الحکیم(8) و الخوئی(9) و الأردکانی(10) قدس سرهم .

فلابدّ لنا من التحقیق حول الوجوه الأربعة و لذا نقول:

أمّا الوجه الأوّل: فَإنَّهُ و إن کان یؤیده قول بعض اللغویین نحو أحمد بن فارس حیث یقول فی معنی البیع: «بیع الشیءٍ و ربّما سمی الشِّری بیعا و المعنی واحد»(11) و یقول الفیومی: «البیع من الأضداد مثل الشراء و یطلق علی کلّ واحد من المتعاقدین أنّه بائع»(12)، ولکن یرد علیه: بِأَنْ لو تم هذا الوجه لیجری حتّی بالنسبة إلی البیوع المتعارفة فلا یختص أحدهما بکونه بائعا و الآخر مشتریا و من البدیهی بطلان هذا الأمر. مضافا إلی أنّه لو کان حصل الغرض من البیعِ و الشراءِ الاْءَوَّلِیَّیْنِ فإجراء الثانی منهما لیس له مَوْضُوْعٌ بَلْ

ص: 77


1- (1) المکاسب 3/79.
2- (2) منیة الطالب 1/169.
3- (3) حاشیة المکاسب 1/161.
4- (4) حاشیته علی المکاسب 1/377.
5- (5) کتاب البیع 1/105 الآیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی.
6- (6) حاشیة المکاسب /132 لآیة اللّه النجم آبادی تقریرا لمحاضرات المحقّق العراقی.
7- (7) حاشیته علی المکاسب 2/72.
8- (8) نهج الفقاهة /108
9- (9) مصباح الفقاهة 2/175.
10- (10) غنیة الطالب 2/64.
11- (11) معجم مقاییس اللغة 1/327.
12- (12) المصباح المنیر /69.

هُوَ لغوٌ. و العقلاء لم یذهبوا فی سِیَرِهم بالاُمور اللغویة.

و أمّا الوجه الثانی: فَالْواضِحُ عدم تمامیته علی إطلاقه بحیث ربّما یعطی البائع ماله ثانیا کما فی البیع السلم و ربّما ینشأ العقد بصیغة القبول بعد إنشاء المشتری صیغة الإیجاب. فهذا الوجه فی محلّه لا یتم حتّی نَتَمَسَّکَ به فی موارد الإشتباه.

و أمّا الوجه الثالث: فَلَوْ سلمنا حمل الصحیحة علی المصالحة کما هو الظاهر، ولکن الصلح معاملة خاصة معیّنة لاأقل من قصدها و نیّتها و بدونها لا تتحقّق و قصدها و نیّتها هنا مفقودة.

و أمّا الوجه الرابع: فَلَوْ ذهبنا إلی إمکان وجود عقود و معاملات مستقلة غیر العناوین الدارجة فحینئذ یمکن أن یفرض هنا معاوضة مستقلة کما مال إلیها جماعة من الأعلام ولکن العرف یری هذه المعاملة بیعا لا غیره فلا یتم هذا الوجه لأنّ العرف ینظر إلیها بعنوان البیع.

و علی هذا بنظری القاصر هذه المعاملة تکون بیعا فإن أقرّ کلّ منهما بأنّه البائع أو المشتری و لم یلحق به نفیه من الجانب الآخر فیقبل منه و تَتَرَتَّبُ علیه آثاره و إلاّ ففی ترتب الأحکام المختصة تحتاج إلی المرافعة الشرعیّة و إثباتها بضوابط القضاء من البینة و الیمین و غیرهما.

الرابع: الوجوه المتصورة بحسب قصد المتعاطیین للمعاطاة
اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ لنا من التَّذْکِیْرِ بالفرق بین التَّنْبِیْهَیْنِ الثانی و الرابع فلذا نقول: الغرض من الثانی بیان مورد المعاطاة و ما هو المبرز الخارجی لما قصده المتعاطیان و بعبارة ثالثة مقام الإثبات، و الغرض من الرابع بیان ما یمکن أن یقصده المتعاطیان و بعبارة اُخری مقام الثبوت.

ثم الوجوه المتصورة فی المقام بلغت إلی العشرة لأنّ المبادلة: إمّا أن تکون بین المالین و

ص: 78

هما إمّا بین ملکیتهماأو أباحتهما أو مختلفَیْن أیّ ملکیة أحدهما و إباحة الآخر. فهذه ثلاثة أقسام.

و إمّا أن تکون بین الفعلین و هما أیضا یمکن أن یکونا بین تملیکین أو إباحتین أو مختلفین أیّ بین تملیک و إباحة فهذه أیضا ثلاثة.

و إمّا أن تکون بین مال و فعل، و الفعل یمکن أن یکون إباحة أو تملیکا، و المال إمّا أن یجعل عوضا فی کونه ملکا أو فی کونه مباحا فهذه أربعة و یکون المجموع عشرة وجوه کما ذکره المحقّق الإیروانی(1) قدس سره .

و الظاهر صحة جمیع الأقسام لشمول العمومات، نعم فیما کان أحد الطرفین أو کلاهما إباحة فیه إشکال إذا کان المقصود إباحة جمیع التصرفات حتّی الموقوفة علی الملک کما ذَکَرَهُ الشیخ الأعظم و نبّه علی هذا الأخیر الفقیه الیزدی(2).

ثم إنّ الشیخ الأعظم تعرض لأربعة من هذه الوجوه لإیضاح حکم الباقی منها و نحن نقتفی أثره:

الوجه الأوّل: المقابلة بین المالین فی الملکیة

بأن یقصد کلّ من المتعاطیین تملیک ماله بمال الآخر فتکون المقابلة بین المالین لا بین التملیکین فحینئذ تَتُمّ المعاملة بإعطاء أحدهما و أخذ الآخر لأنّ الأوّل تملیک و الثانی تملُّک، فإعطاء الثانی لا یکون إنشاء القبول و لا إنشاء التملیک و إنّما هو وفاء بالعقد، و لذا لومات الثانی قبل دفع ماله لم یؤثر فی المعاطاة و تمامیتها.

و بهذا الإطلاق تُستعمل المعاطاة فی الرهن و القرض و الهبة.

ص: 79


1- (1) حاشیة المکاسب 2/73.
2- (2) حاشیته علی المکاسب 1/376.

و مثله - أی مثل صدق المعاطاة بإعطاء واحد و خلافا لظهور باب المفاعلة أو اشتهاره - صدقُ المصالحة و المزارعة و المساقاة و المضاربة و المؤاجرة کما عن الشیخ الأعظم(1).

و اعترض علیه المحقّق النائینی بأنّ لو تمّ هذا الکلام الأخیر من الشیخ الأعظم قدس سره فی المعاطاة بأنّها بالإعطاء و القبض الأوّلیین تمت و حصلت، فهو یتنافی مع ما ذکره فی الأمر [التنبیه] الثانی من أنّ المتیقن من مورد المعاطاة هو حصول التعاطی(2) و الوجه فی ذلک أنّ العطاء الثانی لا أثر له و لا یتحقّق به إلاّ عنوان الوفاء بالمعاطاة(3).

ولکن یمکن أن یجاب بأنَّ الأیجاب و القبول یحصلان بالإعطاء و القبض أوّلاً و إنّ دفع العین ثانیا خارج عن حقیقة المعاطاة و هو وفاء بالعقد الفعلی ولکن مع ذلک أنّ المتیقن من المعاطاة فی قبال العقد اللفظی هو ما تعقبه الإعطاء من الطرف الثانی أیضا فلاتنا فی بین الأمرین کما عن السیّد المحقّق الخوئی(4).

و بعبارة اُخری: انّ المعاطاة تمت بالإعطاء و القبض الأوّلیین و إعطاء الثانی و کذا قبضه خارج عن حقیقة المعاطاة و هو وفاء بالعقد کما مرّ ولکن المراد من المتیقن من المعاطاة هو تیقنه من معنی باب المفاعلة لأنّ المتیقن من موارد استعمالها هو اشتراک المبدأ بین الطرفین، فهذا الوزن ینادی باعتبار إنشاء المعاملة بالعطاء من الطرفین کما عن المحقّق المروج(5) رحمه الله .

ص: 80


1- (1) المکاسب 3/81.
2- (2) المکاسب 3/74.
3- (3) منیة الطالب 1/169.
4- (4) مصباح الفقاهة 2/176.
5- (5) هدی الطالب 2/80.

و قد مرّ منّا فی أوّل بحث المعاطاة بأنّها تُسْتَعْمَلُ فی طرف واحد أیضا و لا تختص باشتراک الاثنین بالمبدأ. نعم: یمکن أن یقال بأنّ الاشتراک قدر مُتَیَقَّنٌ کما عن الشیخ الأعظم قدس سره .

و کما یمکن أن یکون إنشاء القبول بدفع العوض، بأن یکون أخذ المعوَّض من باب الاستیفاء لا بعنوان القبول کما کان هو الغالب وقوعا فلا وجه لإهماله.

لا یقال: إذا أعطاه البائع بعنوان التملیک فلا یمکن أخذه إلاّ بعنوان القبول فیکون دفع العین الاُخری من باب الوفاء لا محالة.

لأنّا نقول: کما یمکن أن یکون أخذه بعنوان القبول کذا یمکن أن یکون الأخذ بعنوان تتمیم الإیجاب و الاستیفاء للمبیع و دفع العین الاُخری یصیر إنشاء للقبول کما قاله الفقیه الیزدی(1) رحمه الله .

و بعبارة اُخری: کما یتصور کون القبول فی هذا الوجه أن یکون بأخذ المعوّض، فکذلک یتصور کونه بإعطاء العوض فحینئذ لا یترتب علیه الثمرة المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم رحمه الله من أنّه لو مات الثانی قبل إعطاء العوض مات بعد العقد کما عن المؤسّس الحائری(2) قدس سره .

الوجه الثانی: المقابلة بین التملیکین

هذا الوجه أیضا یمکن أن یقرّر علی الوجهین:

الأوّل: ما ذکره الشیخ الأعظم(3) بأن یقصد کلّ منهما تملیک ماله للآخر بإزاء تملیک الآخر ماله إیّاه فیکون تملیکا بإزاء تملیک فالمقابلة یصیر بین التملیکین لا الملکین و متقوّمة

ص: 81


1- (1) حاشیته علی المکاسب 1/378.
2- (2) کتاب البیع 1/106 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی رحمه الله .
3- (3) المکاسب 3/81.

بالإعطاء من الطرفین فحینئذ فلومات الثانی قبل الدفع لم یتحقّق المعاطاة کما لو مات أحدهما بین الإیجاب و القبول.

و بعبارة اُخری: قَصَدَ کُلّ من المتعاطیین التملیک بأن یکون تملیک الأوّل مشروطا بتملیک الثانی، بحیث لو لم یُملِّک الثانی لم یتم تملیک الأوّل.

قال الشیخ الأعظم: «و هذا بعید عن معنی البیع»(1) لأنهم اعتبروا فی تعریف البیع أن یکون المبیع من الأعیان فحینئذ یخرج التملیک لأنّه من الأفعال لا الأعیان.

و فیه: قد مرّ فی التنبیه الأوّل فی بدایة الکتاب عدم اعتبار کون المبیع أن یکون من الأعیان فلا وجه لبعد هذا القسم من تعریف البیع و یصح أن یکون بیعا.

ثمّ حیث أنّ الشیخ الأعظم بعّده عن البیع قرّبه بثلاثة وجوه اُخر:

أ: الهبة المعوّضة: و قد قرّبها من وجه و هی: «لکون کلٍّ من المالین خالیّا عن العوض»(2). أیّ المقابلة وقعت بین التملیکین و هما فعلان، لا بین الملکین و هما مالان فتکون کالهبة المعوّضة.

و قد بعّدها من وجه و هی: أنّ حقیقة الهبة هی الإعطاء بلا بدل فقوامها تکون بالمجانیة، و اعتبار العوض فی المعوّضة منها یمکن أن یکون علی نحو الداعویة أو الاشتراط، لا علی نحو المعاوضة أو المقابلة، و من المعلوم فی هذا القسم أنَّهُ قابل التملیک بإزاء التملیک و هو یکون غیر الهبة التی حقیقتها المجانیة و حیث ذکر قدس سره وجه بعده عن الهبة المعوّضة ذکر وجهین اخَرَیْنِ و هما:

ب: مصالحة و تسالم علی أمر معیّن: بأنّ یکون المقام من قبیل الصلح المعاطاتی.

ص: 82


1- (1) المکاسب 3/81.
2- (2) المکاسب 3/81.

أقول: و یمکن أن یناقش فی هذین الاحتمالین الأخیرین بأنّهما لا یتحققان إلاّ مع قصدهما و خلو قصدهما عند المعاطیین معلوم.

ج: معاوضة مستقلة: تشملها إطلاقات «تجارة عن تراض» و نحوها.

هذا ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره فی المقام بتوضیح منّا.

و یمکن أن یناقش فی هذا الوجه الأخیر بأنّ بعد صحة بیعیة هذه المعاطاة لا نحتاج إلی جعلها معاوضة مستقلة.

الثانی: تقریر آخر لهذا الوجه: و هو کما یُمْکِنُ أن یکون القبول فی هذا القسم بالإعطاء من الطرف الآخر فکذلک یمکن أن یکون القبول بالأخذ من الطرف الآخر و یکون التملیک واجبا علیه من باب الوفاء فلا یترتب ما ذکره الشیخ الأعظم من الثمرة من عدم تحقّق المعاطاة لو مات الثانی قبل الدفع، بل لو أخذ و مات تمت المعاطاة و علی ورثته الإعطاء. فحینئذ یکون کالإجارة فکما فی الإجارة یحصل تملک الاُجرة و العمل علی العهدة و وجب الاْءتْیانُ به وفاءً بالعقد قبل حصوله فکذلک فی المعاطاة هنا یحصل تملّک المال و التملیک علی العهدة قبل حصوله و وجب الاْءتْیانُ به وفاءً بالمعاملة و قال الفقیه الیزدی رحمه الله : «و یمکن أن یقال إنّ هذا [التقریر] هو المتعین»(1).

الوجه الثالث: المقابلة بین الإباحة و التملیک

بأن یقصد الباذل أوّلاً إباحة ماله للآخذ بإزاء أن یملک الآخذ ماله إیّاه أو بالعکس کأنّ یقول: أبحتُ لک التصرف فی داری هذِهِ فی مقابل کَذا مقدار من المال، بحیث یکون المال ملکا لی. أو یقول: ملّکتک هذا المقدار من المال فی مقابل إباحتک تصرُّفی بِدارِکَ.

و فی هذا القسم یقابل الإباحة مع المال أو التملیک له و قبول الثانی یکون بالأخذ و

ص: 83


1- (1) حاشیته علی المکاسب 1/379.

التصرف فی الدار مثلاً أو فی المال فحینئذ یکون أداء المال أو الدار وفاءً بالمعاملة فلا تکون هذه المعاملة مقوّمة بالإعطاء من الطرفین.

و قد عمّمنا الوجه عمّا ذکره الشیخ الأعظم(1) تبعا للفقیه الیزدی(2).

و قد استشکل علیه الشیخ الأعظم بِإشْکالَیْنِ یَرِدانِ علی هذا الوجه، و حیث یرد أحد الإشکالین علی الوجه الرابع أیضا، لذا نذکرهما بعد الوجه الرابع.

الوجه الرابع: المقابلة بین الإباحتین

بأن یقصد کلّ منهما إباحة ماله للآخر بإزاء إباحة الآخر ماله إیّاه فیکون الإباحة فی مقابل الإباحة أو الإباحة بداعی الإباحة لأنّها یمکن أن تصور علی نحو الداعی.

و کما قد تکون المقابلة بین الإباحتین اللَّتَیْنِ هما من الأفعال، کذلک یمکن أن تکون المقابلة بین المالین علی وجه الإباحة کما ذکره الفقیه الیزدی(3).

و قد استشکل علیه الشیخ الأعظم بإشکال یشترک وروده علی الْوَجْهَیْنِ الثالث و الرابع.

أمّا الإشکال المشترک علی الوجهین الأخیرین

و هو أنّ الإباحة من حیث هی إباحة لا تسوغ جمیع التصرفات، حتّی المتوقفة علی الملک إلاّ علی نحو التشریع.

بتقریب: للمالک أن یبیح التصرف فی ماله للغیر ولکن لیس له إلاّ الإباحة فی التصرفات المشروعة و إلاّ تکون الإباحة مشرِّعا حتّی تقدر علی التصرفات الغیر المشروعة. و من جملة التصرفات الغیر المشروعة للمجاز هی التصرفات الموقوفة علی

ص: 84


1- (1) المکاسب 3/82.
2- (2) حاشیته علی المکاسب 1/380.
3- (3) حاشیته علی المکاسب 1/380.

الملک نحو: البیع و الوقف و العتق و الوطی و نحوها.

ثمّ قد تصحح التصرفات التی تختص بالمالک للمباح له بوجوه:

1- منها: قصد المبیح من إباحة ماله للمباح له هو إنشاء التوکیل فی بیع ماله للمباح له ثمّ نقل الثمن إلی نفسه بالهبة من طرف المبیح.

أو قصد المبیح تملیک ماله بصیغة الإباحة، فیکون إنشاء الإباحة إنشاءً لتملیک المال للمباح له، فحینئذ لوباع المباح له المال، یکون بیعه بمنزلة قبوله، فیصیر نحو قول الرجل لمالک العبد: «إعتق عبدک عنّی بکذا»، فهذا القول استدعاءٌ لتملیکه، و إعتاق المولی عنه جواب لذلک الإستدعاء فیُعد هذا القول بیعا ضمنیّا لا یحتاج إلی شروط البیع کما قال العلاّمة: «إنّمایفتقر إلی الإیجاب و القبول فیما لیس بضمنیٌّ من البیوع أمّا الضمنی ک-«إعتق عبدک عنّی بکذا» فیکفی فیه الإلتماس و الجواب و لا تعتبر الصیغ المتقدمة إجماعا»(1).

و فیه: ظهور کلمة الإباحة لم یدخل فیه التوکیل أو التملیک، فهما غیر مَقْصُوْدَیْنِ، و لو أراد المبیح إرادتهما کانَ علیه التصریح بهما، مضافا إلی أنّ استیفاء الأموال و الأعمال بالاستدعاء المعاملی یَقْتَضِی وقوع ما استدعاه فی ملک المستدعی و هذا المعنی مفقود فی الإباحة لأنّ مجردها لا توجب الملکیّة کما نبّه علی هذا الأخیر المحقّق النائینی(2).

2- منها: دلالة دلیل شرعی علی حصول الملک للمباح له بعد إنشاء الإباحة توسط المبیح ولو آنا ما قبل بیعه فحینئذ یَقَعُ البیع فی ملکه، نظیر دخول العمودین فی الملک آنا ما بحیث لا یقبل غیر العتق. و هذه الدلالة موجودة و هی إمّا «دلالة الاقتضاء»(3) أو عموم

ص: 85


1- (1) تذکرة الفقهاء 10/10.
2- (2) راجع منیة الطالب 1/173 و 174.
3- (3) و المراد بها ما یتوقف صحة الکلام علیه عقلاً نحو قوله تعالی «و اسئل القریة» أو شرعا نحو قول الآمر «اعتق عبدک عنّی».

«الناس مسلطون علی أموالهم»(1).

و فیه: دلالة الاقتضاء تامة حیث ما وجدت نحو قول الآمر: «اعتق عبدک عنّی»، و وجهها هُوَ أنّ استیفاء المال أو العمل المحترمَیْن مع عدم قصد التبرع من المالک أو العامل یقتضی ضمان المستوفی و مقتضی ضمانه انتقال ما إستوفاه إلی ملکه، لأنّ ضمانه یکون من باب المعاملة لا الغرامة، و نظیرها قول الآمر: «أدِّ دینی» أو «أحلق رأسی».

ولکن هذه الدلالة مفقودة هنا لأنّ إعتاق عبد الغیر أو بیع ماله للمباح له مشروط بالإباحة المطلقة بحیث تشمل التصرفات التی لا تصح إلاّ من المالک، و إذا أنت ترید تصحیح هذه الإباحة المطلقة بالتمسک بصحة هذا الإعتاق أو البیع یکون دورا واضحا فدلالة الاقتضاء لا تجری فی مثل «إعتق عبدی عنک» و «إشتر لنفسک من مالی دارا» کما نبّه علیه المحقّق النائینی(2).

و أمّا عموم حدیث «الناس مسلطون علی أموالهم» فَإنّما یدل علی تسلّط الناس علی أموالهم لا علی أحکامهم، فمقتضاه إمضاء الشارع لإباحة المالک کلّ تصرف جائز شرعا فالإباحة و إن کانت مطلقة إلاّ أنه لا یباح بها إلاّ ما هو جائز بذاته فی الشریعة. فحینئذ دلیل عدم جواز بیع ملک الغیر أو عتق عبد الغیر لنفسه حاکم علی عموم الحدیث. نظیر حکومة دلیل عدم جواز عتق عبد الغیر علی عمومات وجوب الوفاء بالنذر و العهد، إذا نذر عتق غیره له أو لنفسه فلا یتوهم الجمع بینهما بالملک القهری - و لو آنا ما - للناذر کما عن الشیخ الأعظم(3) و قال: «و لأجل ما ذکرنا صرّح المشهور، بل قیل(4): لم یوجد خلاف فی أنّه لو

ص: 86


1- (1) عوالی اللآلی 1/222، ح99.
2- (2) منیة الطالب 1/175 و 174.
3- (3) المکاسب 3/87.
4- (4) القائل هو صاحب الجواهر فی کتابه 23/174 قال فیه: «بلاخلاف أجده فیه».

دفع إلی غیره مالاً و قال: إشتر به لنفسک طعاما... لم یصح»(1).

أقول: کما ذهب إلیه الشیخ فی المبسوط(2) و المحقّق فی الشرائع(3) و العلاّمة فی القواعد(4) و اقتصر فی التذکرة(5) و التحریر(6) علی نقل کلام الشیخ فی المبسوط و الشهید فی الدروس(7) و الشیخ مفلح الصیمری البحرانی فی غایة المرام(8) و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(9) و الشهید الثانی فی المسالک(10).

ولکن استقرب العلاّمة الجواز فی المختلف(11) و تؤیده بل تعیّنه صحیحة یعقوب بن شعیب(12) و لذا بها تُحْمَلُ صحیحه الحلبی(13) و صحیحة عبدالرحمن بن أبی عبداللّه البصری(14) علی خوف التهمة کما فی مفتاح الکرامة(15)، و حُکم بالصحة لو دفع إلیه مالاً و أمره بالشراء له، و اللّه العالم.

ص: 87


1- (1) المکاسب 3/85.
2- (2) المبسوط 2/121.
3- (3) الشرائع 2/26.
4- (4) قواعد الأحکام 2/87.
5- (5) تذکرة الفقهاء 10/106.
6- (6) تحریر الأحکام الشرعیّة 2/338.
7- (7) الدروس الشرعیة 3/211.
8- (8) غایة المرام 2/58.
9- (9) جامع المقاصد 4/400.
10- (10) المسالک 3/252.
11- (11) مختلف الشیعة 5/287.
12- (12) التهذیب 7/42، ح 68، الفقیه 3/259 ذیل ح 3935.
13- (13) الکافی 5/185 ح5، الفقیه 3/285 ح3934، التهذیب، 7/29 ح13.
14- (14) الکافی 5/186 ح9، التهذیب 7/30 ح14.
15- (15) مفتاح الکرامة 14/678.

و تبعهما صاحب الجواهر فی الجملة و قال: «إلاّ أنّ الإنصاف عدم خلو ذلک عن البحث اّن لم یکن إجماعا، و لو علم بقرینة إرادة قرض الدراهم من ذلک، أو القضاء لما علیه من الطعام بجنس الدراهم أو الاستیفاء بعد الشراء و القبض له، و یکون التعبیر المزبور باعتبار ما یئول إلیه، أو لأنّه السبب فی هذا الشراء، خرج عن موضوع البحث، و اللّه أعلم»(1)

3- و منها: ما نحن فیه یکون من قبیل بیع الواهب عبده الموهوب أو عتقه، لأنّ البیع و العتق فی الفرض یکشفان عن رجوع الواهب فی هبته قبلهما بآنٍ و نحو ذلک بیع ذی الخیار بحیث یسقط به خیاره.

و فیه: الإباحة لم تثبت الملکیة هنا بحیث یکشف البیع أو العتق فیها، و إذا لم تثبت الملکیة فالبیع و العتق یقعان فی غیر الملک و یحکم ببطلانهما.

قد وجّهوا إشکال الشیخ الأعظم بأنّ الإباحة لا تسوّغ التصرفات الموقفة علی الملک بأمرین:

أ: حقیقة البیع هو تبدیل أحد طرفی الإضافة بالنسبة إلی العین و الثمن و مقتضی ذلک انتقال العین من مالکه إلی المشتری و انتقال الثمن من المشتری إلی مالک العین، فإذا قال المالک لأحدٍ: «اشتر لنفسک من مالی دارا» أو «خُذ هذه الفلوس و اشتر لنفسک طعاما أو ثوبا» فحینئذ تصیر إضافة الثمن و المثمن لشخص واحد فلا یتحقق تبادل الإضافتین التی هی ماهیة البیع و حقیقته أو خروج أحد العوضین علی ملک شخص و دخول العوض الآخر فی ملک شخص آخر یعنی خروج الثمن من ملک مالکه ولکن دخول الدار أو الطعام أو الثوب فی المثال للمباح له. فإذا لم تَتَحَقَّقْ ماهیة البیع لا یوجد. إلاّ علی نحو التقاریب

ص: 88


1- (1) الجواهر 23/174.

الثَّلاثَةِ الَّتِیْ ذکرها الشیخ و استشکل علیه - و هذا هو المانع العقلی - .

ب: المانع الشرعی: لابدّ أنْ یکون المبیع ملکا للبائع حتّی یصح بیعه لما ورد من قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «لابیع إلاّ فیما تملک»(1) و عنه صلی الله علیه و آله : «لا طلاق إلاّ فیما تملکه و لا بیع إلاّ فیما تملکه»(2) و قوله علیه السلام : «لا یجوز بیع ما لیس یملک و قد وجب الشراء من البائع علی ما یملک»(3). و قوله علیه السلام : «ما اُحبُّ أن یبیع ما لیس له»(4) و قوله علیه السلام : «لا تشترها [الأرض] إلاّ برضا أهلها»(5) و قوله علیه السلام : «الضیعة لا یجوز ابتیاعها إلاّ من مالکها أو بأمره أو رضا منه»(6).

و فی المثال حیث باع المباح له مال المبیع فیکون بیعه باطلاً لأنّه باع مال غیره و یخرج العین من مال المبیح و یدخل الثمن فی مال المباح له.

ولکن هذا الإشکال و إن قبله جمع کثیر من الأصحاب قدس سرهم ولکنّه غیر تام عندنا لما مرّ من أن البیع و حقیقته و ماهیته مَعْلُوْمَةٌ عند العرف و هو من المفاهیم الواضحة عندهم و لا یحتاج إلی تعریف حتّی یقال فی ماهیته بتبدیل الإضافتین، فهذه الماهیة من رأسها لا تَتُمُّ للزوم استقلال الإضافة و صیرورتها بلامضاف و لا مضاف إلیه و لو آنا ما و هو محال حتّی فی الاُمور الإعتباریة عند العقل و العقلاء و العرف و یظهر هذا صریحا فی الإعراض عن الملکیة، و یمکن أن ینقض علیها: من بیع الوقف العام فی صورة جوازه، و بیع الوقف و

ص: 89


1- (1) عوالی اللآلی 2/247، ح16 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 13/230، ح3.
2- (2) عوالی اللآلی 3/205، ح38 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 13/230، ح4.
3- (3) الفقیه 3/242، ح3886.
4- (4) وسائل الشیعة 17/335، ح5. معتبرة اسحاق بن عمّار.
5- (5) وسائل الشیعة 17/334، ح3. صحیحة محمّد بن مسلم.
6- (6) وسائل الشیعة 17/337، ح8. توقیع الحمیری.

اشتراء شیء آخر بدله بثمن وقف آخر بحیث یصیر وقفا فی صورة جواز هذا البیع و الشراء إذا طَرَأَ أحد مجوّزات بیع الوقف، و شراء عین زکویّة بنقد زکویٍّ و أمثال هذه المعاملات تکون بیعا عند العرف و الشرع و العقلاء ولکن لیس فیها تبادل الإضافتین فیظهر عدم تمامیة هذه الماهیة. هذا کلّه بالنبسة إلی المانع العقلی.

و أمّا المانع الشرعی: فَإنَّ ما ورد فی هذه الروایات و إن تَلَقّاها المسلمون بالقبول ولکن المراد منها عدم جواز بیع مال الغیر إلاّ بإذنه أو عدم جواز بیع مالا یقبل التملک کالخمر و لیس المراد منها دخول الثمن فی مال مَنْ یخرج العین المثمن من ماله و دخول العین المثمن فی مال مَنْ یخرج الثمن من ماله، فإذا قال المبیحُ للمباحِ له: «خُذ هذه الأموال و اشتر لنفسک دارا»، هذا القول بنفسه إذنٌ فی جواز بیع ماله و شراء دارٍ للمباح له، و هذا المقدار من الإذن یکفی فی صحة البیع و یخرجه من الفضولی أیضا.

و الشاهد لما ذکرنا وقوع هذه البیوع و المعاملات و المبادلات و المباحات فی الخارج و عند العرف کثیرا و حیث ینظر العرف إلیها بعنوان البیع فتشملها إطلاقات «أحل اللّه البیع» و «تجارة عن تراض» و «اوفوا بالعقود» و «الناس مسلطون علی أموالهم» و لا نحتاج إلی تصحیها بما ذکره الشیخ الأعظم بالوجوه الثلاثة الماضیة.

و ما تَوَصَّلْنا الیه من نتیجة الاسْتِدلال هُوَ الْمُوافِقُ لرأی الفقیه الیزدی(1) و المحقّق الإیروانی(2) و علی کیفیته و طریقه و نتیجته المحقّق الخمینی(3) قدس سرهم .

أمّا الإشکال المختص بالوجه الثالث

فَإنَّ الإباحة بعوض التملیک لا تَنْدَرِجُ فی المعاوضات المالیة لأنّ کلاًّ من العوضین یدخلان فی

ص: 90


1- (1) حاشیة المکاسب 1/381.
2- (2) حاشیته علی المکاسب 2/74.
3- (3) کتاب البیع 1/173 و 172.

ملک المبیح، أمّا ما أباحه معلوم و أمّا ما عوضه فالمفروض أنّه عوض الإباحة فیدخل فی ملک المبیح، فهو قد جمع بنی الملکین و لا دلیل علی مشروعیة هذه المعاملة کأنّه قد جمع بین الثمن و المثمن.

و یمکن الاستدلال علی مشروعیتها و صحتها بأنّها نوع من الصلح لأنّها بمعنی التسالم و الاتفاق علی أمر و لایشترط فیها لفظ (صالحت) أو (تسالمت) بل یکفی کلّ لفظ أو فعل یدلّ علیه و لو بالالتزام کما ورد فی صحیحة محمّد بن مسلم «لک ما عندک و لی ما عندی»(1) و ما ورد فی مصالحة الزوجین نحو صحیحة الحلبی(2) و غیرها(3) من الروایات الواردة فی تفسیر قوله تعالی: «و إن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح علیهما أن یصلحا بینهما صلحا و الصلح خیر»(4).

و یمکن أن یناقش فیه: بعدم وجود دلالة لفظیة أو فعلیة علی إنشاء الصلح و لا یدلّ حتّی السیاق علی أنّها صلح و لم یقصده الْمُتَعاطِیانِ و مجرد انطباق مفهوم التسالم علیها لا یجعلها من مصادیق المصالحة و إلاّ لزم إرجاع جمیع العقود حتّی النکاح إلی الصلح. کما عن المحقّقیْن النائینی(5) و الخوئی(6).

و کذا الاستدلال علی صحتها بقوله صلی الله علیه و آله : «المؤمنون عند شروطهم» المذکور فی موثقة منصور بن یونس (بزرج)(7) لا یتم لعدم دخول الشروط الإبتدائیة فی الروایة، و علی

ص: 91


1- (1) وسائل الشیعة 18/445، ح1، الباب 5 من أبواب الصلح.
2- (2) وسائل الشیعة 21/349، ح1، الباب 11 من أبواب القسم و النشوز و الشقاق.
3- (3) راجع جمیع روایات الباب المذکور فی المصدر السابق.
4- (4) سورة النساء /128.
5- (5) منیة الطالب 1/185.
6- (6) مصباح الفقاهة 2/190.
7- (7) وسائل الشیعة 21/276، ح4، الباب 20 من أبواب المهور.

فرض دخولها فَالْمُرادُ بها التزام المؤمن بشروطه تکلیفا أیّ یجب علی کلّ مؤمن الوفاء بشرطه لأنّه من علائم إیمانه لا وضعا کما عن المحقّق السیّد الخوئی(1).

نعم، یمکن القول بأنّها معاوضة أو معاملة مستقلة یشملها قوله تعالی: «أَوْفُوْا بالعقود»(2) و قوله تعالی «تجارة عن تراض»(3) بل یمکن القول بأنّها بیع فیشملها قوله تعالی: «أحل اللّه البیع»(4) و لا سیما بعد تصحیح التصرفات التی تختص بالمالک فی الإباحة کما مرّ آنفا.

و کذا قوله صلی الله علیه و آله : «الناس مسلطون علی أموالهم»(5).

و قد عدّ المحقّق الإیروانی(6) من الإباحة بالعوض بعض المعاملات الشائِعَة من عصر الشارع إلی زماننا هذا نحو الدخول فی الحمامات مع إعطاء العوض و کذلک الدخول فی المطاعم و أشباه ذلک.

و حیث صححنا هذه المعاملة و جرت الآیات الثلاث فی شأنها فهل القول بلزومها یکون تماما أم لا؟

ثم استدل الشیخ الأعظم(7) لجوازها بحدیث السَّلْطَنَةِ و أصالتها - بعد القول بأنّ الأقوی لزومها - ، و یردّه الفقیه الیزدی(8) بأنّ متقضی السلطنة علی المال لزوم الإباحة

ص: 92


1- (1) مصباح الفقاهة 2/190.
2- (2) سورة المائدة /1.
3- (3) سورة النساء /29.
4- (4) سورة البقرة /275.
5- (5) عوالی اللآلی 1/222، ح99.
6- (6) حاشیته علی المکاسب 2/76.
7- (7) المکاسب 3/90.
8- (8) حاشیته علی المکاسب 1/391.

المفروضة لا جوازها لأنّه إذا کان مسلَّطا علی ماله و قد أباحه بعوض فیلزم أن تکون نافذة لازمة.

ولکن الظاهر أنّ القول بالجواز إذا کان أحد طرفی المعاملة أو کلاهما الإباحة یکون متعیّنا بقاعدة السلطنة حیث للمبیح أن یرجع عن إباحته لتلک القاعدة أو بحدیث «لا یحل مال امْرَئٍ مسلم إلاّ بطیب نفسه» فإذا رجع المبیح عن اباحته فلا یحلّ للمباح له التصرف فی المال، و للمباح له الرجوع فی ملکه أیضا لإنّه ملّکه للمبیح فی قبال إباحته فإذا رجع هو عنه فیجوز له الرجوع فی ماله. فهذه المعاملة جائزة وضعا و تکلیفا، و العجب من المحقّق الإیروانی(1) حیث قالَ بالجوازِ الْوَضْعِیّ و هو الموافِقُ لما قَرَّرْناهُ ولکن ذهب إلی اللزوم التکلیفی بِالاْءطْلاقاتِ الْوارِدَةِ فی تصحیح هذه المعاملة و أنت تعلم بأجنبیتها عن اللزوم التکلیفی بعد ثبوت الجواز الوضعی و اللّه العالم.

الخامس: جریان المعاطاة فی جمیع العقود و بعض الإیقاعات
اشارة

صرح الشیخ بأنّ إعطاء الهدیة من دون الصیغة یفید الإباحة دون الملک و قال: «إذا وصلت الهدیة إلی المُهْدی إلیه لم یملکها بالوصل و لم تلزم و یکون ذلک إباحة من المهدی حتّی أنّه لو أهدی إلیه جاریة لم یجز أن یستمتع بها لأنّ الإباحة لا تدخل فی الاستمتاع...»(2).

و ظاهر الشیخ الاکتفاء بغیر اللفظ فی باب وقف المساجد و قال: «إذا بنی مسجدا خارج داره فی ملکه فإن نوی به أن یکون مسجدا یصلّی فیه کلّ من أراده زال ملکه عنه، و إن لم ینو ذلک فملکه باقی علیه سواء صلی فیه أو لم یصل...»(3).

ص: 93


1- (1) حاشیة المکاسب 2/81.
2- (2) المبسوط 3/315.
3- (3) المبسوط 1/162.

و تبعه ابن ادریس الحِلّی فی الهدیّة و قال: «إذا أهدی لرجلٍ شیئا علی ید رسوله فإنّه علی ملکه بعد، و إن مات المهدی إلیه کان له استرجاعه، و إن مات المهدی کان لوارثه الخیار، و إذا وصلت الهدیّة إلی المهدی إلیه، لم یملکها بالوصول و لم تلزم و یکون ذلک إباحة من المهدی»(1).

و کذا العلاّمة الحِلّی قال فی الهبة من القواعد: «و لا تکفی المعاطاة و الأفعال الدالة علی الإیجاب، نعم یباح التصرف. و الهدیّة کالهبة فی الإیجاب و القبول و القبض»(2).

و قال فی بحث الرهن من التذکرة: «و الخلاف فیه بالمعاطاة و الاستیجاب و الإیجاب علیه المذکورة فی البیع بجملته آتٍ هاهنا»(3).

و یلوح من عبارته فی هبة التذکرة کفایة المعاطاة فی الهدیة حیث نقله عن بعض العامة و لم یناقش فیه قال: «الهبة عقد یفتقر إلی الإیجاب و القبول باللفظ کالبیع و سائر التملیکات، و أمّا الهدیّة فذهب قوم من العامة إلی أنّه لا حاجة فیها إلی الإیجاب و القبول اللفظیین، بل البعث من جهة المُهدی کالإیجاب و القبض من جهة المُهدی إلیه کالقبول، لأنّ الهدایا کانت تحمل إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله من کسری و قیصر و سائر الملوک فیقبلها، و لا لفظ هناک، و استمرّ الحالُ من عهده إلی هذا الوقت فی سائر الأصقاع، و لهذا کانوا یبعثون علی أیدی الصبیان الذین لا یُعتدّ بعبارتهم، و منهم من اعتبرهما کما فی الهبة و الوصیة. و اعتذروا عمّا تقدّم بأنّ ذلک کان إباحة لا تملیکا. و اُجیب بأنّه لو کان کذلک لما تصرّف الملاّک، و معلوم أنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یتصرّف فیه و یُملِّکه غیرَه. و الصدقة کالهدیة فی ذلک بلا فصل. و یمکن الإکتفاء فی هدایا الأطعمة بالإرسال و الأخذ من غیر لفظ الإیجاب و القبول

ص: 94


1- (1) السرائر 3/177.
2- (2) قواعد الأحکام، 2/405.
3- (3) تذکرة الفقهاء 13/91.

جریا علی المعتاد بین الناس. و التحقیق مساواة غیر الأطعمة لها، فإنّ الهدیّة قد یکون غیر طعام، فإنّه قد اشتهر هدایا الثیاب و الدواب من الملوک إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فإنّ ماریة القبطیة اُمّ ولده کانت من الهدایا. و قال بعض الحنابلة: لا یفتقر الهبة إلی عقد بل المعاطاة و الأفعال الدالة علی الإیجاب و القبول کافیة، و لا یحتاج إلی لفظٍ، لأنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یهدی و یُهدی إلیه، و یُفرِّق الصدقة و یَأمُرُ بتفرقتها، و لم ینقل فی ذلک لفظ إیجاب و لا قبول، و لو کان شرطا لأمر به...»(1).

و تبع الشهیدُ الشیخَ فی الاکتفاء بغیر اللفظ فی وقف المساجد و قال بعد نقل کلام الشیخ: «فظاهره الاکتفاء بالنیّة، و اُولی منه إذا صلّی فیه، و لیس فی کلامه دلالة علی التلفظ و لعلّه الأقرب»(2).

و قال فی بیع الدروس: «... و شبهها (أی شبه المعاطاة) اقتضاء المدین العوض عن النقد أو عن عرض آخر، فإن ساعره فذاک، و إلاّ فله سعر یوم القبض، و لا یحتاج إلی عقد و لیس لهما الرجوع بعد التراضی»(3).

و قال فی رهنها فی اشتراط الصیغة المخصوصة: «و لو قال: خذه علی مالِکَ أو بمالِکَ فهورهنٌ. و لو قال: إمسکه حتّی أعطیک مالَکَ و أراد الرهن، و لو أراد الودیعة أو اشتبه فلیس برهن، تنزیلاً للفظ علی أقل محتملاته...»(4).

و قال المحقّق الثانی فی بیع کتابه: «و أعلم أن فی کلام بعضهم ما یقتضی اعتبار المعاطاة فی الإجارة و کذا فی الهبة، و ذلک لأنّه إذا أمره بعمل علی عوض معیّن، عمله و

ص: 95


1- (1) تذکرة الفقهاء 2/415 من طبع الحجری.
2- (2) ذکری الشیعة 3/133.
3- (3) الدروس الشرعیة 3/192.
4- (4) الدروس الشرعیة 3/383.

استحق الأجر و لو کان هذا إجارة فاسدة لم یجز له العمل، و لایستحق اُجرة مع علمه بالفساد، و ظاهرهم الجواز بذلک، و کذا إذا وهب بغیر عقدٍ، فإنّ ظاهرهم جواز الإتلاف و لو کانت هبة فاسدة لم یجز، و منع من مطلق التصرف. و هو ملخص وجیه»(1).

و استشکل علی قول العلاّمة فی القواعد: «و لابدّ فیه (أی فی القرض) من إیجاب صادر عن أهله: کقوله: أقرضتک أو تصرَّفْ فیه أو انتفع به أو ملّکتک و علیک ردّ عوضه و شبهه، و قبول، و هو: ما یدلّ علی الرضی قولاً أو فعلاً»(2). بقوله: «ظاهر عباراتهم: أنّه لابدّ من الإیجاب القولیء، و عبارة التذکرة(3) أدّل علی ذلک. و یرد علیه: أنّه قد سبق فی البیع الاکتفاء بالمعاطاة التی هی عبارة عن الأخذ و الإعطاء فإن اکتفی فی العقد اللازم بالایجاب و القبول الفعلیین فحقّه أن یکتفی بهما هنا بطریق اُولی. و لیس ببعید أن یقال: إنّ انتقال الملک إلی المقترض بمجرد القبض موقوف علی هذا، لا إباحة التصرف إذا دلّت القرائن علی إرادتها»(4).

و نحوها فی حاشیته علی إرشاد الأذهان(5).

و قال فی تعلیقه علی الإرشاد: «إنّ من المعاطاة الإجارة و نحوها بخلاف النکاح و الطلاق و نحوهما فلا تقع أصلاً»(6).

ولکن استشکل علی کلام العلاّمة فی رهن التذکرة الذی مرّ منّا آنفا بقوله: «... و

ص: 96


1- (1) جامع المقاصد 4/59.
2- (2) قواعد الأحکام 2/103.
3- (3) راجع تذکرة الفقهاء 13/32.
4- (4) جامع المقاصد 5/20.
5- (5) حاشیة إرشاد الأذهان /430 المطبوعة ضمن المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی و آثاره.
6- (6) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/509 و لم أجده فی حاشیة إرشاد الأذهان المطبوعة ضمن المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی و آثاره مع کثرة تتبعی لَها.

یشکل بأنّ باب البیع ثبت فیه حکم المعاطاة بالإجماع بخلاف ماهنا، أمّا الاستیجاب و الإیجاب فنعم»(1).

و قال فی قرض صیغ عقوده: «فأمّا الإیجاب: فلابدّ أن یکون بالقول، فلا یکفی الدفع علی وجه القرض من غیر لفظ فی حصول الملک، نعم یکون ذلک فی القرض کالمعاطاة فی البیع فیثمر إباحة التصرف، فإذا تلف العین وجب العوض. و الذی ینساق إلیه النظر أنّ المعاطاة فی البیع تثمر ملکا متزلزلاً و یستقر بذهاب أحد العینین أو بعضها، و مقتضی هذا أنّ النماء الحاصل من المبیع قبل التلف شیء من العین یجب أن یکون للمشتری، بخلاف الدفع للقرض هنا فإنّه لا یثمر إلاّ محض الإذن فی التصرف و إباحة الإتلاف، فیجب أن یکون نماء العین للمقرض، لبقائها علی الملک، إذ لا معاوضة هنا و لا تملیک بخلاف الأوّل»(2).

و قال فی هبة جامع المقاصد بعد نقل محتوی کلام العلاّمة فی هبة التذکرة الذی مرّ آنفا: «و هذا قویٌّ متینٌ، یؤیده أنّ الهدیة مبنیّة علی الحشمة و الإعظام، و ذلک یفوت مع إعتبار الإیجاب و القبول و ینقص موضعها من النفس، و مطالبة المُهدی إلیه بالتملیک و سؤال الرسول هل هو وکیل فیه أم علی تقدیر اعتبار عبارته و نحو ذلک خروج عن مقصودها»(3).

و قبل ثانی الشهید کلام المحقّق الثانی فی بیع جامع المقاصد و قال بعد نقل کلامه: «... و لا بأس به إلاّ أنّ فی مثال الهبة نظرا من حیث أنّ الهبة لا تختص بلفظ، بل کلّ لفظٍ یدل علی التملیک بغیر عوض کافٍ فیها کما ذکروه فی بابه. و جواز التصرف فی المثال المذکور موقوف علی وجود لفظ یدلّ علیها، فیکون کافیّا فی الإیجاب. اللهم إلاّ أن یعتبر القبول القولی مع

ص: 97


1- (1) جامع المقاصد 5/45.
2- (2) صیغ العقود و الایقاعات /187، المطبوع فی ضمن المجلد الأوّل من رسائل المحقّق الکرکی.
3- (3) جامع المقاصد 9/142.

ذلک، و لا یحصل فی المثال فیتجه ما قاله»(1).

و قبل المعاطاة فی الإجارة و قال: «لمّا کان الأمر بالعمل یقتضی استیفاء منفعةٍ مملوکة للمأمور متقوّمةٍ بالمال وجب ثبوت عوضها علی الآمر کالاستیجار معاطاةً»(2).

و قال فی هبة المسالک بعد نقل نص عبارة هبة التذکرة: «و هذا الذی ذکره من التحقیق یشعر بما نقلناه عنه من الاکتفاء بذلک، و هو حسنٌ، و مع ذلک یمکن أن یجعل ذلک کالمعاطاة یفید الملک المتزلزل و یبیح التصرف و الوطی ولکن یجوز الرجوع فیها قبله عملاً بالقواعد المختلفة...»(3).

و تبعه المحقّق الأردبیلی و فی ذیل قول العلاّمة فی الإرشاد: «و لو أمره بعمل له اُجرة بالعادة فعلیه الاُجرة و إلاّ فلا»(4) قال: «هذا الحکم مشهور و یحتمل أن یکون مجمعا علیه و لعلّ سنده اقتضاء العرف فإنّه یقتضی أن یکون مثل هذا العمل بالاُجرة، فالعرف مع الأمر بمنزلة قوله: اعمل هذا و لک علیَّ الاُجرة، فیکون جعالة أو إجارة بطریق المعاطاة مع العلم بالاُجرة، و لو کان من العادة مثل اُجرة الحمّالین، و یبعد کونها إجارة باطلة...»(5).

و ذهب صاحب الحدائق إلی عدم اعتبار الصیغ الخاصة بالنسبة إلی جمیع العقود و قال: «... أنّه لا یعتبر فیها أزید من الألفاظ الدالة علی الرضا بمضمون ذلک العقد کیف کانت، و علی أیّ نحو صدرت، و مع استکمال جمیع ما یشترط فیه، من غیر توقف علی الصیغ الخاصة التی اوجبوها فی کلّ عقد، و أمّا الاشکال فی کون ذلک یسمی معاطاة أم لا؟ ... ما

ص: 98


1- (1) مسالک الأفهام 3/152.
2- (2) مسالک الأفهام 5/229.
3- (3) مسالک الأفهام 6/11.
4- (4) إرشاد الأذهان 1/425.
5- (5) مجمع الفائدة و البرهان 10/83.

أشرنا إلیه آنفا من أن هذه التسمیة إنّما هی اصطلاحیة ذکروها فی باب البیع...»(1).

و قال الفاضل المراغی: «إنّ المعاطاة هل هی ملحقة فی کلّ باب بالعقد الذی هو أصل لها؟ فیکون فی مقام البیع بیعا و فی مقام الإجارة إجارةً و فی مقام الصلح صلحا و فی مقام الهبة هبةً و نحو ذلک أو هی معاملة مستقلة؟ مقتضی حصر الأصحاب أبواب المعاملات فی الاُمور المخصوصة و عدم ذکرهم للمعاطاة عنوانا آخَرَ دخولها فیها، کما أنّ صدق لفظ البیع و الإجارة و نحو ذلک من ألفاظ المعاملات أیضا یقتضی کون المعاطاة داخله فیها... و حیث قلنا باندارجها تحت أسامی العقود، فالظاهر جریان جمیع الأحکام المذکورة فی أبواب العقود من الشرائط فی المتعاقدین أو العوضین و غیر ذلک من أحکام الخیارات و الضمان و الشروط و نحو ذلک من التوابع و غیرها آتیة فی المعاطاة»(2).

و قال الفقیه الیزدی: «إنّ مقتضی ما هو التحقیق من شمول العمومات العامة و الخاصة بکلِّ عنوان للمعاملات الفعلیة کالقولیة و کون المعاطاة علی طبق القاعدة جریانها فی جمیع العقود جائزة کانت أو لازمة إلاّ ما قام الاجماع فیه علی اعتبار الصیغة الخاصة کالنکاح و التحلیل و نحوهما...»(3).

و قال المؤسّس الحائری قدس سره : «لا اشکال فی إمکان المعاطاة فی سائر العقود کما فی البیع و لا فی صدق عناوین تلک العقود علی ما کان منها بالمعاطاة، کما کان باللفظ بلا فرق، و مقتضی ذلک دلالة أدلة صحة تلک العقود - کالإجارة و الهبة و الصلح و نحوها علی صحة المعاطاة فیها، نعم استثنوا من ذلک عقد النکاح، فحکموا بعدم جریان المعاطاة فیه»(4).

ص: 99


1- (1) الحدائق 18/364.
2- (2) العناوین 2/129 و 128.
3- (3) حاشیته علی المکاسب 1/391.
4- (4) کتاب البیع 1/113 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی قدس سره .

قال المحقّق الأصفهانی: «انّ صحة المعاطاة فی البیع إن کانت علی القاعدة و أنّها بیع فیعمّها أدلة البیع، فکذا فی غیره من المعاملات لعدم الفرق فی صدق عناوینها بین البیع و غیره... إذا عرفت ما ذکرنا تعرف أنَّ التمسک بالاطلاق لجریان المعاطاة فی العقود و الایقاعات بمعنی صحتها بالإنشاء الفعلی کالإنشاء القولی بمکان من الإمکان و إن لم یصدق علیه المعاطاة بعنوانها، لما مرّ مرارا أنّ المعاطاة بعنوانها لم ترد فی آیة و لا روایة لیدور الأمر مدارها بعنوانها، نعم بعض العقود و الایقاعات ممّا قام الدلیل علی انحصار سببها فی صیغة خاصة کالطلاق و العتق و شبههما و بعضها ربّما یدعی البرهان علی عدم جریان المعاطاة فیها»(1).

و قال المحقّق السیّد الخمینی: «مقتضی القاعدة جریان المعاطاة فی کلّ عقد أو إیقاع یمکن إنشاؤه بالفعل، فإنّ الفعل کالقول آلة للإیجاد و الإیقاع الإعتباری، و مع الا¨یقاع کذلک یصیر المنشأ مصداقا للعناوین العامة و الخاصة، و دلیل صحتها و لزومها هو الأدلة الخاصة أو العامة، نعم ما لا یمکن إیقاعه بالفعل فهو خارج عن البحث، و لعلّ الوصیة أو بعض أقسامها منه...»(2).

و قال المحقّق السیّد الخوئی: «... فلا بأس بالالتزام بجریان المعاطاة فی جمیعها إلاّ ما خرج بالدلیل، و إذن فیکون ما هو المنشأ بالأفعال من المعاملات مشمولاً للعمومات و الإطلاقات الدالة علی صحة العقود و الإیقاعات و لزومهما»(3).

و قال شیخنا الاُستاذ قدس سره : «الصحیح الالتزام بجریان المعاطاة فی سایر المعاملات عقودا و إیقاعا أخذا بإطلاق صحتها و نفوذها، نعم لا تجری فی عقد أو إیقاع قام الدلیل

ص: 100


1- (1) حاشیة المکاسب 1/183.
2- (2) کتاب البیع 1/180.
3- (3) مصباح الفقاهة 2/192.

علی اعتبار اللفظ فی إنشائه کما فی النکاح و الطلاق حیث أنّ مطلق اللفظ غیر کاف [فی[ إنشائهما فضلاً عن الإنشاء بمجرد الفعل»(1).

أقول: قد عرفت جریان المعاطاة فی الجملة و فی بعض العقود أو الإیقاعات من أساطین الفقه و أعلام الطائفة نحو: الشیخ الطوسی فی الهدیّة و وقف المساجد، و تبعه ابن ادریس فی الهدیة، و کذا العلاّمة فی الهدیّة و الهبة و الرهن، و الشهید فی وقف المساجد و أداء الدین و الوثیقة فیه، و المحقّق الثانی فی الإجارة و الهبة و الهدیّة و القرض، و ثانی الشهیدین فی الإجارة و الهبة و الهدیّة، و الأردبیلی فی الإجارة، و مال إلی جریانها فی جمیع العقود و الإیقاعات صاحب الحدائق و الفاضل المراغی و الفقیه الیزدی و المؤسّس الحائری و المحققون الأصفهانی و الخمینی و الخوئی و شیخنا الإستاذ - قدس اللّه أسرارهم - و یظهر مما سردناه علیک وجه اسْتِغْرابِنا من صاحب الجواهر حیث یقول: «و أغرب من ذلک کلّه دعوی جریان المعاطاة فی مورد جمیع العقود جایزها و لازمها، فیتحقق مسمّاها بها دون عقدها للإطلاق عرفا، و فائدة العقد حینئذ اللزوم فی اللازمة منها و لا فائدة له فی غیره إذ هو کماتری لا ینبغی صدورها ممّن ذاق طعم الفقه»(2). فتأمل.

ما یستثنی من المعاطاة:

ثم القائلون بالتعمیم و جریان المعاطاة فی جمیع العقود و الإیقاعات استثنوا مواردَ.

منها: الوصیة: لأنّها لا تُنْشَأُ إلاّ بالقول و لیس فی موردها فعل یکون مصداقا لها و مثلها جعل القیمومیة و التدبیر. و الإشکال فیها لیس من ناحیة القابل و العقد و الإیقاع، بل الاشکال من ناحیة الفاعل بحیث لا یوجد هناک فعل یدل علی هذه الاُمور، و لو وجد

ص:101


1- (1) إرشاد الطالب 2/86.
2- (2) الجواهر 22/244.

فعل یدل علیها تمّت المعاطاة فیه. نحو: أن یسأل أحدٌ عن غیره مَنِ القَیِّمُ بعدک علی اُولادک أو أموالک؟ أو مَنِ الوَصِیُّ فی ما وصیت بِهِ؟ أو أیّما من بیوتک أو أراضیک جعلتَها للمسجد أو المدرسة؟ أو أیّ من عبیدک أو إمائک یَکون بعدک حرا أو حرّة؟

و فی جمیع هذه الموارد أشار إلی شخص أو بیت أو أرض، أو عیّنه بفعل دون قول، بلا فرق فی ذلک بین الحیاة المستقرة أو حالة الاحتضار مع شرائطها ینفذ ما أقرّبها أو قرّره أو عیّنه، و لَعَلَّهُ لم ینکر هذا أحدٌ من فقهائنا الکبار، و علی هذا تجری المعاطاة بالنسبة إلی

الوصیة و التدبیر و القیمومیة و نحوها.

و لاِءَنَّهُ لم ینحصر الإنشاء المعاطاتی بالإعطاء و الأخذ الخارجیین حتّی یستشکل بأنّ هذه الاُمور من الاُمور الاستقبالیة فیستحیل إنشاؤها بفعل یتحقق قبل الموت بل المعاطاة هی تبدیل الفعل بدل القول فی المعاملات و علیها تجری المعاطاة فی الوصیة و القیمومیة و التدبیر.

و بما ذکرنا یظهر جریان المعاطاة فی الوقف و کذا فی الرهن لاِءَنّا ذهبنا إلی اللزوم فی المعاطاة لا الجواز فی المعاملات اللازمة، لأنّ الرهن من العقود اللازمة من طرف الراهن و کذا تجری المعاطاة فی القرض.

و قد یستشکل جریان المعاطاة فی الضمان لأنّ انتقال الدین من ذمّةٍ إلی اُخری لا یمکن أن یتحقق بالفعل الخارجی.

و یرد علیه: کما یمکن أن ینتقل المال فی البیع بالمعاطاة کذلک یمکن انتقال الدین، و لا فرق فی الانتقال فی عالم الاعتبار بین العین و الدَّین فکما یمکن الانتقال بالمعاطاة فی العین فکذلک یمکن فی الدین.

و أمّا جریان المعاطاة فی النکاح: فَقَدْ یتوهم عدم جریانها فیه لأنّ الفعل فیه ملازم لضده و هو الزنا و السفاح، بل هو مِصْداقٌ له حقیقةٌ و من الواضح أنّه لا یمکن إنشاء شیءٍ

ص:102

من الاُمور الإنشائیة بضده.

و دفعه: الزنا عند العرف غیر النکاح و الزواج سواء کان انشاؤه بالقول أو الفعل، و الزنا یکون قسیمه، لو قَصَدَ الزوجان النکاح و أَنْشَأآهُ بالفعل لا بالقول، تحقّق الزوجیة، و الوطی بعدها لیس من الزنا.

و من هنا ظهر جواب تسبّب الوطی للنکاح و الإشکال فیه بأنّ الوطی یحتاج إلی سبب محلّل له، فلو کان سببا لحلّیّة نفسه لزم إتحاد السبب و المسبب فی مرتبة واحدة مع امتناع تأثیر الشی فی نفسه.

و أما جوابه: فَإنَّ الزَوْجَیْنِ یقصدان النکاح بالفعل ثم یتحقّق و من بعده یَقَعُ الوطی و من أین لزم إتحاد السبب و المسبب؟ هذا أولاً.

و ثانیا: امتناع اتحاد السبب و المسبب و امتناع تأثیر الشی فی نفسه فی عالَمِ التکوین تام و أمّا عالَمُ الاعتبار غیره، و ما هو ممتنع فی عالم التکوین یمکن وقوعه فی عالَمِ الاعتبار، لأنّهما عالمان بینهما بون بعید و لکل واحد منهما قوانینه و قیاس أحدهما بالآخر مع الفارق و

غَیْر سَدِیْدٍ.

و ثالثا: علی القول بالاتحاد بین السبب و المسبب و علی القول بصحة قیاس العالَمَیْن یمکن أن یجاب عن الإشکال بعدم الاتحاد لأنّ السبب هو الوطی و المسبب هو الحلیة فلم یلزم اتحاد السبب و المسبب، و لا تأثیر الشیء فی نفسه. کما عن المحقّق الإصفهانی(1) قدس سره و له أجوبة اُخری لهذا الاشکال إن شئت فَراجِعْ حاشِیَتَهُ علی المکاسب(2).

و یمکن ان یستدل لجریان المعاطاة فیه بخبر عبدالرحمن بن کثیر المَرْوِیِّ فی الکافی

ص:103


1- (1) حاشیة المکاسب 1/184.
2- (2) حاشیة المکاسب 1/(187-184).

عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: جاءت امرأة إلی عمر فقالت: إنّی زینتُ فطهّرنی، فأمر بها أن ترجم، فاُخبر بذلک أمیرالمؤمنین علیه السلام ، فقال: کیف زینتِ؟ فقالت: مررتُ بالبادیة فأصابنی عطش شدید فاستسقیت أعرابیا فأبی أن یسقینی إلاّ أن اُمکّنه من نفسی، فلما أجهدنی العطش و خفتُ علی نفسی سقانی، فأمکنته من نفسی، فقال أمیرالمؤمنین علیه السلام : تزویج و ربّ الکعبة(1).

بتقریب: حمل أمیرالمؤمنین علیه السلام فعلها علی التزویج بحیث لما اشتدّ عطشها رضیت بالنکاح فصار مهرها الماء الذی به دفعت عطشها، و مدّته دفعة واحدة فهذا نکاح موقت بالمهر المعلوم و دفعة واحدة و قد جری بالفعل و المعاطاة لا القول و الصیغة.

و حمل الروایة علی الاضطرار خلاف ظاهرها لأنّ امیرالمؤمنین علیه السلام لم یحمل عملها علی الاضطرار بل حمله علی النکاح. و القول بحمله علی الاضطرار تصحیحا لما ورد من الأمر بالرجم، لا یتم لأنّ آمره - و هو الثانی - لیس بفقیه و کلّ الناس أفقه منه أو أعلم علی حد تعبیره(2). لأنّ الرجم لا یتم إلاّ إذا کانت الزانیة ذات بعل فحینئذ لا یتم نکاحها فعلیه لابدّ من حملها علی الاضطرار. و قد ظهر ممّا ذکرنا جوابه بأنّ امیرالمؤمنین علیه السلام حمله علی النکاح لا الاضطرار. مع أنّ الاضطرار أیضا یمکن أن یرفع به الذنب و الحد من جانب المرأة فقط.

فالروایة تدل علی جواز النکاح المعاطاتی بل وقوعه ولکن سندها ضعیف بعلی بن

حسان و هو مشترک بین الواسطی الثقة و الهاشمیّ مَوْلاهُمْ المرمی بالکذب و الوقف، و

ص:104


1- (3) الکافی 5/467، ح8.
2- (4) سنن البیهقی 7/233؛ الدر المنثور 2/133؛ الکشّاف 1/491 ذیل آیة «و إن أردتم استبدال زوج مکان زوج و اتیتم أحدیهنّ قنطارا» من سورة النساء /الآیة 20؛ و نقل عنهم العلاّمة السیّد مرتضی الفیروزآبادی فی کتابه «السبعة من السلف» /88 و ما بعده.

کلاهما ینقلان عن عبدالرحمن بن کثیر - و هو کان عمّ الهاشمی - و قد یقال: بضعفه أو مَجْهُوْلِیَّتِهِ ولکن قال الوحید فی شأنه: «روایة الأجلاء الثقات کتبه تشهد علی الاعتماد بل الوثاقة» و له أکثر من أربعین روایة فی الکتب الأربعة.

فإن ذهبنا إلی أنّ المراد بعلی بن حسان هو الواسطی - لا الهاشمی - و إلی اعتبار عبدالرحمن بن کثیر کما علیه الوحید، صار سَنَدُها مُعْتَبَرا ولکن فی الجمیع نظر بیّن.

و الذی یسهّل الخطب وجود الإجماع بین الأصحاب من عدم تحقّق النکاح المعاطاتی و أنّه لا یتحقّق إلاّ بالصِّیَغِ الخاصَّةِ المتداولة بین المُتَشَرِعَةِ و یلحق بالنکاح، الطلاق فإنّه أیضا لا یتحقّق إلاّ بالقول و الصیغ الخاصة و کذا الظهار و الإیلاء و اللعان.

فیظهر ممّا ذکرنا جریان المعاطاة فی جمیع العقود و الإیقاعات إلاّ ما خرج بالدلیل.

السادس: ملزمات المعاطاة
اشارة

قد مرّ أنّ المعاطاة - فی المعاملات التی أصلها اللزوم - تدل علی اللزوم و - فی المعاملات التی أصلها الجواز - تدل علی الجواز فلا فرق بین الاْءتْیانِ بالمعاملة و إجْرائِها بالقول و الصیغة بها و إجرائِها بالفعل و المعاطاة، و علی هذا فنحن فی فسحة عن هذا المبحث - أی ملزماتها - .

و أمّا إذا ذهب أحد إلی القول بالجواز فی المعاملات المعاطاتیة - کما لَعَلَّهُ هو المشهور - فَسَوْفَ یأتی هذا البحث و یجری القول فی ملزماتها.

ثم ذهب الشیخ الأعظم أوّلاً إلی تأسیس الأصل فی المقام و قال: «إنّ الأصل علی القول بالملک اللزوم... و أمّا علی القول بالإباحة فالأصل عدم اللزوم»(1).

ص:105


1- (1) المکاسب 3/96.
ثمانیة أوجه تدل علی لزوم المعاطاة علی القول بالملک
اشارة

لأنّه قدس سره أقام ثمانیة أوْجُهٍ(1) تدل علی اللزوم علی القول بالملک و حیث أغمضنا الکلام عنها هناک نبحثها هنا تتمیما للفائدة باختصارٍ:

1- الاستصحاب

بتقریب: أنّ کلّ واحد من المتعاطیین ملّک الآخر ماله بالمعاطاة، ثم یشک بخروج المال عن ملک أحدهما برجوع صاحبه، فیستصحب بقاء الملک الحادث بالمعاطاة و هذه عبارة اُخری عن اللزوم فی المعاملات.

و قد استشکل علی هذا الاستصحاب الشخصی بوجهین:

الأوّل: عدم اتحاد الْقَضِیَّتَیْنِ المتیقنة و المشکوکة فی هذا الاستصحاب لأنّ المتیقنة منهما هی القدر المشترک بین فردی الملک: اللازم و الجائز، و المشکوکة منهما هی الفرد المعین أیّ الملک اللازم، فالیقین تعلَّق بالقدر المشترک بین فردی الملک، و الشک تعلَّق بحدوث فرد معیّن و هو الملک اللازم. و مع عدم اتحاد القضیتین لا یجری الاستصحاب.

الثانی: وجود أصل حاکم علی هذا الاستصحاب - علی فرض جَرَیانِهِ - و هو اسْتِصْحابُ بَقاءِ العلاّقة التی أثرها جواز الرجوع بین المالک الأوّل و ماله و مع جریان هذا الاستصحاب فلا مجال لجریان استصحاب ملکیّة المالک الثانی.

و بعبارة اُخری: مقتضی الاستصحاب عدم انقطاع علاقة المالک عن العین التی له فحینئذ یجوز له الرجوع فیها و هذا الاستصحاب حاکم علی الاستصحاب المقتضی لِلْلِزُومِ.

ثمّ أجاب عن الاشکال الأوّل بوجهین:

الأوّل: نمنع انقسام الملک إلی قسمین و تنوّعه بنوعین و هما الملک المتزلزل و الملک المستقر لطبیعة الملک لکی یجری الاستصحاب فی الکلّی و هو القدر المشترک بینهما. بل نجری

ص:106


1- (2) المکاسب 3/(56-51).

الاستصحاب فی الشخص و هو الملکیة التی هو اضافة خاصة بین المالک و المملوک، و التزلزل و الاستقرار ینشأان من حکم الشارع علی الملک بزواله برجوع المالک الأوّل و عدمه. فحینئذ اللزوم و الجواز حکمان للملک و لیسا منوِّعین له.

و الوجه فیه لأنّ المُنشأ فی العقود اللازمة و الجائزة کلاهما أمرٌ واحدٌ و هو إضافة الملکیة التی هی أمر بسیط شخصی. و استقرار الملک أو تزلزله حکمان شرعیان للملک یستندان إلی حکم الشارع بجواز الرجوع و عدمه الناشی فی اختلاف السبب المملِّک. و لا یستندان إلی المالک بوجه بحیث یکون الخیار بیده.

الثانی: یجری الاستصحاب حتّی علی القول بأنّه کلّیٌّ، لجریان الاستصحاب فی القسم الثانی من أقسام الکلّی علی المشهور الذی موردنا یحسب منه، و هو عبارة عن العلم بوجود الکلّی فی ضمن أحد فردین: أحدهما معلوم الارتفاع و الآخر محتمل الحدوث وَلکِنَّ الأثَرَ مُتَرَتِّبٌ علی الجامع بین الفردین لا علی خصوصیتهما الفردیان، نحو: إذا علم بنجاسة مردّدة بین البول و الدم فإنّه بعد الغَسْل مرّة یشک فی بقاء النجاسة: فیستصحب بقاء النجاسة.

و فی ما نحن فیه: أیضا لا نستصحب الأفراد و هما اللزوم و الجواز الحاصلان من

الملک، بل نستصحب الجامع بینهما و هو استصحاب کلّی الملک و بعد جریانه نحکم باللزوم.

لم یجب الشیخ الأعظم عن الإشکال الثانی هنا - فی بحث البیع - ولکن طرح الإشکال فی اوائل بحث الخیارات و أجاب عنه بقوله: «إن أُرید بقاءُ علاقةِ الملکِ أو علاقةٍ تتفرع علی الملک، فلا ریب فی زوالها بزوال الملک.

و إن اُرید بها سلطنة إعادة العین فی ملکه، فهذه علاقة یستحیل اجتماعها مع الملک، و إنّما تحدث بعد زوال الملک لدلالة دلیلٍ، فإذا فُقد الدلیلُ فالأصل عدمها.

و إن اُرید بها العلاقة التی کانت فی مجلس البیع، فإنّها تستصحب عند الشک فیصیر

ص:107

الأصل فی البیع بقاء الخیار، کما یقال: الأصل فی الهبة بقاء جوازها بعد التصرف، فی مقابل مَنْ جعلها لازمة بالتصرف، ففیه: - مع عدم جریانه فیما لا خیار فی المجلس، بل مطلقا بناءً علی أنّ الواجب هنا الرجوع فی زمان الشک إلی عموم «اوفوا» لا الاستصحاب - أنّه لا یجدی بعد تواتر الأخبار بانقطاع الخیار مع الافتراق، فیبقی ذلک الاستصحاب سلیما عن الحاکم»(1).

و یجیب عن الإشکال الثانی بوجوه اُخر:

الاوّل: العلاّقة الموجودة بین المالک و ماله لیست إلاّ العلاّقة المالکیة و أمّا غیرها فمن أوّل الأمر ثبوتها محلّ تردید.

الثانیّة: العلاّقة الموجودة لیست إلاّ الإضافة المالکیة بین المالک و ملکه و هذه قد ارتفعت قطعا بنقل المال إلی غیره، و لم تکن هناک إضافة اُخری حتّی تستصحب لیکون حاکما علی أصالة اللزوم، فالشک حینئذٍ فی حدوث علاقة جدیدة للمالک الأوّل بعد الفسخ - لا فی بقائها - و الأصل عدمها.

الثالثة: العقد الخیاری یوجب بسبب الخیار أن یحدث علاقة لذی الخیار فهو مالک لأن یملک، لا أنّ العلاقة الاُولی باقیة له، کما ذکره المحقق النائینی(2).

الرابعة: ان کان المراد من العلاّقة هی جواز رجوع المالک السابق إلی العین و استرجاعها من الآخذ بالمعاطاة فلا ریب فی أنّ ذلک لم یکن موجودا سابقا و أنّه مشکوک الحدوث فعلاً، فالأصل یقتضی عدمه دون بقائه.

الخامسة: و إن کان المراد منها أنّ الملکیة الثابتة للمالک لها مراتبُ شَتّی التی لم یعلم

ص: 108


1- (1) المکاسب 5/23 و 22.
2- (2) منیة الطالب 1/144.

زوال جمیعها بالبیع المعاطاتی، بل من المحتمل أنّ الملکیة إذا زالت بحدّها الأقوی بقیت منها المرتبة الضعیفة.

فیرد علیه: الملکیة الاعتباریة لیست مشکّکة و لیست ذات مراتب، لأنّ اعتبار أیّة مرتبة منها مغایرة لاعتبار مرتبتها الاُخری. فحینئذ إذا زال المرتبة الأقوی ثبوت مرتبة اُخری منها تحتاج إلی دلیل و هو مفقود.

السادسة: و إن کان المراد منها هُوَ بقاء سلطنة المالک و قدرته علی التصرف فی العین لأنّ الملکیة و السلطنة أمران مُتَغایرانِ و یمکن تفکیک أحدهما عن الاْآخَرِ کما فی المحجور بقی ملکه من دون السلطنة و فی الولی و الوصی لهما السلطنة علی أشخاص أو أموال من دون الملک، فعلی هذا أنّ المتیقن هو سقوط الملکیة و أمّا السلطنة للمالک فزوالها مشکوک فیه فتستصحب.

و یرد علیه: نعم یتغایر الملکیة عن السلطنة ولکن تغایرهما من قبیل تغایر الحکم و موضوعه لأنّ الملکیة موضوع للسلطنة و إذن قتدور السلطنة مدار موضوعها - أی الملکیة - و علی هذا لا یجری استصحاب بقاء السلطنة لعدم اتحاد الْقَضِیَّتَیْنِ المتیقنة و المشکوکة، لأنّ المتیقنة منهما أنّما هی السلطنة المترتبة علی المکیة و المشکوکة منهما إنّما هی السلطنة العاریة عن الملکیة فلا یجری استصحاب السلطنة. و من المعلوم أنّ انفکاکهما فی الموارد الخاصة لوجود دلیل خاص و نص معتبر. کما یظهر من السیّد المحقق الخوئی(1) رحمه الله .

ص: 109


1- (1) مصباح الفقاهة 1/136 و 135.
2- حدیث السلطنة

و هو قوله صلی الله علیه و آله : إنّ الناس مسلطون علی أموالهم.(1)

مقتضی الجمع الوارد علی الجمع هو عموم السلطنة لکلِّ مالکٍ علی ماله، فیجوز له جمیع أنحاء التصرفات المجوّزة شرعا فی ماله، و منع سلطنة غیر المالک عنه، فحینئذ الخبر متضمن لعقدین:

أ: العقد الإیجابی: و هو سلطنة المالک علی ماله بجمیع أنحاء السلطنة و التصرف، ولکن نعلم من الخارج تقییده بالشریعة المقدسة.

ب: العقد السلبی: و هو نفی سلطنة الغیر عن ماله بأیّ نحو کانَ، و هذا الأخیر یخرج من عموم الأوّل، و العقد الإیجابی لا یکون تامّا حتّی یلحقه العقد السلبی، أی أنَّ تَصَرُّفات المالک لا تکون تامة إلاّ أن یَلْحَقَها نفی تصرفات الغیر.

و علی هذا الأساس عموم سلطنة المالک علی ماله ینفی سلطنة الغیر عن ماله فحینئذ یدلُّ علی عدم نفوذ رجوع الغیر أی المالک الاوّل السابق. لأنّ المال الآن للمالک الأخیر و السلطنة علیه تختص به لا بالأوّل، فعموم السلطنة یَدُلُّ علی اللزوم و عدم نفوذ رجوع المالک الأوّل.

و قد یناقش فی دلالة عموم السلطنة أو إطلاقها علی اللزوم بوجوه:

الأوّل: ما یظهر من المحقق الخراسانی من أنّ الروایة فی مقام بیان عدم محجوریة المالک لا فی نفوذ جمیع تصرفاته فلا یتم التمسک بها لأجل إثبات لزوم المعاملة، قال قدس سره : «... حیث أنّه مسوق لبیان سلطنة المالک و تسلّطه، قبالاً لحجره، لا لبیان تشریع أنحاء السلطنة، کی یجدی فیما إذا شک فی تشریع سلطنته فلا یجوز التمسک به علی صحة معاملة خاصة و

ص:110


1- (1) عوالی اللآلی 1/457، ح198 و نقل عنه فی بحارالأنوار 2/272، ح7 (1/358).

جواز تصرّف خاص مع الشک فیهما شرعا، فافهم»(1).

و تبعه فی هذه المناقشة المحقق السیّد الخوئی حیث یقول: «... أنّ دلیل السلطنة یتکفل ببیان استقلال المالک فی التصرف فی أمواله فی الجهات المشروعة و عدم کونه محجورا عن التصرف فی تلک الجهات و لیس لغیره أن یزاحمه فی ذلک، و علیه فشأن دلیل السلطنة شأن الأوامر المسوقة لبیان أصل الوجوب من غیر نظر فیها إلی تعیین الواجب من حیث الکم و الکیف. و علی الجملة: أنّ دلیل السلطنة لا یدل علی استقلال الملاّک فی

التصرف فی أموالهم من جمیع الجهات بحیث لو منع الشارع عن التصرف فیها من ناحیة خاصة کان ذلک مخصصا لعموم الحدیث...»(2).

و یرد علیهما: إنَّهُ لا قصور فی عموم الناس و لا فی إطلاق السلطنة و مقتضی مقابلة الجمع بالجمع أن یکون کلّ أحد مسلّطا علی ماله بأیّ نحو من أنحاء السلطنة و منها: منع الغیر عن التصرف فی ماله کما عن المحقّق النائینی(3).

الثانی: سلطنة المالک لا تُنافیْ الخیار بناءً علی کَوْنِها مُتَعَلِّقَةً بالعقد لا بالعین، فصاحب الخیار ینفسخ العقد - أی حلّه - و لازمه إرجاع العین، فحینئذ لا یکون الفسخ تصرفا فی ملک الغیر حتّی یکون منافیّا مع عموم سلطنته.

و یرد علیه: تعلّق الخیار بالعقد و حلّه لا بالعین - حتّی علی القول به - یرجع بالمآل إلی التصرف بالعین لأنّ تعلّقه بالعقد طریقی لا موضوعی، أیّ تعلق الخیار بالعقد و حلّ العقد به یصیر طریقا إلی استرجاع العین و التصرف فیه، و حقّ استرجاع العین یستلزم أن تکون سلطنة المالک ناقصة، لأنّه ینجرّ إلی التصرف فی العین - و بعموم السلطنة و إطلاقها

ص:111


1- (2) حاشیة المکاسب /12 للمحقّق الآخوند الخراسانی.
2- (1) مصباح الفقاهة 2/102 - و نحوها فیه 2/137.
3- (2) منیة الطالب 1/154.

تنفی هذا الحقّ کما ذکره المحقّق النائینی(1).

الثالث: انّ التمسک بهذه الروایة لأجل إثبات اللزوم فی المعاطاة علی القول بالملکیة فیها یکون من قبیل التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة لذلک العام، لأنّ مع الشک فی تأثیر الفسخ یشک فی بقاء أصل المالکیة، فالتمسک بها فی إثبات المالکیة یکون من التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة.

و بعبارة اُخری: إذا شک فی لزوم معاملة أو جوازها و فسخ أحد المتعاملین فحینئذ یشک فی جواز تصرفات المالک لاحتمال تأثیر الفسخ و رجوع المال عمّا انتقل إلیه إلی ما انتقل عنه و اثبات اللزوم و نفوذ تصرفات المالک بعموم دلیل السلطنة أو إطلاقها تمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة لذاک العام.

و یرد علیه: نعم، التمسک به فی الشبهات الموضوعیة تمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة فإذا شک فی عقد بین البیع و الهبة لا یمکن القول باللزوم بعموم دلیل السلطنة، لاحتمال کونه من مصادیق ما ثبت فیه شرعا سلطنة غیر المالک علی ملک المالک إذا کان

العقد فی الشریعة من العقود الجائزة، بخلاف الشبهة الحکمیة و الفرق بینهما واضح فإنّ مرجعهما إلی الشک فی أصل التخصیص فی الشبهة الحکمیة، و إلی الشک فی مصداق المخصص إذا کانت الشبهة مصداقیة.

و بعبارة واضحة: نفرض آنَیْنِ، أحدهما آنٌ یقع فیه الفسخ و الآخر آنٌ یقع فیه التصرف بعد الفسخ فی العین المرتجعة، و من الواضح أنّ الشک یقع فی الآن الثانی و فی جواز تصرفات المالک فیه أم لا؟ و الشک ناشٍ من نفوذ الفسخ من المالک السابق و عدم نفوذه، ولکن ببرکة عموم السلطنة یحکم بجواز تصرفات المالک فی العین المرتجعة فإذا جاز تصرفه

ص:112


1- (3) منیة الطالب 1/154، المکاسب و البیع 1/178.

لم یؤثر الفسخ و یحکم باللزوم ولکن هذا إذا کانت الشبهة حکمیة بحیث نشک فی أصل وجود التخصیص و الأصل عدمه، ولکن إذا کانت الشبهة مصداقیة یقع الشک فی مصداق المخصص و عموم الدلیل لایتمکن من تعیین مصداق مخصصه.

الرابع: ما ذکره المحقق الإصفهانی بقوله: «إنّ المنفی بالالتزام هی السلطنة المنافیة لسلطنة المالک علی جمیع التصرفات الواردة علی المال، دون غیرها من أنحاء السلطنة، مثلاً سلطنة المالک علی بیع ماله تنافی سلطنة الغیر علی اشترائه منه بدون اختیاره و لیس سلطنة الغیر علی الرجوع سلطنة علی تملّک المال علی حدِّ سلطنة الشفیع علی تملّک مال المشتری ببذال الثمن لتکون مزاحمة لسلطان المالک، بل سلطنة علی الرد و الاسترداد، فهو فی الحقیقة سلطنة علی إزالة الملکیة، و المالک له السلطان علی الملک لا علی الملکیة، فکما لیس له السلطنة علی إزالة الملکیة ابتداءً، کذلک لیس له السلطنة علی إبقاء الملکیّة، حتّی تکون سلطنة الغیر علی إزالتها مزاحمة لها»(1).

حاصل إشکاله یرجع إلی الفرق بین السلطنة علی الملک التی أثبتها الحدیث و السلطنة علی الملکیة التی هی خارجة عن مدلول الحدیث، لأنّ مقتضی ترتب السلطنة علی أموالهم - أی الملک - تأخُّرها رتبة عن إضافة الملکیة و سلطنتها تأخِّر کلّ حکم عن موضوعه و هذه إضافة الملکیة و سلطنتها أیضا متأخرة عن العقد المملِّک أو المعاطاة، و حیث أن نسبة الفسخ إلی العقد نسبة الرافع إلی المرفوع فلو فسخ المالک الأصلی کان مقتضاه إعدامَ العقد أو انحلاله الموضوع لإضافة الملکیّة الموضوعة للسلطنة، فظهر مما ذکرنا أنّ فسخ العقد یتقدَّم علی السلطنة الملک برتبتین و علی السلطنة الملکیّة برتبة واحدة فلا معنی لتأثیر

سَلْطَنَةِ الملک فی الفسخ الذی یتقدَّم علیه برتبتین و لا حتّی تأثیر السلطنة الملکیة علیه لأنّ

ص:113


1- (1) حاشیة المکاسب 1/139.

الفسخ یتقدَّم علیه برتبة واحدة لاستحالة تکفل الحکم بإبقاء موضوع نفسه و لاستحالة تأثیر الحکم فی أمر متقدِّم علیه برتبة أو رتبتین علی موضوع نفسه.

ولکن یرد علیه: أوّلاً: نحن لا نفرق بین السلطنة علی الملک و الملکیّة، لأنّ سلطنة المالک علی ملکه تکفی فی کونه سلطانا علی إبقائه و إزالته من غیر احتیاج إلی السلطنة علی الملکیّة، و علی فرض تعددهما أنّ السلطنة علی الملک بما هو ملک سلطنة علی الملکیة أیضا فإزالة ملکیّته من غیر اختیاره من اُوضح مراتب المزاحمة لسلطنته و عموم حدیث السلطنة أو إطلاقها ینفیها.(1)

و ثانیا: حدیث تعدد الرتبة علی فرض صحتها أجنبی عن الاستظهار العرفی المعوّل علیه فی الخطابات الشرعیة فلا ینظر إلیها.

و ثالثا: علی فرض صحة الفسخ بالمآل ینافی سلطنة المالک الفعلی علی المال و لذا یَنْفِیْهِ عموم حدیث السلطنة أو إطلاقه.

و رابعا: قد مرّ منّا مرارا عدم سرایة القوانین الحاکمة علی عالم الکون إلی عالم التشریع و الجعل و الاعتبار، و الاعتبار سهل المؤنة یکفی فی صحته عدم اللغویة، و ما قرّره المستشکل یختص بعالم التکوین لا الاعتبارت.

هذا کلّه بالنسبة إلی المناقشات الواردة فی دلالة الحدیث و جواباتها.

و أمّا سنده: فهذه الروایة لم تذکر فی کتبنا إلاّ علی نحو الإرسال فسندها ضعیف.

قد یقال: بانجبار ضعف سندها بعمل المشهور من فقهائنا علی طبقها و إرْسالِهِمْ إیّاها فی کتبهم الاستدلالیّة إرْسالَ الْمُسَلَّماتِ حتّی جعلوا مفادها من القواعد الفقهیة المسلَّمة عندهم و قد تمسک بها أساطین فقه الشیعة:

ص:114


1- (1) لتفصیل هذا الجواب راجع کتاب البیع 1/107 للمحقّق الخمینی قدس سره .

فَقَدْ قال المحقق فی قرض الشرائع: «القرض یُمْلَکُ بالقبض لا بالتصرف، لأنّه فرعُ الملک فلا یکون مشروطا به، و هل للمُقْرِضِ ارتجاعُهُ؟ قیل: نعم، و لو کره المقترضَ، و قیل: لا، و هو الأشبه، لأنّ فائدةَ المِلْکِ التسلُّطُ»(1).

و قال تلمیذه و ابن اُخته العلاّمة فی بیع التذکرة: «یجوز بیع کلّ ما فیه منفعة لأنّ الملک سبب لإطلاق التصرف، و المنفعة المباحة کما یجوز استیفاؤها یجوز أخذ العوض عنها

فیباح لغیره بذل ماله فیها توصّلاً إلیها و دفعا للحاجة بها، کسائر ما اُبیح بیعه و سواء أجمع علی طهارته کالثیاب و العقار و بهیمة الأنعام و الخیل و الصیود أو مختلفا فی نجاسته کالبغل و الحمار و سباع البهائم و جوارح الطیر الصالحة للصید کالفهد و الصقر و البازیء و الشاهین و العقاب، و الطیر المقصود صوته کالهزار و البلبل، و هذا هو الأقوی عندی، و به قال الشافعی و أحمد»(2).

و قال فی بحث کیفیة الأخذ بالشفعة: «یجوز للمشتری التصرف فی الشقص قبل أن یأخذه الشفیع و قبل علمه بالبیع فإذا تصرّف صح تصرّفه لأنّ مَلِکَهُ بالعقد إجماعا و فائدة الملک استباحة وجوه الانتقاعات و صحّ قبض المشتری له، و لم یبق إلاّ أنّ الشفیع ملک علیه أن یملک، و ذلک لا یمنع تصرّفه کما لو کان الثمن معیبا فتصرّف المشتری فی المبیع. و کذا الموهوب له إذا کان الواهب ممّن له الرجوع فیها، فإنّ تصرّفه یصحّ و إن ملک الواهب [الرجوع] فیها...»(3).

و قال فی قرض المختلف: «مسألة: قال الشیخ فی المبسوط(4) و الخلاف(5): یجوز للمُقْرِض أن

ص:115


1- (2) الشرائع 2/62.
2- (1) تدکرة الفقهاء 10/33، مسألة 12.
3- (2) تذکرة الفقهاء 12/251، مسألة 740.
4- (3) المبسوط 2/161.
5- (4) الخلاف 3/177، مسألة 299.

یرجع فی عین القرض. و قال ابن ادریس: لیس له ذلک إلاّ برضی المقترض(1). و هو الأجود لنا: أنّه ملکه بالقرض و القبض، فلا یتسلّط المالک علی أخذه منه لانتقال حقّه إلی المثل أو القیمة. و احتج الشیخ بأنّه کالهبة. و الجواب: المنع من المساواة بین المسألتین»(2).

و بالجملة: حدیث ا لسلطنة یَدُلُّ علی اللزوم و تمت عندنا دلالتُهُ و یجبر ضعف سَنَدِهِ بالشهرة، و الحمدللّه.

لا یقال: إنّهم لم یذکروا تمسّکهم بحدیث السلطنة فَمِن الممکن انّهم تمسکوا بالقاعدة المقبولة عند العقلاء من ذهابهم إلی أنّ حقّ السلطنة علی المال للمالک.

لأنّا نقول: إنّهم تمسکوا باطلاق السلطنة و الاطلاق لا یستفید إلاّ من الحدیث و الدلیل اللفظی لأنّ لیس للقاعدة المقبولة عند العقلاء إطلاق لأنّها دلیل لبّی فلا یجوز التمسک بإطلاقها أی لیس لها إطلاق أصلاً و حیث أنّهم تمسکوا بإطلاق السلطنة فهم یتمسکون

بحدیث السلطنة.

3- حدیث لا یحل مال امری ءٍ إلاّ عن طیب نفسه

قد وَرَدَ مضمون هذا الحدیث فی عدّة من الروایات:

منها: موثقة سماعة عن أبیعبداللّه علیه السلام فی حدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: من کانت عنده أمانة فلیؤدها إلی من ائتمنه علیها، فإنّه لا یحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلاّ بطیبة نفسه(3).

ص:116


1- (5) السرائر 2/60.
2- (6) مختلف الشیعة 5/392.
3- (1) وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.

و نحوها صحیحة أبی اسامة زید الشحام(1).

و منها: التوقیع الشریف الْمَرْوِیُّ بسند صحیح عن الناحیة المقدسة و فیه: و أمّا ما سألت عنه من أمر الضیاع التی لناحیتنا هل یجوز القیام بعمارتها، و أداء الخراج منها و صرف ما یفضل من دخلها إلی الناحیة احتسابا للأجر و تقرّبا إلیکم؟ فلا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه، فکیف یحلّ ذلک فی مالنا؟! من فعل شیئا من ذلک لغیر أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرم علیه و من أکل من مالنا شیئا فإنّما یأکل فی بطنه نارا و سیصلی سعیرا(2).

و منها: خبر محمّد بن زید الطبری قال: کتب رجل من تجار فارس من بعض موالی أبی الحسن الرضا علیه السلام یسأله الإذن فی الخمس، فکتب إلیه: بسم اللّه الرحمن الرحیم، إنّ اللّه واسع کریم ضمن علی العمل الثواب و علی الضیق الهمّ، لا یحلّ مال إلاّ من وجهٍ أحلّه اللّه، إنّ الخمس عوننا علی دیننا و علی عیالاتنا و علی أموالنا، الحدیث(3).

و منها: مرسلة ابن شعبة الحرانی رفعه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال فی خطبة الوداع: أیها الناس، إنّما المؤمنون إخوة و لا یحلّ لمؤمن مال أخیه إلاّ عن طیب نفس منه(4).

و منها: مرسلة ابن أبی جمهور الأحسائیّ رفعه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: المسلم أخوالمسلم، لا یحلّ ماله إلاّ عن طیب نفسه.

و عنه صلی الله علیه و آله قال: لا یحلبن أحدکم ماشیة أخیه إلاّ بإذنه(5).

ص:117


1- (2) وسائل الشیعة 29/10 ح3، الباب 1، من أبواب القصاص فی النفس.
2- (3) وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال.
3- (4) وسائل الشیعة 9/538، ح2.
4- (5) وسائل الشیعة 5/120، ح3.
5- (6) مستدرک الوسائل 3/331، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.

و هذه الروایات تدلّ علی حرمة التصرف فی مال الغیر بدون إذنه و فیها الصحیحة و الموثقة ولکن خصوص ما ذَکَرَهُ الشیخ الأعظم من الروایة لم أقِفْ علیه فی کتب الحدیث و کأنّه نقل المضمون أو المعنی.

و أمّا دلالتها: فَإنَّ الروایات تدلّ علی سبب حلّیّة التصرف فی مال الغیر هو طیب نفسه و رضاه - أی طیب نفس مالکه و رضاه - و لم یجز للغیر التصرف فیه إلاّ بإذنه و رضاه، فلا یجوز للغیر أن یتملّک ذلک المال بدون إذن مالکه و رضاه حیث أنّ تملّکه کذلک مُنافٍ لانحصار سبب الحلّ فی الرضا و الإذن.

و بلا فرق بین ذلک الغیر أنّه المالک السابق أو غیره فحینئذ انحصار سبب الحلّ فی رضا المالک و إذنه یکشف عن عدم نفوذ فسخ المالک السابق لأنّ الفسخ و الرجوع تصرّف فی مال الغیر و کلّ تصرُّفٍ غیر مشروط برضا المالک أو إذنه ممنوع شرعا فلا ینفذ فسخه و هذه عبارة عن لزوم الملک.

توهمٌ: موضوع الحرمة هو مال الغیر و مادام هذا الموضوع محقّقا ثبتت الحرمة و إذا انتفی انتفت الحرمة لأنّ الحکم لا یتعرض لموضوعه نفیّا أو إثباتا فحینئذ التمسک بهذه الأحادیث علی لزوم المعاطاة تمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة لذاک العام، لأنّ بعد الرجوع و نفوذه من المالک الأوّل لایَبْقی موضوع لمال الغیر حتّی یُتَمَسَّکَ بحدیث لا یحلّ مال الغیر.

دفعه: ظهر ممّا ذکرنا فی حدیث السلطنة(1) لدفع هذا الاشکال من جواز التمسک بالعام فی الشبهات الحکمیة لذاک العام لأنّه یرجع بالمآل إلی الشک فی أصل التخصیص و الأصل عدمه و ما نحن فیه من هذا القبیل، لا من التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة لذاک العام. هذا أوّلاً.

ص:118


1- (1) الاشکال الثالث فی حدیث السلطنة.

و ثانیا: الحِلِّیةُ فی مال الغیر مَنُوْطَةٌ بطیب نفسه أعنی رضاه و إذنه و حیث أنّ جواز التصرف فی مال الغیر منوط برضاه و إذنه فقط و علی الفرض لا یرضی المالک لغیره بالفسخ و لا یأذن فیه، فالفسخ لا ینفذ و یردّ.

و ثالثا: عدم حلّیة مال الغیر یشمل تملّکه أیضا و لا معنی لحرمة التملّک إلاّ فساده و عدم تأثیره فی الملکیة فصار مفاد الروایة أنّه لا یحلّ التصرف فی مال أحدٍ و لا تملّکه بأیّ سبب من الأسباب إلاّ بطیب نفسه کما عن المصباح(1).

نعم، لأجل تمامیة الاستدلال لابدّ من التَّذْکِیْرِ باُمور مُهِمَّة:

الأوّل: أنّ المراد بالحلّ فی الشریعة المقدسة أعنی عدم وجود المانع الشرعی و لذا یمکن الذهاب و المضی فیه و هذا المعنی أعمّ من الوضع و التکلیف مع وحدة المعنی، و المراد بالحرمة فی الشریعة أعنی وجود المانع الشرعی و لذا لا یمکن الذهاب و المضی فیها و لذا یشمل الوضع و التکلیف معا بالمعنی الواحد کما مرّ منّا هذا الْمَبْنی فی البحث عن المکاسب المحرّمة.

الثانیة: الحلّ إذا تعلّق بالمال ظاهر بالأعم من الوضع و التکلیف و توهم الاختصاص بالتکلیف فقط بمثل الأکل و الشرب و غیرهما من التقلّبات الحسّیّة و المعاملیة بلا تردید فإذا جاز له ذلک، لم یجز لغیره إلاّ مع طیب نفسه و رضاه و إذنه. فحینئذ لا یتم اطلاق ما ذکره بعض الأعلام من أنّ الحلّ إذا أسند إلی الأعیان الخارجیة یُرادُ منه الحلّ التکلیفی فقط لأنّه من الممکن استفادة الحلیة المطلقة أی التکلیف و الوضع معا بالمعنی الذی مرّ منّا بحیث لا یستلزم منه استعمال اللفظ فی أکثر من معنی - و إن ذهبنا إلی جوازه فی الاُصول - کما إذا أسند إلی الأموال أو النساء أو غیرهما.

ص:119


1- (2) مصباح الفقاهة 2/138.

الثالثة: حذف المضاف فی حدیث «لا یحلّ مال امری ء» أی لا یحلّ التصرف فی مال أمری ء، قرینة علی عمومیة المضاف أیّ التصرف فحینئذ یشمل التصرف الخارجی و الاعتباری معا، لأنَّهُ لا یصح إطلاق عدم حلّیّة الذات إلاّ بملاحظة أنّ المنفی جمیع الاُمور و التقلبات من الحسیّة و الاعتباریة و المعاملیة.

بعد وضوح هذه الاُمور یظهر ما فی إشکال السیّدین الحکیم و الخوئی حیث یقول السیّد الحکیم: «هذا یتوقف علی أن یکون المراد من الحلّیّة، الحلّیّة الوضعیة لیکون موضوعها التصرفات الإعتباریة التی منها التملّک، أمّا لو کان المراد منها الحلّیّة التکلیفیة کما هو الظاهر منها، و لا سیّم-ا بقرینة السیاق و المورد، إذ لم نعثر علی المتن المذکور إلاّ علی ما رواه سماعة عن أبیعبداللّه علیه السلام ... اختصّت بالتصرفات الحقیقیة مثل أکله و لبسه و نحو هما فلا تشمل التملّک، و أمّا روایة تحف العقول... فضعیفة السند»(1).

و فیه: مضافا إلی مرّ من أعمیة الحرمة للوضع و التکلیف مع وحدة المعنی، و وجود التوقیع الشریف المروی بسند صحیح و فیه: «فلا یحلّ لأحدٍ أن یتصرف فی مال غیره بغیر

إذنه»(2) الظاهر فی الأعم من الوضع و التکلیف.

و یقول السیّد الخوئی: «... إذا اُسند لفظ الحلّ إلی الاُمور لاعتباریة کالبیع و نحوه اُرید منه الحلّ الوضعی و التکلیفی معا، و إذا اُسند ذلک إلی الأعیان الخارجیة اُرید منه الحلّ التکلیفی فقط... و هکذا الحال فی لفظ التحریم. و علیه فلفظ الحلّ فی الروایة الشریفة إنّما نسب إلی المال و هو إمّا من الأعیان الخارجیة أو من المنافع و علی کلا التقدیرین فلا معنی لحلّیّة ذلک إلاّ باعتبار ما یناسبه - کالتصرف - و إذن فیراد من حلّیّة المال حلّیّة التصرف

ص:120


1- (1) نهج الفقاهة /81 و 80، طبع عام 1421، قم المقدّسة بتحقیق جواد القیومی الإصفهانی.
2- (1) وسائل الشیعة 9/540، ح7.

فیه... و علی هذا فمعنی الروایة: أنّ الشارع المقدس لم یرخص فی التصرف فی مال امری ء إلاّ بطیب نفسه، و إذن فهی أجنبیة عمّا نحن فیه»(1).

و فیه: قد مرّ أعمیة الحرمة و الحلّ للوضع و التکلیف سیما إذا اُسند إلی المال و النساء و عمومیة التصرف کما یظهر من حذف المضاف و وافقنا علی هذا الإشکال شیخنا الاستاذ قدس سره فِیْما أوْرَدَهُ علی استاذه و قال: «وجه الضعف ما ذکرنا من أنّ الظاهر من إضافة عدم الحلّ إلی المال الذی من قبیل الأعیان تعلّقه بالتصرفات المتعارف، تعلقها به سواء کانت حقیقیة أو اعتباریة و مقتضی عدم الحلّ فی الإعتباریات هو الوضع»(2).

و کذا یظهر ما فی اشکالات المحقّق الأردکانی حیث یقول: «... لکن یرد علی هذا الوجه من التمسک تارة: بأنّ الظاهر من لا یحلّ الحرمة التکلیفیة لا الوضعیة فهی مختصة بغیر التملّک، و اُخری: دعوی ظهور الروایة فی تقدیر التصرف بقرینة التصریح به فی روایة «لا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره»، و ثالثة: یلزم منه الجمع بین إرادة الحکم التکلیفی و الوضعی فی کلمة واحدة فالمراد من قوله علیه السلام : لا یحلّ، أحد الحکمین و قد تقدم ظهوره فی الأوّل»(3).

و الحاصل: تمامیة الاستدلال علی اللزوم بمضمون هذه الروایات علی القول بالملک فی المعاطاة عندنا و اللّه العالم.

ص: 121


1- (2) مصباح الفقاهة 2/139.
2- (3) إرشاد الطالب 2/58.
3- (4) غنیة الطالب 2/49.
4- قوله تعالی: «و لا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل إلاّ أن تکون تجارةً عن تراض»

(1)

تمسّک الشیخ الأعظم بهذه الآیة الشریفة مرّتین تارة بالنظر إلی مجموع المستثنی و المستثنی منه و جعله الدلیل الرابع. و اُخری استفاد اللزوم من المستثنی منه من دون انضمام الاستثناء و جعله الدلیل الخامس.

تقریب الوجه الأوّل: الأکل فی الآیة الشریفة کنایة عن التصرف و التملّک کما هو الشائِعُ فی کلِّ لغةٍ و فی کلمات فصحائها، فالآیة تدلّ علی عدم جواز تملّک أموال الناس أو التصرف فیها بسبب من الأسباب الباطلة التی لم یمضها الشارع - کالقمار و السرقة و الربا و غیرها - إلاّ أن یکون سبب الأکل و التصرف و التملّک هو التجارة عن تراض فقط.

و لا فرق فی استفادة انحصار سببیة الناقل و المملِّک للأموال فی التجارة عن تَراضٍ بین کون الإستثناء متصلاً - کما هو الظاهر و الموافق للقواعد العربیة - فحینئذ تکون الباء للسببیّة و یصیر مفاد الآیة الشریفة عدم جواز تملّک أموال الناس بسبب من الأسباب الباطلة إلاّ أن یکون ذلک السبب تجارة عن تراض، فیستفاد من الآیة الشریفة حصر الأسباب الصحیحة فی التجارة عن تراض.

و بین ان یَکُوْنَ الاستثناء منقطعا فتصیر الآیة ظاهرة فی بیان الکُبْرَیَینِ الکلّیّتین و هما حرمة تملّک أموال الناس بالباطل، و نفوذ التجارة عن تَراضٍ و صحتها فحینئذ لابدّ من إحراز موضوع کلّ من الکبریین بالعرف حتّی یترتب علیه حکمه الخاص. و لا یمکن اثبات الحصر فی هذا الفرض بالقرینة المقامیة و هی: أنّ الشارع فی هذا المقام بصدد بیان الأسباب المشروعةِ للمعاملات و لا یذکر إلاّ التجارة عن تراض و لا ریب بأنّ الاهمال یضرّ بالمقصود فلا محالة یستفاد حصر الأسباب الصحیحة للمعاملات فی التجارة عن تراض.

ص:122


1- (1) سورة النساء /29.

و علی کلّ تقدیر ینحصر السبب الناقل فی الأموال بالتجارة عن تراض، و أمّا الرجوع من المالک السابق و فسخه فلا یدخل فی التجارة لأنّها هی الإعطاءُ و الأخذُ بقصد الاسترباح و من المعلوم إنّ المالک الأوّل حین رجوعه لا یُحصِّل ربحا بل إنّما یستردّ عین ماله.

و کذا لا یصدق علی الرجوع و الفسخ عنوان التراضی لفرض عدم رضا المالک الفعلی به و إلاّ کان إقالة من الطرفین.

و علی هذا الأساس مجموع المستثنی و المستثنی منه یَدُلُّ علی عدم جواز الرجوع و الفسخ من المالک السابق - أی عدم نفوذ فسخه - فتصیر المعاملة لازمة. هذا بنظرنا القاصر.

ولکن بنظر الشیخ الأعظم لا یتم هذا الاستدلال لأن-ّه قال فی بحث الاختیار من شروط المتعاقدین مانصه: «... لأنّ دلالة الآیة علی اعتبار وقوع العقد عن التراضی إمّا بمفهوم الحصر و إمّا بمفهوم الوصف، و لا حصر کما لا یخفی لإنّ الاستثناء منقطع غیر مفرّغ، و مفهوم الوصف - علی القول به - مقیّد بعدم ورود الوصف مورد الغالب کما فی «ربائبکم اللاتی فی حجورکم»(1)...»(2).

فالشیخ الأعظم یری الاستثناء منقطعا لا یَدُلُّ علی الحصر فلا یتم الاستدلال علی اللزوم علی رأیه کما نبّه علیه الفقیه الیزدی(3).

و تبعه شیخنا الاُستاذ قدس سره و قال: «... انّ الاستثناء فی الآیة من قبیل الاستثناء المنقطع فلا یفید حصرا حیث أنّ التجارة عبارة عن البیع و الشراء بقصد تحصیل الربح کما هو حال التجار فی الأسواق، و التجارة بهذا المعنی لا تکون داخلة فی عنوان الأکل بالباطل حتّی

ص:123


1- (1) سورة النساء /23.
2- (2) المکاسب 3/331.
3- (3) حاشیة المکاسب 1/360.

یعمّها النهی لو لا ذکر الاستثناء. و بالجملة الآیة متضمنة لحکم التملّک بالباطل و أنّه فاسد فی الشرع و لحکم التملّک بالتجارة و التراضی و أنّه جایز، و أمّا سایر المملّکات التی لا تدخل فی عنوان الأکل بالباطل بحسب بناء العقلاء کالهبة و الاجارة و الصلح و البیع و الشراء لا بقصد تحصیل الربح إلی غیر ذلک فلیست للآیة دلالة علیها، و علی ذلک فعدم کون الرجوع من التجارة و لا من التراضی لا یوجب الحکم بفساده»(1).

أقول: إن تمت القرینةُ المقامیةُ المُدَّعاةُ سابقا من أنّ الشارع فی هذا المقام بصدد بیان الأسباب المشروعة للمعاملات و لا یذکر إلاّ التجارة عن تراض و من المعلوم أنّ الاهمال یضرّ بالمقصود فلا محالة یستفاد الحصر و تم الاستدلال و یمکن دخول کثیر من الاُمور الاقتصادیة فی عنوان التجارة و لا ینحصر بالبیع الاسترباحی فقط و لکن تبعد تمامیة القرینة عندنا.

و بعبارة اُخری: نحن نذهب إلی أنّ الاستثناء فی الآیة الشریفة منقطعٌ - کما مرّ منّا فی

اوّل البحث عن الأدلة العامة فی المکاسب المحرّمة(2) - ولکن العقد الثانی فی الآیة أیّ التجارة عن تراض أیضا مطلق یشمل المعاطاة فیحکم بصحتها و لزومها، فالتمسک فی هذه الاخیرة بالاطلاق اللفظی لا المقامی فتأمل.

و أمّا التوهم السابق فی تقریب الاستدلال بحدیثی السلطنة و لا یحلّ من أنّ التمسک بهما یکون من مصادیق التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة لذاک العام، لا یجری هنا لأنّ المستفاد من الآیة الشریفة حصر سبب تملّک أموال الناس فی التجارة عن تراض و من المعلوم أنّ رجوع المالک السابق لا یصدق علیه التجارة - و لا عن تراض - فتدلّ بالدلالة المطابقیة

ص:124


1- (4) إرشاد الطالب 2/59.
2- (1) راجع الآراء الفقهیة 1/13.

علی عدم جواز أکل المال بهذا الرجوع أو الفسخ، أعنی بطلانهما.

و علی ما ذکرنا لابدّ أن تکون عبارة الشیخ الأعظم هکذا: «و التوهم المتقدم فی السابق غیر جار هنا...»(1) مع وجود کلمة الغیر، و إلاّ لاتتم العبارة إلاّ بالبعض.

التأویلات الباردة نحو: «التوهم المتقدم فی السابق جار هنا مع جوابه و دفعه» کما ذکره السیّد الیزدی(2)

5- قوله تعالی: «لا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل»

تمسک الشیخ الأعظم هنا بجملة المستثنی منها فقط من دون انضمام الاستثناء:

تقریب الوجه الثانی: إنّ تملّک أموال الناس بغیر رضا منهم و قهرا و غلبةً تملّک بالباطل و أکل و تصرف بالباطل عرفا فهو حرام بمتقضی النهی عنه، فیکون تملّک المال بالفسخ بدون رضا مالکه أکلاً للمال بالباطل.

نعم، إذا أذن الشارع - و هو المالک الحقیقی - فی التصرف و لو من دون رضا مالکه الاعتباری یخرج من البطلان موضوعا و تخصّصا لحکومة الشارع علی أنّه لیس من اُکل المال بالباطل لا حکما و تخصیصا.(3).

و بعد ورود إذن الشارع لا یحکم العرف المتشرعة بکونه مصداقا للباطل کما فی حقّ المارّة و الأخذ بالشفعة و الفسخ بالخیار نحو خیاری الحیوان و المجلس - و أمّا الأخذ

بالخیارات المستندة إلی الشرط الارتکازی أو المجعولة بتوسط المتعاقدین فلیس مِنْ أوّل الأمر أکلاً للمال بالباطل عرفا - و الأسباب القهریة نحو: الإرث و الارتداد و الإتلاف فی

ص:125


1- (2) المکاسب 3/55.
2- (3) حاشیة المکاسب 1/359.
3- (4) کما یراه الفقیه الیزدی تخصیصا و خروجه عن البطلان حکما لا موضوعیّا فی حاشیته علی المکاسب 1/360.

حال الغفلة.

ولکن اورد المحقق السیّد الخوئی علی الاستدلال بالآیة الشریفة بقوله: «هذا الاستدلال مبنیٌّ علی أن یکون المراد من الباطل هو الباطل العرفی لکی یکون ذلک أمرا معلوما فی نظر أهل العرف و متمیّزا عن السبب الصحیح، و أما لو اُرید منه الباطل الواقعی - کما هو الظاهر لأنّ الألفاظ موضوعة للمفاهیم الواقعیة - أو احتملت إرادة ذلک من کلمة الباطل فی الآیة فلا یمکن الاستدلال بها علی المقصود، لأنّا نحتمل احتمالاً عقلائیا أن یکون الفسخ من الأسباب الصحیحة للأکل لا من الأباطیل الواقعیة، و علیه فیکون التمسک بالآیة فی المقام من قبیل التمسک بالعام فی الشبهات المصداقیة. و هذا ظاهرٌ»(1).

أقول: المخاطب بالآیة الشریفة کغیرها من الأدلة الشرعیة هو العرف فلابدّ من حملها علی المعانی العرفیة و إلاّ صارت مجملة کما مرّ منّا فی اوائل هذا المجلد، و حیث أنّ الآیة الشریفة وردت بالنسبة إلی الأموال و مالکیتها و المالکیة یعدّ من الاُمور الاعتباریة لا الواقعیة فحینئذ - فی المقام - یکون مراده قدس سره من المفاهیم الواقعیة - هو الاعتباریة منها - و علی هذا لأجل عدم تطرق الإجمال فی الآیة الشریفة لابدّ من حمل کلمات الباطل و التجارة و التراضی علی المعانی العرفیة منها، ولکن للشارع الحکومة علیها و تعینها فی موارد خاصة و ما ذکرهُ الشارع یخرج من المعانی العرفیة بالتخصّص و الموضوع تعبدا لا التخصیص و الحکم کما مرّ آنفا فحینئذ یری العُرْفُ رجوعَ المالک السابق أو فَسْخَهُ خارِجا عن التجارة عن تَراضٍ فیحکم ببطلان الرجوع و عدم نفوذ الفسخ و یندفع اشکال المحقق الخوئی قدس سره و اللّه العالم.

ص:126


1- (1) مصباح الفقاهة 2/141.
6- أخبار خیار المجلس

هُناکَ عدّة من الروایات تدل علی خیار المجلس:

منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : البیّعان بالخیار حتّی یفترقا، و صاحب الحیوان بالخیار ثلاثة أیام.(1)

منها: صحیحة زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سمعته یقول: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

البیّعان بالخیار حتّی یفترقا، الحدیث.(2)

و منها: معتبرة بل صحیحة فضیل عن أبی عبداللّه علیه السلام - فی حدیث - قال: قلت له: ما الشرط فی غیر الحیوان؟ قال: البیّعان بالخیار ما لم یفترقا، فإذا افترقا فلا خیار بعد الرضا منهما.(3)

و منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: أیّما رجل اشتری من رجل بیعا فهما بالخیار حتّی یفترقا، فإذا افترقا وجب البیع، الحدیث.(4)

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم قال: سمعت أباجعفر علیه السلام یقول: بایعت رجلاً فلما بایعته قمتُ فمشیتُ خُطا ثم رجعت إلی مجلسی لیجب البیع حین إفترقنا.(5)

هذه الروایات و أمثالها تدل علی لزوم البیع بعد تفرقة المتبایعین، و من المعلوم أنّ البیع المعاطاتی أیضا بیع بالحمل الشایع و عند العرف و العقلاء و الشرع فتکون مشمولة لعموم الروایات الماضیات.

ص:127


1- (2) وسائل الشیعة 18/5، ح1، الباب 1 من أبواب الخیار.
2- (1) وسائل الشیعة 18/5، ح2.
3- (2) وسائل الشیعة 18/6، ح3.
4- (3) وسائل الشیعة 18/6، ح4.
5- (4) وسائل الشیعة 18/8، ح3، الباب 2 من أبواب الخیار.

ان قلت: هذا الروایات و إن دلت علی لزوم البیع بعد تفرقة المتبایعین عن مجلس العقد، إلاّ أنّ المراد من اللزوم هو اللزوم من ناحیة خیار المجلس فقط لا علی وجه الاطلاق، و الشاهد علیه امکان وجود الخیارات الاُخر فی البیع فإذن لا تدل هذه الروایات علی لزوم البیع مطلقا.

قلت: هذا الاحتمال ممکن فی مقام الثبوت ولکنّه خلاف الظاهر من الروایات فی مقام الإثبات، فإن اطلاقها یقتضی اللزوم بعد التفرق، فلا موجب لصرفها إلی اللزوم من ناحیة خیار المجلس فقط. کما فی المصباح.(1)

نعم: یمکن تقیید هذا الاطلاق بالأدلة الواردة فی اثبات غیرها من الخیارات کما فی کلِّ اطلاق، ولکن الاطلاق بالنسبة إلی الموارد الاُخر موجودٌ و منها: لزوم البیع باق و یجری و یثبت به اللزوم فی البیوع.

7- قوله تعالی: «اوفوا بالعقود»

(2)

الأمر الوارد فی الآیة الشریفة یکون إمّا إرشادیا أو مولویا:

علی الأوّل: یکون الأمر ارشادا إلی صحة المعاملة و لزومها، بناءً علی أنّ المراد بالعقود هی العهود - کما یأتی - أو لم یبن، فالآیة تدل علی وجوب الوفاء بکلِّ ما صدق علیه عنوان العهد أو العقد عرفا، و من المعلوم أنّ المعاطاة عهد أو عقد عرفی کسائر العهود أو العقود، فتکون مشمولة بِعُمُوْمِ الآیة الشریفة.

و علی الثانی: - کما علیه الشیخ الأعظم فی أوّل الخیارات(3) - یکون الأمر بالوفاء مولویا و دلالتها علی اللزوم یحتاج إلی تقدیم مقدمات:

ص:128


1- (5) مصباح الفقاهة 2/143.
2- (6) سورة المائدة /1.
3- (1) المکاسب 5/17.

الاُولی: هیئة «افعل» ظاهرةٌ فی الوجوب التکلیفی و بعث المکلّف نحو المادة و لا یرفع الید عن الظهور إلاّ بالقرینة القطعیة و هی مفقودة فی المقام فلا یمکن حمل الأمر علی الإرشاد.

الثانیة: الوفاء هُوَ عبارة عن القیام بمقتضی العقد کما عن البیضاوی(1).

الثالثة: العقود الواردة فی الآیة الشریفة لغویّا عبارة عن: «العقد نقیض الحلّ» کما عن ابن منظور(2)، أو «الجمع بین أطراف الشیء و یستعمل ذلک فی الأجسام الصلبة کعقد الحبل و عقد البناء، ثم یستعار ذلک للمعانی نحو عقد البیع» کما عن الراغب(3)، أو «عَقَدَ الحبلَ و البیعَ و العهدَ یعقده: شدَّه» کما عن الفیروزآبادی(4)، أو «العقدُ: العهد الموثّق» کما عن البیضاوی(6)، أو «العقود جمع عقد بمعنی معقود، و هو أو کد العهود، و الفرق بین العقد و العهد: أنّ العقد فیه الاستیثاق و الشدّ، و لا یکون إلاّ بین متعاقدین، و العهد قد ینفرد به الواحد، فکلُّ عهدٍ عقدٌ، و لا یکون کلّ عقدٍ عهدا، و أصله: عقد الشیء بغیره، و هو و صلُه به کما یعقد الحبل» کما عن الطبرسی(5).

و قد نقل الطبرسی بعد تفسیر العقود بالعهود - و کما فی صحیحة عبداللّه بن

سنان(6) - أقوالاً أربعة فی العقود الواردة فی الآیة:

أحدها: العهود التی کان أهل الجاهلیة یعاهد بعضهم بعضا علی النصرة و المؤازرة و

ص:129


1- (2) تفسیر البیضاوی /112 من طبع الحجری.
2- (3) لسان العرب 3/296.
3- (4) المفردات /341.
4- (5) القاموس المحیط 1/315.(5) تفسیر البیضاوی/112، طبع الحجری.
5- (7) مجمع البیان 2/151.
6- (1) تفسیر القمی 1/160.

المظاهرة علی من حاول ظلمهم.

ثانیها: العهود التی أخذها الباری علی عباده بالإیمان به و طاعته فیما أحلّ لهم أو حرّم علیهم.

ثالثها: العقود التی یتعاهدها الناس کعقد الأیمان و النکاح و العهد و البیع، أیّ العقود الفقهیة، و المعاملات بالمعنی الأعم.

رابعها: العهود المأخوذة من أهل الکتاب علی العمل بما فیها من تصدیق نبیّنا صلی الله علیه و آله ثم رجّح الطبرسی(1) القول بعموم العهود لکلّ ما اوجبه اللّه تعالی علی العباد و الفرائض و الحدود و العقود الفقهیة المتداولة بین العقلاء.

و قد زاد الفاضل النراقی علی هذه المعانی الأربعة بأربعةً أخْری.(2)

و بعد وضوح هذه المقدّماتِ الثَّلاثِ یتمّ تقریب الاستدلال: بأنّ العقد سواء کان مطلق العهد أو خصوص المؤکّد منه یصدق علی المعاطاة، اذ لا شبهة فی أنّ عنوان العهد و العقد لا ینحصر فی العهد أو العقد اللفظی و القولی و لذا یشمل الفعلی و العملی منهما و هی المعاطاة. فالشارع أمر بِالاْءیْفاء بالمعاطاة حدوثا و بقاءً، فلو لم یلتزم العاقد فی العمل بمقتضی العقد حدوثا أو بقاءً لم یصدق الوفاء به. فوجوب الوفاء بالعقد یعنی استمرار الالتزام به و هذا هو المطلوب.

ولکن جماعة من الأصحاب استشکلوا فی هذه الدلالة:

منهم: الفاضل النراقی من أنه یحتمل أن یکون المراد بالعقود فی الآیة سائر معانی العهد کالوصیة و الأمر و الضمان و قال: «و لو سلّمنا أنّ للعهد معنی یلائم العقود الفقهیة

ص:130


1- (2) راجع مجمع البیان 2/152 و 151.
2- (3) عوائد الأیام، العائدة الاُولی /(5-2).

فإرادة ذلک من الآیة غیر معلومة»(1).

و ما عنه أیضا: من أنّ العهد الموثق إمّا العقدُ اللازمُ شرعا، فلابدّ من إحرازه و معه لا حاجة إلی التمسک بالآیة، أو الموثّقُ العرفی فلابدّ من إثباته، و لیس مجرد بنائهم علی الإبقاء

علی مقتضی العقد توثیقا له، لأنّ ما لا یقصد فیه الإتیان البتة لیس عهدا فحصول التوثیق یحتاج إلی أمرٍ آخرٍ و علی المستدِّل إثبات التوثیق عرفا.(2)

و فیه: العقد سواء یترادف مع العهد أم لا، یکون من أظهر مصادیق العقد و أتمّهاالعقود الفقهیة هذا أوّلاً.

و ثانیا: صحیحة ابن سنان دَلَّتْنا علی الترادف بین العقد و مطلق العهد لا الموَثّق منه فقط حتی یَرِدَ إشکاله الثانی.

و ثالثا: علی فرض أنّ المراد بالعقد هو العهد و هو الموثّق منه لا مطلقا، یکون المراد من العهد الموثّق هو العرفی منه، و المراد منه هو الاْءتْیانُ بمقتضی العقد علی سبیل الحتم و القطع، و هذا یجری بالنسبة إلی المعاطاة البیعی أیضا.

و منهم: المحقّق الإیروانی قال: «إنّ الآیة لا تجدی لإثبات اللزوم عموما، و إنّما تجدی لإثباته فی خصوص ما إذا کان العقد متعلِّقا بالفعل لا فی العقد علی النتیجة الذی منه المقام، إذ العقد علی النتیجة إمّا أن یکون مؤثِّرا فی وقوع تلک النتیجة أو لا یکون مؤثِّرا، و علی کلّ حالٍ لا عمل خارجیٌّ له من العاقد حتّی یخاطب بخطاب «اوفوا»، و أمّا التسلیم للعوضین فذلک لیس لأجل أنّه مصداق للوفاء و إنّما هو من جهة أنّه بالعقد صار مِلکا للغیر فلا یجوز التصرف فیه بغیر إذنه...»(3).

ص:131


1- (4) عوائد الأیام /8.
2- (1) عوائد الأیام /8.
3- (2) حاشیة المکاسب 2/61.

و فیه: قد مرّ تقریب الاستدلال علی اللزوم علی کلّ من المولویة و الإرشادیة و من المعلوم أن البیع المعاطاتی کالقولی یتعلّق بالتملیک أو التبدیل من دون فرق بین العقد القولی و الفعلی، فکلّ منهما یتعلّق بالتبدیل أو التملیک الذی هو فعل یتعلّق به خطاب أوفوا، هذا.

مع أنّ العقد الواقع علی النتیجة یتعلّق به «اوفوا» باعتبار مقتضیاته، فإنّ الملکیة تَتَرَتَّبُ علیها آثارٌ من حرمة تصرف غیر المالک أو حرمة مزاحمته، فالوفاء بالملکیة عبارة عن التصرفات المترتبة علیها، کما عن المحقّق المروج.(1)

و منهم: المحقّق النائینی بعد تقریب دلالة آیة «اوفوا بالعقود» علی اللزوم سواء علی القول بتأصّل الأحکام الوضعیة أو علی القول بأنّها منتزعة عن الأحکام التکلیفیة کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره قال: «دلالة الآیة علی اللزوم فی المعاملات اللفظیّة لا إشکال فیها،

کما لا إشکال فی عدم دلالتها علیه فی المعاطاة، لعدم إمکان إفادتها له ثبوتا، مضافا إلی قیام الإجماع علی الجواز»(2).

و فیه: علی القول بترادف العقد مع العهد لا إشکال فی أنّ المعاطاة من العهود فتشملها الآیة الشریفة.

بل العقد یمکن أن یُنْشَأَ بأمرین مستقلین:

الأوّل: اللفظ و الصیغة الخاصة.

الثانی: الفعل و العمل الخارجی.

فالمعاطاة عقد تشملها الآیة الشریفة.

و أمّا الإجماع المذکور فی کلام النائینی فقد عرفت سابقا الاشکال فیه و عدم ثبوته.

ص:132


1- (3) هدی الطالب 1/548.
2- (1) منیة الطالب 1/156.

فما ذکره قدس سره غیر تام.

و الآیة الشریفة تدل علی اللزوم فی المعاطاة.

8- قوله صلی الله علیه و آله : «المؤمنون عند شروطهم»

وَرَدَ هذا الحدیثُ من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی موثقة منصور بن یونس بُزُرْج(1)، و بلفظ «المسلمون عند شروطهم» عن أمیرالمؤمنین علیه السلام کما فی حسنة إسحاق بن عمار(2) و عن غیره من الأئمة علیهم السلام کما فی صحیحتی عبداللّه بن سنان(3) و صحیحة محمّد بن مسلم(4) فهذه الروایة لیست بمرسلة کما فی نقل الأحسائی(5).

و قد تمسّک بها عدّة من أعلام الاُمّة علی اللزوم حتّی فی المعاطاة(6) أو مطلق البیع(7). و تبعهم الشیخ هنا فی بحث البیع(8) ولکن ناقشهم فی أوّل الخیارات(9) بمنع صدق الشرط

علی الالتزامات الابتدائیة ثم عاد إلی القول الأوّل - أی صدق الشرط علی الالتزامات الابتدائیة - فی بحث الشروط(10) فلابدّ من البحث حول کلمة «الشرط» هل تشمل الالتزامات الابتدائیة أم لا؟ یظهر من بعض اللغویین شموله لها:

ص:133


1- (2) وسائل الشیعة 21/276، ح4، الباب 20 من أبواب المهور.
2- (3) وسائل الشیعة 18/17، ح5، الباب 6 من أبواب الخیار.
3- (4) وسائل الشیعة 18/16، ح 1 و 2.
4- (5) وسائل الشیعة 26/55، ح1، الباب 21 من أبواب موانع الإرث.
5- (6) عوالی اللآلی 1/218، ح84 و 1/293، ح173 و 3/217، ح77 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 13/301، ح7.
6- (7) نحو المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة و البرهان 8/383.
7- (8) نحو صاحب الحدائق فی کتابه 19/4.
8- (9) المکاسب 3/56.
9- (10) المکاسب 5/21.
10- (1) المکاسب 6/12 و 11.

قال ابن فارس: «شرط: الشین و الراء و الطاء أصلٌ یدلُّ علی عَلَمٍ و علامة و ما قارب ذلک من عَلَم. من ذلک الشَرَط: العلاّمة. و أشراط الساعة: علاماتها و من ذلک الحدیث حین ذکر أشراط الساعة، و هی علامتها، و سمِّی الشُرَط لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامةً یُعَرفون بها. و یقولون: أشْرَطَ فلانٌ نفسَه للهَلکة، إذا جعلها علما للهلاک. و یقال: أشْرَطَ من إبله و غنمه، إذا أعدّ منها شیئا للبیع. قال الشاعر:

فأشْرَطَ فیها نفسَه و هو مُعْصِمٌ و ألقی بأسبابٍ له و توکُّلاً

و من الباب شَرْط الحاجم، و هو معلوم، لأنّ ذلک علامةٌ و أثَر...»(1).

و قال الزمخشری: «ش ر ط: شرط علیه کذا و اشترط و شارطه علی کذا و تشارطا علیه و هذا شَرْطِی و شَریطتی...»(2).

و قال الفیومی: «شرط: الحاجمُ شَرْطا، من بابَیْ ضرب و قتل، الواحدة شَرْطَةٌ و شَرَطْتُ علیه کذا شرطا؛ أیضا و اشْتَرَطْتُ علیه، و جمعُ الشَّرْطِ شُرُوطٌ مِثْلُ فَلْسٍ و فُلُوسٍ...»(3).

و یظهر من ابن عشیرة البحرانی أنّ «الشرط ما یمکن وقوعه و عدمه کدخول زید الدار أو یتحتّم الوقوع ولکن غیر معلوم کإدراک الثمرات و قدوم الحاج»(4). و کذا أنّ «الشرط یتعلّق بفعله و بفعل غیره... و الشرط المقصود منه مجرد التعلیق خاصة لا غیر»(5).

و قال الطریحی: «و الشرط معروف و جمعه شروط کفَلْس و فُلُوس و شرط الحاجم

ص:134


1- (2) معجم مقاییس اللغة 3/260.
2- (3) أساس البلاغة /233.
3- (4) المصباح المنیر /309.
4- (5) بَهْجَةُ الخاطِرِ و نُزْهَةُ الناظِرِ /71.
5- (6) بَهْجَةُ الخاطِرِ و نُزْهَةُ الناظِرِ /72.

شرطا من باب ضرب و قتل و شرطت علیه کذا شرطا و اشترطت علیه و منه حدیث بریرة: شرط اللّه أحقّ، یرید ما أظهره و ما بیّنه من حکم اللّه بقوله: الولاء لمن أعتق و قیل: هو إشارة إلی قوله تعالی «و إخوانکم فی الدین و موالیکم»(1) و الشریطة فی معنی

الشرط و جمعها شرائط»(2).

و أنت تری أنّ کلماتهم مطلقة تشمل الالتزامات الابتدائیة کما أنّ الشرط استعمل فی عدّة من النصوص هکذا نحو: صحیحة محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام حدیث: أنّ شرط اللّه قبل شرطکم، الحدیث(3).

و نحوها مرسلة ابن مسلم(4).

و صحیحة علی بن رئاب عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: الشرط فی الحیوان ثلاثة أیام للمشتری اشترط أو لم یشترط، الحدیث(5).

و نحوها صحیحة فضیل(6).

و قوله صلی الله علیه و آله فی قضیة بریرة: الولاء لمن أعتق و شرط اللّه آکد و کلُّ شرطٍ خالف کتاب اللّه فهو رُدّ، الحدیث(7).

ص:136


1- (7) سورة الأحزاب /5.
2- (1) مجمع البحرین /363 من طبع الحجری.
3- (2) وسائل الشیعة 21/296، ح1، الباب 38 من أبواب المهور.
4- (3) وسائل الشیعة 21/277، ح6، الباب 20 من أبواب المهور.
5- (4) وسائل الشیعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخیار.
6- (5) وسائل الشیعة 18/11، ح5، الباب 3 من أبواب الخیار.
7- (6) مستدرک الوسائل 13/300، ح2، الباب 5 من أبواب الخیار - راجع فی قصة بریرة وسائل الشیعة 23/65، ح2، الباب 37 من أبواب کتاب العتق. صحیحة الحلبی و أربعین البهائی مع تعلیقة الخواجوئی /(509-499)، سنن البیهقی 15/555، باب بیع المکاتب، ح 22344.

و قد ورد عن سیّد الساجدین علی بن الحسین علیه السلام فی دعاء التوبة من الصحیفة الشریفة: «و قد قلت یا إلهی فی محکم کتابک إنّک تقبل التوبة عن عبادک و تعفو عن السیئات و تحبّ التوابین فاقبل توبتی کما وعدت واعف عن سیئاتی کما ضمنت و أوجب لی محبتک کما شرطت و لک یا ربّ شرطی ألاّعود فی مکروهک و ضمانی أن لا أرجع فی مذموک و عهدی أن أهجر جمیع معاصیک...»(1).

و ماورد فی دعاء الندبة من قوله علیه السلام : «بعد أن شرطت علیهم الزهد فی درجات هذه الدنیا...»(2).

ولکن مع ذلک کلّه ورد التخصیص فی الشرط بحیث لا یشمل الالتزامات الابتدائیة

فی کلمات بعض اللغویین:

منهم: ابن منظور قال: «الشرط: إلزام الشیء و التزامه فی البیع و نحوه و الجمع شروط»(3).

و منهم: الفیروزآبادی قال: «الشرط: إلزام الشیء و التزامه فی البیع و نحوه کالشریطة جمعه شروط»(4).

و منهم: سعید بن عبداللّه الخوری الشرتونی صاحب أقرب الموارد قال: «شرط علیه فی البیع و نحوه شرطا: ألزمه شیئا فیه»(5).

فظهر مما ذکرنا عدم تفرد صاحب القاموس بالتخصیص کما یظهر من الشیخ

ص:136


1- (7) الصحیفة السجادیة. الدعاء الحادی و الثلاثون، دعاء التوبة و طلبها.
2- (8) مصباح الزائر /446 و نقل عنه فی بحارالأنوار 102/104.
3- (1) لسان العرب 7/329.
4- (2) القاموس / ذیل مادة شرط من طبع الحجری (2/368).
5- (3) أقرب الموارد 1/583.

الأعظم.(1)

و أمّا ما ذکر من الروایات و الأدعیة فَیُمْکِنُ حملها علی الالتزامات المعاملیة أو الضمنیة و غیر الابتدائیة(2) و ما لا یمکن حملها کذلک فغایة ما یمکن أن یقال فیها أنها استعمالٌ و الاستعمال أعمٌ من الحقیقة. فعلیه صدق الشرط علی الالتزامات الابتدائیة مشکلٌ. خلافا للفاضل النراقی(3) و الفقیه الیزدی(4) فإنّهما یَرَیانِ الصدق و الشمول و السیّد الإشکوری(5) فإنّه یراه الإنصاف. و تبعهم الفقیه السبزواری(6).

مضافا إلی حمل الروایة علی الالتزام التکلیفی لا الوضعی، فصار معناها یجب علی کلّ مؤمن الوفاء بشرطه تکلیفا کما عن المحقّق الإصفهانی(7) و ظاهر السیّد المحقق الخوئی(8).

و أمّا حملها علی خطاب أخلاقی مسوق لما یقتضیه الإیمان و یقود إلیه، نظیر «المؤمن

إذا و عد وفی» فلا یمکن استفاده الوجوب منها کما عن المحقّق الإیروانی(9) محل تأمل بل منع.

و الحاصل: استفادة اللزوم من هذه الروایة لملعاطاة علی القول بالملک مشکلٌ جدّا.

ص:137


1- (4) المکاسب 6/12.
2- (5) راجع فی هذا المجال إلی حاشیة المکاسب 5/(109-105) للمحقّق الإصفهانی.
3- (6) راجع عوائد الأیام /142.
4- (7) راجع حاشیته علی المکاسب 1/361 و 3/329.
5- (8) مهذب الأحکام 16/232.
6- (9) بُغْیة الطالب فی شرح المکاسب 1/77.
7- (10) حاشیته علی المکاسب 1/148.
8- (11) مصباح الفقاهة 2/142.
9- (1) حاشیة المکاسب 2/62.
ثمّ یقع الکلام فی ملزمات المعاطاة علی القول بأنّها جائزة ذاتا:
منها: تلف العوضین
اشارة

لا اشکال و لا خلاف عندهم فی أنّه لو تلف العینان فی بیع المعاطاة صارت لازمة کما فی الحدائق(1) و شرح القواعد(2) و المناهل(3) و المفتاح(4) و الجواهر(5).

أمّا علی القول بالإباحة: فواضح لأنّ یجوز لکلٍّ من المتعاطیین الرجوع فی ماله لأن المال باقٍ علی ملک معطیه ولکن مع بقاء العینین و أمّا اذا تلفتا لزمت المعاطاة لا متناع الرجوع.

لا یقال: المتعاطیین وضع یدهما علی مال الآخر لأنّ مالکه أباح له التصرف فیه، و من المعلوم أنّ للمالک استرداد ماله من المباح له مادام موجودا، و لو تلف استقرّ بدله علیه، فکلّ منهما ضامن لمال الآخر بمقتضی «علی الید ما أخذت حتّی تؤدی» و قاعدة الضمان أیّ من أتلف مال الغیر فهو له ضامن، فإذا جاز الرجوع إلی بدل العینین فقد استمرت الإباحة و لم تلزم المعاطاة بمجرد تلف العینین، لأنّ التلف غیر مانع من الرجوع إلی البدل و المراد به الرجوع إلی المثل أو القیمة لا ما قابله فی المعاطاة.

لأنا نقول: لا تجری هنا قاعدة الضمان أیّ من أتلف مال الغیر فهو له ضامن و کذا لا تجری قاعدة علی الید ما أخذت حتّی تؤدی، لأنّ الأولی تختص بمورد لم یعط المتلف بإزاء المال الغیر مالاً آخرا مع رضایة صاحب المال و المعطی و إلاّ ذمته مشغولة بذاک المال

ص:138


1- (2) الحدائق 18/362.
2- (3) شرح القواعد 2/28 للشیخ جعفر قدس سره .
3- (4) المناهل /269 من طبع الحجری للسیّد محمّد المجاهد قدس سره .
4- (5) مفتاح الکرامة 12/506.
5- (6) الجواهر 22/230.

المُعْطی.

و الثانیة تختص بالید المضمنة و هی إمّا الید العدوانیة أو الید المشروط علیها الضمان و کلتاهما منتفیتان فی المقام، لأنّ المفروض حکم الشارع بإباحة التصرف فی المأخوذ بالمعاطاة، فالید السابقة لم تکن مضمنة قطعا لاستنادها إلی إذن الشارع و إذا تلفت العین

امتنع انقلاب الید عمّا هو علیه، فلابدّ من استناد الضمان إلی موجب آخر و المفروض عدمه.

نعم: هذا البیان إنّما یتمّ علی القول بکون الإباحة المترتبة علی المعاطاة - المقصود بها الملک - إباحة مالکیة.

ولکن إذا قلنا بأنّها إباحة شرعیة - کما هو الظاهر فلا یتم ما ذکرناه أخیرا تبعا للشیخ الأعظم(1) قدس سره - فیجری ما أفاده قدس سره فی مناقشاته(2) لکاشِفِ الغطاء رحمه الله من الالتزام بحصول الملکیة آنا ما قبل التلف فیکون التلف فی ملک المالک الثانی و یکون ضامنا بضمان المسمّی، لأنّ الإجماع یقتضی عدم ثبوت الضمان بالمثل أو القیمة، و قاعدة ضمان الید تقتضی کون التلف من ذی الید لأنّ المفروض أنّ المعاطاة لم تفد إلاّ الإباحة الشرعیة فحینئذ لابدّ أن یقال جمعا بین الأدلة ببقاء المال فی ملک مالکه الأوّل ولکن آنا ما قبل التلف یدخل فی ملکیة الثانی و إذا حصلت الملکیة للثانی فذمّته مشغولة بالضمان المسمّی فقط کما نبّه علیه المحقّق الخوئی(3) رحمه الله تبعا لاُستاذه المحقّق النائینی(4) قدس سره .

و أمّا علی القول بالملک: فلابدّ أوّلاً من تمهید مقدمة و هی:

تقسیم اللزوم و الجواز إلی القسمین و هما الحکمی و الحقّی

ص:139


1- (1) المکاسب 3/96 و 98.
2- (2) المکاسب 3/49.
3- (3) مصباح الفقاهة 2/199.
4- (4) منیة الطالب 1/197.

اللزوم الحکمی: هو ما کان باقتضاء من ذات المعاملة مع قطع النظر عن التزام المتعاملین بل نفس طبع المعاملة أینما تحققت تقتضی اللزوم و یترتب علیه عدم وقوع الإقالة فیها و عدم صحة شرط الفسخ فیها و عدم انفساخها بالفسخ إلاّ أن یرد دلیل بالخصوص علی انفساخها بالفسخ أو الاقالة فیؤخذ به بمقدار دلالته و یقتصر علیه و ذلک کالنکاح.

اللزوم الحقّی: هو ما کان ناشئا عن اقتضاء التزام المتعاملین علی مضمون المعاملة من غیر أن یکون فی ذات المعاملة اقتضاء اللزوم و یترتب علیه صحة شرط الفسخ فیها و قبولها للإقالة و انفساخها بالفسخ کالوکالة بشرط عدم عزل الوکیل.

و مما ذکرنا من تعریف اللزومین یظهر تعریف الجوازین و هما:

الجواز الحکمی: هو ما کان باقتضاء من ذات المعاملة و طبعها مع قطع النظر عن

توافق المتعاملین علی الجواز و یترتب علیه وقوع الاقالة فیها و جواز فسخها نحو عقدی الهبة و الوکالة.

الجواز الحقّی: و هو ما کان ناشئا من توافق المتعاملین علی الجواز من دون أن یکون الجواز فی ذات المعاملة نحو جعل الخیار و شرط الفسخ لأحد المتعاملین أو کلیهما فی البیع.

ثم ذهب الشیخ الأعظم(1) قدس سره إلی أنّه علی القول بالملک یحکم بلزوم المعاطاة و المتیقن من مخالفة دلیل اللزوم فی المعاطاة - بسبب الإجماع علی القول به - هو صورة إمکان ترادّ العینین فمع تلفهما و امتناع الترادّ یرتفع فرض إمکان الجواز و یثبت اللزوم.

یظهر منه قدس سره اختصاص ثبوت جواز الحکمی بصورة بقاء العینین فلا یصح الرجوع

ص:140


1- (1) المکاسب 3/96 السطر الأخیر.

مع التلف لارتفاع مورده بخلاف جواز الحقّی فإنّه یصح مع بقائهما و تلفهما إلاّ أنّه عند التلف یرجع إلی المثل أو القیمة، و عدم تمامیة هذا البیان یظهر ممّا ذکرنا فی تعریف الجوازین لأنّ الجواز الحکمی لیس مختصا بصورة بقاء العینین علی نحو الإطلاق بل یفصل فیه بین ما کان بناء المعاملة علی الضمان و کانت معاوضیة و بین ما لم تکن کذلک کالهبة فیشرط جواز الرجوع ببقاء العین أو العینین فی الثانی دون الأوّل.

أمّا الأوّل فلانّ بناء المعاملة علی الضمان المسمّی، فإذا سلم المسمّی فهو و مع عدمه إمّا بفساده من الأوّل أو بواسطة الرجوع فلابدّ من الرجوع إلی المثل أو القیمة و لیس التلف فی هذه الصورة مانعا عن الرجوع بعد إمکانه بأخذ المثل أو القیمة.

أما الثانی فلانّ المعاملة لیست مبنیّة علی الضمان فالواهب إنّما وهب العین للمتهب لکی یتلقه بلا ضمان له بالمثل أو القیمة فإذا کان باقیا فی ید المتهب فله الرجوع بعین ماله فإذا تلف فلیس له الرجوع بأخذ مثله أو قیمته لکون مبنی المعاملة علی عدم التضمین بالمثل و القیمة کما یظهر هذا الاشکال و التعاریف من المحقّق النائینی(1) قدس سره .

أقول: هذا الاشکال یرد علی ظاهر عبارة الشیخ من قوله قدس سره : «... فلما عرفت من إصالة اللزوم و المتیقن من مخالفتها جواز ترادّ العینین و حیث ارتفع مورد الترادّ امتنع»(2). ولکن علی ما ذکرنا من تقریب کلام الشیخ فلا یرد و الحمدللّه.

ثمّ قال المحقّق النائینی: «إذاصارت المعاطاة لازمة بالتلف أو بغیره من الملزمات فهل هذا اللزوم الطاری حقّیٌ أو حکمیٌّ لا یخلو کلٍّ منهما عن إشکال لبُعد اللزوم الحقی بلا التزام فی البین کما هو المفروض، و کون البیع المعاطاتی بعد تلف العینین أو أحدهما [صار] لازما

ص:141


1- (2) المکاسب و البیع 1/227 و 230.
2- (3) المکاسب 3/96.

کالنکاح بحیث یحکم بعدم صحة التقایل فیه و عدم قابلیة لاشتراط الفسخ یکون أبعد لعدم الالتزام بأحکام اللزوم الحکمی فیه من أحدٍ من الأصحاب.

و حلّ الإشکال هو اختیار کون اللزوم فیه حقیّا لا حکمیّا، بدعوی عدم الحاجة فی اللزوم العقدی إلی الالتزام العقدی دائما بل یکتفی فی تحققه بجعله من الشارع، و هذا کالجواز الحقی حیث أنّه قد یکون بجعل المتعاملین کما فی خیار الشرط، و قد یکون بجعل الشارع کما فی خیار المجلس و الحیوان، و کذلک اللزوم الحقّی، تارة یکون بجعل المتعاملین کما فی المعاملة العقدیة و اُخری یکون بجعل الشارع کما فی المعاطاة عند تغیّر العینین عمّا هو علیه فهذا اللزوم حقّیٌ یترتب علیه صحة التقایل و غیره ممّا یترتب علی اللزوم الحقی لکنّه لا یکون بواسطة التزام المتعاملین بل إنّما هو بجعل الشارع فتبصر»(1).

أقول: ما ذکره قدس سره صحیح ولکن لابدّ مِنْ إصلاحِ التعاریف الماضیة بما ذکره أخیرا و الأمر سهل لأنَّهُ لا مُشاحَّةَ فی الاصطلاح.

لا یقال: إذا ثبت بالإجماع جواز الملک قبل التلف فی المعاطاة و شُک فی انتفاء ذاک الجواز بالتلف، من الممکن إحراز استصحاب الجواز و الحکم بعدم لزوم الملک بعد التلف أیضا و نتیجتها جواز فسخ المعاملة بعد التلف و الرجوع بالمثل أو القیمی.

لأنّ الشیخ الأعظم(2) قدس سره أجابَ عن هذا الإشکال بجوابین:

الأوّل: الفرق بین الجواز فی العقد الخیاری و الجواز فی المعاطاة فإنّ الأوّل بمعنی انحلال العقد و فسخه و لذا یجری بعد تلف العین أیضا لأنّ متعلِّقه العقد و هو باق علی حاله و لو بعد تلف العین أو العینین، ولکن الثانی بمعنی الرجوع فی العین و جواز تملّکها مجددا و

ص:142


1- (1) المکاسب و البیع 1/230.
2- (2) المکاسب 3/97.

الجواز لا یتعلق بنفس المعاطاة بل بموضوع الترادّ، فعلیه بعد تلف العین أو العینین فلا یمکن الرجوع فیها و کذا لا یمکن تملّکها فلا یجری الجواز لإنعدام موضوعه و مع الانعدام لا یجری الاستصحاب.

الثانی: حتّی علی التردّد فی أنّ متعلق الجواز فی المعاطاة هل هو نفس المعاطاة أو

الرجوع فی العین أو العینین أیّ الترادّ من الطرفین لا یجری الاستصحاب، لأنّ من شرائط جریان الاستصحاب هو إحراز اتحاد الْقضیَّتَیْن المتیقنة و المشکوکة و مع عدم إحرازهما - لأنّه علی فرض تعلّق الجواز بالرجوع فی العین أو العینین فلا یبقی موضوع فی البین حتّی یستصحب و کذا تختلف القضیّتانِ - فلا یجری الاستصحاب.

إن قلت: غایة ما یمکن أن یقال علی تقریب الشیخ الأعظم قدس سره عدم جریان استصحاب فرد الجواز لإنعدام موضوعه أو لِعدم إحراز قضیتی المتیقنة و المشکوکة، ولکن یجری استصحاب کلّی الجواز بتقریب: الاجماع یدلّ علی أنّ المعاملة المعاطاتیة حتّی علی القول بالملک جائز إجمالاً، و لا یُدری هذا الجواز الذی یتعلّق بها هل هو الجواز الصغیر أی إلی بقاء العینین و امکان ترادّهما أو المتعلَّق بها هو الجواز الکبیر أی إلی ما بعد تلف العینین و بعد عدم إمکان تَرادّهما، فیستصحب کلّی الجواز علی نحو استصحاب القسم الثانی من الکلّی المتفق علیه جریانه.

قلت: لا یجری استصحاب القسم الثانی من الکلّی فی المقام لعدّة من الوجوه:

منها: الإجماع دلیل لبّی لابدّ من الأخذ بالقدر المتیقن منه و هو هنا جریان جواز إلی بقاء العینین و إمکان ترادّهما.

و منها: المناط فی عدم جریان الاستصحاب هنا هو الشک فی بقاء موضوعه نظیر العلم باجتهاد الفردین الأوّل أو الثانی، و الأوّل منهما مات فلا یجوز تقلیده و الثانی منهما حیٌّ و إن کان هو المجتهد فیجوز تقلیده ولکن لا ندری لعلّ الأوّل یکون مجتهدا بخلاف

ص:143

الاستصحاب الکلّی القسم الثانی لأنّ موضوعه هو الکلّی.

و منها: ثم علی فرض جریان استصحاب القسم الثانی من الکلّی فی المقام لا یفید شیئا لأنّ الآثار المختصة بکلِّ فرد لا تترتب علیه بخلاف آثار الکلّی لأنّها تترتب و جواز فسخ المعاطاة بعد تلف العینین من الآثار المختصة للفرد الطویل فلا تترتب، فعلیه لا یترتب علی جریان الاستصحاب الکلّی أثرا و مع عدم ترتب الأثر لا یجری لأنّه من الاُصول العملیة.

إن قلت: نعم، استصحاب الکلّی القسم الثانی لا یجری فی القام، ولکن یمکن جریان استصحاب الفرد المردد کالحدوث المردد بین الأصغر و الأکبر بعد الوضوء بحیث یکون فعلاً مرددا بین ما هو مقطوع الارتفاع إذا کان الحدث أصغرَ لأنّه تؤضأ و بین ما هو مقطوع البقاء إذا کان الحدث أکبرَ لإنّه لا یغتسل و لذا تترتب الآثار المختصة بالحدث الأکبر.

بتقریب: أنَّ هنا فَرْدَیْنِ للجواز، الفرد الأصغر و هو الجواز إلی تلف العینین و امکان ترادّهما، و بعد تلف العینین هذا الجواز قد ارتفع یقینا، و الفرد الأکبر و هو الجواز إلی ما بعد تلف العینین و بعد عدم امکان التراد، و هذا الفرد الأکبر بعد تلف العینین یکون باقیا قطعا، و لذا باستصحاب الفرد المردد نستصحب الفرد الأکبر من الجواز و تترتب علیه آثاره المختصة له.

قلت: نمنع من جریان استصحاب الفرد المردد لا سیما بعد القطع بارتفاع الفرد الأصغر، بأنّ الفرد المردد إذا کان الأصغر قد ارتفع یقینا بعد التوضی فی المثال و بعد تلف العینین فی المقام، و إذا کان الأکبر فهو مشکوک الحدوث من الأوّل فلا یجری الاستصحاب فی حقّه. هذا أولاً.

و ثانیا: الفرد المردد بما هو مردد لا ماهیة له و لا وجود، فلیس موضوعا لأثرٍ شرعیٍ حتّی یصح التمسک بالاستصحاب لإثبات ذاک الأثر.

ص:144

و ثالثا: استصحاب الفرد المردد لا یجری - بنظرنا القاصر - بلا فرق بین صورتی الشک فی ارتفاع الفرد القصیر علی تقدیر حدوثه، و الیقین بارتفاعه علی تقدیر حدوثه و التفصیل یطلب من بحث الاصول و الحمدللّه.

و قد اعترض المحقّق السیّد الخوئی علی الشیخ الأعظم بقوله: «إن کان المراد من الترادّ هو الترادّ الخارجی فهو غیر مفید بدیهة أن مجرد ردّ العین خارجا مع بقائهما فی ملک الآخر بالمعاطاة لا یترتب علیه أثر.

و إن کان المراد من الترادّ هو فسخ العقد [الذی] لا یکون إلاّ بتراد العین خارجا، أو بعد تحقق التراد فی الخارج فهو متین، ولکنّه لیس شیئا آخر وراء تعلق الخیار بنفس العقد، لأنّ الأدلة الدالة علی لزوم العقود إنّما تدل علی لزوم کلّ عقد، و قد قام الاجماع علی أنّ المعاطاة المقصود بها الملک تفید الإباحة إلی زمان معین، و من الواضح أن الاجماع لبیٌّ، فلا یؤخذ منه إلاّ بالمقدار المتیقن، و هو ما إذا أمکن تراد العینین، و فی غیر هذه الصورة یتمسک بعموم العام.

و إذن فلابدّ للمصنف أن یعلّل لزوم المعاطاة مع تلف العینین بأنّ المأخوذ بالمعاطاة إنّما تلف من ملک المالک الثانی، فلا یجوز للمالک الأوّل أن یرجع إلیه، إذا المتیقن من جواز الرجوع إنّما هو صورة الفسخ بترادّ العینین و هو غیر ممکن مع تلفهما»(1).

ولکن یرد علیه: أنّ المعتبر فی المعاطاة من جواز الرجوع لیس فرض الفسخ بترادّ العینین أی الفسخ الخاص بل هو الفسخ المطلق و الشاهد علیه أنّه إذا فسخ أحد المتعاطیین المعاطاة قولاً مع بقاء العینین ولکن لم یسلم العین إلی مالکه الأوّل بعد الفسخ عصیانا، لا ریب فی انفساخ المعاطاة و عصیان المانع. و هذا یدل علی أنّ المعتبر فی المعاطاة نفس الفسخ

ص:145


1- (1) مصباح الفقاهة 2/200.

- لا الفسخ الخاص و هو المشروط بترادّ العینین - غایة الأمر المتیقن من وجود الإجماع جواز الفسخ حال امکان ترادّ العینین، و إذا شک فی ثبوته فی حالة اُخری کتلف إحدی العینین فیستصحب جواز الفسخ کما فی سائر موارد الاستصحاب و کما علیه شیخنا الاُستاذ(1) قدس سره .

و کذا استشکل الاُستاذ(2) قدس سره علی الشیخ الأعظم رحمه الله بعدم وجود الفرق بین جواز فسخ الهبة أو المعاطاة و جواز الفسخ فی موارد الخیار إلاّ أنّ جواز الفسخ فیهما حکمیٌّ لا یسقط بالإسقاط و جواز الفسخ فی الخیارات حقّیٌ قابل للإسقاط، فعلیه علی القول بترتب الملکیة الجائزة علی المعاطاة، یحکم بجواز فسخها و بعد تلف أحد العینین أو کلیهما یستصحب ذلک الجواز کاستصحاب الخیار بعد طرو ما یحتمل معه زواله، و مع جریان استصحاب الجواز لا مجال لإستصحاب بقاء الملک المالک الثانی الذی حصل ملکه بالمعاطاة، لأنّ استصحاب بقاء جواز الفسخ حاکم علیه و مع جریانه لا یبقی موضوع له.

أقول: یرد علی الاُستاذ قدس سره ما مرّ منّا من أنّ الملک یفید اللزوم، قد خرج من هذا العام المعاطاة علی القول بالملک إجماعا بأنّها تفید الملکیة الجائزة - علی مسلک القوم - و بعد تلف العینین نشک فی بقاء اللزوم علی القاعدة الأوّلیة أو الجواز للإجماع و حیث کان دلیل الجواز الإجماع و هو دلیل لبّیٌ یؤخذ بالقدر المتیقن منه، و هو بقاء الجواز قبل تلف العینین و فیما بعد التلف نرجع إلی القاعدة الأولیة و هی اللزوم فلا نشک فی حکم ما بعد التلف حتّی نحتاج إلی الاستصحاب و الحمدللّه.

ص:146


1- (1) إرشاد الطالب 2/89.
2- (2) إرشاد الطالب 2/90.
فذلکة القول فی المقام

تلف العوضین یوجب اللزوم فی المعاطاة بلا فرق بین القول بالملک و الاباحة ولکن قبل التلف یحکم بالجواز فیها بلا فرق أیضا بین قولی الملک و الإباحة - علی مسلک القوم - و الوجه فی ذلک باختصار:

قبل تلف العینین یحکم بجواز الرجوع: أمّا علی القول بالاباحة فواضح لأنّ کُلاًّ منهما یرجع إلی ملکه و أمّا علی القول بالملک لقیام الإجماع علیه بأنّ متقضی القاعدة اللزوم لکن المعاطاة خرج منها بالإجماع و القدر المتیقن منه قبل تلف العینین.

و بعد تلف العینین یحکم باللزوم: أمّا علی القول بالاباحة فلانتقال کلّ من العینین من مالکها الأوّل إلی الآخر آنا ما قبل التلف، فتلف فی ملک نفسه و لذا یحکم باللزوم و عدم الرجوع إلی المثل و القیمة جمعا بین الدلیلین القول بالاباحة و الاجماع علی عدم الرجوع إلی المثل و القیمة بعد التلف.

و أمّا علی القول بالملک: فَإنَّ الملک یقتضی اللزوم و قد خرج من هذا اللزوم المعاطاة إجماعا و الإجماع دلیل لبّیٌ یؤخذ بالقدر المتیقن منه و هو الجواز قبل تلف العینین و بعده یرجع إلی اللزوم الاوّل.

ثم إنّ هنا أصْلَیْنِ آخَرَیْنِ یمکن اثبات اللزوم بهما بعد التلف:

أحدهما: استصحاب بَراءَةِ ذمّة کلّ واحد من المتعاطیین عن ضمان المثل أو القیمة عند تلف العینین، أو بَراءَةِ ذمّة من وقع عنده التلف لو کان التالف إحدی العینین، و هذا الأصل لا غبار علیه ضرورة أنّ التالف قبل الرجوع مضمون بالمسمی و بعد الرجوع یشک فی ثبوت الضمان بالمثل أو القیمة و یکون المرجع فی هذا الشک هو أصالة العدم.

و ثانیهما: استصحاب بقاء الملکیة الثابتة آنا ما قبل التلف - التی قد مرّ منّا توضیحها - لإثبات عدم جواز الرجوع إلی المثل أو القیمة ضرورة أنّ عدم جواز الرجوع

ص:147

من آثار تلک الملکیّة الثابتة قبل التلف، إذ لا ملکیة بعده لسلب الملکیة بعد التلف بسلب موضوعها.

و قد نبّه المحقّق النائینی(1) علی هذین الأصلین فی المقام و قد مرّ منّا أیضا أنّ عدم الرجوع إلی المثل أو القیمة بعد تلف العینین فی المعاطاة إجماعیٌ. هذا تمام الکلام فی تلف العوضین و الحمدللّه.

و منها: تلف إحدی العینین

المشهور بین الأعلام صیرورة المعاطاة لازما بعد تلف إحدی العینین کما علیه الشهید(2) و الفاضل المقداد(3) و المحقّق الثانی(4) و الشهید الثانی فی الروضة(5)، و صاحب المیسیة(6).

و قال المحقّق الثانی فی حاشیته علی الإرشاد أنّه: «الأظهر بین عامّة المتأخرین»(7) و فی جامع المقاصد نسبه إلی«جمع من متأخری الأصحاب»(8).

و تبعهم الشیخ جعفر(9).

ص:148


1- (1) المکاسب و البیع 1/234 و 233.
2- (2) الدروس الشرعیة 3/192، و الحاشیة النجاریة، مخطوطة و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/507، و کذا ظاهر اللمعة /109.
3- (3) التنقیح الرائع 2/25.
4- (4) جامع المقاصد 4/58 و رسالته «صیغ العقود» المطبوعة ضمن رسائل المحقّق الکرکی 1/178 و حاشیته علی إرشاد الأذهان /333.
5- (5) الروضة البهیة 3/223.
6- (1) المیسیة، مخطوطة، کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/507.
7- (2) حاشیته علی إرشاد الأذهان /333.
8- (3) جامع المقاصد 4/58.
9- (4) شرح القواعد 2/28.

ولکن قال الشهید الثانی فی المسالک: «لو تلفت العینان معا تحقّق الملک فیهما و لو تلفت إحداهما خاصة فقد صرّح جماعة بالاکتفاء به فی تحقق ملک الاُخری، نظرا إلی ما قدّ مناه من جعل الباقی عوضا عن التالف لتراضیهما علی ذلک، و یحتمل هنا العدم، التفاتا إلی إصالة بقاء الملک لمالکه و عموم الناس مسلطون علی أموالهم، و الأوّل أقوی فإنّ من بیده المال مستحق قد ظفر بمثل حقّه بإذن مستحقه فیملکه، و إن کان مغایرا له فی المجنس و الوصف لتراضیهما علی ذلک»(1).

و تبعه فی الاحتمال و تنظر فی اللزوم المحقق السبزواری و قال: «... و المشهور بینهم أنّه یفید إباحة تصرّف کلّ منهما فیما صار إلیه من العوض لا أنّه بیع فاسد و هو أقوی بناءً علی القول بعدم اللزوم و علی هذا یجوز له الرجوع فی المعاوضة مادامت العین باقیة، قالوا: فإذا ذهبت لزمت، و فیه نظر»(2).

و تبعهما السیّد المجاهد علی القول بالاباحة التّی لا یرضاها نفسه و قال: «منهل: قد بیّنا فیما سبق أنّ المعاطاة لا تفید اللزوم، فیجوز لکلّ من المتعاطیین الفسخ و الاسترداد و إن لم یرض الآخر به إلاّ فی مواضع:... و منها: ما إذا تلف أحد العوضین... ولکن فی

المسالک...، و فیه نظر لأنّ الوجهین المذکورین إنّما یتجهان إن قلنا أنّ المعاطاة لا تفید نقل الملک و أمّا علی تقدیر إفادتها الملک کما هو المختار فلا، فالمعتمد علیه عدم جواز الفسخ حینئذ لأنّ الأصل عدم جواز الرجوع بعد انتقال الملک...»(3).

و قال الفاضل النراقی: «... و لو تلفت إحداهما خاصة فلا یجوز الرجوع لصاحب التالفة، و هل له ردّ الموجودة بلا مطالبة شیء لو أراده لمصلحة و امتنع صاحبه؟ الظاهر: نعم،

ص:149


1- (5) المسالک 3/149.
2- (6) الکفایة 1/449.
3- (1) المناهل /269.

لإصالة عدم اللزوم... و لصاحب الموجودة الرجوع إلیها لذلک أیضا علی الأقوی، ثم الآخر یرجع إلی قیمة التالفة أو مثله کذا قالوا. و هو بإطلاقه مشکلٌ، بل الموافق لِلْقواعد أن یقال: لو کان التلف لا من جهة صاحب الموجودة فلا یرجع إلیه بشیء، لأصل البَراءَةِ و عدم دلیل علی الاشتغال.

و إن کان منه فإن قصد الرجوع قبل الإتلاف فعلیه المثل أو القیمة، إذ کونه مأدونا فی الإتلاف إنّما کان مع عدم قصده الرجوع، فمعه یکون غاصبا، فیعمل فیه بقاعدة الغصب.

و إن لم یقصده قبله فمقتضی الاُصول و إن کانت بَرِئَت ذمّته عن المثل أو القیمة لعدم کونه غاصبا و جواز رجوعه إلی عینه للأصل، إلاّ أنّ الإجماع و نفی الضرر یمنعان عن الأمرین معا، فلابدّ من أحدهما، ولکن تعیین أحدهما مشکلٌ. و تعیین الاشتغال مطلقا أو علی کون المعاطاة إباحة محضة لقاعدة الغصب کعدم الرجوع علی کونها تملیکا لئلا یلزم الجمع بین المالین باطل، لمنع صدق الغصب، و تسلیم جواز جمع المالین إذا اشتغلت ذمّته بمثل أحدهما أو قیمته، إلاّ أن تَعَیَّنَ الاشتغال بإثبات جواز الرجوع بمثل: «الناس مسلّطون علی أموالهم»(1) و «علی الید ما أخذت»(2).(3)

أقول: علی القول بالملک یحکم باللزوم بعد تلف إحدی العینین لأنّ الاجماع قائم بجواز المعاطاة و قدر المتیقن منه صورة إمکان ترادّ العینین و مع تلف أحدیهما تنتفی صورة الجواز و یحکم باللزوم.

و أمّا علی القول بالاباحة فقد نسب الشیخ الأعظم قدس سره إلی بعض مشایخه - و لعلّ هو السیّد المجاهد رحمه الله - وفاقا لبعض معاصری شیخه - و لعلَّهُ هو الفاضل النراقی رحمه الله - تبعا

ص:150


1- (2) عوالی اللآلی 1/222، ح99.
2- (3) عوالی اللآلی 1/389، ح22.
3- (4) مستند الشیعة 14/261 و 260.

للشهید الثانی قدس سره فی المسالک حیث استوجه أصالة عدم اللزوم بأمرین:

1- بقاء سلطنة مالک العین الموجودة و ملکه لها.

2- التمسک بعموم علی الید.

و فی النسبة نظر یظهر لک بالتأمل فی نقل کلمات الأعلام الثلاثة.

و قد ناقش الشیخ الأعظم رحمه الله فیهما و ردّ الاوّل منهما بأنّها معارضة بأصالة بَراءَةِ ذمّة مَنْ تلف عنده مالُ صاحبه عن مثله أو قیمته و إذا تعارضا تساقطا.

و الوجه فی المعارضة: أنّ أصالة بقاء سلطنة المالک تقتضی جواز استرداد العین الموجودة و الرجوع ملازم لضمان بدل التالف من المثل أو القیمة للقطع بعدم مجانیّة التالف، أو للإجماع المرکب علی التلازم بین جواز رجوع مالک العین الباقیة و جواز رجوع مالک العین التالفة ببدلها.

و ردّ الثانی منهما: بأنّ الید تکون معدومة عند الحکم بالضمان - علی القول به - و هو حال التلف. و الید السابقة علی التلف لم تکن ید ضمانٍ لأنّها بإذن الشارع أو المالک. بل و لا بعد التلف إذا قصد مالک العین الموجودة علی امضاء المعاطاة و لم یرد الرجوع. فالید إذا لم تکن عدوانیة قبل التلف و لا بعده لا تنقلب إلی العدوانیة حتّی توجب الضمان.

فیبقی فی المقام إرادة الرجوع و قصده و هذه الإرادة لیست من موجبات الضمان و به یظهر إشکال الشیخ الأعظم رحمه الله علی الفاضل النراقی قدس سره حیث فصّل بین ارادة الرجوع و عدمها.

ثم ناقش الشیخ الأعظم رحمه الله بنفسه فی ما ذکره:

المناقشة الاولی: أصالة بقاء سلطنة مالک العین الموجودة علی رجوع ماله حاکمة علی أصالة عدم الضمان بالمثل أو القیمة، لأنّ الشک فی ضمان المثل أو القیمة و عدمهما مسبّب عن الشک فی بقاء سلطنة مالک العین الموجودة و عدمها، و من الواضح حکومة الأصل السببی

ص:151

علی الأصل المسببی، فمع جریان أصالة بقاء السلطنة، لا تجری أصالة عدم الضمان فلا معارضة فی البین.

مضافا إلی أنّ وجود الضمان فی الجملة فی المعاطاة عند تلف إحدی العینین من المُسَلِّماتِ و إنّما الکلام فی أنّ المُتْلِفَ ضامنٌ بالبدل الحقیقی - أی المثل أو القیمة - أو البدل الجعلی و المسمی - أی العین الموجودة - فلا تجری أصالة عدم الضمان - للعلم بوجوده إجمالاً - حتی تعارض أصالة بقاء سلطنة المالک.

المناقشة الثانیة: یمکن التمسک بعموم «الناس مسلّطون علی أموالهم» و الحکم بوجود السلطنة للمالکین علی مالهما فإن کان المال موجودا فهو مسلّط علی أخذه برجوعه فیه، و إن کان المال تالفا فهو مسلّط علی بدله الحقیقی - أی المثل أو القیمة - فیثبت بهذا العموم جواز الرجوع بعد تلف إحدی العینین، و من الواضح أنّه مع وجود دلیل لفظی - و هو العموم - لا تصل النوبة إلی الأصل العملی - و هو أصالة بقاء سلطنة المالک - حتّی تناقش فیها بالمعارضة مع أصالة بَراءَةِ الذمّة.

ثم أمر الشیخ الأعظم رحمه الله بالتدبر و لعلّه لوجود المناقشة فی هذه الاستدلالات و منها: عدم شمول عموم «الناس مسلطون علی أموالهم» للمال التالف و لذا لم یستدل بها أحدٌ علی الضمان.

ثم یمکن أن یُناقَشَ قَوْلُ الشیخ الأعظم رحمه الله بوجوه:

منها: لا یجوز التمسک بأصالة بقاء سلطنة مالک العین الموجودة لأجل جواز جوعه فیها لأنّ هذا الأصل یقتضی جواز رجوع مالک العین التالفة فی مثلها أو قیمتها أعنی اشتغال ذمّة من بیده تلف المال و التالی باطل إجماعا فالمقدَّم مثله.

هذا مع الاْءِغْماضِ عن اقتضاء المعاطاة للملکیة و لو آنا ما قبل التلف - کما هو مختار الشیخ الأعظم رحمه الله فی جواب الشیخ جعفر قدس سره - و إلاّ ینقلب التمسک بأصالة بقاء سلطنة المالک

ص:152

کما هو الواضح.

و منها: الید الموجودة فی المُعاطاةِ یَدُ ضَمانٍ - حتّی علی القول بأنّها تفید الإباحة - لأنّ الاخذ و الإعطاء فیها لیسا بمجانیین، نعم إنّما الکلام فیها بعد تلف العینین أو إِحْدَیْهِما فی الضمان الحقیقی - أی المثل أو القیمة - أو الضمان الجعلی و المسمی - أی العین الموجودة - کما اعترف به الشیخ الأعظم فی کلماته الأخیرة.

فلیعلم بأنّ الید فی موردین لم تکن ید ضمان:

أوّلهما: أن یسلط المالک غیره فی التصرف علی ماله مجانا، فتلف المال عند المتصرف، الوجه فی عدم الضمان حینئذ لأنّ المالک قد أجاز التصرف فی ماله بلاعوض.

ثانیهما: أن تکون الید ید أمانة - بلافرق بین الأمانة الشرعیة و الأمانة المالکیة - لأنّهُ لیس علی الأمین سبیل فلیست یده ید ضمان.

و من المعلوم أنّ الید فی المعاطاة لیست من أحدالموردین.

و منها: ذهب الشیخ الأعظم رحمه الله إلی حکومة أصالة بقاء سلطنة مالک العین الموجودة

علی أصالة عدم الضمان بالمثل أو القیمة و هذه الحکومة یمکن أن تقرر بوجهین:

الأوّل: ما ذکرناه فی توضیح کلام الشیخ الاعظم بأنّ الشک فی ضمان المثل أو القیمة و عدمها مسبب عن الشک فی بقاء سلطنة مالک العین الموجودة و عدمها، و من المعلوم حکومة الأصل السببی علی الأصل المسببی.

و یرد علیه: حکومة الأصل السببی علی الأصل المسببی إنّما تتم فیما إذا کان ارتفاع ضمان المثل أو القیمة لیس من الآثار الشرعیة للأصل السببی، و من الواضح عدم ثبوت ضمان المثل أو القیمة لیس من الآثار الشرعیة لأصالة بقاء سلطنة مالک العین الموجودة، بل من لوازمه العقلیة لوجود الملازمة الخارجیة بین جواز رجوع مالک العین الموجودة فیها و جواز رجوع مالک العین التالفة فی بدلها الواقعیة. فالحکومة الواردة فی کلام الشیخ الأعظم

ص:153

لا تتم.

الثانی: المراد بأصالة بقاء سلطنة مالک العین الموجودة هی استصحاب ملکیته علی عینه و المراد بأصالة عدم الضمان بالمثل أو القیمة هی جریان الْبَراءَةِ عن اشتغال ذمّة التالف، و من البدیهی حکومة دلیل الاستصحاب علی دلیل الْبَراءَةِ. لارتفاع موضوع الْبَراءَةِ بجریان الاستصحاب.

و یرد علیه: نعم، دلیل الاستصحاب یکون حاکما علی دلیل الْبَراءَةِ، أمّا إذا کان مجراهما واحدا و علی فرض بقدر المجری فکلّ یجری فی مجراه و ما نحن فیه من قبیل الثانی لأنّ جریان استصحاب ملکیة مالک العین الموجودة لم یثبت شرعا اشتغال ذمّته بالمثل أو القیمة، لأنّ اشتغال الذمة یعدّ من الْلَوازِمِ العقلیة لهذا الاستصحاب لأنّه یثبت بالملازمة الخارجیة بین جواز رجوع المالکین. فحینئذ تقدیم الاستصحاب علی البرأة هنا لتعدد المجری یحتاج إلی حجیة الأصل المثبت.

مضافا إلی تبدیل بَراءَةِ الذمة عن الاشتغال بالمثل أو القیمة باستصحاب عدم اشتغال الذمة قبل التلف و کذا بعده مادام لم یقصد الرجوع، فحینئذ لایقدم أحد الاستصحابین علی الآخر فیتعارضان و یتساقطان و بعد یرجع إلی أصالة الْبَراءَةِ.

هذا بعض المناقشات الواردة علی الشیخ الأعظم رحمه الله و هی مأخوذة من کلام المحقّق السیّد الخوئی(1) قدس سره .

و منها: تلف بعض العینین أو بعض إحدی العینین

قال المحقّق الکرکی: «و یکفی [فی اللزوم] تلف بعض إحدی العینین لامتناع الترادّ فی الباقی، إذ هو موجب لتبیعض الصفقة و للضرر، و لأنّ المطلوب هوکون إحداهما فی مقابل

ص:154


1- (1) مصباح الفقاهة 2/(206-202).

الاُخری»(1).

و نحوها فی صیغ العقود(2) و حاشیة الإرشاد(3) له أیضا. و تبعه الشهید الثانی فی الروضة(4).

و تبعهما الشیخ جعفر قدس سره و قال: «إنّا نعلم مِنْ تتبّع کلمات القوم و النظر إلی السیرة القاطعة أنّ الجواز مشروط بإمکان الردّ و بالخلوّ عن الضرر المنفی بحدیث الضرار فلو تلف کلّ أو بعض منه، أو من فوائده بتصرّف بعین أو منفعة من رکوب أو سکنی أو حرث أو دخول فی عمل و نحوها، أو بیع أو إجارة أو زراعة أو مساقاة و نحوها علی وجه لا یمکن فسخها شرعا، أو بإتلاف أو تلف سماوی، تعذّر الردّ و لم یتحقّق مصداقه، و لو صدق فی البعض امتنع أیضا مع حصول الضرر بالتبعیض.

و تغییر الصورة بطحن أو تفصیل أو خیاطة أو صبغ و نحوها، لو دخل تحت الردّ جاءَه ثبوت الضرر غالبا بتبدیل الاُوصاف و اختلاف الرغبات.

نعم، لو بقی الشیء علی حاله وزاده حسنا بصقل أو إخراج غبار و رفع و سخ و نحوها لم یکن فیه ذلک.

و أمّا المزج علی وجه لا یتمیّز فلا یمکن الردّ بعینه، و قبول الجمیع فیه منّة، و دخول مال الغیر فی ماله، من غیر فرق بین الأجود و مقابلاته»(5).

ولکن ناقشهم الشهید الثانی نفسه فی المسالک و قال: «و فیه نظر، فإنّ تبعض الصفقة

ص:155


1- (1) جامع المقاصد 4/58.
2- (2) صیغ العقود، المطبوعة فی رسائل المحقّق الکرکی 1/178.
3- (3) حاشیة إرشاد الأذهان /334 قال فیها: «فلا حاجة إلی تلف العین بل یکفی تلف البعض».
4- (4) الروضة البهیة 3/223.
5- (5) شرح القواعد 2/29.

لا یوجب بطلان أصل المعاوضة، بل غایته جواز فسخ الآخر فیرجع إلی المثل أو القیمه کما فی نظائره، و أمّا الضرر الحاصل من التبعیض المنافی لمقصودهما من جعل إحداهما فی مقابلة الاُخری فمستند إلی تقصیرهما فی التحفظ بإیجاب البیع، کما لو تبایعا بیعا فاسدا. و یحتمل

حینئذ أن یلزم من العین الاُخری [ما] فی مقابلة التالف و یبقی الباقی علی أصل الإباحة بدلالة ما قدمناه»(1).

و قال فی الحدائق بعد نقل هذا المقال من ثانی الشهیدین: «و هو جید بناءً علی قواعدهم»(2).

و فی الجواهر نقل کلام الشیخ جعفر بطوله وردّ علیه بقوله: «و لا یخفی علیک مواقع النظر فی کلامه بعد الإحاطة بما ذکرناه و حدیث الضرار لو قضی بذلک لقضی به فی الخیار کما أنّه لا سیرة معتدّ بها فی إثبات أکثر هذا الأحکام أو جمیعها، و لم یصدر من المتعاملین سوی قصد البیع علی نحو غیره من البیوع، فلا بناء للمعاملة علی شیء من ذلک، و إصالة اللزوم بعد فرض انحصار دلیلها فی آیة «اوفوا» المعلوم عدم صدقها علی ما نحن فیه کما صرح به الکرکی و علیه بنی ثبوت الجواز فی هذا البیع لا وجه لها. علی أنّ المتجه بعد ثبوت الجواز استصحابه حتّی یحصل المخرج، فکل ما شک فی ارتفاع الجواز معه کان مقتضی الاستصحاب المزبور ثبوته.

اللهم إلاّ أن یقال: أنّه یکفی فی اللزوم استصحاب الملک الذی قد فرض ثبوته، إنّما یخرج عنه بالمتیقن و هو مع بقاء العین بحالها، فکلّ ما شک حینئذ فی الجواز معه کان مقتضی الاستصحاب المزبور اللزوم فیه، إلاّ أنّه هو أیضا کماتری محلّ للنظر و المنع کما تقرر فی

ص:156


1- (1) المسالک 3/149.
2- (2) الحدائق 18/363.

نظائره»(1).

أقول: مع قطع النظر عن المناقشات الواردة علی کلمات القوم فی طرفی المسألة، بناءً علی أنّ المعاطاة تفید الملک تجری أصالة اللزوم لأنّ المتیقن من الإجماع علی الجواز هو إمکان ترادّ العینیین، و الاجماع دلیل لبّیٌّ یؤخذ بالقدر المتیقن منه و هو ترادّ العینیین، و فی غیرها یحکم بأصالة اللزوم.

و بناءً علی أنّها تفید الملکیة الجائزة أو المتزلزلة - علی القول بها - فیحکم بالجواز فی الفرضین، لأنّ القدر المتیقن من تبدیل هذه الملکیة الجائزة باللازمة هما صورتا تلف العینین أو تلف إحْداهُما و أمّا الفرضانِ الْخارِجانِ عن الصورتین فیحکم فیهما بالجواز.

و أمّا بناءً علی القول بأنّ المعاطاة تفید إباحة مالکیة فتجری قاعدة سلطنة الناس

علی أموالهم و ثبت الجواز بها.

و علی القول بأنّها تفید إباحة شرعیة لا تجری قاعدة السلطنة لأنّها محکومة بدلیل الإباحة الشرعیة و یجری استصحاب الاباحة و نتیجتها هی اللزوم.

و من البدیهی فی موارد الجواز أنّهُ یمکن الترادّ ولکن بالنسبة إلی العین التی تلف بعضها مع زیادة الأرش و جبران النقیصة أو الرجوع إلی المثل أو القیمة.

و منها: کون أحد العوضین دَیْنا
اشارة

إذا کان زید مدیونا لعمرو بألف ریال ثمّ اشتری عَمْروٌ منه سِجّادا بألف ریال بالمعاطاة، یترتب علیه فراغ ذمّة زید عمّا اشتغلت به لعمروٍ و حینئذ تصیر المعاطاة لازمة من أوّل تحققها لعدم إمکان الترادّ الذی هو موضوع الجواز.

و لذا قال الشهید فی الدروس: «و من المعاطاة أن یدفع إلیه سلعة بثمن یوافقه علیه

ص:157


1- (3) الجواهر 22/237 و 236.

من غیر عقد، ثم تهلک عند القابض فیلزم الثمن المسمی و شبهها اقتضاء المدین العوض عن النقد أو عن عرض آخر، فإن ساعره فذاک، و إلاّ فله سعر یوم القبض و لا یحتاج إلی عقد، و لیس لهما الرجوع بعد التراضی»(1).

و کذا جعل فی قواعده(2) الإبراء مردّدا بین الإسقاط و التملیک.

أقول: قبل الشرُوْعِ فی بحث اللزوم لابدّ من البحث عن صحة هذه المعاطاة فلذا علی القول بصحة المعاطاة فی الإعطاء من طرف واحد الأمر واضح و یحکم بصحتها، و أمّا علی القول بعدم کفایة الإعطاء من طرف واحد فَیُحْکَمُ بصحتها أیضا لأنّ الدین بمنزلة المقبوض فلا یحتاج إلی القبض ثانیا.

ثم وقع الخلاف فی بیع الدین علی مَنْ هو علیه کبیع من ینعتق علیه بعد الاتفاق علی حصول الْبَراءَةِ للذمّة فی الأوّل، و الانعتاق فی الأخیر، فی أنّ المبیع أعنی الدین فی الأوّل و العبد فی الثانی یتلف علی المشتری بنفس إنشاء البیع و المُنْشأ و کانت ملکیة الدین لم-َنْ هو علیه و العبد لمن ینعتق علیه لا تنتج إلاّ نتیجة التلف، أو أنّ الدین أو العبد ینتقلان إلی المشتری و یدخلان فی ملکه آنا ما ثمّ یتلفان علیه بسقوط الدین و بانعتاق العبد.

و منشأ القول الأوّل: فی باب الدین هُوَ لأجل استحالة أن یسلط الانسان علی نفسه بمال و یملک علی نفسه شیئا لعدم صحة اعتبار مال الانسان علی نفسه عند العقلاء أو

لأنّه قد مرّ منّا فی أوّل البیع بأنّ کلّ أحد مالک لذمّته و ما فیها بالملکیّة الذاتیة التکوینیة کما یملک أعضاءَهُ و جوارحه، لا بالملکیة الاعتباریة العرضیة کما یملک الأموال و مع حصول الملکیة الذاتیة التکوینیة یَکُوْنُ جَعْلُ الملکیّةِ الاعتباریة العرضیة لغوا - کما علیه المحقّق

ص:158


1- (1) الدروس 3/192.
2- (2) القواعد و الفوائد 1/291 للشهید و نقل عنه الشیخ فی المکاسب 3/9.

السیّد الخوئی(1) قدس سره و سیأتی الاشکال فیه فی الفرق بین الذمّة و ما فیها - و إذا ورد الدلیل علی صحة بیع الدین علیه فیصیر مآلُهُ إلی إبراء ذمته عن الدین بالعوض أو سقوطه کذلک، لا صیرورته مالکا لما فی ذمّته، و کذا فی بیع من ینعتق علیه یُقیم الدَّلِیْلَیْنِ:

الأوّل منهما: یدلّ علی أنّ الأنسان لا یملک عمودیه.(2).

و الثانی منهما: یدل علی انعتاقهما علیه بعد البیع.(3)

و الجمع بینهما یقتضی کون البیع لا ینتج إلاّ الانعتاق علی البائع من دون تحقق ملک للمشتری أصلاً.

و منشأ القول الثانی: فی باب الدین فلأنّ المانع عن اعتبار المال للإنسان علی نفسه إنّما یمنع عن اعتباره علی نحو الاستمرار، و أمّا اعتباره لما ثبت فی ذمّته عن الغیر ملکا یترتب علیه الإبراء لا ملکا مستقرا، فلا مانع عن اعتباره، و أمّا فی باب العتق فلأنّ الدلیل علی عدم ملکیة العمودین أیضا إنّما یمنع عن الملک المستقَر لا الملک المترتب علیه العتق.

قد اختار الشیخ الأعظم(4) و تبعه المحقق النائینی(5) رحمه الله القول الثانی، و لکن یظهر ممّا ذکرنا بالنسبة إلی باب الدین و بیعه عدم الفرق بین استحالة أن یسلط الأنسان علی نفسه بمال استمراریة أو ابتدائیة، أو أنّ کلّ انسان یملک ذمّته بالملکیة الذاتیة التکوینیة، لا الملکیة الاعتباریة العرضیة، فحینئذ جعل الملکیة الاعتباریة العرضیة بالنسبة إلی الذمة تکون لغوا حتّی إذا کانت علی نحو الملکیة الابتدائیة لا الاستمراریة التی لا یترتب علیه إلاّ الإبراء -

ص:159


1- (1) مصباح الفقاهة 2/207.
2- (2) راجع وسائل الشیعة 23/18، الباب 7 من أبواب کتاب العتق.
3- (3) راجع وسائل الشیعة 23/18، الباب 7 من أبواب کتاب العتق.
4- (4) المکاسب 3/98 قال: «یملکه من فی ذمته فیسقط عنه».
5- (5) المکاسب و البیع 1/242.

علی مبنی المحقق السیّد الخوئی رحمه الله کما مرّ.

فَالْقَوْلُ المختار بالنسبة إلی هذا الباب هو القول الأوّل و وافقنا المحقّق العراقی(1) رحمه الله و

أمّا بالنسبة إلی باب العتق فالظاهر تمامیة اختیار المحقّق النائینی لأنّ ظاهر الجمع بین الدلیلین الماضیین بانضمام ما دلّ علی أنّه لا عتق إلاّ فی ملک، بل ورد فی صحیحة منصور بن حازم: «لا عتق قبل الملک»(2) هو حدوث الملک آنا ما للمشتری ثمّ الانعتاق علیه.

هذا التفصیل هو مختارنا فی المقام و الذی یسهل الخطب هو التنبیه علی عدم ترتب ثمرة عملیة فی البابین - أی الدین و العتق - لأنّ الْقَوْلَیْنِ یذهبان إلی سقوط الدین و انعتاق العمودین.

ثم یقع الکلام فی أنّ هذا التلف الشرعی - أی سقوط الدین - هَلْ هُوَ کالتلف التکوینی الخارجی یکون من ملزمات المعاطاة أم لا؟

فلذا نقول بناءً علی القول بالملک یکون التلف الشرعی الاعتباری کالتلف الخارجی التکوینی، لأنّ علی القول بالملک تکون المعاطاة لازمة إلاّ فی فرض کون العوضین عینین و امکان الترادّ ففی هذا الفرض تکون جائزة إجماعا و فی فرض کون أحدهما دینا، و مع التلف الشرعی الاعتباری لا یمکن الترادّ فتخرج المعاطاة من تحت فرض الجواز و تکون لازمة.

و بما ذکرنا یظهر أنّه إذا کان أحد العوضین دینا و لو کان علی ذمّة غیر المتعاطیین تکون المعاطاة لازمة.

و أنّه لیس اللزوم فیها متوقفا علی القول الثانی فیما مرّ - مِنْ صیرورة الدین ملکا لمن هو علیه ثم تلف علیه کما هو مختار الشیخ الأعظم و تبعه المحقّق النائینی - بل علی القول

ص:160


1- (6) حاشیة المکاسب /151 لآیة اللّه المیرزا ابوالفضل النجم آبادی رحمه الله من تقریر أبحاث المحقّق العراقی رحمه الله .
2- (1) وسائل الشیعة 23/15، ح1، الباب 5 من أبواب کتاب العتق.

المختار و هو سقوط الدین بنفس حدوث المعاطاة من دو ن وساطة الملکیة - أیضا یجری، فعلیه ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره من قوله: «فعلی القول بالملک یملکه من فی ذمّته فیسقط عنه»(1) کما مرّ هو اختیار الشیخ فی المقام لا ابتناء المسألة علیه.

و ما ذکره الشیخ الأعظم رحمه الله من قوله: «الظاهر أنّه فی حکم التلف»(2) أیّ أنّ سقوط الدین فی حکم التلف الخارجی التکوینی من جهة إیجاد اللزوم فی معاطاة العینین غیر تام لأنّ نفس وجود الدین فی طرف المعاطاة یخرجها من فرض الجواز، نعم، التساوی بین التلفین و عدم إمکان التراد یؤید هذا الخروج.

و أمّا التَّعْلِیْلُ الوارد فی کلامه قدس سره من قوله: «لأنّ الساقط لا یعود و یحتمل العود، و هو

ضعیف»(3) لا یتم عندنا لإمکان عوده بالإقالة و الفسخ، قال شیخنا الاستاذ قدس سره : «لأنّ عود ما علی الذمة إلیها فی بعض الموارد شاهد قطعی لإمکانه، کما إذا باع المدیون لآخر بعشرة دنا نیر متاعه منه بألف علی شرط إبراء ذمّته من العشر و خیاطة ثوبه المعین، فأخذ المشتری المتاع و سلم الألف وَ أَبْرَاءَهُ عن العشر ولکن امتنع عن خیاطة الثوب فإنّه لا ینبغی الریب فی أنّ للبائع خیار تخلف الشرط و إذا فسخ یعود العشر إلی ذمّته، و هذا عود بعد السقوط.

و الحاصل، أنّه لا یمکن قیاس عود المال إلی الذمّة بعود الشیء الخارجی بعد صیرورته معدوما و یقال بأنّ الشیء لو کان عوده بشخصه الأوّل لزم تخلل العدم فی الوجود الواحد، و لو کان بشخص آخر یکون غیره لا الأوّل، و الوجه فی الفرق أنّ ثبوت المال علی الذمّة اعتبار یتعلق بالطبیعی و یمکن اعتباره ثانیا بنحو لا یکون بینه و بین

ص:161


1- (2) المکاسب 3/98.
2- (3) المکاسب 3/98.
3- (1) المکاسب 3/99.

الطبیعی الأوّل میز أصلاً»(1).

لا یقال: أنتم ذهبتم إلی القول بالملکیة الذاتیة الحقیقیة بالنسبة إلی الذمّة لکلّ أحد فکیف تذهبون إلی ما ذکره شیخکم الاُستاذ قدس سره من «أنّ ثبوت المال علی الذمة اعتبار یتعلّق بالطبیعی و یمکن اعتباره ثانیا الخ»، و الجمع بین الملکیتین الحقیقیة و الاعتباریة لا یمکن! فکیف ذهبتم إلی هذا الجمع؟!

لأنّا نقول: هناک شیئان لابدّ بأنّ یفرق بینهما:

الأوّل: الذمّة لکلِّ أحد و تکون ملکیتها علی نحو الملکیة الحقیقیة.

الثانی: ما فی الذمة و علیها و تکون ملکیته غالبا علی نحو الملکیة الاعتباریة کعشرة دنانیرَ أوْ مَنٍّ من الحنطة، و ناهیک غالبا - لا دائما - لأنّه ما فی الذمة قد یکون ملکیته علی نحو الملکیة الحقیقیة نحو: بیع اختراع أخترعتُهُ أو کتاب ألّفتُهُ أو مقالة قُلْتُها أو بَدائع فِکَرٍ أبدعتُها. و علی ما سردناه علیک یمکن لک التمییز بین الذمّة و ما فیه و تعلّق الملکیة بقسمیها علیهما بل علی ما فی الذمة.

و نضرب لک مثلاً حتّی تکون علی بصیرة من الأمر نحو العلم و المعلوم، العلم یکون من الأشیاء الحقیقیة و یکون متّحدا مع ذات العالم، ولکن المعلوم کما یمکن أن یکون من الأشیاء الحقیقیة کالنفس و خالقها و رسول الخالق کذلک یمکن أو یکون من الأشیاء

الاعتباریة کالقوانین الموضوعة فی الممالک و نحوها، و مع ذلک لا تنافی أن یکون متحدا مع العالم و علمه.

و بما ذکرنا یظهر ضعف ما ذکره المحقّق الأصفهانی قدس سره من قوله: «أنّ الذمة المطلقة لا معنی لها، فإنّها لیست من الاُوعیة و الظروف بل هی نحو ثبوت الشیء اعتبارا، فشخص

ص:162


1- (2) إرشاد الطالب 2/93 و 92.

الذمّة یتشخص بأطرافها و هی من له و من علیه و ما فیها، و لیس هی علی اعتباریتها بأعظم من العلم الذی یتشخص بالعالم و المعلوم بذاته»(1).

و ضعف ما ذکره المحقّق الخراسانی رحمه الله من قوله: «لا یکاد یعود نفس الساقط حقیقة لإمتناع إرادة المعدوم، لکنّه لا یختص بالساقط، بل الملکیة الزائلة عن العین الموجودة، کذلک لاتعود لذلک، و إعادة مثله کما فی الملکیة بمکان من الإمکان، فالعمدة مع الشک هو إصالة عدم العود، و عدم زوال ملکه عمّا انتقل إلیه بعوض الدین، و لا استصحاب للجواز هیهنا، لیحکم علیها کما لا یخفی»(2).

فذلکة القول فی المقام

لعلّ أجلی ما یکشِفُ عَنْها هُوَ بیان المؤسّس الحائری قدس سره - و هو أحسن مقال، بل تحقیق القول فی المقام - قال: «قد یبحث عن جواز و لزوم هذا القسم من المعاطاة من جهة القواعد و قد یبحث عنهما من جهة إمکان الترادّ و عدم إمکانه.

أمّا الکلام فی الأوّل: فهو أنّه لا شک أنّ القدر المتیقن من الخروج عن تحت قاعدة اللزوم هو صورة کون العوضین عینین، فتبقی صورة کون أحدهما دینا تحت القاعدة من أوّل الأمر.

أمّا الکلام فی الثانی: فهو أنّه کما یمکن نقل السلطنة علی الدَّیْن من الدائن إلی المدیون، کذلک یمکن نقلها من المدیون إلی الدائن ثانیا، فلیس دَینیّة العوض کتلفه، فأصالة الجواز - لو لا العمومات - ثابتة، لثبوت موضوعها، لا أنّها منفیة لانتفائه»(3).

و أمّا بناءً علی القول بالإباحة: فَقَدْ قال الشیخ الأعظم قدس سره : «و الظاهر أنّ الحکم کذلک

ص:163


1- (1) حاشیته علی المکاسب 1/222.
2- (2) حاشیة المکاسب /24 للآخوند الخراسانی رحمه الله .
3- (3) کتاب البیع 1/120 بقلم مقرره شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی قدس سره .

علی القول بالإباحة، فافهم»(1).

مراده قدس سره أنّه یوجب سقوط الدین لا أنّه یوجب اللزوم کما فی القول بالملک، لأنّ «إباحة الدین علی من علیه الدین لا یقعل لها معنیً إلاّ سقوطها» کما ذکره المحقّق الخراسانی رحمه الله (2).

و قد نبّه علی تشابه سقوط الدین فی القولین لا اللزوم المحقّق الإصفهانی رحمه الله فی حاشیته علی المکاسب قال: «لیس غرضه [أی غرض الشیخ الأعظم] رحمه الله : أنّ الحکم هو اللزوم علی القول بالإباحة، فإنّ کون الإباحة مفیدة للسقوط لا یوجب کون السقوط بأعظم من التلف، مع أنّه لا لزوم عنده قدس سره علی القول بالإباحة فی صورة التلف الحقیقی لجریان أصالة السلطنة فی طرف العین الباقیة، و الرجوع بالبدل الواقعی فی طرف العین التالفة، فکیف بما هو فی حکم التلف. بل غرضه رحمه الله أن جعل الدین عوضا علی الإباحة یوجب السقوط، کما أنّه یوجبه علی القول بالملک، حیث لا معنی لإباحة الدین إلاّ الإبراء و الإسقاط...»(3).

و تبعه تلمیذه المحقّق السیّد الخوئی(4) رحمه الله .

نعم، یمکن القول باللزوم حتّی علی القول بالاْءباحَةِ فی المقام لأنّ «الإباحة تثبت فی المعاطاة بالإجماع و السیرة و من الظاهر أنّ الإباحة فی مقابل الملک لا معنی لها فی المقام فیکون الإجماع و السیرة فی سایر الموارد و یثبت الملک فی المورد من الأوّل کما هو مقتضی

ص:164


1- (4) المکاسب 3/99.
2- (1) حاشیته علی المکاسب /24.
3- (2) حاشیته علی المکاسب 1/222.
4- (3) مصباح الفقاهة 2/207.

حلّ البیع و وجوب الوفاء بالعقد». کما علیه شیخنا الاُستاذ(1) قدس سره تبعا لاُستاذه المحقّق السیّد الخوئی(2) رحمه الله و لعلّ الشیخ أشار إلی هذا بقوله فافهم فی آخر کلامه.

و أمّا علی القول بأنّ الحکم علی القول بالإباحة أیضا هو اللزوم کما فی القول بالمک فیمکن أن یشیر أمر الشیخ بالتفهّم إلی الجواز لجریان قاعدة السلطنة و لذا قال الفقیه الیزدی: «حاله حال تلف إحدی العینین علی القول بالإباحة، فیمکن الحکم بالجواز لقاعدة السلطنة بالنسبة إلی العوض الموجود، و لعلّه إلیه أشار بقوله «فافهم»»(3).

و منها: نقل العینین أو إحداهما بعقد لازم أو جائز

عدّه المحقّق الثانی من ملزمات المعاطاة و قال: «... بل تعذّر الرد بعقدٍ لازمٍ کبیع و وقف و نحوهما»(4).

و هکذا عدّه من ملزمات المعاطاة فی المیسیة.(5)

و قال ثانی الشهیدین: «لو نقل أحدهما العین عن ملکه، فإن کان لازما کالبیع و الهبة بعد القبض و الوقف و العتق فکالتالف و إن کان جائزا کالبیع فی زمن الخیار فالظاهر أنّه کذلک لصدق انتقال الملک عنه فیکون کالتلف»(6).

و نحوها فی الروضة.(7)

و قال الشیخ جعفر: «أنّه لا ریب و لا خلاف فی أنّ المعاطاة تنتهی إلی اللزوم و أنّ

ص:165


1- (4) إرشاد الطالب 2/93.
2- (5) مصباح الفقاهة 2/208.
3- (6) حاشیته علی المکاسب 1/399.
4- (1) حاشیة الإرشاد /334.
5- (2) المیسیة، مخطوطة، و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/507.
6- (3) المسالک 3/150.
7- (4) الروضة البهیة 3/223.

التلف الحقیقی أو الشرعی - بالنقل بالوجه اللازم للعوضین معا - باعث علی اللزوم و کذا للواحد منهما. و احتمال العدم فیه و فی الناقل الشرعی فی حکم العدم... فلو خرج عنه و لو بعقد جائز دخل فی حکم آخر»(1).

و قال الفاضل النراقی: «و لو لم تتلف العین ولکن وقع التصرف فیها، فإن کان بنقل الملک اللازم فکالتلف لأنّه سلّطه علی ذلک. و إن کان بالمتزلزل فیحتمل اللزوم أو الإلزام بالاسترداد أو بالمثل أو القیمة»(2).

أقول: التصرفات الواقعة علی العینین من المتعاطیین إذا کانت متوقفة علی الملک بلا فرق بین التصرفات الخارجیة کالوط ء و بین التصرفات الاعتباریة، و الأخیر منها بلا فرق بین الإیقاعات کالوقف و العتق و العقود، و الأخیر منها بلا فرق بین العقود غیر المعاوضیة کالهبة و العقود المعاوضیة، و الأخیر منها بلا فرق بین أن یَقَعَ علی الأعیان کالبیع و الرهن و أن یَقَعَ علی المنافع کالإجارة. و بلا فرق بین أن یکون التصرف ناقل العین کالبیع و أن یکون غیر ناقل للعین کالودیعة و العاریة، فکلّ ذلک موجب لسقوط الردّ و لزوم المعاطاة.

و سواء فی ذلک کلّه العقد اللازم أو الجائز، و العقد باللفظ و الصیغة أو بالعمل و المعاطاة، فَسَخَ العقد بخیار أو إقالة أم لا، عاد العین إلی مَنْ انتقل عنه بمعاوضة اُخری أم لا، و

فی المعاطاة بلا فرق بین قولی الملک و الاباحة.

و الوجه فی ذلک أنّ جواز المعاطاة مشروط ببقاء العین بعینها و عدم خروجها عن ملکه، و عدم تصرفات المالکیّة فیها و کلّ ذلک یکون من التصرفات المالکیّة أی لا تجوز هذه التصرفات إلاّ من المالک، و إذا تصرّف فی العین بهذه التصرفات المالکیّة و لا یمکن

ص:166


1- (5) شرح القواعد 2/28 و 29.
2- (6) مستند الشیعة 14/261.

الترادّ فتصیر المعاطاة لازمة.

أمّا علی القول بالملک لأنّ القدر المتیقن من الجواز الثابت بالإجماع هو عدم التصرفات المالکی و معها تخرج المعاطاة من القدر المتیقن و فیحکم بلزومها.

و علی القول بالإباحة لأنّ الجواز مشروط ببقاء العین بعینها و مع هذه التصرفات یفقد الشرط بل أنّها فی حکم التلف کما اعترف به الشیخ الأعظم(1) رحمه الله فیحکم بلزومها.

و بعد الحکم بلزومها فإنّ رجوع العین إلی المتعاطی بالفسخ أو الإقالة أو معاوضه اُخری لا یخرجها عن اللزوم لأنّ بعد خروج المعاطاة عن الجواز إلی اللزوم، رجوعها مجددا إلی اللزوم یحتاج إلی دلیل و هو مفقود.

و لا فرق فی ما ذکرناه بین عقدی اللازم و الجائز لأنّ بعد هذا التصرف المالکی لم تبق العین بعینها فتصیر المعاطاة لازمة، و کذا لا فرق بین العقد بالصیغة و المعاطاة لما ذکرنا.

و کذا لا فرق بین التصرفات الناقلة للعین و غیر ناقلة لها کالإجارة و العاریة و الودیعة، لأنّ الأخیر أیضا من التصرفات المالکیّة فی العین و الفرق بین العین التی عقد علیها هذه العقود و غیرها واضح فلم تبق العین بعینها و لذا صار المعاطاة بها لازمة خلافا للمحقّق النائینی(2) رحمه الله حیث أنّه یری فی التصرفات غیر الناقلة بقاء العین علی حالها.

و کذا لا یجری استصحاب جواز الرد الثابت قبل العقد للقطع بانقطاعه بالعقد فموضوعه معدوم، لا أنّ «الموضوع غیر محرز»(3) کما علیه الشیخ الأعظم رحمه الله و بما ذکرنا یظهر جواب السیّد الحکیم رحمه الله من بناء قول الشیخ علی «أنّ المرجع فی تعیین موضوع

ص:167


1- (1) المکاسب 3/99.
2- (2) منیة الطالب 1/207.
3- (3) المکاسب 3/99.

الاستصحاب الدلیل لا العرف و مع إجمال الدلیل لا یحرز موضوعه»(1)، مع أنّ العرف أیضا لا یری فی المقام وحدة الموضوع فی القضیتین.

و العجب من شیخنا الاُستاذ قدس سره حیث یقول: «المستصحب جواز الترادّ وضعا أی نفوذ الترادّ و صحته، و عدم إمکان الترادّ قبل فسخ العقد اللازم لا یوجب ارتفاع هذا الجواز»(2). و لعلّه قدس سره تنبّه علی عدم تمامیة کلامه فذکر بعده إشکال الشیخ الأعظم بأنّ الموضوع غیر محرز فی الاستصحاب و لم یرد علیه.

نعم، یمکن جریان الاستصحاب التعلیقی - علی القول به - بأنّ استحقاق أخذ العین عند کونها فی ملک الطرف المقابل کان ثابتا و هذا الاستحقاق التعلیقی مستمر حتّی عند کون العین خارجة عن الملک و أثره أنّها إذا رجعت إلی الملک صار مستحقا کما فسره فی المقام المحقّق الإیروانی(3) و العمدة عدم جریانه.

و أعجب منه مقالة المحقّق الخراسانی(4) رحمه الله حیث جمع بین جواز رجوع المالک الاوّل الذی هو من المتعاطیین فی الهبة التی و هبها المتعاطی الآخر، و بین عدم جواز ردّه للمعاطاة، و کذا حکم بإمکان الجمع بین العوضین فی ید المالک الأوّل أحَدَهُما بالمعاطاة و الاَْخَرْ بالرجوع فی العین الموهوبة، و لا یخفی ما فی کلیهما من التأمل.

و قد ناقشه تلمیذاه المحققان النائینی(5) و الإصفهانی(6) رحمهماالله .

ص:168


1- (4) نهج الفقاهة /143 طبع عام 1421ق.
2- (1) إرشاد الطالب 2/93.
3- (2) حاشیته علی المکاسب 2/88.
4- (3) حاشیة المکاسب /25.
5- (4) منیة الطالب 1/212.
6- (5) حاشیته علی المکاسب 1/226.

و کذا لا ینقضی تعجبی ممّا نسب إلی المحقّق العراقی رحمه الله من أنّه بنی کلام الشیخ «ولو عادت العین بفسخ ففی جواز التراد... و عدمه... و جهان أجودهما ذلک»(1) علی إصالة اللزوم و قال: «و أمّا بناءً علی ما اخترناه من إصالة الجواز، فلا ریب فی جواز الترادّ لأنّ الخروج عن الملک إنّما یمنع جواز الرجوع من جهة فقد الموضوع لا لضعف فی سلطنة الارتجاع، فإذا عادت العین إلی ملکه عادت سلطنة الارجاع علیها لأنّها عین ما ملکه الباقی، مع بقاء سلطنة الارتجاع إنّما منع عن فعلیتها خروجها عن ملکه، فإذا ارتفع المانع أثر المقتضی أثره»(2).

و الوجه فیه: بعد الحکم علیها باللزوم من أیّ جهة کانت، رجوع حکم الجواز علیها بأیّ وجه کان یحتاج إلی دلیل وَ هُوَ مفقود، مع الاعتراف بأنّ «الملک الحاصل بالفسخ لا یعقل أن یکون شخص الذی زال بل هو شخص آخر» کما علیه المحقّق الإیروانی(3) رحمه الله فالحکم بلزومه یحتاج إلی دَلِیْلٍ.

و منها: لو باع العین ثالثٌ فضولاً

تارة أجاز البیع المالک الأوّل الأصلی الذی منه ینتقل العین بالمعاطاة إلی الثانی، و اُخری أجازه المالک الثانی الذی تنتقل العین إلیه، و الإجازتان تأْتیان علی قولی الملک و الإباحة فتصیر الفروع أربعة:

الأوّل: أجاز المالک الأوّل علی القول بالملک.

قال الشیخ الأعظم رحمه الله : «لم یُبعد کون إجازته رجوعا کبیعه و سائر تصرفاته

ص:169


1- (6) المکاسب 3/99.
2- (7) حاشیة المکاسب /152 من تقریر المحقّق العراقی بقلم آیة اللّه الشیخ المیرزا أبوالفضل النجم آبادی.
3- (1) حاشیته علی المکاسب 2/88.

الناقلة»(1).

مراده نفی البعد عن صحة بیع الفضولی حینئذ لأنّ المالک الأوّل بإجازته للبیع الفضولی فسخ المعاطاة، و صار بنفسه مالکا للعین و لذا إجازته تکون نافذة، و کذلک ردّه.

و أمّا وجه البعد فی کلامه رحمه الله یمکن أن یقدر بوجهین:

أ: عدم الدلیل علی کون الإجازة فسخا أو رجوعا، بخلاف التصرفات الناقلة من ذی الخیار، لأنّه قد ثبت الدلیل علی أنّها رجوع و الدلیل هو الإجماع.

ب: أنّ الفسخ فی المعاملة المعاطاتیة لابدّ أن یکون بترادّ العینین بخلاف الفسخ فی العقود، و من المعلوم إجازة بیع الفضولی لیس ردا للعین حتّی یصدق الترادّ.

ولکن یمکن أن یُناقَشَ الْوَجهان:

أمّا الأوّل: فإنّ التصرفات المنافیة للمعاطاة تکون رجوعا عند العرف و فسخا عندهم. و أنت تری بأنّهم لا یفرقون بین التصرفات الناقلة من ذی الخیار أو فی المعاطاة من أنّها رجوع فی الخیار أو المعاطاة و تکون ردّا لهما.

و أمّا الثانی: فإنّ المعتبر فی الفسخ هو إمکان الترادّ لا الترادّ الخارجی و فی إجازة بیع الفضولی توسط المالک الأوّل یمکن الترادّ بالرجوع إلی العین إن کانت موجودة أو المثل و القیمة إن کانت مفقودة.

الثانی: أجاز المالک الثانی علی القول بالملک.

قال الشیخ الأعظم: «نَفَذَ بغیر اشکال»(2).

أقول: لأنّه مالک للعین حین وقوع العقد فینفذ إجازته و کذلک ردّه و تکون إجازته

ص:170


1- (2) المکاسب 3/101.
2- (1) المکاسب 3/101.

کبیعه المباشری ملزما للمعاطاة، و أمّا ردّه فلیس إلاّ هدما للعقد الفضولی فلا تخرج المعاطاة من التزلزل إلی اللزوم. بخلاف إجازة المالک الاوّل أو ردّه لأنّهما منه کانا فسخا للمعاطاة و کاشفَیْن عن الرجوع فی المعاطاة بالدلالة الالتزامیة.

الثالث: أجاز المالک المبیح علی القول بالإباحة

علی القول بالإباحة، العین باقیة علی ملک المالک الأوّل فینفذ إجازته و ردّه، و إجازته تکون رجوعا فی المعاطاة و تدلّ علی فسخها، لعدم الفرق بین إجازته و بیعه المباشری.

ثم هل یکون ردّه رجوعا عن المعاطاة أم لا؟ قد یقال: بأنّ ردّ العقد الفضولی لا یترتب علیه إلاّ بقاء ماله علی ما کان علیه مملوکا له و هذا لا ینافی إباحته للمتعاطی فتبقی الإباحة علی حالها.

ولکن ردّ المحقّق السیّد الخوئی هذه المقالة بقوله: «ولکن فی هذا خلطا بین المعاطاة المقصود بها الإباحة و بین المعاطاة المقصود بها الملکیة مع ترتب الإباحة علیها بالتعبد، ففیما إذا أعطی المالک ماله و قصد به الإباحة لم یکن رد العقد الواقع علیها فضولاً رجوعا عن الإباحة بخلاف إجازته. و أمّا إذا أعطی ماله قاصدا به التملیک فهو أجنبی عن ذلک المال فی اعتباره، و الإباحة الشرعیة مترتبة علی هذا الاعتبار حدوثا و بقاءً، فمادام هذا الاعتبار کان باقیا فهو أجنبی عن المال، فلیس له ردّ العقد الواقع علیه، فردّه یکشف بالدلالة الالتزامیة عن رجوعه فی المعاطاة و إرجاع مملوکه إلی نفسه، فکان الرد کالإجازة فی أنّه یکون رجوعا عن المعاطاة»(1).

الرابع: أجاز المباح له علی القول بالإباحة

ص:171


1- (2) مصباح الفقاهة 2/211.

إجازته نافذة و صح العقد الفضولی بها و کذلک صارت المعاطاة بها لازمة، لأنّ شأن الإجازة الصادرة منه شأن البیع الصادر منه و لذا توجب لزوم المعاطاة. و أمّا ردّه فلا یؤثر فی إبطلال العقد الفضولی، لأنّه لیس له إلاّ جواز التصرف فیها دون ردّ العقد الواقع

علیها.

و بعبارة اُخری: مع ردّه لا یضاف العقد إلیه و یجوز للمالک التصرف فی ماله بإجازته للعقد الفضولی و تکون هذه رجوعا عن المعاطاة.

و بالجملة یمکن التفصیل بین إجازة المباح له و ردّه بأنّ إجازته تصحح العقد ولکن ردّه لا یردّه خلافا للشیخ الأعظم(1) و المحقّق النائینی(2).

و قال الشیخ الأعظم قدس سره فی الصورتین الأخیرتین ما نصه: «و ینعکس الحکم إشکالاً و وضوحا علی القول بالإباحة»(3).

مراده: أنّ الاشکال یأتی فی الصورة الأخیرة و هی إجازة المباح له، و هو عبارة عن استدعاء نفوذ إجازته، الملکیة آنا ما قبلها له و هذه الملکیة أیضا لا تفید علی القول بأنّ الإجازة کاشفة و لیست بناقلة لأنّ الملکیة آنا ما قبل الإجازة لا تصحح العقد الفضولی بناءً علی أنّ الإجازة کاشفة - کما هو الصحیح - نعم تصححه بناءً علی أنّ الإجازة ناقلة.

و جوابه: ترتب الإباحة علی المعاطاة لم یدل دلیل لفظی علیها بل هو مقتضی الإجماع المدّعی، و المتیقن منه هو ما قبل صدور العقد الفضولی المتعقب بإجازته، و فی غیره یتمسک بالاطلاقات الواردة و بها تثبت الملیکة من حین صدور العقد.

هذا کلّه علی مبنی القوم و إلاّ علی القول المختار فی المعاطاة من أنّ المعاطاة بیعٌ بلا

ص:172


1- (1) المکاسب 3/101.
2- (2) المکاسب و البیع 1/257.
3- (3) المکاسب 3/101.

فرق بینها و بین البیع باللفظ، فالمال ینتقل إلی الثانی و له الإجازة أو الرد فی العقد الفضولی و لیس لغیره، فإذا أجاز نفذو و إن ردّ المال، فهو باق علی ملکه.

ثم قال الشیخ الأعظم: «و لکلٍّ منهما ردّه قبل إجازة الآخر»(1).

أقول: للمالک الأوّل ردّه - علی قولی الملک و الإباحة - و ردّه رجوع فی المعاطاة.

و أمّا الثانی فله ردّه علی القول بالملک لأنّه مالک و له الإجازة و الردّ، و أمّا علی القول بالإباحة فردّه یرد انتساب العقد الفضولی إلیه ولکن یمکن للمبیح أن یجوّز العقد و لو بعد ردّه و هذا الأخیر هو الفارق بیننا و بین الشیخ الأعظم کما مرّ.

ثم قال الشیخ الأعظم: «لو رجع الأوّل فأجاز الثانی، فأن جعلنا الإجازة کاشفة لغی

الرجوع و یحتمل عدمه، لأنّه رجوع قبل تصرف الآخر فینفذ و یلغو الإجازة، و إن جعلناها ناقلة لغت الإجازة قطعا»(2).

أقول: لو رجع المالک الأوّل أو المبیح عن المعاطاة ولکن العقد الفضولی وقع قبل رجوعه ثم وقع الرجوع ثم أجازه الثانی فهل یؤثر الرجوع أو الاجازة؟

فلیعلم بأنّ الفضولی قد یبیع الثمن و قد یبیع المثمن، و الرجوع قد یقع من البائع و الإجازة من المشتری و اُخری بالعکس، فهذه أربعة فروع تارة وقع علی القول بالملک و تارة وقع علی القول بالإباحة فصارت ثمانیة و الکل یقع علی قولی الکشف و النقل فصارت ستةَ عشَرَ.

فی بعض الفروع لا بأس بالقول بالصحة نحو: إذا کان المبیع فضولاً هو المبیع معاطاة و الراجع هو المشتری و المجیز هو البائع، أو کان المبیع هو الثمن و الراجع هو البائع و المجیز هو

ص:173


1- (4) المکاسب 3/101.
2- (1) المکاسب 3/101.

المشتری فلا إشکال فی نفوذ الإجازة و صحة العقد لأنّها تقع علی ملک مالکه، و بلا فرق بین قولی الملک و الإباحة و کذا بلا فرق بین قولی الکشف و النقل فی الإجازة، فهذا حکم ثمانیة فروع.

و بقیَت ثمانیة فروع محل البحث و هی: باع الفضولی المبیع فرجع البائع ثم أجاز المشتری، أو باع الفضولی الثمن فرجع المشتری ثم أجاز البائع علی قولی الملک و الإباحة و کذا علی قولی الکشف و النقل.

و أنت تری بأنّ لا فرق هنا بین قولی الملک و الإباحة و الحکم فیهما واحد ولکن الکلام کلّ الکلام یظهر فی الفرق بین قولی الکشف و النقل، لأنّه لو رجع الأوّل ثم أجاز الثانی فلو جعلنا الإجازة کاشفة - بمعنی عدم دخلها فی العقد لکون السبب التام هو العقد بحیث کانت الإجازة طریقا صِرفا إلی الواقع کالعلم کما یظهر من بعض نحو: سیّد الریاض(1) و صاحب الجواهر(2) - لغی الرجوع لوقوعه فی ملک الغیر ولو کان سابقا علی الإجازة لتأخره عن السبب التام و هو العقد.

ولکن هذا المعنی من الکشف غیر تام لأنّه و إن کان محتملاً فی مقام الثبوت ولکن لا دلیل علیه فی مقام الإثبات، و لأنّ هذا المعنی فی الکشف یتم إذا کان صدرت الإجازة من

المالک، لا من کلّ أحدٍ، و من المعلوم رجوع المالک الأوّل یرفع موضوع الإجازة من المالک الثانی فلا تکون إجازته صادرةً من المالک.

ولکن لو جعلنا الإجازة کاشفة ولکنّها بمعنی أنّها دخیلة فی تأثیر الإنشاء السابق للعقد إمّا بنحو الشرط المتأخر أو بنحو القیدیة علی أن یکون المؤثر فی صحة العقد الفضولی

ص:174


1- (2) ریاض المسائل 8/227.
2- (3) الجواهر 22/285 و 287.

و ترتب الملکیة علیه هو الإنشاء السابق المقید بتعقب الإجازة، صارت الإجازة لاغیة لإنّ المالک الثانی قد انقطعت علاقته عن المال برجوع المالک الأوّل عن معاطاته.

ولو جعلنا الإجازة ناقلة فلغویتها فی المقام ظاهرٌ.

هذا کلّه فی فرض تقدم الرجوع علی الإجازة ولکنّهما إذا تقارنا فأیّهما یقدم علی الآخر؟ لو قلنا بشمول الإجماع القائم علی جواز المعاطاة حتّی فی صورة رجوعه حال إجازة المالک الثانی فلا یبقی مجال لإجازة الثانی و الرجوع یقدم علیها، ولو قلنا بعدم شمول الإجماع فی هذه الصورة کان الرجوع لاغیا و تقدم الإجازة.

و فی فرض الشک فی الشمول و عدمه حیث کان الإجماع دلیلاً لبیّا، لابدّ من الأخذ بالقدر المتیقن منه و هو صورة عدم المقارنة بین الرجوع و الإجازة، ففی صورة المقارنة لا یجری الإجماع و تقدم الإجازة حینئذ و للّه الحمد.

و منها: امتزاج إحدی العینین بغیرها

قال المحقّق الثانی فی تعلیقه علی الإرشاد: «و مثله (أی فی معنی التلف)... أو خُلطت بما لا یتمیّز معه»(1).

و نحوها فی المیسیة(2).

و قال ثانی الشهیدین: «لو اشتبهت بغیرها أو امتزجت بحیث لا یتمیّز فإن کان بالأجود فکالتلف. و إن کان بالمساوی أو الأردأ احتمل کونه کذلک لإمتناع الترادّ علی الوجه الأوّل، و اختاره جماعةٌ. و یحتمل العدم فی الجمیع لأصالة البقاء»(3).

و علّق صاحب مفتاح الکرامة علی قوله «و اختاره جماعةٌ» بقوله: «لعلّه فهمه من

ص:175


1- (1) حاشیة الإرشاد /334.
2- (2) کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/508.
3- (3) المسالک 3/150.

إطلاقهم»(1). و هذا اشارة علی عدم وجود قائل صریح بهذا التفصیل من فقیه متتبع.

و نحوها فی الروضة(2) و کذا احتمل عدم إلحاق الامتزاج بالتلف فیها.

و قال الشیخ جعفر: «و اُلحق به طحن الحنطة و مزجها مطلقا أو بالأجود دون الأدنی و المساوی... و أما المزج علی وجه لا یتمیّز فلا یمکن ردّه بعینه و قبول الجمیع فیه منّة و دخول مال الغیر فی ماله، من غیر فرق بین الأجود و مقابلاته»(3).

و قال الشیخ الأعظم: «ولو امتزجت العینان أو إحداهما، سقط الرجوع علی القول بالملک، لامتناع الترادّ و یحتمل الشرکة، و هو ضیعف. أمّا علی القول بالإباحة، فالأصل بقاء التسلّط علی ماله الممتزج بمال الغیر، فیصیر المالک شریکا مع مالک الممتزج به، نعم لو کان المزج مُلْحِقا له بالإتلاف جری علیه حکم التلف»(4).

أقول: الامتزاج لابدّ أن یکون امتزاجا عرفا و أمّا ما لم یکن کذلک ولو کان امتزاجا عقلاً فلا عبرة به نحو امتزاج الاوراق النقدیة، ثم الامتزاج إمّا أن یکون بغیر جنسه و إمّا أن یکون بجنسه، و الأوّل علی القسمین تارة علی وجه الاستهلاک کامتزاج ماء الورد بالزیت، و اُخری علی وجه لا یُعدّ تالفا کالخل الممتزج بالأنجبین.

الثانی: تارة یمتزج بالمساوی و اُخری بالأرادأ و ثالثة بالأجود.

فهذه مواردُ الامتزاجِ الْخمسةُ ذکرها الشیخ الأعظم فی بحث خیار الغبن(5)، و یأتی الحکم فی کلّ منها علی قولی الملک و الإباحة فی المعاطاة فصار عشرة فروع.

ص:176


1- (4) مفتاح الکرامة 12/508.
2- (1) الروضة البهیة 3/223.
3- (2) شرح القواعد 2/28 و 29.
4- (3) المکاسب 3/101.
5- (4) المکاسب 5/199.

و من المعلوم عند أهله أنّ البحث عن التغییر و الامتزاج یأتی فی خمسة أبواب أقلاً: هنا و خیارا العیب و الغبن و الهبة و التفلیس.

و الفقهاء حکموا بسقوط خیار العیب بالتغییر و المزج لأنّ المناط فیه بقاء العین بعینها کما تدل علیه صحیح جمیل عن بعض أصحابنا عن أحدهما علیهماالسلام فی الرجل یشتری الثوب أو المتاع فیجد فیه عیبا، فقال: إن کان الشیء قائما بعینه ردّه علی صاحبه و أخذ الثمن، و إن کان الثوب قد قطع أو خیط أو صبغ یرجع بنقصان العیب.(1)

و أنت تعرف بأنّ المناط مشترک بین المزج و التغییر فیسقط الردّ دون الأرش. و

الأصحاب الحقوا خیار الغبن و الهبة بخیار العیب و الأوّل یأتی حکمه مفصلاً فی محلِّه کالمُلْحَق إن شاء اللّه تعالی فانتظر.

و أمّا الهبة و إن کان نُسب(2) إلی ظاهر المحقّق اختصاص سقوط الرجوع فیها بالتلف الحقیقی دون التغیّر و الامتزاج لأنّه قال: «.. و إن کان اجنبیّا فله الرجوع مادامت العینُ باقیةً فإن تِلفَتْ فلا رجوع... و هل یلزم بالتصرف؟ قیل: نعم، و قیل: لا یلزم و هو الأشبه»(3).

ولکن الظاهر الحاقهما بالتلف فی الهبة أیضا لما ورد فی صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إذا کانت الهبة قائمة بعینها فله أن یرجع و إلاّ فلیس له.(4)

ولکن فی باب التفلیس حکموا بأنّ التغییر و المزج لا یوجب سقوط حقّ صاحب العین عن عینه لأنّ المناط فیه وجود العین فما لم یطرأ علیها التلف فصاحب العین أحقّ بها و هما لایخرجان العین عن امکان رجوع صاحبها إلیها فلا یضرب مع الغرماء لما ورد فی

ص:177


1- (5) وسائل الشیعة 18/30، ح3، الباب 16 من أبواب الخیار.
2- (1) الناسب هو المحقّق النائینی فی منیة الطالب 1/217.
3- (2) شرائع الإسلام 2/180 کتاب الهبات.
4- (3) وسائل الشیعة 19/241، ح1، الباب 8 من أبواب کتاب الهبات.

صحیح جمیل عن بعض أصحابنا عن أبی عبداللّه علیه السلام فی رجل باع متاعا من رجل فقبض المشتری المتاع و لم یدفع الثمن ثم مات المشتری و المتاع قائم بعینه، فقال: إذا کان المتاع قائما بعینه ردّ إلی صاحب المتاع و قال: لیس للغرماء أن یُحاصّوه»(1).

و نحوه صحیحة عمر بن یزید عن أبی الحسن علیه السلام قال: سألته عن الرجل یرکبه الدین فیوجد متاع رجل عنده بعینه؟ قال: لا یُحاصّه الغرماء.(2)

نعم فی بعض صور، باب التفلیس خلافٌ کما فی المزج بالأجود عن الشیخ فی الخلاف حیث قال: «إذا باع زیتا فخلّطه المشتری بأجود منه ثم أفلس المشتری بالثمن سقط حقّ البائع من عین الزیت و...»(3).

و تبعه العلاّمة فی التذکرة و قال: «أن یمتزج بالأجود فالأجود فالأصح أنّه یسقط حقّه من العین و لیس إلاّ المضاربة بالثمن...»(4).

ولکن المشهور باقون علی جواز الرجوع فی العین ولو مع التغییر و المزج فی الجملة و

التفصیل یطلب من کتاب الحجر.

ثم التغییر و الامتزاج فی المعاطاة هل یلحقان بخیاری العیب و الغبن و باب الهبة أو یلحقان بباب الحجر و التفلیس؟ الظاهر لحوقهما بالأوّل و الحکم بلزوم المعاطاة و عدم جواز الردّ لأنّ علی القول بالملک دلیل الجواز هو الإجماع، و هو لا یأتی فی صورة التغییر و الامتزاج و لاأقل من الشک فی إتیانه فلابدّ من الأخذ بالقدر المتیقن منه و هو فرض بقاء العین من دون تغییر و مزج.

ص:178


1- (4) وسائل الشیعة 18/414، ح1، الباب 15 من أبواب کتاب الحجر.
2- (5) وسائل الشیعة 18/415، ح2.
3- (6) الخلاف 3/266، مسألة 6.
4- (7) تذکرة الفقهاء 14/152.

و علی القول بالإباحة أیضا تَثْبُتُ الإباحة الشرعیة فی المعاطاة بالإجماع فالکلام الکلام.

مضافا إلی قیام السیرة القطعیة علی عدم جواز الرجوع فی المعاطاة فی صورتی التغییر و الامتزاج.

و بما ذکرنا یظهر وجه ضعف احتمال الشرکة علی القول بالملک کما ضعفه الشیخ الأعظم، و کذا عدم تمامیة الشرکة علی القول بالإباحة الواردة فی کلامهِ قدس سره ، و أمّا دلیل الشرکة علی القولین فلیس إلاّ السیرة العقلائیة علی تحقق الشرکة عند حصول الامتزاج بین العینین بحیث یمتنع تمییز إحداهما و إفرازها عن الاُخری بحسب العادة بلا فرق فی جریان السیرة بین الامتزاج بجنسه أو بغیره و لم یثبت الردع الشرعی عنها، فهذه السیرة العقلائیة مع عدم ورود الردع شرعا تثبت الشرکة. ولکن مع ملاحظة ما ذکرناه لا یتم القول بالشرکة فی المقام.

و کذا لا تتمّ مقالة المحقّق الخراسانی حیث یقول: «لو قیل بحصول الشرکة بمجرد الامتزاج، و إلاّ لم یمتنع الترادّ لبقاء الأجزاء الممتزجة علی ما کانت علیه من الملک أو الإباحة، لمن صارت إلیه من المتعاطیین فیصح ردّها إلی من انتقل عنه. فتدبر جیدا»(1).

و فیه: أوّلاً: قد مرّ آنفا جریان السیرة العقلائیة علی تحقّق الشرکة عند حصول الامتزاج بین العینین و عدم ورود الردع الشرعی، فما ذکره بعنوان القیل تمام ولکن فی غیر المقام.

و ثانیا: و کذلک مرّ من أن ممّا یوجب لزوم المعاطاة عدم بقاء العین علی ما هی علیه من الوصف کما فی خیار العیب و غیره، و لیس منحصرا بخروج المال عن قابلیة التملّک.

ص:179


1- (1) حاشیة المکاسب /25.
و منها: التغییر فی صورة إحدی العینین

قال إبن ادریس الحلّی: «... و لکلّ واحد منهما أن یرجع فیما بذل لأنّ الملک لم یحصل لهما بشرط أن بقیا، فإن لم یبق أحدهما بحاله کما کان أوّلاً فلا خیار لأحدهما...»(1).

یمکن حمل کلامه علی صورة التغییر أو إطلاقه یشمله.

و قال المحقّق الثانی فی تعلیقه علی الإرشاد: «و مثله (أی فی معنی التلف) لو تغیّرت من حالة إلی اُخری کالحنطة تُطحن أو اشتبهت بغیرها...»(2).

و نحوها فی المیسیة(3) بل الحقّ فیها بالتلف تغییر صفتها کخیاطة الثوب و صبغه و قصره.

و قال الشهید الثانی: «لو تصرف فیها تصرفا غیر ناقل للملک و لا جزء سببه فإن لم تتغیر العین به عن صفتها - کالاستخدام [و الانتفاع بالأناء] و لبس الثوب - فلا أثر له فی اللزوم، و إن أوجب تغییرا إلی حالة اُخری - کطحن الحنطة و صبغ الثوب - احتمل کونه کذلک لأصالة بقاء الملک مع بقائه، و لزوم المعاطاة بذلک و به جزم بعض الأصحاب لما تقدم من امتناع الترادّ بسبب الأثر المتجدد. و عندی فیه إشکال»(4).

و احتمل عدم الالحاق بالتلف فی الروضة.(5)

و قال الشیخ جعفر: «... و اُلحِق به طحن الحنطة... و خیاطة الثوب و صبغه و قصره... و تغییر الصورة بطحن أو تفصیل أو خیاطة أو صبغ و نحوها، لو دخل تحت الردّ

ص:180


1- (1) السرائر 2/250.
2- (2) حاشیة الإرشاد /334.
3- (3) کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/507 و 508.
4- (4) المسالک 3/150.
5- (5) الروضة البهیة 3/223.

جاءَه ثبوت الضرر غالبا بتبدیل الاُوصاف و اختلاف الرغبات، نعم لو بقی الشیء علی حاله و زاده حسنا بصقل أو إخراج غبار و رفع و سخ و نحوها لم یکن فیه ذلک»(1).

و قال الشیخ الأعظم: «و لو تصرّف فی العین تصرفا مغیّرا للصورة - کطحن الحنطة و فصل الثوب - فلا لزوم علی القول بالإباحة، و علی القول بالملک ففی اللزوم و جهان مبنیّان علی جریان استصحاب جواز الترادّ و منشاأ الاشکال أنّ الموضوع فی الاستصحاب عرفیٌّ أو حقیقیٌّ»(2).

أقول: قد ظهر مما ذکرناه فی الامتزاج آنفا من أنّ دلیل الجواز علی قولی الملک و الإباحة الشرعیة هو الإجماع فلابدّ من الأخذ بالقدر المتیقن منه و هو عدم التغییر و القول باللزوم فی صورة التغییر.

فالتغییر یلحق بالامتزاج و هما هنا یلحقان بخیاری العیب و الغبن و الهبة کما مرّ فی بحث الامتزاج، و لا یلحقان بباب التفلیس کما مرّ، فما ذکره الشیخ من الجواز علی القول بالإباحة، و ابتناء المسألة علی جریان الاستصحاب و عدمه علی القول بالملک لا یتم.

لأنّ المراد بالإباحة هو الشرعیة منها لا المالکیة فحینئذ لابدّ من ملاحظة دلیلها و هو الإجماع، و لا تبتنی المسألة علی جریان الاستصحاب علی القول بالملک لأنّ دلیل الجواز أیضا هو الإجماع و مع عدم إتیان الدلیل فی صورة التغییر فلا تصل النوبة إلی الاستصحاب حتّی نبحث فی أن الموضوع فیه عرفی - کما هو الصحیح - أو حقیقی.

مضافا إلی قیام السیرة المستمرة علی اللزوم فیها فی صورتی التغییر و الامتزاج کما مرّ، و حیث أنّ الصورتین (التغییر و الامتزاج) من سنخ واحد فلا نطیل الکلام فیهما و یظهر

ص:181


1- (6) شرح القواعد 2/28 و 29.
2- (7) المکاسب 3/101 و 102.

لک الحکم ممّا ذکرناه فی صورة الامتزاج و الحمدللّه.

و منها: موت أحد المتعاطیین

هل المعاطاة علی القول بجوازها تصیر لازمة بموت أحد المتعاطیین؟ أم تبقی علی جوازها و اختیارها یکون بید الوارث؟!

قال الشیخ الأعظم: «لیس جواز الرجوع فی مسألة المعاطاة نظیر الفسخ فی العقود اللازمة حتّی یورّث بالموت و یسقط بالاسقاط ابتداءً أو فی ضمن المعاملة، بل هو علی القول بالملک نظیر الرجوع فی الهبة، و علی القول بالإباحة نظیر الرجوع فی إباحة الطعام...»(1).

أقول: الوارث یرث من مورّثه ما ترکه من حقٍّ أو ملکٍ، و الجواز فی المعاطاة علی القول بها لا یکون حقّا و لا ملکا بل یکون حکما شرعیّا و لذا لا یورّث، لأنّ الحکم الشرعی الجواز یختص بالمتعاطیین و انتقاله إلی ورثتهما یحتاج إلی دلیل مفقود فی المقام و لذا یکون نظیر الحکم الشرعی بالجواز فی الهبة.

ثم قد مرّ أنّ دلیل الجواز فی المعاطاة علی قولی الملک و الإباحة الشرعیة لیس إلاّ

الاجماع، و الاجماع دلیل لبّیٌّ یؤخذ بالقدر المتیقن منه و هو فرض نفس المتعاطیین و لا یجری فی حقّ ورثتهما و لاأقل من الشک فیؤخذ بالقدر المتیقن منه و هما المتعاطییان أنفسهما فبموت أحدهما تصیر المعاطاة لازمةً.

مضافا إلی وجود السیرة القطعیة علی لزوم المعاطاة بموت أحد المتعاطیین علی قولی الملک و الإباحة.

فظهر ممّا ذکرنا عدم صحة الفرق بین قولی الملک و الإباحة حیث یظهر من الشیخ

ص:182


1- (1) المکاسب 3/102.

الأعظم الفرق بینهما، و کذا عدم تمامیة القول بالإباحة المالکیة، کما یظهر من تمثیل الشیخ فی المقام حیث یقول: «و علی القول بالإباحة نظیر الرجوع فی إباحة الطعام بحیث یناط الحکم فیه بالرضا الباطنی، بحیث لو علم کراهة المالک باطنا لم یجز له التصرف»(1). بل علی القول بالإباحة لیست إلاّ الشرعیة منها. و لا یجری استصحاب الجواز لأنّ المتیقن منه یکون راجعا إلی المیت لا وارثه، فالموضوع مغایر فی قضیتی المتیقنة و المشکوکة و لذا لا یجری الاستصحاب.

و منها: جنون أحد المتعاطیین

هل جنون أحدهما یلحق المعاطاة باللزوم؟ أم لا؟

ذهب الشیخ الأعظم إلی جواز المعاطاة مع طرو الجنون و لذا قال: «ولو جنّ أحدهما، فالظاهر قیام ولیّه مقامه فی الرجوع علی القولین»(2).

ولکن ظهر ممّا ذکرنا أنّ دلیل الجواز هو الاجماع و القدر المتیقن منه هو عدم طریان الجنون علی أحدهما و معه یحکم باللزوم و ینتفی قیام ولیّه مقامه فی الرجوع. قد طال بنا الکلام فی التنبیه السادس من المعاطاة و تم و الحمدللّه أوّلاً و آخرا.

السابع: المعاطاة بیعٌ - ولو بعد اللزوم - أو معاوضة مستقلة؟
اشارة

إذا کانت بیعا تجری فی حقّها أحکام البیع من الفسخ بالخیارات و الإقالة ولو بعد اللزوم، و قد بحثنا فی التنبیه الأوّل عن ترتب أحکام البیع علی المعاطاة ولکن واعدنا لتفصیل بحث الخیارات إلی هنا، ولکن قبل الورود فی البحث لابدّ من نقل کلام الشهیدین ثم تعلیق الشیخ علیهما.

ص:183


1- (1) المکاسب 3/102.
2- (2) المکاسب 3/102.

نقل السیّد العاملی عن الشهید أنّه قال فی حاشیته علی القواعد: «إنّ المعاطاة

معاوضة برأسها إمّا لازمة و إمّا جائزة»(1). و قال العاملی: «و هل تصیر بیعا علی تقدیر لزومها بأحد الوجوه أو معاوضة برأسها؟ ففی حواشی الکتاب أنّها معاوضة برأسها إمّا لازمة و إمّا جائزة فقد جعلها أوّلاً و آخرا معاوضة علی حدة، و هو الظاهر من کلامهم»(2).

و علّق الشیخ الأعظم علی کلام الشهید: «الظاهر أنّه أراد التفریع علی مذهبه من الإباحة و کونها معاوضة قبل اللزوم، من جهة کون کلٍّ من العینیین مباحا عوضا عن الاُخری لکن لزوم هذه المعاوضة لا یقتضی حدوث الملک کما لا یخفی فلابدّ أن یقول بالإباحة اللازمة، فافهم»(3)

أقول: قد مرّ عدم انحصار العقود و الإیقاعات بما ذکره الأصحاب قدیما و یمکن إحداث عقود حدیثة نحو التأمین و تشملها الإطلاقات و العمومات کقوله تعالی: «اوفوا بالعقود»(4) و لذا یمکن جعل المعاطاة برأسها معاوضة مستقلة.

ولکن إن جعلنا الإباحة الواردة فی المعاطاة الإباحة المالکیة - کما هر ظاهر الشیخ الأعظم فی بعض کلماته - فإنّ لزومها من الإبتداء لا یلازم الملک، بخلاف الإباحة الشرعیة لأنّ اللزوم الابتدائی فیها یلازم الملک، فلابدّ من حمل الإباحة فی کلام الشیخ علی مذهبه أیّ الإباحة المالکیة، لا الشرعیة منها. و نبّه علیه شیخنا الاستاذ(5) قدس سره .

ثم قال ثانی الشهیدین: «علی تقدیر لزومها بأحد الوجوه المذکورة، فهل تصیر بیعا

ص:184


1- (1) مفتاح الکرامة 2/511.
2- (2) مفتاح الکرامة 12/511.
3- (3) المکاسب 3/150.
4- (4) سورة المائدة /1.
5- (5) إرشاد الطالب 2/100.

أو معاوضة برأسها؟ یحتمل الأوّل، لأنّ المعاوضات محصورة و لیست أحدها و کونها معاوضة برأسها یحتاج إلی دلیل، و یحتمل الثانی لإطباقهم علی أنّها لیست بیعا حال و قوعها فکیف تصیر بیعا بعد التلف.

و تظهر الفائدة فی ترتب الأحکام المختصة بالبیع علیها - کخیار الحیوان - لو کان التالف الثمن أ و بعضه، و علی تقدیر ثبوته، فهل الثلاثة من حین المعاطاة أم من حین اللزوم؟ کلٌّ محتمل. و یشکل الأوّل بقولهم: «أنّها لیست بیعا، و الثانی بأنّ التصرف لیست معاوضة بنفسه. اللهم إلاّ أن تجعل المعاطاة جزء السبب و التلف تمامه. و الأقوی عدم ثبوت خیار

الحیوان هنا، بناءً علی أنّها لیست لازمة و إنّما یتم علی قول المفید و من تبعه. أما خیار العیب و الغبن فیثبتان علی التقدیرین کما أن خیار المجلس منتفٍ»(1).

ثم علّق علیه الشیخ الأعظم(2) بأنّ کلام ثانی الشهیدین یجری علی القول بالإباحة فی المعاطاة، أمّا علی القول بالملک حتّی المتزلزل و الجائز منه، یعدّ المعاطاة بیعا بلا إشکال عندهم و إذا لزمت صارت بیعا لازما، و اختار قدس سره علی القول بالإباحة أنّها بیع عرفی لم یصحّحه الشارع و لم یمضه إلاّ بعد التلف أو ما فی حکمه، و بعده تترتّب علیه أحکام البیع عدا ما اختص دلیله بالبیع الواقع صحیحا من أوّل الأمر.

أقول: هذا الکلام من الشیخ الأعظم ظاهر فی الإباحة الشرعیة - خلافا لبعضها الاْآخر الظاهر فی الإباحة المالکیة کما مرّ فی بحث الامتزاج و التغییر و موت أحدهما - و أنّ المعاطاة بیعٌ علی القولین ولکن علی القول بالملک قبل اللزوم و علی القول بالإباحة بعده فیکون اللزوم علی هذا القول الأخیر کالتقابض فی البیع الصرف فحینئذ - أی حین اللزوم -

ص:185


1- (1) المسالک 3/151.
2- (2) المکاسب 3/104 و 103.

علی القول بالإباحة و علی القول بالملک من أوّل أزمنة التعاطی یترتب علیها جمیع أحکام البیع و من جملتها الخیارات هذا ما یستفاد من کلام الشیخ الأعظم.

و أمّا جریان الخیارات فی المعاطاة

فإنّه قبل ورود البحث لابدّ من التّذکیر بأنّ الخیارات علی أقسام ثلاثة:

1- تارة یثبت الخیار فی البیع بالشرط الضمنی و الارتکاز العرفی من غیر تصریح بالشرط فی ضمن العقد نحو خیاری العیب و الغبن و خیار تأخیر الثمن.

2- و اُخری یثبت فیه بالجعل و الاشتراط من قبل المتبایعین سواء کان شرط فعل علی أحدهما أو اشتراط صفة فی أحد العوضین نحو خیاری الرؤیة و تخلف الوصف، و من البدیهی عدم إمکان توقف أصل العقد علی تحقق الشرط لأنّه یستلزم التعلیق فی العقود و هو مبطل اجماعا - علی المشهور - و لذا یحکم بأنّ لزوم العقد متوقف علی الوفاء بالشرط.

3- و ثالثة یثبت الخیار فیه بالدلیل الشرعی التعبدی نحو خیاری المجلس و الحیوان.

ثم من المعلوم جریان الخیارات فی المعاطاة علی القول بأنّها بیع لازم، لأنّها بیع و لذا تجری جمیع الخیارات فیها.

و عدم توهم جریانها فیها علی القول بأنّها تفید الإباحة المالکیة نحو: إباحة الطعام و

الألبسة و الأمکنة.

و أمّا علی القول بأنّها معاوضة مستقلة فیجری القسم الأوّل و الثانی منها دون الثالث لانحصار دلیلها بالبیع فقط.

و علی القول بأنّها تفید الإباحة الشرعیة أو الملک الجائز - أی المتزلزل - أیضا یجری القسم الأوّل و الثانی منها لأنّ دلیل القسم الأوّل یأتی فی جمیع المعاملات و کذلک القسم الثانی یأتی حین الاشتراط و الجعل فی المعاملات بل القسم الثالث لأنّها بیع عرفا.

إن قُلْتَ: أثر الخیار هو جواز العقد و من المعلوم - علی القولین أیّ الملکیة الجائزة و

ص:186

الإباحة الشرعیة - تکون المعاطاة جائزة بالذات فلا معنی لجوازها بالعرض.

قُلْتُ: قد مرّ منّا فی التنبیه الأوّل بأنّ الجواز من ناحیة لاینافی الجواز من ناحیة اُخری کما یمکن أن تترتب علی بیع عدّة من الخیارات، و تظهر الثمرة فی طرو إحدی الملزمات و مع طریانها صارت المعاطاة لازمة فتثمر جریان الخیارات، مع جواز أخذ الأرش فی عدّة منها.

إن قُلْتَ: الظاهر من أدلة الخیارات عموما و الخیارات المختصة بالبیع - نحو خیاری المجلس و الحیوان - خصوصا، اختصاصها بالعقود اللازمة من غیر ناحیة هذا الخیار، فلا تشمل المعاطاة لأنّها الجائزة.

قُلْتُ: مضافا إلی ما مرّ فی الجواب عن الاشکال السابق، أنّها تختص بعقد لازم عند المتعاقدین و المعاطاة منها، و لا اللازم عند الشارع لأنّها حتّی فی العقد اللفظی أیضا لا تتم لاجتماع الخیارات.

إن قُلْتَ: علی فرض جریان الخیارات فی المعاطاة، یمکن جریانها علی القول بالملک ولو کانت الجائزة ولکن علی القول بانّها تفید الإباحة الشرعیة فکیف یمکن جریانها فیها مع أنّها لیست إلاّ اباحة شرعیة و لکلّ منهما التصرف فی مال الآخر فقط فکیف یمکن جریان القسم الثانی من الخیارات الثابتة بالجعل و الشرط مع عدم لزوم المشروط، و کذلک القسم الأوّل منها لأنّها تثبت بالشرط الضمنی و الإرتکازی، و القسم الثالث أیضا دلیله مختص بالبیع فقط فلا یجزی فی الإباحة الشرعیة، فلا یجری الخیارات بأثرها علی القول بالإباحة الشرعیة.

قُلْتُ: قد مرّ منّا بأنّ الجواز لا ینافی جریان الخیار و أنّ المعاطاة علی القول بالإباحة الشرعیة أیضا معاوضة و معاملة، مضافا بأنّ الإطلاقات الواردة فی وجوب الوفاء بالشرط

تشمل المقام، و المعاطاة بیع عرفا و عند المتعاطیین فتجری الأقسام الثلاثة من الخیارات

ص:187

حتّی علی القول بأنّها تفید الإباحة الشرعیة.

و کذلک یجری خیار تأخیر الثمن أیضا فی المعاطاة علی جمیع الأقوال فیها لأنّه قد مرّ فی التنبیه الثانی صحة المعاطاة و إن کانت من طرف واحد و مع عدم لحوق الثمن بها یجری هذا الخیار.

و أمّا مبدأ خیاری المجلس و الحیوان هل یُحْسَبُ من مجلس إحدی الملزمات و یومها أو یُحْسَبُ من مجلس التعاطی و یومه، فالظّاهر هو الثانی لأنّه هو مبدؤها علی جمیع الأقوال فلا یلاحظ زمن طرو الملزمات.

و بما ذکرنا یظهر عدم تبنی جریان الخیارات علی القول بأنّ اللزوم فیها حقّیٌّ و عدم جریانها علی القول بأنّ اللزوم فیها حکمیٌّ، لأنّ الخیار ثابت فیها حتّی قبل اللزوم لعدم التنافی بینهما، هذا تمام الکلام فی جریان الخیارات فی المعاطاة و الحمدللّه.

الثامن: هل العقد الفاقد لبعض شرائط الصیغة معاطاةٌ؟
مسألتان لابدّ من التنبیه علیهما ثم وجه الجمع بینهما:
أمّا الاُولی منهما: المقبوض بالعقد الفاسد یوجب الضمان.

فقد قال الشیخ فی المبسوط: «إذا باع عبدا بیعا فاسدا و اُقبضه لم یملک و لم ینفذ عتقه و لاشیء من تصرّفه من البیع و الهبة و الوقف و غیر ذلک و یجب علیه ردّه و ردّ ما کان من نمائه المنفصل منه لأنّ ملک الأوّل لم یزل عنه فالتصرف فیه لا یصح و یلزمه ردّه علی البائع لأنّه ملکه و لا أثم علیه...»(1).

و قال فی غصب المبسوط: «... و جملته أنّ کلّ منفعة تضمن بعقد الإجارة فإنّها تضمن بالغصب کمنافع الدار و الدابّة و العبید و الثیاب المقبوض عن بیع فاسد فإنّه لا یملک

ص:188


1- (1) المبسوط 2/149.

بالبیع الفاسد و لا ینتقل به الملک بالعقد و إذا وقع القبض لم یملک به أیضا لأنّه لا دلیل علیه، و إذا یملک

به کان مضمونا...»(1).

و قال فی الخلاف: «إذا اشتری جاریة شراءً فاسدا ثم قبضها فاعتقها لم یملک بالقبض و لم ینفذ عتقها و لا یصح شیء من تصرفه فیها مثل البیع و الهبة و الوقف و غیر ذلک و یجب ردّها علی البائع بجمیع نمائها المنفصل منها... دلیلنا علی ذلک: أنّه إذا کان البیع فاسدا فملک

الأوّل باق لم یزل و إذا لم یزل فکلّ من تصرف فی ملکه بغیر إذنه یجب أن لا یصح تصرفه لأنّه لادلیل علی صحته»(2).

و قال فیه أیضا: «إذا اشتری جاریة بیعا فاسدا فوطأها فإنّه لا یملکها و وجب علیه ردّها و علیه إن کانت بکرا عشر قیمتها و إن کانت ثیبا نصف عشر قیمتها... دلیلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، فإنّهم رووا ذلک منصوصا عن الأئمة علیهم السلام و إجماعهم حجة»(3).

و قال فی غصب الخلاف: «المقبوض ببیع فاسد لا یملک، و لا بالقبض. و به قال الشافعی، و قال أبوحنیفة: یملک بالقبض. دلیلنا: أنّه لا دلیل علی أنّه یملک بهذا القبض، فمن ادعی ذلک کان علیه الدلالة، لأنّ الأصل أنّه علی ملک مالکه»(4).

و قال ابن ادریس الحلّی: «... لأنّ هذا بیع فاسد، و البیع الفاسد عند المحصلین یجری مجری الغصب فی الضمان...»(5).

و قال المحقّق: «ولو قبض المشتری ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم یملکه و کان مضمونا

ص:189


1- (2) المبسوط 3/64.
2- (1) الخلاف 3/158، مسألة 250.
3- (2) الخلاف 3/158، مسألة 251.
4- (3) الخلاف 3/403، مسألة 12.
5- (4) السرائر 2/285.

علیه»(1).

و قال فی غصب الشرائع: «لایملک المشتری ما یقبضه بالبیع الفاسد و یضمنه و ما یتجدَّدُ من منافعه و ما یزداد من قیمته لزیادة صفة فیه، فإن تلف فی یده ضمن العین بأعلی القیم من حین قبضه إلی حین تلفه...»(2).

و قال العلاّمة: «ولو قبض المشتری بالعقد الفاسد لم یملک و ضمن»(3).

و قال فی غصب القواعد: «و لا یملک المشتری ما یقبضه بالبیع الفاسد و یضمنه و ما یتجدّد من منافعه الأعیان أو غیرها مع جهل البائع أو علمه مع الاستیفاء و بدونه إشکال...»(4)

و قال فی التذکرة: «البیع الفاسد لا یفید ملکیّة المشتری للمعقود علیه سواء فسد من

أصله أو باقتران شرط فاسد أو بسبب آخر ولو قبضه لم یملکه بالقبض، ولو تصرّف فیه لم ینفذ تصرّفه فیه عند علمائنا أجمع و به قال مالک و الشافعی و أحمد...»(5).

و قال فی نهج الحقّ و کشف الصدق: «ذهبت الإمامیة إلی أنّ الشراء الفاسد لا یملک بالقبض و لا ینفذ عتقه لو کان عبدا أو أمة، و لایصح شیء من تصرفه ببیع أو هبة أو غیرهما...»(6).

و قال الشهید الاْءوّل: «حکم البیع الفاسد استرداد العوضین أو بدلهما و لا یوجبه

ص:190


1- (5) الشرائع 2/7.
2- (6) الشرائع 3/194.
3- (7) القواعد 2/17.
4- (8) القواعد 2/238.
5- (1) تذکرة الفقهاء 10/290.
6- (2) نهج الحقّ و کشف الصدق /485.

ایصال القبض و یرجع صاحب العین بمنافعها المستوفاة، فلو فاتت بغیر استیفاء فوجهان...»(1).

و قال ابن فهد الحلّی: «إذا اشتری فاسدا لم یملک و کان لمالکه الرجوع فإن تعیّب ضمن أرشه ولو زاد... اجماعا»(2).

و قال المحقق الثانی: «[لاریب أنّه مضمون علیه(3)] کالصحیح لأنّهما تراضیا علی ذلک فیحکم علیه به فلو تلف بغیر تفریط کان من ضمانه، و إذا علم بالفساد لم یجزله التصرف عندنا، لأنّه فرع الملک و لم یحصل و کذا نقول فی کلّ عقدٍ یضمن بصحیحه یضمن بفاسده، کما أنّ ما لایضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده»(4).

و قال أیضا فی کتاب الغصب: «لاریب فی أنّ البیع الفاسد مضمون لأنّ کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده و ذلک لأنّه إنّما دخل علی تملک العین فی مقابل الثمن، فإذا کان العقد غیر مملّک وجب ردّ کلّ من العوضین إلی مالکه فلو تعذر وجب بدله من الثمل أو القیمة لامتناع فوات العین و ما جعلت فی مقابله»(5).

و قال الشهید الثانی: «لا إشکال فی ضمانه إذا کان جاهلاً بالفساد لأنّه أقدم علی أن یکون مضمونا علیه فیحکم علیه به، و إن تلف بغیر تفریط، و لقوله صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تؤدی(6) و من القواعد المقررة فی هذا الباب أن کلّ عقد یضمن بصحیحه

ص:191


1- (3) الدروس 3/194.
2- (4) المهذب البارع 2/361.
3- (5) الزیادة من نقل مفتاح الکرامة 12/538 و یقتضیها السیاق.
4- (6) جامع المقاصد 4/61.
5- (7) جامع المقاصد 6/324.
6- (8) عوالی اللآلی 1/224، ح106 و 1/389، ح22 - سنن البیهقی 6/95.

یضمن بفاسده، و أنّ ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده، و لا فرق - مع جهله - بین کون البائع عالما بالفساد أو جاهلاً، مع احتمال عدم الضمان لو علم، لتسلیطه علی إتلافه، مع علمه بکونه باقیا علی ملکه و کذا لو کان عالمین بالفساد. ولو کان البائع جاهلاً به و المشتری عالما فالضمان اُولی. و الأقوی ثبوته فی جمیع الصور، فیترادّان العینین مع بقائهما و بدلهما مع تلفهما، و یرجع صاحب المنافع المستوفاة بها. ولو فاتت بغیر استیفاء فوجهان. ولو زادت العین فللمالک إلاّ أن تکون الزیادة بفعل الآخر جاهلاً فهی له عینا کانت کالصبغ أو صفة کالصنعة»(1).

و قال فی کتاب الغصب: «لااشکال فی عدم ملک المشتری شراءً فاسدا لأنّ نقل الملک من مالک إلی آخر موقوف علی أسباب نصبها الشارع و حدود حدّدها، فما لم یحصل فالملک باق علی أصله. و تسمیته علی تقدیر فساد الشراء مشتریا مجاز بحسب الصورة و إلاّ فالبیع حقیقة لا یطلق إلاّ علی الصحیح.

و أمّا کونه مضمونا علیه فلأنّه قبضه لیکون مضمونا علیه کذلک، و لعموم علی الید ما أخذت حتّی تؤدی و للقاعدة المشهورة أنّ ما کان مضمونا بصحیحه یضمن بفاسده، و البیع لو صحّ انتقل ضمان المبیع إلی المشتری بمعنی کون تلفه من ماله فیکون فی فاسده کذلک...»(2).

و علّق فیه علی قول المحقّق: «و من الأسباب: القبض بالعقد الفاسد»(3). بقوله: «هذا الثلاثة من جملة الأسباب للضمان بغیر الغصب و الحکم فی الأوّل منها موضع وفاق، لعموم: علی الید ما أخذت حتّی تؤدّی لأنّ کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده، و المراد بالعقد

ص:192


1- (1) المسالک 3/154.
2- (2) المسالک 12/222.
3- (3) الشرائع 3/187.

هنا عقد البیع و نحوه من العقود اللازمة الموجبة لانتقال الضمان إلی القابض، لا مطلق العقد، فإنّ منه ما لا یضمن بصحیحه - کالقراض و الوکالة و الودیعة - فلا یضمن بفاسده»(1).

و قال المحقّق السبزواری: «لایملک المشتری ما یقبضه بالبیع الفاسد، لإنتفاء الأسباب المقتضیة للملک. و المقطوع به فی کلام الأصحاب أنّه مضمون علیه لعموم: علی

الید ما أخذت حتّی تؤدّی و للقاعدة المشهورة أنّ ما کان مضمونا بصحیحه یضمن بفاسده. و البیع لو صحّ انتقل ضمانه إلی المشتری بمعنی کون تلفه من ماله، فیکون فی فاسده کذلک. و فی التعلیلین تأمل. و إن لم یثبت اجماع فیه کان للمأمل فیه مجال»(2).

أقول: هذا کلّه فی تطور المسألة الاولی و یأتی تفصیل أحکامها بعد أقل من مائة صفحةٍ ستأتی إن شاء اللّه(3) فانتظر.

و أمّا الثانیة منهما: وَ هُوَ الإخلال بالشروط المعتبرة فی الصیغة جعل البیع معاطاةً

فقد قال أبوالصلاح الحلّی: «فإن اختل شرط من هذه لم ینعقد البیع و لم یستحق التسلیم و إن جاز التصرف مع اختلال بعضها للراضی [للتراضی] دون عقد البیع و یصح معه الرجوع»(4).

و قال أیضا: «و إن کان مع کون العقد فاسدا ممّا یصح التصرف فیه للتراضی فلکلّ منهما الرجوع بعین ما رضی بتسلیمه خاصة، فإن هلکت العین فی ید أحدهما لم یصح الرجوع»(5).

ص:194


1- (4) المسالک 12/174.
2- (1) الکفایة 2/653.
3- (2) راجع صفحة **** من هذا المجلد.
4- (3) الکافی فی الفقه /353.
5- (4) الکافی فی الفقه /355.

و قال الشهید الاْءوّل بعد نقل کلامه: «لعلّه أراد المعاطاة»(1).

و قال المحقّق الثانی فی رسالته «صیغ العقود و الإیقاعات»: «... فلو أوقع البیع بغیر ما قلناه و علم التراضی منهما کان معاطاة، لا یلزم إلاّ بذهاب أحد العینین و کذا القول فی الإجارة و نحوها بخلاف النکاح و الطلاق و نحوهما فلا تقع أصلاً»(2).

و قال الشهید الثانی: «أنّها تفید المعاطاة مع الإفهام الصریح»(3).

و قال الشیخ یوسف البحرانی: «ولو ظن أنّ المالک رضی لهذا المال بالبدل المعلوم فهو راض بأن یتصرف فیه عوضا عمّا فی یده، فالأکل حینئذ لیس بالباطل، بل بالرضا فإنّه رضی بالتصرف فیه بأن یجوز له التصرف فی بدله و قد جوز صاحبه ذلک و عرف کلّ واحد من صاحبه ذلک. فحینئذ یجوز تصرف کلّ واحد فی بدل ماله و إن لم یکن بسبب البیع، بل

بسبب الإذن المفهوم مع البدل و کأنّه یرجع إلی المعاطاة و الإباحة مع العوض من غیر بیع و لا تجد منه مانعا، غایة الأمر إنّه یکون لکلّ واحد الرجوع عن قصده الأوّل و أخذ ماله عینا و زیادة»(4).

قال الشیخ جعفر: «... نعم، لو وقع العقد من کاملین لاغیین به (أی بالعقد) قاصدین للمعاطاة أو الإباحة، جأت أحکامها بتمامها»(5).

أقول: هذا الکلام غیر فرعنا هذا.

و قال السیّد محمّد المجاهد: «إذا کان إیجاب البیع و قبوله بغیر اللغة العربیة من الألفاظ

ص:194


1- (5) الدروس 3/194.
2- (6) رسالة صیغ العقود و الإیقاعات، المطبوعة فی ضمن رسائل المحقّق الکرکی 1/178.
3- (7) الروضة البهیة 3/225.
4- (1) الحدائق 18/467.
5- (2) شرح القواعد 2/35.

الفارسیة و غیرها فلا اشکال فی صحة البیع حینئذ و إفادته إباحة التصرف و نقل الملک بناءً علی المختار من افادة المعاطاة ذلک لظهور عدم القائل بالفصل بین الأمرین و لفحوی مادلّ علی إفادة المعاطاة أو عمومه الملک...»(1).

أقول: الانتقال إلی المعاطاة مطلقا أیّ بلا فرق بین التقابض و عدمه لم یظهر من السیّد المجاهد قدس سره .

و قال الفاضل النراقی: «علی القول باشتراط الصیغة - کما هو المشهور - فهل هی شرط اللزوم خاصة، أو مع انتقال الملک أیضا، أو هما مع إباحة التصرف؟ لا ینبغی الریب فی الإباحة بدونها للأصل و الإجماع و إذن المالک فی التصرف.

و القول بکونه بیعا فاسدا مع شذوذه لا ینفی إلاّ الإباحة الشرعیة من جهة البیع لامطلقا، مع أنّ حرمة التصرف فی المقبوض بالبیع الفاسد بجمیع أفراده - حتّی ذلک - لم تثبت. نعم، ینبغی تقیید إباحة التصرف من کلّ منهما بعدم قصده الرجوع بماله حال التصرف لأنّه المعلوم من الإذن.

أمّا الأوّلان فیجب بناؤهما علی کون المعاطاة و نحوها ممّا تجرد عن الصیغة بیعا عرفا و لغة، أم لا؟ فإن قلنا به - کما هو الحقّ - فالحقّ هو الأوّل لانحصار دلیل اشتراط الصیغة عندهم حینئذ و تخصیص عمومات اللزوم بالاجماع، و انحصاره فی إشتراط اللزوم ظاهرا، أو مع بعض الظواهر الذی لا تثبت منه حرمة التصرف بدون الصیغة، و تبقی عمومات حلیة البیع خالیة عن المعارض فیصیر البیع فی الشرع قسمین: لازم و جائز.

و إن لم نقل به فالحقّ هو الثانی، اذ تدلّ علی اشتراط الصیغة حینئذ الاُصول المتقدمة و هی جاریة فی نفی الملک.

ص:195


1- (3) المناهل /270.

و اطلاق القول بنقل الملک مع المعاطاة - تمسّکا بأنّه لولاه لما تحقّق الملک بالتلف - ضعیف جدّا»(1).

أقول: لم یظهر من الفاضل النراقی الانتقال إلی المعاطاة مطلقا.

ولکن سیّد الریاض ناقشهم فی الحاقه بالمعاطاة و قال: «و احتمال الالحاق بالمعاطاة فی عدم لزوم قیمة الفائت و الاکتفاء عنها بالعوض المبذول بالرضا فی المقابل کما فی عبارة بعض الأصحاب غیر جیّد بناءً علی عدم الدلیل علی الاکتفاء بالعوض و لزومه بمجرد الرضاء السابق، بل یترتب علی العقود الناقلة بشرائط الصحة و هی هنا مفقودة. فإن تراضیا بالبدلین بعد العلم بالفساد و استمرّ رضاهما فلا کلام فیما ذکره و إن انتفی فالاکتفاء بالرضاء السابق فی لزومه یحتاج إلی التأمل، سیما مع العلم بأنّ المُنْشِأ زعم صحة المعاملة، فبعد کشف الفساد و عدم الرضاء بعده لم یکن هناک رضاء فی الحقیقة، فلکلّ منهما الرجوع إلی المال أو بدله مع التلف فإن الناس مسلطون علی أموالهم...»(2).

و تبعه فی الجواهر: «... نعم لو علم منهما ولو بالقرائن بعد ذکرهما العقد عدم إرادتهما ذلک بل قصد الإنشاء بتقابضهما و أراد حصول الملک أو الإباحة جری علیه حکم المعاطاة، و کان خارجا عمّا نحن فیه»(3).

فعلی هذا یکون صاحب الجواهر من القائلین بعدم تحقّق المعاطاة مطلقا.

هاهنا فرعان، و کیفیة الجمع بینهما
اشارة

أقول: هاهنا فرعان: الأوّل منهما إجماعی و هو أنّ المقبوض بالعقد الفاسد یوجب الضمان، و الثانی منهما: أنّ الاخلال بالشروط المعتبرة فی الصیغة یجعل البیع معاطاة کما ذهب إلیه بعض الأصحاب، فکیف یمکن الجمع بین الفرعین؟

ص:196


1- (1) المستند 14/259.
2- (2) ریاض المسائل 8/255.
3- (3) الجواهر 22/256.
جَمْعُ صاحِبِ مفتاح الکرامة

قال السیّد العاملی فی وجه الجمع بین المسألتین: «موضوع المسألة ما إذا علم عدم الرضا إلاّ بزعم صحة المعاملة أو اشتبه الحال، و فی الظن فی الرضا بدونه إشکال، فإذا انتفت الصحة انتفی الإذن لترتّبها علی زعم الصحة، فکان التصرف حینئذ تصرفا بغیر إذن و أکل

مال بالباطل لانحصار وجه الحلّ فی کون المعاملة بیعا أو تجارة عن تراض أو هبة أو نحوها من وجوه الرضا بأکل المال من غیر عوض، و الأوّلان قد انتفیا بمقتضی الفرض، و کذا البواقی للقطع من جهة زعمهما صحة المعاملة بعدم الرضا بالتصرف مع عدم بذل شیءٍ فی المقابل، فالرضا المتقدم کالعدم. فإن تراضیا بالعوضین بعد العلم بالفساد و استمرّ رضاهما فلا کلام فی صحة التصرف بأیّ نوع اتفق سواء صحت المعاملة أو فسدت فإنّ ذلک لیس من البیع الفاسد فی شی ء¨ٍ کما بیّنّا ذلک فی مبحث المعاطاة...»(1).

أقول: حاصل جمعه یرجع إلی أمرین و یحکم بصحة المعاطاة فیهما و هما:

الأوّل: تحقق المعاطاة بالتراضی الموجود حال العقد إذا علم بعدم تقیّده بصحة المعاملة.

الثانی: حصول المعاطاة بالتراضی الجدید الحادث بعد العقد و العلم بالفساد.

و استشکل علیهما الشیخ الأعظم(2) قدس سره و ردّ:

الأوّل منهما: بأنّ التراضی الموجود حین العقد مقیّد بالتملیک لا أنّه مطلق، و من البدیهی انتقاء المقید بانتفاء قیده، فبإنتفاء التملیک ینتفی التراضی.

و الثانی منهما: أنّ کلام الجماعة لا یقبل الحمل علی التراضی الجدید و وقوع معاطاة جدیدة بالتقابض الواقع بعد العقد الفاسد. لانّ کلامهم ظاهر فی حصول المعاطاة بنفس الصیغة الخالیة عن الشرائط، لا بالتقابض الحاصل بعدهما.

ص:197


1- (1) مفتاح الکرامة 12/539 و نقل عنه الشیخ فی المکاسب 3/108.
2- (2) راجع المکاسب 3/109.
وجه جمع المحقّق الخراسانی

قال: «یمکن أن یقال: أنّ الصیغة المفروضة، و إن لم تتضمن إلاّ إنشاءً واحدا و المفروض فسادها للإخلال ببعض ما اعتبر فیها، إلاّ أنّ الصحة و الفساد لمّا کان من الاُمور الإضافیة... کان فساد الصیغة المُنْشَاء بها التملیک بما هی عقد البیع، و لا یترتب علیها شیء مما یکون آثار العقد من اللزوم و غیره، لا ینافی کونها معاطاةً و داخلة فی المسألة التی تکون معرکة للآراء و صحیحة بما هو بیع عند بعض و اباحة عند الآخر إلی غیر ذلک من الأقوال فیها، و الحکم بالضمان بضمان المقبوض بالعقد الفاسد یمکن أن ینزل علی أنّه حکم اقتضائی لا فعلی، بمعنی أنّ قضیة فساده بما هو عقد، ذلک لو لم یجیء فی البین الحکم بصحته بوجه آخر، أی بما هو بیع بغیر العقد، و هذا أحسن ما یقال توفیقا بین ما ذکر فی المقامین

فتفطّن»(1).

و فیه: حمل الضمان فی المقبوض بالعقد الفاسد و هکذا فساد عقده بما هو معاملة و معاوضة علی الحکم الإقتضائی لغو محض، لأنّ العنوان الثانی و هو المعاطاة دائما یکون موجودا فیه، لا سیما إذا قلنا بأنّ العقد الفاسد حکمه حکم المعاطاة مطلقا أی ولو لم یتحقق معه قبض أصلاً کما نسبه الشیخ الأعظم(2) إلی ظاهر غیر واحد من مشایخه المعاصرین له، و مع وجود المعاطاة دائما فی العقد الفاسد فلا تصل النوبة إلی الضمان أصلاً فجعل الحکم بالضمان ولو علی نحو الحکم الاقتضائی یکون لغوا لعدم تحقق فعلیته أصلاً. و هذا مراد شیخ مشایخنا المحقّق النائینی(3) فی الردّ علی المحقّق الخراسانی.

ما هو المختار فی المقام

إذا لم یتحقق القبض بعد الصیغة الفاسدة فهذا خارج عن المعاطاة المصطلحة لعدم

ص:198


1- (1) حاشیة المکاسب /26.
2- (2) المکاسب 3/107.
3- (3) منیة الطالب 1/228.

التقابض المعتبر فی المعاطاة، فلابدّ من إخراجه من کلام الجماعة، و من هنا ظهر أنّ القول بأنّ الإنشاء القولی الغیر الجامع لشرائط الصحة یرجع إلی المعاطاة مطلقا - أی سواء تحقق القبض أو لم یتحقق - فلا وجه له لخروجه عن عنوان المعاطاة بالکلّیة.

و إن تحقق القبض و یکون بناؤهما علی الإغماض عن الصیغة الفاسدة و یریدان انشاء العقد مجددا بالفعل، فهذه الصورة تدخل فی عنوان المعاطاة بلا ریب و تکون خارجة عن محط کلام الجماعة.

و إن تحقق القبض ولکن لیس بناؤهما علی الاغماض بل أنّهما یقبضان وفاءً بما التزمابه علی البیع الفاسد بحیث لم یعلم منهما رضا بالتصرف فی ماله. إلاّ الرضا المعاملی الذی کان فی ضمن الإنشاء الفاسد و مقیدا به، فهذه الصورة لیست إلاّ المقبوض بالعقد الفاسد الذی هو موجب الضمان، و هذه أیضا خارجة عن موضوع البحث.

ولکن إن تحقق القبض و لیس بناؤهما علی الاغماض بل أنّهما یقبضان لا بما أنّ القبض یکون وفاءً بل رضا جدیدا یحصل لهما فی أیّ حال و هذه الصورة هی محل کلام الجماعة.

ثم هذا الرضا تارة یکون حقیقیا کما لو عَلِما بفساد الصیغة و مع ذلک رضیا

بالتصرف، و اُخری تقدیریّا کما لو جهلابه ولکن یظهر من حالهما أنّهما لو علما بفساد الصیغة لرضیا بالتصرف أیضا و یکون کالرضا من شاهد الحال فی غیر المقام.

و ادخال هذا فی المعاطاة یتوقف علی أمرین:

الأوّل: کفایة الرضا الشأنی فی صحة المعاطاة لصدق طیب النفس المعتبر فی أکل مال الغیر و صرّح بکفایته المحقق التستری فی المقابس(1) و یمکن حمل کلام السیّد العاملی: «فإن تراضیا بالعوضین بعد العلم بالفساد و استمرّ رضاهما...»(2) علیه.

ص:199


1- (1) مقابس الأنوار /138.
2- (2) مفتاح الکرامة 12/539.

الثانی: عدم اعتبار إنشاء عنوان العقود قولاً و لا فعلاً، بل کفایة مجرد وصول کلٍّ من العوضین إلی المالک الآخر، بل یکفی قبض أحد العوضین. لا سیّما فی المعاطاة، و السیرة موجودة بالنسبة إلیها لإنّ بناء الناس علی أخذ المحقرات من دکاکین أربابها و وضعهم الفلوس فی الموضع المعدّ له، و علی دخول الحمام و وضع الفلوس فی کوز صاحبه.

ولکن یمکن إن یناقش فی الأمرین:

أمّا الأوّل منهما: قد مرّ منّا عدم کفایة الرضا مطلقا - أی سواء کان شانیّا أو فعلیّا - فی العقود و الإیقاعات و أنّها تحتاج إلی الإذن و الانتساب.

ثم، لو قلنا بکفایة الرضا الباطنی فی إباحة جمیع التصرفات حتّی ما کان منها متوقّفا علی الملک فکیف یتحقق الرکن الآخر و هو الضمان بالمسمی و انتقال التالف إلی ملک من تلف فی یده؟ کمانیّه علیه المحقّق النائینی.(1)

أمّا الثانی منهما: فمن الواضح أنّ العقود و الإیقاعات تکون من الاُمور الإنشائیة و هی تحتاج إلی الإنشاء و إلاّ لایتحقق فی الخارج، و الإنشاء کما یمکن أن یکون باللفظ یمکن أن یکون بالفعل و أمّا حدوثها من دون إنشاء فلا یمکن.

نعم: یمکن أن یکون إنشاؤها من طرف واحد بالخصوص مع تحقق الإنشاء العام من طرف آخر کما یمکن الذهاب إلیه بالنسبة إلی أخذ المحقرات من دکاکین أربابها مع غیابهم و وضع الفلوس فی موضعها و علی دخول الحمام و وضع الاُجرة فی کوز صاحبه و نحوها، و قد مرّ تفصیل هذا البحث فی التنبیه الثانی فراجعه.

و بالجملة: الحکم بتحقق المعاطاة بمجرد الإخلال بالشروط المعتبرة فی الصیغة

مشکل جدّا.

ص:200


1- (3) منیة الطالب 1/230.

فصلٌ: عقد البیع

اشارة

ص:201

ص:202

قبل الکلام فی عقد البیع لابدّ من البحث حول تمامیة حدوث العقود بالألفاظ فقط، و عدم حدوثه إذا لم یکن هناک لفظ!؟ أو عدم تمامیته، و لأجل ظهور هذا البحث لابدّ من تقدیم اُمور:

تقدیم أمور:

الأوّل: الأصل فی العقود هل هو الصحة أم الفساد؟

العقود و الإیقاعات اُمور حادثة و مسبوقة بالعدم، کما أنّ نتائجها من الزوجیة و الملکیّة و الفراق و نحوها أیضا منها، فإذا شک فی تحققها أو تحقق نتائجها یحکم بأصالة عدمهما بفسادها و عدم تحقق نتیجتها و هذا هو المراد من أصالة الفساد من العقود و الإیقاعات.

و إذا شککنا فی جزئیة شیءٍ فی نفس الصیغة أو شرطیته لها أو مانعیته لها أو لترتب الأثر علیها فلا یجری حدیث الرفع فیها، لا لعدم جریانه فی الأحکام الوضعیة کما ذهب إلیه جمع، و لا لعدم جریانه فی خصوص الجزئیة و الشرطیة و المانعیة بالنسبة إلی نفس التکلیف أو متعلَّق التکلیف کما ذهب إلیه السیّد الخوئی(1) قدس سره ، لأنّا نذهب إلی جریانه فی الأحکام الوضعیة مطلقا بلافرق بین أن تکون مجعولة بنفسها کالملکیّة و الزوجیة و الرقیة و نحوها، أو

ص:203


1- (1) مصباح الفقاهة 3/9 و 10.

تکون راجعة إلی نفس التکلیف نحو: الشرطیة و الجزئیة و السببیة و المانعیة بالنسبة إلی الوجوب، أو تکون راجعة إلی متعلَّق التکلیف نحو الشرطیة و الجزئیة و المانعیة بالنسبة إلی الواجب أو المأمور به أو المکلّف به، فحدیث الرفع یجری فی جمیعها و التفصیل یطلب من علم الاصول.

ولکن مع ذلک کلّه لا یجری فی المعاملات بالمعنی الأعم بأسرها، لأنّها تحتاج إلی إمضاء الشارع حتّی تَصِحَّ عنده و حدیث الرفع غیر ناهضٍ بإثبات تحقق الإمضاء فلا یمکن

جریانه فیها و هذا هو سرّ عدم جریانه فیها.

قد یقال: فلماذا أجراه الإمام علیه السلام فیها لما ورد فی صحیحة صفوان و البزنطی عن أبیالحسن علیه السلام فی الرجل یُسْتَکْرَهُ علی الیمین، فیحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما یملک، أیلزمه ذلک؟ فقال: لا، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : وُضع عن اُمتی ما اُکرهوا علیه و ما لم یطیقوا و ما أخطأوا.(1)

ولکن نقول: بأن الإمام أجری حدیث الرفع بالنسبة إلی نفی الحکم التکلیفی للیمین و أنّ لیس علیه الوفاء به لأنّه مکره فجمیع ما یحلف بها من الزوجیة و الرقیة و الملکیّة باقیة علی ما کانت علیها و لا یلزمه الوفاء به، و هذا غیر جریانه فی المعاملات.

و بما ذکرنا تظهر مواقع النظر فی کلام المحقّق الإیروانی حیث یقول: «لا مانع من هذه الأصالة بناءً علی جریان البرائة فی الأحکام الوضعیة کما یظهر من استدلال الإمام بحدیث الرفع علی فساد طلاق المکرَه و عتاقه فینفی بأصالة عدم الوجوب وجوب کلّ خصوصیة شک فیها بمعنی عدم دخلها فی تأثیر السبب و عدم کونها من أجزاء السبب، و لا یبقی معها مجال الرجوع إلی استصحاب عدم تحقّق النقل و الانتقال، لأنّ هذا فی مرتبة السبب و ذاک فی

ص:204


1- (1) وسائل الشیعة 23/226، ح12، الباب 12 من أبواب کتاب الأیمان.

مرتبة المسبَّب، و الاستصحاب إنّما یقدّم علی إصالة البرائة حیث یکونان فی مرتبة واحدة»(1).

الثانی: هل یجوز التمسک بالإطلاقات عند

الشک فی صحة العقود و الإیقاعات؟

بعد عدم جریان حدیث الرفع فی المعاملات و التمسک بأصالة عدم تحقّق العقد و نتیجته و استصحاب عدمهما، هل یجوز التمسک بالعمومات أو الإطلاقات فی مورد منها إذا فرض وجودها أم لا؟

نعم، یجوز التمسک بالإطلاقات و العمومات حیث ما وُجِدَتْ نحو قوله تعالی: «أحل اللّه البیع»(2) أو قوله علیه السلام : «لکلِّ قومٍ نکاح»(3). حیث أنّها مطلقة بالنسبة إلی أنکحة غیر المسلمین من الإلهیین أو غیرهم. و بعد التمسک بالإطلاق تُنْفی الجزئیة أو الشرطیة المشکوکة

أو المانعیة المترددة و یحکم بصحّة العقد و ترتب الأثر علیه.

و علی هذا إذا وجد إطلاق أو عموم فهو مقدّم علی أصالة عدم تحقّق العقد و أثره لأنّهما من التمسک بالدلیل اللفظی و هو مقدّم علی الأصل العملی کما هو الواضح.

الثالث: هل العقود تحتاج إلی اللفظ و لا تحقّق بدونه؟

قد یقال: بوجود الاجماع علی أنّ العقود لا تتحقّق من دون اللفظ(4) أو أنّ العقود اللازمة لا تتحقّق بدونه.(5)

ص:205


1- (2) حاشیته علی المکاسب 2/95.
2- (3) سورة البقرة /275.
3- (4) وسائل الشیعة 15/80، ح2، و 17/299، ح2، و 21/199، ح2.
4- (1) کما عن ابن زهرة فی الغنیة /214.
5- (2) کما عن المحقّق الثانی فی جامع المقاصد 5/309.

ولکن یمکن أن نقول فی الجواب: عدم امکان تحصیل هذا الاجماع فی کلمات القدماء من أصحابنا قدس سرهم و أمّا المتأخّرون فلا عبرة بإجماعهم - علی فرض وجوده - لأنّ المسألة تکون من المسائل الاجتهادیة المستنبطة و لیست من الاُصول المتلقاة من الأئمة المعصومین علیهم السلام فحینئذ ادعاء الإجماع فی المقام لا یغنی و لا یسمن من جوع.

و قد مرّ الکلام فی بحث المعاطاة من أن الروایات قاصرة عن اثبات لزوم اللفظ فی العقود فراجع ما حررناه هناک.

نعم، العقود و الایقاعات تعدان من الاُمور الإنشائیة، و الإنشاء یحتاج إلی ما یُنْشأُ به حتّی توجد فی الخارج و ما یُنْشأُ به کما یمکن أن یکون من الألفاظ یمکن أن یکون من الأفعال، فالإنشاء یُوْجَدُ باللفظ و بالفعل فلا یتحقّق باللفظ فقط بل یتحقّق بالفعل أیضا کما باللفظ.

ثمَّ بعض الاُمور الإنشائیة لا تتحقّق إلاّ باللفظ بل إلاّ بالصیغ الخاصة نحو: النکاح و الطلاق و الظهار و الإیلاء و اللعان.

فما ورد من الروایات بالنسبة إلی الأخرس و طلاقه یکون خلاف القاعدة الأوّلیة لأنّ الطلاق معتبر فیه اللفظ الخاص، و الأخرس إن لم یتمکن من التکلّم به ولکن یتمکن من التوکیل، و لذا لو کنّا و القاعدة الأوّلیة لابدّ له من التوکیل ولکن النصوص وردت فی مباشرته للطلاق و نفوذ طلاقه کما ورد فی صحیحة البزنطی أنّه سأل أباالحسن الرضا علیه السلام عن الرجل تکون عنده المرأة یصمت و لا یتکلّم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، و یعلم منه بغض لامرأته و کراهة لها، أیجوز أن یطلّق عنه ولیّه؟ قال: لا، ولکن یکتب و یشهد علی ذلک، قلت: أصلحک اللّه، فإنّه لایکتب و لایسمع، کیف یطلقها؟ قال: بالذی یعرف به من

ص:206

أفعاله مثل ما ذکرت من کراهته و بغضه لها.(1)

و فی حسنة أبان بن عثمان قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن طلاق الخُرْسِ(2) قال: یلفُّ قناعها علی رأسها و یجذبه.(3)

و فی معتبرة السکونی عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: طلاق الأخرس أن یأخذ مقنعتها و یضعها علی رأسها و یعتزلها.(4)

و نحوها خبر أبیبصیر.(5)

و کذا تحریک لسان الأخرس و إشارته یقومان مقام تلبیته و تشهده و قراءته الصلاتیة کما فی معتبرة السکونی عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: تلبیة الأخرس و تشهّده و قراءته القرآن فی الصلاة تحریک لسانه و إشارته بإصبعه.(6)

و لذا نأخذ بهذه النصوص و نحکم بنفوذ طلاقه، و بعدم الفرق بینه و بین النکاح فکذا نکاحه، و أمّا غیرها من العقود و الإیقاعات فحکم الأخرس مطابق للقاعدة الأوّلیة من إنشائها بالفعل تصح منه و من غیره.

فحینئذ لا فرق بین الأخرس و غیره فی العقود و کذا المعاطاة فالتفصیل بینه و بین غیره کما یظهر من الشیخ الأعظم(7) رحمه الله فی غیر محلّه. لأنّه قادر علی إنشاء العقد ولکن

ص:207


1- (1) وسائل الشیعة 22/47، ح1، الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
2- (2) الخُرسْ: جمع الأخْرَسِ.
3- (3) وسائل الشیعة 22/47، ح2.
4- (4) وسائل الشیعة 22/48، ح3.
5- (5) وسائل الشیعة 22/48، ح5.
6- (6) وسائل الشیعة 6/136، ح1، الباب 59 من أبواب القرأة فی الصلاة - و وسائل الشیعة 12/381، ح1، الباب 39 من أبواب الإحرام.
7- (7) المکاسب 3/118.

بالإشارة و کذلک هو قادرٌ علی إنشاء المعاطاة بها و بفعله فلا فرق بینه و بین غیره فی المعاطاة.

و یؤید ما ذکرنا من کفایة الإنشاء بالفعل ما ورد فی صحیحة الحلبی عن أبیعبداللّه علیه السلام أنّ أباه حدّثه: أنّ أمامة بنت أبیالعاص بن الربیع و اُمّها زینب بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله فتزوّجها بعد علی علیه السلام المغیرة بن نوفل، أنّها وجعت وجعا شدیدا حتّی اعتقل لسانها فأتاها الحسن و الحسین علیهماالسلام و هی لا تستطیعُ الکلام، فجعلا یقولان - و المغیرة

کاره لما یقولان - : اعتقت فلانا و أهله؟ فتشیر برأسها: أن نعم، و کذا و کذا، فتشیر برأسها: نعم أم لا، قلت: فأجازا ذلک لها؟ قال: نعم.(1)

و کذا خبر علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال: سألته عن رجل اعتقل لسانه عند الموت أو إمرأة فجعل أهالیهما یسائله: اعتقت فلانا و فلانا فیؤمیء برأسه أو تؤمی برأسها فی بعض نعم، و فی بعض: لا، و فی الصدقة مثل ذلک، أیجوز ذلک؟ قال: نعم جائز.(2)

و کذا خبر محمّد بن جمهور عن بعض أصحابنا عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إنّ فاطمة بنت أسد اُمّ أمیرالمؤمنین علیه السلام کانت أوّل امرأة هاجرت إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله من مکة إلی المدینة علی قدمیها - إلی أن قال - و قالت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله یوما: إنّی اُرید أن أعتق جاریتی هذه، فقال لها: إن فعلتِ أعتق اللّه بکلّ عضو منها عضوا منکِ من النار، فلما مرضتْ اُصتْ إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و أمرت أن یعتق خادمها و اعتقل لسانها، فجعلت تومیء إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله إیماء فقبل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وصیتها، الحدیث.(3)

و لذا ذهب المحقّق فی ظاهر عبارته فی النافع إلی الاکتفاء بالإشارة مع إمکان النطق و

ص:208


1- (1) وسائل الشیعة 23/80، ح1، الباب 44 من أبواب کتاب العتق.
2- (2) وسائل الشیعة 19/374، ح2، الباب 49 من أبواب کتاب الوصایا.
3- (3) وسائل الشیعة 19/374، ح3.

قال: «و تکفی الإشارة الدالة علی القصد، و لا تکفی الکتابة ما لم تنضم القرینة الدالة علی الإرادة»(1).

و قال فی الجواهر: «... لما ذکرناه من کفایة الفعل فی إجراء حکم الوصیة و إن لم یتحقّق بذلک عقدها و أنّه کالمعاطاة فی البیع»(2).

الرابع: هل تتحقّق العقود بالکتابة؟

علی ما سلکناه من أنّ العقود تحتاج إلی ما تُنْشَأُ به و هو یمکن أن یکون قولاً و صیغةً و کذلک یمکن أن یکون فعلاً و عملاً و ثالثة یمکن أن یکون کتابةً و خطا، فحینئذ یجوز تحقّق العقود و الإیقاعات بالکتابة إلاّ مادلّ الدلیل علی لزوم التلفظ و النّطق بها نحو: النکاح و الطلاق.

ولکن عند القوم العقود لا تتحقّق إلاّ باللفظ و مع عدم التمکن من اللفظ نحو

الأخرس تتحقّق بالإشارة و مع عدم التمکن منها تتحقّق بالکتابة. فالکتابة عندهم تکون أَدْوَنَ من الإشارة و لذا قال فی المفتاح معلقا علی قول العلاّمة فی القواعد: «و لا تکفی الکتابة بدون الإشارة و اللفظ»، «قضیة مفهوم العبارة کفایة الکتابة فی العمل بها مع القرینة الدالة علی المراد و العجز عن النطق کالاشارة المفهمة و قد حکی الإجماع فی الإیضاح علی ذلک، و فی التنقیح أنّه لاخلاف فیه، و فی جامع المقاصد نفی الشک فیه و به صرح فی الجامع و التذکرة فی موضعین منها و التحریر و التبصرة و إیضاح النافع و جامع المقاصد و الروضة... و قد احتمل فی التذکرة فی أوّل کلامه کفایة الکتابة مع القدرة علی النطق و هو الظاهر من عبارة النافع...»(3).

ص:209


1- (4) المختصر النافع /163.
2- (5) الجواهر 28/246.
3- (1) مفتاح الکرامة 9/379 من الطبعة الاولی.

و فی وصایا الجواهر: «ربّما ظهر من تقیید الاکتفاء بالعجز عدم الاکتفاء بها مع الاختیار، بل هو صریح المحکی عن الفاضل و ولده و الشهیدین و المحقّق الثانی و القطیفی بل عن السرائر نفی الخلاف فیه، نعم عن التذکرة احتمال الاکتفاء بها مع الاختیار فی أوّل کلامه بل لعلّه الظاهر من النافع و فی الریاض أنّه لا یخلو عن قوة مع قطعیة دلالة القرینة...»(1).

و قال الشیخ جعفر: «و العبارة السقیمة مقدّمة علیها (أی علی الإشارة) و الکتابة مؤخّرة عنها»(2).

ولکن علّق علیه صاحب الجواهر بقوله: «... بل لا یبعد أنّ المراد کل ما دلّ علی المقصود غیر اللفظ حتّی الکتابة التی قد صرح فی الاجتزاء بها حینئذ فی محکی التحریر و نهایة الإحکام و الدروس و غیرها... فما فی شرح الاُستاد من أنّ الکتابة قاصرة عن الإشارة لایخلو من نظر هذا»(3).

أقول: دخول الکتابة فی الإشارة بعید فی الغایة، لأنّهما شیئان مختلفان حتّی عند عرف ذلک الزمان کما هو الواضح.

و قال الشیخ الأعظم قدس سره : «و الظاهر أیضا کفایة الکتابة مع العجز عن الاشارة لفحوی ما ورد من النص علی جوازها فی الطلاق مع أنّ الظاهر عدم الخلاف فیه، و أمّا مع القدرة علی الاشارة فقد رجّح بعض الاشارة و لعلّه لأنّها أصرح فی الإنشاء من الکتابة، و

فی بعض روایات الطلاق ما یدلّ علی العکس و إلیه ذهب الحلّی(4) رحمه الله هناک»(5).

ص:210


1- (2) الجواهر 28/248.
2- (3) شرح القواعد 2/18.
3- (4) الجواهر 22/251.
4- (1) السرائر 2/678.
5- (2) المکاسب 3/118.

یؤید ما ذکرناه من تحقّق العقود بالکتابة آیتها(1) الواردة فی کتاب اللّه تعالی و هی أطول آیةٍ.

و صحیحة البزنطی عن الرضا علیه السلام فی شأن الأخرس أنّه قال فی حدیث: ولکن یکتب و یشهد علی ذلک، الحدیث.(2)

و معتبرة یونس فی رجل أخرس کتب فی الأرض بطلاق امرأته، قال: إذا فعل فی قبل الطهر بشهود و فهم عنه کما یفهم عن مثله و یرید الطلاق جاز طلاقه علی السنة.(3)

و صحیحة إبیحمزة الثمالی قال: سألت أباجعفر علیه السلام عن رجل قال لرجل: اکتب یا فلان إبی امرأتی بطلاقها أو اکتب إلی عبدی بعتقه، یکون ذلک طلاقا أو عتقا؟ قال: لا یکون طلاقا و لا عتقا حتّی ینطق به لسانه أو یخطّه بیده و هو یرید الطلاق و العتق و یکون ذلک منه بالأهلة و الشهود و یکون غائبا عن أهله.(4)

أقول: تحمل الروایة علی طلاق الغائب عن أهله و أمّا حملها علی التقیة أو علی التلفظ معها أو علی حدوث علم الزوجة و العبد بالطلاق و العتق أو علی الأخرس کما عن صاحب الوسائل فلا یَتُمُّ. نعم یأتی منّا فی آخر البحث ما یفید فی المقام فانتظر.

و فی معتبرة سَدیر عن أبیجعفر علیه السلام قال: دخلت علی محمّد بن علی، - ابن الحنفیة - و قد اعتقل لسانه فأمرته بالوصیة فلم یجب، قال: فأمرت بطشت فجعل فیه الرمل فوضع، فقلت له: خطّ بیدک، فخطّ وصیته بیده فی الرمل و نسخت أنا فی صحیفة.(5)

ص:211


1- (3) سورة البقرة /282.
2- (4) وسائل الشیعة 22/47، ح1، الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
3- (5) وسائل الشیعة 22/48، ح4.
4- (6) وسائل الشیعة 22/37، ح3، الباب 14 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
5- (7) وسائل الشیعة 19/372، ح1، الباب 48 من أبواب کتاب الوصایا.

لم یذکر الصدوق سنده إلی عبدالصمد بن محمّد فی مشیخة الفقیه ولکن له سند آخر للروایة فی کتابه کمال الدین(1) و کذا للشیخ سند لها فی التهذیب(2) و کلاهما معتبران. و سَدیر ذکره النجاشی(3) فی ترجمة ابنه الحسن و لم یطعن علیه فهو إمامی معتبر.

و حسنة ابراهیم بن محمّد الهمدانی قال: کتبت إلی أبیالحسن علیه السلام : رجل کتب کتابا بخطه و لم یقل لورثته: هذه وصیتی، و لم یقل: إنّی قد اوصیت إلاّ أنّه کتب کتابا فیه ما أراد أن یوصی به، هل یجب علی ورثته القیام بما فی الکتاب بخطه و لم یأمرهم بذلک؟ فکتب علیه السلام : إن کان له ولد ینفذون کلّ شیء یجدونه فی کتاب أبیهم فی وجه البرّ و غیره.(4)

نعم، قد مرّ فی أوّل البحث أنّ بعض العقود لا تتحقّق إلاّ باللفظ و منها: الطلاق لما ورد فی صحیحة زرارة قال: سألته عن رجل کتب إلی امرأته بطلاقها أو کتب بعتق مملوکه و لم ینطق به لسانه، قال: لیس بشیء حتّی ینطق به.(5)

و وَرَدَ فی خبر زرارة(6) أیضا.

و کذا ورد فی صحیحته الاُخری قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام : رجل کتب بطلاق امرأته أو بعتق غلامه ثم بدا له فمحاه، قال: لیس ذلک بطلاق و لاعتاق حتّی یتکلّم به.(7)

فکلّ ما ثبت بالدلیل خروجه فهو و إلاّ تتحقّق العقود بالکتابة و اللّه العالم.

ص:212


1- (8) کمال الدین /36.
2- (9) التهذیب 9/241.
3- (10) رجال النجاشی /62، الرقم 146.
4- (1) وسائل الشیعة 19/372، ح2.
5- (2) وسائل الشیعة 22/36، ح1.
6- (3) وسائل الشیعة 23/81، ح1، الباب 45 من أبواب کتاب العتق.
7- (4) وسائل الشیعة 22/36، ح2.
الخامس: ما یُنْشَأُ به لابدّ أن یکون صریحا فی العقد و الإیقاع
1- اشارة

قد عرفت أنّ العقود و الإیقاعات تکون من الاُمور الإنشائیة و هی لا تتحقّق إلاّ بما یُنْشَأُ به، و قد مرّ أنّ ما یُنْشَأُ به کما یمکن ان یکون قولاً و لفظا و صیغة کذلک یمکن أن یکون فعلاً و عملاً، و کذلک یمکن أن یکون کتابة و سطرا، ولکن فی الجمیع لابدّ أن یکون ما ینشأ به العقد أو الإیقاع صریحا أو ظاهرا عرفا فی ذاک العقد أو الإنشاء، بحیث یتمیّز عن غیره فمادام لم یکن صریحا أو ظاهرا عرفا فی العقد لا یتحقّق ذلک.

نعم، یمکن تعیین الظهور و تصریح بالقرائن المقالیة و الحالیة فی تمییز عقد عمّا سواه.

و بما ذکرنا نستغنی من البحث حول مادة الصیغة و هیئتها و ترتیبها و أنّها بأجمعها موکل إلی العرف و تعیین الظهور إلاّ ما ورد من الشرع تحدیدها نحو صیغ النکاح و الطلاق و الظهار و الإیلاء و اللعان و أنّها لا تتحقّق إلاّ بالصیغ الخاصة.

2- ثم لابدّ من التنبیه علی فروع:
اشارة
الإختلاف فی تعیین الموجب و القابل

ذهب الشیخ الأعظم(1) رحمه الله فیه إلی الحکم بالتحالف و عدم ترتب الأثار المختصة بالبائع و المشتری علیهما.

و فیه: الآثار إمّا مترتب علی عنوان البیع نحو خیار المجلس أو علی عنوان المشتری فقط کخیار الحیوان فإنّه مختص به علی المشهور.

ولو فرض وجود أثر علی عنوان البائع فلابدّ من تعین المدعی و المنکر علی موازین القضاء للمدعی البینة و الیمین علی من أنکر و لا تصل النوبة إلی التداعی و التحالف.

و أمّا ما قد یقال: من أنّ کلّ مبیع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه و استُدِلَ له

ص:213


1- (1) المکاسب 3/134.

بالإجماع و مرسلة عوالی اللآلی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: کلّ مبیع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه(1) و خبر عقبة بن خالد فی رجل اشتری متاعا من رجل و اُوجبه غیر أنّه ترک المتاع عنده و لم یقبضه، قال: آتیک غدا إن شاء اللّه، فسرق المتاع، مِن مال مَن یکون؟ قال: من مال صاحب المتاع الذی هو فی بیته حتّی یقبض المتاع و یخرجه من بیته فإذا أخرجه من بیته فالمبتاع ضامن لحقّه حتّی یردَّ ماله إلیه.(2) فهذه ثمرة تترتب علی عنوان البائع.

فلا یتم، لأنّ الاجماع مدرکیٌّ و المرسلة لا یمکن الاستدلال بها و الخبران ضعیفان سندا و لایجبر ضعف سندهما بعمل الأصحاب، لعدم استناد عملهم بهما لوجود السیرة القطعیة عند العقلاء بتسلیم الثمن و المثمن فی المعاملات و القبض و الإقباض فمادام لم یتحقّق القبض فإن تلف فهو من مال صاحبه الأوّل و هذه السیرة تجری فی ناحیة البائع کما تجری فی ناحیه المشتری بالنسبة إلی الثمن. فلا تترتب هذه الثمرة علی عنوان البائع خاصة.

هل تعتبر العربیة فی العقد؟

المحکی عن السیّد عمید الدین: «یشترط فی سائر العقود و النذور و العهد و الیمین وقوعها باللفظ العربی»(3).

و اعتبرها الفاضل المقداد(4)، و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(5) و رسالة صیغ

العقود(6) و حاشیة الارشاد(7)، و الشهید الثانی فی الروضة(8).

ص:214


1- (2) عوالی اللآلی 3/212، ح59 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 13/303، ح1، الباب 9 من أبواب الخیار.
2- (3) الکافی 5/171، ح12.
3- (4) الحاکی عنه هو الشهید فی حواشیهِ علی القواعد کما فی مفتاح الکرامة 12/523.
4- (5) التنقیح الرائع 2/184، کنزالعرفان 2/72.
5- (6) جامع المقاصد 4/59.
6- (1) رسالة صیغ العقود /178، المطبوعة فی المجلّد الأوّل من رسائل المحقّق الکرکی.
7- (2) حاشیة الارشاد /335 المطبوعة فی المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی و آثاره.
8- (3) الروضة البهیة 3/225.

و استدل لها المحقّق الثانی فی حاشیة الارشاد و جامع المقاصد بالتأسی، و زاد فی الأوّل ب- «أنّ إیقاع العقد بلفظ غیر الماضی غیر صحیح مع أنّه عربی اتفاقا فغیر العربی بطریق اُولی»(1).

و فیه: أوّلاً: نعم، الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله أنشأ العقود بالعربیة ولکن من جهة أنها لسان قومه کما هی کذلکِ فی محاوراته و محادثاته.

و ثانیا: لو کانت العربیة معتبرة لظهرت و بانت لأنّ الناس یُبْتَلَوْنَ بها أکثر من ابتلائهم بالصلوات الخمس.

و ثالثا: سیأتی منّا عدم اعتبار الماضویة فی العقود، و منع الاُولویة فی المقام لأنّ من الممکن أنّ غیر العربیة یکون صحیحا ولکن العربیة بغیر الماضی لم تکن صحیحة، و یمکن ان یقال: «إذا لم یکن قادرا علی الماضی یجوز بغیر العربیة و لا یجوز بغیر الماضی» کما فی مفتاح الکرامة(2).

و رابعا: شمول عمومات و مطلقات العقود و وجوب الوفاء بها للعقد غیر العربی.

و خامسا: ولو قلنا باعتبار العربیة فإنّما تکون مع القدرة و أمّا مع العجز فتجوز بغیر العربیة کما قطع به الأصحاب ولو بالتعلّم بلامشقّة و لا فوت غرض مقصود کما نبّه علیه الفاضل الإصبهانی(3) رحمه الله .

نعم، فی صیغ النکاح الإجماع علی عدم الصحة بغیر العربیة مع القدرة کما عن الشیخ

ص:215


1- (4) حاشیة الارشاد /335.
2- (5) مفتاح الکرامة 12/527.
3- (6) کشف اللثام 7/47.

فی المبسوط(1) و العلاّمة فی التذکرة(2)، و خالفهم ابن حمزة فی الوسیلة(3) و ذهب إلی

استحباب العربیة فیه.

و أمّا العربی الملحون من حیث المادة أو الهیئة أو الإعراب بناءً علی القول باعتبار العربیة، فإنّ العربیّة الصحیحة المتیقّنة تکون من أسباب النقل و الانتقال و أمّا الملحونة فلا، فلا یصحّ إنشاء العقود بها.

إمّا بناء علی ما اخترناه من جواز إنشاء العقود بکلّ ما یُنْشَأُ به فلابدّ من التفصیل بین ما یعدّ فی العرف أیضا غلطا فلا یصح الإنشاء به و بین ما یعد غلطا بحسب القواعد العربیة فقط ولکن العرف یستعملونه فیتم الإنشاء به.

و بالجملة فالأمر فی العربیة الملحونة مُوْکَلٌ إلی العرف و أنّه یحکم بغلطها أو لا یراها غلطا و فی الأخیر یصح الإنشاء به.

ثم هل المعتبر - علی فرض اعتبارها - عربیة الصیغة فقط فیصح نحو: بعتک - این کتاب را به فلان مقدار - أو لابّد أن یکون الجمیع بالعربیة؟!

الظاهر کفایة صحة العقد بعربیة صیغتها، أما سائر متعلقاتها فیجوز فیها غیر العربیة لعدم احتمال أن یکون اللفظ غیر العربی مخلاًّ بصحة العقد، و یدلّ علی ما ذکرنا عدّة من الروایات.

منها: صحیحة اسماعیل بن عبدالخالق(4) و صحیحة العلاء(5).

ص:216


1- (7) المبسوط 4/194.
2- (8) تذکرة الفقهاء 2/582 من طبع الحجری.
3- (9) الوسیلة /291.
4- (1) وسائل الشیعة 18/53، ح14، الباب 8 من أبواب أحکام العقود.
5- (2) وسائل الشیعة 18/63، ح5، الباب 14 من أبواب أحکام العقود.

و بهما تحمل صحیحة الحلبی(1) و خبر جراح الملائنی(2) و معتبرة حنان بن سدیر(3) علی الکراهة، و اللّه العالم.

هل یعتبر علم المتکلم بمعنی الصیغة تفصیلاً؟

جهله بها یتصور علی القسمین:

الأوّل: أن یکون المنشیء جاهلاً بمعنی الصیغة و مضمونها راسا بل ربما یکون المرتکز فی ذهنه غیر ما یفهمه أهل اللغة و العالمون بها فحینئذ لا یصح الإنشاء بها للإخلال بقصد الإنشاء فلا یتحقّق الإنشاء لأنّه لا یدری معنی الصیغة حتّی یقصد الإنشاء بها.

الثانی: المنشیء یعلم إجمالاً معنی الصیغة ولکنّها جاهل بها تفصیلاً - أی لا یدری وقوع أیّ جزء منها بإزاء أیّ جزء من معناها - فهو لا یدری کیفیة الدلالة، فحینئذ یجوز الإنشاء بها لعدم الدلیل علی اعتبار العلم التفصیلی بمعنی الصیغة و لقیام السیرة القطعیة علی الصحة فی هذا الفرض، لأنّ لایطلع علی المعنی التفصیلی إلاّ الأفاضل. و لم یثبت أیّ ردع بالنسبة إلی جریان العقود و الإیقاعات توسط عموم الناس الغافلین من کیفیة الدلالة و معانی المفردات.

و من هنا ظهر عدم ابتناء المسألة علی اعتبار العربیة فی الصیغة کما هو ظاهر الشیخ الأعظم رحمه الله حیث یقول: «الظاهر هو الأوّل (أی اعتبار العلم التفصیلی) لأنّ عربیة الکلام لیست باقتضاء نفس الکلام، بل بقصد المتکلم منه المعنی الذی وضع له عند العرب...»(4).

بل الظاهر ایتان النزاع حتّی علی القول بجواز إنشاء الصیغ بغیر العربیة و لذا اعترض

ص:217


1- (3) وسائل الشیعة 18/61، ح1.
2- (4) وسائل الشیعة 18/62، ح2.
3- (5) وسائل الشیعة 18/63، ح3.
4- (1) المکاسب 3/137.

علیه الفقیه الیزدی بقوله: «... بل یکفی الإیتان بالصیغة الصحیحة بقصد الإنشاء مع العلم بها بأنّها لإنشاء البیع أو غیره، و إن لم یفهم المعنی تفصیلاً و لم یمیز بین الخصوصیات، حتّی بالنسبة إلی النکاح أیضا فتدبر»(1).

اشتراط الماضویة فی الصیغ

ذهب إلی الاشتراط ابن حمزة فی الوسیلة(2) و المحقّق فی الشرائع(3) و العلاّمة فی التذکرة(4) و التحریر(5) و المختلف(6) و القواعد(7) و الإرشاد(8) و ولده فی شرحه(9) و الشهید فی الدروس(10) و اللمعة(11)، و الفاضل المقداد فی التنقیح(12)، و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(13) و صِیغَ العقود(14) و حاشیة الإرشاد(15)، و الشهید الثانی فی المسالک(16) و

ص:218


1- (2) حاشیته علی المکاسب 1/424.
2- (3) الوسیلة /237.
3- (4) شرائع الإسلام 2/7.
4- (5) تذکرة الفقهاء 10/8.
5- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 2/275.
6- (7) مختلف الشیعة 5/53.
7- (8) قواعد الأحکام 2/17.
8- (9) إرشاد الأذهان 1/359.
9- (10) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/552.
10- (11) الدروس الشرعیة 3/191.
11- (12) اللمعة الدمشقیة /109.
12- (13) التقیح الرائع 2/24.
13- (1) جامع المقاصد 4/59.
14- (2) رسالة صیغ العقود /177 المطبوعة فی ضمن المجلد الأوّل من رسائل المحقّق الکرکی.
15- (3) حاشیة الإرشاد /335.
16- (4) المسالک 3/153.

الروضة(1)، و المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة و البرهان(2)، و الفیض الکاشانی فی المفاتیح(3) فهذا هو المشهور بین الأصحاب کما فی الأخیرین.

ولکن نُسب الخلاف إلی القاضی ابن البراج فی کتابیه: قال فی الکامل: «لو قال المشتری: بعنی هذا، فقال البائع: بعتک، انعقد»(4).

و قال فی المهذب: «لو قال المشتری: بعنی هذا، فیقول البائع: بعتک، صحّ»(5).

و استدل لهم: بأنّ الماضی صریح فی الإنشاء بخلاف الأمر و المضارع، لأنّ الأمر استدعاء و المضارع أشبه شیءٍ بالوعد.

و أنّ الإنشاء بغیر الماضی خارج عن العقود المتعارفة فلا تشمله العمومات.

و أنّ الاجماع قائم علی عدم جواز الإنشاء بالمضارع و الأمر کما نبّه علیه فی التذکرة(6) بالنسبة إلی الأوّل فقط.

و استدل علی عدم الاشتراط: صدق عنوان العقد علی المنشأ بالمضارع و الأمر فیکون مشمولاً للاطلاقات و العمومات.

و أنّهما یکونان صریحین فی الإنشاء بالقرائن المقالیة أو الحالیة کما أنّ الماضی کذلک بهما.

و الاجماع المُدعی لا یفید شیئا لأنّه مدرکیٌّ و مدرکه هو الوجوه الاعتباریة التی

ص:219


1- (5) الروضة البهیة 3/225.
2- (6) مجمع الفائدة و البرهان 8/145.
3- (7) مفاتیح الشرائع 3/49.
4- (8) نقل عنه العلاّمة فی مختلف الشیعة 5/53.
5- (9) المهذب 2/350.
6- (10) تذکرة الفقهاء 10/8.

ذکروها.

و قد ورد فی عدّة من الروایات الإنشاء بصیغة المضارع أو الأمر:

منها: صحیحة رفاعة النّخّاس.(1)

و منها: موثقة سماعة.(2)

و منها: موثقة اُخری له.(3)

و منها: موثقة عثمان بن عیسی و مضمره.(4)

و منها: خبر عبداللّه بن سلیمان.(5)

و منها: خبر أبان بن تغلب.(6)

و منها: خبر هِشام بن سالم الجوالیقی.(7)

و منها: خبر الأحول و هو محمّد بن علی بن النعمان مؤمن الطاق.(8)

و منها: صحیحة ثعلبة بن میمون.(9)

و منها: موثقة أبی بصیر.(10)

ص:220


1- (1) وسائل الشیعة 17/353، ح1، الباب 11 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- (2) وسائل الشیعه، 17/353، ح2.
3- (3) وسائل الشیعة 17/158، ح2، الباب 31 من أبواب ما یکتسب به.
4- (4) وسائل الشیعة 17/158، ح3.
5- (5) وسائل الشیعة 17/159، ح6.
6- (6) وسائل الشیعة 21/43، ح1، الباب 18 من أبواب المتعة.
7- (7) وسائل الشیعة 21/45، ح6، وسائل الشیعة 20/264، ح10، الباب 1 من أبواب عقد النکاح.
8- (8) وسائل الشیعة 21/44، ح5.
9- (9) وسائل الشیعة 21/43، ح2.
10- (10) وسائل الشیعة 21/44، ح4.

و لا یضر إضمار هاتین الأخیرتین مضافا إلی جلالة راوِیَیْهِما و أنّهما لا ینقلان إلاّ من الإمام علیه السلام ، لأنّ الکلام فی جواز إنشاء العقود بصیغة المضارع و أنّهما - أی ثعلبة و أبابصیر - أنشأآ اعقد النکاح بالمضارع و لا یمکن لأحد أن یقال أنّهما لا یعلمان إنشاء عقد المتعة.

فتلک عشرة کاملة من الروایات - و الباحث یجد أکثر منها - فیّما یدلّ علی جواز إنشاء العقود بصیغتی المضارع و الأمر، لأنّ خبر الأحول ورد بصیغة الأمر.

تقدیم الإیجاب علی القبول
اشارة

هل یعتبر الترتیب بین الإیجاب و القبول بتقدیم الأوّل؟

نسب الشهیدان فی غایة المراد(1) و المسالک(2) إلی الشیخ فی الخلاف دعوی الاجماع

علی الاعتبار فلابدّ من ملاحظة کلامه.

قال الشیخ فی الخلاف: «إذا قال: بِعْنیه بألف، فقال: بعتک لم یصح البیع حتّی یقول المشتری بعد ذلک اشتریت أو قبلت... دلیلنا: إنّ ما اعتبرناه مجمع علی ثبوت العقد به و ما ادعوه لا دلالة علی صحته و الأصل عدم العقد، و من ادعی ثبوته فعلیه الدلالة»(3).

أقول: و أنت تری عدم وجدان الاجماع فی کلامه قدس سره علی اعتبار التقدیم إنّما قال بأنّ العقد لو وقع إیجابه أوّلاً ثم قبوله، الکلّ یقول بانعقاده و هذا البیان صحیح منه ولکنّه لن یدعی الاجماع فی المقام و لذا قال فی المفتاح بالنسبة إلی ادعاء اجماع الخلاف: «و هو وهم قطعا لأنّی تتبعت کتاب البیع فیه مسألة مسألة و غیره حتّی النکاح فلم أجده ادّعی ذلک و إنّما عبارته فی المقام توهم ذلک المستعجل... إلاّ أن یرید أنّه استدل بأنّه مجمع علیه»(4).

ص:221


1- (11) غایة المراد 2/16.
2- (12) المسالک 3/153.
3- (1) الخلاف 3/39، المسألة 56.
4- (2) مفتاح الکرامة 12/529.

قال فی بیع المبسوط: «عقد النکاح ینعقد بالإیجاب و القبول سواء تقدّم الإیجاب فقال [کقوله] زوّجتک بنتی، فقال، قبلت النکاح أو تأخّر الإیجاب کقوله: زوّجنی بنتک، فقال: زوّجتک، بلاخلاف.

فأمّا البیع فإن تقدم الإیجاب فقال: بعتک، فقال: قبلت، صحّ بلاخلاف، و إن تقدّم القبول فقال: بعنیه بألف فقال: بعتک، صحّ، و الأقوی عندی أنّه لا یصحّ حتّی یقول المشتری بعد ذلک: اشتریت. فإذا ثبت هذا فکلّ ما یجری بین الناس إنّما هو استباحات و تراض دون أن یکون ذلک بیعا منعقدا...»(1).

ولکن قال فی نکاح المبسوط: «... فإذا تعاقدا فإن تقدّم الإیجاب علی القبول، فقال: زوّجتک، فقال: قبلتُ التزویج صحّ، و کذلک إذا تقدّم الإیجاب فی البیع علی القبول صحّ بلاخلاف.

و أمّا إن تأخّر الإیجاب و سبق القبول، فإن کان فی النکاح فقال الزوج: زوّجتنیها، فقال: زوّجتکها صحّ، و إن لم بعد الزوج القبول بلاخلاف، لخبر سعد الساعدی قال الرجل زوّجنیها یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال: زوّجتکها بما معک من القرآن، فتقدم القبول و تأخر

الإیجاب، و إن کان هذا فی البیع، فقال بعنیها، فقال: بعتکها صح عندنا و عند قوم من المخالفین، و قال قوم منهم لا یصحّ حتّی یسبق الإیجاب»(2).

و أنت تری بأنّ الشیخ عدل فی باب النکاح عمّا ذهب إلیه فی باب البیع من المبسوط و الخلاف من لزوم تقدّم الإیجاب علی القبول فی البیع فقط و قال: «صح عندنا و عند قوم من المخالفین».

ص:222


1- (3) المبسوط 2/87.
2- (1) المبسوط 4/194.

و الحاصل: اعتبار الترتیب بین الإیجاب و القبول هو مذهب الشیخ فی الخلاف(1) و بیع المبسوط(2)، و خیرة ابنی حمزة و ادریس فی بیع الوسیلة(3) و السرائر(4)، و عدّه من الأقوی العلاّمة فی التذکرة(5) و من الأشهر فی المختلف(6) و نجله فی الإیضاح(7) کما هو ظاهر شرحه علی الإرشاد(8)، و کذا ظاهر الشهید فی غایة المراد(9) و کذا عدّه من الأقوی الفاضل المقداد فی التنقیح الرائع(10)، و المحقّق الکرکی فی جامع المقاصد(11) و فی صیغ العقود(12) ذهب إلی أنّه الأصح، و فی حاشیته علی الإرشاد علی أنّه الأظهر(13)، و ذهب الشیخ جعفر علی أنّه الأشهر و الأظهر فی شرحه علی القواعد(14).

و أمّا عدم الاعتبار فهو مذهب جماعة کما هو المنقول(15) عن القاضی ابن البراج و

ص:223


1- (2) الخلاف 3/39.
2- (3) المبسوط 2/87.
3- (4) الوسیلة /237.
4- (5) السرائر 2/250.
5- (6) تذکرة الفقهاء 10/8.
6- (7) مختلف الشیعة 5/52.
7- (8) ایضاح الفوائد 1/413.
8- (9) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/529.
9- (10) غایة المراد 2/16.
10- (11) التنقیح الرائع 2/24.
11- (12) جامع المقاصد 4/60 و 12/74.
12- (13) صیغ العقود /177 المطبوعة فی ضمن المجلّد الأوّل من رسائل المحقّق الکرکی.
13- (14) حاشیة الإرشاد /335.
14- (15) شرح القواعد 2/19.
15- (16) الناقل هو العلاّمة فی المختلف 5/52.

عدّه المحقّق فی الشرائع(1) من الأشبه، و ذهب العلاّمة فی نهایة الإحکام(2) أنّه الأقوی و فی

التحریر(3) أنّه الأقرب، و تنظر فی الاشتراط فی القواعد(4) و الإرشاد(5) و تبعه الشهید فی الأقربیة فی الدروس(6)، و فی اللمعة(7) ذهب إلی عدم اعتبار الاشتراط و إن کان تقدیمه أحسن، و عدم الاعتبار هو اختیاره فی حواشیه علی القواعد(8). و صاحب المیسیة(9) ذهب إلی أنّ عدم الاشتراط هو الأقوی و کذا الشهید الثانی فی المسالک(10)، و فی الروضة(11) ذهب إلی عدم الاشتراط و إن کان تقدیم الإیجاب أحسن، و المحقّق الأردبیلی ذهب إلی أنّه الأظهر فی مجمع الفائدة و البرهان(12)، و المحقّق السبزواری علی أنّه الأقرب فی الکفایة(13). و کذا الفقیه المتتبع السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة(14). و کلّ هذه المنقولات منه قدس سره .

و هو ظاهر السیّد ابن زهرة فی الغنیة لأنّه لم یتعرض لهذا الاشتراط، و نحوه فی

ص:224


1- (17) الشرائع 2/7 و 2/217.
2- (18) نهایة الإحکام 2/448.
3- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 2/275.
4- (2) قواعد الأحکام 2/17.
5- (3) إرشاد الأذهان 1/359.
6- (4) الدروس الشرعیة 3/191.
7- (5) اللمعة /109 و 184.
8- (6) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/531.
9- (7) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/531.
10- (8) المسالک 3/154.
11- (9) الروضة البهیة 3/225.
12- (10) مجمع الفائدة و البرهان 8/145.
13- (11) الکفایة 1/449.
14- (12) مفتاح الکرامة 12/531.

الریاض للسیّد الطباطبائی و المستند للفاضل النراقی.

و ذهب بعضٌ إلی التفصیل بین النکاح و غیره من العقود فیجوّزه فیه دون غیره کما یظهر من الشیخ فی بیع المبسوط(1) و ابن حمزة فی الوسیلة(2) و یمکن استفادة هذا التفصیل من کلام فخر المحققین فی ایضاح الفوائد(3)، و نسب السیّد محمّد العاملی - صاحب المدارک - عدم اشتراط تقدیم الإیجاب فی النکاح إلی المشهور بین الأصحاب فی کتابه نهایة المرام(4).

و ذهب بعضٌ إلی التفصیل بین القبول بلفظ قبلت و نحوه و غیره فجوّز التقدیم فی الثانی دون الأوّل کما یظهر من الشهید الثانی فی المسالک(5) و المحقّق الأردبیلی فی مجمع الفائدة و البرهان(6).

فهذه أربعة أقوال فی المقام.

أدلة الأقوال

یمکن أن یستدل للترتیب بوجوه:

الأوّل: أصالة عدم تحقّق العقد و عدم تحقّق الآثار المترتبة علیه و منها النقل و الانتقال إلاّ بما ثبت من الأدلة، و لیس إلاّ ما قدّم فیه الإیجاب.

الثانی: أدلة وجوب الوفاء بالعقود تنصرف إلی ما کانت منها مرتبة بین الایجاب ثم القبول و العکس لیس مشمولاً لأدلتها فلا یصحّ.

ص:225


1- (13) المبسوط 2/87.
2- (14) الوسیلة /237 و 291.
3- (15) ایضاح الفوائد 1/413.
4- (16) نهایة المرام 1/26.
5- (1) المسالک 3/154.
6- (2) مجمع الفائدة و البرهان 8/146.

الثالث: القبول هو انفعال - أی مبنیّ علی کون الفعل صادرا من آخر حتّی یتحقّق الانفعال - فلو قدّم القبول لزم البناء علی أمر لم یتحقّق.

و یمکن أن یستدل لعدم اعتبار الترتیب بوجوه تظهر منها المناقشة فی أدلة الترتیب:

الأوّل: اطلاق أدلة وجوب الوفاء بالعقود الشامل لصورتی التقدیم و التأخیر و الأصل عدم التقیید.

الثانی: الروایات الواردة فی بیع العبد الآبق(1)، و بیع المصحف(2)، و بیع الثمر(3) و صیغة المتعة(4) التی مرّ بعضها فی البحث عن الماضویة تدلّ علی جواز تقدّم القبول.

الثالث: ما ورد فی جواز جعل المهر تعلیم شیءٍ من القرآن نحو: صحیحة محمّد بن مسلم(5) و مرسلة سهل بن سعدٍ الساعدی(6) التی رواها العامة(7).

و یستفاد من الروایتین أحکام أربعة:

أ: جواز تقدیم القبول علی الإیجاب.

ب: جواز وقوع القبول بلفظ الأمر.

ج: جواز الفصل بین الإیجاب و القبول.

د: جواز جعل المهر تعلیم شیء من القرآن.

ولکن استفادة الثلاثة الاُوَل منهما مبنیّة علی أنّ الإیجاب قوله صلی الله علیه و آله : «زوّجتُکها» و

ص:226


1- (3) وسائل الشیعة 17/353، الباب 11 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- (4) وسائل الشیعة 17/158، الباب 31 من أبواب مایکتسب به.
3- (5) وسائل الشیعة 18/219، ح1، موثقة سماعة، الباب 3 من أبواب بیع الثمار.
4- (6) وسائل الشیعة 21/43، الباب 18 من أبواب المتعة.
5- (7) وسائل الشیعة 21/242، ح1، الباب 2 من أبواب المهور.
6- (8) عوالی اللآلی 2/263، ح8 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 15/61، ح2.
7- (9) صحیح البخاری 4/192، ح4742، سنن البیهقی 7/242.

القبول قول الصحابی: «زوّجنیها» قبلها بفصل غیر قصیر کما فهمه جمعٌ.(1)

و یمکن أن یستدل للتفصیل بین النکاح و غیره من العقود بأنّ النص ورد فیه کما فی صحیحة محمّد بن مسلم و مرسلة سهل الساعدی المذکورتین، و أمّا فی غیره من العقود فَیُتَمسَّکُ بالأصل من لزوم اشتراط الترتیب.

إن قلت: إذا قبلت تقدیم القبول علی الإیجاب فی النکاح فیجری فی غیره من العقود إمّا لوجود الإجماع المرکب بعدم القائل بالفرق بین النکاح و غیره، و إمّا بالاُولویة القطعیة إذ من المعلوم أنّ الاحتیاط فی أمر الفروج أزید من غیره و إذا صحّ العقد فیه، ففی غیره بطریق اُولی.

قلت: یمنع وجود الإجماع المرکب صحَّ القائل بالفصل - کما مرّ القائل به - و نمنع أیضا الاُولویة بأنّ الإیجاب فی النکاح إنّما هو فی طرف المرأة و هی تستحیی غالبا فالمناسب تقدیم القبول و لعلّ السر فیه مراعاة الحیاء - کما عن الفاضل المراغی(2) - و هو غیر موجود فی الأبواب الاُخر.

و یمکن أن یستدل للتفصیل بین القبول بلفظ قبلت و رضیت و بین غیره نحو تزوّجت و اشتریت و ابتعت، بأنّ کلمة القبول و ما بمعناه صریحة فی الانفعال أعنی أنّه مبنیٌّ علی کون الفعل صادرا من الآخر أوّلاً ثم القبول و إلاّ لزم البناء علی أمر لم یتحقّق.

و بعبارة اُخری: کلمة القبول و ما بمعناه صریحة فی البناء علی أمر سابق فاستعمالها فیما لم یقع بعد مستبعد راجع إلی استعمال المجاز البعید، بل ولو اُبقی معناه علی ما هو علیه لزم إرادة المحال، فأمره دائر بین إرادة المحال أو المجاز البعید و کلاهما ممّا لا یصح فلا یجوز تقدیمه.

ص:227


1- (1) راجع مصباح الفقاهة 3/51.
2- (2) هو السیّد المیر عبدالفتاح الحسینی المراغی المتوفی عام 1250 من تلامیذ الشیخ الأکبر الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی کتابه «العناوین» 2/170.

و أمّا ما عداه فلا صراحة فیه فی هذا المجال فلو اُبقی علی معناه صار کالإیجاب، ولو

صُرف عن معناه - أیضا - إلی القبول لم یکن بعیدا عن معناه.(1)

فذلکة کلام الشیخ الأعظم فی المقام و نقده

قسّم صیغة القبول باعتبار ألفاظها إلی ثلاثة أقسام:

الأوّل: إذا وقع القبول بلفظ قبلت و رضیت و نحوهما لم یجز تقدیمه علی الایجاب، للإجماع، و أنّ العمومات محمولة علی العقود المتعارفة و أنّه لیس منها، و أنّ القبول فرع الایجاب و لیس مجرد الرضا به حیث یمکن تعلّق الرضا بالأمر المتأخر بل المراد منه الرضا بالایجاب المتضمن لآثار العقد نحو نقل المال من الموجب إلی القابل نقلاً فعلیا و هذا المعنی لایتحقّق إلاّ بتأخر الرضا عن الایجاب، و السرّ فی ذلک أنّ کلمة قبلت و أشباهها قد اخذ فیها مفهوم الإنفعال و المطاوعة و لا یتحقّق ذلک فی الخارج إلاّ بتأخره عن الایجاب.

وفیه: أوّلاً: الاجماع المدعی غیر تام و قد عرفت الأقوال فی المسألة و وجود المخالف و علی فرض تمامیته أنّه مدرکیّ و لیس مدرکه إلاّ هذه الوجوه الاعتباریة المردودة.

و ثانیا: لا وجه لحمل العمومات أو الاطلاقات علی العقود المتعارفه بل هما تشملان المتعارفة و غیر المتعارفة.

و ثالثا: المتحصل من کلمات أهل اللغة و العرف أنّ العقد لا یوجد إلاّ بین شخصین سواء کان الصادر منهما مرکبا من الایجاب و القبول أو مرکبا من الایجابین فقط، و الاطلاقات و العمومات تشملهما. و لذا یمکن أن یعدّ القبول المقدّم ایجابا من صاحبه فیدخل فی ترکب العقد من الایجابین.

ص:228


1- (1) راجع العناوین 2/170.

و لذا نص الشهید الثانی(1) فی مقامات عدیدة أنّ القبول المقدّم یکون فی معنی الایجاب.

و رابعا: لو سلّمنا احتیاج العقد إلی القبول و سلّمنا أیضا أخذ الانفعال و المطاوعة فی مفهوم القبول، ولکنّا لا نسلّم استحالة تقدّم القبول علی الایجاب لأنّ القبول تارة یتعلق بالمعنی المصدری أعنی به إنشاء البائع، القول بالاستحالة یمکن أن تأتی هنا، و اُخری یتعلق باسم المصدر أعنی به نفس الأثر المترتب علی العقد مع قطع النظر عن اضافته إلی طرف الآخر فحینئد یمکن القول بتحقّق القبول قبل الایجاب لأنّ مفهوم الانفعال و المطاوعة هو الأخذ و یصدق علیه أنه أخذ المبدأ - و هو العقد الخاص کالنکاح أو البیع - و صح العقد نحو

قوله: قبلتُ و رضیتُ بأن أکون زوجا لکِ و أن تکونی زوجة لی، أو قبلت و رضیت مالک بمالی و نحوها.

و علیه فلا محذور من جهة تحقّق الانفعال و المطاوعة فی تقدّم القبول فی العقود أصلاً.

و خامسا: کلٌّ من المتعاقدین متساویان فی إحداث العقد، فکلّ مَنْ بدأ بالإحداث قاصدا ذلک صح، سواء سمّیته قبولاً أو ایجابا لأنّ القبول بهذا المعنی ایجاب کما مرّ و عموم أدلة العقود یشمله کما نص علیه الفاضل المراغی(2) و قد مرّ من ثانی الشهیدین آنفا.

الثانی: إذا وقع القبول بلفظ الأمر نحو: بعنی أو زوّجنی بنتک و أمثالها لم یجز أیضا تقدیمه علی الایجاب لأنّه استدعاء و لیس بصیغة القبول، مضافا إلی اعتبار الماضویة فی العقود کما علیه جماعة.

و فیه: أوّلاً: قد مرّ عدم اعتبار الماضویة فلانعید.

ص:229


1- (2) راجع المسالک 3/154 و 7/95 - الروضة البهیة 5/110.
2- (1) العناوین 2/173.

و ثانیا: یمکن أنْ تُعَدَّ صیغة الأمر بالقرائن الحالیة و المقالیة قبولاً بالنسبة إلی العقد کما هو الحال فی صیغة الماضی.

و ثالثا: أدل دلیلٍ علی إمکان الشیء وقوعه و قد مرّ بعض الروایات الواردة فی تقدم القبول بصیغة الأمر نحو: خبر الأحول مؤمن الطاق(1) و صحیحة محمّد بن مسلم(2) و مرسلة سهل الساعدی(3).

الثالث: إذا وقع القبول بلفظ اشتریت و ابتعت و ملکت - مخففا - یجوز تقدیمه علی الایجاب، لعدم أخذ عنوان المطاوعة فیه حینئذ فأنشأ المشتری بهذه الألفاظ ملکیّة المثمن لنفسه بإزاء الثمن فلایفرق فی ذلک تقدّمه علی الإیجاب و تأخّره عنه.

أقول: الجواز تام عندنا فی جمیع الصور الثلاث.

ثم قال الشیخ الأعظم فی آخر کلامه: انّ العقد «إمّا أن یکون التزاما بشیءٍ من القابل کنقل ماله عنه أو زوجیّة، و إمّا لا یکون فیه سوی الرضا بالایجاب.

و الأوّل علی قسمین: لأن الالتزام الحاصل من القابل إمّا أن یکون نظیر الالتزام الحاصل من الموجب کالمصالحة أو متغایرا کالاشتراء.

و الثانی أیضا علی قسمین: لأنّه إمّا أن یعتبر فیه عنوان المطاوعة کالارتهان و الاتهاب والاقتراض، و إمّا أن لا یثبت فیه اعتبار أزید من الرضا بالإیجاب کالوکالة و العاریة و شبههما.

فتقدیم القبول علی الایجاب لا یکون إلاّ فی القسم الثانی من کلٍّ من القسمین»(4).

ص:230


1- (2) وسائل الشیعة 21/44، ح5.
2- (3) وسائل الشیعة 21/242، ح1.
3- (4) مستدرک الوسائل 15/61، ح2.
4- (1) المکاسب 3/156.

ولکن یمکن أن ینقض علیه، إذا قال أحد لصاحبه: قبلتُ المصالحة علی مالک الفلانی بهذا المال أو المبلغ، و أجابه الآخر: صالحتک مالی الفلانی بمالک أو المبلغ، و لا أظن بأحدٍ أن یذهب إلی بطلان هذه المصالحة لأجل تقدیم قبولها.

و کذا إذا قال للواهب: تملکتُ مالک مجانا، أو قال: قبلتُ هبتک، و قال الواهب بعد ذلک: وهبتک أو ملّکتک إیّاه، فهل لأحدٍ أن یقول ببطلان الهبة؟!

و کذا إذا قال المقترض: قبلتُ أو تملکتُ منک مأة دینار مع الضمان، و قال المُقْرِضُ: خُذْها، فهل یمکن القول ببطلانها؟!

و کذا إذا قال المرتهن: أخذتُ أو قبلتُ مالک الفلانی رهنا علی دینک، و قال الراهن: أرهنت، فهل لأحد القول بعدم انعقاد هذا العقد؟!(1)

و هل أنت تری فرقا بین هذه الأمثلة الأربعة و بین قول المشتری: قبلت هذا الثوب بألفین، و قال البائع بعده: بعته بهما.

و بین قول أحدٍ: قبلتُ و کالتک فی هذا الأمر، و أجابه الموکّل بقوله: و کلّتک.

و بین قول المستعیر: أَعِرْنِیْ أو قبلتُ عاریتک لهذا العین، و أجابه المعیر بقوله: أعرتک.

و لَعَمْرِی فصّل الشیخ الأعظم قدس سره وجه تفریقه بین الأمثلة الأربعة الاُولی و الثلاثة الأخیرة حتّی تعلّمنا الفرق بینها!!

و الحاصل: القول المختار فی المقام هو جواز تقدم القبول علی الایجاب مطلقا أیّ بلافرق بین ألفاظ القبول و بلافرق بین عقد النکاح و غیره من العقود و الحمدللّه.

ص:231


1- (2) هذه الأمثلة الثلاثة الأخیرة لشیخنا الاستاذ رحمه الله فی إرشاد الطالب 2/115.
الموالاة بین الإیجاب و القبول
اشارة

هل تعتبر الموالاة بینهما؟ و أن لا یتأخر القبول بحیث لا یعدّ جوابا للإیجاب؟ ذهب إلی اعتباره الشیخ فی خلع المبسوط(1) و العلاّمة فی نکاح القواعد(2) و خلعها(3) و بیع

نهایته(4) و الشهید فی وقف الدروس(5) و بیعها(6) و قواعده(7) و الفاضل المقداد فی التنقیح(8) و المحقّق الثانی فی خلع رسالة صیغ العقود(9) و بیع جامع المقاصد(10) و ثانی الشهیدین فی هبة المسالک(11) و خلعها(12) و الشیخ جعفر فی شرح القواعد(13) و السیّد العاملی فی المفتاح(14).

قال الشهید فی القواعد: «الموالاة معتبرة فی العقد و نحوه، و هی مأخوذة من اعتبار الاتصال بین الاستثناء و المستثنی منه، و قال بعض العامة: لا یضرّ قول الزوج بعد الإیجاب:

ص:232


1- (3) المبسوط 4/362.
2- (4) القواعد 3/10.
3- (5) القواعد 3/161.
4- (1) نهایة الإحکام 2/450.
5- (2) الدروس 2/264.
6- (3) الدروس 3/191.
7- (4) القواعد و الفوائد 1/234، القاعدة 73.
8- (5) التنقیح الرائع 2/24.
9- (6) المطبوعة ضمن رسائل المحقّق الکرکی 1/201.
10- (7) جامع المقاصد 4/59.
11- (8) المسالک 6/9.
12- (9) المسالک 9/384.
13- (10) شرح القواعد 2/21.
14- (11) مفتاح الکرامة 12/532.

«الحمدللّه و الصلاة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قبلت نکاحها»(1).

و منه: الفوریة فی استتابة المرتدّ فیعتبر فی الحال، و قیل(2) إلی ثلاثه أیام.

و منه: السکوت فی اثناء الأذان فإن کان کثیرا أبطله.

و منه: السکوت الطویل فی اثناء القرأة أو قرأة خلالها، و کذا التشهد.

و منه: تحریم المأمومین فی الجمعة قبل الرکوع، فإن تعمّدوا أو نسوا حتّی رکع فلا جمعة. و اعتبر بعض العامة تحریمهم معه قبل الفاتحة.

و منه: الموالاة فی تعریف بحیث لا ینسی أنّه تکرار، و الموالاة فی سنة التعریف، فلو رجع فی اثناء المدّة استؤنف لیتوالی»(3).

أقول: اعتبار الاتصال بین المستثنی و المستثنی منه یعدّ من الاُمور البدیهیة، لأنّ الاستثناء من النفی یعید الإثبات، و الاستثناء من الإثبات یفید النفی فلابدّ من الاتصال بینهما للإفادة و کان لهما ظهور واحد. و فی فرض انفصال أحدهما عن الآخر کان لکلّ منهما ظهور خاص و لذا حکم بکفر من قال: لا إله و لم یعقبه بقوله إلاّ اللّه. أو أتی به بعد مدّة طویلة.

و الظاهر أنّ الشهید أراد أن یأخذ من اعتبار الاتصال بین المستثنی و المستثنی منه دلیلاً عاما لاعتبار الاتصال فی کل أمرٍ تدریجیٍّ ثبتت له الصورة الاتصالیة فی نظر العرف.

و مثّل قدس سره بلزوم الفوریة فی استتابة المرتد حیث تجب علیه المبادرة إلیها بعد طلب التوبة منه، و الوجه فی ذلک ثبوت الدلیل الشرعی علی وجوب الاستمرار فی الإسلام و عدم قطعه بالکفر. فلا یصح الاتیان بها علی المثال فی ما نحن فیه و لذا قال الشیخ الأعظم:

ص:223


1- (12) قاله النووی، اُنظر المجموع 17/307.
2- (13) قائله هو العلاّمة فی الإرشاد 2/189.
3- (14) القواعد و الفوائد 1/234، القاعدة /73.

«إنّ المطلوب فی الإسلام الاستمرار فإذا انقطع فلابدّ من اعادته فی أقرب الاُوقات»(1).

و أمّا دخول المأمومین فی صلاة الجمعة قبل رکوع الإمام فیحتاج إلی دلیل شرعی إن وجد فهو و یحمل علیه کلام الشیخ الأعظم: «لأنّ هیئة الاجتماع فی جمیع أحوال الصلاة من القیام و الرکوع و السجود مطلوبة فیقدح الإخلال بها»(2) و إلاّ یرجع فیه إلی أصل البرأة و صحة صلاتهم حتّی لو دخلوا بعد الرکوع.

و أمّا اعتبار اتصال لزوم الموالاة فی تعریف اللقطة بحیث تُعرف فی کلِّ مرّة أنّه تکرار للتعریف السابق أیضا فیحتاج إلی دلیل شرعی و هو مفقود فی المقام فیرجع فیه إلی البراءَةِ.

و بالجملة: أخذ اعتبار الاتصال بین جملتی الاستثناء دلیلاً علی اعتباره، فی کلِّ أمر تدریجی له الصورة الاتصالیة، قیاس مع الفارق و یمکن المناقشة أیضا فی الأمثلة کما قال الشیخ الأعظم: «و للتأمل فی هذه الفروع و فی صحة تفریعها علی الأصل المذکور مجال»(3).

نعم: إذا اُخذ فی موضوع حکم شرعی أمرٌ تدریجیٌّ مقیَّدٌ بالهیئة الاتصالیة إذا انتفی الاتصال انتفی الموضوع فینتفی الحکم. و تمام الکلام فی ثبوت هذا الاتصال فی الموضوع إذا ورد یجب مراعاته ولکن فی صورة الشک، أصل العدم یجری فی المقام و یحکم بعدم اعتباره.

أدلة اعتبار الاتّصال بین إیجاب العقد و قبوله

الأوّل: ما ذکره الشیخ الأعظم تتمیما و تحصیلاً لبیان الشهید و هذا نصه: «أنّ الأمر المتدرّج شیئا فشیئا إذا کان له صورة اتصالیة فی العرف فلابدّ فی ترتب الحکم المعلّق علیه فی الشرع من اعتبار صورته الاتصالیة، فالعقد المرکب من الایجاب و القبول القائم بنفس

ص:234


1- (1) المکاسب 3/160.
2- (2) المکاسب 3/160.
3- (3) المکاسب 3/160.

المتعاقدین بمنزلة کلامٍ واحدٍ مرتبط بعضه ببعض فیقدح تخلّل الفصل المخلّ بهیئته الاتصالیه و لذا لا یصدق التعاقد إذا کان الفصل مُفْرَطا فی الطول کسنة أو أزید، و انضباط ذلک إنّما یکون بالعرف فهو فی کل أمرٍ بحسبه، فیجوز الفصل بین کلٍّ من الایجاب و القبول بما لا یجوز بین کلمات کلّ واحدٍ منهما، و یجوز الفصل بین الکلمات بما لا یجوز بین الحروف کما فی الأذان و القرأة»(1).

و حیث إنّ هذا البیان یرتبط بالعقود و آیة وجوب الوفاء بها استشکل الشیخ السیّد الأعظم قدس سره علیه بقوله: «ما ذکره حسنٌ لو کان حکم الملک و اللزوم فی المعاملة منوطا بصدق العقد عرفا، کما هو مقتضی التمسک بآیة الوفاء بالعقود و باطلاق کلمات الأصحاب فی اعتبار العقد فی اللزوم بل الملک، و إمّا لو کان منوطا بصدق البیع أو التجارة عن تراض فلا یضرّه عدم صدق العقد»(2).

أقول: یمکن أن یجاب عن إشکال الشیخ الأعظم بعدم الفرق بین العقد و البیع و التجارة فی الصدق مع عدم الموالاة، کما لا فرق بینها علی فرض عدم الصدق مع عدمها، فالتفصیل المذکور بین العقد و اخوته - أی البیع و التجارة - فی غیر محلّه کما اعترف بذلک الفقیه الیزدی(3) و المحقّق الإیروانی(4) و شیخنا الاُستاذ(5)- قدس اللّه أسرارهم - و خلافا للمحقّق السیّد الخوئی(6) حیث وافق الشیخ فی تفصیله.

ص:235


1- (1) المکاسب 3/159 و 158.
2- (2) المکاسب 3/159.
3- (3) حاشیة المکاسب 1/438.
4- (4) حاشیته علی المکاسب 2/100.
5- (5) إرشاد الطالب 2/117.
6- (6) مصباح الفقاهة 3/54.

ولکن یمکن أن یناقش علی أصل استدلاله بأنّ مجرد تعلیق الحکم علی مرکّبٍ لا یدلّ علی اعتبار الموالاة بین أجزائه ما لم یعلم اعتبار الهیئة الاتصالیة بینها إمّا من العرف کما فی لواحق الکلام من الجُمَلِ الاستثنائیة و سائر القرائن المتصلة، و إمّا من الشرع کما ورد

اعتبارها فی الأذان و القراءَةِ و نحوها.

و أمّا العقود فیمکن منع احتیاجها إلی الطرفین مفهوما لأنّها بمعنی العهود أو العهود المشدّدات و هی یمکن تحصیلها من طرف واحد کما فی النذر و العهد و الیمین. هذا أوّلاً.

و ثانیا: و علی فرض احتیاجها إلی الطرفین کما فی بعضها من البیع و النکاح، لا یتم اعتبار اتصال القبول بالایجاب، لأنّه لو کان لأحد طرفی العقد من الایجاب أو القبول بقاء فی عالم الاعتبار، یتم العقد مع الحاق طرفه الآخر ولو بعد فصل طویل کما یظهر ذلک بملاحظة المعاملات الجاریة بین الأقوام و الملل المختلفة بالکتابة أو البرقیات أو الإنترنت - المُصْطَلَح علیه فی عَصْرنا- أو بایصال المال إلی طرف آخر، و بملاحظة لو أنّ أحدا قال بعد سماع الایجاب: إنّی لا أقبل حتّی أتأمّل فی صلاحه و فساده و بعد أیام أو اُسبوع أو حتّی عدّة شهور قال: قبلتُ. فلابدّ من القول بصحة الجمیع و هذا أقوی شاهد علی عدم اعتبار الموالاة فی العقود.

نعم: إذا فرض أنّ الطرف رجع عن ایجابه قبل قبول الآخر لم یتحقق العقد، و فی صورة الشک یمکن للشاک أن یسأل من طرفه هل أنت باق علی ایجابک و بعد علمه ببقاء ایجابه یمکنه إنشاء قبوله و تظهر هذه المناقشة إجمالاً من المؤسس الحائری(1) و المحقّق السیّد الخوئی(2) و شیخنا الاستاذ(3).

ص:236


1- (1) کتاب البیع 1/139 و 140 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی رحمه الله .
2- (2) مصباح الفقاهة 3/55.
3- (3) إرشاد الطالب 2/117.

و لذا قال السیّد الحکیم: «الظاهر الاکتفاء فی تحقق العقد ببقاء العهد النفسانی فی نفس الموجب فإذا کان باقیّا إلی زمان القبول و تحقّق، کفی ذلک فی تحقّق العقد عندهم ولو مع الفصل الطویل... و هذا هو السرّ فی عدم صدق العقد مع الفصل المفرط کسنة أو أزید...»(1).

الثانی: ما ذکره المحقّق النائینی بقوله فی العقود العهدیة المعاوضیة کالبیع و ما یلحق بها کالنکاح و نحوهما: «أنّه لما کان فیها خلع و لبس أو إیجاد علقةٍ فلابدّ أن یکون مقارنا للخلع لبس، و هکذا مقارنا لإیجاد العلقة قبول، و إلاّ یقع الاضافة و العلقة بلا محلٍّ و مضاف إلیه»(2).

و استشکل علیه المحقّق السیّد الخوئی بالنقض و الحلّ و أمّا النقض: «أنّ هذا الوجه یقتضی استحالة تحقّق العقد مع وجود الفصل بین الایجاب و القبول و لازم ذلک أن لا یوجد عقد فی العالَم، لأنّه لایتحقّق إلاّ بوجود الفصل بین ایجابه و قبوله - ولو بزمان قلیل - و من البیّن أنّه لا یفرق - فی استحالة الفصل بینهما - بین أن یکون الفاصل هو الزمان القصیر و بین أن یکون ذلک هو الزمان الطویل و هذا بیّن لا ریب فیه.

و الحلّ: أنّ الخلع و اللبس - فی اعتبار البائع - لیس علی وجه الاطلاق و إلاّ لتحقّق ذلک قبل تحقق القبول، مع أنّه لا یتحقّق قبله حتّی فی اعتبار نفس البائع فضلاً عن امضاء العقلاء أو الشارع. بل الخلع و البس فی اعتبار البائع معلَّق علی قبول المشتری و علی فرض تحقّقه، و علیه فالخلع مقارن باللبس دائما، سواء أتحققت الموالاة بین الإیجاب و القبول أم لم تتحقق»(3).

و استشکل علیه شیخنا الاستاذ رحمه الله أیضا بقوله: «أنّ العقد لیس بذلک و الشاهد

ص:237


1- (4) نهج الفقاهة /177.
2- (5) منیة الطالب 1/251.
3- (1) مصباح الفقاهة 3/55 و 56.

ملاحظة العقود حتّی التملیکیّة کبیع الکلّی بالذمة فضلاً عن مثل عقد النکاح أو المضاربة و الوکالة و نحوها.

و ثانیا: علی تقدیر کون العقد فی حقیقته ما ذکر فیکفی فی تحقق اللبس بقاء الخلع و عدم إلغائه و مع حصول اللبس فی أیّ زمان یتحقّق المجموع»(1).

أقول: مضافا إلی وجود السیرة القطعیة علی عدم اعتبار الموالاة بین الایجاب و القبول فی معاملات الناس و تجاراتهم و إرسال الهدایا من البلاد النائیة. و منها: إرسال ملک الحبشة النجاشی بعد اسلامه بالهدایا و ماریة القبطیّة اُمّ ابراهیم ابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله کما ورد تفصیله فی تفسیر علی بن ابراهیم القمی(2) و إعلام الوری بأعلام الهدی(3) للطبرسی و قصص الأنبیاء(4) للقطب الراوندی، و راجع فی هذا المجال دلائل النبوة(5) للبیهقی و البدایة و النهایة(6) لابن کثیر.

تنبیهات
اشارة

ثم هاهنا امور لابدّ من التنبیه علیها:

الأوّل: فذلکة ما ذکره المحقّق النائینی فی المقام

قسّم العقود إلی الثلاثة:

1- العقود العهدیة المعاوضیة: کالبیع و مایلحق بها کالنکاح و نحوهما و ذهب إلی

ص:238


1- (2) إرشاد الطالب 2/118.
2- (3) تفسیر القمی 1/(186-183) و نقل عنه فی بحارالأنوار 18/(416-414) - [8/(489-487) من الطبعة الحدیثة البیروتیّة].
3- (4) إعلام الوری بأعلام الهدی 1/119 و نقل عنه فی بحارالأنوار 18/419 [8/491].
4- (5) قصص الأنبیاء /323، ح404 و نقل عنه أیضا فی بحارالأنوار 18/419 [8/491].
5- (6) دلائل النبوة 2/308.
6- (7) البدایة و النهایة 3/83.

اعتبار الموالاة فیها بالدلیلین الماضیین - الأوّل و الثانی - ، و قد مرّ الإشکال فیهما فلا نعیده.

2- العقود العهدیة الغیر المشتملة علی المعاوضة: کالهبة و الرهن، و تارة ناقشها بالإشکال فی کونها من العقود کما فی منیة الطالب(1)، و اُخری یجری فیها الدلیل الأوّل فقط دون الثانی کما فی المکاسب و البیع.(2)

و فیه: لا اشکال فی کونها من العقود فی الشرع و عند العرف، و قد مرّ عدم تمامیة الدلیل الأوّل.

3- العقود الإذنیة: نحو الوکالة و العاریة و الودیعة، ذهب فیها إلی عدم اعتبار الموالاة فیها لأنّ اطلاق العقد علیها تکون مسامحة و یکفی فیها کل ما یدلّ علی الرضا.(3)

ثم قال فی آخر کلامه بالنسبة إلی إرسال الهدایا من البلاد البعیدة: «جمیع هذه الأفعال الصادرة من الواسطة کأنّها صادرة من الموجب، فهو بمنزلة من کان فی المشرق و کانت یده طویلة تصل إلی المغرب فمدّ یده و أعطی شیئا لمن کان فی المغرب فإنّ فعله یتمّ فی زمان وصول یده إلی المغرب فتأمل جیّدا»(4).

ناقشه تلمیذه المحقّق السیّد الخوئی بقوله: «ولکن هذا لا یستقیم، للفرق الواضح بین ما نحن فیه و بین المثال المزبور، بداهة أن المُهدی فی - مورد السیرة - ربّما یغفل عن هدیّته فی زمان وصولها إلی المُهدی إلیه و عندئذ لا یمکن تنزیل فعل الرسول و الواسطة منزلة فعل المُرْسِل»(5).

ص:239


1- (1) منیة الطالب 1/253.
2- (2) المکاسب و البیع 1/291.
3- (3) راجع منیة الطالب 1/(253-251) - المکاسب و البیع 1/(291-289).
4- (4) منیة الطالب 1/253.
5- (5) مصباح الفقاهة 3/57.
الثانی: مقالة الشیخ الأعظم حول روایة سهل الساعدی

روی سَهْلٌ الساعدیٌّ: أنّ النبی صلی الله علیه و آله ، جاءت إلیه امرأة فقالت: یا رسول اللّه إنّی قد وهبت نفسی لک، فقال صلی الله علیه و آله : لا اربة لی فی النساء، فقالت: زوّجنی بمن شئت من أصحابک، فقام رجل فقال: یا رسول اللّه زوّجنیها، فقال: هل معک شیء تصدقها؟ فقال: و اللّه ما معی إلاّ ردائی هذا، فقال: إن أعطیتها إیّاه تبقی و لا رداء لک، هل معک شیء من القرآن؟ فقال: نعم سورة کذا و کذا، فقال صلی الله علیه و آله : زوّجتکها علی ما معک من القرآن.(1)

أقول: قد مرّ منّا أنّ هذه الروایة عامّیّةٌ مضافا إلی إرسالها ولکن وردت بمضمونها صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: جاءت إمرأة إلی النبی صلی الله علیه و آله فقالت: زوِّجنی، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : مَنْ لهذه؟ فقام رجل فقال: أنا یا رسول اللّه، زوّجنیها، فقال: ما تعطیها؟ فقال: مالی شیء، قال: لا، فأعادت فأعاد رسول اللّه صلی الله علیه و آله الکلام فلم یقم أحد غیر الرجل، ثم أعادت فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی المرّة الثالثة: أتحسن من القرآن شیئا؟ قال: نعم، قال: قد زوَّجتکها علی ما تحسن من القرآن فعلّمها إیّاه.(2)

قال الشیخ الأعظم: «یظهر من روایة سهل الساعدی، جواز الفصل بین الایجاب و القبول بکلام طویل أجنبیّ، بناءً علی ما فهمه الجماعة من أنّ القبول فیها قول ذلک الصحابیّ: زوّجنیها، و الإیجاب قوله صلی الله علیه و آله بعد فصل طویل: زوّجتکها بما معک من القرآن، و لعلّ هذا موهنٌ آخر للروایة، فافهم»(3).

و علّق علیه شیخنا الاستاذ: «الموهن الأوّل ما تقدم آنفا من أنّه لا دلالة فیها علی اقتصار الرجل فی قبوله النکاح باستدعائه، و وجه عدم الدلالة عدم ورودها فی مقام بیان

ص:240


1- (1) مستدرک الوسائل 15/61، ح2.
2- (2) وسائل الشیعة 21/242، ح1.
3- (3) المکاسب 3/161.

کیفیة عقد النکاح بل حکایة قضیّة شخصیة لبیان جواز جعل تعلیم القرآن مهرا.

و الموهن الثانی: لزوم الفصل الطویل بین الإیجاب و القبول.

ولکن لا یخفی ما فیه: فإنّ قبول الإیجاب لیس استدعائه الأوّل لیقال: بتخلل الفصل الطویل بینه و بین ایجاب النکاح بل إنّه قد کرّر استدعاء بعد نداء رسول اللّه صلی الله علیه و آله ثانیا و ثالثا، و قد سأله رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی الثالثة عن عرفانه القرأة فی الفحص عمّا عنده ممّا یمکن أن یجعله مهرا فأجاب الرجل بنعم الذی یمکن جعله فی أمثال المقام قبولاً من غیر تخلل بین الإیجاب و القبول بالأجنبی أو غیره و علی تقدیر کون القبول هو استدعائه الأخیر فلا

فصل بین الایجاب و القبول بالأجنبی الطویل، فلاحظ الحدیث»(1).

أقول: ما ذکره قدس سره فی آخر کلامه لا یمکن المساعدة علیه لأنّ «نعم» الوارد فی الروایة فی کلام الصحابی یکون جوابا لسؤال رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، هل معک شیء من القرآن؟ فی روایه سهل الساعدی، و سؤال: أتحسن من القرآن شیئا؟ فی صحیحة محمّد بن مسلم، و جعله قبولاً خلاف ظاهر الروایة.

و یمکن المناقشة فی الموهن الأوّل بأنّه لو کان للقضیة - ولو کانت شخصیّة - ذیل لابدّ من التعرض له لا سیما فی کلام سیدنا أبی جعفر علیه السلام ، و من الممکن مراد الشیخ من الموهن الأوّل هو إرسال الروایة و عامیتها فی خبر سهل الساعدی، فلا یتم لا الموهن الأوّل و لا الثانی و الروایة تدلّ علی جواز الفصل الطویل و بالکلام الأجنبی بین الإیجاب و القبول فی العقود و لعلّ إلی ما ذکرنا أشار الشیخ الأعظم بقوله فافهم.

ولکن قال السیّد الحکیم فی وجه أمره بالتفهم: «لعلّه اشارة إلی ما تقدّم من أنّ اعتبار الموالاة إنّما هی فی خصوص العقد لا مطلق الأسباب کالتجارة و البیع، لأنّه خلاف عموم

ص:241


1- (1) إرشاد الطالب 2/118.

نفوذهما و یمکن أن یکون النکاح کذلک»(1).

الثالث: الفاصل بین الإیجاب و القبول
اشارة

قد مرّ تعریف الموالاة هنا بالاتصال بین الإیجاب و القبول، فالفاصل بینهما ینعدم الموالاة، و هو یقع علی أقسام:

أ: الرَّد

یتخلل بین الإیجاب و القبول إمّا من الموجِب أو من القابِل و کلاهما یوجبان بطلان و العقد لأنّ فی الرَّد من الموجب لا یبقی ایجاب حتّی یلحقه القبول، و من القابل أیضا مبطل للإیجاب فلا ینفع القبول بعده، لأنّ مع تخلل الرد لا یکون عقدا، لا شرعا و لا عرفا فلا یشمله اطلاقات صحة العقود، و الأصل أیضا یقتضی فساده لأنّ الأصل فی العقود الفساد، و الإجماع المحصّل من الأصحاب فی أبواب مختلفة من العقود المشروطة صحتها بعدم تخلّل الرد، و کذا الاجماع المحکی(2) المستفیض علیه.

و کذا یدلّ علیه الاتفاق بینهم من بطلان العقد الفضولی إذا یلحقه الرد و لا ینفعه

الاجازة بعد الرد مع تمامیة الإیجاب و القبول هناک، و أمّا هنا فبطریق الاُولی لأنّه الإیجاب فقط إذا کان الراد هو القابل أو حتّی من دون إیجاب إذا کان الراد هو الموجب.

و من عدم تمامیة الاستصحاب التأهلی کما مرّ منّا فی بحوثنا الاُصولیة.

و کذا الردّ یبطل بتخلله فی أثناء الإیجاب أو القبول و کذلک یبطل بتخلّله بین العقد و القبض فی کلِّ عقد یشترط فیه القبض کالوقف و الحبس و السکنی و الهبة و القرض و الصدقة و الصرف و السَّلم لعدم حصول، التملیک ما لم یتحقّق القبض.

ص:242


1- (2) نهج الفقاهة /178.
2- (3) حکاه الفاضل المراغی فی العناوین 2/177.

و أمّا ما ذهب إلیه المشهور(1) من أصحابنا من أنّ الموصی له لو ردّ الوصیة فی حیاة الموصی فله أن یقبل بعد وفاته فلا ینافی ما ذکرناه لأنّه «لا حکم لهذا الرد لأنّه ما وجب له شیء حتّی یردّه کما لو عفی عن الشفعة قبل البیع، فلا یکون له حکم و یکون له القبول بعد وفاة الموصی» کما فی المبسوط(2).

ب: السکوت

لابأس بتخلّل السکوت بین الإیجاب و القبول، مادام الطرف الآخر باقیا و للساکت قبول العقد، أو إنشاء إیجابه لو تقدّم القبول، لأنّ السکوت لا یبطل العقد بخلاف الردّ.

ج: تخلّل الکلام الأجنبی

أو ما فی حکمه من الشرط الفاسد، أیضا لا بأس به، مادام الإیجاب أو القبول من الطرف الآخر باقیّا.

د: تخلّل ما هو من لواحق العقد

من الشرائط و الخیارات و القیود و توصیف السِّلْعَةِ و نحوها فلابأس بها عند الکلّ.

و ما ذکرنا یجری فی العقود اللازمة و الجائزة، بل الصحة فی الأخیرة لعلّه إجماعیٌّ فی الفواصل الثلاثة الأخیرة.

و هذا تمام الکلام فی عدم اعتبار الموالاة فی العقود و الحمدللّه.

التنجیز فی العقود
اشارة

ذکر جماعة اعتباره فی العقود:

منهم: الشیخ فی وکالة المبسوط قال: «إذا علّق الوکالة بصفة مثل أن یقول: إن قدم

ص:243


1- (1) کما نسبه الشهید إلیهم فی الدروس 2/296 و ثانیه فی الروضة 5/15.
2- (2) المبسوط 4/33.

الحاج أوجاء رأس الشهر فقد و کّلتک فی البیع فإنّ ذلک لا یصح لأنّه لا دلیل علیه»(1).

و قال فی وکالة الخلاف: «مسألة: إذا قال: إن قدم الحاج أو جاء رأس الشهر، فقد وکّلتک فی البیع فإنّ ذلک لا یصحّ و به قال الشافعی. قال أبوحنیفة: یصحّ، دلیلنا: أنّه لا دلیل علی صحة هذا العقد، و عقد الوکالة یحتاج إلی دلیل»(2).

و قال ابن ادریس فی وکالة السرائر: «و إذا قال: إن جاء رأس الشهر فقد وکّلتک فی الشیء الفلانی، فإنّ الوکالة لا تنعقد و إنّ ذلک لا یصح، فأمّا إن وکّله فی الحال بأن یبیع الشیء إذا جاء رأس الشهر جاز ذلک و صحّ، لأنّ الوکالة صحت فی الحال و انعقدت ثم أمره بتأخیر البیع إلی رأس الشهر، و المسألة الاولی ما انعقدت الوکالة فی الحال بل یحتاج إذا جاء رأس الشهر إلی عقد الوکالة فافترق الأمران»(3).

و قال المحقّق فی وکالة الشرائع: «و من شرطها أن تقعَ منجَّزَةً فلو عُلِّقت بشرطٍ متوقَّعٍ أو وقتٍ متجددٍ لم تصِحّ، نعم لو نَجَّزَ الوکالة و شَرَطَ تأخیرَ التصرفِ جازَ»(4).

و قال العلاّمة فی شرائط صیغة البیع من التذکرة: «الجزم، فلو علّق العقد علی شرط لم یصحّ و إن کان الشرط المشیئة للجهل بثبوتها حال العقد و بقائها مدّته، و هو أحد قولی الشافعیة، و أظهر الوجهین لهم: الصحة، لأنّ هذه صفة یقتضیها إطلاق العقد لأنّه لو لم یشأ لم یشتر»(5).

و قال فی وکالة التذکرة: «لایصحّ عقد الوکالة معلَّقا بشرطٍ أو وصفٍ، فإن عُلّقت

ص:244


1- (3) المبسوط 2/399.
2- (1) الخلاف 3/354.
3- (2) السرائر 2/99.
4- (3) الشرائع 2/151.
5- (4) تذکرة الفقهاء 10/9.

علیهما بطلت مثل أن یقول: إن قدم زید أو إذا جاء رأس فقد وکّلتک، عند علمائنا - و هو أظهر مذهب الشافعی - لأنّه عقد یملک به التصرف حال الحیاة لم یبن علی التغلیب و السرایة فلم یجز تعلیقه بشرطٍ کالبیع، و لأنّ الشرکة و المضاربة و سائر العقود لا تقبل التعلیق فکذا الوکالة.

و قال بعض الشافعیة و أبوحنیفة و أحمد: یصحّ تعلیقها علی الشرط لأنّ النبی صلی الله علیه و آله قال فی جیش مؤته: «أمیرکم جعفر فإن قُتل فزید بن حارثة فإن قتل فعبداللّه بن رواحة» و التأمیر فی معنی التوکیل. و لأنّه لو قال: أنت وکیلی فی بیع عبدی إذا قدم الحاج أو وکّلتک فی

شراء کذا فی وقت کذا صحّ إجماعا و محلّ النزاع فی معناه.

و الفرق ظاهر بین تنجیز العقد و تعلیق التصرف و بین تعلیق العقد، إذا ثبت هذا، فلا خلاف فی جواز تنجیز الوکالة و تعلیق العقد مثل أن یقول: وکّلتک فی بیع العبد و لا تبعه إلاّ بعد شهر فهذا صحیح و لیس للوکیل أن یخالف....

قد بیّنّا بطلان الوکالة المعلّقة علی الشرط و هو أظهر قولی الشافعیة، فلو تصرّف الوکیل بعد حصول الشرط فالأقرب صحّة التصرف لأنّ الإذن حاصل لم یزل بفساد العقد و صار کما لو شرط فی الوکالة عوضا مجهولاً، فقال بع کذا علی أن لک العُشر من ثمنه تفسد الوکالة ولکن إن باع یصحّ و هو أحد وجهی الشافعیة.

و الثانی: لا یصحّ لفساد العقد، و لا اعتبار بالاذن الضمنی فی عقدٍ فاسدٍ ألاتری أنّه لو باع بیعا فاسدا و سلّم إلیه المبیع لا یجوز للمشتری التصرف فیه، و إن تضمّن البیعُ و التسلیمُ الإذنَ فی التصرف و التسلیط علیه.

و لیس بجید، لأنّ الإذن فی تصرّف المشتری باعتبار انتقال الثمن إلیه و الملک إلی المشتری و شیءٌ منهما لیس بحاصل و إنّما أذن له فی التصرف لنفسه لیسلم له الثمن، و هنا إنّما أذن له فی التصرف عن الإذن لا لنفسه... فإن قلنا بالصحة - علی ما هو مختارنا - فأثر بطلان

ص:245

الوکالة أنّه یسقط الجُعل المسمّی إن کان قد سمّی له جُعلاً إلی اُجرة المثل»(1).

و قال فی نهایته: «و لابدّ و أن یقع الایجاب و القبول منجزا، فلو علّقه علی شرط لم یقع کما لو قال: إن دخلت لأصالة بقاء الملک، ولو علّقه علی مشیة المشتری بأن قال: بعتُ هذا بألف إن شئتَ، فقال: اشتریتُ لم ینعقد أیضا لما فیه من التعلیق، کما لو قال: إن دخلتَ الدار، و یحتمل هنا الصحة لأنّ هذه صفة تقتضیها إطلاق العقد فإنه لو لم یشأ لم یشتروا(2)، الحقّ الأوّل فإنّه حالة الایجاب غیر عالمٍ بحاله فلم یوقع الإیجاب منجزا»(3).

و قال فی وکالة القواعد: «و یجب أن تکون منجّزةً فلو جعلها مشروطةً بشرط متوقعٍ أو وقتٍ مترقّبٍ بطلت. نعم لو نجّز الوکالة و شرط تأخیر التصرف إلی وقت أو حصول شرط جاز کأن یقول: وکّلتک الآن و لا تتصرف إلاّ بعد شهر. و إذا فسد العقد لتعلّقها علی الشرط احتمل تسویغ التصرف عند حصوله بحکم الإذن، و فائدة الفساد سقوط الجُعل

المسّمی و الرجوع إلی الاُجرة»(4).

و قال فی وقف التحریر: «إذا علّق الوقف علی شرط أو صفة لم ینعقد و کان باطلاً... و لانعلم فیه خلافا»(5).

و قال الشهید فی وقف الدروس: «ولو قال إذا متُّ أو إن متُّ فهو وقف فالظاهر بطلانه لتعلیقه. ولو قال هو وقف بعد مماتی احتمل ذلک أیضا، و أن یحمل علی الوصیة

ص:246


1- (1) تذکرة الفقهاء 15/(16-13).
2- (2) کذا فی المصدر ولکن الظاهر زیادة «وا» کما یدل علیها السیاق.
3- (3) نهایة الإحکام 2/451.
4- (1) القواعد 2/349.
5- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 3/291.

به»(1).

و قال أیضا فی عنوان خامس شرائط الوقف: «التنجیز فلو علّق بشرطٍ أو وصفٍ بطل، إلاّ أن یکون واقعا، و الواقف عالم بوقوعه کقوله: وقفتُ إن کان یوم الجمعة»(2).

و قال المحقّق الثانی فی وکالة جامع المقاصد: «یجب أن تکون الوکالة منجّزة عند جمیع علمائنا، فول علقها بشرط و هو ممّا جاز وقوعه کدخول الدار، أو صفة و هی ما کان وجوده محقّقا کطلوع الشمس لم یصح. و ذهب جمع من العامة إلی جوازها معلّقة لأنّ النبی صلی الله علیه و آله قال فی غزاة مؤته: «أمیرکم جعفر فإن قتل فزید بن حارثه»، الحدیث. و التأمیر فی معنی التوکیل و لأنّه لو قال: أنت وکیلی فی بیع عبدی إذا قدم الحاج صحّ إجماعا، و فی کون التأمیر توکیلاً نظر و الفرق بین محل النزاع و المفروض ظاهر، لأنّ المعلّق فیه هو التصرف لا التوکیل و لا بحث فی جوازه... و اعلم أن قوله «فلو جعلها مشروطة بشرط» لا یرید به إلاّ التعلیق أمّا مطلق الاشتراط فلا، فلو قال: «وکّلتک فی کذا و شرطت علیک کذا ممّا لا مانع منه صحّ، و اعلم أیضا أنّ توقیت الوکالة لا یلزم، لکن لا یجوز التصرف بعده»(3).

و قال فی شرائط الوقف: «أحدها: تنجیزه، فلو علّق بشرط أو صفة مثل أن یقول: إذا جاء زید فقد وقفت داری، أو إذا جاء رأس الشهر وقفت عبدی لم یصحّ لعدم الجزم به، کما لایصحّ تعلیق البیع و الهبة، و استثنی فی الدروس ما إذا کان المعلَّق علیه واقعا و الواقف علم بوقوعه کقوله: وقفت إن کان الیوم الجمعة. و قد سبق فی الوکالة مثل ذلک و المراد بالشرط: ما جاز وقوعه و عدمه بالنسبة إلی العادة، و الصفة: ما کان محقّق الوقوع عادة»(4).

ص:247


1- (3) الدروس 2/263.
2- (4) الدروس 2/264.
3- (5) جامع المقاصد 8/180 و 181.
4- (6) جامع المقاصد 9/14 و 15.

و قال فی نکاح کتابه: «یشترط فی عقد النکاح التنجیز قطعا، لانتفاء الجزم بدونه فیبطل ولو علقه بأمر محتمل أو متوقع الحصول»(1).

و قال الشهید الثانی فی وکالة المسالک: «من شرط الوکالة وقوعها منجزةً عند علمائنا فلو علّقها علی شرطٍ متوقَّعٍ و هو ما یمکن وقوعه و عدمه، أو صفة و هی ما کان وجوده فی المستقبل محقَّقا کطلوع الشمس و إلیها أشار بقوله: أو وقتٍ متجدّد لم یصحّ. و احترز بتعلیقها علی الشرط عمّا لو قرنها بشرط لا یقتضی التعلیق ک- «وکّلتک فی کذا و شرطت علیک کذا» ممّا لامانع منه فإنه جائز.

و اعلم أنه متی فسد العقد لتعلیقه علی الشرط فهل یصحّ التصرف بعد حصول الشرط؟ قرّب فی التذکرة ذلک محتجّا بأنّ الإذن حاصل لم یزل بفساد العقد و صار کما لو شرط فی الوکالة عوضا مجهولاً فقال: بع کذا علی أن لک العُشر من ثمنه، تفسد الوکالة، ولکن إن باع یصحّ، و لأنّ المقتضی للصحة حاصل و هو الإذن، إذا الغرض حصول المعلَّق علیه و انتفاء المانع إذ لیس إلاّ رفع الوکالة و هی أخص من مطلق الإذن، و رفع الخاص لا یستلزم رفع العام فعلی هذا فائدة الفساد سقوط الجعل المسمّی فی عقد الوکالة إن کان و الرجوع إلی اُجرة المثل کما فی المضاربة الفاسدة حیث یحکم فیها بعدم استحقاق الحصّة المشروطة و وجب للعامل اُجرة المثل.

و فیه: أنّ الوکالة لیست أمرا زائدا علی الإذن و الجعل المشروط لیس جزءً منها و إنّما هو شرط زائد علیها، لصحتها بدونه، بخلاف المضاربة فإنّ اشتراط الحصة شرط فی صحتها، و لأنّه لو تمّ ذلک لزم الحکم بصحة التصرف مع فسادها بوجهٍ آخر، کعزل الوکیل نفسه مع علم الموکِّل به و سکوته، فإنّ الإذن حاصل منه فلا یرتفع بفسخ الوکیل. و لأنّ

ص:248


1- (1) جامع المقاصد 12/77.

العقد حینئذٍ فاسد قطعا. و لا معنی للفاسد إلاّ ما لا یترتب علیه أثره. و لأنّ الإذن المطلق إنّما وجد فی ضمن الوجه المخصوص، إذ لا وجود للکلّی إلاّ فی ضمن جزئیاته و لم یوجد منها إلاّ هذا الجزئی، فإذا ارتفع ارتفع الکلّی و للتوقف فی هذا الحکم مجال»(1).

و قال فی وقف المسالک: «... و اشتراط تنجیزه مطلقا موضع وفاق کالبیع و غیره من العقود و لیس علیه دلیل بخصوصه... و یستثنی من بطلانه بتعلیقه علی الشرط ما لو کان

الشرط واقعا و الواقف عالما بوقوعه کقوله: «وقفت إن کان الیوم الجمعة، فلا یضرّ کغیره»»(2).

قال الفاضل الإصبهانی فی نکاح کشفه: «(و یشترط التنجیز) اتفاقا، إذ لا عقد مع التعلیق، خصوصا و أمر الفروج شدید. (فلو علّقه) ولو بأمرٍ متحقَّقٍ کأن یقول: إن کان الیوم یوم الجمعة فقد زوّجتک (لم یصحّ) و إن لم یرد التعلیق، لأنّه غیر صریح فهو بمنزلة الکنایة»(3).

و قال سیّد الریاض فی وقفه: «و یشترط فیه التنجیز فلو علّقه علی شرط متوقّع أو صفة مترقّبة، أو جعل له الخیار فی فسخه متی أراده من دون حاجة بطل بلاخلاف فیه، و فی الصحة لو کان المعلَّق علیه واقعا و الواقف عالمٌ بوقوعه کقوله: وقفتُ إن کان الیوم الجمعة، و کذا فی غیره من العقود و بعدم الخلاف صرّح جماعة و لعلّه کافٍ فی الحجیة»(4).

و قال السیّد جواد العاملی فی مفتاحه معلَّقا علی قول العلاّمة فی القواعد: «و یجب أن

ص:249


1- (2) المسالک 5/239 و 240.
2- (1) المسالک 5/357.
3- (2) کشف اللثام 7/48.
4- (3) ریاض المسائل 10/103.

تکون منجزة»: «عند علمائنا کما فی التذکرة(1)، أجمع کما فی جامع المقاصد(2)، و فی شرح الإرشاد لفخر الإسلام: أنّ تعلیق الوکالة علی الشرط لا یصح عند الامامیة و کذا سائر العقود جائزة کانت أو لازمة، و عن غایة المرام(3) أنه لا خلاف فیه، و مع ذلک قال فی الکفایة(4): أنّه المشهور و أنّه غیر مرتبط بدلیل واضح... و به - أی وجوب التنجیز - صرح فی الخلاف(5) و المبسوط(6) و السرائر(7) و الشرائع(8) و النافع(9) و التحریر(10) و الإرشاد(11)

و اللمعة(12) و التنقیح(13) و جامع المقاصد(14) و المسالک(15) و الروضة(16) و هو قضیة بقیة الشروح(17) و الحواشی(18) حیث سکتوا عمّا فی متونها و لا یقدح فی ذلک عدم التعرض له فی

ص:250


1- (4) تذکرة الفقهاء، 15/13.
2- (5) جامع المقاصد 8/180.
3- (6) غایة المرام 2/337.
4- (7) الکفایة، 1/671.
5- (8) الخلاف 3/354.
6- (9) المبسوط 2/399.
7- (10) السرائر 2/99.
8- (11) شرائع الإسلام 2/151.
9- (12) المختصر النافع /154.
10- (13) تحریر الأحکام الشرعیة 3/22.
11- (14) إرشاد الأذهان 1/417.
12- (1) اللمعة الدمشقیة /166.
13- (2) التنقیح الرائع 2/280.
14- (3) جامع المقاصد 8/180.
15- (4) مسالک الأفهام 5/239.
16- (5) الروضة البهیة 4/368.
17- (6) منها: إیضاح الفوائد 2/333؛ و غایة المراد 2/288؛ و کنزالفوائد 2/86.
18- (7) نحو حاشیة الإرشاد للشهید الثانی المطبوعة ضمن غایة المراد 2/288.

المختصرات التی هی متون أخبار کالمقنعة و المراسم و الکافی و النهایة و الوسیلة و فقه الراوندی و الجامع - بل لا ذکر لباب الوکالة فی المقنع و الانتصار - و الدلیل علی ذلک بعد الاجماع نقلاً و تحصیلاً أنّ الأصل عدم جواز الوکالة خرجت المنجزة بالإجماع و بعض الأخبار و بقی الباقی...»(1).

و قال صاحب الجواهر فی وکالة کتابه: «(من شرطها أن تقع منجزة) کغیرها من العقود بلا خلاف أجده فیه، بل الإجماع بقسمیه علیه، لمنافاته مقارنة ترتب السبب علی المسبب المستفاد ممّا دلّ علی تسبیب العقود (فلو علّقت علی شرط متوقَّع) کمجی ء زید (أو وقت متجدّد لم تصحّ)، بل قیل: إنّه کذلک فی التعلیق علی أمرٌ محقَّقٍ نحو: إذا کانت الشمس طالعة فأنت وکیلی، لا لفوات المقارنة المزبورة بل للشک فی تناول الاطلاقات لمثل ذلک، فیبقی حینئذ أصل عدم ترتب الأثر بحاله»(2).

أقول: خالف جماعةٌ من الفقهاء هذا الإجماع الوارد فی کلمات القوم، و من المخالفین المحقّق الأردبیلی قال فی وکالة مجمع الفائدة: «أنّ الأصل و عموم أدلة التوکیل و کونه جائزا و مبناه علی المساهلة دون الضیق و ما تقدم فی عبارة التذکرة من أنّه إذن و أمر و أنّه مثل الإذن فی أکل الطعام و لا شک فی جواز تعلیقه مثل إن جئت فأنت مأذون فی الأکل و نحوه مع عدم مانع ظاهر یدلّ علی جواز التعلیق. و یؤیده عدم ظهور فرق کثیر فی المآل بین ما صوّرناه من المجوزّات مثل التوقیت و ذکر الشرط و المنع إلاّ بعد کذا و بین التعلیق. و یؤیده أیضا جواز التعلیق فی العقود الجائزة مثل القراض(3)، بل هو وکالة بجُعل و العاریة و

ص: 251


1- (8) مفتاح الکرامة 7/526، الطبعة الاُولی (21/20 و 21 من الطبعة الحدیثة).
2- (9) الجواهر 27/352 و راجع أیضا 22/253 و 23/198 و 32/78 و 79.
3- (10) أهل العراق یسمّونه مضاربة کما فی التحریر 3/224.

غیرهما...»(1).

ولکن ردّ علیه الوحید فی حاشیته علی مجمع الفائدة بقوله: «العموم ما وجدناه، نعم وجدنا اطلاقات مثل ما ذکر من أنّ «الوکیل وکیل حتّی یبلغه العزل» و أمثاله من الأخبار(2) و القاعدة أن ینصرف إلی الأفراد الشائعة و کون ما نحن فیه منها محلّ تأمل. و الأصل ما نعرفه لأنّ الحکم الشرعی و ترتب الآثار الشرعیة یحتاج إلی دلیل شرعی و مجرد الجواز لا یقتضی ترتب الآثار سوی إباحة التصرف فتأمل»(3).

و منهم: المحقّق السبزواری قال فی وکالة الکفایة: «و مذهب الأصحاب - کما نُقل - أنّ من شرط صحة الوکالة أن یقع منجّزة فلو علّقت بشرط و هو ما أمکن وقوعه أو صفة و هو ما تحقّق وقوعه کانت باطلاً... و ادّعی فی التذکرة الإجماع علی صحة قوله: أنت وکیلی فی بیع عبدی إذا قدم الحاج، و لعلّ الشرط قید للبیع، و به یحصل الفرق بینه و بین المعلّق الممنوع، و مرجعهما بحسب المآل واحد، و منع التعلیق غیر مرتبط بدلیل واضح إلاّ أن یثبت الإجماع علیه»(4).

و منهم: صاحب الحدائق قال فی وکالة کتابه: «لاخلاف بین الأصحاب فی اشتراط التنجیز فی الوکالة فلو علّقها علی شرط... بطلت... و بالجملة فمقتضی إطلاق روایات الوکالة و عمومها هو الصحة مطلقا و تخصیصها یتوقف علی الدلیل و لیس إلاّ الاجماع، فمن ثبت عنده حجیة الإجماع و أنّه دلیل شرعی فله أن یخصص به عموم تلک الأخبار و إلاّ

ص:252


1- (1) مجمع الفائدة و البرهان 9/533.
2- (2) وسائل الشیعة 19/161 و 162 الباب 1 و 2 من أبواب کتاب الوکالة.
3- (3) حاشیة مجمع الفائدة و البرهان /461.
4- (4) الکفایة 1/671.

فالعمل علی ما دلت علیه تلک العمومات...»(1).

و ذهب المحقّق القمی(2) إلی أنّ التعلیق فی الوکالة لا یضرّ بصحتها.

و قال الشیخ الأعظم: «و بالجملة فإثبات هذا الشرط فی العقود مع عموم أدلتها و وقوع کثیر منها فی العرف علی وجه التعلیق بغیر الإجماع محقّقا أو منقولاً مشکلٌ»(3).

و تبعه المحقّق الخراسانی و قال: «و تحصیل الاجماع فی مثل هذه المسألة من الاتفاق

لو کان أشکل لاحتمال تشبث البعض لو لا الجلّ أو الکلّ بما أشار إلیه من الوجوه الاعتباریة بما فیها من الضعف، و المنقول منه فی مثلها لیس بحجة ولو قیل بحجیته فی نفسه، فالعمل باطلاقات أبواب المعاملات لا یخلو من قوة»(4).

و قال المحقّق السیّد الخوئی: «لادلیل علی بطلان العقود بالتعلیق لکی یکون ذلک الدلیل مخصصا لأدلة صحة العقود»(5).

و قال المحقّق السیّد الخمینی: «فالتحقیق عدم اعتبار التنجیز فی المعاملات مطلقا سواء کانت معلَّقة علی معلوم الحال أو الاستقبال أو مجهول کذلک، بل أو معلوم العدم کذلک ثم بأن تحققه»(6).

أقسام التعلیق و أحکامها

قبل الورود فی البحث لابدّ من التذکیر بعقود یصح فیها التعلیق، و العقد معه یکون

ص:253


1- (5) الحدائق 22/10 و 11.
2- (6) جامع الشتات 1/307.
3- (7) المکاسب 3/172.
4- (1) حاشیة المکاسب /29.
5- (2) مصباح الفقاهة 3/70.
6- (3) کتاب البیع 1/336.

صحیحا:

منها: التعلیق لبیان اعتبار وصف فی المبیع نحو: اشتریت هذا الثوب إن کان من القطن.

و منها: التعلیق لاثبات حقّ زائد نحو: بعتک هذا بکذا بشرط أن تخیط لی ثوبا.

و منها: التعلیق لتحدید المتعلّق نحو: وکّلتک فی بیع داری بشرط أن تبیعه بعد النیروز.

و منها: التعلیق لتحدید الإنشاء نحو: وقف المدرسة لإسکان طالب العلم بشرط أن یصلی صلاة اللیل و یلبس العمامة.

و منها: التعلیق لتحدید اللزوم نحو: بعتک سیارتی بکذا بشرط أن ترضی زوجتی ببیعها.

و منها: التعلیق لتحدید المتعلَّق من جهة صحة التأثیر نحو: زوجتی فلانة هی طالق إن کانت فی طهر غیر المواقعة.

و منها: التعلیق لتحدید ما یعتبر فی المُنْشی ء نحو: اشتریت منک دارک بشرط أن لاتکون محجورا.

و منها: التعلیق لتحدید ما یعتبر فی العقد نحو: بعتک دار الفلانی فضولیا بشرط أن یجیز.

و منها: التعلیق لتحدید جزء المقتضی للعقد نحو: بعتک هذا إن قبلت.(1)

و لأجل بیان الضابطة الکلّیة نرسم لک أقسام التعلیق و أحکامها تبعا للمحقّق

ص:254


1- (1) راجع فی هذا المجال حاشیة المکاسب /204 لآیة اللّه ابوالفضل النجم آبادی من تقریر المحقّق العراقی -رحمة اللّه علیهما - .

لسیّد الخوئی(1) و إن یمکن الزیادة فیها کما عن الفاضل المراغی(2).

المعلَّق علیه إمّا أن یکون معلوم التحقّق أو محتمل التحقّق، و کذا إمّا أن یکون أمرا حالیّا أو استقبالیا فصار أربعة.

و الشرط الذی علّق علیه العقد إمّا أن یکون دخیلاً فی مفهوم العقد أو یکون دخیلاً فی صحته أو لا یکون دخیلاً فی شیء منهما فصار العدد اثْنَیْ عشر قسما.

و أما التعلیق علی ما یتوقف علیه مفهوم العقد فلا شبهة فی صحته نحو قول الزوج: زوجتی طالق إن کانت زوجتی، أو قول الواقف: وقفت هذه الدار إن کانت ملکی. أو قول البائع: إن کان هذا مالی فقد بعته بکذا.

و هذا المقدار من التعلیق لا یضر بالعقد، لأنّ العقد بنفسه معلَّق علیه معنیً حتّی لو لم یذکر فی اللفظ، فلو جاء به العقد فی صیغته فلا بأس به.

و علیه یحکم بصحة التعلیق فی أربعة من الأقسام:

1- أن یکون المعلَّق علیه أمرا حالیا و معلوم الحصول کقول الزوج: إن کانت فلانة زوجتی فهی طالق.

2- أن یکون المعلَّق علیه أمرا حالیا مع الجهل بتحقّقه کما إذا قال الرجل: إن کانت هذه زوجتی فهی طالق، مع جهله بأنّها زوجته.

3- أن یکون المعلَّق علیه أمرا استقبالیا و معلوم الحصول فی ظرفه نحو قول البائع للمشتری: بعتک حدیقتی إنْ قبلت مع علمه بأنّ المشتری یقبله.

4- أن یکون المعلّق علیه أمرا استقبالیا و مجهول التحقّق فی ظرفه نحو قول المرأة:

ص:255


1- (2) مصباح الفقاهة 3/(65-62).
2- (3) راجع العناوین 2/(206-191).

اُنکحتُکَ نفسی علی الصداق کذا، و هی لا تعلم بأن الرجل یقبل النکاح أم لا؟

و التعلیق فی هذه الصور الأربع لا أشکال فی صحته لأنّ العقد و مفهومه فی الواقع معلَّقان علی هذه الاُمور فذکرها فی الصیغة و عدمه لا یغیّر الواقع.

و أما التعلیق علی ما هو داخلٌ فی صحة العقد دون مفهومه فهو أیضا علی أربعة أقسام:

1- أن یکون المعلَّق علیه أمرا حالیا و معلوم الحصول کقول الرجل: إن کان هذا الشیء ممّا یملک فقد بعته بکذا، مع علمه بأنه ممّا یملک.

2- أن یکون المعلَّق علیه أمرا حالیا و مجهول التحقّق نحو قول البائع: إن کنت غیر محجور فقد بعتک هذا المال، و هو لا یدری بحجره أم لا؟!

3- أن یکون المعلّقَ علیه أمرا استقبالیا و معلوم التحقّق کالتسلیم و التسلم فی بیع الصرف کقول البائع: بعتک هذا الذهب بکذا إن أخذتها و سلمت إلیّ الثمن.

4- أن یکون المعلّق علیه أمرا استقبالیا و مجهول التحقّق، نحو المثال السابق مع عدم علم البائع بتحقّق التسلیم و التسلم.

و التعلیق فی هذه الصور الأربع أیضا لا اشکال فی صحته لأنّ صحة العقد تتوقّف علیها فی الخارج و ذکره فی الصیغة لا یغیّر شیئا.

مضافا إلی أنّ جمیع هذه الصور الّثمان تشملها العمومات و لم یرد أیّ مخصص لها.

و أمّا التعلیق علی الصفة أو الشرط اللذیْن لا دخل لهما فی تحقّق عنوان العقد و مفهومه و لا فی صحة العقد فهو أیضا علی أربعة أقسام:

1- أن یکون المعلّق علیه أمرا حالیا و معلوم الحصول کأن یقول البائع للمشتری: إن کان هذا الیوم یوم الجمعة فقد بعتک داری، مع علمه بأنّ هذا الیوم یوم الجمعة.

ص:256

و قد مرّ من الشهید فی وقف الدروس(1) صحة هذا القسم و تبعه ثانیه فی وقف المسالک(2) و تبعهما جماعة و منهم: سیّد الریاض قال: «و بعدم الخلاف صرّح جماعة و لعلّه کافٍ فی الحجیة»(3) ولکن ناقشه الفاضل الأصبهانی فی نکاح کشفه(4) لا من جهة التعلیق بل من جهة عدم التصریح و أنّه بمنزلة الکنایة.

ولکن لا إشکال فی صحته لأنّ المضرِّ بالعقد هو واقع التعلیق لا صورته و التعلیق فی الفرض صوریٌّ. و لا نقبل قول صاحب کشف اللثام فی عدم التصریح و أنّه بمنزلة الکنایة، بل هو العقد المصرح به و لیس فیه الکنایة.

2- أن یکون المعلَّقُ علیه أمرا حالیّا و مجهول التحقّق عند العاقد کقول البائع: إن کان هذا الیوم یوم الجمعة فقد بعتک داری، و هو لا یدری أنّ یوم الجمعة موجود أم لا؟!

3- أن یکون المعلَّقُ علیه أمرا استقبالیا و معلوم التحقّق فی المستقبل، بحیث ایقاع العقد مشروط بتحقّق ذلک الأمر أعنی العاقد ینشیء العقد فی ظرف تحقّق الأمر الاستقبالی نحو قول البائع: بعتک داری إذا اُهلّ شهر رجب، و یرید من ذلک تحقّق البیع من حین رؤیة هلال رجب.

4- أن یکون المعلَّق علیه أمرا استقبالیا و مجهول التحقّق فی المستقبل نحو قول البائع: إن جاء زید الحاج من سفرة حجّه فقد بعتک داری.

و هذه الثلاثة الأخیرة هی مورد الإجماع المُدعی من بطلان التعلیق فی العقود. فلابدّ من البحث حول الوجوه التی اسْتُدِلَّ بها علی بطلان التعلیق فی العقود فنقول:

ص:257


1- (1) الدروس 2/264.
2- (2) المسالک 5/357.
3- (3) ریاض المسائل 10/103.
4- (4) کشف اللثام 7/48.
الوجوه المستدَّل بها علی بطلان العقود بالتعلیق:

الوجه الأوّل:

الإجماع المذکور فی کلمات الفقهاء نحو: العلاّمة فی وکالة التذکرة(1) و وقف التحریر(2) و ولده فی شرح الإرشاد(3) و المحقّق الثانی فی وکالة جامع المقاصد(4) و الشهید الثانی فی تمهید القواعد(5) و وکالة المسالک(6) و وقفه(7)، و المحدث الکاشانی فی مفاتیح الشرائع(8)و الإصفهانی فی کشف اللثام(9) و السبزواری فی الکفایة(10) و صاحب

الحدائق(11) و الشیخ مفلح الصمیری البحرانی فی غایة المرام(12) و سیّد الریاض(13) و صاحب الجواهر(14).

و فیه: أوّلاً: قد عرفت وجود المخالفین فی المسألة و هم أصحاب مجمع الفائدة و

ص:258


1- (1) تذکرة الفقهاء 15/13: ورد فیها: عند علمائنا.
2- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 3/291: ورد فیها: لا نعلم فیه خلافا.
3- (3) کما نقل عنه صاحب مفتاح الکرامة 7/526 من الطبعة الاولی، (21/20) و فیه: لا یصح عند الإمامیة.
4- (4) جامع المقاصد 8/180 و فیه: عند جمیع علمائنا.
5- (5) تمهید القواعد /533 و فیه: الاتفاق علیه.
6- (6) المسالک 5/239 و فیه: عند علمائنا.
7- (7) المسالک 5/357 و فیه: موضوع وفاق.
8- (8) مفاتیح الشرائع 3/207 و فیه: عدم الخلاف فیه.
9- (9) کشف اللثام 7/48 و فیه: اتفاقا.
10- (10) الکفایة 1/671 و فیها: مذهب الأصحاب - کما نُقل - .
11- (1) الحدائق 22/10 و فیه: لا خلاف بین الأصحاب.
12- (2) غایة المرام 2/337 و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 7/526، (21/20) و فیه: لا خلاف فیه.
13- (3) ریاض المسائل 10/103 و فیه: بلا خلاف فیه.
14- (4) الجواهر 27/352 و فیه: بلاخلاف أجده فیه، بل الاجماع بقسمیه علیه.

البرهان، و الکفایة و الحدائق و القوانین و المکاسب و کفایة الاُصول و معجم رجال الحدیث و تحریر الوسیلة کما مرّت أقوالهم فلا نعیدها.

و ثانیا: علی فرض تحقّق الاجماع یکون مدرکیّا أو لاأقل من أن یکون محتمل المدرکیة فلایفید فی المقام شیئا.

الوجه الثانی:

عدم قابلیة الإنشاء للتعلیق کما اشتهر لأنّ الإنشاء هو تحقّق الوجود الإنشائی فی نفس الأمر فلا یعقل تعلیقه علی شیءٍ ما، لأنّ ما وجد یمتنع عدمه فکیف یمکن أن یکون موجودا علی تقدیرٍ و معدوما علی تقدیرٍ آخَرَ.

و فیه: نعم الأمر کذلک ولکن لیس الکلام فی تعلیق الإنشاء بل فی تعلیق المنشأ و لاشبهة فی إمکانه بل وقوعه فی الأحکام العرفیة و الشرعیة و العقود و الایقاعات نحو: الوصیة و التدبیر و النذر و العهد و الیمین، و المثال للأحکام الشرعیة نحو: الواجبات المشروطة و المثال للأحکام العرفیة کثیرٌ.

الوجه الثالث:

الظاهر من آیة «اوفوا بالعقود»(1) و «أحل اللّه البیع»(2) أنّ الحکم بوجوب الوفاء و حلیّة البیع یترتب علی تحقّق موضوعه خارجا، و إذا کان فی البین تعلیق یتخلّل بین العقد و وجوب الوفاء به، أو البیع و الحکم بحلیّته و هو انتظار حصول المعلَّق علیه.

فتکون العقود أو البیوع التعلیقیّة خارجةً عن مدلول الآیتین و المفروض عدم وجود خطاب آخر یقتضی وجوب الوفاء أو حلیّته و صحته فتکون باطلة.

ص:259


1- (5) سورة المائدة /1.
2- (6) سورة البقرة /275.

و کذلک الأمر بالنسبة إلی حدیث السلطنة - و هو قوله صلی الله علیه و آله : الناسُ مسلَّطون علی أموالهم(1) - .

و فیه: أجاب الشیخ الأعظم(2) قدس سره عن هذا الوجه بوجوه:

الأوّل: أدلة وجوب الوفاء أو حلیّة البیع أو حدیث السلطنة ناظرة إلی وجوب الوفاء بالعقد أو الإیقاع أو حلیّة البیع أو السلطنة علی الأموال بأیّ نحو تحقّق فی الخارج منجزا کان أو معلَّقا.

و بالجملة: الإمضاء الشرعی للعقود أو البیوع أو إدارة المال تابع لجعل المتعاقدین أو المتبایعین و أو المدیرین و المسلطتین فإذا کان مطلقا فیکون أثره الشرعی منجزا غیر مشروط بشیءٍ. و إذا کان معلَّقا فأثره الشرعی یکون معلَّقا مشروطا بوجدان الشرط و المعلَّق.

و الحاصل: لزوم الوفاء بالعقد یکون نظیر الوفاء بالعهد الذی یکون مطلقا أو مطلَّقا.

الثانی: ثبت فی الشریعة تخلف الأثر عن العقد فی موارد مختلفه نحو: الوقف و الهبة قبل حصول القبض لأنّ الملکیة فیهما مشروط به. و البیع قبل انقضاء خیار المجلس. و بیع الصرف و السلَّم قبل حصول تحقّق القبض فی المجلس. و الوصیة. و المعاطاة - علی القول بإفادتها الإباحة مع قصد الملکیة - فحینئذ لا یفسد العقد من تأخیر ترتب الأثر علیه و إلاّ لزم القول بفساد الجمیع.

و فیه: یمکن أن یرد علی هذا الجواب بأنّ صحة هذه المعاملات تکون بالنص الخاص فلامورد للنقض بها و قیاس غیرها علیها.

ص:260


1- (1) عوالی اللآلی 1/222، ح99 و 1/457، ح198 و نقل عنه فی بحارالأنوار 2/272، ح7، (1/385).
2- (2) راجع المکاسب 3/170 و ما بعدها.

الثالث: الدلیل أخص من المدعی لأنّه إنّما یلزم تخلف الأثر عن العقد فی ما إذا کان التعلیق علی أمر خارجی غیر دخیل فی تحقّق العقد نحو: بعتک داری بکذا إن جاء زید من السفر. و أمّا إذا کان التعلیق علی أمر حالی کقبول المشتری فإنّه لا یلزم تخلف الأثر عن العقد لأنّ القبول جزء من العقد لا أمر خارج عنه.

و فیه: قد ظهر ممّا مرّ خروج مثل هذا التعلیق الأخیر عن محل الکلام فلا یتم ما ذکره.

الرابع: الدلیل أخص من المدّعی لأنّه لا یجری فی التعلیق علی الشرط الذی یشک فی تحقّقه فی الحال فإن تحقّق الشرط، فیکون العقد مراعی بالعلم بظهور الواقع. و إن انکشف وجود المعلَّق علیه فی الواقع فیحکم بصحة العقد من حین حدوث العقد.

و إلاّ فیحکم بفساده من غیر أن یکون العقد موقوفا علی الشرط لکی یلزم منه تخلف الأثر عن العقد.

و بعبارة اُخری: یکون وجوب الوفاء فی هذه الموارد مراعی بانکشاف الحال لاموقوفا علی حصول الشرط.

الخامس: الدلیل لا یجری فی العقود التی یتأخر مقتضاها عنها بحسب طبعها أو الدلیل الخاص نحو: الوصیة و التدبیر و السبق و الرمایة و الجعالة، و من الواضح، أنّ الکلام لیس فی خصوص البیع و لیس علی بطلان التعلیق فی کلّ عقد دلیل مستقل. فالدلیل أخص من المدعی من وجه آخر أیضا.

الوجه الرابع:

أسباب العقود و الایقاعات اُمور توقیفیة فلابدّ أن یقتصر فیها بالقدر المتیقن و هو لیس إلاّ العقد العاری عن التعلیق.

و فیه: اطلاق الأدلة و عمومها تدلّ علی صحة کلّ ما صدق علیه عنوان العقد أو

ص:261

البیع أو التجارة عن تراض أو سلطنة الناس علی أموالهم.

الوجه الخامس:

ما ذکره المحقّق النائینی رحمه الله من أنّ العمومات و الاطلاقات الدالة علی صحة العقود منصرفة عن العقد المعلَّق إلی العقد المنجَّز قال قدس سره : «إنّ التعلیق لیس ممّا جری علیه العرف و العادة فی الاُمور العهدیة و العقود المتعارفة بین عامّة الناس و إن مسّت الحاجة إلیه إحیانا فی العهود الواقعة بین الدول و الملوک فلا یشمله أدلة العقود و العناوین ممّا یشک فی صدقها علیه»(1).

و أجاب عنه تلمیذه المحقّق السیّد الخوئی بالمنع عن هذا الوجه کبری و صغری.

أمّا منع الکبری: فلانّ الانصراف لو صح فإنّما یتم فی المطلقات بدعوی احتیاجها إلی مقدمات الحکمة فإذا لم یکن بعض أفراد المطلق متعارفا فی الخارج کان ذلک قادحا فی شمول

الاطلاق لهم، ولکن هذه الدعوی لا تجری فی العمومات لأنّ العموم فیها یکون بحسب الوضع فلا نحتاج إلی مقدمات الحکمة حتّی یجری ذلک البیان.

و أمّا منع الصغری: فلا نسلم کون العقود المعلَّقة غیر المتعارفة ضرورة أنّها واقعة فی العرف کثیرا کتعلیق البیع علی إجازة الأب أو الزوجة أو الصدیق و نحوه.(2)

الوجه السادس:

ما ذکره الشهید الثانی بعد دعوی الاتفاق علی عدم صحة التعلیق فی العقود بقوله: «الانتقال مشروط بالرضا و لا رضا إلاّ مع الجزم و لا جزم مع التعلیق»(3).

و فیه: یمکن المناقشة فی الجمیع لأنّ الانتقال مشروط بالإذن لا الرضا و شاهده بیع

ص:262


1- (1) منیة الطالب 1/255.
2- (1) راجع مصباح الفقاهة 3/70.
3- (2) تمهید القواعد /533.

المضطر، و الإذن، أو الرضا عنده موجودان مع التعلیق و شاهد ذاک العقود المعلّقة الموجودة فی الشریعة نحو: الوصیة و التدبیر و النذر و العهد و الیمین و الجعالة و السبق و الرمایة.

الوجه السابع:

قد مرّ فی أوّل الفصل من أنّ الأصل فی العقود هو الفساد لأنّها مسبوقة بالعدم و کذا الأصل فی ترتب الآثار علیها هو العدم و مع الشک و التردید فی شمول الاطلاقات و العمومات للعقود المعلَّقة و عدم جواز التمسک بهما یجری أصالة الفساد و أصالة عدم ترتب الآثار فیحکم ببطلان العقود المعلّقة، و یمکن تأئیده بالإجماع المُدّعی أو لاأقل من فتوی المشهور علی بطلانها و لعلّ هذا البیان هو مراد الشیخ بقوله: «لادلیل علیه»(1) أو «لادلیل علی صحة هذا العقد»(2).

و کذا مراد شیخنا الاستاذ قدس سره من قوله: «ولکن یمکن دعوی انصراف أدلة المعاملات عن التعلیق... فالحکم فیها بالبطلان لقصور دلیل الامضاء لا لمانع خارجی»(3).

الوجه الثامن:

ما ذکره الفقیه الهمدانی فی تعلیقه علی المکاسب: «إنّ تنقیح المقام یتوقف علی معرفة الأسباب المملّکة فی أنظار أهل العرف من أنّها هل متحقّق عندهم مع التعلیق، أم یتوقّف

عندهم تحقّقها علی الجزم(4) و التنجیز(5) و بدونها لایرتّبون علیها حال کونها مجرّدة عن

ص:263


1- (3) المبسوط 2/399.
2- (4) الخلاف 3/354.
3- (5) إرشاد الطالب 2/123.
4- (1) الجزم: أن یکون المتبایعان قاطعین بحصول الأثر حین ایقاع العقد. حاشیة المکاسب /45 للمحقّق الهمدانی.
5- (2) التنجیز: أن لا یکون معلّقا علی شیء بأدوات الشرط، بأن یقصد المتعاقدان انعقاد المعاملة فی صورة وجود ذلک الشیء لا فی غیرها. حاشیة المکاسب /45 له.

هذین الشرطین آثار الملکیة بل یعدّون ما صدر من المالک من اللفظ مثل قوله: هذا لک إن جاء زید من السفر، مجرد الوعد علی الإعطاء و لا یحصل به - مع قطع النظر عن إمضاء متأخر عن حصول الشرط - تملیک عندهم، فیکون علی هذا التملیک علی هذا منافیا للتعلیق فیه»(1).

الوجه التاسع:

ما ذکره الفقیه الإشکوری من أنّ أدلة العقود و الایقاعات غیر ما استُثْنِیَ من النذر و الوصیة و التدبیر و الظهار و نحوها قاصرة عن شمول التعلیق، لظهورها فی کون السبب ما أنشأه الموجِب علی وجه اُوجد مفادها تحقیقا و فعلاً فیترتب علی إیجاده وجود مفاده.

و دعوی: أنّ الغرض لیس إلاّ ترتیب ما أوجده المنشی ء، غایته أنّه یترتب علیه التحقّق و الفعلیة عند وجود المعلَّق علیه.

مسلَّمةٌ، لو لا ظهور الأدلة فی أنّ السبب فی نظر المشهور لیس مطلق إنشاء هذه المعانی، بل إنشاؤها علی وجه الاطلاق کما یظهر من کلمات القوم.(2)

الوجه العاشر:

ما جاء فی تقریر المحقّق العراقی من: «أنّ الغرض من إنشاء العقود و الإیقاعات حصول الالتزام من المنشی ء بسبب الإنشاء و تحقّق العناوین الطاریة، و التعلیق علی الاُمور الغیر المتوقفة علیه التأثیر ینافیه، لکونه موجبا لعدم تحقّق ذلک العنوان بخلاف التعلیق علی الاُمور المتوقفة علیه التأثیر.

فإن قلت: إنّ إنشاء الأمر یصح تعلیقه علی ما یشتهیه الآمر فیتحقّق معه الطلب

ص:264


1- (3) حاشیة المکاسب /46 له أیضا.
2- (4) راجع بغیة الطالب فی شرح المکاسب 1/176 للفقیه السیّد أبوالقاسم الإشکوری المتوفی عام 1324ق.

المشروط، فلم لا یصحّ تعلیق البیع علی ما یشتهیه البائع، فتحقّق معه المبادلة المشروطة و یترتّب الأثر عند وجود الشرط...؟!

قلت: فرق بین المقامین لأنّ الانشائیة فی الأوامر و النواهی إنّما هی باعتبار النسب المدلولة للهیئة أو الأداة بالوضع و أنّها قابلة للتعلیق بخلاف العقود و الإیقاعات الإنشائیة و إنّما هی باعتبار ترتب العناوین الطارئة، و التعلیق علی غیر ما یترتب علیه التأثیر ینافیها، فإنَّ مَنْ أظهر المبادلة علی تقدیر مشیّة زید أنّه لم یکن مبادلاً فعلیّا و لم یتحقّق منه مبادلة اُخری علی تقدیر مشیّته. و الأثر إنّما یترتب علی المبادلة لا علی مجرد مشیئتها و الرضا بها»(1).

و بما ذکرنا ظهر أن الثلاثة الأخیرة هی مورد الإجماع المُدعی و دعوی کون المتیقن منه صورة کون الشرط مشکوک الحصول فی الاستقبال فقط کما فی کلام المؤسس الحائری(2) رحمه الله لاشاهد علیه.

و بالجملة: بطلان العقود المعلَّقة تبعا للمشهور تام عندنا و موافق للاحتیاط و اللّه العالم.

التطابق بین الإیجاب و القبول
اشارة

قبل الخوض فی البحث لابدّ من ملاحظة کلمات القوم:

قال الشیخ فی الخلاف: «إذا قال واحد لإثنین: بعتکما هذا العبد بألف، فقال أحدهما: قبلت نصفه بحسابه، و ردّ الآخر، لم ینعقد العقد، و به قال أبوحنیفة.

و قال الشافعی: ینعقد العقد فی حقّه، سواء قبل صاحبه أو ردّه.

ص:265


1- (1) حاشیة المکاسب /200 و 201 من تقریرات المحقّق العراقی لآیة اللّه المیرزا ابوالفضل النجم آبادی.
2- (2) کتاب البیع 1/147 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلّی الأراکی قدس سره .

دلیلنا: إنّ قبوله غیر مطابق للایجاب و إن العقد یحتاج إلی دلالة، و لا دلیل علی ثبوت هذا العقد»(1).

و قال فی المبسوط: «إذا قال واحد لإثنین: بعتکما هذا العبد بکذا فقال أحدهما: قبلتُ نصفه بنصف ما قال من الثمن، لم ینعقد العقد لأنّه غیر مطابق لایجابه. و إن قال واحد لرجلین: بعتکما هذین العبدین بألف فقبل أحدهما أحد العبدین بخمسمائة لم یجز إجماعا و فی الأوّل خلاف.

و الفرق بینهما أنّه إذا قال: بعتکما هذین العبدین بألف فإنّما أوجب لکلّ واحد منهما

نصف کلّ واحد من العبدین فإذا قبل أحد العبدین فقد قبل ما لم یوجبه و بثمن لا یقتضیه إیجابه، لأنّ الثمن ینقسم علی قدر قیمة العبدین و لا یقابل نصف الثمن أحدهما.

فإن قال: قبلت نصف کلّ واحد منهما بنصف الثمن کان مثل المسئلة الاولی سواء.

و إن قال: قد قبلتُ نصف أحد العبدین بحصّته من الثمن لم یصحّ إجماعا لأنّ حصته مجهولة.

و إن قال واحد لرجلین: بعتکما هذین العبدین بألف درهم هذا العبد منک و هذا العبد الآخر منک فقبله أحدهما بخمسمأة لم یصحّ لأنّه قبله بثمن لم یوجب له لأنّ الألف مقسومة علی قدر القیمتین لا علی عددهما و هو اجماع»(2).

و قال القاضی ابن البراج فی المهذب: «و إذا قال رجل لرجلین: بعتکما هذا العبد، فقال الواحد منهما: قبلت نصفه بنصف ما قال من الثمن، لم ینعقد البیع لأنّه لیس مطابقا لإیجابه، فإن قال: بعتکما هذین العبدین بألف فقبل أحد العبدین بخمسمائة لم یجز بغیر

ص:266


1- (3) الخلاف 3/40، مسألة 58.
2- (1) المبسوط 2/128.

خلاف، و فی الناس مَنْ خالف فی المسألة الاُولی، و الفرق بینهما أنّه إذا قال بعتکما هذین العبدین فإنّما اوجب لکلّ واحد منهما نصف کلّ واحد من العبدین، و إذا قبل أحد العبدین فقد قبل ما لم یوجبه و بثمن لایقتضیه إیجابه لأنّ الثمن ینقسم علی قدر قیمة العبدین و لا یقابل بنصف الثمن أحدهما.

فإن قال: قبلت نصف کل واحد منهما بنصف الثمن کان مثل المسألة الاولی، فإن قال: قبلت نصف أحد العبدین بحصة من الثمن لم یصحّ أیضا لأنّ حصته مجهولة.

و إذا قال واحد لاثنین: بعتکما هذین العبدین بألف درهم، هذا العبد منک و هذا العبد منک فقبله أحدهما بخمسمائة لم یصحّ لأنّه قبله بالثمن الذی لم یوجب لأنّ الألف مقسومة علی قدر القیمتین لا علی عددهما إجماعا»(1).

و قال العلاّمة فی القواعد: «و لابدّ من التطابق بین الإیجاب و القبول، فلو قال: بعتک هذین بألفٍ فقال: قبلت أحدهما بخمسمائة، أو قبلت نصفهما بنصف الثمن، أو قال بعتکما هذا بألفٍ، فقال أحدهما: قبلتُ نصفه بنصف الثمن لم یقع»(2).

و قال فی التذکرة: «لابدّ من التطابق فی المعنی بین الصیغتین، فلو قال: بعتک هذین

بألف، فقال: قبلت أحدهما بخمسمائة، أو: قبلت نصفهما بنصف الثمن. أو قال: بعتکما هذا بألف، فقال أحدهما: قبلت نصفه بنصف الثمن، لم یقع علی اشکال فی الأخیر، أقربه الصحة و اختیار البائع»(3).

أقول: سیأتی منه قدس سره توضیح الإشکال و تقریب الصحة و الخیار فی نقل کلامه عن المختلف.

ص:267


1- (2) المهذب 1/394 و 393.
2- (3) قواعد الأحکام 2/17.
3- (1) تذکرة الفقهاء 10/10.

و قال فی تلخیص المرام: «ولو قال: بعتکما هذا العبد بألف، فقال أحدهما: قبلت بخمسمائة لم یصحّ علی رأیٍ، لاختلال التطابق بین الإیجاب و القبول، أما لو قال: بعتکما هذین العبدین بألف، فقال أحدهما: قبلت أحدهما بخمسمائة لم یصحّ إجماعا»(1).

و قال فی النهایة: «و یشترط المطابقة بین الإیجاب و القبول فلو قال: بعتک بألف صحیحة، فقال: قبلت بألف قُراضَة(2)، أو بالعکس. أو قال: بعتک جمیع کذا بألف، فقال: قبلت نصفه بخمسمائة. أو قال لإثنین: بعتکما بألف، فقال أحدهما: قبلت نصفه بخمسمائة لم یصح.

ولو قال: بعتک هذا بألف، فقال: قبلت نصفه بخمسمائة و نصفه بخمسمائة، احتمل الصحة لأنّه تصریح بمقتضی الاطلاق و لا مخالفة، و ترتبه علی أنّ تفصیل الثمن هل هو من موجبات تعدد الصفقة، و البائع هنا اوجب بیعة واحدة و الفاعل قبل بیعین لم یوجبهما البائع، ففیه مخالفة.

ولو قال: بعتک بألف، فقال: اشتریت بألف و خمسمائة، لم یصح أیضا»(3).

و قال فی المختلف: «قال الشیخ فی المبسوط و الخلاف: إذا قال واحد لإثنین: بعتکما هذا العبد بألف فقال أحدهما: قبلت نصفه بخمسمائة لم ینعقد العقد لعدم التطابق بین القبول و الإیجاب و تبعه علی ذلک ابن البراج، و الأقوی عندی الصحة و ثبوت الخیار للبائع، أما الصحة فلأنّ البائع لم یقصد بقوله: «بعتکما» تملیک کلّ واحد منهما جمیع المبیع و لا تملیک أحدهما ذلک، و لا تملیک کلّ واحد منهما نصف الثمن، و إنّما قصد تملیک کلّ واحد منهما نصف المبیع بنصف الثمن، و قد أتی باللفظ الدال علیه وضعا فیجب الحکم بالصحة، کما لو قال:

ص: 268


1- (2) تلخیص المرام /95.
2- (3) قُراضَة: ما سقط بالقرض (أی القطع) کقراضة الذهب و الثوب، قُراضَةُ المال: ردیئُهُ.
3- (4) نهایة الإحکام 2/450.

بعتکما هذا العبد بألف نصفه منک بخمسمائة و نصفه من هذا بخمسمائة فإنّه یجوز عندهما و لا فرق بینهما، و أمّا ثبوت الخیار فلأنّ البائع قصد تملیک کلّ واحد بشرط تملیک الآخر، فإذا فقد الشرط وجب أن یثبت له الخیار»(1).

و قال الشهید: «و یشترط فیهما التطابق، فلو قال: بعتک العبدین بألف، فقال: قبلت أحدهما بنصفه لم یصحّ، و إن تساویا قیمة، و اُولی بالبطلان ما لو قال: بعتکما العبدین بألف فقبل أحدهما بخمسمائة، لأنّ الإیجاب لم یقع للقابل، إلاّ علی نصف العبد قضیة للإشاعة»(2).

و علّق المحقّق الثانی علی قول العلاّمة «و لابدّ من التطابق بین الإیجاب و القبول»، بقوله: «أی: علی الوجه المخصوص، الذی یدل علیه باقی کلامه، لا مطلق التطابق للاتفاق علی أنّه لو قال: بعتک، فقال: اشتریت، صح»(3).

و علّق علی قوله: «قبلت أحدهما بخمسمائة» و «أی: لا یصحّ هنا علی أصح الوجهین، و یحتمل الصحة، لأنّه فی قوة عقدین، و من ثمّ افترقا فی الشفعة لو اختصت بأحدهما، و لیس بشیءٍ، لأنّ ذلک حقّ ثابت فی البیع بالأصالة، و رضاهما محمول علیه، بخلاف ما هنا، لأنّ رضا البائع إنّما وقع علی المجموع بالمجموع»(4).

و قال الشیخ جعفر فی شرح القواعد مع متنه: «(و لابدّ من التطابق بین الایجاب و القبول) فی المتعاقدین و فی قدر العوضین (فلو) اختلفا فی أحدهما أو کلیهما بأن (قال: بعتک هذین بألف، فقال: قبلت أحدهما) أو بعضه منفردین أو مع بعض الآخر (بخمسمائة) أو قبلتُهما بنصف الثمن أو قبلت أحدهما (أو قبلت نصفهما) أو نصف أحدهما (بنصف الثمن) أو

ص:269


1- (1) مختلف الشیعة 5/186.
2- (2) الدروس 3/191.
3- (3) جامع المقاصد 4/60.
4- (4) جامع المقاصد 4/60.

بکلِّه (أو قال: بعتکما هذا بألف، فقال أحدهما: قبلت نصفه) أو کلّه (بنصف الثمن) أو بکلِّه، أو قال: بعتک أحدهما، فقال: قبلتهما کلیهما (لم یقع) و إن جمع الشرائط الآخر. و کذا لو لم یحصل التطابق فی جنس العوضین أو قدرهما أو مکانهما أو زمانهما إلی غیر ذلک.(1)

و أمّا لو حصل التطابق الحقیقی دون الصوری، کأن قال فی الأوّل: قبلت کل واحد منهما بخمسمائة، أو قال: قبلت أحدهما بخمسمائة و الآخر بخمسمائة، و فی الآخر: قبلنا کل

واحد من نصفیه، أو قبلناه بنصفی الثمن، أو: قبلنا نصفه بنصف الثمن و نصفه الآخر بنصفه الآخر، فالأقرب الصحة»(2).

و نختم نقل الأقوال بکلام صاحب الجواهر - و هو کالحصیلة للبحث - قال: «و من ذلک یعلم الحال فی التطابق بین الإیجاب و القبول الذی قد صرح به غیر واحد من الأصحاب، لکن علی معنی المطابقة بینهما بالنسبة إلی المبیع و الثمن، لا مطلق التطابق للإتقان علی صحة الإیجاب ببعت و القبول باشتریت، بل الظاهر صحة قبلت النکاح مثلاً لإیجاب زوّجتک کما عن جماعة التصریح به، بل المراد المطابقة التی مع انتفائها ینتفی صدق القبول لذلک الإیجاب و بالعکس، و الظاهر أنّ من ذلک ما لو قال: بعتک هذین بألف فقال: قبلت أحدهما بخمسمائة، ضرورة تعلق الرضا بالمجموع، و اُولی من ذلک ما لو قال: بعتکما العبدین بألف فقبل أحدهما بخمسمائة، بل عن المبسوط أنّه لم یجز إجماعا، بل عنه أیضا أنّه لو قال: قبلت نصف أحد العبدین بحصة من الثمن لم یصح إجماعا، لأنّ حصته مجهولة. بل الظاهر عدم الصحة لو قال: قبلت نصفهما بنصف الثمن، کما عن المبسوط التصریح به أیضا لما عرفت، و عنه أیضا أنّه لو قال: بعتکما هذین العبدین بألف هذا العبد منک و هذا العبد من الآخر فقبل

ص:270


1- (5) وردت هذه العبارة فی بعض نسخ شرح القواعد هکذا: «و کذا یشترط التطابق فی جنس العوضین أو مکانها أو زمانها أو المرکب منها إلی غیر ذلک».
2- (1) شرح القواعد 2/20.

أحدها بخمسمائة لم یصح لأنّه قبله بثمن لم یوجب له، بأنّ الألف مقسومة علی قدر القیمتین لا عددهما و هو إجماع، قلت: وجهه واضح کما ذکره.

نعم لو قال: بعتکما هذین العبدین هذا العبد منک بخمسمائة و هذا الآخر منک [بخمسمائة] صح لمعلومیة ثمن کلّ منهما مع ظهور عدم ارادة اشتراط تملیک کل منهما بتملیک الآخر، أمّا لو قال: بعتکما هذا بألف فقال أحدهما: قبلت نصفه بنصف الثمن، فالظاهر عدم الصحة کما فی القواعد و محکی المبسوط و الخلاف و القاضی و نهایة الإحکام و التلخیص لظهور إرادة الاجتماع، خلافا للفاضل فی محکی المختلف و التذکرة فالصحة مع الخیار.

ولو قال: بعتک هذا بألف، فقال: قبلت نصفه بخمسمائة و نصفه بخمسمائة فالأقوی الصحة، لأنّه تصریح بمقتضی الاطلاق من غیر مخالفة، مع احتمال البطلان، ولو قال: بعتک بألف فقال: اشتریت بألف و خمسمائة فالأقوی الفساد لعدم المطابقة، و ربما احتمل الصحة إلی غیر ذلک من الفروع التی مدارها ما عرفت»(1).

أقسام التطابق بین الایجاب و القبول

و هو یتصور علی أنحاءٍ و الوجه فی اعتبار کلّها ارتباط التزام البائع بالتزام المشتری لصدق المعاقدة و أمّا أقسامها:

1- التطابق بالاضافة إلی عنوان المعاملة: بأن یقول البائع: بعتک داری، و یقول المشتری: قبلت هبتک أو الصلح.

2- التطابق بالإضافة إلی المبیع کأن یقول البائع: بعتک الکتاب، و یقول المشتری: قبلت بیع الدار.

3- التطابق بالإضافة إلی الثمن کأن یقول البائع: بعتک سیارتی بألف دولار أمریکی،

ص:271


1- (2) الجواهر 22/256 و 255.

و یقول المشتری: قبلت البیع بألف تومان ایرانی.

4- التطابق بالإضافة إلی البائع و المشتری - أی طرفی العقد - فلو قال زید لعمرو: بعتک هذا الدار بکذا، قال عمرو: قبلت البیع لخالد.

و الوجه فی ذلک مضافا إلی عدم ورود الإیجاب و القبول علی موردٍ واحدٍ، من الممکن عدم رضا البائع ببیع داره لخالد أو عدم رضا الخالد ببیع دار زید. و تظهر الثمرة فی ما إذا کان أحد المبیعین - أو کلیهما - فی الذمة، لاختلاف ذمم الأفراد فی الاعتبار فربّ شخصٍ لا یعتمد علیه إلاّ فی الاُمور الحقیرة و ربّ شخص یعتمد علیه حتّی فی الاُمور الخطیرة فلابدّ من التطابق بین الایجاب و القبول من هذه الجهة.

نعم: إذا قبل عَمْرُوْ البیع لخالد و رضی زید بالبیع لخالد، فالبیع یکون صحیحا.

5- التطابق بالإضافة إلی الشروط المذکورة فی العقد. و الوجه فی ذلک لأنّ مرجع اعتبار الشرط فی العقد إمّا إلی تعلیق العقد علی التزام المشروط علیه بشیءٍ کشروط عقد النکاح، أو إلی تعلیق لزومه علی شیءٍ کاشتراط صفة فی المبیع، أو تعلیقهما معا علیه کاشتراط عمل فی البیع و نحوه.

و مرجع الجمیع فی العرف إذا لم یقبل أحدهما الشروط فی العقد إلی بطلانه و عدم انعقاده. و الحاصل أنّ البطلان فی موارد تعلیق العقد واضح، و أمّا فی مورد تعلیق لزومه أیضا فیمکن أن یقال مضافا إلی ما ذکرنا من «أنّ تعلیق اللزوم یرجع إلی جعل الخیار، و جعل الخیار إنّما یرجع إلی تحدید المُنْشأ»(1) و عدم التطابق بین مُنْشائهما یوجب بطلان العقد.

6- التطابق بالإضافة إلی أجزاء المبیع و الثمن کأن یقول البائع: بعتک هذا الأرض

ص:272


1- (1) کما فی مصباح الفقاهة 3/73.

بملیون، و قال المشتری: قبلت نصف الأرض بنصف میلیون. و الوجه فی ذلک: «عدم ارتباط کلام أحدهما بالآخر»(1) کما عن المحقّق النائینی، أو «عدم المطابقة من جهة الشرط»(2) کما عن المحقّق السیّد الخوئی لأنّ بیع کلّ نصف من المبیع فی قبال نصف الثمن مشروط بنصفه الآخر.

نعم: فی کلّ موردٍ ینحلّ العقد عرفا إلی عقدین أو عقود، فقبل بعضها یقع التطابق و یکون صحیحا.

هذا تمام الکلام فی التطابق.

هل یجوز إنشاء أحد المتعاقدین فی حال کون الآخر فاقدا لشرائطه؟
اشارة

ذهب الشیخ الأعظم قدس سره - و هو أوّل من تنبّه لهذا الشرط - إلی عدم الجواز و أنّ المعتبر فی العقد أن یقع کلٌّ من الایجاب و القبول فی حالٍ یجوز لکلٍّ من الموجب و القابل الانشاء.

قال: «فلو کان المشتری فی حال إیجاب البائع غیر قابل للقبول أو خرج البائع حال القبول عن قابلیة الایجاب لم ینعقد.

ثم إنّ عدم قابلیتهما إن کان لعدم کونهما قابلین للتخاطب - کالموت و الجنون و الإغماء بل النوم - فوجه الاعتبار عدم تحقّق معنی المعاقدة و المعاهدة حنیئذ....

و إن کان لعدم الاعتبار برضاهما فلخروجه أیضا عن مفهوم التعاهد و التعاقد لأنّ المعتبر فیه عرفا رضا کلٍّ منهما لما ینشئه الآخر حین إنشائه کمن یعرض له الحجر بفَلَسٍ أو سَفَهٍ أو رقٍ - لو فرض - أو مرض موت.

ص:273


1- (1) منیة الطالب 1/257.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/74.

و الأصل فی جمیع ذلک أنّ الموجب لو فسخ قبل القبول لغی الایجاب السابق و کذا لو کان المشتری فی زمان الإیجاب غیر راضٍ، أو کان ممّن لا یعتبر رضاه - کالصغیر - فصحة کلٍّ من الایجاب و القبول یکون معناه قائما فی نفس المتکلّم من أوّل العقد إلی أن یتحقّق تمام السبب و به یتمّ معنی المعاقدة، فإذا لم یکن هذا المعنی قائما فی نفس أحدهما أو قام و لم یکن قیامه معتبرا لم یتحقّق معنی المعاقدة»(1).

ثم خرّج(2) قدس سره الوصیة من العقود و جعلها فی الایقاعات لصحة القبول من الموصی له بعد موت الموصی، أو صحة القبول بعد الردّ فی حال حیاة الموصی و قبوله بعد موته، و الشاهد علیه لو مات الموصی له قبل القبول قام وارثه مقامه.

و کذا صرح(3) بأنّ صحة بیع المکره یکون علی خلاف القاعدة لأجل الإجماع.

و وافقه المحقّق النائینی حیث یقول: «لایخفی أنّ هذا الشرط أیضا کالشرط السابق من القضایا التی قیاساتها معها بل منشاء اعتباره هو المنشأ لاعتبار الشرط السابق لأنّ العقد لاینعقد إلاّ بفعل الإثنین، فلو فقد حین أنشأ أحدُهما شرائط العقد فوجودها سابقا أو لاحقا لا أثر له و مجرد تحقّق الشرط حین أنشأ الآخر لا یفید بعد یکون إنشائه جزءا للعقد لا إیقاعا مستقلاً، فلو کان المشتری حین إنشاء البائع نائما لا یصحّ العقد و کذلک العکس.

و التفصیل بینهما کما فی حاشیة السیّد لا وجه له. ما یدّعیه من الصحة بلا إشکال فی العقود الجائزة فإنّما فی العقود الإذنیة لا العهدیة.

ثم لا فرق بین الموت و الجنون و نحوها و بین الفلس و الرقیة و نحو ذلک لأنّ المدار فی التطابق بین المشتری و البائع حال العقد علی اجتماع جمیع شرائط الصحة و اللزوم.

ص:274


1- (3) المکاسب 3/177 و 176.
2- (1) المکاسب 3/176.
3- (2) المکاسب 3/177.

و بعبارة اُخری: المدار علی ما به یصیر العقد عقدا، نعم رضا المشتری حین ایجاب البائع و کذا العکس غیر معتبر فی صحد العقد و المعاهدة، لأنّ ما یعتبر فی صدق العقد هو قصدهما لایجاد المادّة، لا رضاهما به، فلا یکون صحة بیع المکره إذا لحقه الرضا علی خلاف القاعدة»(1).

و وافق المحقّق الأصفهانی الشیخ الأعظم فی الجملة و قال: «أمّا عدم الأهلیة لِما یوجب امتناع تحقّق المعاهدة و المعاقدة کموت الموجب أو نومه أو إغمائه أو جنونه حال قبول القابل مثلاً، فإنّ مناط عهد کلٍّ منهما و التزامه و إنْ کان حیاة المتعهِّد و عقله و یقظته و هی مفروضة الحصول هنا، إلاّ أنّ مناط المعاهدة مع الغیر یقتضی کونهما معا کذلک فی حال الإیجاب و فی حال القبول، إذ معیة المتعاقدین لیست معیّة جسم مع جسم و لا معیّة حیوان مع حیوان بل معیّة شاعر ملتفت إلی ما یلتزم للغیر و یلتزم له الغیر، و إلاّ فلا ینقدح القصد الجدی فی نفس العاقل إلی المعاهدة مع من هو کالجدار أو کالحمار و علمه بالتفاته فیما بعد لا

یصحح المعاهدة معه فعلاً... .

و أمّا عدم الأهلیة لعدم الرضا المعتبر ولو لعدم اعتبار رضاه، فمن الواضح أنّه لا دخل له بالتعاهد و التعاقد فإنّهما متقوّمان بالشعور و الالتفات المحقّقین للقصد الجدی إلی المعاهدة مع الغیر... .

و ممّا ذکرنا ظهر أنّ استمرار الأهلیة بین الایجاب و القبول غیر لازم، فإنّ مقوّم المعاهدة مع الغیر التفاتهما و شعورهما حال کون کلّ منهما معاقدا مع الآخر، و قد عرفت أنّ النوم و الإغماء فضلاً عن غیرهما لا یوجب زوال الالتزام، حتّی یعتبر استمرار الأهلیة

ص:275


1- (3) منیة الطالب 1/257.

لبقاء الالتزام»(1).

و تبع المحقّقَ الأردکانیُّ المحقّق الأصفهانیَّ و نقل کلامه إلاّ أنّه قال: «إنّ المناسب ذکر هذا الشرط فی جملة شروط المتعاقدین...»(2).

و قبل السیّد ابوالقاسم الإشکوری ما ذکره الشیخ فی شرحه علی المکاسب و قال: «أنّ التأمل قاضٍ بصحة ما ذکره المصنف»(3).

ولکن ناقش الفقیه الیزدی ما ذکره الشیخ و قال: «لادلیل علی هذه الکلیة و عدم صدق المعاقدة و المعاهدة إنّما یتم فی بعض الفروض کما لو کان المشتری فی حال ایجاب البائع غیر قابل للتخاطب من جهة الإغماء أو النوم أو الجنون، و أمّا بقیة الصور فنمنع عدم الصدق خصوصا فیما إذا نام البائع بعد الایجاب مع علمه بذلک، أنّ المشتری یقبل لا محالة، و کذا فیما إذا کان المانع هو الفلس أو السرقة أو السفه. نعم فی جملة من الفروض یحتاج إلی إمضاء الغیر کالوارث المالک للعین، أو الولی أو نحوهما، و هذا غیر البطلان و یشهد لما ذکرنا من صدق المعاهدة عدم الفرق فی ذلک بین کون العقد لازما أو جائزا، مع أنّه لا بأس بالنوم بین الایجاب و القبول فی العقود الجائزة بلا إشکال، و کذا یشهد له باب الوصیة و الجواب الذی یذکره المصنف کما تری فتدبّر»(4).

و اعترض المحقّق الإیروانی علی الشیخ فی قوله: «فوجه الاعتبار عدم تحقّق معنی المعاقدة» بقوله: «فیه منع، فإنّه لا یعتبر فی تحقّق المعاقدة إلاّ وجود الشرائط المعتبرة فی

کلّ من المتعاقدین حال إنشاء نفسه، نعم لو ارتفع رضا الموجب بالمعاملة حال لحوق القبول

ص:276


1- (1) حاشیة المکاسب 1/(293-291).
2- (2) غُنیة الطالب 2/114.
3- (3) بُغیة الطالب فی شرح المکاسب 1/184.
4- (4) حاشیة المکاسب 1/446.

من الآخر لم یبعد عدم صدق المعاقدة بخلاف مالومات أو جُنّ أو أغمی علیه، فإنّ کلّ ذلک غیر مانع من تحقّق مفهوم المعاقدة عند قبول الطرف الآخر»(1).

و اعترض المحقّق السیّد الخوئی علی الشیخ و ذهب إلی عکس ما ذهب إلیه الفقیه الیزدی، و قال: «ولکن التحقیق یقتضی الالتزام بالصحة إذا فقد المشتری شرائط صحة الانشاء حال انشاء البائع، و بالفساد فی عکسه. و الوجه فی ذلک: أنّ المناط فی تحقّق العقد إنّما هو ارتباط التزام البائع بالتزام المشتری و علیه فإذا أنشا البائع حال کون المشتری نائما أو غافلاً أو مغمی علیه ثم التفت المشتری إلی هذا الانشاء فقبله قبل صدور ناسخه من البائع صدق علیه عنوان العقد جزما و یحکم بصحته للعمومات و المطلقات الدالة علی صحة العقود. بل تدل علی ذلک السیرة الواقعة بین التجار لأنّ المتعارف فیما بینهم - غالبا - أن یکتب بعضهم إلی بعض بیع متاعه الخاص بقیمة معینة و یقبله المکتوب إلیه مع أنّه ربّما یکون - عند کتابة البائع - نائما أو غافلاً أو مجنونا، و لا شبهة فی صحة هذه المعاملة.

و أمّا إذا لم یبق البائع علی الشرائط حین قبول المشتری حکم بفساد العقد إذ یرتفع التزام البائع بانتفاء شرائط الانشاء عنه و لایتصل التزامه بالتزام المشتری إلاّ فی مثل النوم و الغفله فإنّهما لاینافیان بقاء التزام البائع للسیرة المزبورة»(2).

القول المختار

اشتراط صحة العقد بأن المتعاقدین من أوّل الایجاب إلی آخر القبول لابدّ أن یکونا مُسْتَجْمِعَیْنِ لجمیع شرائط الانشاء - اضافة إلی أن کلٍّ من الموجب و القابل لابدّ أن یکون فی إجراء إیجابه و قبوله مستجمعا لشرائط الإنشاء - ممّا لا دلیل علیه، لأنّ صحة المعاقدة و

ص:277


1- (1) حاشیته علی المکاسب 2/107.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/75.

المعاهدة یتم فیما إذا کان کلّ منهما قابلاً لشرائط الانشاء فی حال إجراء صیغته الخاصة به. لأنّ المناط فی تحقّق المعاقدة هو ارتباط التزام البائع بالتزام المشتری، و کذا یشمله العمومات و الاطلاقات الواردة فی صحة البیع و وجوب الوفاء بالعقد و تجارة عن تراضٍ و الناس مسلطون علی أموالهم. مضافا إلی جریان السیرة القطعیة المتداولة بین الناس فی العقود.

و لعل ما ذکرنا هو وجه عدم تعرض الاصحاب قدس سرهم إلی هذا الاشتراط إلی القرن

الثالث عشر حیث عنونه الشیخ الأعظم - أعلی اللّه مقامه - و قبل منه السیّد الإشکوری بالجملة، و المحقّقون النائینی و الإصفهانی و الأردکانی فی الجملة.

و ناقشه السیّدان الفقیه الیزدی و المحقّق الخوئی کلّ منهما علی عکس الآخر. و المختار عندنا عدم اعتبار ما ذکره الشیخ بالکلّیة و وافقنا جماعة من الأصحاب نحو المحقّقین الشهیدی فی هدایة الطالب(1) و الإیروانی فی حاشیته علی المکاسب(2) و المروج فی هدی المطالب(3) و شیخنا الاُستاذ فی إرشاد الطالب(4).

نعم: إذا مات الموجب قبل تحقّق القبول أو جُنَّ لا یبعد انفساخ الایجاب، و یمکن أن یقال ببقائه و الإستیذان من ورثته أو ولیّه کما علیه الفقیه الیزدی(5). و اللّه العالم.

ص:278


1- (1) هدایة الطالب 2/230.
2- (2) حاشیة المکاسب 2/107.
3- (3) هدی الطالب 2/615 من طبعة عام 1428ق.
4- (4) إرشاد الطالب 2/131 و 132.
5- (5) حاشیته علی المکاسب 1/446.
فرع: اختلاف المتعاقدین اجتهادا أو تقلیدا فی شروط الصیغة
اشارة

إذا اختلف المتعاقدان - اجتهادا أو تقلیدا - فی شروط الصیغة فهل یجوز لکلِّ واحدٍ منهما العمل باجتهاده أو تقلیده مع أنّ الآخر یراه باطلاً؟ أم لا یجوز و لابدّ من إلقاء العقد بحیث یکون صحیحا عند کلِّ منهما؟ أم فیه تفصیل بین أن یکون العقد المرکب منهما هل یقول بصحته أحد من الفقهاء أو لا؟ فی صورة وجود القائل بالصحة یکون العقد صحیحا و فی صورة عدمه فلا.

مقالة الشیخ الأعظم فی المقام

ذهب الشیخ الأعظم(1) قدس سره إلی أنّ أردءَ الوجوه هو التفصیل و لم یذکر وجه الأردئیة.

و الوجه فیها: أنّ عدم وجدان القائل بالصحة لا یوجب الجزم بالبطلان و لا یقتضی الفساد بل یمکن ما لاقائل بصحته یکون موافقا للواقع. و لذا قال الفقیه الیزدی فی وجه الأردئیة: «و ذلک لأنّ مجرد عدم القائل لایکفی بل لابدّ من کونه مخالفا للإجماع و لیس کذلک لأنّ عدم القائل به إنّما من باب الاتفاق لا من جهة بنائهم علی عدم صحته فتدبر»(2).

و تبعه الشّارح الشهیدی فقال: «و مجرد عدم وجود القائل بها لا یستلزم الإجماع

علی العدم»(3).

و قال الإیروانی: «و السر فی ذلک أنّ مثل هذا الاجماع الذی لم یتورد فیه أقوال المجمعین علی عنوان واحد بل کلٌّ أفتی بعنوان غیر العنوان الذی أفتی به صاحبه و بتصادق العناوین صار المصداق فیه موردا للاتفاق ممّا لایعتدّ به عندهم لتخطئة کلٍّ من المفتین

ص:279


1- (6) المکاسب 3/178.
2- (7) حاشیة المکاسب 1/447.
3- (1) هدایة الطالب 2/232.

صاحبه فی الفتوی»(1).

و ذهب الشیخ الأعظم(2) إلی أنّ الأوّلَیْن مبنیان علی أن الأحکام الظاهریة هل هی بمنزلة الأحکام الواقعیة الاضطراریة أم هی أحکام عذریة یکون العامل بها معذورا - بعد اجتهاده أو تقلیده فیها - فی عمله قبل کشف الخلاف؟!

فعلی الأوّل فالمؤثر عند أحدهما مؤثرٌ عند الآخر أیضا ولو کان أحدهما مخالفا للثانی، فیحکم بالصحة مطلقا.

و علی الثانی فلایترتب علیه أثر لأنّ المُنْشِیء و إن رأی ترتب الأثر علی إنشائه إلاّ أنّ الآخر یراه مخطئا لاغیا فلا یمکن له أن یترتب علیه الأثر.

هذا إذا کان بطلان العقد مستندا إلی فعل الآخر عند کلٍّ من المتعاقدین بحیث لا یسری من جزءٍ إلی الجزء الآخر و أمّا إذا یسری من جزءٍ إلی الآخر فالقول فیه هو البطلان و الفساد مطلقا و الأخیر نحو اعتبار الموالاة و التنجیز و بقاء المتعاقدین علی صفة صحة الانشاء من أوّل العقد إلی آخره، لأنّ الموجب إذا أنشاء معلَّقا أو من دون بقاء الآخر علی صحة الإنشاء، أو القابل أنشأ من دون الموالاة، فی هذه الموارد لم یجز لکلٍّ منهما الإنشاء فی قبال إنشاء الآخر، هذا کلّه فَحْوی مقالة الشیخ الأعظم(3) فی المقام.

مناقشة مقالة الشیخ الأعظم قدس سره

یمکن أن یلاحظ علی مقالته:

أوّلاً: أنّ الأحکام الظاهریة الاجتهادیة لیست بمنزلة الأحکام الواقعیة الاضطراریة و إلاّ لزم التصویب المجمع علی بطلانه.

ص:280


1- (2) حاشیة المکاسب 1/109.
2- (3) المکاسب 3/178 و 179.
3- (4) المکاسب 3/178 و 179.

و قد ذُکر فی علم الاُصول وجوه الجمع بین الأحکام الواقعیة و الظاهریة قد عددناها

إلی ثمانیة جمع فی محاضراتنا الاُصولیة منها: جمعان للشیخ الأعظم و جمع للمحقّق الخراسانی و جمع للسیّد محمّد الفشارکی - و جمعه متین عندنا(1) - و جمع للمحقّق النائینی(2) و آخر للمحقّق العراقی(3) و سابع للمحقّق السیّد الخوئی(4) - و هو أیضا تام - و ثامن للسیّد محمّد الداماد(5) - و هو أیضا تام - .

و منها: أنّ التنافی فی الأحکام الشرعیة فی الموردین: المبدأ و المنتهی، و أمّا عدم التنافی فی الأحکام الظاهریة و الواقعیة فی المبدأ فلانّ الحکم الواقعی نشأ من المصالح و المفاسد الواقعیة ولکن المصلحة فی الحکم الظاهری إنّما تکون فی نفس جعل الحکم لا فی متعلَّقه فلا یلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة و المفسدة، و أمّا عدم التنافی بینهما فی المنتهی فلانّ الحکم الظاهری موضوعه الشک فی الحکم الواقعی و عدم تنجزه لعدم وصوله فمادام لم یصل الحکم الواقعی لا یحکم العقل بوجوب امتثاله فلا مانع من امتثال الحکم الظاهری، و إذا وصل الحکم الواقعی فلا یبقی مجال لامتثال الحکم الظاهری لکون الحکم الظاهری دائما فی طول الحکم الواقعی، لأنّه مجعولٌ فی ظرف عدم وصول الحکم الواقعی، و هذا هو أحد وجوه الجمع الصحیح بینهما فی المقام.

ثانیا: أنّ الاختلاف فی طریقیة الأمارات أو موضوعیتها یتم بالنسبة إلی من قامت

ص:281


1- (1) راجع کتب تلامیذه نحو المؤسس الحائری فی درر الفوائد 2/351 و جدنا العلاّمة أبی المجد الشیخ محمّد الرضا النجفی الأصفهانی قدس سره فی وقایة الأذهان /487.
2- (2) راجع أجود التقریرات 3/128 و ما بعدها.
3- (3) راجع تعلیقته علی فوائد الاصول 3/102.
4- (4) مصباح الاصول 2/108.
5- (5) المحاضرات 2/90 تقریرات السیّد محمّد الداماد رحمه الله بقلم آیة اللّه السیّد جلال الدین الطاهری الأصفهانی - مدظله - .

عنده الأمارة فإنّه علی القول بالطریقیة لا یجزیء العمل بعد کشف الخلاف و علی القول بالموضوعیة یجزی، و أمّا بالنسبة إلی غیر مَنْ قامت عنده الأمارة فالاکتفاء بمفادها یحتاج إلی دلیل لیدلّ علی أنّ الحکم الظاهری فی حقّ کلِّ أحدٍ حکم واقعی فی حقّ غیره، و لا یتم هذه الکبری إلاّ فی موارد نحو: جواز إیتمام المتطهِّر بالوضوء بالمتطهِّر بالتیمم، و حرمة تزویج المعقودة بالفارسی لمن یری فساد العقد الفارسی لما ورد أنّ لکلّ قوم نکاحا، و إذا أسلم الزوجان أو زوج الکتابیة حکم ببقاء النکاح السابق.

و الحاصل: مجرد کون مفاد الأمارة حکما حقیقیا فی حقّ الموجب أو القابل لا یفید

شیئا فی المقام بل لابدّ أن یکون ذلک حکما حقیقیا فی حقّ غیره لأنّه أحد طرفی العقد.

ثالثا: قد مرّ منّا عدم اعتبار العربیة و الماضویة و الترتیب و الموالاة و بقاء المتعاقدین علی صفات صحة الانشاء إلی آخر العقد فی صیغ العقود، نعم الصراحة و التنجیز معتبران فلایتم تفصیل الشیخ الأعظم عندنا.

رابعا: علی قوله قدس سره أیضا لابدّ من الحاق الترتیب بالموالاة و التنجیز لأنّ التقدّم و التأخّر من الاُمور المتضائفة بعدم مراعاته من طرف یخلُّ بطرف آخر أیضا و لذا قال الفقیه الیزدی: «الظاهر أنّ الترتیب کالموالاة»(1). هذا کلّه ما یرد علی الشیخ الأعظم فی المقام.

مقالة المحقّق الأصفهانی وردّها

قال تحت عنوان تحقیق المقام ما ملخصه: «إنّ الملکیة إذا کانت من الاُمور الواقعیة و کانت الأمارة حجة من باب الطریقیة فهی لا توجب إلاّ العذر عند الخطأ، فالتصرف بالعقد الفارسی تصرف فی مال الغیر و هو حرام غایة الأمر أنّه معذور فی هذا التصرف الحرام. و إن کانت حجة من باب الموضوعیة فالتصرف و إن کان فی مال الغیر حقیقة لکنّه جائز

ص:282


1- (1) حاشیة المکاسب 1/449.

حقیقة لکون التصرف بعنوان أنّه تصرف فی مال الغیر بسبب العقد علیه ذو مصلحة غالبة علی مفسدة التصرف فی مال الغیر فلا یکون حراما واقعا... .

و أمّا إذا کانت الملکیة من الاعتبارات [کما هو الصحیح] فأسبابها أیضا جعلیة فربّما یکون ذات العقد العربی - بما هو - ذا مصلحة مقتضیة لاعتبار الملکیة من الشارع، و ربما یکون العقد الفارسی - لا بما هو بل بما هو عقد قامت الحجة علی سببیته شرعا - ذا مصلحة مقتضیة لاعتبار الملکیة شرعا، فما انتقل إلی المعتقِد بالعقد الفارسی ملک شرعا حقیقة حیث لا واقع للاعتبار إلاّ نفسه فیترتب جمیع آثار الملک علیه...، و إن کانت لا سببیة للعقد الفارسی بالاضافة إلی غیر المعتقِد و علیه فلیس له کشف الخلاف، بل لا یجوز التسبب به بعد تبدیل الرأی، و إلاّ فالاعتبار لا ینقلب عمّا هو علیه.

هذا بخلاف ما عدا الاُمور الوضعیة کالواجبات التکلیفیة علی الموضوعیة فإنّ مجرد کون صلاة الجمعة التی أخبر بوجوبها العادل بلحاظ العنوان الطاریء ذا مصلحة کما یقتضیه ظهور الأمر بها فی البعث الحقیقی المنبعث عن مصلحة فی متعلِّقه و عرضا، لا یقتضی أن تکون المصلحة فیه مصلحة بدلیة عن مصلحة الواقع، فبعد کشف الخلاف یتبیّن بقاء

مصلحة الواقع علی حاله فیجب تحصیلها، و لیس فی باب المعاملات مصلحة لازمة التحصیل کی یجری فیها هذا البیان»(1).

و اعترض علیه تلمیذه السیّد المحقّق الخوئی: «هذا الذی أفاده... و إن کان متینا بناءا علی السببیة إلاّ إنّا ذکرنا فی مبحث الجمع بین الأحکام الظاهریة و الواقعیة من علم الاُصول أنّ الالتزام بالموضوعیة و السببیة حتّی السببیة السلوکیة - التی اخترعها الشیخ الأعظم فی رسائله - مستلزم للتصویب، فإذن فلایمکن الالتزام بذلک، فلامناص وقتئذ عن القول

ص:283


1- (1) حاشیة المکاسب 1/295.

بالطریقیة المحض فی جعل الأمارات و لازم ذلک هو عدم جواز اکتفاء أحد المتعاقدین بما یراه الآخر صحیحا فیحکم بالصحة من جانب و بالفساد من جانب آخر»(1).

أقول: حمل کلام المحقّق الأصفهانی رحمه الله فی ذیل الملکیة الاعتباریة علی الموضوعیة و السببیة فی حجیة الأمارات ممکن، ولکن یمکن حمله علی الطریقیة أیضا - لو لم نقل أنّه یحمل علیها فقط - و المراد بقوله: «سببیته شرعا»(2) یمکن أن یحمل علی سببیة العقد الفارسی علی الملکیة الاعتباریة لو لا قوله: «ذا مصلحة مقتضیة لاعتبار الملکیة شرعا»(3)، و علی أیّ حالٍ یمکن الأخذ بقوله حتّی بناءً علی القول بالطریقیة فی حجیة الأمارات کما هو المختار.

مقالة الفقیه الیزدی رحمه الله فی المقام و مناقشتها

قال: «ثم لا یخفی أنّ ترتیب الأثر علی ظن المجتهد الآخر إنّما یکون فیما لو فعله موضوعا للحکم بالنسبة إلیه کما فی مثال النکاح و غیره و أمّا إذا کان فعله قائما مقام فعله فلا، کما إذا استأجر الولی الذی یجب علیه القضاء عن المیت من یعتقد بطلان صلاته و إنْ کانت صحیحة عند نفسه، فإنّ فعل الأجیر فعل المستأجر فلایجوز الاکتفاء به.

و ما نحن فیه بمنزلة ذلک، فإنّ العقد متقوم بطرفین، و یجب علی کلٍّ من المتبایعین إیجاد عقد البیع، و هو عبارة عن الإیجاب و القبول، فلا یجوز لواحد منهما الأکل إلاّ بعد ذلک، فمع اعتقاد أحدهما بطلانه - ولو ببطلان أحد جزئیه - لا یجوز له ترتیب الأثر، و إنّما یتم ما ذکره المصنف لو کان المؤثر فی حقّ البائع فی جواز الأکل الإیجاب الصحیح، و بالنسبة إلی المشتری القبول الصحیح و لیس کذلک، إذ المؤثر المجموع و هو فعل کلّ واحد منهما...، و

بالجملة: البیع فعل واحد تشریکی، و لابدّ من کونه صحیحا فی مذهب کلٍّ منهما لیمکن

ص:284


1- (2) مصباح الفقاهة 3/83.
2- (3) حاشیة المکاسب 1/296.
3- (4) حاشیة المکاسب 1/296.

ترتیب الأثر علیه، و هذا بخلاف مسألة النکاح فإنّ الفعل للأوّل و الثانی مرتب علیه أثره»(1).

و کذا أفتی فی عروته بما ذکره هنا و قال: «إذا کان البائع مقلِدا لِمَنْ یقول بصحة المعاطاة مثلاً أو العقد الفارسی و المشتری مقلِدا لِمَنْ یقول بالبطلان لا یصح البیع بالنسبة إلی البائع أیضا، لأنّه متقوم بطرفین فاللازم أن یکون صحیحا من الطرفین، و کذا فی کلِّ عقد کان مذهب أحد الطرفین بطلانه و مذهب الآخر صحته»(2).

یمکن أن یلاحظ علیه: أوّلاً: لا یکون البیع فعلاً واحدا تشریکیا بل هو فعلان مرتبط أحدهما بالآخر و لذا قال المحقّق الخمینی قدس سره : «أنّ العقد المرکب من الإیجاب و القبول لا یعقل أن یکون فعل کلّ واحد من المتعاقدین فکیف یکون الموجب موجبا و قابلاً، و القابل کذلک، و لاشک فی أن الإیجاب فعل الموجب و هو موضوع الأثر بالنسبة إلی القابل فإذا ضم إلیه القبول صار عقدا تاما و قوله: «البیع فعل [واحد] تشریکی» الخ، مصادرة محضة»(3).

ثانیا: إنّ العقد متقدم بالطرفین لا یقتضی أن یکون القابل ینشیء قبوله و مقصوده علی نحو ینشأ الموجب إیجابه و مقصوده به.

و ثالثا: علی فرض قبول أنّ البیع فعل واحد و هو لا یقتضی إمّا الصحة أو الفساد، لایتم إلاّ بحسب الحکم الواقعی، و أمّا بالنسبة إلی الحکم الظاهری فلا مانع من الالتزام بالتفکیک بأن یعمل کلّ من الموجب و القابل بما تقتضیه وظیفته الظاهریة.

ص:285


1- (1) حاشیة المکاسب 1/448.
2- (2) العروة الوثقی - الاجتهاد و التقلید، المسألة 55.
3- (3) کتاب البیع 1/244.

الأوّلان من الملاحظات للمحقّق النائینی(1) و الثالث للسیّد الخوئی(2) رحمهماالله و لذا کتبنا فی تعلیقنا علی العروة الوثقی فی ذیل المسألة المذکورة: «بل یصح»، و فی آخرها: «نعم، فی أمثال الفروج لزم مراعاة الاحتیاط». فلا یتم ما ذکره الفقیه الیزدی قدس سره .

ص:286


1- (4) منیة الطالب 1/260.
2- (5) مصباح الفقاهة 3/84.

وصلٌ: أحکام المقبوض بالعقد الفاسد

اشارة

ص: 287

ص: 288

أحکام المقبوض بالعقد الفاسد

اشارة

قد مرّ بعض کلمات القوم فی المقام فی التنبیه الثامن من تنبیهات المعاطاة والان تضاف إلیها أحکامه:

الأوّل: لا یملک المشتری المقبوض بالعقد الفاسد

إذا کان العقد باطلاً لا یتحقّق آثاره المقصودة کالملکیة مثلاً فی البیع فمقتضی بطلان البیع بقاء کلٍّ من المالین علی ملک صاحبه الأوّل و لا حاجة إلی التمسلک بأصالة عدم الانتقال لعدم الشک فی المقام حتّی یجری فیه الأصل.

و بعبارة اُخری: المؤثر فی حصول الملکیة إنّما هو العقد فإذا حکم بفساده لم یؤثر فی الملکیة و صار کالمعدوم لا یؤثر فی شیءٍ.

صرح بعدم الملکیة فی فرض فساد العقد الشیخ فی کتابیه(1)، و المحقّق فی موضعین من الشرائع(2)، و العلاّمة فی القواعد(3) و التذکرة(4) و نهج الحقّ(5)، و ابن فهد فی المهذب

ص:289


1- (1) المبسوط 2/149، 3/64 - الخلاف 3/158، 3/403.
2- (2) الشرائع 2/7، 3/194.
3- (3) القواعد 2/17، 2/238.
4- (4) تذکرة الفقهاء 10/290.
5- (5) نهج الحقّ و کشف الصدق /485.

البارع(1)، و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(2)، و الشهید الثانی فی المسالک(3)، و المحقّق السبزواری فی الکفایة(4)، و الشیخ جعفر فی شرح القواعد(5)، و تلمیذاه صاحبا المفتاح(6)

و الجواهر(7).

قال فی الأخیر: «بلا خلاف، بل الاجماع بقسمیه علیه، للأصل بعد فرض بطلان السبب الذی أرید الانتقال به، و فرض عدم إرادة غیره من أسباب الملک، حتّی المعاطاة بناءً علی أنّها منه...»

ص: 290


1- (6) المهذب البارع 2/361.
2- (7) جامع المقاصد 4/61.
3- (8) المسالک 12/222.
4- (9) الکفایة 2/653.
5- (10) شرح القواعد 2/32.
6- (11) مفتاح الکرامة 12/537.
7- (1) الجواهر 22/256.
الثانی: ضمان القابض
استدل علیه بوجوه:
الأوّل - الاجماع: بمعنی کون تلفه علیه

ادعی الشیخ فی باب الرهن من المبسوط(1) و فی موضعین من البیع فی المبسوط(2) و الخلاف(3) الاجماع علیه صریحا و تبعه ابن ادریس فی السرائر(4) و ابن فهد الحلّی فی المهذب البارع(5) و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(6) و الشهید الثانی فی غصب المسالک(7) و السبزواری فی الکفایة(8) و الشیخ جعفر فی شرح القواعد قال: «للإجماع المحصَّل فضلاً عن المنقول المعتضد بالشهرة المستفیضة تحصیلاً و نقلاً»(9) و السیّد العاملی فی المفتاح قال: «هذان الحکمان (عدم الملکیة و الضمان) ممّا قد طفحت به عباراتهم»(10) و قال صاحب الجواهر: «بلاخلاف أجده فیه بل الإجماع بقسمیه علیه»(11).

الثانی - علی الید ما أخذت حتّی تؤدی

ص:291


1- (1) المبسوط 2/204.
2- (2) المبسوط 2/150.
3- (3) الخلاف 3/158، مسألة 251.
4- (4) السرائر 2/285: و فیه: «عند المحصلین».
5- (5) المهذب البارع 2/361.
6- (6) جامع المقاصد 4/61.
7- (7) مسالک الأفهام 12/174.
8- (8) الکفایة 2/653.
9- (9) شرح القواعد 2/33.
10- (10) مفتاح الکرامة 12/537.
11- (11) الجواهر 22/257.

و یدلّ علیه بعد الإجماع النبوی المشهور: علی الید ما أخذت حتّی تؤدی.(1)

لایستشکل علی سند الروایة بأنّ راویها هو قتادةُ عن الحسن البصری(2) عن سمرة بن جندب(3) المعلوم حالهما، و لم یسمع حسب رأی البخاری و مسلم - الحسن عن سمرة

إلاّ حدیث العقیقة(4) و ابن حزم أیضا ضعّف الحدیث بدعوی انقطاعه لأنَّ قتادةَ لم یدرک الحسن(5).

لأنّ شهرتها و العمل بمضمونها یکفی فی اعتبارها، و قد قال العلاّمة البلاغی: «... قد شاعت روایته بین الفریقین و کثرت روایته و الاعتماد علیه بین الأصحاب، بل لم یخل من الاعتماد علیه فی الاستدلال فیما رأیناه کتاب یتعرض لمدارک الأحکام و وصفه فی جامع الشتات(6) بالمشهور المقبول بل ذکر فی المضاربة(7) و وصفه بالروایة المجمع علیها. و کاشف الغطاء فی شرح القواعد(8) بالمستفیض المجمع علی مضمونه، و فی الریاض(9) بالمشهور

ص:292


1- (12) عوالی اللآلی 1/224، ح106، 1/389، ح22؛ سنن البیهقی 6/95 و 90؛ کنزالعمال 5/327، الرقم 5713؛ سنن ابن ماجه 2/802، ح2400؛ و سنن الترمذی 3/566، ح1266؛ و سنن ابن داود 3/296، ح3561؛ سنن النسائی 3/411؛ و مسند احمد بن حنبل 5/8 و 12 و 13؛ المستدرک علی الصحیحین 2/47.
2- (13) لبعض ما طُعِنَ علیه به عندهم راجع میزان الاعتدال 1/527 و عندنا راجع رجال الکشی /97، ح154 و الاحتجاج 1/171.
3- (14) لبعض ما طُعِنَ علیه راجع شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 4/73 و 77 و 78؛ و تاریخ الطبری 4/176؛ و قاعدة لا ضرر لشیخ الشریعة الإصفهانی /35 و 36.
4- (1) راجع نصب الرأیة 5/398 للزیعلی.
5- (2) المحلّی 9/172.
6- (3) جامع الشتات 3/405 و فیه: «حدیث مشهور علی الید که أصحاب به آن عمل کرده اند».
7- (4) جامع الشتات 3/340 من طبعة الحروفی الاولی.
8- (5) شرح القواعد 2/33.
9- (6) ریاض المسائل 8/254 و فیه: الخبر المشهور.

المقبول، و فی غصب مفتاح الکرامة(1) بالمشهور المعمول به فی أبواب الفقه، و فی ودیعة المقابس(2) بالقویة المعروفة المجمع علیها. و فی العناوین(3) بالمنجبر بالشهرة المتلّقی بالقبول عند العامة و الخاصة بحیث یغنی عن ملاحظة سنده و صحته بل هو ملحق بالقطعیات فی الصدور، و فی الجواهر(4) أنّه مجبور بالعمل»(5).

أقول: الظاهر استناد الأصحاب قدیما و حدیثا هو علی هذا الحدیث بحیث یظهر للمتأمل الوثوق بصدوره و الآن أذکر لک - مضافا إلی ما مرّ من العلاّمة البلاغی - بعض هذه الاستنادات:

منهم: الشریف المرتضی فی بحث ضمان الصنّاع من الانتصار(6) احتجاجا علیهم.

و منهم: شیخ الطائفة فی أوّل غصب المبسوط(7).

و منهم: الشیخ فی أوّل ودیعة المبسوط(8).

و منهم: الشیخ فی رهن الخلاف(9) و فی غصبه مرّتان(10) و ودیعته(11).

ص:293


1- (7) مفتاح الکرامة 6/228 من الطبعة الاولی.
2- (8) المقابس /253.
3- (9) العناوین 2/416.
4- (10) الجواهر 37/35 و استدل به أیضا فی 27/116 و 31/358.
5- (11) العقود المفصّلة /2، المطبوعة مع تعلیقته علی المکاسب علی الحجر، و ص23 من المطبوعة فی ضمن المجلد السابع من موسوعة العلاّمة البلاغی.
6- (12) الانتصار /468.
7- (1) المبسوط 3/59.
8- (2) المبسوط 4/132.
9- (3) الخلاف 3/228، مسألة 17.
10- (4) الخلاف 3/408 و 409، مسألة 20 و 22.
11- (5) الخلاف 4/174، مسألة 5.

و منهم: السیّد ابن زهرة فی غصب الغنیة و إجارتها(1) احتجاجا علیهم.

و منهم: ابن ادریس الذی لا یری الأخبار الآحاد موجبا للعلم و العمل و قال: «و قد بیّنا أنّ أخبار الآحاد عند أصحابنا لا توجب علما و لا عملاً، و الواجب علی المفتی الرجوع فی صحة الفتوی إلی الأدلة القاطعة»(2). و قال أیضا: «الواجب الأخذ بالأدلة القاطعة للأعذار، و ترک أخبار الآحاد التی لا توجب علما و لا عملاً فإنّه أسلم للدیانة، لأنّ اللّه تعالی ما کلّفنا إلاّ الأخذ بالأدلة و ترک ماعداها»(3).

تمسک بهذه الروایة فی عدّة مواضیع من کتابه نحو: رهن السرائر مرتین(4) و فی غصبه کذلک(5) و إجارته(6) و وکالته(7).

و منهم: الشیخ علی بن محمّد بن محمّد القمی السبزواری فی غصب جامع الخلاف و الوفاق و رهنه و إجارته.(8)

و منهم: العلاّمة تمسک بها فی عدّة من کتبه نحو: متاجر المختلف(9) و رهنه(10) و عاریته مرّتین(11) و لقطته(12) و ودیعته(13) و إجارته(14).

ص:294


1- (6) غنیة النزوع 280 و 289.
2- (7) السرائر 2/322.
3- (8) السرائر 2/422.
4- (9) السرائر 2/425 و 437.
5- (10) السرائر 2/481 و 484.
6- (11) السرائر 2/463.
7- (12) السرائر 2/87.
8- (13) جامع الخلاف و الوفاق 343 و 299 و 354.
9- (14) مختلف الشیعة 5/321.
10- (15) مختلف الشیعة 5/417.
11- (16) مختلف الشیعة 6/72 و 77.
12- (17) مختلف الشیعة 6/87.
13- (18) مختلف الشیعة 6/63.
14- (19) مختلف الشیعة 6/158.

و قال فی غصب التذکرة: «کلّ من غصب شیئا وجب علیه ردُّه علی المالک سواء طالب المالک بردّه أو لا، مادامت العین باقیة بلاخلاف، لقول النبی صلی الله علیه و آله علی الید ما أخذت حتّی تؤدیه»(1).

و قال فی ضمانها: «و کلّ من یثبت یده علی مال الغیر و لا حقّ له فی إمساکه و کان المال باقیا وجب علیه ردّه علی مالکه بلاخلاف، لقول النبی صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تؤدی، و لأنّ حقّ المالک متعلَّق بمالیته، و مالیته لا تتحقّق إلاّ بردّه إلیه»(2).

و ذکرها العلاّمة فی کتاب الرهن(3) مرّتین، و کذلک فی کتاب الودیعة(4)، و فی کتاب العاریة(5) ثلاث مرّات.

و هکذا ذکرها ولده فخرالمحقّقین مکررا فی کتابه ایضاح الفوائد(6).

و هکذا الفاضل المقداد فی التنقیح(7) مکررا.

و منهم: الشهید قال فی غصب الدروس: «یجب ردّ المغصوب إلی مالکه إجماعا و لقوله صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تؤدیه...»(8)

ص:295


1- (1) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
2- (2) تذکرة الفقهاء 2/374 من الطبع الحجری.
3- (3) تذکرة الفقهاء 13/194 و 258.
4- (4) تذکرة الفقهاء 16/161 و 218.
5- (5) تذکرة الفقهاء 16/271 و 273 و 296.
6- (6) ایضاح الفوائد 2/116 و 124 و 158 و 160 و 167 و 308 و 324 و 327 و 329.
7- (7) التنقیح الرائع 2/245 و 249 و 259 - 4/112 و 124.
8- (8) الدروس 3/109.

و ذکرها أیضا ابن فهد الحلّی فی المهذب البارع(1) مکررا و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(2) و الشهید الثانی فی المسالک(3)، و المحقّق الأردبیلی مع حکمه بعدم صحة الروایة کما یأتی ذکرها مکررا فی کتابه(4).

و بما ذکرنا یظهر الوثوق بصدورها من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فلا یُصْغی إلی ما ذکره المحقّق الأردبیلی(5) فی بحث المأخوذ بالبیع الفاسد بعد الاعتراف بأنّ الخبر مشهور حکم بأنّ صحته غیر ظاهرةٍ و تمسک بأصل البراءة من الضمان فی مقابله.

و تبعه المحقّقان االسیّدان الخوئی(6) و الخمینی(7)، لأنّ الأوّل منهما لا یری جبر ضعف السند بعمل المشهور، و کلاهما لایران استناد المشهور إلی الروایة.

و تبعهم شیخنا الاستاذ(8) قدس سره .

و قد ذهبنا فی أبحاثنا الاُصولیة تبعا للمشهور إلی جبران ضعف السند بعمل المشهور و ظهر ممّا ذکرنا استناد المشهور من المتقدمین و المتأخرین إلیها، فالروایة عندنا تکون مُوْثوقة بصدورها هذا کلّه فی أمر سندها.

و أمّا دلالتها: فالّذی یظهر من جماعة ظهورها فی الحکم التکلیفی فقط - أی وجوب

ص:296


1- (9) المهذب البارع 2/560 - 3/7 و 9 و 39 - 4/311.
2- (10) جامع المقاصد 4/109 و 177 - 5/29 و 31 و 98 و 307 و 341.
3- (11) المسالک 3/142 و 154 و 343 و 440 - 4/38 و 39 و 56 و 58 و 207 و 337 و 359 و 383 و 385 و 398 - 5/47 و 78 و 93 و 116 - 6/63.
4- (12) مجمع الفائدة 9/169 و 228 و 602 - 10/276 و 441 و 451 و 499.
5- (1) مجمع الفائدة و البرهان 8/192.
6- (2) مصباح الفقاهة 3/88 و 89.
7- (3) کتاب البیع 1/(250-247).
8- (4) إرشاد الطالب 2/139.

الردّ - دون الحکم الوضعی - أی الضمان - کما صرح به ابن حزم فی المحلّی(1) و الشاهد علی ذلک أنّ الشیخ فی کتاب الغصب من المبسوط(2) لم یتمسک بها لأجل ثبوت الضمان فی فرض تلف المغصوب، و کذا العلاّمة(3) تمسک بها فی وجوب ردّ المغصوب إلی مالکه و الفاضل النراقی(4) صرّح بأنّها تدل علی وجوب حفظ المال عن التلف و ردِّه إلی مالکه و لا تدل علی الضمان بوجه و تبعه المحقّق الإیروانی(5).

لأنّ کلمة «علی» ظاهرة فی الحکم التکلیفی، و أجابه الشیخ الأعظم بأنّ «هذا الظهور إنّما هو إذا اُسند الظرف إلی فعل من أفعال المکلّفین لا إلی مالٍ من الأموال»(6).

أقول: لا یخفی أنّ المراد بالید هو الاستیلاء علی المال کما هو المراد بها فی قاعدة الید.

ثم إنّ کلمتی «علی الید» فی الحدیث خبر مقدم و جار و مجرور متعلَّق بثابت أو لازم بقرینة الحکم و الموضوع، و «ما أخذت» مبتدأ مؤخَّر و ما موصولة و «حتّی تؤدی» غایة للحکم. فصار معناها: ما أخذته الید ثابت علیها حتّی تؤدیه. و بعد الأداء یرفع الحکم، و من الواضح مع وجود العین أنّ الثابت - أی الواجب شرعا - هو ردّ نفس العین و مع تلفه تصل النوبة إلی بدله المثلی أو القیمی.فالروایة تدل علی الحکم الوضعی - أی الضمان عند تلف العین - و الحکم التکلیفی - أی وجوب ردّ العین - و إذا کان یجب علیه الردّ یجب علیه حفظه عقلاً حتّی یتمکن من الردّ. هذا ما یخطر بالبال عند التأمل فی الروایة. و وافقنا علی ذلک

ص:297


1- (5) المحّلی 9//172.
2- (6) المبسوط 3/59 و 60.
3- (7) تذکرة الفقهاء 2/374 من الطبع الحجری.
4- (8) عوائد الأیام /109 و 110، العائدة 33.
5- (9) حاشیة المکاسب 2/111.
6- (10) المکاسب 3/181.

المحقّق الشهیدی(1) رحمه الله .

ثم قال الشیخ الأعظم: «و من هنا کان المتّجه صحة الاستدلال به علی ضمان الصغیر بل المجنون إذا لم یکن یدهما ضعیفة لعدم التمییز و الشعور»(2).

و استشکل علیه(3) بأنّ هذا یتم بناءً علی تأصل الأحکام الوضعیة، و أمّا بناءً علی انتزاعها من الأحکام التکلیفیة کما هو مذهب الشیخ الأعظم فلا یمکن شمول الروایة للصغیر و المجنون لانتفاء التکلیف فی حقِّهما لیصحّ انتزاع الوضع منه.

و أجاب السیّد الحکیم عن هذا الاشکال بقوله: «امکان انتزاع ذلک الحکم الوضعی من الحکم التکلیفی المتوجه إلی الولی، أمّا لو حملنا الروایة علی الحکم التکلیفی فلا وجه لصرفها إلی الولی لأنّ تخصیصها بأدلة رفع القلم أولی من ذلک فیتعیّن ارتکابه [أی تخصیصها]...»(4).

الثالث: الروایات الواردة فی الأمَةِ المسروقة
اشارة

و قد استدل الشیخ الأعظم بالروایات الواردة فی الأَمَةِ المسروقة لأجل ثبوت الضمان:

و منها: موثقة جمیل بن درّاج عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الرجل یشتری الجاریة من السوق فیولدها ثم یجیء مستحق الجاریة، قال: یأخذ الجاریة المستحقُّ و یدفع إلیه المبتاع قیمة الولد و یرجع علی من باعه بثمن الجاریة و قیمة الولد التی أخذت منه(5).

ص:298


1- (1) هدایة الطالب 2/239.
2- (2) المکاسب 3/181.
3- (3) الاشکال للسیّد الیزدی فی حاشیة المکاسب 1/453.
4- (4) نهج الفقاهة /194.
5- (5) وسائل الشیعة 21/205، ح5، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.

بتقریب ذکره بقوله: «فإن ضمان الولد بالقیمة - مع کونه نماءً لم یستوفه المشتری - یستلزم ضمان الأصل بطریق أولی، و لیس استیلادها من قبیل إتلاف النماء بل من قبیل إحداث نمائها غیر قابلٍ للملک فهو کالتالف لا المتلف فافهم»(1).

و بعبارة اُوضح: الولد یکون منفعةً و نماءً للجاریة ولکن المشتری لم یستوف هذه المنفعة لأنّ الولد تابع لوالده فی الحریة، و الحرّ لا یُقوَّم بالمال. و من هنا ظهر الفرق بین الاستیلاد و منافعها الاُخری. فإذا کانت الید علی المنافع توجب الضمان فبطریق أولی تکون الید علی العین ضامنة.

ان قلت: المشتری باستیلاد الجاریة أتلف منفعتها علی مالکها لتربیة نطفة الرق و لذا یصدق الإتلاف.

قلت: الإتلاف هو إعدام الموجود، و هو هنا مفقود بل المشتری أحدث فیها نماءً غیر قابل للملک، لحکم الشارع بحرّیة الولد فهو کالتالف بالتلف السماوی لا کالمتلَف حتّی یکون موردا لقاعدة الإتلاف.

و لعلّ أمره بالتفهم فی آخر کلامه إشارة إلی إمکان صدق الإتلاف علی الاستیلاد، أو إلی أنّها استیفاء لنماء الجاریة. و علی الأوّل یکون الضمان بقاعدة الإتلاف و علی الثانی یکون الضمان بقاعدة الاستیفاء للمنافع لا الید.

و لعلّه إشارة إلی: أنّ الوطی إذا کان مانعا عن صدق الإتلاف علی حدوث الولد غیر قابل للملک فلا محالة یکون مانعا أیضا عن صدق الضمان بالید، ضرورة أنّ التلف تحت الید إنّما یوجب الضمان بالید إذا کان التالف ملکا للمضمون له. و من المعلوم أنّ الولد لم یکن ملکا لصاحب الجاریة فلا تدل الروایة علی ضمان الید، بل یمکن أن یکون ضمان الولد بسبب

ص:299


1- (1) المکاسب 3/181.

تعبدی غیر الأسباب المعروفة کما قاله المحقّق المروج(1).

بیان المحقّق النائینی

قرّر المحقّق النائینی قدس سره ما یدعیه الشیخ الأعظم من ضمان قاعدة الید فی المقام - مع اختلاف له یظهر لک - بما ملخصه: لیس استیلاد الأمة داخلاً تحت موارد ضمان المنافع مستقلاً لأنّ المستولد «لم یستوف منفعة الأمة - فإن استیفاء المنافع إنّما هو من قبیل الرکوب

و الجلوس و الأکل و الشرب و الوطی و نحو ذلک - .

وعدّ العرف حصول الولد له منفعة من الأمة لا اعتبار به، لأنّ نظر العرف لیس متّبعا فی تعیین المصادیق.

نعم اُوجد ما هو السبب لفوت المنفعة علی المالک، لأنّ وطأه الذی استلزم الحمل صار سببا لفوت المنفعة علیه، ولکن ضمان مَنْ منع المالک من التصرف حتّی تلف المنفعة ممنوع، إلاّ إذا قیل بأنّ قاعدة «لاضرر» کما تنفی الحکم الثابت الذی یلزم منه الضرر کذلک تثبت الحکم الذی لو لا تشریعه لزم منه الضرر.

و بالجملة: الذی استوفاه المشتری إنّما هو الوط ء، و المفروض أنّ القیمة لم تجعل عوضا له بل للولد، و الولد لیس من المنافع المتلفة، و لا ممّا کان المشتری سببا لإتلافها، لأنّ الولد لم یکن لمالک الأمة حتّی یکون مشتری الأمة سببا لإتلافه، فلیس استیلاد الأمة إلاّ من قبیل منع المالک من السکون فی داره، فضمان الولد الذی یرجع إلی ضمان قیمته لکونه حرّا إنّما هو من جهة تبعیّة المنافع التالفة للعین المضمونة، فیدلّ الخبر علی ضمان العین لا للاولویة، بل لأنّ ضمان العین صار سببا لضمان التالف.

و بالجملة: منشأ الضمان إمّا قاعدة الید أو الإتلاف أو التسبیب، و الأخیران منتفیان

ص:300


1- (2) هدی الطالب 3/53 من الطبعة الحدیثة.

فی المقام. أمّا الإتلاف فلأنّ الأب لم یستوف المنفعة، فإنّ الولد لا یعدّ من المنافع، فإنّ حکمه حکم الأب و الأمّ، فکما أنّه لا یکون من المنافع... فمراد المصنف قدس سره من أنّ الاستیلاد لیس استیفاءً أنّه لیس ممّا استعمله و أتلفه المستولد.

و الأصل فی هذا التعبیر للعلاّمة قدس سره فإنّه قال فی التذکرة: «منفعة بدن الحرّ تضمن بالتفویت، لا بالفوات، فلو قهر حرّا و استعمله فی شغلٍ ضمن اُجرته، لأنّه استوفی منافعه و هی متقومة، کما لو استوفی منافع العبد، ولو حبسه مدّة لمثلها اُجرة و عطّل منافعه فالأقوی أنّه لایضمن الاُجرة، لأنّ منافعه تابعة لما لا یصحّ غصبه... إلی آخره»(1).

«... و أمّا باب التسبیب فواضح أنّ وط ء المشتری لیس سببا لتلف المنفعة الموجودة المملوکة لمالک الأمة فلایدخل تحت قاعدة الضمان بالتسبیب، فانحصر أن یکون منشأه ضمان الید»(2)

و فیه: أوّلاً: ذهب النائینی إلی عدم کون الولد نماءً للأمة - مع إقرار الشیخ الأعظم

به - لأنّ نظر العرف لیس متبعا فی تعیین المصادیق، و لا یتم ما ذکره صغریً و کبریً لصدق المنفعة علی الولد حقیقةً و عرفا، و حیث لم یکن للشارع فی خطاباته مع العرف طریقة خاصة بل یتبع هو طریقة العقلاء فلا محالة من أن یصیر تشخیص العرف فی المفاهیم و مصادیقها معتبرا(3) و یدل علی کونها منفعة بل منفعة مستوفاة خبر زرارة عن أبی جعفر علیه السلام :... یردّ إلیه جاریته و یعوّضه بما انتفع، قال: کان معناه قیمة الولد.(4) الظاهر أنّ التفسیر من زرارة.

ص:301


1- (1) تذکرة الفقهاء 2/382 من الطبع الحجری.
2- (2) منیة الطالب 1/263 و 264.
3- (1) قد تنبّه لنفی الکبری المحقّق الخمینی فی البیع 1/258.
4- (2) وسائل الشیعة 21/204، ح2، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.

و ثانیا: یردّ علیه و علی الشیخ الأعظم حیث أنکر أنّ الاستیلاد هو استیفاء المنفعة خبر زرارة حیث عدّ فیه الولد بأنّه منفعة مستوفاة کما یظهر من قوله علیه السلام : «بما انتفع»، و لم یذکر فیه استیفاء منفعة اُخری من منافع الجاریة.

و ثالثا: أنکر علی الشیخ الأعظم الأولویة و قال: «فضمان الولد الذی یرجع إلی ضمان قیمته لکونه حرّا، إنّما هو من جهة تبعیة المنافع التالفة للعین المضمونة فیدلّ الخبر علی ضمان العین لا للألویة، بل لأنّ ضمان العین صار سببا لضمان التالف». فکأنّه قبل ما أنکره من کون الولد منفعة، و کذا لایتم من إنکاره للأولویة، لأنّ تأمّل بعضهم فی ضمان المنافع المستوفاة فی صدق الأخذ علیها و انحصار حدیث الید بما یقبل الردّ إلی مالکه - و هو العین - . و علیه فإذا حکم الشارع بضمان قیمة الولد الذی هو من قبیل منفعة الجاریة کان ضمان نفسها ثابتا بالأولویة، مع اعترافه قدس سره بتسبّب ضمان المنفعة عن ضمان العین.

و رابعا: قال قدس سره : «فلیس استیلاد الأمة إلاّ من قبیل منع المالک من السکون فی داره» حیث شابه الاستیلاد بمنع المالک عن استیفاء منفعة ملکه، و الوجه فی عدم تمامیته أنّ الوطی لیس سببا للحمل بل إنّما هو معدّله فتشبیهه بمنع المالک الذی یکون سببا لعدم استیفائه منافع ملکه غیر تام. کما یمکن القول بوجود الضمان فی المشبه به، علی ما قد یقال، خلافا للعلاّمة فی التذکرة کما مرّ و فی التحریر قال: «ولو حبس صانعا مدّة عن عمله فکذلک لا یضمن اُجرته، و لایضمن الحرّ لو غصبه و إن کان صغیرا»(1).

مقالة المحقّق الأصفهانی و مناقشتها

قال الأصفهانی: یمکن أن یقال: إنّ النطفة و إن کانت من الرجل إلاّ أنّها لما کانت

مُکَمَّلَةً بدم الاُمّ و کانت تکوّنها حیوانا بالقوی المودعة فی الرحم، فکأنّ صیرورتها حیوانا

ص:302


1- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 4/520.

من قبل الاُمّ فقد أتلفها الرجل علی الأب(1)، خصوصا إذا قیل بتکوِّنه من نطفة المرأة و کان اللقاح من الرجل، أو قلنا بأنّ الولد ینعقد رقّا و إنّما یصیر حرّا بالولادة فإنّه إتلاف حقیقة»(2).

و فیه: أوّلاً: الولد یتکوّن من نطفتی الرجل و المرأة معا لا من الرجل فقط و لا من المرأة فقط، و الرحم یکون محل نشوئه عرفا و حقیقة، نعم، قد یقال بإمکان تکثیر السلول الواحد من الانسان و الحیوان و هو عملیة الاستنساخ البشری أو الحیوانی ولکن هذه العملیه غیر الاستیلاد.

و ثانیا: صیرورة نطفة الرجل حیوانا بما ذکر لا توجب أن یکون الولد لصاحب الجاریة حتّی یصیر التحریر إتلافا لِمالِهِ، بل لازمه - لو سلم - أن یکون صاحب الولد ضامنا للدم التالف و قیمة القوی المودعة، لا لقیمة الولد و لا سیّما إذا قلنا بضمان یوم الأداء.

و ثالثا: علی فرض کون النطفة من المرأة فإن الولد الحاصل من نطفتها یصیر ولدا للأب و یخرج عن الملک فلو کان ذلک موجبا للضمان فلابدّ من تقویمه حال کونه فی جوف اُمّه و حال الولادة - أی حال الخروج عن ملک صاحبه - لا التقویم فی زمن الأداء.

و رابعا: الخروج بالحکم الشرعی یکون من قبیل التلف السماوی لا الإتلاف و لا الإتلاف بالتسبیب، فإنّ السبب للحکم الشرعی - و هو الولادة - لیس فعله، بل نتیجة فعله یکون موضوعا للحکم.(3)

ص:303


1- (1) کذا فی المطبوعتین من الکتاب، ولکن الصحیح «المالک» کما نبه علیه المحقّق الخمینی فی البیع 1/257.
2- (2) حاشیة المکاسب 1/304.
3- (3) الثلاثة الأخیرة کانت للسیّد الخمینی رحمه الله فی بیعه 1/257.
مقالة المحقّق الإیروانی و نقدها

قال الإیروانی: «یمکن أن یقال: إنّ المشتری استوفی منفعة الرحم باشتغاله بمائه أو لاأقل من أنّه أتلف منفعته علی المالک بذلک، فإنّه(1) کان مستعدا لإنماء نطفة الرّق فسلب عنه ذلک بإشغاله بنطفته، و بهذا یصدق الإتلاف و لا یتوقّف صدقه علی فعلیّة النماء، فمن سقی أشجار الغیر المستعدة للأثمار مائا مالحا منعه عن الإثمار یصدق أنّه أتلف ثمرها...»(2).

و فیه: أوّلاً: الولد لا یعدّ منفعة الرحم و لیست نسبة الرحم إلی الولد کنسبة الثمرة إلی الشجرة بل هو محل نشوئه و ارتقائه عرفا و حقیقة، نعم یصدق أنّه منفعة الجاریة کما مرّ.

و ثانیا: ثم علی فرض صحة استیفاء منفعة الرحم لا یوجب أن یکون المضمون قیمة الولد، بل المضمون حینئذ الدم التالف و قیمة القوی المودعة و هو کما تری.

و ثالثا: علی فرض تمامیة ما ذکره و ضمان الولد لابدّ أنْ تکون قیمة یوم الولادة هی المتعیّنة لا قیمة الولد یوم الأداء و بینهما بون.

مقالة المحقّق الخمینی

ذکر قدس سره خبر زرارة قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجل اشتری جاریة من سوق المسلمین فخرج بها إلی أرضه فولدت منه اُولادا، ثم إنّ أباها یزعم أنّها له و أقام علی ذلک البینة، قال: یقبض ولده و یدفع إلیه الجاریة و یعوّضه فی قیمة ما أصاب من لبنها و خدمتها.(3)

ثم قال قدس سره : «و فی قوله علیه السلام : «و یعوضه» الخ احتمالان: أحدها: أنّ ما أصاب من لبنها و خدمتها أیّ المنافع المستوفاة منها جعل عوضا من قیمة الولد، فقدّر القیمة بما أصاب منها

ص:304


1- (4) أیّ الرحم.
2- (5) حاشیة المکاسب 2/112.
3- (1) وسائل الشیعة 21/204، ح4.

تعبدا، و الثانی: ولو بملاحظة سائر الروایات أنّ قیمة الولد تقدیر لما أصاب من اللبن و الخدمة، فقیمته علی هذا لیست لأجل استیفاء المنفعة التی هی الولد و لا بازاء تفویت منافع الجاریة و لا لأجل ضمان الید علی الجاریة و یتبعه ضمان المنافع بل لأجل استیفاء سائر المنافع أی اللبن و الخدمة، لکن لمّا کان قدرهما ربما یکون مجهولاً أو مَعْرَضا للنزاع قدّره الشارع علی قیمة الولد، تأمل»(1).

و فیه: أوّلاً: الظاهر بقرینة بقیة روایات الباب(2) یحمل «قیمة ما أصاب من لبنها» علی قیمة الولد.

و ثانیا: فی هذه الروایة زیادة لابدّ من الأخذ بها و هی ضمان خدمة الجاریة علی البائع لانّها معطوفة علی «ما أصاب من لبنها» و ظهور العطف فی المغایرة و التعدد ثابتٌ.

و بالجملة: فی هذه المسألة ترجع الجاریة إلی مالکها و یدفع صاحب الولد قیمته إلی

المالک مع ضمان خدمة الجاریة. و للمشتری أن یرجع فی قیمة الجاریة و الولد إلی مَنْ غرّه بقاعدة الغرور. و الظاهر أنّ ضمان الولد فیها یکون من قبیل ضمان التلف الحکمی کما علیه الشیخ الأعظم، لا ضمان قاعدة الإتلاف أو ضمان التسبیب أو ضمان استیفاء المنافع.

ولکن العمدة فی المقام عدم دلالة هذه الروایات علی ما کنّا بصدد اثباته، لأنّ البائع فی هذه الرّوایات یکون غاصبا و لذا لا یتوهم أحدٌ عدم الضمان منه حتّی إذا کان العقد غیر معاوضی کالهبة. ولکن فی بحث ضمان المقبوض بالعقد الفاسد لا یکون البائع غاصبا بل یکون مالکا و فی هذه الصورة یثبت الضمان أیضا هو أوّل الکلام و الروایات الماضیه لا تدل علی ذلک کما نبّه علیه المحقّق السیّد الخوئی(3) رحمه الله ص:305


1- (2) البیع 1/259.
2- (3) وسائل الشیعة 21/204، ح2 و 3 و 5، من الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
3- (1) مصباح الفقاهة 3/90.

نعم: یظهر من العلاّمة عدم الفرق بین البائع المالک و الغاصب قال: «و لا یملک المشتری ما یقبضه بالبیع الفاسد، سواء کان البائع المالک أو الغاصب أو غیرهما، و یضمنه و ما یتجدّد من نمائه و ما یزداد به قیمته لزیادة صفة...»(1).

الرابع: قاعدة ما یُضمن بصحیحه یُضمن بفاسده
اشارة

هذه القاعدة و مفهومها(2) أو سالبتها(3) أو نقیضها(4) - و لا عکسه(5) - و هی ما لایضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده، وردت فی کلام العلاّمة حیث قال: «إذا فسد الرهن و قبضه المرتهن لم یکن علیه ضمان لأنّه قبضه بحکم أنّه رهن، و کلّ عقدٍ کان صحیحه غیر مضمون ففاسده کذلک و کلّ عقد کان صحیحه مضمونا ففاسده مثله. أمّا الأوّل: فلانّ الصحیح إذا أوجب الضمان فالفاسد أولی باقتضائه. و أمّا الثانی: فلأنّ من أبثت الید علیه أثبته عن إذن المالک و لم یلتزم بالعقد ضمانا، و لا یکاد یوجد التسلیم و التسلّم إلاّ من معتقدی الصحة»(6).

الظاهر وقوع السهو من قبل النساخ فی العبارة بتبدیل الأوّل بالثانی و بالعکس.

و ورد نظیرها فی کتاب الاجارة منها.(7)

و هکذا یظهر من کلمات الشیخ فی موارد من العقود الفاسدة کما فی غصب المبسوط:

منها: قال: «فإن کان المبیع قائما ردّه، و إن کان تالفا ردّ بدله، إن کان له مثل و إلاّ

ص:306


1- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 4/543.
2- (3) کما فی الجواهر 22/259.
3- (4) کما فی الجواهر 27/252.
4- (5) کما فی هدی الطالب 3/57.
5- (6) کما فی المکاسب 3/182.
6- (7) تذکرة الفقهاء 13/251، مسألة 174.
7- (8) تذکرة الفقهاء 2/318 من الطبع الحجری.

قیمته لأنّ البائع دخل علی أن یسلم له الثمن المسمّی فی مقابلة ملکه فإذا لم یسلم له المسمّی اقتضی الرجوع إلی عین ماله، فإذا هلکت کان له بدلها، و کذلک العقد الفاسد فی النکاح یضمن المهر مع الدخول، و کذلک الإجارة الفاسدة، و الباب واحد»(1).

و منها: قال: «و إن کان مع الجهل بالحال فکلّما دخل المشتری علی أنّه یملکه ببدل و هو أرش البکارة و نقصان الولادة و قیمتها إن ماتت لایرجع به علی الغاصب، لأنّه قد دخل علی أنّه مضمون علیه بالثمن فإذا تلفت فی یده استقرّ الثمن علیه»(2).

و منها: قال: «إذا غصب ثوبا فباعه فنقص فی ید المشتری کان للمالک أخذ ثوبه و له أن یطالب بأرش النقص من شاء منهما، یطالب الغاصب لأنّه سبب ید المشتری و یطالب المشتری لأنّه نقص فی یده، فإن طالب الغاصب رجع بما غرم علی المشتری و إن طالب المشتری لم یرجع بما غرم علی الغاصب، لأنّه دخل علی أنّ العین علیه مضمونا بالبدل، فإذا ذهب بعضها کان بدل الذاهب علیه»(3)

و منها: قال: «و هکذا کلّ ما کان قبضا مضمونا مثل أن یأخذ علی سبیل السَّوْم أو علی أنّه بیع صحیح، أو کان ثوبا فأخذه علی أنّه عاریة مضمونة، فکلّ هذا یستقرّ علیه، لأنّه دخل علی أنّه مضمون علیه، فلم یکن مغرورا فیه»(4).

و هکذا استفاد أصلها و نقیضها من رهن المبسوط حیث قال: «إذا رهن رجل عند غیره شیئا بدین إلی شهر علی أنّه إن لم یقبض إلی محلّه کان بیعا منه بالدین الذی علیه لم یصح الرهن و لا البیع اجماعا لأنّ الرهن موقت و البیع متعلّق بزمان مستقبل، فإن هلک هذا

ص:307


1- (1) المبسوط 3/65.
2- (2) المبسوط 3/68.
3- (3) المبسوط 3/85.
4- (4) المبسوط 3/89.

الشیء فی یده فی الشهر لم یکن مضمونا علیه لأنّ صحیح الرهن غیر مضمون علیه فکیف فاسده و بعد الأجل فهو مضمون علیه لأنّه فی یده ببیع فاسد، و البیع الصحیح و الفاسد مضمون علیه إجماعا»(1).

و الحاصل: إنّ هذه القاعدة و نقیضها و إن لم یُصَرَّحْ بها فی کلام مَنْ تقدّم علی العلاّمة إلاّ أنّها مذکورة فی کلمات الشیخ تلویحا کما مرّ و حیث یُعبّر عن الشیخ بأنّه لسان المتقدمین فیظهر أنّ القاعدة کانت متداولة بینهم.

و الشهید الثانی بعد اعترافه بالقاعدة وکلّیتها فی مواضع، قال فی إحداها: «لم یخالف فیها أحد»(2) و منها: عاریة المسالک قال: «و أمّا مع فسادها فلأنّ حکم العقد الفاسد حکمُ الصحیح فی الضمان و عدمه - کما أسلفناه فی مواضع - قاعدة کلیة»(3).

ولکن تأمل فی کلیّة أصلها فی سبق المسالک و قال: «و قاعدة أنّ کلّ ما کان صحیحه موجبا للمسمّی ففاسده موجب لاُجرة المثل لا دلیل علیها کلیة، بل النزاع واقع فی بعض مواردها، فکلّ ما لا إجماع و لا دلیل صالح یدل علی ثبوت شیءٍ فالأصل یخالف مدّعی القاعدة»(4).

و تبعه فی المناقشة المحقّق الأردبیلی و تنظّر فی أصلهاو نقیضها حیث قال فی المقبوض بالسَّوْم(5) أو البیع الفاسد: «دلیلهم الخبر المشهور «علی الید ما أخذت حتّی تؤدی» و

ص:308


1- (5) المبسوط 2/204.
2- (1) المسالک 4/56.
3- (2) المسالک 5/139.
4- (3) المسالک 6/110.
5- (4) المقبوض بالسَّوْم: أیّ أنّ المال الذی اُخذ للبیع أو الشراء مضمون مثل الغصب. کذا فی مجمع الفائدة 8/192.

«القاعدة المشهورة کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده» و «ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده» و صحتهما غیر ظاهر، و الأصل یقتضی العدم»(1)

ثم یقع الکلام فی هذه القاعدة ضمن مقامات:

المقام الأوّل: معانی ألفاظ القاعدة
اشارة

و هو متضمن لجهات من البحث:

الجهة الاولی: ما المراد من العقد؟

قال الشیخ الأعظم: «إنّ المراد بالعقد أعمّ من الجائز و اللازم بل ممّا کان فیه شائبة الإیقاع أو کان أقرب إلیه فیشمل الجعالة و الخلع»(2).

العقد اللازم نحو: البیع و الصلح و النکاح، و الجائز منه نحو: الهبة و الوکالة، و ما کان فیه شائبة الإیقاع مثّل به الجعالة و الخلع:

أما الجعالة: فهی عند جماعة من الأصحاب عقد جائز نحو: الشیخ(3) و ابن حمزة(4) و العلاّمة فی تذکرة الفقهاء(5) و الإرشاد(6) و ابنه فی الایضاح(7) و الشهید(8) و المحقّق الثانی(9).

ولکن المحقّق الحلّیّ جعلها فی قسم الایقاعات من الشرائع(10) و تبعه صاحب

ص:309


1- (5) مجمع الفائدة و البرهان 8/192.
2- (6) المکاسب 3/183.
3- (1) المبسوط 3/333؛ النهایة /323.
4- (2) الوسیلة /272.
5- (3) تذکرة الفقهاء 2/288 من الطبع الحجری.
6- (4) إرشاد الأذهان 1/430.
7- (5) ایضاح الفوائد 2/162.
8- (6) الدروس 3/100.
9- (7) جامع المقاصد 6/189.
10- (8) الشرائع 3/126.

الجواهر و قال: «و لعلّه الأصح»(1).

و أمّا الطلاق الخلعی ففیه أیضا احتمالان بل قولان، أحدهما: کونه عقدا کما علیه الأصحاب و اعترف بأنّ الخلع من عقود المعاوضات الشهید الثانی فی المسالک(2).

و ثانیهما: کونه جعالةً أو فداءً و ذهب الشهید الثانی بأنه «لایعلم قائله من الأصحاب لکنّه مذهب جمیع مَنْ خالفنا مِن الفقهاء [العامة] إلاّ من شذ منهم»(3).

ثم إنّ الشهید الثانی رجَّح جانب الفداء و الجعالة(4) و احتمله الفاضل الأصفهانی فی کشفه و قال: «و یحتمل الصحة بناءً علی أنّ البذل لیس إلاّ افتداءً أو جعالة... - ثم ضعّفه و قال: - و یضعِّف بأنّ الکلام فی صحته علی وجه یکون عوض الخلع و وقوعه خلعا...»(5).

و هذه الوجوه اُوجبت تردد الشیخ الأعظم فی کون الجعالة أو الخلع عقدا جائزا أو إیقاعا و لذا قال: «ممّا کان فیه شائبة الایقاع»(6) و لعلّ مراده قدس سره کلّ ما اشتمل علی المعاوضة من العقود و الایقاعات.

و لذا ذهب الفاضل المراغی إلی أنّ أصل القاعدة یختص بعقود المعاوضات و نقیضها یشمل الأمانات کالودیعة و رأس مال المضاربة و العین المستأجرة - دون منفعتها - والعقود المجانیة: کالهبة بلاعوض.(7)

ص:310


1- (9) الجواهر 35/189.
2- (10) المسالک 9/392.
3- (11) المسالک 9/392.
4- (12) المسالک 9/393.
5- (13) کشف اللثام 8/206.
6- (14) المکاسب 3/183.
7- (1) العناوین 2/463.
الجهة الثانیة: ما المراد من الضمان؟
اشارة

الضمان تارة یراد به المعنی المصدری أی جعل الشیء فی العهدة و یقال له بالفارسیة: «عهده گرفتن و شی ء را در عهده قرار دادن» کما فی قاعدة الخراج بالضمان، و اُخری یراد به معنی الاسم المصدری أی مطلق کون الشیء فی العهدة ولو بسبب غیر اختیاری کما فی قاعدة ما یُضمن.

أمّا الأوّل: قاعدة «الخراج بالضمان» کما ورد فی الحدیث النبوی(1) فیدلّ أنّ النماء ملکٌ له أعنی أنّ کلّ من تعهّد ضمان شیء بالتضمین المعاملی فمنافعه له، و هذا من غیر فرق بین أن یکون التضمین علی نحو یفید الإباحة أو التملیک فإنّ مقتضی إطلاقه کون منافعه للضامن.

و بالجملة: مقتضی الضمان المعاوضی أن تکون المنافع ملکا للضامن، و النبوی یکون بمنزلة الحکم المعلل لأنّه یتعرّض لمنشاء ملکیة النماء فإنّ الباء فی قوله صلی الله علیه و آله : «بالضمان» بمعنی المقابلة فحینئذ یکون قاعدة تبعیّة النماء للعین ناظرة إلی اقتضائها بحسب طبعها الأصلی - مضافا إلی عدم ورودها فی النصوص و مدرکها لا یکون إلاّ الاجماع أو العقل و کلاهما لُبیّان و لیس لهما اطلاق حتّی یعارضا النبوی - و أمّا إذا اقتضت معاملة انفکاک النماء عن العین فی الملک فلا تنافی بینها و بین الملازمة فی الملکیة بحسب الطبع الأصلی.

و بعبارة أوضح: الخراج فی الحدیث یراد منه مطلق المنافع الحاصلة من الأعیان، و المراد بالضمان فیه المعنی المصدری أیّ بالفارسیة «عهده گرفتن و شی ء را در عهده قرار دادن» و جعله فی العهدة ببذل العوض فی مقابله کما فی البیع و ما یدل علی جعله فی العهدة ببذل عوضه و ثمنه کلمة «الباء» الوارد علی الضمان لأنّها تدل علی المقابلة و السببیة بحیث

ص:311


1- (2) سنن ابن ماجه 2/754، ح2243، سنن البیهقی 5/321؛ عوالی اللآلی 1/219، ح89.

بعد الانتفاع بالمنفعة تکون العین باقیةً و لا تکون تالفةً کالانتفاع بالخبز و اللحم، و ظاهر المقابلة و السببیة أیضا یدلّ علی أنّ الضمان یوجب جواز الانتفاع بالمنفعة و هذا لا یکون إلاّ فی العقد الصحیح لا الفاسد.

و الحاصل: الروایة تدل علی أنّ المنفعة لِمَنْ یکون علی عهدته الضّمان بالمعنی المصدری - أی قبل عهدة الشیء - العین فی صورة بقاء العین و فی صورة العقد الصحیح.

نحو جواز الانتفاع بالعین - مثل الدار - لمن باعه و شراط لنفسه الخیار لسنتین فیجوز له الانتفاع به ولو فسخ العقد لا یکون ضامنا لمنفعة الدار لأنّ الخراج بالضمان.(1)

فظهر ممّا ذکرنا أنّ الضمان فی النبوی لیس بمعنی الإسم المصدری بأن مَنْ یکون ضامنا لشیءٍ - سواء کان منشاء الضمان هو الغصب أو غیره - فمنفعته له، لأنَّ هذا المعنی هو الذی أفتی به أبوحنیفة و قال أبوعبداللّه علیه السلام فی شأنه: فی مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها و تمنع الأرض برکتها.(2)

هذا معنی الضمان بالمعنی المصدری(3) و لیس المراد بالضمان فی قاعدة ما یُضمن هذا المعنی.

و أمّا الثانی: قاعدة «ما یُضمن بصحیحة یُضمن بفاسده» و نقیضها، فالضّمان فیها بمعنی الاسم المصدری لأنّه یتناسب مع بناء یُضمن للمفعول.

ثم ذکروا للضمان بهذا المعنی ثلاثة أقوال:

الأول: لزوم درک المضمون علیه بمعنی کون دَرَکه و خسارته فی ماله الأصلی أی

ص:312


1- (1) فی هذا المجال راجع المبسوط 2/126 و المکاسب و البیع 1/330 و ما بعدها، و هو تقریرات المحقّق النائینی بقلم العلاّمة الشیخ محمّد تقی الآملی.
2- (2) وسائل الشیعة 19/119، ح1، الباب 17 من أبواب کتاب الإجارة.
3- (3) راجع منیة الطالب 1/142 و 143.

کون درک المضمون و خسارة تلفه علی الضامن بأن یجب علیه تدارکه بأداء بدله من ماله و هو مختار الشیخ الأعظم(1).

الثانی: کون تلفه فی ملک الضامن أی کلّ ما یقتضی صحیحة أن یکون المدفوع لو تلف، تلف فی ملکه ففاسده أیضا کذلک، و بعبارة أوضح: أنّ الضمان بمعنی الخسارة الواردة علی مال الضامن و وقوع التلف فی ملکه، کما یظهر من صاحب الریاض(2)، و نسبه النائینی(3) إلی العلاّمة فی الأوانی المکسورة و صاحب المقابس فی مطلق الضمانات ولو فی غیر باب الإتلاف کباب المغصوب و نحوه، و کذلک المامقانی(4) نسبه إلی الشیخ علی ما فی

حواشی الروضة، ولکن لم أجد النسبتین مع تتبعی.

الثالث: مطلق التعهد الجامع بین فرض التلف و عدمه، فالتعهد فی الموجود بحفظه و حراسته و ردّه إلی صاحبه، و فی التالف بردِّ مثله أو قیمته، و هو مختار المحقّقِ المیرزا حبیب اللّه الرشتی(5) فی رسالته فی الغصب، و المحقّقیْنَ النائینی(6) و الأصفهانی فی حاشیته(7) و الإیروانی(8)و السادة البجنوردی(9) و الحکیم(10) و المروج(11) قدس سرهم .

ص:313


1- (4) المکاسب 3/183.
2- (5) ریاض المسائل 8/254.
3- (6) منیة الطالب 1/265.
4- (7) غایة الآمال /277.
5- (1) کما نقل عنه صاحب بُغیة الطالب 1/199.
6- (2) المکاسب و البیع 1/300.
7- (3) حاشیة المکاسب 1/309.
8- (4) حاشیة المکاسب 2/113.
9- (5) القواعد الفقهیة 2/111.
10- (6) نهج الفقاهة /196.
11- (7) هدی الطالب 3/112.

و القائل بالقول الثانی عدل عن القول الأوّل لأنّ: المقبوض بالعقد الفاسد لو تلف بید المشتری کانت خسارته علیه و وجب دفع بدله إلی البائع و أمّا فی العقد الصحیح فلا یتصور معنی للضمان - بهذا المعنی أی تدارک مال الغیر - لأنّ المال حینئذ تلف من ملکه و فیه، لا من ملک البائع حتّی یجب علی المشتری تدارکه و لذا لم یتضح المراد من کلمة الضمان فی أوّل القاعدة: «ما یضمن بصحیحه». و هذا الأمر صار موجبا للعدول إلی القول الثانی.

و اعترض علیه الشیخ الأعظم بقوله: «فلیس هذا معنی للضمان أصلاً، فلا یقال: إنّ الانسان ضامن لأمواله»(1). و مراده عدم صدق الضمان علی تلف المال المملوک لشخصٍ أنّه ضامن لماله التالف، بل المناط فیه تدارک الخسارة الواردة علی المالک إذا تلف ماله عند غیره بلا إذنه أو أتلفه ذلک الغیر.

و ما یوجب عدوله إلی القول الثانی أیضا لا یتم لأنّ المراد بالضمان فی العقود الصحیحة هو الضمان المعاوضی و هو «یکون بأداء عوضه الجعلی الذی تراضی هو و المالک علی کونه عوضا و أمضاه الشارع، کما هو المضمون بسبب العقد الصحیح»(2). ثم لإثبات مختاره تمّمه بقوله: «و اُخری: بأداء عوضه الواقعی و هو المثل و القیمة و إن لم یتراضیا علیه.

و ثالثة: بأداء أقل الأمرین من العوض الواقعی و الجعلی کما ذکره بعضهم فی بعض

المقامات مثل تلف الموهوب بشرط تعویض قبل دفع العوض»(3).

و مراده ببعضهم هو المحقّق الثانی فی جامع المقاصد حیث قال معلِّقا علی قول العلاّمة «فإن اوجبناه فالأقرب مع التلف ضمان أقل الأمرین من العوض و قیمة الموهوب»(4) بقوله:

ص:314


1- (8) المکاسب 3/183.
2- (9) المکاسب 3/183.
3- (1) المکاسب 3/183.
4- (2) قواعد الأحکام 2/409.

«وجه القرب: إنّ المتهب مخیّر بین الأمرین فالمحقَّق - اللزوم - هو الأقل، و لأنّه إن کان العوض أقل فقد رضی به الواهب فی مقابل العین.

و إن کان الموهوب أقل فإن المتهب لا یجب علیه العوض، بل للواهب الرجوع فی العین فلا یجب أکثر من قیمتها، و یحتمل قیمة الموهوب وقت تلفه لأنّه مضمون فوجب ضمانه بالقیمة، و یضعّف بأنّ له إتلافه بالعوض لأنّه قد سلطه علی ذلک و الأصح الأوّل»(1).

و تبعه ثانی الشهیدین و قال: «إذا تقرر ذلک و قلنا بالضمان مع التلف فهل الواجب مثل الموهوب أو قیمته أو أقل الأمرین من ذلک و من العوض؟ وجهان، أجودهما الثانی لما عرفت من أنّ المتهب مخیّر بین الأمرین و المحقّق لزومه هو الأقل لأنّه إن کان العوض الأقل فقد رضی به الواهب فی مقابلة العین، و إن کان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا یتعیّن علیه العوض بل یتخیّر بینه و بین بذل العین، فلا یجب مع تلفها أکثر من قیمتها. و هذا هو الأقوی»(2).

ولکن صاحب الجواهر قال بعد نقل مقال الشهید الثانی: «و لا یخفی علیک ما فیه بعد فرض عدم انفساخ العقد بذلک و الاکتفاء بردّ العین مع وجودها لا یقتضی الاکتفاء بقیمتها بعد تلفها، بل اللازم من اقتضاء قاعدة تعذر أحد فردی المخیّر التی اعترف بها تعیّن الفرد الثانی فتأمل جیدا...»(3).

و اختار الفقیه الیزدی قول صاحب الجواهر فی المقام و حیث أنّ فی کلامه تحقیقا فی مسألتنا هذه نذکر کلامه بعینه قال: «اختلفوا فیما إذا تلفت العین الموهوبة بشرط التعویض قبل دفع العوض علی أقوال:

ص:315


1- (3) جامع المقاصد 9/178.
2- (4) المسالک 6/63.
3- (5) الجواهر 28/210.

أحدها: ما فی الشرائع(1) و عن الفاضل(2) و ولده(3) من عدم الضمان و عدم وجوب

العوض.

الثانی: ما عن جماعة(4) من تعیّن دفع العوض المسمی لأنّه قبل التلف کان مخیّرا بین دفعه ورد العین، و إذا تعذّر الثانی تعیّن الأوّل بعد عموم وجوب الوفاء بالعقد.

الثالث: ما عن المسالک(5) من وجوب أقل الأمرین فقد رضی به الواهب فی مقابل العین و إن کان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا یتعین علیه العوض بل یتخیر بینه و بین العین، فلا یجب علیه مع تلفها أکثر من قیمتها، و المصنف [الشیخ الأعظم] أشار إلی القول الثالث.

و لا یخفی أنّ الأقوی هو الثانی بناءً علی التخییر مع بقاء العین کما لا یخفی، لکن الکلام فی صحة المبنی و إن ذهب إلیه جمع(6)، فإن مقتضی القاعدة وجوب دفع المسمی معینا لعموم وجوب الوفاء بالعقود.

نعم، یتعین ما فی المسالک لو قلنا - فی صورة بقاء العین - بعدم وجوب دفع المسمی، و أنّ للواهب الرجوع فی عینه، لا أن یکون المتهب مخیّرا، إذ حینئذ لو تلفت العین أیضا لا یجب علیه دفع العوض، فللواهب أخذ قیمة العین الموهوبة، لکن هذا غیر ماذکره صاحب المسالک من الوجه کما لا یخفی.

ص:316


1- (6) الشرائع 2/182 ولکن فیه بعد الحکم بعدم الضمان قال: «و فیه تردد».
2- (7) تذکرة الفقهاء 2/422 من الطبع الحجری - و تنظّر فی التضمین فی القواعد 2/409 و قال فیه: «ففی تضمین نظر، فإن اوجبناه فالأقرب مع التلف ضمان أقل الأمرین من العوض و قیمة الموهوب».
3- (8) ایضاح الفوائد 2/420.
4- (1) و منهم صاحب الجواهر 28/210 کما مرّ.
5- (2) المسالک 6/63 تبعا لصاحب جامع المقاصد 9/178 کما مرّ.
6- (3) کالمحقّق فی الشرائع 2/182 و العلاّمة فی القواعد 2/409.

ثم لا یخفی أنّه علی أیّ حالٍ لا یکون من التخییر بین العوض الواقعی و الجعلی حسب ما رامه المصنف، و ذلک لأنّه مخیر بین دفع العوض المسمی و دفع العین بدفع قیمتها بناءً علی ما فی المسالک من الوجه، و هذا لیس تخییرا إلاّ بین العوض أو العین، لا بین نوعی العوض، فتأمل.

و أمّا علی وجهنا فالأمر أوضح لأنّه إنّما یتعین دفع العوض الواقعی بعد عدم الوفاء بالعقد المفروض عدم وجوبه، فیکون من باب الفسخ، و الحکم بدفع العوض الواقعی لکون یده ید ضمان فتدبّر و للکلام فی المسألة مقام آخر»(1).

أقول: لا أدری ما الفرق بین العوض الواقعی و الجعلی و ما ذکره من العوض المسمی و دفع العین بدفع قیمتها، و هل العوض المسمی غیر العوض الجعلی، و هل العوض الواقعی غیر دفع العین بدفع قیمتها - لو کانت قیمیّة - فما ردّ به علی الشیخ الأعظم غیر تام و لعلّ أمره بالتأمل فی آخر إشکاله إشارة إلی ما ذکرناه.

و الحاصل: ذهب الشیخ الأعظم إلی أنّ «المراد بالضمان بقول مطلق هو لزوم تدارکه بعوضه الواقعی لأنّ هذا هو التدارک حقیقة»(2).

و استشهد علی مختاره بأنّ اشتراط الضمان فی العاریة یحمل علی ذلک و کذلک ما ورد فی أخبار ضمان المضمونات من المغصوبات(3) و غیرها(4).

ص:317


1- (4) حاشیة المکاسب 1/(456-454).
2- (1) المکاسب 3/184.
3- (2) لم أجد فی کتاب الغصب من وسائل الشیعة 25/(393-385) ما ورد فیه لفظة ضمان إلاّ صحیحة أبی ولاد 25/390، ح1، الباب 7، و قد مرّ منّا آنفا أنّ المراد بها الضمان بالمعنی المصدری لا معنی الاسم المصدری الذی هو محلّ الکلام.
4- (3) نعم وردت لفظة ضمان فی الودیعة من کتاب وسائل الشیعة 19/81، ح1، الباب 5 من أبواب کتاب الودیعة، و فی ضمان العاریة إذا اشترط راجع وسائل الشیعة 19/91، ح1، الباب 1 من أبواب کتاب العاریة، و 19/96، ح1 و 19/97، ح1، و ما ورد فی ضمان الصنّاع راجع وسائل الشیعة 19/141، الباب 29 من أبواب کتاب الإجارة ح1 و 6 و 10 و 19، و ما ورد فی ضمان الحمّال و نحوه راجع وسائل الشیعة 19/148، الباب 30 من أبواب کتاب الإجارة، ح4 و 8 و 13.

ثم تعرض لمقالة الشیخ جعفر حیث قال فی شرح القواعد بعد ذکر القاعدة: «و هی صریحة فی أصل الضمان إلاّ أنّها یُحتمل فیها وجهان: أحدهما: الضمان بمقدار ما أقدم علیه من المقابل، ثانیهما: قیمته ما بلغت و هو الظاهر»(1).

و استشکل علیه بأنّه مع فرض فساد العقد لا وجه لحمل الضمان علی الضمان المسمی و هو کلام متین، إلاّ یمکن أن یدفع عن الشیخ جعفر هذا الإشکال بحمل القیمة فی کلامه علی الثمن أو الضمان المسمی أو الضمان الجعلی ولکن هذا یتم فی الجملة الاُولی من القاعدة أی «ما یضمن بصحیحه» فقط، و یمکن حمل القیمة علی القیمة السوقیة فی القیمیات فحینئذ یتم فی الجملة الثانیة من القاعدة «یضمن بفاسده» فقط. و هذا الحمل فی کلامه و إن کان خلاف الظاهر ولکن لابدّ منه تحفظا من ورود واضح الإشکال فی کلام الأبطال.

المختار فی معنی الضمان

الظاهر بمساعدة الروایات الواردة فی کتاب الضمان(2) أنّه عبارة عن التعهد و الالتزام بمال الغیر(3) و هو یصدق مع وجود عینه بردِّه کما فی المال المغصوب و مع تلفه بدفع بدله

ص:318


1- (4) شرح القواعد 2/34.
2- (1) راجع کتاب الضمان من وسائل الشیعة 18/422، ح1 و 2 و 3 من الباب 2 من أبواب الضمان، و 18/423، ح 1 و 2 و 3 من الباب 3، و 18/425، ح1، من الباب 4، و نحوها من الروایات.
3- (2) و یؤید هذا المعنی کلمات اللغویین، قال الفیّومیُّ فی المصباح المنیر 364: «ضمنتُ المال و به ضمانا فأنا ضامنٌ و ضمینٌ التزمته التزمْتُهُ»، و قال الجوهریُّ فی صحاح اللغة 6/2155: «ضمنتُ الشیء ضمانا کلَّفتُ به فأنا ضامن و ضمین».

- مثلیّا أو قیمیّا کان - و مع وجود العقد الصحیح بدفع المسمی و ما یجعل بین الطرفین من العوض و هذه الاختلافات من مصادیق الضمان، أو فقل من لوازمه و هو ناشئة من الاختلاف فی أسباب الضمان.

و ممّا ذکرناه یظهر أنّ تفسیر الشیخ الأعظم للضّمان من کون درک المضمون علیه تفسیر باللازم أو ذکر أحد مصادیقه.

و أبعد منه تفسیره بکون تلفه فی ملک الضامن، و وقوع تلفه فی ملکه ولو آنا ما قبل تلفه لعدم الموجب لتقدیر هذا الملک، و لا یمکن القول بهذه الملکیة و هی آنا ما قبل التلف إلاّ فی موردین:

أحدهما: مورد الحکم بتحقّق علّة الملکیة.

و ثانیهما: مورد الحکم بتحقّق معلولها.

و فی المقام لیس شیء منهما بمتحقّق لأنّ الحکم بضمان المثل أو القیمة لا یلازم الملکیة بوجهٍ من الوجوه بل یلازم عدمها - کما قاله المحقّق النائینی(1) - .

فظهر أنّ معنی الضمان هو التعهد - کما علیه المحقّقون الرشتی و النائینی و الأصفهانی و الإیروانی و البجنوردی و الحکیم و المروج قدس سرهم کما مرّ - وردّ العین أو مثلها أو قیمتها أو ثمنها لیس إلاّ مصادیقه.

و لا ینقضی تعجبی من المحقّق الخراسانی رحمه الله لأنّه قال: «و حیث أنّ هذه القاعدة بألفاظها، لیست ممّا دلّت بها آیة و لا وردت فی روایة و ما وقعت فی معقد اجماع لم یکن بیان معناها من المهم بشیء، ضرورة أنّه لابدّ أن یراد منها ما یساعد علیه سائر القواعد، و

ص:319


1- (3) المکاسب و البیع 1/303.

انّما المهم بیان أنّ قضیتها الضمان فی أیّ الموارد، ساعد علیه ظاهر القاعدة أو لم تساعد، و هکذا الحال فی عکسها»(1).

و تبعه المحقّق السیّد الخوئی(2) قدس سره فی المقام.

الجهة الثالثة: العموم فی کلِّ عقد هل یکون بلحاظ النوع أو الصنف أو الأشخاص؟

المراد بالنوع هو جنس المعاملة القائمة بالطرفین من البیع و الإجارة و الهبة و العاریة و الصلح و الجعالة و الودیعة و الوکالة و الرهن و نحوها.

ثم إنّ لکلِّ نوع من هذه الأنواع أقساما و هی أصناف ذلک النوع نحو البیع و ما فی تحته من بیع النقد و النسیئة و الصرف و الحیوان و الثمار و الفضولی و الغرری و نحوها. و الإجارة و ما تحته من إجارة الأعیان و الأعمال، و الهبة و ما تحته من الهبة بذی رحم أو بشرط التعویض أو المعوضة و نحوها. و العاریة و ما تحته من عاریة النقدین و غیرهما و العاریة بشرط الضمان و غیرها.

و المراد بالأفراد هو أشخاص العقود التی تقع خارجا بإنشاء المتعاقدین.

إن کان المراد من العقد النوع یدخل بعض العقود المحدّدة فی القاعدة نحو: البیع و الإجارة و الجعالة، و إن کان المراد منه هو الصنف یدخل فیها أصناف متعددة، و إن کان المراد منه الشخص یدخل فیه الکثیرون. هذا کلّه بحسب مقام الثبوت.

و أمّا بحسب مقام الإثبات فقد ذهب الشیخ الأعظم(3) قدس سره إلی أن المراد من العقد هو صنفه، لأنّه لو کان المراد منه أنواع العقود(4) یلزم منه عدم اطِّرادِ نقیض القضیة نحو أن یکون

ص:320


1- (1) حاشیة المکاسب /30.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/87.
3- (3) المکاسب 3/185.
4- (4) کما ذهب إلیه المیرزا حبیب اللّه الرشتی رحمه الله و نقله تلمیذه فی بغیة الطالب 1/200.

الصلح لایتقضی الضمان فیکون فاسده کذلک، مع أن الصلح المعاوضی یقتضی الضمان و کذلک العاریة و الهبة و نحوها.

و کذا لا یمکن أن یکون المراد من العقد أشخاصه - خلافا لاحتمال صاحب الجواهر(1) - لأنّ ظهور القاعدة فی فعلیة القسمین یمنع عن الحمل علی الأشخاص، لأنّ الفرد الشخصی الموجود فی الخارج جزئیٌ و لا یمکن له الاتصاف بوصفین متقابلین و هما الصحة

و الفساد بل یوجد إمّا صحیحا و إمّا فاسدا، و یتوقف اتصافه بوصفین علی التقدیر و الفرض و هو خلاف الظاهر.

لایقال: منشأ الضمان شخص العقد الصادر لو کان صحیحا هو الإقدام و هو موجود فی صورة فساده فالبیع مع الثمن لو کان صحیحا یضمن لمکان الإقدام ففی فاسده أیضا کذلک، و البیع بلا ثمن لو کان صحیحا لیس فیه الضمان لمکان إنتفاء الإقدام ففاسده أیضا کذلک.

لأنا نقول: إنّ الکلام فی القاعدة نفسها و الإقدام مدرک للقاعدة - کما یأتی - و هو خارج عن محل الکلام.(2)

فلابدّ ان یحمل العموم فی کلّ عقد علی صنفه، هذا ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره بتقریر منّا فی المقام.

ولکن اعترضه المحقّق النائینی و حمل کلَّ عقدٍ علی العموم الأفرادی أیّ الاحتمال الأخیر فی کلام الشیخ الأعظم و استدل لقوله بوجهین:

الأوّل: الحمل علی الأشخاص و العموم الأفرادی هو ظاهر القضیة کما فی غیرها من

ص:321


1- (5) الجواهر 27/247 فی کتاب الإجارة بحث الإجارة الفاسدة.
2- (1) راجع المکاسب 3/187 و 186.

القضایا، لأنّ قضیة کلّما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده نظیر جمیع القضایا الحقیقیة فی کونها منحلة إلی شرطیة شرطها عقد وضعها و جزائها عقد حملها، فمعنی ما یضمن بصحیحه هو أنّه لو وجد عقد و کان علی تقدیر وجوده و صحته ممّا فیه الضمان فهو علی تقدیر وجوده و فساده فیه الضّمان أیضا.

الثانی: إنّ هذه القضیة بألفاظها لیست واردة فی نصّ الکتاب أو السّنّة، بل إنّما هی قاعدة اسْتُخْرِجَتْ من مدرکها فالمتبع حینئذ هو المدرک و مدرک هذه القاعدة هو الإقدام - کما یأتی - و إذا کان المدرک مقتضیا للإحتمال الأخیر - کما اعترف علیه الشیخ الأعظم - یتعیّن الحمل علیه ولو کان اللفظ ظاهرا فی غیره.(1)

و تبعه تلمیذه السیّد البجنوردی قدس سره و قرّره بقوله حتّی یرفع عنه إشکال الشیخ الأعظم: «لیس المراد أنّ هذا الشخص الخارجی الذی صحیح و فاسد، صحیحه کذا و فاسده کذا، بل المراد أنّ کلّ عقد أو ایقاع کان بحیث أنّه علی تقدیر أن یکون صحیحا فیکون فیه الضمان فهو علی تقدیر فساده أیضا یکون فیه الضمان أی بعد القبض. و کلّ عقد

أو إیقاع علی تقدیر صحته لا یوجب الضمان لأنّه أقدم علی أن یکون مجّانا و بلاعوض فهو علی تقدیر فساده أیضا لا یوجب الضمان لأنّه أقدم علی أن یکون بلا عوض و مجانا فیکون بواسطة هذا الإقدام خارجا عن تحت عموم علی الید تخصیصا أو تخصصا. و هذا الحکم عام یشمل جمیع أشخاص طبیعة العقد أو الإیقاع...»(2).

و انتقد المحقّق الخمینی کلامَ النائینی بعد ما ذهب إلی الأخذ بظاهر العموم الأفرادی بقوله: «مقتضی القضیة الحقیقیة علی فرض صحة تفسیرها بما ذکر لیس إلاّ فرض وجود

ص: 322


1- (2) المکاسب و البیع 1/305.
2- (1) القواعد الفقهیة 2/115.

أفراد الطبیعة لا فرض فرد منها مقام فرد آخر، فقوله: «کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده» معناه علی طبق القضیة الحقیقیة المفروضة أنّه کلّ عقدٍ إذا وجد فی الخارج و کان صحیحا موجبا للضمان إذا وجد فاسده فی الخارج کان موجبا للضمان، و هذا غیر فرض وجود الفاسد صحیحا، فالحقیقیة تقتضی فرض وجود الموضوع، لا فرض وجود منه وجودا آخرا أو فرض وصف من الفرد وصفا آخرا»(1).

أقول: یرد هذا الاشکال علی النائینی ولکن من عجیب الاتفاق أنّ المستشکل قدس سره ذهب إلی مقالةٍ یرد علیه هذا الإشکال فیها بعینه حیث یقول: «... و أمّا أن یکونا علی الفرض و التقدیر کما هو قضیة القضایا الشرطیة، فیراد بها أنّ کلّ عقد فرض أنّه موجود فی الخارج صحیحا و کان فیه الضمان لو فرض أنّه موجود فاسدا یکون فیه الضمان، فحینئذ یمکن الأخذ بظهور الصدر فی العموم الأفرادی، فیقال: کلّ فرد لو وجود فی الخارج و کان صحیحا و فیه الضمان لو وجود فی الخارج فاسدا فکذلک فیشمل الإجارة بلا اُجرة و البیع بلا ثمن مثلاً»(2).

و أعجب منه مقالة السیّد الحکیم تبعا للمحقّق الهمدانی(3) رحمهماالله لأنّه لا یمکن حملها علی الفرد و الشخص، حیث یقول: «... فالمراد بالعقد هو الجامع بین فردین لا الفرد الذی یکون موضوعا لحالین: الصحة و الفساد»(4).

و المختار فی المقام حمل کلّ عقد علی العموم الأفرادی و علی الفرد و الشخص و لا

محالة لابدّ من تقدیر بلافرق بین إرادة الفرد أو الصنف کما نبّه علیه المحقّق الإشکوری حیث

ص: 323


1- (2) کتاب البیع 1/268.
2- (3) کتاب البیع 1/269.
3- (4) حاشیة المکاسب /49 للفقیه الهمدانی.
4- (5) نهج الفقاهة /201.

یقول: «أمّا ارادة اتصاف الثانی و الفرضی، لعدم وجودهما فی الفرد فعلاً فلا ضرر فیها أبدا بعد کون الفرض و التقدیر لازما علی تقدیر إرادة النوع و الصنف أیضا بأن یقال: إنّ هذا الصنف علی تقدیر وجوده فی الخارج صحیحا مضمون فکذا فاسدا، غایة الأمر أنّ المقدَّر فی الصنف هو الوجود، و فی الفرد هو تقدیر الصحة، أیکلّ فرد علی تقدیر صحته یضمن کان فاسده أیضا کذلک...»(1). و بهذا البیان یرتفع الاشکال عن النائینی و السیّد الخمینی.

و علی ما ذکرناه یکون معنی القاعدة ما ذکره المحقّق الشهیدی من قوله: «أنّ کلّ عقد یکون فرده الخارجی المتصف بوصف الصحة موجبا للضمان، ففرده الخارجی المتصف بوصف الفساد مع تحقّق أصل حقیقة العقد المتحد مع الفرد الصحیح من جمیع الجهات إلاّ الجهة الموجبة للفساد، یکون موجبا له أیضا»(2).

الجهة الرابعة: معنی الباء فی القاعدة

ذکر الشیخ الأعظم(3) لمعنیها ثلاثة محتملات:

الأوّل: الظرفیة و أنّها بمعنی «فی» نحو قوله تعالی: «و لقد نصرکم اللّه ببدر»(4) و قوله تعالی: «و بالأسحارهم یستغفرون»(5) و قوله تعالی: «و نجّیناهم بسحر»(6)، و صار معنی القاعدة کلّ عقد تحقّق الضمان فی صحیحه تحقّق فی فاسده أیضا.

الثانی: السببیّة نحو قوله تعالی: «إنّکم ظلمتم أنفسکم باتخاذکم العجل»(7) و

ص: 324


1- (1) بُغیة الطالب 1/200، و نحوها فی غنیة الطالب 2/127.
2- (2) هدایة الطالب 2/247.
3- (3) المکاسب 3/187.
4- (4) سورة آل عمران /123.
5- (5) سورة الذاریات /18.
6- (6) سورة القمر /34.
7- (7) سورة البقرة /54.

قوله تعالی: «فکلاًّ أخذنا بذنبه»(1) و قسّمها إلی قسمین:

أ: السببیة التامة: بمعنی العلیّة التامة بحیث یکون العقد علی نحو العلیة التامة بالنسبة إلی الضمان فی العقود الصحیحة و الفاسدة، و نفی هذا الاحتمال فی العقدین.

ب: السببیة المطلقة الشاملة للناقصة: بحیث یکون العقد سببا ناقصا لإیجاد الضمان

فی العقد الصحیح و الفاسد لأنّ کلّ منهما یحتاج إلی القبض لترتب الضمان.

و عند الشیخ الأعظم کلّ من الاحتمالین الأوّل و الثانی من القسم «ب» محتمل ولکن احتمال السببیة التامة بمعنی العِلِّیَّةِ التامة لا یتمّ.

ثم ذکر أنّ الغرض من ذکر هذه المحتملات هو دفع توهّمین(2):

الأوّل: سبب الضمان فی الفاسد هو القبض، لا العقد الفاسد فکیف یقاس الفاسد علی الصحیح فی السببیة؟!

الثانی: ظاهر القاعدة عدم توقف الضمان فی الفاسد علی القبض فلابدّ من تخصیصها بإجماع أو حدیث علی الید و نحوها. انتهی ما ذهب إلیه الشیخ الأعظم قدس سره .

أقول: ظهر من الشیخ بطلان السببیّة التامة بمعنی العلّیة التامة و هو تام.

و أمّا الظرفیة فیمکن ان یناقش فیها بانتفاء الظرفیة الحقیقیة لأنّ العقد لا یکون ظرفا حقیقیا للضمان فلابدّ من التجوّز فیها بجعل استعمالها فی الظرفیة بمناسبة السببیة، و کذا الظرفیة الاعتباریة لأنّ الظرف الاعتباری للضمان هو العهدة - کما مرّ - نعم، العقد سبب لثبوت الضمان فی العهدة فلابدّ حینئذ من التجوّز أیضا، فکلّ من محتملی الظرفیة یکون فیهما التجوّز و هو خلاف الظاهر و الأصل.(3)

ص: 326


1- (8) سورة العنکبوت /40.
2- (1) المکاسب 3/188.
3- (2) راجع کتاب البیع 1/269 و هدی الطالب 3/98.

فیبقی القول بالسببیة الناقصة للعقد لترتب الضمان فی الصحیح و الفاسد کما هو مختار المحققین الشهیدی(1) و النائینی فی أحد تقریراته(2) و الخمینی(3) و المروج(4). خلافا للسیّد الإشکوری(5) حیث ذهب إلی السّببیّة التامة فی العقود الصحیحة و السببیة الناقصة فی العقود الفاسدة.

و خلافا للفقیه الیزدی(6) و المحقّق الإیروانی(7) حیث ذهبا إلی الظرفیة، و عدّها الأوّل منهما الاُولی، و الثانی عدّها تعیّنا، مع إقراره بأنّه: «نعم، کون الظرفیة خلاف ظاهر

الباء مسلّم»(8).

و خلافا للهمدانی(9) و النائینی فی أحدِ تقریراته(10) و السیّد البجنوردی(11) و السیّد السبزواری(12) لأنّهم وافقوا الشیخ الأعظم فی الاحتمالین.

الجهة الخامسة: هل یعتبر فیها الضمان بمقتضی العقد أو تشمل الضمان بمقتضی الشرط؟

اقتضاء العقد الصحیح للضمان تارة یکون بذات العقد نحو البیع و اُخری یکون

ص: 326


1- (3) هدایة الطالب 2/247.
2- (4) المکاسب و البیع 1/307.
3- (5) کتاب البیع 1/269.
4- (6) هدی الطالب 3/98.
5- (7) بغیة الطالب 1/203.
6- (8) حاشیة المکاسب 1/457.
7- (9) حاشیة المکاسب 2/114.
8- (1) حاشیة المکاسب للإیروانی 2/115.
9- (2) حاشیة المکاسب /49 للفقیه الهمدانی.
10- (3) منیة الطالب 1/269.
11- (4) القواعد الفقهیة 2/114.
12- (5) مهذب الأحکام 16/253.

بالشرط نحو شرط الضمان فی العاریة أو شرط ضمان العین فی الإجارة، لا أشکال فی شمول القاعدة للقسم الأوّل - أی إذا کان الضمان بذات العقد - ولکن هل تشمل القسم الثانی - أی إذا کان الضمان بالشرط النافذ - أم لا؟

ذهب الشیخ الاعظم إلی الأوّل بدعوی أنّ «المتبادر من اقتضاء الصحیح للضّمان اقتضاؤه له بنفسه»(1) و استشکل فی شمول القاعدة للثانی.

أقول: بناءً علی المختار من أنّ العموم فی کلّ عقد هو العموم الأفرادی و أنّ المراد بالباء هو السببیة المطلقة الشاملة للناقصة لا إشکال فی شمول القاعدة لکلّ من القسمین - أی إذا کان الضمان بذات العقد أو إذا کان بالشرط - لأنّ الثانی أیضا من أفراد القاعدة و إذا کان العقد المشروط بالضمان صحیحا یکون بفاسده أیضا ضمان.

أمّا بناءً علی مختار الشیخ الأعظم من أنّ العموم فیها صنفی و المراد بالباء إذا کان السببیة هکذا یمکن القول بالشمول لأنّ العقد مع الشرط و بدونه صنفان مستقلان(2) فتجری القاعدة فی حقّ کلّ منهما أیّ إذا کان العقد المشروط بالضمان سببا للضمان صحیحا فکذلک سببا للضمان فاسدا.

و کذا علی مختاره من العموم الصنفی و المراد بالباء إذا کان الظرفیة و الأمر کذلک بل هو اُوضح و تشملهما القاعدة، أی إذا کان العقد المشروط بالضمان فی صحیحة ضمان یکون فی فاسده أیضا ضمان.

فما ذکره الشیخ من التبادر بالنسبة إلی الاختصاص هو مکابرةٌ.

و یؤید ما ذکرنا أنّ منشأ الضمان فی القاعدة هو الإقدام علی الضمان و المعاوضة و هذا

ص: 327


1- (6) المکاسب 3/185.
2- (7) کما نبّه علیه الفقیه الیزدی فی حاشیة المکاسب 1/456.

المنشأ کما یکون موجودا فی ذات العقد کذلک یمکن أن یکون موجودا فی الشروط. فلا فرق بینهما.

و علی ما ذکرنا ذهب الشهید الثانی فی مسألة الاستعارة من الغاصب مع جهل المستعیر بالغصب و اشتراط الضمان، فهل للمالک أن یرجع إلی المستعیر لو تلفت العین؟ قال: «... لأنّا لم نضمّنه من حیث الغصب بل من حیث کونها عاریة مضمونة و دخوله علی ذلک، فإذا تبیّن فسادها لحقّ حکم الفاسد بالصحیح، کما سلف من القاعدة»(1).

فالشهید الثانی یجعل الضّمان من مشمولات القاعدةِ و بمقتضی الشرط و تبعه سیّد الریاض إذ قال: «... و إن ألزم الغاصب لم یرجع علی المستعیر، إلاّ مع علمه أو کون العین مضمونة فیرجع علیه فیهما لاستقرار الضمان علیه فی الأوّل و إقدامه فی الثانی علی الضمان مع صحة العاریة فکذا علیه الضمان مع الفساد، للقاعدة الکلیّة أنّ کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده لکن هذا لایوجب إلاّ ضمان العین دون المنفعة، فإنّها لیست بمضمونة بالکلّیة ولو فی الذهب و الفضة، بل المضمون فیهما هو العین خاصة»(2).

ولکن ما ذکرنا لا یجری بالنسبة إلی ما یکون من قبیل شرط عدم الثمن فی البیع أو عدم الاُجرة فی الاجارة أو عدم المهر فی النکاح، لأنّ البیع - لو خلّی و نفسه - یکون مقتضیا للضمان و کذا الاجارة مقتضیا للاُجرة و النکاح للمهر، و إذا اشترط فی البیع عدم الثمن أو فی الاجارة عدم الاُجرة أو فی النکاح عدم المهر یکون الشرط موجبا لعدم الإقدام - الذی هو منشأ الضمان - فیقع باطلاً علی قول أو یکون هبة مجانیة بالنسبة إلی العین أو المنفعة أو البضع علی قول آخر بناءً علی جواز إیقاع العقود بالألفاظ المجازیة فإن المراد من البیع حینئذ هو

ص: 328


1- (1) المسالک 5/142.
2- (2) ریاض المسائل 9/450.

الهبة، و کذا المراد من الاجارة هو هبة المنافع أی العاریة، و المراد من النکاح هبة المهر أو صلحه مجانا أو تفویض البضع(1)، و یکون الشرط قرینة علیه فنفس الشرط یوجب الإقدام علی المجانیة، فإن کانت هبة صحیحة فلا ضمان فیها و إن کانت فاسدة فلا ضمان أیضا لأجل عدم الإقدام کما نبّه علیه المحقّق النائینی(2).

ثم اختار قدس سره فساد هذا القبیل و قال: «و التحقیق هو البطلان مطلقا سواء قلنا بصحة العقد بالألفاظ المجازیة أم لا، أمّا علی الثانی فواضح و أمّا علی الأوّل فلأنّه علی تقدیر القول به یقتصر علی ما إذا لم یکن الإنشاء بالألفاظ الدالة علی ما یضاد المعنی الحقیقی مثل إنشاء البیع بلفظ الهبة أو الهبة بلفظ البیع ممّا یکون مدلول القرینة منافیا لمقتضی العقد بحیث یوهم اندارجه تحت الشرط المخالف للعقد بل کان مثل لفظ نقلتُ و أشباهه من الألفاظ المجازیة التی کان المانع عن انعقاد العقد بها کون معناها معنی جنسیا مشترکا محتاجا إلی انضمام فصل إلیه المستلزم لتدریجیة إیجاده المنافی مع بساطته»(3).

و تبعه تلمیذه السیّد الخوئی(4).

و علی أیّ حال وافقنا علی عدم ضمان فی هذه الفروض الشهیدان و الیک نص کلامهما مع اعتراض المحقّق الثانی علی الشهید و دفاع ثانی الشهیدین عن الأوّل: قال المحقّق الثانی نقلاً من الشهید: «و فی حواشی الشهید: إنّ هذا إذا لم یکن الفساد باشتراط عدم الاُجرة، أو یکون متضمنا له فهناک یقوی عدم وجوب الاُجرة لدخول العامل علی ذلک»(5).

ص: 329


1- (3) المکاسب و البیع 1/307.
2- (4) و ذهب إلی الأخیر الفقیه الأصفهانی فی الوسیلة 2/346.
3- (1) المکاسب و البیع /309 و 310.
4- (2) مصباح الفقاهة 3/97.
5- (3) جامع المقاصد 7/120.

و استحسنه الشهید الثانی فی المسالک.(1)

و اعترض المحقّق الثانی علی الشهید و قال: «هذا صحیح فی العمل، أمّا مثل سکنی الدار التی یستوفیها المستأجر بنفسه، فإنّ اشتراط عدم العوض إنما کان فی العقد الفاسد الذی لاأثر لما تضمنه من التراضی فحقّه وجوب اُجرة المثل. و مثله ما لو باعه علی أن لا ثمن علیه. ولو اشترط فی العقد عدم الاُجرة علی العمل فعمل فلا شیء، لتبرعه بعمله»(2).

و أجاب الشهید الثانی عنه بقوله: «و یندفع الاشکال فیها بأنّه مع اشتراط عدم الاُجرة یکون اللفظ الوارد فی ذلک دالاّ علی إعارة العین المؤجرة فإنّ الإعارة لا تختص بلفظ مخصوص بل و لا علی لفظ مطلقا کما تقدم. و لا شک أنّ اشتراط عدم الاُجرة صریح فی الإذن فی الانتفاع من غیر عوض، باللفظ فضلاً عن القرینة فلا یترتب علیه ثبوت اُجرة»(3)

و استدل صاحب الجواهر للشهید بقوله: «و کان وجهه أنّه متبرع بالمال و العمل مجانا قادم علی ذلک، فهو أشبه شیء حینئذ بالعقود الفاسدة المجانیة کالهبة و العاریة و نحوهما مما لا یضمن بفاسدهما فلا یضمن بصحیهما.

بل قد یقال بشمول هذه القاعدة للفرض، بناءً علی ارادة أشخاص العقود منها لاأصنافها و لاریب فی عدم الضمان فی المقام لو فرض صحة العقد المزبور، فکذا لا یضمن به علی الفساد للقاعدة المزبورة التی عرفت أنّ الوجه فیها إقدامهما علی عدم الضمان فی التقدیرین کما أنّک قد عرفت تقریره حینئذهنا»(4).

ص: 330


1- (4) المسالک 5/184.
2- (5) جامع المقاصد 7/120.
3- (6) المسالک 5/184.
4- (1) الجواهر 27/247.

و استشکل العلاّمة فی الضمان و قال: «و الأقرب انعقاد البیع بلفظ السَلَم فیقول: أسلمت إلیک هذا الثوب فی هذا الدینار و کذا(1) لو قال: بعتک بلا ثمن أو علی أن لا ثمن علیک، فقال: قبلت، ففی إنعقاده هبة نظر، ینشأ من الالتفات إلی المعنی و اختلال اللفظ، و هل یکون مضمونا علی القابض؟ فیه إشکال ینشأ من کون البیع الفاسد مضمونا و دلالة لفظه علی اسقاطه»(2).

أقول: الظاهر من الفقهاء صحة عقد النکاح بلا مهر قال الفقیه الأصبهانی فی الوسیلة: «بل لو صرّحت بعدم المهر بأن قالت زوّجتک نفسی بلامهر، فقال: قبلت صح و یقال لهذا - أی لإیقاع العقد بلامهر - تفویض البضع و للمرأة التی لم یذکر فی عقدها مهرّ مفوّضة البضع»(3).

فما ذکرناه من بطلان هذه العقود لا یجری فی عقد النکاح.

هذا کلّه فی المقام الأوّل من البحث أعنی معانی ألفاظ القاعدة، ثمَّ یقع البحث فی مدرکها.

المقام الثانی: مدرک القاعدة
الأوّل: قاعدة الإقدام

و المراد بها أنّ کِلا المتعاقدین أقدما علی أن یکون مال الآخر انتقل إلیه بضمان لا

مجانا و بلاعوض.

من بعض کلمات الشیخ یظهر أنّ مدرک قاعدة ما یضمن هو قاعدة الإقدام حیث حکم بدخوله فی البیع أو الاجارة الفاسدین علی أن یکون المال مضمونا علیه بالمسمی فإذا

ص: 331


1- (2) لم یرد لفظة کذا فی نسخة.
2- (3) القواعد 2/44.
3- (4) وسیلة النجاة 2/346 من الطبع الحجری.

لم یسلّم له المسمی رجع إلی المثل أو القیمة.(1)

و قد یظهر من الشهید الثانی أنّ مدرک قاعدتنا هو الإقدام حیث یقول فی مسألة الرهن المشروط بکون المرهون مبیعا بعد انقضاء الأجل: «... و فاسد کلّ عقد یتبع صحیحه فی الضمان و عدمه فحیث کان صحیح الرهن غیر مضمون کان فاسده کذلک و حیث کان صحیح البیع مضمونا علی المشتری ففاسده کذلک. و السر فی ذلک أنّهما تراضیا علی لوازم العقد فحیث کان مضمونا فقد دخل القابض علی الضمان و دفع المالک علیه، مضافا إلی قوله صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تؤدی، و هو واضح»(2).

ولکن یظهر منه فی بحث المقبوض بالعقد الفاسد أنّ قاعدتنا دلیل مستقل فی ردیف قاعدة الإقدام و حدیث الید فقال: «لاإشکال فی ضمانه إذا کان جاهلاً بالفساد لأنّه أقدم علی أن یکون مضمونا علیه فیحکم علیه به و إن تلف بغیر تفریط و لقوله صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تؤدی و من القواعد المقررة فی هذا الباب أنّ کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده و أنّ ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده»(3).

کما یظهر من الشیخ الأعظم ذلک حیث یقول بعد صفحة: «نعم فی المسالک ذکر کلاًّ من الإقدام و الید دلیلاً مستقلاً»(4).

ثم ناقش الشّیخ الأعظم(5) قاعدة الإقدام بوجوهٍ ثلاثةٍ:

ص: 332


1- (1) راجع المبسوط 3/65 و 68 و 85 و 89، 2/204 کما مرّ نصوص کلام الشیخ فی أوّل البحث حول قاعدة ما یضمن فراجعها.
2- (2) المسالک 4/56.
3- (3) المسالک 3/154.
4- (4) المکاسب 3/191.
5- (5) المکاسب 3/189 و 188.

الأوّل: الضمان الموجود فی العقد المعاوضی هو الضمان المسمی فی العقد الفاسد و هو الضمان الخاص فالمتعاقدین أقدما و تراضیا و تواطئا بالعقد الفاسد علیه و المفروض عدم امضاء الشارع لذلک، و أمّا الضمان الواقعی - و هو المثل أو القیمة - ممّا لم یُقدما علیه.

و بعبارة اُخری: قاعدة الإقدام لا تثبت الضمان الواقعی، إذ المُقْدَم علیه - و هو الضمان

المعاوضی - المسمی - و هو غیر واقع، و الواقع المدعی هو الضمان المثل أو القیمة غیر مُقْدَم علیه.

الثانی: النسبة بین قاعدتی مایضمن و الإقدام عموم من وجه فلا یمکن أخذ قاعدة الإقدام مدرکا لقاعدة ما یضمن، إذ قد یکون الإقدام موجودا و لا ضمان نحو تلف المبیع قبل القبض، و قد یکون الضمان و لا إقدام فی البین نحو: شرط ضمان المبیع علی البائع إذا تلف عند المشتری، و کما إذا قال: بعتک بلاثمن أو آجرتک بلا اُجرة.

الثالث: ما الدلیل علی أن کون قاعدة الإقدام موجبا للضمان علی نحو الاستقلال فی ردیف قاعدتی الإتلاف و استیفاء المنفعة و نحوهما؟

ولکن یمکن أن یجاب عن الشیخ الأعظم قدس سره باُمور:

عن اشکاله الأوّل بما ذکره المحقّق الخراسانی بقوله: «یمکن أن یقال بأنّهما أقدما علی أصل الضمان فی ضمن الاقدام علی ضمان خاص، و الشارع إنّما لم یمض الضمان الخاص لا أصله، مع أنّ دلیل فساد العقد لیس بدلیل علی عدم إمضائه فافهم»(1).

و بعبارة اُخری: إنّ هنا إقدامین هما: إقدام عام علی أصل الضمان و إقدام خاص علی الضمان المسمی و إذا حکم الشارع ببطلان العقد یبطل الإقدام الخاص - أی ضمان المسمی - ولکن الإقدام العام باقٍ علی أصل الضمان.

ص: 333


1- (1) حاشیة المکاسب /31.

و بعبارة ثالثة: المقصود من البیع أوّلاً و بالذات هو تملیک الغیر للمبیع و تملّکه للثمن و أمّا خصوصیة الثمن یمکن أن یقال أنّه مطلوب آخر فبانتفائه لا ینتفی ما هو المطلوب أوّلاً(1). أعنی إذا حکم الشارع ببطلان العقد بطل الثمن المسمی ولکن أصل الضمان یمکن أن یکون باقیا علی نحو تعدد المطلوب. أو علی نحو الشرط فی ضمن العقد حیث بطلان الشرط لم یسر إلی العقد. و أصل العقد باق علی صحته. لأنّ العقد هو الأصل و الشرط هو الفرع، و بطلان الفرع لایسری إلی الأصل.

و یمکن أن یجاب عن إشکاله الثانی: بأن تلف المبیع قبل القبض یعدّ انفساخا حقیقیّا للعقد و مع الانفساخ لا یصدق الإقدام و لا الضمان، و أمّا فی مثل البیع بلا ثمن و الاجارة بلا اُجرة فقد مرّ عدم الضمان تبعا للشهیدین. و أمّا شرط ضمان المبیع علی البائع إذا تلف عند المشتری فهو إمّا شرط فاسد لا یفسد به العقد، أو أنّه شرط مفسد للعقد و فی الصورتین

لم یتم ضمان البائع. فما ذکره الشیخ الأعظم من النقوض غیر تام.

و یمکن أن یجاب عن اشکاله الثالث الذی قَبِلَه المحقّق الخراسانی فی قوله: «لکن لا دلیل علی کون الإقدام سبیا للضمان أصلاً»(2) و الفقیه الیزدی لأنّه قال: «الاُولی أن یقال إنّ الإقدام لا یکون موجبا للضمان أصلاً لعدم الدلیل علیه و هذا هو الوجه...»(3).

یمکن أن یقرر الجواب بأنّ دلیل حجیة قاعدة الإقدام هو سیرة العقلاء و بناؤهم فی أبواب المعاملات علی أنّه إذا أخذ شیئا من الطرف، لا یأخذه إلاّ أن یعطی بدله و عوضه، فإن تراضیا علی العوض المعین - المسمی - فهو، و إن تعذّر المسمی - بأیّ دلیل کان التعذر - یرون المأخوذ مضمونا علی الآخذ بالضمان الواقعی - أی المثل أو القیمة - فإذا حکم الشارع

ص: 334


1- (2) کما فی حاشیة المکاسب /51 للفقیه الهمدانی.
2- (1) حاشیة المکاسب /31.
3- (2) حاشیة المکاسب 1/457.

بفساد المعاملة و عدم لزوم أداء المسمی یرونه ضامنا بالضمان الواقعی. و لم یرد من الشارع ردع هذه السیرة و البناء.(1) و إذا قررنا قاعدة الإقدام بهذا التقریر لا یمکن ردّها و یمکن أن نجعله دلیلاً لقاعدة الإقدام فتأمل.

اعترف الشیخ الأعظم ببعض ما ذکرنا حیث یقول بعد سطور: «ثم إنّه لا یبعد أن یکون مراد الشیخ و من تبعه من الاستدلال علی الضمان بالإقدام و الدخول علیه، بیان أنّ العین و المنفعة اللذین تسلّمهما الشخص لم یتسلّمهما مجانا و تبرّعا حتّی لا یقضی احترامهما بتدارکهما بالعوض کما فی العمل المتبرّع به و العین المدفوعة مجانا أو أمانة»(2).

هذا نظیر ما ذکرناه ولکن أضاف إلیه: «فلیس دلیل الإقدام دلیلاً مستقلاً بل هو بیان لعدم المانع عن مقتضی الید فی الأموال و احترام الأعمال»(3).

أقول: و فی هذه الاضافة نظر بیّن یظهر من التأمل فی ما ذکرناه.

الثانی: خبر الید:
اشارة

و هو قوله صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تؤدی(4).

قال الشیخ الأعظم: «و أمّا خبر الید فدلالته و إن کانت ظاهرة و سنده منجبرا إلاّ

أنّ مورده مختص بالأعیان، فلا یشمل لمنافع و الأعمال المضمونة فی الإجارة الفاسدة»(5).

و قال بعد صفحات: «و لا إشکال فی عدم شمول صلة الموصول للمنافع، و حصولها

ص: 335


1- (3) قرر السیّد البجنوردی هذا البناء للعقلاء فی القواعد الفقهیة 2/105 و جعلها دلیلاً مستقلاً للضمان. و تبعه السیّد الخوئی فی مصباح الفقاهة 3/96.
2- (4) المکاسب 3/190.
3- (5) المکاسب 3/191.
4- (6) عوالی اللآلی 1/224، ح106، 1/389، ح22 و قد مرّ مصادره فی ما سبق.
5- (1) المکاسب 3/189.

فی الید بقبض العین لا یوجب صدق الأخذ و دعوی: أنّه کنایة عن مطلق الاستیلاء الحاصل فی المنافع بقبض الأعیان مشکلة»(1).

و یظهر من الشیخ الطوسی تمسکه بخبر الید حیث قال فی مسألة إذا باع عبدا بیعا فاسدا: «... و إذا وجب ردّه نُظر فإن کان بحاله لم یزد و لم ینقض ردّه و لا شیء علیه إلاّ أن یکون له اُجرة و هو أن یکون المبیع ممّا ینتفع به مع بقاء عینه انتفاعا مقصودا فیجب اُجرة مثله للمدّة التی أقام فی یده...»(2).

و أنت تری تمسکه بالید حتّی فی المنافع و بعد صفحة یظهر منه أنّها خبر الید حیث یقول: «... و إن ردّها حاملاً و ولدت فی ید البائع لزمه ما ینقص بالولادة...»(3).

و کذا قال: «فإذا ثبت أنّ البیع فاسد نظر فإن کان المبیع قائما أخذه مالکه و هو البائع الأوّل... و إن طالب الثانی و غرمه لم یرجع إلی الأوّل لأنّه تلف فی یده...»(4)

و قال: «... و إن طالب البائع رجع البائع علی المشتری بأکثر ما کانت قیمته من حین قبضه إلی حین العتق، لأنّه دخل علی أنّه علیه بعوض و قد تلف فی یده، و إن طالب المشتری لم یرجع المشتری علی البائع بما غرم لأنّ التلف فی یده، فاستقرّ الضمان علیه»(5).

و قد تقدم کلام الشهید الثانی و تمسلکه بخبر الید و جعلها من مدارک قاعدة ما یُضمن و قد مرّ أیضا عدّها فی ردیف خبر الید للضمان.(6)

ص: 336


1- (2) المکاسب 3/204.
2- (3) المبسوط 2/149.
3- (4) المبسوط 2/150.
4- (5) المبسوط 2/150.
5- (6) المبسوط 3/98.
6- (7) المسالک 3/154.

ثم خبرالید هل یشمل المنافع المستوفاة و غیر المستوفاة أم لا، و یختص بالأعیان فقط؟

ذهب الشیخ الأعظم(1) إلی أنّه مختص بالأعیان بالأدلة التالیة:

1- عدم شمول لفظة «ما» الموصولة للمنافع.

2- عدم صدق الأخذ عرفا بالنسبة إلی المنافع ولو حصلت فی الید بقبض العین.

3- دعوی أنّ المراد من الأخذ هو مطلق الاستیلاء الحاصل فی المنافع بقبض الأعیان مشکلة.

و أضاف إلیها المحقّق الأصفهانی وجها رابعا و هو:

4- «عدم صدق التأدیة فی المنافع مطلقا فإن ظاهر قوله «حتّی تؤدی» کون عهدة المأخوذ مغیاة بأداء النفس المأخوذ و المنافع لتدرجها فی الوجود لا أداء لها بعد أخذها فی حدّ ذاتها، لا کالعین التی لها أداء فی حدّ ذاتها و إنْ عرضها الامتناع ابتداءً أو بقاءً»(2).

و قد شرح لنا المحقّق السیّد الخوئی بیان أُستاذه بقوله: «أنّ الظاهر من ذیله هو اختصاصه بالأعیان فقط، بداهة أنّ الظاهر من الأداء هو ردّ المأخوذ بعینه بدءا. و مع عدم التمکن منه ینوب عنه ردّ المثل أو القیمة. و من الواضح أنّ ردّ المأخوذ بعینه لا یعقل فی المنافع، لأنّها ما لم توجد فی الخارج لیست بمضمونة و بعد وجودها فیه تنعدم و تنصرم، و حینئذ فلا یمکن أداؤها إلی المالک کلّی یشملها دلیل ضمان الید»(3).

و أضاف السیّد الحکیم وجها خامسا و هو:

5- أنّ المراد من الأخذ هو «الاستیلاء علی شیء یتوقف علی کونه موجودا حقیقیا

ص: 337


1- (8) المکاسب 3/204.
2- (1) حاشیة المکاسب 1/317.
3- (2) مصباح الفقاهة 3/128.

و لایصح بالإضافة إلی المنافع التی هی من الاُمور الاعتباریة و لا وجود لها حال الاستیلاء علی العین، فنسبة الاستیلاء إلیها یتوقف علی نحو من التجوّز و العنایة و ذلک ممّا لا قرینة علیه فیختص الدلیل بضمان العین لا غیر»(1).

ولکن یمکن أن یناقش فی الکلّ:

أمّا الأوّل: فلوضوح شمول لفظة «ما» الموصولة للمنافع، لأنّ «ما» هنا یراد به، لفظ «الشیء»، و یمکن أن یرادف بین لفظة الشیء و الوجود أو الموجود و لیس فی الألفاظ أعما منه. مضافا إلی أنّ شمول الموصول یکون بقدر شمول صلته و هی کلمة «أخذت» و إذا ظهر شمول کلمة «الأخذ» للمنافع کما سیأتی ظهر شمول «ما» الموصولة لها.

و أمّا مناقشة الدلیل الثانی و الثالث و الخامس - و الکلّ مشترک فی المناقشة

فی مدی دلالة کلمة «الأخذ» - فیظهر ممّا ذکره المحقّق السیّد الخوئی بقوله: «أنّ مفهوم کلمة الأخذ اُوسع من ذلک [من أن تختص بالأعیان]، لعدم اختصاصه بالأخذ الخارجی و إلاّ لزم منه خروج کثیر من الأعیان عن مورد الحدیث کالدار و الأرض و البستان و الحدیقة و أشباهها ممّا لا یقبل الأخذ الخارجی.

و ممّا یدل علی صحة ما ذکرناه: أنّ مفهوم الأخذ یصح انتسابه إلی الاُمور المعنویة کالعهد و المیثاق و الرأی و أمثالها کما أنّه یصح انتسابه إلی الاُمور الخارجیة، و إذن فلا وجه لتخصیص مفهوم الأخذ بالأعیان الخارجیة و إنّما هو کنایة عن الاستیلاء علی الشیء کما أنّ کلمة بسط الید کنایة عن الجود و السخاء و کلمة قبض الید کنایة عن البخل و لا ریب أنّ استعمال لفظ الأخذ فی هذا المعنی - الذی ذکرناه - کثیر فی القرآن و غیره و منه قوله تعالی:

ص: 338


1- (3) نهج الفقاهة /229.

«لا تأخذه سنة و لا نوم»(1)»(2).

أقول: الشاهد لما ذکره المحقّق السیّد الخوئی الاستعمالات القرآنیة لکلمة الأخذ أو مشتقاتها نحو: قوله تعالی: «و إذ أخذ اللّه میثاق النبیین لما آتیتکم من کتاب و حکمة»(3) و «و إذ أخذنا میثاقکم و رفعنا فوقکم الطور»(4) و «خذ العفو و أمر بالعُرف و اعرض عن الجاهلین»(5) و «خذوا ما آتیناکم بقوة و اذکروا ما فیه لعلّکم تتقون»(6) و «ما آتاکم الرسول فخذوه و ما نهاکم عنه فانتهوا»(7) و غیرها من الآیات.

و لذا قال الفقیه الیزدی: «إذ من المعلوم أنّ الأخذ لیس بمعنی القبض بالید و إلاّ لزم عدم الحکم بالضمان فی کثیر من الموارد، هذا. مع أنّه یمکن أن یقال یکفی صدق الأخذ بالنسبة إلی العین فی ضمان المنافع فإنّ حاصل المعنی أنّ ما أخذت الید مضمونة و یجب الخروج عن عهدتها و من شؤون الخروج عند عهدة العین أداء عوض منافعها، کما أنّ من شؤونه أرش العیب و نحوه»(8).

و أمّا مناقشة الدلیل الرابع فیظهر من إجابة المحقّق الخمینی قدس سره له حیث یقول: «إنّ الشیء المتصرم یوجد شیئا فشیئا و ینعدم، و فی حال وجوده ولو وجودا مستمرا غیر مستقر یقع تحت الید فیکون الاستیلاء علی موجود و إن لا یبقی آنین، فیقع وجوده الآنی

ص: 339


1- (1) سورة البقرة /255.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/128.
3- (3) سورة آل عمران /81.
4- (4) سورة البقرة /93.
5- (5) سورة الأعراف /199.
6- (6) سورة البقرة /63.
7- (7) سورة الحشر /7.
8- (8) حاشیة المکاسب 1/467.

المستمرّ تحت الید و بتلفه یصیر مضمونا علی ذی الید المستولی علیه، فلذلک الوجود المستمرّ فی عمود الزمان یقع تحت الید بنحو الاستمرار و الانصرام و بانعدامه یصیر ضامنا شیئا فشیئا»(1).

و بقوله: «إنّ المنافع إذا کانت مقدرة الوجود صح تملیکها و تملّکها و صیرورتها تحت الاستیلاء عرفا، و لازم ذلک أنّ المنافع المتدرجة واقعا صارت مقدَّرة الوجود فی زمان وقوع الاجارة، فتقدیر وجودها فعلاً یخرجها عن تصرم الوجود إلی ثباته و قراره، فوجودها فی الحال مصحّح التملّک و الاستیلاء فعلیه یکون هذا الموجود الثابت القارّ تقدیرا من شأنه ذاتا أن یؤدی، و التلف ابتداءً أو بقاءا لا ینافی الشأنیة کما أنّ التلف العارض للعین فی الآن الأوّل من الأخذ لا ینافی شأنیة التأدیة.

و بالجملة: إن لوحظ التأدیة بالنسبة إلی الوجود الواقعی المتصرِّم فهی و إن لا تمکن، لکن لا یعقل فیه الاستیلاء، و الأخذ، و إن لوحظت بالنسبة إلی ما یمکن فیها الاستیلاء و التملّک فی الحال فالتأدیة فیها ممکنة ذاتا و شأنیتها لاتنافی التلف العارض لبعض وجودها...»(2).

و کذا «مع أنّ إمکان الأداء فی الجملة کافٍ فی حفظ ظهور الغایة، و لا یلزم إمکان الأداء بجمیع خصوصیاتها و تمام وجودها تأمّل»(3).

ثم قال: «إنّ حل الإشکال بأن یقال: إنّ الظاهر من الخبر أن جمیع العنایة فیه بجعل الضمان علی المأخوذ و إنّما ذکرت الغایة لتحدید الموضوع و معناه أن الحکم بالضمان تعلَّق علی المأخوذ غیر المؤدی من غیر نظر إلی إمکان التأدیة و لا إمکانها و شأنیة التأدیة و لا

ص: 340


1- (1) کتاب البیع 1/274.
2- (2) کتاب البیع 1/276.
3- (3) کتاب البیع 1/277.

شأنیتها... و بالجملة الظاهر من قوله صلی الله علیه و آله «علی الید» الخ جعل الضمان علی غیر المؤدی سواء أمکن الأداء أم لا، أو کان له شأنیة الأداء أم لا...»(1).

أقول: فهذه أربعة أجوبةٍ للمحقّق الأصفهانی رحمه الله فظهر ممّا ذکرنا المناقشة فی جمیع أدلة المخصّصین لحدیث الید بالأعیان، فحینئذ یصحّ القول بأنّ حدیث الید یشمل المنافع مطلقا - أی المستوفاة منها و غیر المستوفاة - و اللّه العالم.

تنبیةٌ:

ولکن لابدّ من التنبیه علی أنّ النسبة بین الاستیلاء علی الشیء و استیفاء منافعه مختلفة:

الأوّل: الأعیان التی یتوقف استیفاء منافعها علی کونها تحت استیلاء المستوفی کالدار المستأجرة للسکنی، و فی هذا القسم قبض المنفعة یصدق بقبض العین و تکون المنافع تحت الید بتبع العین فالید علی العین ید علی المنفعة.

الثانی: الأعیان التی لا یکون استیفاء منافعها بالاستیلاء علی العین کعمل الحر، فضمانه فی هذا القسم إنّما هو بالاستیفاء فکلّ ما سلمت المنفعة للمستأجر یکون ضامنا لها فی العقد الصحیح کانت أو الفاسد.

الثالث: ما یمکن بکلا القسمین - الأوّل و الثانی - کالدابة أو السیارة المستأجرة لحمل المتاع و فی هذا القسم یجری حکم القسمین أعنی ما کان منه استیفاء المنفعة بالتصرف فی العین فیکون ضمانها بالید، و ما کان منه بالاستیفاء و حصولها للمستأجر فبالاستیفاء. کما نبّه علیها المحقّق النائینی(2).

ص: 341


1- (4) کتاب البیع 1/277.
2- (1) المکاسب و البیع 1/319 و 318.

و ممّا تلوناه علیک یظهر النظر فی مقالة المحقّق الخراسانی: «و مورده و إن کان مختصا بالأعیان، إلاّ أنّ قضیة کونها مضمونة ضمان منافعها، فضمان المنافع فی الإجارة الفاسدة إنّما یکون بتبع ضمان العین المستأجرة و بالجلمة قضیة ضمان الید، ضمان المنافع فیما کانت العین مضمونة بها، فاختصاص مورده بالأعیان، لا یوجب اختصاص الضمان بها، نعم الحرّ، حیث لم یکن نفسه مضمونة بالید، لم یکن أعماله مضمونة فی الإجارة الفاسدة بها، فافهم»(1).

و وجه النظر فی مقالته عدم اختصاص حدیث الید بالأعیان کما مرّ ولکن حکمه بضمان المنافع تام و کذا تقسیمه الثنائی للمنافع فما مرّ من النائینی من تقسیمه الثلاثی غیر تام و یمکن الحاق بعض أقسام القسم الثالث بالأوّل و بعضها بالثانی، و یأتی ضمان منافع الحرّ

ولو کانت غیر مستوفاة فی ما بعد(2) فانتظر، و الحمدللّه.

الثالث: قاعدة الاحترام
اشارة

و هی احترام مال المسلم و یصدق الموضوع - أی المال - علی الأعیان کما أنّه یصدق علی المنافع فتکون قاعدة الاحترام الدلیل الثالث لقاعدة ما یُضمن. و تُسْتَفادُ قاعدة الاحترام من طوائف من الروایات:

الاولی: ما دلّ علی عدم حلیة مال المسلم لغیره إلاّ عن طیب نفسه.

منها: صحیحة أبی أسامة زید الشحام عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقف بمنی حین قضی مناسکها فی حجة الوداع - إلی أن قال: - فقال: أیّ یوم أعظم حرمة فقالوا: هذا الیوم، قال: فأیّ شهر أعظم حرمة؟ فقالوا: هذا الشهر، قال: فأیّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا:

ص: 342


1- (2) حاشیة المکاسب /31.
2- (1) راجع فرع ضمان عمل الحرّ الکسوب المحبوس، فی هذا المجلد ص417.

هذا البلد، قال: فإنّ دماءَکم و أموالکم علیکم حرام کحرمة یومکم هذا فی شهرکم هذا فی بلدکم هذا إلی یوم تلقونه فیسألکم عن أعمالکم، ألا هل بلغتُ؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد ألا من کانت عنده أمانة فلیؤدّها إلی مَنْ ائتمنه علیها فإنّه لا یحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلاّ بطیبة نفسه، و لا تظلموا أنفسکم و لا ترجعوا بعدی کفّارا.(1)

و منها: مرسلة ابن شعبة الحّرانی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال فی خطبة الوداع: أیّها الناس إنّما المؤمنون إخوة، و لا یحلّ لمؤمن مال أخیه إلاّ عن طیب نفس ٍ منه.(2)

و منها: خبر محمّد بن زید الطبری قال: کتب رجل من تجار فارس من بعض موالی أبی الحسن الرضا علیه السلام یسأله الإذن فی الخمس فکتب إلیه: بسم اللّه الرحمن الرحیم، إنّ اللّه واسع کریم ضمن علی العمل الثواب و علی الضیق الهمّ(3)، لا یحلّ مال إلاّ من وجه أحلّه اللّه، الحدیث.(4)

و منها: التوقیع الشریف بسند صحیح و فیه: و أمّا ما سألت عنه من أمر الضیاع التی لناحیتنا هل یجوز ا لقیام بعمارتها و أداء الخراج منها و صرف ما یفضل من دخلها إلی الناحیة احتسابا للأجر و تقرّبا إلیکم؟ فلا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر إذنه

فکیف یحلّ ذلک فی مالنا؟! التوقیع.(5)

و منها: مرسلة الأحسائی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: المسلم أخو المسلم لا یحلّ

ص: 343


1- (2) وسائل الشیعة 29/10، ح3، الباب 1 من أبواب القصاص فی النفس، و ذکرها مختصرا فی وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.
2- (3) وسائل الشیعة 5/120، ح3.
3- (4) و فی التهذیب 4/139، ح395 و المقنعة /46: و علی الخلاف العقاب.
4- (5) وسائل الشیعة 9/538، ح2، الباب 3 من أبواب الانفال.
5- (1) وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال.

ماله إلاّ عن طیب نفس ٍ منه.(1)

بتقریب: إنّ حرمة مال المسلم یراد بها حرمة التصرف فیه و هو أعم من التصرف الخارجی کالأکل و الشرب و الاعتباری کالبیع و الصلح، فصارت الحرمة تکلیفیة بالنسبة إلی التصرفات الخارجیة و وضعیّة بالنسبة إلی التصرفات الاعتباریة، و الحرمة تقتضی ضمان المتصرِّف فیه و بما ذکرنا یظهر عدم تمامیة اختصاصها بالحرمة التکلیفیة کما یظهر من المحقّق السیّد الخوئی(2) قدس سره .

و کذا لا یتم ما یقال بأنّ «لو قبض ماله لا بالقهر و الغلبة - حتّی تکون یده عادیة - لاشیء علیه لو تلف بالتلف السماوی من دون ارتباط إلی القابض لا مباشرة و لا تسبیبا»(3).

لأنّه فی مسألتنا أعطی ماله فی مقابل عوض معین فإذا صارت المعاملة باطلة و حکم الشارع بعدم جواز أخذ ثمن المسمی و تلف المال فی ید المشتری، فلا یرضی البائع بهذه المعاملة و المعاوضة و لا تطیب نفسه بها فیکون المشتری ضامنا حتّی فی فرض التلف - و کما هو کذلک فی فرض الإتلاف - و بما ذکرنا یظهر جواب هذا الإشکال فی الطائفة الثانیة أیضا.

الثانیة: ما دلّ علی أنّ حرمة مال المسلم کحرمة دمه

منها: موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : سباب المؤمن فسوق و قتاله کفر و أکل لحمه معصیة و حرمة ماله کحرمة دمه.(4)

ص: 344


1- (2) عوالی اللآلی 3/473، ح1.
2- (3) مصباح الفقاهة 3/90.
3- (4) القواعد الفقهیة 2/106 للسیّد البجنوردی.
4- (5) وسائل الشیعة 12/297، ح3، الباب 158 من أبواب أحکام العشرة.

بتقریب: نزّل حرمة مال المؤمن منزلة حرمة دمه و عموم التنزیل یقتضی ثبوت کلّ حکم للدم، للمال أیضا و حیث أنّ الدم لا یذهب هدرا و إراقته حرام تکلیفا و وضعا و هو یوجب ثبوت القصاص أو الدیة فکذلک المال حرام التصرف فیه من دون إذن مالکه و علی

فرض التصرف الحرام یوجب الضمان. و السیاق لیس بحجة و ظهور بقیة الفقرات فی الحکم التکلیفی لایوجب ظهور الأخیرة فی الحکم الوضعی.(1)

و العجب من المحقّق السیّد الخوئی حیث خصص الروایة فی صورة الإتلاف - لاالتلف - و علّله بقوله: «إذ لا یتوهم عاقل أنّه إذا تلف مال مؤمن بآفة سماویة ضمن به سائر المؤمنین و علیه فیکون الدلیل أخص من المُدعی»(2).

وجه التعجب: لا یتوهم لو مات أحدٌ حتف أنفه أو قُتل أحدٌ فی المجتمع فدیته علی الجمیع حتّی یتوهم ذلک بالنسبة إلی تلف المال، نعم لو وجد قتیل فی قبیلة أو قریة - و کانت موضع اتّهام - تُعْقَلُ الدیة(3) بینهم لما دلّ علیه النصوص.(4)

و کذلک بالنسبة إلی المال و أمّا إذا کان المالک لا یرضی إلاّ ببدل ماله و أبطل الشارع ثمن المسمی فهل لأحد أن یقول بعدم حرمة المال حینئذ و جواز أکله من دون عوض و ضمان؟! کلاّ.

الثالثة: ما ورد من الروایات من التعلیل فیها بعدم ذهاب حقّ أحدٍ.

منها: صحیحة ضُرَیس الکناسی قال: سألت أباجعفر علیه السلام عن شهادة أهل الملل هل تجوز علی رجل مسلم من غیر أهل ملّتهم؟ فقال: لا، إلاّ أن لا یوجد فی تلک الحال غیرهم،

ص: 345


1- (1) خلافا للسیّد الخوئی فی مصباح الفقاهة 3/91.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/91 و راجع کتابه 3/129.
3- (3) أی تکون علی (العاقلة).
4- (4) راجع وسائل الشیعة 29/148، الباب 8 من أبواب دعوی القتل.

و إن لم یوجد غیرهم جازت شهادتهم فی الوصیة لأنّه لا یصلح ذهاب حقّ امری مسلم و لاتبطل وصیته.(1)

و منها: صحیحة الحلبی و محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سألته: هل تجوز شهادة أهل ملّة من غیر أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إذا لم یوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غیرهم، إنّه لا یصلح ذهاب حقّ أحد.(2)

و منها: موثقة سماعة قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن شهادة أهل الذمة؟ فقال: لا تجوز إلاّ علی أهل ملّتهم، فإن لم یوجد غیرهم جازت شهادتهم علی الوصیة لأنّه لا یصلح ذهاب حقّ أحدٍ.(3)

بتقریب: أنّ عنوان الحقّ عام یشمل الحقوق المالیة و الحقوق المصطلحة فی مقابل الحکم و المال و الملک(4)، فحینئذ یدلّ التعلیل الوارد فی الروایات بأنّه إذا ثبت حقّ شخصٍ علی غیره لایجوز ذهابه و فواته بغیر عوض و لیس هذا إلاّ معنی الضمان.

ولکن یمکن أنّ یناقش فی دلالة هذه الطائفة الثالثة بأنّها «واردة فی مورد الوصیة و أنّ للمسلم أن یوصی بماله و هذا حقّ له و لا یصلح أن یذهب حقّه، و علیه فإن أمکن الإشهاد علیه من المسلمین فهو، و إلاّ تجوز شهادة غیرهم أیضا و هذا المعنی أجنبی عمّا نحن فیه بالمرّة»(5) کما عن المحقّق السیّد الخوئی.

ص: 346


1- (5) وسائل الشیعة 19/309، ح1، الباب 20 من أبواب الوصایا.
2- (6) وسائل الشیعة 19/310، ح3.
3- (7) وسائل الشیعة 19/311، ح5.
4- (1) قد مرّ منّا تعریف الحقوق، و الفارق بینها و بین الحکم و المال و الملک فی التنبیه الثالث بعد تعریف البیع فی أوّل الکتاب فراجع ص15 من هذا المجلد.
5- (2) مصباح الفقاهة 3/93.

و لأحد أن یقول: نتمسک بالتعلیل الوارد فی ذیل الروایات و هو عدم جواز ذهاب حقّ أحد هدرا، و الوصیة إحدی مصادیقه و لا یختص بها و قاعدة الاحترام یشملها التعلیل و الحمدللّه.

الرابع: قاعدة نفی الضرر
اشارة

الروایات الواردة حول قاعدة لا ضرر مستفیضة عند الفریقین:

منها: موثقة زرارة.(1)

و منها: معتبرة أبی عبیدة الحذّاء.(2)

و منها: خبر زرارة.(3)

و منها: خبر عقبة بن خالد.(4)

و منها: خبر آخر لعقبة بن خالد.(5)

و منها: مرسلة الصدوق عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام.(6)

و منها: صحیحة هارون بن حمزة الغنوی.(7)

و منها: صحیحة و مکاتبة محمّد بن الحسین.(8)

ص: 347


1- (3) وسائل الشیعة 25/428، ح3، الباب 12 من أبواب کتاب إحیاء الموات.
2- (4) وسائل الشیعة 25/427، ح1.
3- (5) وسائل الشیعة 25/429، ح4.
4- (6) وسائل الشیعة 25/399، ح1، الباب 5 من أبواب کتاب الشفعة.
5- (7) وسائل الشیعة 25/420، ح2، الباب 7 من أبواب إحیاء الموات.
6- (8) الفقیه 4/334، ح5718، باب میراث أهل الملل.
7- (1) الکافی 5/293، ح4.
8- (2) الکافی 5/293، ح5.

و منها: خبر ثالث لعقبة بن خالد.(1)

و منها: صحیحتا الحلبی.(2)

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم.(3)

و منها: مرسلة القاضی نعمان المصری و هی خبر هدم الحائط.(4)

و منها: مرسلة أُخری له.(5)

و هذه أربع عشرة من الروایات المذکورة فیها قاعدة لا ضرر أو تطبیقها من طرقنا. و قد ورد ذکرها فی کتب العامة أیضا نحو مسند أحمد(6) و سنن ابن ماجه(7) (8) و سنن الدار قطنی(9) و المراسیل مع الأسانید لأبی داود(10) و کنزالعمال للمتقی الهندی.(11)

بل یمکن القول بتواترها الإجمالی کما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی(12) قدس سره .

و هذه الروایات تدل علی نفی الحکم الضرری فی الشریعة المقدسة و أنّ الحکم

ص: 348


1- (3) الکافی 5/294، ح7.
2- (4) وسائل الشیعة 23/36، ح1 و 2، الباب 18 من أبواب کتاب العتق.
3- (5) وسائل الشیعة 23/40، ح12.
4- (6) دعائم الاسلام 2/504، ح1805 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/118، ح1.
5- (7) دعائم الاسلام 2/499، ح1781 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/118، ح2.
6- (8) مسند أحمد 1/313.
7- (9) سنن ابن ماجه 2/784، ح2340 و ح2341.
8- (10) بالهاء الخالصة و لیس بالتّاء القصیرة المربوطة کما نبّه عی ذلک محقّقو العامّة. ممّن عرضوا لترجمته. و لیست بعربیّةٍ.
9- (11) سنن الدار قطنی 4/228 و 4/822.
10- (12) المراسیل مع الأسانید /207، ح2، باب 71 فی الإضرار.
11- (13) کنزالعمال 3/919، ح9167 و 4/61، ح9519 و ح9518 و 5/843، ح14534.
12- (14) کفایة الاُصول 3/159 طبع جماعة المدرسین بقم المقدسة، عام 1427ق.

الضرری غیرمجعولة فیها و إذا وصلت الأحکام الشرعیة إلی حدّ الضرر تنفی بهذه القاعدة المهمة و التفصیل یطلب من الأبحاث الاُصولیة فی نهایة مطاف البحث حول الاُصول العملیة، یبحث فیها حول قاعدة لا ضرر مفصلاً.(1) و من المعلوم أنّ الحکم بعدم ضمان القابض لما قبضه بالعقد الفاسد ضرر علی مالکه فأدلة نفی الضرر تنفیه.

ولکن یمکن أن یناقش فیه بعدّة من الوجوه:

الأوّل: أدلة لا ضرر لو دلّت علی الضمان - و لم تدل - فإنّما تدل علیه فی بعض الموارد نحو: الإتلاف أو استیفاء المنافع أو فیما کان العمل بأمر الآمر و أمّا فی فرض التلف السماوی - مع تحفظ القابض علیه - فلا موجب لإضراره دفعا لتضرر المالک.

الثانی: إذا انتفی الضمان المسمی ببطلان المعاملة یبقی الضمان بالنسبة إلی البدل الواقعی و حینئذ تقع المعارضة فی شمول أدلة نفی الضرر لکلا الطرفین لأنّ البدل الواقعی قد یزید علی البدل المسمی بکثیر و لم یقدم علیه القابض بوجه من الوجوه.

الثالث: - و هو العمدة فی المقام - عدم شمول أدلة نفی الضرر للأحکام العدمیة لأنّها تنفی ما ثبت بالعمومات من الأحکام الشرعیة، و عدم الضمان و غیره من الاُمور العدمیة لیست أحکاما شرعیة مجعولة من قبل الشارع، لأنّ ما یصحح استناد الضرر هو إیجاد مایستلزمه و أمّا عدم إیجاد المانع عن الضرر فلا یتحقّق به إسناد الضرر.

مضافا إلی أنّ الالتزام بعموم الأدلة للأحکام العدمیة یوجب تأسیس فقه جدید کما هو الثابت فی محلّه.(2)

ص: 349


1- (15) قد بحثنا حولها شهرین کاملین فی بحوثنا الاُصولیة وللّه الحمد.
2- (1) راجع فی هذا المجال تقریر أبحاث المحقّق النائینی حول قاعدة لا ضرر المطبوع فی ضمن منیة الطالب 3/418 و مصباح الاُصول 2/559 تقریر أبحاث السیّد الخوئی و منتقی الاُصول 5/450 تقریر أبحاث المحقّق الروحانی قدس سرهم .
تنبیهٌ:

هذا تمام الکلام فی مدرک قاعدة ما یضمن ولکن بقی هنا أمرٌ لابدّ من التنبیه علیه و هو بعض الأعمال المضمونة التی لا یرجع نفعها إلی الضامن و لم تقع بأمره کالسبق فی المسابقة الفاسدة هل فیها ضمان أم لا؟ أی هل یستحق السابق أجرة المثل أم لا؟

ذهب إلی عدم الضمان و عدم استحقاقه اُجرة المثل جماعة عُدّ منهم:

الشیخ قال فی المبسوط: «و مَن قال المناضلة باطلة، فتناضلا فإن کان الناضل هو المسبِّق فلا کلام یمسک مال نفسه، و إن کان الناضل هو المسبَّق لم یستحقّ المسمّی لأنّ المسمی سقط فی العقد الفاسد. و قال قوم یستحقّ اُجرة المثل کالبیع و الصلح و الإجارة، و

قال آخرون لایستحقّ شیئا لأنّه إنّما یجب اُجرة المثل فی الموضع الذی یفوِّت علی العامل عمله و عاد به نفعه إلی الناضل کالقراض الفاسد یجب علیه اُجرة مثل العامل لأنّه فوّت علیه عمله فیما عاد نفعه إلیه»(1)

و أنت تری بأنّ الشیخ ذکر طرفی المسألة من استحقاق أجرة المثل و عدمها و استدل لهما و لم یختر فی المقام شیئا فعدّ الشیخ بواسطة هذا الکلام و عدم اعتراضه علی القول بعدم استحقاق أجرة المثل من القائلین به، لا بأس به.

نعم، عنون صدر المسألة فی الخلاف و قال: «إذا تناضلا فسبق أحدهما صاحبه فقال لک عشرة بشرط أن تطعم السبق أصحابک کان النضال صحیحا و الشرط باطلاً، و به قال أبوحنیفة و أبو اسحاق المروزی، و قال الشافعی: النضال باطل، دلیلنا: أنّ الأصل صحته و

ص: 350


1- (1) المبسوط 6/302.

أن مضامة الشرط إلیه تفسده یحتاج إلی دلیل»(1).

و هذه المسألة أیضا تخلو من القول بالفساد و عدم استحقاق أُجرة المثل.

و منهم: المحقّق قال: «الخامسة: إذا فسد عقد السبق، لم یجب بالعمل اُجرة المثل و یسقط المسمّی لا إلی بدلٍ، ولو کان السبق مستحِقّا وجب علی الباذل مثله أو قیمته»(2).

و القسم الأخیر من کلامه یرجع إلی ظهور عدم مملوکیّة العوض لِمَنْ یجب علیه بذله فحکم بالانتقال حینئذ إلی المثل أو القیمة.

و منهم: الشهید الثانی نقل استدلال القائلین بوجوب اُجرة المثل بفساد العقد ثم قال ردّا علیهم: «و عندی فیه نظر لأنّ الالتزام لم یقع إلاّ علی تقدیر العقد الصحیح و الأصل برأءة الذمة من وجوب شیء آخر غیر ما وقع علیه العقد. و الفرق بین هذا العقد و بین ما یجب فیه اُجرة المثل من العقود واضح، لا من جهة ما ذکروه من رجوع نفع عمل العامل إلی من یخاطب بالاُجرة حتّی یرد علیه مثل العمل الذی لا یعود به علیه نفع فی القراض، بل لأنّ تلک العقود اقتضت أمر العامل بعملٍ له اُجرة فی العادة، فإذا فسد العقد المتضمّن للعوض المخصوص بقی أصل الأمر بالعمل الموجب لاُجرة المثل بخلاف هذا العقد، فإنّه لا یقتضی أمرا بالفعل، فإن قوله: سابقتک علی أن مَنْ سبق منّا فله کذا، و نحو ذلک من الألفاظ الدالة علی المراد لیس فیها أمر و لا ما یقتضیه بفعل له اُجرة، فالأصل براءة الذمة من وجوب شیء

آخر غیر ما تضمّنه العقد...»(3).

و منهم: المحقّق الأردبیلی ولکن علی القول بأنّ عقد السبق جائز - کما علیه الشیخ

ص: 351


1- (2) الخلاف 6/105، مسألة 10.
2- (3) الشرائع 2/188.
3- (1) المسالک 6/109.

فی الخلاف(1) - قال: «ثم اعلم إنّه علی تقدیر کونه جائزا کالجعالة یقوی عدم لزوم شیء فی صورة الفساد مطلقا لعدم الدلیل»(2).

و منهم: المحقّق السبزواری قال: «السادسة: إذا فسد عقد السبق ففی وجوب أجرة المثل و عدمه قولان و الأقرب الثانی فیسقط المسمی لا إلی بدل، ولو ظهر کون السبق مستحِقّا للغیر و لم یرض المالک ففی ثبوت المثل أو القیمة أو ثبوت اُجرة الثمل قولان، و المسألة محلّ إشکال»(3).

و ذهب إلی استحقاق أُجرة المثل و الضمان جماعة:

منهم: العلاّمة قال فی القواعد: «فإن فسدت المعاملة بکون العوض ظَهَرَ خمرا رجع إلی اُجرة مثله فی جمیع رکضه لا فی قدر السبق، و قیل: یسقط المسمّی لا إلی بدل. ولو فسد لاستحقاق العوض وجب علی الباذل مثله أو قیمته و یحتمل اُجرة المثل»(4).

و قال فی التحریر: «السابع: کلّ موضع فسدت فیه المسابقة فإن کان السابق هو المخرج لم یستحقّ شیئا علی صاحبه و کان سبقه له، و إن کان الآخر استحقّ علی المخرج اُجرة المثل، ولو کان العوض مستحَقّا کان علی مخرجه قیمته أو مثله»(5).

و نحوه فی تذکرة الفقهاء(6).

و منهم: ولده قال فی الإیضاح: «إذا فسد عقد المسابقة لفقد شرط فی السبق المعین

ص: 352


1- (2) الخلاف 6/105، مسألة 9.
2- (3) مجمع الفائدة و البرهان 10/188.
3- (4) الکفایة 1/729.
4- (5) القواعد 2/375.
5- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 3/169.
6- (7) تذکرة الفقهاء 2/357 من الطبع الحجری.

فی العقد فإما أن لا یکون له قیمة فی شرع الإسلام و لا یملک لکونه خمرا أو یکون له قیمة فی شرع الاسلام و یمکن تقویمه فهنا مسألتان ذکرهما المصنف فی هذا الکلام:

أما الاولی: ففیها قولان (ذکرهما المصنف هنا)(1) الثانی منهما قول الشیخ لأنّه لم یعمل

له شیئا و فائدة عمله یرجع إلیه بخلاف ما إذا عمل فی الإجارة أو الجعالة الفاسدتین فإنّه یرجع العامل إلی اُجرة المثل لأنّ فائدة العمل ترجع إلی المستأجر و الجاعل و اختاره أبوالقاسم بن سعید.

و الأوّل: اختیار المصنف لأنّ کلّ عقد استحق المسمّی فی صحیحه فإذا المعقود علیه فی فاسده وجب عوض المثل کالإجارة لأنّه بصحة الاجارة علیه علم أنّه مملوک لصاحبه مقصود فی المعاوضة متقوم و الفاسد یتضمن الأمر فینتفی التبرع.

(ب) [و أما الثانیة(2)]: و هو أن تکون له قیمة شرعا و یمکن تقویمه کما لو خرج مستحقا فیحتمل استحقاق مثله إن کان مثلیا و إلاّ فالقیمة لأنّهما تراضیا علی هذا العوض و قد تعذر فله ما یقوم مقامه و الأصح اُجرة المثل لأنّ العقد الفاسد علی عمل یصح لو لا هذا الخلل یجب اُجرة المثل»(3).

و منهم: المحقّق الثانی اختار فی المسألة الاُولی - و هی فساد العقد لأجل کون العوض ظهر خمرا مثلاً - قولَیِ العلاّمة فی القواعد و التذکرة و هو وجوب «اُجرة المثل لأنّ کلّ عقد استحق المسمّی فی صحیحه فإذا وجود المعقود علیه فی الفاسد وجب عوض المثل و العمل فی القراض قد لا ینتفع به المالک و مع ذلک یکون مضمونا فیرجع إلی اُجرة المثل

ص: 353


1- (8) الظاهر زیادة هذه الجملة الواردة بین القوسین ولکنها موجودة فی المطبوعة.
2- (1) الزیادة منّا و لیست فی النسخ.
3- (2) ایضاح الفوائد 2/368.

بجمیع رکضه لا إلی القدر الذی سبق به لترتبه علی جمیع رکضه»(1).

و کذا اختار فی المسألة الثانیة - و هی فساد العقد لأجل أن یکون العوض مستحقا للغیر - لزوم اجرة المثل و هو یری دلیل المسألتین واحد و کذا الفتوی.(2)

ثم استشکل فی الوجه الثانی الذی ذکره العلاّمة فی التذکرة: «و هذا و إن کان أقرب لکن یشکل بانتفاء العرف فیه بین الناس»(3). و ردّه بقوله: «ولکن انتفاء العرف لا یوجب العدول إلی الطرف الآخر الضعیف فإن أمکن الوقوف علیه و إلاّ اصطلحا»(4).

أقول: الظاهر - و اللّه العالم - عدم الفرق بین المسألتین و دلیلهما واحد کما نبّه علیه المحقّق الثانی(5) و التفصیل بین فساد عقد المسابقة من رأسها و ما لو ظهر کون

السبق مستحِقّا للغیر و لم یرض المالک بأنّ السبق فی غیر محلّه لأنّ مآل الثانی أیضا ینجر إلی الأوّل - أی فساد العقد - .

و فی کلیهما یکون الضمان موجودا لعدم التبرع بالعمل و لأنّ عمل المؤمن کماله محترم - و لایکون الضمان منحصرا بصورة الأمر بالعمل کما یظهر من الشهید الثانی(6) - و إذا انتفت اُجرة المسمی تصل النوبة إلی اُجرة المثل بلا فرق بین المسألتین. و هذا القول هو مختار المحقّق الثانی و قبله فخر المحقّقین و والده العلاّمه فی أحد احتمالاته، و بعد صاحب الجواهر کما سیأتی کلامه.

ص: 354


1- (3) جامع المقاصد 8/337.
2- (4) جامع المقاصد 8/338.
3- (5) تذکرة الفقهاء 2/357 من الطبع الحجری.
4- (6) جامع المقاصد 8/338.
5- (7) جامع المقاصد 8/338.
6- (1) المسالک 6/109.

و بما ذکرنا یظهر عدم تمامیة مقالة المحقّق النائینی حیث یقول: «انتفاء مقتضی الضمان إذا لم یعد عمل العامل إلی الآمر بوجهٍ، و لم یتحقّق من الآمر ما یوجب الضمان من ید أو إتلاف أو استیفاء فلا موجب للضمان»(1).

و کذا عدم تمامیة مقالة تلمیذه المحقّق السیّد الخوئی حیث یقول فی المقام: «... فإذا فقد شرط من شرائط عقد المسابقة و صار فاسدا کان ذلک مصداقا للقمار المحرّم فیکون أکل المال به أکلاً له بالباطل، إذ المفروض أنّه لم یتحقّق فی مورد المسابقة الفاسدة ما یوجب الضمان...»(2).

و وجهها: أنّ الشارع لا یری لعمل القمار احترما ولکن یری لعمل المسابقة الخاصة احتراما فإذا کان العمل محترما و لم یتبرع السابق به فلابدّ له من اعطاء اُجرة المثل. و لذا قال صاحب الجواهر ما نصه: «... إنّما المقتضی لها (أی لاُجرة المثل) عدم کون العمل متبرعا به و الأصل ضمانه لأنّ عمله کماله و هو فی الجمیع حاصل...»(3).

المقام الثالث: هل یختص الضمان بصورة الجهل
اشارة

بفساد المعاملة أم یعم صورة العلم؟

المسألة لها صور أربع: علم الدافع و القابض بالفساد و جهلهما و علم الدافع و جهل القابض و عکسه. و حکم جمیع الصور الأربع الضمان کما علیه المشهور(4) لإطلاق النص أو الفتوی کما

ص: 356


1- (2) المکاسب و البیع 1/308.
2- (3) مصباح الفقاهة 3/99.
3- (4) الجواهر 28/238.
4- (1) نبّه علیه الفقیه المامقانی غایة الآمال /281.

قاله الشیخ الأعظم(1) أو لإطلاق السیرة العقلائیة علی ضمان الید مع الإقدام کما عن المحقّق الخوئی(2).

أو لإطلاق ما مرّ من الأدلة علی الضمان و هی قاعدة الإقدام و حدیث علی الید و قاعدة الاحترام و جریانها فی جمیع الصور.

ولکن احتمل ثانی الشهیدین عدم الضمان فی فرضی علم الدافع بالفساد و جهل القابض به و علمهما و قال: «مع احتمال عدم الضمان لو علم، لتسلیطه علی إتلافه مع علمه بکونه باقیا علی ملکه و کذا لو کانا عالمین بالفساد - ثم قال: - و الأقوی ثبوته فی جمیع الصور»(3).

و أخذ المحقّق الأردبیلی محتمل الشهید الثانی و ذهب إلی عدم الضمان فی الفرضین و قال: «و هو (أی عدم الضمان) مع الجهل بالفساد قویٌّ و مع علم الآخر أقوی... و مع علمه بالفساد... کالمغصوب...، و أما مع الجهل بالفساد - سیما فی أمر غیر ظاهر الفساد و کذا بعد العلم به ولکن مع عدم العلم بوجوب الردّ فی الحال - فالضمان غیر ظاهر»(4).

و تبعهما الفقیه الیزدی قال: «التحقیق عدم الضمان مع علم الدافع خصوصا مع جهل القابض لأنّ الإذن فی التصرف مسقط للضمان»(5).

ولکن ظهر ممّا ذکرنا من جریان الأدلة فی الفروض الأربعة الحکم بالضمان فی جمیعها فلا یصغی إلی محتمل ثانی الشهیدین و اختیار المحقّق الأردبیلی و الفقیه الیزدی له قدس سرهم .

ص: 356


1- (2) المکاسب 3/192.
2- (3) مصباح الفقاهة 3/99.
3- (4) المسالک 3/154.
4- (5) مجمع الفائدة و البرهان 8/192.
5- (6) حاشیة المکاسب 1/458.

لایقال: إذا کان الدافع عالما بالفساد ولکن جهل القابض بالفساد تصدق علیه قاعدة الغرور و أنّ المغرور یرجع علی مَنْ غرّه، لأنّ الدافع العالم بالفساد إذا رضی ببیع ماله بثمن بخس ظاهرا - لأنّ البیع فی الحقیقة یکون باطلاً بأیّ دلیل - لأجل الرجوع إلی ثمن المثل بعد تصرف البائع الجاهل بالبطلان فهذا یدخل فی قاعدة الغرور، و هذا البیع و الإقباض الظاهری من البائع یکون خدعة و یدخل فی قاعدة الغرور.

لأنّا نقول: هذا الفرع لا یدخل تحت قاعدة الغرور لأنّ القابض الجاهل (المشتری) قبض المال مع ضمانه بالمسمّی و إقراره به و الدافع العالم (البائع) سلّطه علی المال بأنّه ملکه فی مقابل العوض لا بعنوان الأمانة أو العاریة، فمع هذا الاقرار من القابض الجاهل و هذا النوع من التسلیط - أی فی مقابل العوض لا مجانا - من الدافع العالم فلا یکون فی البین غرورٌ، و حینئذ لو کان العین موجودة لا یجوز للقابض الجاهل (المشتری) التصرف فی المال و لا الانتفاع به و یجب علیه دفعه إلی الدافع العالم (البائع) بعد علمه ببطلان العقد.

و بعبارة اُخری: قاعدة الغرور لا تتحقّق إلاّ بأمرین، أحدهما: علم الغارّ و ثانیهما: جهل المغرور، و من المعلوم أنّ القابض یکون جاهلاً بفساد العقد، إلاّ أنّه عالم و مقررٌ بأخذه فی مقابل العوض و عدم أخذه مجانا.

نعم: یمکن جریان قاعدة الغرور فی الزائد عن العوض المسمّی لأنّ الدافع غارّ بالنسبة إلی هذا الزائد فیرجع إلیه لا إلی القابض المغرور کما قاله المحقّق الخوئی(1) رحمه الله .

إن قلت: المالک الدافع مع علمه بالفساد قد سلّط القابض علی ماله، فصار المال أمانة مالکیة عند القابض و حینئذ إذا تلف لم یحکم بضمانه لما ورد من الروایات(2) علی عدم

ص: 357


1- (1) مصباح الفقاهة 3/100.
2- (2) وسائل الشیعة 19/79، الباب 4 من أبواب الودیعة.

ضمان الأمین مع عدم التفریط.

قلت: تسلیط المالک الدافع لا یکون مجانیّا و بلاعوض حتّی صار المال أمانة مالکیة بل تسلیطه یکون بإزاء العوض، و أقرّ القابض بالعوض و هذه الکیفیة من التسلیط فالضمان فی مقابل المال یکون موجودا و حتّی علی فرض الشک فی بقاء الضمان یستصحب.

إن قلت: إنّ الإذن المتحقّق فی ضمن العقد الباطل یکون مسقطا للضمان.

قلت: هذا الإذن موجود ولکن لیس علی نحو الاطلاق بل إنّما هو إذن مقیّد بدفع عوض المقبوض کما نبّه علیه المحقّق السیّد الخوئی(1).

و سیأتی تفصیل البحث فی مسألة بیع الغاصب مع علم المشتری بالغصب إن شاء اللّه تعالی فانتظر.

تذکرة:

قد یتوهم انتقاض قاعدة ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده بالنکاح الفاسد مع

علم المرأة بالفساد لأنّها حینئذ تکون زانیة و لا مهر لبغیٍّ، مع أن النکاح الصحیح یقتضی الضمان بالمهر المسمی أو المثل علی اختلاف الفروض.

و فیه:النکاح خارج عن هذه القاعدة موضوعا لانّ المَهر لیس بازاء الوطی أو الاستمتاعات الزوجیة حتّی یوجب الضمان علی کلا تقدیری صحة العقد و فساده بل المهر یقع بإزاء الزوجیة الاعتباریة - دائمیة کانت أو موقتة - و استحقاق الزوجة للمهر وقع بنفس العقد، نعم الدخول یوجب استقرار تمامه تعبدا.

فالبضع و الاستمتاعات و الوطی لا مالیة لها شرعا فلا تقابل بالمال، نعم ثبت مهرالمثل فی بعض الموارد کالوطی بالشبهة تعبدا لاحترام الأعراض.

ص: 358


1- (3) مصباح الفقاهة 3/100.

و بالجملة: النکاح خارج عن القاعدة موضوعا لأن موضوعها العقود التی یکون الضمان فیها مستندا إلی غیر العقد فانکاح الصحیح فیه المهر و النکاح الفاسد أیضا فیه مهرالمثل و أمّا الزنا ولو من جانب المرأة لیس فیها شیء لورود لا مهر لبغیّ، فلا وجه لتوهم انتقاض القاعدة و الحمدللّه.

و هذا تمام الکلام فی البحث حول أصل قاعدة ما یضمن و أمّا نقیضها أو سالبتها و هی:

قاعدة ما لا یُضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده
اشارة

فقد مرّ ورود هذه القاعدة أیضا فی کلمات الأعلام فی أوّل البحث حول أصل القاعدة و معانی الألفاظ الواردة فیها لا نعیدها.

و یظهر معنی النقیض أو السلب من معنی الأصل للمتأمل و حاصل معناها: کلّ عقد لایقتضی ضمانا إذا کان صحیحا فلا یقتضی ضمانا إذا کان فاسدا کما فی العقود الوکالة و المضاربة و الجعالة.

و ما ورد فی تعریف شیخنا الأنصاری قدس سره من: «أن کلّ عقد لا یفید صحیحه ضمان مورده ففاسده لا یفید ضمانا»(1) ظاهر مورد العقد هو ما تعلَّق به العقد کالعین فی البیع و المنفعة فی الإجارة ولکن مراده هنا أعمٌ منه و من متعلَّق متعلَّق العقد کما یظهر من حکمه بعدم ضمان العین المستأجرة فاسدا و من المعلوم أنّ العین فی عقد الإجارة یکون من متعلّق متعلّق العقد و متعلّق عقد الإجارة هو المنفعة کما مرّ. ولو لم یکن مراده أعم تخرج العین

المستأجرة عن القاعدة موضوعا و یرجع فیها إلی قاعدة الید المقتضیة للضمان.(2)

ص: 360


1- (1) المکاسب 3/192.
2- (1) کما ذکره فی هدایة الطالب 2/275.

ثم مثّل بالعاریة الغیر المضمونة للقاعدة و قال: «بل المضمونة بناءً علی أنّ المراد بإفادة الصحیح للضمان إفادته بنفسه لا بأمر خارج عنه کالشرط الواقع فی متنه»(1).

و قد مرّ فی الجهة الخامسة من المقام الأوّل من البحث حول أصل القاعدة عمومیة القول بالضمان بشروط أیضا فراجع.

و قال فی المفتاح: «قد طفحت عباراتهم بهذه القاعدة و قد ادّعی الإجماع علیها و هی معروفة بینهم من غیر نکیر»(2).

ثمَّ هاهنا جهتان من البحث:

الجهة الاُولی: دلیل اعتبار قاعدة ما لا یضمن
الأوّل: الاُولویة المستفادة

من کلام الشیخ الطوسی و مرّ بنصه فی أوّل البحث حول قاعدة ما یضمن و استظهارها من کلماته من قوله قدس سره : «فإن هلک هذا الشیء فی یده فی الشهر لم یکن مضمونا علیه لأنّ صحیح الرهن غیر مضمون علیه فکیف فاسده...»(3).

و قال الشیخ الأعظم فی توضیحه(4) بشرح منّا: أنّ سبب الضمان فی العقود الصحیحة المضمِّنة کالبیع و الاجارة أمران:

الأوّل: إقدام المتعاقدین من ضمان کلّ منهما بمال الآخر.

الثانی: إمضاءُ الشارع لما أقدما علیه و حکمه بوجوب الوفاء بما التزمابه.

و کلا الأمرین منتفٍ فی مثل الرهن أمّا الأوّل فَلاِءنّ تسلیم العین إلی المرتهن لیس

ص: 360


1- (2) المکاسب 3/192.
2- (3) مفتاح الکرامة 19/414.
3- (4) المبسوط 2/204.
4- (5) المکاسب 3/196.

بقصد تملیکها له بعوض بل بقصد کونها وثیقة عنده فسار أمانه عنده.

و أمّا الثانی: فَلاِءنّ الامضاء یکون علی طبق المُمْضی و مماثلاً له و لما کان الممضی هو البناء علی تسلیم العین إلی المرتهن و تسلُّمها بلاعوض و من دون ضمان یکون إمضاؤه کذلک و الإمضاء تأتی علی فرض صحة العقد لا فساده و المفروض أنّه فاسد فلا ضمان.

و قال فی وجه الأولویة(1) بشرحٍ منّا: الرهن الفاسد اُولی بعدم الضمان إمّا من صحیح تلک العقود التی لیس فی فاسدها ضمان، و إمّا من العقود الفاسدة التی فی صحیحها ضمان، فهذان احتمالان فی وجه الأولویة:

أمّا الأوّل: فَلاِءنّ صحیح هذه العقود لیس فیه ضمان لانتفاء الموجب للضمان - و هو الإقدام - فإذا انتفی الضمان فی صحیحه ففاسده أولی بعدم الضمان، مضافا إلی عدم الإمضاء فی الفاسد.

أمّا الثانی: فإذا کان العقد الذی فی صحیحه ضمان بسبب الإقدام و الامضاء نحو البیع الصحیح و الاجارة الصحیحة، إذا انتفی السببان فی الفاسد لأنّهما أقدما علی الضمان الخاص و المفروض أنّه منتف لأنّ العقد فاسد، و الإمضاء مفقود کذلک لفساد العقد فإذا یمکن القول حینئذ بعدم الضمان فیه، یکون عدم الضمان فی الفاسد الذی لا یضمن بصحیحه اُولی منه، لأنّه علی تقدیر صحته و الإمضاء الشرعی له لا یکون فیه ضمان فیکف مع فساده و عدم وجود الإمضاء له.

کلا الاحتمالین یأتی و یمکن أن یستظهر من کلام الشیخ الأعظم. کما حمل المحقّق الشهیدی کلامه علی الأوّل(2) تبعا للمحقّق الإشکوری(3)، و المحقّقون الیزدی(4) و

ص: 361


1- (1) المکاسب 3/197.
2- (2) هدایة الطالب 2/285.
3- (3) بُغیة الطالب 1/216.
4- (4) حاشیة المکاسب 1/462.

الأصفهانی(1) و الحکیم(2) علی الثانی.

ولکن أبدع المحقّق الإیروانی احتمالاً ثالثا و هو ملاحظة الأولویة بین عقدین یقتضی صحیح أحدهما الضمان و لا یقتضیه الآخر و قال: «ینبغی تقریر الأولویة هکذا: إنّ صحیح العقد الذی کان فیه إقدام علی الضمان لیس فی فاسده اقدام، لما عرفت أنَّ الاقدام حاصل علی المسمّی و لا ضمان به، و ما به الضمان و هو المثل أو القیمة لا إقدام علیه، فإذا کان هذا حال ما کان الإقدام فی صحیحه علی الضمان موجودا فکیف ما لا إقدام فی صحیحه علی الضمان، فإنّه بالأحری أن لا یکون فی فاسده إقدام علی الضمان»(3).

فهذه ثلاثة احتمالات فی وجه الأولویة فی کلام الشیخ الأعظم قدس سره و الاحتمال الأوّل متعیّن فی کلام الشیخ الطوسی - قدس اللّه أسراره - و حیث کلام الشیخ الأنصاری یرجع إلیه فلابدّ من الأخذ بالإحتمال الأوّل و ان کان فی عبارته تشویش أو إغلاق. مضافا إلی عدم تمامیة احتمالی الثانی و الثالث لما مرّ من وجود الضمان بالنسبة إلی العقد الفاسد الذی یکون فی صحیحه ضمان لأنّه یدخل فی أصل قاعدة ما یضمن و لأنّ الخدشة الآتیة فی کلام الشیخ الأعظم یرد علی الاحتمال الأوّل فقط، فهذه ثلاثة قرائن یقتضی الاحتمال الأوّل.

کما أنّ المحقّق الهمدانی(4) یری الاحتمال الأوّل بین الاحتمالات أعدلها و أظهرها.

ولکنّ فی المقام احتمالاً آخر یخرج الکلام عن الاولویة - باحتمالاتها الثلاثة - بالکلیة و هو أن یکون المراد بکیف فی کلام شیخ الطائفة قدس سره التعجب فقط من القول بالضمان فی العقد

ص: 362


1- (5) حاشیة المکاسب 1/340.
2- (6) نهج الفقاهة /214.
3- (7) حاشیة المکاسب 2/122.
4- (1) حاشیة المکاسب /64 و 63.

الفاسد الذی لا یکون فی صحیحه ضمان، و علی هذا الاحتمال یغلق باب الاُولویة.

ثم یخدش الشیخ الأعظم(1) فی الأولویة المذکورة بما حاصلها: یمکن أن یدعی أحدٌ بأنّ صحة العقد و إمضاء الشارع له فی العقود الصحیحة التی لم یکن فیها ضمان سببٌ لعدم وجود الضمان، و هذا السبب - أیّ صحة العقد و امضاء الشارع له - فی العقود الباطلة لا یجری فلا اولویة فی الفاسد.

و بعبارة أُخری: الصحیح منها لیس فیها الضمان لإمضاء الشارع عقدا لیس فیه إقدام علی الضمان من الطرفین فالفاسد منها لیس فیها الضمان لعدم الإقدام علی الضمان و لعدم إمضاء شرعی و لذا یختلف مبنی عدم الضمان فیهما من دون أولویة فی البین.

و هذه المناقشة جاءت فی کلام المحقّق السیّد الخوئی و قال: «إنّ عدم الضمان فی العقد الصحیح - کالهبة الصحیحة مثلاً - إنّما هو من جهة کون المال ملکا مجانیا للقابض، و من الواضح أنّه لم تحصل له الملکیة فی العقد الفاسد - کالهبة الفاسدة مثلاً - و إذن فلا وجه لدعوی الاولویة هنا بوجه»(2).

ثم یناقش الشیخ الأعظم علی أصل استدلال شیخ الطائفة قدس سره بقوله: «إن قلت: إنّ الفاسد و إن لم یکن له دخل فی الضمان، إلاّ أنّ مقتضی عموم «علی الید» هو الضمان، خرج منه المقبوض بصحاح العقود التی یکون مواردها غیر مضمونة علی القابض و بقی الباقی»(3).

و أجاب الشیخ الأعظم بنفسه عن هذا الاشکال بقوله: «ما خرج به المقبوض بصحاح تلک العقود یخرج به المقبوض بفاسدها»(4) و جاء بما یمکن أن یعدّ دلیلاً مستقلاً

ص: 363


1- (2) المکاسب 3/197.
2- (3) مصباح الفقاهة 3/113.
3- (4) المکاسب 3/197.
4- (1) المکاسب 3/197.

لقاعدة ما لایضمن و لذا نبحث عنه تحت عنوان الدلیل الثانی.

الثانی: عموم ما دلّ علی أنّ من لم یُضمِّنه المالکُ فهو غیر ضامن

کما ادعاه الشیخ الأعظم(1) و هو مستفاد من النصوص المتفرقة:

منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن الرجل یستبضع المال فیهلک أو یسرق أعلی صاحبه ضمان؟ قال: لیس علیه غرم بعد أن یکون الرجل أمینا.(2)

الاستبضاع أو البضاعة معاملة یدفع صاحب العین عینه إلی غیره لیتّجر به و کان النفع للمالک و العین تکون أمانة عند الغیر. یقال له بالفارسیة «امانت فروشی».

و منها: موثقة غیاث بن ابراهیم عن أبی عبداللّه علیه السلام : إنّ امیرالمؤمنین علیه السلام اُتی بصاحب حمّام وضعت عنده الثیاب فضاعت فلم یضمنّه، و قال: إنما هو أمین.(3)

و منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: صاحب الودیعة و البضاعة مؤتمنان، الحدیث.(4)

و منها: صحیحة اُخری له و فیها: لیس علی مستعیر عاریة ضمان، و صاحب العاریة و الودیعة مؤتمن.(5)

و منها: صحیحة ثالثة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث: عن رجل استأجر

ص: 364


1- (2) المکاسب 3/197.
2- (3) التهذیب 7/184، ح15.
3- (4) وسائل الشیعة 19/139، ح1، الباب 28 من أبواب کتاب الإجارة.
4- (5) وسائل الشیعة 19/79، ح1، الباب 4 من أبواب الودیعة.
5- (6) وسائل الشیعة 19/93، ح6، الباب 1 من أبواب کتاب العاریة.

أجیرا فأقعده علی متاعه فسرق قال: هو مؤتمن.(1)

و منها: صحیحة أبی بصیر المرادی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث: و فی رجل استأجر جمّالاً فیکسر الذی یحمل أو یهریقه، فقال: علی نحو من العامل إن کان مأمونا

فلیس علیه شیء، و إن کان غیر مأمون فهو ضامن.(2)

و منها: معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لیس لک أن تأتمن من خانک و لاتتّهم من ائتمنت.(3)

و منها: صحیحة مسعدة بن زیاد عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: لیس لک أن تتّهم من قد ائتمنته، و لا تأتمن الخائن وقد جرّبته.(4)

و منها: صحیحة محمّد بن الحسن الصفار قال: کتبت إلی الفقیه علیه السلام [أیّ الإمام الحسن العسکری علیه السلام ]فی رجل دفع ثوبا إلی القصّار لیقصّره فدفعه القصّار إلی قصّار غیره لیقصّره، فضاع الثوب، هل یجب علی القصّار أن یردّه إذا دفعه إلی غیره و إن کان القصار مأمونا؟ فوقع علیه السلام : هو ضامن له إلاّ أن یکون ثقة مأمونا إن شاء اللّه تعالی.(5)

تلک عشرة کاملة من الأحادیث الصحاح یستفاد منها «کل أمین لیس بضامن»، و العقود الفاسدة تکون من صغریات هذا العموم لصدق الأمین علی المستأجر فی الاجارة الفاسدة بالنسبة إلی العین، و المستعیر فی العاریة الفاسدة و نحوها، فلیس فی فاسد هذه العقود ضمان، و مما ذکرنا ظهر عدم تمامیة کلام المحقّق الشهیدی حیث علق علی العموم

ص: 365


1- (7) وسائل الشیعة 19/142، ح3، الباب 29 من أبواب الإجارة.
2- (1) وسائل الشیعة 19/144، ح11، الباب 29 من أبواب کتاب الإجارة.
3- (2) وسائل الشیعة 19/81، ح9، الباب 4 من أبواب الودیعة.
4- (3) وسائل الشیعة 19/81، ح10.
5- (4) وسائل الشیعة 19/146، ح18، الباب 29 من أبواب کتاب الإجارة.

الوارد فی کلام الشیخ الأعظم بقوله: «لم نعثر بهذا الدلیل»(1).

ثم تعرّض الشیخ الأعظم إلی کیفیة خروج الهبة الفاسدة من عموم علی الید و استدل «بفحوی ما دلّ علی خروج صور الاستئمان فإن استئمان المالک لغیره علی ملکه إذا اقتضی عدم ضمانه له، اقتضی التسلیط المطلق علیه مجانا عدم ضمانه بطریق اُولی»(2).

مراده: أنّ عدم الضمان فی صورة قطع العلقة عن المال بالکلیة اُولی من عدم ضمانه فی موارد الاستیمان التی تبقی ملکیة العین لمالکها.

ثم شرّح لنا وجه تقیید التسلیط المطلق بالمجانیة بقوله: «و التقیید بالمجانیة لخروج التسلیط المطلق بالعوض کما فی المعاوضات فإنّه عین التضمین»(3).

مراده: أنّ التسلیط المطلق له فردان: أحدهما: بلاعوض و هو الهبة و الآخر مع العوض و هو المعاوضات، و ما ذکر من الاولویة تجری فی القسم الأوّل - أیّ بلاعوض - لا القسم الثانی - أی مع العوض - و لخروج القسم الثانی أتی بقید المجانیة.

و اعترض علیه المحقّق السیّد الخوئی بأنّ «قاعدة ضمان الید لا تشمل موارد التسلیط المجانی لکی نحتاج إلی تخصیصها بأدلة الاستیمان، و علیه فمورد الکلام خارج عن قاعدة ضمان الید، و عن مورد أدلة الاستیمان - أیضا - خروجا تخصصیا»(4).

ثم اضاف إلی ذلک: «أن المالک لم یسلط غیره علی ماله فی موارد الاستیمان لیتصرف فیه أیّ تصرف، بل سلطه علیه لیحفظه عن التلف، بخلافه فی الهبة الفاسدة، فلا یمکن قیاس

ص: 366


1- (5) هدایة الطالب 2/287.
2- (6) المکاسب 3/198.
3- (7) المکاسب 3/198.
4- (1) مصباح الفقاهة 3/113.

أحدهما بالآخر»(1).

و الشیخ الأعظم لم یأت إلاّ بهذین الدلیلین فی مستند قاعدة ما لا یضمن ولکن یمکن أن یستدل لها بوجوه أُخر نذکرها لک.

الثالث: عدم ثبوت الدلیل علی الضمان

الدلیل الوحید علی عدم الضمان فی موارد قاعدة ما لا یضمن هو عدم ثبوت الدلیل علی الضمان فنأخذ بها مادام لم یثبت دلیل علی وجود الضمان، و هذا الدلیل تام تنبّه علیه المحقّق السیّد الخوئی(2) قدس سره .

الرابع: إقدام المتعاقدین علی المجانیة

المتعاقدان أقدما فی کلّ من العقدین - الصحیح و الفاسد - علی المجانیة و هذا الاقدام رافع للضمان.

ولکن یمکن أن یناقش علیه: بأنّهما أقدما علی المجانیة فی فرض صحة العقد فقط فإذا ارتفعت الصحة ارتفع السبب الرافع للضمان - أیّ المجانیة - و مقتضی عموم علی الید ثبوت الضمان.

اللهم إلاّ ان یقال: بخروجها عن عموم علی الید تخصصا کما مر عن المحقّق الخوئی آنفا.

الخامس: الأصل العملی: البراءة

ثبوت الضمان یحتاج إلی دلیل فإذا شک فی ثبوته یُنفی أصالة البراءة.

و هذا الدلیل تام علی فرض عدم إمکان التمسک بحدیث «علی الید» إمّا لضعف سنده

ص: 367


1- (2) مصباح الفقاهة 3/114.
2- (3) مصباح الفقاهة 3/114.

أو خروج المورد تخصصا منه و إلاّ مع فرض الدلیل اللفظی لم یصل النوبة إلی الأصل العملی.

هذا تمام الکلام فی مستند قاعدة ما لا یضمن و الحمدللّه أولاً و آخرا.

الجهة الثانیة: ما یمکن أن یعد من موارد نقضها
اشارة

و قد ذکروا فروعا بعنوان نقوض القاعدة:

منها: ضمان العین المستأجرة فاسدٌ

کما علیه سیّد الریاض قال: «العین مضمونة فی ید المستأجر مطلقا کما نُسب إلی المفهوم من کلمات الأصحاب و لعلّه لعموم الخبر بضمان ما أخذته الید»(1).

و الناسب هو المحقّق الأردبیلی قال: «إنّ الظاهر أنّ العالم کالغاصب لا یجوز له التصرف و لا یستحق شیئا لما مرّ من أنّ الإذن إنّما علم بالعقد لاعتقاد أنّه صحیح و یلزم الطرف الآخر ما یلزمه و قد بطل و هو عالم بالفرض فیبقی أصل المنع علی حاله کما قیل فی البیع الباطل، بل یفهم من کلامهم الضمان مع الجهل أیضا»(2).

أقول: الظاهر من الأردبیلی أنّه ذهب إلی أنّ مورد نفی الضمان فی هذه القاعدة مورد العقد فقط - و هو متعلَّقه - فلا یعم متعلَّق متعلَّقه خلافا للشیخ الأنصاری قدس سره و جماعة، و ذهب أیضا إلی أنّ المراد بإفادة الصحیح للضمان إفادته بنفسه لا بأمر خارج عنه کالشرط الواقع فی متنه وفاقا للشیخ الأنصاری و لذا قال فی مسألة اشتراط ضمان العین فی عقد الإجارة هو عدم ضمان العین علی تقدیر فساد العقد لفساد الشرط المذکور مستدِّلاً علیه بالأصل «و بما تقرّر عندهم من أنّ کلّ ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده»(3).

و ظاهر هذا الکلام من الأردبیلی عدم الضمان بالنسبة إلی العین المستأجرة کما

ص: 368


1- (1) ریاض المسائل 10/44.
2- (2) مجمع الفائدة و البرهان 10/50.
3- (3) مجمع الفائدة و البرهان 10/69.

استفاد من اطلاق کلام سیّد الریاض حیث یقول: «و العین المستأجرة أمانة لا یضمنها المستأجر و لا ما ینقص منها إلاّ مع تعدٍّ و تفریط، بلا خلاف أجده بل علیه الاجماع فی الغنیة و هو الحجة، مضافا إلی النصوص المستفیضة...»(1).

و لذا قال فی مفتاح الکرامة: «و قد قال فی مجمع البرهان بعد أربع قوائم: إنّ الشرط الفاسد یبطل العقد و لا ضمان لأنّه تقرّر عندهم أنّ ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده و مثل ذلک قال فی الریاض قبل ذلک بمقدار أربع قوائم تقریبا»(2).

ولکن فی مقابل هذا القول تجد قولاً بعدم الضمان و لعلّ هو المشهور کما اختاره العلاّمة فی القواعد و قال: «العین أمانة فی ید المستأجر لا یضمنها إلاّ بتعدٍّ أو تفریطٍ فی المدّة و بعدها إذا لم یمنعها مع الطلب، سواء کانت الإجارة صحیحة أو فاسدة»(3).

و قال فی التحریر: «إذا کانت الاجارةُ فاسدةً لم تکن العین مضمونةً أیضا إلاّ بالتعدّی»(4).

و قال فی التذکرة: «إذا کانت الاجارة فاسدة لم یضمن المستأجر العین أیضا إذا تلفت بغیر تفریط و لا عدوان، لأنّه عقدٌ لایقتضی صحیحه الضمان فلا یقتضیه فاسده کالوکالة و المضاربة. و حکم کلّ عقد فاسد حکم صحیحه فی وجوب الضمان و عدمه فما وجب الضمان فی صحیحه وجب فی فاسده و ما لم یجب فی صحیحه لم یجب فی فاسده، و لأنّ الأصل براءة الذمة من الضمان، لأنّه قبض العین بإذن مالکها فلم یجب علیه ضمانها لعدم

ص: 369


1- (4) ریاض المسائل 10/15.
2- (1) مفتاح الکرامة 19/414.
3- (2) القواعد 2/304.
4- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 3/117، مسألة 4263.

موجب له مع هذا القبض»(1).

و اطلق بعضهم عدم الضمان و لم یقیّده بالعقد الصحیح کالمحقّق حیث قال: «العین المستأجرة أمانة لا یضمنها المستأجر إلاّ بتعدٍّ أو تفریط و فی اشتراط ضمانها من غیر ذلک تردّدٌ أظهره المنع»(2).

و ابن حمزة فی الوسیلة(3) و الشهیدین فی اللمعة و شرحها(4).

و صرح المحقّق الثانی أیضا بعدم الضمان حیث یقول: «و المنفعة المستوفاة بالإجارة الفاسدة مضمونة باُجرة المثل، و هل العین مضمونة بالاستیفاء؟ یلوح من کلامهم العدم، و الذی ینساق إلیه النظر کونها مضمونة، لأنّ التصرف فی العین غیر جائز فهو بغیر حقّ،

فیکون فی حال التصرف استیلاؤه علیها بغیر حقّ و ذلک معنی الغصب، إلاّ أنّ کون الإجارة الفاسدة لاتضمن بها کما لاتضمن بالصحیحة مناف لذلک، فیقال: أنّه دخل معه علی عدم الضمان بهذا الاستیلاء و إن لم یکن مستحقّا، و الأصل براءة الذمة من الضمان، فلاتکون العین بذلک مضمونة، إنّما یضمن المنفعة خاصة ولو لا ذلک لکان المرتهن ضامنا مع فساد الرهن، لأنّ استیلاءه بغیر حقّ و هو باطل»(5).

قال فی الجواهر: «قلت لایخفی علیک أنّ الذی عثرنا علیه من کلام الأصحاب فی المقام صریح فی عدم ضمان العین المستأجرة فی العقد الفاسد، کما صرّح به فی القواعد و جامع

ص: 370


1- (4) تذکرة الفقهاء 2/318 من الطبع الحجری.
2- (5) الشرائع 2/140.
3- (6) الوسیلة /267.
4- (7) الروضة البهیة 4/331.
5- (1) جامع المقاصد 6/216 و 215.

المقاصد و محکی التذکرة، بل فی مفتاح الکرامة(1) عن الریاض و المجمع التصریح بذلک أیضا فی مقام آخر من الإجارة، لعلّه لقاعدة ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده کما استدلّ به فی التذکرة و الجامع، بل لم أجد من صرّح هنا بالضمان»(2).

یمکن أن یستدل علی القول بالضمان بوجهین:

الأوّل: خروجها عن قاعدة ما لا یضمن لأنّ موردها مورد العقد و متعلَّقه و هو فی الاجارة المنفعة، و لم یکن موردها متعلَّق متعلَّقه و هو العین فی الاجارة، فالعین باقیة علی کونها أمانة فی ید المستأجر و لیس علیها ضمان علی القاعدة الأولیة، ولکن الأردبیلی قیّد الإذن فی التصرف فی هذه الأمانة فی صحة العقد و المفروض بطلانه فیصح القول بالضمان لعدم جواز التصرف شرعا و المفروض تصرفه فینتج الضمان.

و قرّر هذا البیان صاحب الجواهر فی قوله: «و ذلک لأنّ المراد من الایجاب و السلب فیها ما کان مضمونا بسبب العقد، و ما لم یکن مضمونا کذلک علی معنی أنّ الضمان و عدمه فیه مورد العقد کالمنفعة فی الإجارة و العین فی الهبة، و لا ریب أنّ عدم الضمان فی العین المستأجرة لامدخلیة للعقد فیه و إنّما هو باعتبار کونها أمانة، فیدور الضمان فی الفاسدة حینئذ علیها، لا من القاعدة المزبورة و کذلک العین فی العاریة، فمع فرض عدم الأمانة لما سمعته من تقیید الإذن بالصحة المفروض انتفاؤها یتجه ما نسباه - [الأردبیلی و سیّد الریاض] - إلی الأصحاب من الضمان حینئذ، خصوصا مع علم المستأجر بالفساد و خصوصا إذا کان الفساد من جهة الغصب و نحوه»(3)

الثانی: ترجیح قاعدة الید علی قاعدة ما لایضمن عند المعارضة، و قرّر صاحب

ص: 371


1- (2) مفتاح الکرامة 19/414 کما مرّ نص بیانه.
2- (3) الجواهر 27/252.
3- (4) الجواهر 27/253 و 252.

الجواهر هذا الدلیل بقوله: «و إن کان قد یوجّه علی تقدیر صحة النسبة إلی الأصحاب بما سمعت من عموم علی الید المعارض للقاعدة المزبورة من وجه و یرجّح علیها بالنسبة المزبورة، و دعوی العکس باعتضادها بقاعدة الأمانة یدفعها ما سمعته من الریاض أخیرا من أنّه إذا کان الدفع بعنوان الصحة تکون الإذن کالمقیدة بذلک فمع الفساد ینکشف أن لا إذن فلا تکون أمانة»(1).

ولکن تنظر صاحب الجواهر(2) فی کلا الدلیلین و تبعه شیخنا الأنصاری(3) و هو المختار لأنّ المراد من مورد العقد فی القاعدة أعم من متعلّقه و متعلّق متعلّقه فتشمل العین، و قاعدة ما لایضمن حاکمة علی قاعدة الید لعدم وجود موضوع لها لو لا هذه الحکومة أصلاً بناءً علی کون النسبة بینهما العموم المطلق أو غالبا بناءً علی کون النسبة بینهما العموم من وجه.

و النسبة بینهما تصیر مثل النسبة بین قاعدتی الفراغ و التجاوز، و الاستصحاب بحیث أنّهما حاکمان أو واردان علی الاستصحاب و إلاّ لم یبق مورد لهما.

و الحاصل: الظاهر - و اللّه العالم - عدم ضمان العین المستأجرة بالعقد الفاسد فهذا الفرع یدخل فی القاعدة و لا یکون مورد نقض لها.

و منها: الصید الذی استعاره المُحرِم مِن المُحِلّ

العاریة الصحیحة لا یکون فیها الضمان فلابدّ أنّ الفاسدة منها کذلک ولکن الأصحاب حکموا بالضمان فی الصید الذی استعاره المحرِم من المحلّ لأنّه یجب علیه ارساله و

ص: 372


1- (1) الجواهر 27/252.
2- (2) الجواهر 27/253 و قال: «و مع ذلک فالانصاف أنّه لا یخلو دعوی عدم الأمانة مطلقا حتّی فی صورة الجهل منهما من بحث و نظر کما هو واضح و اللّه العالم».
3- (3) المکاسب 3/194.

الارسال هو الإتلاف و المُتْلِفُ ضامنٌ.

قال فی الشرائع: «و لا یجوز للمحرم أن یستعیر من محلٍّ صیدا لأنّه لیس له امساکه، ولو أمسکه ثم أرسله ضمنه و إن لم یشترط علیه»(1).

و قال فی التذکرة: «لایحلّ للمُحْرِم استعارة الصید من المحرم و لا من الُمحِلّ لأنّه یحرم

علیه إمساکه فلو استعاره وجب علیه إرساله و ضمن للمالک قیمته. ولو تلف فی یده ضمنه أیضا بالقیمة لصاحبه الُمحلّ و بالجزاء للّه تعالی، بل یضمنه بمجرد الإمساک و إن لم یشترط صاحبه الضمان علیه، فلو دفعه إلی صاحبه بریء منه و ضمن للّه تعالی...»(2).

و قال المحقّق الکرکی بعد نقل مقال العلاّمة فی التذکرة: «و فی موضعین منه إشکال: أحدهما: أنّ وجوب الارسال مع کون الصید ملکا لآدمی - و حقّ الآدمی مقدّم علی حقّ اللّه تعالی - غیر ظاهر، و إنّما الذی یقتضیه الدلیل ردّه علی مالکه و وجوب الجزاء للّه تعالی.

الثانی: وجوب القیمة للمالک الُمحِل لو تلف فی یده بغیر تعدّ - مع عدم اشتراط الضمان أیضا غیر ظاهر، لأنّ غایة ما هناک أنّها عاریة فاسدة و کلّ عقد لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده، و لأنّ المالک لما أعاره فقد رضی بعدم ثبوت الضمان علیه الذی هو مقتضی العاریة، فلا وجه لتضمینه.

فالحاصل: أنّ الذی یقتضیه النظر خلاف الأمرین، لکن لم أظفر إلی الان بمخالف فإنّ المصنف فی التحریر(3) قد صرح بالثانی و کذا المحقّق فی الشرائع»(4).

ص: 373


1- (4) الشرائع 2/136.
2- (1) تذکرة الفقهاء 16/238، مسألة 83.
3- (2) لم أجد ما ذکره فی التحریر المطبوع و الموجود فیه استعارة المحلّ صیدا من مُحْرِم راجع تحریر الأحکام الشرعیة 3/221، مسألة 4492، نعم یوجد فی تلخیص المرام فی معرفة الأحکام /140 له ما نصه: «العاریة أمانة لا یضمنها المستعیر إلاّ أن... أو یستعیر الصید و هو محرم...». یمکن استفادة ما ذکره المحقّق الثانی من اطلاق کلامه.
4- (3) جامع المقاصد 6/60.

و قال ثانی الشهیدین: «لاشبهة فی عدم جواز استعارة المحرم الصید من المحلِّ و المحرم لما ذکره المصنف [صاحب الشرائع] من تحریم إمساکه علیه، فلو استعاره بعقد العاریة فهل یقع العقد فاسدا؟ یحتمله للنهی، و عدمه لأنّ المعاملات لا یبطلها النهی إلاّ بدلیلٍ خارجٍ. و عبارة المصنف [صاحب الشرائع] و غیره لا تدل علی أحد الأمرین صریحا، لأنّ عدم الجواز أعمٌ من الفساد کما ذکرنا.

فعلی تقدیر قبضه له إن ردّه علی المالک لزمه الفداء للّه تعالی و بری ءَ من حقّ المالک و إن تلف فی یده فلا شبهه فی ضمانه الفداء للّه تعالی لأنّه ثابت علیه بمجرد الإمساک کما فی الصید الذی لیس بمملوک حتّی لو کان المعیر مُحرما أیضا فعلی کلّ واحد منهما فداءٌ.

و مقتضی عبارة المصنف و جماعة أنّه یضمنه مع التلف للمالک أیضا بالقیمة لأنّهم جعلوه من العواری المضمونة و إن لم یشترط فیها الضمان و دلیله غیر واضح، إذ مجرد تحریم

استعارته لا یدّل علی الضمان سواء قلنا بفساد العقد أم بصحته، أمّا مع صحته فالأصل فی العاریة عندنا أن تکون غیر مضمونة إلاّ أن یدلّ دلیل علیه و لم یذکروا هنا دلیلاً یعتمد علیه، و أمّا مع فسادها فلأنّ حکم العقد الفاسد حکم الصحیح فی الضمان و عدمه - کما أسلفناه فی مواضع - قاعدة کلّیة»(1).

أقول: نسبة القول بالضمان مع التلف إلی المحقّق و جماعة کما فی کلام ثانی الشهیدین رحمه الله لاتتم و استفادها قدس سره من إطلاق کلامهم، و یظهر من صاحب الجواهر عدم وجود المصرح بالضمان فی صورة التلف السماوی فهذه النسبة غیر تام کما یأتی.

ص: 374


1- (1) المسالک 5/139.

قال فی الجواهر: «بل یجب علیه ارساله و حینئذ فلو أثم و أمسکه ثم أرسله ضمنه و إن لم یشترط علیه ذلک فی العاریة، و وجوب ذلک علیه لا ینافی ضمانه لمالکه و إن أقدم علی إعارته لمن یکون تکلیفه إتلافه بالارسال، فإنّ ذلک لا یقتضی ذهاب حرمة ماله کما لا یقتضی إبطال سببیّة الضمان الحاصلة من عموم قوله: «من أتلف مال غیره فهو له ضامن»، و عدم الضمان بالعاریة الفاسدة لقاعدة عدمه فی الصحیح منها مع تسلیمها فی صورة العلم إنّما تتم فی التلف بغیر تفریط لا الاتلاف.

و دعوی: عدمه فی المقام أیضا باعتبار کون تکلیفه ذلک، یمکن منعها:

أوّلاً: لإمکان دعوی وجوب تسلیمه إلی صاحبه ترجیحا لحقّ المخلوق علی حقّ الخالق.

و ثانیا: بعد تسلیمها بمنع مادلّ علی عدم ضمان العاریة فی الفرض لاأقل من الشک فیبقی عموم من أتلف و أصالة احترام المال بحاله.

و علی کلّ حال فمن ذلک ظهرلک أنّه لا وجه للإشکال فی الجزم بالضمان من المصنف و الفاضل و غیرهما بعدم الدلیل علیه لقاعدة ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده ضرورة کون المراد الضمان فی الفرض المذبور و إن کان إطلاقهم یوهم ذلک، لکن من المعلوم إرادتهم الفرد الذی ذکرناه، فإنّه الموافق لذکر مسألة المحرم بخصوصه»(1).

و تبعه الشیخ الأعظم و قال: «أنّ وجه ضمانه - بعد البناء علی أنّه یجب علی المحرم إرساله و أداء قیمته - أنّ المستقر علیه قهرا بعد العاریة هی القیمة لا العین فوجوب دفع القیمة ثابت قبل التلف بسبب وجوب الإتلاف الذی هو سببٌ لضمان ملک الغیر فی کلّ عقدٍ

ص: 375


1- (2) الجواهر 27/165.

لا بسبب التلف»(1).

و استشکل الفقیه الیزدی علی الشیخ الأعظم بقوله: «لکن یمکن منع المبنی [أی البناء علی أنّه یجب علی المحرم ارساله] فإن التخلّص عن الإمساک کما یمکن بالارسال کذلک یمکن بالدفع إلی المالک، مع أنّ حقّ المخلوق مقدّم علی حقّ الخالق»(2).

و العجب من المحقّق النائینی(3) حیث قال فی توضیح ما أفاده الشیخ اُمورا ثلاثة أذکر لک مختصرها: الأوّل: وجوب الارسال هل هو حکم تکلیفی محض أو أنّ الصید بسبب وقوع ید المحرم علیه خرج عن الملکیة و صار من المباحات بالأصل وجهان بل قولان أقواههما الثانی.(4)

الثانی: لا فرق فی ضمان المستعیر بین ما إذا کان المعیر عالما بالموضوع و الحکم أم لا و کان جاهلاً.

الثالث: لو لم یرسل المستعیر الصید بل ردّه إلی المعیر فهل یسقط به الضمان أم لا؟ قولان أقواهما الثانی.

أقول: المناقشة فی الأوّل و الثالث واضحةٌ و ناقضیة هذا الفرع للقاعدة تبتنی علی اُمور:

الأوّل: فساد عقد العاریة المذکورة لورود النهی عن إمساک الصید توسط الُمحْرِم.

الثانی: وجوب الإرسال علی المحرم و لا یکفی دفعه إلی مالکه.

الثالث: امساک المحرم الصید ثم ارساله فی حکم التلف.

ص: 376


1- (1) المکاسب 3/195.
2- (2) حاشیة المکاسب 1/460.
3- (3) المکاسب و البیع 1/(315-313).
4- (4) فی هذه المقالة هو تابع للحاج آقا رضا الهمدانی فی حاشیته علی المکاسب /73.

و یمکن أن یناقش فی الکلّ بصحة عقد العاریة لأنّ النهی فی المعاملات لا یدل علی الفساد، و لا یجب علیه إرساله بل یحرم علیه إمساکه و رفع الامساک ممکن بالردّ إلی مالکه و بالردّ خرج من الضمان، نعم یجب علیه الکفارة للّه تعالی، و إرسال المحرم الصید لا یکون تلفا بل یکون إتلافا کما علیه الأعلام فیشمله قاعدة الإتلاف کما نبّه علی الأخیر المحقّق النائینی(1) و کما مرّ قبله من صاحب الجواهر و الشیخ الأعظم.

فرعٌ:

هل یثبت الضمان مع الارسال مطلقا، أم یختص بصورة جهل المعیر؟ ذهب الفقیه الیزدی إلی اختصاصه بصورة الجهل و قال: «هذا [الضمان] لا یتم فی صورة علم الدافع، فإنّه حینئذ یعدّ من المتلف لماله بدفعه إلی من هو مکلَّفٌ بإتلافه فلا وجه لاستقرار القیمة فی ذمّته خصوصا إذا کان جاهلاً بأنّه صیدا و بالحکم»(2).

أقول: تم إسناد الإتلاف إلی المستعیر فهو ضامن ولو مع فرض علم المعیر و الاتلاف موجب للضمان کما مرّ عن المحقّق النائینی(3) و تبعه تلمیذه السیّد الخوئی(4).

و منها: المنافع غیر المستوفاة من المبیع فاسدا

(5)

البیع إذا کان صحیحا یقتضی الضمان المسمّی بالنسبة إلی العین و کذلک یقتضی الضمان مطلقا إذا کان فاسدا، و المنافع المستوفاة فی البیع یقتضی الضمان(6) صحیحا کان البیع

ص: 377


1- (5) المکاسب و البیع 1/315.
2- (1) حاشیة المکاسب 1/460.
3- (2) المکاسب و البیع 1/314.
4- (3) مصباح الفقاهة 3/107.
5- (4) یأتی تفصیل ضمان المنافع مطلقا فی الرابع من أحکام المقبوض بالعقد الفاسد راجع صفحة 395 و ما بعدها.
6- (5) کما قاله العلاّمة فی القواعد 2/238: «لایملک المشتری ما یقبضه بالبیع الفاسد و یضمنه و ما یتجدّد من منافعه الأعیان أو غیرها مع جهل البائع أو علمه مع الاستیفاء، و بدونه إشکال».

أو فاسدا لأنّ الاصل و هو العین تکون مضمونة و کذلک الفرع و هو المنفعة(1) و لأنّ المنافع علی قسمین:

الأوّل: کانت من الأعیان و استیفاؤها یکون إتلافا لها نحو: البیضة بالنسبة إلی الدجاج و اللبن بالنسبة البقرة و الصوف بالنسبة إلی النعجة.

الثانی: کانت من غیر الأعیان و استیفاؤها بمنزلة التلف نحو: السکنی فی الدار و الرکوب فی السیارة و نحوها و حیث کان الأصل مضمونا یکون فرعه أیضا مضمونا و لعموم قوله صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تؤدی و لأنّه أثبت یده علی العین بغیر استحقاق - علی فرض بطلان المعاملة - و المالک الذی سلّطه علی العین رضی بکونه تحت یده فی مقابلة الثمن و صحة المعاملة فإذا بطلت المعاملة و الثمن لا یرضی المالک بفوات منافعه ولو لم یستوفها المشتری السابق.(2)

فالمنافع المستوفاة موردٌ للضمان فی البیع الصحیح و الفاسد بما مرّ و بقاعدة ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده.

ولکن عدّت المنافع غیر المستوفاة موردا لنقض القاعدة لأنّها فی الصحیح لیس لها ضمان ولکن حکموا بأنّها فی الفاسد تکون مضمونة.

لایقال: ضمان العین یستتبع ضمان المنافع - المستوفاة منها و غیر المستوفاة - فی العقد الصحیح کان أو فاسدا. فیدخل المنافع بِکلَی قسمیها فی أصل القاعدة أعنی ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده، لا نقیضها و سلبها.

ص: 378


1- (6) کما استدل به المحقّق الثانی فی جامع المقاصد 6/324 و تبعه السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 18/357.
2- (7) کما نبّه علیها الفقیه العاملی فی مفتاح الکرامة 18/358.

لأنا نقول: الثمن فی العقد الصحیح یقع بإزاء أصل العین لا منافعها و إن کانت المنافع تکون من دواعی المعاملة ولکن لایقع فی قبالها ثمن، فالمنافع بقسمیها خارجة عن مورد العقد و لا تدخل تحت عنوان أصل القاعدة و لا نقیضها. فلایعدّ مِنْ نقوض نقیض القاعدة. و لابدّ من ثبوت ضمانها و عدمه من ملاحظة دلیل آخر نحو قاعدة الإتلاف أو قاعدة الإحترام و نحوها. هذه إجابة الشیخ الأعظم(1) عن النقض بتوضیح منّا و تبعه المحقّق الإصفهانی(2).

ولکن یمکن أن یناقش علیه بأنَّ بیانه هذا ینافی ما مرّ منه قدس سره من أنّ مورد العقد عنده یکون أعمّا من متعلَّق العقد و متعلَّق متعلَّقه حیث مثّل بمورد العقد بعدم ضمان العین المستأجرة فاسدا(3) فلا یمکن الجمع بین البیانین.

ولکن الفقیه الیزدی أجاب عن النقض ببیان آخر و قال: «المنافع و إن لم تکن مقابلة بالمال إلاّ أنّها ملحوظة فی القیمة و زیادة الثمن و هذا المقدار یکفی فی صدق کونها مضمونة، و من هنا یعرف حال الشروط فإنّه لو فرض شرط الخیاطة فی عقد فاسد فعمل بالشرط یکون من له الشرط ضامنا، لأنّ فی الصحیح و إن لم یکن الشرط مقابلاً بالمال إلاّ أنّه ملحوظ فی زیادة الثمن و نقصانه، فکأنّه مقابل بالمال و لذا اشتهر أنّ للشرط قسطا من الثمن یعنی فی اللبّ، فتدبّر»(4).

و فیه: ردّ المحقّق الأصفهانی علیه بقوله: «أنّ هذا المعنی لا یحقّق ضمانین بالإضافة إلی المنفعة و العین، و الاشکال فی کون المنافع [غیر المستوفاة] مضمونة علی حدِّ ضمان العین فی

ص: 379


1- (1) راجع المکاسب 3/195.
2- (2) حاشیة المکاسب 1/338.
3- (3) المکاسب 3/193.
4- (4) حاشیة المکاسب 1/461.

الفاسد مع أنّها غیر مضمونة فی الصحیح»(1).

و بعبارة اُخری: دخالة المنافع فی زیادة الثمن لا یستلزم ضامنها بغیر ضمان العین و دونه کما أنّ الشروط لها دخل فی زیادة القیمة مع أنّها لا تدخل فی الضمان. و ثبوت الضمان فی مثل الخیاطة فلأجل احترام العمل و استناد تحققه فی الخارج إلی أمر المشروط له فلا صلة له بالمقام کما نبّه علیه المحقّق السیّد الخوئی(2).

و أجاب المحقّق الأصفهانی مضافا إلی جواب الشیخ الأعظم بإجابة ثالثة و هی: «نعم، ربّما یتصور ضمان العین بنحو تکون متضمنا لضمان المنافع الفائتة فی الصحیح و الفاسد کما إذا کانت العین لها أمد خاص و عمر مخصوص فإذا أمضی منه شهر مثلاً نقصت قیمة العین، فهذا النقص ملحوظ فی الصحیح و الفاسد، فلا فرق حینئذ بین القول بضمان العین و المنافع معا أو ضمان العین تامة فتدبر»(3).

و فیه: نعم مُضیّ مدّة خاصة من عمر العین و إن اوجب نقصانا فیها إلاّ أنّ الضمان حینئذ بالعین لا المنافع التی لم یستوفی و لذا اعترف فی آخر کلامه بعدم الفرق حینئذ، کما ذکره تلمیذه المحقّق السیّد الخوئی(4) قدس سره .

و للمحقّق النائینی إجابة رابعة للنقض - و یمکن عدّها توضیحا لکلام الشیخ الأعظم - قال: أنّ المدار علی مورد العقد و مصبه و متعلَّقه و هو فی البیع العین، فالعین فی البیع الصحیح مضمون و کذلک فی الفاسد ولکن «منافع العین التی تعلق بها البیع حیث أنّ المنفعة فی البیع لیست متعلَّقة للعقد و لا یبذل بازائها الثمن، بل الثمن یقع بإزاء العین و إن

ص: 380


1- (1) حاشیة المکاسب 1/338.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/108.
3- (3) حاشیة المکاسب 1/338.
4- (4) مصباح الفقاهة 3/109.

کان یتفاوت ثمنها بواسطة المنفعة لتفاوت الرغبة بالنسبة إلی العین بواسطة التفاوت فی منفعتها، لکان خارجا عن مورد تلک القاعدة [أی قاعدة ما یضمن]فلا یرد النقض بضمان المنافع التی لم یستوفها فإنّها غیر مضمونة فی العقد الصحیح مع أنّها مضمونة فی العقد الفاسد، و ذلک لأنّ تلک المنافع لیست متعلقة العقد حتّی یکون ضمانها فی حال

فساد العقد مع ضمانها فی حال صحته نقضا للقاعدة»(1).

و قال فی تقریراته الاُخری: «أنّ مورد الأصل و العکس هو مورد العقد و مصبه لا ما هو خارج عنه و إنّما حکم بتبعیّته له شرعا، أو التوقف استیفاء المنفعة علیه، و من هذا الأمر ظهر عدم ورود النقض بالنسبة إلی المنافع، و لا تلف العین المستأجرة، و لا تلف الحمل و نحو ذلک من النقوض»(2).

أقول: أنت تری أنّ هذه الإباحة هی جواب الشیخ الأعظم بتوضیح من المحقّق النائینی کما مرّ، ولکن زاد تلمیذه السیّد الخوئی فی إجابته: «و إنّما المنافع فی الصحیح تابع للعین بحکم الشارع و فی الفاسد حیث أن العین لم تنقل إلی القابض فیضمن منافعها»(3).

ثم ردّ علیه بقوله: «أنّه لو صح ذلک فلازمه الحکم بالضمان فیما لایضمن بصحیحه کالهبة الفاسدة، بدیهة أنّ المنافع فی الهبة الصحیحة تابعة للعین و حیث أن العین لم تنقل إلی المُتَّهِبِ فی الهبة الفاسدة فتضمن منافعها»(4).

یعنی: یتولد من هذه الإجابة مورد نقض آخر و هو ضمان المنافع فی الهبة الفاسدة مع أنّ فی صحیحها لیس ضمان.

ص: 381


1- (1) المکاسب و البیع 1/308.
2- (2) منیة الطالب 1/273.
3- (3) مصباح الفقاهة 3/109.
4- (4) مصباح الفقاهة 3/109.

و للمحقّق البجنوردی إجابة خامسة علی طرف النقیض من إجابة الشیخ الأعظم و النائینی و الأصفهانی لأنّهم یقولون بخروج المنافع عن العین فی قبال الضمان و المسمّی ولکنّه یقول بتبعیة المنافع للعین من جهة الضمان و المسمّی قال: «إنّ الضمان فی الصحیح عبارة عن المسمّی، و المسمّی فی الصحیح موجود بدل العین، فبعوض ملکیّة العین یشتغل ذمّته بالمسمّی، و المنافع مطلقا سواء کانت مستوفاة أو غیر مستوفاة من توابع العین، فإذا کانت العین مضمونة فالمنافع أیضا مضمونة، کما هو الظاهر من قوله صلی الله علیه و آله : الخراج بالضمان، أیّ المنافع التی للعین تکون لمن انتقل إلیه العین بواسطة ضمان المسمّی، فکان المسمی فی البیع الصحیح عوض العین و منافعه، فلا نقض»(1).

و تبعه السیّد الخوئی و قال: «کلّ من العین و المنفعة مورد للعقد، نهایة الأمر أنّ العین

مورد للعقد بالإصالة و المنافع مورد له بالتبعیة، و من الواضح أنّ عقد البیع ممّا یضمن بصحیحة و فاسده، سواء فی ذلک نفس المبیع و منافعه و إذن فلا وجه لتوهم انتقاض القاعدة طردا بالبیع الفاسد»(2).

أقول: السیّدان یتبعان المحقّق الخراسانی رحمه الله و قد مرّت مقالته فی الثانی من مدارک قاعدة ما یضمن تحت عنوان تنبیه ذیل خبر الید حیث یقول: «قضیة کونها [العین[ مضمونة ضمان منافعها»(3)، و مرّ منّا اختیار هذا الکلام، و کذا مرّ من أنّ مورد العقد یکون أعما من متعلّق العقد و متعلَّق متعلَّقه فالمنافع تدخل القاعدتین و حینئذ، لابدّ لنا من القول بتبعیة المنافع للعین و إذا کانت العین مضمونة فالمنافع کذلک بلافرق بین المستوفاة منها و غیر المستوفاة و لا تنقض القاعدة کما علیه السیّدان البجنوردی و الخوئی و الحمدللّه.

ص: 382


1- (5) القواعد الفقهیة 2/124.
2- (1) مصباح الفقاهة 3/109.
3- (2) حاشیة المکاسب /31 للمحقّق الآخوند الخراسانی قدس سره .
و منها: الضمان فی حمل المبیع إذا کان البیع فاسدا

إذا کان المبیع حیوانا حاملاً فإمّا أن یکون کلّ منهما یدخل فی المبیع و یقسّط الثمن علیهما فحینئذ لا إشکال علی الضمان بالنسبة إلی کلیهما فی البیع الصحیح أو الفاسد.

و أمّا إذا کان المبیع خصوص الاُمّ فقط فیبقی الحمل أمانة عند المشتری إلی الولادة و بعدها یسلّمه إلی البائع فحینئذ إذا کان البیع صحیحا فلا إشکال فی ضمان الأمّ و عدم ضمان الحمل و أمّا إذا کان البیع فاسدا فضمان الاُمّ یکون علی القاعدة ولکن جماعة ذهبوا إلی ضمان الحمل التالف و بالنسبة إلی ضمان الحمل یکون نقضا لقاعدة ما لایضمن، لأنّ فی صحیحه لیس الضمان ولکن یکون فی فاسده ضمانا.

و من القائلین بالضمان شیخ الطائفة لأنّه یری دخول الحمل فی المبیع تبعا قال: «و إن باع بهمیة أو جاریة حاملاً و استثنی حملها لنفسه لم یجز لأنّ الحمل یجری مجری عضو من أعضائها»(1).

ولکن علی هذا المبنی لا یکون نقضا لقاعدتنا بل یدخل فی أصل قاعدة ما یضمن.

ولکن قال: «من غصب جاریة حاملاً ضمنها و حملها معا، و ولد المشتراة شراءً فاسدا مثل ذلک و فی الناس من قال لا یضمن»(2).

و منهم: المحقّق قال فی الشرائع: «و غصبُ الاْءَمَةِ الحاملِ غصبٌ لولدها، و لثبوت یده علیهما. و کذا یضمن حمل الأمة المبتاعة بالبیع الفاسد»(3).

و منهم: العلاّمة فی التذکرة(4) و الإرشاد(5) و التحریر قال فی الأخیر: «ولو اشتری

ص: 383


1- (3) المبسوط 2/156.
2- (4) المبسوط 3/65.
3- (1) الشرائع 3/185.
4- (2) تذکرة الفقهاء 2/376 سطر 34 من کتاب الغصب، الطبع الحجری.
5- (3) إرشاد الأذهان 1/362.

بالبیع الفاسد الأمة الحامل أو الدابةَ الحاملَ، ضمن الأصل و الحمل معا»(1).

ولکن العلاّمة فی القواعد أفتی بعدم الضمان و قال: «و یضمن حمل الغصب لا حمل المبیع بالفاسد و السؤم»(2).

و تبعه جماعة منهم: الشهید قال: «و غصب الحامل غصب الحمل، أمّا حمل المبیع فاسدا أو المستام فلا ضمان فیه، و قال الفاضل: یضمن الحمل فی البیع الفاسد، و لعلّه أراد مع اشتراط دخوله»(3).

و منهم: المحقّق الثانی قال: «أما حمل الغصب فإنّه مغصوب کالأصل، و أمّا حمل المبیع فإنّه لیس مبیعا، إذ لا یندرج الحمل فی بیع الاُمّ، فیکون أمانة فی ید المشتری لأصالة عدم الضمان، و لأنّ تسلمه بإذن المالک الذی هو البائع»(4).

و منهم: الشهید الثانی قال: «و أمّا ضمان حمل الأمة المبتاعة بالبیع الفاسد فإنّما یتم مع دخوله معها فی البیع إمّا تبعا کما یقوله الشیخ(5) أو مع الشرط(6). أمّا لو لم یکن داخلاً لم یتّجه ضمانه، لأنّه مقبوض بإذن المالک و لیس مبیعا فاسدا حتّی یضمن بفاسده کما یضمن بصحیحه، و مثله القول فی المقبوض بالسؤم بالنسبة إلی الحمل، فإن کان السؤم لهما ضمنهما علی القول بضمان الاُمّ، و إن کان لها خاصة اختصّ بها.

و قد اختلف کلام العلاّمة فی المسألة ففی التحریر جزم بضمان الأمة و الحمل معا کما

ص: 384


1- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 4/522.
2- (5) القواعد 2/223.
3- (6) الدروس 3/108.
4- (7) جامع المقاصد 6/220.
5- (8) کما مرّ کلام الشیخ فی المبسوط 2/156.
6- (9) کما مرّ آنفا من الشهید فی الدروس 3/108.

ذکره المصنف [صاحب الشرائع] و فی القواعد جزم بعدم ضمان الحمل و هو الأصح و لا إشکال مع دخوله فی البیع»(1).

و ذهب إلی عدم الضمان فی الروضة(2).

و منهم: المحقّق الأردبیلی قال: «و أمّا عدم الضمان فی المأخوذ بالبیع الفاسد أو المأخوذ بالسؤم فإن الحمل و إن کان مقبوضا إلاّ أنّه غیر مبیع بالبیع الفاسد و لامأخوذ بالسؤم فلا یدخل تحت ما یدل علی ضمانه مثل ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده، نعم إن اشتری مع الحمل یکون حکمه حکم الحامل هنا فتأمل»(3).

و منهم: السیّد العاملی قال بعد نقل القائلین بعدم الضمان: «و لعلّه قضیة کلام الباقین إلاّ من ستعرفه [فی کلامه و قد مرّ فی کلامنا] لأنّه لیس مبیعا فیدخل فی البیع فیکون أمانة فی ید المشتری لأصالة عدم الضمان و لأنّ تسلّمه بإذن البائع»(4).

أقول: یظهر لک ممّا ذکرناه إنّ النزاع بین القوم لفظی(5) لأنّ القائل بالضمان أراد صورة کون الحمل جزءً من المبیع کما مرّ الاعتراف به من الشیخ فی المبسوط(6) أو أراد صورة اشتراط دخول الحمل فی المبیع کما یظهر من العلاّمة فی الإرشاد حیث یقول: «ولو باع الحامل فالولد له [أی للبائع] إلاّ أن یشترطه المشتری»(7) و مرّ من الشهید(8) فی توجیه

ص: 385


1- (10) المسالک 12/155.
2- (1) الروضة البهیة 7/24.
3- (2) مجمع الفائدة و البرهان 10/511.
4- (3) مفتاح الکرامة 18/74.
5- (4) کما نبّه علیه المحقّق الخوئی فی مصباح الفقاهة 3/110.
6- (5) المبسوط 2/156.
7- (6) إرشاد الأذهان 1/366.
8- (7) الدروس 3/108.

کلام العلاّمة و القائل بعدم الضمان أراد خروج الحمل من البیع فلا نزاع و لا نقض علی القاعدة.

لأنّه علی الفرض الأوّل یدخل فی

أصل القاعدة و علی الفرض الثانی یدخل فی نقیضها فلانقض أصلاً و للّه الحمد.

و منها: الشرکة الفاسدة

قال الشیخ الأعظم: «و یمکن النقض أیضا بالشرکة الفاسدة، بناءً علی أنّه لا یجوز التصرف بها فأخذ المال المشترک حینئذ عدوانا موجب للضمان»(1).

قال شیخنا الاُستاذ قدس سره : «و وجه النقض أنّ مع صحة عقد الشرکة و جواز تصرف

کلّ من الشریکین فی مال المشترک یکون المال المزبور فی ید کل منهما کالمال فی ید الوکیل أمانة مالکیة فلا یضمن، بخلاف صورة فساد عقدها و البناء علی عدم جواز التصرف فی مال الشریک فإنّه تکون یده علی مال صاحبه، ید عدوان فیضمن و هذا ینافی القاعدة المزبورة فی عکسها»(2).

و قبله قال السیّد البجنوردی فی توضیح النقض: «الظاهر أنّ مراده [أی مراد الشیخ الأعظم] شرکة الأموال بعقد الشرکة فیکون النقض عبارة عن أنّ أحد الشریکین مثلاً فی الشرکة الصحیحة لو تصرّف فی المشترک و صار تحت یده - کما هو المتعارف عند الشرکاء - فتلف ذلک المال من دون تعدّ و تفریط لا یکون ذلک الشریک ضامنا لحصّة شریکه الآخر و هذا مقتضی صحة عقد الشرکة، و أمّا لو لم یکن العقد صحیحا و کانت الشرکة فاسدة فیکون ذلک الشریک ضامنا لقاعدة «و علی الید ما أخذت حتّی تؤدیه» و لابدّ من فرض

ص: 386


1- (8) المکاسب 3/196.
2- (1) إرشاد الطالب 2/154.

التلف فی صورة عدم إذن ذلک الشریک الآخر فی التصرف، فلا إذن من طرف المالک و لا أنّ جواز التصرف مقتضی عقد الشرکة فلا یکون المال لا أمانة مالکیة و لا أمانة شرعیة فتکون الید ید ضمان...»(1).

أقول: یمکن أن یناقش فی النقض أوّلاً: تفریع الضمان علی الحکم التکلیفی کما هو ظاهر کلام الشیخ الأعظم لا یتم لعدم وجود التلازم بینهما، اللهم إلاّ أن یقال بأن عدم الجواز فی کلامه قدس سره هو عدم الجواز الوضعی لفساد عقد الشرکة.

و ثانیا: بعد فساد عقد الشرکة لو فوّض کلّ منهما زمام ماله إلی شریکه العرفی - لا الشرعی - و جعله أمینا فی ماله فلا ضمان علیه لو تلف من دون إفراط و لا تفریط فلا یفرق فی عدم الضمان بین الشرکة الصحیحة أو الفاسدة و لا وجه لتوهم النقض(2).

ثم ما ذکر من موارد النقض علی القاعدة أصلاً أو نقیضا علی فرض تمامیة تلک الموارد - و لم تتم کما مرّ - لا توجب ردا و طعنا علیها لأنّها عام قابل للتخصیص و التقیید کما لا یخفی(3).

ص: 387


1- (2) القواعد الفقهیة 2/126.
2- (3) راجع مصباح الفقاهة 3/111.
3- (4) کما نبّه علیه الحاج آقا رضا الهمدانی فی حاشیته علی المکاسب /79 و تبعه المحقّق الخمینی فی البیع 1/307 .
الثالث: وجوب ردّ المبیع فاسدا إلی مالکه فورا
اشارة

هذا حکم تکلیفی فی المقام ادعاه الشیخ الأعظم و استدل علیه بوجوه ثلاثة:

الأوّل: الإجماع
اشارة

فإنّه یدعی قدس سره ورود الاجماع المنقول الوارد فی کلمات جماعة من الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - .

ولکنه لم یذکر إلاّ المحقّق الأردبیلی لأنّه قال فی مجمع الفائدة: «و مع علمه بالفساد و بعدم جواز تصرفه و حفظه و وجوب رده إلی مالکه معجلاً کالمغصوب، و ذلک قد یکون بعلمه بطلب من المالک علی تقریر الفساد و عدم رضاه بکونه عنده و فتوی العلماء له بذلک فهو ضامن...»(1).

و قال الشیخ الأعظم: «الثانی من الأمور المتفرعة علی عدم تملّک المقبوض بالبیع الفاسد، وجوب ردّه فورا إلی المالک، و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فیه علی تقدیر عدم جواز التصرف فیه»(2).

أقول: ثبوت الإجماع فی المسألة بقول الواحد الذی یدعی هو فتوی العلماء علی قسم خاص من الفرع - و هو فرض علم المشتری بالفساد و طلب المالک له - فی غایة الاشکال و منعه واضح ثم ظاهر الشیخ الأعظم حرمة التصرف فی مال الغیر یکون دلیلاً علی وجوب الردّ و هذا تامٌّ علی مبنی الذین یقولون: انّ حرمة الضد یقتضی وجوب ضده، ولکنّه لم یتم حتّی عنده قدس سره ، فلا یکون هذا مراده بل لعلّ مراده فهم العرف من حرمة التصرف فی مال الناس یقتضی لزوم الرد إلی المالک.

ص: 388


1- (1) مجمع الفائدة و البرهان 8/192.
2- (2) المکاسب 3/199.
فرع: مؤونة الرد علی من؟

هذا الفرع محلّه فی ختام البحث ولکن قدّمه الشیخ الأعظم و نحن نقتفی أثره: قال العلاّمة فی تذکرة الفقهاء: «إذا اشتری شراءً فاسدا وجب علیه ردّه علی مالکه، لعدم خروجه عنه بالبیع، و علیه مؤونة الرد کالمغضوب لوجوب لا یتمّ الواجب إلاّ به»(1).

و قال المحقّق الثانی فی جامع المقاصد: «فرعٌ: علی المشتری مؤونة ردّ المبیع فاسدا إن کان له مؤونة کالمغضوب و لا یرجع بالنفقة إلاّ إذا کان جاهلاً بالفساد، إذ لا یعدّ متبرِّعا

بنفقته، إذ لم یُنفق إلاّ بناءً علی أنّه ماله، فإذا فات ذلک رجع کلٌّ إلی حقّه و جعل فی التذکرة(2) البائع غارّا»(3).

ثم الشیخ الأعظم یرتضی قول العلاّمة ب- «أنّ مؤونة الرد علی المشتری»(4) ولکنّه ذهب ألی أنّ علیه مؤونة عادیة و أمّا الکثیرة یقیّد بأدلة نفی الضرر فینفی، قال: «اطلاقه یشمل ما لو کان فی ردّه مؤونة کثیرة إلاّ أن یقیّد بغیرها بأدلة نفی الضرر»(5).

و اعترض علیه السیّد الیزدی و قال: «علی تقدیر وجوب الردّ حتّی مع علم الدافع یمکن أن یقال بکفایة التخلیة ثم علی فرض کون الردّ واجبا و کون مؤونته علی القابض إنّما یتم فیما إذا کان هو الناقل له عن مکانه، و أمّا إذا کان فی مکان القبض و قد انتقل البائع إلی بلد آخر فلا دلیل علی وجوب نقله إلی ذلک البلد و کون مؤونته علی القابض فتدبر»(6).

ص: 389


1- (3) تذکرة الفقهاء 10/292، مسألة 127.
2- (1) تذکرة الفقهاء 10/293.
3- (2) جامع المقاصد 4/435.
4- (3) مرّ قوله فی تذکرة الفقهاء 10/292.
5- (4) المکاسب 3/199.
6- (5) حاشیة المکاسب 1/464.

و قال أیضا: «لافرق بین الکثیرة و الیسیرة فی کونه ضررا، إلاّ أن یراد بالکثیرة ما یکون فیه اجحاف، فتدبر»(1).

و قال المحقّق النائینی: «إنّما الکلام فی أنّ مؤونة الردّ علی القابض مطلقا أو علی المالک کذلک أو فیه تفصیل؟ وجوه، و الأقوی هو الأخیر.

و حاصله: أنّه لو کانت المؤونة بمقدار ما یقتضیه - طبعا - ردّ مال الغیر فهو علی القابض، ولو لم یکن کذلک بأن کانت زائدة علیه فلا یجب علیه، و ذلک لأنّ الحکم المجعول إذا اقتضی فی طبعه مقدارا من الضرر فهو مخصّص لقاعدة الضرر، و لاأقل من عدم حکومتها علیه. نعم، لو احتاج الردّ إلی المؤونة الزائدة علی المتعارف بحیث صار وجوبه بدون جبرانه من المالک اجحافا علی القابض فأدلة لا ضرر حاکمة علیه.

ثم لا فرق فی وجوب الردّ إذا کان متوقّفا علی المؤونة المتعارفة بین نقل القابض المال عن مکانه إلی بلدٍ آخر، أو لا مع وجود المالک فی بلد القبض.

و أمّا إذا کان المقبوض فی بلد القبض و انتقل المالک إلی مکان آخر فلا یجب نقله إلیه، بل یردّه إلی وکیله أو الحاکم، لعدم دلیل علی لزوم الدفع إلی شخص المالک فی هذه الصورة.

و یشکل الأمر لو نقله القابض من بلد القبض إلی بلد آخر و انتقل المالک أیضا إلی بلد ثالث فیحتمل أن لا یکون الردّ إلی بلد القبض أو البلد الذی انتقل إلیه المالک واجبا، إلاّ إذا کان فی بلد القبض خصوصیة بأن یکون قیمته أغلی أو راغبه أزید أو نحو ذلک.

و علی أیّ حال، الردّ إلی البلد الذی انتقل إلیه المالک لا دلیل علیه، إلاّ إذا نقله القابض أیضا إلی هذا البلد، فإنّه مع مطالبته یجب دفعه إلیه، لأنّ ماله موجود و یستحق

ص: 390


1- (6) حاشیة المکاسب 1/464.

المطالبة فیجب ردّه إلیه»(1).

و اعترض علیه تلمیذة المحقّق السیّد الخوئی و قال: «و یرد علیه: أن وجوب الردّ فی نفسه

لایقتضی أیّ ضرر إذ قد یکون الردّ غیر محتاج إلی المؤونة اصلاً، فالمؤونة أمر قد یحتاج إلیه الردّ، و قد لا یحتاج إلیه ذلک، و إذن فدلیل نفی الضرر یقتضی اختصاص وجوب الردّ بما لایحتاج إلی مؤونة.

ثم اعترض علی تفصیل الشیخ الأعظم - أی الفرق بین المؤونة القلیلة و الکثیرة - بقوله: «فإن تحمل الضرر مرفوع فی الشریعة المقدسة و لا فرق بین قلیله و کثیره».

ثم اختار: «نعم، لا بأس بالالتزام بکون المؤونة علی القابض فیما إذا کانت المؤونة من القلّة بمرتبة لا تعدّ ضررا عرفا»(2).

الثانی: التوقیع الشریف

المروی بسند صحیح عن أبیالحسین محمّد بن جعفر الأسدی الثقة قال: کان فیما و رد علیَّ من الشیخ أبیجعفر محمّد بن عثمان العَمْرِیّ - قدس اللّه روحه - فی جواب مسائلی إلی صاحب الدار علیه السلام :... فلا یحلّ لأحد أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه فکیف یحلّ ذلک فی مالنا؟! التوقیع.(3)

بناءً علی أنّ الإمساک آنا ما مصداق للتصرف الحرام، فیجب التخلّص منه بردّه فورا إلی مالکه.

ص: 391


1- (1) منیة الطالب 1/276.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/125.
3- (3) وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال، و مختصرا فی وسائل الشیعة 25/386، ح4، الباب 1 من أبواب الغصب.

تنبّه الشیخ الأعظم إلی وجود مناقشة فی هذا الاستدلال و قال: «ولو نوقش فی کون

الامساک تصرفا»(1).

و مراده: عدم صدق التصرف علی مجرد الإمساک حتّی یکون منهیّا عنه لأنّ التصرف مأخوذ من الصرف فیراد به التقلیب و التقلُّب.

بل یمکن ان یقال: بخروج الإمساک عن التصرف موضوعا و تخصصا، لعدم صدق التصرف فیه و یؤیده کلاما شیخ الطائفة و ابن ادریس الآتیان فی آخر البحث.

بتوضیح: أنّ القابض بالعقد الفاسد - بلا فرق بین العقود المعاوضی و غیر المعاوضی - تارة یمتنع عن ردّ المقبوض إلی مالکه حتّی مع مطالبته، و أُخری لا یمتنع عن ذلک:

فعلی الأوّل: لا شبهة فی حرمة إمساکه لأنّه من أظهر مصادیق الغصب.

و علی الثانی: لا یجب ردّه إلی مالکه لا فوریا و لا غیره، لانّ لا یجب علی القابض إلاّ التخلیة بین المال و مالکه و أمّا الزائد فلا شیء علیه.(2)

الثالث: النبوی الشریف

الوارد فی خطبة الوداع لرسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: أیها الناس إنّما المؤمنون إخوة، و لا یحلّ لمؤمن مال أخیه إلاّ عن طیب نفس منه.(3)

قال الشیخ الأعظم فی تقریب الاستدلال به: «حیث یدلّ علی تحریم جمیع الأفعال المتعلّقة به، التی منها کونه فی یده»(4).

مراده: أنّ «لا یحلّ» منسوب إلی الذات - و هو المال - فلابدّ من تقدیر الفعل

ص: 392


1- (1) المکاسب 3/200.
2- (2) کما فی مصباح الفقاهة 3/120.
3- (3) وسائل الشیعة 5/120، ح3، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.
4- (4) المکاسب 3/200.

المناسب، و حیث لا تکون قرینة علی تحدید فعل خاص لزم تحریم جمیع الأفعال و الشؤون المتعلّقة بالمال و منها إمساکه لأنّ حذف المتعلّق یدل علی العموم.

و یناقش فیه: بوجود القرینة للتعین و هی أنّ الحلیة أو الحرمة إذا اسندت إلی الأعیان فلابدّ أن یراد بها الحلیة أو الحرمة التکلیفیان، ففی النبوی یکون المراد به عدم جواز الانتفاع به أو عدم جواز تملّکه و علی التقدیرین لاتدل علی حرمة الإمساک.

نعم، یحتمل أن یکون المقدَّر مطلق التصرف، و هو أیضا لا یفید، لأنّه قد مرّ خروج الإمساک عن التصرف موضوعا و عن حرمته تخصصا.

هذا کلّه فی أدلة الشیخ الأعظم فی المقام.

و استُدِلَّ علی حرمة الإمساک و وجوب الردّ بحدیث «علی الید» بتقریبین:

الأوّل: ما ذکره المحقّق النائینی إذ قال: «عموم «علی الید ما أخذت حتّی تؤدی» فإنّه و إن لم یکن متعرّضا للحکم التکلیفی بالدلالة المطابقیة إلاّ أنّه متعرض له بالدلالة الالتزامیة فإن استقرار الضمان علی عهدة القابض ملازم لوجوب الرد لأنّه لا أثر لاستقرار الضمان علی العهدة إلاّ وجوب ردّ العین مادامت باقیة و ردّ المثل أو القیمة لو کانت تالفةً، فحرمة إمساک مال الغیر من غیر إذنه و وجوب ردّه إلیه فورا بالفوریة العرفیة لا أشکال فیه»(1).

و اعترض علیه تلمیذه المحقّق السیّد الخوئی بعد قبوله الملازمة هنا ولکن قال: «الحکم التکلیفی الملازم للحکم الوضعی - هنا - لیس هو وجوب ردّ العین إلی صاحبها لکی تترتب علیه حرمة الإمساک، و إنّما الواجب علی القابض هو وجوب التخلیة بین المال و مالکه، و أمّا الزائد علی ذلک فلم یدل علیه دلیل شرعی و لا عقلی»(2).

ص: 393


1- (1) منیة الطالب 1/274.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/123.

الثانی: ما ذکره المحقّق الإیروانی فی قوله: «فالأولی تبدیل الاستدلال به بالاستدلال بعموم علی الید، فإنّه إن لم یکن مقصورا ببیان التکلیف فلا أقل من أن یعمّ الوضع و التکلیف جمیعا بتقریب أنّ مؤداه وجوب دفع العین مع قیامها و دفع البدل مع التلف»(1).

ثم اعترض علیه المحقّق السیّد الخوئی بوجوه ثلاثة: «أوّلاً: ارادة الحکم التکلیفی من حدیث علی الید یحتاج إلی تقدیر فعل من الأفعال لأنّ الحکم التکلیفی لا یتعلق بالمال نفسه، و ارادة الحکم الوضعی منه لا یحتاج إلی تقدیر شیءٍ أصلاً فلا یمکن الجمع بین الحکمین إذ لا یمکن الجمع بین التقدیر و عدمه.

و ثانیا: الغایة الواردة فی الحدیث تناسب مع الحکم الوضعی فقط لا الحکم التکلیفی و لاالجمع بینهما، لأنّه إذا اُرید من النبوی الحکم التکلیفی کان معناه: أنّه یجب ردّ المال المأخوذ من مالکه بدون إذنه حتّی تؤدیه أیّ حتّی تردّه إلی صاحبه و لا شبهة فی أنّ هذا الاستعمال مستهجن جدا.

و ثالثا: قد مرّ أن حدیث علی الید ضعیف السند»(2). انتهی ملخصا.

أقول: قد مرّ الوثوق بصدور الحدیث و یمکن أن یکون ذکر الغایة للتأکید و التغلیظ و حیث یکون التقدیر اللازم واضحا و لذا حُذِفَ و علیه یمکن الذهاب إلی الجمع بین الحکمین، و لا سیّما علی القول المختار من جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد و یتم استدلال المحقّق الإیروانی قدس سره .

ثم لابدّ من التنبیه علی أمرین:

ص: 394


1- (3) حاشیة المکاسب 2/124.
2- (4) مصباح الفقاهة 3/124 و 123.

الأوّل: عدم الفارق فی وجوب الردّ بین العقود المعاوضیّة الفاسدة و العقود غیر المعاوضیّة الفاسدة لأنّه بعد بطلان العقد لا یبقی للآخذ وجه شرعی فی تصرفاته، نعم إذا أذن له المالک من جدید فلا بأس بها أو إذا علم رضا المالک فی بعض تصرفاته فلا بأس بذلک البعض کما هو الواضح.

الثانی: ما ورد فی کلام شیخ الطائفة من عدم الإثم فی إمساکه فی قوله: «إذا باع عبدا بیعا فاسدا و أقبضه لم یملک بالقبض و لم ینفذ عتقه و لا شیء من تصرفه... و یجب علیه ردّه و ردّ ما کان من نمائه المنفصل منه لأنّ ملک الأوّل لم یزل عنه فالتصرف فیه لا یصح و یلزمه ردّه علی البائع لأنّه ملکه و لا إثم علیه لأنّه قبضه بإذن مالکه...»(1).

و تبعه ابن ادریس و قال: «متی ابتاع بیعا فاسدا فهلک المبیع فی یده أو حدث فیه فساد کان ضامنا لقیمته... و لأرش ما نقص من قیمته بفساده لأنّه باق علی ملک صاحبه ما انتقل عنه، فهو عند أصحابنا بمنزلة الشیء المغصوب إلاّ فی ارتفاع الإثم بإمساکه»(2).

یحملان إمّا علی ما مرّ من خروج الإمساک عن التصرف موضوعا و تخصصا لعدم صدق التصرف بالإمساک و یؤید هذا المبنی، و إمّا علی ارادة صورة الجهل بالفساد کما حملهما الشیخ الأعظم(3) علی الأخیر، و الحمدللّه.

الرابع: ضمان المنافع
اشارة

یقع الکلام هنا فی جهتین:

الجهة الاُولی: المنافع المستوفاة
اشارة

و قد ذهب المشهور إلی الحکم فیها بالضّمان بل کأنّه إجماعیٌ لتعیین المخالف فیه: قال

ص: 395


1- (1) المبسوط 2/149.
2- (2) السرائر 2/326.
3- (3) المکاسب 3/200.

الشیخ: «إذا باع عبدا بیعا فاسدا و أقبضه لم یملک... و إذا وجب ردّه نظر فإن کان بحاله لم یزد و لم ینقص ردّه و لا شیء علیه إلاّ أن یکون له اُجرة و هو أن یکون المبیع ممّا ینتفع به مع بقاء عینه انتفاعا مقصودا فیجب اُجرة مثله للمدّة التی أقام فی یده، و إن کان متغیّرا فإن کان زایدا ردّه بزیادته لأنّ ماله قد زاد فکانت الزیادة له سواء کانت الزیادة منفصلة أو متصلة و إن کان ناقصا کان علیه أرش ما نقص و إن تلفت فی یده کان علیه أکثر ما کانت قیمته من وقت القبض إلی وقت التلف...»(1).

و قال ابن ادریس: «و متی ابتاع بیعا فاسدا، فهلک المبیع فی یده أو حدث فیه فساد کان ضامنا لقیمته، أکثر ما کانت إلی یوم التلف و الهلاک، و لأرش ما نقص من قیمته بفساده، لأنّه باق علی ملک صاحبه، ما انتقل عنه، فهو عند أصحابنا بمنزلة الشیء المغصوب إلاّ فی ارتفاع الإثم بإمساکه»(2).

أقول: «عند أصحابنا» ظاهر فی الإجماع و کذا تمثیله بالمغصوب و لذا قال الشیخ الأعظم إنّ ظاهره «الاتفاق علی الحکم»(3).

و قال العلاّمة: «... و یجب علیه أیضا اُجرة المثل للمدّة التی کانت فی یده سواء استوفی المنفعة أو تلفت تحت یده لأنّ یده ثبتت علیه بغیر حقّ فهو کالمغصوب. ولو زادت العین فی ید المشتری زیادة منفصلة کالولد و الثمرة أو متصلة کالسمن و تعلّم الصنعة، وجب علیه ردّ الزیادة أیضا لأنّها نماء ملک البائع فیتبع الملک، فإن تلفت الزیادة ضمنها المشتری و هو أحد وجهی الشافعیة، و فی الآخر: لا یضمنها المشتری عند التلف.

و إن نقصت وجب علیه ردّ أرش النقصان لأنّ الجملة مضمونة علیه حیث قبضها

ص: 396


1- (1) المبسوط 2/149.
2- (2) السرائر 2/326.
3- (3) المکاسب 3/201.

بغیر حقّ و لأنّه قبضها علی سبیل المعاوضة فأشبهت المقبوض علی وجه السَّوْم...»(1).

و قال الفاضل المقداد: «و أمّا منافعه فهی مضمونة مع التفویت، خلافا لابن حمزة(2) محتجا بأنّ الخراج بالضمان و نقض بالغاصب مع ضمانه قطعا(3)، و أمّا مع الفوات فوجهان من

اصالة البرائة و من أنّها منافع عین مضمونة فتضمن»(4).

المخالف فی المسألة و دلیله و مناقشته

أقول: قد عرفت أنّ المخالف فی المسألة ابن حمزة فی کتابه الوسیلة و قد استدل بالنبوی الخراج بالضمان(5) بتقریب أنّ ضمان العین علیه فتکون منافعها له.

و فیه: أوّلاً: الروایة ضعیفة الإسناد.

ثانیا: أنّها منتقضةٌ بالمغصوب کما مرّ عن الفاضل المقداد.

ثالثا: قد مرّ منّا معنی الروایة و مدی دلالتها فی بحث معانی ألفاظ قاعدة ما یضمن فی الجهة الثانیة: ما المراد من الضمان؟(6) و قلنا إنّ للضمان معنیین: الأوّل: المعنی المصدری، و الثانی: معنی الاسم المصدری، و مثلنا للأوّل بقاعدة الخراج بالضمان و ذهبنا إلی أن المراد بالخراج فی الحدیث مطلق المنافع الحاصلة من الأعیان المستوفاة و غیرها و المراد بالضمان هو المعنی المصدری أی جعله فی العهدة ببذل العوض فی مقابله و الباء تدل علی المقابلة و السببیة و ظاهر هذه المقابلة تدل علی أن الضّمان یوجب جواز الانتفاع بالمنفعة و هذا لا

ص: 397


1- (4) تذکرة الفقهاء 10/292.
2- (5) راجع الوسیلة /255 لابن حمزة الطوسی.
3- (6) خلافا للحنفیة حیث قال فی شرح فتح القدیر 7/394: و لا یضمن الغاصب منافع ما غصبه لأنّها حصلت علی ملک الغاصب إلاّ أن ینقص باستعماله فیغرم النقصان.
4- (1) التنقیح الرائع 2/32.
5- (2) سنن البیهقی 5/321 و سنن ابن ماجه 2/754، ح 2243؛ عوالی اللآلی 1/219، ح89.
6- (3) راجع هذا المجلد، صفحة 311.

یکون إلاّ فی العقد الصحیح.

فما ورد عن ابن حمزة من عدم الضمان فی المنافع المستوفاة فی العقد الفاسد تمسّکا بالنبوی، یکون خروجا عن مورده و محلّه فلا یتم.

و رابعا: إن أبیت ما ذکرنا فی معنی الروایة فتأتی احتمالات فی معناها ذکرها المحقّق السیّد الخوئی(1) و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

ما الدلیل علی الضمان؟
اشارة

قد استدلوا علی الضمان بوجوه متعددة:

الأوّل: النبوی المعروف: «علی الید ما أخذت حتّی تؤدی».

قد مرّ الوثوق بصدوره و شموله للأعیان و المنافع المستوفاة منها و غیرها، و الأجوبة عن الاشکالات الخمسة الواردة لشموله للمنافع فی الدلیل الثانی من البحث حول مدرک قاعدة مایضمن(2) فلانعیدها.

الثانی: ما دلّ علی حرمة مال المؤمن

و قد مرّت موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث: و حرمة ماله (أی المؤمن) کحرمة دمه.(3)

و قد حملنا الروایة علی الحرمة الوضعیة - أی الضمان - أو الأعم من الوضعیة و التکلیفیة. و لا یقتضی ما ذکرنا لزوم الضمان لو تلف مال المؤمن بآفة سماویة کما أصرّ المحقّق السیّد الخوئی(4) علی ذلک کما مرّ جوابه فی الثانی من طوائف الروایات الدالّة علی قاعدة

ص: 398


1- (4) راجع مصباح الفقاهة 3/133 و 134.
2- (5) راجع هذا المجلد صفحة 335 و ما بعدها.
3- (1) وسائل الشیعة 12/297، ح3، الباب 158 من أبواب أحکام العشرة.
4- (2) راجع مصباح الفقاهة 3/91 و 129.

الاحترام.(1)

الثالث: ما دل علی عدم حلیة مال امری ء مسلم إلاّ بطیب نفسه.

مرّ روایته فی الطائفة الاُولی من الروایات التی تدل علی قاعدة الاحترام(2) و أنّها تدل علی الحکم الوضعی - أی الضمان - ، و إذا تدل علی ضمان العین تدل علی ضمان منافعها أیضا لأنّ المنافع تعدّ من توابع العین.

الرابع: قاعدة الإتلاف

و هی من أتلف مال الغیر فهو له ضامن و هذه القاعدة من المسلّمات بین جمیع فرق المسلمین و اتّفق علیها الکلّ و ربّما یقال بأنّها من ضروریات الفقه و باللفظ المشهور لم ترد فی أیّ روایة ولکنّها مستفادةٌ من عدّة روایات وردت فی مختلف الکتب الفقهیة.

منها: صحیحة جمیل عن أبی عبداللّه علیه السلام فی شاهد الزور قال: إن کان الشیء قائما بعینه ردّ علی صاحبه، و إن لم یکن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل.(3)

و منها: موثقة اسحاق بن عمّار قال: سألت أبا ابراهیم علیه السلام عن الرجل یرهن الرهن بمائة درهم و هو یساوی ثلاثمائة درهم فیهلک، أ علی الرجل أن یرد علی صاحبه مائتی درهم؟ قال: نعم، لأنّه أخذ رهنا فیه فضل و ضیّعه، قلت: فهلک نصف الرهن، قال: حساب ذلک، قلت: فیترادّ ان الفضل؟ قال: نعم.(4)

و منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سُئل عن القصّار یفسد؟ فقال: کلّ

ص: 399


1- (3) راجع هذا المجلد صفحة 344.
2- (4) راجع هذا المجلد صفحة 342.
3- (5) وسائل الشیعة 27/327، ح2، الباب 11 من أبواب کتاب الشهادات.
4- (6) وسائل الشیعة 18/391، ح2، الباب 7 من أبواب کتاب الرهن.

أجیرٍ یعطی الاُجرة علی أن یصلح فیفسد فهو ضامن.(1)

و منها: معتبرة السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام : أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام رفع إلیه رجل استأجر رجلاً یصلح بابه، فضرب المسمار فانصدع الباب فضمّنه أمیرالمؤمنین علیه السلام .(2)

و منها: صحیحة زرارة و أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال أمیرالمؤمنین علیه السلام فی رجل کان له غلام فاستأجره منه صائغ أو غیره، قال: إن کان ضیّع شیئا أو أبق منه فموالیه ضامنون.(3)

و منها: موثقة سلیمان بن خالد عن أبی عبداللّه علیه السلام قال إذا رهنت عبدا أو دابّة فمات فلا شیء علیک، و إن هلکت الدابة أو أبق الغلام فأنت ضامن.(4)

و منها: خبر أبان بن عثمان عمّن أخبره عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال: فی الرهن إذا ضاع من عند المرتهن من غیر أن یستهلکه رجع فی حقّه علی الراهن فأخذه، فإن استهلکه ترادّا الفضل بینهما.(5)

و منها: خبر وهب عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیا علیه السلام کان یقول: من استعار عبدا مملوکا لقوم فعیب فهو ضامن. و قال: من استعار حرّا صغیرا فعیب فهو ضامن.(6)

و منها: مرسلة القاضی نعمان المصری عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث: فمن نال من رجل مسلم شیئا من عرض أو مال وجب علیه الاستحلال من ذلک و التنصل من

ص: 400


1- (1) وسائل الشیعة 19/141، ح1، الباب 29 من أبواب کتاب الإجارة.
2- (2) وسائل الشیعة 19/144، ح10.
3- (3) وسائل الشیعة 19/114، ح2، الباب 11 من أبواب کتاب الاجارة.
4- (4) وسائل الشیعة 18/388، ح8، الباب 5 من أبواب کتاب الرهن.
5- (5) وسائل الشیعة 18/387، ح7.
6- (6) وسائل الشیعة 19/94، ح11، الباب 1 من أبواب کتاب العاریة.

کلِّ ما کان منه إلیه، و إن کان قدمات فلیتنصل من المال إلی ورثته و لیتب إلی اللّه ممّا أتی إلیه، حتّی یطلع علیه عزّوجلّ بالندم و التوبة و التنصل، ثم قال: و لستُ آخذ بتأویل الوعید فی أموال الناس، ولکنّی أری أن یؤدی إلیهم إن کانت قائمة فی یدی من اغتصبها و ینتصل إلیهم منها، و إن فوّتها المغتصب أعطی العوض منها، فإن لم یعرف أهلها، تصدَّق بها عنهم علی الفقراء و المساکین، و تاب إلی اللّه عزوجل ممّا فعل.(1)

و منها: مرسلة اُخری له عن أمیرالمؤمنین علیه السلام : أنّه قضی فیمن قتل دابة عبثا أو قطع شجرا أو أفسد زرعا أو هدم بیتا أو عور بئرا أو نهرا أن یغرم قیمة ما استهلک و أفسد و یضرب جلدات نکالاً، و إن أخطا و لم یتعمد ذلک، فعلیه الغرم و لا حبس علیه و لا أدب، و ما أصاب من بهیمة فعلیه ما نقص من ثمنها.(2)

تلک عشرة کاملة من الأحادیث تدل علی قاعدة الإتلاف.

و استدل الشیخ(3) و تبعه ابن ادریس(4) بقوله تعالی: «من اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم»(5).

بتقریب: أنّ اتلاف مال الغیر بدون رضاه و إذنه هو اعتداء علیه و تعبیره عزّوجلّ عن ضمان المثل و القیمة بالاعتداء إنّما هو للمشاکلة اللّفظیّة - و هی من المحسنّات البدیعیة -

ص: 401


1- (7) دعائم الاسلام 2/485، ح1731 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/87، ح2، الباب 1 من أبواب کتاب الغصب.
2- (1) دعائم الاسلام 2/424، ح1476 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/95، ح6، الباب 9 من أبواب کتاب الغصب.
3- (2) المبسوط 3/60، الخلاف 3/402، مسألة 11، و 3/406، مسألة 18.
4- (3) السرائر 2/480.
5- (4) سورة البقرة /194.

کقوله تعالی: «وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها»(1) و قوله تعالی: «وَ یَمْکُرونَ وَ یَمْکُرُ اللّه و اللّه خیر الماکرین»(2)، فالاعتداء الثانی «لیس باعتداءٍ و انّما هو جزاءٌ و هذا أحد وجوه البلاغة»(3) و الآیة الشریفة تدلّ علی أنّ مَنْ أتلف مال الغیر بدون إذنه و رضاه فهو ضامن له.(4)

و فیه: یمکن أن یناقش فی هذا الاستدلال بمنع صدق الاعتداء لغة و عرفا علی الإتلاف عن غیر عمد و اختیار، نحو الإتلاف فی حال النوم و فی الحادثات و التصادفات.

نعم: الآیة الشریفة تشمل کلاً من الحکمین: التکلیفی و الوضعی و لا تختصّ بالحکم التکلیفی کما مرّ مرارا خلافا لبعض أساتیذنا(5) قدس سره .

و بالجملة الاستدلال بالآیة الشریفة فی هذا المقام لا یتم لما ذکرنا من خروج بعض

موارد الإتلاف من تحت الاعتداء.

و المراد بالإتلاف فی هذه القاعدة هی الفناء و الهلاک بل الإفناء و الإهلاک، و الإفناء تارة یتعلق بذات المال کأکل المأکولات و المشروبات بمعنی ازدرادهما و بلعهما و هو الإفناء الواقعی، و اُخری یتعلق بمالیته مع بقاء ذاته کما لو غصب المُثلج - أی المکان الذی یذخرون فیه الثلج - مع ثلجه فی الصیف و ردّه إلی صاحبه فی الشتاء بحیث لایروون الناس مالیة للثلوج فی الشتاء. و ثالثة یتعلق بمنافع المال نحو: سکنی الدار و رکوب السیارة و زرع الأرض و لبس الملابس الفاخرة و التزیین بالمجوهرات و الذهب. ففی کلِّ ذلک یصدق

ص: 402


1- (5) سورة الشوری /40.
2- (6) سورة الأنفال /30.
3- (7) راجع التبیان فی تفسیر القران 3/476.
4- (8) کما فی القواعد الفقهیة 2/25 للفقیه السیّد حسن البجنوردی رحمه الله .
5- (9) راجع القواعد الفقهیة 1/46 لآیة اللّه الاُستاذ الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی رحمه الله .

الإفناء و الإتلاف و المُتْلِفُ ضامنٌ بقاعدة الإتلاف. و حینئذ المنافع المستوفاة من المقبوض بالعقد الفاسد تدخل فی قاعده الإتلاف و المستوفی لها ضامن.

الخامس: السیرة العقلائیة

قائمة علی أنّ أموال الناس محترمة و لا تذهب هدرا، و من استولی علی مال غیره فعلیه الضمان بالنسبة إلی المال و جمیع مختصاته من المالیة و المنافع و غیرها. و لم یردع الشارع من هذه السیرة العقلائیة فتکون دلیلاً علی ضمان المنافع المستوفاة.(1)

السادس: قاعدة نفی الضرر

قد تمسکوا بها لإثبات الضمان بالنسبة إلی المنافع المستوفاة بتقریب أنّ: استیفاء منفعة مال المالک و جعله مسلوب المنفعة ضرر علیه و هو منفی فی الشریعة فلابدّ من إثبات الضمان للمستوفی درءا(2) للضرر المنفی، و قد مرّت الروایات الواردة حول هذه القاعدة فی الدلیل الرابع من البحث حول مدرک قاعدة ما یُضمن.(3)

و فیه: أوّلاً: إنّ قاعدة نفی الضرر لیست مسوّغةً لإثبات الحکم الشرعی و إنّما هی مسوّغةٌ لنفی الحکم الضرری، بعبارة أُخری تنفی بها الأحکام الضرریة و لا یثبت بها الحکم کما هو محقَّقٌ فی محلّه.

و ثانیا: الحکم بهذه القاعدة علی ثبوت الضمان للمستوفی القابض ضرر علیه و القاعدة لاتفی لإثبات ضرر علی أحد لنفی الضرر عن غیره کما هو الواضح فی محلّه.

و ثالثا: تحصیل المنافع للمالک من قبیل المنفعة و عدم إمکان تحصیله یکون من قبیل

عدم النفع، و من المعلوم أنّ عدم المنفعة غیر الضرر، و القاعدة تنفی الضرر لا عدم النفع.

ص: 403


1- (1) راجع مصباح الفقاهة 3/130.
2- (2) أی: دَفْعا.
3- (3) راجع هذا المجلد صفحة 347.

فإثبات ضمان المنافع المستوفاة بقاعدة نفی الضرر لا یتم. و التفصیل یطلب من بحث الاُصول.

الجهة الثانیة: المنافع غیر المستوفاة
اشارة

إذا لم یستوف المشتری المنافع للعین التی قبضها بالعقد الفاسد فهل یضمن تلک المنافع الفائتة أم لا؟ أو فیه تفصیل؟ وجوه بل أقوال:

الأوّل: الضمان مطلقا کما علیه المشهور و نسبه إلیهم الشیخ الأعظم(1) و یظهر الاجماع علی ذلک من ابن ادریس لأنّه قال فی آخر إجارة سرائره: «لأنّ المنافع عندنا تضمن بالغصب»(2) و قال فی بیعه: «البیع الفاسد عند المحصلین یجری مجری الغصب فی الضمان»(3) و قال فیه أیضا: «و متی ابتاع بیعا فاسدا... ما انتقل عنه فهو عند أصحابنا بمنزلة الشیء المغصوب إلاّ فی ارتفاع الإثم بإمساکه»(4).

و کذا یظهر الإجماع علی ذلک من العلاّمة حیث قال فی التذکرة: «إنّ منافع الأموال من العبید و الثیاب و العقار و غیرها مضمونة بالتفویت و الفوات تحت الید العادیة، فلو غصب عبدا أو جاریة أو ثوبا أو عقارا أو حیوانا مملوکا ضمن منافعه سواء أتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت یده بأن بقیت مدّة فی یده لا یستعملها عند علمائنا أجمع»(5).

و قال الشیخ الأعظم مستندا إلی هذین الإجماعین: «... فالقول بالضمان لا یخلو من

ص: 404


1- (1) المکاسب 3/204.
2- (2) السرائر 2/479.
3- (3) السرائر 2/285.
4- (4) السرائر 2/326.
5- (5) تذکرة الفقهاء 2/381 من الطبعة الحجریة.

قوّة»(1).

و یظهر الضمان من الشیخ جعفر(2) و سیّد الریاض(3) و السیّد العاملی(4) لأنّ الثلاثة الاْءخیرین لم یفرقوا بین المنافع المستوفاة و غیرها.

و ذهب إلی هذا القول الفقیه الیزدی(5) و المحقّق النائینی(6) و المیرزا الشهیدی(7) و

السیّد الخمینی(8) و الفقیه السبزواری(9).

الثانی: عدم الضمان مطلقا کما مرّ عن ابن حمزة(10) و ذهب إلیه فخر المحقّقین(11) و تبعه المحقّق السیّد الخوئی(12).

الثالث: الضمان إلاّ مع علم البائع کما عن بعض من کتب علی الشرائع(13).

و قال الشیخ الأعظم: «فالحکم بعدم الضمان مطلقا... أو مع علم البائع بالفساد موافق للأصل السلیم»(14).

ص: 405


1- (6) المکاسب 3/208.
2- (7) شرح القواعد 2/34.
3- (8) ریاض المسائل 8/253.
4- (9) مفتاح الکرامة 12/541.
5- (10) حاشیة المکاسب 1/467.
6- (11) راجع منیة الطالب 1/282.
7- (12) هدایة الطالب 2/307.
8- (1) کتاب البیع 1/322.
9- (2) مهذب الأحکام 16/260.
10- (3) الوسیلة /255.
11- (4) ایضاح الفوائد 2/194.
12- (5) مصباح الفقاهة 3/136 و 144.
13- (6) کذلک نقل عنه الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/206.
14- (7) المکاسب 3/205.

قال المحقّق الخمینی رحمه الله : «التفصیل بین کون المشتری جاهلاً مبالیا بحکم الشرع مع علم البائع بالفساد و بحال المشتری، فقلنا بإمکان التمسک فی مثله بقاعدة الغرور لدفع الضمان حتّی ضمان الإتلاف عن المشتری و بین غیره فیکون ذلک قولاً سادسا فی ضمان المنافع»(1).

أقول: الظاهر دخول ما ذکره من التفصیل أو بعض وجوهه فی القول الثالث و لذا لایتم عدّه قولاً مستقلاً فی قبال بقیة الأقوال.

الرابع: التوقف فی فرض علم البائع کما استظهره السیّد عمیدالدین(2) من عبارة خاله العلاّمة فی القواعد(3) و تبعه المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(4). و الحکم بالضمان فی فرض جهل البائع.

الخامس: التوقف مطلقا کما عن الشهید فی الدروس(5) و الفاضل المقداد فی التنقیح(6) و ثانی الشهیدین فی المسالک(7) و محتمل القواعد علی ما یظهر من فخر المحقّقین(8). و قال الشیخ الأعظم: «انّ التوقف أقرب إلی الإنصاف»(9).

ص: 406


1- (8) کتاب البیع 1/323.
2- (9) کنز الفوائد 1/676.
3- (10) قواعد الأحکام 2/238 قال فیها: «و لا یملک المشتری ما یقبضه بالبیع الفاسد و یضمنه و ما یتجدّد من منافعه الأعیان أو غیرها مع جهل البائع أو علمه مع الاستیفاء، و بدونه إشکال».
4- (11) جامع المقاصد 6/324.
5- (1) الدروس 3/194.
6- (2) التنقیح الرائع 2/32.
7- (3) المسالک 3/154.
8- (4) ایضاح الفوائد 2/194.
9- (5) المکاسب 3/207.

و أنت تری بأنّه تباینت(1) آراء الشیخ الأعظم قدس سره فی هذه المسألة فاختار الضمان مطلقا فی أوّل کلامه(2) و استدلّ له بوجهین ثم ناقش فیهما، و رجح عدم الضمان مطلقا(3) لقیام وجوه ثلاثة له، ثم جعل التوقف هو الانصاف فی المسألة(4)، ثم فی آخر کلامه رجح القول بالضمان مطلقا مجددا(5) و اختار أنّه لا یخلو مِنْ قوة، و هذا لا یعاب علیه لحدّة ذهنه و جولان آرائه رحمه الله .

أمّا الدلیل علی ضمان المنافع غیر المستوفاة
اشارة

فیمکن أن یستدل علی الضمان و القول المشهور بوجوه:

الأوّل: النبوی المعروف

و هو حدیث «علی الید ما أخذت حتّی تؤدی» و قد مرّ عدم اختصاصه بالأعیان و أنّه یشمل المنافع المستوفاة و غیر المستوفاة.

و انصراف الأخذ إلی الاستقلالی منه بَدْوِیٌّ لأجل اُنس الذهن إلیه، و من المعلوم عدم مانعیة هذا الانصراف بالتمسک بالاطلاق. مضافا إلی أنّ المنافع یقع تحت الید تبعا للعین و الاستیفاء لم یکن دخیلاً فی تحقّق النفع لا خارجا و لا مفهوما.

الثانی: مادلّ علی حرمة مال المؤمن

بل و احترام مال المسلم أیضا یدل علی الضمان لأنّ المنافع المستوفاة منها و غیرها أیضا تعدّ من الأموال ولو کانت تتبع العین و احترامها یعنی عدم جواز استیفائها للغیر و

ص: 407


1- (6) أی: اختلفت.
2- (7) المکاسب 3/204.
3- (8) المکاسب 3/205.
4- (9) المکاسب 3/206 و 207.
5- (10) المکاسب 3/208.

عدم جواز التسلط علی العین و عدم ذهابها هدرا و هذا الأخیر هو الحکم الوضعی أیّ الضمان.

الثالث: مادلّ علی عدم حلیة مال امری ء مسلم إلاّ بطیب نفسه

و قد مرّت روایاته، و کما تدل علی ضمان العین تدل علی ضمان المنافع لأنّها من توابع العین بلافرق بین المستوفی منها و غیرها.

الرابع: قاعدة الإتلاف

بأنّ القابض بقبضه أتلف استیفاء المنفعة علی المالک - ولو لم یستوف القابض المنفعة - فیصیر ضامنا لها.

و لذا قال الفقیه الیزدی: «الاستیلاء علی العین و منع المالک عن الانتفاع بها تفویت لمنافعها و یصدق علیه الإتلاف عرفا و لذا نحکم بالضمان لها [أیّ للمنافع الفائتة] فی الغصب»(1).

و لم یرد علیه ما ذکره المحقّق السیّد الخوئی من عدم صدق التفویت «إلاّ إذا استند الفوت إلی القابض بأن وضع یده علی مال الغیر و حبسه بحیث لا یتمکن مالکه من التصرف»(2).

و العجب منه رحمه الله تسریة هذا النقد إلی الغاصب أیضا و قال: «إنّ الغاصب إنما یضمن المنافع الفائتة إذا استند فوتها إلیه. أما لو استند ذلک إلی المالک فلا ضمان علیه لعدم الدلیل علی ضمان الغاصب فی أمثال ذلک»(3).

لأنّه بصرف القبض و الاستیلاء فوّت القابض المنفعة علی المالک و هذا التفویت یعدّ

ص: 408


1- (1) حاشیة المکاسب 1/467.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/143.
3- (3) مصباح الفقاهة 3/139.

إتلافا للمنفعة علی المالک، فیکون القابض ضامنا و کذلک الأمر فی الغاصب بطریق الاُولی.

الخامس: الإجماع

قد مرّ ادعاء الاجماع من ابن ادریس(1) و العلاّمة(2) و استقوی الشیخ الأعظم(3) به القول بالضمان.

و اعترض علیه الفقیه الیزدی بأنّ: «لاوجه للقول به [أیّ بالضمان] من جهة هذین الإجماعین المنقولین بعد عدم حجیة الاجماع المنقول و عدم معلومیة الشمول للمقام»(4).

و أجابه المحقّق النائینی ب- «أنّ اختیاره الضمان أخیرا لیس لاعتماده علی الإجماع المنقول مع أنّه منکر لحجتیه فی الاُصول، بل اعتمد علی نقل الاجماع من جهة کشف اتفاق الأعلام علی شمول قاعدة الید و الاحترام للمنافع»(5).

و أشکل المحقّق السیّد الخوئی علی استاذه ب- : «أن المصنف [الشیخ الأعظم] قد ناقش فی کلتا القاعدتین صریحا فی صدر کلامه و حکم بعدم إمکان التمسک بهما - هنا - و معه کیف یعتمد علیهما فی ذیل کلامه»(6).

ثم اعترض علی الشیخ الأعظم بأنّه: «و إن ناقش فی حجیة نقل الإجماع فی فرائده(7) إلاّ أنّه اعتمد علیه فی محل البحث و غیره»(8).

ص: 409


1- (4) السرائر 2/285 و 326 و 479.
2- (5) تذکرة الفقهاء 2/381 من الطبعة الحجریة.
3- (6) المکاسب 3/208.
4- (1) حاشیة المکاسب 1/468.
5- (2) منیة الطالب 1/281.
6- (3) مصباح الفقاهة 3/144.
7- (4) راجع فرائد الاُصول 1/179 و ما بعده.
8- (5) مصباح الفقاهة 3/144.

أقول: الحقّ مع المحقّق السیّد الخوئی ولکن هذین الإجماعین یؤیّدان ما فَهِمْناهُ من القاعدتین و أنّهما تشملان المنافع مطلقا المستوفاة منها و غیرها، و أمّا منع التمسک بالاجماع بعد کون المسألة ذات أقوال خمسة فواضحٌ(1).

أمّا الدلیل علی عدم ضمانها فأُمورٌ:
الأوّل: قاعدة ما لا یضمن

و قد مرّت تمامیة هذه القاعدة و حیث أنّ المنافع غیر المستوفاة فی صحیح البیع لم تکن مضمونةً فکذلک فی المقبوض بالعقد الفاسد.(2)

و ما ذکره الفقیه الیزدی: «من أنّ المنافع مضمونة فی البیع حیث أنّ الثمن فی اللب یکون بملاحظتها و بإزائها، فالاندراج ممنوع، بل مقتضی أصل القاعدة الضمان حیث إنّ المقام بهذا البیان مندرج فیه، لا فی العکس، فتدبر»(3).

غیر تام، لأنّ لحاظ المنافع فی البیع یکون من قبیل الدواعی و الثمن یقع بإزاء المبیع خاصة لا منافعه کما نبه علیه المحقّق الخمینی رحمه الله .(4)

نعم: قد مرّ فی موارد نقض قاعدة ما لا یضمن حیث عدّ منها: المنافع غیر المستوفاة، أنّ المنافع بقسمیها المستوفاة منها و غیرها تعدّ من توابع العین لا من مقوماتها - کما یستظهر من الفقیه الیزدی - فإذا کانت العین مضمونة کما فی البیع الصحیح، فتوابعها تکون مضمونة أیضا، ففی البیع الفاسد کذلک تکون مضمونة و المنافع تدخل فی أصل قاعدة «ما یضمن» لا

ص: 410


1- (6) کما فی هدایة الطالب 2/306.
2- (7) ذکرها الشیخ الأعظم رحمه الله بعنوان «قد یدّعی» و لم یرد علیه فی المکاسب 3/205.
3- (8) حاشیته علی المکاسب 1/467.
4- (1) کتاب البیع 1/324.

فی نقیضها أو سالبتها أی قاعدة «ما لا یضمن» کما اختار ما ذکرناه المحقّق الخراسانی(1) و السیدان البجنوردی(2) و الخوئی(3).

و العجب من السیّد الخوئی حیث یری هناک دخول المبیع و منافعه فی نفس قاعدة مایضمن و یری هنا(4) المنافع غیر المستوفاة فی نقیض القاعدة أیّ «ما لا یضمن» و هذه مسافة الخلف بین القول و العمل.

و علی هذا لا نحتاج إلی ما ذهب إلیه البعض من أنّ الضمان الوارد فی المنافع غیر المستوفاة یکون بالدلیل الخاص و لذا یخرج من تحت قاعدة ما لا یضمن، و أنّ القاعدة عامّة یمکن تخصیصها، أو أنّ القاعدة «سلب الاقتضاء لا اقتضاء السلب فلاتنافی ثبوت الضامن بوجود سبب»(5) لأنّا نری أنّها تدخل فی قاعدة ما یضمن.

مضافا إلی ما مرّ من أنّ مورد العقد یکون أعمَّ من متعلَّق العقد (أیّ العین فی البیع مثلاً) و متعلّق متعلَّقه (و هو منافعها) وفاقا للشیخ الأعظم فیکون المنافع تدخل تبعا للعین فی أصل قاعدة ما یضمن. فلا یتم من «أنّ المنافع لیست مصب العقد فهی خارجة عن القاعدة موضوعا»(6)

الثانی: الروایات الواردة فی الجاریة المسروقة المبیعة

قد مرّت فی الدلیل الثالث من أدلة ضمان القابض بالنسبة إلی المقبوض بالعقد الفاسد

ص: 411


1- (2) حاشیة المکاسب /31.
2- (3) القواعد الفقهیة 2/124.
3- (4) مصباح الفقاهة 3/109.
4- (5) مصباح الفقاهة 3/144.
5- (6) کما عن المحقّق الخمینی فی بیعه 1/324.
6- (7) کما عن المحقّق الخمینی فی بیعه 1/324.

هذه الروایات(1) و البحث حولها.

یری الشیخ الأعظم دلالتها علی عدم الضمان لأنّ: الأخبار الواردة فی ضمان المنافع المستوفاة من الجاریة المسروقة المبیعة الساکتة من ضمان غیرها فی مقام البیان»(2). مع أنّه قال قبل صفحات: «فإنّ ضمان الولد بالقیمة - مع کونه نماءً لم یستوفه المشتری - یستلزم ضمان الأصل بطریق اُولی، و لیس استیلادها من قبیل إتلاف النماء بل من قبیل إحداث نمائها غیرَ قابلٍ للملک فهو کالتالف لا المتلَف، فافهم»(3).

أنت تری أنّه قدس سره ذهب هنا إلی أنّ الروایات ساکتة من ضمان المنافع غیر المستوفاة و أنّها فی مقام بیان ضمان المنافع، مع أنّه هناک ذهب إلی أنّ ضمان الولد یکون من المنافع غیر المستوفاة و إذا کانت مضمونة فضمان الأصل بطریق اُولی یثبت. فکیف یجمع قدس سره بین بالنسبة إلیها ساکتة و بین الدلیل الاُولویة الماضیة. هذا أوّلاً.

و ثانیا: نحن ذهبنا هناک أنّ ضمان الولد فی الروایات یکون من قبیل ضمان التلف الحکمی کما علیه الشیخ الأعظم، لا ضمان قاعدة الإتلاف أو ضمان التسبیب أو ضمان استیفاء المنافع.(4)

فالشیخ الأعظم یری ضمانه من قبیل ضمان التلف الحکمی، و هذا الضمان یدخل فی ضمان المنافع غیر المستوفاة و النسبة بینهما عموم و خصوص مطلق لأنّ جمیع الضّمانات الحکمیة تدخل فی ضمان المنافع غیر المستوفاة و بعض هذه المنافع تخرج من الضّمان الحکمی، فعلیه أن یذهب علی ما سلکه بأنّ هذه الروایات تدلّ علی ضمان المنافع غیر المستوفاة لا

ص: 412


1- (1) راجع وسائل الشیعة 21/203، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
2- (2) المکاسب 3/205 و تبعه السیّد الخوئی فی مصباحه 3/144.
3- (3) المکاسب 3/181.
4- (4) راجع ما حررته فی آخر ذاک البحث، صفحة 305 من هذا المجلد.

عدم ضمانها.

نعم: لا یتم ما یقال: بأنّ المنافع غیر المستوفاة هی مساویةٌ للحکمیّة(1) لأنّ التصریح بالأعمیة یوجد فی کلمات الفقهاء. هذا کله بناءً علی ورود الروایات فی مسألة المقبوض بالعقد الفاسد.

و ثالثا: الروایات وردت حول مسألة الغصب و نأخذ بها ولکن کلامنا فی المقبوض

بالعقد الفاسد و ضمان منافعها الفائتة و الروایات لم تدل علی حکمه، و بعبارة أُخری الروایات تکون فی مقام بیان حکم ضمان المغصوب لا حکم ضمان المقبوض بالعقد الفاسد و منافعها فکیف عدّ الشیخ الأعظم أنّها فی مقام بیان ضمان المنافع و لم یتعرض لحکم المنافع الفائتة؟! و أعجب منه أن المحقّق السیّد الخوئی(2) یری أنّ الروایات وردت فی مسألة الغصب ولکن قبل هنا استدلال الشیخ الأعظم و سبحان من لا یسهو.

اللهم إلاّ أن یقال: بعدم الفرق بین البائع المالک و الغاصب هنا کما یظهر من العلاّمة فی التحریر(3).

الثالث: صحیحة محمّد بن قیس

التی رواها المشایخ الثلاثة بأسانید صحاح عن محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال: قضی أمیرالمؤمنین علیه السلام فی ولیدة باعها ابن سیّدها و أبوه غائب فاشتراها رجل فولدت منه غلاما، ثم قدّم سیّدها الأوّل فخاصم سیّدها الأخیر، فقال: هذه ولیدتی باعها ابنی بغیر إذنی، فقال: خذ ولیدتک و ابنها، الحدیث.(4)

ص: 413


1- (5) کما ذکره المحقّق المروج بعنوان قد یقال راجع هدی الطالب 3/251.
2- (1) راجع کلامه فی مصباح الفقاهة 3/90 و 144.
3- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 4/543.
4- (3) وسائل الشیعة 21/203، ح1، من الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.

ذهب الشیخ الأعظم رحمه الله إلی أنّ الصحیحة فی مقام بیان ضمان المنافع «و سکت عن المنافع الفائتة، فإنّ عدم الضمان فی هذه الموارد مع کون العین لغیر البائع یوجب عدم الضمان هنا بطریقٍ أولی»(1) و تابعه المحقّق السیّد الخوئی(2).

أقول: یأتی تفصیل البحث حول هذه الصحیحة فی البیع الفضولی - إن شاء اللّه تعالی - ولکن هنا أذکر لمناقشة مقالة الشیخ الأعظم بأنّه:

أوّلاً: الصحیحة لم تکن فی مقام بیان ضمان المنافع بل کانت فی مقام بیان صحة عقد الفضولی.

و ثانیا: الابنُ لم یکن من المنافع المستوفاة حتّی علی نظر الشیخ الأعظم.(3)

و ثالثا: عدم الضمان الوارد فی الصحیحة تام لأنّ بعد إجازة المالک فی بیع الفضولی یدخل المبیع فی الملک المشتری من حین العقد فلا ضمان بالنسبة إلی المنافع مطلقا لأنّه استفاد

من منافع ملکه خلافا للمقبوض بالعقد الفاسد فطریق الأولویة المذکورة ممنوعة.

الرابع: صحیحة أبی وَلاّدٍ الحناط

المرویة فی الکافی الشریف(4) و المراد به هو حفص بن سالم أو یونس الثقة.

و أقول توضیحا لبعض الکلمات الواردة فیها: هبیرة - المذکور فیها- هو صاحب الولید بن عبدالملک الاُموی و کان من عمالهم(5)، و قصرا ابنه کان موضعا قریبا من الحائر

ص: 414


1- (4) المکاسب 3/205.
2- (5) مصباح الفقاهة 3/144.
3- (6) راجع المکاسب 3/181.
4- (1) الکافی 5/290، ح6 روی أکثرها فی وسائل الشیعة 19/119، ح1، الباب 17 من أبواب کتاب الإجارة. و التهذیب 7/215، ح943 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 25/390، ح1، الباب 7 من أبواب کتاب الغصب.
5- (2) راجع الآراءُ الفقهیة 3/396.

الشریف، ولکن فی معجم البلدان(1) قال: بناه أحد ولاة العراق فی عهد بنیاُمیة قرب الکوفة.

و النیل: بلدة صغیرة قرب الکوفة کما فی معجم البلدان(2). و قیل: قریة بالکوفة بین واسط و بغداد و قال الشهیدی: النیل الواقع فی الواسط و یسمی فعلاً و بالحَیّ»(3). و حکی ابن خلکان فی ترجمة ابن الحجاج الشاعر أنّه فی الأصل اسم نهر حفره الحجاج بن یوسف و سماه بنیل مصر.(4) و ما زالت بلدة النّیل قائمة قرب الحلّة.

قال الشیخ الأعظم: «و إن کان المتراءی من ظاهر صحیحة أبی ولاد اختصاص الضمان فی المغصوب بالمنافع المستوفاة من البغل المتجاوز به إلی غیر محل الرخصة، إلاّ أنّا لم نجد بذلک عاملاً فی المغصوب الذی هو موردها»(5).

توضیح کلامه: ورد فی الصحیحة ضمان أبی ولاّد بالنسبة إلی کری بغل من الکوفة إلی النیل و منه إلی بغداد و من بغداد إلی الکوفة، و هذا ضمان منافعه المستوفاة بحیث لو بقی أبوه ولاّد أیّاما فی إحدی المناطق فلا شیء علیه لهذه المدّة و هذا الأخیر هو منافعه غیر المستوفاة و الصحیحة لاتدل علی ضمانها، ثم استشکل الشیخ علیه بأنّ ضمان المنافع غیر المستوفاة من المغصوب یعدّ من ضروریات الفقه فلا یمکن الأخذ بهذا البیان و لم یرض الشیخ به و لذا عبر عنه «بالمتراءی».

ولکن من المحتمل أن سفریات أبی ولاد حیث کانت متعددة ذهابا و ایابا صار

مجموعها خمسة عشر یوما کما هو ظاهر تعجیله المشهود فی کلامه فلا یبقی مکثا طویلاً فی

ص: 415


1- (3) معجم البلدان 4/365.
2- (4) معجم البلدان 5/334.
3- (5) هدایة الطالب 2/306.
4- (6) کما قاله الشهیدی فی ذیل هدایة الطالب 2/306.
5- (7) المکاسب 3/208.

بلد حتّی یطلق علیه المنفعة الفائتة ففی جمیع خمسة عشر یوم - علی نحو المتعارف - استفاد من منافع البغل و هو رکوبه و لذا حکم الإمام علیه السلام بضمانه بالنسبة إلی کری هذا الأسفار، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. فصحیحة أبی ولاد لا تدل علی عدم ضمان المنافع غیر المستوفاة، و قد تعرض لشرح فقراتها المؤسس الحائری(1) قدس سره و لعلّنا سنتعرّض لمقاله فی البحث الآتی - إن شاء اللّه تعالی - .

الخامس: الأصل السلیم

قال الشیخ الأعظم: «فالحکم بعدم الضمان مطلقا... موافق للأصل السلیم»(2).

الظاهر أنّ مراده من الأصل هو أصالة البرائة عن الضمان عند فوت المنفعة بید المشتری و عدم وجود معارض لهذا الأصل فهو سلیم عن المعارض.

و أنت تری بعد تمامیة أدلة الضمان و عدم تمامیة أدلة عدم الضمان لم تصل النوبة إلی الأصل، لأنّ الدلیل الاجتهادی علی الضمان موجود. و أدلة عدم الضمان لم یتم حتّی تعارضها أدلة الضمان.

و علی القول بعدم تمامیة أدلة الضمان و تمامیة أدلة عدم الضمان أیضا لم تصل النوبة إلی الأصل لأن الدلیل الاجتهادی موجودٌ.

لایقال: لو کان أحدا لم یر تمامیة أدلة الطرفین لم تصل النوبة إلی أصل البرائة لأنّه شکٌ فی المکلَف به بأن وظیفة القابض أداء العین أو مثلها أو قیمتها فقط، أو بانضمام من ضمان المنافع مطلقا المستوفاة منها و غیرها و مقتضی الشک هو جریان أصل الاشتغال لا البراءة. لا سیما بعد أن نعلم بأنّ مذاق الشارع بالنسبة إلی الأموال کالدماء و الأعراض هو

ص: 416


1- (1) راجع کتاب البیع 1/160 و ما بعده، من تقریره بقلم آیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی قدس سره .
2- (2) المکاسب 3/205.

الإحتیاط، فما ذکره الشیخ الأعظم لا یتم.

لأنا نقول: قد مرّ فی علم الاُصول صحة جریان إصالة البراءة بالنسبة إلی الأقل و الأکثر الاستقلالیین أو الارتباطیین و الکلام هنا من القس

م الأوّل و الشک یکون فی التکلیف فتجری البراءة - إن تصل النوبة إلیها - و اللّه العالم.

فرعٌ: ضمان عمل الحرّ الکسوب المحبوس
اشارة

بعد القول بالضمان فی المنافع الفائتة فی المقبوض بالعقد الفاسد، لا بأس بالتعرض إلی

فرع مهم و هو إذا حَبَس ظالمٌ حُرّا کسوبا فهل یضمن ما فات عنه فی مدّة الحبس من العمل الذی یبذل بإزائه المال أم لا؟

فیه قولان:

أحدهما: عدم الضمان و هو المشهور قال المحقّق الحلّی: «ولو حبس صانعا لم یضمن أُجرته ما لم ینتفع به لأنّ منافعه فی قبضته»(1).

و قال العلاّمة الحلّی: «منفعة بدن الحرّ تضمن بالتفویت لا بالفوات فلو قهر حرّا و استعمله فی شغل ضمن اُجرته، لأنّه استوفی منافعه و هی متقومة، فلزمه ضمانها، کما لو استوفی منافع العبد.

ولو حسبه مدّة لمثلها أُجرة و عطل منافعه فالأقوی أنّه لا یضمن الاُجرة لأنّ منافعه تابعة لما لا یصح غصبه فأشبهت ثیابه و أطرافه و لأنّ منافعه فی یده، لأنّ الحر لا یدخل تحت الید، فمنافعه تفوت تحت یده فلم یجب ضمانها، بخلاف الأموال و هو أصح وجهی الشافعیة، و الثانی أنّه یضمنها، لأنّ منافعه تتقوّم بالعقد الفاسد فأشبهت منافع الأموال فقد فوّتها بحسبه فضمنها کمنافع العبد أمّا لو منعه من العمل من غیر حبس فإنّه لا یضمن منافعه

ص: 417


1- (1) الشرائع 3/185.

وجها واحدا، لأنّه لو فعل ذلک بالعبد لم یضمن منافعه فالحرُّ اُولی»(1).

و قال المحقّق السبزواری: «و المقطوع به فی کلام الأصحاب أنّه لو حبس صانعا حرّا مدّة لها اُجرة لم یضمن اُجرته ما لم یستعمله لأنّ منافعه فی قبضته بخلاف المملوک فإنّ منافعه فی قبضة سیّده»(2).

و قال فی الجواهر معلِّقا علی ما مرّ من الشرائع: «فضلاً عن غیر الصانع بلاخلاف أجده فیه...»(3).

ثانیهما: القول بالضمان و یظهر من جماعة من الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم -:

منهم: المحقّق الأردبیلی قال: «إذا استخدم حرّا قهرا ضمن اُجرته و لا یضمن بدون الاستخدام، و إن حبسه و منعه عن الشغل الذی یحصل منه الاُجرة مثل إن کان صانعا یحصّل کلّ یومٍ شیئا کثیرا، لأنّ منافعه لم تضمن بقبضه، لأنّه لیس بمال حتّی یکون وضع

الید علی المال بغیر رضاء المالک فیضمن، فما لم یستعمل لم یضع یدا موجبا للضمان و [لیس[ مال ذلک، و ما صار سببا [للضمان] و سبب الضمان منحصر فی ذلک [الاستعمال أو الاستخدام]، بخلاف ما لو استعمله، فإنّه أخذ منه ماله بلاعوض، فکأنّه غصب منه مالاً و حقّا أو أتلفه فیضمن، و لعلّه لیس لهم فیه خلاف، و إن کان لأخذ الاُجرة مع منع الصانع الذی لو لم یحبسه و یمنعه لحصل کذا و کذا وجه، و ذلک لدفع المفاسد و دفع الضرر العظیم، فإنّه قد یموت هو و عیاله من الجوع، و لا یکون علیه فی ذلک مانع مع کونه ظالما و عادیا و وجود ما یدلّ علی جواز الإعتداء بما اعتدی(4) و جزاء سیئة سیئة(5) و القصاص و نحو

ص: 418


1- (2) تذکرة الفقهاء 2/382 من الطبعة الحجریة.
2- (3) الکفایة 2/634.
3- (4) الجواهر 37/39.
4- (1) اشارة إلی قوله تعالی: «فمن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم» [سورة البقرة /194].
5- (2) اشارة إلی قوله تعالی: «و جزاء سیئة سیئة مثلها» [سورة الشوری /40].

ذلک، فتأمل»(1).

و علّق علیه الوحید البهبهانی بقوله: «لیس کذلک، بل حدیث لا ضرر و لا ضرار(2) و ما سیذکر رحمه اللّه أیضا دلیل و سبب، مع أن عمله حقّ وله عوض قطعا کما اعترف به، و لذلک یستحقّ بالاستخدام العوض، و یصیر فی الإجارة عوض الأُجرة المسماة، و فی بعض الاُوقات عوض اُجرة المثل، فکیف یکون ماله عوض شرعا و عقلاً و عرفا و عادة یتلفه و یضیّعه بلاعوض أصلاً؟!

علی أنّهم قالوا فی عقد الإجارة بمجرد العقد ینتقل الاُجرة من ملک المستأجر إلی ملک المؤجر، و من حین العقد یصیر کذلک بعوض انتقال المنفعة من المؤجر إلی المستأجر، و أنّ العوضین لا ینتقل کلّ واحد منهما إلی الآخر إلاّ و ینتقل الآخر منهما إلی صاحب الأوّل کما هو الحال فی البیع و الصلح.

و لذلک کلّ من المتعاقدین یتسلّط علی أخذ ما وقع العقد علیه قهرا و أیضا یصیر عوض البضع فی النکاح و عوض کلّ شیء و کلّ ملک و کلّ حقِّ، و حاله حال الملک و المال فی جمیع الأحوال، و لا فرق بین المال و الحقّ بحسب العرف و العقل و الشرع أیضا، کما أشرنا فتأمل جیدا. و بالجملة، إن ثبت إجماع فهو و إلاّ فالأمر کما ذکر»(3).

و قال ابن اخته سیّد الریاض: «ولو حبس صانعا) حرّا زمانا له اُجرة عادتا (لم

یضمن اُجرته) إذا لم یستعمله، قالوا: لأنّ منافع الحرّ لا تدخل تحت الید تبعا سواء کان قد

ص: 419


1- (3) مجمع الفائدة و البرهان 10/513.
2- (4) وسائل الشیعة 18/32.
3- (5) حاشیة مجمع الفائدة و البرهان /614.

استأجره لعمل قد اعتقله و لم یستعمله، أم لا. نعم، لو کان قد استأجره مدّة معینة فمضت زمن اعتقاله و هو باذل نفسه للعمل استقرّت الاُجرة لذلک، لا للغصب، بخلاف الرقیق لأنّه مال محض و منافعه کذلک. و ظاهرهم القطع بعدم الضمان فی صورته و به صرّح فی الکفایة، فإن تم إجماعا و إلاّ ففیه مناقشة حیث یکون الحابس سببا مفوّتا لمنافع المحبوس لقوة الضمان فیه لا للغصب، بل لإیجابه الضرر علیه المنفی، و علیه نبّه الفاضل المقدس الأردبیلی فی الشرح... و تبعه خالی العلاّمة - دام ظله - فی حواشیه علیه... .

أقول: و یحتمل قویّا اختصاص ما ذکره الأصحاب بصورة عدم استلزام الحبس التفویت کما فرضناه، بل الفوات خاصّةً. و ربما یستفاد ذلک من التذکرة حیث أنّه مع تصریحه بما ذکره الأصحاب قال فی عنوان البحث: «منفعة بدن الحر تضمن بالتفویت لا بالفوات»(1) انتهی، فتأمل.

و یظهر الفرق بین المقامین فیما لو حبسه مدّة لها اُجرة عادةً، فإن کان لو لم یحبس لحصّلها کان حبسه سببا لتفویتها فیضمن هنا کما ذکراه، و إن کان لو لم یحبس لم یحصّلها أیضا لم یکن حبسه سببا لتفویتها، و هذا مراد الأصحاب فی حکمهم بنفی الضمان فیه کما احتملناه من کلامهم»(2).

ولکن ردّه فی الجواهر بقوله: «قلت: لا یخفی فساد الاحتمال المزبور علی من لا حظ کلمات الأصحاب بل فرضهم المسألة فی حبس الصانع کالصریح فی عدم الضمان و إن کان سببا. و المراد بالتفویت فی عبارة التذکرة الاستیفاء... علی أن التسبیب الذی ذکره إنّما یقتضی الضمان إذا تعلّق بتلف الأموال و منفعة الحرّ معدومة فلا یتصور التسبیب لتلفها، کما

ص: 420


1- (1) تذکرة الفقهاء 2/382 من الطبع الحجری.
2- (2) ریاض المسائل 14/16.

أن قاعدة نفی الضرر و الضرار و غیرها ممّا ذکره من الآیات لو اقتضت الضمان علی وجه تشمل الفرض لأثبتت فقها جدیدا، ضرورة اقتضائها الضمان بالمنع عن العمل أو الانتفاع بماله و غیر ذلک ممّا عرفت عدم القول به من العامة الذین مبنی فقههم علی القیاس و الاستحسان فضلاً عن الإمامیة الذین مبنی فقههم علی القواعد المقررة الثابتة عن أهل بیت العصمة [ علیهم السلام ] فلا وجه للضمان فی الفرض کما قطع به الأصحاب (لأنّ) الحرّ لایدخل تحت الید علی وجه تدخل منافعه معه کالمال ولو شرعا. بل (منافعه فی قبضته) کثیابه باقیة علی

أصالة عدم الضمان (و) إن ظَلَم و أثم بحبسه أو منعه عن العمل»(1).

أقول: ستأتی أدله الضمان و الحَکَمُ بیننا و بین صاحب الجواهر هو الدلیل، و أما ما ورد فی کلام الوحید و سیّد الریاض و خوفهما من الاجماع، لابدّ من التنبیه علی أنّ المسألة غیرمطروحة فی کتب القدماء بل طرحت فی بعض الکتب الفقهیة فقط و الشاهد علیه کلام الفقیه العاملی حیث یقول: «قوله: (ولو حبس صانعا و لم ینتفع به) هذا مقطوع به فی کلام الأصحاب کما فی الکفایة و القطع به فی الشرائع و النافع(2) و التحریر(3) و الإرشاد(4) و التبصرة(5) و المهذب البارع(6) و المسالک(7) و الروضة(8)، و لا قطع فی التذکرة و إنّما قال هو

ص: 421


1- (1) الجواهر 37/40 و 41.
2- (2) المختصر النافع /247.
3- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 4/520.
4- (4) إرشاد الأذهان 1/445.
5- (5) تبصرة المتعلمین /108.
6- (6) المهذب البارع 4/249.
7- (7) مسالک الأفهام 12/159.
8- (8) الروضة البهیة 7/28.

الأقوی و لا تعرّض له فی غیرها فیما أجد...»(1).

أدلة الضمان
الأوّل: الآیتان

قوله تعالی: «فمن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم»(2) و قوله تعالی: «جزاء سیئة سیئة مثلها»(3).

بتقریب: حبس الحر الکسوب و تفویت منافعه علیه یعدّ فی الشرع و العرف و اللغة إعتداء علیه و کذا یعدّ سیئة و بحکم الآیتین یجوز المقابلة بالمثل و هو هنا الضمان، و قد مرّ فی البحث حول قاعدة الإتلاف دلالة الآیتین علی حکم الوضعی أیضا کما استدل بهما الشیخ(4) و ابن ادریس(5) علی تلک القاعدة.

الثانی: عَمَلُ الحُّرِ مالٌ

عمل الحر الکسوب یکون ملکا له بالملکیة الذاتیة التکوینیة لأنّه یجوز له التصرف فی نفسه و شؤونها، فهو مِلٌک له بالملکیة الاعتباریة أیضا لأنّ أقویها الملکیة التی ترجع إلی الذاتیة التکوینیة، و کذا یکون مالاً لأنّ یبذل بإزائها المال و یجوز أن یقع ثمنا فی البیع أو إجارة عمله و إعطاء المال له، فإذا عُدّ مالاً و یوجب أحد فواته فعلیه ضمانه لأنّ أحد موجبات الضمان، ضمان الفوات. و هو بعینه ضمان التلف الحکمی الذی مرّ من الشیخ الأعظم فی بحث الولد و الجاریة المسروقة.

ص: 422


1- (9) مفتاح الکرامة 18/84.
2- (10) سورة البقرة /194.
3- (11) سورة الشوری 40.
4- (12) راجع المبسوط 3/60.
5- (13) راجع السرائر 2/480.

إن قلت: إن کان عمله یعدّ مالاً فلماذا لایحصل به الاستطاعة فی الحج؟

قلت: لأنّ المراد بالاستطاعة فیه هی الفعلیة منها لا استعدادها أو قوّتها کما یظهر من الروایات الواردة فیها.(1)

و الشاهد علی ما ذکرناه من أنّ المنافع للحر تعدّ مالاً کلام الفقیه المتتبع السیّد العاملی حیث یقول: «و التحقیق: أنّ القول بأن المنافع معدومة باطل أیضا، بل هی إمّا موجودة أو مقدّرة الوجود، و لهذا عدّت مالاً و جعلت مورد العقد، لأنّ العقد لا یرد إلاّ علی موجود أو ما فی حکمه، و لا ریب أنّه یجوز أن تکون الاُجرة دَینا، فلو لم یلحق المنفعة بالموجودات لکان فی معنی بیع الدَین بالدَین، فصح لهم أن یقولوا: إنّه ملکها و هی فی یده و أهمل استعمالها حتّی تلفت علی ملکه فکان تلفها منه و من ماله و تکون مسألة الضرس و مسألة الأجیر الخاص و غیرهما ممّا جری بها علی الأصل و لا یرد علی ذلک إلاّ الإبراء و التعیین، و الجواب عنهما ممکن و الأمر هیّن، بل القول بأنّ المنافع معدومة إنّما هو للعامة کما حکاه عنهم فی التذکرة(2) و أطال فی الردّ علیهم»(3).

الثالث: حدیث لا ضرر

و قاعدته تثبت الضمان، لأنّ لو حبسه الظالم الحر الکسوب و لم یعطه شیئا یوجب تضرر الحرّ و القاعدة تنفیه فیثبت ضمان الحابس.

و فیه: قد مرّ مرارا عدم ثبوت الحکم الشرعی بقاعدة لا ضرر لأنّها تنفی الحکم الضرری و لا تثبت بها حکما. مضافا إلی عدم جریانها فی فرض تقابل الضررین بحیث یلزم بها إثبات الضمان علی أحد الأطراف و عدم شمولها للآخر. کما مرّ.

ص: 423


1- (1) راجع وسائل الشیعة 11/33، الباب 8 من أبواب وجوب الحج و شرائطه.
2- (2) تذکرة الفقهاء 2/291 من الطبع الحجری - کتاب الاجارة.
3- (3) مفتاح الکرامة 18/83.
الرابع: السیرة العقلائیة

مبنیة علی بنائهم علی تغریم الحابس و المانع عن عمل الحرّ الکسوب کما أنت تشاهدها فی الأحکام الصادرة من الَمحْکمات الدولیة و الملّیة.

و السیرة عامة لا تختص بالمانع فقط کما یظهر الاختصاص من ظاهر کلام المحقّق الخوئی(1) قدس سره .

و لم یصل رادع عن هذه السیرة إلاّ ادعاء الإجماع علی عدم الضمان، و قد عرفت وجود المخالف مع عدم طرح المسألة فی کلمات القدماء من الإصحاب - قدس اللّه اسرارهم - .

الخامس: عدم الفرق بین المسألتین لبّا

أعنی هذه المسألة و مسألة لو استأجر الحرّ لعمل فاعتقله فی ذاک الزمان الخاص بالعمل و لم یستعمله فیه و بذل الأجیر نفسه للعمل فهل یستقر الضمان علی المؤجر المعتقِل أم لا؟ فی المهذب البارع(2) ذهب إلی استقرار الأُجرة قولاً واحدا و نقل فی جامع المقاصد(3) عن حواشی الشهید «لا نزاع فیه [أیّ فی ضمان الاُجرة]» و فی الکفایة: «و قال بعضهم: لو استأجره مدّة معینة فمضت زمان اعتقاله و هو باذل نفسه للعمل استقرّت الاُجرة و هو غیر بعید»(4). و هذا القول أیّ استقرار الاُجرة فی هذه المسألة الأخیرة هو اختیار العلاّمة فی إجارة التذکرة(5) و ثانی الشهیدین فی إجارة المسالک(6) و قوّاه الأردبیلی فی مجمع

ص: 424


1- (1) راجع مصباح الفقاهة 2/36.
2- (2) المهذب البارع 4/250.
3- (3) جامع المقاصد 6/222.
4- (4) الکفایة 2/635.
5- (5) تذکرة الفقهاء 2/326 من الطبع الحجری.
6- (6) المسالک 5/194.

الفائدة(1).

ولکن تنظّر فی استقرار الضمان فی فرض عدم تعیین الوقت الخاص فی القواعد(2)، و لاترجیح أیضا فی غصب التذکرة(3) و الإرشاد(4) و غایة المراد(5)، و اختیر عدم

استقرارها فی الشرائع(6) و التحریر(7) و جامع المقاصد(8) و تعلیق الإرشاد(9) و المسالک (10) و الروضة(11) کما فی المفتاح(12).

قد ظهرلک أنّ هناک فرعین بل ثلاثة فروع:

الأوّل: لو استأجره لعمل فاعتقله و لم یستعمله ففی استقرار الاُجرة حینئذ وجوهٌ، ذهب بعض إلی استقراره، و بعض إلی عدمه، و تنظر فی الاستقرار بعض، و لا ترجیح فی کلام بعضهم فهذا الفرع محل خلاف بین القوم.

الثانی: نفس الفرع الأوّل بالإضافة إلی تعیین زمن معین لعقد الإجارة و هو بعینه

ص: 425


1- (7) مجمع الفائدة و البرهان 10/514.
2- (8) قواعد الأحکام 2/223.
3- (9) تذکرة الفقهاء 2/382 من الطبع الحجری.
4- (10) إرشاد الأذهان 1/445.
5- (11) غایة المراد 2/396.
6- (1) الشرائع 3/185.
7- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 4/521.
8- (3) جامع المقاصد 6/221.
9- (4) حاشیة الإرشاد للمحقّق الثانی فی موسوعة آثاره 9/476.
10- (5) المسالک 12/159.
11- (6) الروضة البهیة 7/28.
12- (7) مفتاح الکرامة 18/80.

زمن اعتقاله، ففی هذا الفرع یقولون باستقرار الاُجرة قولاً واحدا کما مرّ عن المهذب البارع.

الثالث: لو استأجره لقلع ضرسه فبرئ بعد أن مضت مدّة یمکنه القلع فیها باذلاً الأجیر نفسه و إنّما کان التأخیر من جانب المستأجر، قالوا: بضمان الأُجرة علیه.

قال السیّد العاملی: «و موضع الإجماع ما إذا تعلّقت الإجارة بالزمن المعیّن بل نقول: إنّ العقد موجب للعوضین و قد بذل هذا عوضه فیلزم الآخر العوض الآخر کما فی نفقة الزوجة و المهر فإنّها تجب لها النفقة إذا مکّنت من نفسها و إن لم یستمتع بها، کما یجب علیها تسلیم نفسها إذا تسلّمت المهر، بل قالوا: أنّه یضمن الاُجرة لو استأجره لقلع ضرسه... و إنّما کان التأخیر من جانب المستأجر فینقطع الأصل بذلک، و القاعدة القائلة بأنّ منافع الحرّ لا تضمن لا تتناول محلّ النزاع، فلیتأمل جیّدا»(1).

و قال فی الجواهر فی ذیل الفرع الثانی: الحجة بعد اقتضاء عقد الإجارة ملک الثمن، و عدم الاستیفاء إنما کان لتقصیر من المستأجر و قد فات الزمان و الأصل عدم بطلانها، کما أن الأصل عدم قیام غیر الزمان الذی هو متعلَّق العقد مقامه. و لعلّ مثله ما قیل من أنّهم ذکروا قرارها أیضا فیما لو استأجره لقلع ضرسه فبرأ بعد أن مضت مدّة یمکنه القلع فیها باذلاً

الأجیر نفسه فیها و إنّما کان التأخیر من جانب المستأجر و ذلک لما عرفت من اقتضاء العقد ملک الأُجرة علی الوجه الذی سمعته و الفرض لم یبق محل للعمل. و الأصل عدم الانفساخ و عدم قیام غیر متعلَّق العقد مقامه، فهو حینئذ کالأجیر الخاص و کذا ما کان مثله، إذ لیس لقلع الضرس خصوصیة»(2).

أقول: الظاهر أنّ مسألة قلع الضرس حیث لم یرد فیه زمن خاص یدخل فی الفرع

ص: 426


1- (8) مفتاح الکرامة 18/81.
2- (1) الجواهر 37/41.

الأوّل - لا الثانی - و القائلین بعدم استقرار الاُجرة فیه لماذا حکموا بالضمان هنا؟

و عقد الإجارة لا یفید فی الفرق بین الأوّلیین، لأنّه فیهما موجود و المستأجر فیهما لایفید فکیف صار عقد الإجارة الفارق بینهما؟!

ثم ما الفرق بین الفرع الأوّل و الثالث حیث حکموا بالضمان فی الثالث و بعدمه فی الأوّل.

الظاهر - و اللّه العالم - عدم الفرق بین الفروع الثلاثة و نحکم بالضمان فی الجمیع و نذهب إلی بطلان القاعدة المدعاة بأنّ منافع الحرّ لا تضمن و أنّ منافع الحرّ حیث یکون مالاً فیکون مضمونا و حکمهم بالضمان فی فرعی الثانی و الثالث علی القاعدة کما مرّ من المفتاح(1) و کذا حکم القائلین بالضمان فی الفرع الأوّل.

و کذا یظهر ممّا مر عدم تمامیة القول بعدم الضمان أو عدم الترجیح أو التنظر فی الفرع الأوّل أیضا.

و الحاصل: أن منافع الحر مضمونة فیثبت به الضمان فی جمیع الفروع الثلاثة الماضیة کما علیه المحقّقون الأردبیلی و الوحید و سیّد الریاض - کما مرّت کلماتهم - و المروج(2) قدس سرهم و الحمدللّه.

الخامس: ضمان المثلی یکون بالمثل
تمهیدٌ: فی خلاف ابن الجنید الإسکافی

قال الشیخ الأعظم: «إذا تلف المبیع فإن کان مثلیّا وجب مثله بلاخلاف إلاّ ما یُحکی عن ظاهر الإسکافی»(3).

ص: 427


1- (2) مفتاح الکرامة 18/83.
2- (3) هدی الطالب 1/(85-75)
3- (4) المکاسب 3/209.

ثم قال بعد ثلاثین صفحة من الطباعة الحدیثة فی الأمر السابع: «لو کان التالف المبیع فاسدا قیمیا فقد حُکی الاتفاق علی کونه مضمونا بالقیمة»(1)... ثم أضاف إلیه: «و کیف کان فقد حُکی الخلاف فی ذلک عن الإسکافی و...»(2).

و أنت تعلم بأنّ کتاب الشیخ الجلیل أبی علی ابن الجنید الإسکافی رحمه الله المسمی ب- «الأحمدی فی الفقه المحمّدی» مفقود و وصل إلینا منه ما نقل عنه العلاّمة الحلّی رحمه الله فی مختلف الشیعة و هو ینقل کلامه هنا هکذا: «قال: ابن الحنید: «فإن استهلک الغاصبُ العینَ المغصوبةَ کان ضامنا لها لصاحبها، إمّا أرفع قیمة کانت لها منذ یوم غصبها إلی أن هلکت، أو المثل لها إن اختار صاحبها ذلک»، و هذا یشعر بإیجاب أحد الأمرین فی المثلی»(3).

و الشهید فی غایة المراد اختصر هذا البیان من ابن الجنید و قال فی خلافه مع القوم: «إن تلف المغصوب ضمن قیمته أو مثله إن رضی صاحبه»(4).

و الشیخ الأعظم رحمه الله حمل «المغصوب» فی کلامه إلی الأعم من المثلی و القیمی و لذا عدّ الإسکافی مخالفا فی ضمان المثلی بالمثل - کما مرّ - و القیمی بالقیمة، لحکمه بضمان القیمة مطلقا إلاّ مع رضا المالک بالمثل.

و أما جماعة من الأصحاب فقد حملوا کلامه «المغصوب» علی خصوص القیمی فقط نحو: الشهید قال بعد نقل کلامه: «و لعلّه یرید القیمی»(5) و مال إلیه الأردبیلی بعد نقل قول

ص: 428


1- (1) المکاسب 3/240.
2- (2) المکاسب 3/242.
3- (3) مختلف الشیعة 6/131.
4- (4) غایة المراد 2/398.
5- (5) غایة المراد 2/398.

الشهید: «و العبارة صالحة فالحمل علیه اُولی»(1). و إن صح هذا الحمل فإنّه مخالف فی القیمی فقط لا فی المثلی.

و تابعهم المحقّق السیّد الخوئی و لذا ذهب إلی وقوع السقط فی عبارة الشیخ الأعظم «فکأنّه قال: إذا تلف المبیع فإن کان مثلیا وجب مثله و إن کان قیمیا وجبت قیمته بلاخلاف فی ذلک بین الأصحاب إلاّ عن الإسکافی، فإنّه حکم بضمان المثل فی القیمی أیضا»(2).

ولکن الصحیح عدم وقوع السقط فی کلام الشیخ الأعظم لما مرّ من أنّه حمل المغصوب فی کلام الإسکافی علی الأعم کما أنّ خلافه فی ضمان المثلی بالمثل مذکور فی کلمات الأصحاب نحو: العلاّمة قال فی مختلف الشیعة «مسألة: قد بینّا الخلاف فی الواجب علی الغاصب إذا تلف العین و بینّا أنّ المختار عندنا إیجاب المثل فی المثلی، فإن تعذر فقیمته یوم الإقباض و القیمة یوم التلف، [ثم تعرض لخلاف ابن الجنید الذی مرّ و قال:] و الوجه ما قلناه أوّلاً»(3).

و الشهید فی غایة المراد قال قبل نقل مقالة ابن الجنید: «أطبق الأصحاب علی ضمان المثلی... إلاّ ما یظهر من کلام ابن الجنید فإنّه قال:...»(4).

و الأردبیلی فی مجمع الفائدة قال: «و یمکن أن یکون قول ابن الجنید اشارة إلی أنّ تحقیق المثل لا یمکن و حینئذ ما یلزمه إلاّ القیمة ولکن إن رضی الغریمان یجوز أخذ المثل و

ص: 429


1- (6) مجمع الفائدة و البرهان 10/527.
2- (7) مصباح الفقاهة 3/146.
3- (1) مختلف الشیعة 6/131.
4- (2) غایة المراد 2/398.

الاکتفاء به اللّه یعلم»(1).

و کذا نقل عن الشهید فی مفتاح الکرامة(2) و لم یعترض علیه.

و العمدة عدم العبرة بهذا الخلاف کما قال المحقّق الثانی: «هذا الخلاف یکاد یکون مضمحلاً لا یلتفت إلیه»(3).

ثم بعد تقدیم هذا التمهید یقع البحث فی ضمن مقامات:

المقام الأوّل: تعریف المثلی
اشارة

اختلفت کلمات الأصحاب فی تعریفه أحصی لک بعضها:

أ: تعریف المشهور

«و هو ما تتساوی قیمة أجزائه» کما علیه الشیخ فی الخلاف(4) و المبسوط(5) و ابن زهرة فی الغنیة(6) و ابن ادریس فی السرائر(7) و المحقّق فی الشرائع(8) و النافع(9) و تلمیذه

الفاضل الآبی فی کشف الرموز(10) و العلاّمة فی القواعد(11) و التذکرة(12) و التحریر(13)، و ابن

ص: 430


1- (3) مجمع الفائدة و البرهان 10/526.
2- (4) مفتاح الکرامة 18/137.
3- (5) جامع المقاصد 6/252.
4- (6) الخلاف 3/396.
5- (7) المبسوط 3/59 و 60.
6- (8) غنیة النزوع /278.
7- (9) السرائر 2/480.
8- (10) الشرائع 3/188.
9- (11) المختصر النافع /248.
10- (1) کشف الرموز 2/381.
11- (2) قواعد الأحکام 2/226.
12- (3) تذکرة الفقهاء 2/381 من الطبع الحجری.
13- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 4/529.

فهد الحلّی فی المهذب البارع(1) و المقتصر(2)، و الفاضل المقداد فی التنقیح الرائع(3) و ابن العشیرة فی بهجة الخاطر.(4)

و فی التنقیح(5) و مسالک(6) ثانی الشهیدین و کفایة(7) السبزواری و حدائق البحرانی(8) و ریاض(9) السیّد الطباطبائی: «أنّه المشهور».

و قد زاد الشیخ فی المبسوط(10) و ابن زهرة فی الغنیة(11) و العلاّمة فی التذکرة(12) بعد التعریف المذکور التمثیل بقولهم: کالحنطة و الشعیر و غیرهما من الحبوب و الأدهان و ما أشبه ذلک. کما نقل جُلّ ذلک الفقیه العاملی فی مفتاح الکرامة(13).

الشیخ الأعظم فسّر التعریف بأنّ «المراد بأجزائه: ما یصدق علیه اسم الحقیقة و المراد بتساویها من حیث القیمة»(14).

ص: 431


1- (5) المهذب البارع 4/251.
2- (6) المقتصر /342.
3- (7) التنقیح الرائع 4/69.
4- (8) بهجة الخاطر و نُزْهة الناظر /122.
5- (9) التنقیح الرائع 4/69.
6- (10) المسالک 12/182.
7- (11) الکفایة 2/639.
8- (12) الحدائق 18/470.
9- (13) ریاض المسائل 12/23.
10- (14) المبسوط 3/60.
11- (15) الغنیة /278.
12- (16) تذکرة الفقهاء 2/381.
13- (17) مفتاح الکرامة 18/138.
14- (18) المکاسب 3/210.

و کذا قبله قال فی الجواهر: «و لعل المراد تساوی قیمة أجزاء الصنف من النوع منه،

بل الأشخاص من الصنف، بل علی أن یکون ذلک التساوی من حیث الذات لا الاتفاق و حینئذ فالمنّ من شخص الحنطة الخاصة مثلاً و الدهن الخاص مثلاً قیمة أجزائه متساویة...»(1).

مراده من الأجزاء هو الأفراد و الجزئیات التی تصدق علیها طبیعة واحدة، لا أنّ المراد من لفظ الأجزاء هو الفرد و مثلیّته بلحاظ تساوی أجزائه معه. فالمثلی هو ما تتساوی قیمة أفراده و لا عبرة بتساوی قیمة أجزائه، فلا یرد علی التعریف ما حکاه الشهید الثانی من الاعتراض علیه بقوله: «إن اُرید بالأجزاء کلّ ما ترکب عنه الشیء فیلزم أن لا تکون الحبوب مثلیّة، لأنّها تترکّب من القشور و الألباب و القشر مع اللبّ مختلفان فی القیمة و کذا التمر و الزبیب لما فیهما من النوی و العجم، و إن اُرید بالأجزاء التی یقع علیها اسم الجملة، فیلزم أن لا تکون الدراهم و الدنانیر مثلیّة لما یقع فی الصحاح من الاختلاف فی الوزن، و فی الاستدارة و الإعوجاج و فی وضوح السکة و خفائها و ذلک ممّا یؤثر فی القیمة»(2)

و یرد علی إشکال الدراهم والدنا نیر بأنّ موضوع المثلیة فیهما هو خصوص النوع الصحیح و هو الذی تکون سِکّته و هیئته محفوظة. لا الأعم منه و المکسور و المعیوب حتّی یرد علیه الإشکال و هذا مراد الشیخ الأعظم بقوله: «إنّ الدرهم مثلی بالنسبة إلی نوعه و هو الصحیح... و من هنا یظهر أنّ کلّ نوع من أنواع الجنس الواحد بل کلّ صنف من أصناف نوع واحد مثلیٌّ بالنسبة إلی أفراد ذلک النوع أو الصنف»(3).

فعلی ما ذکرناه لایرد اعتراض المحقّق الأردبیلی علی المشهور حیث یقول: «أنّه إن

ص: 432


1- (1) الجواهر 37/89.
2- (2) المسالک 12/182.
3- (3) المکاسب 3/210 و 211.

اُرید التساوی بالکلیة، فالظاهر عدم صدقه علی شیءٍ من المعرَّف إذ ما من شیءٍ إلاّ و أجزائه مختلفة فی القیمة فی الجملة مثل الحنطة و الشعیر و جمیع ما قیل أنّه مثلیٌّ، فإنّ حنطة طغارها یساوی عشرین و الآخر عشر شاهیات و بالجملة التفاوت معلوم، و إن اُرید التساوی فی الجملة فهو فی القیمی أیضا موجود مثل الأرض و نحوها، و إن اُرید مقدارا خاصا فهو حوالة إلی المجهول»(1).

لأنّ المراد بالمثلی کلّ نوع من أنواع الجنس الواحد بل کلّ صنف من أصناف نوع

واحد مثلیٌّ بالنسبة إلی أفراد ذلک النوع أو الصنف کما مرّ من الشیخ الأعظم و لعلّ إلی هذا البیان أشار الأردبیلی بقوله: «... و یؤیده أنّه علی تقدیر ثبوت کون المُتْلَف مثلیّا مثل الحنطة لا یؤخذ بها کلّ حنطة، بل مثل ما تلف عرفا و قیمة، مثل سن الجمل بمثله من الجمل، و الأعلی بمثله لا بالآخر، و کذا فی غیره، فیمکن إن أراد ذلک مع المساواة فی القیمة فإذا کان ثوبا مثل ثوب آخر فی اللون و القماش و بقیمته یکون ذلک المثل، و کذا الفرس العتیق خاص یکون تحته خاص، و قیمته متعینة یکون مثلها بمثلها و هکذا، و علیه یحمل ما فی الکتاب و السنة و الإجماع»(2).

و علّق الوحید البهبهانی علی عبارته الاُولی «التفاوت معلوم» بقوله: «التفاوت المتعارف المعتدّ به عند أهل العرف أی ما یکون متساوی الأجزاء عرفا یکون مثلیّا و غیر المتساوی کذلک غیر مثلی، فتأمل...»(3).

و ذکرها صاحب الریاض(4) فی کتابه تضعیفا علی کلام الأردبیلی.

ص: 433


1- (4) مجمع الفائدة و البرهان 10/522.
2- (1) مجمع الفائدة و البرهان 10/526.
3- (2) حاشیة مجمع الفائدة و البرهان /620.
4- (3) ریاض المسائل 14/25.

أقول: یأتی تعریف الوحید للمثلی فی ذکر بقیة تعریفات المثلی فانتظر.

و ردّ صاحب الجواهر الأردبیلی فی عبارته الاُولی و قال: «قلت: قد عرفت أنّ المراد المساواة فی غالب ما له مدخلیة فی المالیة، و تفاوت أفراد الحنطة و إن کان معلوما إلاّ إنّک قد عرفت المساواة فی أشخاص الأصناف، و لا یکفی الاتحاد فی اسم النوع المنافی لقاعدة لا ضرر و لا ضرار و لغیرها»(1).

ثم استشکل الشیخ الأعظم علی تفسیره لتعریف المشهور بأمرین:

الأوّل: «إنّ هذا خلاف ظاهر کلماتهم فإنهم یطلقون المثلی علی جنس الحنطة و الشعیر و نحوهما...»(2).

مراده: أن تفسیر تعریف المشهور بأن مدار المثلیة علی الصنف مخالف لظاهر المشهور لانّهم یُطلقونه علی الجنس لا الصنف کما یظهر من تمثیل الشیخ للمثلی حیث یقول: «کالحبوب و الأدهان و التمور و الأقطان و الخلول التی لا ماء فیها و الأثمان و نحو هذا کلّه له

مثل...»(3).

الثانی: هذا التفسیر من التعریف المشهور إمّا غیر جامع للأفراد أو غیر مانع للأغیار، لأنّه «إن اُرید تساوی الأجزاء من صنف واحد من حیث القیمة تساویا حقیقیا فقلَّ ما یتفق ذلک فی الصنف الواحد من النوع»(4) فحینئذ یخرج کثیر من المثلیّات و التعریف لا یکون جامعا للأفراد.

«و إن اُرید تقارب أجزاء ذلک الصنف من حیث القیمة و إن لم یتساو حقیقة، تحقّق

ص: 434


1- (4) الجواهر 37/89.
2- (5) المکاسب 3/211.
3- (1) المبسوط 3/60.
4- (2) العبارة من الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/212.

ذلک فی أکثر القیمیات»(1) فحینئذ یدخل کثیر من القیمیات فلا یکون التعریف مانعا للأغیار.

ثم تعرض الشیخ الأعظم لدفع الإشکال الأخیر - و هو «تحقّق ذلک فی أکثر القیمیات» - بإجابه صاحب الجواهر عنه فی قوله: «و لا یرد النقض بالثوب أو الأرض الذی یمکن دفعه بعدم غلبة ذلک فیهما، و فرض بعض الأفراد کذلک لا یناسب إطراد قواعد الشرع»(2). و قد مرّ عبارته الاُخریُ فی اعتراضه علی الأردبیلی.

ثم یلاحظ علیه بقوله: «ثم لو فرض أنّ الصنف المتساوی من حیث القیمة فی الأنواع القیمیة عزیز الوجود بخلاف الأنواع المثلیّة لم یوجب ذلک إصلاح طرد التعریف...»(3).

مراده: أنّه یکفی فی عدم الإطراد، التساوی فی القیمیات ولو نادرا.

و یرد علیه: «لو فهم التقیید بالغالب ولو من قرینة حکمهم بضمان المثلی بالمثل الذی یبعد جدّا تنزیله علی النادر کفی ذلک فی إصلاح إطراد التعریف». کما نبّه علیه السیّد الحکیم(4) رحمه الله .

أقول: ولکن یمکن أن یجاب عن إشکالی الشیخ الأعظم بأنّ مرادهم أنّ إطلاق الحنطة و الشعیر و نحوهما فی کلمات الأصحاب منصرفٌ إلی صنفها لا جنسها و إلاّ لایتم تساوی القیمة.

و عن الثانی: بأنّ التعاریف کلّها شرح الاسم و لیس بتعریف حقیقیّ لا علی نحو الحدِّ

التام و لا حتّی علی نحو الرسم الناقص، و حیث أنّ التعریف یصدق غالبا یکفی و خروج

ص: 435


1- (3) العبارة من الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/212.
2- (4) الجواهر 37/89.
3- (5) المکاسب 3/213.
4- (6) نهج الفقاهة /233.

موارد نادرا لا یضر کما ذکره صاحب الجواهر رحمه الله ، فحینئذ یمکن الأخذ بتعریف المشهور.

و لا یرد علی ما بینّاه إشکال المحقّق الخراسانی علی تعریف المشهور بأنّه: «لا یعمّ کثیرا من المثلیات مثل المسکوکات و سائر المصنوعات المشتبهات کالساعات و الظروف و الآلات الفرنجیة حیث أنّ کلّ واحد منهما یکون مثلیّا و لیس ممّا یتساوی أجزائه بحسب القیمة»(1)

ثم حیث لم یتم تعریف المشهور عند الشیخ الأعظم فلابّد له من التعرض لسائر التعاریف:

ب: تعریف العلاّمة فی التحریر

عرّفه بأنّه «ما تماثلث أجزاؤه و تقاربت صفاته»(2).

و هذا التعریف مساوٍ لتعریف المشهور بناءً علی تفسیر الشیخ الأعظم له بتساوی أفراد الصنف لا النوع و الجنس، و أخصّ منه بناءً علی ظاهره من تساویهما فی الحقیقة النوعیة کما فی هدی الطالب(3).

ج: تعریف الشهید فی الدروس

أنّه «المتساوی الأجزاء و المنفعة، المتقارب الصفات»(4).

و اختاره ثانی الشهیدین فی الروضة(5) و قال فی المسالک: «أقرب التعریفات إلی

ص: 436


1- (1) حاشیة المکاسب /35.
2- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 4/529.
3- (3) هدی الطالب 3/311.
4- (4) الدروس الشرعیة 3/113.
5- (5) الروضة البهیة 7/36.

السلامة تعریف الدروس»(1). و تبعه فی الأقربیة السبزواری فی الکفایة(2).

و اعترض علیه فی جامع المقاصد بقوله: «و هذا لا یکاد یخرج الثوب»(3) و زاد فی المجمع: «و یمکن أن یقال: بل الأرض و بعض ما تقدم مع زیادة إبهام التساوی فإنّه غیر معلوم فی أیّ شیءٍ و کذا تقارب الصفات»(4).

قال المحقّق القمی: «و لعلّ المنفعة فی کلامه عطف علی القیمة المقدّرة، یعنی المتساوی الأجزاء فی القیمة و المنفعة. و یمکن أن یکون نظره فی زیادة المنفعة إلی إخراج مثل الحنطة و الحمَّص معا إذا تساویا فی القیمة، و قیل: النوع الواحد فی تعریف المشهور یکفی عن ذلک، و فی زیادة تقارب الصفات إلی ملاحظة الأصناف کما ذکرنا»(5).

أقول: و العجب منه قدس سره أنّه زاد فی التعریف القیمة ثم استشکل علیه بتساوی قیمة بعض الأجناس ثم یأتی بما فی التعریف من المنفعة لدفع إشکاله و ما هذا إلاّ حدّة ذهن المحقّق القمی و لیس بتفسیر لتعریف الشهید فی الدروس.

و قال فی الجواهر: «بل هو [تعریف الدروس] فی الحقیقة کشف لتعریف المشهور، لا أنّه تعریف آخر و إن توهّمه غیر واحد، بل لعلّه المراد من تعریفه له فی غایة المراد [الآتی[ أیضا...»(6).

بل أنّه أخصٌ من التعریف المتقدم حیث أخذ فیه مع تساوی الأفراد تساویها فی

ص: 437


1- (6) المسالک 12/183.
2- (7) الکفایة 2/640.
3- (8) جامع المقاصد 6/244.
4- (9) مجمع الفائدة و البرهان 10/525.
5- (1) جامع الشتات 2/300 من طبع الحروفی و نقل عنه فی هدی الطالب 3/312.
6- (2) الجواهر 37/90.

المنفعة و تقاربها فی

صفاتها کما فی الإرشاد.(1)

د: تعریف الشهید فی غایة المراد

قال فی تعریف المثلی: «و هو ما تتساوی أجزاؤه فی الحقیقة النوعیة»(2).

و قال ثانی الشهیدین معلِّقا علیه: «و مرجعه إلی ما یکون اسم الکثیر و القلیل منه واحدا کالماء و الدبس و الحنطة و ینتقض بالأرض»(3).

أقول: توضیح ثانی الشهیدین رحمه الله و نقضه مأخوذٌ من أحد التعاریف الواردة فی جامع المقاصد حیث یقول: «و ربّما ضبط بأنّ المثلی ما یکون اسم الکثیر و القلیل منه واحدا کالماء و الدبس و الدهن و نُقض بالأرض»(4).

و قرّر السیّد العاملی هذا الإشکال بقوله: «إذ الظاهر صدقه علی ما تقدّم من الأرض و الثوب و نحوهما، مع إشکال تحقیق الاتفاق فی الحقیقة النوعیة و مرجعه إلی ما یکون اسم

القلیل و الکثیر منه واحدا کالماء و الدبس»(5).

و أجاب عنه فی الجواهر بقوله: «علی معنی إرادة التساوی المزبور [أیّ المتساوی الأجزاء و المنفعة أو المساواة فی أشخاص الأفراد]، لا أنّ المراد به الاتحاد فی اسم القلیل و الکثیر منه کالماء و الحنطة کی یرد علیه الانتقاض بالأرض»(6).

أقول: جواب صاحب الجواهر تام و التعریف قریب من تعریف المشهور بناءً علی

ص: 438


1- (3) إرشاد الطالب 2/167.
2- (4) غایة المراد 2/398.
3- (5) المسالک 12/183.
4- (6) جامع المقاصد 6/244.
5- (1) مفتاح الکرامة 18/141.
6- (2) الجواهر 37/90.

أنَّ المراد بالحقیقة النوعیة هو الصنف الخاص - کما فسره صاحب الجواهر - لا النوع و الجنس فحیئنذ لا یتم ما ذکره شیخنا الاستاذ قدس سره فی إرشاده: «و هذا أعم من التعریف المتقدِّم حیث أنّ هذا یعم جمیع المثلیات و القیمیات فإن الأفراد فیهما مشترکة فی الحقیقة النوعیة»(1).

ذ: تعریف الوحید البهبهانی

قال: «المثلی ما تعارف تحقّق المثل له بحیث یساویه و یماثله فی الطبیعة و الممیّز النوعی و الصنفی و هو أقرب إلیه من کلِّ جنس و إن کان مثل الدرهم و الدینار، فتأمل»(2).

و نقل عنه فی الریاض(3) و عن الریاض فی الجواهر(4) و حمله الأخیر علی تعریفه الآتی.

و اختاره المحقّق الخمینی و قال: «ما هو له مثل عادة کالحبوبات و لایلاحظ فیه الشاذ النادر، فما لا مثل له عادة لیس بمثلی و إن وجد نادرا»(5) ثم عدّ من أوضح مصادیق المثلی منتوجات المَعَامِل الحدیثة.

ر: تعریف صاحب الجواهر

قال: «و بالجملة فالمراد من التعاریف واحد، و هو التساوی الذاتی فی غالب ما له مدخلیة فی الرغبة و القیمة، و أن یکون ذلک غالبا فی أفراد الأصناف لا اتفاقا، بل لعلّه المراد أیضا ممّا فی الإرشاد و شرحه الإسعاد لبعض الشافعیة من تعریفه بأنّه «ما أمکن ضبطه

ص: 439


1- (3) ارشاد الطالب 2/167.
2- (4) حاشیة مجمع الفائدة و البرهان /620.
3- (5) ریاض المسائل 14/26.
4- (6) الجواهر 37/91.
5- (7) کتاب البیع 1/332.

بکیل أو وزن و جاز السَّلَم فیه»، بل لعلّه المراد أیضا ممّا حکاه فی الریاض عن خاله...»(1).

و قال أیضا: «إنّ المراد بالمثلی فی کلامهم هو الذی له مثل بمعنی أنّه مساوٍ له فی جمیع ما له مدخلیة فی مالیته من صفاته الذاتیة لا العرضیة کالمکان و الزمان علی وجه یکون غالبا فی صنفه و ما عداه قیمی، فتأمل فإنّه جید»(2).

ز: تعریف المحقّق الخراسانی

قال بعد المناقشة فی تعریف المشهور: «فالاُولی تعریفه بما کثر أفراده التی لا تفاوت فیها بحسب الصفات المختلفة بحسب الرغبات»(3).

ص: تعریف الفقیه الیزدی

قال: «فإنّ المثلی حینئذ ماله مماثل فی الاُوصاف و الخصوصیات التی تختلف بها الرغبات و تتفاوت بها القیم قلةً و کثرةً فکلّ ما کان کذلک غالبا فهو مثلیٌّ و کلّ ما لم یکن کذلک فهو قیمیٌّ و لا الاعتبار بالنادر و هذا یختلف بحسب الأزمان و البلدان و الکیفیات...»(4).

ض: تعریف المحقّق الإیروانی

قال: «... و الأحسن أن یعرّف المثلی بما تشابهت أفراده و جزئیاته فی الصورة و الصفات، اللازم منه التساوی فی الرغبات، اللازم منه التساوی فی المالیة، و علی هذا فجنس الحنطة المختلف الأنواع و الأصناف اختلافا فاحشا إن لم یکن مثلیّا صادقا علیه التعریف

ص: 440


1- (1) الجواهر 37/91.
2- (2) الجواهر 37/94.
3- (3) حاشیة المکاسب /35.
4- (4) حاشیة المکاسب 1/469.

فأصنافه النازلة مثلیة البتة»(1).

ط: تعریف المحقّق النائینی

أخذ قدس سره فی تعریف المثلی أربعة قیود:

الأوّل: أن یکون تساوی الصفات و الآثار بحسب الخِلقة الإلهیة کالحبوب و أمّا ما کان متساویا بحسب الصناعة البشریة فهو محل خلاف.

الثانی: أن لا یتغیّر بالبقاء أو بتأثیر من الهواء کالخضروات و الفواکه و کلّ ما یفسد

من یومه فإنّه أیضا محل خلاف فی کونه مثلیّا أو قیمیّا.

الثالث: أن یکون مماثله کثیرا مبذولاً [موجودا].

الرابع: أن یکون تماثل الصفات موجبا لتماثل القیمة و تقاربها، و أمّا لو کان شیء مماثلاً لشیءٍ آخر فی جمیع الصفات و الآثار ولکنّهما متفاوتان فی القیمة جدّا فهذا لیس مثلاً لذاک.

و علی هذا فالمتیقن من المثلی الحبوبات ولکنّه لا بحسب الجنس أو النوع بل بحسب الصنف کما أنّ المتیقن من القیمی الحیوانات.(2)

ظ: تعریف المحقّق الأصفهانی

قال: «الصفات المقابلة للذات علی قسمین تارة تختلف بها الرغبات فلها دخل فی المالیة و اُخری لا دخل لها فیها حیث لا تختلف بها الرغبات، و الثانیة سواء کانت فی المثلی أو القیمی لیست مناطا لمثلیّته و لا لقیمیّته، و الاُولی إذا کانت ممّا لها نوعا أفراد مماثلة کان الموصوف بها مثلیّا

، و إن لم توجد لها أصلاً أو نوعا أفراد مماثلة کان الموصوف بها قیمیّا

ص: 441


1- (5) حاشیة المکاسب 2/130.
2- (1) راجع منیة الطالب 1/286 و 285.

فتدبر»(1).

و اختاره السیّد الخوئی رحمه الله و قال فی توضیحه: «اوصاف الأشیاء علی قسمین: إذ قد یکون لها دخل فی المالیة و قد لا یکون لها دخل فی المالیة بوجه، أمّا القسم الثانی فهو خارج عن محل بحثنا لعدم دخله فی مالیة الموصوف فلا یکون تفویته موجبا للضمان، أمّا القسم الأوّل فإن کانت للموصوف أفراد متماثلة بحسب النوع أو الصنف فهو مثلی، ضرورة أن أفراد الکلّی مع فرض تماثلها متساویة الأقدام و متقاربة الاُوصاف من دون تفاوت بینهما فی نظر العرف و إن کان بینها فرق بالدقة العقلیة، و إن لم یکن الموصوف کذلک فهو قیمیٌّ»(2).

و اختاره أیضا المحقّق المروج قال: «فکلّ کلّیٍّ تکثر أفراده المتماثلة فی الصفات الموجبة لاختلاف الرغبات الدخیلة فی اختلاف المالیة یکون مثلیّا و القیمی بخلافه»(3).

ع: تعریف شیخنا الاستاذ قدس سره

قال: «و المراد بالمثل هو القریب إلی التالف فی الاُوصاف التی تکون بها المالیة

أوزیادتها، لا سایر الخصوصیات التی قد یتعلق غرض شخصی بالشیء باعتبارها... و لم یکن وجوده عزیزا [نادرا] نوعا بحیث لایعدّ الظفر به من الاتفاق فالمال مثلی و فی صورة عزّة وجوده و ندرة الظفر به فالمال قیمی...»(4).

أقول: الظاهر أنّه مأخوذ من تعریف الأصفهانی قدس سره أفردتُهُ إحتراما للإستاذ قدس سره .

ص: 442


1- (2) حاشیة المکاسب 1/356.
2- (3) مصباح الفقاهة 3/152.
3- (4) هدی الطالب 3/314.
4- (1) إرشاد الطالب 2/168.
ه-: التعریف الأوّل المنقول من العامة

نقل العلاّمة فی التذکرة(1) عن بعضهم فی تعریفه: «أنّه ما قدّر بالکیل أو الوزن»(2) و فی جامع المقاصد(3) نقله عن الشافعی و أبیحنیفة و أحمد.

و فی المسالک: «نقض بالمعجونات»(4).

و فی مجمع الفائدة: «و أنّه یشکل بالغزل و الصوف و الوبر و الشعر و نحوها، فإنّها غیر مثلیة، مع صدق التعریف، إلاّ أن یلیه النفی أو الإثبات(5) و هو بعید. و أیضا أنّ المکیل و الموزون لیس له ضبط فإنّه یختلف حینئذٍ لکلّ بلد حکم نفسه علی ما قیل... فیلزم کون شیء واحد مثلیا فی بلد و قیمیا فی اُخری و هو بعید،... إلاّ أن یقال: لا یجوز السلم فیها و لا بیع بعضها ببعض و حینئذ یشکل التعریف الأوّل بدون الزیادة، فتکون فائدتها فتأمل»(6).

و فی الجواهر: «بل لعله المراد... معنی غلبة التساوی فی أجزائها علی الوجه المزبور [مرّ فی تعریفه] فی کثیر من أفرادها المتعارفة فلا یرد النقض بالمعجونات»(7).

أقول: تفسیر صاحب الجواهر لا یتم مع ظاهر التعریف.

ص: 443


1- (2) تذکرة الفقهاء 2/381 من الطبع الحجری.
2- (3) المغنی لابن قدامة 5/239، بدایة المجتهد 2/317، المحلّی 6/437، روضة الطالبین 4/108، الاُمّ 3/254، حاشیة إعانة الطالبین 3/138.
3- (4) جامع المقاصد 6/244.
4- (5) المسالک 12/183.
5- (6) مراده منهما: الزیادات الواردة فی التعریف الثانی و الثالث.
6- (7) مجمع الفائدة و البرهان 10/524 و 525.
7- (8) الجواهر 37/90.
و: التعریف الثانی من العامة

نقل العلاّمة(1) و زاد بعضهم [علی تعریفهم الأوّل] اشتراط جواز السلم فیه(2). و

علّله فی جامع المقاصد: «لأنّ السلم یثبت بالوصف فی الذمة»(3) و فی المسالک: «لیسلم من النقض»(4).

ی: التعریف الثالث لهم

نقل العلاّمة(5) عنهم زیادة: جواز بیع بعضه ببعض.(6)

و فی جامع المقاصد(7): «لتشابه الأصلین فی قضیة التماثل» و نحوه فی المسالک(8) و الجواهر(9).

و قال فی جامع المقاصد: «و اعترض علی العبارات الأخیرة [تعاریف العامة[ الثلاث: بأنّ القماقم(10) و الملاعق و المغارف(11) المتخذة من الصفر و النحاس موزونة یجوز

ص: 444


1- (9) تذکرة الفقهاء 2/381.
2- (10) انظر فتح العزیز المطبوع مع المجموع 11/266، مغنی المحتاج 2/281، روضة الطالبین 4/108.
3- (1) جامع المقاصد 6/244.
4- (2) المسالک 12/183.
5- (3) تذکرة الفقهاء 2/381.
6- (4) روضة الطالبین 4/108.
7- (5) جامع المقاصد 6/244.
8- (6) المسالک 12/183.
9- (7) الجواهر 37/90.
10- (8) جمع مفرده «قمقمة» و هو وعاء من صفر یستصحبه المسافر. الصحاح 5/2015.
11- (9) جمعٌ مفرده المِغْرَفة: ما یغرف به الطعام. [مجمع البحرین مادة غرف].

السلم فیها و بیع بعضها ببعض و لیست مثلیة»(1).

تنظر صاحب المسالک فی الاعتراض: «لمنع جواز السلم فیها لاختلافها و عسر ضبطها»(2).

و ردّه فی الجواهر: «انّ المراد التساوی ذاتا لا اتفاقا بصنع صانع و نحوه»(3).

أقول: بعد نقل هذه المقالات لیس للمثلی حقیقة شرعیة و لا متشرعة فلابدّ فیه من ملاحظة العرف، و العرف بعد إحداث المعامل الحدیثة یعرف المثلی بأحسن وجه، لأنّهم یستنسخون و یستکثرون من البضائع الآلاف فلا نحتاج إلی زیاده البحث حول تعریف المثلی و کلّ ما لم یکن مثلیّا فهو قیمیٌّ.

و المثل فی اللغة: قال أحمد بن فارس: «المیم و الثاء و اللام أصلٌ صحیح یدلّ علی

مناظرة الشیء للشیء، و هذا مثل هذا، أیّ نظیره. و المِثْل و المِثال فی معنی واحد»(4).

و قال الفیومی: «المِثْل: یُستعمل علی ثلاثة اُوجهٍ بمعنی الشبیه و بمعنی نفس الشیء و ذاته و زائدةٍ و الجمع أمثال...»(5).

و ورد بالمعنی اللغوی فی العدید من کرائم القرآن الوارد منه فی أکثر من ثلاثین آیة(6)، هذا بالاْءضافة إلی الضمائر فی کثیر منها و أمّا اللفظ المثلی - علی مصطلح الفقهاء - فلم یرد فیه و کذلک لم یرد فی روایاتنا، نعم ورد فی معقد إجماعهم کما فی جامع المقاصد(7) و

ص: 445


1- (10) جامع المقاصد 6/244.
2- (11) المسالک 12/183.
3- (12) الجواهر 37/90.
4- (1) معجم مقاییس اللغة 5/296.
5- (2) المصباح المنیر /563.
6- (3) راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الکریم /659.
7- (4) جامع المقاصد 6/245.

ریاض المسائل(1) و المناهل(2) و المفتاح(3) و الجواهر(4) و غیرها(5).

و بعد ظهور تعریف المثلی فلایهمنا النقض فی بعض أمثلته و البحث حولها(6) لما مرّ مِنَ الاختلاف فیه بحسب الأزمان و البلدان و الکیفیات کما عن الفقیه الیزدی(7).

فهذا تمام الکلام فی المقام الأوّل.

المقام الثانی: الدلیل علی ضمان المثل فی المثلی
الأوّل: آیة الاعتداء

قد تمسلک الشیخ فی کتابیه(8) و تبعه ابن ادریس فی السرائر(9) و العلاّمة فی تذکرة الفقهاء(10) بلزوم ضمان المثل فی المثلی بقوله تعالی: «فمن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم»(11) و تابعهم الطبرسی فی مجمع البیان و قال: «و فی هذه الآیة دلالة علی

أنّ من غصب شیئا و أتلفه یلزمه ردّ مثله ثم إنّ المثل قد یکون من طریق الصورة فی ذوات الأمثال و من طریق المعنی کالقیم فیما لا مثل له»(12).

ص: 446


1- (5) ریاض المسائل 14/23.
2- (6) المناهل /299 من الطبع الحجری.
3- (7) مفتاح الکرامة 18/137.
4- (8) الجواهر 37/85.
5- (9) کالمکاسب 3/209 للشیخ الأعظم.
6- (10) کما فی المکاسب 3/215.
7- (11) حاشیته علی المکاسب 1/469.
8- (12) المبسوط 3/60، الخلاف 3/402 و 406.
9- (13) السرائر 2/480.
10- (14) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
11- (15) سورة البقرة /194.
12- (1) مجمع البیان 1/288 من طبع مصر.

و تابعهم قطب الدین الراوندی فی فقه القرآن قال: «و إن کان تالفا فعلیه مثله، لقوله تعالی: «فمن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم» إن کان له مثل، و إن لم یکن له مثل فعلیه قیمته أکثر ما کانت قیمته من حین الغصب إلی حین التلف، لأنّه مأمور بردّه فی کلّ وقت فوجب علیه قیمته إذا تعذر. و اللّه أعلم»(1).

و قال الفاضل المقداد فی کنز العرفان: «د: المثل فی الآیة یمکن حمله علی المساوی فی الحقیقة و علی المساوی فی الحکم و علی المساوی فی المالیة و قد یعبر عن الأوّل بما یشترک جزؤه و کلّه فی صدق الاسم و هو المراد بالمثلی فی عبارة الفقهاء. ه : المغصوب إن کان مثلیّا بالمعنی الأوّل تعیّن مع فقده مثله و لا اعتبار بتفاوت الأسعار فی الزیادة و النقصان عن حال الغصب...»(2).

و اعترض علی الاستدلال بالآیة الشریفة صاحب الریاض و قال: «و فیه نظر، لاحتمال کون المراد بالمثل فیه مثل أصل الاعتداء، لا مثل المعتدی فیه الذی هو ما نحن فیه، فتأمل»(3).

و ردّه فی المفتاح بقوله: «أنّ الاحتمال الذی ذکره فی الآیة خلاف المتبادر و قد اطبقوا علی العمل بها فی مثل المعتدی فیه فی باب القصاص و الدیات و استند إلیها جماعة کثیرون فی المسألة فی الباب...»(4).

و قال فی الجواهر ردّا علی الریاض: «إذ قد عرفت أنّ المراد به [أیّ بالمثل] ذلک [أی

ص: 447


1- (2) فقه القرآن 2/74.
2- (3) کنزالعرفان /251 من الطبع الحجری، 2/84 من الطبع الحروفی.
3- (4) ریاض المسائل 14/24.
4- (5) مفتاح الکرامة 18/142.

المعتدی فیه] ولو بمعونة ما سمعت من النص [أی نصوص کلمات الأصحاب] و الفتوی»(1).

و ذکر الشیخ الأعظم(2) مناقشات فی الاستدلال بالآیة الشریفة:

الأولی: الآیة تختص بالتلف العدوانی بقرینة الاعتداء الوارد فی الظلم و العدوان

ولکن فی مسألة المقبوض بالعقد الفاسد لم یکن اعتداءً لا سیما مع الجهل بالفساد.

ولکن أجاب عنه الشیخ الأعظم بعدم القول بالفصل بین بابی الغصب و المقبوض بالعقد الفاسد.

الثانیة: ما ذکره سیّد الریاض من أنّ ظاهر المماثلة فی أصل الاعتداء و جنسه من الکلام و الضرب و نحوها، لا المماثلة فی المعتدی فیه و مقداره.

و تنظر الشیخ الأعظم فی هذه المناقشة و لعلَّ وجهه ظهور الآیة فی اعتبار المماثلة فی الإعتداء و المعتدی به کلیهما.

الثالثة: انّ المراد بالمثل فی الآیة الشریفة ما یعدّ عرفا مِثلاً للتالف فی الامرین: - أی الحقیقة النوعیة و المالیة - و الآیة و العرف یقتضیان الضمان بالمثل - مع الأمرین - حتّی فی القیمیات لإمکان مساواة أفراد بعض القیمیات فی المالیة فضلاً عن المساواة فی الحقیقة مع أنّ المشهور حکموا بضمان القیمی بقیمته مطلقا - سواء وُجد مثله أم لا - و سواء قیمة المثل مساویة لقیمة المتلَف أم أزید أم أقل.

و استشهد قدس سره بفرعین:

1- إذا أتلف شخص ذراعا من کرباسٍ و أمکنه تحصیل مماثِله عرفا و الآیة تقتضی ذلک ولکن المشهور علی أنّ الثوب من القیمیات و حکموا بوجوب دفع القیمة.(3)

ص: 448


1- (6) الجواهر 37/92.
2- (7) المکاسب 3/218.
3- (1) کما فی هدی الطالب 3/344.

2- و کذا لو أتلف عبدا و له فی ذمة مالک العبد بسبب القرض أو السلم عبدٌ موصوف بصفات التالف فإنّهم لا یحکمون بالتهاتر القهری. کما تشهد به ملاحظة کلماتهم فی بیع عبدٍ من عبدین.(1)

قال فی مفتاح الکرامة: «قوله: (ولو اشتری عبدا من عبدین لم یصح) هذا هو المشهور کما فی المهذب البارع(2) و المقتصر(3) و غایة المرام(4) و هو خیرة الخلاف(5) فی موضع منه و الجواهر(6) و السرائر(7) و الشرائع(8) و النافع(9) و التحریر(10) و المختلف(11) و

التذکرة(12) و اللمعة(13) و التنقیح(14) و جامع المقاصد(15) و إیضاح النافع(16) و المسالک(17) و

ص: 449


1- (2) کما فی المکاسب 3/218.
2- (3) المهذب البارع 2/466.
3- (4) المقتصر /185.
4- (5) غایة المرام 2/111.
5- (6) الخلاف 3/217.
6- (7) جواهر الفقه /63.
7- (8) السرائر 2/351.
8- (9) الشرائع 2/54.
9- (10) المختصر النافع /133.
10- (11) تحریر الأحکام الشرعیة 2/410.
11- (12) مختلف الشیعة 5/230.
12- (1) تذکرة الفقهاء 10/328.
13- (2) اللمعة /119.
14- (3) التنقیح الرائع 2/136.
15- (4) جامع المقاصد 4/150.
16- (5) ایضاح النافع، مخطوط.
17- (6) المسالک 3/398.

الروضه(1) و غیرها(2) و هو ظاهر الدروس(3) أو صریحه و فی الریاض(4) أنّ علیه عامّة من تأخر»(5).

ولکنّ فی هذا الفرع خلافا للشیخ حکی فی باب البیوع من الخلاف(6) عن روایة الأصحاب الجواز [أیّ صحة بیع عبد من عبدین] علی الإطلاق، مدعیّا علیه الإجماع، و ظاهره المیل إلیه، إلاّ أنّه رجع عنه فی باب السلم(7) فلا عبرة بقوله الأوّل کدعواه الإجماع علیه و استناده به و بالروایة... لضعف الأوّل [الاجماع] بمخالفته نفسه، مع شهرة خلافه الظاهرة فی وهنه [أیّ فی و هن الخبر]. کذا قاله سیّد الریاض(8).

و قال فی النهایة: «و من اشتری من رجل عبدا و کان عند البائع عبدان، فقال للمبتاع اذهب بهما فاختر أیّهما شئتَ و رُدَّ الآخر و قبض المال، فذهب بهما المشتری فأبق أحدهما من عنده فَلْیَرُدَّ الذی عنده منهما و یقبض نصف الثمن ممّا أعطی و یذهب فی طلب الغلام فإن وجده اختار حینئذ أیّهما شاء و ردّ النصف الذی أخذ و إن لم یجد کان بینهما

نصفین»(9).

و حکی العلاّمة فی المختلف(10) عن القاضی ابن البرّاج متابعته. و هو متن روایة محمّد

ص: 450


1- (7) الروضة البهیة 3/346.
2- (8) نحو کشف الرموز 1/520.
3- (9) الدروس 3/231.
4- (10) ریاض المسائل 9/102.
5- (11) مفتاح الکرامة 13/400.
6- (12) الخلاف 3/38.
7- (13) الخلاف 3/217.
8- (14) ریاض المسائل 9/102.
9- (1) النهایة /411.
10- (2) مختلف الشیعة 5/229.

بن مسلم(1) عن أبی جعفر علیه السلام و مثله روی السکونی(2) عن أبی عبداللّه علیه السلام کما فی المفتاح(3).

و أنت تری أنّ التهاتر ورد فی فتوی الشیخ فی النهایة ولکن الأصحاب لم یوافقوه.

3- ثم عزز الشیخ الأعظم الفرعین بثالث بقوله: «و أمّا مع عدم وجود المثل للقیمی التالف فمقتضی الدلیلین [العرف و الآیة] عدم سقوط المثل من الذمة بالتعذر، کما لو تعذّر المثل فی المثلی فیضمن بقیمته یوم الدفع کالمثلی و لا یقولون به»(4).

لأنّهم یقولون بضمان قیمة یوم التلف فی العین القیمیة لاقیمة یوم الأداء. و هذا الفرع أیضا من مخالفة المشهور لإطلاق الآیة الشریفة و الاستظهار العرفی.

الرابعة: من مناقشات الشیخ الأعظم: مقتضی الآیة و العرف عدم جواز إلزام المالک بأخذ المثل الذی نقصت قیمته نقصانا فاحشا إذ مقتضاهما اعتبار المماثلة فی الحقیقة و المالیة، مع أنّ المشهور یقولون بجواز إلزامه به - کما فی الجواهر(5) - و إن قوّی الشهید(6) خلافه، ولکن العلاّمة احتمل فی القواعد(7) کفایة المثل ولو سقط من القیمة بالکلیة و احتمل أیضا الرجوع إلی القیمة.

أقول: ولکن الرجوع إلی القیمة حینئذ هو خیرة التذکرة(8) و الایضاح(9) و فی

ص: 451


1- (3) وسائل الشیعة 18/268، ح1، الباب 16 من أبواب بیع الحیوان. و السند ضعیف بابن أبی حبیب لأنّه مهمل.
2- (4) وسائل الشیعة 18/269 و السند معتبر.
3- (5) مفتاح الکرامة 13/395.
4- (6) المکاسب 3/219.
5- (7) الجواهر 37/99.
6- (8) الدروس 3/113.
7- (9) القواعد 2/228.
8- (10) تذکرة الفقهاء 2/384 من الطبع الحجری.
9- (11) ایضاح الفوائد 2/177.

جامع المقاصد نسبته إلی الأصحاب و غیرهم و قول: «لا محید عن مختار الأصحاب و غیرهم»(1).

فَذْلَکَةٌ کلام الشیخ الأعظم؛ بعین عبارته مع توضیح

قال: «فتبیّن أنّ النسبة بین مذهب المشهور [ضمان المثلی بالمثل [و مقتضی العرف و الآیة عموم من وجه، فقد یضمن بالمثل بمقتضی الدلیلین [العرف و الآیة [و لایضمن به عند المشهور کما فی المثالین المتقدمین [الفرع الأوّل و الثانی أی الکرباس و العبد [و قد ینعکس الأمر [یعنی الآیة و العرف یقتضیان الضمان بالقیمة مع أنّ المشهور علی الضمان بالمثل] کما فی المثال الثالث [نقصان القیمة و إسقاطها] و قد یجتمعان فی المضمون به کما فی أکثر الأمثلة»(2)

الجواب عن مناقشات الشیخ الأعظم قدس سره

أقول: قد أجاب بنفسه عن المناقشة الأولی بعدم القول بالفصل بین البابین، و تنظّر فی مناقشة سیّد الریاض و قد مرّ فی وجهه أنّ الآیة ظاهرة فی اعتبار المماثلة فی أصل الاعتداء و المعتدی فیه کلیهما.

و أمّا المناقشة الثالثة: فیظهر جوابها ممّا مرّ من أنّ المثلی ما هو یوجود مثله کثیرا لانادرا. فالقیمی الذی یوجد نادرا مثله یحکم بقیمیته و ضمان القیمة فیه، و أمّا الفروع الثلاثة فالکرباس و الثوب و الأقمشة تعدّ من المثلیات فی زماننا هذا فیحکم بضمان المثل فیه(3)، ولکن الحیوان الذی یعدّ العبید منه قیمی فإذا کان علی التالف قیمة العبد و له فی ذمّة مالک العبد عبدٌ بهذه القیمة أو قریب منه فلا یبعد التهاتر بقدر الذمم و هذا غیر مسألة بیع

ص: 452


1- (12) جامع المقاصد 6/258.
2- (1) المکاسب 3/220.
3- (2) کما علیه الفقه الیزدی فی حاشیته علی المکاسب 1/468.

عبدٍ من عبدین التی حکم الأصحاب بعدم صحتها.

و وافقنا علی التهاتر المحقّق الأصفهانی و قال: «لو لا الاجماع لزم التهاتر فیما إذا کان للضامن فی ذمة المالک مثل ما أتلفه منه»(1).

و أمّا روایة محمّد بن مسلم التی هی مستند قول الشیخ فی النهایة فإنّها ضعیفة السند بروایة الکلینی و معتبرة السند بروایة الشیخ، ان لم یکن إعراض المشهور موجبا لوهنها، ولکن الشیخ و القاضی ابن البراج فی الکامل افتیا بمضمونها، فیمکن الأخذ بها فی موردها فقط و لایمکن التعدی إلی غیره لأنّها مخالفة للقواعد، القاعدة فی المقبوض بالسؤم تقتضی

ضمانها علی القابض أو المشتری و الروایة تحکم بالضمان نصفین نصف علی المشتری و نصف علی البائع، فإن أغمضنا عن إشکال الوهن یمکن قبولها فی موردها الخاص.

و أمّا الفرع الثالث: فقد قال: «لو تعذر المثل فی المثلی فیضمن بقیمته یوم الدفع»(2) أی یوم الأداء ولکن مختار الأصحاب قیمته یوم الإقباض و لا یوجد مخالفٌ منّا فیه کما صرح به صاحب المفتاح(3)، و أمّا بالنسبة إلی القیمی فیکون الضمان فیه بالقیمة، إمّا قیمة یوم الغصب أو أرفع القیم من حین الغصب إلی حین التلف أو قیمته یوم التلف ثلاثة أقوال یأتی تفصیلها، مضافا إلی ما مرّ من أنّ الضمان فی المثلی یکون بالمثل و مع عدم وجدانه ینتقل إلی قیمة یوم الإقباض، و أمّا القیمی فلا یکون الضمان فیه بالمثل أصلاً بل الضمان یکون بالقیمة من أوّل الأمر ولکن اختلفوا فیها بأنّها قیمة یوم الغصب أو یوم التلف أو أعلی القیم، فالفارق بینهما و علی قول المشهور واضح.

و هکذا قد مرّ من أن الملاک فی المثلی و القیمی هو کثرة وجدان مثله و عدمه و هذا

ص: 453


1- (3) حاشیته علی المکاسب 1/367.
2- (1) المکاسب 3/219.
3- (2) مفتاح الکرامة 18/144.

یختلف بحسب الأزمان و الأماکن و لاعبرة بالإجماعات الواردة فی مصادیقهما لأنّ غایتها هو الاجماع علی أنّه قیمی أو مثلی فی زمن الإجماع و بلده لا فی کلّ زمان و مکان و بالجملة هذا الإجماع لم یکن تعبدیا فلا یکون حجة.

کما علیه الفقیه الیزدی رحمه الله قال: «و من ذلک یظهر أنّه لااعتبار بإجماعهم علی کون الشیء الفلانی مثلیّا أو قیمیّا فإنّه لیس ممّا وصل إلیهم من الشارع حکم تعبدی قطعا بل من جهة ما ذکرنا، فلو کان الموجود فی زماننا علی خلاف ما ذکروه لایجب متابعتهم فی ذلک»(1).

و أمّا الإجابة عن المناقشة الرابعة: فإنّ المماثلة تصدق فی الحقیقة و المالیة معا فإذا نقصت المالیة بحیث سقطت بالکلیة ینتقل الضمان من المثل فی المثلی إلی قیمة یوم القبض کما احتمله العلاّمة فی القواعد و اختاره فی التذکرة و ولده فی الإیضاح و قواه الشهید و نسبه المحقّق الثانی إلی الأصحاب و قال: «لامحید عنه». فما نسبه إلی المشهور من جواز إلزامه بأخذ المثل لایتم عندنا - خلافا للجواهر(2) -، و کما اختار الشیخ الأعظم انتقال الضمان إلی القیمة حینئذ قال: «و إن کان الحقّ خلافه»(3). أی خلاف الإلزام و ضمان المثل و تبعه السیّد

الخوئی(4).

هذه أجوبة عن مناقشات الشیخ الأعظم و أنت تری عدم تمامیتها فی دلالة آیة الاعتداء فی ضمان المثلی بالمثل.

مناقشة السیّد الخوئی فی دلالة آیة الاعتداء

قال قدس سره : «الاستدلال بها علی ذلک یتوقف علی أُمورٍ ثلاثة:

ص: 454


1- (3) حاشیته علی المکاسب 1/470.
2- (4) جمیع المصادر مرّت فی أصل المناقشة و لا نعیدها فراجع صفحة 451.
3- (5) المکاسب 3/220 و 238.
4- (1) مصباح الفقاهة 3/160.

الأوّل: أن تکون کلمة «ما» فی الآیة الکریمة موصولة لا مصدریة.

الثانی: أن یراد من هذا الکلمة الموصولة الشیء المعتدی به بأن یکون المعنی فاعتدوا علیه بمثل الشیء الذی اعتدی به علیکم.

الثالث: أن یراد من کلمة المثل فی الآیة الشریفة المثل فی المثلی و القیمة فی القیمی، و أنّی للمستدِل إثبات هذه الاُمور کلّها...»(1)

أقول: الظاهر أنّه أخذ بعضه ممّا فی تعلیقة اُستاذه المحقّق الأصفهانی علی المکاسب علی خلاف مختاره لأنّه قال: «إنّ المماثلة تارة بین الاعتدائین کالضرب فی مجازاة الضرب دون القتل و الشتم، و أُخری مقدارها کالدرهم الواحد بإزاء الواحد لا اثنان فی قبال الواحد، و ثالثة فی المُعتدی به کالحنطة بإزاء الحنطة مثلاً، لابمعنی الإتلاف فی قبال الإتلاف کما فی الأوّل.

فإن جعلنا کلمة «ما» مصدریة غیر زمانیة فالمعنی فاعتدوا علیه بمثل اعتدائه، و إن جعلناها موصولة فالمعنی فاعتدوا بمثل الشیء الذی اُعتدی به علیکم، و حینئذ یحتمل أن یراد بمثل ذلک الشیء فی الطبیعة و الحقیقة، و یحتمل أن یراد بمقداره لا أزید منه کما أو کیفا.

بناءً علی الأوّل لادلالة للآیة إلاّ علی المماثلة فی الاعتداء و هی غیر مرادة هنا بل غیر جائزة هنا، إذ مماثل إتلاف المال هو الإتلاف کمماثلة الضرب للضرب.

و بناءً علی الثانی یصح الاستدلال بها إن أُرید منها المماثلة فی المقدار، لأنّها تلازم المماثلة فی الحقیقة إذا اُرید الزیادة و النقص من المقدار دون غیرهما....

ثم اختار فی آخر هذه التعلیقة أنّ مماثلة أعمٌّ من حیث الاعتداء و المعتدی به و کیفیاته

ص: 455


1- (2) مصباح الفقاهة 3/148 راجع تمام کلامه فی کتابه قدس سره .

و قال فی التعلیقة التی تلیها: «تحقیق المقام أنّ المماثلة تارة هی المماثلة المطلقة لامطلق المماثلة، فیراد منها المماثلة من جمیع الجهات من الذات و الصفات و المالیة، و أُخری هی المماثلة من حیث الذات و الصفات، و ثالثة هی المماثلة من حیث المالیة، و رابعة هی مطلق المماثلة سواء کانت مماثلة من جمیع الجهات أو من حیث الحقیقة أو من حیث المالیة، فمع إثبات إحدی التعینات الثلاث تثبت المماثلة المطلقة أو المماثلة الخاصة، و مع عدمه فمطلق المماثلة.

وجه الأُولی: أنّ المماثلة بلاعنایة هی المماثلة المطلقة... .

وجه الثانیة: أنّ المماثلة العرفیة هی المماثلة من حیث الحقیقة فمماثل الحنطة عرفا هی الحنطة... .

وجه الثالثة: أنّ الأغراض العقلائیة فی باب الأموال متعلقة بحیثیة المالیة، و لاریب أنّ العبرة فی مقام الاستظهار من الآیة بالمماثلة العرفیة فیتعیّن الثانیة... و أما المدار عند العقلاء علی المالیة فهو مسلم إلاّ أنّه لاینافی تعلق الغرض العقلائی بمطالبة الحقیقة التی تختلف بها الرغبات العقلائیة، فأوجه الوجوه الوجه الثانی...»(1).

أقول: أنت تری أنّ المحقّق الأصفهانی اختار علی خلاف تلمیذه دلالة الآیة علی المماثلة بالمعنی الأعم من حیث الاعتداء و المعتدی به و أنّ المراد بالمماثلة هی المماثلة العرفیة أی من حیث الذات و الصفات فقط، لا من حیث المالیة و مختاره الأخیر محل تأمل بل منع لعدم صدق المماثلة إلاّ فی فرض التساوی فی المالیة کما اعترف قدس سره بأنّ المدار علیه فی المعاملات، فالمماثلة العرفیة عندنا هی المماثلة فی الذات و الصفات و المالیة المسماة عند المحقّق الأصفهانی قدس سره بالمماثلة المطلقة.

ص: 456


1- (1) حاشیة المکاسب 1/(365-362) راجع تمام کلامه فی کتابه.

نقد مقالة المحقّق الخوئی فی المقام

أمّا أمره الأوّل: من عدم وجود قرینة علی أنّ «ما» موصولة بل یحتمل أن تکون مصدریة غیر زمانیة و علیه فتکون معنی الآیة أنّه اعتدوا علیه بمثل اعتدائه علیکم و إذن فتختص الآیة بالاعتداء بالأفعال... ثم قال: «بل المحکی عن المحقّق الأردبیلی فی آیات أحکامه هو تعین هذا الاحتمال فإنّه بعد ما ذکر جملة من الآیات التی منها الآیة المتقدمة الظاهرة فی جواز الاعتداء بالمثل قال: فیها دلالة علی جواز القصاص فی النفس و الطرف و

الجروح...»(1).

ففیه: أوّلاً: یمکن أن یأتی فی بادی الأمر احتمال أن تکون ما مصدریة غیر زمانیة ولکن صار معنی الآیة هکذا: فمن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل إعتدائه علیکم، و قرینة فصاحة کلام اللّه یطرد هذا الاحتمال، لأنّ إبقاء لفظة «ما» علی موصولیتها أفصح من حملها علی المصدریة غیر الزمانیة.

و ثانیا: کلمة «ما» ظاهرة فی الموصولة لا المصدریة کما صرح به المحقّق القمی(2) رحمه الله و کما یظهر من عدّة من المفسرین:

نحو: مقاتل بن سلیمان - الذی عدّه الشیخ فی الرجال من أصحاب الباقر(3) علیه السلام و الصادق(4) علیه السلام و فی الأوّل مع توصیفه بالبتری و فی الثانی مع نسبته إلی خراسان، و توفّی مقاتل فی عام 150، و البتریة هم جماعة من الزیدیة تبرؤوا من أعداء الشیخین - علیهما لعنة اللاعنین إلی یوم الدین - و... و المشهور أنّهم یضعّفونه و أنت تجد ترجمته فی تهذیب

ص: 457


1- (1) راجع مصباح الفقاهة 3/149.
2- (2) جامع الشتات 2/302 و نقل عنه فی هدایة الطالب 2/331.
3- (3) رجال الشیخ /138، الرقم 49.
4- (4) رجال الشیخ /313، الرقم 536.

التهذیب(1) - قال فی تفسیره: ««فاعتدوا علیه» یقول: فقاتلوهم فیه، «بمثل ما اعتدی علیکم» فیه، «واتقوا اللّه» یعنی المؤمنین و لاتبدءوهم بالقتال فی الحرم فإن بدأ المشرکون فقاتلوهم»(2).

تفسیره «فیه» أیّ فی الحرم بعد جملة «ما اعتدی علیکم»، یظهر منه أنّه أخذ کلمة «ما» موصولة لا مصدریة غیر زمانیة و إلاّ لایحتاج إلی تفسیر «فیه». لوضوح أنّ الاعتداء الذی یمکن أن یعتدی بهم یکون فی الحرم. فتأمل.

و شیخ الطائفة قال فی تفسیره: «فإن قیل: کیف قال «بمثل ما اعتدی علیکم»، و الأوّل جور و الثانی عدل؟ قلنا: لأنّه مثله فی الجنس و مقدار الاستحقاق لأنّه ضرر کما أنّ الأوّل ضرر، و هو علی مقدار ما یوجبه الحقّ فی کلّ جرم»(3).

و ثالثا: ما ذکره بعنوان المحکی عن المحقّق الأردبیلی و ما حکاه عنه لایتم؛ لأنّ

الأردبیلی ذکر هذه الجمل فی کتاب الجنایات فی ذیل آیتی 40 و 41 من سورة الشوری و لم یذکرها فی آیة الاعتداء فراجع زبدة البیان(4)، فتأئید مقالته بکلام الأردبیلی غیر تام.

و أمّا أمره الثانی: فقد قال: «لاقرینة علی أنّ المراد من الشیء هو المعتدی به أعنی به الأعیان الخارجیة من النقد و العرض بل یحتمل أن یراد به الفعل أعنی به الاعتداء...، و یحتمل أن یراد من الشیء ما هو الأعم من الفعل و المعتدی به و حینئذ فتدل الآیة علی جوازاعتداء المضروب بالضرب... و علی جواز أخذ الحنطة بدل الحنطة... و علی هذا الاحتمال لایستفاد من الآیة الضمان - أیضا - بل و لاجواز تملک المغصوب منه شیئا ممّا أخذه

ص: 458


1- (5) تهذیب التهذیب لابن حجرٍ العسقلانیّ 10/249.
2- (6) تفسیر مقاتل بن سلیمان 1/102 طبع عام 1424 فی بیروت.
3- (7) التبیان 2/151.
4- (1) زبدة البیان /854.

الغاصب، بل غایة ما یستفاد منها حینئذ إنّما هو جواز التصرف فی أموال الغاصب علی سبیل التقاص بلا کونها ملکا للمتصرف...»(1).

و فیه: بعد قبول ظهور کلمة ما فی الموصولة، الآیة الشریفة تحمل علی ما هو الأعم من الفعل و المعتدی به - لم أقلْ المعتدی به خاصا - کما علیه السیّد الحکیم(2) رحمه الله - أی الأعیان الخارجیة لخروج موردها کما یأتی - فتشمل المماثلة جواز القصاص فی النفس و الطرف و الجروح و غیرها، کما تشمل جواز أخذ المثل و حتّی القیمة فی التالف، أمّا المثل فواضح و أمّا القیمة لأنّ مع فقدان المثل المصطلح، أقرب الأشیاء بالتالف هو القیمة فهو مثله فی القیمة و المالیة.

و لأنّ الاعتداء فی المعتدی به - الأعیان الخارجیة - هو الإتلاف و هو لایجوز قطعا لأنّه یدخل فی عنوان الإسراف فینحصر بأخذ المثلی أو القیمة. و ما ذکره هذا الفقیه الکبیر رحمه الله فی ذیل کلامه من جواز التصرف دون التملک احتمال مَدْرِسیٌّ لایعتنی به و لم تقبله حتی فی المعاطاة الواردة فی کلامه، کما ذهب شیخنا الاُستاذ(3) قدس سره إلی استفادة جواز التملک من الآیة.

و أمّا أمره الثالث: فقد قال: «أن یراد من کلمة المثل فی الآیة الشریفة المثل فی المثلی و القیمة فی القیمی(4)... فیردّه عدم وجود القرنیة علی إرادة ضمان المثل من الآیة فی

المثلی و إرادة ضمان القیمة فی القیمی، لأنّ المماثلة لاتقتضی هذا المعنی بل هی أعمٌّ من

ص: 459


1- (2) مصباح الفقاهة 3/149.
2- (3) نهج الفقاهة /240.
3- (4) إرشاد الطالب 2/171.
4- (5) مصباح الفقاهة 3/148.

ذلک»(1).

و فیه: نعم، الآیة الشریفة عامة لاتختص بالضمان المثل فی المثلی ولکن تشمله و تعمّه، لأنّ المثل فیها یحمل علی المعنی اللغوی أی المماثلة، و هذا یکفی فی إثبات استفادة الضمان من آیة الاعتداء.

و بما ذکرنا من حمل الآیة علی ما هو الأعم من مماثلة الفعل و المعتدی به لایخرج مورد الآیة الشریفة منها، لأنّها نزلت فی عمرة القضاء فی سنة سبع من الهجرة النبویة حیث أراد رسول اللّه صلی الله علیه و آله الإتیان بالعمرة فی ذی القعدة الحرام سنة ستٍّ و صدّه المشرکون عن دخول مکة، و وقّعوا معه المصالحة الحدیبیة ثم أتی صلی الله علیه و آله فی ذی القعدة سنة سبعٍ و قضی نسک عمرته مع المسلمین و هم فی خوف من قتال المشرکین لهم فی الشهر الحرام و فی الحرم، و نزلت الآیة و أجازهم اللّه قتالهم فیهما إن قاتلوهم.(2) و بما ذکرنا لایخرج المورد ولکن من الواضح أنّ مورد الآیة و شأن نزولها لایخصص.

کمّا تدخل فی ما ذکرناه صحیحة معاویة بن عمار فی حدیث عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قلت: فما تقول فی رجل قَتَل فی الحرم أو سوق؟ قال: یقام علیه الحدّ فی الحرم صاغرا(3)، إنّه لایر للحرم حرمة و قد قال اللّه تعالی: «فمن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم» فقال: هذا هو فی الحرم، فقال «لا عدوان إلاّ علی الظالمین»(4).(5)

ص: 460


1- (1) مصباح الفقاهة 3/150.
2- (2) راجع شأن نزولها فی کتب التفسیر نحو: التبیان 2/150 و مجمع البیان 1/287 و جوامع الجامع 1/108 و الکشاف 1/237 و البیضاوی /51 من الطبع الحجری.
3- (3) أیّ مُهانا و هو الراضی بالذُلّ و الضیم.
4- (4) سورة البقرة /193.
5- (5) الکافی 4/227، ح4 و نقلا عنه فی وسائل الشیعة 13/225، ح1، و البرهان فی تفسیر القرآن 1/411، ح2، التهذیب 5/419، ح102 و 5/463، ح206 کلاهما بسند صحیح.

و من هنا ظهر عدم الإشکال فی التمسک بآیة الاعتداء فی ضمان المثلی بالمثل بل القیمی بالقیمة و الحمدللّه.

الثانی: حدیث علی الید

قوله صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تؤدّی.(1)

بعد ما مرّ(2) من انّها موثوقة الصدور عند الأصحاب قدس سرهم مع إقرارهم بأنّها روایة عامیّة ضعیفة السند لأنّ الراوی لها هو سمرة بن جندب المعلوم الحال و الراوی عنه هو الحسن البصری و هو أیضا معلوم حاله، و مع وضوح هذا عندهم استدلوا بالروایة و ذکروها فی کتبهم و عملوا بها و هذا یدلّ علی أنّها موثوقة الصدور عندهم.

و الروایة کما مرّ تدل علی الحکمین: التّکلیفیّ و الوضعی معا، أعنی وجوب ردّ مال الغیر المأخوذ منه إلیه تکلیفا و ضمانه وضعا، و الضمان یکون بالنسبة إلی العین مادام موجودا و بعد تلفه ینتقل الضمان إلی المثل إن کان مثلیا أو القیمة إن کان قیمیّا. و الوجه فی ذلک أنّ الضمان بعد تلف العین ینتقل إلی البدل، و البدل فی کلّ من المثلی و القیمی معلوم.

و بما ذکرنا یظهر فساد ما قد یقال: بأنّ الروایة تدل علی وجوب ردّ العین إلی مالکها فقط، و هذا الوجوب یسقط بتلف العین، و لاتدل علی وجوب ردّ البدل، و الوجه فی الفساد، أنّ الضمان بعد التلف باق و یسقط بأداء المثل و القیمة، کما یظهر عدم تمامیة ما ذکره المحقّق السیّد الخوئی من عدم انطباق مدلول الروایة علی مذهب المشهور لأنّ «مقتضاه أن

ص: 461


1- (6) عوالی اللآلی 1/224، ح106، 1/389، ح22، مسند أحمد بن حنبل 5/8 و 12 و 13، سنن ابن ماجه 2/802، ح2400، سنن الترمذی 3/566، ح1266، سنن النّسائی 3/411، سنن أبی داود 3/296، ح3561، سنن البیهقی 6/95 و 90، المستدرک علی الصحیحین 2/47، کنزالعمال 5/327، ح5713.
2- (1) فی أوّل البحث عن احکام المقبوض بالعقد الفاسد راجع صفحة 292 من هذا المجلد.

ضمان القیمة فی طول ضمان المثل، کما أنّ ضمان المثل فی طول الضمان بنفس العین التی أخذت من مالکها بغیر سبب شرعی»(1).

لأنّ مدلول الروایة وجوب ردّ العین تکلیفا و ضمانها وضعا و إذا تلفت العین تنتقل إلی البدل و البدل هو المثل فی المثلی و القیمة فی القیمی، لا أنّها تنتقل إلی المثل أوّلاً و مع فقدان المثل تنتقل إلی القیمة کما ادعاه قدس سره .

و أمّا ما ذکره المحقّق النائینی بقوله: «أن یکون التالف ممّا یتموّل عرفا و شرعا، فمثل الخنفساء و الخمر و إن وجب ردّهما حین بقائهما لجهة حقّ الاختصاص الثابت لمَنْ اُخذ منه إلاّ أنّه بعد تلفهما لایتعلق بهما ضمان»(2).

فقد ردّه السیّد الخوئی بقوله: «أنّ وضع الید علی متعلَّق حقّ الغیر بدون سبب شرعی یوجب ضمانه، و إذا تلف ذلک انتقل ضمانه إلی المثل، نعم إذا تعذر المثل أیضا بقی

التالف فی عهدة الضامن، إذ المفروض أنّه لیس بمال لکی ینتقل ضمانه - مع تعذر مثله - إلی قیمته»(3).

أقول: ما ذکره قدس سره من «أن وضع الید علی متعلَّق حقّ الغیر بدون سبب شرعی یوجب ضمانه» تام و یکون حراما ولکن هذا الکلام کیف یجمع مع ما قاله فی بحث حقّ الاختصاص من قوله: «لا دلیل علی حرمة التصرف فی ملک الغیر»(4)، و قد ناقشناه فی ذلک البحث فراجع.(5)

ص: 462


1- (2) مصباح الفقاهة 3/146.
2- (3) منیة الطالب 1/283.
3- (1) مصباح الفقاهة 3/147.
4- (2) مصباح الفقاهة 1/144.
5- (3) الآراء الفقهیة 1/152.

فالاستدلال بهذا النبوی تام.

الثالث: الروایات الدالة علی احترام مال المؤمن و أن حرمة ماله کحرمه دمه.

قد مرّ(1) أنّ هذه الروایات(2) کما تدل علی الحکم التکلیفی، تدل علی الحکم الوضعی - أی الضمان - أیضا و بعد دلالتها علی ضمان العین، إذا تلفت العین انتقل الضمان فی المثلی إلی المثل و فی القیمی إلی القیمة، و لاتدل مفاده علی ثبوت الضمان بالبدل الواقعی فقط.

الرابع: الروایات الدالة علی ضمان الولد إذا وُجِدَت الاْءَمَةُ مسروقةً.

قد مرّ(3) أنّ الضمان الوارد فی هذه الروایات(4) هو ضمان التلف الحکمی و بما أنّه ضمان التلف یکون البائع الواطی الوالد ضامنا للولد، و حیث أنّ الولد قیمیّ ینتقل الضمان إلی القیمة، و إن کان مثلیا ینتقل ضمانه إلی المثل، فلا یبعد استفادة الحکم من هذه الروایات.

الخامس: عدّة من الروایات فی مختلف الأبواب

نشیر إلی بعضها و الباقی علی عهدة المتتبِّع و هی تدلّ علی أصل الضمان أو أنّ ضمان المثلی بالمثل أو أنّ ضمان القیمی بالقیمة، أو الأوّل مع أحد الأخیرین بسبب اختلاف مدلولها:

منها: صحیحة زرارة و بکیر عن أبی جعفر علیه السلام قال: لیس علی مال الیتیم زکاة إلاّ أن

یتّجربه، فإن اتجربه ففیه الزکاة، و الربح للیتیم، و علی التاجر ضمان المال.

ص: 463


1- (4) فی الدلیل الثالث من أدلة قاعدة ما یضمن راجع صفحة 344 من هذا المجلد.
2- (5) وسائل الشیعة 29/10، ح3 صحیحة أبی أُسامة، وسائل الشیعة 5/120، ح3 مرسلة ابن شعبة الحرّانی، وسائل الشیعة 9/540، ح7، التوقیع المروی بسند صحیح، وسائل الشیعة 12/297، ح3 موثقة أبی بصیر.
3- (6) فی الدلیل الثالث من أدلة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد راجع صفحة 298 من هذا المجلد.
4- (7) وسائل الشیعة 21/203، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.

ثم قال الصدوق: و قد رویت رخصة فی أن یجعل الربح بینهما.(1)

و منها: صحیحة محمّد بن الحسن الصفّار قال: کتبت إلی أبی محمّد علیه السلام رجل دفع إلی رجل ودیعة، فوضعها فی منزل جاره فضاعت، هل یجب علیه إذا خالف أمره و أخرجها عن ملکه؟ فوقّع علیه السلام : هو ضامن لها إن شاء اللّه.(2)

و منها: صحیحة زُرارة قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : العاریة مضمونة؟ فقال: جمیع ما استعرته فتوی فلا یلزمک تواه إلاّ الذهب و الفضة فإنّهما یلزمان، إلاّ أن تشترط علیه أنّه متی توی لم یلزمک تواه، و کذلک جمیع ما استعرت فاشترط علیک لزمک، و الذهب و الفضة لازم لک و إن لم یشترط علیک.(3)

و منها: صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام قال: سألته عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غیره فنفقت، ما علیه؟ قال: إن کان شرط أن لایرکبها غیره فهو ضامن لها، و إن لم یسمّ فلیس علیه شیء.(4)

و منها: موثقة زید بن علی عن آبائه علیهم السلام : أنّه اُتی بجمال کانت علیه قارورة عظیمة فیها دهن فکسرها فضمّنها إیّاه، و کان یقول: کلّ عامل مشترک إذا أفسد فهو ضامن، فسألته ما المشترک؟ فقال: الذی یعمل لی و لک و لذا.(5)

و منها: معتبرة السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام : أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام سئل عن سفرة وجدت فی الطریق مطروحة، کثیر لحمها و خبزها و جبنها و بیضها و فیها سکین، فقال

ص: 464


1- (1) وسائل الشیعة 9/89، ح8، الباب 9 من أبواب من تجب علیه الزکاة.
2- (2) وسائل الشیعة 19/81، ح1، الباب 5 من أبواب کتاب الودیعة.
3- (3) وسائل الشیعة 19/96، ح2، الباب 3 من أبواب کتاب العاریة.
4- (4) وسائل الشیعة 19/118، ح1، الباب 16 من أبواب کتاب الإجارة.
5- (5) وسائل الشیعة 19/152، ح13، الباب 30 من أبواب کتاب الإجارة.

امیرالمؤمنین علیه السلام : یقوِّم ما فیها، ثم یؤکلّ لأنّه یفسد و لیس له بقاء فإن جاء طالبها غرموا له الثمن، فقیل: یا أمیرالمؤمنین لا یُدری سفرة مسلم أو سفرة مجوسّی، فقال: هم فی سعة حتّی یعلموا.(1)

و منها: صحیحة جمیل عن أبی عبداللّه علیه السلام فی شاهد الزور قال: إن کان الشیء قائما بعینه ردّ علی صاحبه، و إن لم یکن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل.(2)

و منها: حسنة سدیر عن أبی جعفر علیه السلام فی الرجل یأتی البهیمة، قال: یجلد دون الحدّ و یغرم قیمة البهیمة لصاحبها، لأنّه أفسدها علیه و تذبح و تحرق إن کانت ممّا یؤکل لحمه، و إن کانت ممّا یرکب ظهره غرم قیمتها و جُلّد دون الحدّ و أخرجها من المدینة التی فُعل بها فیها إلی بلاد اُخری حیث لاتعرف، فیبیعها فیها کیلا یعیر بها صاحبها.(3)

و منها: معتبرة السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال أمیرالمؤمنین علیه السلام فیمن قتل کلب الصید، قال: یقوّمه، و کذلک البازی، و کذلک کلب الغنم، و کذلک کلب الحائط.(4)

و منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه سئل عن رجل یمرّ علی طریق من طرق المسلمین علی دابته فتصیب برجلها، قال: لیس علیه ما أصابت برجلها، و علیه ما أصابت بیدها، لأنّ رجلیها خلفه إن رکب، فإن کان قاد بها فإنّه یملک بأذن اللّه یدها یضعها حیث یشاء، الحدیث.(5)

ص: 465


1- (6) وسائل الشیعة 25/468، ح1، الباب 23 من أبواب کتاب اللقطة.
2- (7) وسائل الشیعة 27/327، ح2، الباب 11 من أبواب کتاب الشهادات.
3- (1) وسائل الشیعة 28/358، ح4، الباب 1 من أبواب نکاح البهائم.
4- (2) وسائل الشیعة 29/226، ح3، الباب 19 من أبواب دیات النفس.
5- (3) وسائل الشیعة 29/247، ح3، الباب 13 من أبواب موجبات الضمان.

و منها: صحیحة أُخری للحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سُئل عن بُختی(1) اغتلم(2) فخرج من الدار فقتل رجلاً فجاء أخو الرجل فضرب الفحل بالسیف؟ فقال: صاحب البختی ضامن للدیة و یقتصّ ثمن بختیه، الحدیث.(3)

و منها: معتبرة السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال أمیرالمؤمنین علیه السلام : من تطبب أو تبیطر فلیأخذ البراءة من ولیّه، و إلاّ فهو له ضامن.(4)

و منها: غیر ذلک من الروایات الدالة علی ضمان المثل أو القیمی.

السادس: سیرة العقلاء

سیرة العقلاء جاریة فی الضمان إذا وضع الإنسان یده علی مال الغیر من دون إذنه و رضایته، و لایخرج من الضمان إلاّ بردّ عین المال، و فی صورة التلف بردّ الأقرب إلیها و هو فی المثلی مثلٌ و فی القیمی قیمةٌ. و لایکفی ردّ أحدهما فی موضع الآخر إلاّ برضا المالک.

هذه السیرد عند العقلاء جاریة و لم یرد فی الشریعة ردع عنها، و عدم الردع یکفی فی الإمضاء الشرعی.

السابع: الإجماع

لعلّ أوّل من تعرض له الشیخ فی المبسوط(5) و نفی الخلاف عنه فی الخلاف(6) و یأتی نص کلامه قدس سره فی الکتابین فی الفرع الآتی(7).

ص: 466


1- (4) البُختی: واحد البُخت: و هی الأبل الخراسانیة.
2- (5) الاغتلام: هیجان البعیر عند شدة الشهوة الجنسیة.
3- (6) وسائل الشیعة 29/250، ح1، الباب 14، من أبواب موجبات الضمان.
4- (7) وسائل الشیعة 29/260، ح1، الباب 24 من أبواب موجبات الضمان.
5- (1) المبسوط 3/103.
6- (2) الخلاف 3/415، مسألة 29.
7- (3) السادس.

و قد مرّ من الشهید قوله: «أطبق الأصحاب علی ضمان المثلی بمثله»(1). و صرح المحقّق الثانی(2) بالإجماع علیه، و فی ظاهر کشف الرموز(3) للفاضل الآبی و صریح سیّد الریاض(4) نفی الخلاف فیه و تبعهم ولده السیّد المجاهد فی المناهل.(5) و فی المفتاح: «یدلّ علیه بعد الإجماع»(6) و فی الجواهر: «بلاخلاف معتدبه أجده فیه، کما اعترف به بعضهم بل هو من قطعیات الفقه، کما یومی إلیه أخذه مسلَّما فی سائر أبوابه»(7).

أقول: الاجماع و إن کان محقَّقا ولکنّه مدرکیٌّ لاحتمنال أنّ مستندهم أحد الوجوه المتقدمة، فلا یکون اجماعا تعبدیا.

هذا تمام الکلام فی المقام الثانی.

المقام الثالث: حکم الشک فی کون التالف مثلیّا أو قیمیّا

التالف إذا شک فیه من أنّه مثلیٌّ إمّا لاختلاف العرف فی ذلک المسری إلی الفقهاء کیف یحکم فیه؟ ذکر الشیخ الأعظم أربعة وجوه فی حکم الشک:

الأوّل: الضمان بالمثل

الثانی: الضمان بالقیمة

الثالث: تخییر المالک بین المثل و القیمة

الرابع: تخییر الضامن بین المثل و القیمة.

ص: 467


1- (4) غایة المراد 2/398.
2- (5) جامع المقاصد 6/245.
3- (6) کشف الرموز 2/381.
4- (7) ریاض المسائل 12/23.
5- (8) المناهل /299.
6- (9) مفتاح الکرامة 18/137.
7- (10) الجواهر 37/85.

و اضطربت کلماته فی المسألة فرجّح أوّلاً تخییر الضامن بین المثل و القیمة ثم تخییر المالک لو کان الأوّل مخالفا للإجماع، ثم قوّی تخییر المالک من أوّل الأمر، ثم عاد إلی تقویة تخییر الضامن و فی ختام مقاله اختار اقتضاء أدلة الضمان ثبوت المثل فی العهدة لکونه أقرب إلی التالف.(1)

و أمّا دلیل الوجوه و مستندها:

فدلیل الوجه الأوّل: الضمان بالمثل

إذا تلف العین، الواجب علی المتلِف الضامن ابتداءً هو أداء المثل حتّی فی القیمیّات، لکونه أقرب إلی التالف، و أمّا أداء القیمة فی القیمیات فإنّما هو من باب الإرفاق للضامن، إذ لایوجد مثل للقیمیات فی الخارج غالبا.

ثم إنّ فراغ الذمه بأداء ما یحتمل تعینه قطعی و بأداء غیره مشکوک فیه، فالأصل هو عدم سقوط ما فی ذمة الضامن إلاّ بأداء المثل لأنّه إذا دارالأمر بین التعیین و التخییر وجب الأخذ بما احتمل تعیینه، هذا ما ذکره المحقّق السیّد الخوئی(2) فی المقام.

ثم ردّه(3) بأنّ: الواجب علی الضامن ابتداءً إنّما هو أداء القیمة فی القیمیات دون أداء المثل هذا أوّلاً.

و ثانیا: لایتم المبنی من أنّه إذا دارالأمر بین التعیین و التخییر وجب الأخذ بما احتمل تعیینه، لإنّه إذا کان هناک حکم واحد ودار أمره بین التعیین و التخییر - لاحتمال الأهمیّة فی التعیین - یحکم بالتخییر لأنّ تعلّقه بالجامع معلوم و بخصوص التعیین مجهول فتجری البراءة بالنسبة إلی التعیین.

ص: 468


1- (1) کما فی هدی الطالب 3/320.
2- (2) مصباح الفقاهة 3/154 و ما بعده.
3- (3) مصباح الفقاهة 3/154 و ما بعده.

نعم، إذا کان هناک حکمان و دارالأمر بین التعیین و التخییر فی مرحلة الامتثال و الفعلیة من ناحیة المزاحمة وجب الأخذ بمحتمل الأهمیة.

و ثالثا: ما ذکرنا من البراءة من التعیین یجری فی مسألتنا لأنّ ثبوت مالیة التالف فی ذمة المتلِف معلوم إلاّ أنّ ثبوت تعیّنها بخصوص المثل مشکوک فیه فتدفعه البراءة.

ثم تمسک(1) قدس سره بأنّ سیرة العقلاء جاریة علی ضمان مَنْ وضع یده علی مال غیره من

دون رضاه و إذنه أو سبب شرعی، فإن کانت العین موجودة فیجب علیه ردّها و إذا تعذر - لتلف أو نحوه - سقط عنه وجوب رد العین، و انتقل الضمان إلی المثل - و هو المشترک معه فی الذات و الصفات و المالیة من دون المشخصات الفردیة التی هی دخیلة فی التشخّص - و علی هذا فمقتضی القاعدة علی ضوء هذه السیرة هو الضمان بالمثل، إلاّ إذا ثبت کون التالف قیمیا أو کان مثلیا ولکن تعذر مثله فی الخارج فحینئذ ینتقل إلی القیمة.

و لم یثبت من الشارع الردع عن هذه السیرة العقلائیة، و عدم الردع یکفی فی الإمضاء کما هو الظاهر.

و فی العناوین: «ربّما یقال بالبناء علی أنّه مثلی لأصالة عدم تفاوت القیم و الرغبات و لأنّ المیزان فی اعتبار المثل إنّما هو کونه أقرب إلی المال المضمون بحیث یُعدّ تأدیته تأدیةً لأصل المال، و متی ما کان الشیء یشکّ فی أنّ فیه تفاوتا أم لا، صار أقرب إلی المال المضمون من القیمة قطعا، فلا وجه للعدول إلی القیمة، فهو و إن یثبت کونه مثلیّا فی الاسم لکنّه مثلیٌّ فی الحکم فتدبر»(2) ثم اختار فی فرض الشک أنّ دفع المثل یکون أقرب من دفع القیمة فراجع کلامه.(3)

ص: 469


1- (4) مصباح الفقاهة 3/156.
2- (1) العناوین 2/527.
3- (2) العناوین 2/528.

دلیل الوجه الثانی: الضمان بالقیمة

هذا الفرع - الشک فی أنّ التالف مثلیٌّ أو قیمیٌّ - یدخل فی دوران الأمر بین الأقل و الأکثر، فلابدّ من الأخذ بالأقل و رُدّ الأکثر بالأصل النافی.

لأنّ المراد بالقیمة هی المالیة المشترک بین جمیع الأموال و المراد بالمثل مضافا إلی هذه المالیة المشترکة، المماثلة فی الذات و الصفات، فنشک بأنّ الواجب علی التالف القیمة - أی المالیة المشترکة - و هی الأقل أو مضافا إلیها المماثلة فی الذات و الصفات و هی الأکثر، و الثابت فی علم الاُصول فی موارد دوران الأمر بین الأقل و الأکثر هو جریان البراءة من الأکثر و تعیّن الأقل و هو هنا القیمة.

اعترض علی هذا الاستدلال المحقّق السیّد الخوئی(1) رحمه الله و ذهب إلی أنّ أنّه مبنیٌّ علی أنّ المراد من القیمة هی المالیة المشترکة الساریة فی الأموال کلّها فإنّه علی هذا یجوز للمتلِف

أن یؤدی عن التالف أیّ شیءٍ أراده مِنْ أمواله إذا کانت تساوی فی القیمة قیمة التّالف.

و هذا التفسیر من القیمة خلاف ما هی المرتکز فی الأذهان و المتسالم علیها و المتبادر منها هی المالیة الخاصة أی النقود الرائجة بین الناس من الریالات و الدنانیر و الدراهم و الدلارات و نحوها.

فیکون الدوران بین المثل و القیمة من دوران الأمر بین المتباینین - لا الأقل و الأکثر - و لابدّ فیه من الاحتیاط أی أداء الجمع بین المثل و القیمة و هو خلاف الإجماع.

ربما یقال(2) فی اثبات القیمة: أنّها الأصل فی مورد الشک، لأصالة عدم تساوی الرغبات و لکون الغالب فی الشیئین الاختلاف، فالمشکوک یلحق به - أی بالغالب -، و لأنّ

ص: 470


1- (3) مصباح الفقاهة 3/157.
2- (1) ذکره صاحب العناوین مع ذیله فی کتابه 2/527.

القیمة دفع لما یقابل المضمون فی المالیة قطعا، بخلاف المثلی لاحتمال النقیصة فلا یحصل الیقین بالبراءة.

ان قلت: إنّ مع دفع القیمة أیضا لایحصل الیقین، لاحتمال کونه مثلیّا موجبا لدفع مثله من الأعیان، فیفوت الخصوصیة - المماثلة فی الذات و الصفات - علی صاحبها.

قلت: غایة ما فی الباب تعارض احتمال فوات خصوصیة العین - المماثلة فی الذات و الصفات - مع احتمال فوات المالیة، و لاریب أنّ الثانی أهم، إذ الغالب فی المالیات إنّما هی جهة المالیة، و الخصوصیة مع حصول المالیة لایعتنون بها، بخلاف العکس، فمراعاة جهة المالیة توجب دفع القیمة، لأنّه أقرب إلی البراءة.

دلیل الوجه الثالث: تخییر المالک بین المثل و القیمة

أنّ ما اختاره المالک إمّا هو البدل الواقعی فهو مسقِطٌ لما فی ذمة الضامن، و إمّا هو بدل البدل فهو أیضا مسقِطٌ لما فی ذمة الضامن المتلِف لرضایة المالک به فی اختیاره له، ففی اختیار المالک یسقط ذمة الضامن بلاریب.

دلیل الوجه الرابع: تخییر الضامن بین المثل و القیمة

الضامن المتلف یعلم باشتغال ذمّته بأحد أمرین: المثل أو القیمة، و مقتضی الاحتیاط اللازم فی الأموال هو تحصیل القطع بالبراءة - لأنّ المورد یکون من دوران الأمر بین المتباینین - و لایحصل إلاّ بأداء کلا الأمرین لِتَحْصَلَ الموافقة القطعیة.

ولکن الإجماع و ضرورة الفقه و قاعدة لاضرر تنفی أداء کلا الأمرین فإذن الضامن

مخیر بین أداء المثل أو القیمة، أیّهما شاء.

واعترض المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله علی مستند کلا الوجهین الأخیرین بقوله: «إنّ اشتغال الذمة بالمثل أو القیمة واقعا و قیام الإجماع و الضرورة علی عدم وجوب أدائهما معا لایقتضیان تخییر الضامن بین أداء المثل و القیمة و لاتخییر المالک فی استیفاء أیّهما شاء، بل

ص: 471

یمکن تعیین ما فی الذمة بالصلح القهری، بأن یرجع الضامن و المالک کلاهما إلی الحاکم، فیلزمهما بالصلح إن لم یکن - هنا - ما یتعیّن به الضمان بالمثل أو القیمة.

و یمکن أن یرجع فی تعیین أحد الأمرین إلی القرعة، بناءا علی جریانها فی کلّ أمر مشکل ولو کان فی الشبهات الحکمیة، ولکن الظاهر تسالمهم علی عدم جریانها فی الشبهات الحکمیة، و علیه فلا مناص عن الرجوع إلی الحاکم فیلزمهما بالصلح إن لم یکن - هنا - ما یتعیّن به الضمان بالمثل أو القیمة»(1).

ثم إنّ هنا احتمالات لم یذکرها الشیخ الأعظم رحمه الله یظهر اثنان منها ممّا مرّ و هما:

«أ: المصالحة للعلم باشتغال الذمة بأمر مجهول لاسبیل إلی بیانه.

ب: و الرجوع إلی القرعة، بناءً علی جریانها فی الشبهات الحکمیة، ولکنها خلاف متسالم علیه فیها.

و أمّا الإثنان الآخران فهما:

ج: أداء أکثرهما قیمة و تموّلاً و مالیةً لقاعدة الاشتغال و لزوم خروج العهدة منها.

د: أداء أقلّهما قیمة و مالیة و تموّلاً ترجیحا لأصل البراءة. ذکرها صاحب العناوین.(2)

ولکن قد مرّ منّا أنّ الأصل فی صورة الشک بینهما - المثلی أو القیمی - هو المثلی إمّا لجریان سیرة العقلاء کما هو المختار أو للاستصحاب کما ذکره المحقّق النائینی(3) رحمه الله أو للأدلة الاجتهادیة کما ذکره الشیخ الأعظم(4) قدس سره .

ص: 472


1- (1) مصباح الفقاهة 3/159.
2- (2) العناوین 2/528.
3- (3) منیة الطالب 1/291.
4- (4) المکاسب 3/217.

أمّا الاستصحاب: لأنّ ذمة الضامن اشتغل بالمثل أوّلاً و إذا تعذر المثل ینتقل إلی القیمة، و فی صورة تردید الانتقال إلی القیمة یستصحب اشتغال الذمة إلی المثل.

و فیه: بعد فرض جریان السیرة یحصل العلم و لایکون موردا للشک بحیث یجری الاستصحاب.

و أمّا الأدلة الاجتهادیة: و هی اطلاقات الضمان فی المغصوبات و الأمانات فهی القول بالضّمان بالمثل لأنّه أقرب إلی التالف من حیث المالیة و الصفات ثم بعده القیمة.

و فیه: ما مرّ من أنّ القیمة تدخل فی الاطلاقات فی عرض المثل لا فی طوله، فما ذکره قدس سره لایتم، و بهذا البیان یظهر اشکال آخر فی الاستصحاب.

السادس: هل یجب أداء المثل مع زیادة قیمته؟
اشارة

قال الشیخ فی المبسوط: «إذا غصب مالاً لرجلٍ فتلف فی یده لم یخل من أحد أمرین إمّا أن یکون له مثل أو لامثل له، فإن کان له مثل فعلیه مثل ما تلف فی یده یشتریه بأیّ ثمن کان، و یدفعه إلی المالک إجماعا، و إن کان ممّا لامثل له کالثیاب و الحیوان فعلیه قیمته أکثر ما کانت قیمته من حین الغصب إلی حین التلف، لأنّه مأمورٌ بردّه فی کلّ وقت، فوجب علیه قیمته إذا تعذّر»(1).

و قال فی الخلاف: «إذا غصب ما له مثل کالحبوب و الأدهان فعلیه مثل ما تلف فی یدیه، یشتریه بأیّ ثمن کان بلاخلاف...»(2).

و قال ابن ادریس فی السرائر: «فأمّا ما له مثل فعلیه مثله یوم المطالبة تغیّرت الأسعار أو لم تتغیّر...»(3).

ص: 473


1- (1) المبسوط 3/103.
2- (2) الخلاف 3/415، مسألة 29.
3- (3) السرائر 2/490.

و تنظّر العلاّمة فی القواعد و قال: «ولو تعذّر المثل إلاّ بأکثر من ثمن مثله ففی وجوب الشراء نظر»(1).

و قال فی التذکرة: إذا أتلف المثلی وجب علیه تحصیل المثل، فإن وجده بثمن المثل وجب علیه شراؤه بلاخلاف، و إن لم یجده إلاّ بأزید من ثمن المثل ففی إلزامه بتحصیله إشکال، ینشأ من أنّ الموجود بأکثر من ثمن المثل کالمعدوم کالرقبة فی الکفارة و الهدی، و من أنّ المثل کالعین، و ردُّ العین واجب و إن لزم فی مؤونته أضعاف قیمته. و للشافعیة وجهان: أظهرهما الأخیر، و ربّما یمکن الفرق بین المثل و العین بأنّه تعدّی فی العین دون المثل فلا یأخذُ

المثل و حُکمَ العین»(2).

أقول: یمکن حمل هاتین العبارتین من العلاّمة علی الصورة الثانیة من الفرض کما سیأتی.

ولکن قال فی التحریر: «ولو وجد المثل بأکثر من ثمن المثل فالوجه وجوب الشراء...»(3).

و تبع جماعة مقالة التحریر منهم: ولده فی الإیضاح قال: «و الأقوی وجوب الشراء بالأکثر»(4).

و منهم: الشهید فی الدروس قال: «ولو تعذّر المثل إلاّ بأضعاف قیمته کلِّف الشراء علی الأقرب»(5).

ص: 474


1- (4) القواعد 2/228.
2- (1) تذکرة الفقهاء 2/384 من الطبع الحجری.
3- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 4/529.
4- (3) إیضاح الفوائد 2/178.
5- (4) الدروس الشرعیة 3/113.

و منهم: المحقّق الثانی فی جامع المقاصد قال: «... و الأصح الوجوب، فإنّ الضرر لایزال بالضرر، و الغاصب مؤاخذ بأشق الأحوال فلا یناسبه التخفیف و هو الأصح»(1).

و منهم: الفقیه المتتبع العاملی قال فی مفتاح الکرامة: «و الأقرب الوجوب...»(2).

و منهم: الشیخ الأعظم فی بیع مکاسبه قال: «... ولکن الأقوی مع ذلک وجوب الشراء...»(3).

ولکن مع ذلک ردّ صاحب الجواهر وجوب الشراء حینئذ و قال ردّا علی حکم العلاّمة بوجوب الشراء فی التحریر بقوله: «و فیه: إنّه منافٍ لمادلّ علی نفی الضرار و الحرج فی الدین، و الخروج عنه فی خصوص ردّ العین المغصوبة لایقتضی الخروج عنه فی مثلها، فالمتجه جعل المدار علی ذلک، و اللّه العالم»(4).

أقول: زیادة القیمة السوقیة تُتَصَوَّرُ علی صورتین:

الصورة الاُولی: زیادة قیمتها السوقیة مع رواجها فی السوق و کثرة بائعها ولکن

ارتفعت القیمة و صارت بأضعاف قیمة التالف یوم تلفه، فحینئذ یجب الشراء و الأداء.

قال الشیخ الأعظم فی وجه وجوب الشراء فی هذه الصورة: «عموم النص و الفتوی بوجوب المثل فی المثلی و یؤیده فحوی حکمهم بأنّ تنزّل قیمة المثل حین الدفع عن یوم التلف لایوجب الانتقال إلی القیمة، بل ربّما احتمل بعضهم(5) ذلک مع سقوط المثل فی زمان

ص: 475


1- (5) جامع المقاصد 6/260.
2- (6) مفتاح الکرامة 18/183.
3- (7) المکاسب 3/224.
4- (8) الجواهر 37/97.
5- (1) و هو العلاّمة فی القواعد 2/228 و مال إلی هذا الاحتمال فی الجواهر 37/99، کما مرّ فی الرابع من مناقشات الشیخ الأعظم فی دلالة آیة الاعتداء، و کذا جوابه هناک فی صفحة 452 و ما بعدها.

الدفع عن المالیة کالماء علی الشاطیء و الثلج فی الشتاء»(1).

و یمکن أن یضاف إلی هذه الأدلة بعد المناقشة فی الإجماع المذکور فی کلام شیخ الطائفة لاحتمال کونه مدرکیا، السیرة العقلائیة و هی تدل علی لزوم الشراء ولو بزیادة القیمة السوقیة.

الصورة الثانیة: زیادة القیمة لأجل تعذّر المثل و عدم وجدانه إلاّ عند من یعطیه بأزید ممّا یرغب فیه الناس مع وصف الإعواز و أنّه یبیع المثل بأضعاف قیمته فهل الموجود بأکثر من ثمن المثل یکون کالمعدوم نحو الرقبة فی الکفارات و الحیوان فی الهدی(2)، و أنّه یمکن معاندة البائع و طلب أضعاف القیمة و هو ضرر(3)، أو یجب علیه الشراء حینئذ لعین ما ذکر فی الصورة الاُولی من الأدلة؟

ذهب الشیخ الأعظم إلی وجوب الشراء ولکنّه لایتم لحکومة قاعدة لاضرر علیه لأنّ وجوب شراء المثل بأضعاف من قیمته الواقعیة یعدّ ضررا علی الضامن المتلِف، و قاعدة لاضرر تنفیه و تحکم بعدم وجوبه و انتقال الضمان إلی القیمة. و یمکن حمل عبارتی العلاّمة فی التذکرة و القواعد علی هذه الصورة الثانیة کما مرّ.

لا یقال: الغاصب یؤخذ بأشق الأحوال و قد مرّ عدم الفرق بین الغصب و المقبوض بالعقد الفاسد إلاّ فی الإثم، فیجب علیه الشراء ولو کانت القیمة أضعافا مضاعفا من قیمة المثل، کما علیه المحقّق الثانی.(4)

ص: 476


1- (2) المکاسب 3/223.
2- (3) کما فی تذکرة الفقهاء 2/384.
3- (4) کما فی کنز الفوائد 1/661 للسیّد عمیدالدین ابن اخت العلاّمة الحلّی و تلمیذه، و جامع المقاصد 6/260 للمحقّق الکرکی.
4- (5) جامع المقاصد 6/260.

لأنا نقول: لادلیل علی أخذ الغاصب بأشق الأحوال فلا یجب الشراء حتّی فی الغصب فی هذه الصورة فکیف بالمقبوض بالعقد الفاسد.

لا یقال: أدلة نفی الضرر تنفیْ الأحکام التکلیفیّة، لامقدماتها و من المعلوم أن شراء یکون من مقدمات أداء الضمان، و وجوب المقدمة عقلیٌّ و لیس بشرعیٍّ حتّی تنفیه قاعدة لاضرر.

لأنا نقول: أدلة لاضرر تنفی الحکم النا شیء من قبله الضرر بلافرق بین أصل الحکم أو مقدماتها و لذا تری یحکم بعدم وجوب الحج علی من یقدر علی الإتیان بمناسکه ولکن کانت مقدماته ضرریّة علیه، و لافرق فی ذلک بین القول بأن وجوب المقدمة عقلیّ - کما هو الصحیح - أو أنّ وجوبها شرعیّ.

تنبیه: فی نقصان القیمة السوقیة

ثم إذا عکس الأمر و نقصت القیمة السوقیة للمثل فهل ینتقل الضمان من المثل إلی القیمة الأوّلیة الزائدة؟

الظاهر عدم انتقال الضمان إلی القیمة الأوّلیة الزائدة و علیه شراء المثل ولو بالقیمة النازلة و أدائه، و بالجملة إذا کانت العین مثلیّا، فیجب علی التالف أداؤُهُ بلافرق بین أن نزلت قیمته السوقیة أو صعدت.

نعم: إذا سقطت من المالیة رأسا کالثلج فی الشتاء و الماء عند البحر یرجع إلی القیمة کما مرّ سابقا، و کذلک فی صعود القیمة فی الصورة الثانیة ینتقل الضمان إلی القیمة کما مر آنفا.

فرع: هل یجوز مطالبة المالک بالمثل فی غیر مکان التلف ولو کانت قیمته أزید من قیمته فی مکان التلف؟

إذا تلفت شاة مثلاً من المالک فی القریة المسکونة ثم سافرا - المالک و التالف - معا إلی حج بیت اللّه الحرام، هل یجوز للمالک مطالبة قیمة شاته من التالف الضامن فی یوم عید

ص: 477

الأضحی بمنی لیجعلها هَدْیَهُ أم لا؟

ذهب الشیخ الأعظم(1) إلی جواز هذه المطالبة ولو کانت قیمتها أزید من قیمتها فی مکان التلف، تبعا لجماعة من الفقهاء:

منهم: ابن ادریس الحلّی قال فی السرائر: «... و لأنّ المغصوب منه لایجب علیه

الصبر إلی حین العود إلی مصر، بل یجب علی الغاصب ردّ مثل الغصب إن کان له مثل، أو قیمته إن لم یکن له مثل، فإنّ هذا الذی یقتضیه عدل الإسلام و الأدلة و لایعرج إلی خلافه بالآراء و الاستحسان»(2).

و منهم: العلاّمة قال فی المختلف: «... فی الغصب و القرض له المطالبة بالمثل أین کان و بالقیمة إن لم یکن له مثل و متی تغیّرت القیمة...»(3).

و کذلک ذهب إلی جواز المطالبة فی تذکرة الفقهاء(4) و القواعد(5).

و منهم: ولده الفخر فی الإیضاح قال: «و الأصح عندی اختیار والدی»(6).

و منهم: الشهید قال فی الدروس: «ولو ظفر المالک بالغاصب فی غیر بلد الغصب فله المطالبة بالمثل أو القیمة و إن کان فی نقله مؤنة أو کانت القیمة أزید...»(7).

و منهم: المحقّق الثانی قال فی جامع المقاصد بعد نقل قول ابن ادریس: «... و الأصح الأوّل [أیّ قول ابن ادریس] لأنّ الحقّ فوری و تأخیر الأداء ضرر، و الضرر لایزال

ص: 478


1- (1) المکاسب 3/224.
2- (1) السرائر 2/491.
3- (2) مختلف الشیعة 6/128.
4- (3) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
5- (4) قواعد الأحکام 2/228.
6- (5) ایضاح الفوائد 2/176.
7- (6) الدروس الشرعیة 3/114.

بالضرر، و حقّ الغاصب المؤاخذة بالأشق دون الإرفاق بحاله»(1).

مراده من «الضرر لایزال بالضرر»: «أیّ «إذا تعارض الضرران فی الغصب فالترجیح لنفی ضرر المالک، إذ الضرر المنفی إنما هو من شرع الحکم، و الغاصب هنا أدخله علی نفسه، مضافا إلی أنّه یؤخذ بالأشق لا بالرفق». کما فی مفتاح الکرامة.(2)

ثم الشیخ الأعظم زاد فی استدلال ابن ادریس بقوله: «لعموم الناس مسلطون علی أموالهم»(3).

أقول: نعم الناس مسلطون علی أموالهم و للمالک المطالبة بماله بأیّ بلد شاء مشروطا بتساوی قیمته السوقیة مع بلد التلف أو الغصب أو القرض بلافرق بین المثلیات و القیمیات أو کونها أقل قیمة فی بلد المطالبة، و أمّا إذا کانت قیمته أکثر و المتلِف الضامن لایرضی

بالزیادة، فلا یمکن إجباره علی الشراء أو الأداء لأنّه ضرر علیه و الضرر منفی فی الشریعة المقدسة بلافرق بین الغاصب أو المقروض أو القابض - فی مسألتنا - أو المتلِف، فما ذکره أعلام الفقهاء یرد بقاعدة لاضرر حتّی بالنسبة إلی الغاصب لما مرّ من عدم تمامیة أنّه یؤخذ بأشق الأحوال و لذا فی هذا الفرع نحن نتبع مقالة الشیخ فی المبسوط و هو کلام متین حیث یقول: «إذا غضب منه مالاً مثلاً بمصر فلقیه بمکّة فطالبه به لم یخل من أحد أمرین إمّا أن یکون لنقله مؤنة أو لامؤنة لنقله، فإن لم یکن لنقله مؤنة کالأثمان فله مطالبته به سواء کان الصرف فی البلدین متّفقا أو مختلفا لأنّه لامؤنة فی نقله فی العادة، و الذهب لایقوَّم بغیره و الفضة لایقوَّم بغیرها إذا کانا مضروبین.

و إن کان لنقله مؤنة لم یخل من أحد أمرین: إمّا أن یکون له مثل أو لامثل له، فإن کان

ص: 479


1- (7) جامع المقاصد 6/256.
2- (8) مفتاح الکرامة 18/177.
3- (9) المکاسب 3/225.

له مثل کالحبوب و الأدهان نظرت، فإنْ کانت القیمتان فی البلدین سواء، کان له مطالبته بالمثل لأنّه لاضرر علیه فی ذلک، و إن کانت القیمتان مختلفین، فالحکم فی ما له مثل و فی ما لامثل له سواء فللمغصوب منه إمّا أن یأخذ من الغاصب بمکة قیمته بمصر، و إمّا أن یدع حتّی یستوفی ذلک منه بمصر، لأنّ فی النقل مؤنة و القیمة مختلفة، فلیس له أن یطالبه بالفضل، فإن صبر فلا کلام، و إن أخذ القیمة ملکها المغصوب منه، و لم یملک الغاصب ما غصب، لأنّ أخذ القیمة لأجل الحیلولة لا بدلاً» عن المغصوب کما لو غصب عبدا فابق فأخذنا منه قیمته فإنّ القیمة تملک منه، و لایملک الغاصب العبد، فإن عاد إلی مصر و الشیء قائم بحاله انتقض ملکه عن القیمة التی أخذها و عاد إلی عین ماله کما قلناه فی العبد الآبق.

هذا الکلام فی الغصب فأمّا الکلام فی القرض فالحکم فیه کالحکم فی الغصب سواء لایفترقان...»(1).

و تبعه القاضی ابن البراج فی المهذب.(2)

حدیث بدل الحیلولة لایجری فی بحثنا - المقبوض بالعقد الفاسد - لأنّها مختص بوجود العین و کلامنا فی فرض تلفها و لذا قال العلاّمة فی القواعد: «ولو غرم القیمة ثم قدر علی المثل فلا یرد القیمة، بخلاف القدرة علی العین»(3).

فرع آخر: لو أعطی الضامن فی مکان کان قیمته أقل من قیمة مکان التلف فهل

للمالک الامتناع من القبض؟

لو انعکس الفرع السابق و تنزّلت قیمة المثل فی مدینة و استفاد الضامن من الفرصة و اشتری المثل بالقیمة النازلة و أعطاها للمالک، فهل یجب علی المالک القبول؟ أو یجوز له

ص: 480


1- (1) المبسوط 3/76.
2- (2) المهذب 1/443.
3- (3) القواعد 2/228.

الامتناع من القبول، لأنّ مکان التلف غیر مکان الإعطاء؟ وجهان ذکرهما المحقّق الثانی من دون ترجیح و قال: «لو ظفر المالک بالغاصب فی غیر محل الغصب أو الإتلاف للمثلی، و کانت قیمته أقل من قیمة مکان الغصب فهل للمالک الامتناع من قبض البدل إلی موضع الإتلاف، خصوصا إذا کان حمله یحتاج إلی مؤونة و کان غیر بلده؟ فیه تردد»(1).

أقول: لایجب علیه القبول لأنّ فیه ضررا علیه و قاعدة لاضرر تنفیه فیجوز له الامتناع کما ذهب إلیه صاحب المفتاح و قال: «و لعلّ الأشبه أن له ذلک»(2). [أیّ للمالک الامتناع].

السابع: لو تعذّر المثل فی المثلی
اشارة

یقع البحث هنا فی ضمن جهاتٍ:

الجهة الاولی: متی ینقلب الضمان من المثل إلی القیمة؟

فی فرض إعواز المثل و تعذّر الوصول إلیه و مطالبة المالک بماله ینقلب الضمان من المثل إلی القیمة جمعا بین الحقّین - أی حقّ المالک من المطالبة بماله و حقّ الضامن حیث تکلیفه بالمثل مع إعوازه یعدّ تکلیفا بما لایطاق أو ضررا منفیّا فی الشریعة المقدسة، فینتقل الضمان من المثل إلی القیمة.

قال فی المفتاح: «إنّه ینتقل إلی القیمة عند التعذر فهو ممّا طفحت به عباراتهم کما ستسمع، بل إجماعیٌّ، و لعلّ دلیله بعده أنّ الضرر منفی، و أنّ تکلیف ما لایطاق غیر جائز و إنّ فی تأخیر الحقّ إضرارا أیضا فتعیّنت القیمة جمعا بین الحقّین»(3).

و قال فی الجواهر تذییلاً لقول المحقّق: «فإن تعذّر المثل ضمن قیمته»: «أی المثل

ص: 481


1- (1) جامع المقاصد 6/258.
2- (2) مفتاح الکرامة 18/177.
3- (3) مفتاح الکرامة 18/143.

بلاخلاف أجده فیه، بل قیل: إنّه إجماعیٌّ، لنفی الضرر و قبح التکلیف بما لایطاق و الإضرار بتأخیر الحقّ فتعینت القیمة المزبورة جمعا بین الحقّین.

لکن قد یناقش إن لم یکن إجماعا بأنّ ذلک لا یقتضی وجوب القبول علی المالک لو

دفع الغاصب، فإنّ له التأخیر إلی حال التمکن من المثل.

اللهم إلاّ أن یکون ذلک ضررا علی مَنْ علیه الحقّ ولو باعتبار بقاء ذمّته مشغولة بناءً علی أن مثله ضرر منفی أیضا، و فیه تأمل.

أو یقال: أنّه مقتضی قوله علیه السلام : المغصوب مردود(1) بناءً علی ارادة ما یشمل ردّ المثل أو القیمة من الردّ فیه، فیکون ذلک تکلیفا للغاصب، فیجب القبول علی من له الحقّ مع دفع الحقّ.

هذا، و قد یظهر من بعض عبارات التذکرة(2) و الإیضاح(3) عدم وجوب القبول علیه و أنّ له التأخیر إلی وجدان المثل، فیملک المطالبة و حینئذ یرتفع الاشکال من أصله»(4).

أقول: مراده من بعض عبارت التذکرة هو هذا الکلام من العلاّمة ففیه: «إنّ المثل لایسقط بالإعواز، ألا تری أنّ المغصوب منه لو صبر إلی وجدان المثل ملک المطالبة به؟ و إنّما المصیر إلی القیمة وقت تغریمها»(5). و کذا فی الإیضاح(6) إلی قوله «المطالبة به» فقط.

ص: 482


1- (1) وسائل الشیعة 9/524، ح4، الباب 1 من أبواب الأنفال، مرسلة حماد بن عیسی و فیه: «الغصب کلّه مردود»، وسائل الشیعة 25/386، ح3، الباب 1 من أبواب کتاب الغصب.
2- (2) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
3- (3) ایضاح الفوائد 2/175.
4- (4) الجواهر 37/94.
5- (5) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
6- (6) ایضاح الفوائد 2/175.

و قال الشیخ الأعظم: «لکن أطلق کثیر منهم الحکم بالقیمة عند تعذر المثل، و لعلّهم یریدون صورة المطالبة و إلاّ فلا دلیل علی الاطلاق.

و یؤید ما ذکرنا: أنّ المحکی(1) عن الأکثر فی باب القرض أن المعتبر فی المثل المتعذر قیمته یوم المطالبة، نعم عبر بعضهم(2) بیوم الدفع فلیتأمل»(3).

أقول: من الأکثر ابن إدریس قال فی قرض السرائر: «... بل له المطالبة بمثله إن کان له المثل أو بقیمته إن أعوز المثل یوم المطالبة، لایوم إقباض القرض...»(4).

و فی قرض جامع المقاصد قال: «... و لاوجوب إلاّ بالمطالبة و هو المفهوم من فتوی الدروس(5) فإنّه صرح فیه بوجوب قیمتها وقت الدفع، لاوقت التعذر و لاوقت القرض و لایرید بها إلاّ قیمة وقت المطالبة و إن کان فی عبارته تساهل و ما اختاره هو الأصح»(6).

و قال فی قرض الکفایة: «و کلّ ما کان مثلیا یثبت فی الذمة مثله... و مع تعذر المثل ینتقل إلی القیمة، و فی اعتبارها یوم القرض أو التعذر أو المطالبة أوجه، و لعلّ الأخیر أوجه»(7).

فیظهر إلی هنا الاتجاهان فی المقام:

الاتجاه الأوّل: أنّ انتقال المثل إلی القیمة مشروط بشرطین: 1- إعواز المثل، 2- مطالبة المالک بالقیمة بحیث لو لم یطالب و صبر علی وجدان المثل یبقی المثل علی ذمة

ص: 483


1- (7) الحاکی هو السیّد محمّد جواد العاملی فی المفتاح 15/150.
2- (8) العلاّمة فی المختلف 5/392.
3- (9) المکاسب 3/227.
4- (10) السرائر 2/60.
5- (1) راجع الدروس 3/314 و 321.
6- (2) جامع المقاصد 5/42.
7- (3) الکفایة 1/530.

الضامن کما یظهر من ابن ادریس و العلاّمة و ولده و الکرکی و السبزواری و مال إلیه صاحب الجواهر و الشیخ الأعظم کما مرّ منْ کلماتهم.

و کذلک یظهر هذا الاتجاه من أصحاب أبی حنیفة(1) و المالکیة(2) و الشافعیة(3).

الاتجاه الثانی: انقلاب المثل إلی القیمة له شرط واحد و هو إعواز المثل فقط بلافرق بین مطالبة المالک و عدمه، بل لیس له الامتناع من أخذ القیمة إذا أعطاها الضامن و الصبر علی وجدان المثل.

یظهر هذه الاتجاه لکلّ مَنْ ذهب إلی الانقلاب من دون تقییده بالمطالبة من فقهائنا، کما یظهر ذلک من بعض فقهاء الشافعیة و أبی یوسف من الحنفیة و أبی قدامة و المقدسی من الحنابلة(4).

و صرح بهذا الاتجاه الفقیه السبزواری قال فی مهذبه: «یجب علیه دفع القیمة فعلاً و یجب علی المالک قبولها، لأنّ القیمة عند تعذر المثل کنفس المثل فی جمیع الجهات إلاّ ما خرج

بالدلیل... إذ المناط فی الکلّ هو تدارک المالیة و هو موجود فی الجمیع موضوعا مترتبا فیکون کذلک حکما، فلیس للمالک الامتناع عن القبول خصوصا مع تضرر الغاصب بذلک»(5).

أقول: المختار هو الاتجاه الأوّل، لأنّ للمالک الصبر إلی حین وجدان مثل ماله کما أنّ له

ص: 484


1- (4) راجع مبسوط السرخسی 11/50 و البنایة فی شرح الهدایة لأبیمحمّد بن احمد العینی 8/344.
2- (5) شرح الخرشی 6/133.
3- (6) تکملة المجموع 14/61 للمطیعی.
4- (7) راجع تکملة المجموع 14/61، المبسوط للسرخسی 11/50، مغنی المحتاج 5/421 لابن قدامة.
5- (1) مهذب الأحکام 21/37.

أخذ القیمة و الدلیل علیه عموم الناس مسلطون علی أموالهم، فالانقلاب من المثل إلی القیمة مشروط بشرطین: 1- إعواز المثل 2- مطالبة المالک و عدم صبره إلی وجدان المثل.

الجهة الثانیة: أیّ قیمة یدفع الضامن إلی المالک؟

قال فی القواعد، «ولو تلف المثلی فی ید الغاصب و المثل موجود فلم یغرمه حتّی فُقد، ففی القیمة المعتبرة احتمالات.

(أ): أقصی قیمته من یوم الغصب إلی التلف، و لا اعتبار بزیادة قیمة الأمثال.

(ب): أقصی قیمته من وقت تلف المغصوب إلی الإعواز.

(ج): أقصی القیم من وقت الغصب إلی الإعواز.

(د): أقصی القیم من وقت الغصب إلی وقت دفع القیمة.

(ه): القیمة یوم الإقباض»(1).

و أنهی العلاّمة الأقوال فی التذکرة(2) إلی عشرةٍ مع التنبیه علی أنّها هی الوجوه التی ذکرها الشافعیة، و قد أنهاها العلاّمة الشیخ محمّد الحسین کاشف الغطاء قدس سره إلی خمسة و أربعین وجها(3) لایهمنا ذکرها.

و القول المختار عند أصحابنا هو القیمة یوم الإقباض - أیّ قبض المالک القیمة - کما علیه أصحاب الخلاف(4) و المبسوط(5) و الغنیة(6) و السرائر(7) و الشرائع(8) و التحریر(9) و

ص: 485


1- (2) القواعد 2/227.
2- (3) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
3- (4) راجع کتابه النظر الثاقب /37 و هی تعلیقته و تعلیقة أخیه الفقیه الکبیر الشیخ أحمد علی المکاسب.
4- (5) الخلاف 3/395.
5- (6) المبسوط 3/60.
6- (7) الغنیة /278.
7- (8) السرائر 2/480.
8- (9) الشرائع 3/188.
9- (10) التحریر 4/529.

التذکرة(1) و الدروس(2) و جامع المقاصد(3) و المسالک(4) و مجمع الفائدة(5) و هو قضیة کلام من اقتصر علی لزوم القیمة یوم الاقباض کالإرشاد(6) و غایة المراد(7).

قال الفقیه المتتبع السیّد العاملی: «و الحاصل إنّی لو أجد مخالفا منّا فی ذلک بل و لا متأمّلاً فی هذا الباب إلاّ قوله فی الإیضاح(8): إنّ الاحتمال الرابع أصح، و إلاّ قوله فی المفاتیح(9): و قیل: وقت الأعواز. فما فی المسالک(10) و الکفایة(11) من أنّه الأشهر أو الأظهر بین الأصحاب، و کذا الریاض(12) لم یصادف محلّه. و قد یتوهم من عبارة التذکرة أنّ الشیخ مخالف و لیس کذلک، ما ذکر فیما یأتی من الکتاب [قواعد الأحکام] و المسالک و الکفایة من الأوجه الأربعة الاُخر فسیأتی الکلام فیها - إن شاء اللّه تعالی - علی أنّها لیست أیضا لأحدٍ منّا فی الباب، و إنّما هی أحد الوجوه العشرة التی ذکرها الشافعیة ذکرها فی

ص: 486


1- (1) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
2- (2) الدروس 3/113.
3- (3) جامع المقاصد 6/245.
4- (4) المسالک 12/184.
5- (5) مجمع الفائدة 10/527.
6- (6) إرشاد الاذهان 1/446.
7- (7) غایة المراد 2/398.
8- (8) إیضاح الفوائد 2/175.
9- (9) مفاتیح الشرائع 3/172.
10- (10) المسالک 12/185.
11- (11) الکفایة 2/640.
12- (12) ریاض المسائل 14/26.

التذکرة...»(1).

أقول: فالقول المختار عند أصحابنا الإمامیة هو قیمة یوم الأداء المعبر عنه بیوم الإقباض عندهم أو یوم المطالبة أو یوم الدفع و الکلّ واحد و الوجه فی ذلک بقاء المثل فی عهدة الضامن بعد تلف العین إذا کانت مثلیّة حتّی بعد الإعواز(2)، فلاوجه لتوهم انتقال الضمان إلی القیمة بعد تلف العین و قبل یوم الأداء.

إن قلت: إنّ الضمان لابدّ أن ینتقل إلی القیمة عند إعواز المثل فی الخارج و إلاّ ینتقل

إلی المثل أیضا عند تلف العین الشخصیة.

قلت: انتقال الضمان إلی المثل بعد تلف العین أمر قهریٌ، لأنّ لامعنی لبقائها فی الذمة بعد التلف، بخلاف المثل لأنّه أمر کلّیٌّ قابل للبقاء فی الذمة إلی حین الأداء - کما یظهر من المحقّق السیّد الخوئی(3) قدس سره -

و لذا لایهمّنا التعرض للأقوال و النقض و الإبرام فیها کما فعله الشیخ الأعظم(4) رحمه الله و کذلک لایهمّنا التعرض لتأسیس الأصل فی المقام لکی یکون مرجعا إذا لم یتعین أحد الأقوال کما صنعه المحقّق الاصفهانی(5) رحمه الله .

الجهة الثالثة: انقلاب الضمان إلی القیمة هل یختص بالتعذر الطاریء أم یعمّ الابتدائی؟

قال الشیخ فی المبسوط: «... فإذا ثبت أنّه یضمن بالمثل فإن کان المثل موجودا طالبه

ص: 487


1- (13) مفتاح الکرامة 18/144.
2- (14) کما هو مختار الشیخ الأعظم أیضا راجع المکاسب 3/239.
3- (1) مصباح الفقاهة 3/165.
4- (2) المکاسب 3/(234-227).
5- (3) حاشیة المکاسب 1/376.

به و استوفاه، و إن أعوز المثل طالبه بقیمته...»(1).

و قال العلاّمة فی القواعد: «ولو تلف المثلی فی ید الغاصب - و المثل موجود فلم یغرمه حتّی فقد - ففی القیمة المعتبرة احتمالات...»(2).

و نحوها فی تذکرة الفقهاء(3) و التحریر(4).

و کذا یظهر طریان العذر من ولده فخر المحقّقین حیث یقول: «اختصاص المثلی بالمثل مع وجوده، و غیره بالقیمة»(5).

من تقییده بقوله «مع وجوده»، یظهر اعتبار طریان العذر عنده قدس سره .

و صرح بهذا المحقّق الکرکی فی جامع المقاصد: «لو لم یکن المثل موجودا وقت التلف فالظاهر أنّ الواجب قیمة التالف، أمّا مع وجوده و عدم التغریم إلاّ بعد فقده فإنّه استقر فی الذمة فیرجع إلی القیمة...»(6).

و قال صاحب المفتاح: «و التقیید بوجود المثل عند التلف و عدم التسلیم له إلی أن فَقَدَ، قد وقع فی التذکرة و المسالک(7) و الکفایة(8) و وجهه أنه حینئذ یکون قد استقرّ فی ذمّته فیرجع إلی قیمته و فی تعیّنها احتمالات، و قضیة ذلک أنّه لو لم یکن المثل موجودا وقت

ص: 488


1- (4) المبسوط 3/60.
2- (5) القواعد 2/227.
3- (6) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
4- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 4/529.
5- (8) إیضاح الفوائد 2/175.
6- (9) جامع المقاصد 6/252.
7- (1) المسالک 12/183.
8- (2) الکفایة 2/640.

التلف فالواجب قیمة التالف و هو الذی استظهره فی جامع المقاصد...»(1).

و اعترض صاحب الجواهر علی المحقّق الثانی بقوله: «و قد یناقش بعدم المنافاة بین ثبوته فی الذمة و بین تعذر أدائه فی ذلک الوقت، و دعوی صیرورته قیمیّا واضحة المنع، إذ المثلی لایتعیّن کونه کذلک بتعذر المثل و إلاّ لزم عدم وجوب دفعه لو تمکن منه بعد ذلک قبل الأداء، لثبوت القیمة حینئذ فی الذمة، و لا أظن أنّ القائل المزبور یلتزمه لوضوح ضعفه، فالمتجه ثبوت المثل فی ذمّته علی کلّ حال، و تعذر أدائه حال التلف لایقتضی عدم ثبوته فی الذمة فإن عدم التمکن من وفاء الدین لایقتضی عدم ثبوته فی الذمّة، و حینئذ لم یکن للتقیید المزبور فائدة»(2).

أقول: یمکن انحلال اعتراض صاحب الجواهر علی الکرکی إلی مناقشتین:

الاولی: المناقشة الحلّیّة و حاصلها: اشتغال الذمة بالمثل لیس مشروطا بالتمکن من أداء المثل لاحدوثا و لا بقاءً، کما اعترف به حتّی المحقّق الکرکی حیث یقول: «... إنّ المثل لایسقط من الذمة بتعذره و أداء الدین لایسقط بتعذر أدائه...»(3) و کذا قال فی ذیل قول العلاّمة «القیمة یوم الإقباض» بقوله: «هذا هو الأصح لأنّ الواجب هو المثل، فإذا دفع بدله اعتبرت البدلیة حین الدفع فحینئذ تعتبر القیمة»(4).

و اعترض الشیخ الأعظم علی هذه المناقشة الحلّیّة بقوله: «إلاّ أن یقال: إنّ أدلة وجوب المثل ظاهرة فی صورة التمکن، و إن لم یکن مشروطا به عقلاً فلاتعمّ صورة العجز،

ص: 489


1- (3) مفتاح الکرامة 18/171.
2- (4) الجواهر 37/97.
3- (5) جامع المقاصد 6/254.
4- (6) جامع المقاصد 6/255.

نعم إذا طرأ العجز فلا دلیل علی سقوط المثل و انقلابه قیمیّا»(1).

مراده: «قصور مقام الإثبات عن شمول صورة التعذر الإبتدائی، فاشتغال الذمة بالمثل و إن لم یکن متوقفا عقلاً و بالنظر العرفی فی مقام اعتبار وجود شیء فی الذمة بالتمکن من أداء ما اشتغلت به، لکن الدلیل لایدلّ علی اشتغال الذمّة إلاّ فی صورة التمکن من أدائه مع عدم النظر لصورة طرو التعذر»(2).

و ردّه المحقّق الأصفهانی بعد بیان مراده بقوله: «لکنّه مخدوش: بأنّه لو کان الدلیل قاصرا عن شمول صورة العجز عن الأداء، للزم عدم القول باشتغال الذمة بالقیمة فی القیمی مع تعذر أدائها ابتداءً و لایلتزم به أحد، فیعلم أنّ اشتغال الذمة بشیءٍ لا یدور مدار تیسّره ثبوتا و لا إثباتا»(3).

الثانیة: المناقشة النقضیة و تظهر من قول صاحب الجواهر «و إلاّ لزم... - إلی قوله - لوضوح ضعفه».

و حاصلها: إذ تم هذا البیان من المحقّق الثانی یرد علیه نقضا بما إذا کان المثل متعذِّرا من أوّل الأمر، ولکن لم یأخذ المضمون له القیمة، ثم وجد المثل، فهل یمکن التزامه بعدم سقوط الضمان بأداء المثل بل وجوبه؟

الشیخ الأعظم(4) بعد تقریر هذه المناقشة تأمّل فیها ولکن لم یذکر وجهها و لعلّ وجهها: أنّ کلّ تکلیف مشروط فعلیّا بفعلیة شرطه، یعنی إذا فقد المثل لم یلزم علیه إعطاؤه و إذا وجده لزم علیه أداؤه.

ص: 490


1- (7) المکاسب 3/235.
2- (1) حاشیة المکاسب 1/384.
3- (2) حاشیة المکاسب 1/384.
4- (3) المکاسب 3/235.

و بعبارة أُخری: عدم تنجز التکلیف بالمثل حین فقدانه من أوّل التلف، لاینافی وجود التکلیف بأداء المثل مشروطا بوجوده - أی متی وجد المثل لزم أداؤه، و بهذا البیان یمکن الجواب عن المناقشة النقضیّة.

و بالجملة: لافرق بالتعذر الطاریء و الابتدائی من انتقال الضمان إلی القیمة و اللّه العالم.

و لذا ذهب الشهید إلی عدم الفرق بین التعذر الطاریء و الابتدائی و قال: «فإن تعذّر فقیمته یوم الإقباض، سواء تراخی تسلیم المثل عن تلف العین أو لا...»(1).

الجهة الرابعة: ما هو المناط فی تعذّر المثل؟

قال فی التذکرة: «... و المراد من الفقد أن لایوجد فی ذلک البلد و ما حوالیه»(2).

و قال فی جامع المقاصد فی توضیح ما حوالیه بعد نقل عبارة التذکرة:«و لم یحدّ ما حوالیه و الظاهر أن المرجع فیها إلی العرف»(3).

و قال فی المسالک: «... و المراد من الفقدان أن لایوجد فی ذلک البلد و ما حوله ممّا ینتقل إلیه عادةً کما بُیِّن فی انقطاع المسلَم فیه»(4).

و قال فی انقطاع المسلَم فیه: «ولو کان الانقطاع ببلده خاصة و أمکن تحصیله من غیرها، فإن قلنا بوجوب تعیین البلد فلا کلام، إذ لایجب قبول غیره فلا یجب المطالبة به و لایجب قبولها، و إن لم نوجب - مطلقا أو علی بعض الوجوه - فإن نقله البائع باختیاره و إلاّ لم

ص: 491


1- (4) الدروس الشرعیة 3/113.
2- (1) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
3- (2) جامع المقاصد 6/245.
4- (3) المسالک 12/183.

یجبر علیه مع المشقة، و یجبر مع عدمها»(1).

و قال فی الکفایة: «و المراد من الفقدان أن لایوجد فی ذلک البلد و ما حوله ممّا ینتقل إلیه عادة»(2).

تنظّر سیّد الریاض فی هذا المناط و قال بعد ذکره: «و فیه نظر، بل مقتضی الأصل لزوم تحصیل المثل ولو من البلاد النائیة التی لم ینقل إلیها عادةً إن لم یستلزم التکلیف بالمحال، فتأمل»(3).

و استدل الشیخ الأعظم لصاحب الریاض بقوله: «إنّ مقتضی عموم وجوب أداء مال الناس و تسلیطهم علی أموالهم - أعیانا کانت أم فی الذمّة - وجوب تحصیل المثل - کما کان یجب ردّ العین أینما کانت - ولو کانت فی تحصیله مؤونة کثیرة، و لذا کان یجب تحصیل المثل بأیّ ثمنٍ کان و لیس هنا تحدید التکلیف بما عن التذکرة»(4).

ولکن مع ذلک استانس الشیخ الأعظم رحمه الله الحکم هنا من الروایات الواردة(5) فی

تخییر المشتری فی بیع السَلَم بین الفسخ أو أخذ بعضه و الباقی من رأس ماله إذا لم یقدر المسلم إلیه علی إیفاء المسلَم فیه، من أنّ عدم القدرة الواردة فیها «لیس التعذر العقلی المتوقف علی استحالة النقل من بلد آخر بل الظاهر منه عرفا ما [مرّ] عن التذکرة»(6).

أقول: لم یرد تقدیر تعذر المثل بحدّ خاص فی الدلیل الشرعی فلابدّ من تعیّنه من

ص: 492


1- (4) المسالک 3/431.
2- (5) الکفایة 2/640.
3- (6) ریاض المسائل 14/26.
4- (7) المکاسب 3/236.
5- (8) راجع وسائل الشیعة 18/303، الباب 11 من أبواب السلف.
6- (1) المکاسب 3/236.

الاعتبار العقلی و هو لایساعد إلاّ التعذر الشخصی - أیّ عدم إمکان الوصول إلیه بشخصه - فإذا تمکن الضامن من الوصول إلی المثل ولو کان ذلک فی البلاد النائیة لم یصدق علیه الإعواز بل وجب تحصیله علیه، کما أنّه إذا لم یتمکن الضامن من تحصیل المثل ولو کان موجودا فی البلد وجب علیه دفع القیمة.

بعبارة أُخری: یجب علیه تحصیل المثل إلاّ إذا کان تحصیله ضرریّا أو حرجیّا، فینفی بهما، و من المعلوم أنّ الحکم فی هاتین القاعدتین یدور مدار ضرر و حرج الشخصیین لا النوعیین فلا یتم ما ذکره العلاّمة و تبعه القوم.

و لایستأنس من الروایات الواردة فی بیع السلَم الحکم هنا لوجود الفارق بینهما و هو أنّ الضمان فیه اختیاریٌّ ثابتٌ بالعقد بخلاف ما نحن فیه، فعلیه یمکن القول باعتبار وجود المبیع الثابت فی الذمة - فی بیع السلَم - فی بلد المعاملة و ما حوله أو قدرة البائع علی تحویل مبیعه فی وقته. کما ذهب إلی جُلِّ ما ذکرنا المحقّق السیّد الخوئی(1) رحمه الله و شیخنا الاستاذ(2) قدس سره .

الجهة الخامسة: المعیار فی قیمة المثل المتعذّر

طرح الشیخ الأعظم هنا إشکالاً و هو: أنّ المثل إن کان موجودا أمکن معرفة قیمته، و إن لم یکن موجودا لم یکن سبیل إلی معرفة قیمته حتّی یؤدیها الضامن إلی المالک إلاّ بفرض وجود المثل. و لمّا کان المثلی ذا أسعار متفاوتة باختلاف الأزمان فهل «العبرة بفرض وجوده ولو فی غایة العزّة - کالفاکهة فی أوّل زمانها أو آخره - أو وجود المتوسط؟ الظاهر هو الأوّل، لکن مع فرض وجوده بحیث یرغب فی بیعه و شرائه، فلا عبرة بفرض وجوده عند مَنْ یستغنی عن بیعه بحیث لایبیعه إلاّ إذا بذل له عوض لایبذله الراغبون فی هذا الجنس

ص: 493


1- (2) مصباح الفقاهة 3/167 و 168.
2- (3) إرشاد الطالب 2/181.

بمقتضی رغبتهم...»(1).

أقول: بعد البناء علی أنّ المراد هنا من القیمة، قیمة یوم الدفع و الأداء - کما هو الُْمجْمَعُ علیه عند أصحابنا - فلا یبقی مجال لهذا الاشکال و یقوم المثل فی یوم الدفع و الأداء فی السوق، و کذلک الأمر لو اختار أحد فی ما سبق غیرها من الاحتمالات الواردة فی القیمة. فهذا الإشکال مدفوع من الأصل کما نبّه علیه المحققان الشهیدیُّ(2) و المروّج(3).

الجهة السادسة: هل العبرة بقیمة بلد التلف أو المطالبة؟

قد مرّ فی الفرع السادس ما یفیدنا هنا من أنّ العبرة بقیمة بلد التلف ولکن للمالک حقّ المطالبة بماله فی أیّ زمان أو مکان شاء لعموم الناس مسلطون علی أموالهم مقیدا بقاعدة نفی الضرر علی الضامن، فللمالک المطالبة بماله فی أیّ وقت أو أیّ بلد شاء مشروطا بتساوی قیمته فی یوم الأداء بین البلدین أو أنّ القیمة فی بلد المطالبة کانت أقلّ منها فی بلد التلف.

و وافقنا علی أنّ العبرة بقیمة بلد التلف الشیخ الطوسی(4) و القاضی ابن البراج(5) کما مرّ کلامهما(6) و شیخنا الاستاذ(7) رحمه الله ، و العجب من المحقّق السیّد الخوئی(8) حیث اختار هنا ما هو مرجوحٌ عندنا فراجعٌ.

ص: 494


1- (4) المکاسب 3/236.
2- (1) هدایة الطالب 2/351.
3- (2) هدی الطالب 3/435.
4- (3) المبسوط 3/76.
5- (4) المهذب 1/443.
6- (5) فی بحث فرع هل یجوز مطالبة المالک... فی عنوان السادس راجع صفحة 447 من هذا المجلد.
7- (6) إرشاد الطالب 2/183.
8- (7) مصباح الفقاهة 3/169.
الجهة السابعة: إذا سقط المثل من المالیة فهل ینتقل إلی القیمة؟

نحو الماء علی الشاطئ إذا أتلفه فی مفازة، و الجَمد فی الشتاء إذا أتلفه فی الصیف، و قد مرّ هذا البحث فی المناقشة الرابعة(1) من مناقشات الشیخ الأعظم رحمه الله فی دلالة آیة الاعتداء علی ضمان المثل فی المثلی، من انتقال الضمان حینئذ إلی القیمة خلافا لصاحب الجواهر(2) و احتمله فی القواعد(3)، ولکن اختار القیمة فی التذکرة(4) و ولده فی الإیضاح(5) و قواه

الشهید(6) و هو خیرة جامع المقاصد(7) مع نسبته إلی الأصحاب و اختاره الشیخ الأعظم(8) و هو الصحیح المختار. و اللّه سبحانه هو العالم.

و من هنا ظهر حکم فرع و هو إذا أخذ أو أقرض أو غصب الأوراق النقدیة الدارجة الخاصة ثمّ أُسقطت عن الاعتبار، ینتقل الضمان إلی الأوراق النقدیة الدّارجة المتداولة بین أیدی الناس المعتبرة، لأنّها بعد إسقاطها عن الاعتبار تعدّ تالفة عند العقلاء، و اللّه العالم.

فرع: لو تمکّن من المثل بعد دفع القیمة

هل یجب علی الضامن بعد دفع القیمة، لو تمکّن من المثل أداء المثل و أخذ القیمة أم لا؟

أقول: هذا الفرع یُبنی علی أنّ الواجب علی الضامن هل هو المثل ولو عند التعذّر و

ص: 495


1- (8) راجع صفحة 452 من هذا المجلد.
2- (9) الجواهر 37/99.
3- (10) القواعد 2/228.
4- (11) تذکرة الفقهاء 2/384 من الطبع الحجری.
5- (12) ایضاح الفوائد 2/177.
6- (1) الدروس الشرعیة 3/113.
7- (2) جامع المقاصد 6/258.
8- (3) المکاسب 3/220 و 238.

ینتقل حقّ المالک إلی القیمة عند تعذر المثل و المطالبة، فإذا وجد المثل یرجع حقّه و صارت القیمة کالبدل الحیلولة، لابدّ من عودتها و أخذ المثل من الضامن.

أو أنّ الواجب علی الضامن بعد تعذّر المثل انقلاب الضمان من المثل إلی القیمة، فإذا أعطی القیمة، أدی ما هو علیه و تمّ ضمانه و لاینتقل إلی المثل مجددا کما هو مختار العلاّمة فی القواعد(1) و التذکرة(2) و التحریر(3) و الشهید فی الدروس(4) و الکرکی فی جامع المقاصد(5) و ثانی الشهیدین فی المسالک(6).

و یمکن أن یعلل القول الأخیر بأنّ بدل الحیلولة مختص بالأعیان و لاترد فی الذمم کما علیه الفقیه الیزدی(7) و المحقّق الاصفهانی(8).

أقول: الظاهر موافقة الأعلام و عدم وجوب أداء المثل بعد إعطاء القیمة، و الوجه فی¨ ذلک أنّ للمالک شیئا واحدا و هو ماله التالف و أخذ قیمته فسقط حقّه و لیس له بعد شیء حتّی یدعی المثل و لیس علی الضامن بعد أداء القیمة شیء حتّی یعطی المثل و اللّه العالم.

ص: 496


1- (4) قواعد الأحکام 2/228.
2- (5) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
3- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 4/529.
4- (7) الدروس الشرعیة 3/113.
5- (8) جامع المقاصد 6/258.
6- (9) المسالک 12/184.
7- (10) حاشیته علی المکاسب 1/495.
8- (11) حاشیته علی المکاسب 1/397.
الثامن: ضمان القیمی بالقیمة
اشارة

یقع البحث فی المقامین،

المقام الأوّل: ما الدلیل علی أنّ ضمان القیمی بالقیمة؟
الأوّل: قال الشیخ الأعظم:

الأوّل: قال الشیخ الأعظم: «... فقد حُکی الاتفاق علی کونه مضمونا بالقیمة»(1).

و قال الفقیه العاملی: «أمّا ضمان القیمی بالقیمة ففی الدروس(2) و غایة المراد(3) و الروضة(4) أنّه المشهور، قلت: لا أجد فیه فی الباب خلافا إلاّ ما یُحکی عن أبی علی... و ما یظهر من قرض الخلاف(5) و ما لعلّه یظهر من المحقّق(6) فی باب القرض من أنّ الواجب فی القیمی مثله، مستندین إلی أنّه أقرب إلی الحقیقة و لخبرین عامیین: أحدهما: خبر عائشة لما أخذتها الغیرة و الأفکل(7) فکسرت إناء صفیة، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله لمّا سألته عائشة عن کفارة ذلک: إناء مثل الإناء و طعام مثل الطعام.(8) و الثانی: أنّ امرأة کسرت قصعة امرأة اُخری فدفع رسول اللّه صلی الله علیه و آله قصعة الکاسرة إلی صاحبة المکسورة.(9) و قد عورضا بخبر آخر عامی(10)، و حملهما الأکثر علی أنّه صلی الله علیه و آله علم بالرضا منهما کما بیّنا ذلک فی باب القرض(11)

ص: 497


1- (1) المکاسب 3/240.
2- (2) الدروس 3/113.
3- (3) غایة المراد 2/398.
4- (4) الروضة البهیة 7/41.
5- (5) الخلاف 3/175، مسألة 287.
6- (6) الشرائع 2/62.
7- (7) إرتعدّ من خوفٍ أو بردٍ أو غیرهما.
8- (8) سنن أبی داود، کتاب البیوع، ح3097، السنن الکبری 6/96 للبیهقی.
9- (9) صحیح البخاری، کتاب المظالم و الغصب ح 2301، السنن الکبری 6/96.
10- (10) السنن الکبری 10/273.
11- (11) مفتاح الکرامة 15/142 و ما بعدها.

و ذکرنا هناک تفصیل التذکرة(1) و فی جامع المقاصد... أنّ خلاف أبی علی کاد یکون مضمحلاً(2). و کیف کان، فقد اتفقوا هنا [أیّ باب الغصب] من غیر تأمل و لاخلاف، و هناک [أی باب القرض] تأمل بعض و خالف آخرون...»(3).

أقول: بمراجعة الروایة العامیة الثانیة یظهر أنّ الکاسرة و صاحبة المکسورة

کلتیهما من أُمّهات المؤمنین و أزواج النبی صلی الله علیه و آله و لذا حمل بعض أهل العلم(4) القصعتین بأنّهما کانتا للنبی صلی الله علیه و آله فی بیتی زوجتیه و لم یکن هناک حکمٌ بالضّمان إلاّ أنّه عاقب الکاسرة بترک المکسورة فی بیتها و نقل الصحیحة إلی بیت صاحبتها. و لعل هذا الحمل أحسن ممّا ذکره صاحب المفتاح رحمه الله .

و أمّا مراده من معارضتهما بخبر آخر عامی فهو ما رواه العامة عن أبی الولید عن أبیه أنّ رجلاً أعتق شقصا له من غلام فذکر ذلک للنبی صلی الله علیه و آله فقال: لیس للّه شریک.(5)

و نظیره عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من اعتق شرکا له فی مملوک فقد عتق کلّه.(6)

و نحوها عنه عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: من اعتق شقصا فی مملوک و کان للذی یعتق منهما نصیبه مبلغ ثمنه فقد عتق کلّه.(7)

و أمّا تفصیل العلاّمة فی التذکرة فی باب القرض فما ذکره بقوله: «... و إن لم یکن

ص: 498


1- (12) تذکرة الفقهاء 13/30.
2- (13) جامع المقاصد 6/252.
3- (14) مفتاح الکرامة 18/147.
4- (1) کما فی السنن الکبری 6/96 للبیهقی.
5- (2) السنن الکبری 10/273.
6- (3) السنن الکبری 10/277.
7- (4) السنن الکبری 10/277.

مثلیا، فإن کان ممّا ینضبط بالوصف - و هو ما یصحّ السلف فیه کالحیوان و الثیاب - فالأقرب أنه یضمنه بمثله من حیث الصورة [و استدل له بخبرین عامین]... و أمّا ما لایضبط بالوصف - کالجواهر و القسیّ و ما لایجوز السلف فیه - تثبت فیه قیمته...»(1).

و أمّا خلاف أبی علیّ الإسکافی فقد مرّ فی أوّل البحث عن المثلی و کذا قول المحقّق الثانی فی اضمحلاله.

و بالجملة: لم یثبت الخلاف فی باب الغصب الذی تلحق به مسألة المقبوض بالعقد الفاسد، نعم الخلاف ثابت فی باب القرض من الشیخ فی خلافه و المحقّق فی شرائعه، و کذا ورد تفصیل فیه من العلاّمة فی تذکرة الفقهاء کما مرّ، و لذا استظهر السیّد المجاهد(2) عدم الخلاف بین الأصحاب.

و قال صاحب الجواهر: «(و إن لم یکن) المغصوب المتلف (مثلیا) بل کان قیمیا کالحیوان و نحوه ممّا لم یکن لعقلاء العرف طریق للحکم بالمساواة فیما له مدخلیة فی مالیته

من صفاته الذاتیة فی الصنف (ضمن قیمته)، بلاخلاف معتد به فی ذلک هنا، نعم تقدّم للمصنف فی کتاب القرض ضمان القیمی بمثله و قد سمعت الکلام فیه هناک(3)»(4).

أقول: یمکن أن یستدل لشیخ الطائفة فی قرض الخلاف(5) و للمحقّق فی قرض الشرائع(6) من أداء المثل فی قرض القیمی بأنّ ذمة الدائن مشغولة بالعین أوّلاً و مع تلفها

ص: 499


1- (5) تذکرة الفقهاء 13/30 و 31.
2- (6) راجع المناهل /298.
3- (1) راجع الجواهر 25/20.
4- (2) الجواهر 37/100.
5- (3) الخلاف 3/175، مسألة 287.
6- (4) الشرائع 2/62.

تکون مشغولة بالمثل لأنّه بعد تلف العین انتقل الضمان إلی مثلها و هو الکلّی المتحد مع العین التالفة فی جمیع الخصوصیات إلاّ الخصوصیات الدخلیة فی التشخص الخارجی، فإذا وجد المثل یجب إعطاؤها و إن لم یوجد حین الأداء ینتقل الضمان إلی القیمة.

و فی الجملة: بعد تلف العین ینتقل الضمان إلی المثل حتّی فی القیمیات و مع فرض عدم وجدانه ینتقل إلی القیمة کما یظهر من الشیخ الأعظم(1) و علیه الفقیه الیزدی(2).

نعم: لو تعذر أداء المثل - علی الاطلاق - فالتّکلیف بأدائه یکون لغوا فیتعلَّق بالقیمة حتّی ابتداءً، و من هنا یظهر عدم تمامیة اطلاق کلام الفقیه الیزدی. کما یستشکل علیه: ب- «أنّ لازم ما اختاره هو جواز امتناع المضمون له عن قبول القیمة فی فرض تعذر المثل علی الاطلاق، و هذا ممّا لایمکن الالتزام به»(3).

و یؤید هذه المقالة الروایات الدالة علی جواز أداء المثل عن القیمی فی باب القرض:

منها: حسنة صباح بن سیابة قال: قلت: لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّ عبداللّه بن أبی یعفور أمرنی أن أسالک قال: إنّا نستقرض الخبز من الجیران فنردّ أصفر منه أو أکبر؟ فقال علیه السلام : نحن نستقرض الجوز الستین و السبعین عددا فیکون فیه الکبیرة و الصغیرة، فلا بأس.(4)

و منها: حسنة اسحاق بن عمار قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : استقرض الرغیف من الجیران و نأخذ کبیرا و نعطی صغیرا و نأخذ صغیرا و نعطی کبیرا، قال: لابأس.(5)

و منها: فی نوادر أحمد بن محمّد بن عیسی عن الصادق علیه السلام و سئل عن الخبز بعضها

ص: 500


1- (5) المکاسب 3/241 قوله: إلاّ أنّ المتیقن من هذا المتعارف ما کان المثل فیه متعذِّرا... الخ.
2- (6) حاشیة المکاسب 1/495 و ما قبلها.
3- (7) مصباح الفقاهة 3/173.
4- (8) وسائل الشیعة 18/361، ح1، الباب 21 من أبواب الدین و القرض.
5- (9) وسائل الشیعة 18/361، ح2.

أکبر من بعض، قال: لابأست إذا أقرضته.(1)

و یمکن قلع مادة النزاع بما مرّ من تعریف القیمی بأنّه ما لم یکن مثلیا فإذا وجد مثل فهو مثلی و لزم أداؤه و إذا لم یکن المثل فهو قیمی.

و قد یغتفر بعض الخصوصیات فی المثل فی الأمور الرخیصة نحو الخبز و الرغیف و الجوز و نحوها کما ورد فی النصوص و بما ذکرنا یجمع خلاف البعض بین بابی الغصب و القرض و اللّه العالم و الحمدله.

الثانی: الأخبار المتفرقة فی کثیر من القیمیّات.

هناک عدّةٌ من الروایات تدلّ علی الحکم:

منها: مرسلة الصدوق عن الصادق علیه السلام فی حدیث: و إن وجدت طعاما فی مفازة فقوّمْهُ علی نفسک ثم کُلْه، فإن جاء صاحبه فردّ علیه القیمة، الحدیث.(2)

و منها: صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال: و سألته عن الرجل یصیب اللقطة فیعرِّفها سنة، ثم یتصدَّق بها، فیأتی صاحبها، ما حال الذی تصدّق بها؟ و لمن الأجر؟ هل علیه أن یردّ علی صاحبها أو قیمتها؟ قال: هو ضامن لها، و الأجر له، إلاّ أن یرضی صاحبها فیدعها، و الأجر له.(3)

و منها: صحیحة اُخری له عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل أصاب شاة فی الصحراء هل تحلّ له؟ قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : هی لک أو لأخیک أو للذئب،

ص: 501


1- (1) نوادر أحمد بن محمّد بن عیسی /163، ح422، ولکن فی بحارالأنوار 100/116، ح6 [42/78] و مستدرک الوسائل 13/410، ح1، الباب 21 من أبواب الدین و القرض نقلا عن الفقه الرضوی و هو خطأ.
2- (2) وسائل الشیعة 25/443، ح9، الباب 2 من أبواب کتاب اللقطة.
3- (3) وسائل الشیعة 25/445، ح14، الباب 2 من أبواب کتاب اللقطة.

فخذها و عرّفها حیث أصبتها، فإن عرفت فردّها إلی صاحبها، و إن لم تعرف فکُلْها و أنت ضامن لها، إن جاء صاحبها یطلبها أن تردّ علیه ثمنها.(1)

و منها: معتبرة السکونی عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی علیه السلام فی رجل أقبل بنار فأشعلها فی دار قوم فاحترقت متاعهم، أنّه یغرم قیمة الدار و ما فیها ثمّ یقتل.(2)

و منها: موثقة زید بن علی عن آبائه علیهم السلام قال: أتاه رجل تکاری دابّة فهلکت و أقرّ أنّه جاز بها الوقت، فضمنّه الثمن و لم یجعل علیه کراء.(3)

و منها: روایة السفرة الماضیة.(4)

و منها: الروایات الواردة فی بیع الجاریة المسروقة الماضیات.(5)

و منها: بعض الروایات الأُخر تأتی فیما بعد - إن شاء اللّه تعالی - .

الثالث: آیة الاعتداء

و هی قوله تعالی: «فمن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم»(6).

لم یذکرها الشیخ الأعظم بعنوان الدلیل لأنّه یری دلالتها غیر تامة حتّی بالنسبة إلی الضمان فی المثلی(7) و قد مرّت مناقشاته الأربع و أجوبتها منّا، ولکن نحن نری دلالة آیة

ص:502


1- (4) وسائل الشیعة 25/459، ح7، الباب 13 من أبواب کتاب اللقطة.
2- (5) وسائل الشیعة 28/315، ح1، الباب 3 من أبواب حد المحارب - وسائل الشیعة 29/279، ح1، الباب 41 من أبواب موجبات الضمان.
3- (1) وسائل الشیعة 19/122، ح5، الباب 17 من أبواب کتاب الإجارة.
4- (2) وسائل الشیعة 25/468، ح1، الباب 23 من أبواب کتاب اللقطة.
5- (3) راجع وسائل الشیعة 21/203، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
6- (4) سورة البقرة /194.
7- (5) ولکنّه قیّد بالآیة الشریفة شمول الإجماع - علی فرض وجوده - للمثل الموجود للتالف القیمی راجع المکاسب 3/241 قوله: و علی تقدیره ففی شموله... الخ.

الاعتداء بالنسبة إلی ضمان المثل فی المثلی و القیمة فی القیمی، لأنّ «ما» فیها موصولة - کما أنّها ظاهرة منها - لا مصدریة غیر زمانیة، و ما الموصولة تحمل علی ما هو الأعم من الفعل - أیّ الاعتداء - و المعتدی به - أیّ الأعیان الخارجیة من العرض و النقد - ، و المثل فی الآیة یحمل علی المعنی اللغوی أی المماثلة فی الفعل - الإعتداء - و العین - المعتدی به - الأعیان من العرض و النقد - و المماثلة فی الفعل واضح أعنی الضرب فی مقابل الضرب و الجرح فی مقابل الجرح و القتل فی مقابل القتل، و المماثلة فی العین هی المماثلة فی الذات و الصفات و المالیة - أیّ المماثلة المطلقة - و إذا فقدت المماثلة فی الذات و الصفات، تبقی المماثلة فی المالیة - و هی القیمة - فحینئذ بعد فقدان المثل تصل النوبة إلی القیمة بدلالة الآیة الشریفة.

وافقنا علی دلالة الآیة الشریفة فی ضمان القیمی بالقیمة الشیخ فی کتابیه(1) و ظاهر ابن ادریس(2) و العلاّمة(3) و الطبرسی(4) و قطب الدین الراوندی(5) و الفاضل المقداد(6) و

غیرهم کما مرّ هذا البحث مفصلاً فی الدلیل الأوّل من المقام الثانی فی بحث ضمان المثلی بالمثل.(7)

تنبیه:

قال الشیخ الأعظم: «فلا حاجة إلی التمسک بصحیحة أبی ولاّد(8) الآتیة فی ضمان

ص:503


1- (6) المبسوط 3/60، الخلاف 3/402 و 406.
2- (7) السرائر 2/480.
3- (8) تذکرة الفقهاء 2/383 من الطبع الحجری.
4- (9) مجمع البیان 1/288 من طبع مصر.
5- (10) فقه القرآن 2/74.
6- (11) کنز العرفان 2/84.
7- (1) راجع صفحة 446 من هذا المجلد.
8- (2) وسائل الشیعة 19/119، ح1، الباب 17 من أبواب الإجارة.

البغل»(1). هذا البیان منه تعریض لصاحب الجواهر حیث أنّه استدل علی ضمان القیمی بالقیمة بها و قال: «لظهور صحیح أبی ولاّد...»(2).

لأنّه ورد فیها: «نعم قیمة بغل یوم خالفته...»(3) و البغل من الحیوانات و الحیوان قیمی فإذا تلفت اشتغلت الذمة بقیمتها لابمثلها.

ولکن یری الشیخ الأعظم استغناءه عن هذه الصحیحة لإمکان المناقشة فی دلالتها، لأنّ کلمة «بغل» فیها نکرة و هی ظاهرة فی کونها بغلاً غیر معیّن فحینئذ یتمّ قول من ذهب إلی أنّ الثابت فی الذمة بغلٌ غیر معیّن و هو المثل و أنّ القیمة بدل عنه، فلا تدل علی أنّ الثابت فی الذمة فی القیمیات القیمة.

و کذا قال الشیخ الأعظم: «و لابقوله صلی الله علیه و آله : من أعتق شقصا من عبدٍ قُوِّم علیه»(4).

أقول: الروایة عامیّة مرّ مصدرها فی مقالتی ذیل کلام الفقیه العاملی رحمه الله ، ولکن رُوی نظیرها من طرقنا فی الباب 18 من أبواب کتاب العتق من وسائل الشیعة 23/36 و یأتی بعضها، و هذا أیضا تعریض بصاحب الجواهر(5) و أمّا المناقشة فی دلالتها: فلأنّها حکم تعبدی لتغلیب جانب الحریة و لم یکن مرتبطا بالإتلاف و ضمان القیمی بالقیمة.

و الشیخ الأعظم یری استغناءَهُ عن الصحیحة و روایات انعتاق العبد ولکن بعد سطور استدل بها بقوله: «بل یمکن دعوی انصراف الاطلاقات الواردة فی خصوص بعض

ص:504


1- (3) المکاسب 3/240.
2- (4) الجواهر 37/100.
3- (5) وسائل الشیعة 19/120.
4- (6) المکاسب 3/240.
5- (7) راجع الجواهر 37/100.

القیمیات - کالبغل و العبد و نحوهما - لصورة تعذّر المثل کما هو الغالب»(1). و قال أیضا: «...

فیردّه اطلاقات الروایات الکثیرة فی موارد کثیرة: منها: صحیحة أبی ولاّد الآتیة، و منها: روایة تقویم العبد...»(2).

و الجمع بین الاستغناء عن الاستدلال بهما ثم الاستدلال بهما لایتم کما قال المحقّق الإیروانی: «... إنّ اظهار الاستغناء ثم العود إلی التشبّث بهما بعد سطرین لیس کما ینبغی»(3).

دفعُ وَهْمٍ:

قد یقال: یظهر من بعض الروایات أنّ الأصل فی الضمان هو القیمة بلافرق بین القیمی و المثلی:

منها: معتبرة السکونی عن جعفر عن أبیه عن علیّ علیهم السلام أنّه قضی فی رجل أقبل بنار فأشعلها فی دار قوم فاحترقت و احترق متاعهم، قال: یغرم قیمة الدار و ما فیها ثمّ یقتل.(4)

هذه الروایة قد مرّت ولکن کررنا ذکرها للتنبیه علی أن بعض متاع البیت یمکن أن یکون مثلیّا و مع ذلک قضی أمیرالمؤمنین علیه السلام بلزوم دفع قیمته فیمکن أن یستفاد منها أنّ الأصل الأولیّ فی الضمان القیمة.

و یمکن أن یناقش فی هذه الدلالة بأنّ الانتقال إلی القیمة لسهولة الدفع و الأخذ للضمان و للمالک و یمکن أن یعطف «ما فیها» علی «قیمة» لا علی «الدار» فحینئذ تدل علی مطلق التغریم لا التغریم بالقیمة.

و منها: صحیحة محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال: قضی أمیرالمؤمنین علیه السلام فی

ص:505


1- (8) المکاسب 3/241.
2- (1) المکاسب 3/242.
3- (2) حاشیة المکاسب 2/145.
4- (3) وسائل الشیعة 29/279، ح1، الباب 41 من أبواب موجبات الضمان.

الرهن إذا کان أکثر من مال المرتهن فهلک أن یؤدّی الفضل إلی صاحب الرهن، و إن کان الرهن أقلّ من ماله فهلک الرهن أدّی إلی صاحبه فضل ماله، و إن کان الرهن یسوی مارهنه فلیس علیه شیء.(1)

و منها: صحیحة أبی حمزة الّثمالی قال: سألت أباجعفر علیه السلام عن قول علی علیه السلام : یترادّان الفضل، فقال: کان علی علیه السلام یقول ذلک، قلت: کیف یترادّان؟ فقال: إن کان الرهن أفضل ممّا رهن به ثمّ عطب ردّ المرتهن الفضل علی صاحبه، و إن کان لایسوی ردّ الراهن ما نقص من

حقّ المرتهن. قال: و کذلک قول علیّ علیه السلام فی الحیوان، و غیر ذلک.(2)

و منها: موثقة اسحاق بن عمّار قال: سألت أبا ابراهیم علیه السلام عن الرجل یرهن الرهن بمائة درهم و هو یساوی ثلاثمائة درهم فیهلک، أ علی الرجل أن یردّ علی صاحبه مائتی درهم؟ قال: نعم، لأنّه أخذ رهنا فیه فضل و ضیّعه، قلت: فهلک نصف الرهن، قال: حساب ذلک، قلت: فیترادّان الفضل؟ قال: نعم.(3)

تقریب دلالة هذه الروایات الثلاث: أنّها تدل علی التهاتر بین مال المرتهن و مال الراهن و کلّ منهما یأخذ الفضل إذا کانت الزائدة فی طرفه و الآخر یعطی، و من المعلوم أنّ التهاتر لایتم مع فرض أنّ المتلَف (بالفتح) مثلیٌّ و صرف دلالة الروایات علی اثبات التهاتر تدل علی أنّ الضمان یکون بالقیمة حتّی فی المثلیات.

و فیه: الضمان فی المثلی بالمثل و فی القیمی بالقیمة و ما ورد فی هذه الروایات لأجل قضیة التهاترو لذا بدّل علیه السلام المثلی بالقیمة لأجل ثبوت التهاتر و تعیین أنّ الزیادة لِمَنْ؟ للراهن أو المرتهن. إذا کان فی البین التهاتر، فلا تدل الروایات علی أنّ الأصل فی الضمان هو

ص:506


1- (4) وسائل الشیعة 18/392، ح4، الباب 7 من أبواب کتاب الرهن.
2- (1) وسائل الشیعة 18/390، ح1، الباب 7 من أبواب کتاب الرهن.
3- (2) وسائل الشیعة 18/391، ح2.

القیمة. و اللّه العالم.

تکمیلٌ:

عدّة من الروایات فی أبواب مختلفةٍ من الفقه نحو العاریة و الودیعة و الإجارة و اللقطة و ما ورد فی ضمان الغسّال و الصبّاغ و القصّار و الصائغ و البیطار و الدّلال و نحوهم تدلّ علی مطلق الضمان و لم ترد فیها ضمانهم بالقیمة مع أنّها وردت فی القیمیات، فهل هذه الروایات تدل علی أنّ الأصل الأوّلی فی الضمان هو المثل و مع فرض عدم الحصول علیه تصل النوبة إلی القیمة، أو أنّ القیمی ما لیس له مثلٌ کما مرّ؟ لایبعد بل الظاهر ذلک أذکر لک بعضها حتّی یتبیّن لک ما قد سردته علیک.

منها: صحیحة محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال: قضی أمیرالمؤمنین علیه السلام فی رجل أعار جاریة فهلکت من عنده و لم یبغها غائلة، فقضی أن لایغرمها المعار، و لایغرّم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم یکرهها أو یبغها غائلة.(1)

و بحکم الشرط إذا أکرهها أو أبغیها غائلة فله الغرم أیّ الضمان مع أنّ المورد فیها هی

الجاریة و الدابة وکلتاهما قیمیّتان ولکن لم یرد فیها القیمة.

و منها: صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام قال: سألته عن رجل استاجر دابّة فأعطاها غیره فنفقت، ما علیه؟ قال: إن کان شرط أن لایرکبها غیره فهو ضامن لها، و إن لم یسمّ فلیس علیه شیء.(2)

و منها: حسنة الحسن بن زیاد الصیقل عن أبی عبداللّه علیه السلام فی رجل اکتری من رجل دابة إلی موضع فجاز الموضع الذی تکاری إلیه فنفقت الدابة، قال: هو ضامن و علیه

ص:507


1- (3) وسائل الشیعة 19/93، ح9، الباب 1 من أبواب کتاب العاریة.
2- (1) وسائل الشیعة 19/118، ح1، الباب 16 من أبواب کتاب الإجارة.

الکراءُ بقدر ذلک.(1)

و المراد بالمیثمی فی سند الروایة إمّا أحمد بن الحسن بن اسماعیل بن میثم الثقة، أو محمّد بن الحسن بن زیاد الثقة أو علی بن اسماعیل بن شعیب الممدوح، فهو لاأقل من کونه ممدوحا، و الحسن بن زیاد الصیقل حسنٌ لأنّه یروی عنه عدّة من أصحاب الإجماع و مشایخ الطائفة فالسند حسنٌ أو معتبر.

و منها: صحیحة أبی الصباح قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن القصار هل علیه ضمان؟ فقال: نعم، کلّ من یعطی الاُجرة لیصلح فیفسد فهو ضامن.(2)

و المراد بأبی الصباح هو ابراهیم بن نعیم الکنانی الثقة الراوی عن أبی عبداللّه علیه السلام و أبیجعفر علیه السلام و هو کثیر الروایة.

و منها: موثقة زید بن علی عن آبائه علیهم السلام أنّه اُتی بحمّال کانت علیه قارورة عظیمة فیها دهن فکسرها فضمّنها إیاه، و کان یقول: کلّ عامل مشترک إذا أفسد فهو ضامن، فسألته ما المشترک؟ فقال: الذی یعمل لی و لک و لذا.(3)

الظاهر أنّ الروایة منقولة عن جده أمیرالمؤمنین علیه السلام بقرینة أُتی.

و منها: صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال: و سألته عن الرجل یصیب اللقطة دراهم أو ثوبا أو دابة، کیف یصنع بها؟ قال: یعرّفها سنة فإن لم یعرف صاحبها حفظها فی عرض ماله حتّی یجیء طالبها فیعطیها إیّاه، و إن مات أوصی بها، فإن أصابها شیء فهو ضامن.(4)

ص:508


1- (2) وسائل الشیعة 19/121، ح4، الباب 17 من أبواب کتاب الإجارة.
2- (3) وسائل الشیعة 19/145، ح13، الباب 29 من أبواب کتاب الإجارة.
3- (4) وسائل الشیعة 19/152، ح13، الباب 30 من أبواب کتاب الإجارة.
4- (5) وسائل الشیعة 25/444، ح13، الباب 2 من أبواب کتاب اللقطة.

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام رجل ورث غلاما، و له فیه شرکاء، فاعتق لوجه اللّه نصیبه، فقال: إذا أعتق نصیبه مضارّة و هو مؤسر ضمن للورثة، و إذا أعتق لوجه اللّه کان الغلام قد أعتق من حصّة من أعتق، و یستعملونه علی قدر ما أعتق منه له و لهم، فإن کان نصفه عمل لهم یوما و له یوم، و إن أعتق الشریک مضارّا و هو معسر فلا عتق له، لأنّه أراد أن یفسد علی القوم، و یرجع القوم علی حصصهم.(1)

و هذه الصحیحة عُدَّتْ من أدلة قاعدة لاضرر کما مرّ فی أبحاثنا الأصولیة.

المقام الثانی: تعیین القیمة فی القیمیات
اشارة

إذا اختلفت القیمة، فهل یضمن الضامن من قیمة یوم القبض أو الغصب، أم قیمة یوم التلف أو قیمة یوم الأداء أو أعلی القیم؟ أقوال.

القول الأوّل: قیمة یوم القبض أو الغصب

و «هو خیرة المقنعة(2) و المراسم(3)، و المبسوط(4) و النهایة(5) فی موضع منهما، و النافع(6) و کشف الرموز(7) و کأنّه مال إلیه فی الإرشاد(8)، و فی الشرائع(9) و التحریر(10) أنّه

ص:509


1- (1) وسائل الشیعة 23/40، ح12، الباب 18 من أبواب کتاب العتق.
2- (2) المقنعة /607.
3- (3) لم أعثر علیه ولکن نقل عنه فی مفتاح الکرامة 18/147.
4- (4) المبسوط 3/60.
5- (5) النهایة /402 فی بیع الغرر.
6- (6) المختصر النافع /248.
7- (7) کشف الرموز 2/382.
8- (8) إرشاد الأذهان 1/446.
9- (9) شرائع الاسلام 3/189.
10- (10) تحریر الأحکام الشرعیة 4/529.

مذهب الأکثر». کذا فی مفتاح الکرامة(1).

و هذا القول هو مختار المحقّق السیّد الخوئی(2) قدس سره .

القول الثانی: قیمة یوم التلف

«و هو خیرة القواعد(3) فی آخر باب البیع و التذکرة(4) و المختلف(5) و التحریر(6) و

الدروس(7) و التنقیح(8) و جامع المقاصد(9) و مجمع البرهان(10) و المحکی عن القاضی(11)، و فی الدروس(12) و کذا الروضة(13) نسبته إلی الأکثر. و قد یظهر من النافع(14) أنّه لیس قولاً لأحد و أنما هو مجرد وجه...»(15).

ص:510


1- (11) مفتاح الکرامة 18/148.
2- (12) مصباح الفقاهة 3/184 و 197.
3- (13) القواعد 2/95.
4- (14) تذکرة الفقهاء 10/299.
5- (15) مختلف الشیعة 6/116.
6- (16) تحریر الأحکام الشرعیة 4/530.
7- (1) الدروس الشرعیة 3/113.
8- (2) التنقیح الرائع 4/70.
9- (3) جامع المقاصد 6/246.
10- (4) مجمع الفائدة و البرهان 10/527.
11- (5) المهذب 1/437 و حکاه عنه العلاّمة فی المختلف 6/116.
12- (6) الدروس 3/113.
13- (7) الروضة البهیة 7/41.
14- (8) المختصر النافع /248.
15- (9) مفتاح الکرامة 18/151.

و هذا القول هو مختار أصحاب الجواهر(1) و العناوین(2) و المکاسب(3) و بغیة الطالب(4)، و السیّد الخمینی(5) قدس سرهم .

القول الثالث: أرفع القیم من حین القبض أو الغصب إلی حین التلف

«و هو خیرة الخلاف(6) و المبسوط(7) و النهایة(8) فی موضع منهما، و الوسیلة(9) و الغنیة(10) و السرائر(11) و الإیضاح(12) و اللمعة(13) و المقتصر(14)، و التبصرة(15) علی

إشکال. و کذا شرح الإرشاد(16) للفخر، و فی بیع المختلف(17) نسبته إلی علمائنا و فی

ص:511


1- (10) جواهر الکلام 37/105.
2- (11) العناوین 2/536.
3- (12) المکاسب 3/251 و ما بعدها.
4- (13) بغیة الطالب 1/270.
5- (14) البیع 1/420 و 430.
6- (15) الخلاف 3/415، مسألة 30.
7- (16) المبسوط 3/72.
8- (17) لم أجده و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 18/149، و قبله نقل عن النهایة ابن فهد الحلّی فی المهذب البارع 4/252 و المقتصر /342.
9- (18) الوسیلة /276.
10- (19) غنیة النزوع /279.
11- (20) السرائر 2/481.
12- (21) إیضاح الفوائد 2/175.
13- (22) اللمعة الدمشقیة /235.
14- (23) المقتصر /342.
15- (24) تبصرة المتعلّمین /108.
16- (1) نقل عنه فی مفتاح الکرامة 18/150.
17- (2) مختلف الشیعة 5/56.

غصبه(1) أنّه أشهر و استحسنه فی الشرائع(2)، و کأنّه قال به أو مال إلیه فی الکفایة(3)، و فی المسالک(4) أنّ فی خبر أبی ولاّد ما یدلّ علی وجوب أعلی القیم بین الوقتین، و کأنّه قال به وقوّاه فی الروضة(5) أیضا لمکان هذا الخبر الصحیح... و فی الدروس(6) أنّه أنسب بعقوبة الغاصب»(7).

و هذا القول هو مختار المحقّق الإیروانی(8) رحمه الله .

القول الرابع: أعلی القیم من حین القبض أو الغصب إلی حین ردّ القیمة

حکی الشهید الثانی(9) هذا القول عن المحقّق(10) فی أحد قولیه و اختاره الوحید البهبهانی فی حاشیته علی مجمع الفائدة(11) و نقل عنه ابن اخته فی الریاض(12)، و علّق علیه صاحب المفتاح بقوله: «هذا قول آخر غیر مشهور»(13). و قال سیّد الریاض «و کیف کان فالمسألة محل إشکال. و الاحتیاط یقتضی المصیر إلی مختار الخال، لکن علی سبیل

ص:512


1- (3) مختلف الشیعة 6/116.
2- (4) الشرائع 3/189.
3- (5) الکفایة 2/640.
4- (6) المسالک 12/186.
5- (7) الروضة البهیة 7/42 و 43.
6- (8) الدروس 3/113.
7- (9) مفتاح الکرامة 18/149.
8- (10) حاشیته علی المکاسب 2/152.
9- (11) الروضة البهیة 7/40 و المسالک 12/186.
10- (12) اُنظر ترددات الشرائع 2/110.
11- (13) حاشیة مجمع الفائدة و البرهان /624.
12- (14) ریاض المسائل 14/30.
13- (15) مفتاح الکرامة 18/151.

الاستحباب»(1).

القول الخامس: أعلی القیم من یوم التلف إلی یوم الأداء

لم أعرف قائله فعلاً ولکن ذکره المحقّق السیّد الخوئی(2) فی ضمن الأقوال.

و هو وجه أو قول عند الشافعیة(3) و الحنابلة، جاء فی الإنصاف: «و قیل أکثرهما - یعنی أکثر القیمتین - قیمته یوم البدل و قیمته یوم التلف»(4).

القول السادس: قیمة یوم الأداء

قال به السیّد الیزدی و یراه «الأوفق بالقاعدة حسبما عرفت من عدم الانقلاب»(5).

مراده عدم انقلاب ضمان المثل إلی القیمة إلاّ حین فقدان المثل و أدائها.

القول السابع: قیمة یوم البیع

فی مسألتنا المقبوض بالبیع الفاسد، ذهب إلیه المفید(6) و الشیخ(7) و ابن البراج(8) و أبوالصلاح(9).

و هناک أقوال أُخَر أو وجوه لعلّها تبلغ خمسة عشر قولاً و وجها کلّها من العامة الضعفاء تجدها فی کتاب «المال المثلی و المال القیمی فی الفقه الاسلامی»(10).

ص:513


1- (16) ریاض المسائل 14/30.
2- (1) مصباح الفقاهة 3/177.
3- (2) نهایة المحتاج 5/162.
4- (3) الانصاف 6/191.
5- (4) حاشیة المکاسب 1/502.
6- (5) المقنعة /593.
7- (6) النهایة و نکتها 2/145.
8- (7) لم أجدها فی المهذب و لا فی جواهره و نقل عنه فی المختلف 5/244.
9- (8) الکافی فی الفقه /353.
10- (9) للشیخ العلاّمة الدکتور عباس ابن الشیخ علی ابن الشیخ محمّد رضا ابن الشیخ هادی ابن الشیخ عباس ابن الشیخ علی ابن الشیخ جعفر کاشف الغطاء - قدس سره أسرارهم - نشر الذخائر، النجف الأشرف، 1420ق و طبع للمرّة الثانیة بقم عام 1430ق من منشورات بوستان کتاب.
الاستدلال للقول الأوّل: قیمة یوم القبض أو الغصب

استدلوا له بفِقْرَتی صحیحة أبی ولاّد الماضیة(1) و هما:

الفقرة الاُولی: «نعم، قیمة بغل یوم خالفته».

و استدل بهذه الجملة بوجهین:

الوجه الأوّل: الظرف فیها و هو کلمة «یوم» قید لکلمة «قیمة» و قد قرّبوه بأنحاء مختلفة:

1- الظرف «الیوم» یتعلق ب- «قیمة» لأنّها و إن لم تکن معنی حدثیّا ولکن فیها شائبة الحدثیّة، لأنّها لیست من الجوامد المحضة حتّی لایصح تعلّق الظرف بها، و کلمة «بغل» مجرور باضافة القیمة إلیه، و یؤید هذا النحو من الاستدلال تعریف الکلمة أی «البغل» کما فی الوافی(2) و بعض نسخ التهذیب(3) و نسخة خطیة من الکافی(4) و فی إجارة الحدائق(5) و بیعه(6) و حینئذ فلا یصلح للإضافة إلی ما بعده و إذن فمفاده أنّ الثابت علی الغاصب إنّما هو قیمة یوم المخالفة أی یوم الغصب.

و فیه: لایمکن أن یتعلق الظرف بکلمة «قیمة» لأنّها من الجوامد و لیست معنی

ص:514


1- (10) الکافی 5/290، ح5، التهذیب 7/215، ح25، الاستبصار 3/134، ح2 و نقل عنهم فی وسائل الشیعة 19/119، ح1، الباب 17 من أبواب کتاب الإجارة.
2- (1) الوافی 18/933.
3- (2) نقل عنها المحقّق الخوئی فی مصباح الفقاهة 3/181.
4- (3) نقل عنها الشهیدی فی هدایة الطالب 2/360.
5- (4) الحدائق 21/595.
6- (5) الحدائق 18/469.

حدثیّا و متعلّق الظرف لابدّ أن یکون معنیً حدثیّا.

2- جملة «قیمة بغل»، مضاف و مضاف إلیه، تضاف إلی جملة «یوم خالفته» فتدلّ علی المطلوب أی إثبات ضمان قیمة البغل یوم الغصب.

و فیه: هذا البیان لایجتمع مع تعریف کلمة «البغل» الواردة فی الوافی و بعض نسخ التهذیب، لأنّ ذلک مانع من إضافته إلی ما بعده.

3- کلمة «القیمة» أُضیفت مرّة إلی «بغل» و مرّة أُخری إلی «یوم»، و إسقاط حرف التعریف من کلمة «بغل» المشیر إلی بغل معین خارجی الذی وقعت علیه الإجارة، حاصل بالإضافة المسوقة لبیان العهد الخارجی و إذن حرف التعریف فیها یکون لغوا و خالیا مِنَ الفائدة.

و لعلّ إلی ما ذکرنا فی هذا النحو من الاستدلال أشار الشیخ الأعظم بقوله: «فإن الظاهر أنّ الیوم قید للقیمة إمّا بإضافة القیمة المضافة إلی البغل إلیه ثانیا، یعنی قیمة یوم المخالفة للبغل، فیکون إسقاط حرف التعریف من البغل للإضافة، لا لأنّ ذا القیمة بغل غیر

معین، حتّی توهم الروایة مذهب من جعل القیمی مضمونا بالمثل، و القیمة إنّما هی قیمة المثل»(1).

و فیه: أنّ المضاف إلی شیءٍ أوّلاً لایضاف إلی غیره ثانیا لأنّ ذلک مخالف بطریقة أهل الاستعمال.

و یمکن أن یکون مراده قدس سره : أنّ کلمة «قیمة» اُضیفت إلی کلمة «بغل» أوّلاً، ثم جملة «قیمة بغل» تضاف إلی جملة «یوم المخالفة» ثانیا فحینئذ یرجع إلی النحو الثانی من الاستدلال و یردّه ما ردّه من تعریف کلمة «البغل» فی الوافی و بعض نسخ التهذیب.

ص:515


1- (1) المکاسب 3/247.

4- ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره ثانیا بقوله: «و إمّا بجعل الیوم قیدا للاختصاص الحاصل من اضافة القیمة إلی البغل»(1).

و مراده: إنّ لفظ یوم قید للاختصاص الحاصل من إضافة لفظ «قیمة» إلی کلمة «بغل» فیکون الظرف أی «یوم» منصوبا للاختصاص و معنی الجملة: أنّ علی الغاصب القیمة المختصة بالبغل یوم المخالفة أی الغصب.

و فیه: أوّلاً: العامل فی الظرف لایکون إلاّ الفعل أو شبهه دون الحرف.

و ثانیا: الاختصاص الحاصل من الإضافة یکون معنا حرفیا فلا یمکن أن یکون محکوما به و لامحکوما علیه، فإذن لامعنی لتقییده أصلاً.

5- کلمة «قیمة» تضاف إلی «بغل» و کلمة «بغل» تضاف إلی «یوم» و لابأس بتتابع الإضافات کما وقع فی أفصح کلام العرب و هو قوله تعالی: «مثلَ دأبِ قومِ نوحٍ و عادٍ و ثمودَ و الذین مِنْ بعدهم...»(2).

فحینئذ یصیر المعنی: علی الغاصب قیمةُ بغلٍ یومِ المخالفة أی الغصب.

و فیه: لایتم هذا الوجه مع تعریف کلمة «البغل» کما فی الوافی و بعض نسخ التهذیب لأنّ الاسم المحلّی باللام لایضاف إلی ما بعده کما هو الظاهر.

و أمّا المناقشة(3) فی هذا النحو من الاستدل من عدم صحة اضافة لفظ «بغل» إلی «یوم» کما لایصح أن یقال: دار یوم و أرض أمس و غرفة غد، لا تتمّ صحّة هذه الاضافة کما

یصح أن یقال: رجل الیوم و مرأة اللیل و عالم الغد و بطله و هذه الاضافة تعدّ من محاسن الکلام.

ص:516


1- (2) المکاسب 3/247.
2- (3) سورة غافر /31.
3- (4) المناقِش هو المحقّق الخوئی فی مصباح الفقاهة 3/183 کما أنّ جمیع هذه الوجوه له.

الوجه الثانی: و هو ما احتمله جماعة(1)

«من تعلّق الظرف بقوله «نعم» القائم مقام قوله علیه السلام : یلزمک، یعنی یلزمک یوم المخالفة قیمة بغل» کما فی المکاسب للشیخ الأعظم قدس سره .

مراده ما ورد فی سؤال أبی ولاّد: أرأیت لو عطب البغل و نفق(2) ألیس کان یلزمنی؟ قال علیه السلام : نعم قیمة بغل یوم خالفته.(3)

لفظ «نعم» قام مقام فعل یلزمک فیکون شبیة بالفعل و یصح تعلق الظرف به و أنّه العامل فی الظرف، و یدلّ علی ثبوت قیمة یوم الغصب أو القبض علیه.

ولکن یرد علی هذا الاستدلال: أوّلاً: هذا یدل علی أنّ الضمان یثبت فی یوم المخالفة و الغصب و أمّا مقداره غیر مذکور، فهل یتعلق بقیمة البغل یوم الغصب أو التلف أو الأداء أو غیرها لم یرد فیه.

و ثانیا: لایمکن أخذ هذا الاستدلال لأنّه واضح البطلان من جهة أنّ الضمان لایتعلَّق بالقیمة إلاّ بعد تلف العین و فی یوم المخالفة، العین باقیة فلا یمکن الأخذ به.

و ثالثا: أ: یردّ هذا الاستدلال الجملة الآتیة بعدها فی الصحیحة حیث یسأل أبوولاّد: فإن أصاب البغل کسرٌ أو دَبْرٌ(4) أو غمز(5)، فقال علیه السلام : علیک قیمة ما بین الصحة و

ص:517


1- (1) منهم: المحقّق السبزواری فی الکفایة 2/643 و سیّد الریاض 14/27 و أصحاب المفتاح 18/148 و 12/638 و الجواهر 37/101 و المستند 14/290 و المکاسب 3/247 و الکلّ یردّون علیه و لایقبلونه.
2- (2) عَطَب الرجل عطبا: هلک، یکون فی الناس و غیرهم. و عطب البعیرة: انکسر، نَفَق الرجل و الدابة نفوقا: ماتا و خرجت روحهما.
3- (3) وسائل الشیعة 19/120.
4- (4) الدبر بالتحریک کالجراحة تحدث فی الرِجْل و غیره.
5- (5) غمزت الدابة: مالت من رجلها، و الغمر: العطش، و العقر: الجرح.

العیب یوم تردّه علیه.(1)

حیث حکم الإمام علیه السلام بالأرش بقیمة یوم ردّه - أیّ یوم الأداء - . لایوم قبضه أو غصبه.

ب: و کذا الجملة التی تلیها من قوله علیه السلام : «أنّ قیمة البغل حین اکتری کذا و کذا

فیلزمک»، حیث بظاهرها تدلّ علی ثبوت قیمة یوم الاکتراء و لم یقل به أحد.

نعم، لو لم تکن کلمة «یوم» فی الصحیحة کما ادّعاها صاحب الجواهر بقوله: «إنّ الموجود فیما حضرنی من نسخة التهذیب الصحیحة المحشاة «تردّه علیه» من دون لفظ «یوم» و معناه أنک تردّ الأرش علیه مع البغل...»(2).

و لأنّ ردّ الأرش لایکون إلاّ فی یوم الردّ فحینئذ وجود کلمة «یوم» وعدمها فی الروایة علی السّواء کما اعترف بما ذکرنا صاحب الجواهر بقوله: «... فالمتجه أن یراد منه أنّ علیک ردّ الأرش حین تردّ البغل».

فعلیه لایتم الردّ «الف»، ولکن لو قلنا بأنّ الأصل عدم الزیادة، فلابدّ من الأخذ ب-«الیوم» و یتمّ الردّ و هذا هو المتجه.

و لذا قال الشیخ الأعظم فی شأن هذا الوجه من الاستدلال: «بعید جدّا بل غیر ممکن»(3).

أختتم هذا الوجه من الاستدلال بذکر مقالة العلاّمة الشیخ أبیالحسن الشعرانی رحمه الله فی تعلیقته علی الوافی قال: «قوله: «قیمة البغل یوم خالفته» یوم ظرف لغو متعلِّق بیلزمک المقدَّر، أی یلزمک القیمة لزوما معلَّقا علی التلف یوم خالفته فإنّه یوم تحقّق الغصب و هو

ص:518


1- (6) وسائل الشیعة 19/120.
2- (1) الجواهر 37/102.
3- (2) المکاسب 3/248.

مبدأ الضمان، و حمله جماعة من الفقهاء إنّ الیوم صفة القیمة أی القیمة الثابتة للبغل یوم المخالفة، و علی هذا فهو ظرف مستقر و هو بعید، إذ لایختلف عادة قیمة البغل فی خسمة عشر یوما و لایمکن أن یتردّد الناس فی أنّ القیمة المضمونة قیمة أیّ یوم منها، و لامراد الإمام علیه السلام رفع تردّدهم بأنّها قیمة یوم الغصب و القرینة علی ما ذکرنا قوله: «علیک قیمة ما بین الصحة و العیب یوم تردّه علیه» فإنّ هذا أیضا ظرف لغو متعلَّق بیلزمک المفهوم من قوله علیه السلام : «علیک»، و لیس المراد القیمة الثابتة للبغل یوم الردّ، و یؤیده أیضا قوله علیه السلام : «إنّ قیمة البغل حین اکتری کذا...» لأنّ یوم الإکتراء کان قبل یوم المخالفة و یوم الردّ و ثبوت قیمة یوم الاکتراء إن خالف قیمة الیومین ممّا لم یقل به أحد، فلابدّ أن یکون قیمة البغل ثابتة غیر متغیّرة فی خمسة عشر یوما بحیث یکون ثبوتها حین الاکتراء موجبا لثبوتها یوم المخالفة و یوم الردّ لعدم التغییر، فمن تمسّک بهذه الصحیحة علی وجوب خصوص قیمة یوم الردّ أو یوم الغصب کما نقله فی الکفایة(1) فقوله ضعیف جدّا»(2).

و قال قبله المحقّق النائینی: «أن یکون الیوم ظرف لغو متعلِّق بعامل محذوف یدل علیه قوله علیه السلام : نعم، إذ هو فی قوة القول بأنّه یلزمک بعد سؤال السائل أیلزمنی، و ینبغی أن یعلم، أنّ الظرف و ما یجری مجراه کالجار و المجرور لایقع إلاّ لغوا، و منها ما تقع لغوا تارة و مستقرّا اُخری:

و معنی ظرف اللغو: هو ما کان محمولاً علی توابع الذات مثل زید ضرب فی الدار حیث أنّ فی الدار یکون من قیود الضرب الذی من توابع الذات.

و معنی ظرف المستقر: هو ما کان محمولاً علی نفس الذات مثل زید فی الدار، حیث

ص:519


1- (3) الکفایة 2/643.
2- (4) تعلیقته علی الوافی 18/933.

إنّ «فی الدار» من قیود نفس الذات لا من قیود توابعه فمثل کلمة «فی» قد تکون من قیود الذات و قد تکون من قیود توابع الذات و هذا بخلاف مثل کلمة «مِن» حیث أنّها لاتقع إلاّ قیدا لتوابع الذات فیقال: سیر زید من البصرة، و لایقال: نفس زید من البصرة.

و کلمة الیوم ممّا لایمکن أن یقع ظرفا مستقرا و یجعل بنفسها محمولاً علی الذات فیقال: القیمة یوم المخالفة، بل لابدّ من جعله من قیود توابع الذات و هی فی المقام یلزمک المقدَّر بقرینة کلمة «نعم» الواقعة فی جواب السائل «یلزمنی کذا» فیصیر المعنی یلزمک یوم المخالفة قیمة البغل، و علی هذا فقد یقال بأنّه لایدل علی لزوم قیمة یوم المخالفة، بل إنّما یدل علی الضمان من یوم المخالفة و أمّا المقدار المضمون فهل هو قیمة یوم المخالفة أو غیرها فلا دلالة فیها...»(1)

و ظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة مقالة المحقّق السیّد الخوئی - تبعا لأُستاذه المحقّق النائینی(2) - قدس سره : «نعم، لابأس بدلالتها علی ذلک التزاما، فإنّ ذکر القیمة فیها ثمَّ إضافتها إلی کلمة بغل ثمّ ذکر یوم المخالفة بعد ذلک من القرائن الظاهرة علی أنّ الإمام علیه السلام إنّما قدّر مالیة المغصوب و بیّن أنّ ضمانها بقیمة یوم المخالفة، إذ لا معنی لکون الضمان یوم الغصب فعلیّا و یکون المدار فیه علی قیمة یوم آخر»(3)

الفقرة الثانیة: «أو یأتی صاحب البغل بشهود یشهدون أنّ قیمة البغل حین اکتری

کذا و کذا فیلزمک»(4).

قال الشیخ الأعظم فی تقریب الاستدلال بهذه الفقرة: «فإنّ إثبات قیمة یوم الإکتراء

ص:520


1- (1) المکاسب و البیع 1/360.
2- (2) کما فی تقریراته المکاسب و البیع 1/361.
3- (3) مصباح الفقاهة 3/184.
4- (1) وسائل الشیعة 19/120.

من حیث هو یوم الإکتراء لاجدوی فیه، لعدم الاعتبار به، فلابدّ أن یکون الغرض منه إثبات قیمة یوم المخالفة، بناءً علی أنّه یوم الإکتراء، لأنّ الظاهر من صدر الروایة أنّه خالف المالک بمجرد خروجه من الکوفة، و من المعلوم أنّ إکتراء البغل لمثل تلک المسافة القلیلة إنّما یکون یوم الخروج، أو فی عصر الیوم السابق، و معلوم أیضا عدم اختلاف القیمة فی هذه المدّة القلیلة»(1).

توضیح کلامه: یوم الکری لاضمان فیه لأنّ المستأجر لایضمن العین المستأجرة قبل المخالفة فلابدّ من حمله علی فرض اتّحاد یَوْمَیِ الکَرْیِ و المخالفة لأنّ قنطرة الکوفة التی هی مکان المخالفة قریبة من الکوفة التی هی مکان الاکتراء بحیث لایقع فصل بین وقت الاکتراء و بین الوصول إلی القنطرة، فالیومین واحد و الاعتبار بیوم المخالفة للعلم بعدم اعتبار یوم الاکتراء و علی فرض اختلاف الیومین القیمة فیهما تکون واحدة. و إنّما ذکر یوم الکری لا المخالفة لأنّها وقعت من القنطرة و إقامة الشهود علی قیمة البغل حین المخالفة لعلّه کانت عسریّا لعدم من یطلع علیها وقت العبور بخلاف وقت الکری حیث أنّه یقع غالبا بمجمع من الناس فلذلک ذکر یوم الکری و بعد جعل یوم الکری هو یوم المخالفة. کما ظهر من المحقّق النائینی(2).

کما یظهر الأخیر من الشیخ الأعظم بقوله: «إلاّ أن یقال: إنّ الوجه فی التعبیر بیوم الاکتراء مع کون المناط یوم المخالفة هو التنبیه علی سهولة إقامة الشهود علی قیمته فی زمان الاکتراء، لکون البغل فیه غالبا بمشهد من الناس و جماعة من المکارین بخلاف زمان المخالفة من حیث أنّه زمان المخالفة، فتغییر التعبیر لیس لعدم العبرة بزمان المخالفة بل للتنبیه علی

ص:521


1- (2) المکاسب 3/248.
2- (3) المکاسب و البیع 1/362.

سهولة معرفة القیمة بالبینّة کالیمین فی مقابل قول السائل: «و من یعرف ذلک»، فتأمل»(1).

قال الفقیه الیزدی رحمه الله ردّا علی هذا الاستدلال: «لایخفی ما فیه، إذ غایة ما فی هذا البیان توجیهه بحیث لاینافی مادلّ علی کون المدار علی یوم المخالفة علی فرض وجوده، و إلاّ

فلا یمکن أن یکون دلیلاً علیه کما هو الواضح...»(2).

ثم ردّ الشیخ الأعظم الاستدلال علی هذه الفقره بقوله: «نعم، یمکن أن یوهن ما استظهرناه من الصحیحة بأنّه لایبعد أن یکون مبنی الحکم فی الروایة علی ما هو الغالب فی مثل مورد الروایة من عدم اختلاف قیمة البغل فی مدّة خمسة عشر یوما، و یکون السرّ فی التعبیر بیوم المخالفة دفع ما ربّما یتوهّمه أمثال صاحب البغل من العوام: أنّ العبرة بقیمة ما اشتری به البغل و إن نقص بعد ذلک لأنّه خسّره المبلغ الذی اشتری به البغلة»(3).

ثم یؤید الشیخ الأعظم هذا الرد بتأییدین:

الأوّل: «و یؤیّده: التعبیر عن یوم المخالفة فی ذیل الروایة ب-«یوم [حین] اکتری» فإن فیه إشعارا بعدم عنایة المتکلّم بیوم الخالفة من حیث أنّه یوم المخالفة»(4).

الثانی: «و یؤیّده أیضا: قوله علیه السلام فی ما بعد من جواب قول السائل: «و من یعرف ذلک؟ قال: أنت و هو، إمّا أن یحلف هو علی القیمة فیلزمک، فإن ردّ الیمین علیک فحلفت علی القیمة لزمه ذلک، أو یأتی صاحب البغل بشهود یشهدون أنّ قیمة البغل حین اکتری کذا و کذا فیلزمک...» الخبر(5)، فإنّ العبرة لو کانت بخصوص یوم المخالفة لم یکن وجه لکون القول

ص:522


1- (4) المکاسب 3/250.
2- (1) حاشیة المکاسب 1/505.
3- (2) المکاسب 3/250.
4- (3) المکاسب 3/250.
5- (4) وسائل الشیعة 19/120.

قول المالک مع کونه مخالفا للأصل، ثمّ لا وجه لقبول بیّنته، لأنّ من کان القول قوله فالبینة بینة صاحبه، و حمل الحلف هنا علی الحلف المتعارف الذی یرضی به المحلوف له و یصدّقه فیه من دون محاکمة - و التعبیر بردّه الیمین علی الغاصب من جهة أنّ المالک أعرف بقیمة بغله، فکان الحلف حقّ له ابتداءً - خلاف الظاهر»(1).

و اختار صاحب الجواهر(2) و تبعه المحقّق الإیروانی هذا الأخیر فی قضیة الحلف من أنّ «فی مورد الروایة لم یفرض مخاصمة...»(3).

و جوابه: کما مرّ عن الشیخ الأعظم من أنّه خلاف الظاهر، و ظاهرها أنّه وارد فی مورد المخاصمة و المحاکمة. کما عن المحقّق السیّد الخوئی(4).

عویصةٌ فی الصحیحة

ثمّ هذا التّأیید الأخیر فی کلام الشیخ الأعظم یعدّ عویصة فی الصحیحة لأنّ الظاهر فی النزاع فی اختلاف القیمة أنّ المالک یدعی زیادة القیمة فهو مدّعٍ و الغاصب یدّعِیْ القیمة الأقلّ، و الأصل عدم زیادة القیمة فالأصل مطابق لقوله فهو منکرٌ، فعلی قانون القضاء، «البینة علی المدعی و الیمین علی من أنکر» ولکن فی الصحیحة عرض الیمین أوّلاً علی المدعی ثم علی المنکر و کذلک البینة، مضافا إلی أنّه کیف یمکن الجمع بین الیمین و البینة فی شخص واحد؟

و لذا تصدّی الأعلام إلی جوابها:

منهم: صاحب الجواهر و تبعه المحقّق الإیروانی رحمه الله فی مقالته و قد مرّ جوابها و یأتی

ص:523


1- (5) المکاسب 3/251.
2- (6) الجواهر 37/224.
3- (7) حاشیته علی المکاسب 2/151.
4- (8) مصباح الفقاهة 3/192.

نص الجواهر فی المقام.

و تبعهما السیّد الحکیم فی ظاهر کلامه الآتی.

و منهم: شیخ الطائفة

حملها علی التعبد و تخصیص قانون القضاء بها إمّا مطلقا أو فی خصوص الدابة، قال فی النهایة: «و من غصب غیره متاعا و باعه من غیره ثمّ وجد صاحب المتاع عند المشتری کان له انتزاعه من یده... فإن اختلف فی قیمة المتاع، کان القول قول صاحبه مع یمینه باللّه تعالی...»(1).

و علّله المحقّق فی نکت النهایة بقوله: «إنّما کان القول قول المالک لأنّ الثابت فی الذمة هی الشیء المغصوب، فإذا إدّعی الغاصب أنّ القدر المدفوع هو قیمته و أنکر المالک، کان القول قوله، لأنّ الغاصب یدعی خلاص ذمّته ممّا هو ثابت فیها بالقدر المدفوع و أنّ القدر هو قیمة ما فی الذمة و علی هذا التخریج لاتکون هذه الصورة خارجة عن الأصل»(2).

أقول: و أنت تری لو تمّ ما ذکره المحقّق فی تبیّن مراد الشیخ لم یکن کلامه تخصیصا للقاعدة الکلّیة ولکن الشیخ الأعظم استفاد من کلامه تخصیص القاعدة کما یأتی.

و قال الشیخ أیضا: «.. و من اکتری دابّة لیرکبها هو لم یجز أن یرکبها غیره... و إذا اکترها علی أن یرکبها إلی موضع مخصوص لم یجز له أن یتجاوزه و... فإن اختلفا فی الثمن کان

علی صاحبها البینة فإن لم تکن له بینة کان القول قوله مع یمینه فإن لم یحلف و ردّ الیمین علی المستأجر منه لزمه الیمین أو یصطلحان علی شیءٍ و الحکم فیما سوی الدابة فیما یقع الخلف فیه بین المستأجر و المستأجر منه کانت البینة علی المدعی و الیمین علی المدعی علیه»(3).

ص:524


1- (1) النهایة /402.
2- (2) النهایة و نکتها 2/179.
3- (1) النهایة /446.

و صرح المحقّق فی نکتها بأنّه عمل بصحیحة أبیولاّد فتکون مخصصة لقاعدة البینة علی المدعی و الیمین علی المدعی علیه، و أمّا غیر الدابة ممّا یقع الخلاف فی ثمنه فمشمول بعموم القاعدة(1).

و قال فی الحدائق ناقلاً عن الشیخ: «فذهب فی النهایة إلی العمل بالخبر و جعل مقصورا علی مورده و هو الدابة»(2) ثمّ استقوی مختار الشیخ بقوله: «و المسألة لاتخلو من إشکال و إن کان ما ذهب إلیه الشیخ لا یخلو من قوة لصحة الخبر و صراحته فیخصص به عموم القاعدة المذکورة کما خصصوها فی مواضع عدیدة»(3).

و حکی الشیخ الأعظم هذا الحمل من الشیخ بدقّة تلیق به و بعّده بقوله: «و أبعد منه حمل النص علی التعبد و جعل الحکم فی خصوص الدابة المغصوبة أو مطلقا مخالفا للقاعدة المتفق علیها نصا و فتویً من کون البینة علی المدعی و الیمین علی من أنکر کما حیکی عن الشیخ فی بابی الإجارة و الغصب»(4).

أقول: أوّل من ردّ علی الشیخ الطوسیّ فی هذا التخصیص هو ابن ادریس قال بعد نقل مقالته الثانیة فی النهایة: «... و الصحیح أنّه لافرق بین الدابة و غیرها فی ذلک، فالمفرِّق یحتاج إلی دلیل»(5).

و تبعه صاحب الشرائع و قال: «إذا تعدّی فی العین المستأجرة ضمن قیمتها وقت العدوان ولو اختلفا فی القیمة، کان القول قول المالک إن کانت دابةً، و قیل: القول قول

ص:525


1- (2) النهایة و نکتها 2/280 و 281.
2- (3) الحدائق 21/595.
3- (4) الحدائق 21/596.
4- (5) المکاسب 3/252.
5- (6) السرائر 2/465.

المستأجر علی کلّ حالٍ و هو أشبه»(1).

أقول: أوّلاً أشار ب-«قول» إلی الشیخ، و ب-«قیل» تعرض لقول ابن إدریس و هو یراه

أشبه بقواعد المذهب.

و استجود العلاّمة قول ابن ادریس فی المختلف(2).

و تبعهم ثانی الشهیدین و قال فی ذیل قول المحقّق: «القول بالتفصیل للشیخ رحمه الله و الأقوی ما اختاره المصنف من تقدیم قول المستأجر مطلقا، لأنّه منکر»(3).

و استقربه المحقّق السبزواری و قال: «ولو اختلفا فی القیمة قیل: القول قول المالک ان کانت دابة و هو قول الشیخ، و قیل: القول قول المستأجر و لعلّه الأقرب، لأنّه منکر»(4).

و قال صاحب الحدائق: «و ذهب ابن ادریس إلی أنّ القول قول المستأجر لأنّه منکر و لم یفرِّق بین الدابة غیرها و تبعه المتأخرون کالفاضلین و نحوهما غیرهما و أطرحوا الخبر من البین...»(5).

و قال فی الجواهر ممزوجا بمتنه: «(إذا تلف المغصوب و اختلفا فی القیمة ف-) عن المقنعة(6) و النهایة(7) أنّ (القول قول مالک مع یمینه) بل (و) عن التحریر(8) (هو قول الأکثر)

ص:526


1- (7) الشرائع 2/148.
2- (1) مختلف الشیعة 6/150.
3- (2) المسالک 5/221.
4- (3) الکفایة 1/661.
5- (4) الحدائق 21/595.
6- (5) المقنعة /607.
7- (6) النهایة /402.
8- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 4/550.

و إن کنّا لم نجده لغیرهما(1).

(و قیل) و القائل الشیخ(2) و الحلّی(3) و الفاضل(4) و ولده(5) و المقداد(6) و الشهیدان(7) و الکرکی(8) و غیرهم(9) علی ما حکی(10) عن بعضهم: (القول قول الغاصب)

بیمینه، بل فی المسالک(11) نسبته إلی أکثر المتأخرین، بل فی الریاض(12) إلی عامتهم.

(و) لا ریب فی أنّه (هو أشبه) باصول المذهب و قواعده التی منها أصالة براءة ذمّته باعتبار أنّه غارم و منکر»(13).

و ذهب إلی هذا الجمع المحقّق الخراسانی و قال: «ربما یأتی عنه [أیّ من الشیخ الأعظم] أنّه الحلف الفاصل للخصومة فی مقام الحکومة، و یمکن أن یقال: إنّ الإمام علیه السلام إنّما یکون بصدد الاشارة إلی ما یقع معه الخصومة، لا فی مقام بیان موازین الحکومة لدی التشاجر و الخصومة، حیث إنّ الانسان یحصل له الاطمینان بحلف خصمه غالبا لو لم یکن

ص:527


1- (8) ولکن فی الکفایة 2/656: «لا یبعد ترجیحه».
2- (9) المبسوط 3/75 و 95 - الخلاف 3/412، مسألة 26.
3- (10) السرائر 2/490 و 496.
4- (11) تذکرة الفقهاء 2/399 من الطبع الحجری - تحریر الأحکام الشرعیة 4/550 - إرشاد الأذهان 1/448 - مختلف الشیعة 6/128 - تبصرة المتعلمین /109.
5- (12) إیضاح الفوائد 2/196.
6- (13) التنقیح الرائع 4/78.
7- (14) الدروس 3/117 - اللمعة /236 - المسالک 12/248 - الروضة البهیة 7/58.
8- (15) جامع المقاصد 6/336.
9- (16) نحو أصحاب المقتصر /344 و الشرائع 3/198 و النافع /249.
10- (17) الحاکی هو السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 18/383 و 384.
11- (1) المسالک 12/249 و تبعه صاحب الکفایة 2/656.
12- (2) ریاض المسائل 14/51.
13- (3) الجواهر 37/223.

دائما، و کان مراده من الحلف أو الردّ، الحلف فی صورة اطمینانه بمقدار القیمة دون صاحبه و الردّ فی صورة العکس فیحصل للجاهل منهما الاطمینان بحلف الآخر فتدبّر»(1).

و فی الریاض: «ولو لا إطباق متأخری الأصحاب علی العمل بالأصل العام و اطرّاح الروایة لکان المصیر إلیها فی غایة القوة، لکن لامندوحة عمّا ذکروه، لاعتضاد الأصل بعملهم، فیترجّح علیها و إن کانت خاصة لفقد التکافؤ، و مع ذلک فالاحتیاط لازم فی المسألة بمراعاة المصالحة»(2).

و قال الفقیه الیزدی ردا علی سیّد الریاض: «قلت: بل هو فی غایة القوة مع ذلک أیضا، و عموم قوله صلی الله علیه و آله : البینة علی المدعی و الیمین علی من أنکر، کسائر العمومات قابل للتخصیص، و الروایة صحیحة کالصریحة، مع أنّ الحکم المذکور مناسب لأخذ الغاصب بأشق الأحوال، فتدبر»(3).

و کذلک اختار المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله مقالة الشیخ و قال: «بل الظاهر - و اللّه العالم - هو الأخذ بظاهر الصحیحة من توجّه کلا الأمرین - أی الحلف و إقامة البینة - علی المالک فی خصوص الدابة المغصوبة أو فی مطلق القیمی المغصوب، و إذن فتکون الصحیحة مخصصة لقاعدة البیّنة علی المدعی و الیمین علی المنکر، فلا غرو فی ذلک، لأنّ تلک القاعدة لیست من

القواعد العقلیة حتّی لاتقبل التخصیص أو التقیید، بل هی قاعدة فقهیة قابلة لذلک، کما أنّ سائر القواعد الفقهیة کذلک، و علیه فالمستفاد من الصحیحة أنّه إذا اختلف المالک و الغاصب فی زیادة القیمة و نقصانها جاز للمالک أن یحلف علی ما یدعیه من زیادة القیمة أو یرده إلی الغاصب، أو یقیم بینة علی ذلک، فکان هذا الحکم تفضلٌ من الشارع المقدس

ص:528


1- (4) حاشیته علی المکاسب /43.
2- (5) ریاض المسائل 14/52.
3- (6) حاشیة المکاسب 1/509.

للمالک علی رغم من الغاصب»(1).

أقول: فالقائل بتخصیص القاعدة بالصحیحة هما الشیخان و استقواه صاحب الحدائق و اختاره المحقّق الخراسانی و الفقیه الیزدی و المحقّق السیّد الخوئی کما مرّ.

و منهم: صاحب الجواهر

قال فی حمل الصحیحة: «قلت: لکن قد یقال: یمکن حمله علی إرادة بیان أنّ ذلک طریق لمعرفة القیمة مع التراضی بینهما فی ذلک، لا أنّ المراد بیان تقدیم قوله مع عدم التراضی و إلاّ لم یکن معنی لقوله علیه السلام : «أو یأتی... بشهود» ضرورة عدم الحاجة إلیهم فی إثبات قوله بناءً علی أنّ القول قوله.

و لعل التأمل الجیّد یقتضی أنّ المراد بالصحیح المزبور بیان انحصار معرفة القیمة کما هی بهما، لکن بالحلف علی الوجه المزبور أو بالشهود، و هو کذلک فإنّ کلاًّ منهما مدعٍ بالنسبة إلی تعیین کون القیمة کذا فی الواقع، و قولنا بتقدیم قول الغاصب یراد منه تقدیمه بالنسبة إلی نفی شغل ذمّته بالزائد، لا علی تعیین کون القیمة کذا، فلا دلالة فی الصحیح المزبور علی فرض المسألة بما عند الأصحاب من کون المراد شغل ذمّة الغاصب بالزائد و عدمه.

بل إن لم یحمل علی ما ذکرناه من التراضی بینهما علی الیمین لم یکن معنی لقوله علیه السلام : «تعرفها أنت و هو»، ضرورة کون المعرفة للمالک حینئذ، بناءً علی أنّ القول قوله، و لیس المراد من قوله علیه السلام : «فإن ردّ الیمین علیک» الیمین المردودة المصطلحة، إذ تلک إنّما هی علی نفی ما یدعیه المنکر، لا علی إثبات ما یدعیه الغاصب فلا محیص حینئذ عن حمل الصحیح المزبور علی ما ذکرناه و إلاّ نافی قواعد القضاء، فتأمل جیدا. و اللّه العالم»(2).

ص:529


1- (1) مصباح الفقاهة 3/191.
2- (2) الجواهر 37/224.

أقول: قد مرّ هذا الحمل من الشیخ الأعظم و أنّه یراه خلاف الظاهر(1) ولکن اختاره المحقّق الإیروانی(2) و قد مر أنّ ظاهر الصحیحة وارد فی مورد المحاکمة و المخاصمة

و منهم: الشیخ الأعظم

و یظهر من حلّه دلیل قیمة یوم التلف.

ذهب الشیخ الأعظم إلی أنّ توجیه الصحیحة بحیث لا یوجب تخصیص القاعدة مع کون العبرة بقیمة یوم المخالفة ممکن بوجهین:

الأوّل: إذا اتفقا المالک و الغاصب علی قیمة البغل فی الیوم السابق علی یوم المخالفة ثمّ اختلفا فی قیمته یوم المخالفة بأن ادّعی الغاصب نقصانها فی یوم المخالفة و ادّعی المالک بقاءها، فحینئذ یکون المالک منکرا لموافقة قوله مع اصالة عدم النقصان.

الثانی: إذا اتفقا علی قیمة البغل فی الیوم اللاحق لیوم المخالفة ولکن الغاصب یدّعی کونها فی یوم المخالفة أقل من قیمتها فی الیوم اللاحق و المالک ینکر الأقلیة فحینئذ أیضا المالک منکر لموافقة قوله مع أصالة عدم التغییر فی القیمة أو الاستصحاب القهقرائی - علی القول بحجیته - .

ولکن الشیخ الأعظم بعد ذکر الوجهین قال: «و لایخفی بعده»(3). و لعل وجه البعد حمل الصحیحة علی الفرد النادر(4) فی هذین الوجهین و لذا عدل عن قیمة یوم المخالفة بقیمة یوم التلف و حلّ العویصة فی ضمن صورتین:

الاولی: المالک و الغاصب یتفقان علی قیمة البغل - مثلاً یوم الاکتراء - ولکن اختلفا

ص:530


1- (3) المکاسب 3/251.
2- (4) حاشیة المکاسب 2/151.
3- (1) المکاسب 3/252.
4- (2) کما فی هدایة الطالب 2/373.

فی تنزله عن تلک القیمة یوم التلف و عدمه فحینئذ لابدّ من الأخذ بقول المالک لکونه موافقا للأصل و هو بقاء القیمة و استمرارها أو استصحابها، و الغاصب یدعی نقصان القیمة فلابّد له من اقامة البینة فالقول قول المالک مع یمینه.

الثّانیة: یتفقان علی أنّ قیمة یوم التلف متحدة - اجمالاً - مع قیمة یوم المخالفة أو الاکتراء أو أیّ یوم کان قبله، ولکنّهما اختلفا فی تعیین تلک القیمة و ادّعی المالک القیمة الأکثر و الغاصب القیمة الأقل فحینئذ المالک یدعی زیادة القیمة و یلزمه إقامة البینة و الغاصب منکر فیتوجّه علیه الیمین.

فما ورد فی الصحیحة من توجّه الیمین علی المالک أوّلاً یمکن تصحیحه فی ضمن الصورة الاولی.

و ما ورد فیها من توجّه الیمین علی الغاصب ثانیا أو اقامة البینة من المالک تحمل علی الصورة الثانیة.

هذا کلّه حلّ الشیخ الأعظم(1).

أقول: هذا الحل منه علیه السلام أیضا بعید فی غایة البعد إذ الظاهر من الصحیحة اتّحاد صورة توجیه الیمین علی المالک مع صورة اقامة البینة له لأنّ الوارد فیها عطف الیمین بالبینة مع حرف «أو» الظاهر فی أنّ کلاهما وظیفة المالک فی صورة واحدة و عطف فیها بفاء التفریع عنوان ردّ الیمین علی الغاصب أیضا قرینة علی اتحاد صورة الدعوی کما نبّه علی الأوّل المحقّق النائینی(2) و تبعه السیّد الخوئی(3). هذا أوّلاً.

و ثانیا: هذا البیان مناف لما اعترف به سابقا من أنّ الغالب عدم تفاوت قیمة البغل

ص:531


1- (1) راجع المکاسب 3/251.
2- (2) المکاسب و البیع 1/366.
3- (3) مصباح الفقاهة 3/191.

فی مدّة خمسة عشر یوما. کما یظهر من المحقّق الاصفهانی(1) بانضمام إشکالین آخرین علیه فراجعهما.

و منهم: المحقّق الأصفهانی

قال: «و علیه فیمکن الجواب عمّا أشکله علی الصحیحة من حیث قبول الحلف و سماع البینة بوجوه ثلاثة:

أحدها: أنّ الإمام علیه السلام فی مقام تعلیم طریق لمعرفة القیمة، لا فی مقام بیان موازین الحکومة لفصل الخصومة، و ذلک لظهور السؤال و الجواب فیما ذکرنا حیث قال السائل: «فمن یعرف ذلک؟» قال علیه السلام : «أنت و هو إمّا أن یحلف هو علی القیمة فیلزمک، فإن ردّ الیمین فحلفت فیلزمه، أو یأتی صاحب البغل بشهود...». فالسؤال عن العارف، و الجواب بأنّه إمّا یحلف المالک لمعرفته بقیمة بغله فیکون طریقا عادیا لمعرفتک، حیث إنّ الانسان بطبعه یطمئن بیمین غیره، و إمّا أن تحلف أنت لمعرفتک بقیمته من حیث کان عندک فی هذه المدّة، فیطمئن المالک بحلفک، أو لا یعرف هو و لا أنت فیأتی بأهل الخبرة من المکارین المشاهدین للبغل فیکون قولهم طریقا عادیا لمعرفتکما، فالصحیحة أجنبیة عن بیان موازین القضاء حتّی یشکل علیها بما مرّ فتدبر.

ثانیها: بحملها علی بیان موازین القضاء، و حمل الدعوی علی صورة غالبة فی مقام الدعوی، و هی دعوی المالک أنّه اشتری البغل بکذا و أنّه علی ما کان کما هو المتعارف فی باب مطالبة الضامن بقیمة ما اشتراه فیصدِّقه الضامن ولکنّه یدّعی بترک القیمة(2)، و المالک علیه الیمین لموافقة دعواه للأصل، ولکن الحلف - کما هو مختار جملة من المحقّقین - إرفاق

ص:532


1- (4) حاشیة المکاسب 1/416.
2- (1) الظاهر مراده قدس سره تنزّل القیمة.

بالمنکر لا أنّه وظیفة معیّنة، و إنّما لم یکلّف بالبینة لعدم تمکنه غالبا من إقامة البینة علی النفی، لا أنّه لایسمع منه البینة، و له فی الشرع نظائر و لیس ما ثبتت فی غیره ممّا ثبت بأقوی من هذه الصحیحة.

ثالثها: بحملها علی صورة غالبة أُخری، هی طبع دعوی الزیادة من المالک و النقص من الغاصب، و قول المالک مخالف للأصل و حقّه إقامة البینة، لکنه ثبت فی الشریعة فی موارد قبول دعوی المدعی إمّا مطلقا أو بیمینه، فلیقبل هنا قول المدعی بیمینه مع مناسبة الحکم و الموضوع حیث أنّه أعرف بقیمة بغله، و الغاصب یؤخذ بأشق الأحوال فلا مانع من العمل بالصحیحة فی قبول دعوی المالک بیمینه، فلیست قاعدة البینة علی المدعی و الیمین علی من أنکر غیر مخصصة أصلاً حتّی یستبعد تخصیصها بالصحیحة، بل مخصصة کثیرا فی طرفیها، و لذا قال بمضمونها جماعة من الأعلام فتدبر جیدا»(1).

أقول: ما ذکره أوّلاً یرجع إلی جمع صاحب الجواهر رحمه الله بین الصحیحة و القاعدة الذی مرّ، و ذکره الشیخ الأعظم و اعترض علیه بأنّ ظاهر الصحیحة هو مقام القضاء و الحکم و تابع الإیروانی صاحب الجواهر کما مرّ، و الإعتراض وارد.

و ما ذکره ثالثا یرجع إلی جمع الشیخ الطوسی قدس سره الذی مرّ و یرد علیه بعدم وجود التکافؤ بین الصحیحة و القاعدة حتّی تخصصها کما مرّ من صاحب الریاض(2) و لذا لم یقبل الأصحاب طوال ألف سنة هذا الجمع.

و أمّا ما ذکره ثانیا فیمکن أن یجمع به بین الصحیحة و القاعدة و لأنّه صورة واحدة و لم یرد علیه ما یرد علی الشیخ الأعظم من أنّ جمعه حلّ المشکلة فی الصورتین و ظاهر

ص:533


1- (2) حاشیة المکاسب 1/416 و 417.
2- (3) راجع ریاض المسائل 14/52.

الصحیحة أنّها وردت فی صورة واحدة. إلاّ أنّه یرد علیه أنّ هذه الصورة هی من الفرد النادر ولکن لابأس به حیث ظهر عدم تمامیة الباقی من الجموع فلابدّ من حمل الصحیحة علیه أو

یأتی منّا فانتظر.

و منهم: السیّد الحکیم

قال: «و یمکن حمل الروایة علی صورة التداعی عند الحاکم کما یقتضیه قول السائل: «من یعرف ذلک؟» فإنّه ظاهر فی السؤال عن طریق معرفة القیمة التی یلزم أداؤها، و یکون الجواب متکفّلاً لبیان ثلاثة طرق: [1] إخبار المالک مع یمینه، [2] و إخبار الغاصب کذلک، [3] و البینة، فیکون قوله علیه السلام : «إمّا أن یحلف الخ» تفسیر لقوله علیه السلام : «أنت و هو»، و قوله علیه السلام : «أو یأتی الخ» بیان لطریق ثالث و هو البینة، فالجواب بیان لطرق القیمة فی الجملة.

و لیس المراد منه بیان طرق حکم الحاکم بمقدار القیمة کی یتعیّن حمل الکلام علی بیان طرق الحاکم المترتبة التی هی البینة ثم یمین المنکر ثم الیمین المردودة، بل الکلام بیان لطرق معرفة القیمة فی الجملة کلّ فی محلّه. فمع جهل الغاصب و المالک تکون البینة طریقا لهما، و مع جهل الغاصب و علم المالک یکون إخبار المالک مع یمینه حجة للغاصب، و مع جهل المالک و علم الغاصب یکون إخبار الغاصب مع یمینه طریقا للمالک، و التأمل فی قول السائل: «قلت: من یعرف الخ» یوجب الوثوق بظهور الروایة فیما ذکرنا، فلا تشمل صورة النزاع و الترافع إلی الحاکم، بحیث یکون ما ذکر منها طریق الحاکم فی حکمه فلاحظ»(1).

أقول: یظهر من ذیل کلامه أنّ ما ذکره من «حمل الروایة علی صورة التداعی عند الحاکم» لا یحمل علی ظاهره و إلاّ کیف یجمع مع قوله: «فلا تشمل صورة النزاع و الترافع إلی الحاکم». و هذا مسافة الخلف بین القولین.

ص:534


1- (1) نهج الفقاهة /276.

و الظاهر أنّه حمل الصحیحة علی ما حملها صاحب الجواهر و تبعه الإیروانی بالمآل و یرد علیه ما یرد علیهما من أن ظاهرها خصوص القضاء و الحکم و لذا حملها قدس سره أوّلاً علی صورة التداعی عند الحاکم فافهم.

و منهم: السیّد الخمینی رحمه الله

قال: «ثم إنّ فی قوله: «فمن یعرف ذلک» احتمالین: أحدهما من یعرف قیمة البغل، و علی ذلک جرت کلماتهم، ثم وقعوا فی حیص بیص فی ارجاع الحلف و البینة إلی شخص واحد، و هو خلاف قواعد باب القضاء فهرب کلٌّ مهربا.

و الثانی الذی هو ظاهر الروایة و إن لم أر احتماله فی کلماتهم أن یکون المراد من یعرف

قیمة ما بین الصحیح و المعیب، لأنّ الجملة الاولی قد أعرض عنها سؤالاً و جوابا، و توجّه السائل إلی مسألة اُخری هی ضمان العیب، فأجاب بضمان قیمة ما بین الصحیح و معیب فقوله: «من یعرف ذلک» عقیب هذه الجملة ظاهر فی الرجوع إلی الثانیة و الاختصاص بالأولی بعید جدّا، و الرجوع إلیهما بعید أو غیر ثابت.

و مع الرجوع إلی الثانیة یمکن أن یقال: إنّ الظاهر من قوله علیه السلام : «إمّا أن یحلف هو علی القیمة فیلزمک» هو الحلف علی قیمة البغل المعیوب الموجود بین أیدیهما لا علی قیمة أیام اُخر، و معلوم أن فی الاختلاف بینهما فی قیمة المعیوب یکون صاحب البغل منکرا، لأنّه یرید أن یجلب النفع إلی نفسه، فینکر زیادة قیمة المعیب، بخلاف صاحبه، فإنّه یرید دفع الضرر عن نفسه، فیدعی زیادة قیمته فمع کون قیمة الصحیح خمسین فإن کانت قیمة المعیب عشرین یکون التفاوت ثلاثین، و إن کانت ثلاثین یکون التفاوت عشرین، فالضامن یدعی ثلاثین و صاحب البغل ینکره، فالقول قوله، فیحلف أو یردّ الحلف إلی صاحبه.

و أمّا قوله علیه السلام : «أو یأتی صاحب البغل بشهود یشهدون أن قیمة البغل یوم أکری

ص:535

کذا کذا» صریح فی أن اختلافهما راجع إلی قیمته حال الصحة دون حال العیب و إن کان الاختلاف لتشخیص ما به التفاوت بینهما، و من المعلوم أنّ فی هذا الاختلاف یکون القول قول الضامن و صاحب البغل مدعٍ للزیادة.

و بالجملة: ظاهر الجملة الاولی هو الاختلاف فی قیمة المعیب فیتوجّه الحلف إلی صاحب البغل، و صریح الجملة الثانیة أنّ الاختلاف بینهما فی قیمة الصحیح لأنّ یوم الکراء یوم صحة البغل، و الاختلاف فی قیمة الصحیح لتشخیص ما به التفاوت، فیکون صاحب البغل مدعیا و الضامن منکرا، فالروایة متعرضة لصورتین من صور الدعوی بحسب الظهور و الصراحة و موافقة القاعدة و یستفاد منها الصورة الثالثة.

و ما ذکرناه و إن کان مخالفا للظاهر فی الجملة أیّ الظهور فی وحدة القضیة لکن لیس ذلک الظهور بمثابة أمکن معه رفع الید عن القواعد المسلَّمة، سیما مع الاحتمال الذی ذکرناه بالتقریب المتقدم، و لاأقل من التعارض بین الظهور الذی قرّبناه و ظهور سیاق الکلام فی وحدة القضیة فلا یصح الاستدلال بها و تخصیص القواعد المحکمة...»(1).

أقول: مراده قدس سره من الصورة الثالثة فرض التداعی أیّ کلّ منهما منکر و مدّع و یظهر حکمها من الصورتین الأولیین کما یظهر من تقریرات(2) بحثه الشریف.

و قد سمعت منه رحمه الله مخالفة جمعه لظاهر الروایة فی الجملة لأنّ ظهورها فی وحدة القضیة فیرد علیه کلّ ما یرد علی الشیخ الأعظم الذی قال بحمل الصحیحة علی الصورتین.

الجواب المختار:

لابدّ فی هذا الجواب من ملاحظة أُمور:

ص:536


1- (1) کتاب البیع 1/418 و 417.
2- (1) راجع البیع /328 للعلامة الفقید الشیخ محمّد حسن القدیری رحمه الله المتوفی فی شوال المکرم 1429ق.

الأوّل: إنّ الصحیحة واردة فی مقام القضاء و الحکومة.

الثانی: إنّها واردة فی صورة واحدة لا أکثر.

الثالث: لایمکن تخصیص القاعدة بها لعدم وجود التکافؤ بینهما.

الرابع: لایمکن حملها علی الفرد النادر، لأنّها کانت حینئذ کقضیة فی واقعة فلا یستفاد منها الحکم فی غیر هذه القضیة و الواقعة.

و بعد ملاحظة هذه الأُمور یمکن حملها علی فرض توافق المالک و الغاصب علی القیمة الأولیة للبغل إمّا قیمة الشراء أو قیمة یوم الکراء أو قیمة حین الصحة أو قیمه حین الغصب أو نحوها ثم یدعی الغاصب تنزل القیمة و المالک یقول ببقائها فحینئذ المالک منکر و الغاصب مُدَّعٍ و حیث لم یکن للغاصب بینة غالبا حین التلف أو المرض أو الغصب أو نحوها فلذا أغمض الإمام علیه السلام من إحضار بینة الغاصب و أمر بحلف المالک و إن لم یحلف و ردّ الیمین علی الغاصب فحلف فهو و إلاّ لو کان للمالک المنکر بینة تسمع منه و یحکم علی طبقها.

و أنت تری بأنّ فی جوابنا هذا یُراعی جمیع الأُمور الماضیة و لا یرد علیه إشکالٌ بإذن اللّه تعالی و الحمد و النعمة له.

فلا تکون الصحیحة عندنا مجملة(1) فتکون حجة نأخذبها.

الاستدلال للقول الثانی: قیمة یوم التلف

یظهر دلیل قیمة یوم التلف من کلام الشیخ الأعظم(2) رحمه الله الذی مرّ و المناقشة فیه(3).

و یظهر دلیل آخر من تقریب السیّد العاملی یقول: «و وجه هذا القول [الوجه] أنّ الواجب

ص:537


1- (2) کما ذهب إلی إجمالها فعدم حجیتها المؤسس الحائری رحمه الله علی ما فی تقریرات بیعه بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی قدس سره راجع کتابه البیع 1/165.
2- (3) المکاسب 3/251.
3- (4) جمع الشیخ الأعظم فی حلّ العویصة و المناقشة فیه.

زمن بقاء العین إنّما هو ردّها سواء کانت القیمة زائدة أو ناقصة من غیر ضمان شیءٍ من النقص إجماعا کما فی المختلف(1) و الروضة(2) فإذا تلفت وجبت قیمة العین وقت التلف لانتقال الحقّ إلیها لتعذّر البدل، و مع وجود العین لاتتعلّق القیمة بالذمّة و إنّما الذّمة مشغولة بردّ العین، و الانتقال إلی القیمة انتقال إلی البدل و هو إنّما یثبت حال وجوبه و هو حالة التلف»(3).

أقول: و یمکن تأیید الإجماع بلاخلاف الوارد فی المبسوط(4) و قصر الخلاف علی أبی ثور فی الخلاف(5) و کذا فی التذکرة(6) إلاّ قال: «إنّ بعض الشافعیة وافقه». و فی المسالک(7) قصر الخلاف علی شذود من العامة. قال فی المفتاح: «و به طفحت عباراتهم فی المقام حتّی ممّن لایعمل إلاّ بالقطعیات بل فی مقامات اُخر یأخذونه مسلَّما، فالإجماع محصَّل لاریب فیه معتضد بالأصل و الاعتبار...»(8)

و قرّب هذا الاستدلال صاحب الجواهر بقوله: «... لأنّه وقت الانتقال إلی القیمة و إلاّ فقبله مکلّف بردّ العین من غیر ضمان للنقص السوقی إجماعا و احتمال منع الانتقال إلی القیمة حین التلف و إن کان هو وقت الانتقال إلاّ أنّه ینتقل إلی الأعلی حینه یدفعه عدم

ص:538


1- (1) مختلف الشیعة 6/116.
2- (2) الروضة البهیة 7/41.
3- (3) مفتاح الکرامة 18/152.
4- (4) المبسوط 3/63.
5- (5) الخلاف 3/404، مسألة 15.
6- (6) تذکرة الفقهاء 2/385 من الطبع الحجری.
7- (7) المسالک 12/182.
8- (8) مفتاح الکرامة 18/198.

الدلیل...»(1).

و ردّ سیّد الریاض هذا الاستدلال بقوله: «و فیه نظر... و هو منع استلزام التلف الانتقال إلی القیمة حینه، إذ لامانع من تعیین القیمة الأعلی حینه لأمر آخر کحدیث لا إضرار و لا ضرر، إذ لاریب أنّ حبس العین عن المالک حین ارتفاع قیمتها ضرر علی المالک و تفویت لتلک القیمة العلیا علیه...»(2).

نقل صاحب المفتاح هذا الردّ تحت عنوان قد یقال.(3)

و أمّا توهم الاستدلال له بالروایات الواردة فی باب الرهن الظاهرة فی أنّ القیمی إذا تلف انتقل ضمانه بمجرد التلف إلی القیمة لأنّها تدلّ علی لزوم رعایة قیمة العین المرهونة حین تلفها و ملاحظة نسبتها مع الدین، فإن کانت مساویة له فلا شیء علی الراهن و إن زادت علیه أخذ الزیادة و إن نقصت عنه ردّ علی المرتهن مقدار ما نقص.

منها: موثقة ابن بکیر قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام فی الرهن فقال: إن کان أکثر من مال المرتهن فهلک أن یؤدی الفضل إلی صاحب الرهن، و إن کان أقل من ماله فهلک الرهن أدّی إلیه صاحبه فضل ماله، و إن الرهن سواء فلیس علیه شیء.(4)

بتقریب: أنّ المراد من الهلاک هو التلف و یحاسب قیمة یوم التلف علی المرتهن للراهن.

و منها: موثقة أبان بن عثمان عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: فی الرهن إذا ضاع من عند المرتهن من غیر أن یستهلکه رجع بحقّه علی الراهن فأخذه، و إن استهلکه ترادّ الفضل

ص:539


1- (9) الجواهر 37/105.
2- (10) ریاض المسائل 14/29.
3- (1) مفتاح الکرامة 18/152.
4- (2) وسائل الشیعة 18/391، ح3، الباب 7 من أبواب کتاب الرهن.

بینهما.(1)

بتقریب: أنّ المراد من الاستهلاک فی الجملة الثانیة هو فعل ما یوجب ضیاع المال بتفریط المرتهن و تضییعه و لیس المراد منه الإهلاک و الإتلاف لأنّه حینئذ یخرج عن مورد ضمان التلف و یدخل فی ضمان الإتلاف.(2)

و منها: صحیحة أبی حمزة(3).

و منها: موثقة اسحاق بن عمار(4).

و منها: صحیحة محمّد بن قیس(5) الماضیة(6).

و منها: خبر عبداللّه بن الحکم قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجل رهن عند رجل

رهنا علی ألف درهم و الرهن یساوی ألفین، و ضاع، قال: یرجع علیه بفضل ما رهنه، و إن کان أنقص ممّا رهنه علیه رجع علی الراهن بالفضل، و إن کان الرهن یسوی ما رهنه علیه فالرهن بما فیه.(7)

فیردّه [أیّ یرد هذا التوهم]: أنّ مورد هذه الروایات إنّما هو الإتلاف أو التفریط و التضییع فی مال الرهن، لعدم الضمان علی المرتهن من دون تعد و تفریط و إتلاف کما تدلّ علیه عدّة من الروایات(8)، و فی فرض الإتلاف زمان التلف و الضمان واحد و أمّا فی فرض

ص:540


1- (3) وسائل الشیعة 18/386، ح2، الباب 5 من أبواب کتاب الرهن.
2- (4) راجع کتاب البیع 1/421 للمحقّق الخمینی رحمه الله .
3- (5) وسائل الشیعة 18/390، ح1.
4- (6) وسائل الشیعة 18/391، ح2.
5- (7) وسائل الشیعة 18/392، ح4.
6- (8) فی بحث دفع توهم أنّ الأصل فی الضمان هو القیمة راجع صفحة 505 من هذا المجلد.
7- (1) وسائل الشیعة 18/392، ح5.
8- (2) راجع وسائل الشیعة 18/385، الباب 5 من أبواب کتاب الرهن.

التفریط و إن یمکن تغایر زمانی التلف و الضمان ولکن الذی یسهّل الخطب أنّه لا دلالة فی روایات الرهن علی الضمان بقیمة یوم التلف و لا غیره بل تدل علی أصل الضمان فی فرض التعدی و التفریط کما نبّه علیه المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله (1).

و قال: «و من هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بما ورد فی العتق علی الضمان بقیمة یوم التلف لأنّ ذلک ورد فی الإتلاف و قد عرفت أنّ زمان التلف و الضمان واحد فی صورة الإتلاف»(2).

الاستدلال للقول الثالث: أرفع القیم من حین القبض أو الغصب إلی حین التلف

أُسْتدِلَّ لهذا القول بِوُجُوْهٍ:

الأوّل: ما صَرَّحَ به الشهید الثانی(3) من دلالة صحیحة أبیولاّد علی هذا القول ولکنّه قدس سره لم یذکر وجه دلالتها علیه(4) و إلیک بعض تقاریر دلالتها:

أ: قال السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة فی وجه دلالتها: «... و إن کان ظرفا [أی یوم فی جملة «نعم، قیمة بغل یوم خالفته] للزوم صار المعنی تلزمک القیمة فی ذلک الیوم لکن یکون مقدار القیمة غیر معلوم فیحتاج فی تعینه إلی دلیل آخر... و قد یلوح من ذیله ما... یوافق... أعلی القیم»(5).

و قال أیضا: «... و لعلّه فهم ذلک من قوله علیه السلام : «أو یأتی صاحب البغل بشهود

ص:541


1- (3) مصباح الفقاهة 3/199.
2- (4) مصباح الفقاهة 3/199.
3- (5) مسالک الأفهام 12/186 - الروضة البهیة 7/43.
4- (6) بل قال الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/253: «و لم أظفر بمن وجّه دلالتها علی هذا المطلب».
5- (7) مفتاح الکرامة 12/638.

یشهدون أن قیمة البغل حین اکتری کذا و کذا فیلزمک» »(1).

أقول: لعل نظره الشریف إلی أن صاحب البغل یقیم الشهود علی أعلی القیم لا غیره غالبا، أو أنّه یکون فی یوم الاکتراء سلیما عن کلّ و نقص بخلاف بعده.

ب: قال صاحب الجواهر فی وجه دلالتها: «... اللهم إلاّ أن یقال: إنّه بناءً علی تعلّق الظرف بالفعل المستفاد من قوله: نعم: یکون المراد أنّ ابتداء الضمان من ذلک الیوم إلی یوم التلف، فیضمن الأعلی منه حینئذ. بل إن جعل متعلِّقا بالقیمة یکون المراد منه ذلک أیضا لعدم معقولیة ضمان القیمة مع وجود العین فیکون الحاصل أنّه تلزمه القیمة مع العطب من یوم المخالفة»(2).

ولکن یرد علی هذین التقریرین من الاستدلال: إنّ ابتداء الضمان من یوم المخالفة و الغصب لا یُثْبِتُ أنّ مقداره یکون أعلی القیم من حین الغصب إلی حین التلف. مضافا إلی أن ثبوت القیمة فی الذمة مع وجود العین واضح البطلان.

و ضمان ارتفاع القیمة مع وجود العین ولکنّها مخالف لما تسالموا علیه(3) بل للإجماع کما مرّ من العلاّمة(4) و ثانی الشهیدین(5)، و ضمانها مراعی بالتلف «فهو و إن لم یخالف الاتفاق إلاّ أنّه مخالف لأصالة البراءة من غیر دلیل شاغل»(6).

و لذا قال صاحب الجواهر نفسه فی ردّه: «إلاّ أنّ ذلک کلّه کماتری تجشم و خلط بین

ص:542


1- (1) مفتاح الکرامة 18/150.
2- (2) الجواهر 37/104.
3- (3) کما ذکره الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/253.
4- (4) مختلف الشیعة 6/116.
5- (5) الروضة البهیة 7/41.
6- (6) کما ذکره الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/253.

الضمان التقدیری المتحقّق بالمخالفة و الضمان التحقیقی الحاصل یوم التلف کما هو واضح»(1).

ج: قال المحقّقون الأصفهانی(2) و النائینی(3) الخوئی فی وجه دلالتها و اللفظ للأخیر: «المغصوب مضمون علی الغاصب فی جمیع أزمنة الغصب التی منها زمان ارتفاع القیمة إذ یصدق علی ذلک زمان المخالفة أیضا ضرورة أنّ المراد من یوم المخالفة - فی الصحیحة - إنّما هو طبیعی یوم المخالفة الذی یصدق علی کلِّ یوم من أیام الغصب، لا الیوم الخاص، و علیه فإن

ردّ الغاصب نفس المغصوب فهو، و إلاّ فإن ردّ أعلی القیم فقد ردّ قیمة یوم المخالفة بقول مطلق، لدخول القیمة السفلی فی القیمة العلیا بدیهة أنّه لا یجب علی الغاصب قیم متعددة حسب تعدد أیام المخالفة، کما أنّه لوردّ القیمة النازلة لمّا ردّ قیمة یوم المخالفة بقول مطلق، بل أدی قیمة بعض أیام المخالفة»(4).

ثم ردّه السیّد الخوئی قدس سره بقوله: «إنّ الظاهر من قوله علیه السلام فی الصحیحة، «نعم قیمة بغل یوم خالفته» هو أوّل یوم حدثت فیه المخالفة، لا مطلق أیام المخالفة، إذ یوجد الطبیعی فی الخارج بأوّل وجود فرده، لأنّ موضوع الضمان فی الصحیحة إنّما هو صرف وجود المخالفة.

... أضف إلی ذلک: أنّ ذیل الصحیحة شاهد صدق علی عدم ارادة الطبیعة الساریة من یوم المخالفة، بل المراد منه هو الیوم الخاص المعهود، و ذلک الذیل هو قوله علیه السلام : «أو یأتی صاحب البغل بشهود یشهدون أنّ قیمة البغل حین اکتری کذا و کذا»، إذ لو کان المراد من یوم المخالفة هو الطبیعی لما کان وجه لتعیین ذلک الیوم بیوم الاکتراء فی هذه الفقرة، و لا

ص:543


1- (7) الجواهر 37/104.
2- (8) حاشیة المکاسب 1/417.
3- (9) المکاسب و البیع 1/367.
4- (1) مصباح الفقاهة 3/192.

لتعیین قیمة المغصوب - فی ذلک الیوم - بالشهود»(1).

د: ما ذکره المحقّق المروج بقوله: «استفادة الحکم من مجموع الجملتین و هما: قوله علیه السلام : «قیمة بغل یوم خالفته»، و قوله علیه السلام : «علیک قیمة ما بین الصحة و العیب یوم تردّة»، بتقریب: أنّ القیمة المضمونة لیست خصوص قیمة یوم الغصب، بل المستقر علی ذمة أبی ولاّد - عند تعیُّب البغل - هو إحدی القیم من زمان الغصب إلی زمان التلف أو إلی ردّه معیبا إلی المکاری، و من المعلوم اقتضاء اطلاق القیمة بین هذین الوقتین ضمان الجامع بین القیم، و أداءُ هذا الجامع منوط بدفع الأعلی...»(2).

أقول: یظهر ضعفه بما مرّ فی جواب التّقاریر السابقة.

الثانی: جماعة من الفقهاء - و منهم الفاضل المقداد(3) و ابن فهد الحّلی(4) و الشهید الثانی(5) ولکنه ناقش و عدل إلی الاستدلال بالصحیحة کما مرّ فی الاستدلال الأوّل - استدلوا: بأنّ العین مضمونة فی جمیع أزمنة الغصب و منها زمان ارتفاع قیمتها، و لا تفرغ

الذمة إلاّ بدفع أعلی القیم لفرض اشتغال الذمة بها.

و فیه: ناقش هذا الاستدلال کلٌّ مِنْ أصحاب المسالک(6) و الریاض(7) و المفتاح(8)

ص:544


1- (2) مصباح الفقاهة 3/193.
2- (3) هدی الطالب 3/530.
3- (4) التنقیح الرائع 4/70.
4- (5) المهذب البارع 4/252.
5- (6) المسالک 12/187.
6- (1) المسالک 12/187.
7- (2) ریاض المسائل 14/29.
8- (3) مفتاح الکرامة 18/150.

و الجواهر(1) و المکاسب(2) و حاصلهم: أنّه إن أُرید بضمان العین فی أزمنة الغصب وجوب قیمة ذلک الزمان علی تقدیر تلفها فهو معلوم إذ تدارکها منحصر بذلک، لکنّه خلاف المفروض لأنّها لم تتلف و هذا الضمان التقدیری لم یصر فعلیا.

و إن أُرید ثبوت القیمة العلیا - و ان لم تتلف العین و تنزّلت قیمته بعد ذلک - فهو مخالف لما تسالموا علیه من عدم ضمان ارتفاع القیمة مع ردّ العین کما صرح به هنا العلاّمة فی المختلف(3).

و إن أُرید به استقرار القیمة بمجرد الارتفاع المراعی بالتلف، فهو و إن لم یخالف الإجماع إلاّ أنّه مخالف لأصالة البراءة من غیر دلیل یعتمد علیه.

ولکن الشیخ الأعظم وجّه هذا الاستدلال بقوله: «إنّ العین إذا ارتفعت قیمتها فی زمان و صار مالیّتها مقوّمة بتلک القیمة، فکما أنّه إذا تلفت حینئذ یجب تدارکها بتلک القیمة، فکذا إذا حیل بینها و بین المالک حتّی تلفت، إذ لا فرق مع عدم التمکن منها بین أن تتلف أو تبقی. نعم، لوردّت تدارک تلک المالیة بنفس العین، و ارتفاع القیمة السوقیة أمر اعتباری لا یضمن بنفسه لعدم کونه مالاً و إنّما هو مقوّم لمالیة المال و به تمایز الأموال کثرةً و قلةً... فإن رُدّت العین فلامال سواها یضمن و إن استقرت علیا تلک المراتب لدخول الأدنی تحت الأعلی، نظیر ما لو فرض للعین منافع متفاوتة متضادّة حیث إنّه یضمن الأعلی منها»(4).

و فیه: المنع من مساواة حیلولتی العین و القیمة، الغاصب إذا تصرف فی مال غیره

ص:545


1- (4) الجواهر 37/104.
2- (5) المکاسب 3/253.
3- (6) مختلف الشیعة 6/116.
4- (7) المکاسب 3/254.

بحیث کون عینه موجودة ولکن لایتمکن المالک من الوصول إلیه یحکم ببدل الحیلولة مادام لم یتمکن المالک من التصرف فی عین ماله، ولکن الحیلولة بین المالک و قیمة ماله مع بقاء

عینه و إمکان ردّها فمردود، و مع تلف عینه یضمن الغاصب و إمّا مقدار ضمانه یکون بقدر أعلی القیم فهو أوّل الکلام و مصادرة بالمطلوب.

و قد مرّ فی أبحاث المثلی فی فرع مطالبة المالک بالمثل فی غیر مکان التلف(1)، عدم جریان بدل الحیلولة فی بحث المقبوض بالعقد الفاسد لأنّها مختص بوجود العین و کلامنا علی وجوب المثل أو القیمة یکون فی فرض تلف العین و لذا قال العلاّمة: «ولو غرم القیمة ثمّ قدر علی المثل فلا یرد القمیة، بخلاف القدرة علی العین»(2).

مضافا إلی أنّ البعض لم یذهبوا إلی القول بالبدل الحیلولة حتی فی الأعیان فکیف بها فی القیمة؟! و یأتی تفصیل البحث حول البدل الحیلولة فانتظر.

و ما ذکره فی آخر کلامه یمکن أن یکون مؤیدا لنا فی ما مرّ من القول بالضمان فی المنافع غیر المستوفاة لأنّ المنافع المتفاوتة المتضادة لا یمکن الجمع فی استیفائها و حکم قدس سره بضمان الأعلی منها، فافهم.

الثالث: لا یستلزم یوم المخالفة أو التلف الانتقال إلی القیمة حینهما، «إذ لا مانع من تعین القیمة الأعلی حینه لأمر آخر کحدیث: لا إضرار و لا ضرر، إذ لا ریب أنّ حبس العین عن المالک حین ارتفاع قیمتها ضرر علی المالک و تفویت لتلک القیمة العلیا علیه» کما فی الریاض(3).

و فیه أوّلاً: حدیث لا ضرر یکون من الأدلة النافیة للأحکام و لا یکون إثبات

ص:546


1- (1) راجع الصفحة 477 من هذا المجلد.
2- (2) القواعد 2/228.
3- (3) ریاض المسائل 14/30.

حکم به کما مرّ تفصیل البحث فی قاعدة لا ضرر فی علم الاصول.

و ثانیا: إنّه وارد فی مقام الامتنان، و ثبوت أعلی القیم به منافٍ للامتنان علی الغاصب.

و ثالثا: ما ذکره فی الجواهر بقوله: «اقتضاء القاعدة المزبورة ضمان الأعلی مع فواته و إن ردّ العین نفسها و هو مخالف للإجماع بقسمیه، بل قد عرفت عدم الضمان فیما لو منعه من بیع ماله بقیمة عالیة...»(1).

الرابع: ما ذکره ابن ادریس فی السرائر بقوله: «.. فأمّا زیادة القیمة لارتفاع السوق

فغیر مضمونة مع الرد للعین المغصوبة لأنّ الأصل براءة الذمة و شغلها یحتاج إلی دلیل شرعی، فإن لم یردّها حتّی هلکت العین لزمه ضمان قیمتها بأکثر ما کانت من حین الغصب إلی حین التلف لأنّه إذا ادّی ذلک برئت ذمّته بیقین و لیس کذلک إذا لم یؤدّه»(2).

و ذکره السیّدان الوالد و الولد فی الریاض(3) و المناهل(4) و سلام اللّه علیهما.

و فیه: إنّ المورد من موارد دوران الأمر بین الأقل و الأکثر الاستقلالیین، و یؤخذ بالأقل و تجری البراءة عن الأکثر عند الکلّ و لذا قال فی الجواهر: «مثله یجری فیه أصل البراءة ضرورة رجوعه إلی الشک فی التکلیف بین الأقل و الأکثر»(5).

الخامس: العین المغصوبة مضمونة بقاعدة الید فنستصحب ضمانها إلی زمان دفع أعلی القیم من زمان الغصب إلی زمان التلف، للشک فی ارتفاع الضمان بدفع ما هو أقل من

ص:547


1- (4) الجواهر 37/105.
2- (1) السرائر 2/481.
3- (2) ریاض المسائل 14/31.
4- (3) المناهل /299.
5- (4) الجواهر 37/106.

ذلک. قال الشیخ الأعظم: «نعم، لا بأس بالتمسک باستصحاب الضمان المستفاد من حدیث الید»(1).

و فیه: أوّلاً: لا یجری الاستصحاب فی المقام لأنّ اشتغال الذمّة لا یثبت إلاّ بالقیمة النازلة لجریان البراءة عن الأکثر فما هو المتیقن [القیمة النازلة] قد ارتفع یقینا بأدائها و أمّا غیره [أیّ الأعلی و الأکثر] فلم یتعلق به الیقین من الأوّل.

و ثانیا: و إنْ کان المراد من استصحاب الضمان هو ضمان نفس العین فلازمه أن یدفع الغاصب قیمة یوم الرد، إلاّ أنّ هذا لایحتاج إلی الاستصحاب لأنّ القاعدة الأوّلیّة تقتضی ذلک کما مرّ و یأتی.

و الحاصل: استصحاب الضمان أمّا لا یجری، أو یجری و یثبت قیمة یوم الرد.

السادس: ما استدل به المحقّق الإیروانی بقوله: «فالأحسن فی الاستدلال علی ضمان أعلی القیم أنّه یصدق عند صعود القیمة أنّ الغاصب معتد یوم صعود القیمة بمالیة صاعدة و مقتضی «فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی» جواز أخذ تلک المالیة منه بعد التلف مجازاة لاعتدائه،... فظهر بما ذکرنا أنّ الحقّ من الأقوال هو هذا... و مقتضی الآیة هو أعلی القیم»(2).

و فیه: غایة ما یمکن أن یقال دلالة الآیة الشریفة الإعتدی علی أصل الضمان و أمّا إثبات أعلی القیم بها أو غیرها من مقادیر الضمان فمشکل جدا.

الاستدلال للقول الرابع: أعلی القیم من حین الغصب إلی حین ردّ القیمة

استدل الوحید البهبهانی لهذا القول بما نصُّهُ: «... الردّ کان واجبا علیه فی کلِّ وقتٍ وقتٍ ففی وقت ارتفاع القیمة کان الواجب علیه أن یسلّم هذه العین التی کان هکذا قیمتها،

ص:548


1- (5) المکاسب 3/255.
2- (6) حاشیة المکاسب 2/152.

فحینا ظلمه و حبس حقّه و لم یعطه أضرّه و حال بینه و بین الذی کان بهذه القیمة العالیة و کان حقّه و ملکه، بل ربّما کان فی الحصار و یرتفع القیمة إلی آلاف ولو کان عنده فیبیعه و ینتفع و یحصل له أموال عظیمة فخسّره بل ربّما کان اشتری بأموال عظیمة لاحتیاجه إلیه له و لعیاله، بل ربّما یتلف بسبب الحبس عیاله و أمواله - مثل دوابه و غیرها - فهذا ضرر عظیم لا یناسب الشریعة القویمة العادلة المستقیمة، التی هی فی غایة المتانة و الضبط و الحکمة أن یتضرّر بلا تدارک أصلاً مع أنّه لا ضرر فی الإسلام. بل تتبّع تضاعیف أحکام الشرع یکشف عمّا ذکرنا و لا یناسب الفرقة العدلیة سوی ما ذکر. هذا علی تقدیر وجود عین ماله حینما صار فی غایة الارتفاع.

و أمّا علی تقدیر العدم، فلا تأمل فی أنّه وقت غایة الارتفاع کان علیه أن یعطی قیمته لو کان یطالبه المالک و یلازمه و یضیّق علیه و القیمة فی غایة الارتفاع، لما ستعرف وجهه و دلیله، و معلوم أنّه واجب علیه فی کلّ آنٍ و دقیقةٍ أن یسلِّم إلی المالک بلا توقف علی مطالبته و تضییقه و إلزامه، فإذا کان وقت الارتفاع اشتغل ذمّته بإعطاء القیمة - فی هذا الوقت - علی سبیل الوجوب الفوری الضیقی لا جرم یکون هذا الاشتغال مستصحبا شرعا إلی أن یثبت خلافه و لم یثبت، بل الثابت أیضا هو ما ذکرناه فی العین الباقیة فتأمل جدّا...»(1).

و یرد علیه أوّلاً: ضمان ارتفاع القیمة السوقیة مع وجود العین وردّها مخالف للإجماع کما مرّ و لذا قال فی نقده ابن اخته و تلمیذه و صهره: «و فیه نظر مع أن الاجماع المحکی عموما و خصوصا علی عدم ضمان القیمة السوقیة یدفع هذا الوجه المبنی علیه ما اختاره، مضافا الی شذوذه و ندرة القائل به، إذ لم یحک القول به إلاّ عن الماتن [المحقّق] فی

ص:549


1- (1) حاشیة مجمع الفائدة و البرهان /624.

أحد قولیه(1) و کافّة الأصحاب علی خلافه، لأنّ الواجب القیمة فمتی حکم بها استقرت فلا

عبرة بزیادتها و نقصانها یوم التلف»(2).

و قال تلمیذه الآخر فی المفتاح: «و هو کماتری مع إطباق الأصحاب علی خلافه»(3).

و کذا قال صاحب الجواهر فی ردّه: «و هو مخالف للإجماع بقسمیه، بل قد عرفت عدم الضمان فیما لو منعه من بیع ماله بقیمة عالیه...»(4).

و ثانیا: ما مرّ من أنّ حدیث لاضرر تنفی الحکم و لا یثبت به الحکم.

و ثالثا: ما مرّ من أنّ حدیث لا ضرر امتنانیّ و ثبوت أعلی القیم خلاف الامتنان علی الغاصب فلا یجری.

الاستدلال للقول الخامس: أعلی القیم من یوم التلف إلی یوم الأداء

یمکن أن یستدل لهذا القول بأنّ یوم التلف هو یوم ثبوت الضمان و منه إلی یوم الأداء یجب علی الغاصب إعطاء أعلی القیم کما مرّ دلیله من الوحید البهبهانی رحمه الله .

و فیه: یرد علیه ما اوردناه علی القول الرابع، مضافا إلی عدم وجدان قائله کما مرّ.

الاستدلال للقول السادس: قیمة یوم الأداء

ما مرّ من القاعدة الکلیة من أنّ الأصل فی الضمان هو المثل و فی فرض عدم وجدانه ینقلب إلی القیمة، فحینئذ فی وقت الأداء لو کان المثل موجودا یجب علی الغاصب إعطائه و لو لم یوجد یجب علیه إعطاء قیمته فی ذاک الیوم - أی یوم الأداء - و هذا القول هو مختار الفقیه الیزدی رحمه الله و هو مختارنا و بعد قبول أنّ الأضل فی الضمان هو المثل لا مناقشة فیه.

ص:550


1- (2) الشرائع 3/189 حیث یقول: «و لا عبرة بزیادة القیمة و لا بنقصانها بعد ذلک علی تردّد».
2- (1) ریاض المسائل 14/30.
3- (2) مفتاح الکرامة 18/151.
4- (3) الجواهر 37/105.
الاستدلال للقول السابع: قیمة یوم البیع فی مسألة المقبوض بالبیع الفاسد

قال العلاّمة فی التذکرة: «تذنیب، لو باعه بحکم المشتری و لم یعیّن، بطل البیع إجماعا، فإن هلک فی ید المشتری فعلیه قیمته...»(1).

و قال فی المختلف: «لایجوز البیع بحکم أحدهما فی الثمن فإن بیع أحدهما کذلک بطل البیع، ولو حکم الحاکم فیها بأیّ شیء کان لم یلزم بل یبطل البیع، فإن کانت السلعة قائمة استردّها البائع و إن کانت تالفة وجب علی المشتری قیمتها... [ثم نقل عن الشیخ أنّه قال فی

نهایته]: من اشتری شیئا بحکم نفسه و لم یذکر الثمن بعینه کان البیع باطلاً فإن هلک فی ید المبتاع کان علیه قیمته یوم ابتیاعه(2)... [ثم زاد العلاّمة] و کذا قال المفید(3) و ابن البراج(4) و ابو الصلاح(5)... و لنا: علی بطلان البیع مع الجهالة الإجماع علیه، و النهی عن الغرر و الحکم غیر لازم، إذ ذلک لا یصیر ما لیس بثابت فی الذمة ثابتا...»(6).

قال الشیخ الأعظم: «ثم إنّه حکی عن المفید و القاضی و الحلبی الاعتبار بیوم البیع فیما کان فساده من جهة التفویض إلی حکم المشتری و لم یعلم له وجه، و لعلّهم یریدون به یوم القبض، لغلبة اتحاد زمان البیع و القبض فافهم»(7).

صاحب البغیة ذکر وجه کلامهم بقوله: «و دلیل هذا القول - بعد البناء علی اتحاد یوم

ص:551


1- (4) تذکرة الفقهاء 10/100.
2- (1) النهایة /336 المطبوعة فی ضمن الجوامع الفقهیة، النهایة و نکتها 2/145 و نقل فی السرائر 2/285 عن الشیخ فی نهایته.
3- (2) المقنعة /593.
4- (3) لم أجدها فی المهذب و لا فی جواهر الفقه.
5- (4) الکافی فی الفقه /353.
6- (5) مختلف الشیعة 5/244 و 243.
7- (6) المکاسب 3/255.

القبض و البیع بحکم الغلبة - هو ما یدل علی ضمان یوم الغصب، بناءً علی اتحاد حکم المسألتین [المقبوض بالعقد الفاسد و الغصب] کما عن الحلّی دعوی الإجماع علیه...»(1).

و قال الفقیه الیزدی: «... و إن کان [مرادهم من یوم البیع هو یوم القبض] بعید إلاّ أنّه لابدّ منه، اذ لا وجه لاعتبار یوم البیع أصلاً فیجب التوجیه المذکور صونا لکلامهم عن الفساد»(2).

و استدل لهم المحقّق الأصفهانی بقوله: «و یمکن أن یقال: بناءً علی الاستناد فی ضمان المقبوض بالعقد الفاسد إلی قاعدة الإقدام إنّ الإقدام العقدی علی الضمان بالمسمّی إذا کان إقداما علی الضمان بالعوض الواقعی، فالعوض الواقعی فی حال الإقدام هی القیمة فی یوم القبض، و إن کان تأثیره فی ضمان هذه القیمة منوطا بالقبض»(3).

أقول: ولکن المحقّق الشهیدی(4) استدل لهم بصحیحة رفاعة النّخّاس. و تبعه المحقّق

المروّج(5) أذکرها لک أوّلاً ثم أذکر استدلالهما:

ففی صحیحة رفاعة النّخّاس قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : ساومت رجلاً بجاریة فَباعَنِیْها بحکمی فقبضتها منه علی ذلک، ثم بعثت إلیه بألف درهم، فقلت: هذه ألف درهم حکمی علیک أن تقبلها، فأبی أن یقبلها منّی، و قد کنت مسستها قبل أن أبعث إلیه بالثمن، فقال: أری أن تقوم الجاریة قیمة عادلة، فإن کان قیمتها أکثر ممّا بعثت إلیه کان علیک أن تردّ علیه ما نقص من القیمة، و إن کان ثمنها أقل ممّا بعثت إلیه فهو له. قلت: جعلت فداک إن

ص:552


1- (7) بغیة الطالب 1/270.
2- (8) حاشیة المکاسب 1/512.
3- (9) حاشیة المکاسب 1/424.
4- (10) هدایة الطالب 2/377.
5- (1) هدی الطالب 3/547.

وجدت بها عیبا بعد ما مسستها، قال: لیس لک أن تردّها و لک أن تأخذ قیمة ما بین الصحة و العیب منه(1).

و الاستدلال یبتنی علی أُمور:

الأوّل: بطلان البیع بحکم المشتری کما مرّ الاجماع علیه من العلاّمة فی التذکرة و المختلف، حتّی صارت الصحیحة من مصادیق المقبوض بالبیع الفاسد. ولکن علی قول صاحب الحدائق(2) من صحته فتخرج من مصادیقه.

الثانی: صیرورة الجاریة بعد المسّ أُمّ ولد و هی بحکم التلف.

الثالث: المراد من «قیمة عادلة» هی قیمتها یوم البیع.

بعد قبول هذه الثلاثة یتمّ دلیل قیمة یوم البیع فی المقبوض بالعقد الفاسد - فقط لا الغصب - تعبدا و لا یحتاج إلی تطبیقه مع یوم القبض، فعلیه یمکن حمل أمر الشیخ الأعظم بالفهم فی آخر کلامه إشارة إلی عدم إرادة یوم القبض من یوم البیع فی کلامهم.

ولکن الأصحاب أعرضوا عن هذه الصحیحة و ذهبوا بالإجماع إلی بطلان البیع بحکم المشتری - و کذا بحکم البائع أو غیرهما - فلابدّ من حملها علی قضیة فی الواقعة أو تأویلها حتّی لا تردّ، و علی أیّ حال لایتم الاستدلال.

کما علی الأوّل - قضیة فی الواقعة - المقدس الأردبیلی حیث یقول: «و هی تدل علی جواز الجهل فی الثمن و أنّه یقع البیع صحیحا و ینصرف إلی القیمة السوقیة إذا بیع بحکم المشتری ولکن نقل الإجماع فی التذکرة علی اشتراط العلم مع عدم ظهور خلافه، یمنع القول بها ولکن تأویلها مشکل و کذا ردّها، فیمکن أن یکون حکما فی قضیة و لا یتعدی»(3).

ص:553


1- (2) وسائل الشیعة 17/364، ح1، الباب 18 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- (3) راجع کلامه فی الحدائق 18/462.
3- (4) مجمع الفائدة و البرهان 8/176.

و علی الثانی - تأویل الصحیحة - المحقّق السیّد حسین المشهور بخلیفة سلطان(1) فی حواشیه علی الفقیه قال حول الصحیحة: «لا یخفی أنّ البیع بحکم المشتری أو غیره فی الثمن باطل إجماعا کما نقله الفاضل فی التذکرة و غیره، لجهالة الثمن وقت البیع، فعلی هذا یکون بیع الجاریة المذکورة باطلاً، و کان وطی المشتری محمولاً علی الشبهة، و أمّا جواب الإمام علیه السلام للسائل فلا یخلو من إشکال لأنّ الحکم حینئذ ردّ الجاریة مع عشر القیمة أو نصف العشر، أو شراؤها مجددا بثمن یرضی به البائع مع أحد المذکورین، سواء کان بقدر ثمن المثل أم لا، فیحتمل حمله علی ما إذا لم یرضی البائع بأقل من ثمن المثل و یکون حاصل الجواب حینئذ: أنّه تقوم بثمن المثل إن أراد و یشتری به مجددا و إن کان المثل أکثر ممّا وقع، ندبا أو(2) استحبابا، بناءً علی أنّه أعطاه سابقا، و هذا الحمل و إن کان بعیدا عن العبارة، مشتملاً علی التکلّف لکن لابدّ منه لئلا یلزم طرح الحدیث الصحیح بالکلیة»(3).

هذا تمام الکلام فی المقام الثانی.

ص:554


1- (1) هو السیّد علاءالدّین حسین ابن الأمیر رفیع الدّین محمّد ابن الأمیر شجاع الدّین محمود الحسینی المرعشیّ، المکنّی بأبی طالب و المعروف بسلطان العلماء و خلیفة سلطان، المولود عام 1001ق، تصدی لوزارة الشاه عباس الأوّل خمس سنین و صاهره علی ابنته، و للشّاه صفی سنتین ثم عزله و کحل عیون اُولاده و نفاه إلی قم المقدسة، ثم تصدی الوزارة لشاه عباس الثانی ثمانی سنین و ستة أشهر إلی آخر حیاته و وافاه الأجل ببلدة الأشرف من بلاد مازندران بعد المراجعة مع السلطان المذکور من فتح قندهار الأفغان فی عام 1064 و نقل جثمانه إلی النجف الأشرف و قبره الآن هناک معروف یُزار، و له عدّة من الحواشی علی کتب الکلام و المنطق و الحدیث و الفقه و التفسیر و الاُصول تدلّ علی طول باعه و تبحره فی العلوم، لأجل ترجمته یراجع: أمل الآمل 2/92، جامع الرواة 1/544، ریاض العلماء 2/51، تکملة أمل الآمل 2/522، الرقم 618 و غیرها.
2- (2) کذا فی المصدر.
3- (3) نقل عنه فی الحدائق 18/461.
ثم لابدّ من تتمیم بحث القیمی بأُمور:
الأوّل: حکم زیادة ثمن القیمی بعد التلف

قال المحقّق: «و لا عبرة بزیادة القیمة و لا بنقصانها بعد ذلک - أی التلف - علی تردُّدٍ»(1).

و قال ثانی الشهیدین فی وجه تردّده: «... نعم، لو قلنا بأنّ الواجب فی القیمی مثله کما

ذهب إلیه ابن الجنید(2) مخیرا بین دفع المثل و القیمة، و مال إلیه المصنف [المحقّق] فی باب القرض(3)، اتّجه وجوب مازاد من القیمة إلی حین دفعها کما فی المثلی. و المصنف [المحقّق] رحمه الله تردّد فی ذلک، لما ذکرناه من الشک فی کون الواجب فی القیمی المثل أو القیمة، و الأظهر اعتبار القیمة، فلا یتغیّر بعد الحکم بها»(4).

أقول: الشیخ مقدِّمٌ علی المحقّق فی اختیار هذا القول فی باب القرض من الخلاف(5) و تبعهما العلاّمة(6) فی باب القرض ولکن إن کان ممّا ینضبط بالوصف - و هو ما یصح السلف فیه - لا ما لاینضبط بالوصف.

و قد مرّ فی أوّل البحث عن القیمی من أنّ الضمان بعد تلف العین ینتقل إلی المثل حتّی فی القیمیات و مع فرض عدم وجدانه ینتقل إلی القیمة کما یظهر من الشیخ الأعظم(7) و

ص:555


1- (4) الشرائع 3/189.
2- (1) حکاه عنه فخر المحقّقین فی إیضاح الفوائد 2/174 و 175، و الشهید فی غایة المراد 2/398 و قد مرّ فی أوّل البحث عن القیمی فراجع 497 هناک و صفحة 427.
3- (2) الشرائع 2/62.
4- (3) المسالک 12/188، و نحوها فی الروضة البهیة 7/40.
5- (4) راجع الخلاف 3/175، مسألة 287.
6- (5) تذکرة الفقهاء 13/30 و 31.
7- (6) المکاسب 3/241.

صرّح به الفقیه الیزدی(1) و اختار هذه القاعدة السیّد الخوئی(2)، و إذا کان المثل علی الذمة حتّی فی القیمیات، یتجه القول باعتبار قیمة یوم الأداء - کما هو المختار - و یحکم بضمان زیادة الثمن حتّی بعد التلف و قبل الأداء.

و لیس فی البین إجماعٌ تعبّدیٌّ حتّی یمنعنا من هذا القول.

و أمّا مقالة المحقّق الخمینی رحمه الله من «أنّه لا عبرة بزیادة القیمة بعد التلف حتّی علی القول بأنّ القیمی مضمون بالمثل، لأنّ عمدة دلیل الضمان قاعدة الید، و هی لا تشمل المثل الذی علی العهدة، ولو قلنا بأنّ ارتفاع القیم مضمون، و ذلک لأنّ موضوع دلیل الید هو الاستیلاء علی مال الغیر، و کون الشیء علی العهدة و الذمّة غیر کونه تحت الید و الاستیلاء فما فی العهدة خارج عن دلیل الید موضوعا و هو واضح»(3).

فغیر تامّةٍ بما مرّ فی المقام الأوّل من البحث القیمی بدلالة الروایات الکثیرة علی

ضمان القیمیّات و کذا الآیة الاعتداء، فحدیث الید لم یکن عمدة دلیل الضمان هذا أوّلاً.

و ثانیا: حدیث الید أیضا یدل علی ضمان ما فی العهدة و الذمة، لأنّ بعد وضع الید علیه خارجا، یصدق الأداء - الذی جعل غایة للعهدة و رافعا للضمان - علی کلٍّ من العین و بدلها، فحینئذ لابدّ من إرادة معنیً من الحدیث حتّی ینطبق علی کلِّ ممّا تحت الید خارجا و علی العهدة و الذمة.

و بما ذکرنا یظهر ضعف مقالة الشیخ الأعظم فی قوله: «ثمّ إنّه لا عبرة بزیادة القیمة بعد التلف علی جمیع الأقوال...»(4).

ص:556


1- (7) حاشیة المکاسب 1/495 و ما قبلها.
2- (8) مصباح الفقاهة 3/201 و ما قبلها.
3- (9) کتاب البیع 1/430.
4- (1) المکاسب 3/256.

لأنّک تری اعتبار زیادة القیمة علی القول المختار - و هو قیمة یوم الأداء - ، اللهم إلاّ أنّ مراده من «جمیع الأقوال»، الأقوال الثلاثة الأُوَل أعنی قیمة یوم الغصب، و یوم التلف، و ارفع القیم من یوم الغصب إلی حین التلف، و یمکن إلحاق القول السابع - قیمة یوم البیع فی مسألة المقبوض بالبیع الفاسد - بهنّ.

ولکن علی القول الرابع - و هو أعلی القیم من حین الغصب إلی حین ردّ القیمة - و علی القول الخامس أو وجهه - و هو أعلی القیم من یوم التلف إلی یوم الأداء - و علی القول السادس و هو المختار - أی یوم الأداء - لا یتم ما ذکره و زیادة القیمة بعد التلف تکون معتبرةً، و سبحان من لا یسهو.

الثانی: حکم ارتفاع القیمة بحسب الأمکنة

ذهب الشیخ الأعظم(1) فی بحث المثلی إلی جواز مطالبة المالک بالمثل بلا فرق بین کونه فی مکان التلف أو غیره، و لا بین کون قیمته فی مکان المطالبة أزید من قیمته فی مکان التلف أم لا، وفاقا لجماعة من الفقهاء، ولکن یتم عنده کلّ هذا مع وجود المثل فی بلد المطالبة.

و قد ناقشنا کلامه هناک من جواز المطالبة للمالک فی أی بلد شاء ولکنّه مشروطٌ بتساوی القیمة السوقیة مع بلد التلف أو الغصب أو القرض بلا فرق بین المثلیات و القیمیات(2).

ولکنّه ذهب هو - فی القیمیات - إلی اعتبار قیمة مکان التلف(3) - و لعلّه قدس سره هو

ص:557


1- (2) راجع المکاسب 3/224.
2- (3) راجع ما کتبته حول هذا الفرع: هل یجوز مطالبة المالک بالمثل فی غیر مکان التلف؟ صفحة 477 من هذا المجلد.
3- (1) المکاسب 3/256.

القائل بقیمة یوم التلف(1) - فإذا کان فی بلد أو مکان آخر یتساوی مع قیمة مکان التلف فهو و إلاّ العبرة بقیمة مکان التلف. لا بالزیادة و النقیصة منها فی غیره.

و أنت تری بأنّ قیمة مکان التلف یمکن أن یختص بقائل قیمة یوم التلف و أمّا غیرها من الأقوال فلا، فما ذکره قدس سره بإطلاقه غیر تام.

ثم لا أدری ما الفرق بین المثلی و القیمی، حیث أنّه قدس سره قائل بجواز المطالبة بالمثل فی غیر مکان التلف ولو کانت قیمته بأزید من قیمة مکان التلف. ولکن فی القیمی ذهب إلی اعتبار القیمة بقیمة مکان التلف لا الأزید منها و لا الأنقص. الظاهر أنّ التفصیل بینهما فی غیر محلِّه.

اللهم إلاّ أن یقال: بأنّ الفارق بینهما موجود و هو الدلیل التعبدی فی القیمیات و هی صحیحة أبیولاّد الماضیة.

ولکن قد مرّت المناقشة فی دلالتها عندنا.

ثم هل بحث الأمکنة فی القیمیات تابع لبحث الأزمنة فیها بحیث من یقول بقیمة یوم الغصب یقول بقیمة مکان الغصب و من یقول بقیمة یوم التلف یقول بقیمة مکانه و هکذا أم لا؟

قال الفاضل المراغی رحمه الله : «هذا البحث (تعیین القیمة بحسب المکان) قد أغفله الأصحاب و لم یتعرّضوا له فی شیءٍ من هذه الأبواب مع الاختلاف الفاحش فی القیمة بحسب الأمکنة کالأزمنة... لکن السبب فی ترک الأصحاب هذا العنوان هل هو من جهة تبعیته للزمان؟... و هذا الاحتمال بعید جدّا، نظرا إلی بُعد انفهام هذا المطلب ممّا ذکروه فی الزمان، و عدم تصریح منهم فی ذلک... مع أنّ فی کلامهم ما یدلّ علی وجوب ردّ المال

ص:558


1- (2) راجع المکاسب 3/251 فی جواب حلّ العویصة الواردة فی صحیحة أبیولاّد الماضیة.

المغصوب إلی المالک أیّ مکان شاء أو أراد... و الذی أراه: أنّ دفع القیمة بحسب المکان منوط بالمکان الذی یجب الدفع فیه، فإن قلنا: إنّ الاختیار بید المالک فأیّ مکانٍ اختاره فی الردِّ فیعتبر قیمته. و إن قلنا: لیس کذلک بل المعتبر الردّ فی محل الغصب إلاّ أن یرضی المالک بما هو أقلّ منه مؤنةً أو المساوی فالمدار علی مختار المالک فیکون المیزان محلّ الغصب»(1).

أقول: نعم، للمالک اختیار ماله فی الردِّ فی أیّ مکانٍ شاءَ ولکن بشرط أن یکون قیمته مع قیمة بلد المال واحدا أو یکون أقلاًّ من ذلک، أمّا إذا کان أکثر من قیمة بلد المال فلا، لأنّ ذمّة الضمان لا یکون مشغولاً بأکثر من ذلک کما مرّ فراجع ما حررناه فی بحث المثلی. و اللّه سبحانه هو العالم.

الثالث: حکم ارتفاع القیمة بسبب الزیادة العینیّة

قال المحقّق: «لو زادت القیمة لزیادة صفة ثمّ زالت الصفة، ثمّ عادت الصفة و القیمة، لم یضمن قیمة الزیادة التالفة لِأنّها انجبرت بالثانیة. ولو نقصت الثانیة عن قیمة الاُولی ضمن التفاوت. أمّا لو تجدَّدَت صفة غیرها، مثل إن سَمِنَت فزادت قیمتها، ثم هزلت فنقصت قیمتها، ثم تعلَّمَت صنعةً فزادت قیمتها، ردَّها و ما نقص بفوات الاُولی»(2).

و قال ثانی الشهیدین فی شرحه: «إذا تجدّد الکمال بعد النقصان، سواء کان الکمال الأوّل الذی توسّط نقصه موجودا من حین الغصب أم تجدّد فی ید الغاصب، فإن کان الکمال الثانی هو الأوّل بعینه، کما لو کان صانعا أو عالما فنسی العلم و الصنعة ثم تذکّرهما، فلا شبهة فی جبر المتجدّد للذاهب، لأنّه ذهب ثمّ عاد فکأنّه لم یزل، و لایردّ أن ذلک العلم غیر باقٍ فالعائد غیر الزائل لمنع ذلک أوّلاً، و لو سلّم لزمه ضمانه و إن لم ینسِ، لأنّه یتجدّد فی ید

ص:559


1- (3) العناوین 2/537 و 536.
2- (1) الشرائع 3/194.

الغاصب بعد زوال ما کان حالته.

و إن لم یکن عینه فلا یخلو: إمّا أن یکون من الوجه الذی حصل فیه الأوّل کما لو هزلت الجاریة ثم سمنت و عادت القیمة کما کانت ففیه قولان:

أحدهما: أنّه ینجبر أیضا، و یسقط العزم کما لو أبق العبد فعاد، أو جنی علی عین فابیضّت ثم زال البیاض، و هذا هو الذی یقتضیه إطلاق المصنف حیث خصّ الضمان بصفة غیرها، و إن کان ظاهر قوله: «ثمّ عادت الصفة»، قد یقتضی خلاف ذلک، لأنّ السمن الأوّل غیر الثانی، إلاّ أنّ الصفة - و هی نفس السمن - واحدة.

و الثانی: العدم، لأنّ السمن الثانی غیر الأوّل، و الأوّل وقع مضمونا، و الثانی تجدّد هبة من اللّه تعالی کالأوّل لو کان متجدّدا، فلا یحصل للغاصب بسببه شیء، و هذا أظهر.

ثمّ علی القول بالانجبار إنّما یسقط الضمان مطلقا لو عادت القیمة بتمامها بالعائد، فلو لم تبلغ القیمة الاُولی ضمن مابقی من النقصان.

و إن کان الکمال من وجه آخر، بأن نسی صنعة و تعلّم أُخری، أو أبطل صنعة [صفة] الإباق و أحدث صنعة اُخری، فلا انجبار بحال، و علی هذا فلو تکرّر النقصان و کان فی کلِّ مرّة مغایرا بالنوع للناقص فی المرّة الأُخری ضمن الکلّ. حتّی لو غصب جاریة قیمتها مائة فسمنت و بلغت القیمة ألفا، و تعلّمت صنعة فبلغت ألفین، ثمّ هزلت و نسیت الصنعة فعادت قیمتها إلی مائة، ردّها و غرم ألفا و تسعمائة، ولو علم العبد المغصوب سورة من القرآن أو حرفة فنسیها، ثم علّمه حرفة أو سورة أُخری فنسیها أیضا، ضمنهما.

و إن لم تکن مغایرة، کما إذا علّمه سورة واحدة أو حرفة واحدة مرارا و هو ینساها فی کلّ مرّة، ففیه الوجهان، [1] فإن قلنا: لایحصل الانجبار بالعائد ضمن النقصان فی کلّ مرّة، [2] و إن قلنا: یحصل، ضمن أکثر المرّات نقصانا». ثم ذکر قدس سره بعدها ثلاثة فروع

ص:560

مرتبطات بالبحث فراجعها.(1)

قال العلاّمة فی القواعد: «و لا یُجبر المتجدِّد من الصفات ما خالفه من التالف و إن تساویا قیمة، بخلاف ما لو اتّفقا جنسا»(2).

و قال العاملی فی ذیل کلامه فی المفتاح: «نحوه ما فی المبسوط(3) و الشرائع(4) و التذکرة(5) و التحریر(6) و الإرشاد(7) و الدروس(8) و جامع المقاصد(9) و غیرها.

و الحاصل: إنّ العائد إن کان من نوعٍ آخر لم یحصل الانجبار به إجماعا کما یظهر من مجمع البرهان(10)، و قد قطع به الأصحاب کما فی الکفایة(11).

قلت: و ظاهرهم القطع أیضا بالانجبار و عدم وجوب الأرش فیما لو اتّفقا جنسا کما لو کان کاتبا أو عالما أو خیّاطا فنسی ثم تذکّر إذا لم یفت شیءٌ و فی المسالک(12) أنّه لاشبهة

فیه... .

ص:561


1- (1) المسالک 12/(221-219).
2- (2) قواعد الأحکام 2/233.
3- (3) المبسوط 3/84.
4- (4) الشرائع 3/194.
5- (5) تذکرة الفقهاء 2/386 و 387 من الطبع الحجری.
6- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 4/540 و 541.
7- (7) إرشاد الأذهان 1/447.
8- (8) الدروس الشرعیة 3/112.
9- (9) جامع المقاصد 6/291.
10- (10) مجمع الفائدة و البرهان 10/545.
11- (11) الکفایة 2/653.
12- (12) المسالک 12/219.

و اختلفوا فیما إذا کان سمینا فهزل ثمّ سمن فصریح المبسوط(1) و الإرشاد(2) و مجمع البرهان(3) و ظاهر الشرائع(4) أنّه یجبر الثانی الأوّل، لأنّ الأصل عدم الضمان و لا دلیل علی الضمان سوی قولهم: إنّهما بمنزلة صفتین مختلفتین، و لیس بدلیل یعول علیه، و لا إجماع إلاّ فی المتغایرین. و صریح التذکرة(5) و جامع المقاصد(6) و ظاهر الدروس(7) أنّه لا یجبر(8)، لأنّ الثانی مال متجدِّد للمالک و الأوّل مال ذاهب، و یقولون: إنّه بعد الهزال صار الأصل الضمان. و اقتصر فی الکفایة علی قوله: فیه قولان(9).

و کلام التذکرة لا یخلو من اضطراب، لأنّه قد صرّح فیها أیضا بأنّه لو مرض العبد ثمّ عوفی وجب ردّه من غیر شیءٍ(10)، و مثله قال فی التحریر(11) کنا تقدّم التنبیه علیه، و نحوه ما یأتی للمصنف [العلاّمة فی القواعد] فی آخر الفصل الثانی(12).

إذا تقرّر هذا فلو کان الکمال من وجهٍ آخر مثل إن نسی صنعة کانت قیمته معها مائة

ص:562


1- (1) المبسوط 3/64.
2- (2) ارشاد الأذهان 1/447.
3- (3) مجمع الفائدة و البرهان 10/545.
4- (4) الشرائع 3/194.
5- (5) تذکرة الفقهاء 2/386 و 387 من الطبع الحجری.
6- (6) جامع المقاصد 6/291.
7- (7) الدروس الشرعیة 3/112.
8- (8) و عدم الانجبار هو الأظهر عند ثانی الشهیدین فی المسالک 12/220 کما مرّ.
9- (9) الکفایة 2/653.
10- (10) تذکرة الفقهاء 2/387 من الطبع الحجری.
11- (11) تحریر الأحکام الشرعیة 4/541.
12- (12) قواعد الأحکام 2/236: و فیه: «ولو نقصت قیمة لعیبٍ، ثمّ زال العیب فی ید الغاصب فلا ضمان مع بقاء القیمة».

فصارت إلی خمسین ثمّ تعلّم صنعة أُخری غیر الأُولی فعادت إلی مائة ردّه و ردّ معه خمسین، ولو تکرّر النقصان و کان فی کلِّ مرّة مغایرا بالنوع للناقص فی المرّة الاُخری ضمن الکلّ کما لو غصب جاریة...»(1).

و فی الجواهر فی ذیل قول المحقّق: «أمّا لو تجدّدت صفة غیرها...» قال: «بلا خلاف

أجده فیه، بل الإجماع بقسمیه علیه بل هو مقتضی الضابط الذی ذکرناه، ضرورة زیادة القیمة بتقدیر السمن الفائت مع الصفة المتجددة، فیضمنه الغاصب الذی قد فات تحت یده»(2).

و مراده من الضابط هو قوله قدس سره : «... فکلّ صفة ذاهبة یمکن تقدیرها مع المتجدِّدة و تزاد القیمة بذلک هی لاتنجبر بالمتجدِّدة، و کلّ صفة لا یمکن تقدیرها مع المتجدِّدة أو أمکن ولکن لا تزید بها القیمة عن المتجدِّدة بل هی هی أو تنقص لا تضمن و تنجبر بالثانیة»(3).

و قال الشیخ الأعظم: «إنّ جمیع ما ذکرنا من الخلاف إنّما هو فی ارتفاع القیمة السوقیة الناشئة من تفاوت رغبة الناس، و أمّا إذا کان حاصلاً من زیادة فی العین فالظاهر - کما قیل - عدم الخلاف فی ضمان أعلی القیم...»(4).

مراده: أنّ ارتفاع القیمة عند الغاصب لأجل زیادة عینیّة کسمن الشاة أو تعلّم صنعة للعبد نحو الکتابة و النجارة، ثمّ عادت العین إلی ما کانت علیه حین الغصب حتّی تلف عند الغاصب، کانت هذه الزیادة أو الصفة مضمونة کضمان العین المغصوبة، و فی هذه الحالة تجری أعلی القیم بلاخلاف.

ص:563


1- (13) مفتاح الکرامة 18/(252-250).
2- (1) الجواهر 37/173.
3- (2) الجواهر 37/171.
4- (3) المکاسب 3/256.

ثم قال الشیخ الأعظم: «نعم، یجری الخلاف المتقدم فی قیمة هذه الزیادة الفائتة، و أنّ العبرة بیوم فواتها أو یوم ضمانها أو أعلی القیم»(1).

أقول: و قد مرّ فی الخلاف الماضی أنّ العبرة بقیمة یوم الأداء و الدفع و کذلک بالنسبة إلی الزیادة العینیّة الفائتة تُحْسَبُ بقیمة یوم الأداء و الحمدللّه.

الرابع: کیفیّة تقویم مال القیمی

تعرّض الأصحاب - رضوان اللّه تعالی علیهم - لها فی الأبواب المتعدِّدة نحو: إخراج الزکاة، و الخمس، و الوصایا من الثلث، و الغصب، و الأرش فی العقد و الجنایة، و فروع أبواب المزارعة و المساقاة و المغارسة و البیع و الشفعة و الإجارة و غیرها.

و المال القیمی ینقسم إلی أقسام خمسة:

1- المال المستقل: و لأجل تقویمه یلاحظ من الجهات المختلفة: من حیث الزمان و

المکان و الإشاعة و الوحدة فی الملکیة، وضعه و جهته، احتیاجه إلی المؤنة فی الحفظ و النقل و عدمه، یکون سریع الفساد أو بطیئه، یکون صحیحا أو معیبا، یکون فی معرض التلف أم لا؟، هل تترتّب علیه المنافع أم لا؟ و غیر ذلک من الأُمور التی تختلف بها القیم و الرغبات.

یلاحظ جمیع هذه الأُمور و غیرها و یُقَوَّمُ.

2- بعض المال المرکب المعدود شیئا واحدا - سواء کان واحدا حقیقةً أو عرفیةً أو شرعیةً: و ینقسم إلی قسمین:

أ: الهیئة الترکیبیّة لها مدخلیة فی القیمة: نحو لو کان الجزءان مجتمعین بخمسین و کان کلّ واحد منهما بعشرین، یعلم منه قیمة الجرء الفائت هی العشرون و قیمة الهیئة الترکیبیة المختلّة هی العشرة و الحاصل الجزء الفائت حیث یفوت به الهیئة الترکیبیة أیضا یقوم

ص:564


1- (4) المکاسب 3/257.

بثلاثین.

هذا کلّه إذا کانت الأجزاء و الهیئة الترکیبیة لمالک واحد أو عُرض للبیع معا، و أمّا إذا کانت لمالکین أو أکثر و عُرض للبیع فی الأمکنة أو الأزمنة المختلفة فکلّ جزء یقدّر و یقوم بثمنه الخاص.

ب: الهیئة الترکیبیة لیس لها مدخلیة فی القیمة: فیقوَّم الجزء التالف وحده و یصیر کالمال المستقل حینئذ.

3- الأوصاف نظیر الصحة و العیب الواردة فی الأرش بالنسبة إلی المال أو الجنایة. فطریق تقویمها کما ورد فی صحیحة أبیولاّد(1) الماضیة و نص علیه الأصحاب تقویم المال واجدا لذلک الوصف و فاقدا له ثمّ یرجع بالتفاوت، و فی العقود هذا التفاوت ینسب إلی الثمن أو المعوَّض و یقلِّل منه بهذه النسبة. بلا فرق بین فقدان وصف المال أو جزئه.

4- النماءات: و هی علی قسمین:

أ: النماء المنفصل: فهی یقوَّم کالمال المستقل.

ب: النماء المتصّل: تقوَّم العین فاقدة لها ثمّ تقوّم واجدة لها و التفاوت یکون قیمة النماء و تنسب إلی الثمن و العوض إذا کان فی العقد المعاوضی.

هذا کلّه إذا کان النماء موجودا. و أمّا إذا کان معدوما کما فی باب الوصیة نحو ثمرة البستان فی السنین الآتیة، یقوّم العین مسلوبة المنفعة فی تلک السنین المعیّنة و یقوّم مع

منافعها و التفاوت یکون قیمة المنافع و النماء.

5- المنافع و الأعمال

إن کانت موجودة مستوفاة یرجع فیها إلی أُجرة المثل.

و إن کانت معدومة کمنفعة سنین معیّنة للدار، یقوّم العین واجدة المنافع مرّة و

ص:655


1- (1) وسائل الشیعة 19/119، ح1، الباب 17 من أبواب کتاب الإجارة.

مسلوبة أُخری و التفاوت هو قیمة المنفعة.

و لتفصیل البحث راجع الکتب المفصلة و کذا کتاب السیّد الفاضل المراغی، المُسَمیّ بالعناوین(1).

الخامس: اختلاف المقوِّمین

تارة اختلافهم ینشأ من الإخبار عن القیمة السوقیة فیدخل فی باب تعارض البیّنات فإمّا نحکم بالتعادل ثمّ التساقط أو نحکم بالترجیح بالأعلمیة أو الاُورعیة أو الأکثریة أو أقوی و أکثر الظنّیة أو القرعة و نحوها.

و تارة اختلافهم ینشأ من إعمال نظرهم فی التقویم و إنشائهم به فحینئذٍ یؤخذ بأقوی خبرة و لا یدخل فی قوانین باب التعادل و الترجیح و هذا الأخیر هو المراد بالتقویم فی ألسنة القوم و هذا هو المختار.

قد یقال: بالجمع بین القیم ثمّ تقسیمها علی عددها، أو الأخذ بثلث القیم الثلاث و ربع القیم الأربع و نحوها، و ادعوا(2) بأنّه ورد فی روایة فی اختلاف المقوّمین فی الهدی أو اختلاف قیم الهدی.

و أمّا الاختلاف فی قیمة الأرش فیمکن تحدید القیمة بطریقتین:

1- نسبة مجموع القیم الصحیحة إلی مجموع المعیبة و ملاحظة التفاوت بینهما من الثمن بالنسبة.

2- نسبة کلّ من المعیبة إلی الصحیحة و جمع النسب الحاصلة ثمّ تقسیمها علی عددها ثمّ ملاحظة النسبة بینها و بین الثمن.

و من المعلوم أنّ بینهما تفاوتا یسیرا. هذا تمام الکلام فی عمدة مسائل القیمی و الحمدللّه.

ص: 566


1- (1) العناوین 2/540.
2- (2) کما فی العناوین 2/547.

وصلٌ: مَباحِثُ بَدَلِ الْحَیْلَوْلَةِ

اشارة

ص: 567

ص: 568

و البحث فیها یقع فی ضمن مقاماتٍ:

المقام الأوّل: تعریفها و نقل الأقوال فیها

قال المحقّق: «و إذا تعذَّر تسلیم المغصوب دفع الغاصب البدل و یملکه المغصوب منه، و لا یملک الغاصب العین المغصوبة، ولو عادت کان لکلٍّ منهما الرجوع، و علی الغاصب الاُجرة إن کان ممّا له أُجرةٌ فی العادة من حین الغصب إلی حین دفع البدل، و قیل: إلی حین إعادة المغصوب، و الأوّل أشبه»(1).

و قال فی القواعد: «ولو أبق العبد ضمن فی الحال القیمة للحیلولة، فإن عاد ترادّا، و للغاصب حبس العبد إلی أن یردّ القیمة علیه علی إشکال...»(2).

و فیه: «و یجب ردّ العین ما دامت باقیةً، فإن تعذّر دفع الغاصبُ البدلَ و یملکه المغصوب منه و لا یملک الغاصب العین المغصوبة فإن عادت فلکلٍّ منهما الرجوع، و هل یُجبر المالک علی إعادة البدل لو طلبه الغاصب؟ إشکال...»(3).

ص:569


1- (1) الشرائع 3/190.
2- (2) قواعد الأحکام 2/228.
3- (3) قواعد الأحکام 2/230.

قال فی المفتاح فی ذیل الکلام الأوّل من القواعد: «هذا معنی ما فی المبسوط(1) و الخلاف(2) و الغنیة(3) و السرائر(4) و الشرائع(5) و التذکرة(6) و التحریر(7) و الإرشاد(8) و

الدروس(9) و جامع المقاصد(10) و مجمع البرهان(11) و کذا المسالک(12) و الکفایة(13) و الإیضاح(14) و فی الخلاف(15) و الغنیة(16) أنّه علیه القیمة و أنّ مالک العین إذا أخذها - أی القیمة - ملکها بلا خلاف و ظاهرهما نفیه بین المسلمین.

و قد ذکر أنّ ضمان القیمة للحیلولة فی المبسوط(17) و الخلاف(18) و الغنیة(19) و

ص: 570


1- (4) المبسوط 3/95.
2- (5) الخلاف 3/412، مسألة 26.
3- (6) غنیة النزوع /282 و 281.
4- (7) السرائر 2/486.
5- (8) شرائع الإسلام 3/190.
6- (9) تذکرة الفقهاء 2/385 من الطبع الحجری.
7- (10) تحریر الأحکام الشرعیة 4/535.
8- (11) إرشاد الأذهان 1/446.
9- (1) الدروس الشرعیة 3/112.
10- (2) جامع المقاصد 6/261.
11- (3) مجمع الفائدة و البرهان 10/538 و 539.
12- (4) المسالک 12/200.
13- (5) کفایة الأحکام 2/647.
14- (6) إیضاح الفوائد 2/178.
15- (7) الخلاف 3/412.
16- (8) غنیة النزوع /282.
17- (9) المبسوط 3/95.
18- (10) الخلاف 3/412.
19- (11) غنیة النزوع /282.

التذکرة(1) و المسالک(2) و ظاهر هذه الکتب أنّ ذلک مجمع علیه أیضا و أنّهم لَیَأْخذونه مُسَلَّما...»(3).

و قال فی الجواهر فی ذیل کلام المحقّق إلی قوله: «کان لکلٍّ منهما الرجوع: «کما صرح لذلک کلِّه غیر واحد من أساطین الأصحاب کالشیخ و ابن ادریس و الفاضل و الشهید و الکرکی و غیرهم، بل فی المسالک نسبته إلیهم مشعرا بالاتفاق علیه، بل فی محکی الخلاف و الغنیة نفی الخلاف عن ملک المغصوب منه البدل المزبور، بل ظاهرهما علی ما قیل بین المسلمین...»(4).

و بالجملة: بدل الحیلولة موضوعه وجود العین لکن مع تعذُّر الوصول إلیها لغرقٍ أو ضیاعٍ أو إباقٍ أو سرقة أو نحوها.

و لذا قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ فی حکم تلف العین فی جمیع ما ذکر - من ضمان المثل أو القیمة - حکما تعذّر الوصول إلیه و إن لم یهلک کما لو سرق أو غرق أو ضاع أو أبق...»(5).

المقام الثانی: ما الدلیل علی بدل الحیلولة؟
اشارة

أقاموا لها عدّة وجوه:

الأوّل: الروایات

استدلوا علیها بعدّه من الروایات الواردة فی الضمانات نحو:

صحیحة سلیمان بن خالد عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إذا رهنت عبدا أو دابّة فمات فلا

ص:571


1- (12) تذکرة الفقهاء 2/385 من الطبع الحجری.
2- (13) المسالک 12/200.
3- (14) مفتاح الکرامة 18/185 و 184.
4- (15) الجواهر 37/129.
5- (16) المکاسب 3/257.

شیء علیک، و إن هلکت الدابة أو أبق الغلام فأنت ضامن.(1)

الإهلاک هو الإتلاف الحقیقی، و الإباق و الإتلاف الحکمی.

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن العاریة یستعیرها الإنسان فتهلک أو تُسرق؟ فقال: إن کان أمینا فلا غرم علیه.(2)

مفهومها الضمان بدون الأمانة بلا فرق بین الهلاک و هو التلف الحقیقی و السرقة و هو التلف الحکمی.

و منها: صحیح أبان عمّن حدّثه عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث قال: و سألته عن الذی یستبضع المال فیهلک أو یُسرق، أعلی صاحبه ضمان؟ فقال: لیس علیه غرم بعد أن یکون الرجل أمینا.(3)

بتقریب الماضی و الروایة روت فی الکافی 5/238، ح4 بسند معتبر إلی أبان و هو ینقل من دون واسطه عن أبی جعفر علیه السلام (4) فی بعض النسخ و مع واسطة محمّد فی بعضها الآخر و بسند صحیح فی التهذیب 7/184، ح812 عن أبان عن محمّد بن مسلم عن أبیجعفر علیه السلام .(5)

و منها: موثقة غیاث بن ابراهیم عن أبی عبداللّه علیه السلام : أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام اُتی بصاحب حمّام وضعت عنده الثیاب فضاعت فلم یضمّنه، و قال: إنّما هو أمین.(6)

ص:572


1- (1) وسائل الشیعة 18/388، ح8، الباب 5 من أبواب کتاب الرهن.
2- (2) وسائل الشیعة 19/93، ح7، الباب 1 من أبواب کتاب العاریة.
3- (3) وسائل الشیعة 19/80، ح5، الباب 4 من أبواب کتاب الودیعة.
4- (4) وسائل الشیعة 19/93، ح8، الباب 1 من أبواب کتاب العاریة.
5- (5) وسائل الشیعة 19/21، ح3، الباب 3 من أبواب کتاب المضاربة.
6- (6) وسائل الشیعة 19/139، ح1، الباب 28 من أبواب کتاب الإجارة.

مفهومها فی صورة عدم الأمانة علیه الضمان فی فرض الضیاع و هو التلف الحکمی.

و منها: مکاتبة الصفّار المرویة بسند صحیح عن الإمام العسکری علیه السلام فی رجل دفع ثوبا إلی القصّار لیقصره فدفعه القصّار إلی قصّار غیره لیقصّره، فضاع الثوب هل یجب علی القصّار أن یردّه إذا دفعه إلی غیره، و إن کان القصّار مأمونا؟ فوقع علیه السلام هو ضامن له إلاّ أن یکون ثقة مامونا إن شاء اللّه.(1)

بالتقریب الماضی.

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجل بعث بزکاة ماله لتقسم فضاعت، هل علیه ضمانها حتّی تقسم؟ فقال: إذا وجدلها موضعا فلم یدفعها فهو لها ضامن - إلی أن قال: - و کذلک الوصّی الذی یوصی إلیه یکون ضامنا لما دفع إلیه إذا وجد ربّه الذی أمر بدفعه إلیه، فإن لم یجد فلیس علیه ضمان.(2)

و منها: صحیحة الصفّار قال: کتبت إلی أبی محمّد علیه السلام رجل دفع إلی رجل ودیعة فوضعها فی منزل جاره فضاعت، هل یجب علیه إذا خالف أمره و أخرجها عن ملکه؟ فوقّع علیه السلام : هو ضامن لها إن شاء اللّه.(3)

و منها: معتبرة بل صحیحة إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجل استودع رجلاً ألف درهم فضاعت، فقال الرجل: کانت عندی ودیعة، و قال الآخر: إنّما کانت لی علیک قرضا؟ فقال: المال لازم له إلاّ أن یقیم البینة أنّها کانت ودیعة.(4)

و منها: معتبرة مَسْعَدَةَ بن زیاد عن جعفر بن محمّد علیه السلام قال: سمعته یقول: لاغرم علی

ص:573


1- (1) وسائل الشیعة 19/146، ح18، الباب 29 من أبواب کتاب الإجارة.
2- (2) وسائل الشیعة 19/346، ح1، الباب 36 من أبواب کتاب الوصایا.
3- (3) وسائل الشیعة 19/81، ح1، الباب 5 من أبواب کتاب الودیعة.
4- (4) وسائل الشیعة 19/85، ح1، الباب 7 من أبواب کتاب الودیعة.

مستعیر عاریة إذا هلکت أو سرقت أو ضاعت إذا کان المستعیر مأمونا.(1)

و منها: حسنة بل صحیحة عبداللّه بن یحیی الکاهلی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سألته القصّار یسلّم إلیه الثوب و اشترط علیه یعطینی فی وقت؟ قال: إذا خالف و ضاع الثوب بعد الوقت فهو ضامن.(2)

و منها: غیرها من الروایات الدالة علی الضمان بالسرقة أو الإباق أو الضیاع أو الغرق و نحوها، و هی کثیرة قد ذکرت لک عشرا منها فقط و «تلک عشرة کاملة».

یری الشیخ الأعظم دلالة هذه الروایات تامة و لذا قال: «لما دلّ علی الضمان بهذه الاُمور فی باب الأمانات المضمونة»(3).

و کما یراه من قبله صاحب الجواهر حیث یقول: «کما یؤمیء إلیه مادلّ علی الضمان بالضیاع و السرقة و نحوهما فی الأمین المفرط...»(4).

و اعترض علیه المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله و یراها فی صورة التلف و قال: «محلّ بحثنا غیر هذه الصورة»(5).

ولکن أنت تری بأنّها لاتختص بالتلف الواقعی و تشمل التلف الحکمی، بل ورد فی بعضها الاُمور الماضیة فقط. وافقنا علی التعمیم المحقّق المروج(6) رحمه الله .

ولکن یمکن أن یقال: هذه الأُمور یعدّ فی العرف تلفا و لا فرق بین التلف الحکمی و

ص:574


1- (5) وسائل الشیعة 19/94، ح10، الباب 1 من أبواب کتاب العاریة.
2- (6) وسائل الشیعة 19/143، ح7، الباب 29 من أبواب کتاب الإجارة.
3- (1) المکاسب 3/257.
4- (2) الجواهر 37/131.
5- (3) مصباح الفقاهة 3/209.
6- (4) هدی الطالب 3/608.

الواقعی من جهة الضمان. فالحکم فی الروایات بالضمان یتم لأجل التلف لا الحیلولة، فهذه الروایات لا تعمّ الحیلولة.

الثانی: قاعدة لا ضرر

بتقریب: «أنّ صبر المالک إلی حین الوصول إلی ماله ضرر علیه»(1).

«أو یقال: إنّ عدم الحکم بضمان البدل ضرر علی المالک.

أو یقال: إنّ امتناع الضامن عن أداء البدل ضرر علی المالک»(2).

و فیه: أوّلاً: ما مرّ من أنّ قاعدة لا ضرر یرفع الحکم الضرری، و أمّا اثبات الحکم بها فی الموارد الأحکام غیر الثابتة فی الشریعة التی توجب الضرر فلا یمکن إثباته بها.

و ثانیا: قاعدة لا ضرر تنفی الأحکام الضرریة لا الموضوعات الضرریة کما بیّن فی محلّها.

و ثالثا: النسبة بین بدل الحیلولة و موارد تضرر المالک هی العموم من وجه، إذ قد لایتضرر المالک بصبره إلی زمان تمکن الوصول إلی ماله لاستغنائه عنه، و مع ذلک یحکم بلزوم أداء بدل الحیلولة، و إذ لایکون مورد بدل الحیلولة، لأنّهم أخذوا فیها تعذر وصول

المال إلی مالکه مدّة طویلة، و المدّة تکون قصیرة و فیها ضرر علیه ولکنّهم لم یحکموا ببدل الحیلولة حینئذ. فالنسبة بین قاعدة لا ضرر و بدل الحیلولة هی العموم من وجه.

و رابعا: الضرران یتعارضان، لأنّ ضرر المالک بالصبر إلی زمان الوصول إلی ماله معارض بضرر الضامن المأمور بردّ البدل، و إذا تعارض الضرران فیتساقطان و لا تجری قاعدة لا ضرر.

ص:575


1- (5) کما فی حاشیة المکاسب 1/514 للفقیه الیزدی رحمه الله .
2- (6) کما فی مصباح الفقاهة 3/204.

و قد ورد جلّها أو کلّها فی مصباح الفقاهة.(1)

الثالث: قوله صلی الله علیه و آله : الناس مسلطون علی أموالهم.

بتقریب: أنّ مقتضاها جواز مطالبة العین وسیلة إلی أخذ البدل.

أو: أنّ السلطنة علی العین و إن کانت ممنوعة بالتعذر، إلاّ أنّ من شؤونها السلطنة علی مالیتها بردّ بدلها کما فی الموارد التی کان علیه کلّیٌ و قد تعذّر دفعه فعلاً، فحینئذ یجوز للمالک أخذ البدل کما فی المثلی المتعذِّر.

أو: أنّ السلطنة علی ماله تقتضی الانتفاع به، و هذه تقتضی جواز مطالبة البدل حتّی ینتفع ببدل ماله عوضا عنه.

کما ورد هذا المضمون من الشیخ الأعظم(2) و السیّد الیزدی(3) رحمهماالله .

و فیه: حدیث السلطنة یقتیضی السلطنة علی العین بالتصرفات السائغة فیها من البیع و الصلح و الوقف و... و لیس لأحد أن یزاحمه فیها. و منها مطالبة عین ماله من الغاصب و أمّا مطالبة بدل الحیلولة لایستفاد منها. و لذا قال المحقّق النائینی فی ردّ هذا الاستدلال مختصرا: «أنّه لا سلطنة له إلاّ علی العین، و عموم السلطنة لا یثبت الصغری»(4).

مضافا: علی فرض تمامیة الدلالة، لا یتعین أنّ جواز الأخذ یکون من باب الغرامة و لأحد أن یقال بل غایة ما یقال: أنّ المستفاد منها جواز مطالبة مالیة المال بالمصالحة أو البیع أو الهبة المعوِّضة أو غیرها و یجبر الغاصب علی إحداها، لا علی الوجه الغرامة حتّی یأتی

ص:576


1- (1) مصباح الفقاهة 3/205 و 204.
2- (2) المکاسب 3/258.
3- (3) حاشیة المکاسب 1/514.
4- (4) منیة الطالب 1/326.

إشکال الجمع بین العوض و المعوض کما یظهر من الفقیه الیزدی(1) رحمه الله .

بل یمکن أن یقال: بعدم دلالة حدیث السلطنة حتّی علی إلزامه علی عقد البیع و نحوه.(2) و لأنّ «قاعدة السلطنة تقتضی السلطنة علی التصرفات فی المال ولو بمطالبته من الغیر، لا السلطنة علی الغیر بإجباره علی إیقاع المعاملة علی ماله»(3).

ثالثة: إنّ النسبة بین السلطنة و بدل الحیلولة هی العموم من وجه، فلا یتم الاستدلال لها بها. لأنّه یوجد موارد لا یثبت سطنة علی المال للحجر مثلاً ولکن یجری بدل الحیلولة فی فروضها و موارد ثبوت السلطنة و عدم بدل الحیلولة واضح.

رابعة: لو کان دلیلُ بدلِ الحیلولةِ حدیثَ السلطنةِ، لابدّ أن یجری فی موارد یُمنع المالکُ من السلطنة علی أمواله نحو الحبس و لم یقل به أحدٌ.

خامسة: موضوع حدیث السلطنة هو المال الخارجی(4) و مع فرض وجوده، لا تصل النوبة إلی شیءٍ غیره، و فی الفروض یقتضی المطالبة بعین المال فقط لا غیرها من المالیة أو البدل أو غیرهما.

و لذا قال المحقّق الاصفهانی: «... و المالیة القائمة ببدله حصة اُخری من المالیة، فالسلطنة علی مطالبتها سلطنة علی مطالبة مال الغیر لا علی مال نفسه»(5).

و کذا قال: «و السلطنة علی الانتفاع بالبدل المدفوع سلطنة اُخری، لیس للمالک

ص:577


1- (5) حاشیة المکاسب 1/514.
2- (1) کما فی کتاب البیع 1/435 للمحقّق الخمینی رحمه الله .
3- (2) حاشیة المکاسب 1/428 للمحقّق الأصفهانی رحمه الله .
4- (3) کما فی کتاب البیع 1/435 للمحقّق الخمینی رحمه الله .
5- (4) حاشیة المکاسب 1/427.

مطالبتها إلاّ بعد استحقاق البدل و هو أوّل الکلام»(1).

و بما ذکرنا لا یتم ما ذکره الشیخ الأعظم رحمه الله بقوله: «فإنّ تسلّط الناس علی مالهم الذی فرض کونه فی عهدته یقتضی جواز مطالبة الخروج عن عهدته عند تعذّر نفسه، نظیر ما تقدَّم فی تسلّطه علی مطالبة القیمة للمثل المتعذِّر فی المثلی»(2).

الرابع: قاعدة الید

المستفاد من قوله صلی الله علیه و آله : علی الید ما أخذت حتّی تُؤَدِّیَهُ.

بتقریب: «إنّ الضمان المستفاد منه أعم من صورة التلف و صورة تعذّر التسلیم فعلاً»(3).

أو «فإنّ أداء العین کما یکون بأداء البدل فی صورة التلف، کذلک یکون بأداء البدل فی فرض الحیلولة»(4).

و یری صاحب الجواهر دلالة قاعدة الید علیها تامة.(5)

و فیه: أوّلاً: «المنساق منه صورة التلف» کما قاله الفقیه الیزدی(6) رحمه الله .

و ثانیا: علی فرض دلالة هذا الحدیث و تمامیّتها فلا فرق بین ما کانت مدّة تعذِّر وصول العین قلیلة أو طویلة، مع أنّهم لم یلتزموا ببدل الحیلولة فی المدّة القلیلة.

و ثالثا: الحدیث یدل علی ردّ العین فی فرض وجودها، وردّ المثل أو القیمة فی فرض

ص:578


1- (5) حاشیة المکاسب 1/427.
2- (6) المکاسب 3/258.
3- (7) کما فی حاشیة المکاسب 1/514 للفقیه الیزدی رحمه الله .
4- (1) کما فی مصباح الفقاهة 3/207.
5- (2) راجع الجواهر 37/131.
6- (3) کما فی حاشیة المکاسب 1/514 للفقیه الیزدی رحمه الله .

تلفه، و إذا کان السرقة أو الغرق أو الإباق أو الضیاع أو أشباهها فی نظر العرف تلفا فینتقل الضمان إلی المثل أو القیمة و إذا أدّی الضامن أحدهما فیحصل الانتقال القهری ولو وجدت العین أحیّانا فهو - الضامن - یملکها و إلاّ یلزم إشکال الجمع بین العوض و المعوَّض. هذا هو المستفاد من دلالة الحدیث و أنت تری فوارقها مع بحث بدل الحیلولة.

اللهم إلاّ أن یقال: مناسبة الحکم و الموضوع لدی العرف یقتضی أن یستفاد «من الحدیث الشریف أنّ الآخذ إمّا یجب علیه ردّ المأخوذ بشخصه و إمّا یصدق علیه أنّه أداء له ما لم یتمکّن من ردّ شخصه، و لا یری العرف فرقا بین التلف و التعذّر من حیث الدلالة للحدیث، فإنّ استقرار العین فی عهدة الضامن یقتضی أن یخرج من تبعات مالیته.

نعم، إذا کان زمان التعذّر قصیرا جدّا فلیست هذه المناسبة متحقّقة، کما أنّه لایصدق الضرر أیضا»(1).

أقول: نعم، لا یری العرف فرقا بین التلف و التعذّر و یحکم بالبدل و مع أخذ البدل توسط المالک و دخوله فی ملکه یجری الانتقال القهری و صار العین ملکا للضامن.

الخامس: قاعدة الإتلاف

بتقریب: «إنّ الغاصب قد فوّت سلطنة المالک علی ماله فی موارد بدل الحیلولة فحیث إنّه غیر قادر علی إعادة تلک السلطنة بعینها، فلابدّ له من إعادة مثلها، و من الواضح

أنّ هذا لا یمکن إلاّ بأداء بدل الحیلولة»(2).

و یرد علیه أوّلاً: مفاد هذه القاعدة ضمان العین التالفة علی متلِفها و أمّا ضمان السلطنة الفائتة فلایستفاد منها.

ص:579


1- (4) منیة الطالب 1/328.
2- (1) مصباح الفقاهة 3/207.

و لذا قال المحقّق النائینی: «لیس للمالک إلاّ الملک، و أمّا السلطنة علیه فهی من أحکام الملک فلا معنی لتعلّق الضمان بها»(1).

نعم، فوت منافع العین أیضا تدخل فیها و یمکن القول بضمانها بها کما مرّ فی بحث المنافع من صدق المال علیها.

ولکن بین ضمان العین و المنافع، و بین الالتزام ببدل الحیلولة بون بعید!

و ثانیا: علی فرض الشک فی شمول القاعدة لبدل الحیلولة و عدمه، لابدّ من الأخذ بقدر المتیقن من الشمول، لأنّ هذه القاعدة لیست بمدلول آیة و لا روایة، بل هی مستفادةٌ من أدلة الضمان الواردة فی موارد متعددة فلیس لها إطلاق حتّی نتمسک بها.

و ثالثا: و علی فرض شمول القاعدة لبدل الحیلولة فلا فرق بینها و بین حبس المالک و منعه من التصرف فی ماله لأنّ فیهما أیضا یتعذّر وصول المال لمالکه و یفوت سلطنته، مع أنّ القائلین ببدل الحیلولة لم یلتزموا بالضمان فی الموردین.(2)

السادس: الجمع بین الحقّین

قال الشیخ الأعظم: «و یؤیده: أنّ فیه جمعا بین الحقّین بعد فرض رجوع القیمة إلی ملک الضامن عند التمکّن من العین»(3).

و قال النائینی فی نقده: «و فیه: أنّه لو ثبت حقّ للمالک علی الضمان مع بقاء عین ماله، لکان دفع القیمة إلیه مادام العین خارجةً عن تحت استیلائه جمعا بین الحقّین، و هذا یتوقّف علی کون مجرد وضع الید علی العین مع بقائها موجبا لتعلّق حقٍّ فعلیٍّ بالبدل للمالک علی الغاصب، و هذا ممّا لایلتزم به أحد، حتّی بناءً علی القول بأنّ المدار فی القیمی علی یوم

ص:580


1- (2) منیة الطالب 1/327.
2- (3) مصباح الفقاهة 3/207.
3- (4) المکاسب 3/258.

المخالفة [الغصب]، لأنّه لیس معناه فعلیّة الضمان بالقیمة و العین، بل فعلیته بالنسبة إلی القیمة مشروطة بالتلف، غایة الأمر أنّه یلاحظ قیمة یوم المخالفة، و أمّا بدون تلف العین فلا حقّ له

إلاّ علی العین»(1).

السابع: تسالم الأصحاب قدس سرهم علی أنّ الحیلولة من موجبات الضمان

أنت إذا فحصت کلمات الفقهاء - أعلی اللّه مقامهم - فی الفروع المختلفة تجد أنّهم یعدون الحیلولة بنفسها من موجبات الضمان و یمکنک الرجوع إلی مظانِّ هذه الفروع فی الکتب الفقهیة:

منها: باب الغصب، و تعذر تسلیم المغصوب أو إباق العبد.

و منها: باب الإقرار، فی إقرار ذی الید بالعین لأحدٍ ثمّ إقراره ثانیا لغیره.

و منها: باب الشهادة، لو شهدت البینة بالطلاق ثمّ رجعت بعد حکم الحاکم بالتفریق.

و منها: باب الجهاد، فی ضمان الإمام المهر للزوج الکافر المهادِن إذا هاجرت زوجته المسلمة إلی بلد الإسلام.

و منها: باب القصاص، فی مَنْ أطلق مستحق القصاص من ید ولیّ المقتول أُلزم بدفع الدیة للحیلولة.

و منها: باب الأطعمه و الأشربة، فی مسألة واطئ البهیمة و ضمانه لمالکها لمکان الحیلولة.

و منها: باب الإقرار ثانیة، فی من باع أو وهب أو صالح شیئا علی أنّه له، ثمّ أقرّبه لغیره، حکموا بضمانه للغیر للحیلولة بین المقرِّ له و ماله.

ص:581


1- (1) منیة الطالب 1/326.

و منها: غیرها، ممّا یقف علیها المتتبّع.(1)

و فیه: علی فرض تمامیة تسالمهم علی الحیلولة و أنّها من موجبات الضمان حیث لم یدل الدلیل علیها فنحن نفارقهم لأنّا أبناء الدلیل یدور معه حیث مادار. فالعمدة دلالة الدلیل و لا یتم.

الثامن: الإجماع

دعوی الإجماع علی ثبوت بدل الحیلولة و قد مرّ اعتراف الفقیه المتتبّع السیّد العاملی(2) بأنّ ظاهر عدّة من الکتب أنّ ضمان القیمة للحیلولة مجمع علیه و أنّهم لَیَأْخُذُوْنَهُ

مُسَلَّما.

و مرّ من صاحب الجواهر قوله: «بل فی المسالک(3) نسبته إلیهم مُشْعِرا بالاتّفاق علیه...»(4).

و فیه: علی فرض وجود هذا الإجماع لا یفیدنا مع وجود هذه الأدلة التی یمکن أن تکون مستند المجمعین.

فذلکة القول فی بدل الحیلولة

حیث لا تتمّ الأدلة لإثباتها فلا یمکننا موافقة المشهور من فقهائنا - قدس اللّه أسرارهم - من حکمهم بها، و فی موارد الضیاع و السرقة و الغرق و الإباق إن یصدق التلف عرفا یحکم بأدلة الضمان بضمان المال للمالک بالمثل أو القیمة من جانب الضامن.

و إذا لم یصدق التلف عرفا فلیس للمالک المطالبة ببدل ماله، نعم له اُجرة ماله بدلاً

ص:582


1- (2) لتفصیل الفروع راجع هدی الطالب 3/614.
2- (3) راجع مفتاح الکرامة 18/185.
3- (1) المسالک 12/201 قال بعد البحث عن بدل الحیلولة: «هکذا أطلقوه».
4- (2) الجواهر 37/130.

من منافعه الفائتة له.

و فی فرض التلف و أداء الضمان وقع المبادلة القهریة، فینتقل المال إلی المالک و العین التالفة إلی الضامن، بحیث لو وجدت إحیانا کانت له.

وافقنا علی هذا البیان المحقّق السیّد الخوئی(1) و شیخنا الاستاذ(2) قدس سره .

و علی هذا نتعرض لبقیة أبحاث بدل الحیلولة تبعا للقوم و لأجل عدم خلوّ کتابنا مِنْ هذه الأبحاث.

المقام الثالث: تحدید موضوعها

قال الشیخ الأعظم: «و هل یقیّد ذلک [1] بما إذا حصل الیأس من الوصول إلیه، [2] أو بعدم رجاء وجدانه، [3] أو یشمل ما لو علم وجدانه فی مدّة طویلة یتضرّر المالک من انتظارها، [4] أو ولو کانت قصیرة؟ وجوه»(3).

ثم قال: «ظاهر أدلة ما ذکر... الاختصاص بأحد الأوّلین، ولکن ظاهر إطلاق الفتاوی الأخیر [4]، کما یظهر من اطلاقهم أنّ اللوح المغصوب فی السفینة إذا خیف من

نزعه غَرْقُ مالٍ لغیر الغاصب انتقل إلی قیمته إلی أن یبلغ الساحل»(4).

أقول: یقع الکلام معه قدس سره فی جهتین:

الأولی: ما استفاد من الأدلة و الفتاوی.

الثانیة: ما استفاد من الفرع المعروف.

أمّا الأولی: یمکن أن یقال: بأنّ الصورتین الأولیین تلحقان بالتلف الحقیقی - و إن

ص:583


1- (3) لأنّه ناقش جمیع الأدلة فی مصباح الفقاهة 3/(209-203).
2- (4) إرشاد الطالب 2/199.
3- (5) المکاسب 3/257.
4- (1) المکاسب 3/257.

کانتا فی الواقع تلفا حکمیا - ولکن بشرط أن یکون الیأس من الوصول إلی العین أو عدم رجاء وجدانها عقلائیا فیحکم فیهما بالضمان بقاعدة من أتلف.

ثم إن کان الدلیل علی ثبوت بدل الحیلولة هو الإجماع أو تسالمهم بما أنّهما دلیل لبّی فالمتیقن منه هو الصورة الاولی أو الصورتین الاُولیین.

و إن کان دلیلها الروایات أو قاعدة التلف، فالأمر کذلک و الدلیل یشمل الصورتین الأُولیین.

و إن کان الدلیل قواعد لا ضرر و السلطنة و ضمان الید فمفادها ثبوت بدل الحیلولة بمجرد التعذّر - بلا فرق بین الزمان الطویل أو القصیر - فحینئذ جمیع الصور الأربع تدخل فی البحث مع أنّ الفقهاء یخرجون التعذر فی المدّة القصیرة.

و کذلک یلحق بهذه القواعد دلیل الجمع بین الحقّین.

هذا هو المستفاد من الأدلة و أنت تری عدم تمامیة ما ذکره الشیخ الأعظم من أنّ ظاهر الأدلة هو الاختصاص بإحدی الأُوْلَیَیْنِ.

أمّا الثانیة: المستفاد من الفرع المشهور

فلابدّ أوّلاً من التعرض إلیه ثمّ البحث حوله و أوّل من تعرّض إلیه هو شیخ الطائفة فی مبسوطه قال: «إذا غصب ساجة(1) فبنی علیها، أو لوحا فأدخله فی سفینته، کان علیه ردّه سواء کان فیه قلع ما بناه فی ملکه أو لم یکن فیه قلع ما بناه فی ملکه... فإن کانت الساجة قد نقصت فعلیه أرش النقص، لأنّه أدخل النقص بفعله، فإن عفنت(2) فی البناء و متی أخرجها لم ینتفع بها، فعلیه قیمتها و لیس علیه ردّها، لأنّها مستهلکة تالفة.

ص:584


1- (2) الساجة: شجر عظیم صَلْب، الخشب، جمعه سِیْجان.
2- (3) عفنت الخشبة: إذا فسدت من ندوة أصابتها فهی تتفتت عند مسّها.

و إن کان لوحا و أدخله فی سفینته نظرت، فإن کانت فی البرِّ أو فی البحر بقرب البرّ

فالحکم فیه کالساجة فی البناء حرفا بحرفٍ، و إن کانت السفینة فی لجّة البحر نظرت، فإن کان اللوح فی أعلاها أو فی موضع لا یخشی علیها الغرق بقلعه، قلع وردّ، و إن کانت فی موضع متی قلع اللوح غرفت السفینة نظرت، فإن کان فیها حیوان له حرمة أو کان هو فیها لم یقلع، لأنّه إن کانت حرمته سقطت فی حقّه فما سقطت حرمة الحیوان فی نفسه، و إن رضی بإتلاف نفسه لم یقلع لأنّه لا یملک إدخال الضرر علی نفسه.

و إن لم یکن فیها حیوان نظرت فإن کان فیها مال لغیره لایقلع، لأنّه لا یملک إدخال الضرر علی غیر الغاصب، و إن کان المال للغاصب أو لم یکن له فیها متاع ولکنّه یخاف متی قلع اللوح غرقت السفینة فی نفسها فهل یقلع أم لا؟

قیل: فیه وجهان: أحدهما یقلع، لأنّه لیس فی قلعه أکثر من إدخال الضرر علی ماله فهو کالساجة، و الآخر و هو الصحیح أنّه لایقلع، لأنّه یمکن إزالة الضرر عن کلّ واحد منهما، عن الغاصب بالتأخیر حتّی یقرب من البرّ، و عن المالک بأن یصبر حتّی یصل إلیه عین ماله، و لا معنی لاسقاط أحدهما مع القدرة علی حفظهما.

و یفارق البناء لأنّه لا یمکن الردّ إلاّ بإدخال الضرر علی الغاصب.

فکلّ موضع قلنا له القلع کان علیه الاُجرة و النقص و غیره مثل الساجة حرفا بحرفٍ، و کلّ موضع قلنا لا یردُّ، قیل للمالک: إن اخترت أن تطالبه بالقیمة و إلاّ فاصبر حتّی إذا تمکّن من الردّ ردّها کما قلنا»(1).

أقول: أنت تری أنّ ظهور کلام الشیخ فی المطالبة بالقیمة هو المبادلة و المعاوضة بقرینة ما بعدها «و إلاّ فاصبر حتّی إذا تمکن من الردّ ردّها»، لا بدل الحیلولة المذکورة فی

ص:585


1- (1) المبسوط 3/87 و 86.

کلام الشیخ الأعظم و غیره. و لی فی هذا الفرع کلام یأتی.

و قال فی الخلاف: «إذا غصب ساجة فبنی علیها أو فی مجنبها، أو لوحا فأدخله فی سفینة، کان علیه ردّه، سواء کان فیه قلع ما بناه فی ملکه، أو لم یکن فیه قلع ما بناه فی ملکه، و به قال الشافعی.

و حکی محمّد(1) فی الأُصول: أنّه متی کان علیه ضرر فی ردّها لم یلزمه ردّها، و ظاهر هذا أنّه لا یلزمه ردّها متی کان علیه فی ردّها ضرر، سواء بنی علیها أو فی مجنبها.

و قال الکرخی: إنّ مذهب أبی حنیفة: أنّه إن لم یکن فی ردّها قلع ما بناه فی حقّه

- مثل أن بناها علی بدن الساجة - فقد لزمه. و إن کان فی ردّها قلع ما بناه فی حقّه - مثل أن کان البناء مع طرفیها و لا یمکنه ردّها إلاّ بقلع هذا - لم یلزمه ردّها. و المناظرة علی ما حکاه محمّد.

و تحقیق الکلام معهم: هل ملکها بذلک أم لا؟ فعنده قد ملکها، کما قال: إذا غصب شاة فذبحها و شواها، أو حنطة فطحنها. و عندنا و عند الشافعی ما ملکها.

دلیلنا: ما قلناه فی المسألة الاُولی سواء، من أنّ الساجة فی ملکه قبل البناء علیها، فمن ادعی زواله بالبناء فعلیه الدلالة و روی...»(2).

و قال فی السرائر: «و من غصب ساجة فأدخلها فی بنائه، لزمه ردّها، و إن کان فی ذلک قلع ما بناه فی ملکه، لمثل ما قدّ مناه من الأدلة من قوله صلی الله علیه و آله : لایحل مال امرء مسلم إلاّ عن طیب نفس منه، قولهُ صلی الله علیه و آله أیضا: علی الید ما أخذت حتّی تؤدی، و کذا لو غصب لوحا فأدخله فی سفینة، و لم یکن فی ردّه هلاک ماله حرمة، و علی الغاصب اُجرة مثل ذلک من

ص:586


1- (2) محمّد بن الحسن الشیبانی أحد صاحبَیْ أبیحنیفة.
2- (1) الخلاف 3/408 و 409، مسألة 22.

حین الغصب إلی حین الردّ، لأنّ الخشب یستأجر للانتفاع به»(1).

و قال المحقّق: «یجب ردّ المغصوب مادام باقیا ولو تعسَّرَ کالخشبة تُسْتَدخَلُ فی البناء أو اللوح فی السفینة، و لا یُلزم المالکُ أخذ القیمة...»(2)

و قال العلاّمة فی القواعد: «ولو رقع باللوح المغصوب سفینته وجب قلعه إن کانت علی الساحل، أو کان اللوح فی أعلاها بحیث لاتغرق بقلعه، ولو کانت فی اللجّة و خیف الغرق بقلعه فالأقرب الرجوع إلی القیمة إلی أن یخرج إلی الساحل، إن کان فی السفینة حیوان له حرمة أو مال لغیر الغاصب، ولو کان له فالأقرب العین»(3).

أقول: فی زمن العلاّمة بدّل القیمة و المبادلة ببدل الحیلولة.

و قال فی التحریر: «... ولو تعسرَ الردّ وجب مع إمکانه، کاللوح ترقع به السفینة، و هی علی الساحل، أو فی اللّجّة و اللوح فی أعلاها، ولو خیف الغرق لم یجب، و للمالک أخذ القیمة، فإذا أمکن ردّ اللوح استرجعه، و ردّ القیمة، ولو خیف غرق مال الغاصب خاصّة قلعت.

ولو استدخل الخشبة فی بنائه وجب ردّها بعینها، و إن أدّی إلی خراب البناء، و کذا لو غصب حجرا فبنی علیه، أو خیطا فخاط به ثوبا ولو بلی الخیط أو انکسر الحجر أو تلفت الخشبة ردّ القیمة، ولو أمکن نزع الخیط من الثوب وجب، و ضمن النقص، ولو خشی تلفه بانتزاعه ضمن القیمة. ولو خاط به جرح حیوان لا حرمة له کالمرتدّ و الکلب العقور و الخنزیر وجب ردُّهُ، ولو کان له حرمة وخشی من نزعه تلف الحیوان أو الشَّیْن أو بطؤ البرء وجبت القیمة، ولو کان الحیوان مأکول اللحم فالأقرب أنّه کذلک.

ص:587


1- (2) السرائر 2/484.
2- (3) الشرائع 3/188.
3- (4) القواعد 2/235.

و کلّ موضع یجب فیه ردّ العین لو دفع الغاصب القیمة لم یجب القبول، و کذا لو طلبها المالک»(1).

قال فی المفتاح فی شرح قول العلاّمة فی القواعد إلی قوله: «لا تغرق بقلعه»: «الوجه فی ذلک کلّه واضح، لأنّه لا یخاف من النزع إهلاک نفس محترمة و لا مال فکان حینئذ کالبناء، و لذلک ترک القیدین فی الشرائع و إن کان نص علی الجمیع فی المبسوط و التذکرة(2) و التحریر و الدروس(3) و المسالک(4) و خلاف أبی حنیفة آتٍ هنا»(5).

و قال فی شرح بقیة کلامه إلی قوله: «أو مال لغیر الغاصب»: «کما هو صریح التذکرة(6) و جامع المقاصد(7) و المسالک(8) و الروضة(9) و ظاهر غیرها(10). و فی مجمع البرهان أنّه لا خلاف فی أنّ حفظ النفس مقدّم علی ردّ المال(11). و المراد بالحیوان المحترم ما لا یجوز إتلافه مطلقا أو بغیر الذبح. و حینئذٍ فلا فرق بین الآدمی و غیره و لا فی غیره بین أن

ص:588


1- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 4/528 و 527.
2- (2) تذکرة الفقهاء 2/396 من الطبع الحجری.
3- (3) الدروس الشرعیة 3/110.
4- (4) المسالک 12/176.
5- (5) مراده من خلاف أبی حنیفة حکمه بملک الغاصب و غرمه قیمة المال کما فی المسالک 12/175 و 176، و الحاوی الکبیر 7/202، و المغنی 5/425.
6- (6) تذکرة الفقهاء 2/396 من الطبع الحجری.
7- (7) جامع المقاصد 6/304.
8- (8) المسالک 12/176.
9- (9) الروضة البهیة 7/36.
10- (10) کریاض المسائل 14/22 و 21.
11- (11) مجمع الفائدة 10/521.

یکون للغاصب أم لغیره لاحترام روح الحیوان کما سیأتی من الخبر النبوی(1) کما هو ظاهر

الکتاب [القواعد] و صریح التذکرة(2) و جامع المقاصد(3) و المسالک(4) و لا فرق فی مال غیر الغاصب و مَنْ لا یعلم أنّ فیها لوحا مغصوبا غیر الحیوان بین نفس السفینة أو غیرها لاحترام مال الغیر إذا لم یکن عالما، فیجمع بین الحقین بدفع القیمة، فإذا استرجع اللوح ردّ القیمة. و أمّا الواضع ماله فیها بعد علمه بالغصب فکالغاصب کما فی کتب الثلاثة(5).

و احتمل فی الإیضاح فی أصل المسألة أخذ العین لأنّها وضعت بغیر حقّ فیثبت جواز انتزاعها، و إلاّ لجاز دوام الغصب شرعا و هو محال(6). و هو ضعیف کما فی جامع المقاصد(7).

قوله: «ولو کان له فالأقرب العین»، «کما هو خیرة التحریر(8) و الإیضاح(9) و الدروس(10) و جامع المقاصد(11)، و هو قضیة إطلاق الخلاف(12) و الشرائع(13) و فی المسالک

ص:589


1- (12) مراده ما روی عنه صلی الله علیه و آله أنّه نهی عن ذبح الحیوان إلاّ لأکله. تلخیص الحبیر 3/55، ح1272،
2- (1) تذکرة الفقهاء 2/396 من الطبع الحجری.
3- (2) جامع المقاصد 6/304.
4- (3) المسالک 12/176.
5- (4) أی تذکرة الفقهاء 2/396، جامع المقاصد 6/304 و المسالک 12/176.
6- (5) إیضاح الفوائد 2/187.
7- (6) جامع المقاصد 6/304.
8- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 4/527.
9- (8) إیضاح الفوائد 2/188.
10- (9) الدروس 3/109.
11- (10) جامع المقاصد 6/304.
12- (11) الخلاف 3/408، مسألة 22.
13- (12) الشرائع 3/188.

نسبته إلی صریح الأکثر(1)، لأنّ دفع المغصوب إلی المالک واجب علی الفور و لا یتمّ إلاّ به، و قد أدخل الضرر علی نفسه بعدوانه علی أنّه لا یناسبه التخفیف.

و اختیر فی المبسوط(2) و التذکرة(3) و ظاهر کلام السرائر(4) أنّه لا ینزع، لأنّ السفینة لا تدوم فی البحر فیسهل الصبر إلی انتهائه إلی الشط، فتؤخذ القیمة للحیلولة إلی أن تیسّر الفصل و ردّ اللوح مع أرش النقص إن نقص و تستردّ القیمة جمعا بین الحقّین، و لا

کذلک الساجة فی البناء فإنّه لا أمد لها فینتظر فافترقا. و قد وسمه فی جامع المقاصد(5) بالضعف، و التضعیف ضعیف إذا استلزم القبح و الضرر الفاحش مع إمکان الجمع بین الحقّین کما حرّر فی ذلک فی باب وجوب المقدمة فلیتأمل جیّدا و لاترجیح فی المسالک(6)...»(7).

أقول: وجدت فی نقل عبائر القوم عدم التعرض لبدل الحیلولة فی کلمات الشیخ و ابن ادریس و المحقّق و لعلّ أوّل من تعرض لها هو العلاّمة فی کتبه و بعد تبعه القوم.

ثم فهل یمکن استفادة دلیلیة حکم من الفرع الذی أبدی العلاّمة نظره فیه فی القرن الثامن؟ و تبعه القوم و هل فتاواهم حجة لغیرهم من المجتهدین و هل یمکن تسریة الحکم فی موضوع إلی غیره؟ و هل اسم هذه العملیة [إسراء الحکم من موضوع إلی غیره من غیر حجة شرعیة] إلاّ القیاس الباطل فی الشریعة المقدسة عندنا؟ و بهذه الأسئلة ظهر عدم

ص:590


1- (13) المسالک 12/177.
2- (14) المبسوط 3/86.
3- (15) تذکرة الفقهاء 2/396 من الطبع الحجری.
4- (16) السرائر 2/484.
5- (1) جامع المقاصد 6/304.
6- (2) المسالک 12/177.
7- (3) مفتاح الکرامة 18/(286-284).

تمامیة مقالة الشیخ الأعظم من أنّ «ظاهر إطلاق الفتاوی الأخیر» أی ولو کانت المدّة قصیرة، و عدم وجاهة استظهاره.

و العجب من المحشین علی المکاسب عدم تعرضهم لهذا الإشکال!

ثم القول فی هذا الفرع المذکور لابدّ فیه من لحاظ أُمورٍ:

الأوّل: وجوب رد عین المال إلی مالکه مهما أمکن خلافا لأبی حنیفة.

الثانی: لا یلزم ردّ عین المال تلف نفس محترمة أو حیوان محترم أو مال کذلک.

الثالث: لا عبرة بما اشتهر فی الألسنة بأن الغاصب یؤخذ بأشق الأحوال، فلو کان المال للغاصب أیضا یکون محترما.

الرابع: لزوم ردّ العین باق مادام لم یصدق علیها التلف عرفا، ففی مثل الخیط الذی خاط به الثوب و لا یمکن إخراجه صحیحا یصدق التلف عرفا فینتقل الضمان إلی القیمة.(1)

الخامس: إذا صار مال الغاصب محترما فلا فرق بین أنّه فی السفینة علی الماء أو فی البناء علی الأرض.

السادس: إذا یصدق التلف عرفا علی الساجة أو الإستوانة الحدیدیة المستعملة فی

البناء أو اللوح الخشبی أو الحدیدی المستعمل فی السفینة، ینتقل الضمان إلی القیمة فلا یجب ردّ العین. - و صارا کالخیط الذی مرّ -

السابع: فی کلّ مورد یصدق التلف عرفا و ینتقل الضمان إلی القیمة، یعطی الضامن قیمة یوم الأداء. - کما مرّ فی بحث القیمی -

الثامن: إذا لم یصدق التلف عرفا فیلزم علی الغاصب إعطاء العین و یجب علیه الخروج من ضمان منافعها - المستوفاة عند الکلّ و حتّی غیر المستوفاة عندنا - بأداء أجرة

ص:591


1- (4) کما علیه المحقّق الأردبیلی فی هذا الفرع [الخیط] فی مجمع الفائدة 10/521.

مثلها.

التاسع: فی فرض انتقال الضمان إلی القیمة و أداءها تنتقل العین إلی الضامن المؤدِی و بعد أداء القیمة صار العین و منافعها فی ملکه فیجوز الصلاة فی اللباس الذی خاط بخیط الغیر بعد أداء قیمته لاقبلها.

العاشر: فی موارد الشک فی تلف العین عرفا أو عدمه، الأحوط المصالحة بین المالک و الغاصب، لا سیما إذا تضرر الغاصب من أداء العین تضررا فاحشا نحو: أرض الغیر التی بنی علیها برجا فی مأة طابق مثلاً و المالک یرید أرضه و الغاصب یتضرر کلِّ ماله أو جلِّه، فحینئذ الأحوط المصالحة بینهما باعطائه للمالک قیمة أرضه ولو بأضعاف مضاعفة حتّی یرضی ببیعها. أو استیجار الأرض منه فی مدّة یبقی البناء عادةً، أو إعطاء منافع الأرض له فی مدّة یبقی البناء عادةً أو نحوها من موارد المصالحة.

«تلک عشرة کاملة»(1) من الأمور ملحوظة و یظهر لک بعد التأمل فیما سردناه علیک البقیة منها و الحمدللّه أوّلاً و آخرا.

مسائل لابدّ من التنبیه علیها
اشارة

ثم إنّ هاهنا مسائل لابدّ من التنبیه علیها علی القول ببدل الحیلولة:

الاولی: ما المراد بالتعذر؟

هل المراد به التعذر العقلی أو یکفی التعذر العرفی؟ قال الشیخ الأعظم: «ثمّ الظاهر عدم اعتبار التعذر المسقط للتکلیف، بل لو کان ممکنا بحیث یجب علیه السعی فی مقدماته لم یسقط القیمة زمان السعی...»(2).

حاصل مراده قدس سره : إنّ الظاهر من الأدلة عدم اعتبار التعذر العقلی فی ثبوت الضمان

ص:592


1- (1) سورة البقرة /196.
2- (2) المکاسب 3/258.

ببدل الحیلولة بحیث لایتمکن الضامن عقلاً من الوصول إلی العین، بل یکفی مجرد التعذر

العرفی و إن تمکن الغاصب من الوصول إلی العین بالسعی فی مقدمات الوصول فیحکم بها فی زمان السعی فیها.

و یمکن استیناس اعتبار التعذر العرفی من فتواهم فی اللوح المغصوب المستعمل فی السفینة ببدل الحیلولة مع إمکان الوصول إلی عین اللوح ولو بالسعی فی مقدماته من إیصال السفینة إلی البرّ.

نعم، قد ورد فی ظاهر بعض کلمات الفقهاء(1) مطلق کلمة «التعذر» فی هذا البحث و هی ظاهرة فی التعذر العقلی و هو الأوفق بأصالة عدم تسلّط المالک علی أزید من إلزام الغاصب بردّ العین.

ثم أمر الشیخ الأعظم بالتأمل و لعلّه إشارة إلی أنّ الأصل المذکور محکوم ببعض أدلة بدل الحیلولة بعدم الفرق بین التعذر فی المدّة الطویلة أو القصیرة(2). أو إشارة إلی أنّ الأصل المذکور قد یلزم تضرر المالک(3). أو إشارة إلی أنّ تسلیط المالک بالزام ردّ عین ماله کاف فی إثبات بدل الحیلولة لأنّها من شؤون ردّ العین.(4)

ثم اختار فی ختام مقاله التعذر الفعلی - أیّ التعذر فی الحال - و قال: «و لعلّ المراد به التعذر فی الحال، و إن کان لتوقفه علی مقدمات زمانیة یتأخّر لأجلها ذو المقدمة»(5).

ص:593


1- (1) نحو المحقّق فی الشرائع 3/190 و العلاّمة فی القواعد 2/230 و تحریر الأحکام الشرعیة 4/535 و الشهید فی الدروس 3/112 و السبزواری فی الکفایة 2/647 و غیرهم فی غیرها.
2- (2) کما فی بُغیةُ الطالب 1/273 و مصباح الفقاهة 3/212.
3- (3) هدایة الطالب 2/380.
4- (4) هدایة الطالب 2/380.
5- (5) المکاسب 3/258.

و لعلّ هذا هو قسما ثالثا من التعذر فی مقابل التعذرین السابقین - العقلی و العرفی - و مرادهم هذا.

و فیه: إنهم لم یفتوا ببدل الحیلولة فی المدّة القصیرة مع صدق التعذر الفعلی فیها فلا یمکن أن یکون التعذر الفعلی - فی الحال - مرادهم من التعذر.

ثم اعترض الفقیه الیزدی علی الشیخ الأعظم بقوله: «لا یخفی أنّ هذا لیس مطلبا آخر، بل هو نفس الوجه الأخیر الذی أیده بأنّ فیه جمعا بین الحقین، کما أنّ تعبیر البعض بالتعذر هو نفس الوجه الأوّل و هو الیأس من الوصول، فلا وجه للتکرار فتدبر»(1).

و أجاب عن اعتراضه المحقّق الاصفهانی بقوله: «لکنّه بلا وجه، إذ کون الشیء بحیث لا قدرة علی تحصیله لا ینافی القطع بحصوله فیما بعد، فضلاً عن رجاء حصوله، فالتعذر المسقط للتکلیف لیس عین الیأس، کما أنّ رجاء الوصول یجتمع مع القدرة علی تحصیله و مع عدمها، فلیس رجاء الوصول مستلزما للقدرة علی التحصیل»(2).

و تبعه فی الاعتراض المحقّق السیّد الخوئی و قال: «أنّ الیأس إلی العین أعم من التعذر العقلی فإذا اعتبر الثانی فی سقوط التکلیف بردّ نفس العین فمجرد الیأس لا یوجب سقوطه، کما أنّ الاعتبار التعذر العرفی فی سقوط التکلیف بردِّ العین أعمّ من الحکم بثبوت بدل الحیلولة بمجرد التعذر الفعلی و إذن فلا تکرار فی عبارة المصنف»(3).

الثانیة: یجوز للمالک الامتناع من أخذ بدل الحیلولة

لیس للغاصب إجباره بها، کما مرّ ذلک فی بحث المثلی المتعذَّر، أنّ للمالک الصبرَ إلی وجدان المثل و لیس للغاصب أو المتلِف إجباره بقبول القیمة.

ص:594


1- (6) حاشیة المکاسب 1/516.
2- (1) حاشیته علی المکاسب 1/429.
3- (2) مصباح الفقاهة 3/212.

و الأمر هنا کذلک، أخذ القیمة حقٌّ للمالک بدلاً عن حیلولة الغاصب بینه و بین ماله ولکنّه حقٌّ و له عدم استعماله و الاستفادة منه و الصبر حتّی توجد عین ماله. و لیس للغاصب إجباره بأخذ القیمة.

کما ظهر من الشیخ أنّ أخذ القیمة فی الحیلولة حقٌّ للمالک حیث یقول: «إذا غصب مِلْکا لغیره فخرج عن یده مثل أن غصب عبدا فأبق أو فرسا فشرد أو بعیرا فندَّ أو ثوبا فسرق، کان للمالک مطالبته بقیمته، لأنّه حال بینهما بالغصب...»(1).

فقوله: «کان للمالک مطالبته بقیمته» ظاهر فی أنّ أخذ القیمة حقّ للمالک.

و کذلک لیس فی أدلة بدل الحیلولة - علی فرض تمامیتها - ما یدل علی جواز إجبار الغاصب المالک علی قبول القیمة و البدل، و لیس هنا دلیل آخر یدلّ علیه، فیتخیّر المالک بین قبول القیمة التی هی البدل و بین الصبر إلی زوال العذر. و هذا هو المراد بقاعدة السلطنة، لأنّ المالک یستحقّ عین ماله و اجباره علی أخذ القیمة و البدل یکون علی خلاف هذه السلطنة.

و لتوضیح ما ذکرنا راجِعْ مقالة المحقّق النائینی(2) فی المقام.

الثالثة: خروج العین عن المالیة

یعدّ من موارد بدل الحیلولة حیث قال الشیخ الأعظم: «و کما أنّ تعذّر ردّ العین فی حکم التلف فکذا خروجه عن التقویم»(3).

نحو الماء علی الشط و الجمد فی الشتاء، و قد حکم سابقا(4) بانتقالها إلی القیمة مطلقا

ص:595


1- (3) المبسوط 3/95.
2- (1) المکاسب و البیع 1/389 الأمر التاسع.
3- (2) المکاسب 3/259.
4- (3) المکاسب 3/238.

و هنا یذهب إلی أنّ خروج العین عن المالیة یکون من موارد بدل الحیلولة و بینهما فرقٌ و تنافٌ.

قد دفع هذا التنافی المحقّق المروج رحمه الله بقوله: «أنّ خروج المال عن التقویم علی نحوین: فتارة لا یُرجی عودُ المالیة إلیه کاللحم المتعفن و الفاکهة الفاسدة، فالواجب فیهما المثل أو القیمة من باب التلف الحقیقی...، و اُخری یرجی عود المالیة کما إذا ضمن ماءً فی المفازة و لم یتلف حتّی وصل الشاطیء و أراد إجتیازه إلی مفازةٍ اُخری فیقال: بأنّ للمالک مطالبة بدل الحیلولة عند الشاطیء ولو بقی الماء بحاله إلی الوصول إلی المفازة الاُخری وجب علی الضامن دفعه إلی المالک، و لعلّ هذا الفرض الثانی محطّ نظر الماتن هنا...»(1).

أقول: إن تمّ ما ذکره هذا المحقّق الجلیل فیدفع التنافی فی کلام الشیخ الأعظم رحمه الله و إلاّ یرجع.

الرابعة: هل مالک العین یملک بدل ماله؟

إذا بذل له الغاصب الضامن؟ أم أنّه لا یملک و یبیح له التصرف فیه بأنواع التصرفات حتّی ما یکون مشروطا بالملکیة و هذا هو الإباحة المطلقة کما مرّ نظیرها فی بحث المعاطاة. و یکون دخوله فی ملکه مشروطا بتلف العین.

المشهور علی الأوّل، بل «فی الخلاف(2) و الغنیة(3): أنّ مالک العین إذا أخذها - أیّ القیمة - ملکها بلا خلاف. و ظاهرهما نفیه بین المسلمین»(4).

ص:596


1- (4) هدی الطالب 3/566.
2- (5) الخلاف 3/412، مسألة 26.
3- (6) غنیة النزوع /282.
4- (7) کما فی مفتاح الکرامة 18/185 و مرّ سابقا تمام کلامه.

و ربما یستظهر(1) من المحقّق القمی رحمه الله فی جامع شتاته القول الثانی أیّ الإباحة المطلقة حیث یقول: «.. فلا مانع من أن یکون ذلک نوعا من التملّک، و حاصله: أنّ للمالک التصرف للبدل حتّی بالإتلاف و البیع و غیر ذلک. و ذلک مراعی إلی حین ظهور العین المغصوبة، فإن ظهر العین و البدل باقٍ فللغاصب استرداد ماله إذا کان باقیا بخلاف مالو أتلفه...»(2).

و صرح العلاّمة فی التذکرة بأنّ القیمة المدفوعة یملکها المغصوب منه ملکا مراعی للحیلولة فیزول بزوالها.(3)

ثم الذی قوّی القول الثانی - أی عدم الملکیة، و أعنی الإباحة المطلقة - هو الإشکال الذی طرحه أوّل مرّة العلاّمة فی قواعده مرّتین حیث یقول: «ولو أبق العبد ضمن فی الحال القیمة للحیلولة، فإن عاد ترادّا، و للغاصب حبس العبد إلی أن یردَّ القیمة علیه علی إشکال...»(4).

و قال فی المرّة الثانیة: «یجب ردّ العین مادامت باقیةً، فإن تعذّر دفع الغاصب البدلَ و یملکه المغصوب منه و لا یملک الغاصب العین المغصوبة، فإن عادت فلکلٍّ منهما الرجوع، و هل یُجبر المالک علی إعادة البدل لو طلبه الغاصب؟ إشکال»(5).

قال ولده فخر المحقّقین فی شرح کلامه الأوّل: «ینشأ من عدم الجمع بین العوض و المعوّض فیترادّان معا، و وجوب ردّ العین علی الغاصب مع التمکن علی الفور و هو

ص:597


1- (1) المستظهِرُ هو الشیخ الأعظم فی مکاسبه 3/259 حیث یقول: «حکی الجزم بهذا الاحتمال عن المحقّق القمی رحمه الله فی أجوبة مسائله».
2- (2) جامع الشتات 1/152 من الطبع الحجری - (2/261 من الطبع الحروفی).
3- (3) تذکرة الفقهاء 2/385 من الطبع الحجری.
4- (4) قواعد الأحکام 2/228.
5- (5) قواعد الأحکام 2/230.

الاُولی»(1).

و قال فی شرح کلامه الثانی: «ینشأ من أنّه قد استقر ملکه علیه و لأنّه ینافی البدلیة إذ ما لایستقر علیه الملک لا یصلح أن یکون بدلاً قهریا شرعا لما یستقر علیه الملک، و لأنّه قد لا یرغب المعاملون فیه، و من أنّه للحیلولة و قد زالت، و الأوّل اُولی لأنّ الغاصب یؤخذ بأشق الأحوال»(2).

و قال المحقّق الکرکی فی شرح کلامه الأوّل: «و أعلم إنّ هنا إشکالاً، فإنّه کیف تجب القیمة و یملکها بالأخذ و یبقی العبد علی ملکه و جعلها فی مقابلة الحیلولة لا یکاد یتضح معناه، - ثم قال فی شرح إشکال العلاّمة: - ینشأ: من أنّه دفعها عوضا فله حبس المعوض إلی أن یقبض العوض کسائر المعاوضات، و من أنّها لیست معاوضة حقیقة، و إنّما قبضه المالک ارتفاقا و محافظة علی مصلحته، و قد کان تسلیم العبد واجبا علی الفور و الأصل بقاؤه، و لا یجوز حبس مال فی مقابل مال آخر قد حبسه مالک المال الأوّل ظلما، لأنّ مَنْ ظَلَمَ لا یُظلم، و الأصح أنّه لیس له ذلک»(3).

و قال فی شرح الإشکال الوارد فی کلامه الثانی: «ینشأ، من ثبوت الملک و الأصل بقاؤه، و من أنّه إنّما للحیلولة و قد زالت. قیل: لو کان بحیث یجبر علی ردّه لکان نقصا فی البدلیة، إذ قد لایرغب المعاملون فیه: و لیس بشیءٍ لأنّه متی تعلَّق به حقّ ثالث وجب عوضه، و الأصح وجوب الردّ فیجبر علیه...»(4).

و قال ثانی الشهیدین فی تبیین الإشکال: «... و لا یخلو من إشکال من حیث اجتماع

ص:598


1- (6) ایضاح الفوائد 2/178.
2- (7) ایضاح الفوائد 2/181.
3- (1) جامع المقاصد 6/261.
4- (2) جامع المقاصد 6/272.

العوض و المعوّض علی ملک المالک من غیر دلیل واضح. ولو قیل بحصول الملک لکلّ منهما متزلزلاً، أو توقّف ملک المالک للبدل علی الیأس من العین و إن جاز له التصرف فیه، کان وجها فی المسألة»(1).

و استحسن السبزواری(2) مقالة الشهید الثانی.

و أجاب السیّد العاملی صاحب مفتاح الکرامة عن الإشکال بقوله: «قلتُ: قد عرفت أنّ وجوب القیمة و تملّکها بالأخذ لاخلاف فیه بین المسلمین. کما أنّ الظاهر أنّ الضمان للحیلولة کذلک، کما أنّ بقاء العین علی ملک المالک و عدم دخولها بعد بذل العوض فی ملک الغاصب لاخلاف فیه إلاّ من أبی حنیفة(3). و هذه الثلاثة تقضی بأنّ الجمع بین العوض و المعوّض إنّما یمتنع إذا کانا فی یده و تحت تصرفه و کان أحدهما فی مقابلة الآخر، و أمّا إذا کان أحدهما خارجا عن یده و تصرّفه ظلما و عدوانا و قد أخذ ذلک العوض عوضا عن

مظلمته التی یجب علیه ردّها علیه فورا و جبرا عمّا فاته من منفعته و لم یکن فی مقابلة نفس العین المغصوبة فلا مانع منه عقلاً و شرعا بل هما حاکمان بذلک، فهذا معنی جعلها فی مقابلة الحیلولة، فقد اتضح معناه و علم مبناه و أنّه الإجماع کما عرفت»(4).

و ذهب صاحب الجواهر إلی «أنّ للمغصوب أحوالاً ثلاثة:

أحدها: حال وجود العین علی وجه یتمکن من ردّها إلی مالکها، فلیس علیه إلاّ وجوب الردّ... .

و الثانی: ذلک أیضا إلاّ أنّه یتعذر أو یتعسّر ردّها، فعلیه ضمان قیمتها تحقیقا لا

ص:599


1- (3) المسالک 12/201.
2- (4) الکفایة 2/648.
3- (5) بدائع الصنائع 7/152.
4- (1) مفتاح الکرامة 18/187.

تقدیرا، و هو المسمی بضمان الحیلولة و معه یملک المغصوب منه القیمة المضمونة علیه باعتبار کونها کالدین علی الغاصب فیملکها من هوله و إن بقیت العین مملوکة له أیضا للأصل و غیره ممّا عرفت.

الثالث: حال تلف العین و خروجها عن قابلیة الملک بموت و نحوه فیتعلَّق مثلها أو قیمتها فی ذمّة الغاصب تعلّق الدیون»(1).

و قال فی وجه ملکیة المالک للقیمة بعد ذکر الاتفاق علیه(2): «... بل أدلة الضمان التی منها «علی الید» شاملة لذلک قطعا فهی حینئذ مقتضیة لملک المالک القیمة... فالقیمة المدفوعة حینئذ مملوکة و العین باقیة علی الملک للأصل و لأنّها مغصوبة و کلّ مغصوب مردود و أخذ القیمة غرامة للدلیل الشرعی لا ینافی ذلک...»(3).

و قال الشیخ الأعظم: «ولو لا ظهور الإجماع و أدلة الغرامة فی الملکیة لاحتملنا أن یکون مباحا له إباحة مطلقة و إن لم یدخل فی ملکه... و یکون دخوله فی ملکه مشروطا بتلف العین...»(4).

و قال أیضا: «... لا ینتقل العین إلی الضامن، فهی غرامة لا تلازم فیها بین خروج المبذول عن ملکه و دخول العین فی ملکه و لیست معاوضة لیلزم الجمع بین العوض و المعوّض، فالمبذول هنا کالمبذول مع تلف العین فی عدم البدل له»(5).

ص:600


1- (2) الجواهر 37/132.
2- (3) الجواهر 37/130.
3- (4) الجواهر 37/131.
4- (5) المکاسب 3/259.
5- (6) المکاسب 3/259.

أقول: لو تمّت أدلة بدل الحیلولة(1) و الغرامة أو الإجماع فهو و إلاّ - کما هو کذلک - فالإشکال باقٍ علی حاله و لا تفید أجوبة القوم، و کذا الاحتمال المذکور فی کلام الشیخ الأعظم المنسوب إلی المحقّق القمی أیضا لا یتم فی أصله - و هو المعاطاة - فیکف بفرعه - و هو فی المقام - .

و الحاصل: ملکیة مالک العین لبدل ماله فی فرض بدل الحیلولة و قبل تلف العین و إن ادعی علیها الإجماع ولکنّه فی غایة الإشکال. و لا عبرة بدعوی الإجماع لما مرّ سابقا بأنّه مدرکی.

و هذا الإشکال هو أحد الإشکالات التی ترد علی القول ببدل الحیلولة و نحن فی فُسْحَةٍ منها.

الخامسة: لا تنتقل العین إلی دافع بدل الحیلولة

قد مرّتْ مقالة صاحب المفتاح: «... کما أنّ بقاء العین علی ملک المالک و عدم دخولها بعد بذل العوض فی ملک الغاصب لا خلاف فیه إلاّ من أبی حینفة»(2).

و قال الشیخ الأعظم: «... فلا ینتقل العین إلی الضامن، فهی غرامة لا تلازم فیها بین خروج المبذول عن ملکه و دخول العین فی ملکه و لیست معاوضة...»(3).

القائلون ببقاء العین علی ملک مالکها و عدم انتقالها إلی الضامن الدافع لم یأتوا بدلیل إلاّ: الإجماع و الأصل.

ص:601


1- (1) و دلالة الأدلة تختلف فی أنّ القیمة تکون ملکا للمالک أو أنّها مبیحةٌ له التصرف فیه و لأجل تفصیل ذلک راجع حاشیة المحقّق الأصفهانی علی المکاسب 1/430 و ما بعده، و مصباح الفقاهة 3/214 و ما بعده.
2- (2) مفتاح الکرامة 18/187.
3- (3) المکاسب 3/259.

و قد عرفت: أنّ الأوّل منهما محتمل المدرکیة و لم یکن تعبدیّا حتّی یفید شیئا.

و الثانی منهما: یفیدنا مع عدم دلیل آخر و أمّا مع وجوده فلا.

و قد مرّ منّا بأنّ المالک یملک القیمة المسمّاة عند القوم ببدل الحیلولة و الضامن الدافع المعطی لها یملک العین بالمعاوضة القهریة «لاستحالة بدلیة شیءٍ عن شیءٍ إلاّ بقیام البدل مکان المبدل فی جهة من الجهات، و تلک الجهة فی المقام هی الإضافة الملکیة»(1).

لا یقال: المالک یملک القیمة (بدل الحیلولة) و أمّا الضامن فلا یملک العین لأنّ البدلیة فی هذه المعاوضة لیست بدلیة حقیقیة، بل إنّما هو غرامة محضة نحو: دیة المقتول أو المجروح أو المبذول عند تلف العین، و من المعلوم أنّ عنوان الغرامة لایستلزم دخول العین فی ملک الضامن، و هی لیست معاوضة قهریة شرعیة.

لأنا نقول: إذا قلنا بملکیة القیمة (بدل الحیلولة) لمالک العین - کما تدلّ علیها قاعدتا من أتلف و ضمان الید - صار العین ملکا للضامن المعطی للقیمة بالمعاوضة القهریة الشرعیة، و إلاّ یستلزم اجتماع العوض و المعوّض فی ملک مالک العین - کما مرّ - و هو باطل.

و یؤید ما ذکرنا حسنة سدیر عن أبی جعفر علیه السلام فی الرجل یأتی البهیمة، قال: یجلد دون الحدّ و یغرم قیمة البهیمة لصاحبها، لأنّه أفسدها علیه و تذبح و تحرق إن کانت ممّا یؤکل لحمه، و إن کانت ممّا یرکب ظهره غرم قیمتها و جُلِّد دون الحدّ و أخرجها من المدینة التی فعل بها فیها إلی بلاد اُخری حیث لا تعرف، فیبیعها فیها کیلا یعیربها صاحبها.(2)

و یترتب علی خروج العین عن ملک المالک و عدمه فروع مهمة:

منها: إذا خاط ثوبه بخیوط مغصوبة، علی القول بدخول الخیوط فی ملک الغاصب

ص:602


1- (4) مصباح الفقاهة 3/216.
2- (1) وسائل الشیعة 28/358، ح4، الباب 1 من أبواب نکاح البهائم.

بعد أداء البدل جازت له التصرف و الصلاة فی ذلک الثوب و إلاّ فلا.

و یمکن إلحاق الخیوط بالتلف الحکمی لعدم إمکان ردّها غالبا إلاّ بعد سقوطها عن المالیة بالنزع کما عن الأردبیلی(1). و استجوده فی الجواهر(2). و قال السیّد الیزدی رحمه الله : «الحقّ مع الأردبیلی»(3). و الأمر کذلک لا سیما إذا کان المخیط بالخیوط المغصوبة لجرح النفس المحترمة أو ثوب غیره، لأنّ النزع یوجب التلف أو الضرر فلا یجوز.

و منها: إذا غصب خمرا محترمة أو دابة أو شجرة مثمرة، و انقلب الخمر خلاً أو ماتت الدابة أو یبست الشجرة و صار خشبة، علی القول بالمعاوضة القهریة و بعد أداء البدل و القیمة من طرف الغاصب، دخل الخل و المیتة و الخشبة فی ملکه و إلاّ فلا.

و صرح الفقیه الیزدی(4) رحمه الله بدخول الخل فی ملک الضامن.

و منها: إذا غصب دهنا أو لحما أو نحوهما و خلطها بطعامه، فإنّه بناءً علی دخول العین فی ملک الغاصب بعد أداء القیمة یجوز له أکل الطعام و إلاّ لا یجوز له التصرف فیه إلاّ برضا المالک.

و منها: إذا توضأ غفلة بماء مغصوب أو المقبوض بالعقد الفاسد و التفت بعد الغسلات و قبل المسحات بغصبیة الماء، فعلی القول بدخول الرطوبة فی ملک الضامن یجوز المسح بها و کذا علی القول بأنّ الرطوبة بمنزلة الشیء التالف فلا یملکها مالکها و حینئذ یجوز المسح بها، أمّا علی القول ببقائها علی ملک المالک فلا یجوز المسح بل علیه استیناف وضوئه.

ص:603


1- (2) مجمع الفائدة و البرهان 10/521.
2- (3) الجواهر 37/80.
3- (4) حاشیة المکاسب 1/522.
4- (5) حاشیة المکاسب 1/523.

ذهب إلی جواز المسح بالرطوبة الباقیة من الماء المغصوب، ابن فهد الحلّی(1) و السیّد محمّد العاملیّ صاحب المدارک(2) و الأردبیلی(3).

تذکرة: و بما ذکرنا یظهر الإشکال المعروف فی مسألة تعاقب الأیدی و هو: أنّ المغصوب منه یتخیّر فی أخذ بدل ماله من أیّ شخص من جماعة الغاصبین الذین تعاقبت أیدیهم علی ماله، ولکن إذا رجع إلی الأوّل منهم، یرجع الأوّل إلی الثانی، و الثانی إلی الثالث حتّی تنتهی سلسلتهم و تثبت الغرامة علی الأخیر منهم الذی تلفت العین فی یده.

و أمّا إذا رجع المالک فی أخذ بدل ماله إلی المتوسطین منهم لم یرجع هذا المتوسط إلی السابقین، بل یرجع إلی اللاحقین منهم فقط، و الإشکال هو الفارق بین الصورتین، بل بعبارة أوضحة لماذا لیس له الرجوع إلی السابقین؟!

و أمّا الجواب: أنّ الغاصب إذا أعطی البدل عن العین المغصوبة التالفة ملکها هو عن مالک العین و إذا ملکها عنه یجوز له الرجوع إلی من غصب منه، فالغاصب الأوّل یجوز له الرجوع إلی الثانی و غیره و أمّا الغاصب المتوسط فله الرجوع إلی اللاحقین فقط لأنّه یملک علیهم شیئا و لا یملک علی السابقین منهم.

لا یقال: إنّ العین التالفة معدوم و المعدوم لا یقبل الملکیة، فلا یمکن انتقال ملکیة العین من المالک إلی الغاصب المعطی للبدل.

لأنّا نقول: الملکیة من الاُمور الاعتباریة و مع ترتب الأثر علیها فلا محذور فی تعلِّقها بالاُمور العدمیة.

و لعلّ هذا هو الجواب التام الوحید عن هذا الإشکال الوارد علی مسألة تعاقب

ص:604


1- (1) جوابات المسائل الشامیة الاُولی /344 المطبوعة فی ضمن الرسائل العشر.
2- (2) مدارک الأحکام 4/213.
3- (3) مجمع الفائدة و البرهان 10/521.

الأیدی و هو من محتملات کلام صاحب الجواهر قدس سره فراجعْ تمامه فی کتابه(1). بل من صریح کلامه(2) و التفصیل یطلب من محلِّه، و الحمدللّه.

تکمیل فیه توضیح:

قال الشیخ الأعظم: «و لعلّ ما عن المسالک: من أنّ ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخیط المغصوب عن الثوب بعد خروجه عن القیمة بالإخراج فتعیّن القیمة فقط. محمول علی صورة تضرر المالک بفساد الثوب المخیط أو البناء المستدخل فیه الخشبة...»(3).

أقول: العبارة المنقولة عن المسالک غیر موجودة فیه، نعم هی تلفیق بین کلامه فی مسألتی الخشبة و الخیط و استفادة منهما کما نبّه علیه المحقّق المامقانی(4) رحمه الله .

قال الشهید الثانی فی مسألة الخشبة المغصوبة: «إذا غصب خشبة و أدرجها فی بنائه أو بنی علیها لم یملکها الغاصب بل علیه إخراجه من البناء و ردّه إلی المالک، خلافا لأبی حنیفة حیث حکم بملکه و یغرم قیمته... ثم إذا أخرجها و ردّها لزمه أرش النقص إن دخلها نقص. ولو بلغت حدّ الفساد علی تقدیر الإخراج بحیث لا یبقی لها قیمة فالواجب تمام قیمتها و هل یجبر علی إخراجها حینئذ؟ نظر، من فوات المالیة و بقاء حقّ المالک فی العین. و ظاهرهم عدم الوجوب و أنّها تنزل منزلة المعدومة، ولو قیل بوجوب إعطائها المالک لو طلبها کان حسنا، و إن جمع بین القیمة و العین»(5).

أنت تری بأنّ هذا الکلام المنقول من الشهید الثانی ورد بالنسبة إلی غصب الخشبة لا

ص:605


1- (1) الجواهر 37/137، بقی شیءٌ.
2- (2) الجواهر 37/80، بل ستسمع ملک الغاصب المغصوب إذا أدی قیمته للحیلولة... .
3- (3) المکاسب 3/265.
4- (4) غایة الآمال /318.
5- (5) المسالک 12/176 و 175.

الخیط المغصوب الوارد فی کلام الشیخ الأعظم ولکن قال فی الخیط المغصوب: «إن خیط به ثوب و نحوه فالحکم کما فی البناء علی الخشبة... و إن لم یبق له قیمة ضمن جمیع القیمة...»(1).

یستأنس من صاحب الجواهر موافقته لنا من انتقال العین إلی الضامن المعطی حیث یعترض علی ثانی الشهیدین فی القیل الوارد فی آخر کلامه فی بحث الخشبة المغصوبة حیث یجمع بین القیمة و العین للمالک قال فی نقده صاحب الجواهر: «قلت: لکنّه مناف لقاعدة

لاضرر و لا ضرار و مناف أیضا لملک القیمة التی هی عوض شرعی یقتضی ملک معوّضه للدافع، اللهم إلاّ أن یقال: إنّها عوض مالیة و إن بقی هو مملوکا، لکنّه کماتری و ستسمع إن شاء اللّه تحقیق الحال فی المسألة الآتیة»(2).

و قال فی بحث الخیط المغصوب: «... بل ستسمع ملک الغاصب المغصوب إذا أدی قیمته للحیلولة و إن کان متزلزلاً، بل کان ذلک مفروغ منه عند التأمل فی کلماتهم فی مقامات متعددة ظاهرة أو صریحة فی أنّ المؤدی عن المضمون عوض شرعی عنه علی وجه یقتضی الملک للطرفین، من غیر فرق بین الموجود من العین ممّا لا قیمة له و بینها إذا کانت کذلک لو انتزعت، کما فی الفرض الذی یتعذر فیه الردّ لنفس العین المغصوبة»(3).

السادسة: إذا زال التعذّر هل یجب ردّ العین؟

قال الشیخ الأعظم: «للإشکال فی أنّه إذا ارتفع تعذّر ردّ العین و صار ممکنا وجب ردّها إلی مالکها - کما صرّح به فی جامع المقاصد(4) - فورا و إن کان فی احضارها مؤونة، کما

ص:606


1- (6) المسالک 12/178.
2- (1) الجواهر 37/76.
3- (2) الجواهر 37/80.
4- (3) جامع المقاصد 6/261.

کان قبل التعذر...»(1).

أقول: قد مرّ(2) نقل کلمات القوم فی أوّل البحث فی المقام فی ضمن کلام صاحب المفتاح(3) فلا أعیدها.

إن قلنا بصیرورة العین المغصوبة ملکا للغاصب المعطی للبدل - کما هو المختار - فإذا زال التعذّر لم یجب ردّها إلی مالکها الأوّل.

و إن ذهبنا إلی بقاء العین المغصوبة علی ملک مالکها الأوّل و عدم انتقالها إلی الدافع للبدل فیجب علیه ردّها إلی المالک.

و یمکن أن یقال(4): بأنّ المسألة مبتنیةٌ علی أن ملکیة البدل لمالک العین یکون ملکیة لازمة أو جائزة فعلی الأوّل لا یجوز للمالک الرجوع فی العین و علی الثانی یجوز.

و الابتناء الأوّل أُولی و أظهر و أسلم من المناقشة.

ولکن الفقیه الیزدی ذهب إلی أن بدلیة البدل للعین المغصوبة مقیدة بمادامیة التعذّر عن اداء العین و الخروج عن عهدتها و لذا قال: «الظاهر أنّه لا خلاف بینهم فی الترادّ إذا ارتفع التعذّر من غیر فرق بین مثل الغرق و السرق و الضیاع و نحوها ممّا یعد تلفا عرفا و یکون المدرک للضمان أدلة الغرامات، و بین ما إذا کانت العین غیر تالفة إلاّ أنّها متعذّرة الوصول إلی مدّة، و یکون المدرک للضمان قوله صلی الله علیه و آله : «الناس» علی البیان السابق. قلت: و لعلّ الوجه فی ذلک أنّ البدلیة المفهومة من الأدلة و قوله صلی الله علیه و آله : «الناس» بدلیة مادامیة، إذ الحکم بها إنّما جاء من جهة التعذّر، فمع ارتفاعه ینقطع ذلک و یعود کما کان، و لا فرق فی ذلک

ص:607


1- (4) المکاسب 3/267.
2- (5) راجع صفحة 569 من هذا المجلد.
3- (6) مفتاح الکرامة 18/184.
4- (7) کما علیه المحقّق الخوئی فی مصباح الفقاهة 3/221.

بین ما لو قلنا ببقاء العین علی ملک المالک، و ما لو قلنا بالمعاوضة القهریة التعبدیة، إذ علی تقدیر الثانی أیضا المعاوضة إنّما هی مادام التعذّر. و لعلّ نظرا لفقهاء أیضا إلی ما ذکرنا من کون البدلیة مادامیة، و إلاّ فمع الإغماض عن ذلک یشکل الحکم...»(1).

و تبعه المحقّق النائینی و قال: «إذا ارتفع العذر و تمکّن من ردّ العین إلی مالکه وجب الردّ فورا حتی علی القول بالمعاوضة القهریة الشرعیة، لأنّ الحکم بالمعاوضة مترتب علی عنوان التعذّر و یدور مداره...»(2).

أقول: بعد الذهاب إلی المبادلة القهریة الشرعیة ولو کانت مبدأه تعذّر ردّ العین - لأنّه مع إمکان ردّها یجب الردّ - وقعت المبادلة و بعد وقوعها حکم بمادامیتها للتعذر و إدارتها مداره محل تأمل بل منع، لعدم ثبوت هذا التقیید فی المبادلة بعدم وجود الدلیل علیه. فتبعیة المشهور من وجوب ردّ العین بعد التعذّر إلی مالکه علی مبناهم تام ولکن علی مبنانا من وقوع المبادلة القهریة غیر تام، لأنّ العین دخلت فی ملک الغاصب المعطی للبدل فلا تردُّ علی المالک الأوّل، و اللّه العالم.

السابعة: عدم ضمان ارتفاع القیمة و الزیادة بعد دفع البدل

الغاصب الضامن المعطی للبدل یخرج عن عهدة ضمان العین بدفع بدلها و لازمه عدم ضمانه لزیادة قیمة العین مطلقا - أیّ بلا فرق بین ارتفاع القیمة السوقیة أو للزیادة المتصلة - کالسمن فی الحیوان و تعلّمه - أو للزیادة المنفصلة - کالثمرة و نحوها - أو غیرها - و کذا لا یضمن منافعه لخروج العین عن عهدته بدفع البدل.

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ مقتضی صدق الغرامة علی المدفوع خروج الغارم عن

ص:608


1- (1) حاشیة المکاسب 1/531.
2- (2) منیة الطالب 1/336.

عهدة العین و ضمانها، فلا یضمن ارتفاع قیمة العین بعد الدفع، سواءً کان للسوق أو للزیادة المتصلة بل المنفصلة - کالثمرة - و لا یضمن منافعه فلا یطالب الغارم بالمنفعة بعد ذلک.

و عن التذکرة(1) و بعض آخر(2) ضمان المنافع، و قوّاه فی المبسوط بعد أن جعل الأقوی خلافه(3).

و فی موضع من جامع المقاصد أنّه موضع توقّف و فی موضع آخر رجّح الوجوب(4)»(5).

و قبله قال السیّد العاملی: «... و إنّما الاشکال فی الاُجرة للمدّة التی بعد بذل القیمة فهل تلزمه الاُجرة لها أم لا؟ و قد قرّب فی التذکرة(6) اللزوم و الوجوب و قال: إنّه أصح وجهی الشافعیة، لأنّ حکم الغصب باقٍ و إنّما وجبت القیمة للحیلولة فیضمن الاُجرة لفوات المنفعة و لأنّ العین باقیة علی ملکه و المنفعة له. و هو قضیة کلام المبسوط(7) و مال إلیه فی المسالک(8) و کأنّه قال به فی مجمع البرهان(9) و هو الأصح. و قرّب فی التحریر(10) و

ص:609


1- (1) تذکرة الفقهاء 2/382 من الطبع الحجری.
2- (2) نحو الشهید الثانی فی المسالک 12/201 و الأردبیلی فی مجمع الفائدة 10/538 و السیّد العاملی فی المفتاح 18/168 و صاحب الجواهر فی کتابه 37/139.
3- (3) المبسوط 3/96.
4- (4) جامع المقاصد 6/251 و 273.
5- (5) المکاسب 3/266.
6- (6) تذکرة الفقهاء 2/382 من الطبع الحجری.
7- (7) المبسوط 3/95.
8- (8) المسالک 12/201.
9- (9) مجمع الفائدة و البرهان 10/541.
10- (10) تحریر الأحکام الشرعیة 4/535.

الإرشاد(1) و الإیضاح(2) العدم. و فی الشرائع(3) أنّه أشبه لأنّ القیمة المأخوذة نازلة منزلة المغصوب فکأنّ المغصوب عاد إلیه و هی الواجبة علیه، فإذا دفعها برئ، و لأنّه استحق الانتفاع ببدله و عوضه الذی یقوم مقامه، فإذا قبضه المالک لم یستحق الانتفاع به إذا لم یبق له من ذلک المال علی الغاصب حقّ، و إلاّ لم یکن عوضا، لکن هذا لا یتم مع الحکم ببقائها علی ملک المالک و إنّما نماءها له و عدم وجود مسقط للضمان عن الغاصب لها، فإنّه لا یکون

إلاّ بردّها أو بالمعاوضة علیها علی وجه تنتقل به عن ملک مالکها و لم یحصل. و فی جامع المقاصد(4) المسألة محل توقف و نحوه فی الدروس(5) و الکفایة(6)، و یأتی لصاحب جامع المقاصد(7) أنّ الذی یقتضیه النظر الوجوب لبقاء الغصب کما کان...»(8).

و قال فی الجواهر عند اختیار صاحب الشرائع أنّ العدم هو الأشبه: «عند المصنف باُصول المذهب و قواعده التی منها أصل البراءة، و أنّ القیمة المأخوذة مُنَزِّلةٌ مَنْزِلَة المغصوب، فکأنّه عاد إلیه بل هی الواجبة علیه و قد دفعها فبرأ، و أنّه استحق المالک الانتفاع بالقیمة التی هی عوض و بدل فی المعنی، فلم یبق له علی الغاصب حقّ فی ذلک المال، و إلاّ لم تکن فائدة للغاصب فی الدفع»(9) ولکن مع ذلک اختار صاحب الجواهر القول

ص:610


1- (11) إرشاد الأذهان 1/446.
2- (12) إیضاح الفوائد 2/174.
3- (13) الشرائع 3/191.
4- (1) جامع المقاصد 6/251.
5- (2) الدروس 3/113.
6- (3) الکفایة 2/648.
7- (4) جامع المقاصد 6/273.
8- (5) مفتاح الکرامة 18/168.
9- (6) الجواهر 37/139.

بوجوب أداء الاُجرة و قال: «فالتحقیق الوجوب...»(1).

أقول: الإشکال علی المشهور أنّهم اختاروا القول بعدم انتقال العین من المالک إلی الغاصب بدفع البدل فیحنئذ یکون ارتفاع القیمة مطلقا - للسوق أو للزیادة المتصلة أو للزیادة المنفصلة - فی ملک المالک، فلم لایرجع إلیه؟ و له حقّ مطالبته من الغاصب.

ولکن علی القول بالانتقال یتم هذا البیان و لا یرد علینا شیء أعنی یکون ارتفاع القیمة فی ملک الضامن المعطی، فکان له.

و کذلک یرد الاشکال علی من ذهب إلی عدم ضمان المنافع و هو یری عدم الانتقال.

و الوجه فی الإشکال واضحٌ لأنّ المنافع و الزیادة و الارتفاع کلّها من فروع الملک و من کان له الأصل فله الفرع.

و لعلّه یظهر من هذه البیانات أنّ المرتکز فی أذهانهم هو القول بالانتقال و إن کان القول بعدمه علی ألسنتهم مشهورا.

الثامنة: أسباب الضمان عند الشیخ الأعظم قدس سره

قال: «و أدلة الضمان قد عرفت أنّ محصّلها یرجع إلی وجوب تدارک ما ذهب من

المالک 1- سواءً کان الذاهب نفس العین کما فی التلف الحقیقی 2- أو کان الذاهب السلطنة علیها التی بها قوام مالیتها کغرق المال، 3- أو کان الذاهب الأجزاء أو الاوصاف التی یخرج بذهابها العین عن التقویم مع بقاء ملکیته... 4- لو خرج المضمون عن الملکیة مع بقاء حقّ الاُولویة فیه...»(2).

و أنت تری أنّ أسباب الضمان عنده قدس سره أربعة:

ص:611


1- (7) الجواهر 37/139.
2- (1) المکاسب 3/265 و 264.

الأوّل: أن یکون الضامن سببا لتلف العین حقیقة فیجب علیه أن یخرج من عهدتها لأدلة الضمان.

الثانی: أن یکون سببا لانقطاع سلطنة المالک عن ماله کالغرق و الضیاع و یعدّ هذا من موارد تلف الحکمی و یحکم ببدل الحیلولة فیها.

الثالث: أن یکون سببا لزوال الأوصاف التی هی دخیلة فی مالیة العین و سقوط مالیتها مع تسلّط المالک علیها فالضمان فی هذا الفرض بالمالیة الساقطة الفائتة دون نفس العین لأنّها موجودة فی ید مالکها نحو الثلج فی الشتاء و الماء علی الشاطیء.

الرابع: أن یکون سببا لسقوط العین عن المالیة و الملکیّة معا إمّا شرعا أو عرفا و الأوّل نحو الخل المنقلب خمرا و الثانی نحو الکوز المکسور أو غیرهما من الظروف فحینئذ علی الضامن قیمة العین أو بدلها و للمالک حقّ الاختصاص بها.

و بالجملة فی جمیع الصّور الثلاث الأخیر یحکم الشیخ الأعظم بلزوم أداء البدل و القیمة من طرف الضامن إلی المالک مع بقاء العین علی ملک المالک أو حقّ اختصاصه بها.

أقول: أمّا ما ذکره من القسم الأوّل: فصحیحٌ لا نقاش فیه.

و أمّا ما ذکره فی القسم الثانی: فقد مرّ وجوب البدل فیه و انتقال العین إلی الضامن المعطی.

و أمّا ما ذکره من القسم الثالث: فناقشهُ السیّد الیزدی بقوله: «أنّه مع الخروج عن التقویم لا معنی لبقائها علی صفة الملکیّة فإنّ الرطوبة الباقیة نظیر القصعة المکسورة، فإنّه لا یقال إنّ أجزاءها باقیة علی ملکیّة مالکها مع عدم فائدة فیها إلاّ نادرا...»(1).

مراده: ذهاب الوصف إن أوجَب سقوط العین عن قابلیة الانتفاع بها فتسقط عن

ص:612


1- (2) حاشیة المکاسب 1/522.

المالیة و الملکیة معا و إلاّ فهی مال و ملک معا.

ولکن یمکن أن یدافع عن الشیخ الأعظم بأن سقوط المالیة لا یوجب سقوط الملکیّة لإمکان ملکیّة ما لیس بمال نحو المعدود من حبات الحنطة و الشعیر أو الخیط الباقی فی الثوب أو الرطوبة الباقیة علی أعضاء الوضوء و نحوها.

نعم: یرد علی الشیخ بأنّ الضامن المعطی إذا دفع البدل، دخل العین فی ملکه بالمعاوضة القهریة الشرعیة کما مرّ.

و أمّا ما ذکره من القسم الرابع: من أنّ سقوط المالیة و الملکیّة معا یوجب تعلق الضمان بالبدل علی الضامن فنحن نفترق معه بأنّ بعد الأداء حقّ اختصاص(1) العین یرجع إلی المعطی الدافع للبدل لا المالک کما مرّ.

التاسعة: حکم المغصوب إذا خرج عن صورتها النوعیة ثم رجع إلیها

إذا خرج المغصوب عن صورتها النوعیة ثم رجع إلیها، فهل یضمن الغاصب بدله أم عینه؟

فیه احتمالان:

الأوّل: ضمان البدل لانعدام العین بزوال صورتها النوعیة، و الموجود ثانیا غیره لتخلّل العدم بینهما و المعدوم لا یعاد.

الثانی: ضمان العین نفسها، لأنّ الموجود ثانیا عین الأوّل فی نظر العرف.

ثم إنّ هنا مسألتین:

الاُولی: العین الموجودة إذا انعدمت ثمّ عادت إلی الوجود قبل أداء بدلها، فلابدّ من

ص:613


1- (1) للبحث حول حقّ الاختصاص و حقیقته و منشأ ثبوته راجع هذا الکتاب: الآراء الفقهیة 1/(157-147).

أداء العین نفسها، لکونها جامعة لجیمع الخصوصیات التی کانت موجودة فی العین المغصوبة، و ادعاء عدم الخلاف فی کلام الشیخ الأعظم بقوله: «و یؤیده أنّه لو عاد خلاّ ردّت إلی المالک بلا خلاف ظاهر»(1) تحمل علی هذه المسألة.

الثانیة: إذا انعدمت العین و اعطی الغاصب الضامن بدله ثمّ عادت إلی الوجود، تکون للمعطی بالسیرة العقلائیة و المعاوضة القهریة الشرعیة.

ثمّ: بعد انعدام العین و اعطاء الغاصب البدل، هل حقّ الاختصاص للخمر مثلاً یکون للغاصب المعطی للبدل أم للمالک الأوّل؟

قد مرّ أنّه یکون للغاصب المعطی و لذا لو صار خلاًّ مجددا یکون للمعطی، ولکن یظهر من الشیخ الأعظم رحمه الله بقاء حقّ اختصاص المالک، قال: «ولو خرج المضمون عن الملکیّة مع بقاء حقّ الاولویة فیه کما لو صار الخلّ المغصوب خمرا...»(2).

و المحقّق الاصفهانی ذهب إلی وجوب الرد إلی المالک لا لبقاء حقّ الاختصاص الوارد فی کلام الشیخ الأعظم بل لأنّه من قبیل عود الملک إلی مالکه، قال: «إنّ وجوب الردّ للعود إلی الملک، فیکون من باب وجوب ردّ الملک لا من باب ردّ ما یکون المالک اُولی به، و العود إلی الملک بعد زوال الملکیّة لا یقتضی بقاء حقّ الاُولویة بتوهم التخصیص بلا مخصص و الترجیح بلا مرجح. و ذلک لأنّ زوال الملکیّة تارة لموجب الانتقال إلی الغیر، و اُخری لبقاء مقتضی حدوث الملکیّة من العقد و غیره علی حاله، و إنّما سقط عن التأثیر بقاءً لوجود المانع و هو انقلاب الخل خمرا فإذا زال المانع أثّر المقتضی أثره، من دون وجود حقّ الاُولویة فی حال سقوطه عن التأثیر، و عدم لزوم الترجیح بلا مرجح بعد وجود المقتضی لملکیّة

ص:614


1- (2) المکاسب 3/265.
2- (1) المکاسب 3/265.

المالک للعین دون غیره واضح جدّا، فلا کاشف عن حقّ الاُولویة و لا عن تعلِّق وجوب الردّ بذات الملک...»(1).

و لعلّ مراده قدس سره : أنّ زوال الملکیّة تارة یحصل بأحد الموجبات الانتقال من البیع و غیره، و اُخری لوجود مانع من تأثیر مقتضی الملکیّة بقاءً کانقلاب الخلّ خمرا فحینئذ سقوط المقتضی للملکیة یکون لوجود المانع، فإذا زال المانع أثّر المقتضی و یثبت الملکیّة، من دون ثبوت حقّ الاُولویة تاثیرا خاصا.

و ناقشة تلمیذة المحقّق السیّد الخوئی بقوله: «إنّ الملکیة من الأحکام الشرعیة و هی غیر مسببة عن الموجودات الخارجیة، و إنّما هی فعل اختیاری للمولی و تابع لکیفیة جعله من حیث السعة و الضیق، و علیه فإسراء أحکام المقتضیات الخارجیة و الموانع التکوینیة إلی الأحکام الشرعیة بلا موجب، بل المتّبع فی هذه الموارد دلالة الدلیل، و من الواضح أنّ الدلیل قد دلّ علی أن الخل یملک بالهبة و الأرث و نحوهما، ولکنّه إذا انقلب خمرا خرج عن الملکیّة و حینئذ فلو عاد إلی حالته الاُولی کان الحکم بملکیّته للمالک الأوّل محتاجا إلی دلیل و هو منفی فی المقام»(2).

أقول: ما ذکره قدس سره من الفرق بین الأحکام الشرعیة و الاُمور التکوینیة واضح و أتعرّض إلی تحقیق إثباته فی أبحاثی الاُصولیة مرارا. و رجوع الملکیّة و عدمها یعود إلی المسألتین الماضیتین، و کلّ من له الملک فله حقّ الاختصاص بعد زواله.

و کلّ من له حقّ الاختصاص، إذا زال المانع عن الملکیّة عادت ملکیّته و بما ذکرنا تظهر المناقشة فی کلام السیّد الخوئی قدس سره و تمامیة کلام الشیخ الأعظم من بقاء حقّ

ص:615


1- (2) حاشیة المکاسب 1/445.
2- (3) مصباح الفقاهة 3/231.

الاختصاص مع خروج المال عن الملکیة کما مرّ عنه قدس سره و اللّه العالم.

العاشرة: هل یعود ملک البدل إلی الغارم بعد تمکّنه من العین؟

قال الشیخ الأعظم: «و هل الغرامة المدفوعة تعود ملکه إلی الغارم بمجرد طروّ التمکن فیضمن العین من یوم التمکّن ضمانا جدیدا بمثله أو قیمته یوم حدوث الضمان أو یوم التلف أو أعلی القیم، أو أنّها باقیة علی ملک مالک العین و کون العین مضمونة بها لا بشیء آخر فی ذمّة الغاصب فلو تلفت استقرّ ملک المالک علی الغرامة، فلم یحدث فی العین إلاّ حکم تکلیفی بوجوب ردّه و أمّا الضمان و عهدة جدیدة فلا؟ وجهان: أظهرهما: الثانی لاستصحاب کون العین مضمونة بالغرامة و عدم طروّ ما یزیل ملکیّته عن الغرامة أو یُحدث ضمانا جدیدا،... و حینئذ فإن دفع العین فلا إشکال فی زوال ملکیّة المالک للغرامة...»(1).

أقول: ذهب العلاّمة(2) إلی الترادّ فی مسألة إباق العبد ولکن استشکل علیه فی قوله: «... فإن عادت فلکلٍّ منهما الرجوع، و هل یُجبر المالک علی إعادة البدل لو طلبه الغاصب؟ إشکال»(3).

قال ولده فی منشأ الإشکال: «ینشأ من أنّه قد استقر ملکه علیه و لأنّه ینافی البدلیة إذ ما لا یستقر علیه الملک لایصلح أن یکون بدلاً قهریا شرعا لما یستقر علیه الملک، و لأنّه قد لایرغب المعاملون فیه، و من أنّه للحیلولة و قد زالت، و الأوّل اُولی لأنّ الغاصب یؤخذ بأشق الأحوال»(4).

و یمکن تأیید الإشکال بأنّ ملک المالک ثبت علی الغرامة و الأصل بقاؤه.

ص:616


1- (1) المکاسب 3/269 و 268.
2- (2) القواعد 2/228.
3- (3) القواعد 2/230.
4- (4) إیضاح الفوائد 2/181.

و اعترض المحقّق الثانی علیهما و قال: «لا وجه لعدم الردّ أصلاً»(1) کما اختاره العلاّمة

نفسه فی التذکرة و قال: «القیمة المدفوعة یملکها المغصوب منه ملکا مراعی للحیلولة فیزول بزوالها»(2).

و فی الجواهر(3) بیان یأتی فی المسألة الآتیة فانتظر.

و أمّا بالنسبة إلی مقالة الشیخ الأعظم من جهة التّأیید فلابدّ من التنبیه علی أنّ ما یوجب ردّ البدل إلی الغارم هو الردّ الخارجی للعین إلی مالکها لا التمکن من ردّها فقط، بناءً علی القول ببدل الحیلولة، لأنّ تعذر ردّ العین تکون علّة لحدوث ضمان البدل فقط و ملکیّة مالک العین له و بعدها تستصحب لو شک فی بقائها.

فحینئذ لو تمکّن من الردّ ولکنّه لم یردّ خارجا، لم یرجع البدل إلی الغارم فلو تلفت العین فی یده لم یثبت علیه ضمانٌ جدیدٌ. و الضمان الأوّل باق. و لکن یجب علیه ردّ العین تکلیفا کما مرّ من الشیخ الأعظم.

و مع ردّ العین خارجا یجب علی مالک العین ردّ البدل إلی الغارم و مع اتلافه یجب ردّ بدله، و بعد الترادّ کلّ مال یعود إلی صاحبه کما یظهر من المحقّق النائینی(4) قدس سره .

ولکن قال المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله فی نقده: «إنّ الالتزام بصیرورة الغرامة بدلاً عن نفس العین لا یتفق مع الالتزام بجواز مطالبة المالک العینَ من الغاصب بعد التمکن منها، فإنّ ذلک التزام بالمتناقضین... نعم، إذا کان... وقوع البدل بإزاء السلطنة دون العین وجب علی الغاصب ردّ العین علی مالکها بمجرد تمکّنه منها و جاز للمالک أن یطالبه بنفس العین لعدم

ص:617


1- (5) جامع المقاصد 6/272.
2- (1) تذکرة الفقهاء 2/385 من الطبع الحجری.
3- (2) الجواهر 37/133.
4- (3) منیة الطالب 1/337.

تحقّق المعاوضة بینهما... و لا یجوز للمالک أن یتصرف فی البدل فی فرض جواز مطالبته بنفس العین... [لأنّ] البدل بدلاً عن السلطنة الفائتة إلاّ أنّه بدل عنها حال التعذّر من مطالبة العین لا مطلقا، فإذا ارتفع التعذّر زالت البدلیة. و من ثَمَّ إذا حصل التعذّر ثمّ ارتفع قبل أداء البدل لم یکن للمالک مطالبة البدل بلا إشکال. و علی ذلک فلابدّ من التزام برجوع البدل إلی ملک الغاصب و ضمان الغاصب العین بضمان جدید بالمثل أو القیمة»(1).

الحادیة عشرة: هل للغاصب حبس العین إلی أن یأخذ البدل؟

قال فی القواعد: «و للغاصب حبس العبد إلی أن یردّ القیمة علیه علی إشکال»(2).

و فی التحریر: «له حبسها إلی أن یأخذ القیمة»(3).

ولکن فی التذکرة: «الأقرب أنّه لیس له ذلک»(4)، و فی الإیضاح «و هو الأُولی»(5)، و فی جامع المقاصد: «الأصح»(6).

قال فی المفتاح تعلیلاً لعدم جواز الحبس: «لأنّ دفع القیمة لم یکن علی سبیل المعاوضة حقیقة، و قد کان تسلیم العبد واجبا فورا فیستصحب، و لا یجوز حبس مال فی مقابلة مال آخر قد حبسه مالک المال ظلما، لأنّ من ظُلم لا یظلم»(7).

و قال فی تعلیل الجواز: «لأنّه قد دفعها عوضا، فله حبس المعوّض إلی أن یقبض العوض کسائر المعاوضات، و من ذلک یعرف الوجه فی استشکال المصنف، و محل الفرض ما

ص:618


1- (4) مصباح الفقاهة 3/232.
2- (1) القواعد 2/228.
3- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 4/535.
4- (3) تذکرة الفقهاء 2/385 من الطبع الحجری.
5- (4) إیضاح الفوائد 2/178.
6- (5) جامع المقاصد 6/261.
7- (6) مفتاح الکرامة 18/188.

إذا لم یعلم أنّه لا یردّها علیه و إلاّ فله المقاصة»(1).

قال فی الجواهر: «... و إنّما اشکاله [أیّ اشکال العلاّمة فی القواعد] فی حبس الغاصب العین إلی أن یقبض ما دفعه من بدل الحیلولة باعتبار کونه کالمعاوضة التی لکلٍّ من المتعاوضین حبس العوض علی الآخر حتّی یحصل التقابض. و الأقوی خلافه، ضرورة عدم المعاوضة التی مقتضاها ذلک فی المقام و إن کانت هی معاوضة معنویة، فلیست هی إلاّ نحو مَنْ کانت عنده عین لمن کان عنده کذلک، فإنّه لیس له الحبس کما هو واضح، خصوصا بعد قوله علیه السلام : «المغصوب مردود»(2) و الفرض بقاؤه. و إشکاله أیضا فی جبر إعادة المالک البدل لو طلبه الغاصب منه باعتبار ملکه له، و الأصل اللزوم، و لتوقف تمام البدلیة علی تمامیة الملک التی منها عدم تسلط الغاصب علیه بنحو ذلک»(3).

و قال بعد ورقة: «و الأقوی بناءً علی ما ذکرناه أن له جبره [أیّ للغاصب جبر المالک فی أداء البدل] بل فی احتمالٍ أن له الحبس حتّی یدفع إلیه، لأنّه و إن لم یکن معاوضة حقیقة

فهو کالمعاوضة، و إن کان الأصح خلافه کما ذکرناه...»(4).

و قال الشیخ الأعظم: «إنّ العین بنفسها لیست عوضا و لا معوَّضا و لذا تحقّق للمالک الجمع بینها و بین الغرامة، فالمالک مسلَّطٌ علیها، و المعوّض للغرامة السلطنة الفائتة التی هی فی معرض العود بالترادّ.

اللهم إلاّ أن یقال: له حبس العین من حیث تضمّنه لحبس مبدل الغرامة و هی

ص:619


1- (7) مفتاح الکرامة 18/188.
2- (8) وسائل الشیعة 9/524، ح4، الباب 1 من أبواب الأنفال و فیه: «الغصب کلّه مردود».
3- (9) الجواهر 37/132 و 133.
4- (1) الجواهر 37/135.

السلطنة الفائتة. و الأقوی الأوّل»(1).

و قال المحقّق الخراسانی: «... إنّ العرف الحاکم فی باب کیفیة الغرامات إنّما یکون بنائهم علی العود بالردّ لا بالتمکن، و علیه فلیس للغارم مطالبة ما دفعه إلاّ بعد الردّ، کما أنّه لیس له حبسها مطلقا، و إن قلنا بالعود بالتمکن، کما أنّه لیس للمالک حبس الغرامة، بل یجب علی کلٍّ ردّ ما عنده و لیس من باب المعاوضة، حتّی جاز لکلّ منهما الامتناع عن التسلیم قبل تسلیم الآخر، اللهم إلاّ أن یدّعی أنّه مقتضی باب الغرامة أیضا، لکنّه لم یثبت فتدبر»(2).

أقول: لیس لهما الامتناع من ردّ المال الآخر حتّی یأخذ ماله، و إن ثبت ذلک فی باب المعاوضات نحو البیع لأنّ اشتراط التسلیم و التسلّم یکون شرطا ضمنیّا فیها، بخلاف المقام لأنّهم یقولون بغرامة بدل الحیلولة من السلطنة الفائتة و لیس عندهم معاوضة فلا یجری ذاک الشرط الضمنی.

بل علی القول بکونها معاوضة هی معاوضة شرعیّة قهریة من الشارع بین المالین لا معاوضة مالکیّة بین المالکین حتّی یقال بکون فعلهما متضمّنا لذاک الشرط.

کما یظهر عدم جواز الحبس من الرشتی(3) و تلمیذه الإشکوری(4) و النائینی(5) و الاصفهانی(6) و الإیروانی(7) قدس اللّه أسرارهم.

ص:620


1- (2) المکاسب 3/270.
2- (3) حاشیة المکاسب /45.
3- (4) کما نقل عنه تلمیذه فی بغیة الطالب 1/287.
4- (5) بغیة الطالب 1/287.
5- (6) المکاسب و البیع 1/388.
6- (7) حاشیة المکاسب 1/451.
7- (8) حاشیته علی المکاسب 2/164.
الثانیة عشرة: لو حبس العین فتلفت هل یضمن بضمان جدید؟

قال العلاّمة فی القواعد: «فإن تلف العبد محبوسا فالأقرب ضمان قیمته الآن و استرجاع الاولی»(1).

قال ولده: «هذا إن قلنا أنّ له الحبس، و وجه القرب: إنّ حکم الغصب زال بردّ القیمة و هذه الید غیر الاُولی لاستحقاقها و وجوب ردّ المالک القیمة الاولی و أخذ العین و هی القدر الثانیة. و یحتمل عدمه لأنّه إنّما یستحقّ ردّ الاولی بدفع العین و لم یحصل و لأنّ الحصول فی ید الغاصب لا یؤثر فی زوال ملکیّة المالک للقیمة التی فی یده، لأنّ ید الغاصب موجبة للضمان فیستقر ملک المالک علی القیمة الاولی إن کانت أکثر و هو الأقوی عندی»(2).

و قال ابن اخته السیّد عمیدالدّین الأعرجیّ الحلّیّ فی وجه الضمان بقیمته الآن: «هذا إنّما یتمشّی علی وجوب قیمة یوم التلف، أمّا لو أوجبنا الأکثر کان له الأکثر من القیمتین الاولی و الثانیة»(3).

ثمّ وجههه المحقّق الثانی بقوله: «و وجهه: إنّه إن کان الأقل هو القیمة الاولی فإنّه قد دفعها عوضا عن العین باستحقاق فلا یجب ما سواها، و إن کان الأقل هو الثانیة فهی المستحقة بالتلف لأنّ الاولی للحیلولة و قد زالت بجواز الحبس».

ثم ردّه بقوله: «و فیه نظر، لأنّ المدفوع للحیلولة لم یکن عوضا عن العین قطعا و لهذا لایخرج بذلک عن ملک المالک، و لا یستقر ملکه علی المدفوع. و حیث کانت العین باقیة علی ملک المالک مضمونة علی الغاصب، و خرج بجواز الحبس إلی أن یقبض القیمة عن کونه

ص:621


1- (1) القواعد 2/228.
2- (2) إیضاح الفوائد 2/178.
3- (3) نقل عنه المحقّق الثانی فی جامع المقاصد 6/262.

غاصبا وجبت قیمة یوم التلف، علی ما اخترناه من وجوب قیمة یوم التلف، فالواجب قیمة یوم التلف هنا، و الأصح أنّه لا یجوز له الحبس بذلک کما سبق فلا یتغیّر الحال»(1).

و قال فی شرح کلام العلاّمة: «هذا مبنی علی جواز الحبس، لأنّ المصنف یری القول بأعلی القیم، و وجه القرب: إنّ حکم الغصب قد زال بدلیل جواز الحبس إلی أن یقبض ما دفعه للحیولة، و هذه الید غیر الاُولی لکونها مستحقة، و وجوب ردّ المالک القیمة الاولی، فإذا تلف ضمنه بقیمته وقت التلف، فیسترجع القیمة الاولی، و کان حقّه أن یقول:

یسترجع الزائد»(2).

و قال فی الجواهر: «... فلو حبسه و تلف کان ضامنا لقیمته الآن و یرجع بما دفعه أوّلاً. بل یقوی ذلک و إن قلنا بجواز حبسه کما هو ظاهر عبارة القواعد السابقة، و ذلک لأنّ حکم الغصب قد زال علی تقدیر جواز الحبس، فهی ید غیر الاولی لکونها مستحقة إلاّ أنّها ید ضمان أیضا کالقبض بالسوم، لأنّه الأصل فی کلّ ید قد استولت علی مال الغیر إلاّ ما خرج من الودیعة و اللقطة و نحوها، کما حررناه غیر مرّة.

و مِنْ هنا جعل الضمان فی المقام بقیمته یوم التلف مع أنّ مذهبه ضمان المغصوب بأعلی القیم، إذ لیس هو إلاّ لخروج الید عن حکم الغصب باستحقاق الحبس و وجوب ردّ المالک القیمة الاولی». - ثم ذکر توجیه الکرکی لکلام السیّد عمیدالدّین و قال: - «ولکن لا یخفی علیک ما فیه بعد الاحاطة بما ذکرناه و بعد الإغضاء عن لفظ «الأقل» فی کلامه الذی قیل(3) إنّه من سهو القلم و إلاّ فالمراد «الأکثر»» - ثم شرع فی ردّ مناقشة الکرکی علی السیّد

ص:622


1- (4) جامع المقاصد 6/262.
2- (1) جامع المقاصد 6/262.
3- (2) القائل هو السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 18/190، قال: «و لعلّ الأقل فی کلامه من طغیان القلم، أراد أن یثبت الأکثر فأثبت الأقل کما هو الموجود فی ثلاث نسخ... و بناه علی أنّ الواجب فی کلّ مغصوب إذا تلف أعلی القیم من دون التفات إلی دفعها عوضا أو استحقاقها بالتلف».

عمیدالدّین فراجع تمام کلامه فی کتابه.(1)

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ لو قلنا بجواز الحبس، لو حبسه فتلفت العین محبوسا، فالظاهر أنّه لایجری علیه حکم المغصوب لأنّه حبسه بحقّ، نعم یضمنه لأنّه قبضه لمصلحة نفسه و الظاهر أنّه بقیمة یوم التلف...»(2).

أقول: قیمة یوم التلف هو مختاره فی القیمیات کما مرّ و مختارنا قیمة یوم الأداء و الضمان فی الحبس واضح و اللّه العالم.

تمّ الجزء الأوّل من قسم البیع من کتابنا الآراء الفقهیة بعد منتصف اللیل المسفر صباحُه من یوم الثلاثاء الثانی و العشرین من ثانی الجمادین عام 1430 ببلدة أصبهان صانها اللّه تعالی عن الحدثان.

و الحمدللّه ربّ العالمین و صلی اللّه علی سیّدنا محمّد و آله الطیّبین الطاهرین المعصومین.

ص: 623


1- (3) الجواهر 37/136.
2- (4) المکاسب 3/270.

ص: 624

ص: 625

ص: 626

ص: 627

ص: 628

ص: 629

ص: 630

ص: 631

ص: 632

ص: 633

ص: 634

ص: 635

ص: 636

ص:637

ص:638

ص:639

بعض منشورات مکتبة آیة اللّه النجفی

1. تبصرة الفقهاء (ثلاث مجلّدات)، لآیة اللّه العظمی الشیخ محمّدتقی الرازی النجفی الأصفهانی قدس سره صاحب هدایة المسترشدین، تحقیق: السیّد صادق الحسینی الإشکوری.

2. رساله صلاتیه، له أیضا، بالفارسیة، تحقیق: الشیخ مهدی الباقری السیانی.

3. شرح هدایة المسترشدین، لآیة اللّه العظمی الشیخ محمّدباقر النجفی الأصفهانی نجل صاحب الهدایة (المتوفی عام 1301ق)، تحقیق: الشیخ مهدی الباقری السیانی.

4. اشارات ایمانیه، لآیة اللّه العظمی الشیخ محمّدتقی آقا النجفی الأصفهانی (المتوفی عام1332ق)، تحقیق: مهدی الرضوی مع مساعدة انجمن مفاخر فرهنگی ایران.

5. نقد فلسفة دارون، لآیة اللّه العظمی الشیخ ابوالمجد محمّدالرضا النجفی الأصفهانی (المتوفی عام 1362ق)، تحقیق: الدکتور حامد ناجی الأصفهانی مع مساعدة مکتبة المجلس الشوری الإسلامی.

6. الآراءُ الفقهیة - قسم المکاسب المحرمة- (3 مجلّدات)، لآیة اللّه الشیخ هادی النجفی.

7. ترجمة ارشاد الأذهان، للعلاّمة الحلّی، المترجم إلی الفارسیة: آیة اللّه الشیخ مهدی النجفی الأصفهانی (المتوفی عام 1393ق) مع مساعدة انجمن مفاخر فرهنگی ایران.

8. أساور من ذهب در احوال حضرت زینب (سلام اللّه علیها)، لآیة اللّه الشیخ مهدی النجفی الأصفهانی (المتوفی 1393ق) بالفارسیة، تحقیق: جویا جهانبخش.

9. الأرائک فی علم أصول الفقه، لآیة اللّه الشیخ مهدی النجفی الأصفهانی (المتوفی عام 1393ق)، مع مساعدة The open school شیکاگو آمریکا.

10. غرقاب (تراجم أعلام القرن الحادی عشر و ما بعده)، للسیّد محمّدمهدی الموسوی الشفتی (المتوفی عام 1326ق)، تحقیق: مهدی الباقری السیانی و محمود النعمتی.

11. ترجمة توحید المفضل إلی إنجلیسة، ترجم بأمر آیة اللّه الشیخ مهدی النجفی الأصفهانی، مع مساعدة The open school شیکاگو آمریکا، و انتشارات انصاریان قم.

12. الکنز الجلی لولدی علی (گنج نامه)، للشیخ هادی النجفی، ترجمة علی اصغر حبیبی.

ص: 640

المجلد 5

اشارة

سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -

عنوان و نام پدیدآور : االآراء الفقهیه: قسم البیع/ تالیف هادی النجفی.

مشخصات نشر : تهران: شب افروز، 1393.

مشخصات ظاهری : 448 ص.: نمونه.

شابک : 978-600-92902-8-4

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه: به صورت زیرنویس.

موضوع : معاملات اموال شخصی و منقول (فقه)

موضوع : معاملات (فقه)

رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ36 1393

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : 3555378

ص: 1

اشارة

ص: 2

تقریظ سماحة المرجع الدینی الکبیر آیه الله العظمی الشیخ بشیر حسین نجفی - دام ظله العالی - من النجف الأشرف.

ص: 3

تقریظ مع تاریخ وضع اللمسات الأخیرة علی الجزء الخامس من کتاب

(الآراء الفقهیة) تألیف سماحة آیة اللّه الفقیه المحقّق و المجتهد المدقّق

الأستاذ الشیخ هادی النجفی آل صاحب الحاشیة - دام ظله -

الحمد للّه الذی جعل اختلاف الفقهاء مثراةً وتمحیصا للآراء فی أحکام الشریعة الغرّاء و الصلاة و السلام علی سیّد المرسلین و صفوة الأنبیاء سیّدنا و نبیّنا أبیالقاسم محمّد و علی آله المیامین النجباء أمناء دار الفناء و شفعاء دار البقاء إلی یوم اللقاء.

ثمَّ أمّا بعد، فقد اطلعنی متفضّلاً سماحة آیة اللّه الفقیه النحریر و المجتهد المحقّق القدیر الأستاذ الشیخ هادی النجفی - دام ظله - علی المجلد الخامس من کتابه القیم النفیس الآراء الفقهیة - قسم البیع(2) و کنت قد اطلعتُ علی المجلدین الثالث و الرابع من هذا الکتاب فإذا بهذا المجلّد ینتظم معهما من حیث التحقیق و دقّة النظر و سبر الآراء و مناقشاتِها فی سلک واحد کأنتظام الدرر الغوالی فی سموط النُضار و قد کفانا سماحة شیخنا المصنف - دام ظله - مؤونة إفاضة القول فی وصفه و بیان مزایاه فهو دالٌّ علی تبحر مؤلِّفه و إحاطته بمختلف آراء الفقهاء و مناقشتها مناقشة علمیّة موضوعیة علی قدر ما یقتضیه المقام و تستدعیه الحال من غیر حشو مملّ، و لا إیجازٍ مُخِلّ، فهو کما قال الشاعر

ص: 4

القدیم و أظنّه أباالطیب المتنبّی:

سبوحٌ لها منها علیها شواهدُ

و حسب هذا الکتاب تقویما(1) و مَثالةً أنْ بادرَ کبار الفقهاء و المجتهدین إلی تقریظه و التنویه به، و أمّا أنا فلا أنتظم فی سلک أولئک الأعاظم و إنّما جاء کلامی للإشارة إلی شهادات أولئک الأعلام إذ قد تکون شهادتی هنا من باب المصادرة علی المطلوب و قد حضرتنی أبیات علی جهة الارتجال فی تقریظ هذا الکتاب بعد أن استوفیتُ قراءته قراءةً مستأنیة و أفدتُ منه فوائد جلیلة لایستکثر علی مثل سماحة الشیخ المؤلِّف أن یُطرِف بها أهل الفضل و العلم و یُتحِفَ طلبة المعارف الإلهیة.

لِلْعَلَمِ (الهادِی) حَلیفِ التُقی مآثِرٌ قد عَزَّ شرْوَاهَا(2)

فَکَمْ لَهُ بِیْضُ أیَادٍ أتَتْ تَتْری لأهلِ الفَضْلِ أَسْدَاهَا

وَ کَمْ بُحُوثٍ خَاضَ فی لُجِّها مُوَضِّحا بالسَّبْرِ فَحْوَاهَا

وَ مُبْهَمَاتُ الفِقْهِ فی دِینِنا قَدْ کَشَفَ «الشَیْخُ» خَفَایَاهَا

فَهْوَ هُوَ البَحْرُ بِلا سَاحِلٍ إنْ حَرَّرَ القَوْلَ وَ إنْ فَاهَا

أَعْظِمْ بِهِ مِنْ (مَاتِنٍ) جِهْبَذٍ (هادٍ) بِهِ الإسلامُ قَدْ بَاهَی

وَ مِنْ (مُحَشٍّ) مِثلَمَا جَدُّهُ (مَعَالِمُ) الأُصُولِ حَشَّاهَا

ص: 5


1- 1 . تقویما: قَوّمَ الشی ء ذکر قیمته و العصریون یستعملونه بالیاء (قیْمَ) و هذا خطأ فاحش و کأنّهم اغتروا بظاهر کلمة (القیمة) وفاتهم أنَ أصل القیمة: (قِوْمَة) و إنّما قلبت الواو یاءً لسکونها و کَسْر ما قبلها تخفیفا فإذا استعمل الفعل فیکون بالواو (قوّمَ).
2- 2 . شرواها: مثلها.

وَ سِفْرُهُ (الآرَاءُ) مَوسُوعَةٌ(1) فی الفِقْهِ قَدْ جَلَّتْ مَزَایَاهَا

وَ مُذْ أتَی خَامِسُ أجْزَاءِهِ یَزُفُّ لِلْحَوْزَاتِ بُشْرَاهَا

بِمُنْتَهَی الضَبْطِ(2) لَقَدْ أرَّخُوا: مُخْتَلِفُ الآرَاءِ جَلاَّهَا(3)

9 1150 234 40

سنة 1433 ه-

و أشکر الأستاذ الخطاط الکبیر الشیخ علی بن حیدر الحسّانی النجفی الذی تطوع بأن یکتب ما أملی علیه بسبب ما عَرانی من ضعف الحال فی هذه الأیام، و الحمد للّه فی الأولی و الآخرة.

و أملاه فی المدرسة المهدیّة العلمیّة الدینیّة فی النجف الأشرف.

الأقل

عبدالستار عفا عنه الملیک الغفار

ص: 6


1- 1 . موسوعة: استعملتُ هذه الکلمة بناءً علی ما شاع فی لغة المتأخرین و إن لم یکن لها مدرک أصیل فی لغة الفصحاء.
2- 2 . بمنتهی الضبط: فی عبارة (بمنتهی الضبط) توریة و ذلک بإضافة حرف الطاء الذی هو فی آخر کلمة الضبط و قیمته (9) إلی مادة التاریخ.
3- 3 . جَلاّهَا: جاء الضمیر فی کلمة جلاّها مؤنثا علی حد قول العرب: قطعت بعض أصابعه. و قول الشّاعِر: و ما حُبُّ الدیار شغفن قلبی... الخ. فالتأنیث هنا لِمُراعاة المضاف إلیه.

فَصْلٌ: شرائط المتعاقدین

اشارة

ص: 7

ص: 8

شرائطُ المتعاقدین متعددة:

1- البلوغ

2- العقل

3- القصد

4- الاختیار

5- إذن السیّد لو کان العاقد عبدا

6- ملک أمر البیع إمّا بملک العوضین - من دون حَجْر- و إمّا بولایة التصرف و... .

ص: 9

1- البلوغ:

اشارة

و هو تحوّل من مرحلة الصبا إلی الشباب بتغییرات خاصة معلومة فی الجسد و هو الورود فی عالَم الکبار.

علامة البلوغ هی خروج المنی فی النوم أو الیقظة، أو إنبات شعر الخشن علی العانة أو إکمال خمس عشرة سنةً قمریة(1) للذکر و تسع سنین قمریة(2) للأنثی، و فی فرض عدم معلومیة مقدار عمرها تعد رؤیة الدم بصفات الحیض أو الحمل یحکم بتحقق البلوغ قبلهما.

قال فی المفتاح: «و اشتراط البلوغ هو قضیة ما فی المبسوط(3) و الخلاف(4) أو صریحهما حیث قال فیهما: «لا یصحّ بیع الصبی و لا شراؤه أذن له الولی أم لم یأذن» و کذا قال فی المختلف(5)، و قضیة ما فی الوسیلة حیث قال: «یشترط کونهما - یعنی المتعاقدین - نافذی التصرف فی مالهما»(6)، و ما فی الغنیة حیث قال: «لا ینعقد بیع من لیس بکامل العقل و لا شراؤه و إن أجازه الولی بدلیل الإجماع و یحتجّ علی المخالف بما رووه من

ص: 10


1- 1 . و هی أقل من الشمسیة بمقدار 164 یوما تقریبا.
2- 2 . و هی أقل من الشمسیة بمقدار 98 یوما تقریبا.
3- 3 . المبسوط 2/163.
4- 4 . الخلاف 3/178، مسألة 294.
5- 5 . مختلف الشیعة 5/58.
6- 6 . الوسیلة /236.

رفع القلم عن الثلاثة»، الحدیث(1) (2)، و قضیة ما فی المراسم حیث ذکر فی الشرط العام «أن یکون المبیع ملک البائع أو ملک موکّله أو یکون أبا المالک و یکون هو صغیرا فإنّه یبیع علیه بلا ردّ»(3) انتهی، و صریح الشرائع(4) و النافع(5) و التذکرة(6) و نهایة الإحکام(7) و التحریر(8) [و القواعد(9)] و الإرشاد(10) و شرحه لولد المصنف(11)، و الدورس(12) و اللمعة(13) و المیسیة(14) و المسالک(15) و الروضة(16) و غیرها(17)»(18).

و استدلوا علیه بوجوه:

الأوّل: الاجماع

عن حجر التذکرة: «الصغیر محجور علیه بالنص و الإجماع - سواءٌ کان ممیزا أولا

ص: 11


1- 1 . سنن البیهقی 6/57، مسند أحمد 6/100.
2- 2 . غنیة النزوع /210.
3- 3 . المراسم /171.
4- 4 . الشرائع 2/8.
5- 5 . المختصر النافع /118.
6- 6 . تذکرة الفقهاء 10/11.
7- 7 . نهایة الإحکام 2/453.
8- 8 . تحریر الأحکام الشرعیة 2/275.
9- 9 . قواعد الأحکام 2/17.
10- 10 . ارشاد الأذهان 1/360.
11- 11 . نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/545.
12- 12 . الدروس 3/192.
13- 13 . اللمعة /110.
14- 14 . نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/545.
15- 15 . المسالک 3/154.
16- 16 . الروضة البهیة 3/226.
17- 17 . کالکفایة 1/449 و الحدائق 18/367.
18- 18 . مفتاح الکرامة 12/545.

- فی جمیع التصرفات إلاّ ما یستثنی کعباداته و إسلامه و إحرامه و تدبیره و وصیّته و إیصال الهدیّة و إذنه فی دخول الدار علی خلافٍ فی ذلک».(1)

و قال ولده فی شرح تنظّر والده فی صحة بیع الممیّز و شرائه: «ینشاء من أنّ البلوغ شرط إجماعا، قیل فی اعتبار الصیغة و صلاحیتها لترتب الحکم علیها لمساواته النائم و المجنون فی رفع القلم للحدیث...».(2)

و عن الدروس فی تعریف البیع: «و هو الإیجاب و القبول من الکاملین...(3) و یعنی بکمال المتعاقدین بلوغهما و عقلهما، فعقد الصبی باطل و إن أذن له الولی أو أجازه أو بلغ عشرا فی الأشهر، و کذا عقد المجنون»(4).

و أنت تری بأن التعبیر بالأشهر تضعیف للإجماع لا تأئیده و لیس فی کلامه المشهور کما حکاه عنه السیّد المجاهد(5) و الشیخ الأعظم(6).

و قال الفاضل المقداد فی آیات أحکامه: «اختلف فی معنی ابتلائهم، فقال أبوحنیفة: هو أن یدفع إلیه ما یتصرَّف فیه، و قال أصحابنا و الشافعیُّ و مالک: هو تتّبع أحواله فی ضبط أمواله و حُسن تصرّفه بأن یکل إلیه مقدمات البیع، لکن العقد لو وقع منه کان باطلاً، یلزم علی قول أبیحنیفة أن یکون العقد صحیحا»(7).

و أنت تری بأنّه نسب إلی أصحابنا عدم صحة عقد الصبی.

و قد ناقش الأردبیلی فی اجماع التذکرة و قال: «الإجماع مطلقا غیر ظاهر»(8).

ص: 12


1- 1 . تذکرة الفقهاء 14/185.
2- 2 . ایضاح الفوائد 2/55.
3- 3 . الدروس 3/191.
4- 4 . الدروس 3/192.
5- 5 . المناهل /286.
6- 6 . المکاسب 3/275.
7- 7 . کنز العرفان 2/102.
8- 8 . مجمع الفائدة و البرهان 8/152.

و قال السبزواری: «فیشترط أن یکون المتعاقدین(1) عاقلین بالغین - علی المشهور- مختارین...»(2).

نسب اعتبار البلوغ إلی المشهور.

قال فی الحدائق: «ظاهره [العلاّمة] دعوی الإجماع... مع أنّک قد عرفت وجود المخالف فی ذلک»(3). لأنّه نقل من جماعة من الأصحاب وجود القول بجواز بیع الصبی و شرائه إذا بلغ عشرا و کان عاقلاً و رُدوه بالضعف.(4)

و فی شرح القواعد: «و للإجماع محصلاً و منقولاً...»(5).

و فی المفتاح: «أنّ الإجماع منقول و معلوم فلا یلتفت إلی الخلاف النادر...»(6).

و فی الجواهر: «بلا خلاف معتد به أجده فیه بل الإجماع بقسمیه علیه...»(7).

و فی العناوین: «الإجماع المحصل من الأصحاب الظاهر بالتتبع فی کلامهم حیث إنّهم یشترطون ذلک فی جیمع العقود و الإیقاعات و هو الحجة و مخالفة من یذکر بعد ذلک من الأصحاب غیر قادحة فی الاجماع...»(8).

أقول: قد مرّ من الغنیة(9) إدعاء الإجماع علیه ولکن قال فی المکاسب: «المشهور... بطلان عقد الصبی»(10). و التعبیر بالمشهور فی کلامه و کلام السبزواری و

ص: 13


1- 1 . کذا فی الأصل، و الصواب المُتَعاقِدانِ.
2- 2 . الکفایة 1/449.
3- 3 . الحدائق 18/368.
4- 4 . راجع الحدائق 18/367.
5- 5 . شرح القواعد 2/39 للشیخ الأکبر الشیخ جعفر کاشف الغطاء.
6- 6 . مفتاح الکرامة 12/547.
7- 7 . الجواهر 22/260.
8- 8 . العناوین 2/674.
9- 9 . الغنیة /210.
10- 10 . المکاسب 3/275.

بالأشهر فی کلام الشهید لوجود الأقوال الاُخَر فیها و قد أنهاها الفقیه المامقانی(1) إلی سبعة أقوال.

و الحاصل: لو تم الإجماع - و لم یتم لوجود سبعة أقوال فی المقام - لا یفیدنا لاحتمال أن یکون مدرکیا و لیس بتعبدی و أشار إلی أنّ الإجماع یکون مدرکیا الشیخ الأعظم بقوله: «نعم لقائل أن یقول إنّ ما عرفت من المحقّق و العلاّمة و ولده و القاضی و غیرهم خصوصا المحقّق الثانی - الذی بنی المسألة علی شرعیة أفعال الصبی - یدل علی عدم تحقق الإجماع»(2).

مراده: تردّد المحقّق(3) فی اجارة الممیِّز بإذن الولی - بعد ما جزم بالصحة فی العاریة -(4) و استشکال العلاّمة(5) فیها [أی فی الاجارة] - بعد ما جزم بالبطلان - فی التذکرة.(6)

و کذا قال فی القواعد: «و هل یصح بیع الممیّز و شِراؤُهُ مع إذن الولی نظر»(7).

و قال ولده فی شرحه: «ینشأ من أنّ البلوغ شرط إجماعا... و من وقوعها بإذن الولی فصار کما لو صدر منه، و الأقوی عدم الصحة»(8).

و کذا قال القاضی ابن البراج: «و إذا اشتری الصبی التاجر أرضا، و حجره أبوه علیه فدفعها مزارعة بالنصف إلی غیره، یزرعها ببذره و عمله فعمل علی ذلک کان الخارج للعامل و علیه نقصان الأرض، فإن لم یکن فی الأرض نقصان کان الخارج بینهما علی

ص: 14


1- 1 . غایة الآمال /322 و 321.
2- 2 . المکاسب 3/280.
3- 3 . الشرائع 2/141.
4- 4 . الشرائع 2/135.
5- 5 . قواعد الاحکام 2/281، تحریر الأحکام الشرعیة 3/80.
6- 6 . تذکرة الفقهاء 2/290 من الطبع الحجری (18/11).
7- 7 . قواعد الأحکام 1/137.
8- 8 . إیضاح الفوائد 2/55.

شرطهما، فإن کان البذر من جهة الدافع کان الخارج بینهما و له علیه عوض البذر فی جمیع الوجهین و یغرم نقصان الأرض و هکذا لو لم یخرج الأرض شیئا».(1)

حیث یری صحة شراء الصبی التاجر و هو بالطبع یکون ممیّزا رشیدا.

و کذا ابتناء المسألة عند المحقّق الثانی(2) علی شرعیة عبادات الصبی و تمرینیتها، دلیل علی عدم وجود إجماع مدرکی فی المقام.

و قال الشیخ الأعظم بعد نقل ما مرّ من حجر التذکرة: «و استثناء إیصال الهدیّة و إذنه فی دخول الدار، یکشف بفحواه عن شمول المستثنی منه لمطلق أَفعاله...»(3).

مراده: غرض العلاّمة أنّ قول الصبی و فعله کالعدم و لا یترتب علیه شیءٌ. لأصالة الاتصال فی الاستثناء فیندرج فیه جمیع أقواله و أفعاله إلاّ ما استثنی، فلو أجری الصبی العقد بوکالة عن غیره لا یصح لعدم العبرة به.

و فیه: لا یتم ما ذکره من أنّ معقد النص و الإجماع بقرینة اتصال الاستثناء یشمل موارد التی یکون الصبی فیها کمجرد آلة نحو إنشاء عقد وکالةً عن الغیر أو بأمر من ولیّه، لعدم استقلاله فی ذلک بل الصبی فیه عاقد محض بل آلة محض بل کاللسان من الإنسان، کما یظهر الإشکال من المحقّقین: الخراسانی(4) و الفقیه الیزدی(5) و الإیروانی(6) و الاصفهانی(7) قدس سرهم .

الثانی: آیة الابتلاء

و هی قوله تعالی: «و ابتلوا الیتمی حتّی إذا بلغوا النکاح فإن آنستم منهم رشدا

ص: 15


1- 1 . المهذب 2/20، مختلف الشیعة 6/188.
2- 2 . جامع المقاصد 5/194.
3- 3 . المکاسب 3/275.
4- 4 . حاشیة المکاسب /46.
5- 5 . حاشیته علی المکاسب 2/16.
6- 6 . حاشیته علی المکاسب 2/166.
7- 7 . حاشیة المکاسب 2/9.

فادفعوا إلیهم أموالهم...»(1).

و قال تعالی قبله فی صدر سورة النساء: «و ءَاتوا الیتمی أموالهم و لا تتبدَّلوا الخبیث بالطیب و لا تأکلوا أموالهم إلی أموالکم إنّه کان حوبا کبیرا»(2).

و کذا قال تعالی بعد الثانیة و قبل الاُولی: «و لا تُؤتُوا السفهاء أموالکم التی جعل اللّه لکم قیما و ارزقوهم فیها و اکسوهم و قولوا لهم قولاً معروفا»(3).

بتقریب: لابدّ من إعطاء أموال الیتامی إلیهم ولکن بشرط عدم السفاهة فیهم، لأنّ السفیه محجور علیه، فأمر سبحانه بامتحان الیتامی لخروجهم عن السفه بالبلوغ و الرشد - و هو العقل الذی یتشخّص المصلحة عن المفسدة و یمکن به من إصلاح ماله - و بعد حصول الأمرین المذکورین فی الآیة الشریفة و هما البلوغ و الرشد أمر بإعطاء أموالهم.

فیظهر توقف إعطاء أموالهم إلیهم علی أمرین: 1- البلوغ 2- الرشد.

و بعد الغاء الخصوصیة من الأیتام یمکن التعدی إلی کلِّ صبی غیر بالغ ولو لم یکن یَتِیْما له.

قال الشیخ فی تفسیره: «هذا خطاب لأولیاء الیتامی، أمر اللّه تعالی بأن یختبروا عقول الیتامی فی أفهامهم و صلاحهم فی أدیانهم و إصلاح أموالهم. و هو قول قتادة و الحسن و السُّدّی و مجاهد و ابن عباس و ابن زید. و قد بیّنا أنّ الاِبتِلاء معناه الإختبار فیما مضی.

و قوله: «حتی إذا بلغوا النکاح» معناه: حتّی یبلغوا الحدَّ الذی یقدرون علی مجامعة النساء و ینزل، و لیس المراد الإحتلام، لأنّ فی الناس مَن لایحتلم أو یتأخر إحتلامه و هو قول أکثر المفسرین، مجاهد و السُّدّی و ابن عباس و ابن زید. و منهم من قال: إذا کمل عقله و أونس منه الرشد سلم إلیه ماله و هو الأقوی. و منهم من قال: لا یسلم إلیه حتّی یکمل له خمس عشرة سنة، و إن کان عاقلاً لأنّ هذا حکم شرعی و بکمال العقل

ص: 16


1- 1 . سورة النساء /6.
2- 2 . سورة النساء /2.
3- 3 . سورة النساء /5.

تلزمه المعارف لا غیر، و قال أصحابنا: حدّ البلوغ إمّا بلوغ النکاح أو الإنبات فی العانة أو کمال خمس عشرة سنة.

و قوله: «فإن آنستم منهم رشدا» معناه: فإن وجدتم منهم رشدا و عرفتموه و هو قول ابن عباس... .

و اختلفوا فی معنی الرشد، فقال السُّدّی و قتادة: معناه عقلاً و دینا و صلاحا. و قال الحسن و ابن عباس: معناه صلاحا فی الدین و إصلاحا للمال. و قال مجاهد و الشعبی معناه: العقل، قال: لا یدفع إلی الیتیم ماله و إن أخذ بلحیته و إن کان شیخا حتّی یؤنس منه رشده: العقل. و قال ابن جُرَیْحٍ: صلاحا و علما بما یصلحه.

و الأقوی أن یحمل علی أنّ المراد به العقل و إصلاح المال علی ما قال ابن عباس و الحسن، و هو المروی عن أبیجعفر علیه السلام ، للاجماع علی أن من یکون کذلک لا یجوز علیه الحجر فی ماله و إن کان فاجرا فی دینه، فإذا کان ذلک إجماعا فکذلک إذا بلغ، و له مال فی ید وصی أبیه أو فی ید حاکم قد ولی ماله، وجب علیه أن یسلم إلیه ماله إذا کان عاقلاً مصلحا لماله و إن کان فاسقا فی دینه. و فی الآیة دلالة علی جواز الحجر علی العاقل إذا کان مفسدا فی ماله من حیث أنّه إذا کان عند البلوغ یجوز منعه المال إذا کان مفسدا له، فکذلک فی حال کمال العقل إذا صار بحیث یفسد المال جاز الحجر علیه و هو المشهور فی أخبارنا. و من الناس من قال: لا یجوز الحجر علی العاقل، ذکرناه فی الخلاف.

و قوله: «فادفعوا إلیهم أموالهم و لا تأکلوها إسرافا و بدارا»: فهو خطاب لاُولیاء الیتیم، أمرهم اللّه تعالی إذا بلغ الیتیم و أونس منه الرشد علی ما فسّرناه، أن یسلم إلیه ماله و لا یحبسه عنه...»(1).

أقول: الذی یَظْهَرُ من کلام الشیخُ لزومُ توفُّرِ الشرطین لدفعِ اموالهم وَهْما: البلوغُ و الرُّشَد کما صرح فی کلامه الأخیر و هو ظاهر علی بن ابراهیم القمی فی تفسیره(2) و

ص: 17


1- 1 . التبیان 3/(118-116).
2- 2 . تفسیر القمی /71 من الطبع الحجری، 1/131 من الطبع الحروفی.

تبعهما جماعة، منهم: القطب الراوندی فی فقه القرآن(1) و الطبرسی فی مجمع البیان(2) و أبوالفتوح الرازی فی روض الجنان(3) و کما یظهر ذلک من الفاضل المقداد فی کنز العرفان(4) و الفیض فی تفسیریه الصافی(5) و الأصفی.(6)

و ذهب جماعة من العامة إلی هذا القول منهم: الثعلبی فی تفسیره.(7)

ولکنَّ هناکَ قولاً آخَرَ: و هو أنّ البلوغ فی الآیة غایة لِلابتلاء، کما صرح به القطب الراوندی وقال: «وقت الاختبار یجب أن یکون قبل البلوغ»(8) و أمّا، تمام الموضوع لدفع أموالهم فهو الرشد فقط من دون بلوغ کما یظهر هذا القول من جماعة من المفسرین منهم: الزمخشری فی الکشاف(9) و الطبرسی فی جوامع الجامع(10) و البیضاوی فی أنوار التنزیل(11) و المشهدی فی کنز الدقائق(12).

و لذا قال المحقّق الإیروانی: «لا یبعد استفادة أنّ المدار فی صحة معاملات الصبی علی الرشد من الآیة «و ابتلوا الیتامی...» علی أن تکون الجملة الأخیرة استدراکا عن صدر الآیة و أنّه مع استیناس الرشد لا یتوقف فی دفع المال و لا ینتظر البلوغ و أنّ اعتبار البلوغ طریقیٌّ اعتبر أمارة إلی الرشد بلا موضوعیة له بل یستفاد هذا المعنی مِنْ عدّة من

ص: 18


1- 1 . فقه القرآن 2/73.
2- 2 . مجمع البیان 3/9.
3- 3 . روض الجنان 5/254.
4- 4 . کنز العرفان 2/103 و 104.
5- 5 . الصافی /108 من طبع الحجری.
6- 6 . الأصفی /138 و 139.
7- 7 . الکشف و البیان 3/254.
8- 8 . فقه القرآن 2/73.
9- 9 . الکشاف 1/473 و 474.
10- 10 . جوامع الجامع 1/237.
11- 11 . أنوار التنزیل /90 من الطبع الحجری.
12- 12 . کنز الدقائق 2/350.

الأخبار...»(1).

أقول: ظهر ممّا سردناه علیک أنّ فی الآیة الشریفة احتمالَیْن:

أحدهما: اعتبارا لبلوغ و الرشد معا.

و ثانیهما: اعتبار الرشد فقط و أنّ البلوغ غایة لِلاِبتلاء.

و إذا حَصَلَ الاحتمال بطل الاستدلال فلا یمکن التمسک بالآیة الشریفة لإثبات اعتبار البلوغ و لا نفیه(2)، و لعلّ هذا هو سرّ عدم استدلال الشیخ الأعظم رحمه الله بها و اللّه العالم.

الثالث: حدیث رفع القلم عن الصبی

قد ورد هذا المضمون فی عدّة من الروایات:

منها: خبر یونس بن ظبیان قال: أُتِیَ عُمَرُ بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها، فقال علی علیه السلام : أما علمت أنّ القلم یرفع عن ثلاثة: عن الصبی حتّی یحتلم، و عن المجنون حتّی یفیق و عن النائم حتّی یستیقظ.(3)

فی سند هذه الروایة إیرادات:

1- الحسن بن محمّد بن الحسن السکونی: «روی عنه التلعکبری و سمع منه فی داره بالکوفة سنة 344 و لیس له منه الإجازة» کما فی باب من لم یرو عنهم علیهم السلام فی رجال الشیخ(4) و هو من مشایخ الصدوق فی هذه الروایة.

2- و أمّا الحضرمی: «فهو زرعة بن محمّد قال النجاشی: «أبومحمّد الحضرمی ثقة روی عن أبی عبداللّه و أبی الحسن علیهماالسلام و کان صحب سماعة و أکثر عنه و وقف»(5).

ولکن بین هذا الحضرمی و هو زرعة بن محمّد و بین الصدوق ثلاث وسائط کما یظهر من

ص: 19


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/170.
2- 2 . کما یظهر هذ الاستدلال من العقد النضید 2/417.
3- 3 . وسائل الشیعة 1/45، ح11، الباب 4 من أبواب مقدمات العبادات.
4- 4 . رجال الشیخ /468، الرقم 34.
5- 5 . رجال النجاشی /176، الرقم 466.

سند النجاشی(1) إلیه أن ابن الولید استاد الصدوق یروی عنه بواسطتین. و روایة الصدوق عن زرعة بواسطة واحدة بعید جدّا، و إن کان المراد بالحضرمی غیره فلا ندری من هو؟

3- و ابراهیم بن أبی معاویة: مهمل ابن مهمل و کلاهما فی السند.

و أمّا: سلیمان بن مهران فهو: أبومحمّد الأسدی مولاهم الأعمش الکوفی من رجال الصادق علیه السلام (2) و هو معتمَدٌ معتبرٌ جلیلٌ عظیمٌ معروف بالفضل و الثقة و الجلالة و التشیع و الاستقامة.

و العامة أیضا مُثْنُون علیه، مطبقون علی فضله و ثقته، مقرّون بجلالته مع اعترافهم بتشیعه... له ألف و ثلاثمائة حدیث. مات سنة ثمان و أربعین و مائة عن ثمان و ثمانین سنة» کما فی الرواشح السماویة(3) للمحقّق الداماد قدس سره .

4- یونس بن ظبیان: «مولی، ضعیف جدّا لایلتفت إلی ما رواه، کلّ کتبه تخلیط» کما فی النجاشی(4). و هذا الذی یروی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی القرن الثانی من الهجرة لا یتمکن من نقل واقعة من اوائل القرن الأوّل من دون واسطة.

فهذا حال سند روایة الخصال باختصارٍ.

ولکن ورد هذا المضمون مختصرا و هذه الروایة مُفَصَّلَةً فی إرشاد المفید قال: «فصلٌ: فی ذکر ماجاء من قضایاه [أی أمیرالمؤمنین] علیه السلام فی إمارة عمر بن خطاب: فمن ذلک ماجاءت به العامة و الخاصة...(5) و رووا: أنّ مجنونة علی عهد عمر فجربها رجلٌ، فقامت البینة علیها بذلک، فأمر عمر بجلدها الحد، فمُرّ بها علی أمیرالمؤمنین علیه السلام لِتُجْلَد، فقال: مابالُ مجنونة آل فلان تعتل(6)، فقیل له: أنّ رجلاً فجربها و هرب، و قامت البینة

ص: 20


1- 1 . رجال النجاشی /176، الرقم 466.
2- 2 . رجال الشیخ /206، الرقم 72.
3- 3 . کما فی الرواشح السماویة /132، الراشحة الثانیة و العشرون.
4- 4 . رجال النجاشی /448، الرقم 1210.
5- 5 . الإرشاد 1/202.
6- 6 . تعتل: تجذب جذبا عنیفا.

علیها، فأمر عمر بجلدها، فقال لهم: رُدّوها إلیه و قولوا له: أما علمتَ أنّ هذه مجنونة آل فلان، و أنّ النبیَّ صلی الله علیه و آله قال: رُفع القلمُ عن ثلاثة: عن المجنون حتّی یفیق، إنّها مغلوبة علی عقلها و نفسها، فُردّت إلی عمر، و قیل له ما قال أمیرالمؤمنین علیه السلام ، فقال: فرّج اللّه عنه، لقد کدتُ أن أهْلکَ فی جلدها. و درأ عنها الحدّ»(1).

مثل هذه القضیة المرویة فی کتب الخاصة(2) و العامة(3) لا یحتاج إلی السند لشهرتها.

و من الواضح أنّ المفید لم یذکر الاثنین الآخرین فی روایتها لأجل التلخیص و عدم وجود المصداق لهما فی القضیة.

و منها: خبر سلیمان المروزی عن الرضا علیه السلام أنّه قال فی حدیث: و إنّ الصبی لا یجری علیه القلم حتّی یبلغ.(4)

و منها: خبر أبی البختری عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی علیه السلام أنّه کان یقول فی المجنون و المعتوه الذی لا یفیق، و الصبی الذی لم یبلغ عمدهما خطأ تحمله العاقلة، و قد رفع عنهما القلم.(5)

و منها: موثقة عمار الساباطی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سألته عن الغلام متی تجب علیه الصلاة؟ فقال: إذا أتی علیه ثلاث عشرة سنة، فإن احتلم قبل ذلک فقد وجبت علیه

ص: 21


1- 1 . الإرشاد 1/204 و 203 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 28/23، ح2، الباب 8 من أبواب مقدمات الحدود.
2- 2 . المناقب 2/366، بحارالأنوار 79/88، ح6 و 30/680 نقل عن مصادر العامة.
3- 3 . أنت تجد نحوها فی مسند أحمد 1/154، سنن أبی داود 4/140، مسند أبی یعلی 1/440، سنن الدار قطنی 3/138، ح173، سنن البیهقی 8/264، سنن سعید بن منصور 2/67، المستدرک علی الصحیحین 2/59.
4- 4 . فضائل الأشهر الثلاثة /116، ح111 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 1/87، ح9، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات.
5- 5 . وسائل 29/90، ح2، الباب 36 من أبواب القصاص فی النفس.

الصلاة و جری علیه القلم، و الجاریة مثل ذلک إن أتی لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلک، فقد وجبت علیها الصلاة و جری علیها القلم.(1)

فی هذه الموثقة ثلاثة أحکام مخالفة للإجماع:

1- بلوغ الغلام بالسن هو الخامسة عشرة سنةً، أو خُروج المَنِیّ فی النوم أو الیقظة، أو نَبات الشعر الخشن فوق العانة، و قد اُدعِیَ الإجماع(2) علی السنّ.

2- بلوغ الجاریة بثلاث عشرة سنة الواردة فی الروایة مخالف للإجماع.(3)

بل و قد اعتبر صاحب الجواهر(4) تسع سنین فی بلوغها ممّا استقر علیه المذهب.

3- التساوی بین بلوغهما فی السن فهذا أیضا مخالف للإجماع.

فالأصحاب کلّهم أعرضوا عن هذه الموثقة و إعراضهم یوجب وهنها، ولکن یمکن الأخذ برفع القلم الوارد فیها لجواز التفکیک بینه و بین سنّ البلوغ الوارد فیها فی الحجیة.

و کونها «علی نسق واحد بنحو العطف و المعطوف علیه»(5) و «اندارجها فی عنوان الشاذ و النادر»(6) لا یضرّ بذلک بعد الذهاب إلی جواز التفکیک فی الحجیة.

ص: 22


1- 1 . وسائل الشیعة 1/45، ح12، الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات.
2- 2 . قال فی مفتاح الکرامة 16/32: «و یدل علی المشهور فی الذکور [خمس عشرة سنة]» الاصول الکثیرة و الإجماعات التی کادت تبلغ اثْنَتَیْ عشرة إجماعا من صریح و ظاهر و مشعر به، بل هو معلوم، و مع ذلک قد اُیّدت بالشهرات المستفیض نقلها مع العلم بها و أخبار الباب و هی بین عامیة و خاصیة». و فی الجواهر 26/16: «علی المشهور بین الأصحاب فی المقام شهرة عظیمة کادت تکون إجماعا کما اعترف بذلک فی المسالک [4/144] بل نقلها مستفیض أو متواتر کالإجماع صریحا و ظاهرا...».
3- 3 . قال فی مفتاح الکرامة 16/34: «و یدل علی بلوغ الأنثی بالتسع الإجماعات من صریح و ظاهر و هی ثمانیة معتضدة بما سمعته من الشهرات و الأخبار المستفیضة».
4- 4 . قال فی الجواهر 26/38: «علی المشهور بین الأصحاب، بل هو الذی استقر علیه المذهب».
5- 5 . کما فی العقد النضید 2/421.
6- 6 . کما فی العقد النضید 2/421.

و الحاصل: حدیث رفع القلم عن الثلاثة تُلُقِّیَ بالقبول عند الخاصة و العامة و استدل فقهاء المدرستین بها مثلاً الشیخ استدل بها مکررا فی کتابیه المبسوط(1) و الخلاف(2)، و کذا الشریف المرتضی(3) و ابن ادریس اللذان لا یعملان بالخبر الواحد إلاّ إذا کان مجمعا علیه أو علیه قرینة القطع عملا بها فی بابی الوصیة(4) و الحدود(5) و غیرهما(6).

و هذه الشهرة(7) التی عمل بها نحو ابن ادریس و غیره قدس سرهم تحصل لنا القطع بصدوره عن النبی صلی الله علیه و آله و آله علیهم السلام حتی لو لم یکن السَّنَدُ تاما فی روایاته.

هذا کلّه بالنسبة إلی أسناد حدیث رفع القلم و أما دلالتها:

دلالة حدیث رفع القلم:

القلم المرفوع عن الثلاثة یحتمل أَحَدَ الاْءَمْرَیْنِ أو کِلَیْهِما:

الأوّل: المرفوع هو قلم التکلیف و الوضع کلاهما کما علیه صاحب الجواهر.(8)

الثانی: المرفوع هو قلم المؤاخذة و العقوبة الشرعیة دنیویة کانت أو اُخرویة، و الدنیویة بلا فرق بین کونها بدنیة نحو: القصاص و الحدود و التعزیرات، أو مالیة نحو: الدیات، و قلم المؤاخذة هو فعل الشارع و هو قابل للوضع و الرفع.

ص: 23


1- 1 . المبسوط 2/282، 3/3، 4/51، 5/52 و 194، 7/68، 8/21.
2- 2 . الخلاف 2/41 و 218 و 449، 3/179 و 353، 5/176 و 324، 6/389.
3- 3 . الناصریات /282.
4- 4 . السرائر 3/207.
5- 5 . السرائر 3/324 و 325.
6- 6 . السرائر 3/451.
7- 7 . راجع لأجل تحصیلها: جواهر الفقه لابن البراج /188، غنیة النزوع /43، المعتبر 2/290 و 767، تذکرة الفقهاء 4/336، 5/12 و 367، 6/99 و 100 و 147، 7/23 و 40، 9/294، نهایة الإحکام 2/159 و 455، مختلف الشیعة 1/445، 4/333 و 337، 9/282، إیضاح الفوائد 2/50، 4/101 و 520 و 600، المهذب البارع 5/192.
8- 8 . الجواهر 32/5 و فیه: «... نصوص رفع القلم الشامل للوضعی و التکلیفی...».

و لأحد أن یَقُوْلَ: بأنّ المرفوع عن الثلاثة هو الأقلام الثالثة: التکلیف و الوضع و المؤاخذة.

ولکن ناقش الشیخ الأعظم فی دلالة الحدیث بوجوه ثلاثة:

قال: «ففیه: أوّلاً: أنّ الظاهر منه قلم المؤاخذة لا قلم جعل الأحکام و لذا بنینا - کالمشهور- علی شرعیة عبادات الصبی.

الثانی: أنّ المشهور علی الألسنة أنّ الأحکام الوضعیة لیست مختصّة بالبالغین فلا مانع من أن یکون عقده سببا لوجوب الوفاء بعد البلوغ، أو علی الولی إذا وقع بإذنه أو إجازته، کما تکونُ جنابته سببا لوجوب غسله بعد البلوغ و حرمة تمکنه من مسّ المصحف.

و ثالثا: لو سلّمنا اختصاص الأحکام حتی الوضعیة بالبالغین، لکن لا مانع من کون فعل غیر البالغ موضوعا للأحکام المجعولة فی حقِّ البالغین، فیکون الفاعل - کسائر غیر البالغین - خارجا عن ذلک إلی وقت البلوغ»(1).

نقد الاشکال الأوّل للشیخ الأعظم

ذهب الشیخ الأعظم فی أوّل إشکالاته الثلاثَة إلی أن المرفوع هو قلم المؤاخذة فقط دون الأحکام التکلیفیة و الوضعیة، لأنّ المرفوع لابدّ أن یکون ثقیلاً و لیس الثقیل إلاّ المؤاخذة و إلاّ الحکم بما هو حکم من دون مؤاخذة لیس فیه ثقل حتّی یرفع.

مضافا إلی أنّ مورده مقام الامتنان و هو یصدق فی رفع المؤاخذة لا الأحکام. و إلاّ فأیّ امتنانٍ فی رفع حکم مشروعیة عبادات الصبی و الذهاب إلی تمرینیتها مع أنّ المختار هو القول بمشروعیتها.

ولکن یرد علیه أوّلاً: الأحکام التکلیفیة أیضا ففیها ثقل و إلاّ لم یصدق علیها مادة الکُلْفة و التکلیف، مضافا إلی وجود الثقل فی کثیر من الأحکام الوضعیة أیضا من الضمانات و الدِّیات و القصاص فیصدق علی رفعهما الامتنان.

ص: 24


1- 1 . المکاسب 3/278.

و ثانیا: بالنسبة إلی مشروعیة عبادات الصبی أنّها تجتمع مع رفع الأحکام التکلیفیة الإلزامیة، بحیث یرفع الإلزام من الصبی و یبقی الاستحباب و المشروعیة الذاتیة و الأمر غیر الإلزامی، و الامتنان أیضا یقتضی بقاء المشروعیة.

فَإنْ قلتَ: إنّ الأحکام الشرعیة المجعولة بسیطة و إذا انتفی الحکم اللزومی لم یبق منه الاستحباب و المشروعیة لبساطته.

قلتُ: نعم، بساطة الأحکام صحیحة، ولکن یمکن استفادة مشروعیة عبادات الصبی من الأخبار الواردة(1) فی حق أولیائه فی أمرهم إِیّاهُ بالصلاة و هو ابنُ سِتِّ سنین أو سبع، و من المعلوم أنّ الأمر بالأمر یدل علی مطلوبیة المامور به و مشروعیته، فبهذه الأخبار یُدْفَعُ الإشکال عن مشروعیة عبادات الصبی، و الأمر موکول إلی محلّه.

و ثالثا: لا یمکن الالتزام بأنّ المرفوع هو قلم المؤاخذة و رفع العقوبة، لأنّ رفعها یعنی رفع فعلیتها مع وجود استحقاق العقوبة، و من الواضح عدم امکان استحقاق العقوبة فی الثلاثة إلاّ فی الصبی الممیّز القابل للخطاب ولکن الإجماع و الضرورة ینفیان عنه الاستحقاق.

و رابعا: لا مضی لرفع المؤاخذة فی المقام إلاّ برفع منشأ استحقاقها و هو رفع الأحکام التکلیفیة.

نقل مقالة المحقّق الایروانی و نقده:

قال قدس سره : «... لا یجدی ذلک فی صحة الاستدلال بالحدیث لرفع التأثیر عن إنشاء الصغیر، و ذلک أنّ تأثیر الانشاء فی حصول عنوان المنشأ - کعنوان النکاح و البیع و الهبة - تأثیر تکوینی فی أمر اعتباری، فیکون کتأثیر سیفه فی القطع و قلمه فی الکتابة و هذا لا یرفعه حدیث الرفع. و أمّا رفع الآثار المترتبة شرعا علی العناوین المتولدة من إنشائه علی أن لا یکون البیع الحاصل بانشائه محکوما بأحکام البیع، فذلک فی البشاعة یساوق القول بعدم ترتیب أحکام الأموات علی من مات بسیفه أو أحکام المصحف علی ما کتبه بقلمه و

ص: 25


1- 1 . راجع وسائل الشیعة 4/18، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض من کتاب الصلاة.

هکذا. و معلوم بالقطع أن حدیث الرفع لا یرفع إلاّ أحکاما مترتبة بلا واسطة علی فعل الصغیر، لا أحکاما مترتبة حتّی مع الواسطة»(1).

و فیه: أوّلاً: لا یظهر لنا مراده قدس سره من «أنّ تأثیر الانشاء فی المنشأ تأثیر تکوینی فی أمر اعتباری»، بعد مغایرة عالَمی التکوین و الاعتبار فی الوجود.

و العجب من قَوْلِهِ: «أنّ الإنشانیات تتحقق من خلال الإنشاء تکوینیّا»(2).

و ثانیا: تنظیر انشاء الصبی بقتله بالسیف أو کتابته المصحف أو غَیْرِهِما من الامور التکوینیة لاوَجْهَ له؛ لأنّ حدوث المعاملات بالمعنی الأعم بالإنشاء یحتاج إلی إمضاء شرعی من الشارع و هو ینفی ذلک بالنسبة إلی الثلاثة.

و ثالثا: إذا تمکن الشارع من الرفع بالنسبة إلی الثلاثة و أحکامهم فما الفرق بین أحکام بلا واسطة و مع الواسطة؟! و حیث أنّ الاعتبار سهل و بید المعتبِر و یکفی فی صحتها عدم اللغویة فما الفرق بینهما؟!

اشکال المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله علی الشیخ الأعظم قدس سره و نقده:

قال قدس سره : «و یرد علیه: أنّ العقوبة و المؤاخذة - کالمثوبة و الاُجرة من الاُمور التی لاصلة لها بعالَم الجعل بوجه، بل هی مترتبة علی الجعل ترتب الأثر علی ذی الأثر و علیه فلا معنی لتعلق الرفع بما لم یتعلق به الجعل»(3).

و فیه: العقاب - و کذا الثواب - یمکن أن یکون أمرا مجعولاً کما هو کذلک فی الاُمور الاعتباریة التی منها الشرعیات، فإذا کان أمرا مجعولاً یصح العفو عن العقوبة و التفضل و الإضعاف فی المثوبة، فلا یرد هذا الاشکال علی الشیخ الأعظم کما فی العقد النضید(4).

ص: 26


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/168.
2- 2 . العقد النضید 2/430.
3- 3 . مصباح الفقاهة 3/250.
4- 4 . راجع العقد النضید 2/424.

نقد اشکاله الثانی:

ذهب الشیخ الأعظم إلی التسالم مع القوم و قبول أنّ القلم الوارد فی حدیث یشمل الأحکام ولکنّه مختص بالأحکام التکلیفیة لا الوضعیة منها لأنّ المشهور یذهبون إلی ثبوت الأحکام الوضعیة فی حقّ غیر البالغین نحو الضمانات و الأحداث مثل الجنابة و مسّ المیت و الأخباث کنجاسته.

و إذا لم یرفع الأحکام الوضیعة عن الصبی فلا مانع من أن یکون عقده سببا لوجوب الوفاء به علیه بعد بلوغه، أو لوجوب الوفاء به علی ولیّه إذا وقع العقد بإذنه أو إجازته.

و یرد علیه: عدم ثبوت نسبة الشهرة فی ثبوت الأحکام الوضعیة إلی غَیْرِ البالغین کما اعترف به الشیخ الأعظم نَفْسُهُ فی أوّل کلامه: «المشهور... بطلان عقد الصبی»(1) و قد ادُّعِیَ علیه الإجماع فی الغنیة(2) و التذکرة(3) و فی کنز العرفان(4) نسبه إلی الأصحاب، و کذا یرد الإجماع فی کلام المتأخرین نحو: الشیخ جعفر(5) و السیّد العاملی(6) و صاحب الجواهر(7) و الفاضل المراغی(8) رحمهم الله کما مرّ.

و انتساب الشهرة إلی طرفی المسألة لا یَتَناسَبُ مع مقامه العلمی.

و تخصیص نفوذ بعض الموارد نحو: الوصیة و التدبیر فی حقّ الصبی لا یثبت جریان جمیع الأحکام الوضعیة فی حقّه، و المشهور هو الْبِناءُ علی فساد عقوده و

ص: 27


1- 1 . المکاسب 3/275.
2- 2 . الغنیة /210.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 14/185.
4- 4 . کنز العرفان 2/102.
5- 5 . شرح القواعد 2/39.
6- 6 . مفتاح الکرامة 12/547.
7- 7 . الجواهر 22/260.
8- 8 . العناوین 2/674.

إیقاعاته إلاّ ما خرج بالدلیل کما یظهر من المحقّق الاصفهانی(1) قدس سره .

ولکن اعترض المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله علی الشیخ الأعظم بقوله: «ولکنّه یناقض ما قد بنی علیه فی اصوله من أنّ الأحکام الوضعیة منتزعة من الأحکام التکلیفیة، و إذا فرضنا انتفاء الحکم التکلیفی عن الصبی فلا منشأ - هنا - لانتزاع الحکم الوضعی»(2)

و قد سَبَقَهُ فی هذا الاشکال اُستاذه الأصفهانی حیث یقول: «إنّ الغرض من انتزاع الوضع من التکلیف، إن کان حقیقة انتزاع مفهوم یقابل التکلیف - کما هو واضح - فمن البیّن أنّ فعلیة الأمر الانتزاعی بفعلیة منشأ انتزاعه، فلا یعقل ضمان فعلی مع منشأ تقدیری، و إن کان الغرض أنّه لا معنی للوضع إلاّ نفس الحکم التکلیفی التعلیقی فهذه دعوی العینیة، لا دعوی الانتزاع و الاِثنینیة فی المفهوم...»(3).

و هذا لا یَرِدُ علی الشیخ الأعظم قدس سره لأنّه یری انتزاع الأحکام الوضعیة من الأحکام التکلیفیة ولو لم تکن فعلیة و منجزة، و حیث یمکن عنده تصوّر تکلیف غیر منجز فی حقِّ الصبی مثلاً و بأنّه معلَّقا علی بلوغه، فینتزع الحکم الوضعی منه و قد صرح بهذا البیان فی فرائده و قال: «و لم یدَّع أحد إرجاع الحکم الوضعی إلی التکلیف الفعلی المنجَّز حال استناد الحکم الوضعی إلی الشخص حتّی یدفع ذلک بما ذکره بعض من غفل عن مراد النافین(4): من أنّه قد یتحقّق الحکم الوضعی فی مورد غیرقابل للحکم التکلیفی کالصبی و النائم و شبههما»(5).

و المحقّق الاصفهانی رحمه الله بصیر بهذه المقالة و لذا قال فی أوّل کلامه الماضی: «قد اکتفی قدس سره کما فی اصوله بانتزاع الوضع من الحکم المعلّق علی البلوغ و قال بعدم

ص: 28


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/14.
2- 2 . مصباح الفقاهة 3/251.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/14.
4- 4 . إشارات الاصول /7، للحاجی محمّدابراهیم الکلباسی؛.
5- 5 . فرائد الاصول 3/126.

اختصاصه بالحکم الفعلی المنجز»(1).

فلم یرد هذا النقد علیه ولکن یرد علی المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله .

ولکن یمکن ردّ نقد الاصفهانی علی الشیخ الأعظم بأنّه قد خلط بین منشأ الانتزاع الفلسفی و الاصولی و مقاله بالنسبة إلی منشأ الانتزاع الفلسفی تام، ولکن منشأ الانتزاع الاصولی لیس فی الواقع منشأ انتزاع بل یکون مصححا للانتزاع و لذا یمکن أن یأخذ المصحح له من الحکم التکلیفی الذی لیس له الفعلیة و التنجیز نحو تصحیح حکم الضمان الوضعی لحکم الشارع بوجوب دفع الغرامة من الصبی بعد بلوغه، و هذا المقدار یصحح الانتزاع الاصولی و منشائه و یظهر هذا الرد من العقد النضید.(2)

نقد اشکاله الثالث:

ذهب الشیخ الأعظم؛ فی هذا الاشکال إلی التسالم الکامل مع القوم بأنّ حدیث الرفع یشمل الأحکام التکلیفیة و الوضعیة معا ولکن ما المانع من تأثیر عقد الصبی بالنسبة إلی غیره الکبیر الذی عقد مع الصبی من وجوب وفائه بالعقد و حرمة نقضه من جانبه و أمّا بالنسبة إلی الصبی بعد بلوغه أثّر العقد أثره و لزم علیه الوفاء.

و بالجملة: نظره فی هذا الاشکال إلی جواز التفکیک بین طرفی العقد فی لزوم الوفاء به بالنسبة إلی الصبی یأتی اللزوم بعد بلوغه و أمّا بالنسبة إلی الکبیر الذی عقد معه فیأتی اللزوم بعد عقده، نظیر ذلک مثل العقد بین الفضول و الأصیل، بحیث أن العقد و کما أنّ عقد الفضولی لا یترتب علیه الملکیة و کذلک عقد الصبی و الملکیة فیه منوط ببلوغه و کذلک وجوب الوفاء به، هذا توضیح الاشکال الثالث له قدس سره .

و یرد علیه: أوّلاً: بعد تَسْلِیْمِهِ بأنّ الأحکام الوضعیة لا تجری فی حقِّ الصبی، فما الفرق بین تأثیر إنشائه علی نحو الجزئیة - نحو لزوم الوفاء من جانب الکبیر- و عدم تأثیره علی نحو الکلّیّة التامة -نحو لزوم الوفاء من الجانبین -، کما أشار إلیه المحقّق

ص: 29


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/14.
2- 2 . العقد النضید 2/427.

الإیروانی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب بقوله: «بعد الاعتراف باختصاص الأحکام الوضعیة بالبالغین لا یسعه الالتزام بأنّ إنشاء الصبی جزء المؤثّر فإنه یناقض ذلک، إذ لا فرق بین الالتزام بجزء المؤثر أو تمام المؤثر فی أنّه التزام بعموم الحکم الوضعی لأفعال الصبی»(1).

و ثانیا: کیف یمکن التََّفْکِیْکُ بین حکمی التکلیفی و الوضعی و بین طرفی العقد فی الحکم التکلیفی، و بین لزوم الوفاء بالعقد من طرف البالغ الکبیر و عدم حصول الملکیة له؟! و لعل إلی ما ذکرنا أشار المحقّق النائینی قدس سره بقوله: «عدم إمکان تفکیک الآثار بین البالغ و غیره فی ما کان ذات الفعل موضوعا للأثر، بل فی ما کان الأثر مترتبا علی الفعل القصدی أیضا، فإنّه لو أفاد عقد الصبی الملکیة فلا یمکن أن لا یکون مؤثرا فعلاً و یصیر ذا أثر بعد البلوغ، أنّ کون فعله موضوعا للأحکام المجعولة فی حقِّ البالغین فرع أن یکون فعله مؤثرا و هذا أوّل الکلام، لأنّه یحتمل أن یکون وجوده کعدمه کما فی عقد المجنون و مثله، فکیف یمکن أن یکون هذا الذی صدر من مثل المجنون موضوعا لحکم البالغ العاقل؟!»(2).

أقول: قوله: «إنّ کون فعله موضوعا» إلخ یمکن أن یشیر إلی الإشکال الأوّل.

فذلکة القول فی حدیث الرفع

المراد بالقلم فیه هو مطلق قلم التشریع بما فیه من الأحکام التکلیفیة و الوضعیة و إذا ارتفع التکلیف، یرتفع المؤاخذة و العقاب طبعا. کما یظهر ذلک من تسویة الصبی و تردیفه بالمجنون و النائم. و عدم وجود مانع من هذا الاطلاق حیث ناقشنا الإشکالات الواردة من الشیخ الأعظم قدس سره .

نعم، لا بأس بتخصیص هذا الإطلاق کما فی غیره من نفوذ حکمه بالنسبة الوصیة و التدبیر و العتق و إحرامه و اسلامه و عباداته کما مرّ عن التذکرة(3) و جنابته و نجاسته و

ص: 30


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/168.
2- 2 . منیة الطالب 1/360.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 14/185.

ترتب بعض التعزیرات بالنسبة إلیه و بعض المجانین، ففی کلِّ مورد ثبت التخصیص فهو و إلاّ نتمسک باطلاق حدیث الرفع لنفی التکلیف و الوضع و المؤاخذة عنه و عن مثلیه.

الرابع: عدم جواز أمر الصبی

و المراد به عدم نفوذ تصرفاته بالبیع و الشراء و غیرهما من التصرفات، و إلغاء هذه التصرفات من الأثر و النفوذ و الصحة. کما قال السیّد العاملی: «و المراد بجواز أمره تصرّفه بالبیع و الشراء و نحوهما... عدم جواز أمره یعنی تصرّفه بجمیع أنواع التصرفات...»(1)

و قال الفاضل المراغی: «إنّ جواز الأمر عبارة عن النفوذ و الصحة...»(2).

و قد استدل بهذا الدلیل کلٌّ من أصحاب الحدائق(3) و الریاض(4) و المستند(5) و المفتاح(6) و العناوین(7) و الجواهر(8) و المکاسب(9).

و مستندهم عدّة من الروایات نَذْکُرُ ذَرْوا منها فیما یَلی مع بیانِ مَدی دلالتها المُدَّعاةِ:

فمنها: صحیحة عبداللّه بن سنان عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: سأله أبی - و أنا حاضر- عن الیتیم متی یجوز أمره؟ قال: حتّی یبلغ أشدّه. قال: و ما أشدّه؟ قال: احتلامه، قال: قلت: قد یکون الغلام ابن ثَمانِیْ عشرة سنة أو أقل أو أکثر و لم یحتلم، قال: إذا بلغ و کتب علیه الشئ جاز أمره، إلاّ أن یکون سفیها أو ضعیفا.(10)

ص: 31


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/548.
2- 2 . العناوین 2/676.
3- 3 . حدائق 18/369.
4- 4 . ریاض المسائل 8/217.
5- 5 . مستند الشیعة 14/263.
6- 6 . مفتاح الکرامة 12/548.
7- 7 . العناوین 2/675.
8- 8 . الجواهر 22/261.
9- 9 . المکاسب 3/276.
10- 10 . وسائل الشیعة 18/412، ح5، الباب 2 من أبواب کتاب الحجر.

و أنت تری بأنّه علیه السلام علّق جواز أمر الیتیم و نفوذ تصرفاته ببلوغه. و قد ورد تفسیر «أشدّه»(1) فی موثقة عبداللّه بن سنان(2) بِالاِحْتِلامِ و کذا فی معتبرة هشام بن سالم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: انقطاع یتم الیتیم الاحتلام و هو أشدّه، الحدیث.(3)

و منها: خبر حمران عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث قال: إنّ الجاریة لیست مثل الغلام، إنّ الجاریة إذا تزوّجت و دخل بها و لها تسع سنین ذهب عنها الیتم و دفع إلیها مالها و جاز أمرها فی الشراء و البیع و اُقیمت علیها الحدود التامة و أخذت لها و بها، قال: و الغلام لا یجوز أمره فی الشراء و البیع و لا یخرج من الیتم حتی یبلغ خمس عشرة سنة أو یحتلم أو یشعر أو ینبت قبل ذلک.(4)

الروایة ضعیفة الإسناد بعبدالعزیز بن عبداللّه العبدی لتصریح النجاشی(5) بِضَعْفِهِ و أمّا غیره من رواتها فهم معتبرون عندنا. و دلالتها واضحة علی أن نفوذ أمره منوط بالبلوغ.

و منها: مرسلة الصدوق قال: قال أبوعبداللّه علیه السلام ءإذا بلغت الجاریة تسع سنین دفع إلیها مالها و جاز أمرها فی مالها و اُقیمت الحدود التامة لها و علیها.(6)

ولکن الشیخ الأعظم استشکل فی دلالة هذه الروایات بأن جواز أمره یعنی جواز أمره بالاستقلال، لا أنّه مسلوب العبارة بالکلّیّة و الشاهد علیه استثناء السفیه و من المعلوم أنّ السفیه لیس مسلوب العبارة بل هو محجور عن الاستقلال فی تصرفاته المالیة و ظهور الاستثناء فی المتصل لا المنقطع، و الصبی الذی لم یبلغ کذلک لیس مسلوب العبارة بالکلیة بل لایجوز و لاینفذ تصرفاته المستقلة و هذا نص عبارته بعد توضیحه:

ص: 32


1- 1 . سورة الأحقاف /15.
2- 2 . وسائل الشیعة 18/409، الباب 1 من أبواب کتاب الحجر، و 19/363، ح8، الباب 44 من أبواب الوصایا.
3- 3 . وسائل الشیعة 19/363، ح9.
4- 4 . وسائل الشیعة 18/410، ح1، الباب 2 من أبواب کتاب الحجر.
5- 5 . رجال النجاشی /244، الرقم 641.
6- 6 . وسائل الشیعة 18/411، ح3.

قال: «لکن الانصاف أن جواز الأمر فی هذه الروایات ظاهر فی استقلاله فی التصرف، لأنّ الجواز مرادف للمضیّ، فلا ینافی عدمه ثبوت الوقوف علی الإجازة، کما یقال: بیع الفضولی غیر ماض، بل موقوف.

و یشهد له الاستثناء فی بعض تلک الأخبار بقوله: «إلاّ أن یکون سفیها»، فلا دلالة لها حینئذ علی سلب عبارته، و أنّه إذا ساوم(1) ولیّه متاعا، و عین له قیمته و أمر الصبی بمجرد إیقاع العقد مع الطرف الآخر کان باطلاً، و کذا لو أوقع إیجاب النکاح أو قبوله لغیره بإذن ولیه»(2).

الخامس: النصوص الدالة علی أنّ عمد الصبی و خَطَؤُهُ

(3) سِیّانِ

منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: عمد الصبی و خطأه واحد.(4)

و أنت تری بأنّها عامة تشمل الجنایات و غیرها و لم تکن مقیدة بخصوص الجنایات و لذا استدل بها الشیخ(5) علی ارتفاع الکفارة عن المحرّمات الصادرة من الصبی المُحْرِم و تبعه ابن ادریس.(6)

و إذا کان عمد الصبی و خَطَؤُهُ واحدا، یعنی أنَّ عمدَ خطأٌ، و إذا کان کذلک فیکون قصده لغوا شرعا و من المعلوم عدم تحقق الإنشاء من دون القصد، بل قوامها به.

فهذه الصحیحة تلغی جمیع عقود الصبی و إنشاءاته لعدم تحقق صدور القصد منه لأنّ عمده و خطأ واحد و من الواضح أنّ فی الخطأ لم یکن قصدا. فعقد الصبی باطل حتّی

ص: 33


1- 1 . المساومة: هی المجاذبة و المقاولة بین البائع و المشتری علی السلعة و فصل ثمنها.
2- 2 . المکاسب 3/277.
3- 3 . هذا هو الصحیح و أمّا «خطأه» کما فی الرسم القدیم خَطَأٌ.
4- 4 . وسائل الشیعة 29/400، ح2، الباب 11 من أبواب العاقلة.
5- 5 . المبسوط 1/329.
6- 6 . السرائر 1/636 و 637.

إذا کان بإذن ولیّه أو إنشائه بإذن لِولی.(1)

ثم فی دلالة هذه الصحیحة تتمة و مناقشة تأتی بَعْدُ.

و منها: معتبرة اسحاق بن عمار عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام ، أنّ علیا علیه السلام کان یقول: عمد الصبیان خطأ تحمله (یُحمل علی) العاقلة.(2)

هذه المعتبرة مقیدة بالجنایة لتحمل العاقلة، ولکن لا تقیّد صحیحة محمّد بن مسلم الماضیة لأنّ کِلَیْهِما مُثْبَتَتانِ.

و منها: روایة الجعفریات بإسناده عن علی علیه السلام أنّه قال: لیس بین الصبیان قصاص، عمدهم خطأ، یکون فیه العقل.(3)

و سندها ضعیف بموسی بن اسماعیل لِمَجْهُوْلِیَّتِهِ.

و منها: مرسلة القاضی نعمان المصری عن علی علیه السلام أنّه قال: ما قَتَلَ المجنون المغلوب علی عقله و الصبی، فعمدهما خطأ علی عاقلتهما.(4)

و منها: مرسلة اُخری له عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال: و ما جنی الصبیُ و المجنون فعلی عاقلتهما.(5)

و منها: خبر أبی البختری(6) الماضی فی ذکر أحادیث رفع القلم.

و رفع القلم الوارد فی ذیل هذه الروایة لیست جملة مستأنفه بل هی مرتبطة بکون

ص: 34


1- 1 . کما یظهر ذلک من شیخنا الاستاذ قدس سره فی ارشاده 2/214 تبعا للشیخ الأعظم فی مکاسبه 3/282 حیث یقول: «و حینئذ فکلّ حکم شرعیٍّ تعلّق بالأفعال التی یعتبر فی ترتّب الحکم الشرعی علیها القصد - بحیث لا عبرة بها إذا وقعت بغیر القصد - فما یصدر منها عن الصبی قصدا بمنزلة الصادر عن غیره بلا قصد...».
2- 2 . وسائل الشیعة 29/400، ح3.
3- 3 . الجعفریات /124 و نحوها فی دعائم الاسلام 2/417، ح1453، و نقل عنهما فی مستدرک الوسائل 18/242، ح2، الباب 33 من أبواب القصاص.
4- 4 . دعائم الاسلام 2/417، ح1454، و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 18/243، ذیل ح3.
5- 5 . دعائم الاسلام 2/417، ح1454، و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 18/243، ح4.
6- 6 . وسائل الشیعة 29/90، ح2، الباب 36 من أبواب القصاص فی النفس.

الدیة علی العاقلة:

إمّا علی وجه العلّیة: بأنّ رفع القلم علّةٌ لوجوب الدیة علی العاقلة، لأنّ برفع القلم عن المجنون و الصبی یرفع المؤاخذة الاُخرویة و الدنیویة - و هی إمّا القصاص و إمّا الدیة - عنهما، و حیث لا یهدر دم امری مسلم تحمله العاقلة.

و إمّا علی وجه المعلولیة: بأنّ رفع القلم یکون معلولاً لتنزیل الشارع عمد المجنون و الصبی منزلة خطأهما و یکون قصدهما کلا قصد فحینئذ ارتفعت عنهما المؤاخذة الاُخرویة و الدنیویة.

و هذان الوجهان یشترکان فی ما نحن بصدده من عدم تحقق القصد من الصبی و حیث أنّ الإنشاء لایتحقق من دون قصد فلایتحقق منه إنشاء و لا عقد و لا إیقاع.

و یفترقان بالنسبة إلی الضمان بالإتلاف فعلی العلّیة لیس علیهما الضمان، لأنّ رفع القلم علّة لرفع المؤاخذات الاُخرویة و الدنیویة و منها الضمانات.

و أمّا علی المعلولیة، فتجری الضمانات لأنّ الشارع نزّل عمد الصبی منزلة خَطَئِهِ و حیث أن الضمانات تجری فی فرض الخطأ أیضا کما فی فرض العمد فلا یرفعه حدیث الرفع، لأنّ المعلول تابعٌ لعلّته سعة و ضیقا و حیث أن الضمان بالإتلاف یکون خارجا عن العلّة فهو خارج عن المعلول أیضا.

و هذا الافتراق لا یضرّ فی ما نحن بصدده کما بیّنه الشیخ الأعظم الأنصاری رحمه الله بقوله: «فإنّ ذکر رفع القلم» فی الذیل لیس له وجه ارتباط إلاّ بأن تکون معلولة لقوله: «عمدهما خطأ» یعنی أنّه لما کان قصدهما بمنزلة العدم فی نظر الشارع و فی الواقع رفع القلم عنهما. و لا یخفی أنّ ارتباطهما بالکلام علی وجه العلیة أو المعلولیة للحکم المذکور فی الروایة...»(1).

اعترض علیه المحقّق الاصفهانی قدس سره و ذهب إلی بطلان العلّیّة و المعلولیة فی هذا الذیل بجمیع وجوه العقلیة المتصورة بتفصیل مذکور فی کلامه ثم اختار فی آخر کلامه

ص: 35


1- 1 . المکاسب 3/283.

فی وجه ارتباط هذا الذیل بما قبله بأنّ: «تنزیل العمد منزلة الخطأ یقتضی بالمطابقة اثبات حکم الخطأ و هی الدیة علی العاقلة و یقتضی بالالتزام نفی حکم العمد و شبهه و هو جعل القصاص و الدیة فی مالهما، فحیث قال علیه السلام : «عمدهما خطأ»، فلذا أراد بیان ما یقتضیه بالمطابقة فقال علیه السلام : «تحمله العاقلة»، و أراد بیان ما یقتضیه بالالتزام فقال علیه السلام : «و قد رفع عنهما القلم» علی الترتیب بین الدلاتین»(1).

و تبعه فی نفی علیّة الذیل لما قبله و کذا المعلولیة المحققان الایروانی(2) و السیّد الخوئی رحمهماالله ، و استشکل الأخیر علی الشیخ الأعظم بقوله: «لا وجه لجعل رفع القلم علّة لکون الدیة علی العاقلة، لعدم العلیّة بینهما لا شرعا و لا عرفا و لا عقلاً، بل نسبة أحدهما إلی الآخر کوضع الحجر فی جنب الإنسان، و العجب من المصنف [الشیخ الاعظم] فإنّه قد التزم بثبوت العلّیّة و المعلولیة بین رفع القلم عن الصبی و بین ثبوت الدیة علی العاقلة، ولکن لم یستوضح المناسبة و السنخیة بینهما، غایة الأمر أنّه ثبت فی الشریعة المقدسة أنّ دم المسلم لا یذهب هدرا، و من الظاهر أنّ هذا الحکم مع مادلّ علی أنّ عمد الصبی خطأ یلازم ثبوت دیة الجنایة الصادرة من الصبی علی عاقلته.

و الصحیح أنّه لا ملازمة بینهما أیضا، لأنّ الحکمین المذکورین لا یدلاّن علی ثبوت الدیة علی خصوص العاقلة إذ یمکن أن تکون الدیة علی جمیع المسلمین أو من بیت المال أو غیر ذلک، کما أنّه لا وجه لجعل رفع القلم معلولاً لقوله علیه السلام : «عمدهما خطأ»، فإنّ رفع القلم مقوم لتنزیلِ العمد بمنزلة الخطأ لا أنّه معلول له»(3).

أقول: العلّیّة فی الاصول أعم من العلّیّة العقلیة و الشرعیة و العرفیة مثلاً یقال: «لا تشرب الخمر لأنّه مسکر و کلّ مسکرٍ حرام» فصارت المسکریة علّة لحرمة شرب الخمر.

ثم العلیة العقلیة فی الذیل لما قبله لا تَتُمُّ، لعدمها بین رفع القلم و سقوط القصاص و الدیة.

ص: 36


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/22.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/171.
3- 3 . مصباح الفقاهة 3/257.

و کذا العلّیّة الشرعیة، لعدم جعل الشارع العلّیّة لرفع القلم بالنسبة إلی عدم القصاص والدیة.

ولکن العلّیّة العرفیة و الاصولیة یمکن تصویرُهُما بأنّ الصبی إذا قتل شخصا لا یقتص منه و لا تتعلق الدیة بأمواله، لانّهما من مصادیق المؤاخذة و قلم المؤاخذة مرفوع عنه.

فحینئذ یمکن تصویر العلیة بالنسبة إلی الذیل خلافا للأعلام قدس سرهم و تبعا للعقد النضید.(1)

ثم المرفوع بقوله علیه السلام «رفع عنهما القلم» هو مطلق المؤاخذة و لایعقل تصویر الدلالة الالتزامیة فیه - لأنّ المدلول الالتزامی هو المؤاخذة الخاصة - أعنی ثبوت القصاص والدیة - لا المؤاخذة المطلقة، و المرفوع فی الذیل هو المؤاخذة المطلقة فلا یمکن حملها علی المقیدة إلاّ علی نحو العلّیّة العرفیة الاصولیة المدعاة فی کلام الشیخ الأعظم و بهذا الأخیر یظهر المناقشة فی کلام المحقّق الاصفهانی رحمه الله .(2)

أخذ الصبی باتلافه مال الغیر

قال الشیخ الأعظم قدس سره : «ثم إنّ مقتضی عموم هذه الفقرة [و قد رفع عنهما القلم] - بناءً علی کونّها علّة للحکم عدم مؤاخذتها بالإتلاف الحاصل منهما، کما هو ظاهر المحکی عن بعض إلاّ أن یلتزم بخروج ذلک من عموم رفع القلم و لا یخلو عن بعد»(3).

و اعترض علیه المحقّق الإیروانی بقوله: «لا یخفی ما فیه، فإنّه مع القرینة المتصلة بالکلام علی قصر المرفوع بقلم العمد و أنّ المرفوع أحکام اُخذ فی موضوعها العمد کیف یبقی لهذه الفقرة عموم بل یتعیّن أن یکون المرفوعُ بهذه الفقرة أحکاما اُخذ فی موضوعها العمد دون أحکام اُخذ فی موضوعها الخطأ، أو أحکام هی أعمّ من العمد و الخطأ - کالضمانات - فإنّ اطلاق أدلة تلک الأحکام یکون محفوظا علی حاله بلا دلیل حاکم

ص: 37


1- 1 . العقد النضید 2/254.
2- 2 . راجع العقد النضید 2/255.
3- 3 . المکاسب 3/283.

علیه.

بل أقول: هذا القصر الوارد علی هذه الفقرة بالقرینة المتصلة فی هذه الروایة یوجب سقوط سائر الروایات المشتملة علی رفع الحکم عن الصبی و المجنون عن العموم و الشمول لأحکام مختصّة بعنوان الخطأ أو عامّة لکلِّ من العمد و الخطأ»(1).

و أجاب عن الاعتراض الاُستاذ المحقّق - مدظله - أنّ الظاهر منه قدس سره اختصاص رفع القلم بالاُمور القصدیة المأخوذة فیها العمد، بالفرق بین أن یکون علّة أو معلولاً، و علی هذا بناءً علی العلّیّة، صارت ذکرها لغوا و لم تفد زائدا علی المعلول شیئا و یسقط القاعدة الدارجة أنّ العلّة، تعمّم و تخصّص هذا أوّلاً.

و ثانیا: علی فرض احتفاف خبر أبی البختری بالقرینة المانعة من إطلاق ذیله - أی رفع القلم - ولکن لایوجب نفی إطلاق غیرها من الروایات نحو صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: عمد الصبی و خَطَؤُهُ واحد(2)، و یأتی الکلام حولها. و کذا لا یوجب نفی إطلاق غیرها من روایات رفع القلم الماضیة لأنّهما مُثبتتان و لیستا بمتنافَیَتَیْنِ و مُتَخالِفَتَیْنِ و کذلک لا یثبت أنّ الحکم فیهما علی نحو صرف الوجود و أن یکون واحدا.

و بالجملة: علی فرض تقیید خبر أبی البختری بالقرینة، فغیرها من روایات عمد الصبی و رفع القلم مطلقة فیؤخذ باطلاقها.(3)

هذا، و قال المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله فی کیفیة توجّه الضمانات إلی الصبی مع رفع القلم عنه: «إنّ المراد من دلیل رفع القلم عن الصبی، إنّما هو رفع الأحکام الإلزامیة عنه منذ نعومة أظفاره إلی حدّ بلوغه، و هذا لا ینافی توجّه تلک الأحکام علیه بعد زمان البلوغ، و قد تقدّم أنّ فعل الصبی قد یکون موضوعا لتوجّه الأحکام الإلزامیة علیه بعد بلوغه»(4).

ص: 38


1- 1 . حاشیته علی المکاسب 2/172.
2- 2 . وسائل الشیعة 29/400، ح2.
3- 3 . العقد النضید 2/460 و 459.
4- 4 . مصباح الفقاهة 3/262.

ولکن یرد علیه: أوّلاً: رفع القلم لا یمکن أن یشمل إتلاف الصبی، لأنّه امتنانی، و رفع الضمان عن الصبی خلاف الامتنان علی المالک فلا یشمله رفع القلم و هذا الإشکال حلیٌّ.

و ثانیا: هذا السیّد المحقّق الجلیل ذهب إلی عدم ثبوت الخمس فی مال الصبی مستدلاّ برفع القلم بدلیل أنّ الرفع یشمل الأحکام الوضعیة و التکلیفیة، و الخمس من الوضعیات فیرتفع برفع القلم، ثم یَرِدُ علیه بأنّ الضمان أیضا من الوضعیات فیرتفع برفع القلم علی قوله و مبناه، فکیف یذهب إلی ثبوت الضمان و یختص رفع القلم بالأحکام الإلزامیة دون الوضعیات هنا. و هذا نَقْضٌ علیه قدس سره .

و الإیرادان للاستاذ المحقّق(1) - مدظله - .

و الحاصل: الضمان ثابت علی الصبی بإتلافه مال الغیر و لا یرفعه رفع القلم، لأنّ فی الرفع خلاف الامتنان، ولکن توجّه خطاب التکلیف بالأداء یکون بعد بلوغه.

ثم هل یمکن الأخذ بإطلاق عبارة «عمد الصبی و خَطَؤُهُ واحد»؟

الواردة فی صحیحة محمّد بن مسلم(2) الماضیة أم لا؟ ذهب القوم إلی عدم إمکان الأخذ بهذا الاطلاق و کلّ واحد منهم یستند إلی دلیل خاص:

مستند المحقّق الحائری قدس سره علی عدم الاطلاق و اختصاص الصحیحة بالجنایات

قال: «أوّلاً: إنّ الظاهر منه تنزیل العمد منزلة الخطأ و تشبیهه به فی الحکم، لا مجرد سلب حکم العمد و إلاّ لم یکن وجه لذکر الخطاء، بل کان ینبغی أن یقال: عمده کالعدم، فلابدّ أن یکون مصبّ هذه القضیة عملاً کان لعمده حکم و لخطائه حکم، فیحکم بأنّ عمده من الصبی بحکم الخطاء من غیره، و هو کما فی باب الجنایات فلا مساس له بالمعاملات و لا دخل له بمسألة سلب قصده و جعله کلا قصد مطلقا.

و ثانیا: الظاهر منه ما إذا کان عنوان العمل محفوظا مع کلِّ من العمد و الخطأ فلا

ص: 39


1- 1 . راجع العقد النضید 2/458.
2- 2 . وسائل الشیعة 29/400، ح2.

یصح إجراؤه فی عمل کان عنوانه متقوّما بالقصد و مع الحظأ یرتفع موضوعه فلا یتصور فی موضوعه الخطاء، و الأوّل کعنوان القتل، و الثانی کعنوان العقد و الإیقاع.

و بالجملة: فیختصّ الخبر بباب الجنایات...»(1).

و اعترض علیه تلمیذه المحقّق السیّدُ الخمینی رحمه الله و قال فی ردّ اشکاله الأوّل: «إنّ الأظهر فی مثل هذا التعبیر إرادة سلب الإثر عن العمد کما یقال: «فلان قوله و عدم قوله سواء» یراد أنّه لا یترتب علی قوله أثر، ولو منع هذا الظهور فلا أقل من اطلاقه لکلا الموردین - أی العمد و الخطأ - فلا وجه لاختصاصه بما ادعی»(2) - أی عمد الصبی فی باب الجنایات فقط - .

و قال فی ردّ اشکاله الثانی: «ففیه: ما لا یخفی، لأنّ الظاهر من قوله علیه السلام «عمده خطأ» أم «عمد و خطأه واحد»، أنّ کلّ ما صدر منه عمدا خطأٌ تنزیلاً، فالعقد الصادر منه علی قسمین: قسم صدر عمدا و قسم خطأً، کمن أراد تزویج فاطمة بزید فأخطأ و قال: زوّجت سکینة عَمْرا، أو أراد إجارة ملک فأنشأ بیعه خطأً، فکما أنّ الإنشاءَ الْخَطَئِیَّ لا یتریب علیه أثر فکذلک العمدی منه، فکلّ ما صدر منه و أمکن تقسیمه إلی العمد و الخطأ کان عمده بمنزلته، و الاختصاص بالأفعال الذی ذکرها بلا مخصص...»(3).

ثم اختار هو وجه عدم الاطلاق فی المقام بقوله: «ورود جمیع الروایات المتقدمة و غیرها الواردة فی المجنون و الأعمی فی مورد الجنایة و کون الحکم فیها معهودا یوهن الاطلاق، لقوة احتمال إتکال المتکلّم علی تلک المعهودیة فلم یذکر القید»(4).

دلیل المحقّق النائینی علی عدم الاطلاق

قال: «و الانصاف عدم دلالته علی حجره من مطلق الأفعال القصدیة و ذلک:

[1]: لتذلیل هذه الجملة فی بعض الأخبار بکون دیته علی عاقلته الموجب

ص: 40


1- 1 . کتاب البیع 1/209 و 208، لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی.
2- 2 . کتاب البیع 2/27.
3- 3 . کتاب البیع 2/26.
4- 4 . کتاب البیع 2/26.

لاختصاصه بباب الجنایات، و تصیر قرینة علی إرادة ذلک منه حتّی فی الأخبار الغیر المذیلة بذلک الذیل.

[2]: و مع قطع النظر عن هذه القرینة یکون المتعارف فی التعبیر عن هاتین الکلمتین أعنی العمد و الخطأ هو باب الجنایات و باب کفارة الإحرام، و هذا التعارف أیضا یوجب صرفهما عن الظهور فی العموم...»(1).

ولکن یرد علی الأوّل: بأنّ صحیحة محمّد بن مسلم و غیرها من الروایات مثبتات و لا یمکن تقییدها بهنَّ، و لعدم إحراز أنّ المطلوب فیهنَّ شئ واحد.

و یرد علی الثانی: أنّ «الثابت عند الأصحاب أنّ ما یوجب سقوط الاطلاق هو التشکیک فی الصدق بنحو الظهور و الخفاء - کالتشکیک فی صدق ما لا یؤکل لحمه علی الأنسان - دون التعارف، حیث لا یوجب انصراف الاطلاق عن غیر المتعارف إلی خصوص المتعارف». کما قاله الاُستاذ المحقّق(2) - مد ظله - .

استدلال المحقّق الاصفهانی علی عدم الاطلاق

قال: «تارة للفعل العمدی حکم و للخاطیء(3) حکم آخر کما فی باب الجنایات من ثبوت القصاص فی العمد و الدیة فی مال الجانی فی شبه العمد و ثبوت الدیة علی العاقلة فی الخطأ، و اُخری للفعل العمدی حکم و لا حکم للخطأ کما فی محظورات الإحرام ما عدا الصید المترتب علیه الکفارة مطلقا، فغیر الصید مرتب علی عمده الکفارة دون خطائه، و مقتضی تنزیل العمد منزلة الخطأ فی الشق الأوّل ترتیب حکم الخطأ علی العمد المضاف إلی الصبی أو المجنون، و مقتضی تنزیل العمد منزلة الخطأ فی الشق الثانی عدم ترتیب حکم العمد علی هذا العمد الخاص... .

و علیه فالاستدل بعمد الصبی خطأ فی المعاملات باللحاظ الثانی حیث أنّ

ص: 41


1- 1 . المکاسب و البیع 1/401.
2- 2 . العقد النضید 2/443.
3- 3 . لو قالَ: لِلْمُخْطِئیِ... إلخ لأصابَ شاکِلةَ الصوابِ، لاِءن الخاطِی ء هو مُتعّمُد الخطیئة «لا یأکُلُهُ إلاّ الخاطِئُون».

المعاملات أمور عمدیة قصدیة، فإذا صدرت من الصبی الذی عمده خطأ لم یترتب علیها أحکامها و آثارها.

و فیه: إنّ الظاهر مقابلة العمد مع الخطأ لا القصد مع عدمه، و إنّما یتصور العمد و الخطأ فیما أمکن انقسامه إلیهما، بأن یکون وقوع مسببه علیه قهرا معقولاً، فتارة یصیب القصد بالاضافة إلی ما یترتب علیه، و اُخری یخطی عنه کالرمی الذی یترتب علیه القتل المقصود به تارة و غیر المقصود به اُخری، و لا یترتب علی الأسباب المعاملیة شئ قهرا حتّی یکون تارة مقصودا من السبب و اُخری غیر مقصود منه، لیوصف المترتب علیه بأنّه عمدیٌّ تارة و خطئیٌّ اُخری.

فإن قلت: من یقول بعدم تبعیة العقود للقصود و یدّعی أنّ ما قصد یمکن أن لا یقع، و أن یقع ما لم یقصد، کالمصنف [الشیخ الأنصاری] قدس سره فی مبحث المعاطاة(1) فلا محالة یتصور للعقد فردین عمدیا و خَطَئِیّا، باعتبار ما وقع للقصد و عدم موافقته للقصد.

قلت: أوّلاً: إنّا قد بیّنا فی محلّه أنّ الحقائق المعاملیة اُمور تسبیبیة مُتَقَوِّمة بالقصد، لا أنّها فقط تحتاج إلی سبب، و أنّ الاُمور المدّعی ترتبها علی ما لم یتسبب به إلیها، إمّا من قبیل ترتب الأحکام علی موضوعاتها، أو من قبیل ترتب المسببات علی أسبابها، لا من قبیل ترتب الاُمور التسبیبیة علی أسبابها.

و ثانیا: الفرق بین الأسباب الواقعیة بالإضافة إلی مسبباتها الخارجیة کالرمی بالنسبة إلی القتل و الأسباب الجعلیة بالإضافة إلی المسببات الاعتباریة کالعقد بالإضافة إلی الملکیة و الزوجیة و نحوهما - أنّ ترتب مسببات الأسباب الخارجیة علی أسبابها أمر، و ترتب حکم شرعی علیها أمر آخر، کالقتل العمدی المحکوم شرعا بحکم، و الخطئی منه بحکم آخر. بخلاف ترتب المسببات الاعتباریة علی أسبابها الجعلیة، فإنّه عین کونها محکومة بشئ فی اعتبار الشارع، فمعنی ترتب الملکیة المطلقة علی العقد الذی قصد به الملکیة المقیدة کونه محکوما فی نظر الشارع بالتأثیر فی الملکیة، و کون

ص: 42


1- 1 . المکاسب 3/46 و ما بعدها.

عمد الصبی خطأ بهذا المعنی خلف فی المقام، لأنّ الفرض إسقاط عقده عن درجة الاعتبار، لا تأثیره شرعا فی شیء أصلاً فلا واقع حتّی یوصف بأنّه خطئی، فإمّا لا خطأ له و إمّا یکون تنزیل العمد منزلته هنا خلفا، فتدبره فإنّه حقیق به، هذا کلّه بناءً علی التحفظ علی التقابل بین العمد و الخطأ.

و أمّا بناءً علی أنّ المراد تنزیل قصد الصبی منزلة عدمه فربّما یشکل بأنّ العقد علی أی حال قصدی سواء لوحظ العقد الإنشائی و هو المتقوم بقصد ثبوت المعنی باللفظ، أو لوحظ العقد بالحمل الشائع أی التسبیب إلی الملکیة قصدا بلفظ أو فعل، فلیس للعقد بمعنییه فردان قصدی و غیرقصدی حتّی ینزل الأوّل منزلة الثانی.

و یمکن دفعه: بإرادة العقد الإنشائی المقصود به التسبیب إلی الملکیة تارة، و ما لا یقصد به التسبب - بل هزیً مثلاً- اُخری فنزّل المقصود به التسبب من غیر البالغ منزلة ما لا یقصد به التسبب.

نعم، یشکل بأنّ قصد التسبب دخیل فی صورة العقد بیعا بالحمل الشائع مثلاً عقلاً لا شرعا، فلیس للقصد دخل شرعا، بل عقلاً، و حیث لا أثر لنفس القصد شرعا، فلا معنی لتنزیله منزلة عدمه، فیکون مورد هذه الأخبار کالجنایات التی لوقوعها قصدیّا أثر شرعا»(1).

و یرد علیه: أوّلاً: صدق اطلاق العمد و الخطأ فی غیر الجنایات لیست مسألة عقلیة حیث بحث حولها هذا المحقّق النحریر بل مسألة عرفیة و لغویة، و الاستفادة من الأبحاث العقلیة حول المسائِل العرفیة و اللغویة یوجب التعجب التام!

و ثانیا: یطلق الخطأ فی الروایات علی الفعل الصادر خطأ من دون أیّ عنایة أو مجاز فی العبادات التی تعتبر فیها النیة المتقومة بالقصد، نحو خبر علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال: سألته عن الرجل یخطئ فی أذانه و إقامته فذکر قبل أن یقوم فی الصلاة، ما حاله؟ قال: إن کان أخطأ فی أذانه مضی علی صلاته، و إن کان فی إقامته

ص: 43


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/(19-17).

انصرف فأعادها وحدها، و إن ذکر بعد الفراغ من رکعة أو رکعتین مضی علی صلاته و أجزأه ذلک.(1)

و ثالثا: و یطلق الخطأ فی الروایات فی أسباب المعاملات من دون تحقق الخطأ فی مسبَّبه کما ورد فی مکاتبة محمّد بنُ شُعَیْبٍ قال: کتبت إلیه: إنّ رجلاً خطب إلی عمّ له ابنته فأمر بعض إخوانه أن یزوّجه ابنته التی خطبها و أنّ الرجل أخطا باسم الجاریة فسمّاها بغیر اسمها و کان اسمها فاطمة فسمّاها بغیر اسمها، و لیس للرجل ابنة باسم التی ذکر المزوِّج، فوقّع: لا بأس به.(2)

و الروایتان و إن کانتا ضعیفتین من حیث السند بعبداللّه بن الحسن حفید علی بن جعفر لعدم ورود توثیقه فی الأُولی، و بمحمّد بن شُعَیْبٍ الراوی عن الرضا علیه السلام ولکنّه إمامی مجهول فی الثانیة و لکن إثبات المسألة اللغوی لا یحتاج إلی صحة السند بل یحتاج إلی ورود اللغة و إفادتها المعنی من دون عنایة و مجاز و قرینة کما یظهر ذلک من الروایتین فلا یتم ما ذکره المحقّق الاصفهانی قدس سره ، و هذه المناقشة تظهر من الاُستاذ المحقّق(3) - مد ظله - .

المانع من انعقاد الاطلاق عند المحقّق الخوئی

قال قدس سره : «فاعلم أنّه لایمکن أن یراد الإطلاق من تلک الروایات لوجود المانع و عدم المقتضی:

أمّا وجود المانع: فلأنّ الأخذ بإطلاقها مخالف لضرورة المذهب و موجب لتأسیس فقه جدید، ضَرُورَةَ أن لازم العمل بإطلاقها هو أن لایبطل صوم الصبی مع عدم الاجتناب عن مبطلات الصوم، فإنّ ارتکابه بها خطأ لا ینقض الصوم و المفروض أنّ عمد الصبی خطأ.

و أیضا یَلْزَمُ من ذلک القول بصحة صلاة الصبی إذا ترک عمدا أجزاءها التی لا یضرّ

ص: 44


1- 1 . وسائل الشیعة 5/442، ح5، الباب 33 من أبواب الأذان و الإقامة.
2- 2 . وسائل الشیعة 20/297، ح1، الباب 20 من أبواب عقد النکاح و اولیاء العقد.
3- 3 . العقد النضید 2/448.

ترکها خطأ بصلاة البالغین، هکذا الکلام فی ناحیة الزیادة العمدیة فیها.

بل یلزم منه الالتزام بصحة صلاة الصبیان إذا اقتصروا فیها بالنیة و التکبیر للإحرام و الرکوع و السجدة الواحدة و السلام، فإن ترک ماسوی ذلک خطأ لا یضرّ بصلاة البالغین، و المفروض أنّ عمد الصبی خطأ.

بل یلزم من العمل باطلاق تلک الروایات أن لا تصح عبادات الصبیان أصلاً، فإنّ صحتها متوقفة علی صدورها من الفاعل بالإرادة و الاختیار... و دعوی انصراف تلک الروایات عن هذه الموارد دعوی جزافیة.

أمّا عدم المقتضی للاطلاق فلأنّ تنزیل عمد الصبی منزلة خَطَئِهِ علی وجه الاطلاق یقتضی أن یکون هنا أثر خاص لکلِّ منهما عند صدورهما من البالغین، لکی یکون تنزیل عمد الصبی منزلة خَطَئِهِ بلحاظ ذلک الأثر... و من الواضح أنّه لا مصداق لهذه الکبری إلاّ الجنایات فإنّها إن صدرت من الجانی عمدا فیقتص منه، و إن صدرت منه خطأ فَدِیَتُها علی عاقلته و علی هذا فیصح تنزیل جنایة الصبی عمدا منزلة جنایته خطأ، فتکون دیتها مطلقا علی عاقلته، أمّا فی غیر الجنایات فلا مورد لمثل هذا التنزیل أصلاً.

نعم، قد ثبت أثر خاص لکلِّ من العمد و الخطأ فی الصلاة و فی تروک الإحرام... ولکن أمثال هذه الموارد خارجة عن حدود الروایات الواردة فی تنزیل عمد الصبی منزلة خَطَئِهِ، ضرورة أنّ الآثار المذکورة إنّما تترتب علی الخطأ - فی تلک الموارد- إذا صدر من غیر الصبی. أمّا إذا صدر من الصبی ارتفع أثره بحدیث الرفع...»(1).

اُورد علیه بإشکالین: الأوّل: قوله علیه السلام «عمد الصبی و خَطَؤُهُ واحد» ظاهر فی جملة «عمد الصبی کلا عمد»، فلا حاجة لوجود أثر مستقل فی کلِّ واحد منهما حتّی تختص بباب الجنایات.

و الثانی: لو تنزّلنا و قلنا بعدم هذا الظهور، فلا أقل من شمول إطلاق الروایة لجملة عمده کلا عمد و یشملها الاطلاق.

ص: 45


1- 1 . مصباح الفقاهة 3/(256-254).

ولکن یمکن أن یدافع عنه قدس سره و یجاب عن الأوّل: بعدم تحقق هذا الظهور و الفرق بین الجملتین واضح و لو أراد علیه السلام «عمد الصبی کلاعمد» لذکرها.

و عن الثانی: و حیث أنّ عدم العمد یکون معنی عاما بحیث یشمل السهو و النسیان و النوم و الغفلة و الخطأ فلا یمکن اطلاق کلمة «الخطاء» بحیث یشمل «لا عمد»، نعم إن کان اللفظ «لا عمد» فباطلاقها تشمل «الخطاء» و لا عکس، لأنّ عدم العمد أعم من الخطأ و الخطاء أخص منه دائما، فاطلاق الخطأ لا یشمل «لا عمد».(1)

و استشکل الاُستاذ المحقّق - مدظله - علی السیّد الخوئی رحمه الله بأنّا «إذا دقّقنا النظر فی هذه الأخبار نجد أنّ التنزیل فیها ناظر إلی وحدة آثار العمد مع الخطأ و أنّه کما للعمد أثر کذلک للخطأ أثر و هو عدم الحکم بمقتضی رفع القلم، فالشارع بهذه الأخبار وحدّ العمد و الخطأ فی عدم الأثر»(2).

أقول: و بالجملة: لا یمکن الأخذ باطلاق صحیحة محمّد بن مسلم، لأنّ إطلاقَها یستلزم تدوین فقه جدید کما مرّ من المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله فی وجود مانع من تحقق هذا الإطلاق و الحمدللّه.

و الحاصل: اعتبار البلوغ یکون من شرائط المتعاقدین - علی نحو الاستقلال - بدلالة حدیث رفع القلم عن الصبی و عدم جواز أمره و أمّا إذا کان مأذونا من ولیّه أو وکیلاً من غیره فتکون إنشاءاته و عقوده و إیقاعاته نافذة و مَنْشَأً للأثر.

قال المحقّق النائینی رحمه الله فی فتاویه: «لو کان الصبیّ واسطةً فی ایصال الثمن أو المثمن إلی البالغ و کان هو البائع أو المشتری فلا بأس بهذه المعاملة، ولو کان الصبی مستقلاً فی البیع أو الشراء و کان یبیع و یشتری لنفسه فالظاهر فساد المعاملة، و کذا لو کان بالغا غیر رشید، لکن لو أذن له الوصی [الولی] فی معاملة خاصة بعد تعیین العوضین فالظاهر الصحة، و کذا لو أمضی معاملته بعد صدورها منه، و اللّه العالم»(3).

ص: 46


1- 1 . یظهر الجوابان من العقد النضید 2/(448-446).
2- 2 . العقد النضید 2/450.
3- 3 . الفتاوی، الصادرة منه قدس سره 2/43، جواب رقم 467، طبع دار الهدی، 1426، قم المقدسة، شرحها حفیده العلاّمة الشیخ جعفر النائینی - دامت برکاته - .
ثم إنّ هاهنا فروعا لابدّ من التنبیه علیها:
الأوّل: ثبوت الضمان علی الصبی

قد مرّ ثبوت الضمان علیه بإتلافه مال الغیر، و یتعلَّق بماله و یجب علیه الأداء تکلیفا بعد بلوغه، و من البدیهی لو أدی ولیّه من مال نفسه أو ماله أو أدی هو نفسه من ماله فی صغره برئت ذمّته.

و لا یمکن مطالبة المالک من ولیّه إلاّ إذا کان للصبی مال عند ولیّه و لو أداه برئت ذمّته کما مرّ.

الثانی: هل یرتفع التعزیر عن الصبی؟

قال الشیخ الأعظم قدس سره : «ثم إنّ القلم المرفوع هو قلم المؤاخذة الموضوع علی البالغین، فلا ینافی ثبوت بعض العقوبات للصبی کالتعزیر»(1).

مراده قدس سره : ثبوت بعض التعزیرات للصبی نحو تعزیره لأجل تعلیم الصلاة و إقامتها أو لردعه عن بعض المعاصی کالزنا و اللواط و السرقة.

أقول(2): التعزیرات الواردة فی الشریعة المقدسة إن اُخذ فی موضوعها البلوغ فهی ترتفع عن الصبیان من دون جریان حدیث رفع القلم، لعدم تحقق الموضوع بالنسبة إلیهم.

و إن اُخذ فی موضوعها الصِّبا فهی باقیة و جاریة فی حقِّهم لتحقق موضوعها و هی الصباوة بالنسبة إلیهم و لا ینفیها حدیث رفع القلم کما هو واضح.

و إن کان موضوعها علی نحو لا بشرط بالنسبة إلی البلوغ و الصباوة و لم تقیّد بأحدهما فهی مرفوعة عنهم بإطلاق حدیث رفع القلم فلا تجری فی حقِّهم. لأنّ هذه لو خلیت و طبعها تجری فی حقّهم ولکن بعد ثبوت حدیث رفع القلم لا یتم جریانها لحکومته علیها.

ص: 47


1- 1 . المکاسب 3/284.
2- 2 . کما علیه المحقّق الخوئی فی مصباح الفقاهة 3/263، و الاستاذ المحقّق - مدظله - فی العقد النضید 2/461.
الثالث: هل یعتبر قصد الصبی أم لا؟

قال الشیخ الأعظم: «و الحاصل، أنّ مقتضی ما تقدّم من الإجماع المحکی فی البیع و غیره من العقود، و الأخبار المتقدمة - بعد انضمام بعضها إلی بعض - عدم الاعتبار بما یصدر من الصبی من الأفعال المعتبر فیها القصد إلی مقتضاها، کإنشاء العقود أصالةً و وکالةً، و القبض و الإقباض، و کلُّ التزامٍ علی نفسه من ضمانٍ أو إقرارٍ أو نذر أو إیجار»(1).

أقول: قد ناقشنا وجود الإجماع فی المقام و علی فرض وجوده لا یُسْتَفادَ منه حُکْمٌ لکونه مدرکیا، و مرّ أنّ المستفاد من الأدلة عدم نفوذ عقود الصبی و إیقاعاته علی نحو الاستقلال و إمّا إذا کان مأذونا من ولیّه أو وکیلاً من غیره فتکون نافذة، فلایمکن القول بعدم اعتبار قصد الصبی مطلقا، بل یمکن أنْ یقال: بأنّ أیّ فعل من أفعاله لا یعدّ فی الصرف تصرفا فی أمواله الموجودة علی نحو الاستقلال فلا مانع من نفوذه فیحکم بصحة صیده و حیازته و تحجیره و إحیائه الموات و نحوها.(2)

الرابع: هل یصحُّ قبض الصبی

قال العلاّمة: «کما لا تصح تصرفاته [الصبی] اللفظیة کذا لا یصحّ قبضه و لا یفید حصول الملک فی الهبة و إن اتّهب الولی له و لا لغیره و إن أمره الموهوب منه بالقبض.

و لو قال مستحقّ الدَّین للمدیون: سلِّم حقی إلی هذا الصبی، فسلّم قدر حقّه، لم یبرأ عن الدَّین و بقی المقبوض علی ملکه لا یضمنه الصبی لأنّ البراءة تستند إلی قبضٍ صحیح و لم یثبت»(3).

و نحوها فی نهایته و زاد: «... کما لو قال: ارْمِ حقّی فی البحر، فألقی قدر حقّه، بخلاف ما لو قال للمستودع: سلّم مالی إلی الصبی أو ألقه فی البحر فسلّم أو ألقی، لأنّه امتثل المأمور فی حقّه المعین فخرج عن العهدة.

و لو کانت الودیعة للصبی فسلّمها إلیه، ضمن و إن کان بإذن الولی، إذ لیس له

ص: 48


1- 1 . المکاسب 3/284.
2- 2 . کما علی المحقّق الخوئی فی مصباحه 3/264.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 10/12.

تضییعها بأمر الولی»(1).

ذکر الشیخ الأعظم(2) هذین القَوْلَیْنِ نَقْلاً مِن العلاّمة من دون تفکیک بین الکتابین بل نسبهما إلی التذکرة فقط، و عبارته منقولة من السیّد العاملی ولکن الأخیر نسبها إلی الکتابین و قال: «فروع ذکرها فی التذکرة و نهایة الإحکام»(3).

و حیث لم یعلِّق علیه فهو مقبول عنده.

ولکنّ المحقّقَ السیّدَ الخوئی قدس سره اعترض علیه و علی العلاّمة بأنّ «قبض الصبی یفید الملکیة فی الهبة و غیرها لقیام السیرة علی ذلک، بل مقتضی جملة من الروایات الواردة فی جواز إعطاء الصدقة و الکفارة للصبیان هو صیرورتهما ملکا بمجرد القبض»(4).

و الاستاذ المحقّق(5) - مدظله - ناقش السیرة بنوعیها - العقلائیة و المتشرعة - بالإجماع المذکور فی کلام العلاّمة فی حجر التذکرة(6) الماضی، و الروایات بأنّها ضعیفة الإسناد و ما صح إسنادها فهی التی تنصّ علی إعطاء الزکاة للصبی بمعنی صرفه فی شؤونه لا تملیکه لأنّه یتوقف علی قبول ولیّه و الفرق بین التملیک و الصرف واضح. ثم علی فرض التنزل فهی مختصة بالزکاة و لایمکن التعدی من المورد إلی کلِّ ما یعتبر فیه القبض.

أقول: قد مرّ فی أوّل أدلة البلوغ دعوی الإجماع و المناقشة فیه، و العجب من الاستاذ(7) - مدظله - أنّه ناقش الإجماع ثم یراه رادِعا عن السیرة العقلائیة و هذه مسافة

ص: 49


1- 1 . نهایة الإحکام 2/455.
2- 2 . المکاسب 3/285.
3- 3 . مفتاح الکرامة 12/550.
4- 4 . مصباح الفقاهة 3/260.
5- 5 . العقد النضید 2/(463-465).
6- 6 . تذکرة الفقهاء 14/185.
7- 7 . راجع العقد النضید 2/416.

الخلف بین القول و العمل، و سیرة المتشرعة لم تَتَحَقَّقْ عنده.

و أمّا الروایات فلابدَّ من ملاحظتها و أذکر للباحث بَعْضَها المذکورة فی کلام المحقّق السیّد الخوئی قدس سره :

فمنها: معتبرة عبدالرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبی الحسن علیه السلام : رجل مسلم مملوک و مولاه رجل مسلم و له مال یزکّیه و للمملوک ولد صغیر حرّ، أیجزی مولاه أن یعطی ابن عبده من الزکاة؟ فقال: لا بأس به.(1)

و منها: صحیحة أبی بصیر قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یموت و یترک العیال، أَیُعْطَوْنَ من الزکاة؟ قال: نعم، حتّی ینشأوا و یبلغوا و یسألوا من أین کانوا یعیشون إذا قطع ذلک عنهم، فقلت: إنّهم لا یعرفون؟ قال: یحفظ فیهم میتهم و یحبّب إلیهم دِیْن أبیهم فلا یلبثوا أن یهتمّوا بدین أبیهم، فإذا بلغوا و عدلوا إلی غیرکم فلاتعطوهم.(2)

و منها: موثقة یونس بن یعقوب قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : عیال المسلمین اُعطیهم من الزکاة فأشتری لهم منها ثیابا و طعاما و أری أنّ ذلک خیر لهم؟ قال: فقال: لا بأس.(3)

ذکر الاستاذ المحقّق(4) - مدظله - هذه الروایة فقط - و لعلّ اقْتِصارَهُ علیها لأجل تمامیة إسنادها عنده - و حملها علی صرف الزکاة علیهم کما هو ظاهرها.

ولکن یمکن أن یقال بإطلاق کلمة اُعطیهم و المذکور فی کلام السائل أحد أقسام الإعطاء و هو الصرف و أراه خیرا فیستفاد من الموثقة جواز الصرف فی شؤونهم لاعدم جواز إعطائهم بل یتعلَّق «لا بأس» بالإعطاء فیشمل الموردین و اللّه العالم.

و منها: خبر أبی خدیجة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: ذریّة الرجل المسلم إذا مات یعطون من الزکاة و الفطرة کما کان یعطی أبوهم حتّی یبلغوا، فإذا بلغوا و عرفوا ما کان

ص: 50


1- 1 . وسائل الشیعة 9/294، ح1، الباب 45 من أبواب المستحقین للزکاة.
2- 2 . وسائل الشیعة 9/226، ح1، الباب 6 من أبواب المستحقین للزکاة.
3- 3 . وسائل الشیعة 9/227، ح3.
4- 4 . راجع العقد النضید 2/463.

أبوهم یعرف اُعطوا، و إن نصبوا لم یعطوا.(1)

و منها: معتبرة یونس بن عبدالرحمن عن أبی الحسن علیه السلام قال: سألته عن رجل علیه کفّارة إطعام عشرة مساکین أَیُعْطِی [یطعم] الصغار و الکبار سواء و النساء و الرجال أو یفضّل الکبار علی الصغار و الرجال علی النساء؟ فقال: کلّهم سواء، الحدیث.(2)

و أنت تری بأنّ الروایات حتّی الصحاح و المعتبرة منها لا تَخْتَصُّ بما ذکرهُ الاستاذ المحقّق - مدظله - و لا یمکن حمل الإعطاء فیها بالصرف فقط بل یکون ظهورها باعطاء و أمّا ما نقله الاستاذ - مدظله - من فتوی المحقّق السیّد الخوئی فی المنهاج حیث یقول: «و تُعطی أطفال المؤمنین و مجانینهم، فإن کان بنحو التملیک وجب قبول ولیّهم، و إن کان بنحو الصرف مباشرة أو أمین فلایحتاج إلی قبول الولی»(3)

فهو محمولٌ علی الاحتیاط فی الفتوی و هو دیدن الفقهاء و غیر خفی علی الاستاذ الفقیه المحقّق - دام ظله - .

الخامس: هل تنفذ وصیة الصبی أم لا؟

قال العلاّمة فی القواعد: «یشترط فیه: [فی الموصی] البلوغ و العقل و الحریة، فلا تنفذ وصیة الصبی و إن کان ممیِّزا فی المعروف و غیره علی رأی، و لا وصیّة المجنون مطلقا و لا السکران»(4).

و قال السیّد المتتبع العاملی فی شرحه: «و هو خیرة السرائر و التحریر و الإیضاح و شرح الإرشاد لفخر الإسلام و کذا التلخیص و التبصرة و کأنّه قال به فی المسالک و الروضة، و فی المختلف و المهذب البارع و المقتصر و جامع المقاصد أنّه أحوط... و ظاهر التذکرة و اللمعة و کذا النافع و الدروس التوقف و التردد بل قد یقال أنّه فی الشرائع

ص: 51


1- 1 . وسائل الشیعة 9/227، ح2.
2- 2 . وسائل الشیعة 22/387، ح3، الباب 17 من أبواب الکفارات.
3- 3 . منهاج الصالحین 1/314، فی اوصاف المستحقین للزکاة - الأوّل الایمان - الطبعة الثامنة و العشرون عام 1410ق.
4- 4 . قواعد الأحکام 2/447.

متوقف.

و اختیر فی المقنعة و المراسم و النهایة و المهذب و الغنیة و کشف الرموز و الإرشاد و الروض و الکفایة و المفاتیح و التحریر فی باب الوکالة جواز وصیة من بلغ عشرا ممیزا. فی البرِّ و المعروف و هو خیرة أبی صلاح و أبی علی... و هو ظاهر الفقیه لأنّه رواه فیه، بل و الوسیلة... و هو الظاهر من غایة المراد و یمکن أن یدعی أنّه ظاهر الشرائع و النافع و الدورس... و قد نفی عنه البأس فی التنقیح و قال أیضا: أنّه أحوط،... و قال فی کشف الرموز: ذهب الشیخ و المفید و سلاّر و ابوالصلاح و أتباعهم إلی أنّ وصیة مَن بلغ عشرا جائزة فی المعروف من وجوه البرِّ، انتهی. و هو یفید الشهرة بین المتقدمین إن لم یفد اجماعهم و لا ریب انّ المراد إذا کان ممیزا...»(1).

أقول: الظاهر نفوذ وصیة الصبی إذا بلغ عشرا لما ورد فی عدّة من الروایات الصحاح:

منها: صحیحة أبی بصیر المرادی عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال: إذا بلغ الغلام عشر سنین و اوصی بثلث ماله فی حقٍّ جازت وصیته، و إذا کان ابن سبع سنین فأوصی من ماله بالیسیر فی حقٍّ جازت وصیته.(2)

و منها: موثقة عبدالرحمن بن أبی عبداللّه علیه السلام - فی حدیث - قال: إذا بلغ الغلام عشر سنین جازت وصیته.(3)

و نحوها معتبرة اُخری له.(4)

و منها: معتبرة بل صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: إذا أتی علی الغلام عشر سنین فإنّه یجوز له فی ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصی علی حدٍّ معروف و حقٍّ فهو

ص: 52


1- 1 . مفتاح الکرامة 9/388 من الطبعة الاُولی.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/361، ح2، الباب 44 من أبواب کتاب للوصایا.
3- 3 . وسائل الشیعة 19/362، ح3.
4- 4 . وسائل الشیعة 19/362، ح5.

جائز.(1)

و منها: موثقة منصور بن حازم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سألته عن وصیّة الغلام هل تجوز؟ قال: إذا کان ابن عشر سنین جازت وصیته.(2)

و منها: موثقة أبی بصیر و أبی أیوب عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الغلام ابن عشر سنین یوصی؟ قال: إذا أصاب موضع الوصیة جازت.(3)

و منها: موثقة ابن بکیر عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: یجوز طلاق الغلام إذا کان قد عقل و وصیَّتُهُ و صدَقتُهُ و إن لم یحتلم.(4)

الاستدلال یتم بناءً علی أنّ الوارد فی الموثقة کلمة «یجوز» کما هو الظاهر و الاُولی و فی أکثر نسخ الکافی و کذا ورد فی التهذیب 8/76، ح257 و الاستبصار 3/303، ح1075، ولکن فی بعض نسخه «لا یجوز» و بناءً علیه فلا یتم الاستدلال.

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: إنّ الغلام إذا حضره الموت فأوصی و لم یدرک جازت وصیته لذوی الأرحام و لم تجز للغرباء.(5)

و هذه الصحیحة تفصل بین نفوذ وصیته لذوی أرحامه و عدم نفوذها للغرباء و لابدّ من الأخذ بها و الحکم بعدم نفوذها لغرباء الصبی. و اللّه العالم.

السادس: قول الصبی معتبر فی الإذن بدخول الدار

قال العلاّمة: «و لو فتح الصبیُّ الباب و أذن فی الدخول عن إذن أهل الدار أو أوصل هدیّةً إلی إنسان عن إذن المُهْدی، فالأقرب: الاعتماد لتسامح السلف فیه»(6).

ص: 53


1- 1 . وسائل الشیعة 19/362، ح4.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/363، ح7.
3- 3 . وسائل الشیعة 19/363، ح6.
4- 4 . الکافی 11/645، ح4 من طبعة دارالحدیث عام 1430، و نقل عنه فی وسائل الشیعة 22/78، ح5، الباب 32 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
5- 5 . وسائل الشیعة 19/360، ح1.
6- 6 . تذکرة الفقهاء 10/12.

أقول: الأدلة المانعة عن نفوذ أمر الصبی و حدیث رفع القلم لا تشمل هذین الفرعین لأنّهما خارجان عنها خروجا موضوعیا أی یخرجان تخصّصا لا تخصیصا.

أمّا الأوّل: و هو جواز الدخول فی الدار مع إذن الصبی الکاشف عن إذن أهله غالبا أو حصول الاطمئنان بإذن أهله نوعا، فهذا الکشف أو الاطمینان یتبعان جواز الدخول لا قول الصبی، فحینئذ لو لم یکشف أو لم یطمئن مَنْ یرید الدخول، فلا یجوز أن یدخل حتّی لو أذن له الصبی لأنّ المِلاک فیه الکشف أو الاطمینان الماضیان، و لذا لو کشف أو اطمئن من غیر إذن الصبی نحو فتح الباب مع الفاتح التصویری أو أنّه یری أنّ الباب عن عمدٍ مفتوحٌ نحو أبواب بیوت مراجع الدین فلا بأس بالدخول.

و أمّا الثانی: و هو إیصال الهدیة إلی المهدی إلیه بوساطة الصبی أیضا فلا یدخل فی الأدلة المانعة، لأنّ الصبی لیس إلاّ آلة فی إیصالها، کإرسال الهدیة بالبرید أو حیوان معلَّم و نَحْوِهِما.

السابع: طلاق الصبی الممیّز
اشارة

قال العلاّمة فی المختلف: «طلاق الصبی الممیِّز - و هو الذی بلغ عشر سنین فصاعدا- جوّزه الشیخ(1) هنا و تبعه ابن البراج(2) و ابن حمزة(3) و رواه الصدوق فی کتابه(4) عن زرعة عن سماعة... .

و سوّغ ابن الجنید أیضا طلاق الصبی إذا کان یعقل الطلاق و یضع الاُمور فی مواضعها، و من کان بغیر هذه المنزلة منهم لا طلاق له.

و قال الشیخ علی بن بابویه فی رسالته: و الغلام إذا طلّق للسنة فطلاقه جائز.

و قال أبو الصلاح: و اشترطنا صحة التصرف احترازا من الصبی و المجنون و

ص: 54


1- 1 . النهایة /518.
2- 2 . المهذب 2/288.
3- 3 . الوسیلة /323.
4- 4 . الفقیه 3/504، ح4769.

السکران و فاقد التحصیل بإحدی الآفات(1)، و أطلق.

و قال: سلار: من شرط المطلِّق أن یکون مالکا أمره.(2)

و هذه الأقاویل کلّها تُفِیْدُ المنع من طلاق الصبی.

و قال ابن ادریس لما نقل کلام الشیخ فی النهایة: الاُولی ترک العمل بهذه الروایة لأنّها مخالفة لاُصول المذهب و الأدلة المتظاهرة...(3).

و المعتمد أنّه لا یصح طلاق الغلام حتی یبلغ، لأنّه محجور علیه فی تصرفاته...»(4).

و قال سیّد الریاض: «(فلا اعتبار بطلاق الصبی) الغیر الممیز إجماعا و فیه أیضا علی الأشهر بل علیه کافة من تأخّر و هو الأظهر للأصل و أدلة الحجر عموما فی الأکثر أو فحوی فی الجمیع... (و)لکن ورد (فیمن بلغ) بحسب السن (عشرا روایة) المراد بها الجنس لتعددها (بالجواز) عمل بها النهایة و تبعه علیه جماعة کالقاضی و ابن حمزة... و هی و إن لم یکن (فیها ضعف) بالمعنی المصطلح إلاّ أنّها قاصرة عن المقاومة لما مرّ من حیث الاستفاضة و الاعتضاد بالأصل و العمومات و الشهرة العظیمة و الاولویة المتقدمة فحمل تلک علی هذه بالتقیید، المناقشة فیه واضحة... فالقول بهذه الروایة ضعیف البتة کالجواز المطلق فی ذی التمیز کما عن الإسکافی و جماعة و إن وردت به روایات بحسب الأسانید المعتبرة... لتطرّق النظر إلیها بما مضی مع لزوم تقییدها بالخبرین المقیدین إن عملنا بهما کتقییدهما بها»(5).

و قال صاحب الجواهر فی شرائط المطلِّق: «(البلوغ) بلاخلاف أجده فیه فی الجملة بل الإجماع بقسمیه علیه و النصوص به مستفیضة أو متواترة... (فلا اعتبار بعبارة

ص: 55


1- 1 . الکافی فی الفقه /305.
2- 2 . المراسم /161.
3- 3 . السرائر 2/693.
4- 4 . مختلف الشیعة 7/366 و 365.
5- 5 . ریاض المسائل 12/(197-195).

الصبی) قبل تمییزه قطعا، بل و بعده (قبل بلوغه عشرا) و إن حکی عن ابْنِ الجنید(1) أنّه أطلق صحة طلاقه مع تمییزه لمضمر سماعة(2)... و موثق ابن بکیر(3)... ولکن فی مرسل ابن أبی عمیر(4) الذی هو بحکم الصحیح عند الأصحاب... بل عن الشیخ(5) روایته عن ابن بکیر و تبعه فی المسالک(6)، و إن قیل: إنّه وهم(7)، و علی کلِّ حالٍ فیقید به اطلاق النصوص السابقة و لعلّه إلی ذلک أشار المصنف بقوله: (و فیمن بلغ عشرا عاقلاً و طلّق للسنة روایة بالجواز فیها ضعف) و إلاّ لیس فیما حضرنا من النصوص خبر جامع للوصفین، و حکی عن الشیخین و جماعة من القدماء العمل بذلک، إلاّ أنّ المشهور بین المتأخرین بل لعلّ علیه عامتهم اعتبار البلوغ بالعدد أو بالاحتلام أو بغیر ذلک من أماراته...»(8).

أقول: فظهر ممّا ذکرنا فساد طلاق الصبی غیر الممیِّز إجماعا و أمّا الصبی الممیِّز ففیه ثَلاثَةُ أقوال:

الأوّل: الصحة مطلقا و هو المحکی عن الصدوق فی الفقیه و والده و ابن الجنید.

الثانی: عدم الصحة مطلقا و هو المحکی عن أبی الصلاح و سلار و ابن ادریس و العلاّمة و سیّد الریاض و صاحب الجواهر و نسبه الأخیر إلی المشهور بین المتأخرین بل عامتهم.

الثالث: الصحة إذا بلغ عشرا و هو المحکی عن الشیخ و ابنی البراج و حمزة - کما

ص: 56


1- 1 . کما مرّ من المختلف 7/366.
2- 2 . وسائل الشیعة 22/79، ح7.
3- 3 . وسائل الشیعة 22/78، ح5.
4- 4 . وسائل الشیعة 22/77، ح2.
5- 5 . التهذیب 8/75، ح173، وسائل الشیعة 22/78، ح6.
6- 6 . المسالک 9/9.
7- 7 . قائله صاحب الحدائق فیها 25/151.
8- 8 . الجواهر 32/5 و 4.

مرّ مصادر هذه المقالات فیما سبق - .

فلابدّ من ملاحظة روایات الباب و هنّ علی طوائف:

الطائفة الاولی: ما یدل علی عدم نفوذه

منها: صحیحة أبی الصباح الکنانی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لیس طلاق الصبی بشی ءٍ.(1)

و منها: معتبرة السکونی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: کلُّ طلاق جائز إلاّ طلاق المعتوه أو الصبی أو مُبَرْسَم أو مجنون أو مُکْرَه!(2)

و منها: معتبرة بل موثقة الحسین بن علوان عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن علی علیه السلام قال: لا یجوز طلاق الغلام حتّی یحتلم.(3)

و منها: حسنة زکریا بن آدم قال: سألت الرضا علیه السلام عن طلاق السکران و الصبی و المعتوه و المغلوب علی عقله و من لم یتزوّج بعد، فقال: لا یجوز.(4)

و منها: خبر أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لا یجوز طلاق الصبی و لا السکران.(5)

الطائفة الثانیة: ما یدل علی نفوذه

منها: موثقة سماعة قال: سألته عن طلاق الغلام و لم یحتلم و صدقته؟ فقال: إذا طلّق للسنة و وضع الصدقة فی موضعها و حقّها، فلا بأس و هو جائز.(6)

لا بأس باضمارها لأنّ مضمِرها سماعة.

و منها: موثقة جمیل بن دراج عن أحدهما علیهماالسلام قال: یجوز طلاق الغلام إذا کان قد

ص: 57


1- 1 . وسائل الشیعة 22/77، ح1، الباب 32 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
2- 2 . وسائل الشیعة 22/77، ح3.
3- 3 . وسائل الشیعة 22/79، ح8.
4- 4 . وسائل الشیعة 22/83، ح7، الباب 34 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
5- 5 . وسائل الشیعة 22/78، ح4.
6- 6 . وسائل الشیعة 22/79، ح7.

عقل و صدقته و وصیته و إن لم یحتلم.(1)

و منها: موثقة ابن بکیر عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: یجوز طلاق الغلام إذا کان قد عقل و وصیته و صدقته و إن لم یحتلم.(2)

بناء علی نقل «یجوز» کما هو الظاهر و أمّا بناءً علی ورود «لا یجوز» فَتُعَدُّ الروایة من الطائفة الاُولی.

الطائفة الثالثة: ما یدل علی نفوذ طلاقه إذا بلغ عشر سنین

منها: صحیح ابن أبی عمیر عن بعض رجاله عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: یجوز طلاق الصبی إذا بلغ عشر سنین.(3)

و منها: موثقة ابن بکیر عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: یجوز طلاق الصبی إذا بلغ عشر سنین.(4)

أقول: هذه الموثقة نقلها الشیخ عن الکلینی ولکنّها غیر موجودة فی الکافی بهذا السند(5)، و السند منقول قبلها بالنسبة إلی ما سبقها(6) و لذا ذهب بعض إلی خطأ الشیخ فی هذا النقل کما علیه السیّد صاحب المدارک فی نهایة المرام(7) بل یَری صاحب الحدائق «انّه وهم»(8)، ولکن الأصل یدل علی عدم خطأ الشیخ و السقط من نسّاخ الکافی و إن کان الأظهر الأولی بقرینة تداوُل الکُتُبِ الأربعة و دراستها لا سیّما الکافی الشریف کوْن السهو منه، و هو غیر ممتنعٍ فی جِبِلّةِ البشرِ إلاّ مَن عَصَمَهُ اللّه تعالی.

ص: 58


1- 1 . وسائل الشیعة 19/212، ح2، الباب 15 من أبواب کتاب الوقوف و الصدقات.
2- 2 . الکافی 11/645، ح4 (6/124) و نقل عنه فی وسائل الشیعة 22/78، ح5.
3- 3 . وسائل الشیعة 22/77، ح2.
4- 4 . التهذیب 8/75، ح173 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 22/78، ح6.
5- 5 . بل الموجود فیه یکون بالسند الروایة السابقة الماضیة فی أوّل هذه الطائفة الأخیرة.
6- 6 . راجع الکافی 11/645 ذیل ح4 (6/124).
7- 7 . نهایة المرام 2/8.
8- 8 . الحدائق 25/151.

و حیث لم تتم موثقة ابن بکیر مع وجود إرسال فی روایة ابن أبی عمیر فالطائفة الثالثة منحلة عندنا، فتبقی الطائفتان الاْءُوْلَیانِ، الاولی منهما بإطلاقها تشمل الصبی الممیز و الثانیة منهما ظاهر فیها فتقیّدها، و نتیجتها نفوذ طلاق الصبی الممیز مطلقا کما علیه الصدوق و والده و ابن الجنید الإسکافی و اللّه العالم.

تتمة:

و أمّا ما ورد فی صحیحة الحلبی قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الغلام له عشر سنین فیزوّجه أبوه فی صغره أیجوز طلاقه و هو ابن عشر سنین؟ قال: فقال: أمّا تزویجه فهو صحیح و أمّا طلاقه فینبغی أن تحبس علیه امرأته حتّی یدرک، فیعلم أنّه کان قد طلّق، فإن أقرّ بذلک و أمضاه فهی واحدة بائنة و هو خاطب من الخطاب، و إن انکر ذلک و أبی أن یمضیه فهی امرأته، الحدیث.(1)

و کذا ما ورد فی حسنة برید الکناسی عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث، قلت له: جعلت فداک، فإن طلّقها فی تلک الحال و لم یکن قد أدرک أیجوز طلاقه؟

فقال: إن کان قد مسّها فی الفرج فإنّ طلاقها جائز علیها و علیه، و إن لم یمسّها فی الفرج و لم یلّذ منها و لم تلّذ منه، فإنّها تعزل عنه و تصیر إلی أهلها فلا یراها و لا تقرّبه حتّی یدرک فیسأل و یقال له: إنّک کنت قد طلقت امرأتک فلانة فإن هو أقرّ بذلک و أجاز الطلاق کانت تطلیقة بائنة و کان خاطبا من الخطّاب.(2)

فلا یمکن الأخذ بهما لمخالفتهما مع الإجماع المُرَکَّبِ و عدم وجود القائل بالتفصیل بین الدخول و عدمه، و کذا لزوم صبر المرأة حتّی یُدْرِکَ الغلام و یُمْضِیَ ما فعله، و أمّا لو أنکر طلاقه فهی امرأته، فَلَمْ یقل به أحد، و الحاصل التفاصیل الواردة بالنسبة إلی طلاق الصبی فی هاتین الروایتین محلّ إعراض الأصحاب قدس سرهم و اللّه العالم.

ص: 59


1- 1 . وسائل الشیعة 26/220، ح4، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج.
2- 2 . وسائل الشیعة 20/278، ح9، الباب 6 من أبواب عقد النکاح و اولیاء العقد.
الثامن: إسلام الصبی

قال الشیخ فی المبسوط: «و أمّا إن کان إسلامه معتبرا باسلام نفسه نُظرت، فإن کان طفلاً بحیث لا یعبر عن نفسه دون سبع سنین فإن أسلم فلا حکم له بلاخلاف، و إن کان مراهقا ممیّزا فأسلم فإنّ عند قوم لا یحکم باسلامه و لا بارتداده و یکون تبعا للوالدین غیر أنّه یفرق بینه و بینهما لکی لایفتناه.

و فیهم من قال: یحکم باسلامه ظاهرا، فإذا بلغ و وصف الاسلام کان مسلما من هذا الوقت، و قال قوم: یحکم بإسلامه و ارتداده غیر أنّه لا یقتل لأنّ هذا الوقت لیس بوقت للتعذیب حتّی یبلغ و لا یکون تبعا للوالدین و الأوّل أقوی»(1).

و قال فی الخلاف: «المراهق إذا أسلم حکم باسلامه فإن ارتدّ بعد ذلک، حکم بارتداده و إن لم یتب قُتل، و لا یعتبر اسلامه باسلام أبویه و به قال أبوحنیفة و أبویوسف و محمّد [بن الحسن الشیبانی] غیر أنّه قال: لا یقتل إن ارتد، لأنّ هذا الوقت لیس بوقت التعذیب حتّی یبلغ.

و قال الشافعی: لا یحکم بإسلامه و لا بارتداده و یکون تبعا لأبویه غیر أنّه یفرّق بینهما لکیلایفتناه، و به قال زُفَر.(2)

و فی أصحابه من قال: یحکم باسلامه ظاهرا، فإذا بلغ و وصف الاسلام یکون مسلما من هذا الوقت.

دلینا: ما رواه أصحابنا «إنّ الصبی إذا بلغ عشر سنین اُقیمت علیه الحدود التامة و اقتص منه، و نفذت وصیته و عتقه» و ذلک عام فی جمیع الحدود.

و أیضا قوله علیه السلام : «کلُّ مولودٍ یولود علی الفطرة فأبواه یهوّدانه و ینصّرانه و یمجّسانه، حتّی یعرب عنه لسانه فإمّا شاکرا أو کفورا» و هذا عام إلاّ من أخرجه الدلیل.

و أجاب أصحاب الشافعی عن ذلک بأن قالوا: حَکَمْنا بِإسلامه لأنّه یجوز أن یکون

ص: 60


1- 1 . المبسوط 3/345.
2- 2 . و هو مِنَ الأَحْنافِ.

بالغا، لأنّ أقل البلوغ عند الشافعی تسع سنین و عند أبی حنیفة إحدی عشرة سنة...»(1).

و قال الشهید بعد نقل هذه العبارة من الخلاف: «و هو قریب»(2).

و قال العلاّمة فی مختلف الشیعة بعد نقل قول الشیخ فی الکتابین: «و الذی قواه الشیخ فی المبسوط هو الأقوی، لأنّ التکالیف منوطة بالبلوغ و قبله لا تکلیف»(3).

و قال فی التحریر: «و إذا بلغ اللقیط و أسلم فهو مسلم... و لو کان صبیّا ممیّزا و وصف الاسلام حیل بینه و بین الکافر و الصبی غیر الممیز [و] المجنون لا یتصوّر اسلامهما إلاّ تبعا...»(4).

و قال فی لقطة التذکرة: «و أمّا الصبی فلا یصح إسلامه لأنّه غیر مکلّفٍ و لا اعتبار بعبارته فی العقود و غیرها سواء کان ممیّزا أولا»(5).

و قد مرّ من حجر تذکرته(6) أنّ اسلام الصبی یدخل فی مستثنیات محجوریته فیکون مقبولاً.

و قال فی القواعد: «الاسلام: و إنّما بحصل بالاستقلال بمباشرة البالغ العاقل دون الصبیّ و إن کان ممیّزا، لکن یفرّق بینه و بین أبویه خوف الاستزلال [الاستنزال(7)] و غیر الممیّز و المجنون لا یتصور إسلامهما إلاّ بالتبعیة...»(8).

و علّق علیه المحقّق الثانی بقوله: «لأنّه غیر مکلّف فلا یکون إقراره بالشهادتین

ص: 61


1- 1 . الخلاف 3/(593-591) مسألة 20.
2- 2 . الدروس 3/79.
3- 3 . مختلف الشیعة 6/109.
4- 4 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/451.
5- 5 . تذکرة الفقهاء 17/336.
6- 6 . راجع تذکرة الفقهاء 14/185.
7- 7 . نسخةُ بدلٍ.
8- 8 . قواعد الأحکام 2/203.

معتدا به...»(1).

و قال ثانی الشهیدین: «و أمّا الصبی فلا یصح إسلامه مطلقا لأنّه غیر مکلّف و عبارته مسلوبة بالأصل و للشیخ رحمه الله قول بصحة إسلام المراهق و هو ضعیف...»(2).

و قال المحقّق الأردبیلی: «نعم، الحکم باسلام المراهق غیر بعید لعموم من قال: لا إله إلا اللّه محمّد رسول اللّه صلی الله علیه و آله فهو مسلم، و قاتلوهم حتّی یقولوا لا إله إلاّ اللّه و أمثاله کثیرة. و لأنّهم - إذا قدروا علی الاستدلال و فهموا أدلة وجود الواجب و التوحید و ما یتوقّف علیه، و وجوب المعرفة و النظر فی المعرفة یمکن أن یجیب علیهم ذلک لأنّ دلیل وجوب المعرفة عقلی فکلّ مَنْ یعرف ذلک یدخل تحته و لا خصوصیة له بالبالغ و لا استثناء فی الأدلة العقلیة فلا یبعد تکلیفهم، بل یمکن أن یجب ذلک، فإذا اوجب علیهم یجب أن یصحّ منهم، بل یلزم من الحکم بالصحة وجوبه أیضا و یترتب علیه الأحکام.

و أمّا لو ارتد أحد منهم بعده، یمکن الحکم بعدم ارتداده لضعف عقله فإنّه لا استقلال بعقلهم، إذ قد یعرض لهم لصبوبتهم و قلّة تعقلهم شک، و لهذا یفعلون أفعالاً غیر مستقیمة مثل اللعب الذی یفعله الصبیان و إذا بلغوا لم یفعلوه یقینا، و للشبهة فیُدْرَأ الحدود بها، فإذا درأ عنهم الحدود لم یکونوا مرتدّین، و لا یدلّ علی عدم الإسلام و عدم اعتباره (و عدم) إجراء هذه الأحکام علیهم لأنّ هذه من الفروعات الفقهیة و قد أجمعوا علی عدم وجوب الفروع علیهم و عدم تکلیفهم بها، و لهذا صرح بعض العلماء بأنّ الواجبات الاُصولیة العقلیة تجب علی الصغیر قبل بلوغه دون الفرعیة.

و الظاهر أنّ ضابطه القدرة علی الفهم و الأخذ و الاستدلال علی وجه مقنع، ففی کلّ مَنْ و جد فیه ذلک یصحّ و یمکن أن یجب علیه ذلک المقدار و من لم یوجد فیه ذلک لم یجب»(3).

و استشکل علیه فی مفتاح الکرامة بقوله: «قلت: لا ریب أنّ الصبی قبل البلوغ

ص: 62


1- 1 . جامع المقاصد 6/119.
2- 2 . المسالک 12/475.
3- 3 . مجمع الفائدة و البرهان 10/411.

ضعیف العقل ناقص البصیرة قد غلبت علی عقله الصبوة و غمرته الشهوة و و ما یتراءی من قدرة بعض الصبیان فهو سریع الزوال و لهذا یفعل الأفعال الغیر المستقیمة المخالفة لأفعال الرجال کاللعب الذی یستقبحه إذا بلغ، و لذا لم یحکموا بردّته، لأنّه قد یعرض له لصبوته شک و لم یکلّفوه بالفروع مع أنّها أهون من الاُصول فکان فی الواقع غیر قادر علی الاستدلال و الأخبار کشفت عن ذلک و لا استثناء فی الدلیل العقلی. و إذا کان الأمر کما قلت فهلاّ جزمت به أنت و جزم به الشهید... .

نعم هناک إشکال مشترک الإلزام فی الاُصول و الفروع و هو أنّ الاُنثی أنقص عقلاً و اُوهن نفسا و أضعف رأیا فکیف فرّق الشارع بینهما فأوجب علیها المبادرة إلی تحصیل المعرفة بالاُصول و الفروع فی أوّل تمام تسع السنین؟ و قد قیل فی الجواب...»(1).

و قال فی الجواهر: «و ما عن خلاف الشیخ... مُنافٍ لمعلومیة اعتبار البلوغ فی التکلیف نصا و فتوی و سلب عبارته و فعله قبله إلاّ ما خرج بالدلیل کوصیته، و ما أرسله فی الخلاف... لا جابر له أعرض عنه الأصحاب کالمرسل عنه: کلّ مولود... مضافا إلی إجمال دلالته.

و أمّا قبول إسلام علی علیه السلام قبل البلوغ فهو من خواصه و خواص اولاده المعصومین علیهم السلام و أمثالهم کیحیی و عیسی علیهماالسلام و الحجة صاحب الأمر روحی له الفداء».

ثم اسْتَغْرَبَ کلام الأردبیلی و قال فی ردّه «إذ لا یخفی علیک ما فیه من کونه کالاجتهاد فی مقابلة المقطوع به نصا و فتویً مِنْ رفع القلم عن الصبی حتّی یبلغ و لعلّنا نقول بلزوم الإقرار علیه مع فرض وصوله إلی الواقع، إلاّ أنّ ذلک لاینافی عدم جریان الأحکام علیه و لیس فیه تخصیص للدلیل العقلی کما هو واضح»(2).

أقول: قد مرّ عن الحنفیّة(3) القول بقبول إسلام الصبی و عن الشافعیة(4) عدمه، و

ص: 63


1- 1 . مفتاح الکرامة 17/574 و 573.
2- 2 . الجواهر 38/(183-181).
3- 3 . الفقه علی المذاهب الأربعة 2/363.
4- 4 . الفقه علی المذاهب الأربعة 2/365.

مشهور الأصحاب عدمُ قبولهِ ولکن للشیخ فی الخلاف و العلاّمة فی حجر التذکرة و الشهید فی الدروس و الأردبیلی فی مجمع الفائدة و السیّد الخوئی فی المصباح(1) قول بقبول إسلامه.

و المختار هو قبول اسلام الصبی إذا کان ممیّزا و الوجه فی ذلک عدم تمامیة أدلة القول بأنّ الصبی مسلوب العبارة فعبارته و ألفاظه و أقواله معتبرةٌ إذا کان ممیّزا إلاّ خرج بالدلیل کاستقلاله فی العقود و الایقاعات لحجره. فحینئذ اسلامه مقبول.

و لأنّ الاسلام أمر واقعی یدور مدار الإقرار بالشهادتین - التوحید و نبوة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله - و کلّ مَنْ أقرّ بالشهادتین فهو مسلم ولو کان صبیّا ممیّزا. و یترتب علیه حقن دمه و حرمة ماله و الحکم بطهارته و جواز نکاحه و حلّیّة ذبیحته و جریان التوارث فی حقِّه و وجوب تجهیزه إن مات.

و تدلّ علیه موثقة سماعة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: - فی الحدیث - الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و التصدیق برسول اللّه صلی الله علیه و آله به حُقِنَت الدماءُ و علیه جرتْ المناکحُ و المواریث و علی ظاهره جماعةُ الناس، الحدیث.(2)

و خبر سفیان بن السِّمْطِ عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: - فی حدیث - الاسلام هو الظاهر الذی علیه الناس شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسولُ اللّه ِ و إقامُ الصلاة و إیتاءُ الزکاةِ و حِجُّ البیتِ و صیامُ شهرِ رمضانَ فهذا الإسلام، الحدیث.(3)

و اطلاق هاتین الروایتین یشمل للصبی الممیِّز ولکن لا تترتب علیه الأحکام الإلزامیة لجریان حدیث رفع القلم.

و نحوهما مرسلة القاضی نعمان المصری عن أبی عبداللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن أمیرالمؤمنین علیه السلام : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان إذا بعث جیشا أو سریة أوصی صاحبها بتقوی اللّه فی خاصة نفسه و مَن معه مِن المسلمین خیرا، و قال: اغزوا بسم اللّه و فی سبیل اللّه و علی

ص: 64


1- 1 . مصباح الفقاهة 3/235 و ما بعده.
2- 2 . الکافی 3/72، ح1 من الطبعة الحدیثة (2/25 من الطبعة السابقة).
3- 3 . الکافی 3/70، ح4 (2/24).

ملّة رسول اللّه، و لاتقاتلوا القوم حتّی تحتجّوا علیهم بأن تدعوهم إلی شهادة أن لا اله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و الإقرار بما جئتُ به من عنداللّه فإن أجابوکم فإخوانکم فی الدین، الحدیث.(1)

و قبول اسلام الممیّز لیس لأجل التبعیة من والده أو أشرف أبویه، بل لأجل ما ذکرنا، و إن کانت روایة تبعیة الاولاد لآبائهم تامة فی محلّها و هی من المسلّمات عند الفقهاء العظام و قیام السیرة المتشرعة علیها، ولکن القدر المتیقن منها هو الطفل الصغیر الذی لم یبلغ إلی حدّ التمییز.

و یلحقون أطفال المؤمنین الذین ماتوا قبل البلوغ إلی آبائهم فی الجنة إقرارا(2) لأعین المومنین کما ورد فی خبر أبی بکر الحضرمی عن أبیعبداللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّوجلّ: «و الذین آمنوا و اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّیَّتُهُمْ بإیمان ألحقنابهم ذُرِّیَّتَهُمْ»(3) قال: فقال: قَصَرَت الأبناءُ عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لِتَقَرَّ بذلک أعینهم.(4)

و أنت تری بأنّ الروایة مطلقة لا تختص بالابن الذی لا یبلغ، و یمکن القول بشمولها للأبناء البالغین، ولکنّها مختصة بالآخرة فقط و سند الصدوق(5) إلیها معتبر.

نعم ورد «فی حدیث آخر: أمّا أطفالُ المؤمنین فیلحقون بآبائهم، و اولادُ المشرکین یلحقون بآبائِهم و هو قول اللّه عزّوجلّ: «بایمان ألحقنابهم ذرّیّتهم».(6)

لا خلاف و لا إشکال فی دخول أطفال المؤمنین الجنة ولکن دخول أطفال المشرکین فی النار منوط بامتحان آخر یجری علیهم فی القیامة و هو کما ورد فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث: فیَبْعَثُ اللّه ُ إلیهم مَلَکا من الملائکةِ فَیُؤَجِّحُ

ص: 65


1- 1 . دعائم الاسلام 1/369 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 11/31، ح1.
2- 2 . أَقرّ عنیه إقْرارا. و لیس منْ: قَرّرَ تقریرا.
3- 3 . سورة الطور /21.
4- 4 . الکافی 5/612، ح6 (3/249).
5- 5 . راجع التوحید /394، ح7.
6- 6 . الکافی 5/611، ح3 (3/248).

لهم نارا ثمَّ یبعثُ اللّه ُ إلیهم ملکا فیقول لهم: إنّ ربَّکم یأمُرُکم أن تَثِبُوا فیها فمَنْ دخلها کانت علیه بردا و سلاما و اُدْخِلَ الجنةَ و من تَخَلَّفَ عنها دخل النار.(1)

و مثلها خبر عبداللّه بن سلام مولی رسول اللّه صلی الله علیه و آله .(2)

نعم، لو ارتدّ الصبی الممیّز عن الاسلام یلحق بالکفار ولکن لا تجری علیه أحکام الارتداد من وجوب قتله و تقسیم أمواله و بینونة زوجته لرفع القلم عن الصبی بالنسبة إلی الأحکام الإلزامیة.

التاسع: عبادات الصبی

العبادات إمّا واجبة و إمّا مستحبة:

لا إشکال فی صحة المستحبات بالنسبة إلی الصّبیان لشمول أدلتها لهم و لعدم التنافی بین حدیث رفع القلم عنه و إطلاقها - حتی علی القول بأنّ المراد من رفع القلم هو قلم التشریع - لأنّ المرفوع فیه الامتنان و لا منّة فی رفع المستحبات، بل المرفوع فیه الکلّفة و لا کلّفة فی المستحبات لجواز ترکها.

أمّا الواجبات من العبادات

فقد اتفقوا علی شرطیة البلوغ فی ترتب الوجوب و التحریم بمعنی عدم العقاب علی الصبی فی ترکه و فعله، و اختلفوا فی شرطیة البلوغ لشرعیة العبادات و صحتها علی أقوال:

الأوّل: التمرینیة المحضة: و المراد بها أنّ عباداته بالنسبة إلیه تمرینیة صِرْفَةٌ بجهة تمکّنه من الإتیان بها صحیحةً بعد بلوغه فحینئذ لا یترتب علیها ثواب له و ان کان لولیّه ثواب التمرین لذلک و هو مختار جماعة من الأصحاب منهم العلاّمة فی المختلف.(3)

الثانی: الشرعیة المحضة: بمعنی أنّ عباداته تکون کعبادات البالغین و مطلوبة من الشارع و یترتب علیها الثواب من اللّه تعالی له و هو المحکی عن مشهور الأصحاب

ص: 66


1- 1 . الکافی 5/609، ح1 (3/248).
2- 2 . التوحید /390، ح1، باب الأطفال و عدل اللّه عزّوجلّ فیهم.
3- 3 . مختلف الشیعة 3/386.

-رضوان اللّه تعالی علیهم - کما حکاه عنهم صاحب الحدائق(1).

الثالث: الشرعیة التمرینیة: بمعنی أنّ الاتیان بهذه العبادات مطلوبٌ مِنْ قِبَلِ الشّارع ولکن لا لأنفسها بل لحصول التعوّد و التمرّن علی العمل بعد البلوغ، حکاه صاحب العناوین(2) عن جماعة من المتأخرین و جملة من معاصریه و اختاره، و کما یظهر هذا القول من الاستاذ المحقّق - مدظله - .(3)

و الفرق بین الأقوال: فی القول الأوّل لا یترتب علی عبادات الصبی ثواب له أصلاً، و علی القولین الأخیرین یترتب علیها الثواب له ولکن علی الثانی یترتب علی نفس عباداته من الصلاة و الصیام و علی الثالث یترتب علی التمرین بالعبادة لانفسها.

و کذلک تظهر الثمرة فی جواز نیابة الصبی عن میت، أوحیّ بالاُجرة أو بدونها، فعلی القول الثانی یجوز نیابته و علی القولین - الأوّل و الثالث - لا یجوز.

أمّا القول المختار و دلیله:

فقد یقال: اطلاق الخطابات الشرعیة نحو قوله تعالی: «اقیموا الصلاة»(4) «کُتب علیکم الصیام»(5) «للّه علی الناس حجّ البیت»(6) «و اعلموا انّما غنمتم من شی ءٍ فأنّ للّه خُمُسَهُ...»(7) تشمل الصبی الذی یتمشّی منه القصد فتصح منه العبادة و لایعارضه حدیث رفع القلم عن الصبی لأنّ المرفوع إن کان هو خصوص الموأخذة فواضح و إن کان المرفوع هو قلم التشریع و التکلیف و المؤاخذة - کما نقول به - فکذلک لأنّ لا امتنان فی رفع مشروعیة العمل و محبوبیّته، نعم الإلزام به و کُلفته و المؤاخذه فی ترکه مرفوعة و أمّا

ص: 67


1- 1 . الحدائق 13/53.
2- 2 . العناوین 2/666 و 672.
3- 3 . راجع تحقیق الاصول 3/378.
4- 4 . سورة البقرة /43.
5- 5 . سورة البقرة /183.
6- 6 . سورة آل عمران /97.
7- 7 . سورة الأنفال /41.

أصل مشروعیته و مطلوبیته باق کما هو مختار المحقّق العراقی(1) و السیّد الحکیم.(2)

و فیه: الوجوب بسیط و لیس مُرَکَّبا من طلب الفعل مع المنع من الترک حتّی حدیث رفع القلم یرفع المنع و یبقی طلب الفعل، بل حدیث الرفع یرفع أصل الوجوب البسیط بتمامه فلا یبقی دلیل علی مشروعیته، إلاّ علی القول بأنّ المرفوع هو المؤاخذة فقط ولکنه لا یتم عندنا، کما یظهر هذا الاشکال من السیّد الخوئی فی کتابیه.(3)

ولکن الدلیل التام علی مشروعیة عبادات الصبی هو الروایات الواردة علی الأمر بأمر الصبیان بالصلاة و الصوم، و بعضها فی تکلیفهم بالعبادات الدالة علی مشروعیتها(4):

منها: صحیحة محمّد بن مسلم* عن أحدهما علیهماالسلام فی الصبی متی یصلّی؟ فقال: إذا عقل الصلاة، قلت: متی یعقل الصلاة و تجب علیه؟ قال: لِسِتِّ سنین.(5)

و هذه الصحیحة محمولة علی الاستحباب لأنا نعلم بأنّ الوجوب مشروط بالبلوغ.

و منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال: إنّا نأمر صبیاننا بالصلاة، إذا کانوا بنی خمس سنین، فمرّوا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا بنی سبع سنین، الحدیث.(6)

و منها: خبر اسحاق بن عمار* عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إذا أتی علی الصبی ست سنین وجب علیه الصلاة، و إذا أطاق الصوم وجب علیه الصیام.(7)

و هو محمولٌ علی الاستحباب، ولکنَّ فی السند ضَعفا بمحمّد بن الحصین لأنّه مهمل أو مجهول.

ص: 68


1- 1 . نهایة الأفکار 1/399.
2- 2 . حقائق الاصول 1/342.
3- 3 . مصباح الفقاهة 3/242، المحاضرات فی اصول الفقه 3/(266-264).
4- 4 . قد جعلت علامة * لما تدل علی مشروعیتها حتّی تتمیز من روایات الامر بالامر.
5- 5 . وسائل الشیعة 4/18، ح2، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض.
6- 6 . وسائل الشیعة 4/19، ح5.
7- 7 . وسائل الشیعة 4/19، ح4.

و منها: خبر عبداللّه بن فضالة عن أبی عبداللّه أو أبی جعفر علیهماالسلام - فی حدیثٍ - قال: سمعته یقول: یترک الغلام حتّی یتم له سبع سنین، فإذا تمّ له سبع سنین قیل له: اغسل وجهک و کفیک فإذا غسلهما قیل له: صلّ، ثمّ یترک حتّی یتم له تسع سنین، فإذا تمّت له عُلّم الوضوء و ضُرب علیه و اُمر بالصلاة و ضُرب علیها، فإذا تعلّم الوضوء و الصلاة غفر اللّه لوالدیه إن شاء اللّه.(1)

و منها: خبر الأربعمأة عن علی علیه السلام : عَلِّموا صبیانکم الصلاة و خذوهم بها إذا بلغوا ثمانی سنین.(2)

و منها: ما رواه السیّد فضل اللّه الراوندی بإسناده عن موسی بن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال: قال علی علیه السلام : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : مُروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا أبناء ست سنین و اضربوهم إذا کانوا أبناء سبع سنین و فرّقوا بینهم فی المضاجع إذا کانوا أبناء عشر سنین.(3)

و منها: خبر الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، مُروا صبیانکم بالصلاة إذا کانوا أبناء عشر سنین.(4)

و منها: معتبرة الفُضَیْلِ بْنِ یَسار قال: کان علی بن الحسین علیه السلام یأمر الصبیان یجمعون بین المغرب و العشاء، و یقول: هو خیر من أن یناموا عنها.(5)

و منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إنّا نأمر صبیاننا بالصیام إذا کانوا بنی سبع سنین بما أطلقوا من صیام الیوم فإن کان إلی نصف النهار أو أکثر من ذلک أو أقل، فإذا غلبهم العطش و الغرث أفطروا حتّی یتعوّدوا الصوم و یطیقوه، فمرّوا صبیانکم إذا

ص: 69


1- 1 . وسائل الشیعة 4/20، ح7.
2- 2 . وسائل الشیعة 4/20، ح8.
3- 3 . مستدرک الوسائل 3/18، ح2، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض.
4- 4 . مستدرک الوسائل 3/19، ح3.
5- 5 . وسائل الشیعة 4/21، ح1، الباب 4 من أبواب أعداد الفرائض.

کانوا بنی تسع سنین بالصوم ما أطاقوا من صیام، فإذا غلبهم العطش أفطروا.(1)

الغرث: الجوع

و منها: صحیحة زرارة* عن أحدهما علیهماالسلام قال: إذا حَجَّ الرجل بِابْنِه و هو صغیر فإنّه یأمره یلبّی و یفرض الحج، فإن لم یُحسن أن یلبّی لبّوا عنه و یطاف به و یصلّی عنه، قلت: لیس لهم ما یذبحون، قال: یذبح عن الصغار و یصوم الکبار، و یتّقی علیهم ما یتّقی علی المحرم من الثیاب و الطیب، و إن قتل صیدا فعلی أبیه.(2)

منها: خبر أبان بن الحکم* قال: سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: الصبی إذا حجّ به فقد قضی حجة الإسلام حتّی یکبر، الحدیث.(3)

ولکن استشکل المحقّق الخراسانی(4) فی دلالة هذه الروایات بتوضیح منّا: بأنّ المحتمل فی مقام الثبوت بالنسبة إلیها ثلاثة وجوه:

الأوّل: أن یکون الغرض قائما بنفس الأمر، کأن یأمر بالأمر لمصلحة إثبات آمریة الثانی.

الثانی: أن یکون الغرض قائما بالفعل المأمور به - الثانی - کما فی قوله تعالی: «بلغ ما اُنزل الیک»(5).

الثالث: أن یکون الغرض قائما بالفعل الحاصل من المأمور - الثالث - بشخصه المنبعث من أمر هذا الآمر الثانی.

و مع هذه المحتملات الثلاثة لا یدلّ الأمر بالأمر فی مقام الإثبات علی کونه أمرا به إلاّ بقرینة تعیّن أنّه المحتمل الثالث، و هی مفقودة.

ص: 70


1- 1 . وسائل الشیعة 10/234، ح3، الباب 29 من أبواب من یصح منه الصوم.
2- 2 . وسائل الشیعة 11/288، ح5، الباب 17 من أبواب أقسام الحج.
3- 3 . وسائل الشیعة 11/45، ح1، الباب 13 من أبواب وجوب الحج و شرائطه.
4- 4 . راجع کفایة الاصول 1/269، مع تعلیقة الشیخ عباس علی الزارعی السبزواری، طبعة جماعة المدرسین، عام 1426.
5- 5 . سورة المائدة /67.

و تبعه فی هذه المحتملات و الإجمال المحقّق الروحانی(1) قدس سره .

جوابه: ما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره جار فی «العلم» لأنّه قد یؤخذ جزءً للموضوع و قد یؤخذ تمام الموضوع و قد یؤخذ طریقا ولکن الإرتکاز العرفی من الأمر هو الطریقیة إلی مطلوبیة الشی ء فقط(2) و الشاهد علیه «إذا أمر المولی أحد عبیده أن یأمر عبده الآخر بکذا، و اطّلع علیه العبد الآخر من غیر توسیط أمر المأمور و ترک الفعل، فإنّه مع اعترافه بالاطلاع یؤاخذه المولی بترکه»(3).

و احتمالان الآخران لا یقاومان هذ الإرتکاز العرفی و الظهور العقلائی، فما ذکره المحقّق الخراسانی رحمه الله لا یتم.

فحینئذ ما ورد من الروایات من أمر الاُولیاء اُولادهم بالعبادات تدلّ علی مطلوبیتها الشرعیة و محبوبیتها و مشروعیتها.

ولکن مع ذلک کلّه یظهر من الاُستاذ المحقّق - مدظله - علی فرض تسلیم ظهور الأمر عرفا فی الطریقیة لم تثمر شرعیة عبادات الصبی، «لأنّ غایة ما یفید ذلک هو تعلّق غرض للآمر الأوّل بذلک الفعل کالصلاة، ولکن هل الغرض هو نفس الغرض فی عبادات البالغین أو أنّ هناک فی أمر الصبی بالصلاة غرضا آخر؟... بل إنّها صریحة فی أنّه «التعوید» ففی صحیحة الحلبی المتقدمة(4)... و علی هذا فإنّ الغرض بالفعل متحقق، لکنّه غرض آخر غیر الغرض القائم بصلاة البالغین...».(5)

و العجب من سماحته - مدظله - کیف غفل بأنّ «التعود» الوارد فی صحیحة الحلبی لم یرد إلاّ فیها، و یردّ فی الصیام الباطل فقط و لا یمکن التعدی منه إلی غیرها من العبادات الصحیحة، و غایته أنّه یُعَدَّ من حِکمِ التشریع و ذلک لا یوجب قصر حکم

ص: 71


1- 1 . راجع منتقی الاُصول 2/515.
2- 2 . راجع المحاضرات 3/(266-264).
3- 3 . الشاهد مأخوذ من شیخنا الاستاذ رحمه الله فی کتابه «دروسٌ فی مسائل علم الاُصول» 2/293.
4- 4 . وسائل الشیعة 10/234، ح3.
5- 5 . تحقیق الاصول 3/378.

المشروع علی خصوصه کما هو واضح عنده و عند الکلّ، و کما اعترف بأنّه حکمة الفقیه السبزواری رحمه الله .(1)

و علیه دلالة الأمر الوارد بأمر الأولیاء أولادهم بالصلاة و الصیام علی مشروعیة عبادات الصبی تامَّةٌ کما علیه المحقّق السیّدُ الخوئی(2) و شیخنا الاستاذ(3) رحمهماالله .

مضافا إلی وجود عدّة من الروایات الواردة فی تکلیفهم بالعبادات الدالة علی مشروعیتها نحو: صحیحة محمّد بن مسلم و خبر اسحاق بن عمار و صحیحة زرارة و خبر أبان بن الحکم، الماضیات کلّها آنفا(4) و الحمدللّه أوّلاً و آخرا.

العاشر: التفصیل فی معاملات الصبی بین الخطیر و الحقیر

و المنع فی الأوّل و الجواز فی الثانی و یظهر هذا من الفیض الکاشانی قال فی مفاتیحه: «الأظهر جواز بیعه و شرائه فیما جرت العادة به منه فی الشیء الدون دفعا للحرج فی بعض الأحیان»(5).

و قال الشیخ اسداللّه التستری بعد نقل کلام صاحب المفاتیح: «و یمکن أن یستأنس لذلک، مضافا إلی السیرة المستمرة و قضاء الحاجة و الضرورة فی کلِّ من المعاملة و دفع العوض و أخذه منه، بما رواه الشیخ فی الموثق کالصحیح عن عبید بن زرارة قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن شهادة الصبی و المملوک؟ فقال: علی قدرها یوم اُشهد تجوز فی الأمر الدون و لا تجوز فی الأمر الکثیر.(6)

و هذا القول لا یخلو مِنْ قوة إلاّ أنّ الأصحاب ترکوا العمل بالخبر، و أمّا السیرة و

ص: 72


1- 1 . مهذب الأحکام 16/277.
2- 2 . مصباح الفقاهة 3/243.
3- 3 . دروس فی مسائل علم الاصول 2/293.
4- 4 . مع علامة *.
5- 5 . مفاتیح الشرائع 3/46.
6- 6 . التهذیب 6/252، ح650 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 27/344، ح5، الباب 22 من أبواب کتاب الشهادات.

الضرورة فالتمسک بهما فی مقابل إطلاق الآیة و الروایة و فتوی الإمامیة و غیرهم خروج عن جادة الصواب و عدول عن طریق الاحتیاط»(1).

وجوه الاستدلال علی هذا التفصیل:

الأوّل: الحرج

بتقریب: أنّ الحکم ببطلان المعاملة فی المحقرات یستلزم الحرج المنفی فی الشریعة المقدسة، فنفیه یقتضی صحتها، و هذا الدلیل مذکور فی کلام الفیض الذی هو المؤسِّس لهذا التفصیل.

و یرد علیه: أوّلاً: بمنع الصغری الوارد فی کلام الشیخ الأعظم حیث یقول: «فإن الحرج ممنوع سواء أراد أنّ الحرج یلزم من منعهم عن المعاملة فی المحقرات و التزام مباشرة البالغین لشرائها، أم أراد أنّه یلزم من التجنّب عن معاملتهم بعد بناء النسا علی نصب الصبیان للبیع و الشراء فی الأشیاء الحقیرة»(2).

ثم ذکر أنّه لو أراد استقلال الصبی فی البیع و الشراء بماله دون إذن الولی فی المحقرات یکون مخالفا للاجماع.(3)

و ثانیا: علی فرض تحقق الحرج فهو ینفی الحکم الشرعی و لایثبته کما مرّ مرارا. لأنّه من الأدلة النافیة للأحکام الشرعیة و لیس بمثبتها.

و ثالثا: یمکن القول بآلیة الصبی بالنسبة إلی المحقرات نحو أخذها و وضع أثمانها فی صندوق، أو دخول الحمام و وضع الاُجرة فی کوز الحمامی، أو شرب ماء السقائین و وضع القیمة المتعارفة فی الموضع المعدّ لها، فحینئذ یرتفع الحرج من الأساس و لایتم التفصیل.

رابعا: هذا کلّه علی مسلک المشهور من بطلان معاملات الصبی مطلقا و أمّا علی مسلک المختار من صحة بیع الصبی إذا کان مأذونا من ولیّه و کذا صِحّة شرائه و غیرهما

ص: 73


1- 1 . مقابس الأنوار /113.
2- 2 . المکاسب 3/287.
3- 3 . المکاسب 3/287.

من معاملاته فلا یکون حرجا أصلاً لأنّ الولی أجازه فیکون بیعه صحیحا و کذلک معاملاته.

الثانی: السیرة

و هی مذکورة فی کلام المحقّق التستری رحمه الله و مراده: قیام السیرة المستمرة الثابتة عند المتشرعة من الحکم بالصحة فی معاملات الصبی فی الأشیاء الحقیرة.

و یرد علیها: أوّلاً: نعم، وجود هذه السیرة عند المتشرعة ممّا لاینکر، ولکنّها لا تثبت صحة معاملات الصبی فی المحقرات، لإمکان القول بأنّه کالآلة فی غیرها من المعاملات الحقیرة و جعل الثمن فی المکان المعدّله کما مرّ.

و ثانیا: هذه السیرة لا تکشف عن نفوذ معاملاتهم استقلالاً، بل یمکن القول بجریانها لأجل تمامیة معاملاتهم بإذن اُولیائهم علی ما هو المختار من صحة بیع الصبی مع إذن ولیه.

و ثالثا: قد عرفت من المحقّق التستری المستدِل بها کلامه فی نقدها بأنّ «التمسک بها فی مقابل إطلاق الآیة و الروایة و فتوی الإمامیة و غیرهم خروج عن جادة الصواب و عدول عن طریق الاحتیاط»(1).

الثالث: موثقة عبید بن زرارة(2)

الماضیة المذکورة فی کلام المحقّق التستری مضافا إلی ما ورد من نقدها فی کلامه بأنّ الأصحاب ترکوا العمل بالخبر، یرد علیها:

أنّ الروایة مختصَّة بباب الشهادة و سریانها منها إلی المعاملات یکون أشبه شی ءٍ بالقیاس المردود فی الشریعة المقدسة و لعلّ مِنْ جِهَةِ أهمیة الشهادة و عدم تعطیل الحقوق وردت هذه الروایة.

ص: 74


1- 1 . مقابس الأنوار /113.
2- 2 . وسائل الشیعة 27/344، ح5.

الرابع: فعل أبی الدرداء (عُوَیْمِن بنْ زَیْدٍ)

قال العلاّمة فی التذکرة: «و لا فرق بین الشی ء الیسیر و الکثیر فی المنع من تصرّف غیر الممیّز. و قال أحمد: یصحّ تصرّف غیر الممیّز فی الشی ء الیسیر، لأنّ أبا الدرداء اشتری عصفورا من صبی و أرسله.

و فعله لیس حجةً، و جاز أن یکون قد عرف أنّه لیس ملکا للصبی فاستنقذة منه»(1).

أقول: قد یظهر من العلاّمة؛ تقریب الدلالة و نقدها فلا نعید.

الخامس: معتبرة السکونی

عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن کسب الإماء فإنّها إن لم تجد زنت إلاّ أمة قد عُرفت بصنعة یدٍ، و نهی عن کسب الغلام الصغیر الذی لایحسن صناعة بیده فإنّه إن لم یجد سرق.(2)

للاستدلال بهذه الروایة أربعة تَقْرِیْباتٍ:

التقریب الأوّل: علّل النهی عن کسب الصبی بأنّه «إن لم یجد سرق» و مع إمکان التعلیل بعدم المقتضی لم تصل النوبة إلی التعلیل بوجود المانع، و إذا کانت معاملاته باطلة، فلا یحتاج إلی نسبة البطلان و التعلیل علیه بوجود المانع و هو احتمال مسروقیة المبیع. فالتعلیل بوجود المانع یستفاد منه صحة معاملات الصبی أوّلاً و بالذات، أو لا أقل من وجود مقتضی الصحة فیها، لأنّ مع وجود التعلیل الذاتی لم تصل النوبة إلی التعلیل العرضی.

التقریب الثانی: النهی الوارد فیها یکون نهیّا تنزیهیّا، لا تحریمیا فیکون ظاهرا فی الکراهة لا الحرمة، و لذا استفاد منها صاحب الوسائل الکراهة و قال فی عنوان الباب: «کراهة کسب الصبیان الذین لا یحسنون صناعة...»(3).

ص: 75


1- 1 . تذکرة الفقهاء 14/243.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/163 ح1، الباب 33 من أبواب ما یکتسب به.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/163.

و الکراهة فی المعاملة تَجْتَمِعُ مع الصحة حتّی فی مورد الکراهة و أمّا فی غیرها فواضح.

التقریب الثالث: سیاق الروایة یقتضی صحة معاملات الصبی لأنّ المعاملة علی مکتسبات الإماء صحیحة أوّلاً و بالذات ولکن نُهی عنها ثانیا و بالعرض باحتمال أنّها «إذا لم تجد زنت» فکذلک الأمر فی الصبی.

التقریب الرابع: تقیید الموضوع ب-«الذی لا یحسن صناعة بیده» ظاهرٌ فی عدم فساد معاملة الصبی، فلو کانت معاملته باطلة یلغی هذا التقیید، لأنّ معاملته باطلة سواء أحسن صناعةً أم لم یحسنها.

مع إضافة نکتة حتّی تَتمَّ دلالتها علی التفصیل المذکور و هی عدم معهودیة إیکال المعاملات الخطیرة و المهمّة إلی الصبیان و الإماء و العبید فی تلک العصور و فی زماننا هذا، فالنهی الوارد فیها یختص بالمحقّرات و تدلّ علی التفصیل، و لیس فیها إطلاق حتّی تشمل المعاملات المهمة الخطیرة و فحینئذ تدل علی المطلوب. کما تظهر هذه النکتة الأخیرة من المحقّق السیّد الخمینی(1) قدس سره و الاُستاذ المحقّق(2) - مدظله - .

و أمّا نقد تقاریب دلالتها:

قال المحقّق الاصفهانی فی نقد التقریب الأوّل: «أوّلاً: فبأنّ المراد بالکسب، و إن کان مکسوبه، لا المعنی المصدری و إلاّ فمع فرض الموضوع لا یعقل احتمال السرقة فیه، بل المکسوب العرفی أی ما استفاده بمعاملة أو بالتقاط أو بحیازة أو باستعاطاء من الغیر أو بسرقة، فلیس الاکتساب المعاملی مفروضا حتّی إذا لم یحرم مع العلم بعدم السرقة یکون دلیلاً علی نفوذ معاملته لیکون من قبیل الاستناد إلی المانع مع عدم المقتضی فی الحکم بعدم مقتضاه.

و أمّا ثانیا: فإنّه لو فرض تحقق الاکتساب المعاملی، کما إذا نهی عن التصرف فی

ص: 76


1- 1 . کتاب البیع 2/35.
2- 2 . العقد النضید 2/472.

ما اکتسبه بالمعاملة من لایبالی بالربا، فإنّ النهی بلحاظ هذه الحیثیة، لا بلحاظ إنفاذ معاملته مع عدم هذا الاحتمال، بل کسبه نافذ جائز بقواعده، فربّما یجوز و ربّما لا یجوز»(1).

و اعترض علیه المحقّق الأردکانی بقوله: «إمّا ما ذکره أوّلاً... ففیه: أوّلاً: أنّه لا یبعد دعوی ظهور الکسب فی المکسوب المعاملی.

و ثانیا: سلمنا أنّ المراد منه المکسوب العرفی الشامل لما استفاده بمعاملة أو بالتقاط أو بحیازة أو باستعطاء من الغیر أو بسرقة إلاّ أنّه یدل علی أنّه لولا احتمال کونه سرقة لما کان منهیّا و إلاّ لزم المحذور المذکور من الاستناد إلی المانع مع عدم المقتضی فی الحکم بعدم اقتضاه.

و أمّا ما ذکره ثانیا... ففیه: أنّه إذا کان النهی بلحاظ ذلک الاحتمال فیستفاد منه جواز التصرف فیما اکتسبه مع قطع النظر عنه فیکشف عن دخوله فی ملکه اللازم منه نفوذ معاملته و إلاّ لو لم یجز التصرف فیه مع قطع النظر عنه اللازم منه فساد معاملته من أصلها، لا وجه لکون النهی بلحاظ ذلک الاحتمال لاستلزامه المحذور المتقدّم»(2).

أقول: مضافا إلی ما ذکره المحقّق الأردکانی یمکن أن یرد علیه: بأنّ المعنی المصدری یمکن أن یجمع مع السرقة أو احتمالها لأنّه یبیع و یشتری و یکتسب مع الأموال المسروقة فیصدق علیه المعنی المصدری مع احتمال السرقة. هذا أوّلاً.

و ثانیا: یطرق فی النهی الحَیْثیّ أیضا نفوذ معاملته و إلاّ لایصح النهی عنها حتّی بهذه الحیثیة، لما مرّ فی تقریب الاستدلال.

و قال المحقّق الاصفهانی فی نقد التَّقْرِیبَیْنٍ: الثانی و الثالث: «أنّ النهی حَیْثِیٌّ جهتیٌ لرعایة هذا الاحتمال الراجح مع حفظ سائر الجهات، بحیث إذا أذن الولی فی التصرف فیما بید الغلام لا ترفع الکراهة مع هذا الاحتمال، و إلاّ مع عدم إذن الولی لا یجوز

ص: 77


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/26.
2- 2 . غنیة الطالب 2/255.

التصرف فیما بید الصبی و إن علم أنّه ملکه بالإرث لا بالمعاملة، فلابدّ من حمل النهی علی کونه من حیثیة خاصة لا مطلقا و بلحاظ تمام الجهات فتدبّره فإنّه حقیق به»(1)

و ردّه المحقّق الأردکانی بقوله: «ففیه: إنّ النهی إذا کان من حیثیة خاصة فالظاهر منه انتفائه من سائر الحیثیات و الجهات»(2).

أقول: یمکن اجتماع النهی الحیثیّ مع کونها نهیّا تنزیهیا و یستفاد من الأخیر الحکم بالصحة فی معاملاته و المعاملة معه، نعم، اعتبار السیاق عندنا محل تأمل بل منع فلا یتم التقریب الثالث فقط.

و أمّا ما ذکره المحقّق الأردکانی ففیه: إمکان اجتماع النهی الحیثیّ و الجهتی مع سائر الجهات و الحیثیات کما لا یخفی.

و قال المحقّق الاصفهانی فی نقد تقریب الرابع: «أنّ التقیید لتحقیق موضوع الکراهة فإنّ احتمال السرقة احتمالاً راجحا إنّما یکون فی حقَّ من لایحسن صناعة بیده دون من یحسنها»(3).

و ردّه المحقّق الأردکانی بقوله: «ففیه: إنّ الظاهر من التقیید انتفاء النهی عن کسب الغلام الذی یحسن الصناعة بیده، لأنّ من لایحسنها یکون احتمال السرقة فی حقّها راجحا بخلاف من یحسنها فإنّه یکون احتمال کونه ممّا اکتسبه بصناعة یده فی حقِّه احتمالاً راجحا فیدل علی نفوذ معاملته فی الجملة فتأمل»(4).

نقد الشیخ الأعظم علی دلالة المعتبرة:

یقول بتوضیح منّا: تَتُمُّ دلالتها علی التفصیل بتقریباتها المتعددة بناءً علی أن الکسب الوارد فیها اُرید به معناه المصدری من بیع أو شراءٍ أو تجارةٍ أو إجارةٍ و نحوها ولکن إن اُرید به معناه الاسم المصدری أی مکسوب الغلام و ما وقع فی یده لم تتم

ص: 78


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/26.
2- 2 . غنیة الطالب 2/255.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/26.
4- 4 . غنیة الطالب 2/255.

الدلالة.

و بناءً علی ارادة المکسوب من الکسب - أی معناه الاسم المصدری - لم یفرض فی الروایة کراهة معاملة الصبی حتی یستفاد منها صحتها، بل المراد منها حزازة التصرف فی ما بید الصبی بلا فرق بین کیفیة حصوله فیه من التقاط یجوز تملّکها، أو اُجرة إیجار، أو حیازة مباح، أو عمل من دون إیجار فأعطاه الآمر اُجرة مثله، أو غیرها من أنواع استحصال المال و اکتسابه.

فالمعتبرة تدل علی کراهة التصرف بما فی ید الصبی بالبیع و غیره من أنواع التصرف لاحتمال کونه من الوجوه المحرّمة، نظیر رجحان الاجتناب عن أموال غیره ممّن لا یبالی بالمحرّمات، و لا تدل علی کراهة المعاملة مع الصبی فلا تتم التقاریب المتعددة.(1)

و فیه: أوّلاً: هذا النقد مُنافٍ لما تقدم من الشیخ الأعظم(2) من عدم اعتبار قصد الصبی و قبضه و إقباضه(3) و إنشائه العقود أصالة و وکالة، فقصده بالنسبة إلی الحیازة و التملک باطل و کذلک إیجاره بل عمله لأنّه یتحققه من دون قصد امتثال أمر الآمر فلا یستحق حتّی اُجرة المثل، فلا یستحصل للصبی ما فی ید صحیح من هذه الاُمور، فلا یمکن لغیره - بلا فرق بین الولی و غیره - بل نفسه التصرف فیه بل لایجوز و یحرم، و لا یکون مکروها أو حزازة فی التصرف.

و ثانیا: حمل الکسب علی معناه الاسم المصدری بمعنی المکسوب یکون خلافا للظاهر و یحتاج إلی قرینة و هی مفقودةٌ فی المقام.

نقد المحقّق السیّدِ الخوئی فی دلالتها

قال قدس سره : «إنّ المراد من کلمة «الکسب» المضافة إلی کلمة «الغلام» فی الروایة إمّا المعنی المصدری، أو یراد منها المکسوب المعبر عنه باسم المصدر.

ص: 79


1- 1 . راجع المکاسب 3/287.
2- 2 . راجع المکاسب 3/284.
3- 3 . کما أشار إلیه الفقیه الیزدی فی حاشیته 2/23.

و علی الأوّل فالمراد من الکسب هو الکسب المتعارف أعنی به مباشرة الصبی التجارة عند احتیاج ولیه إلی ذلک، الا أنّ هذه المباشرة لیست مباشرة استقلالیة بل مباشرة تبعیة، و أنّ الصبی - وقتئذ - بمنزلة الآلة لولیه فی إیجاد المعاملة بینه و بین المشتری. و قد تعارف هذا المعنی فی الخارج کثیرا، إلاّ أنّ الامام علیه السلام [النبی صلی الله علیه و آله ] قد نهی عنه تنزیها معللاً بأنّه إذا لم یحصل من تجارته شی ء سرق خوفا من ولیه. و القرینة علی هذه الدعوی قوله علیه السلام فی صدر الروایة: نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن کسب الإماء فإنّها إن لم تجد زنت، مع أنّه لا شبهة فی نفوذ کسب الأمة بإذن مولاها. یوید ما ذکرناه: أنّ النبی صلی الله علیه و آله قد قیّد النهی عن کسب الأمة و الغلام بعدم معرفتهما صناعة الید، فإنّه مع العلم بذلک لایقع الصبی علی السرقة و لا أنّ الأمة تقع علی الزنا، لأنّه - وقتئذ - ینتفی ما یوجب السرقة و الزنا أعنی به الفقر، ضرورة أنّهما متمکّنان من تحصیل المال.

و علی الثانی: فالمراد من کسب الغلام ما یتحصله من الأموال بطریق الالتقاط أو الاستعطاء أو الحیازة من المباحات الأصلیة کما أنّ المراد من کسب الأمة علی هذا الاحتمال ما تتحصله بإحدی الطرق المذکورة.

و علیه فحکمة النهی عن کسب الغلام صیانته عن الاستراق من الناس کما أنّ حکمة النهی عن کسب الأمة محافظتها عن الفجور»(1).

و یرد علی قسمه الأوّل - أی المعنی المصدری للکسب - إذا کانت مباشرته للکسب تبعیة و أنه بمنزلة الآلة لولیه فلا یصدق علیه أنّه کسب الصبی و لا یَتَطَرَّقَ إلیه احتمال السرقة.

و کذلک إن کانت تبعیة کسبه عنده أنّه بمنزلة الصندوق و الکوز المعدّ لوضع المال فیه. هذا أوّلاً.

و ثانیا: إن کان مراده کسب الصبی بإذن ولیه و إن کان صحیحا عندنا ولکن القوم یذهبون إلی بطلان معاملاته مطلقا سواء کانت بإذن ولیّه أم لا.

ص: 80


1- 1 . مصباح الفقاهة 3/271 و 270.

و یرد علی قسمه الثانی - أی المعنی اسم المصدری للکسب - ما أَوْرَدْناهُ علی الشیخ الأعظم قدس سره بعنوان ثانیا، فلا نعید.

و الحاصل: حیث مرّت المناقشة فی نقود التقریبات و کذا المناقشة فی نَقْدَی الشیخ الأعظم و المحقّق السیّدِ الخوئی فلابدّ من الأخذ بدلالة معتبرة السکونی علی صحة معاملات الصبی الذی یحسن صنعة بل علی صحة معاملاته مطلقا بعد حمل النهی علی التنزیه و الکراهة بقرائن الصدر و التعلیل و التقیید، و السیاق عند من یعتبره، ولکن فی المحقرات فقط بقرینة عدم معهودیة إیکال المعاملات المهمّة إلیه فی تلک العصور، فتدلّ علی تفصیل الفیض الکاشانی.

بلا فرق بین مسلکی المشهور من بطلان معاملات الصبی و المسلک المختار من صحتها مع إذن الولی، فبدلالة هذه المعتبرة یحکم علی صحة معاملات الصبی فی المحقرات علی مسلک المشهور، و عدم احتیاجها إلی إذن الولی علی المسلک المختار.

فلا یتم ما ذکره الشیخ الأعظم بالنسبة إلی تفصیل الفیض من قوله: «و کیف ما کان فالقول المذکور فی غایة الضعیف»(1).

و نحنُ نُوافِقُ فی دلالة المُعْتَبَرَةِ فی الجملة الفقیه السیّد الیَزْدیَّ(2)، و بالجملة السیّد الخمینیَّ(3) و الشیخ الأرْدَکانیَّ(4) رحمهم الله ، و الحمدللّه.

الحادی عشر: التفصیل فی معاملات الصبی بین استقلاله و آلیّته

قال سیّد الریاض فیه: «نعم، الأظهر جوازه فیما کان فیه بمنزلة الآلة لمن له الأهلیة لتداوله فی الأعصار و الأمصار السابقة و اللاحقة من غیر نکیر بحیث یعدّ مثله إجماعا من المسلمین کافّةً. لکن ینبغی تخصیصه بما هو المعتاد فی أمثال هذه الأزمنة، فإنّه الذی

ص: 81


1- 1 . المکاسب 3/287.
2- 2 . راجع حاشیة المکاسب 2/23.
3- 3 . کتاب البیع 2/35.
4- 4 . غنیة الطالب 2/255.

یمکن فیه دعوی إتفاق الاُمة»(1).

و زاد تلمیذه السیّد العاملی علیه: «.. و هل معاطاة کما هو الظاهر أو إباحة اُخری غیر المعاطاة؟ احتمالان. و قد تقدّم لنا ما یرجح الأوّل»(2).

أقول: الحق أنّه بیع کما مرّ فی إمکان تحققته بالفعل، و الوجه فی کونه معاطاة هو الاکتفاء فی المعاملة بوصول کلٍّ من المالین إلی المالک الآخر مع رضا الطرفین، و بناءً علی عدم اعتبار التعاطی فیها، ولکن ناقش فی هذا التفصیل الشیخ الأعظم بوجهین:

الأوّل: عدم اعتبار سیرة المسلمین هنا لأنّها تمکن أن تکون حادثةً أو صادرةً ممّن یتساهلون بأحکام الشرع کما فعلهم بعضهم بالنسبة إلی بعض المعاصی نحو: الکذب و الغیبة و الرُشی و حلق اللُِّحی [بضمّ اللاّمِ و کَسْرِها]، قال الشیخ الأعظم: «و فیه إشکال، من جهة قوة احتمال کون السیرة ناشئة من عدم المبالاة فی الدین کما فی کثیر من سیرهم الفاسدة»(3)!

و فیه: بل یمکن أن یقال بأنّ السیرة تکون للعقلاء لا للمتشرعة حتّی یرد علیه ما ذکره الشیخ الأعظم و إن کان المذکور فی کلام سیّد الریاض هو سِیْرَة المتشرعة.

الثانی: الإحالة علی المجهول فی قوله: «بما هو المعتاد فی أمثال هذه الأزمنة» لعدم کونها منضبطة بل تختلف بحسب أعمار الطفل، قال الشیخ الأعظم، «فیَکِلون إلی من بلغ ست سنین شراءَ باقة بقل أو بیع بیضة دجاج بفَلْس، و إلی من بلغ ثَمانِیَ سنین اشتراء اللحم و الخبز و نحوهما، و إلی من بلغ أربع عشرة سنة شراء الثیاب بل الحیوان بل یکلون إلیه اُمور التجارة فی الأسواق و البلدان، و لا یفرّقون بینه و بین من أکمل خمس عشرة سنة... و لا أظن أنّ القائل بالصحة یلتزم العمل بالسیرة علی هذا التفصیل»(4).

و فیه: لا بأس بالأخذ بالسیرة فی هذا التفصیل المذکور فی کلامه کما یأتی من

ص: 82


1- 1 . ریاض المسائل 8/217.
2- 2 . مفتاح الکرامة 12/549.
3- 3 . المکاسب 3/288.
4- 4 . المکاسب 3/289.

الفقیه السیّد الیزدی رحمه الله .

ثم استشهد فی الردّ علی هذا التفصیل بین الآلیة و غیرها بکلام العلاّمة فی نهایته: «... و کذا لو عرض الصبی دینارا علی ناقد لینقده، أو متاعا علی مقوِّم لِیُقوِمه فأخذه لم یجز ردّه علی الصبی، بل علی ولیّه إن کان للصبی و علی مالکه إن کان لکامل»(1).

أقول: ولکن المختار هو ما علیه سیّد الریاض من نفوذ معاملاته إذا کان آلة لولیه أمّا بناءً علی مسلکنا فواضح و أمّا بناءً علی مسلک المشهور فالسیرة تقیّد بطلان معاملته و لا بأس بالتزام بالسیرة المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم کما عن الفقیه السیّد الیزدی حیث یقول: «الالتزام به قریب جدّا»(2). و من الممکن حمل کلام العلاّمة علی استقلالیته حیث یقول بعد هذا الفرع من دون فصل: «فلو أمره ولی الصبی بالدفع إلیه فدفعه إلیه، برئ من ضمانه إن کان المال للولی...»(3). و هذا الأخیر محمول علی الآلیة و قد حکم فیها بالبَراءَةِ من الضمان.

و العجب من الشیخ الأعظم حَیْثُ استشکل فی الآلیة ثم ذکر تَعْمِیْمَها إلی المجنون و السکران بل البهائم و فی الاُمور الخطیرة. ثم خصّصها بالصبی و المحقرات لأنّهما المتیقن من السیرة.(4)

الثانی عشر: هل معاملة الصبی تفید إباحة التصرف؟

قال جَدُّنا کاشف الغطاء: «فلا یصح منه العقد بالأصالة أو الوکالة إلاّ بعد الثبوت، نعم تثبت الإباحة فی معاملة الممیّزین إذا جلسوا فی مقام اولیائهم أو تظاهروا علی رؤس الأشهاد حتّی یظنّ أنّ ذلک عن إذن من الاُولیاء خصوصا فی المحقرات. و لو قیل بتملّک الأخذ منهم لدلالة مأذونیته فی جمیع التصرفات فیکون موجبا قابلاً لم یکن بعیدا»(5).

ص: 83


1- 1 . نهایة الإحکام 2/454.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/24.
3- 3 . نهایة الإحکام 2/454.
4- 4 . راجع المکاسب 3/294.
5- 5 . کشف الغطاء 1/256.

و قال تلمیذه الشیخ أسداللّه التستری فی توضیح کلام استاذه: «انّه لما کان بناء المعاطاة علی حصول المراضاة کیف اتفق و کانت مفیدة لإباحة التصرف خاصة - کما هو المشهور- و جرت عادة الناس بالتسامح فی الأشیاء الیسیرة و الرضا باعتماد غیرهم فی التصرف فیها علی الأمارات المفیدة للظن بالرضا فی المعاوضات... - إلی قوله - فالتحقیق: أنّ هذا لیس مستثنی من کلام الأصحاب و لا منافیا له و لا یعتمد علی ذلک أیضا فی مقام الدعوی و لا فیما إذا طالب المالک بحقّه و أظهر عدم الرضا»(1).

ثم اعترض الشیخ الأعظم علی التلمیذ المُوَضِّح بإشکالین:

الأوّل: الاکتفاء فی المعاطاة بمجرد الرضا من دون إنشاء إباحة أو تملیک ممنوع(2) کما مرّ فی ثامن تنبیهات المعاطاة.(3)

الثانی: المناط فی تصحیح معاملة الصبی و کونها تفید الإباحة هو التراضی من المالکین و العلم به فی کلامه، و هذا أخص من المدّعی و هو ترتب الإباحة علی معاملة الصبی مطلقا.(4)

ثم اعترض الشیخ الأعظم علی کاشف الغطاء فی کلامه الأخیر من نفی البُعد عن ترتب الملک علی معاملة الصبی الممیّز إذا کان مأذونا من ولیّه، بإشکالین:

الأوّل: «إنّ تولّی وظیفة الغائب - و هو مَنْ أذِنَ للصغیر- إن کان بإذن منه فالمفروض انتفاؤه، و إن کان بمجرد العلم برضاه فالاکتفاء به فی الخروج عن موضوع الفضولی مشکل، بل ممنوع»(5).

الثانی: «إنّ المحسوس بالوجدان عدم قصد مَنْ یعامل مع الأطفال النیابة عمّن أذن

ص: 84


1- 1 . مقابس الأنوار /113 و نقل عنه الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/291 و 290.
2- 2 . راجع المکاسب 3/292.
3- 3 . راجع المکاسب 3/112.
4- 4 . راجع المکاسب 3/293.
5- 5 . المکاسب 3/293.

للصبی»(1).

أقول: ولکن إشکاله الأوّل علی آخِرِ کلامِ الْجَدِّ قدس سره مُنافٍ لِقَوْلِهِ فی بیع الفضولی من ترجیح خروج المعاملة المقرونة برضا المالک عن بیع الفضولی موضوعا أو حکما حیث یقول الشیخ الأعظم هناک: «و إن کان الذی یقوی فی النفس - لو لا خروجه عن ظاهر الأصحاب - عدم توقّفه علی الإجازة اللاحقة بل یکفی فیه رضا المالک المقرون بالعقد سواء علم به العاقد، أو انکشف بعد العقد حصوله حینه، أو لم ینکشف أصلاً فیجب علی المالک فیما بینه و بین اللّه تعالی إمضاء ما رضی به و ترتیب الآثار علیه...»(2).

نبّه علی هذا التنافی المحقّق المروج(3) رحمه الله .

ثمّ إنَّ المذکور فی کلام الجد رحمه الله أنّ جلوس الصبیان مقام أولیائهم فی المعاملات أو تظاهراتهم علی رؤوس الأشهاد فیها یوجب حصول الظن النوعی بإذن أولیائهم لا سیما فی المحقرات و هذا الظن النوعی یعدّ أمارة عرفیة علی الإذن، و إذا نُسِبَت المعاملة إلی الولی صارت نافذة.

و هذا التقریرُ علی مسلکنا من صحة معاملاته بإذن ولیّه واضحٌ و علی مسلک المشهور من بطلان معاملاته یخصص بهذه الأمارة النوعیة و بعد نسبتها إلی الولی تکون صحیحة، و الحمدللّه.

ص: 85


1- 1 . المکاسب 3/294.
2- 2 . المکاسب 3/347.
3- 3 . هدی الطالب 4/87.

2- العقل

اشارة

لم یذکره الشیخ الأعظمُ لوضوحهِ(1)، و لذا أذکره باختصار:

و قد صرّح باشتراطه کلٌّ من المحقّق فی الشرائع(2)، و العلاّمة فی القواعد(3) و التذکرة(4) و النهایة(5)، و الشهید الأوّل فی الدروس(6)، و الشهید الثانی فی المسالک(7)، و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(8)، و الأردبیلی فی مجمع الفائدة(9)، و البحرانی فی الحدائق(10)، و أصحاب الریاض(11) و شرح القواعد(12) و المستند(13) و المفتاح(14) و

ص: 86


1- 1 . قل فی المفتاح 12/551 «و من ترکه فلبداهته...».
2- 2 . الشرائع 2/8.
3- 3 . قواعد الأحکام 2/17.
4- 4 . تذکرة الفقهاء 10/11.
5- 5 . نهایة الإحکام 2/455.
6- 6 . الدروس الشرعیة 3/192.
7- 7 . مسالک الأفهام 3/154.
8- 8 . جامع المقاصد 4/61.
9- 9 . مجمع الفائدة و البرهان 8/155.
10- 10 . الحدائق 18/367.
11- 11 . ریاض المسائل 8/216.
12- 12 . شرح القواعد 2/38.
13- 13 . مستند الشیعة 14/266.
14- 14 . مفتاح الکرامة 12/551.

الجواهر(1). قدس اللّه أسرارهم.

و استدل علیه بالأدلة التالیة:

أ: الکتاب

قال اللّه تعالی: «و لا تؤتوا السفهاء أموالکم التی جعل اللّه لکم قیاما»(2) و المجنون من أظهر مصادیق السفیه و لذا قالَ صاحب مجمع البیان فی مقام عَدِّ أقْسام السُّفَهاء: «... و ثالثها: أنّه عام فی کلّ سفیه من صبی أو مجنون أو محجور علیه للتبذیر و قریب منه ما روی عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال: إنّ السفیه شارب الخمر و من جری مجراه و هذا القول اُولی لعمومه»(3).

و قال الشیخ: «و الاولی حمل الآیة علی عمومها فی المنع من إعطاء المال السفیه، سواء کان رجلاً أو امرأة بالغا أو غیر بالغ. و السفیه هو الذی یستحق الحجر علیه لتضییعه ماله، و وضعه فی غیر موضعه...»(4).

ب: العقل

حاکم بعدم نفوذ معاملات المجنون فی الجملة و کلّ ما حکم به العقلُ حکم به الشَّرعُ. کما اطَبَقَتْ علیه الامامِیّةُ و سائِرُ الْعَدْلِیَّةِ.

و لعلّ أوّل من استدل بالعقل لاعتباره هو المحقّق الأردبیلی(5) و تبعه صاحب المفتاح(6).

و یمکن أن یقرر هذا الدلیل علی أنّ سیرة العقلاء جاریة علی عدم نفوذ معاملات

ص: 87


1- 1 . الجواهر 22/265.
2- 2 . سورة النساء /5.
3- 3 . مجمع البیان 3/8.
4- 4 . التبیان 3/113.
5- 5 . مجمع الفائدة و البرهان 8/155.
6- 6 . مفتاح الکرامة 12/551.

المجنون عندهم و لم یردع عنه الشارع بل یقرّرها و یمضیها بالدلیل السابق و الأدلة التالیة.

و بهذا التقریر یندفع توهم الدور فی الاستدلال علی اعتبار العقل فی المتعاملین بالعقل.

ج: الإجماع

الوارد فی کلام السیّد ابن زهرة فی الغنیة(1) و قال العلاّمة: «و لاخلاف بین العلماء کافّة فی الحجر علی المجنون مادام مجنونا و أنّه لا ینفذ شی ء من تصرفاته لسلب أهلیته عن ذلک»(2).

و صرح بادعاء الإجماع الأردبیلی(3) و کاشف الغطاء(4).

و سیّد الریاض(5) و الفاضل النراقی(6) نَفَیا الخلاف عنه و تبعهما صاحب الجواهر و زاد: «بل الإجماع بقسمیه علیه بل الضرورة من المذهب بل الدین...»(7).

د: السنة

تدل علیه منها حدیث رفع القلم لأنّ فیه: «... و عن المجنون حتّی یفیق»، الحدیث.(8)

و قد مرّ فی الدلیل الثالث من أدلة اعتبار البلوغ تصحیح سنده و دلالته علی رفع قلم التشریع فلا نعید.

ص: 88


1- 1 . الغنیة /210.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 14/201.
3- 3 . مجمع الفائدة و البرهان 8/155.
4- 4 . شرح القواعد 2/42.
5- 5 . ریاض المسائل 8/216.
6- 6 . مستند الشیعة 14/266.
7- 7 . الجواهر 22/265.
8- 8 . الارشاد 1/202، وسائل الشیعة 1/45، ح11.
ه- : عدم اعتبار قصده
اشارة

قال صاحب الجواهر فی تقریر هذا الدلیل: «لا لعدم القصد فإنّه قد یفرض فی بعض أفراد الجنون، بل لعدم اعتبار قصده و کون لفظه کلفظ النائم بل أصوات البهائم و هو المراد من رفع القلم عنه و عن الصبی فی الخبر...»(1).

أقول: عدم اعتبار قصد المجنون تام ولکن قد مرّ منّا فی الفرع الثالث و ما بعده من فروع البلوغ اعتبار قصد الصبی.

فرعان:
الأوّل:

قال فی التذکرة: «المجنون إن کان له حال إفاقة فباع أو اشتری فیها صحّ و إلاّ فلا. ولو ادّعی الجنون حال العقد، قُدّم قوله. ولو لم یعرف له حالة جنون قُدّم مدّعی الصحة»(2).

و قال فی حجرها: «نعم، ینفذ تصرّفه حال إفاقته إذا عُرف رشده و لا ینفذ حالة جنونه بلا خلاف»(3).

أقول: صحة معاملات المجنون الأدواری فی حال إفاقته مع تحقق سائر الشرائط تامة، و ما ذکره فی الادعاء الأوّل مطابق للأصل الأولی فی المعاملات و هو عدم نفوذها، الإدعاء الثانی مطابق للأصل العدمی و غیرهما محتاج إلی البینة.

الثانی:

و قال فیه أیضا: «لا ینعقد بیع المجنون و إن أذن ولیُّه، و لا المغمی علیه و لا السکران و لا الغافل و لا الناسی و لا النائم و الهازل و لا المکرَه»(4).

و قال فی النهایة: «لا عبرة بعبارة المجنون فی العقد إیجابا و قبولاً لنفسه و لغیره سواء أذن له الولی أو لا، و کذا المغمی علیه و السکران و الغافل و النائم، سواء رضی کلّ منهم بما فعله بعد زوال عذره أو لا، لارتفاع العقل الذی هو مناط صحة التصرفات فأشبه

ص: 89


1- 1 . الجواهر 22/265.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/13.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 14/201.
4- 4 . تذکرة الفقهاء 10/13.

غیر الممیز، و لقوله علیه السلام : رفع القلم عن ثلاثة...»(1).

قال فی المفتاح: «و نحوه ما فی الشرائع(2) و التحریر(3) و الإرشاد(4) و الدروس(5) تعلیق الإرشاد(6) و الروضة(7) و المسالک(8) و المیسیة و مجمع البرهان(9) و الکفایة(10) و المفاتیح(11) و حواشی الکتاب [قواعد الأحکام] و اللمعة(12) و جامع المقاصد(13) و ذلک کلّه ممّا لا ریب فیه عندهم قال فی الکفایة: «قالوا: ولو رضی کلّ منهم بما فعل بعد زوال عذره لم یصح عدا المکره [استنادا إلی تعلیلات اعتباریة من غیر نص، فالمسألة محل إشکال.]»(14)... و فی الحدائق: «أنّ ظاهرهم الاتفاق علی عدم صحة عقد ما عدا المکرَه إذا رضوا به بعد زوال العذر»(15)»(16).

ص: 90


1- 1 . نهایة الإحکام 2/455.
2- 2 . الشرائع 2/8.
3- 3 . تحریر الأحکام الشرعیة 2/276.
4- 4 . إرشاد الاذهان 1/360.
5- 5 . الدروس الشرعیة 3/192.
6- 6 . حاشیة الإرشاد /336 للمحق الثانی المطبوعة فی المجلد التاسع من حیاته و آثاره.
7- 7 . الروضة البهیة 3/226.
8- 8 . المسالک 3/155.
9- 9 . مجمع الفائدة و البرهان 8/151.
10- 10 . الکفایة 1/449.
11- 11 . مفاتیح الشرائع 3/46.
12- 12 . اللمعة الدمشقیة /110.
13- 13 . جامع المقاصد 4/61.
14- 14 . الکفایة 1/449.
15- 15 . الحدائق 18/373.
16- 16 . مفتاح الکرامة 12/552 و 553.

3- القصد

اشارة

قال العلاّمة فی التذکرة: «و کذا القصد شرط فی البیع إجماعا»(1).

و فیها: «لو باع الهازل لم ینعقد عندنا لأنّه غیر قاصد فلا یترتّب علیه حکم. و للشافعی وجهان»(2).

و فی نهایته: «و یشترط الاختیار و القصد، فلاینعقد بیع المکره و لا شراؤه، و لا فاقد القصد لغفلة أو نوم أو هزل لعموم قوله تعالی: «إلاّ أن تکون تجارة عن تراض منکم»(3) فالمناط و هو التراضی إنّما یتحقق بالاختیار و القصد»(4).

و قال الشهید فی الدروس: «و قصدهما فلاینعقد من الغافل و النائم و الساهی و الهازل و الغالط»(5).

و قال سیّد الریاض: «یشترط فی المتعاقدین... و القصد»(6).

و فی المفتاح: «و قد نص علیه الأکثر و ظاهرهم عدم الخلاف فیه»(7).

ص: 91


1- 1 . تذکرة الفقهاء 10/13.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/17.
3- 3 . سورة النساء /29.
4- 4 . نهایة الإحکام 2/455.
5- 5 . الدروس الشرعیة 3/192.
6- 6 . ریاض المسائل 8/216.
7- 7 . مفتاح الکرامة 12/554.

و فی المکاسب: «و من جملة شرائط المتعاقدین قصدهما لمدلول العقد الذی یتلفّظان به... لا خلاف فیه و لا إشکال...»(1).

و فی المصباح: «قد اتفقت کلمات الأصحاب - رضوان اللّه علیهم - علی هذا الشرط حتّی أرسلوه فی کتبهم الفقهیة إرسال المسلمات، و لذا لم ینقل الخلاف - هنا - من أحد، بل فی التذکرة ادعی الاجماع علی ذلک»(2).

و فی کتاب البیع: «لا شبهة فی اعتبار ذلک فی المعاملات الجاریة باللفظ و لا فی اعتبار القصد لمدلول العقد فی المعاطاة...»(3).

أقسام القصد
اشارة

الأوّل: قصد اللفظ لمتکلّمه و فی قباله المتلَّفِظ الغالط أو اللاعب أو الهازل أو الساهی فلو أراد أن یتکلَّم بکلمة «بعتُ» ولکن غلط أو لعب أو هزل أو سَها و قال «آجرتُ» فلا یصح.

الثانی: قصد الارادة الاستعمالیة لا لفظ فی معناه الحقیقی و فی قباله استعماله فی معناه المجازی نحو استعمال الإجارة فی معنی النکاح الموقّت فلا یتم.

الثالث: قصد المعنی بالارادة الجدیّة و فی قباله استعمال اللفظ فی الصیغ الانشائیة بغیر داعی الاتیان بها کالسخریة و المزاح و الترغیب و الترهیب و نحوها.

الرابع: قصد الداعی بمعنی أنّ المنشی لعقدٍ یُنْشِئُهُ بداعٍ من الدواعی فالبائع یُنْشِئُ البیع بداعی المنفعة و الناکح بداعی اللّذة أو التناسل و نحوها، و أمّا الإنشاء من دون الداعی فلا یفعله العاقل لأنّهم یرتبون أفعالهم علی مصالحهم، ولکنّه لو فرض تحقق انشاء من دون أی داع ینطبق علیه عنوان العقد فیتمّ.(4)

الخامس: القصد تارة یستعمل بمعنی الرضا کما ورد فی بعض التعبیرات بأنّ

ص: 92


1- 1 . المکاسب 3/295.
2- 2 . مصباح الفقاهة 3/275.
3- 3 . کتاب البیع 2/37 للسیّد الخمینی رحمه الله .
4- 4 . کما علیه صاحب العقد النضید 2/474.

المکرَه لا قصد له أو الفضولی، و المراد بالقصد هنا هو الرضا.

ثم إنّ محل البحث عن اعتبار القصد هو القسم الثالث، و القسمان الأوّلان یدخلان فیه أیضا، بمعنی عدم تحقق الارادة الجدیة إلاّ مع ارادة قصد اللفظ و استعماله فی معناه الحقیقی لا المجازی، فالأقسام الثلاثة الاُوَل یدخلن فی محلّ الکلام.

و العجب من المحقّق النائینی رحمه الله حیث ذهب إلی «أنّ القصد لا یطلق علی قصد اللفظ و قصد المعنی بجامع واحد، ضرورة أنّ اللفظ فی الاستعمال أمرٌ مغفولٌ عنه و لا یشعر به و لایلتفت إلیه، و إنّما الالتفات إلی المعنی و جعل اللفاظ فانیا فیه و هذا بخلاف المعنی حیث أنّه أمر ملتفت إلیه فیکون قصد اللفظ فی مقابل صدورها عن المتکلم فی حال النوم و السهو، و قصد المعنی بمعنی التفاته إلیه و کونه فی مقام إیقاعه علی المخاطب فی الأخبار أو إیجاده بآلة استعمال اللفظ فی المعنی فی الإنشاء فی مقابل الهزل...»(1).

وجه التعجب: أنّ الاختلاف فی المقصودین لایستلزم الاختلاف فی القصدین و تمایزهما، لأنّ المعتبر هو صدور اللفظ و المعنی عن قصد و ارادة، ولکن القصد الذی یتعلق باللفظ أمر آلی و القصد الذی یتعلق بالمعنی أَمْرٌ استقلالی و یمکن الجمع بین القصدین فلا وجه للقول بعدم وجود الجامع بینهما کما یظهر هذا من صاحب العقد النضید.(2)

و بما ذکرنا یظهر(3) بعض مواقع النظر فی کلام الشیخ الأعظم؛ و غیره، من أنّ القصد یعدّ من مقومات العقد حقیقة - لا من شروط المتعاقدین - بحیث لولاه لم یتحقق عنوان العقد و لعلّ اشار قدس سره إلیه بقوله: «و اشتراط القصد بهذا المعنی فی صحة العقد بل فی تحقق مفهومه...»(4).

و مِنْ جعله رحمه الله الهازل و الکاذب فی رتبة واحدة مع أنّهما یختلفان حقیقة و حکما

ص: 93


1- 1 . المکاسب و البیع 1/404.
2- 2 . العقد النضید 2/474.
3- 3 . کما علیه صاحب العقد النضید 2/473.
4- 4 . المکاسب 3/295.

فی قوله: «... کما فی الأمر الصوری فهو شبیه الکذب فی الإخبار کما فی الهازل...»(1).

کلام صاحب المسالک

قال فی المسالک: «الفرق بینهم [أی الصبی الممیز و المجنون و المغمی علیه و السکران، و المُکْرَه] و بین المکرَه واضح، إذ لا قصد لهم إلی العقد و لا أهلیة لهم، لفقد شرطه و هو العقل بخلاف المکرَه فإنّه بالغ عاقل و لیس ثَمَّ مانع إلاّ عدم القصد إلی العقد حین إیقاعه، و هو مجبور بلحوقه له بالاجازة، فیکون کعقد الفضولی حیث انتفی القصد إلیه من مالکه الذی یعتبر قصده حین العقد، فلما لحقه القصد بالاجازة صحّ»(2).

و قال بعد سطور: «و یمکن أن یقال: إنّ القصد من المکرَه حاصل دون من سبق لأنّ غیر العاقل لایقصد إلی اللفظ و لا إلی مدلوله بخلاف المکرَه فإنّه باعتبار کونه عاقلاً قاصد إلی ما یتلفظ به و یفعله بشعوره، لکنّه بالاکراه غیرقاصد إلی مدلوله و ذلک کافٍ فی صلاحیته و قبوله للصحة إذا لحقه القصد إلی مدلوله باجازته.

و مثله القول فی عقد الفضولی فإنّه قاصد إلی اللفظ الصادر منه، لأنّ المفروض أهلیته و جمعه للشرائط المعتبرة فی صحة العقد إلاّ الملک و لایتحقق منه قصد مدلوله -أعنی نقل الملک و التسلیط علی التصرف و غیرهما من أحکام العقد- لأنّ ذلک من وظائف المالک، فإذا أجازه المالک و قصد إلی ذلک صحّ»(3).

و استفاد الشیخ الأعظم من هذا المقالة الأخیرة عدم تحقق القصد فی عقد المکرَه و الفضولی و قال: «کما صرح به فی المسالک حیث قال: إنّهما قاصدان إلی اللفظ دون مدلوله»(4).

و المذکور فی کلامه رحمه الله معنی کلام ثانی الشهیدین قدس سره و قد ذکرت لک نصه.

و ردّه علیه بقوله: «لا دلیل علی اشتراط أزید من القصد المتحقّق فی صدق مفهوم

ص: 94


1- 1 . الکاسب 3/295.
2- 2 . المسالک 3/155.
3- 3 . المسالک 3/156.
4- 4 . المکاسب 3/295.

العقد»(1).

أقول: و تابع صاحب الجواهر(2) رحمه الله الشَّهِیْدَ الثانی فی المکرَه فقط فذهب إلی انتفاء قصده لو لا الإجماع علی صحة عقده المتعقب بالرضا، ولکن الظاهر تمامیة ما ذکره الشیخ الأعظم رحمه الله لأنّ القصد المعتبر فی صدق مفهوم العقد موجود فی عقد الفضولی و المکرَه و هما یقصدان العقد ولکن عقد الفضولی یفقد أمرین و هما انتساب العقد إلی المالک و رِضاهُ و بالاجازة یحصلان، و عقد المکرَه یفقد أمرا واحدا و هو الرضا بالعقد و بعد حصوله تمّ العقد. و یأتی توضیح أکثر فی هذا المجال فی أوّل بحث بیع المکرَه و بیع الفضولی فانتظر.

هل یعتبر تعیین المالکین فی صحة البیع؟
اشارة

هل یعتبر مضافا إلی قصد مدلول العقد تعیین مالکی العوضین أی البائع و المشتری، ثم علی فرض اعتباره هل یلزم تعریف البائع للمشتری و عکسه أم لا؟

توضیح مقالة صاحب المقابس

ذکر الشیخ اسداللّه التستری(3) قدس سره أنّ فی المسألة اُوجها و أقوالاً و أنّها فی غایة الاشکال و أنّه قد اضطربت فیها کلمات الأصحاب - قدس اللّه أرواحهم - فی تضاعیف أبواب الفقه، ثم قسّم المسألة إلی صور و ذکر حکمها:

الصورة الاولی: إذا کان البائع و المشتری متعیّنین فی متن العقد فلاتحتاج المعاملة إلی تعیینهما لتعینّهما واقعا فی متن العقد کما لو کان زید هو البائع و عمرو هو المشتری فیجریان العقد بنفسهما أو ولیّهما أو وکیلهما.

الصورة الثانیة: إذا کان البائع و المشتری غیر متعیّنین فی متن العقد فلابدّ من تعیینهما فی الخارج لإمکان أن یکون البائع أیّ منهما و کذا المشتری، کما لو کان العاقد وکیلاً عنهما فی البیع و الشراء أو ولیّا علیهما، و الأوّل نحو: توکیل زید و عمرو للمعاقد

ص: 95


1- 1 . المکاسب 3/296.
2- 2 . الجواهر 22/267.
3- 3 . راجع مقابس الأنوار /115، سطر 15.

فی تبدیل بیتهما إلی معملٍ، و توکیل بکر و خالد له فی تبدیل معملهما إلی بیتٍ، فحینئذ لابدّ للعاقد تعیین مالک البیت و مالک المعمل فی کلِّ عقد و کذلک أیّ منهما یکون بائعا أو مشتریا لترتب الأحکام المختصة بکلِّ واحد منهما. و الثانی: نحو: أن یکون العاقد حاکما شرعیا و ولیّا علی الطرفین فی طرف یوجد مفلَّسان و فی طرف آخر یوجد یتیمان و الحاکم یرید شراء مال المفلَّسین للیتیمین فلابدّ من تعیینهما فی کلّ عقدٍ.

و یمکن التمثیل للأوّل بأن یکون العاقد وکیلاً عن جماعة فی بیع صاع من صبرة بمبلغ معیّن، و هکذا یکون وکیلاً عن جماعة فی شراء صاع من صبرة بهذا المبلغ فحینئذ لابدّ من تعیین البائع و المشتری فی کلّ عقد لئلا یشتبه بین الجماعتین.

و الحاصل: فی هذه الصورة یجب علی العاقد أو الوکیل أو الولی تعیینهما حین صدور العقد بأیّ وجه من وجوه التعیین.

ثم فی فرض وجوب التعیین إن یعیّن فهو، و إن لم یعیّن بل یُطْلِقُ العقد فإن کانت هُناکَ قرینة ینصرف الاطلاق إلیها، فیؤخذ بالقرینة فینصرف الاطلاق و یَصِیْرُ کالتعیین نحو صدور المعاملة عن نفسه أو عن غیره وکالة، تحمل علی المباشرة لأنّ الوکالة تحتاج إلی مؤنة زائدة و هی مفقودة بالأصل.

و أمّا لو قصد العاقد الإبهام أو قصد التعیین بعد العقد، فلا ینسب المعاملة إلی رافع الإبهام و لا إلی المعیّن بعد العقد، فیکون العقد لغوا.(1)

الادلة الواردة فی مقالة التستری علی وجوب التعیین

الدلیل الأوّل: لزوم بقاء الملک بلا مالکٍ معیّنٍ

لو لم یعیّن العاقد البائع و المشتری لزم بقاء الملک بلا مالک معیّن فی الواقع و نفس الأمر و اللازم باطل و التالی مثله، لأنّ البیع تملیک و تملّک و هما مَنُوْطانِ بأمرین: مالکٌ و مملوکٌ، و إذا لم یکن المالک فی البیع معیّنا، لزم حصول الملکیّة من دون مالکٍ و هو مستحیلٌ.

ص: 96


1- 1 . تأتی الصورة الثالثة بعد ذکر أدلة التستری رحمه الله .

الدلیل الثانی: لزوم تحدید الْمُنْشَئ

هو المستفاد من الأدلة الشرعیة، و التحدید یَکُوْنُ من جهات متعددة:

منها: تحدید قسم العقد من أنّه بیع أو إجارة أو صلح أو نحوها.

منها: تحدیده من جهات الممیّزة نحو تعیین العوضین و المالکین.

و التردید فی أحدها یوجب بطلان العقد إجماعا، فتعیین المالک المعیّن یکون من الاُمور المعتبرة فی صحة العقد.

و قد عبّر الشیخ الأعظم عن هذا الدلیل بقوله: «و أن لا یحصل الجزم بشی ءٍ من العقود التی لم یتعیّن فیها العوضان و لا بشی ءٍ من الأحکام و الآثار المترتبة علی ذلک و فساد ذلک ظاهرٌ»(1).

الدلیل الثالث: جریان أصالة الفساد

أدلة نفوذ المعاملة منصرفة إلی المعاملة الشائعة المتداولة عند الناس و هم یُعَیِّنُوْنَ العوضین و المالکین و قسم العقد من کونه بیعا أو إجارة أو صلحا أو غیرها، و أمّا إذا لم یعیّن أحَدُ هذه الاُمور فلا تشمله أدلة نفوذ المعاملة و تصل النوبة إلی الأصل العملی فی المقام، و الأصل الأولی فی جیمع المعاملات هو الفساد و عدم جریان المعاملة و بقاء کلّ مال علی ملک مالکه الأوّل.(2)

مسألةٌ: ذکرها المحقّق التستری علی القول بالتعیین

مسألةٌ: ذکرها المحقّق التستری علی القول بالتعیین، لو اشتری الفضولی لغیره فی الذمّة، فإن عیّن ذلک الغیر تعیّن و وقف علی اجازته سواء ذکر اسمه أو عیّنه بالإشارة أو المشخصات الفردیة، و إن أبهم و لم یعیّن مع قصد الغیر بطل و لایتوقف إلی أن یوجد له مجیزٌ.

الصورة الثالثة: إن لم یتوقّف تعیّن المالک علی التعیین حال العقد بأن یکون العوضان معیّنین بحیث یُعلم من الخارج أنّ الثمن لزیدٍ و المثمنِ لِعَمْرٍوْ و هما یُعیّنانِ عاقدا

ص: 97


1- 1 . المکاسب 3/297.
2- 2 . فی هذا المجال راجع الآراء الفقهیة 4/203.

أو وکیلاً لِقِراءَةِ صیغة المعاملة أو إجرائها، فَإنْ قَرَأَ الصیغة أو أجری المعاملة من دون تعیین المالکین، فهل هذه المعاملة تکون صحیحة أو تتوقف علی تعیین البائع و المشتری فیها وجوه، ثلاثة:

الأوّل: لزوم التعیین أو الاطلاق المنصرف إلیه.

الثانی: عدم لزوم التعیین مطلقا سواءٌ صرّح بالخلاف أم لم یصرّح؟ لتعیّنه فی الواقع، فتّصح المعاملة و إن صرّح بالخلاف فضلاً عن قصده.

الثالث: التفصیل بین التصریح بالخلاف و عدمه، فإن صرّح بالخلاف بطلت المعاملة، و ان لم یصرّح صحت، و لاتتوقف الصحة علی التعیین لأنّه یکون معیّنا فی الخارج، نعم التصریح یکون مضرّا للصحة.

أقوی الوجوه عند صاحب المقابس هو القول الأخیر - أی التفصیل - و أوسطها هو الوسط - أی عدم لزوم التعیین مطلقا - و أشبهها للأصول هو القول الأوّل.

هذا ما أفاده المحقّق التستری(1) قدس سره .

أقول: مراده قدس سره من الاُصول هی أصالة الفساد الجاریة فی المعاملات و استصحاب بقاء کلٍّ من العوضین علی ملک مالکه الأوّل و أصالة عدم نقل کلٍّ من العوضین إلی الآخر و أصالة عدم ترتب الأثر.

و أمّا جعله القول الثانی هو الوسط فلا وجه له، لأنّ التعبیر بالوسط یکون صحیحا إذا کان بین القوی و الضَّعِیْفِ فیقع القول الوسط بینهما و أمّا إذا کان الأقوی عنده هو القول الثالث و الأشبه بالاُصول هو القول الأوّل فلا معنی للوسط.(2)

نقد الشیخ الأعظم علی المحقّق التستری صاحب المقابس

المستفاد من کلامه(3): البیع هی المبادلة و المعاوضة بین المالین و هی تقتضی

ص: 98


1- 1 . راجع مقابس الأنوار /(116-115) و نقل عنه فی المکاسب 3/(299-296).
2- 2 . کما علیه صاحبا «تحقیقٌ و تقریراتٌ فی باب البیع و الخیارات» 1/373، و العقد النضید 2/478.
3- 3 . راجع نصه فی المکاسب 3/299.

دخول العوضین فی ملک الآخر، أعنی خروج العین من ملک البائع إلی ملک المشتری و دخول الثمن فی ملکه و خروج الثمن من ملک المشتری و دخول العین فی ملکه، و حیث کانت هذه المبادلة هی حقیقة البیع فلا نحتاج مضافا إلی ما ذکرناه إلی تعیین المالکین، بل مجرد قصد المعاوضة کافٍ فی صدق البیع و لا یلزم إسناده إلی المالکین، و هذا الأمر بالنسبة إلی الأعیان الشخصیة واضح.

و أمّا فی الأعیان الکلّیّة فلابدّ من تعیین المالکین لا لأجل أن یکون تعیینهما شرطا مستقلاً فی العقد، - کما علیه صاحب المقابس - بل لأنّ تعیین المال فی الأعیان الکلّیّة مشروط بإضافتها إلی ذمّة خاصة معیّنة و إلاّ لایصدق علیها أنّها مال بل و لا ملک، و حیث أنّ البیع مبادلة مال بمال فلابدّ من إحراز مالیة الکلّی و هی لا تُحْرَزُ إلاّ بالإضافة إلی ذمّة معیّنة یتمکّن صاحبها من تسلمیها إلی المشتری فی التوقیت الخاص من النقد و النسیئة و السَّلم.

فحینئذ تعیین المالکین لیس شرطا مستقلاً فی البیع بل لیس شرطا أصلاً و نحن نستغنی عن هذه الشرطیة بواسطة حقیقة البیع التی هی المبادلة و المعاوضة بما مرّ تَفصیلُهُ و لعلّ احتیاج الأعیان الکلیة إلی ذمّه المالک یکونُ موجبا لمقالة المحقّق التستری من احتیاج البیع إلی تعیین المالکین.

ثم اعترض الشیخ الأعظم(1) علی وجوهه الثلاثَةِ فی الصورة الثالثة و هی إذا کان العوضان معیّنین فی الخارج إن قُصدت المعاوضة الحقیقیّة التی تستلزم عقلاً دخول کلٍّ من العوضین فی ملک الآخر فلا حاجة إلی تعیین مالکی العوضین لتعیّنهما بتعیّن العوضین بالملازمة، و إن قُصدت المعاوضة الصوریة فالبیع غیر منعقد فلا عبرة بتثلیث الوجوه.

ثم تعرّض لفرع ذکره التستری علی اعتبار القول الوسط - و هو عدم لزوم التعیین مطلقا سواءٌ صرّح بالخلاف أم لم یصرّح - و هو «لو باع مال نفسه عن الغیر، وقع

ص: 99


1- 1 . المکاسب 3/300.

عنه و لغی قصد کونه عن الغیر.» و قال فی ذیله: «فلا إشکال فی عدم وقوعه عن غیره و الظاهر وقوعه عن البائع و لغویة قصده عن الغیر لأنّه أمر غیر معقول لایتحقّق القصد إلیه حقیقة و هو معنی لغویّته.»(1).

أقول: یشترک الشیخ الأعظم مع التستری صاحب المقابس فی الْقَوْلِهِ بوقوعِ المعاملة فی هذا الفرع عن المالک العاقد نفسه و عدم وقوعه عن الغیر، ولکنَّهُما یختلفان فی دلیل الحکم، و هو عند التستری مقام الإثبات و هو الأخذ بأصالة الظهور فی «بعتُ» فی إرادة البیع لنفسه، و عند الشیخ الأعظم مقام الثبوت و هو أنّ قصد المعاوضة الحقیقیة یوجب تحققها عن المالک لا الغیر کما مرّ. و من المعلوم بعد فرض عدم إمکان المعاوضة الحقیقیة عن الغیر فی مقام الثبوت فلا نحتاج لنفیه إلی مقام الإثبات.

و فرّع الشیخ الأعظم علی بیانه فرعا آخَرَ و قال: «و لذا لو باع مال غیره عن نفسه وقع للغیر مع اجازته - کما سیجیء(2)- و لا یقع عن نفسه أبدا»(3). و الوجه فی تفریعه عدم تحقق المعاوضة الحقیقیة.

ثم استدرک من قوله: «لا یقع عن نفسه أبدا» بقوله: «نعم، لو ملکه فأجاز، قیل(4) بوقوعه له، لکن لا من حیث إیقاعه أوّلاً لنفسه، فإنّ القائل به لا یفرّق حینئذ بین بیعه عن نفسه أو عن مالکه، فقصد وقوعه عن نفسه لغو دائما و وجوده کعدمه»(5).

و مستند الحکم بالصحة، و توضیح کلام الشیخ الأعظم فی هذا الفرض دخوله فی مسألة «من باع شیئا ثم ملکه» و القائل بالصحة لایفرّق بین بیع مال الغیر عن نفسه ادعاءً و بین بیعه عن مالکه فضولاً، و عدم التفریق کاشف عن لغویة قصد وقوع البیع عن نفسه.

ص: 100


1- 1 . المکاسب 3/301.
2- 2 . فی المسألة الثالثة من بیع الفضولی فی المکاسب 3/376.
3- 3 . المکاسب 3/301.
4- 4 . القائل به المحقّق القمی فی الغنائم /554 ناسبا إیّاهُ إلی الأکثر، و جَدُّنا الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد 2/92.
5- 5 . المکاسب 3/301.

ثم اعترض الشیخ الأعظم(1) علی نفسه بتوضیح منّا: لماذا نحکم بعدم اعتبار قصد العاقد و وقوع البیع الفضولی بالنسبة إلی المالک لدلالة المعاوضة الحقیقیة؟! بل یمکن أن نذهب من الطرف الآخر و نَقُوْلَ بأنّ ایقاع العقد عن نفس العاقد کما هو الظاهر من کلامه قرینة علی عدم تحقق المعاوضة الحقیقیة و بطلان البیع من رأسه، و الشاهد علیه حکم العلاّمة و الشهید فی عکس المثال المذکور بالبطلان.

حیث قال العلاّمة فی القواعد: «ولو قال [المالک للمرتهن] بِعهُ لنفسک، بطل الإذن، لأنّه لا یُتصوّر أن یبیع ملک غیره لنفسه»(2).

و قال: «و کذا لو دفع إلیه مالاً و أمره بشراء طعامٍ له لم یصحّ الشراء و لا یتعیّن له بالقبض»(3).

و قال الشهید فی الدروس: «ولو قال الراهن للمرتهن بعه لنفسک لم یصحّ البیع، لأنّ غیر المالک لا یبیع لنفسه، بل یقول: بِعه لی أو بِعه مطلقا علی الأقوی، حملاً علی الصحیح»(4).

و قال: «ولو دفع إلیه مالاً لیشتری به طعاما لنفسه بطل...»(5).

و أجاب(6) عن هذا الاعتراض بأنّ المعاملة المذکورة صحیحة لدلالة المعاوضة الحقیقیة کما مرّ و القصد المذکور لغوٌ، لأنّ مآل ذلک القصد إلی إرجاع فائدة البیع إلی الغیر، لا أنّ الغیر یکون أحد رکنی المعاوضة، فلا یعارض ظهور القصد للغیر دلالة المعاوضة الحقیقیة و لا یتم الاعتراض.

و مراد العَلَمَیْنِ و غیرِهِما من الحکم بالبطلان فی مثال الرهن و شِراءِ الطعام، عدم

ص: 101


1- 1 . المکاسب 3/301 قوله: «إلاّ یقال:...».
2- 2 . قواعد الأحکام 2/127.
3- 3 . قواعد الأحکام 2/87.
4- 4 . الدروس الشرعیة 3/409.
5- 5 . الدروس الشرعیة 3/211.
6- 6 . المکاسب 3/302 قوله: «ولکن الأقوی صحة المعاملة المذکورة...».

وقوعه للمخاطب و المأمور، لأنّه لیس أحد رکنی المعاوضة ولکنّه إذا باع لنفسه یقع لمالکه فضولیا و بعد اجازته یَصحُّ.

ثم جمع الشیخ الأعظم کلامه و قال: «و بالجملة فحکمهم بصحة بیع الفضولی و شرائه لنفسه و وقوعه للمالک، یدلّ علی عدم تأثیر قصد وقوع البیع لغیر المالک»(1).

أقول: قد عرفت فی ما نقلتُهُ لک من توضیح مقالة العَلَمین أنّ النزاع بینهما علمیٌّ بحت و لا تَتَرتَّبُ علیه ثمرة عملیّة و أنّهما فی مقام الإفتاء فی الفروع المذکورة مُتَّحِدان فلاینبغی صرف الوقت أکثر من هذا فی البحث العلمیّ المحض الذی لاتترتب علیه ثمرة عملیّة ولکن مع ذلک کلّه أذکر لک حصیلة البحث من دون تعرض إلی مقالتهما لأجل إیضاح الکلام.

حصیلة الکلام

البیع باعتبار مبیعه ینقسم إلی قسمین رئیسین:

الأوّل: البیع بالمبیع الشخصی و الأعیان الشخصیة بحیث یَتَعَیَّنُ المالک فی الواقع و نفس الأمر و المقام الثبوت فلانحتاج إلی تعیینه فی الخارج و فی ضمن العقد و المقام الإثبات بالقصد أو اللفظ.

فتعیینه لیس مقوما و لا شرطا للبیع فی هذا القسم و إذا وقع البیع علی المالین یدخل کلّ من العوضین فی ملک الآخر بلا فرق بین صدور العقد من المالکین أو وکیلهما أو ولیّهما، و کذا بلا فرق بین صدوره من المالک أو الفضولی، ولکن فی الأخیر مع الحاق اجازة المالک بالبیع.

و حیث کانت حقیقة البیع المبادلة و المعاوضة بین المالین و یدخل الثمن فی کیس من یخرج المثمن من ملکه و یدخل المثمن فی کیس من یخرج الثمن من ملکه فلابدّ فی عقد البیع أن لا یقصد خلاف مقتضی العقد، و الخلاف یتصور بوجوه مختلفة:

منها: أن یذکر أو یقصد دخول الثمن أو المثمن فی ملک غیر المتبایعین نحو شراء

ص: 102


1- 1 . المکاسب 3/302.

بیت لولده أو طعام للفقیر، و فی هذه الفروض ینتقل المبیع إلی المشتری أوّلاً و بالذات و ثانیا و بالعرض و بناقل شرعی ینتقل إلی الولد أو الفقیر أو غیرهما. فیکون البیع بما رسمت لک صَحِیْحا.

و منها: أن یذکر الخلاف من باب الخطأ فی التطبیق کوکیل من عدّة أشخاص فی بیع أموالهم فأخطَأَ فی ذکر موکّله فی عقد البیع فحینئذ العقد یکون صحیحا و البیع نافذا بدلالة المبادلة و المعاوضة اللَّتَیْنِ هما حقیقة البیع و یقع البیع عن مالک العین بلا احتیاج إلی اجازته المجدّدة لأنّ المجری للبیع کان وکیله.

و منها: أن یذکر الخلاف عالما عامدا من باب الاِدِّعاءِ علی أنّ غیر المالک مالک نحو: بیع الغاصبین و اللصوص فی الأموال المغصوبة و المسروقة فیقع البیع للمالک إذا أجاز.

الثانی: أن یکون المبیع کلّیّا - بلا فرق بین أن یکون الکلّی فی المعیّن نحو صاعٍ من الصبرة أو الکلّی فی الذمة و کلاهما یَتَعَیَّنُ بمالک الکلّی فی الأوّل و بمَنْ یقع الکلّی علی ذمّته فی الثانی، و بهما یَتَعَیَّنُ فی الواقع و نفس الأمر و مقام الثبوت، فلا نفرّق فی عدم اشتراط التعیین بین المبیع الشخصی و الکلّی.

ولکن هذا کلّه بالنسبة إلی العقود التی لایکونُ طَرَفا العقد رکنا من أرکانِها نحو النکاح و الوقف و الهبة و الوصیة و الوکالة لأنّ الزوجَ و الزوجة الْمُعَیَّنَیْنِ یعدّان من أرکان عقد النکاح و کذا الموقوف علیهم، و الموهوب له، و الموصی و کذا الوصی، و الوکیل، و فی هذا الفرض لابدّ من تعیین طرفی العقد.

و ما ذکرنا یکون فی مقام الثبوت و مع وضوح هذا المقام فلاتصل النوبة إلی مقام الإثبات کما هو الواضح.

نعم، فی مقام الإثبات ینصرف العقد إلی مَنْ یتولّی له ما لم یصرّح بالخلاف، لأنّ فعل کلّ فاعل یُنسب إلیه و یحکم بوقوعه عنه ما لم ینصب قرینة حالیة أو مقالیة علی خلافه، فإذا قال «بعتُ» و لم یقم قرینة علیه فیقع عن نفسه.

ثم الإنشاء لابدّ أن یتعلَّق بالمعلوم و لو کان بالإجمال فیصح بیع أحد الاْءَصْوُعِ لأنّ

ص: 103

المبیع حینئذ هو الصاع المتعین المعلوم عنداللّه تعالی.

و کذا تَصحُّ الوصیة بأحد الشیئین أو الأشیاء أو لأحد الأشخاص المعینیین، لأنّها إن کانت عهدیة(1) فمرجعها إلی إیکال الأمر إلی الوصی و یکون من قبیل الواجب التخییری. و إن کانت تملیکیة(2) إذا أراد المعلوم عنداللّه صحت.

و کذا عَتْقُ مملوکٍ من العبید أو طلاق إحدی الزوجات یصحان إذا تعلّق الإنشاء بالمتعیّن الواقعی عنداللّه أو مَنْ یخرج بالقرعة أو یختاره و یتعیّنه فی ما بعد.

نعم، الإنشاء لایتعلّق بالمبهم المطلق إذْ لا معنی لإیجاده.

هل یعتبر تعیین مَنْ له العقد؟

بمعنی تعیین کلٍّ من البائع و المشتری للآخر فی مقام الإثبات، بأن یکون البائع عالما بمَنْ یقع الشراء له و المشتری عالما بمن یقع البیع له، و علم الموجب بأنّ القابل یقبل لنفسه أو لغیره، و علم القابل بأنّ الموجب یوجب لنفسه أو لغیره مع معلومیة الغیر عندهما.

و بعبارة اُخری: هل یعتبر فی صحة البیع أن یعرف المشتری مالک المبیع، بأن یعرف المشتری أنّ العاقد الموجب هل هو مالک المبیع أم وکیله؟ و یعرف البائع مالک الثمن بأن یعرف أنّ العاقد القابل هل هو مالک الثمن أو وکیله؟

و بعبارة ثالثة: أنّ تعیین المالکین ثبوتا یکفی فی صحة العقد أم لابدّ من معرفة کلٍّ منهما للآخر إثباتا؟

الأقوی عند الشیخ الأعظم(3) قدس سره هو اعتبار التعیین فی مقام الإثبات لوجهین:

الأوّل: حجیة ظاهر کلام المتعاقدین: تدل علی أنّهما یبیعان و یشتریان لأنفسهما و أمّا لو کان العقد لغیرهما فلابدّ من التنبیه و إقامة القرینة علیه.

ص: 104


1- 1 . الوصیة العهدیة: کان یوصی فیها بما یتعلّق بتجهیزه أو باستیجار الحج أو الصوم أو الصلاة أو الزیارات له. [کذا فی الوسیلة /187 للسیّد أبوالحسن الأصفهانی رحمه الله ].
2- 2 . الوصیة التملیکیة: کان یوصی بشی ء من ترکته لشخصٍ.
3- 3 . المکاسب 3/303.

الثانی: تبعیة العقود للقصود: حیث أنّ المتعاقدین لم یذکرا غیرهما فقصدهما إجراء العقد لأنفسهما فیقع العقد علی ذلک القصد لتبعیة العقد للقصد.

ثم ذکر حتّی علی القول بعدم الاعتبار: «لو صرّح بإرادة خصوص المخاطب اتبع قصده، فلا یجوز للقابل أن یقبل عن غیره»(1).

أقول: الوجه فی هذا الأخیر واضح لأنّ مع ارادة المخاطب لو قبل القابل عن غیره لم یطابق القبول الإیجاب فلایتمّ العقد. ثم استشهد بقول العلاّمة علی کلامه الأخیر فی التذکرة حیث یقول: «لو باع الفضولی أو اشتری مع جهل الآخر فإشکال ینشأ من أنّ الآخر قصد تملیک العاقد أمّا مع العلم فالأقوی ما تقدّم»(2).

مراد العلاّمة ممّا تقدّم هو وقوفه علی إجازة المالک ولکن ضعّف إشکاله الشیخ الأعظم(3) بأنّه مخالف للإجماع و السیرة إلاّ أنّه مبنّی علی کلامه من مراعاة ظاهر الکلام.

ثم یمکن أن یناقش فی وجهی الشیخ الأعظم لإثبات الاعتبار:

فی الأوّل: بعد حجیة الظواهر ولو کانت فی العقود، یمکن أن تکون مالکیة المبیع أو الثمن للغیر تکون قرینة عرفیة علی أرادته فی العقد.

و فی الثانی: بعد ثبوت القرینة فیکون ذاک الغیر مقصودا للعقد و بقاعدة تبعیة العقود للقصود یقع العقد له.

ثم اطلاق «أحل اللّه البیع»(4) و «تجارةً عن تَراضٍ»(5) و «افوا بالعقود»(6) یشمل مورد عدم معرفة متبایعین للآخر إثباتا، لأنّه بیع و تجارة و عقد عرفیٌّ فَتَشْملُهُ الإطلاقات، فیکفی تعیّنهما ثبوتا و فی نفس الأمر.

ص: 105


1- 1 . المکاسب 3/303.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/17.
3- 3 . المکاسب 3/304.
4- 4 . سورة البقرة ء /275.
5- 5 . سورة النساء /29.
6- 6 . سورة المائدة /1.

حتّی فی العقود التی یکون طَرَفا العقد رکنا من أرکانِها نحو النکاح و الوقف و الهبة و الوصیة لا یعتبر ذکرهما فی مقام الإثبات و یکفی تعیینهما ثبوتا کما مرّ.

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة مقالة الشیخ اسداللّه التستری(1) قدس سره من الفرق فی المقام بین العقود التی لا یکونُ طَرَفا العقد رکنا من أرکانِها و بین ما یَکُوْنُ رکنا حیث ذهب فی الأوّل إلی عدم اعتبار التعیین فی مقام الإثبات، و فی الثانی إلی اعتباره، و استدل علی الاعتبار بأنّ الزوجین فی النکاح کالعوضین فی سائر العقود و تختلف الأغراض باختلافهما و إذا لم یتعیّن فی مقام الإثبات لم یتوارد القبول علی الإیجاب. و لفظ البیع و نحوه من العقود یطلق علی البیع لنفسه أو موکوله أو لمالکه، و أمّا الزواج و نحوهُ فلا.

ولکن أنت تری بأنّ الوجهین المذکورین فی کلامه قدس سره إنَّما یَأْتِیانِ للاعتبار فی مقام الثبوت لا الإثبات. فلا فرق فی عدم الاعتبار بین العقود و الحمدللّه.

ص: 106


1- 1 . مقابس الأنوار /115.

4- الاختیار

اشارة

و المراد به أنّ القصد الذی قد مرّ اعتباره فی العقود هل یعتبر أن یکون من طیب النفس و الرضا، لا عدمهما - الذی یُسَمّی إکراها - و لیس المراد بالاختیار هنا الاختیار فی قبال الجبر و الإلجاء.

و لذا قال الشیخ الأعظم: «المراد به القصد إلی مضمون العقد عن طیب نفس فی مقابل الکراهة و عدم طیب النفس، لا الاختیار فی مقابل الجبر»(1).

و استدل علیه بوجوه:

الأوّل: الإجماع

قال الشیخ الأعظم: «و یدل علیه قبل الإجماع»(2).

لعلّ هذا تَلْوِیْحٌ منه إلی احتمال مدرکیة الإجماع و أنّ الأدلة غیره، کافیة فی إثباته.

قال الفقیه المتتبّع السیّد العاملی: «و اشتراط الاختیار و عدم صحة بیع المکرَه قد نفی عنه الخلاف فی الغنیة(3) و الریاض(4)، و استظهر ذلک - أعنی عدم الخلاف - فی مجمع البرهان(5)، و ادّعی علیه الإجماع فی التذکرة(6) و الحدائق(7) و ذلک فی غیر المکرَه بحقٍّ،

ص: 107


1- 1 . المکاسب 3/307.
2- 2 . المکاسب 3/307.
3- 3 . غنیة النزوع /214.
4- 4 . ریاض المسائل 8/216.
5- 5 . مجمع الفائدة و البرهان 8/155.
6- 6 . تذکرة الفقهاء 10/13.
7- 7 . الحدائق 18/374.

و أمّا فیه ففی الغنیة(1) أنّ صحة بیعه معه ممّا لاخلاف فیه، و علی ذلک نص جماعة(2) کثیرون»(3).

أقول: نفی الخلاف ثابت فی کلمات القوم و أمّا الإجماع فَلَمْ یرد فی التذکرة(4) إلاّ علی بطلان بیع التلجئة - و یأتی الکلام فیها - و فی الحدائق(5) أیضا نفی الخلاف فی اشتراط الاختیار، نعم قال بعد صفحة: «و هم قد سلّموا بأنّ عقد المکرَه حال الإکراه باطل إتفاقا»(6).

ولکن قال فی الجواهر: «و المکرَه بغیر حقّ الذی هو ممّا رفع الشارع الحکم عمّا أکره علیه من قول أو فعل بلاخلاف أجده فیه بیننا، بل الإجماع بقسمیه علیه، بل الضرورة من المذهب...»(7).

الثانی: الکتاب

یدل علیه قوله تعالی: «إلاّ أن تکون تجارةً عن تراضٍ منکم»(8)

قد مرّ منّا فی أوّل المجلد الأوّل من هذا الکتاب(9) البحث حول هذه الآیة الشریفة و قلنا هناک بأنّ الاستثناء الوارد فیها منقطع و هی تدل علی صحة کلّ تجارة تَقَعُ عن تراضی الطرفین، و حیث أنّ الرضا و طیب النفس مفقود فی بیع المکرَه فلا یدخل فی

ص: 108


1- 1 . غنیة النزوع /214.
2- 2 . منهم: ثانی الشهیدین فی المسالک 3/157 و الشیخ یوسف فی الحدائق 18/376.
3- 3 . مفتح الکرامة 12/553.
4- 4 . تذکرة الفقهاء 10/13.
5- 5 . الحدائق 18/373.
6- 6 . الحدائق 18/374.
7- 7 . الجواهر 22/265.
8- 8 . سورة النساء /29.
9- 9 . الأراء الفقهیة 1/13.

المستثنی و لا یحکم بصحته، بل یدخل فی المستثنی منه و هو قوله تعالی: «لا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل»(1) و یحکم ببطلانه.

الثالث: قوله صلی الله علیه و آله : لا یحلّ مال امری ءٍ مسلم إلاّ عن طیب نفسه.

(2)

قد مرّ فی الدلیل الثالث من أدلة قاعدة ما یضمن من هذا الکتاب(3) ورود روایات صحاح بهذا المضمون و کذا تمامیة دلالتها علی حرمة التصرف فی مال الغیر من دون طیب نفسه بلا فرق بین الْحُرْمَتَیْنِ: التکلیفیة و الوضعیة، و الأخیرة تدل علی بطلان بیع المکرَه، فراجع ما حررناه هناک و لا نعید.

الرابع: حدیث الرفع
اشارة

و هو صحیحة حریز بن عبداللّه عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : رفع عن اُمّتی تسعة أشیاء: الخطأ و النسیان و ما اُکرهوا علیه و ما لایعلمون و ما لایطیقون و ما اضطروا إلیه و الحسد و الطیرة و التفکر فی الوسوسة فی الخلوة [الخلق ن ل] ما لم ینطقوا بشفة.(4)

و ذکر الصدوق مثلها مرسلاً عن النبی صلی الله علیه و آله بلفظ «وُضع» بدل «رُفع» فی الفقیه و قال: قال النبی صلی الله علیه و آله : وضع عن اُمتی تسعة أشیاء: السهو و الخطأ و النسیان و ما اکرهوا علیه و ما لایعلمون و ما لایطیقون و الطیرة و الحسد و التفکر فی الوسوسة فی الخلق ما لم ینطق الانسان بشفة.(5)

و فی نوادر أحمد بن محمّد بن عیسی عن اسماعیل الجعفی عن أبی عبداللّه علیه السلام

ص: 109


1- 1 . سورة النساء /29.
2- 2 . عوالی اللآلی 2/113، ح309.
3- 3 . الآراء الفقهیة 4/342.
4- 4 . التوحید /353، ح24، الخصال 2/417، ح9 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 15/369، ح1، الباب 56 من أبواب جهاد النفس.
5- 5 . الفقیه 1/59، ح132 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 7/293، ح2، الباب 37 من أبواب قواطع الصلاة، و 8/249، ح2، الباب 30 من أبواب الخلل الواقع فی الصلاة.

قال: قال سمعته یقول: وضع عن هذه الاُمة ست خصال: الخطأ و النسیان و ما استکرهوا علیه و ما لایعلمون و ما لایطیقون و ما اضطّروا إلیه.(1)

و فیه عن ربعی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : عفی عن اُمتی ثلاث: الخطأ و النسیان و الاستکراه، قال أبو عبداللّه علیه السلام : و هنا رابعة: و هی ما لایطیقون.(2)

و فیه عن الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : وضع عن اُمّتی الخطأ و النسیان و ما استکرهوا علیه.(3)

و هذه الروایات الثلاثة الأخیرة معتبرة الإسناد.

وصف الشیخ الأعظم حدیث الرفع ب-«الخبر المتفق علیه بین المسلمین»(4) و أنت تجده فی کتب العامة أیضا فراجعها.(5)

ثم ظاهر حدیث الرفع هو رفع العقاب و المؤاخذة ولکن الأئمة علیهم السلام استشهدوا به فی رفع بعض الأحکام الوضعیة - نحو بطلان الحلف بالطلاق والعتاق و الصدقة قال الشیخ الأعظم: «و الحلف بالطلاق و العتاق و إن لم یکن صحیحا عندنا من دون الإکراه أیضا، إلاّ أن مجرد استشهاد الإمام علیه السلام فی عدم وقوع آثار ما حلف به بوضع ما اُکرهوا علیه، یدلّ علی أنّ المراد بالنبوی لیس رفع خصوص المؤاخذة و العقاب الاُخروی.»(6) و ورد «لعموم المؤاخذة فیه لمطلق الإلزامن علیه بشی ءٍ»(7).

ص: 110


1- 1 . نوادر أحمد بن محمّد بن عیسی /74، ح157 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 23/237، ح3، الباب 16 من أبواب کتاب الأیمان.
2- 2 . نوادر أحمد بن محمّد بن عیسی /74، ح158 و نقل عنه وسائل الشیعة 23/237، ح4.
3- 3 . نوادر أحمد بن محمّد بن عیسی /74: ح159 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 23/237، ح5.
4- 4 . المکاسب 3/307.
5- 5 . نحو: سنن ابن ماجة 1/659، ح2043 و 2045، السنن الکبری للبیهقی 6/84، فتح الباری 11/478، المعجم الاُوسط للطبرانی 8/161، صحیح ابن حبان 16/202، کنزالعمال 4/232، ح10306 و 10307، الجامع الصغیر للسیوطی 1/277، ح1809.
6- 6 . المکاسب 3/308.
7- 7 . المکاسب 3/308.

و من الروایات المُسْتَشْهَد بِها فی المقام صحیحة صفوان بن یحیی و أحمد بن محمّد بن أبی نصر عن أبی الحسن علیه السلام فی الرجل یستکره علی الیمین فیحلف بالطلاق و العتاق و صدقة ما یملک أیلزمه ذلک؟ فقال: لا، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : وضع عن امتی ما اُکرهوا علیه و ما لم یطیقوا و ما أخطأوا.(1)

و یمکن أن یستشهد بالروایات الواردة فی طلاق المکرَه و عتقه بضمیمة عدم الفرق و الفصل:

منها: صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن طلاق المکرَه و عتقه، فقال: لیس طلاقه بطلاق و لا عتقه بعتق، الحدیث.(2)

و منها: مرسل عبداللّه بن سنان عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سمعته یقول: لو أنّ رجلاً مسلما مرّ بقوم لیسوا بسلطان، فقهروه حتّی یتخوّف علی نفسه أن یعتق أو یطلق، ففعل لم یکن علیه شی ء.(3)

و منها: حسنة یحیی بن عبداللّه بن الحسن المثنی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سمعته یقول: لا یجوز طلاق فی استکراه... و إنّما الطلاق ما اُرید به الطلاق من غیر استکراه و لا إضرار، الحدیث.(4)

و منها: صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن عتق المکرَه؟ فقال: لیس عتقه بعتق.(5)

و منها: معتبرة برید و محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: من اشتری طعام

ص: 111


1- 1 . وسائل الشیعة 23/226، ح12، الباب 12 من أبواب کتاب الأیمان.
2- 2 . وسائل الشیعة 23/41، ح2، الباب 19 من أبواب کتاب العتق - وسائل الشیعة 22/86، ح1، الباب 37 من أبواب مقدمات الطلاق.
3- 3 . وسائل الشیعة 22/86، ح2.
4- 4 . وسائل الشیعة 22/87، ح4.
5- 5 . وسائل الشیعة 23/41، ح1.

قوم و هم له کارهون قُصّ لهم من لحمه یوم القیامة.(1)

یمکن أن یقال: إنّ ظاهر حدیث الرفع مطلق الآثار و هی أعم من المؤاخذة الدنیویة و الاُخرویة و غیرهما و ذلک لأنّ المرفوع التسعة تنزیلاً و جعلاً و لازمه التعمیم حتّی بالنسبة إلی الأحکام الوضعیة.(2)

أقول: إذا کان الفعل موضوعا لحکم آخر و یکون فی ثبوت ذلک الحکم ثقلاً یرفعه الحدیث بفقرتی «ما اضطروا إلیه و ما استکرهوا علیه فلا یترتب ذلک الحکم الوضعی نحو الإکراه فی البیع أو الطلاق أو العتق(3) بخلاف فقرة «لایعلمون» لأنّها تَرْفع التکلیف فقط لا الوضع فنحن نذهب إلی التفصیل بین فقرات حدیث الرفع فی شموله للأحکام الوضعیة، و فقرة الاضطرار و الاستکراه تشملها و أمّا ما لایعلمون فلا، و توضیحه یطلب من بحث الاُصول.

فحینئذ فلا نحتاج إلی الروایات المستشهد بها استقلالاً مستقلاً و لا بضمیمة عدم الفرق و الفصل، و اللّه العالم.

ثم لابدّ من التَذْکِیر بأُمُوْرٍ:
الأوّل: المراد من جملة: «المکرَة قاصد إلی اللفظ دون المعنی»

قال العلاّمة فی التحریر: «لو اُکره علی الطلاق فطلَّق ناویا له، فالأقرب أنّه غیر مکرَه، إذ لا إکراه علی القصد»(4).

و قال الشهید: «و یعنی بکمال المتعاقدین بلوغهما و عقلهما... و اختیارهما فعقد المکرَه باطل إلاّ أن یرضی بعد الاکراه، و الأقرب أنّ الرضا کاف فیمن قصد إلی اللفظ دون مدلوله فلو اُکره حتّی ارتفع قصده لم یؤثر الرضا کالسکران»(5).

ص: 112


1- 1 . وسائل الشیعة 17/338، ح11، الباب 1 من أبواب عقد البیع.
2- 2 . کما علیه الفقیه الیزدی فی حاشیته علی المکاسب 2/49.
3- 3 . راجع دروسٌ فی مسائل علم الأصول 4/258 لشیخنا الاُستاذ قدس سره .
4- 4 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/51.
5- 5 . الدروس الشرعیة 3/192.

و قال ثانیه بعد نقل کلامه: «و هو تنبیه حسنٌ، إلاّ أنّ تحقق ذلک فی المکرَه بحیث یتلفظ بالعقد غیر قاصد إلی لفظه کالسکران نظر، فإنّ الإکراه علی اللفظ بحیث یکونُ حرکة اللسان من المکرِه غیر متحقق و لا مقدور للمکرِه. و إنّما یتحقق الإکراه بحمل المکرِه للمکرَه علی الفعل باختیاره، خوفا من المکرِه علی نفسه أو ماله أو ما فی حکمهما مع حضور عقله و تمییزه، بخلاف المجنون و السکران و نحوهما. غیر أنّ ما ادعاه ( رحمه الله ) إذا بلغ الإلجاء إلیه و تحقق وقوعه، فالأمر فیه کما قاله»(1).

و نحوه فی الروضة(2).

و قال فی طلاق المسالک: «لو قصد المکرَه إیقاع الطلاق ففی وقوعه وجهان، من أنّ الإکراه أسقط أثر اللفظ و مجرد النیة لا تعمل، و من حصول اللفظ و القصد. و هذا هو الأصح»(3).

و قال فی الروضة: «... کما لا اکراه لو ألزمه بالطلاق ففعله قاصدا إلیه»(4).

و قال سبطه السیّد محمّد العاملی: «و لو طلّق المکرَه ناویا الطلاق، قیل: یقع، و هو اختیار العلاّمة فی التحریر و جدّی فی الروضة و المسالک لحصول اللفظ و القصد، و لأنّ القصد لا إکراه علیه فلو لا حصول الرضا بالعقد لما قصد إلیه. و قیل: یبطل، إذا المفروض أنّه لو لا الاکراه لما فعله، و عقد المکرَه باطل بالنص و الإجماع، و المسالة محلّ إشکال»(5).

و قال الفاضل الأصبهانی بعد نقل کلام العلاّمة فی التحریر: «یعنی و إن ظن أنّه یلزمه لامجرد لفظه بالإجبار و إن کان لایریده، أمّا لو علم أنّه لا یلزمه إلاّ اللفظ و له

ص: 113


1- 1 . المسالک 3/156.
2- 2 . الروضة البهیة 3/226.
3- 3 . المسالک 9/22.
4- 4 . الروضة البهیة 6/21.
5- 5 . نهایة المرام 2/12.

تجریده عن القصد فلا شبهة فی عدم الإکراه»(1).

الظاهر من سیّد الریاض قبول کلام الشهیدین حیث علّل صحة عقد المکرَه بعد ارْتِضائِهِ بقوله: «بأنّه (المکرَه) بالغ رشید قاصد إلی اللفظ دون مدلوله و إنّما منع عدم الرضا فإذا أثّر العقد، کعقد الفضولی حیث انتفی القصد إلیه من مالکه مع تحقق القصد إلی اللفظ فی الجملة، فلمّا لحقته إجازة المالک أثّرت و لا یعتبر مقارنته للعقد للأصل»(2).

أقول: ولکن هذا الظاهر لایجتمع مع ما هو بصدده من تصحیح عقد المکرَه بعد الرضا به، فلابدّ من حمل لفظ «دون» علی مَعْنی «إذا عَرَضَ» أو «أمکن» أو «قد أمکن»(3) لا علی معنی «غیر»، فلا یُسْتَفادُ من عبارته قدس سره ما ذَهَبَ إلیه الشهیدانِ فی هذا الأمر.

و قال الفاضل النراقی: «دلّ العرف و انعقد الإجماع القطعی علی لزوم قصد النقل فی تحقق البیع أو التلفظ باللفظ الظاهر فیه أو الاتیان بعمل ظاهر فیه مع عدم العلم بعدم القصد من قرینة خارجیّة و عدم ضمّ ما یوجب ظهور عدم القصد... و لا شک أنّ الاکراه من الاُمور المنافیة لظهور القصد، بل یوجب ظهور خلافه فمعه لا یحکم بتحقّق البیع»(4).

أقول: ظاهر الفاضل النراقی رحمه الله تحقق قصد اللفظ و مدلوله فی عقد المکرَه ولکنّه نفی قصد تحقّق العقد و إنشائه و ترتب الأثر علیه.

و ناقش صاحب الجواهر الشهید الثانی و قال بعد نقل کلامه فی المسالک: «قلت: مرجع ذلک إلی أنّ الاکراه فی الظاهر دون الواقع، و قد تکرر من العامة و الخاصة خصوصا الشهید الثانی فی المسالک و الروضة فی المقام و فی البیع أنّ المکرَه حال إکراهه لا قصد له للمدلول، و إنّما هو قاصدٌ للفظ خاصة، و فیه منع واضح، ضرورة تحقق الإنشاء و القصد فیه و لذا ترتب علیه الأثر مع الاکراه بحقٍّ و مع تعقّب الاجازة بالعقد بل ظاهر قوله علیه السلام :

ص: 114


1- 1 . کشف اللثام 8/9.
2- 2 . ریاض المسائل 8/218.
3- 3 . فی جمهرة اللغة لابن دُرید: «دونک هذا الشی ء: إذا عَرَضَک و أمکنک [أی قد أمکنک] راجع ترتیب جمهرة اللغة 1/664.
4- 4 . مستند الشیعة 14/267.

«إنّما الطلاق»(1) إلی آخره تحقق الارادة من المکرَه، بل لعلّ عدم القصد للمدلول فی المکرَه من التوریة التی لم نوجبها علیه و حینئذ فالمکرَه قاصد علی نحو غیره إلاّ أنّه قصد اکراهٍ لا قصد اختیارٍ، و إن شئت عبّرت عن ذلک بالرضا و عدمه...»(2).

أقول: و أنت تری بأنّ صاحب الجواهر یری قصد اللفظ و مدلوله و تحقّق العقد و الإنشاء و ترتب الأثر علیه فی عقد المکرَه، ولکن لم یترتب علیه الأثر لفقد الاختیار و الرضا.

و أخرج الشیخ الأعظم مَعْنیً آخَرَ من کلامهم وردّ علی صاحب الجواهر و قال: «و لیس مرادهم [أی مراد العلاّمة و الشهیدین] أنّه لا قصد له إلاّ إلی مجرد التکلّم... فالمراد بعدم قصد المکرَه عدم القصد إلی وقوع مضمون العقد فی الخارج و أنّ الداعی له إلی الإنشاء لیس قصد وقوع مضمونه فی الخارج، لا أنّ کلامه الإنشائی مجرد عن المدلول، کیف و هو معلولٌ للکلام الإنشائی إذا کان مستعمَلاً غیر مهمل»(3).

و قال: «... لا ینبغی أن تحمل علی الکلام المجرد عن قصد المفهوم الذی لا یسمّی خبرا و لا إنشاءً و غیر ذلک ممّا یوجب القطع بأنّ المراد بالقصد المفقود فی المکرَه هو القصد إلی وقوع أثر العقد و مضمونه فی الواقع و عدم طیب النفس به، لا عدم إرادة المعنی من الکلام»(4).

و قال المحقّق النائینی فی معنی کلام الشهیدین: «أنّ المکرَه قاصد إلی اللفظ غیر قاصد إلی مدلوله، هو أنّ المکره لم یقصد ما هو ظاهر إنشاء کلّ منشِیء من رِضاهُ بوقوع المدلول فی الخارج، کما أنّ الفضولی لم یقصد ما هو ظاهر المعاملة من وقوعها لنفسه»(5).

ولکن اعترض المحقّق الإیروانی علی الشیخ الأعظم و قال: «إنّ الإکراه لایرتفع

ص: 115


1- 1 . وسائل الشیعة 22/87، ح4 حسنة یحیی بن عبداللّه بن الحسن المثنی الماضیة.
2- 2 . الجواهر 32/15.
3- 3 . المکاسب 3/309.
4- 4 . المکاسب 3/310.
5- 5 . منیة الطالب 1/381.

قصد اللفظ و لا قصد المعنی استعمالاً و لا القصد إلی تحقق المعنی خارجا، و إنّما المرتفع بالاکراه هو کون الداعی إلی اللفظ و الانشاء هو قصد تحقّق المعنی و لأجل غایة تحقّق المعنی المنشأ فی الخارج، فإنّ إنشائه حینئذ و بعد الإکراه لیس بذلک الداعی و إن کان قاصدا للمعنی مقارنا للإنشاء و إنّما إنشائه بداعی إکراه المکرِه بحیث لو کان الداعی إلیه قصد حصول المعنی بسببه خرج فعله عن الإکراه و إن قارن ذلک توعید المکرِه فإن مجرد المقارنة لا یجعله داخلاً تحت الإکراه و لعلّ مراد من قال: «إنَّ المکرَه إذا طلق ناویا فالأقرب وقوع الطلاق» هو هذه الصورة و إلاّ النیة لا ترتفع بالإکراه...»(1).

أقول: الظاهر عدم تمامیة مقالة الشهیدین من أنّ المکرَه قاصد لللفظ دون المعنی، لأنّ المکرَه یقصد اللفظ و المعنی لأنّه یستعمل اللفظ فی معناه، حتّی أنّه إنْ الإنشاء و الأثر المترتب من العقد إلاّ أنّ قصده یکون عن کُرْهٍ لا اختیار فلا یحصل طیب النفس المعتبر فی العقود فلا یقع، فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة مقالة الشیخ الأعظم من انعدام قصد وقوع مضمون العقد فی الخارج من المکرَه - و کما علیه ظاهر الفاضل النراقی - و تمامیة مقالات المحقّقین صاحب الجواهر و النائینی و الإیروانی قدس سرهم ، و کما علیه الفاضل المراغی حیث یقول: «و أمّا المکرَه فهو قاصد للفظ و قاصد لمعنی التملیک و الأثر ولکنّه فات عنه الرضا و لا یخفی ذلک علی من تأمّل فی الجملة»(2). و قال: «المکرَه قاصد لللفظ و المعنی معا لکنّه فاقد للرضا و هو غیر قصد المعنی»(3).

الثانی: حقیقة الإکراه

لابدّ من تحدید موضوع الإکراه و بحیث یتمیّز من نظائره من الاضطرار و الجبر. و لمّا لم یکن فی المقام تحدید شرعیٌّ فیمکن أخذ موضوعه من اللغة و العرف:

قال الفیومی: «أکْرَهْتُهُ علی الأمر إکراها: حَمَلْتُهُ علیه قهرا، یقال: فعلتُهُ کَرْها

ص: 116


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/185.
2- 2 . العناوین 2/712.
3- 3 . العناوین 2/53.

بالفتح أی إکراها و علیه قوله تعالی «طوعا أو کَرْها»(1) فقابل بین الضدین، قال الزجاج کلّ ما فی القرآن من «الکُرْه» بالضم فالفتح فیه جائز إلاّ قوله فی سورة البقرة «کتب علیکم القتال و هو کُرْهٌ لکم»(2)»(3).

و قال الجوهری: «أکرهته علی کذا: حملتُهُ علیه کُرها»(4).

قال الشیخ: «و أمّا الإکراه فجملته: أنّ الاکراه یفتقر إلی ثلاثة شرائط:

أحدها: أن یکون المکرِه قاهرا غالبا مقتدرا علی المکرَه مثل سلطان أو لصٍّ أو متغلِّبٍ.

و الثانی: أن یغلب علی ظنِّ المکرَه أنّه إن امتنع من المراد منه وقع به فیما هو متوعّد به.

و الثالث: أن یکون الوعید بما یستضرّ به فی خاصّة نفسه»(5).

و قال المحقّق: «و لا یتحقق الإکراه ما لم یکمل اُمور ثلاثة: کون المکرِه قادرا علی فعل ما توعَّدَ به و غلبة الظن أنّه یفعل ذلک مع امتناع المکرَه و أن یکون ما توعّد به مضرّا بالمکرَه فی خاصة نفسه أو مَنْ یجری مجری نفسه کالأب و الولد، سواءٌ کان ذلک الضرر قتلاً أو جرحا أو شتما أو ضربا و یختلف بحسب منازل المکرَهین فی احتمال الإهانة و لا یتحقّق الإکراه مع الضرر الیسیر»(6).

و قال ثانی الشهیدین: «و یتحقّق [الاکراه] بالخوف من المخالفة علی نفسه أو ماله أو عرضه و یختلف ذلک بحسب اختلاف أحوال الناس فی احتمال الإهانة و عدمها»(7).

ص: 117


1- 1 . سور آل عمران /83، و التوبة /53، و الرعد /15، و فصلت /11.
2- 2 . سورة البقرة /216.
3- 3 . المصباح المنیر /532.
4- 4 . صحاح اللغة 6/2247.
5- 5 . المبسوط 5/51.
6- 6 . الشرائع 3/4.
7- 7 . المسالک 3/111.

و قال فیه أیضا: «الخوف علی النفس أو المال أو العرض علیه أو علی بعض المؤمنین علی وجه لا ینبغی تحمله عادةً بحسب حال المکرَه فی الرفعة و الضعة بالنسبة إلی الإهانة»(1).

و قال الشیخ الأعظم فی حقیقة الإکراه: «حمل الغیر علی ما یکرهه و یعتبر فی وقوع الفعل عن ذلک الحمل: اقترانه بوعید منه مظنون الترتب علی ترک ذلک الفعل مضّرٍ بحال الفاعل أو متعلِّقه نفسا أو عرضا أو مالاً»(2).

و یمکن أن یلاحظ علیه:

أوّلاً: الإکراه عند الشیخ الأعظم هو حَمْلُ الغیر و إجباره علی القیام بفعل، فحینئذ لو تخیّل الإکراه فی مورد و قام بالفعل الذی یرفعه، فالفعل یکون صحیحا علی حدّ تعریفه و یترتب علیه جمیع آثاره أمّا بناءً علی تعمیم الإکراه لمطلق فاقد الرضا و طیب النفس یکون باطلاً لفقد الرضا و طیب النفس لا لتخیّل التحمیل و الاکراه.

و ثانیا: الإکراه بناءً علی تعریفه قدس سره یحتاج إلی فعلیة تهدید الظالم و وعیده المظنون ترتبه علی ترک ذلک الفعل، ولکن الإکراه لا یحتاج إلی فعلیة الوعید و التهدید، بل لو احتمل المکرَهُ الضررَ احتمالاً عقلائیا من دون أن ینطق الظالم ببنت شفة لو لم یعمل علی طبق مطلوبه فحینئذ یصدق الإکراه أیضا.(3)

و ثالثا: «الفاعل أو متعلِّقه» فی کلام الشیخ الأعظم قدس سره یشمل نفس المکرَه أو والده أو ولده أو غیرهما ممّن یعدّ الضرر علیهم ضررا علی نفسه، ولکن الأصحاب(4) قدس سرهم الحقوا دفع الضرر عن المؤمنین الأجانب بالضرر علی نفس المکرَه أو ما یتعلّق به، فلابدّ فی کلامه من إضافة «أو غیره من المؤمنین».

و قد مرّ فی بحث الولایة من قبل الجائر من هذا الکتاب بماذا یتحقق الإکراه؟

ص: 118


1- 1 . المسالک 3/139.
2- 2 . المکاسب 3/311.
3- 3 . هاتان الملاحظتان فی العقد النضید 2/515 مع ألفاظنا.
4- 4 . راجع الآراءُ الفقهیّةُ 3/194.

فراجع ما حررناه هناک و لا نعید، و الحمدللّه.

الثالث: هل یعتبر فی صدق الإکراه عدم إمکان التفصّی عن الضرر؟
اشارة

إمکان التفصّی تارة یمکن بالتوریة و اُخری بغیرها فیقع الکلام فی مقامین:

المقام الأوّل: التفصّی من الإکراه بالتوریة

قد مرّ تعریف التوریة فی بحث الکذب من المکاسب المحرّمه فی کتابنا هذا(1) و ذهبنا إلی أنّ التوریة داخلة فی موضوع الکذب ل-«أنّ المعتبر فی اتصاف الخبر بالصدق و الکذب هو ما یفهم من ظاهر الکلام لا ما هو المراد منه»(2) و نحنُ نُوافِقُ جَدّنا الشیخ جعفرا(3) و تِلْمِیْذَیْهِ صاحِبَی المفتاح(4) و الجواهر(5) أنْ التورِیَة تدخُلُ فی مَوْضُوْعِ الکَذِبِ أوْ حُکْمِهِ.

فحینئذ التفصی إلی التوریة لم یکن مندوحة للإکراه و هو صادق حتّی مع إمکان التوریة و یترتب علیه حکمه هذا هو المختار فی المقام.

و کما إنّ الشیخ الأعظم ذهب إلی عدم اعتبار إمکان التوریة فی صدق الإکراه - کما هو مُخْتارُنا - بأربعة وجوهٍ:

أ: عموم رفع الإکراه.

ب: خصوص النصوص الواردة فی طلاق المکرَه و عتقه.

ج: معاقد الإجماعات

د: الشهرات المدعات

و عقبه بقوله: «أنّ القدرة علی التوریة لا یخرج الکلام عن حیّز الإکراه عرفا»(6).

ص: 119


1- 1 . الآراءُ الفقهیةُ 3/64.
2- 2 . القوانین 1/419.
3- 3 . شرح القواعد 1/232.
4- 4 . مفتاح الکرامة 12/220.
5- 5 . الجواهر 22/72.
6- 6 . المکاسب 3/313.

ثم ذهب إلی اعتبار إمکان التفصی بغیر التوریة فی الإکراه و قال فی آخره: «و ما ذکرناه و إن کان جاریا فی التوریة إلاّ أنّ الشارع رخّص فی ترک التوریة... لما ذکرنا من ظهور النصوص و الفتاوی و بُعد حملها علی صورة العجز عن التوریة مع أنّ العجز عنها لو کان معتبرا لاُشیر إلیها فی تلک الأخبار الکثیرة(1) المجوّزة للحلف کاذبا عند الخوف و الإکراه خصوصا فی قضیة عمار و أبویه(2) حیث اُکرهوا علی الکفر... فقال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «إن عادوا علیک فُعد»(3) و لم ینبّهه علی التوریة...»(4).

ثم ذهب إلی تحقّق موضوع الإکراه و لو مع إمکان التفصی بالتوریة لأنّ الأصحاب(5) ذکروا من شروط تحقّق الإکراه أن یعلم أو یظنّ المکرَه أنه لو امتنع ممّا اُکره علیه وقع فیما توعّد علیه، فحینئذ لو علم المکرِه أنّ المکرَه ورّی و أوجد صورة ما أمره المکرِه لا واقعه فیَعْلَمُ بامتناعه ممّا أمر به و یفعل بما یتوعّد به، فمع إمکان التوریة یصدق الإکراه موضوعا.

أقول: ما ذکره قدس سره فی ذیل التوریة فی هذا المقام تام ولکنّه اختار فی بحث الکذب

ص: 120


1- 1 . وسائل الشیعة 23/224، الباب 12 من أبواب کتاب الأیمان، و قد ذکرتها فی بحث مسوغات الکذب راجع الآراء الفقهیة 3/69 و ما بعده.
2- 2 . للروایات الواردة حولها راجع البرهان فی تفسیر القرآن 3/456 طبع مؤسسة البعثة، و تفسیر نورالثقلین 4/104 طبع بیروت عام 1422ق.
3- 3 . وسائل الشیعة 16/225، ح2، الباب 29 من أبواب الأمر و النهی، معتبرة مسعدة بن صدقة، و وردت الروایة فی الکتب العامیة أیضا نحو: تفسیر الطبری 7/651، تفسیر الفخر الرازی 10/124، تفسیر القرطبی 10/118، و أخرجها عبدالرزاق و ابن سعد و ابن جریر و ابن أبی حاتم و ابن مردویه و الحاکم و صححها و البیهقی فی الدلائل من طریق أبی عبیدة محمّد بن عمار کما فی الدر المنثور 5/170.
4- 4 . المکاسب 3/315.
5- 5 . راجع المبسوط 5/51، و الشرائع 3/4، و تحریر الأحکام الشرعیة 4/50، و الروضة البهیة 6/20، و نهایة المرام 2/11، و الکفایة 2/318.

أنّ لزوم مراعاة التوریة مطابق للقواعد(1) مع عدم تمامیة ما ذکره من الفرق بین المقامین(2). و لذا عدل عن مقالته و قال قبل بیان الفرق و بعده ما نصه: «هذا الحکم جیّد [أی مراعاة التوریة فی جواز الکذب] إلاّ أنّ مقتضی إطلاقات أدلة الترخیص فی الحلف کاذبا لدفع الضرر البدنی أو المالی عن نفسه أو أخیه عدم اعتبار ذلک...»(3). و قال أیضا: «... أمّا علی ما استظهرناه من الأخبار - کما اعترف به جماعة - من جوازه مع الاضطرار إلیه من غیر جهة العجز عن التوریة فلا فرق بینه و بین الإکراه... ولکن الأحوط التوریة فی البابین»(4).

و الحاصل: بالمآل یلحق الشیخ الأعظم قدس سره بقول عدم التفرقة بین بابی الکذب و الإکراه فی عدم مراعاة التوریة.

المقام الثانی: التفصّی من الإکراه بغیر التوریة

الظاهر أنّ إمکان التفصی من الإکراه بغیر التوریة خروج موضوعی عن الإکراه، بحیث لو أمکن التفصی لم یصدق أنّه مکرَه، لأنّ من شرائط تحقّق الإکراه «کون المکرِه قادرا علی فعل ما توَّعَد به» کما مرّ من المحقّق فی الشرائع(5)، و مع امکان التفصی لم یکن المکرِه قادرا علی فعل ما توعّدَ به و یخرج الإکراه عن موضوعه لعدم تحقّق أحد شرائطه.

کما یظهر ذلک من ثانی الشهیدین(6) و الشیخ یوسف(7) و الفاضل النراقی(8)

ص: 121


1- 1 . المکاسب 2/26.
2- 2 . راجع المکاسب 2/28.
3- 3 . المکاسب 2/24.
4- 4 . المکاسب 2/29.
5- 5 . الشرائع 3/4.
6- 6 . المسالک 9/18 و 19.
7- 7 . الحدائق 25/159.
8- 8 . مستند الشیعة 14/267.

-قدس اللّه أسرارهم- .

و لذا قال الشیخ الأعظم: «لکن الإنصاف أنّ وقوع الفعل عن الإکراه لا یتحقّق إلاّ مع العجز عن التفصی بغیر التوریة لأنّه یعتبر فیه أن یکون الداعی علیه هو خوف ترتب الضرر المتوعّد به علی الترک، و مع القدرة علی التفصّی لا یکون الضرر مترتبا علی ترک المکرَه علیه، بل علی ترکه و ترک التفصّی معا، فدفع الضرر یحصل بأحد الأمرین: من فعل المکرَه علیه و التفصّی، فهو [المکرَه] مختار فی کلٍّ منهما و لا یصدر کلٌّ منهما إلاّ باختیاره فلا إکراه»(1).

و هکذا اعترف بالخروج الموضوعی للإکراه مع إمکان التفصّی بغیر التوریة فی قوله: «ولکن الاُولی أن یفرّق بین إمکان التفصّی بالتوریة و إمکانه بغیرها بتحقق الموضوع [أی موضوع الإکراه] فی الأوّل دون الثانی»(2) و استدل بما مرّ فی المقام الأوّل.

و أمّا ما ورد فی کلامه من استظهار عدم اعتبار العجز عن التفصّی بوجه آخر غیر التوریة فی صدق الإکراه بخبر عبداللّه بن سنان فغیر تام من وجوه، نذکر لک أوّلاً الروایة، و ثانیا استدلال الشیخ الأعظم ثمّ وجوه المناقشة فیه ثالثا:

أمّا الروایة: فهی خبر عبداللّه بن سنان قال: قال أبو عبداللّه علیه السلام : لا یمین فی غضب و لا فی قطیعة رحم و لا فی جبر و لا فی إکراه، قال: قلت: أصلحک اللّه فما فرق بین الجبر و الإکراه؟ قال: الجبر من السلطان، و یکون الإکراه من الزوجة و الاُمّ و الأب و لیس ذلک بشی ءٍ.(3)

تقریب الاستدلال: فرّقت الروایة بین الجبر من السلطان الذی لا یمکن الفرار منه و بین الاکراه من الزوجة و الاُمّ و الأب الذین یمکن عادة التفصّی من إکْراهِهِمْ بالنسبة إلی الزوج و الولد، فیصدق الإکراه مع إمکان التفصّی منه بغیر التوریة ثمّ زاد علیه حتی مع إمکان التفصّی منه بالتوریة أیضا یصدق الإکراه لاتحاد المناط و لعدم الفرق بین التخلص

ص: 122


1- 1 . المکاسب 3/314.
2- 2 . المکاسب 3/316.
3- 3 . وسائل الشیعة 23/235، ح1، الباب 16 من أبواب کتاب الأیمان.

من الاکراه بالکلام أو الفعل الآخر.(1)

و أمّا وجوه المناقشة فی استظهاره فَهِیَ: أوّلاً: ضعف سند روایة ابن سنان بموسی بن سعدان الحناط کما قال النجاشی فی شأنه: «ضعیف فی الحدیث کوفی له کتب کثیرة»(2) و بعبداللّه بن قاسم المشترک بین جماعة کلّهم ضعفاء أو مهملین و لم یرد فیهم توثیق.(3)

و ثانیا: الصدق العرفی غیر قابل للتعبد، فلا یمکن استظهاره من الروایة تعبدا، و لا یستفاد منها إلحاق حکم الإکراه بهم تعبدا - لا التعبد فی الصدق العرفی فی الموضوع -، لأنّ الحکم یدور مدار الإکراه فلایصلح الحاق غیره به.

و ثالثا: الاکراه من الزوجة و الاُمّ و الأب أمر ممکن بل واقع و لا یلزم فی صدق الإکراه کون المکرِه أقوی من المکرَه، لإمکانهم بهتک عِرْض الزوج و الولد.

و إذا جاء الإکراه من قبلهم موضوعا فلا یمکن الإلحاق بالإکراه حکما.

و رابعا: التقابل بین الجبر و الإکراه فی الروایة لجهة بیان التسویة بین الموارد، و عدم الفرق بین کون المکرِه: الجابِر الذی هو السلطان الجائر أو غیره مع صدق الإکراه فی کلیهما و لایعقل جعل السببیة للأخص بعد جعلها للأعم للزوم اللغویة.(4)

الرابع: هل الفرق بین الاکراه فی الْحُکْمَیْنِ التکلیفی والوضعی موجود أم لا؟

ذهب إلی الفرق الشیخ أسداللّه فی المقابس(5) و تبعه الشیخ الأعظم(6) و تلمیذه الفاضل المامقانی(7) قدس سرهم بحجة أنّ المجوّز فی الحکم التکلیفی قیام الإکراه علی خلافه و

ص: 123


1- 1 . راجع المکاسب 3/314.
2- 2 . رجال النجاشی /404، رقم 1072.
3- 3 . المعین علی معجم رجال الحدیث /347.
4- 4 . یظهر کلّها من السیّد الخمینی رحمه الله فی کتابه البیع 2/66.
5- 5 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /17.
6- 6 . المکاسب 3/317.
7- 7 . غایة الآمال /334.

هو لایصدق موضوعا مع إمکان التفصّی، بخلاف الحکم الوضعی لأنّ المناط فی صحة العقود هو طیب النفس و الرضا بها و مع فقدانه ولو مع إمکان التفصّی یصدق الإکراه و تبطل العقود.

فحینئذ نسبة الإکراه بین الحکمین هی العموم و الخصوص المطلق، الإکراه فی الحکم الوضعی یکون العام و فی الحکم التکلیفی یکون الخاص لأنّ المعتبر فیه عدم إمکان التفصّی و لا یکون عدم إمکان التفصّی معتبرا فی الإکراه فی الحکم الوضعی، ولکن النسبة بین مناط الإکراهین فی رفع کلِّ منهما هی العموم و الخصوص من وجه لأنّ المناط فی تحقق الاکراه فی الأحکام الوضعیة فقدان طیب النفس و المناط فی الأحکام التکلیفیة توقف دفع الضرر علی إتیان الفعل المکرَه علیه و بین المناطین مادة اجتماع و هی لو فعل ما اُکره علیه مِمّا لا یمکن التفصّی عنه مع عدم طیب النفس، و مادتی الافتراق، لو فعله مع طیب النفس و الاُخری لو فعله مع إمکان التفصّی و مع عدم طیب نفسه.

و لذا قال الشیخ الأعظم: «إنّ الاکراه الرافع لأثر الحکم التکلیفی أخص من الرافع لأثر الحکم الوضعی. ولو لوحظ ما هو المناط فی رفع کلّ منهما من دون ملاحظة عنوان الإکراه کانت النسبة بینهما العموم من وجه، لأنّ المناط فی رفع الحکم التکلیفی هو دفع الضرر و فی الحکم الوضعی هو عدم الارادة و طیب النفس...»(1).

ثم جاء بمثل فی المقام و قال: «من کان قاعدا فی مکان خاصّ خالٍ عن الغیر متفرغا لعبادة أو مطالعة فجاءه مَنْ أکرهه علی بیع شی ءٍ ممّا عنده و هو فی هذه الحال غیر قادر علی دفع ضرر و هو کاره للخروج عن ذلک المکان، لکن لو خرج کان له فی الخارج خدمٌ یکفونه شرّ المکرِه فالظاهر صدق الإکراه حینئذ بمعنی عدم طیب النفس لو باع ذلک الشی ء بخلاف مَنْ کان خدمه حاضرین عنده... ولو فرض فی ذلک المثال إکراهه علی محرّمٍ لم یعذر فیه بمجرد کراهة الخروج عن ذلک المنزل...»(2).

ص: 124


1- 1 . المکاسب 3/319.
2- 2 . المکاسب 3/317.

ثم تمسک بخبر عبداللّه بن سنان(1) الماضی و قال: «فالإکراه المعتبر فی تسویغ المحظورات هو الإکراه بمعنی الجبر المذکور فی الروایة و الرافع لأثر المعاملات هو الإکراه الذی ذکر فیها أنّه قد یکون من الأب و الولد و المرأة و المعیار فیه عدم طیب النفس فیها لا الضرورة و الإلجاء...»(2).

أقول: لا یمکننی موافقة الشیخ الأعظم فی الفرق بین الحکمین فی الإکراه لأنّ الإکراه فی کلیهما واحد و هو الإجبار و الإلزام و الحمل علی شی ءٍ بکره و إجبار کما مر عن الشیخ(3) و المحقّق(4)، فما ذکره قدس سره من مثاله لا یعدّ إکراها لا فی التکلیفیات و لا فی الوضعیات لإمکان التفصّی منه فی المثال بترک ذلک المکان و الخروج منه.

و أمّا تمسکه بخبر عبداللّه بن سنان فقد ظهر عدم تمامیته فی المناقشات الواردة حوله التی مرّ آنفا و مختصرها التسویة بین الجبر و الإکراه الواردتان فیها و یکون کلاهما شیئا واحدا و الإتیان بهما متعددا بجهة التنبیه علی أنّهما شی ءٌ واحدٌ، لأنّ الإکراه من الزوجة و الاُمّ و الأب قد یخفی علی الناظر کَوْنُهُ إکْراها.

و بالجملة: نحن نذهب إلی عدم الفرق فی الإکراه بین الْحُکْمَیْنِ: التکلیفی و الوضعی و قولُنا مُوافِقٌ للمشهور بین الأصحاب حیث لم یذکروا هذا الفرق فی المقام و جاء الفرق من قبل الأعلام الثلاثة و تبعهم المحقّق النائینی(5) - قدس اللّه أسرارهم - .

و من المصرحین بعدم الفرق السیّد الخمینی(6) رحمه الله و الاُستاذ المحقّق(7) - مدظله - و الحمدللّه.

ص: 125


1- 1 . وسائل الشیعة 23/235، ح1.
2- 2 . المکاسب 3/317 و 318.
3- 3 . المبسوط 5/51.
4- 4 . الشرائع 3/4.
5- 5 . راجع المکاسب و البیع 1/437 و مابعده.
6- 6 . کتاب البیع 2/67.
7- 7 . العقد النضید 2/535.
الخامس: الإکراه علی أحد الأمرین
اشارة

و هما إمّا تَکْلِیفِیّان أوْ وَضْعِیّانِ أو أحدهما تکلیفیٌّ و الآخر وضعیٌّ، فیقع الکلام فی ثلاثة مقامات:

المقام الأوّل: الاکراه علی الأمرین التکلیفیین

1- و هما إن کانا مُحَرَّمَیْنِ تکلیفیین:

أ: و کانا متساویین فی ملاک التحریم و لم یکن أحدهما أشدّ مبغوضیة من الآخر فی نظر الشارع کان المکرَه مخیرا فی اختیار أیّ منهما لأنّ کُلاًّ منهما یعدّ من المکرَه علیه، نحو الإکراه علی شرب الخَمْرَیْن: الأحمر أو الأسود.

ب: و إن کانا غیر متساوِیی، الأقدام فی ملاک التحریم و کان أحدهما أشدّ مبغضویة من الآخر فی نظر الشارع فلابدّ من اختیار ما کان أقل مبغوضیة، نحو الإکراه علی شرب النجس أو الخمر. و الوجه فی ذلک لعدم کون الخمر بالخصوص موردا للإکراه هذا إذا کانا عَرْضیین.

ج: و أمّا إذا کانا طولیین بأن أکره علی شرب الخمر إمّا فی یوم الجمعة أو یوم السبت فلا یجوز له الشرب فی یوم الجمعة لأنّه غیر مکرَه علیه و قادر علی ترکه فلا تجوز المبادرة إلیه فی یوم الجمعة فحینئذ یکون متعلَّق الإکراه هو الفرد المتأخر فقط.

د: نعم، إذا کان طولیین ولکن الثانی منهما أشدّ حرمة و الأوّل أقل و یعلم المکرَه من الخارج ببقاء الإکراه إلی زمن الثانی فلابد أن یأتی بالأوّل لئلا یقع فی الثانی نحو: أن یکون الأوّل شرب الخمر و الثانی قتل النَّفْس، و الدلیل علیه عدم وقوعه فی ما یکون أشدّ حرمة من الأوّل.

2- و إن کان الإکراه علی ترک أحد الواجبین:

أ: فإن کانا متساویین فی الملاک فللمکرَه التخییر نحو: ترک أداء الزکاة أو الخمس.

ب: و إن کانا مُخْتَلِفَیْنِ فیه فلابدّ للمکرَه من اختیار الأقل و ترک الأشدّ، نحو ترک أداء الحج أو الصلاة، فی شهر ذی الحجة، و الثانی یکون الأشدّ و الأهم.

هذا إذا کانا عَرْضیین، و أمّا إذا کانا طولیین فیکون:

ص: 126

ج: إذا کان اُکره علی ترک واجبین طولیین نحو ترک الظهرین أو المغربین، أو ترک صیام الیوم الأوّل من شهر رمضان أو الثانی منه فحینئذ لابدّ من الإتیان بالواجب الأوّل منهما لأنّه غیر مکرَه علی ترکه و قادر علی فعله فیتعیّن علیه ترک الثانی.

د: نعم، إذا کان الثانی أشدّ ملاکا و المکرَه یعلم ببقاء الإکراه إلی زمن الثانی فلابدّ من الاختیار الأوّل الذی یکون أقلّ ملاکا نحو: الإکراه علی ترک الإنفاق علی من یجب علیه إنفاقه أو ترک الصلاة، و الدلیل علیه عدم وقوعه فی ما یکون أشدّ حرمة.

هذا کلّه فی الواجبات الاستقلالیة و أمّا الواجبات الضمنیة فتسقط الواجب بالإکراه بترک جزئه إلاّ الصلاة کما هو المعلوم. فلذا یکونُ الإکراهُ علی ترک جزءٍ أو شرطٍ أو الاتیان بمانع مُوْجِبا لِسُقُوْطِ الواجب إلاّ فی باب الصلاة(1) و فیها لابدّ من ملاحظة دلیل الجزئیة أو الشرطیة أو المانعیة و الاتیان بالباقی لو کان الإکراه یتعلق بإحداهنَّ متعیّنا ولو یتعلق بإحداهنَّ متردّدا لابدّ من ملاحظة قُوَّةِ الأدلة و الإتیان بالأقوی، مثلاً لو کان مکرَها علی ترک القیام أو الطمأنینة فَلابدّ من الإتیان بالقیام لأنّ دلیله لفظی(2) و دلیلها إجماع، أو دار الإکراه بین الوقت أو الطهور و بین غیرهما من الأجزاء و الشرائط فلابدّ من تقدیمهما علی غیرهما، و التفصیل یطلب من باب التزاحم فی بحث الاُصول.

و بما ذکرنا قد عرفت عدم الفرق بین أن یکون مکرَها علی الاتیان بالمحرمین أو ترک الواجبین.

3- و إن کان الاکراه علی ترک واجب أو الاتیان بمحرَّم:

نحو ترک الصلاة أو الزنا، فحینئذ لابدّ من ملاحظة قواعد باب التزاحم و فی المثال یقدّم ترک الصلاة.

ص: 127


1- 1 . لأنّ ورد فی صحیحة زرارة بالنسبة إلی المستحاضة:... ثم تصلّی و لا تدع الصلاة علی حال، فإن النبی صلی الله علیه و آله قال: الصلاة عماد دینکم. [وسائل الشیعة 2/373، ح5، الباب 1 من أبواب الاستحاضة].
2- 2 . ورد فی صحیحة جمیل عن أبی عبداللّه علیه السلام : ...لکنّه أعلم بنفسه إذا قوی فلیقم. [وسائل الشیعة 5/495، ح3، الباب 6 من أبواب القیام].

و بما ذکرنا من التفصیل تَظْهَرُ لَکَ مواقع النظر فی کلام الشیخ الأعظم حیث یقول: «و من هنا لم یتأمل أحد فی أنّه إذا اُکره الشخص علی أحد الأمرین المحرّمین لا بعینه فکلّ منهما وقع فی الخارج لا یتصف بالتحریم...»(1).

المقام الثانی: الإکراه علی الأمرین الوضعیین

سواء کانا عقدین نحو بیع داره أو أرضه، أو إیقاعین نحو طلاق إحدی زوجاته، أو عقد و إیقاع نحو بیع الدار أو طلاق زوجته.

قبل الْخَوْضِ فی البحث لابدّ من تقدیم مقدمة و هی تصویر الوجوب التخییری بحیث لا یتنافی مع حقیقة الوجوب و هو عدم جواز ترک متعلِّقه، و الوجه فی تقدیم هذه المقدمة لإنّ الاکراه علی الأمرین أیضا یشابه الوجوب التخییری فلابدّ من تبیین تصویرهما حیث لا یتنافی هذا مع الوجوب و ذلک مع الإکراه.

و لذا أقول: المبانی فی تصویر الوجوب التخییری متعددة:

منها: الجامع بین الفعلین أو الأفعال یکون متعلِّقا للأمر فیکون التخییر عقلیّا لا شرعیّا و هذا هو مختار المحقّق الخراسانی(2) قدس سره .

و منها: الوجوب التخییری فی الحقیقة وجوب تعیینی متعلَّق بکلٍّ من الفعلین لکنّه مشروط بترک الآخر.(3)

و منها: تعلّق الوجوب بکلّ منهما تعیینا مطلقا لکنّه یسقط بفعل الآخر. و قال المحقّق النائینی: «أنّه ممّا لایصح أن یتفوّه به أحد»(4).

و منها: وجوب المعین عنداللّه تعالی شأنه و هو ما یختاره المکلَّف فی علمه عزّوجلّ.

ص: 128


1- 1 . المکاسب 3/319.
2- 2 . کفایة الاُصول /140، طبعة مؤسسة آل البیت علیهم السلام .
3- 3 . نقلها المحقّق النائینی و اعترض علیه بأربعة إیرادات راجع أجود التقریرات 1/185، الطبعة الاُولی.
4- 4 . أجود التقریرات 1/182.

و منها: أن یکون الواجب أحدهما و هو علی مسلکین:

أ: أن یراد منه مفهوم أحدهما و عنوانه المنطبق علی کلٍّ من الأمرین فی نفسه.

ب: أن یراد منه واقع أحدهما غیر المعین المعبر عنه بالفرد علی سبیل البدل.

و المختار هو هذا الأخیر: و التکلیف یتعلق بالفرد علی البدل و بأحدهما لا بعینه، بمعنی کون کلّ منهما متعلِّقا للتکلیف الواحد ولکن علی البدل لا أحدهما المردد و لا کلاهما معا، فیکون الواجب أحدهما لا بعینه کما أنّ المحقّق النائینی رحمه الله موافقٌ لنا فی النتیجة، و السیّد الروحانی قدس سره فی الاستدلال و النتیجة و التفصیل یطلب من کتابه.(1)

و إذا کان هذا حال الوجوب التخییری و هو یتعلّق بالفرد علی البدل فکذلک الإکراه علی الأمرین أیضا یتعلّق بکلّ فرد منهما علی البدل و بأحدهما لا بعینه فیصدق علیه الاکراه و علی الفعل المأتی به بأنّه المکرَه علیه و علی الفاعل بأنّه مکرَه، بلا ریب و لا إشکال.

و لعلّ إلی هذا الاشکال - و هو أنّ الإکراه یُنافی الاختیار بالنسبة إلی أخذ أحدهما أو أحدهم من المصادیق و الأفراد- أفتی العلاّمة فی ظاهر قواعده بصحة طلاق من أکره علی طلاق إحدی زوجتین فطلَّق إحداهما بعینها، و قال: «ولو ظهرت دلالة اختیاره صحّ طلاقه بأن یخالف المکرِه مثل أن یأمره بطلقةٍ فیطلّق اثنتین، أو بطلاق زوجةٍ فیطلّق غیرها، أو هی مع غیرها، أو بطلاق إحدی زوجتین لا بعینها فیطلّق معیّنةً، أو یأمره بالکنایة فیأتی بالصریح»(2).

و استشکل فی صدق الإکراه فی تحریره و قال: «... ولو اُکره علی طلاق إحدی زوجتیه، فطلّق معینةً، فإشکال»(3).

و تبعه المحقّق الثانی و قال فی کتاب الإقرار: «فرع: لو اُکره علی بیع أحد المالین من غیر تعیین فباع واحدا معیّنا ففی کون البیع مکرَها علیه تردد، و سیأتی إن شاء اللّه

ص: 129


1- 1 . راجع منتقی الاصول 2/(495-483).
2- 2 . قواعد الأحکام 3/122.
3- 3 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/51.

تعالی فی الطلاق إنّه لو اُکره علی طلاق إحدی زوجتیه لا بعینها معیّنة وقع»(1).

أقول: لم یف المحقّق الکرکی قدس سره بوعده و لم یکتب کتاب الطلاق فی ضمن کتابه جامع المقاصد.

و جعل الشهید الثانی القول بصحة الطلاق هو المحتمل الضعیف فی مسالکه و قال: «و منها: لو أکرهه علی طلاق إحدی زوجتیه لا علی التعیین فطلّق واحدة بعینها، قیل یقع الطلاق، لأنّه الإکراه علی طلاق إحداهما لا علی طلاق هذه، و طلاق هذه طلاق إحداهما مع زیادة، و قد تقرّر فی الاُصول أنّ الأمر بالکلّی لیس أمرا بجزئیٍّ معیّن.

و یحتمل قویّا عدم الوقوع، لأنّ متعلَّق الإکراه و إن کان کلّیّا لکنّه یتأَدّی فی ضمن طلاق کلّ واحدة بعینها و بطلاق واحدة غیر معینة فکل واحد من الأفراد داخل فی المکرَه علیه و مدلول علیه بالتضمن. نعم، لو صرّح له بالحمل علی طلاق واحدة مبهمة - بأن یقول: إحداکما طالق مثلاً- فعدل عنه إلی طلاق معینة فلا شبهة هنا فی وقوع الطلاق علی المعیّنة لأنّه غیر مکرَه علیه جزما»(2).

و جعل فی الروضة القول بعدم الصحة هو الأقوی و قال: «ولو أکرهه علی طلاق إحدی الزوجتین فطلّق معینة فالأقوی أنّه إکراه، إذ لایتحقق فعل مقتضی أمره بدون إحدیهما، و کذا القول فی غیره من العقود و الایقاع»(3).

و السیّد السند(4) اختار کلام جده من طریق الاُمّ و قال: «إمّا لو أکرهه علی طلاق إحدی الزوجتین فطلّق معینة فالأصح أنّه إکراه، إذ لا یمکن التخلص من الضرر المتوعَّد به بدون ذلک»(5).

و تبعه المحقّق السبزواری و قال: «ولو اُکره علی طلاق إحدی زوجتیه لا علی

ص: 130


1- 1 . جامع المقاصد 9/206.
2- 2 . المسالک 9/21.
3- 3 . الروضة البهیة 6/21.
4- 4 . السیّد محمّد العاملی صاحب المدارک.
5- 5 . نهایة المرام 2/12.

التعیین فطلّق واحدة معینة، قیل: یقع، و الأقوی عدم الوقوع»(1).

و صاحب الحدائق بعد نقل کلام السیّد السند و جدّه فی الروضة ردّ المحتمل الضعیف فی کلام الجدّ بقوله: «و ردّ بأن متعلّق الاکراه و ان کان کلّیّا لکنّه یتأدی فی ضمن طلاق کلّ واحدة بعینها و طلاق واحدة غیر معینة، فکل واحد من الأفراد داخل فی المکرَه علیه و مدلول علیه بالتضمن.

نعم، لو صرّح له بالحمل علی طلاق واحدة مبهمة بأن یقول: إحداکما طالق مثلاً فعدل عنه إلی طلاق معیّنة فلا شبهة هنا فی وقوع الطلاق علی المعینة لأنّه غیر المکرَه علیه جزما، و أنت خبیر بأنّه بالنظر إلی هذه التعلیلات فإن القول الأوّل [أی قول السیّد السند و جده فی الروضة فی صدق الإکراه] هو الأقرب، إذ هو الأربط بالقواعد و الأنسب، إلاّ أنّک قد عرفت فی غیر موضع ممّا تقدم ما فی البناء علی أمثال هذه التعلیلات»(2).

و ذکر صاحب الجواهر رحمه الله فی الصور التی أتی المکرَه بغیر ما اُکره علیه و أن مخالفته له تشعر بالاختیار أو ترفع ظهور الکراهة، قال: «و منها: لو أکرهه علی طلاق إحدی زوجتیه فطلّق واحدة معیّنة، و فیه: أنّ ذلک أحد أفراد الکلّی المکرَه علیه، نعم، لو کان الإکراه علی الإبهام و عدل إلی التعیین وقوع علیها...»(3).

و قال الشیخ الأعظم: «... الأقوی - وفاقا لکل من تعرّض للمسألة - تحقق الاکراه لغة و عرفا، مع أنّه لو لم یکن هذا مکرَها علیه لم یتحقق الإکراه أصلاً، إذ الموجود فی الخارج دائما إحدی خصوصیات المکرَه علیه، إذ لایکاد یتفّق الإکراه، بجزئیٍّ حقیقیٍّ من جمیع الجهات...»(4).

أقول: بعد ما مرّ فی مقدمة هذا البحث من تقریر الإکراه علی الأمرین و أنّه کتصویر الوجوب التخییری بلا فرق، فالاختیار فی بعض المصادیق لا ینافی الإکراه، کما أنّ جواز

ص: 131


1- 1 . الکفایة 2/319.
2- 2 . الحدائق 25/163.
3- 3 . الجواهر 32/14.
4- 4 . المکاسب 3/320.

ترک بعض أفراد الواجب التخییری لا ینافی الوجوب.

فلو اُکره علی طلاق إحدی زوجتیه أو زوجاته فطلّق إحداهما أو إحداهنَّ، لا یقع لصدق الإکراه و ما ورد فی کلام العلاّمة من الحکم بالصحة أو الإشکال فی صدق الإکراه و تبعیّة المحقّق الثانی له تُحمل بما إذا قنع المکرِه بطلاق إحداهما مبهمة کما حمله بعض الأجلة علی ما نَسب إلیه المحقّق التستری(1). و ذکره الشیخ الأعظم.(2)

فحینئذ لو اُکره علی الأمرین الوضعیین سواء کانا عقدین أو إیقاعین أو عقد و إیقاع و اختار المکرَه أیَّا من طَرَفَی الإکراه - بلا فرق بین کونه عقدا أو ایقاعا- لم یقع و یحکم بفساده لأجل طریان الإکراه. هذا کلّه إذا کان الفردان عَرْضِیَّیْنِ.

و أمّا إذا کانا طولیین بأنّ أحدهما فی عمود الزمان یتأخر عن الآخر فهل للمکرَه أن یختار أیّهما شاء؟ أم لابدّ له من التأخیر، ولو أتی بالفرد المقدَّم کان صحیحا لأنّه لم یکره علیه بالخصوص و یتمکن من التأخیر إلی الفرد الأخیر؟

مثلاً لو کان مکرَها علی بیع داره فی یوم الجمعة أو السبت، فهل له أن یبادر ببیعه فی یوم الجمعة و هو کان عالما ببقاء الإکراه إلی یوم السبت؟ أم لیس له هذا البدار و لابدّ أن یأتی بالفرد الأخیر؟

ذهب المحقّق النائینی قدس سره إلی وجود الفارق بین المحرّمات و المعاملات فی الأفراد الطولیه بأنّ فی الأوّل لا یجوز البدار و لابدّ من التأخیر و الإتیان بالفرد الأخیر ولکن فی المعاملات یجوز البدار و یصدق الإکراه و قال بالنسبة إلی المعاملات: «... أمّا لو کان مکرَها فی بیع داره موسَّعا فلو کان مأیوسا من التخلّص عنه فإقدامه علی البیع فی أوّل الوقت لا یخرجه عن الإکراه، و أمّا لو احتمل التخلّص فلو باع أوّل الوقت فهو مختارٌ...»(3).

و اعترض علیه المحقّق السیّدُ الخوئی رحمه الله من عدم وجود الفارق بین المحرّمات و

ص: 132


1- 1 . مقابس الأنوار /118.
2- 2 . المکاسب 3/320.
3- 3 . منیة الطالب 1/395.

المعاملات لأنّ «الإتیان بالفرد المتقدّم مع سعة الوقت لا ینطبق علیه عنوان المکرَه علیه و لا المضطر إلیه لکی یرتفع حکمه، سواء أکان ذلک من قبیل المعاملات أم کان من قبیل الاُمور المحرّمة، فإنّ الذی یترتب علیه الضرر إنّما هو ترک المجموع، لا ترک خصوص الفرد الأوّل، و علیه فلا ملزم له فی فعله، نعم إذا ترکه لزمه الإتیان بالفرد الأخیر من جهة ترتب الضرر علی ترکه، و علی هذا فلو أکره أحدٌ علی بیع داره إمّا یوم الجمعة أو یوم السبت فبادر إلی بیعها یوم الجمعة فإنّه یحکم بصحة هذا البیع لصدوره عن الرضا و طیب النفس»(1).

أقول: الظاهر عدم الفرق بین المحرّمات و المعاملات فی الأفراد الطولیة من عدم صدق الإکراه إلاّ فی الفرد المتأخر، فلو أتی بغیره لم یکن مکرَها بالنسبة إلیه فیقع صحیحا فی المعاملات و حراما فی المحرّمات.

و ظهر ممّا ذکرنا أَنَّهُ لو کان مکرَها علی الأمرین الوضعیین کانَ أحدهما باطلاً و الآخر صحیحا، لو لم یکن الاکراه علی الصحیح کثلاث تطلیقات فی دفعة واحدة أو الطلاق الواحد، و کبیع مال الغیر أو بیع ماله، و کطلاق زوجة الغیر أو طلاق زوجته، و کبیع مال الوقف أو بیع ماله الشخصی، و کقرأة عقد الزواج علی بنت الغیر للمکرِه أو علی بنت المکرَه، ففی کلِّ هذه الأمثلة لابدّ للمکرَه أن یختار الأمر الوضعی الذی یکون باطلاً من قبل نفسه - و هو الأمر الأوّل فی أمثلتنا- لا الأمر الوضعی الثانی فی الأمثلة الذی یکون صحیحا لو لم یکن الإکراه، و الوجه فی ذلک بطلان هذه الموارد حتّی من دون الإکراه و معه بطریق اُولی، فلذا لو اختار الأمر الصحیح فی نفسه و هو غیر مکرَه بخصوصه وقع صحیحا، فلابدّ للمکرَه من ترکه و اختیار الشق الآخر الذی کان باطلاً، و إن کان فی النفس بالنسبة إلی هذا الاخیر شی ءٌ.

المقام الثالث: الاکراه علی الأمرین أحدهما تکلیفیٌّ و الآخر وضعیٌّ

إذا اُکره علی أحد الأمرین أحدهما تکلیفیٌّ کشرب الخمر أو ترک الصلاة و الآخر

ص: 133


1- 1 . مصباح الفقاهة 3/315.

وضعیٌّ کبیع داره أو طلاق زوجته، فحینئذ لابدّ للمکرَه أن یختار الأمر الوضعی و ترک الحرام التکلیفی أو الاتیان بالواجب، و الأمر الوضعی الذی أتی به لم یقع لأنّه المکرَه علیه. و هذا واضح لا ریب فیه.

و من هنا لو کان مکرَها علی الأمرین المرددین بین الحرام أو ترک الواجب و المباح فلابدّ له أن یختار المباح و لا یصدق الإکراه بالنسبة إلی الحرام أو ترک الواجب فلا یجوز الإیتان به أو الترک بذا.

مثلاً لو کان مکرها علی شرب أو أکل شی ءٍ مباحٍ یتنفر طبعه منه أو شرب الخمر أو ترک الصیام، فلابدّ له من الإتیان بالمباح.

و کذلک لو کان الإکراه مرددا بین أمر مباح و أمر وضعیّ نحو: الجماع مع زوجة المکرَه العجوز التی لا یریدها أو طلاق إحدی زوجاته و هی الشابة الجدیدة، فلابدّ له أن یختار المباح و ترک الأمر الوضعی و هو فی المثال الطلاق، فلو أتی بالطلاق لکان صحیحا، و إن کان فی النفس بالنسبة إلی هذا الأخیر شی ءٌ، و هو لو اختار الأمر الوضعی و أتی به من دون قصد و لأنّه کان مکرَها بالنسبة إلیه لعدم ارتضاء نفسه بالإتیان بهذا الشرب أو الأکل أو الجماع، لتنفر طبعه منها فیصدق الإکراه عرفا فلا أثر للأمر الوضعی المکرَه علیه أیّما کان من عقدٍ أو إیقاعٍ.

السادس: اکراه أحد الشخصین علی فعلٍ واحدٍ

و هذا الفعل الواحد إمّا تکلیفیٌّ أو وضعیٌّ.

أ: إمّا التکلیفی: فنحو إکراه أحد الشخصین علی شرب الخمر أو ترک الصلاة، یجوز لأحدهما ارتکابه دفعا للضرر المتوعد به من المکرِه، ولکن إن علم أو اطمأن بأنّ الآخر یفعله لکثرة خوفه أو لضعف إیمانه فلا یجوز للآخر الإتیان به. و إن علم أو اطمأن بأنّ الآخر لا یفعله أو حتّی احتمل احتمالاً عقلائیا بأنّه لایفعله یجوز له ارتکابه. و یکون هذا الإکراه مشابهً للوجوب الکفائی فی تصویره و تقریره.

ب: و إمّا الوضعیٌّ: فنحو إکراه أحد الشخصین علی بیع الدار و هما صاحب الدار و وکیله، أو العقد علی البنت و هما أبوها و جدّها، و الکلام فیه کالکلام فی التکلیفی بلا

ص: 134

فرق.

أمّا مقالة الشیخ الأعظم من: «انّ إکراه أحد الشخصین علی فعل واحد - بمعنی إلزامه علیهما کفایةً و إیعادهما علی ترکه - کإکراه شخصٍ واحدٍ علی أحد الفعلین، فی کون کلِّ منهما مُکرَها»(1).

لابدّ من تقیید جملة «کإکراه شخص واحد علی أحد الفعلین» بالعرضین، لأنّ قد مرّ عدم اتصاف الطولیین بالإکراه إلاّ الفرد الأخیر فقط. فلابدّ من تقیید الفعلین بالعرضیین عندنا، ولکن حیث أنّ الشیخ الأعظم لم یتعرّض فی ظاهر کلامه للفعلین الطولیین فهذا التقیید غیر لازم له.

السابع: متعلَّق الاکراه

الإکراه قد یتعلَّق بالمالک العاقد - کما هو الغالب - و قد یتعلَّق بالمالک دون العاقد و قد یتعلَّق بالعاقد دون المالک فللمسألة صُوَرٌ ثَلاثٌ:

الاُولی: تقدم الکلام فیها و أن حکمها بطلان العقد المکرَه علیه.

الثانیة: کالإکراه علی التوکیل لبیع داره أو طلاق زوجته، أعنی المکرِه الظالم - و هو العاقد مثلاً- أکره المالک أو الزوج علی إعطاء الوکالة له لبیع داره أو طلاق زوجته، أو أن یوکِّل غیر المکرِه فی البیع أو الطلاق. و حیث أنّ عقد الوکالة وقع عن کرهٍ فیکون باطلاً فلم یستند العقد کالبیع و الإیقاع کالطلاق إلی المالک و الزوج فلا إشکال فی عدم وقوعهما.

بعبارة اُخری: التوکیل حیث یکون إکراهیا فیکون کالعدم فلایقع العقد الذی أجراه هذا الوکیل الإکراهی.

نعم، لو لحقه الإجازة من المالک أو الزوج یکون فضولیا تتبعه الاجازة فبالنسبة إلی البیع یکون صحیحا و بالنسبة إلی الطلاق بناءً علی صحة الإیقاعات الفضولیة یکون صحیحا.

الثالثة: إکراه المالک غیرَه علی أن یکون وکیلاً عنه فی عقد أو إیقاع نحو: قول

ص: 135


1- 1 . المکاسب 3/321.

المالک لغیره: بع مالی أو طلِّق زوجتی و إلاّ... .

ذهب الشیخ الأعظم إلی أنّ «الأقوی هنا الصحة»(1).

و احتمل الشهید الثانی بعد أن جعل وقوع الطلاق - مثلاً- أصح الوجهین، عدم الوقوع و الصحة فی قوله: «لو قال: طلِّق زوجتی و إلاّ قتلتک أو غیر ذلک ممّا یتحقّق به الإکراه، فطلّق ففی وقوع الطلاق وجهان، أصحّهما الوقوع، لأنّه أبلغ فی الإذن، و وجه المنع: أنّ الإکراه یسقط حکم اللفظ، فصارکما لو قال لمجنون: طلّقها فطلّق. و الفرق بینهما: أنّ عبارة المجنون مسلوبة أصلاً، بخلاف عبارة المکرَه، فإنّها مسلوبة لعارض تخلّف القصد، فإذا کان الآمر قاصدا لم یقدح إکراه المأمور»(2).

و قال أیضا: «لو اُکره الوکیل علی الطلاق دون الموکِّل ففی صحته وجهان أیضا، من تحقّق اختیار الموکلِّ المالک للتصرف، و من سلب عبارة المباشر»(3).

ولکن التحقیق أنّ لهذه الصورة أقساما:

الأوّل: أن یکون الاکراه من المالک و کان العاقد الوکیل مکرَها فی إجراء عقده أو إیقاعه، فحینئذ لا إشکال فی صحة العقد أو الإیقاع لصحة انتسابهما إلی المالک فیتمّان، و اکراه العاقدِ أو عدم رضایته بالعقد لا یضرّ بصحته لأنّه أجنبیٌّ فی المقام و لا أثر لعدم رضایته بعد رضا المالک.

لا یقال: حدیث الرفع ینفی الصحة من هذا العقد لوجود الإکراه بالنسبة إلی العاقد.

لأنّا نقول: العاقد المکرَه لیس هنا لفعله أثر بالنسبة إلی شخصه حتّی یرفعه الحدیث، و أمّا جریان حدیث الرفع بالنسبة إلی المالک أیضا فَلایتم لأنّه أوّلاً: لم یکن مکرَها، بل هو المکرِه هنا، و ثانیا: یکون خلافا للامتنان.

إشکالٌ: عقد العاقد صحته مشروط بإحراز قصده و مع الإکراه لا یمکن إحرازه ببناء العقلاء فحینئذ لا یحکم بصحة عقد العاقد المکرَه لعدم إحراز قصده کما علیه

ص: 136


1- 1 . المکاسب 3/322.
2- 2 . المسالک 9/22.
3- 3 . المسالک 9/23.

المحقّق التستری قال فی مقابسه: «إنّ إرادة مدلول اللفظ لابدّ منها فی صحة العقد و إن تجرّدَ من الرضا به و لذلک بطل عقد الهازل و قاصد التوریة و نحوهما و إذا صدر العقد من مختار بالغ عاقل حکمنا بما هو الظاهر من حصول ذلک بخلاف ما إذا صدر من مکرَهٍ إذ لا ظهور لعبارته فی قصد المعنی المطلوب و لا عبرة بالدلالة المجردة عن الارادة، فکیف یحکم بالصحة بمجرد صدور العقد و الرضا...»(1).

أجاب عن هذا الاشکال صاحب الجواهر بقوله: «قلت: هذا مبنیٌّ أیضا علی ما سمعت من خلو المکرَه عن القصد و قد عرفت الحال»(2)، و قال قبله: «... فالمکرَه قاصد علی نحو غیره إلاّ أنّه قصد إکراه لا قصد اختیار، و إن شئت عبّرت عن ذلک بالرضا و عدمه»(3).

و أجاب الشیخ الأعظم عنه بوجهین(4) بتوضیح منّا:

1- نعلم بأنّ العاقد المکرَه لایتکلّم لاغیّا و لا موریّا، فیکون قاصدا للعقد، لعدم وجود الشق الرابع.

2- المالک فی ظهور العقد هو کون الفعل اختیاریا فی مقابل الاضطرار کحرکة ید المرتعشة، و من المعلوم أنّ الإکراه لا یصل إلی حدّ الاضطرار فیمکن إجراء اصالة القصد فی عقد المکرَه.

الثانی: أن یکون الإکراه من غیر المالک لغیر وکیله، کما إذا أکره زیدٌ عَمْرا علی بیع مال بکر أو طلاق زوجته، فیکون العقد أو الإیقاع فی هذا القسم فضولیّا یتوقف صحته علی الإجازة.

الثالث: أن یکون الإکراه من غیر المالک لوکیله - أی لوکیل المالک - و یکون العقد باطلاً لعدم انتساب العقد إلی المالک -و هو واضح - و لا إلی وکیله لأنّه مُکْرَهٌ و عقد المکرَه

ص: 137


1- 1 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /18.
2- 2 . الجواهر 32/16.
3- 3 . الجواهر 32/15.
4- 4 . المکاسب 3/323.

باطلٌ.

نعم، إذا عُلم رضا المالک بالعقد و إذنه فیه حُکم بصحة العقد، لأنّ رضا الوکیل إنّما یعتبر بما أنّه طریق و کاشف عن رضا موکله، فلو عُلم رضا الموکل و إذنه بالعقد مع صدور العقد من الوکیل حُکم بصحته.

و ظهر ممّا کرنا آنفا عدم صحة قیاس المکرَه بالمجنون، لأنّه مسلوب العبارة فلا تأثیر لعقده بخلاف المکرَه.

الثامن: الاکراه علی بیع عبدٍ من عبدین

قال العلاّمة فی التذکرة: «لو أکرهه علی بیع عبد فباع اثنین أو نصفه فإشکال»(1).

ما یصدر من المکرَه من العقود و الإیقاعات مع متعلَّق الإکراه إمّا مساوٍ أو متباین أو یزید علیه أو ینقص منه، فهذه أَرْبَعُ صور:

الصورة الاولی: التساوی

بین العقد أو الإیقاع و ما تعلَّق به الإکراه نحو: الإکراه علی بیع داره الْخاصَّةِ أو إجراء الطلاق علی زوجته الخاصة، فأجری العقد أو الإیقاع علی طبق ما أکرهه علیه، و قد مرّ حکمه و هو البطلان.

الصورة الثانیة: التباین

إذا أکرهه علی بیع داره فأجری العقد و باع دکانه له، أو أکرهه علی طلاق زوجته فُلانَة فطلّق غیرها، فَلا إشکال فی صحة العقد و الإیقاع لأنّه غیر مکرَهٍ بالنسبة إلیه و أتی به بالاختیار فیقع.

«نعم، إذا کان بیع الکتاب لأجل احتمال أن یقنع المکرِه (بالکسر) به فیرفع الید عن الإکراهه کان باطلاً لا محالة، و ذلک لفقدانه طیب النفس و أنّه من جهة الاضطرار»(2).

ص: 138


1- 1 . تذکرة الفقهاء 10/14.
2- 2 . مصباح الفقاهة 3/323.

الصورة الثالثة: الزیادة

لو أتی بالمکرَه علیه مع زیادة و هی علی قِسْمَیْنِ:

القسم الأوّل: التدریجیة

کما لو أکرهه علی بیع داره فَباعَها له ثمّ باع داره الاْءُخْری أیضا له من دون إکراه علیها، أو أکره علی بیع أحد عبدیه فباع أحدهما ثمّ باع الآخر له، فحینئذ فَلا شبهة فی بطلان بیع الأوّل لأنّه مُکْرَهٌ علیه، و صحة بیع الثانی لأنّ البائع غیر مکرَه بالنسبة إلیه و فعله باختیاره.

و احتمل الشیخ الأعظم الرجوع إلی البائع فی تعیین البیع المکرَه علیه لو کان مثلیین نحو عبد من العبدین أو دار من الدارین لأنّه أعرف بقصده و قال: «مع احتمال الرجوع إلیه فی التعیین سواءً ادّعی العکس أم لا»(1). یعنی سواءً المکرَه ادعی أنّ الثانی هو المکرَه علیه أم الأوّل یؤخذ بقوله لأنّه لایعرف التعیین إلاّ من قِبَلِهِ فیتبع قوله.

و یرد علی هذا الاحتمال: بأنّه بعد تحقّق العقد الأوّل لم یبق موضوع للإکراه لکی یحتمل وقوع العقد الثانی عن کره حتّی یرجع إلی البائع فی التعیین.

و لا یقال: «بل لا یبعد صحة البیع الثانی حتّی فیما إذا کان متفرعا علی الإکراه و من تبعات بیع الأوّل کما إذا أکرهه الجائر علی بیع أحد مصراعی الباب فباعه، ثم باع المصراع الثانی فإنّ بیع المصراع الثانی و إن کان لأجل عدم الانتفاع به وحده و من تبعات البیع الأوّل لکنّه حیث وقع عن الرضا و بغیر کره فیحکم بصحته»(2).

لأنّا نقول: «فی الموارد التی لا یمکن للمالک إبقاء أحدهما فی ملکه و باع الآخر لکونه ضررا أو حرجا علیه کما فی الحیوان و ولده أو کأحد مصراعی الباب فیحکم ببطلان بیعهما باعتبار أنّ الحکم ببطلان أحدهما مقتضی رفع الإکراه و الحکم ببطلان الآخر مقتضی رفع الاضطرار إلیه، لأنّه لو لم یقدّم علی بیع الآخر یتوجه الضرر أو الحرج

ص: 139


1- 1 . المکاسب 3/324.
2- 2 . مصباح الفقاهة 3/324.

علیه...»(1).

القسم الثانی: الدفعیّة

لو أکره علی بیع إِحْدی داریه، فباع المکرَه داریه معا دفعة واحدة له أو أکره علی بیع أحد العبدین فباعهما معا له، قال الشیخ الأعظم فی حکمها: «ولو باعهما دفعة احتمل صحة الجمیع، لأنّه خلاف المکرَه علیه و الظاهر أنّه لم یقع شی ءٌ منهما عن إکراه، و بطلان الجمیع لوقوع أحدهما مکرَها علیه و لا ترجیح و الأوّل أقوی»(2).

و هنا احتمال ثالث ذهب إلیه المحقّق السَّیِّدُ الخوئی(3) و هو تعیین البیع المکرَه علیه بالقرعة و الحکم بالصحة بالنسبة إلی الآخر.

ثم اعترض علی نفسه بأنّ «القرعة إنّما یرجع إلیها فیما إذا کان المطلوب متعیّنا واقعا و مجهولاً ظاهرا، و من الواضح أنّ المکرَه علیه مرددٌ بین الأمرین ظاهرا و واقعا من غیر أن یکون له تعیین فی مرحلة من المرحلتین».

و أجاب عنه بأنّ أدلة القرعة مطلقة و أنّها تجری فی کلِّ أمر مشتبه أو مشکل، و من هنا ذهب الفقهاء إلی الرجوع إلی القرعة فیما إذا طلّق شخص إحدی زوجاته مِنْ غیر تعیین مع أنّ المطلقة حینئذ لا تعیین لها لا واقعا و لا ظاهرا.(4)

أقول: فی هذا الفرع لابدّ من القول بالصحة فی الجمیع لأنّه غیر مکرَه علی الجمیع و أتی به فالمکرَه علیه شی ءٌ و ما أتی به المکرَه شیئٌ آخَرُ، فیحکم بالصحة للجمیع لعدم صدق الإکراه فیه.

و بما ذکرنا لا یتم احتمال بطلان الجمیع بأنّ المکرَه علیه أحدهما و لا تعیین له فی الواقع، و الحکم بفساد أحدهما معیّنا دون الآخر ترجیح بلا مرجح.

و وجه عدم التمامیة: أنّ المکرَه علیه أحدهما بشرط أن لا یکون معه الآخر، و هو

ص: 140


1- 1 . إرشاد الطالب 2/254 مع تصرف مختصر.
2- 2 . المکاسب 3/324.
3- 3 . مصباح الفقاهة 3/324.
4- 4 . راجع مصباح الفقاهة 3/325.

أتی بکلیهما و هو أحدهما بشرط الآخر و من المعلوم أنّ الماهیة بشرط لا غیر الماهیة بشرط شی ء فلا ینطبق المکرَه علیه علی ما أتی به المکرَه، فیحکم بالصحة و لا نحتاج إلی التعیین فی المکرَه علیه حتّی نذهب إلی الفساد لعدم امکان الأخذ بأحدهما معیّنا دون الآخر حیث یکون ترجیحا بلا مرجح.

و کذا لا یتم ما ذکره المحقّق السَّیِّدُ الخوئی قدس سره من الاحتمال لأنّا لا نحتاج إلیه مضافا إلی عدم جواز تعیین الفاسد من الصحیح بالقرعة، لأنّ الأصحاب لم یعملوا بإطلاق أدلة القرعة - لو کانت مطلقة - بل عملوا بها فی موارد خاصة و هی موارد وجود القول بها فیها -«کما هو المشهور بین المعاصرین و غیرهم»(1)- و لعلّ مثال الطلاق المذکور فی کلامه منها و أمّا فرعنا هذا فَلَمْ یقل أحد بالقرعة فیه إلاّ هُوَ فلا یمکن العمل بالقرعة فیه، و التفصیل یطلب من البحث حول قاعدة القرعة.

الصورة الرابعة: النقیصة

و هی بیع ما یکون أنقص من المکرَه علیه نحو: الإکراه علی بیع الدارین، فباع إِحْدَیْهِما أو طلاق الزوجتین فطلَّق إحدیهما.

لو أتی بهذه النقیصة رجاءً له بأنّ المکرِه اکتفی بذلک و لا یکرهه علی الآخر، فلا إشکال فی صدق الإکراه و بطلان العقد أو الإیقاع.

و کذلک لو أکرهه علی بیع داره فباع له نِصْفَها لرجاء أن یکتفی المکرِه به یصدق الإکراه و یحکم بالبطلان.

و الدلیل علیه: أنّ الإکراه علی المجموع إکراه علی البعض خارجا و واقعا.

التاسع: لو اُکره علی معیّن فضمّ غیره إلیه

باختیاره نحو: الإکراه علی طلاق زوجة معینة فطلَّق معها غیرها أیضا، أو الإکراه علی بیع الدار فضمّ إِلَیْها دکانه.

لا إشکال فی صحة طلاق غیر المکرَه علیها أو بیع الدکان، لانّهما وقعا باختیار و

ص: 141


1- 1 . راجع القواعد الفقهیة 1/432، للاُستاذ آیة اللّه الشیخ محمّدالفاضل اللنکرانی قدس سره .

من دون إکراهٍ و بطلان المکرَه علیها.

ولکن قال الشهید الثانی: «لو أکرهه علی طلاق زوجته فطلَّق زوجتین، فإن وقع ذلک بلفظ واحد کما قال له: طلِّق زوجتک زینب، فقال لها و لفاطمة: انتما طالقتان، وقع علیهما، لأنّ ذلک خلاف المکرَه علیه و قد عدل عنه إلی غیره فلا مانع من صحته، و إن قال: زینب طالق و فاطمة طالق، طُلّقت فاطمة و لم تُطَلّق زینب، لأنّها مکرَه علیها بخلاف الاُخری. و منهم من لم یفصّل بین العبارتین و أطلق الحکم بوقوع الطلاق علیهما، و الفرق متجه»(1).

جعل ثانی الشهیدین الصیغة الاُولی «أنتما طالقتان» من مصادیق الزیادة الدفعیة و حکم بالصحة فی الجمیع کما هو مختارنا فیما مرّ آنفا، و جعل الصیغة الثانیة «زینب طالق و فاطمة طالق» من مصادیق هذا الفرع الأخیر و حکم بالبطلان بالنسبة إلی المکرَه علیها و صحة طلاق غیر المکرَه علیها، فنحن موافق له فی الفرعین و بینهما بون بعید.

و تبعه صاحب الجواهر و قال: «لو اُکره علی طلاق زوجة معیّنة فطلَّقها مع غیرها بلفظ واحد فإنّه یشعر باختیاره أیضا، نعم لو طلّقهما بصیغتین وقع الطلاق علی غیر المکرَه علیها و بطل فی الاُخری، و قد یحتمل عدم الفرق بینهما»(2).

ولکن الشیخ أسداللّه التستری(3) لم یفرق بین إنشاء العقد أو الإیقاع بالصیغة الواحدة أو المتعددة بخلاف العَلَمین، و الظاهر تبعیة الشیخ الأعظم له حیث یقول: «ولو اُکره علی بیع معیّن فضمّ إلیه غیره و باعهما دفعة فالأقوی الصحة فی غیر ما اُکره علیه»(4).

أقول: تفصیل الشهید الثانی قدس سره تام عندنا لما مرّ فی الزیادة الدفعیة و هنا و الحمدللّه.

ص: 142


1- 1 . المسالک 9/21.
2- 2 . الجواهر 32/14.
3- 3 . راجع مقابس الأنوار، کتاب البیع /15.
4- 4 . المکاسب 3/324.
العاشر: دعوی الاکراه

قال فی المسالک: «لو تلفّظ بالطلاق ثم قال: کنتُ مکرَها و أنکرت المرأة، فإن کان هناک قرینة تدلّ علی صدقه - بأن کان محبوسا أو فی ید متغلِّب و دلّت القرینة علی صدقه - قبل قوله بیمینه و إلاّ فلا. ولو طلَّق فی المرض ثم قال: کنت مغشیّا علیَّ أو مسلوب القصد لم یقبل قوله إلاّ ببیّنة تقوم علی أنّه کان زائل العقل فی ذلک الوقت، لأنّ الأصل فی تصرّفات المکلَّف الصحة إلی أن یثبت خلافها. و إنّما عدلنا فی دعوی الإکراه عن ذلک بالقرائن لظهورها و کثرة وقوعها و وضوح قرائنها بخلاف المرض»(1).

و فی الحدائق یری مسألة الإکراه فی کلام الشهید الثانی هی أَمْرٌ: «مقطوع به فی کلام الأصحاب»(2) ولکن اعترض علیه فی مسألة المرض بقوله: «و إن ظهر من حال المریض اضطراب و اختلاط کعدم انتظام کلامه و تغیّر أحواله ثمّ ادعی زوال العقل و الحال کما فرضنا فإنّ الظاهر قبول قوله لعین ما ذکر فی المسألة الاولی اعتمادا علی القرائن فی الموضعین»(3).

و قال الشیخ الأعظم: «لکن فی سماع دعوی البائع ذلک [أی الاکراه] مع عدم الأمارات نظر»(4).

أقول: إن ادعی الإکراه و عنده القرائن یقبل قوله و إلاّ یحتاج إثباته إلی البیّنة الشرعیّة و کذا الأمر بالنسبة إلی المرض بلا فرق کما علی الأوّل ثانی الشهیدین و صاحب الحدائق و علی الثانی الأخیر فقط.

ص: 143


1- 1 . المسالک 9/23.
2- 2 . الحدائق 25/165.
3- 3 . الحدائق 25/165.
4- 4 . المکاسب 3/325.
الحادی عشر: طلاق المکرَه

قد مرّ فی الأمر الأوّل(1) کلام العلاّمة فی التحریر بأن: «لو اُکره علی الطلاق فطلَّق ناویا له فالأقرب أنّه غیر مکرَه، إذ لا اکراه علی القصد»(2).

فحکم قدس سره بِوُقُوْعِ الطلاق مستدِّلاً بأنّه غیر مکرَه فی نیّته و قصده و تبعه ثانی الشهیدین المسالک(3) و الروضة(4) کما مرّ.

ولکن الشیخ الأعظم(5) قسّم الفرع المذکور إلی سِتِّ صور:

1- أن یکون الطلاق الصادر من المکرَه مقترنا بالرضا و طیب النفس من دون أن یستند وقوعه إلی الإکراه لا بنحو الداعی المستقل و لا منضما إلی غیره من الدواعی، بل یقترن الطلاق بما بعد الإکراه زمانا، نحو أن یکون الزوج قاصدا الطلاق ولکن قبل إجرائه الصیغة أکره الظالم مع جهله بحاله و قصده فجری الصیغة فوقع الطلاق، لأنه لم یستند إلی الإکراه أصلاً.

2- أن یکون الإکراه جزءً لسبب الطلاق و وَجُزْؤُهُ الآخر سوء خُلقها أو انزجاره منها أو غیرهما من دواعی الطلاق، و الجزان یؤثران فی وقوع الطلاق فهل یحکم بصحته استنادا إلی الجزء المختار؟ أو یحکم ببطلانه استنادا إلی الجزء المکرَه علیه؟ کلٌّ محتملٌ.

ذهب السیّد الخوئی رحمه الله إلی البطلان «لأنّ المناط فی بطلان عقود المکرَه و إیقاعاته هو عدم وجود ما یقتضی الصحة لأنّ الأدلة علی اعتبار الرضا فی العقود و الإیقاعات ظاهرة فی کون الرضا سببا مستقلاً لصدورها، لا جزءً لذلک، و علیه فإذا اقترن الرضا بالإکراه و اجتمع معه استند الفعل إلیهما لا إلی الرضا فقط و حینئذ فالإکراه و إن لم یقتض الفساد، إلاّ أنّ ما یقتض الصحة - أیضا - غیر متحقّق، لعدم صدور الطلاق عن الارادة و

ص: 144


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 112.
2- 2 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/51.
3- 3 . المسالک 9/22.
4- 4 . الروضة البهیة 6/21.
5- 5 . المکاسب 3/327.

الرضا»(1).

و تابعه شیخنا الاُستاذ قدس سره و قال: «لا یبعد شمول حدیث رفع الاکراه علی الطلاق فی الفرض باعتبار أن رفعه یناسب الامتنان، حیث أنّ المفروض عدم وقوعه لو لا الإکراه»(2).

أقول: حیث یأتی الإکراه ولو علی سبیل جزء العلّة - لا تامّتها - یحکم بالبطلان، لأنّ النتیجة تتبع أخس المقدمتین أو المقدمات، و یصدق علی المطلِّق هنا بأنّه مکرَه ولو لا الإکراه لم یطلِّق لعدم تحقق العلّة التامة، فالحکم بالبطلان تام کما علیه العلمان رحمهماالله .

3- أن یکون الداعی إلیه هو دفع الضرر الوارد علی المکرِه (بالکسر) کما إذا هدَّد شخصٌ والده بأن یقول له: «طلِّق ضرّة والدتی و إلاّ قتلتُ نفسی»، فطلَّق الوالد ضرّتها قاصدا الطلاق، و الطلاق باطل عندنا و یأتی کلام العلاّمة من الحکم بالصحة فی هذه الصورة.

4- أن یکون الداعی إلی الطلاق شفقة دینیة علی المکرِه لئلا یقع فی معصیة کما إذا قال: «طلِّق زوجتک لأتزوّجها و إلاّ زنیتٌ بها» فطلَّقها قاصدا.

قال الشیخ الأعظم: «و الحکم فی الصورتین لا یخلو من إشکال»(3) أی الصورتین الثالثة و الرابعة.

أقول: یأتی کلام العلاّمة من الحکم بالصحة.

5- أن یکون الطلاق لأجل التخلص مِن الضرر المتوعد به علی المکرَه لأجل اعتقاده بعد امکان التخلص إلاّ بایقاع الطلاق حقیقة لغفلته عن عدم توقف التخلص علی ذلک.

6- أن یوقع الطلاق حقیقة لأجل التخلص من ظلم المکرِه، لجهل المکرَه برفع حکم الطلاق الإکراهی و هو (المکرَه) زعم أنّ الطلاق الإکراهی صحیح فطلَّق حقیقة.

ص: 145


1- 1 . مصباح الفقاهة 3/328.
2- 2 . إرشاد الطالب 2/257.
3- 3 . المکاسب 3/327.

قال الشیخ الأعظم: «و الحکم فی هاتین الصورتین [الأخیرتین] لا یخلو عن إشکال إلاّ أنّ تحقّق الإکراه أقرب»(1).

أقول: یأتی کلام العلاّمة فی هاتین الصورتین الأخیرتین أیضا، و بالجملة یأتی کلامه فی أربع صور من الصور السِّتِّ. ولکن الطلاق فی جمیع الصور الأَرْبَعِ الأخیرة باطل عندنا لصدق الإکراه. نعم، فی الصورة الرابعة - الشفقة الدینیة - لو لم تبلغ إلی حد الإکراه، و رضی بالطلاق قاصدا إلیه یکون صحیحا، کما عدّه شیخنا الاُستاذ(2) قدس سره الإظهر.

نعم، هنا صورتان لم یتعرض الشیخ الأعظم لهما.

7- أن یطلقها علی إکراه ولکن یرضی به بعد التأمل لسوء خلقها أو لعدم تمکّنه من نفقتها أو غیرهما. و قد یقال بصحة هذا الطلاق للحوق الرضا به، و هذا هو الفرع الذی یأتی فی ما بعد فانتظر قلیلاً.

8- أن یکون کل واحد من الرضا و الإکراه علّة تامة و سببا مستقلاً فی نفسه لوقوع الطلاق بحیث لو لم یکن إکراه لوقع الطلاق و هکذا العکس.

قوی المحقّق النائینی فساد الطلاق فی هذا الفرض و قال: «حیث لا یمکن توارد علّتین مستقلّتین علی معلول واحد فتصیر کلّ واحدة إذا اجتمعا جزء السبب و الفعل یسند الیهما معا. و هذه الصورة یحتمل فیها وجهان، ولکن الأقوی فیها االفساد لأنّها و إن لم تکن إکراهیا إلاّ أنّها لا تکون «تجارة عن تراض» أو أنّها و إن کانت عن رضا إلاّ أنّها عن إکراهٍ أیضا.

و کلّ علّتین مستقلّتین إذا وردتا علی معلول واحد و کان بینهما تدافع فلا یؤثر کلّ منهما کاجتماع الریا و قصد الأمر فی العبادات بل کاجتماع التبرید و قصد الأمر، نعم، لو کان التبرید ضمیمة لا داعیا مستقلاً صحت العبادة»(3).

و اعترض علیه تلمیذة السیّد الخوئی بقوله: «إِنّ الإکراه لا یقتضی الفساد لکی

ص: 146


1- 1 . المکاسب 3/328.
2- 2 . إرشاد الطالب 2/258.
3- 3 . منیة الطالب 1/406.

یکون المقام من قبیل توارد العلّتین المستقلّتین علی معلول واحد. بل مع وجود الإکراه ینعدم ما یقتضی الصحة، و إذا تحقق الرضا وُجد ما یقتضی الصحة، و علیه فیکون المقام من قبیل تعارض ما یقتضی الشی ء مع ما لایقتضیه، لا من قبیل تعارض المقتضین»(1) و حکم بالصحة.

أقول: یمکن أن یُناقش المحقّق السَّیِّد الخوئی قدس سره بأنّ فرض المقتضی لایجتمع مع العلّة التامة و السبب المستقل، فما ذکره قدس سره خارج عن محلِّ البحث، و أمّا ما ذکره من قَوْلِ المحقّق النائینی رحمه الله من «عدم إمکان توارد علّتین مستقلّتین علی معلول واحدً تام، ولکن هذا لا یوجب صیرورتهما العلّة الناقصة و جزء السبب کما قاله، بل الصحیح أنّ الفعل یستند إلی الاُولی منهما، فلو کان الرضا مقدَّم یستند الفعل إلیه، ولو کان الإکراه مقدَّما یستند الفعل إلیه ولکن حیث یتبعه الرضا و لحقه فیحکم بالصحة فی الفرضین، فنحن نوافق السیّد الخوئی من حکمه بالصحة ولکن طریق الاستدلال یختلف.

ثم إنّ هنا صورة تاسعة لابدّ أن نتعرض إلیها:

9- لو قال الأجنبی: «طلِّق زوجتک و إلاّ قتلتُ نفسی» أو «زنیت بغیرها»، لا یجب الطلاق و لا یصدق الإکراه أیضا لأنّ الضرر المتوعد به لم یرد علی المکرَه بل یرد علی المکرِه نفسه، فلو طلَّقها قاصدا وقع، کما علیه شیخنا الاُستاذ(2) رحمه الله و المحقّق المروج(3) قدس سره .

الثانی عشر: صحة عقد المکرَه المتعقب بالرضا
اشارة

قال فی المفتاح: «المشهور أنّ المکرَه لو باع ثمّ رضی بعد زوال عذره انعقد بیعه. و فی الریاض(4) و الحدائق(5): أنّ ظاهرهم الاتفاق علی ذلک. و هو ظاهر الکفایة(6) حیث

ص: 147


1- 1 . مصباح الفقاهة 3/329.
2- 2 . إرشاد الطالب 2/258.
3- 3 . هدی الطالب 3/267.
4- 4 . ریاض المسائل 8/218.
5- 5 . الحدائق 18/373.
6- 6 . الکفایة 1/449.

قال: قالوا، فتأمل.

و قد یلوح ذلک من جامع المقاصد حیث قال: «إن کانت المسألة إجماعیة فلا بحث و إلاّ فللنظر فیه مجال»(1). و قد نص علی ذلک فی الشرائع(2) و التذکرة(3) و التحریر(4) و الإرشاد(5) و شرحه لفخر الإسلام(6) و نهایة الإحکام(7) و حواشی الشهید(8) و الدروس(9) و اللمعة(10) و الروضة(11) و المسالک(12) و المفاتیح(13). و ظاهر المحقّق الثانی فی تعلیق الإرشاد(14) و جامع المقاصد - و قد سمعت کلامه فی الأخیر- التوقف أو المیل إلی عدم الصحة کما هو خیرة مجمع البرهان(15) و فی الکفایة: أنّ فیه إشکالاً(16)، و فی طلاق الخلاف التصریح بعدم صحة عقده و الإجماع علیه قال: طلاق

ص: 148


1- 1 . جامع المقاصد 4/62.
2- 2 . الشرائع 2/8.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 10/13.
4- 4 . تحریر الأحکام الشرعیة 2/276.
5- 5 . إرشاد الأذهان 1/360.
6- 6 . شرح الإرشاد / مخطوط.
7- 7 . نهایة الإحکام 2/456.
8- 8 . حواشی النجاریة للشهید /218.
9- 9 . الدروس 3/192.
10- 10 . اللمعة /110.
11- 11 . الروضة البهیة 3/226.
12- 12 . المسالک 3/155.
13- 13 . مفاتیح الشرائع 3/47.
14- 14 . حاشیة الإرشاد /336 المطبوعة فی المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی و آثاره.
15- 15 . مجمع الفائدة و البرهان 8/156.
16- 16 . الکفایة 1/449.

المکرَه و عتقه و سائر العقود التی یکره علیها لا تقع إجماعا منّا، و به قال الشافعی، و قال أبوحنیفة و أصحابه: طلاق المکرَه و عتاقه واقعٌ، و کذلک کلّ عقد یلحقه فسخ، فأمّا ما لایلحقه فسخ مثل البیع و الصلح و الإجارة فإنّه إذا اُکره ینعقد عقدا موقوفا فإن أجازها و إلاّ بطلت.(1) انتهی. فلیتأمل فی کلامه، بل قد یقال: إنّ الإجماع مقدوح بمصیر الأکثر إلی خلافه فی البیع کما عرفت، و فی النکاح بل فی الطلاق کما هو رأی بعض»(2).

و فی الجواهر: «علی المشهور نقلاً إن لم یکن تحصیلاً بل فی الریاض و الحدائق أنّ ظاهرهم الاتفاق علیه»(3).

و فی المکاسب: «ثم المشهور بین المتأخرین أنّه لو رضی المکرَه بما فعله صحّ العقد، بل عن الریاض تبعا للحدائق أنّ علیه إتفاقهم لأنّه عقد حقیقی فیؤثّر أثره مع اجتماع باقی شرائط البیع، و هو طیب النفس»(4).

أقول: المشهور - کما عرفت - هو الصحة، و القائل بالبطلان منحصر فی الشیخ فی الخلاف و المحقّق الثانی و الأردبیلی و السبزواری قال: «فالمسألة محل إشکال»، و صاحب الجواهر ذهب إلی التفصیل بین المکرَه القاصد للعقد فحکم بصحة عقده بعد تعقّبه بالرضا، و بین المکرَه الذی لیس له قصد العقد، فحکم ببطلان عقده لفوات القصد.(5)

ولکن استدلوا للبطلان بوجوه:

الأوّل: الاجماع

المنقول فی خلاف(6) الشیخ الذی مرّ آنفا.

و یرد علیه: أنَّ أوّل من خالفه هو الشیخ نفسه فی نهایته حیث یقول: «و لا یصحُّ

ص: 149


1- 1 . الخلاف 4/478، مسألة 44.
2- 2 . مفتاح الکرامة 12/554.
3- 3 . الجواهر 22/267.
4- 4 . المکاسب 3/328.
5- 5 . الجواهر 22/269.
6- 6 . الخلاف 4/478، مسألة 44.

بیعٌ بإکراه، و لا یَثْبُتُ إلاّ بایثار صاحبه»(1). مضافا إلی ما مرّ من ذهاب المشهور إلی القول بالصحة، فهذا الإجماع لا یتم بل هُوَ مقدوح فیه کما مرّ عن صاحب المفتاح.

الثانی: مقارنة طیب النفس للعقد

لیس شرط صحة العقد مطلق وجود الرضا المقارن له أو اللاحق به، بل هو خصوص الرضا المقارن لإنشاء العقد.

وَقَدْ أشار إلی هذا الاستدلال أو مایلیه المحقّق الثانی فی قوله: «و أعلم أنّ هذه المسألة إن کانت إجماعیة فلا بحث، و إلاّ فللنظر فیها مجال، لانتفاء القصد أصلا و رأسا مع عدم الرّضی، و لایتحقق العقد المشروط بالقصد إذا لم یتحقق الرضی، لأنّ الظاهر من کون العقود بالقصود، اعتبار القصد المقارن لها دون المتأخر».(2)

و فی الجواهر: «بعد ما عرفت من اعتبار مقارنة النیة بمعنی القصد للعمل»(3).

و یرد علیه: لم یدل دلیل علی هذه المقارنة، ولو شک فی اعتبارها إطلاق أدلة الوفاء بالعقد و حلّیّة البیع و تجارة عن تراض ینفیها.

الثالث: المکرَه لیس له قصد

المقارنة بین طیب النفس و العقد معتبرة فی مفهوم العقد، بحیث لو لم تکن لم یصدق أنّه عقد، لأنّ فقدان طیب النفس یوجب انتفاء القصد الجدّی لمدلول العقد فینتفی مفهوم العقد بانتفاء القصد.

کما أشار إلی هذا الاستدلال المحقّق الأردبیلی و قال: «... الظاهر البطلان حینئذٍ لعدم حصول القصد، بل و عدم صدور العقد عن تراض، و الظاهر اشتراطه علی ما هو ظاهر الآیة، و لأنّه لا اعتبار بذلک الإیجاب فی نظر الشارع، فهو بمنزلة العدم و هو الظاهر، لعدم الفرق بینه و بین غیره من الطفل و غیره، و الفرق(4) بین کلامهم (الطفل و المجنون و

ص: 150


1- 1 . النهایة /406.
2- 2 . جامع المقاصد 4/62.
3- 3 . الجواهر 22/267.
4- 4 . الفارق هو الشهید الثانی فی المسالک 3/155.

المغمی علیه و السکران) - بأنّه لا اعتبار به بخلاف کلام المکرَه فإنّه معتبر إلاّ أنّه لارضاء معه، فإذا وجد الرضا صح لوجود شرطه - بعیدٌ جدا لما عرفت.

و بالجملة: لا إجماع فیه و لا نص، و الأصل و الاستصحاب و عدم الأکل بالباطل إلاّ أن تکون تجارة عن تراض، و ما مرّ تدل علی عدم الانعقاد و هو ظاهر، إلاّ أنّ المشهور الصحة، و ما نعرف لهم دلیلاً، و هم أعرف رحمهم الله لعلّ لهم نصا ما نُقل إلینا»(1).

و فی الجواهر: «ضرورة عدم اندارجه فی العقود بعد فرض فقدان قصد العقدیة»(2).

و یرد علیه: قد مرّ فی الأمر الأوّل أنّ هنا قَصْدَیْنِ، القَصْد الاختیاری وَ الْقَصْد الإکراهی، فالمکرَه أیضا له القصد إلی مدلول العقد، مضافا إلی عدم ترتب انتفاء القصد الجدی علی فقدان طیب النفس، و الشاهد علیه بیع المضطر، و کذلک لایتم اعتبار هذه المقارنة فی مفهوم العقد و الشاهد علیه عقد الفضولی.

و لذا قال ثانی الشهیدین: «... فلا مانع من الصحة إلاّ تخیّل اشتراط مقارنة القصد للعقد و لا دلیل علیه، و ینبّه علی عدم اعتباره عقد الفضولی، و عموم الأمر بالوفاء بالعقد یشمله»(3).

الرابع: لیس لعقد المکرَه الصحة التأهلیة

لابدّ من المقارنة بین رضا العاقد و الإنشاء فی العقد، و حیث أنّ العقد الإکراهی فاقد لها، فلم یتحقق عقد حتّی نبحث عن صحته التأهلیة.

و یرد علیه نقضا: حکمهم بصحة عقد المکرَه بحقٍّ کما یأتی فیتحقّق العقد، و الحکم بصحة عقده (أی عقد المکرَه بحقّ) تعبدیّا فی غایة البعد، و کذلک عقد الفضولی.

و حَلاًَّ: بعدم اعتبار هذه المقارنة فی العقود و لم یدل دلیل علی اعتبارها فی مقام الإثبات و تحقق القصد من المکرَه إلی إنشاء العقد فیتحقق العقد بالصحة التأهلیة و هو

ص: 151


1- 1 . مجمع الفائدة و البرهان 8/156.
2- 2 . الجواهر 22/267.
3- 3 . المسالک 3/155.

منوط بالرضا، فإذا تحقق الرضا یتم العقد.

تأیید عدم اعتبار المقارنة بالبیع الفضولی

وَ أَیَّدَهُ الشیخ الأعظم(1) قدس سره بفحوی صحة عقد الفضولی، بتقریب و توضیح و نقد منّا:

رضایة المالک و طیب نفسه بالعقد فی الفضولی یستکشف من صحة عقده - العقد الذی لم یَأْتِ به المالک أو حتّی لایعلم به إلاّ بعد مدّة من الزمن - فرضایته و طیب نفسه بما أنشأه بنفسه و بأشر فیه لکن بالإکراه کان اُولی بالصحة. حیث أَثَّرَ رضاه و طیب نفسه فی إنشاء الأجنبی الفضولی فکان تأثیره فی إنشاء نفسه - ولو کان بالإکراه - بطریق اُولی.

و بعبارة اُخری: عقد الفضولی فاقد لأمرین: و هما انشاء البیع من المالک بالمباشرة أو بالتسبیب أو بالوکالة، و الرضا و طیب النفس و الإذن من المالک، و عقد المکرَه فاقد لأمر واحد و هو الرضا و طیب النفس، و إذا صح عقد الفضولی بالرضایة و الإذن، فتکون صحة عقد المکرَه بعد الرضایة و طیب النفس بطریق اُولی.

ولکن یمکن أن یناقش هذا التأیید أوّلاً: علی القول بأنّ صحة عقد الفضولی تکون علی خلاف القاعدة و بجهة الأخبار الخاصة و النصوص الواردة نحکم بصحته، فحینئذ فقدنا الاُولویة لأنّ الأخبار و النصوص فی المکرَه مفقودة.(2)

و ثانیا: «العقد الفضولی لا ینتسب إلی المالک إلاّ حین إجازته، فهو حین ما ینسب إلی المالک ینشأ من طیب نفسه و رضاه، هذا بخلاف عقد المکرَه، فإنّه حین صدوره من المالک و انتسابه إلیه قد حکم علیه بالفساد، و لم یصدر منه عقد ثانیا و إنّما رضی بالعقد السابق و هو لا ینقلب عمّا هو علیه»(3).

و یمکن الجواب عن المناقشتین:

أمّا الاُولی: فَهذِهِ المناقشة مبنائیة لأنّها لم ترد علی القول بأنّ صحة الفضولی علی

ص: 152


1- 1 . المکاسب 3/329.
2- 2 . کما ذکره الفقیه الیزدی فی حاشیته علی المکاسب 2/70.
3- 3 . مصباح الفقاهة 3/332، و قد اختصر مقالة استاذه النائینی فی المکاسب و البیع 1/458.

طبق القاعدة، و النصوص و الأخبار تؤیدها.

و أمّا الثانیة: فَقَدْ ناقَشَها المحقّق السیِّدُ الخوئی رحمه الله بأنّ التجارة بالمعنی المصدری لیس لها بقاء ولکن التجارة بالمعنی الاِْسْمِ المصدری لَها بقاء و بهذا المعنی الثانی اُمرنا بإنهاء العقد و إتمامه، فالتجارة الصادرة من المکرَه - بالمعنی اسم المصدری - إذا تعقبها الرضا و الإجازة یصدق علیها أنّها تجارة عن تراض فیدخل فی الآیة الشریفة فی المستثنی لا المستثنی منه و هی قوله تعالی: «یا أیها الذین آمنوا لا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل إلاّ أن تکون تجارةً عن تراض منکم»(1).(2)

التمسک بآیة التجارة علی بطلان عقد المکرَه المتعقَّب بالرضا

ثم الشیخ الأعظم(3) یناقش فی دلالة هذه الآیة الشریفة علی اعتبار المقارنة بین الرضا و العقد بمفهومی الحصر و الوصف.

و أمّا نفی مفهوم الحصر: فَإِنَّ استفادة الحصر من الاستثناء إِنَّما تَتُمُّ فی الاستثناء المتصل فقط و قال الشیخ الأعظم: و «أنّ دلالته علی الحصر ممنوعة لانقطاع الاستثناء - کما هو ظاهر اللفظ و صریح المحکی عن جماعة من المفسرین(4)- ضرورة عدم کون التجارة عن تراضٍ فردا من الباطل خارجا عن حکمه»(5).

أقول: مرّ فی أوّل الکتاب(6) من أنّ الاستثناء فیها منقطع.

و أمّا نفی مفهوم الوصف: فَعَلی القول به إنّما یتم إذا لم یرد الوصف مورد الغالب و إلاّ فلا مفهوم له کما فی الآیة الربائب(7)، و من المعلوم أنّ وصف التراضی فی الآیة

ص: 153


1- 1 . سورة النساء /29.
2- 2 . راجع الآراءُ الفقهیة 1/13.
3- 3 . المکاسب 3/331.
4- 4 . التبیان 3/178، مجمع البیان 2/36، الکشاف 1/502.
5- 5 . المکاسب 3/364.
6- 6 . راجع الآراءُ الفقهیة 1/13.
7- 7 . سورة النساء /23.

الشریفة ورد مورد الغالب لیس للاحتراز.

ثم قال: «و دعوی وقوعه هنا مقام الاحتراز ممنوعة»(1) و حاول الإجابة عن الدعوی فی بحث بیع الفضولی.(2)

و قال هناک: «و أمّا سیاق التحدید الموجب لثبوت مفهوم القید فهو - مع تسلیمه - مخصوص بما إذا لم یکن للقید فائدة اُخری ککونه واردا مورد الغالب کما فی ما نحن فیه و فی قوله تعالی: «و ربائبکم اللآتی فی حجورکم» مع احتمال أن یکون «عن تراض» خبرا بعد خبر لتکون علی قراءة نصب التجارة لا قیدا لها - و إن کان غلبة توصیف النکرة تؤید التقیید - فیکون المعنی: إلاّ أن یکون سبب الأکل تجارة و تکون عن تراض»(3).

أقول: الشیخ الأعظم قدس سره یستشکل فی مفهوم الحصر بأنّه یختص فی بحث الاستثناء بالمتصل منها، و فی مفهوم التحدید بالوصف بأنّه:

أوّلاً: مبنائیٌّ و جمع یقولون بأنّ تحدید الوصف لیس له مفهوم.

و ثانیا: علی فرض وجود المفهوم لتحدید الوصف یختص فی مفهوم لم یرد فی مورد الغالب.

و ثالثا: یحتمل أن یکون عن تراض خبرا للتجارة و لیس قیدا لها.

و رابعا: حتّی لو أنکر الاشکالات الثلاثة، عقد المکرَه بعد تعقّب الرضا یدخل فی تجارة عن تراض، لرضایة المکرَه بالعقد.(4) فالآیة الشریفة لا تدل علی بطلان عقد المکرَه بعد تعقب الرضا.

لا یقال(5): إِنّ الآیة الشریفة تدل علی الحصر و إن کان الاستثناء منقطعا، لأنّه

ص: 154


1- 1 . المکاسب 3/331.
2- 2 . المکاسب 3/331.
3- 3 . المکاسب 3/364.
4- 4 . کما ذکرها المحقّق المروج رحمه الله فی هدی الطالب 3/478.
5- 5 . کما علیه المحقّقان السیّدان الخوئی فی مصباح الفقاهة 4/81 و المروج فی هدی الطالب 3/292.

تعالی کان فی مقام بیان الأسباب المشروعة للمعاملات و فصّل بین صحیحها و فاسدها، و کان الإهمال مخلاًّ بالمقصود فلا محالة یستفاد الحصر من الآیة بالقرینة المقامیة.

لأنّا نقول: القرینة المقامیة غیر تامة عندنا، لأنّه تعالی لیس فی مقام بیان تمام الأسباب المشروعة لأکل المال فی المعاملات و الشاهد علیه أنّه تعالی لیس فی مقام بیان تمام الأسباب الغیر المشروعة لأکل المال فیها، فعدم تمامیة الأسباب یجری فی العقدین من الاستثناء أی المُستثنی و المستثنی منه، لأنّه تعالی لم یذکر مصادیق أکل المال بالباطل فی الآیة الشریفة کما لم یذکر انحاء أکل المال بالحقِّ و فقط ذکر العامل الرئیسی و هو التجارة عن تراض، و نحن نعلم بأنّ مصادیق أکل المال بالباطل فی الخارج کثیرون نحو: القمار و الربا و البیوع الفاسدة مثل بیع الخمر و الخنزیر و المیتة... و کذلک مصادیق أکل المال بالحقّ أیضا کثیرون نحو: الإرث و المهر و الصلح و الوقف و الإجارة و الهبة و... .

و إذا لم یکن تعالی فی مقام بیان جمیع الأسباب الباطلة و المشروعة فلا یکون إهمال بعضها بل کثیرها مخلاًّ بالمقصود و لا یستفاد مفهوم الحصر من الآیة الشریفة.

و أمّا التمسک بحدیث الرفع لبطلان عقد المکرَه المتعقَّب بالرضا

فَباطِلٌ عند الشیخ العظم(1) قدس سره لوجهین:

الأوّل: حدیث الرفع بفقرة «ما اُکرهوا علیه»(2) یرفع المؤاخذة و الأحکام الالزامیة نحو رفع حرمة شرب الخمر و حدّه، و أمّا «الحکم بوقوف عقد المکرَه علی رضاه راجعٌ إلی أنّ له أن یرضی بذلک، و هذا حقٌّ له لا علیه»(3) فلا یرتفع بحدیث الرفع الوارد فی مقام الامتنان.

ص: 155


1- 1 . المکاسب 3/332 و 331.
2- 2 . الخصال /417، ح9، التوحید 353، ح24 و نقل عنهما فی وسائل الشیعة 15/369، ح1، الباب 56 من أبواب جهاد النفس.
3- 3 . المکاسب 3/331.

لا یقال(1): الأمر کما ذکرتَ بالنسبة إلی المکرَه و أمّا بالنسبة إلی مَنْ اشتری منه، فلیس له أن یتصرف فی المثمن و یجب علیه الصبر حتّی یختار المکرَه الردّ أو أجاز البیع، و وجوب هذا الصبر علی المشتری ینفیه حدیث الرفع.

لأنّا نقول: حدیث الرفع یجری فی طرف المکرَه فقط، و أمّا بالنسبة إلی المکرِه فلا یجری، و کان علیه الصبر حتّی یختار المکرَه أحد طرفی العقد، و لا مانع من التفکیک بین طرفی العقد فی حکم عقدٍ شخصیٍ خاصٍ.

و هذا الأمر - عدم جریان حدیث الرفع بالنسبة إلی حقّ المکرَه - واضح علی القول بکون الرضا ناقلاً، إذ علیه لا ملکیة قبل الرضا فلا إلزام علی المکرَه أصلاً، و کذلک علی القول بالکشف - ولکنه بعد التأمل - لأنّ ما لم یتحقق من المکرَه الرضا بالعقد فلا کاشف عن تحقق الملکیة من حین العقد و مع عدم الکاشف فلا مؤاخذة و لا إلزام فلا یجری حدیث الرفع، لأنّه مرّ أنّه یجری فی رفع موارد المؤاخذة و الأحکام الالزامیة.

الثانی: یحتاج إلی مقدمة و هی:

الآثار المترتبة علی الأفعال علی ثلاثة أقسام:

1- الأثر الَّذِیِ یترتب علی الفعل المقیَّد بالعمد کالقصاص فی قتل العمد

2- الأثر الَّذِیِ یترتب علی الفعل الموصوف بکونه خطاءً أو نسیانا کما فی وجوب سجدتی السهو لنسیان التشهد أو الدیة الثابتة علی العاقلة فی الجنایة الخطائیة المحضة.

3- الأثر الَّذِیِ یترتب علی ذات الفعل مع الغض عن طروء العناوین.

ثم حدیث الرفع لا یجری فی القسم الأوّل لأنّ القصاص ینفی بنفی موضوعه و هو العمد فلا یجری القصاص فی القتل الخطأ، و کذلک لا یجری فی القسم الثانی لاستحالة کون مقتضی الشی ءِ رافعا له، ولکنّه یجری فی القسم الثالث و هو الأثر الذی یترتب علی ذات الفعل.

بعد وضوح هذه المقدمة فَإِنَّ الأثر المترتب علی ذات العقد مجرد تحققه فی

ص: 156


1- 1 . مذکور فی کلامه بقوله: «نعم قد یلزم...» راجع المکاسب 3/331.

الخارج بأدلة صحة المعاملات هو الصحة و ما یَجْری علیها من الآثار، و هذا الأثر فی عقد المکرَه منفی بحدیث الرفع فلا یحکم بصحة عقد المکرَه و جریان آثارها علیه. فحدیث الرفع یَقْتَضِیْ رفع السببیة المستقلة عن العقد المجرد عن الرضا. ولکن لا ینافی ذلک کون العقد جزءً للسبب و وقوف تأثیره فی الرضا المتأخر.

ثم ناقش الشیخ الأعظم(1) هذا الوجه الثانی المذکور فی کلامه بما حاصله: حکومة حدیث الرفع علی الاطلاقات الدالة علی صحة العقود تقتضی تقیید الاطلاقات بمسبوقیة الرضا و طیب النفس و عدم الإکراه، و بعد هذا التقیید لم یبق دلیلٌ یدل علی صحة عقد المکرَه بعد تعقُّب الرضا، فیصل النوبة إلی الأصل العملی و هو یقتضی الفساد.

و أجاب بنفسه عن هذه المناقشة بما حاصله: المطلقات الواردة علی صحة العقود قُیّدت بالأدلة الأربعة الدالة علی حرمة أکل المال الباطل و مع عدم الرضایة، و بعد هذا التقیید تشمل العقود التی تقع بین طرفی العقد بالرضایة و طیب النفس بلا فرق بین المقارن منها أو المتأخر، فعلیه لیس لحدیث الرفع حکومة علی تلک المطلقات بعد تقییدها، لأنّها تشمل العقد المقرون بالرضا و کذلک العقد الملحوق بالرضا، و بعد حکم المطلقات بالصحة فلا یجری حدیث الرفع لأنّ جریانه مختص بما إذا کان الأثر مترتبا علی ذات الشی ء من غیر دخل الاختیار و الإکراه فیه، و ذات العقد هنا لا أثر له إلاّ أنّه جزء السبب الموثر و لا یمکن رفع هذا بحدیث الرفع.

أقول: یمکن ردّ وجهی الشیخ الأعظم و النقاش فیهما:

أمّا النقاش فی الأوّل: فَإِنَّ المرفوع بحدیث الرفع لیس منحصرا بالمؤاخذة و الأحکام الالزامیة بل المرفوع هو نفس المجعول الشرعی المتعلَّق بالمکرَه علیه و المترتب علیه من الأحکام التکلیفیة أو الوضعیة. فما ذکره قدس سره بالانحصار غیر تام. هذا أوّلاً.

و ثانیا: توقف عقد المکرَه علی الرضا المتأخر لم یکن حکما مجعولاً حتّی یقال

ص: 157


1- 1 . المکاسب 3/333.

أنّه حکم له لا علیه، فلا یشمله حدیث الرفع کما ذکره قدس سره - هذا الاشکال یأتی بناءً علی اتحاد الحقّ و الحکم کما علیه جمع، منهم السیّد الخوئی قدس سره - .

و ثالثا: المرفوع بحدیث الرفع هو الصحة فی العقد الإکراهی لکنّه لیس مطلقا، بل مادام الإکراه باقیّا لأنّ الأوّل (مطلقا) خلاف الامتنان، فإذا تعقَّب بالرضا یشمله الاطلاقات الدالة علی صحة العقود.

و أمّا النقاش فی الثانی فنقُوْلُ:

أوّلاً: مقتضی الاطلاقات هو سببیة العقد مطلقا لترتب الأثر علیه، لکن حدیث الرفع اقتضی عدمه فی ما إذا لم یکن العاقد راضیا به لا مقارنا للعقد و لا لاحقا به، فیبقی ما لحقه الرضا تحت المطلقات، فلا یرجع فیه إلی الأصل العملی المقتضی للفساد.

و ثانیا: و أمّا ما ذکره من تقیید المطلقات بمادلّ علی حرمة أکل المال بالباطل ثمّ ملاحظة النسبة بینها و بین حدیث الرفع: فَغَیْرُ تام، لأنّ حدیث الرفع یکون فی عرض سائر المقیدات و نتیجتها أنّ العقد الذی لم یکن مرضیا لا مقارنا للعقد و لا لاحقا به لم یؤثر أثره و یکون باطلاً. فیدخل عقد المکرَه المتعقَّب بالرضا تحت مطلقات صحة العقود.(1)

الثالث عشر: الرضا المتأخر ناقل أو کاشف؟

بعد البناء علی صحة عقد المکرَه إذا تعقبه الرضا کما علیه المشهور و الصحیح یجری هذا النزاع بأنّ الرضا المتأخر ناقلٌ أو کاشفٌ؟ و کذلک هذا النزاع مبنیٌّ علی کون الرضا بوجوده الخارجی دخیلاً فی صحة العقد، لاِءَنَّهُ لو کانت صِحَّتُهُ مَشْرُوْطَةً بالرضا المتأخر یتعیّن القول بالکشف، و لا یأتی احتمال النقل.

قال الشیخ الأعظم قدس سره : «مقتضی الأصل و عدم حدوث حِلّ مال الغیر إلاّ عن طیب نفسه هو الأوّل، إلاّ أنّ الأقوی بحسب الأدلة النقلیة هو الثانی»(2).

ص: 158


1- 1 . کما فی مصباح الفقاهة 3/337 و 335.
2- 2 . المکاسب 3/335.

مراده بالأصل: أصالة الفساد الجاریة فی المعاملات و هو استصحاب عدم ترتب الأثر و هو فی البیع النقل و الانتقال و جواز التصرف فی مال الغیر - تدل علی النقل - و لذا فسّره بواو العطف بعدم حدوث حلیّة مال الغیر إلاّ عن طیب نفسه. حتّی لا یلزم الجمع بین الأصل العملی و الدلیل الاجتهادی فی دلیل واحد، و هو کماتری لتأخر الأصل الْعَمَلِیّ عن الدلیل الاجتهادی رتبةً، و لئلا یلزم التمسک بالدلیل فی الشبهة المصداقیة، لأنّه لا یُعلم کون الرضا اللاحق مصداقا للرضا المنوط به الحِلّ.

و مراده بالأدلة النقلیة الدالة علی الکشف هی عدّة من الروایات التالیة:

منها: صحیحة محمّد بن قیس - التی رواها المشایخ الثَّلاثَةُ - عن أبی جعفر علیه السلام قال: قضی أمیرالمؤمنین علیه السلام فی ولیدةٍ باعها ابنُ سیدِها و أبوها غائب فاستولدها الذی اشتراها فَوَلَدَتْ منه غلاما ثم جاءَ سیدُها الأوّل، فخاصم سیّدها الآخر، فقال: ولیدتی باعها ابنی بغیر إذنی.

فقال: الحکم أن یأخذ ولیدتَهُ و ابنَها، فناشده الذی اشتراهَا، فقال له: خُذابنَهُ الذی باعک الولیدةَ حتّی یُنْفِذَلک البیع، فلمّا أخذه قال له أبوه: أرسل ابنی، قال: لا و اللّه ِ، لا اُرْسِلُ إلیک ابنک حتّی تُرْسِلَ ابنی، فلمّا رأی ذلک سیدُ الولیدة أجاز بیع ابنه.(1)

قال الشهید بعد ذکر الروایة: «و هی قضیة علیٍّ علیه السلام فی واقعة، و لعلّ ذلک استصلاح منه علیه السلام و فیها دلالة علی أنّ عقد الفضولی موقوف و علی أنّ الإجازة کاشفةٌ»(2).

و منها: صحیحة أبی عبیدة قال: سألتُ أباجعفر علیه السلام عن غلام و جاریة زوَّجَهُما ولیّان لهما، و هما غیر مدرکین، قال: فقال: النکاح جائز، أیّهما أدرک کان له الخیار، فإن ماتا قبل أن یدرکا فلا میراث بینهما و لا مهر، إلاّ أن یکونا قد أدرکا و رضیا.

قلت: فإن أدرک أحدهما قبل الآخر، قال: یجوز ذلک علیه إن هو رضی.

ص: 159


1- 1 . الکافی 10/209، ح12 (5/211)، الفقیه 3/222، ح382، التهذیب 7/488: و الاستبصار 3/205، و نقل عنهم فی وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
2- 2 . الدروس 3/233.

قلت: فإن کان الرجل الذی أدرک قبل الجاریة، و رضی النکاح، ثمَّ مات قبل أن تدرک الجاریة، أترثه؟ قال: نعم، یعزل میراثها منه حتّی تدرک، و تحلف باللّه ما دعاها إلی أخذ المیراث إلاّ رضاها بالتزویج، ثم یدفع إلیها المیراث و نصف المهر.

قلت: فإن ماتت الجاریة و لم تکن اُدرکت، أیرثها الزوج المدْرِک؟ قال: لا، لأنّ لها الخیار إذا أدرکت.

قلتُ: فإن کان أبوها هو الذی زوَّجها قبل أن تدرک، قال: یجوز علیها تزویج الأب، و یجوز علی الغلام، و المهر علی الأب للجاریة.(1)

و أنت تری بأنّ الإمام علیه السلام حکم بالتوارث بینهما إذا مات أحدهما، ولکن بعد إحلاف الحیّ علی أنّ إمضاءه لعقد النکاح لیس من ناحیة الطمع فی المال، بل من جهة رغبته فی النکاح و نحوها فی التقریب الروایة الآتیة:

و منها: صحیحة الحلبی قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الغلام له عشر سنین فیزوّجه أبوه فی صغره، أیجوز طلاقه و هو ابن عشر سنین؟ قال: فقال: أمّا تزویجه فهو صحیح و أمّا طلاقه فینبغی أن تحبس علیه امرأته حتّی یدرک، فیعلم أنّه کان قد طلَّق، فإن أقر بذلک و أمضاه فهی واحدة بائنة و هو خاطب من الخطّاب، و إن أنکر ذلک و أبی أن یمضیه فهی امرأته.

قلت: فإن ماتت أو مات؟ قال: یوقف المیراث حتّی یدرک أیّهما بقی، ثم یحلف باللّه ما دعاه إلی أخذ المیراث إلاّ الرضا بالنکاح، و یدفع إلیه المیراث.(2)

و قال الشیخ الأعظم فی بحث بیع الفضولی بالنسبة إلی صحیحة أبی عبیدة الماضیة أنّها: «ظاهرة فی قول الکشف، إذ لو کان مال المیت قبل إجازة الزوجة باقیة علی ملک سائر الورثة، کان العزل مخالفا لقاعدة «تسلّط الناس علی أموالهم»، فاطلاق الحکم بالعزل منضمّا إلی عموم «الناس مسلطون علی أموالهم»، یفید أنّ العزل لاحتمال کون

ص: 160


1- 1 . وسائل الشیعة 26/219، ح1، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج.
2- 2 . وسائل الشیعة 26/220، ح4.

الزوجة الغیر المدرِکة وارثةً فی الواقع، فکأنّه احتیاط فی الأموال قد غلّبه الشارع علی أصالة عدم الإجازة، کعزل نصیب الحمل و جعله أکثر ما یُحتمل»(1).

أقول: و أمّا بالنسبة إلی صحیحة محمّد بن قیس فَسَتَأْتی مُوهِناتٌ فی بحث الفضولی تُعَکِّرُ علی الاستدلال بها:

1- منها: الحکم بأخذ الولیدة قبل أن یسمع من المشتری دعواه.

2- و منها: الحکم بأخذ الولیدة و ابنها مع عدم السؤال أنّه یرید الإجازة أو لا؟

3- و منها: الحکم بأخذ ابنها مع أنّه ولد الحر.

4- و منها: الحکم بأخذ ابن السیّد مع أنّ ذلک لا یجوز.

5- و منها: تعلیم الحیلة توسط الإمام علیه السلام مع أنّ ذلک لیس من وظیفة الحاکم.

6- و منها: کون الإجازة بعد الرد.

ولکن قال الشیخ بالنسبة إلیها: «و جمیع ما ذکر فیها من الموهنات موهونةٌ»(2).

و یمکن أن یجاب عن الأوّل: الإمام علیه السلام عالِمٌ بالموضوع خارجا من عدم وقوع العقد بإذن السیّد أو رضاه و لذا أمر بأخذ الولیدة، مضافا إلی أنّ الولیدة ماله فأراد التسلیط علیه، و لیس فی البین محاکمة بل یسأل عن المسألة الشرعیة و أجابه الامام علیه السلام .

و عن الثانی: إِنَّ السیّد لَمْ یُرِدِ الإجازة و لذا أمر الإمام بأخذ الولیدة و ابنها، أمّا لو أراد الإجازة فَإِنَّهُ لا یُراجِعُ الامام علیه السلام .

و عن الثالث: أخذ الولد لأجل أخذ قیمته.

و عن الرابع: أمر بأخذ ابنه لأجل المطالبة بالثمن الذی دفعه إلیه.

و عن الخامس: لعلّ کانت هناک مصلحة تقتضیه، لأجل المصالحة بین الناس، أو تعلیمه أنّ للمشتری مطالبة البائع بثمنه.

و عن السادس: لم یرده السیّد بل لم یجزه أوّلاً، و عدم الإجازة غیر الردّ(3) و

ص: 161


1- 1 . المکاسب 3/410.
2- 2 . المکاسب 3/354.
3- 3 . راجع لتفصیل الموهنات و جوابها فی حاشیة الفقیه السیّد الیزدی علی المکاسب 2/110.

یأتی تفصیل الجواب عن هذا الاشکال فی بیع الفضولی.

و کذلک یأتی الْجَوابانِ العامّان عن هذه الموهنات فی بیع الفضولی فانتظر. فیمکن الأخذ بصحیحة محمّد بن قیس.

و أمّا بالنسبة إلی روایتی توارث الزوجین الصغیرین فَیُمْکِنُ أن یناقش فی دلالتها: أنّ الرِّوایَتَیْنِ وردتا فی نکاح الفضولی و التعدی منه إلی بیع المکرَه المتعقب بالرضا لا یتم لعدم الدلیل المثبت علیه، لوجود الفارق بینهما لأنّ معاملة الفضولی یستند إلی المالک من حین إجازته فیمکن الحکم بصحته من أوّل الأمر، ولکن بیع المکرَه لا یستند إلی المالک من أوّل الأمر لأنّه لایحکم بصحته إلاّ بعد تحقق الرضا و هذا الاشکال یأتی بالنسبة إلی صحیحة محمّد بن قیس أیضا.

ولکن یرد علیها: ظاهر الروایات أنَّ الاجازة و الرضا و إن کانت متأخرة عن العقد ولکنهما متعلِّقتان به و امضاء له و لازم ذلک هو الحکم بتأثیر العقد من أوّل العقد، فیتم القول بالکشف و یأتی توضیح ذلک فی بحث بیع الفضولی.

و الحاصل: مقتضی الأصل فی المقامین - بیع المکرَه المتعقب بالرضا و بیع الفضولی - هو النقل، لأنّ الشرط فی نفوذ العقد وجود الإجازة خارجا، و المشروط لا یتحقق إلاّ بعد تحقق شرطه و هو الإجازة، و هذا یعنی القول بالنقل.

ولکن مقتضی الدلیل الاجتهادی هو القول بالکشف، لأنّ الوارد فیها صحة العقد من أوّل الأمر فصارت الإجازة کاشفة.

و الحقّ فی المقتضین مع الشیخ الأعظم قدس سره .

إشکال: أنّ الأصل هنا و فی الفضولی هو الکشف، لأنّ متعلَّق الرضا هو النقل الواقع فی زمان العقد و الرضا تنفیذ لذلک و هذا یعنی کاشفیة الرضا لا ناقلیته. کما یظهر ذلک من صاحب الجواهر حیث صرّح فی الفضولی ب- : «أنّ الأقوی کون الإجازة المتعقبة للعقد و غیره ممّا یعتبر فی الصحة کاشفة، وفاقا لصریح الشهیدین(1) و غیرهما(2)، بل فی

ص: 162


1- 1 . الدروس 3/192 و 233، و اللمعة /110، المسالک 3/158، الروضة البهیة 3/229.
2- 2 . منهم: الفاضل المقداد فی التنقیح الرائع 2/26، و المحقّق الکرکی فی جامع المقاصد .4/74

الریاض(1) أنّه الأشهر کما عن مجمع البرهان(2) أنّه مذهب الأکثر لأنّها رضی بمقتضی العقد الذی هو النقل حینه...»(3).

و قال فی بیع المکرَه: «... و لا ریب فی کونه حینئذ کالفضولی فتأمل جیدا... و علی کلِّ حالٍ فحیث یکون کالفضولی یجب انتظار غیر مجبور...»(4).

و ذکر الشیخ الأعظم عن هذا الکلام ب-«ربما یُدّعی» فی المکاسب(5).

و ردّه(6) بما حاصله: عدم تسلیم کون مقتضی العقد النقل من حینه، بل مقتضاه نفس النقل، لأنّ الشارع اعتبر رضایة المکرَه، و هذا الاعتبار دلیل علی تأثیره فی العقد و ترتب الأثر علیه، فیتم العقد و یؤثر أثره بعد الرضا و هذا یعنی النقل لا الکشف، کما حکم الشارع بتحقق الملک بعد القبول فی جمیع العقود، أو بعد القبض فی ما یعتبر فیه القبض کالصرف و السلَم و الهبة، أو بعد انقضاء زمن الخیار بناءً علی مسلک الشیخ(7) من توقف الملکیة علی انتها زمان الخیار.

إن قلت: توقف حکم الشارع علی الرضا لا یقتضی النقل، لأنّه حکم بعد الرضا ولکن متعلَّق الرضا هو النقل الواقع حین العقد و یحکم الشارع علی طبق المتعلَّق، و هذا یعنی الکشف.

قلت: لا یتخلَّف الجعل عن المجعول من حیث الزمان، و من المعلوم اعتبار الملکیة فی زمن الرضا فلابدّ من حصولها فی ذلک الزمان، و الشاهد علیه تحقق الفسخ و

ص: 163


1- 1 . ریاض المسائل 8/227.
2- 2 . مجمع الفائدة و البرهان 8/159.
3- 3 . الجواهر 22/285.
4- 4 . الجواهر 22/269.
5- 5 . المکاسب 3/335.
6- 6 . المکاسب 3/335.
7- 7 . الخلاف 3/22.

هو و إن کان حَلاًَّ للعقد السابق ولکنّه من حینه لا من حین العقد. و العبرة بزمان حدوث الفسخ لا بزمان متعلَّقه و هو العقد.

هذه المناقشة و الجواب أیضا کانا من الشیخ الأعظم(1) بتوضیح و تقریب و تهذیب منّا.

ولکن المحقّق السیّد الخوئی(2) تبعا لاُستاذه النائینی(3) یری أنّ الشارع یحکم بصحة العقد من حینه بعد الرضا، لأنّ الرضا یتعلّق بالعقد هنا و فی الفضولی معا و ردّ استشهاد الشیخ الأعظم بالفسخ لوجود الفارق بینه و بین ما نحن فیه لأنّ الفسخ عبارة عن حلّ العقد فیصیر من حین الفسخ و فی قباله إمضاؤه و إقراره و تثبیته، و أمّا الإجازة یقابلها الردّ، فلا منافاة بین أن یکون أثر الفسخ من حینه، و أثر الإجازة ترتیب أثر العقد من حینه، فالصحیح قیاس الإجازة مع الردّ دون الفسخ الذی یقاس بالجزم و الإبرام و الإقرار و التثبت.

و التفصیل یطلب من بیع الفضولی، و یأتی بحثه مفصلاً إن شاء اللّه تعالی.

الرابع عشر: الإکراه بحقٍّ

بطلان بیع المکرَه مختص بما إذا کان الإکراه بغیر حقٍّ، و أمّا إذا کان بحقٍ فَهُوَ صَحِیْحٌ و لا یضرّه الإکراه، و فی الغنیة(4) أن صحة بیعه معه ممّا لا خلاف فیه.

منها: کان علیه دین فیتوجَّه علیه بیع ماله لأداء دینه.

و منها: شراء مال اُسلم إلیه قیمته فأکرهه الحاکم علیه.

و منها: تقویم العبد علی مُعْتِقٍ نصیبه منه.

و منها: تقویم العبد فی فکّه من الرق لیرث.

و منها: إکراهه علی البیع لنفقته و نفقة زوجته و نفقة واجبی النفقة علیه مع

ص: 164


1- 1 . المکاسب 3/336.
2- 2 . مصباح الفقاهة 3/340.
3- 3 . المکاسب و البیع 1/474 و 475.
4- 4 . غنیة النزوع /214.

امتناعه.

و منها: بیع الحیوان إذا امتنع من الإنفاق علیه.

و منها: العبد إذا أسلم عند الکافر

و منها: العبد المسلم و المصحف إذا اشتراهما الکافر و سوَّغناه، فإنّهما یباعان علیه قهرا.

و منها: الطعام عند المجاعة یشتریه خائف التلف.

و منها: المحتکِر مع عدم وجود غیره و احتیاج الناس إلیه.

ذکر هذهِ الْوُجُوْهَ کلّها ثانی الشهیدین فی المسالک(1) و تبعه الشیخ یوسف فی الحدائق(2).

الخامس عشر: لو حصل الرضا بعد العقد بلافصل و...

قال جدنا الشیخ جعفر قدس سره : «ولو حصل الرضا بعد تمام العقد بلافصل، فلا بحث علی القول بالصحة. ولو فسخ فَسَدَ العقد. ولو استمر الجَبْرُ بلا فسخ، ثم تعقّب الرضا قَوِیَ وجه الصحة. و فی کونه کاشفا أو ناقلاً وجهان، أقواهما الأوّل. ولو بعّض الرضا أو غیّر الأجل أو بعض الشروط فالظاهر البطلان. ولو جبره علی البیع نقدا فآجر أو صالح أو أسلم فلا جبر. و ما اشتهر من أنّ الحیاء من آلات الجبر لا نعرف له وجها»(3).

و علّق تلمیذه صاحب الجواهر رحمه الله علی قوله «قوی وجه الصحة» بقوله: «قلت: لعلّ وجه العدم أنّه قد یقال بکفایة استمرار عدم الرضا فی فساد العقد بحیث لا تنفع معه الإجازة إذ دعوی احتیاج فسخه إلی اللفظ یدلّ علیه مریدا للإنشاء به لا دلیل علیه»(4).

و علّق علی قوله: «فالظاهر البطلان»: «أی لصدق الإکراه».(5)

ص: 165


1- 1 . المسالک 3/157.
2- 2 . الحدائق 18/376.
3- 3 . شرح القواعد 2/45.
4- 4 . الجواهر 22/269.
5- 5 . الجواهر 22/266.

و علّق علی قوله: «فلا جبر»: «قلتُ: المدار علی صدق الإکراه و مع الشک الأصل عدمه».(1)

السادس عشر: بیع التلجئة

قال فی التذکرة: «و فی معنی الإکراه بیع التلجئة و هو: أن یخاف أن یأخذ الظالم ملکه فیواطیء رجلاً علی إظهار شرائه منه و لا یرید بیعا حقیقیا، ذهب إلیه علماؤنا أجمع - و به قال أحمد و أبو یوسف و محمّد - لأنّهما لم یقصدا البیع فکانا کالهازلَیْن.

و قال أبو حنیفة و الشافعی: یصحّ بیع التلجئة لأنّه تمّ بأرکانه و شروطه خالیا عن مقارنة مُفْسِدٍ فصحّ کما لو اتّفقا علی شرطٍ فاسدٍ ثمّ عقدا بغیر شرط و نمنع المقدمات»(2).

و کذا قال فی نهایته: «و بیع التلجئة باطل، و هو أن یخاف أن یأخذ الظالم ملکه فیواطی رجلاً علی أن یظهر أنّه اشتراه منه لیحفظه من الظالم، لا یرید بیعا حقیقیّا لأنّهما لم یقصدا البیع فکانا کالهازِلَیْن»(3).

هذا تمام الکلام فی الشرط الرابع من شروط المتعاقدین، و هو الاختیار، و الحمدللّه.

ص: 166


1- 1 . الجواهر 22/266.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/13.
3- 3 . نهایة الإحکام 2/456.

5- إذن السیّد لو کان العاقد عبدا

اشارة

نتعرض للبحث تبعا للشیخ الأعظم قدس سره ولکن باختصار، و عدم وجدان موضوعه لا یوجب ترک استنباط أحکامه و مسائله و فروعه، نعم المناسِبُ فیه عدم التطویل.

قال المحقّق: «ولو باع المملوک أو اشتری بغیر إذن سیّده لم یصحّ، فإن أذن له جاز»(1).

الأقوال فی تصرفات العبد و هی ثلاثة:

الأوّل: العبد مهجور عن کلِّ فعل أو قولٍ من عقد و إیقاع أو عمل قلیل أو کثیر، صغیر أو کبیر، إلاّ ما ثبت جوازه بالدلیل».

الثانی: تصرفات العبد نافذة فی ما یتعلَّق به من نکاحه و طلاقه و فی ما یتبع به بعد عتقه کضمانه و نحوه و فی ما یکون راجعا إلی غیره نحو توکیله عن الغیر فی البیع أو الشراء أو عقد أو إیقاع، و بالجملة: فی کلِّ ما لایکون التصرف فیه تصرفا فی سلطنة مولاه یکون تصرفاته نافذة، و کلّ ما یعدّ التصرف فیه تصرفا فی سلطنة مولاه باطلة لأجل تعارضه لحقّ مولاه و سلطنته الحاکمة.

الثالث: نفوذ تصرفاته فی کلِّ ما لا یعدّ شیئا معتدّا به و مثلّه بأکله و شربه و نومه و تکلّمه. و عدم نفوذها فی ما یعدّ شیئا معتدا به بحسب العرف و العادة بلا فرق بین ما یتعلَّق بأمواله - بناءً علی جواز ملکیته - أو أموال سیّده من عقد أو إیقاع، و کذلک ما

ص: 167


1- 1 . الشرائع 2/8.

یتعلّق بسائر الناس من التصرف فی أموالهم و أنفسهم بعقد و إیقاع، فصحة هذا القسم یتوقف علی إذن مولاه و إجازته. فیحکم بلغویة تصرفاته من دون إذن مولاه فلا تصح وکالة العبد عن غیره. حتّی فی إجراء الصیغة فضلاً عن کونه وکیلاً مفوضا، و اختار الشیخ الأعظم(1) و المحقّق النائینی(2) هذا القسم الأخیر.

و استدل الشیخ الأعظم له بقوله تعالی: «ضَرَبَ اللّه ُ مَثَلاً عَبْدا مَمْلُوکا لا یَقْدِرُ علی شَیْء»(3).

و بصحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام و أبی عبداللّه علیه السلام قالا: المملوک لا یجوز طلاقه و لا نکاحه إلاّ بإذن سیّده، قلت: فإن السیّد کان زوَّجه، بید مَنْ الطلاق؟ قال: بید السیّد «ضرب اللّه مثلاً عبدا مملوکا لا یقدر علی شی ء»، أفشی ءٌ الطلاق(4)

بتقریب: کلّ ما یصدق علیه أنّه شی ء معتد به فلایقدر العبد علی التصرف فیه شرعا من دون إذن مولاه. بلا فرق بین أنّه یرجع إلی نفسه - فی حال عبودیته أو بعد فرض حریّته - أو مولاه أو غیرهما، و بین إجراء العقد أو الإیقاع، و بین الالتزام بشی ءٍ و التعهد بضمان أو دین حالیّا کان أو استقبالیّا.

فالآیة الشریفة تدلّ علی عدم استقلال العبد فی جمیع تصرفاته مطلقا لعدم قدرته علیه أی عدم نفوذ تصرفاته، فیصیر شأن العبد شأن الصبی من عدم نفوذ تصرفاته إلاّ بإذن ولیّه. و الشاهد لما ذکرنا استشهاد الإمام علیه السلام بالآیة بعدم استقلاله فی الطلاق و کذلک النکاح.(5)

و لذا قال الشیخ الأعظم قدس سره : «و الظاهر من القدرة - خصوصا بقرینة الروایة - هو الاستقلال إذ المحتاج إلی غیره فی فعل غیر قادر علیه، فیُعلم عدم استقلاله فیما یصدق

ص: 168


1- 1 . المکاسب 3/338.
2- 2 . المکاسب و البیع 1/476.
3- 3 . سورة النحل /75.
4- 4 . وسائل الشیعة 22/101، ح1، الباب 45 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
5- 5 . راجع وسائل الشیعة 21/113 و 114، الباب 23 و 24 من أبواب نکاح العبید و الإماء.

علیه أنّه شی ءٌ، فکلّ ما صدر عنه من دون مدخلیّة المولی فهو شرعا بمنزلة العدم، لا یترتب علیه الأثر المقصود منه...»(1).

و الحاصل: المملوکیة و الرقیة مساوقة للعجز و عدم القدرة. فلا نحتاج أن نأخذ «لا یقدر علی شی ء» قیدا توضیحیّا لا احترازیا کما علیه المحقّق النائینی(2) قدس سره . لأنّ المراد بها عدم نفوذ التصرف و هو حکم وضعی فلامعنی لأخذه قیدا للموضوع أو توضیحا له.(3)

فلا یجوز له التصرف فی أمواله وَ شُؤوْنِه و أمّا أموال و شُؤُوْن السیّد أیضا فکذلک لأنّه لا یقدر علی شیءٍ و نحوه أموال و شؤُوْن الآخَرِین و بالجملة مَنْ لیس له التصرف فی اُموره وَ شُؤُوْنه فاُمور الآخرین و شؤُوْنهم بطریق اُولی لیس له التصرف فیها بلا فرق بین مولاه و غیره.

فلا یتم ما ذکره المحقّق السَّیِّدُ الخوئی(4) قدس سره تبعا لصاحب الجواهر(5) رحمه الله من عدم نفوذ تصرفات العبد فی اُمور سیّده و آخرین لیس من جهة کونه عبدا مملوکا و التصرف فی اُمورهم لاتنفیه الآیة الشریفة بل یکون بجهة حرمة التصرف فی أموال الناس من دون إذنهم.

و الوجه فی عدم تمامیته: لأنّ هذا شی ءٌ لا یقدر العبد علیه، لا لکونه تصرفا فی لسانه الذی هو ملک السیّد فإنّه لا دلیل علی حرمته أوّلاً، و حرمته لاتُوْجِبُ الفساد ثانیا، فلا تکونُ حرمته منشأ التزام المشهور بفساد عقد العبد للغیر کما علیه المحقّق النائینی(6) رحمه الله .

ص: 169


1- 1 . المکاسب 3/338.
2- 2 . راجع المکاسب و البیع 1/477.
3- 3 . کما علیه المحقّق الخوئی راجع مصباح الفقاهة 3/343.
4- 4 . مصباح الفقاهة 3/344.
5- 5 . الجواهر 22/271 و 25/70.
6- 6 . منیة الطالب 1/432.

و یظهر الفرق بیننا و بینه: أنّا نحکم ببطلان عقود العبد و إیقاعاته للغیر مطلقا لأنّه لا یقدر علی شی ءٍ، ولکنّه قدس سره یحکم بصحتها إذا کان للغیر لأنّ رقیّته لایلازم سقوط ألفاظه و عباراته و عقوده و إیقاعاته.

نعم، لا یجوز له توکیل الغیر فی التصرف فی أمواله إلاّ مع إذن سیّده عندنا و عنده.

و أمّا هل یجوز له أن یتوکَّل عن غیره فی معاملة أو إیقاع؟ بناءً علی ما ذکرنا لا یجوز و وجهه واضح و أمّا بناءً علی ما ذکره یجوز.

و علی قولنا بعدم الجواز لو تصدی و تصرف فی مال الغیر وکالة عنه أو مال نفسه - بناءً علی مالکیته - من دون إذن سیّده - و کان باطلاً - ولکن أجازه المولی فی ما بعد، فهل یحکم بصحته أم لا؟

احتمل الشیخ الأعظم(1) أوّلاً عدم الصحة لأنّ المانع من الصحة لایرجع إلی العوضین بحیث لم یکونا ملکا للسیّد حتّی لم تصحها إجازة السیّد، بل المانع هو نفس الإنشاء الصادر من العبد استقلالاً بدون إذن سیّده و یحکم ببطلانه، و الإجازة اللاحقة من السیّد لا یخرجه من الاستقلال و البطلان لأنّ الشی ء لا ینقلب عما هو علیه.

ولکنّه قدس سره عدل عن عدم الصحة و ذهب إلی أنّ الأقوی(2) الصحة فی تصرفات العبد إذا لحقها الإجازة من سیّده، و استدل لها بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: العمومات و المطلقات الدالة علی صحة العقود تشمله، لأنّها تشمل العقد الصادر من الأحرار و العبید، و قد خرج منها العقد الصادر من العبد استقلالاً و من دون استناد إلی إذن المولی أصلاً لا سابقا و لا لاحقا، و یبقی الباقی تحتها.

و المخصص لها عدم ترتب الأثر علی العقد الصادر من العبد من دون إذن سیّده سابقا أو لاحقا، و یبقی الباقی تحتها.

ثمَّ لو شککنا فی المخصص بأن کان مرددا بین الأقل و الأکثر - الأقل: العقد

ص: 170


1- 1 . المکاسب 3/338.
2- 2 . المکاسب 3/338.

الصادر من العبد دون إذن سیّده سابقا أو لاحقا، الأکثر: العقد الصادر منه من دون إذن سیّده سابقا فقط - لابدَّ من الأخذ بالأقل، لأنّ المخصص المنفصل إذا کان مرددا بین الأقل و الأکثر لابدّ من الأخذ بالقدر المتیقن منه و هو الأقل.

و ما ذکره المحقّق النائینی من عدم «إجمال المخصص و هو مبیّنٌ، فإن دلیل اعتبار الإذن ظاهر فی الإذن السابق و الاجازة غیر الإذن»(1).

غیر تام، لأنّ الدلیل دالٌّ علی عدم استقلال العبد فی تصرفاته، و هذا غیر ظاهر فی الإذن السابق - المدعی بنظره قدس سره کما أنّه ظاهرٌ فی الآیة الشریفة(2) و قَدْ مرّ، و أمّا صحیحة زرارة(3) فالَّذِیْ یُسْتَفادُ منها بطلان نکاح و طلاق العبد من دون إذن سیّده و بالاستقلال وَ هُوَ غیر ظاهر فی أنّ المراد بالإذن هو الإذن السابق فقط، فهذا الوجه تام.

الوجه الثانی: صحیحة زرارة الماضیه تدل علی صحة النکاح و الطلاق بالإذن، و حیث وردت عدّة من الروایات(4) فی صحة النکاح لو لحقه الإجازة، فیصحّ جمیع العقود بالإجازة اللاحقة لعدم الفرق بینها.

ثم توّجه و تفطّن الشیخ الأعظم قدس سره : بأنّ لازم هذا القول صحة الطلاق بالإجازة اللاحقة أیضا و لا یلتزمون بها، و هو إشکال علی هذا الوجه.

و ردّه: بأنّ الطلاق خرج بالدلیل الخارجی(5) و إلاّ نقول بصحته بالإجازة اللاحقة و بجهة التعمیم، و لا یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة لأنّ الکلام مسوّق لنفی استقلال العبد فی الطلاق، لا لصحته مطلقا حتّی بالإجازة.

ص: 171


1- 1 . منیة الطالب 1/430.
2- 2 . سورة النحل /75.
3- 3 . وسائل الشیعة 22/101، ح1.
4- 4 . راجع وسائل الشیعة 21/114، الباب 24 من أبواب نکاح العبید و الإماء. منها: صحیحة زرارة، ح1، فی الباب المذکور، و موثقته، ح2.
5- 5 . راجع وسائل الشیعة 22/98، الباب 43 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه. ح4، صحیحة علی بن یقطین، و ح2، معتبرة لیث المرادی بناءً علی اعتبار أبی جمیلة.

ولکن یمکن أن یُناقَشَ بوجهین(1):

أوّلاً: یمکن أن یقال: بأن أدلة صحة النکاح بالإجازة اللاحقة حاکِمَةٌ علی الدلیل الدال علی اعتبار الإذن و یوسّع دائرة الموضوع تعبدا، فلایستفاد منها أعمیّة الإذن مفهوما من الإذن السابق و الإجازة اللاحقة.

و ثانیا: یمکن استظهار عکس ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره من الصحیحة بأن یقال: لما کانت الصحیحة مشتملة علی الطلاق الذی لا یصحّ بلحوق الإجازة نستشکف أنّ المراد من الإذن هو الإذن السابق، و صحة النکاح بالاجازة اللاحقة فإنّما یستفاد من الدلیل الخارجی فحینئذ لایلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة أصلاً حتّی أجاب عنه الشیخ الأعظم بهذا الجواب البارد.

و یظهر وجه عدم تمامیة جوابه بالنسبة إلی تأخیر البیان عن وقت حاجته فی الطلاق، بأنّه لو کانت الصحیحة مسوقة لبیان نفی استقلال العبد فی الطلاق لکانت کذلک فی النکاح أیضا، و لا تدلّ علی صحة النکاح بالأعم من الإذن و الإجازة، فمن أین تُستفاد الصحة بالإجازة من الصحیحة؟!

الوجه الثالث: الروایات الواردة فی صحة نکاح العبد إذا أجازه المولی - بلا فرق بین أنّ المباشر لإجراء الصیغة هو العبد أو غیره - و إذا صحّ نکاحه فیصحّ جمیع تصرفاته بلا فرق ولو کانت وکالة عن الغیر.

منها: صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن مملوک تزوّج بغیر إذن سیّده، فقال: ذاک إلی سیّده، إن شاء أجازه و إن شاء فرّق بینهما. قلتُ: أصلحک اللّه، إنّ الحکم بن عتیبة و ابراهیم النخعی و أصحابهما یقولون: إنّ أصل النکاح فاسد، و لا تحلّ إجازة السیّد له، فقال أبو جعفر علیه السلام : إنّه لم یعص اللّه و إنّما عصی سیّده، فإذا أجازه فهو له جائز.(2)

ص: 172


1- 1 . کما فی منیة الطالب 1/430.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/114، ح1، الباب 24 من أبواب نکاح العبید و الإماء.

و منها: معتبرته بل موثقته عنه علیه السلام قال: سألته عن رجل تزوّج عبده بغیر إذنه فیدخل بها ثمّ اطلع علی ذلک مولاه؟ قال: ذاک لمولاه إن شاء فرّق بینهما، و إن شاء أجاز نکاحهما، فإن فرّق بینهما فللمرأة ما أصدقها، إلاّ أن یکون اعتدی فأصدقها صداقا کثیرا. و إن أجاز نکاحه فهما علی نکاحهما الأوّل. فقلت لأبی جعفر علیه السلام : فإن أصل النکاح کان عاصیا، فقال أبو جعفر علیه السلام : إنّما أتی شیئا حلالاً و لیس بعاصٍ للّه إنّما عصی سیّده و لم یعص اللّه، إنّ ذلک لیس کإتیان ما حرّم اللّه علیه من نکاح فی عدّة و أشباهه.(1)

و منها: صحیحة عبداللّه بن سنان عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لا یجوز للعبد تحریر و لا تزویج و لا إعطاء من ماله إلاّ بإذن مولاه.(2)

و منها: صحیحة منصور بن حازم عن أبی عبداللّه علیه السلام فی مملوک تزوّج بغیر إذن مولاه، أ عاص للّه؟ قال: عاص لمولاه، قلت: حرام هو؟ قال: ما أزعم أنّه حرام و نوله(3) أن لا یفعل إلاّ بإذن مولاه.(4)

و منها: صحیحة معاویة بن وهب قال: جاء رجل إلی أبی عبداللّه علیه السلام فقال: إنّی کنتُ مملوکا لقوم و إنّی تزوّجتُ إمرأة حرّة بغیر إذن موالیَّ ثمّ اعتقونی بعد ذلک، فاُجدّد نکاحی إیّاها حین أعتقتُ؟ فقال له: أکانوا علموا أنّک تزوّجت امرأة و أنت مملوک لهم؟ فقال: نعم، و سکتوا عنّی و لم یغیّروا علیَّ، قال: فقال: سکوتهم عنک بعد علمهم إقرار منهم، أثبت علی نکاحک الأوّل.(5)

یمکن الاستدلال بهذه الروایات فی المقام بتقریبین:

التقریب الأوّل(6): ترک الاستفصال الوارد فی هذه الصحاح بین أن یکون العاقد

ص: 173


1- 1 . وسائل الشیعة 21/115، ح2.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/113، ح1، الباب 23 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
3- 3 . نولک أن تفعل: أی حقّک و ینبغی لک. [صحاح اللغة 5/1836].
4- 4 . وسائل الشیعة 21/113، ح2.
5- 5 . وسائل الشیعة 21/117، ح1، الباب 26 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
6- 6 . المکاسب 3/339: یؤید المختار.

لصیغة النکاح هو العبد أو غیره، و إذا کانت إجازة المولی تصحح تصرف العبد فی سلطان المولی - و هو تصرف العبد فی نفسه بالنکاح -، و لا یمکن أن یصحّ اسم المصدر -النکاح - و لا یصح المصدر أی الإنشاء - أعنی صیغة النکاح - فصارت صیغة النکاح و النکاح صحیحة بالإجازة من المولی بلا فرق بین أنّه باشر فی إجراءها أو وَکّل غیره.

و إذا صح النکاح و هو تصرف العبد فی نفسه، - أی سلطان المولی - فبطریق الأولی تصحح الإجازة غیره من التصرفات فی ماله و نفسه و فی مال و نفس غیره بالوکالة عنه.

التقریب الثانی(1): التعلیل الوارد فی صحیحة زرارة ب-«أنّه لم یعص اللّه و إنّما عصی سیده»(2)، یستفاد منه کلّ ما لم یکن العبد عاصیا للّه تعالی بل عصی سیده فقط، یمکن تصحیحه بالإجازة من السیّد، فمعیار صحة معاملات العبد بعد عدم کونها مخالفة للّه تعالی هو إذن السیّد أو إجازته.

فکما یمکن تصحیح تصرفات العبد بالإجازة فی نفسه و ماله فکذلک یمکن تصحیح تصرفاته فی مال الغیر أو نفسه بالوکالة، لأنّ العبد فیها أیضا لم یعص اللّه، و بعد الإجازة یحکم بصحتها.

مناقشة المحقّق النائینی فی التقریب الأوّل

قال: «إنّ ترک الاستفصال و إن کان مفیدا للتعمیم فی باب النکاح و نحوه إلاّ أنّه للتعدی إلی غیر مورده لا یفید، لأنّه لو فرض بأنّه علیه السلام صرّح بأنّ نکاح العبد یصحّ بالإجازة ولو باشره بنفسه لما أمکن التعدی إلی مورد وکالة العبد لغیره أو إجرائه الصیغة و إیجاده العلقة فضولاً، لأنّ صحة نکاحه لنفسه و إن استلزم تصحیح جهة إصداره أیضا حیث إنّه الإجازة ترجع إلی ما یتعلّق مضمونه بالمولی فصحة جهة إصداره إنّما لوحظ معنیً حرفیّا، و إذا دلّ الدلیل علی صحة النتیجة بالإجازة فیدلّ علی صحة جهة الإصدار، لأنّها من

ص: 174


1- 1 . المکاسب 3/339: مع أنّ تعلیل الصحة بأنّه... .
2- 2 . وسائل الشیعة 21/114، ح1.

مقدمات حصول النتیجة إلاّ أنّ هذا الدلیل لایمکن أن یدلّ علی صحة جهة الإصدار إذا لوحظت معنیً اسمیّا، و عقد العبد لغیره فضولاً أو وکالةً جهة توقّفه علی إجازة المولی هو جهة إصداره و إلاّ فمضمونه غیر راجعٍ إلی المولی، و لم یدلّ دلیل عَلی أنّ الإجازة أیضا کالإذن فی جهة الإصدار کما لا یخفی.

إلاّ أن یقال: إنّ الأخبار الدالة علی صحة نکاح العبد إذا أجازه المولی الواردة فی ردّ حکم ابن عیینة و ابراهیم النخعی ظاهرة فی إعطاء قاعدةٍ کلیّةٍ و هی أنّ کلّما رجع جهة الصحة إلی إذن السیّد فإجازته کإذنه»(1).

و أجابه السیّد الخوئی بقوله: «ولکن لا وجه لهذه المناقشة بدیهة أن کون متعلَّق الإجازة ملحوظا للمجیز استقلالاً تارة و تبعا اُخری لایرتبط بجهة الاستدلال»(2).

أقول: و بعبارة اُخری: السیّد أجاز عقد العبد بما هو علیه من تمامیته کما إذا أجری صیغة النکاح لنفسه أو باع و اشتری من ماله و فیه، أو عدم تمامیته العقد لأنّه موقوف علی إجازة الغیر کما عقد لغیره أو باع و اشتری له فضولة و من دون إذنه و وکالته، و أمّا لو أذن له الغیر أو وکّله فیلحق بالقسم الأوّل من تمامیته العقد.

و بعبارة ثالثة: لا یترتب علی عقده سواء کان لنفسه أو لغیره - مع إذنه أو بدونه - أو لمولاه شیئا من الآثار إلاّ بعد إجازة المولی له و بالنسبة إلی الغیر مضافا إلیها مع وکالته أو إذنه أو إجازته.

فحینئذ شأن إجازة المولی له کشأن إجازة الزوجة لزوجها بالنسبة إلی نکاح بنت أخیها أو بنت أختها، و المتوقف علیها لیس صحة الإنشاء بل صحة ما یصدق علیه النکاح بالحمل الشائع.

فرع:

قال الشیخ الأعظم: «لو أمر العبد آمرٌ أن یشتری نفسه من مولاه فباعه مولاه صحّ و

ص: 175


1- 1 . منیة الطالب 1/431.
2- 2 . مصباح الفقاهة 3/350.

لزم، بناءً علی کفایة رضا المولی - الحاصل من تعریضه للبیع - من إذنه الصریح، بل یمکن جعل نفس الإیجاب موجبا للإذن الضمنی»(1).

أقول: قال شیخ الطائفة قدس سره : «إذا و کلّ رجلٌ عبدا فی شراء نفسه من سیّده فهل یصحّ ذلک أم لا؟ قیل فیه وجهان:

أحدهما: یصحّ کما لو وکّله فی شراء عبد آخر بإذن سیّده.

و الثانی: لا یصحّ ذلک لأنّ ید العبد کید سیّده و إیجابه و قبوله بإذنه بمنزلة إیجاب سیّده و قبوله، فإذا کان کذلک و اُوجب له سیّده فقبله هو صار کأن السیّد هو الموجب القابل للبیع و ذلک لا یصحّ فکذلک هاهنا. و الأوّل أقوی...»(2).

و نقل العلاّمة فی المختلف عن القاضی ابن البراج قوله: «الأقوی عندی أنّه لا یصحّ إلاّ أن یأذن له سیّده فی ذلک، فإن لم یأذن له فیه لم یصحّ»(3).

و أنت تری بأنّ استدلال القاضی ابن البراج علی البطلان لا یرجع إلی اتحاد الموجب و القابل الذی نسبه إلیه الشیخ الأعظم، بل القاضی یری البطلان إذا کانت الوکالة من دون إذن المولی و أمّا إذا کانت مع إذنه فیذهب إلی الصحة و لذا قال العلاّمة بعد نقل فتوی القاضی: «و الحقّ ما قَوّاه الشیخ لأنّ بیع مولاه رضا منه بالتوکیل»(4).

و نُسب(5) القول بالبطلان إلی القاضی فی بعض الکتب الفقهیة مطلقا أو مع الاستدلال له باتحاد الموجب و القابل و کلاّهما غیر تامین.

قد یناقش فی صحة هذا الشراء بوجهین:

الأوّل: اتحاد عبارة العبد مع عبارة السیّد فیلزم منه اتحاد القابل و الموجب فیبطل

ص: 176


1- 1 . المکاسب 3/342.
2- 2 . المبسوط 3/393.
3- 3 . مختلف الشیعة 6/35.
4- 4 . مختلف الشیعة 6/35.
5- 5 . و الناسب هو الصمیری فی غایة المرام 2/12، و صاحب الحدائق 22/50 و صاحب الجواهر 22/271 و الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/343.

العقد به - و قد مرّ فی أحد وجهی الشیخ - .

و یرد علیه: أوّلاً: لا دلیل علی اعتبار التغایر بین الموجب و القابل و یکفی تغائرهما اعتبارا.

و ثانیا: المملوکیة لا توجب إتحاد العبد مع مولاه.

و ثالثا: هذا الدلیل لو تمّ یقتضی بطلان معاملات العبد الموکَّل عن غیره ولو أذن له سیّده بالوکالة، مع السیّد.

الثانی(1): لزم بالنسبة إلی المتعاقدین قابلیتهما للإنشاء عند تحقق الإیجاب و القبول، فلو فَقَدَ أیٌّ منهما القابلیة قبل تحقق العقد لاینعقد المعاهدة و المعاقدة، و حیث أنّ العبد فی الفرع المذکور غیر قابل لطرفی العقد لأنّه غیر مأذون منه فیحکم بفساد العقد.

و یرد علیه: القابلیة المذکورة لم یدل علیها دلیل نعم، المناط فی تحقق العقد هو ارتباط التزام الموجب بالتزام المشتری ولو لم یکن حین الایجاب قابلیة القابل و کذا عکسه. فلذا لو التفت أحدهما بإنشاء صاحبه و قبل فسخه و إبطاله، و أتی بما هو علیه لَکان العقد صحیحا. و المفروض الحاق الاجازة بالوکالة صریحا أو ضمنا فیصح قابلیة العبد فیتم المعاقدة.

هذا کلّه فی ما إذا وَکَّلَ المشتریُ العبدَ فی الاشتراء من سیّده.

و أمّا لو وکّله فی الاشتراء من وکیل المولی، فإن کان الوکیل وکیلاً مفوّضا فی اُمور المولی فلا شبهة فی أنّ شأنه شأن المولی و لا تردّ شبهة. و أمّا إن کان الوکیل وکیلاً فی خصوص إجراء الصیغة فلا شبهة فی احتیاج الاشتراء إلی الاجازة من المولی، و لعلّ نظر المحقّق و الشهید الثانیین(2) (3) من إطلاق القول بعدم الصحة فی الشراء من وکیل المولی إلی الصورة الأخیرة.

ص: 177


1- 1 . انظر المناقشة و جوابها فی المکاسب 3/343 قوله قدس سره : و لا یقدح عدم قابلیة المشتری للقبول... .
2- 2 . جامع المقاصد 4/68.
3- 3 . المسالک 3/158.
فرعٌ:

لم یذکره الشیخ الأعظم قدس سره و هو هل إجازة المولی لعقد العبد کاشفة أو ناقلة؟

مقتضی القاعدة هو النقل ولکن مقتضی الروایات هو الکشف کما یَدُلُّ علیه قوله علیه السلام فی صحیحة معاویة بن وهب: «أثبت علی نکاحکَ الأوّل»(1)، و التفصیل یطلب من بیع الفضولی. و الحمدللّه.

ص: 178


1- 1 . وسائل الشیعة 21/117، ح1.

6- أن یکونا مالکَیْن أو مأذونَیْن من المالک أو الشارع

من شروط المتعاقدین أن یکونا مالکین أو ولیّین لهما کالأب أو الجدّ للأب، أو مأذونین منهما کالوکیل أو الوصی، أو مأذونین من الشارع کالحاکم أو أمینه و وکیله.

و بعبارة اُخری: لابدّ أن یکونَ المُتَعاقِدانِ مالِکَی التصرف و الأمر و العقد إمّا بالملکیة للعوضین أو الإذن من المالک أو الشارع.

و العنوان المذکور فی أَعْلاهُ من الشیخ الاعظم(1)، و هو عند تلمیذه الفقیه المامقانی(2) من جوامع الکلم لشموله لجمیع أقسام من یصحّ منه البیع کالمالکین للعوضین و المأذونین منهم کوکلائهم، و المأذونین من الشارع، و هم الاُولیاء المنصوبون منه کالأب و الجدّ و الحاکم الشرعی و منصوبه و المأذون من قبله، و کذا المنصوب من الأب أو الجدّ قیّما علی الصغیر و نحوها من الموارد التی تنتفی الفضولیة منها.

فالاُولی أن یقال: لابدّ فی المتعاقدین أنّهما یملکان أمر العقد الذی یقومان به، و المراد بالملک هنا لیست المالکیة بل الاستیلاء علی العقد و الأمر. حتّی نفذ عقدهما، و إلاّ یرد علیه عقد الرهن علی العین المرهونة و تصرفات المریض فی مرض موته بالبیع المحاباتی فیما زاد علی الثلث و بیع السفیه و المفلَّس، لأنّ تصرفاتهم موصوفة بالفضولیة

ص: 179


1- 1 . المکاسب 3/345.
2- 2 . غایة الآمال /350.

مع أنّهم ملاّک، و أقرّ الشیخ الأعظم(1) بهذه النقوض و حکم بدخولها بعد سطور.

و توجیه العنوان بأنّ المراد منه شرطیة المالکیة فی نفوذ تصرفات المتعاقدین، مردود لأنّه ینتهی إلی الدور، لأنّ «لا شک أنّ شرط المطلوب هو شرط النفوذ، و ینتهی الأمر إلی صیرورة النفوذ شرطا فی نفوذ التصرف و هو دورٌ باطلٌ»(2).

ثم فرّع الشیخ الأعظم علی عنوانه: «فعقد الفضولی لا یصحّ»(3). تبعا للمحقق فی الشرائع حیث یقول: «و أن یکون البائع: مالکا أو ممّن له أن یبیع عن المالک کالأب و الجدّ للأب و الوکیل و الوصی و الحاکم و أمینه فلو باع ملک غیره وقف علی اجازة المالک أو ولیّه علی الأظهر»(4). و نحوه فی النافع(5).

و قال العلاّمة فی قواعده تبعا لاُستاده: «و یشترط کون البائع: مالکا أو ولیّا عنه، کالأب و الجدّ له و الحاکم و أمینه و الوصی، أو وکیلاً، فبیع الفضولی موقوف علی الإجازة علی رأی»(6). و نحوه فی التذکرة(7).

و قال الشهید فی الدروس: «و تملّکها أو حکمه کالأب و الجدّ و الوصی و الوکیل و الحاکم و أمینه و المقاصّ فبیع الفضولی غیر لازم...»(8).

و اعترض المحقّق الکرکی علی عبارة قواعد العلاّمة و قال: «هذا التفریع أیضا غیر جید لأنّ المتبادر من اشتراط ما ذکره بطلان البیع هنا، لانتفاء الشرط إن کان ذلک شرطا فی الصحة، أو عدم لزومه إن کان شرطا فی اللزوم، فکونه موقوفا علی الاجازة لا یظهر

ص: 180


1- 1 . المکاسب 3/346 قوله: «و کیف کان فیشمل العقد الصادر...».
2- 2 . العقد النضید 3/6.
3- 3 . المکاسب 3/345.
4- 4 . الشرائع 2/8.
5- 5 . المختصر النافع /118.
6- 6 . قواعد الأحکام 2/19.
7- 7 . تذکرة الفقهاء 10/14.
8- 8 . الدروس الشرعیة 3/192.

وجه تفریعه، إلاّ إذا حملنا العبارة علی أن الاشتراط فی اللزوم، و أنّ المراد بکونه موقوفا عدم لزومه، لأنّه فی قوّته، لکن قوله: (علی رأی) لا موقع له حینئذ، و کیف کان فالعبارة لا تخلو من تکلّف...»(1).

قد تصدی لدفع الإشکال الشهید الثانی و قال: «مقتضی التفریع أن یقال: فبیع الفضولی غیر صحیح لفقد الشرط، و هو کون البائع مالکا أو فی معناه، لکن لمّا کان المراد بالصحة هنا اللزوم کان قوله: «أنّه موقوف»، فی قوة قوله: «غیر لازم» المناسب للتفریع.

و فیه: مع إفادته الفائدة التصریح بالحکم المطلوب من بیع الفضولی، و علیه یترتّب الرأی المذکور بعده، لأنّه أیضا غیر لازم من التفریع، لکن اقتضاه الحکم بالوقوف بالقصد الثانی مراعاةً للإیجاز»(2).

و الشیخ الأعظم بعد تفسیر عدم الصحة فی بیع الفضولی بعدم اللزوم قال: «... فاعتراض جامع المقاصد علیه [أی علی العلاّمة فی عبارة القواعد] بأنّ التفریع فی غیر محلّه، لعلّه فی غیر محلّه»(3).

أقول: الظاهر عدم تمامیة هذا التفسیر، بل لعلّ المراد بها - عدم الصحة - هی عدم الصحة الفعلیة و موقوفیّة العقد علی اجازة المالک و عدم نفوذه، و عدم الصحة الفعلیة لا ینافی الصحة التأهلیة و توقفه علی الاجازة، مضاف إلی أنّ عدم اللزوم مذکور فی کلام المحقّق الکرکی علی نحو قضیة مانعة الجمع و لم یکن إبداعا من الشیخ الأعظم.

و الحاصل: اعتراض المحقّق الکرکی رحمه الله علی العلاّمة واردٌ و کذلک یَرِدُ علی المحقّق فی الشرائع و النافع، و الشهید فی الدروس و کل مَنْ فرّع بیع الفضولی علی العنوان، و جواب الشیخ الأعظم مأخوذ من أحد احتمالات الکرکی و لعلّه فی غیر محلّه لعدم مناسبته لقوله بعد ذلک: «علی رأی»، و لذا الفقیه المتتبع العاملی تابع الکرکی و قال: «کان التفریع غیر جیّد و قد أشار إلی ذلک فی جامع المقاصد و قد وقع عین ذلک للمحقّق

ص: 181


1- 1 . جامع المقاصد 4/68.
2- 2 . فوائد القواعد /531.
3- 3 . المکاسب 3/345.

فی الشرائع و النافع، و غیره و الأمر فیه سهل»(1).

فلا یتمّ عندی ما ذکره المحقّقون الشهیدی(2) و المروج(3) رحمه الله و شیخنا الاُستاذ(4) قدس سره فی توجیه کلام الشیخ الأعظم قدس سره فراجع.

نعم، لو کان المشروط مرددا علی نحو ما شرحه جدنا شارح القواعد یدفع الإشکال حیث یقول: «و یشترط فی لزوم البیع و نحوه أو صحته مع عدم تعقّبه بالإجازة...»(5).

ولکن حتّی التردید فی المشروط لا یفید لقوله «علی رأی».

ص: 182


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/590.
2- 2 . هدایة الطالب 3/10.
3- 3 . هدی الطالب 4/348.
4- 4 . إرشاد الطالب 2/268.
5- 5 . شرح القواعد 2/69.

عقد الفضولی

تعریفه و الأقوال فیه

الفضول فی اللغة(1) جمع الفضل بمعنی الزیادة و قد استعمل الجمع استعمال المفرد فی ما لا خیر فیه، و لهذا نُسب إلیه علی لفظه فقیل: فضولیٌّ لِمَنْ یشتغل بما لا یعنیه، لأنّه جعل عَلَما علی نوع من الکلام فنزّل منزلة المفرد و سمّی بالواحد.

و فی الاصطلاح هو: «الکامل غیر المالک للتصرف فیه سواء کان غاصبا أو لا» کما عن الشهید(2). و هو واضح عند القوم.

و الفضولی فی العنوان صفة للعاقد و قدیوصف به نفس العقد و یقال: «العقد الفضول» و جعل الفضولی صفة للعقد مجاز من قبیل الوصف بحال متعلَّقه، و لذا قال الشیخ الأعظم «و لعلّه تسامح»(3) بالنسبة إلی الأخیر.

و بالجملة: هو کلُّ عقدٍ تام صدر ممّن لیس له ملکیّة العقد و أمره و نفوذه.

قال الجدّ العلاّمة التقی قدس سره : «المعروف بین الأصحاب أنّه لو باع مال غیره من غیر ولایة و لا وکالة وقف علی الإجازة، فإن أجازه المالک أو مَنْ یقوم مقامه صحّ و إلاّ بطل و لا یقع باطلاً من أصله.

و قد حکی القول به عن القدیمین(4) و المفید(5) و السیّد(6) و الشیخ فی النهایة(7) و

ص: 183


1- 1 . راجع کتب اللغة منها: المصباح المنیر /475.
2- 2 . غایة المراد 3/37.
3- 3 . المکاسب 3/346.
4- 4 . نقل العلاّمة عن ابن الجنید فی المختلف 5/53 و عن ابن أبی عقیل فیه 7/119.
5- 5 . المقنعة /606.
6- 6 . الناصریات /330، مسألة 154.
7- 7 . النهایة /385.

الدیلمی(1) و القاضی(2) و الطوسی(3) [و الحلّی(4)] و الحلبی(5) و المحقّق الکرکی(6) و السیوری(7) و جماعة من المتأخرین(8).

و قد حکی الشهرة علیه جماعة منهم: السیوری فی کنزالعرفان(9) و الشهید الثانی فی المسالک(10) و الروضة(11) و المحقّق الأردبیلی(12) و صاحب الکفایة(13) و المفاتیح(14).

و ذکره بلفظ «عندنا» فی مواضع من التذکرة(15)، و هو یشیر إلی الاجماع. و أسنده اُخری(16) إلی «علمائنا»، و هو أیضا ظاهر فی دعوی الاتفاق علیه.

و ذهب الشیخ فی الخلاف(17) و السیّد ابْنُ زُهْرَةَ فی الغنیة(18) إلی بطلانه من أصله

ص: 184


1- 1 . المراسم /148.
2- 2 . المهذب 1/350.
3- 3 . الوسیلة /249.
4- 4 . الشرائع 2/8، المختصر النافع /118.
5- 5 . الکافی فی الفقه /353 و 352 و 292.
6- 6 . جامع المقاصد 4/69 و 8/243.
7- 7 . التنقیح الرائع 2/25.
8- 8 . نحو صاحبی الریاض 8/222 و شرح القواعد 2/72.
9- 9 . کنزالعرفان 2/34.
10- 10 . المسالک 3/158، و فی 7/159: «بذهاب الأکثر إلی الصحة».
11- 11 . الروضة البهیة 3/229.
12- 12 . مجمع الفائدة 8/157.
13- 13 . کفایة الأحکام 1/449.
14- 14 . مفاتیح الشرائع 3/47.
15- 15 . تذکرة الفقهاء 10/19 و 215 و 218.
16- 16 . تذکرة الفقهاء 10/15.
17- 17 . الخلاف 3/168، 4/257.
18- 18 . غنیة النزوع /207.

مدّعیین علیه الإجماع. و به قال الحلّی فی السرائر(1)، و حکی القول به عن المبسوط(2) و الدیلمی فی ظاهر المراسم(3) و فخرالإسلام فی الإیضاح(4) و الشهید فی نکت الإرشاد(5) و السیّد الداماد(6). و حکاه المقداد عن شیخه(7). و هو الظاهر من المحقّق الأردبیلی(8) و المحدّث الحر العاملی(9). فی التذکرة(10) أنّه قول لنا فیه إشارة إلی قائله.

و الأظهر الأوّل»(11).

و کذلک لأجل تفصیل الأقوال راجع مفتاح الکرامة(12).

ص: 185


1- 1 . السرائر 2/275 و 415.
2- 2 . المبسوط 2/158 و 4/163.
3- 3 . المراسم /172.
4- 4 . إیضاح الفوائد 1/416، 3/27.
5- 5 . لم أجده فی غایة المراد و لعلّه استفاد ذلک من نقد الشهید علی الاستدلال للصحة بأنّه عقد صدر من أهله فی محلّه و قال: «و فیه نظر لأنّه من باب المصادرات». غایة المراد 3/40.
6- 6 . نقل صاحب الحدائق 18/377 عنه فی رسالته الرضاعیة. المسماة بضوابط الرضاع (کلمات المحقّقین) /56.
7- 7 . التنقیح الرائع 2/25 عن شیخه السعید.
8- 8 . مجمع الفائدة 8/158، زبدة البیان /428.
9- 9 . وسائل الشیعة 17/333، الباب 1 من أبواب عقد البیع و شروطه.
10- 10 . تذکرة الفقهاء 10/14.
11- 11 . تبصرة الفقهاء 3/332 و 331.
12- 12 . مفتاح الکرامة 12/590.

الاستدلال علی صحة عقد الفضولی

اشارة

قد استدل علی صحته بعدّة من الوجوه:

الوجه الأوّل: العمومات و الاطلاقات

الواردة فی العقود نحو قوله تعالی: «اوفوا بالعقود»(1) و العقد الفضولی عقد ینسب إلی مالکه بعد صدور الإجازة منه فیدخل فی عموم الآیة الشریفة.

و قوله تعالی: «تجارةً عن تراض»(2) و المعاملات الفضولیة تدخل فی إطلاق الآیة الشریفة بعد مجیء الإجازة من أربابها.

و قوله تعالی: «أحلّ اللّه البیع»(3) و البیع الفضولی یدخل فی إطلاق الآیة الشریفة، لأنّه بیع بعد قبول المالک له.

نعم، فی العقود و التجارات و البیوع لابدّ من انتسابها إلی أَوْلیائها، و الانتساب کما یتم بالمباشرة و الوکالة و الأذن السابق فکذلک یتم بالاجازة اللاحقة بلا ریب.

و لذا قال العلاّمة فی الاستدلال علی صحة بیع الفضولی: «لنا أنّه بیع صدر من أهله فی محلّه فکان صحیحا، و أمّا صدوره من أهله فلصدوره من بالغ عاقل مختار و من جمع هذه الصفات کان أهلاً للإیقاعات، و أمّا صدوره فی محلّه فلأنّه وقع علی عین یصحّ تملّکها و ینتفع بها و تقبل النقل من مالک إلی غیره، و أمّا الصحة فلثبوت المقتضی السالم عن معارضة کون الشی ء غیر مملوک للعاقد غیر مانع من صحة العقد، فإنّ المالک لو أذن

ص: 186


1- 1 . سورة المائدة /1.
2- 2 . سورة النساء /29.
3- 3 . سورة البقرة /275.

قبل البیع لصحّ فکذا بعده، إذ لا فارق بینهما»(1).

و اعترض علیه الشهید و قال: «فیه نظرٌ لأنّه من باب المصادرات»(2).

و لعلّ مراده قدس سره : أن جملة: «بیع أو عقد صدر من أهله و وقع فی محلّه» عین الدعوی و لذا الاستدل به یکون من المصادرة فی المطلوب.

ولکن ظهر ضعف اعتراض الشهید رحمه الله حیث یدخل عقد الفضولی تحت العمومات و الإطلاقات کما مرّ.

و اعترض المحقّق الإیروانی رحمه الله علی التمسک بالعمومات و الإطلاقات ب- : «القطع بخروج زمان ما قبل الاجازة من عقد الفضولی، فإنّه لم یقل أحد بوجوب الوفاء علی المالک بأن یجیز العقد الصادر من الفضولی حتّی القائلین فی الاجازة بالکشف، و التمسک بالعموم بعد الاجازة مبنیّ علی ثبوت عموم أزمانی فی العمومات، و لیس له وجود و قد اعترف به المصنف(3) رحمه الله فی خیار الغبن»(4).

لا یدعی الشیخ الأعظم رحمه الله و المستدِل بالعمومات شمولها للعقد الفضولی من حین العقد ثم خروجه عنها إلی زمان الاجازة بالمخصصص ثم دخوله فیها بعد الاجازة حتّی یکون محتاجا إلی ثبوت العموم الأزمانی، بل یدعی: «زمان الاجازة إنّما هو أوّل زمان صار العقد الفضولی مصداقا للعمومات الدالة علی صحة العقود»(5).

ص: 187


1- 1 . مختلف الشیعة 5/54.
2- 2 . غایة المراد 3/40.
3- 3 . المکاسب 5/207.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/215.
5- 5 . کما فی مصباح الفقاهة 4/21.
الوجه الثانی: حدیث عروة البارقی

ورد فی مسند أحمد عن عروة بن أبی جَعْدٍ البارقی قال: عرض للنبی صلی الله علیه و آله جَلَب(1) فأعطانی دینارا و قال: أی عروة ائت الجَلَب فاشتر لناشاة، فاتیتُ الجلب فساومتُ صاحبه فاشتریتُ منه شاتین بدینار، فجئت أسوقهما - أو قال: أقودهما - فلقینی رجل فساومنی فأبیعه شاة بدنیار فجئتُ بالدینار و جئت بالشاة، فقلت: یا رسول اللّه هذا دینارکم و هذه شاتکم. قال: و صنعتَ کیف؟ قال: فحدثته الحدیث، فقال: اللهم بارک له فی صفقة یمینه، فلقد رأیتنی أقف بکناسة الکوفة فأربح أربعین ألفا قبل أن أصل إلی أهلی - و کان یشتری الجواری و یبیع -(2).

الصَّفقَةُ: ضرب الید علی الید فی البیع و البیعة، کذا قاله الخلیل(3).

و فیه: عن عروة البارقی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله بعث معه بدینار یشتری له أضحیة و قال: مرة أو شاة، فاشتری له اثنتین فباع واحدة بدینار و أتاه بالأُخری، فدعا له بالبرکة فی بیعه، فکان لو اشتری التراب لَرَبِحَ فیه.(4)

رواهما ابن الأثیر فی جامع الاُصول(5)، و صاحب التاج الجامع للاُصول(6).

الراوی و هو عروة مذکور فی کتاب «الإصابة فی تمییز الصحابة» و قال فی شأنه: «و حدیثه مشهور و هو الذی دفع إلیه النبی صلی الله علیه و آله دینارا لیشتری به شاة»(7).

أقول: روایة عروة وردت فی المستدرک عن أبی جعفر محمّد بن علی الطوسی صاحب الوسیلة فی کتابه الثاقب فی المناقب: عن عروة بن أبی جعد البارقی قال: قدم

ص: 188


1- 1 . الجَلَب: ما جُلب من خیل و ابل و متاع إلی الأسواق للبیع. [لسان العرب 1/268].
2- 2 . مسند أحمد 4/376، و روی البیهقی نحوها فی السنن الکبری 6/112.
3- 3 . کتاب العین /523.
4- 4 . مسند أحمد 4/375، و روی البیهقی نحوها فی السنن الکبری 6/112.
5- 5 . جامع الاُصول 12/289، ح 9231 و 9232.
6- 6 . التاج الجامع للاُصول 2/221.
7- 7 . الإصابة فی تمییز الصحابة لابن حَجَرٍ العسقلانیّ 2/476.

جَلَبٌ، فأعطانی النبی صلی الله علیه و آله دینارا، و قال: اشتر بها شاةً، فاشتریتُ شاتین بدینار فلحقنی رجلٌ فبعتُ أحدهما منه بدینار، ثمّ أتیتُ النبی صلی الله علیه و آله بشاة و دینار، فردّه علیَّ و قال: بارک اللّه لک فی صفقة یمینک، و لقد کنتُ أقوم بالکناسة - أو قال: بالکوفة - فأربحُ فی الیوم أربعین ألفا.(1)

رواها فی سنن الدار قطنی(2)، و سنن الترمذی(3).

و هناک روایة اُخری رواها شیخ الطائفة فی أمالیه بسنده المتصل عن حکیم بن حزام: أنّ النبی صلی الله علیه و آله بعث معه بدینار یشتری له اُضْحِیَّة، فاشتراها بدینار، و باعها بدینارین، فرجع فاشتری اُضحیة بدینار و جاء بدینار إلی النبی صلی الله علیه و آله فتصدّق به النبی صلی الله علیه و آله و دعا له أن یبارک له فی تجارته.(4)

و رواها البیهقی فی سننه(5).

و قال الشیخ فی شأن حکیم بن حزام: «بن خویلد بن أسد، و هو ابن عمّ الزبیر، و هو من المؤلّفة قلوبهم، و مات سنة خمس و خمسین، یکنی أبا خالد. قال الواقدی، سنة أربع و خمسین و هو ابن عشرین و مائة سنة»(6).

و أنت تری بأنّ الروایات کلّها مِنْ طَرِیْقِ العامَّةِ، ضعیفة الإسناد لاتُرْوی من طرقنا. و لذا قال الأردبیلی: «و معلوم عدم صحة الروایة»(7) و صاحب الحدائق(8) لا یراها حجة

ص: 189


1- 1 . الثاقب فی المناقب /112، ح108 و نقل عنه فی مستدرک الوسائل 13/245، ح1، الباب 18 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- 2 . سنن الدار قطنی 3/10، ح29.
3- 3 . سنن الترمذی 3/559، ح1258.
4- 4 . أمالی الطوسی، المجلس الرابع عشر، ح 38/399، رقم 890 و نقل عنه فی بحارالأنوار 100/136، ح4 (42/90).
5- 5 . سنن البیهقی 6/113.
6- 6 . أمالی الطوسی /400.
7- 7 . مجمع الفائدة و البرهان 8/158.
8- 8 . الحدائق 18/381.

«و إن اشتهر نقلها فی کتب الاستدلال حیث أنّها عامیة». هذا من جهة السند.

ولکن مع ذلک قال جدنا العلاّمة التقی رحمه الله : «روایة عروة البارقی المشهورة فی کتب الأصحاب و قد رواها الفریقان و اعتضدت بالشهرة العظیمة بین الفِرقة... و لا مانع من ضعف إسنادها بعد انجبارها بما عرفت»(1).

و وصف قبله جدّ أَوْلاده الشیخ جعفر حدیث عروة ب- : «الذی أغنتْ مشهوریته و استفاضته عند الفریقین عن النظر فی سنده»(2).

و قال سیّد الریاض: «خبر البارقی العامی المشهور المجبور ضعفه... بالشهرة العظیمة...»(3).

و قال فی الجواهر: «خبر عروة البارقی الذی أغنت شهرته عند الفریقین عن النظر فی سنده... و المناقشة فی سنده مدفوعة بما عرفت من الانجبار»(4).

دلالة روایة عروة علی بیع الفضولی تکون من جهتین:

الاُولی: شِراؤُهُ شاتین للنبی صلی الله علیه و آله مع أنّه صلی الله علیه و آله أمره بشراء شاة واحدة فقد خرج عن مورد الوکالة فصار شِراؤُهُ فضولیا.

الثانیة: بیعه للواحدة منهما بعد الشراء، فإنّه فضولیٌّ، لاِءنَّهُ لیس له توکیل فی البیع.

یرد علی الأُولی: إذا وکّله صلی الله علیه و آله فی شراء شاة واحدة بدینار واحد، فبدلالة الفحوی أو الأَوْلویة وکّله فی شراء شاتین بدینار واحد. أو أنّ الإذنَ فی شراء شاة واحدة بدینار إذنٌ عرفا مطلقا فی شراء شاتین به أو لاأقل فی ما إذا کان الدینار مساویا لقیمة شاتین.

و یجاب عنه: الزیادة فی المثمن لایدُلُّ علیه الفحوی بل ما یَقْتَضِیْهِ الفحوی هو شراء شاة بنصف دینار، فما تقتضیه الأَوْلویة و الفحوی هو شراء بالثمن الأقل لا بالمثمن الأکثر. فیکون الشراءُ فضولیا.

ص: 190


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/334.
2- 2 . ریاض المسائل 8/223.
3- 3 . شرح القواعد 2/77.
4- 4 . الجواهر 22/276 (23/448).

قال فی الجواهر: «و الفحوی لا تجزی فی الوکالة قطعا - لعدم الإنشاء و عدم الرضا فعلاً - بل و لا فی إخراج العقد الفضولیة، بل أقصاها جواز الدفع و القبض و بها أقدم عروة علیهما، فلا إشکال حینئذ فی دلالة الخبر علی المطلوب»(1).

و یرد علی الثانیة: بأنّ عروة وکیل له صلی الله علیه و آله فی معاملاته أو مأْذونا مِنْ قِبَلِهِ صلی الله علیه و آله أو یکون فی المقام ما یدّل علی إذنه صلی الله علیه و آله ، و لیس فی الروایة إلاّ حکایة الحال فلا عموم فیها.

قال الإیروانی: «قضیة عروة لاشتباهها و احتمال مأذونیّة عروة من النبی صلی الله علیه و آله فی أمر المعاملات و ما یرجع إلی السوق لاتصلح للاستدلال بها فلا وجه لإتعاب النفس فیها»(2).

و تبعه المحقّق السَّیِّدُ الخوئی و قال: «إنّ کون الصادر من عروة فضولیّا... متوقف علی عدم کونه وکیلاً مطلقا و مفوّضا من النبی صلی الله علیه و آله فی أمر شراء الشاة أو مطلقا الذی سمّی فی لغة فارس بکلمة «وکیل خرج» و من المحتمل أن یکون هو کذلک و علیه، فلا یمکن الاستدلال بالروایة علی صحة بیع الفضولی إذ لا قرینة فی الروایة و لا من الخارج علی کون البیع الصادر من عروة فضولیا»(3).

و تبعهما فی العقد النضید و قال: «إنّ قضیة عروة مجملة لاحتمال کون عروة وکیلاً مفوّضا بأن کان قد وکّله رسول اللّه صلی الله علیه و آله و أعطاه الاختیار التام فی إنشاء البیع و المعاملة، و حینئذ یصحّ ما قام به من البیع و القبض و الإقباض و ذلک من جهة وکالته عنه لا من جهة الرضا المتأخر»(4).

و یجاب عنه: وکالته عنه صلی الله علیه و آله فی مطلق المعاملات أو کونه مأذونا فیه کذلک مخالف لظاهر الروایة و فهم الأصحاب قدس سرهم ، قال الجد التقی: «و الاحتجاج إنّما هو الظاهر الْمُنْجَبِرُ بفهمهم»(5).

ص: 191


1- 1 . الجواهر 22/277 (23/449 من طبع جماعة المدرسین).
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/216.
3- 3 . مصباح الفقاهة 4/25.
4- 4 . العقد النضید 3/18.
5- 5 . تبصرة الفقهاء 3/335.

و قال صاحب الجواهر: «ظاهر الخبر کون المحکی تمام ما وقع من النبی صلی الله علیه و آله و عروة، علی أنّ الأصل عدم غیره»(1).

و بما ذکرنا ظهر الجواب عن مناقشة أُخری و هی: کَوْنُ عروة عالما برضاه صلی الله علیه و آله من الفحوی و لذا تصدّی لدفع العوض لأنّه حرام بدون العلم، و إذا جاء العلم یمکن الاکتفاء به فی صحة التصرف و أنّه یقوم مقام التوکیل فیخرج به عن البیع الفضولی.

یظهر الجواب من مقالة صاحب الجواهر رحمه الله الماضیة آنفا و ما مرّ من أنّ العلم بالرضا و مجرد الفحوی یفیدان إباحة التصرف غیر الناقلة فی مال الغیر، و أمّا النقل و الانتقال و المعاملات فَتَحْتاجُ إلی الإجازة و الإذن الْخارِجِیَّیْنِ و هما مفقودان فی المقام، و قیام العلم بالرضا مقام التوکیل فی التصرفات الناقلة بحیث لا یحتاج معه إلی الإذن و الإجازة، لا یدل علیه دلیل، بل الدلیل علی خلافه.

نعم، غایة الأمر هذا العلم بالرضا و فحوی الإذن الأوّل یصححان دفع العوض و القبض و الإقباض فی مال الغیر، یخرجانه من عدم الجواز، ولکنّهما لایقومان مقام الإذن و الاجازة التی تصحح البیع الفضولی و کذلک لایقومان مقام التوکیل کما مرّ.

لا یقال: العلم بالرضا یکفی فی مجرد الإباحة دون البیع الناقل للعین، فعمل عروة هو مجرد إباحته التصرف فی شاة للغیر لا البیع الناقل.

لأنا نقول: الظاهر من قوله صلی الله علیه و آله : «بارک اللّه فی صفقة یمینک» هو البیع الناقل لا الإباحة فی التصرف فقط، کما فهمه معظم الفقهاء - رضوان اللّه تعالی علیهم - کذلک.

و المدار فی الأدلة ظاهرها لاسیما إذا کان منجبرا بفهم الأصحاب قدس سرهم .

و بما ذکرنا یظهر عدم تمامیة مقالة الشیخ الأعظم حیث یقول: «إنّ الظاهر علم عروة برضا النبی صلی الله علیه و آله بما یفعل و قد أقبض المبیع و قبض الثمن، و لا ریب أنّ الإقباض و القبض فی بیع الفضولی حرام، لکونه تصرّفا فی مال الغیر، فلابدّ إمّا من التزام أنّ عروة فعل الحرام فی القبض و الإقباض و هو مناف لتقریر النبی صلی الله علیه و آله . و إمّا من القول بأنّ البیع الذی یعلم بتعقّبه للإجازة یجوز التصرف فیه قبل الإجازة بناءً علی کون الإجازة

ص: 192


1- 1 . الجواهر 22/276 (23/449 من طبع جماعة المدرسین).

کاشفة - و سیجیء ضعفه - .

فیدور الأمر بین ثالث و هو جعل هذا الفرد من البیع - و هو المقرون برضا المالک - خارجا علی الفضولی... و رابع و هو علم عروة برضا النبی صلی الله علیه و آله بإقباض ماله للمشتری حتّی یستأذن و علم المشتری بکون البیع فضولیا حتّی یکون دفعه للثمن بید البائع علی وجه الأمانة... ولکن الظاهر هو أوّل الوجهین [أی الثالث] کما لایخفی»(1).

ثم احتمل(2) فی المقام احتمالاً خامسا و هو المعاطاة المفیدة للإباحة لا الملک لأنّ المناط فیها هو مجرد الرضا و وصول کلٍّ من العوضین إلی الآخر بأیّ نحو ولو کان -الواصل- صبیّا أو حیوانا، و لیس هذا معاملة الفضولی بل الفضولی هنا فقط صار آلة فی الإیصال و العبرة برضا المالک المقرون به.(3)

وجه الظهور: علم عروة البارقی برضا النبی صلی الله علیه و آله یصحح إقباض المثمن و قبض الثمن فلا یرتکب حراما، و البیع و کذا الشراء قبله یکونان فُضُوْلِیَّیْنِ یحتاجان إلی إجازة النبی صلی الله علیه و آله ، و أجازه صلی الله علیه و آله بالدعاء له، فالروایة تدلّ علی صحة بیع الفضولی من دون احتیاج إلی محتملات الشیخ الأعظم رحمه الله مضافا إلی ضعف جمیعها: أمّا الأوّلان: فقد ورد ضعفهما فی کلام الشیخ الأعظم فلا أُعید.

و أمّا الثالث: فَإِنَّ البیع الفضولی لا یخرجه علم الفضول برضا المالک عن الفضولیة، لما مرّ من أنّ التصرفات الناقلة تحتاج إلی الاستناد إلی المالک و هو لایتم إلاّ بالوکالة أو الإذن أو الإجازة، و لا یکفی فیها الرضا. نعم، الرضا یصحح التصرفات غیر الناقلة، فلا یتم هذا الاحتمال.

و کذلک یراها المحقّق الخراسانی(4) من الفضولی فی ما عقد علی ملک الغیر ولو کان عالما برضایته.

و أمّا الرابع: فَیَتمُّ فی مقام الثبوت و أمّا فی مقام الإثبات علم عروة برضا

ص: 193


1- 1 . المکاسب 3/351.
2- 2 . المکاسب 3/352.
3- 3 . راجع مصباح الفقاهة 4/(27-25).
4- 4 . حاشیة المکاسب /53.

النبی صلی الله علیه و آله یصحح قبضه المثمن فی الشراء و إقباضه المثمن فی البیع أیضا، و أمّا بالنسبة إلی البائع فی شرائه و المشتری فی بیعه حیث لم یرد فی روایته علمهما بأنّ الشراء و البیع فضولیان فإنّهما یعاملان مع عروة، وَ تَکُوْنُ المعاملة من جانبهما أصِیلَیْنِ تامَّیْنِ(1)، و لذا قَبَضَ البائعُ الدینار من عروة و المشتریُ الشاة منه. و بالجملة علمهما بالفضولیة و جعلهما عروة أمینا علی المثمن فی الشراء، و الثمن فی البیع فدون إثباتهما خرط القتاد.

مضافا إلی ما مرّ من صاحب الجواهر قدس سره من: «ظاهر الخبر کون المحکی تمام ما وقع من النبی صلی الله علیه و آله و عروة، علی أنّ الأصل عدم غیره»(2).

و بما ذکرنا ظهر عدم تمامیّة تطبیق شیخنا الاستاذ(3) قدس سره الروایة علی الاحتمال الرابع فی کلام الشیخ الأعظم رحمه الله . و إن کان هذا المحتمل یُوافق صحة بیع الفضولی.

و قال المحقّق الهَمَدانی رحمه الله : «یمکن أن یقال: إنّه لا یحتاج إلی علم المشتری بکونه فضولیّا و استیمانه بل یکفی علم عروة - لو کان عالما- بأنّ المشتری کان راضیا بالبیع علی أیّ حال ولو کان فضولیا، أنّه یکون راضیا بتصرف عروة فی ماله قبل انتقاله إلی النبی صلی الله علیه و آله »(4).

و أمّا الخامس: فَبَعْدَ قبول جریان الفضولیة فی المعاطاة لأنّها عندنا بیع کما مرّ مفصلاً فی بحثها لایضر هذا الاحتمال بالاستدلال و صحة الفضولی، ولکن لم یرد فی الروایة ما یدلّ علی أن فعل عروة کان معاطاةً. بل ورد فیها کَلِمَتا: «اشتریتُ» و «فأبیعه» و أنّهما غیر ظاهِرَتَیْنِ فی المعاطاة لو لم نقل بأنّهما ظاهرتان فی غیرها، لا سیما إذا کان ذلک الغیر علی نحو آلة إیصال مضافا إلی مخالفته لِفَقرَةِ: «بارک اللّه فی صفقة یمینک» لأنّ عروة

ص: 194


1- 1 . وجدتُ بعد کِتابَةِ هذا البیان فی حاشیة الأصفهانی 2/84 حیث یقول: «و أمّا قبض الثمن من المشتری فیکفی فی جوازه رضا المشتری فعلاً لإعتقاده أصالة عروة و تمامیة المعاملة و إن تخلف عن الواقع، لأنّ تخلّف الدواعی لا یضرّ بالرضا الفعلی».
2- 2 . الجواهر 22/276 (23/449).
3- 3 . إرشاد الطالب 3/293، طبعة عام 1431ق.
4- 4 . حاشیة المکاسب /197.

إذا کان آلة إیصال فلا یتم هذا التبریک.

و دعوی أنّ الغالب فی المعاملات هو المعاطاة فی ذاک الزمان مضافا إلی جزافیتها، أنّ هذه الغلبة - لو سلمناها - لا تفید إلاّ الظن و هو لا یغنی من الحقِّ شیئا کما یظهر هذا الأخیر من المحقّق السَّیِّدِ الخوئی(1).

و لذا قال السیّد الیزدی بالنسبة إلی هذا الاحتمال: لم أفهم وجه هذا الدعوی، و لم أدر من أین هذا الظهور»(2).

و العجب من المحقّق السَّیِّدِ الخوئی حیث یقول فی ضمن مناقشاته الشیخَ الأعظمَ ب- : «أنّ ما صدر من عروة قضیة شخصیة واقعة فی مورد خاص و لم یعلم جهتها، فلا یمکن الاستدلال بها علی صحة البیع الفضولی و إن أصرّ علیه جمع من الفقهاء، و لا حملها علی الکبری المتقدمة»(3).

مراده من الکبری المتقدمة خروج العقد الصادر من الأجنبی مع العلم بالرضا الباطنی للمالک عن الفضولیة.

و أمّا الإجابة عنه: بأنّ «کونها قضیة فی واقعة غیر مانع عن الاستدلال به بعد ظهوره فیما هو المراد کما فی نظائره».(4)

فَعَجِیْبٌ لأنّ المناقش لا یری ظهور الروایة فی الفضولی.

و الحاصل: روایة عروة البارقی تدلّ علی صحة بیع الفضولی بعد ما مرّ من الإجابة عن الإشکالات الواردة علیها عندنا، خلافا لجماعة من المُحَشِّیْنَ علی المکاسب(5) و الفاضل النراقی(6) حیث یراها ضعیفة سندا و دلالةً.

ص: 195


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/26.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/110.
3- 3 . مصباح الفقاهة 4/26.
4- 4 . أنوار الفقاهة 1/280.
5- 5 . نحو: الإشکوری فی بغیة الطالب 1/345، و السیّد الیزدی 2/110، و الشهیدی 3/21 و 22، و الإیروانی 2/216، و السیّد الحکیم /351، و السیّد القمی 2/285.
6- 6 . مستند الشیعة 14/275.
الوجه الثالث: صحیحة محمّد بن قیس

التی رواها المشایخ الثَلاثَةُ(1) بأسناد صحاح(2) عن محمّد بن قیس عن أبی جعفر(3) علیه السلام قضی أمیرالمؤمنین - صلوات اللّه علیه - فی ولیدة باعها ابن سیّدها و أبوه غائب فاستولدها الذی اشتراها فولدت منه غلاما، ثم جاءَ سیّدها الأوّل فخاصم سیّدها الآخر، فقال: ولیدتی باعها ابنی بغیر إذنی.

فقال: الحکم أن یأخذ ولیدته و ابنها، فناشده الذی اشتراها، فقال له: خذابنه الذی باعک الولیدة حتی یُنْفِذَ لک البیعَ، فلمّا أخذه قال له أبوه: أرسِلْ ابنی، قال: لا و اللّه، لا اُرْسِلُ إلیک ابنک حتی تُرسِلَ ابنی، فلمّا رأی ذلک سیّد الولیدة، أجاز بیع ابنه.(4)

قد مرّ البحث حول هذه الصحیحة فی بحث المقبوض بالعقد الفاسد(5)، و حول الموهنات الواردة حولها فی بحث بیع المکرَه(6)، فلا نعید.

و أمّا الاستدلال بها علی صحة بیع الفضولی فَیَقَعُ فی فقرَتَیْنِ منها:

الاُولی: ما ورد فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: «خُذْابَنُه الذی باعک الولیدة حتّی یُنْفِذَ(7) لک البیع».

الثانیة: قول أبی جعفر علیه السلام : «فلما رأی ذلک سیّدُ الولیدة أجاز بیع ابنه».

ولکِنْ هنا إشْکالان مَشْهُوْرانِ فی الاستدلال بها علی صحة بیع الفضولی لابدّ من التعرّض بهما و الجواب عنهما:

ص: 196


1- 1 . الکافی 10/209، ح12 (5/211)، الفقیه 3/222، ح3826، التهذیب 7/488، ح1960 و 7/74، ح319، و الاستبصار 3/205، ح739 و 3/85، ح288.
2- 2 . نعم، أحد سندی الشیخ فی التهذیب 7/488، ح1960 موثق بعلی بن الحسن بن فضال.
3- 3 . نقلتُ نص الحدیث من نقل الکلینی فی الکافی الشریف.
4- 4 . وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الاماء.
5- 5 . الآراء الفقهیة 4/413.
6- 6 . راجع صفحة 157 من هذا المجلد.
7- 7 . فی الاستبصار، ح739 «حتّی ینقد»، و کذا احدی طبعات الکافی.

الإِشکال الأوّل: صدور الاجازة بعد الردّ

تقریب الاشکال: فی الصحیحة عدّة أُمور ظاهرها ردّ سیّد الولیدة بیع ابنه:

منها: قوله علیه السلام : «الحکم أن یأخذ ولیدته و ابنها». لأنّ هذا الحکم لا یصح إلاّ بعد الردّ.

و منها: قوله علیه السلام : «ثم جاء سیّدها الأوّل فخاصم سیّدها الآخر». لأنّ المخاصمة لو لم أقل بأنّها بعد الردّ لاأقل من أنّها ظاهرة فی الردّ.

و منها: مناشدة المشتری للإمام علیه السلام و جوابه علیه السلام له: «خذ ابنه الذی باعک الولیدة». لأنّ المناشدة و علاج الإمام علیه السلام لا یکون إلاّ بعد الرد.

و إذا ردّ سیّد الولیدة بیع ابنه الفضول فلیس له الاجازة بعد الردِّ إجماعا(1)، فلابدّ إمّا من حمل الصحیحة و الإجازة الواردة فی آخرها علی البیع الجدید - و هو خلاف الظاهر- أو من حملها علی قضاء أمیرالمؤمنین علیه السلام و حیله فیها التی کان یتوسل بها إلی ظهور ما هو الواقع - کما عن العلاّمة المجلسی(2) رحمه الله - أو من حمله علی قضیة شخصیة فی واقعة بحیث لا یمکن استفادة الحکم العام منها - کما عن المحقّق الخوئی(3) قدس سره - .

جوابه: لم یکن فی الصحیحة ما یدلّ علی ردّ المالک للبیع، نعم لم یکن راضیا بالبیع کما یظهر ممّا مرّ فی الاشکال و عدم الرضایة غیر الردّ، لأنّ الردّ هو فسخ العقد و حلّه و رفضه کما علیه المحقّق الاصفهانی(4) رحمه الله ، أو «یکون متردّدا فی البیع من جهة ما یترتب علیه من مطالبةٍ من ابنه و تعاسره إیّاه، فإن رأی سهولة الخطب ردّه، و إلاّ أجازه لیخلِّص ابنه حسبما صدر منه اخیرا بعد تعاسر المشتری إیّاه»، کما علیه المحقّق التقی(5) قدس سره .

ص: 197


1- 1 . کما عن المحقّق التقی فی تبصرة الفقهاء 3/336.
2- 2 . راجع مرآة العقول 19/238.
3- 3 . مصباح الفقاهة 4/34.
4- 4 . راجع حاشیته للمکاسب 2/86.
5- 5 . تبصرة الفقهاء 3/337.

و الإِشکال(1) علی الأصفهانی بأنّ مفهوم الردّ یکون غیر الحلِّ، و الردّ یباین الإجازة و الحلّ یباین العقد، الإجازة کما یمکن أن تکون باللفظ یمکن أن تکون بالفعل و کذلک الردّ، لا یثمر لأنّ الردّ و إن یقابل الإجازة، و الحلّ مع العقد، فالمفهومان (الرد و الحلّ) مختلفان، ولکن فی بیع الفضولی و عند عامة الناس یستعملان بمعنی واحد، فإن أجاز انعقد البیع و إنْ ردّ انحل. نعم، الإجازة تتحقّق بالقول و الفعل معا.

و الحاصل: المالک یکون غیر راض بالبیع أو مترددا فیه ولکن بعد ما وقع رضی به أو رفع تردّده و أجاز البیع، و الشاهد عَلی بقاء البیع علی ما کان علیه من فضولیته بعد أخذ الولیدة و المخاصمة و المناشدة قوله علیه السلام : «حتی یُنْفِذَ» و «أجاز بیع ابنه». الظاهران فی نفوذ بیع ابنه الفضول و إجازة المالک له.

الإِشکال الثانی: اشتمال الصحیحة علی أُمور لا یقولون بها

قد مرّ فی الموهنات(2) ستة منها و جوابها فلا نعید، ولکن نضیف هنا:

أوّلاً: شمولها علی ما لا یقولون بها، لایمنع من العمل بالصحیحة فی غیرها لما ثبت فی محلّة من إمکان التبعیض فی الحجیّة.

و ثانیا: الحکم بأَخْذِ ولد المشتری لا یکون من جهة رقیّته للشبهة بل من جهة تقویمه و قبض ثمنه، و أخذ المشتری ولدَ المالک لأجل المطالبة بالثمن الذی دفعه إلیه للولیدة، و کذلک مرّ جواب الباقی من الموهنات.

و ثالثا: إِنَّ مولانا الإِمامَ أمیرَالْمُؤمنین علیه السلام اخْتارَ فی قضایاه بعض الطرق غیر المتعارفة لکشف الواقع المتلبس علی عامة الناس - کما مرّ عن العلاّمة المجلسی(3) رحمه الله و ما ورد فی هذه الصحیحة یکون من هذه الطرق و الأسالیب غیر المتعارفة فلا یمکن أن یُعد هذا من الموهنات بل الکلّ یتعلّمون منه القضاء و أحکامه و قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی

ص: 198


1- 1 . کما فی العقد النضید 3/56.
2- 2 . راجع صفحة 157 من هذا المجلد.
3- 3 . مرآة العقول 19/238.

شأنه: «أقضاکم علیّ»(1).

و بالجملة: بعد دفع الإشکالین یمکن استفادة صحة بیع الفضولی من هذه الصحیحة کما علیه جلّ الأصحاب(2) - قدس اللّه أسرارهم - .

ص: 199


1- 1 . الغدیر 3/96، الاستیعاب 2/461، فتح الباری 10/487، شرح نهج البلاغة 7/219 لابن أبی الحدید، الجامع الصغیر 1/58، فیض القدیر 1/285، مطالب السؤل /23، مواقف القاضی الإیجی 3/276.
2- 2 . منهم: الشیخ جعفر فی شرح القواعد 2/80، و سیّد الریاض فیه 8/224، و العلاّمة التقی فی تبصرة الفقهاء 3/336، و صاحب المقابس فیه کتاب البیع /23 و صاحب الجواهر فیه 22/277 (23/449) و الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/354 و 355.
الوجه الرابع: فحوی مادلّ علی صحة نکاح الفضولی

تَمَسَّکَ جَماعَةٌ من الفقهاء بفحوی الروایات الدالة علی صحة نکاح الفضولی، علی صحة بیع الفضولی نحو أصحاب غایة المراد(1) و غایة المرام(2) و شرح القواعد(3) و الریاض(4) و المناهل(5) و المقابس(6) و تبصرة الفقهاء(7) و المفتاح(8) و الجواهر(9) و المکاسب(10).

و بالإجماعات المنقولة فی صحة نکاح الفضولی کما عن الشریف المرتضی(11) مطلقا - أی فی الحرّ و العبد - و ابن ادریس(12) فی الحر خاصة و تبعه الشهید(13)، و الشیخ(14) فی العبد خاصة. و کذلک حکاها أصحاب الکتب الماضیة مطلقا منضمّا إلی الفاضل الأصبهانی(15).

مع العلم بأنّ الاحتیاط فی الفروج آکد و الأمر فیها أشدّ کما ورد فی حسنة العلاء

ص: 200


1- 1 . غایة المراد 3/41.
2- 2 . غایة المرام 2/11.
3- 3 . شرح القواعد 2/74.
4- 4 . ریاض المسائل 8/223.
5- 5 . المناهل /287.
6- 6 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /26.
7- 7 . تبصرة الفقهاء 3/333.
8- 8 . مفتاح الکرامة 12/602.
9- 9 . الجواهر 22/276 (23/447).
10- 10 . المکاسب 3/356.
11- 11 . الناصریات /330، مسألة 154.
12- 12 . السرائر 2/565.
13- 13 . غایة المراد 3/41.
14- 14 . الخلاف 4/266، مسألة 18.
15- 15 . کشف اللثام 7/102.

ابن سیابة عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث: إنّ النکاح أحری و أحری أن یحتاط فیه و هو فرج و منه یکون الولد، الحدیث.(1)

و فی صحیحة شعیب الحداد قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : رجل من موالیک یقرؤک السلام و أراد أن یتزوّج امرأة و قد وافقته و أعجبه بعض شأنها، و قد کان لها زوج فطلّقها علی غیر السنة، و قد کره أن یقدم علی تزویجها حتّی یستأمرک فتکون أنت تأمره، فقال أبوعبداللّه علیه السلام : هو الفرج و أمر الفرج شدید و منه یکون الولد و نحن نحتاط فلا یتزوّجها.(2)

و إذا تمّ نکاح الفضولی بما ورد فی الروایات الآتیة و الإجماعات المحکیة و کان الأمر فیها أشدّ بالنسبة إلی البیع و غیره فیدل الفحوی بالصحة فیه.

و هذا الفحوی - و هو قیاس الاُولویة - و ان لم یکن من دلالة اللفظ ولکنّه حجة عند الأکثر کما یستفاد ذلک من فروعهم من مقامات لا تحصی.(3)

و لذا قال الشهید رحمه الله : و «تکلُّفُ الفرقِ النظری بینهما - أی بین النکاح و البیع - فیه ما فیه، بل الاحتیاط فی الفروج اُولی»(4).

و قال سیّد الریاض فی کتاب النکاح: «و من هذه الأخبار - و إن اختصّ مواردها بالنکاح - یستفاد جواز الفضولی فی سائر العقود بفحوی الخطاب؛ للاتّفاق فتویً وروایةً علی شدّة أمر النکاح، و عدم جواز المسامحة فیه بما ربما یتسامح فی غیره، فإذا جاز الفضولی فی مثله جاز فی غیره بطریق أولی، کما لا یخفی علی أَولی البصیرة و النُهی»(5).

ص: 201


1- 1 . وسائل الشیعة 19/163، ح2، الباب 2 من أبواب کتاب الوکالة، و وسائل الشیعة 20/259، ح3، الباب 157 من أبواب مقدمات النکاح.
2- 2 . وسائل الشیعة 20/258، ح1، الباب 157 من أبواب مقدمات النکاح.
3- 3 . کما عن صاحب مفتاح الکرامة 12/602.
4- 4 . غایة المراد 3/41.
5- 5 . ریاض المسائل 11/104.

و أمّا الروایات الدالة علی صحة نکاح الفضولی فی الحرّ و العبد فَإِنَّها کثیرةٌ نذکر لک بعضها:

فمنها: مضمرة و صحیحة محمّد بن اسماعیل بن بزیع قال: سأله رجلٌ عن رجلٍ مات و ترک أخوین و ابنةً، و البنت صغیرة فعمد أحد الأخوین الوصی فزوّج الابنةَ من ابنه، ثمّ مات أبو الإبن المزوَّج فلمّا أن مات قال الآخر: أخی لم یزوِّج ابنه فزوّج الجاریة من ابنه، فقیل للجاریة: أیّ الزوجین أحبّ إلیک: الأوّل أو الآخر؟ قالت: الآخر.

ثم إنّ الأخ الثانی مات، و للأخ الأوّل ابن أکبر من الابن المزوَّج فقال للجاریة: اختاری أیّهما أحبّ إلیک: الزوج الأوّل أو الزوج الآخر؟

فقال: الروایة فیها أنّها للزوج الأخیر و ذلک أنّها تکون قد کانت أدرکت حین زوّجها و لیس لها أن تنقض ما عَقَدَتْهُ بعد إدراکها!(1)

الصحیحة مضمرة و ابن بزیع و إن أدرک الأئمة الکاظم و الرضاه و الجواد علیهم السلام ولکن الظاهر أنّ الروایة من الإمام الکاظم علیه السلام لأنّ ابن بزیع کان من موإلی أبی جعفر المنصور و هو کان معاصرا للإمام الکاظم علیه السلام و الإضمار یکون للتقیة التی ابْتُلِیَ بها ابن بزیع فلایضرّبها مضافا إلی جلالته و أنّه لم یرو من غیر المعصوم.

و لعلّ کلمة «ابنه» فی فقرة: «قال الآخر: أخی لم یزوج ابنه» تکون تصحیفا ل-«ابنته»، فیکون کلّ من الأخوین المتوفّیین زوّج الإبنة لابنه، فیکون التزویجان فضولیین.

و اختارت الإبنة الزوج الأخیر و قرّره الإمام علیه السلام ، ولکن علّله ضمنا بأنّه إن کان الثانی فضولیا أجازها و تصریحا بأن کان فی زمن بلوغها فکان بإذنها من حین العقد.

و منها: معتبرة محمّد بن الحسن الأشعری قال: کتب بعض بنی عمّی إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام : ما تقول فی صبّیة زوّجها عمّها، فلمّا کبرت أبت التزویج، فکتب لی: لا تکره

ص: 202


1- 1 . الکافی 10/763، ح3 (5/397)، التهذیب 7/387، ح30، عنهما فی وسائل الشیعة 20/282، ح1، الباب 8 من أبواب عقد النکاح.

علی ذلک و الأمر أمرها.(1)

و منها: صحیحة أبی عبیدة قال: سألتُ أبا جعفر علیه السلام عن غلامٍ و جاریةٍ زوَّجُهما ولیّان لهما و هما غیر مدرکین.

قال: فقال: النکاح جائز، أیّهما أدرک کان له الخیار، فإن ماتا قبل أن یدرکا فلا میراث بینهما و لا مهر، إلاّ أن یکونا قد أدرکا و رضیا.

قلت: فإن أدرک أحدهما قبل الآخر؟

قال: یجوز ذلک علیه إن هو رضی.

قلت: فإن کان الرجل الذی أدرک قبل الجاریة و رضی النکاح، ثم مات قبل أن تدرک الجاریة، أترثه؟

قال: نعم، یعزل میراثها منه، حتّی تدرک و تحلف باللّه ما دعاها إلی أخذ المیراث إلاّ رضاها بالتزویج، ثمّ یدفع إلیها المیراث و نصف المهر.

قلت: فإن ماتت الجاریة و لم تکن أدرکت، أیرثها الزوج المدرِک؟

قال: لا، لأنّ لها الخیار إذا أَدرکت.

قلت: فإن کان أبوها هو الذی زوّجها قبل أن تدرک.

قال: یجوز علیها تزویج الأب، و یجوز علی الغلام، و المهر علی الأب للجاریة.(2)

عزل میراث الجاریة المتزوّجة - من زوجها الصغیر الذی بلغ و أجاز نکاح ولیّه ثمّ مات - حتّی تدرک و أجازت نکاح ولیّها و تحلف باللّه ما دعاها إلی أخذ المیراث إلاّ رضا بالتزویج، ثمّ اعطائها المیراث و نصف المهر، یدلّ علی صحة نکاحها الفضولی من حین العقد بعد إجازتها.

و منها: موثقة الفضل بن عبدالملک عن أبی عبداللّه علیه السلام - فی حدیث - قال: إذا زوّج الرجل ابنه فذاک إلی ابنه، و إذا زوّج الإبنة جاز.(3)

ص: 203


1- 1 . وسائل الشیعة 20/276، ح2، الباب 6 من أبواب عقد النکاح.
2- 2 . وسائل الشیعة 26/219، ح1، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج.
3- 3 . وسائل الشیعة 20/277، ح4، و 21/287، ح1، الباب 28 من أبواب المهور.

فی المطبوعة من الکافی «إلی أبیه» بدل «إلی ابنه» ولکن فی بعض نسخه(1) و التهذیب(2) و الوافی(3) «إلی ابنه» و الاستدلال مبنیٌّ علی قرأة «ابنه».

و منها: خبر محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام أنّه سأله عن رجل زوّجته اُمُّه و هو غائب؟ قال: النکاح جائز، إن شاء المتزوِّج قَبِلَ، و إن شاء ترک المتزوِّج تزویجه فالمهر لازم لاُمّه.(4)

الروایة ضعیفة الإسناد باسماعیل بن سهل لأنّ النجاشی قال فی شأنه: «ضعّفه أصحابنا»(5).

و منها: صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال: سألته عن مملوکة بین رجلین زوّجها أحدهما و الآخر غائب، هل یجوز النکاح؟ قال: إذا کره الغائب لم یجز النکاح.(6)

سند الشیخ فی التهذیب 8/220، ح704 مرسل لأنّه لم یذکر سنده إلی محمّد بن أحمد بن اسماعیل الهاشمی العلوی فی مشیخته و سند الحمیری أیضا ضعیف بعبداللّه بن الحسن بن علی بن جعفر علی المشهور، ولکن رواها علی بن جعفر فی کتابه و لصاحب الوسائل طریق صحیح إلی کتابه و لذا عبرنا عن الروایة بالصحیحة.

و منها: خبر عبید بن زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام فی عبد بین رجلین زوّجه أحدهما و الآخر لا یعلم، ثمّ انّه علم بعد ذلک، أله أن یفرّق بینهما؟ قال: للذی لم یعلم و لم یأذن أن یفرّق بینهما و إن شاء ترکه علی نکاحه.(7)

ص: 204


1- 1 . کما ذکرها فی هامش الکافی 10/771 طبع دارالحدیث.
2- 2 . التهذیب 7/389.
3- 3 . الوافی 21/415.
4- 4 . وسائل الشیعة 20/280، ح3، الباب 7 من أبواب عقد النکاح.
5- 5 . رجال النجاشی /28، رقم 56.
6- 6 . وسائل الشیعة 21/190، ح1، الباب 70 من أبواب نکاح العبید و الأماء.
7- 7 . وسائل الشیعة 21/116، ح1، الباب 25 من أبواب نکاح العبید و الأماء.

الروایة ضعیفة بعبد العزیز بن عبداللّه العبدی لأنّ النجاشی(1) ضعّفه.

ولکن الشیخ الأعظم(2) رحمه الله ناقش فی هذه الفحوی بالنص الوارد فی الردّ علی العامة الذین فرّقوا بین تزویج الوکیل المعزول مع جهله بالعزل و بین بیعه حیث أنّهم ذهبوا إلی الصحة فی البیع مستدلاًِّ بأنّ المال له عوض، و إلی البطلان فی النکاح لأنّ البُضْع لیس له عوض. ولکن فی النص ردّ الإمام علیه السلام علیهم بأنّ مقتضی الاحتیاط فی النکاح لتکوُّن الولد منه هو الصحة و هو اُولی بالاحتیاط فیحکم بصحته، فحینئذ صار الاستدلال علی عکس الفحوی المذکورة بأنّ فی کلِّ مورد صحت المعاملة المالیة صح النکاح و لا عکس، و الفحوی مبتنیّةٌ علی عکسه فلا یتم.

و بعبارة أُخری: النص یدل فی کلّ مورد صحّت المعاملات المالیة صحّ النکاح، فالبیع أصل و النکاح فرع و لا یمکن إثبات حکم الأصل بإثباته فی الفرع. و الفحوی المذکورة علی عکسه تقول بأنّ لو صح النکاح لصحت المعاملات المالیة فالنکاح أصل و البیع فرع، و أنت تری بأنّ النص یعارض الفحوی المدعاة.

و أمّا النص: فَهُوَ ماجاءَ فی حَسَنَةِ العَلاءِ بنِ سیابة قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن امرأة وکّلت رجلاً بأن یزوّجها من رجل فقبل الوکالة فأشهدت له بذلک، فذهب الوکیل فزوّجها، ثمّ إنّها أنکرت ذلک الوکیل و زعمت أنّها عزلته عن الوکالة فأقامت شاهدین أنّها عزلته، فقال: ما یقول من قبلکم فی ذلک؟

قال: قلت: یقولون: ینظر فی ذلک فإن کانت عزلته قبل أن یزوّج فالوکالة باطلة و التزویج باطل، و إن عزلته و قد زوّجها فالتزویج ثابت علی ما زوّج الوکیل، و علی ما اتفق معها من الوکالة إذا لم یتعدّ شیئا ممّا أمرت به و اشترطت علیه فی الوکالة.

قال ثمّ قال: یعزلون الوکیل عن وکالتها و لم تعلمه بالعزل؟

قلت: نعم، یزعمون أنّها لو وکّلت رجلاً و أشهدت فی الملأ و قالت فی الملأ(3):

ص: 205


1- 1 . رجال النجاشی /244، رقم 641.
2- 2 . المکاسب 3/256 و ما بعده.
3- 3 . فی المطبوعة من وسائل الشیعة، طبعة آل البیت 19/163: «النملأ».

أشهدوا أنّی قد عزلته، أبطلت وکالته بلا أن یعلم بالعزل و ینقضون جمیع ما فعل الوکیل فی النکاح خاصة، و فی غیره لایبطلون الوکالة إلاّ أن یعلم الوکیل بالعزل، و یقولون: المال منه عوض لصاحبه و الفرج لیس منه عوض إذا وقع منه ولد.

فقال علیه السلام : سبحان اللّه ما أجور هذا الحکم و أفسده إنّ النکاح أحری و أحری أن یحتاط فیه و هو فرج و منه یکون الولد، إنّ علیّا علیه السلام أتته امرأة استعدته(1)(2) علی أخیها: فقالت: وکّلتُ أخی هذا بأن یزوجّنی رجلاً و أشهدتُ له ثمّ عزلته من ساعته تلک، فذهب فزوّجنی ولی بیّنةٌ أنّی عزلته قبل أن یزوِّجنی فأقامت البینة، فقال الأخ: یا أمیرالمؤمنین إنّها وکّلتنی و لم تُعلمنی أنّها عزلتنی عن الوکالة حتّی زوّجتها کما أمرتنی.

فقال علیه السلام لها: ما تقولین؟ قالت: قد أعلمته یا أمیرالمؤمنین، فقال لها: ألک بینة بذلک؟ فقالت: هؤلاء شهودی یشهدون، قال لهم: ما تقولون؟ قالوا: نشهد إنّها قالت: اشهدوا إنّی قد عزلت أخی فلانا عن الوکالة بتزویجی فلانا و إنّی مالکة لأمری قبل أن یزوِّجنی فلانا، فقال: أشهدتکم علی ذلک بعلم منه و محضر؟ قالوا: لا، قال: فتشهدون أنّها أعلمته العزل کما أعلمته الوکالة؟ قالوا: لا.

قال: أری الوکالة ثابتة و النکاح واقعا، أین الزوج؟ فجاء، فقال: خذ بیدها بارک اللّه لک فیها.

قالت: یا أمیرالمؤمنین أحلفه أنّی لم أعلمه العزل و أنّه لم یعلم بعزلی إیّاه قبل النکاح.

فقال: و تحلف؟ قال: نعم یا أمیرالمؤمنین فحلف و أثبت وکالته و أجاز النکاح.(3)

أقول: عَبَّرْتُ عن الروایة بالحسنة لأنّ سند الصدوق إلی العلاء بن سیابة صحیح، وَ قَدْ رَوی عنه أصحاب الإجماع نحو أبان بن عثمان و محمّد بن أبی عمیر و غیرهما و له

ص: 206


1- 1 . فی المطبوعة من وسائل الشیعة، طبعة آل البیت: «تستعدیه».
2- 2 . استعداه: استغاثه و استنصره. [قاموس اللغة].
3- 3 . الفقیه 3/84، ح3383، التهذیب 6/214، ح5، و نقل عنهما فی وسائل الشیعة 19/163، ح2، الباب 2 من أبواب کتاب الوکالة.

19 روایة فی الکتب الأربعة فلا یبعد القول بأنّه من المعاریف و لم یرد فیه قدح فهو معتبر أو لاأقل من حسنه. و سند الشیخ إلی العلاء أیضا صحیح.

و الوکالة عندنا عقد جائز من الطرفین فللوکیل أن یعزل نفسه مع حضور الموکّل و غیبته و کذا للموکِّل أن یعزل الوکیل، ولکن انعزاله مشروط ببلوغه إیّاه، فلو أنشأ عزله ولکن لم یطلّع الوکیل علیه لم ینعزل فلو أمضی أمرا قبل أن یبلغه العزل کان نافذا.

و الروایة ردّ علی العامة من حیث أنّهم یفرّقون بین النکاح و غیره و یبطلون الوکالة فی النکاح بالعزل ولو لم یطلّع علیه الوکیل، و فی غیره لا یبطلون الوکالة إلاّ باطلاع الوکیل علی عزله بدعوی أنّ «المال منه عوض لصاحبه و الفرج لیس منه عوض»، و تعّجب الإمام علیه السلام من هذا التفصیل الباطل و قال علیه السلام : «سبحان اللّه، ما أجور هذا الحکم و أفسده إنّ النکاح أحری و أحری أن یحتاط فیه و هو فرج و منه یکون الولد».

و أنت تری بأنّ مَصَبَّ الروایة ردّ تفصیل العامة بین النکاح و غیره فی الوکالة فأین هذا من وهن المدعی فی کلام الشیخ الأعظم بأنّها تدل علی عکس الفحوی؟!

و کذا لا یتم تعبیره عنها بالصحیحة(1) مع ما عرفت فی سندها. و لا یتم توجیهه(2) فی الاحتیاط الوارد فی کلام الإمام علیه السلام بالنسبة إلی النکاح من حمله علی الاحتیاط الإضافی لا الاحتیاط التام المدرِک به الواقع بل الإمام یکون فی مقام نفی تفصیلهم المبتنی علی الاستحسان فأرشدهم إلی جانب الاحتیاط تقیةً و جدلاً علیهم ثمّ ذکر لهم قضاء علی علیه السلام و حکمه بصحة النکاح ردّا علی تفصیلهم. فالمراد بالاحتیاط فی الروایة لیس احتیاطا إضافیا بل هو احتیاط جَدَلِّیٌّ و تقیَّتیٌّ حیث لم یتمکن من الردّ علیهم صریحا و الشاهد علیه تمسّکه علیه السلام بقضاء علی علیه السلام المقبول عندهم.(3)

و إلاّ الاحتیاط التام فی النکاح إمّا یکون بالطلاق أو بتجدید العقد علیها أو بإجازتها قبل ردّها کما هو الواضح.

ص: 207


1- 1 . المکاسب 3/358.
2- 2 . المکاسب 3/357.
3- 3 . کما یظهر من المحقّق الاصفهانی 2/91.

و بالجملة: الروایة لم توهن الفحوی و لم تکن صحیحة الإسناد و الاحتیاط فیها لم یکن الاحتیاط الاضافی بل یکون ردّا لاستحسانهم و هو احتیاط جدلّیّ و تقیّتیٌّ. فالفحوی تامة فی المقام تصحح بیع الفضولی کما علیه جمع من الأعلام و لا تتم القاعدة المدعاة من الشیخ الأعظم رحمه الله علی عکس الفحوی المذکورة بأنّ «إمضاء العقود المالیة یستلزم امضاء النکاح من دون العکس»(1).

ص: 208


1- 1 . المکاسب 3/358.
الوجه الخامس: ما ورد فی عامل المضاربة

لو خالف ما شرط علیه من تعیین السلعة الخاصة فاشتری غیرها أو المنع من السفر إلی مدینة خاصة فسافر أو المنع من المعاملة مع أشخاص معدودین فَاتَّجَرَ معهم و نحوها یکون العامل ضامنا و علیه الخسارة ولکن الربح بینهما علی ما شرطاه، و تقسیم الربح بینهم متوقف علی أحد الأمرین:

أ: بعد ظهور الربح یرضی المالک، و الرضا کاف عند الشیخ الأعظم ولو لم یکن فی البین استناد و إجازة، فیستأنس بها لصحة بیع الفضولی لاشتراکه مع مورد الروایات فی عدم لزوم الإذن السابق فی نقل المال.

ب: الإجازة اللاحقة من المالک تصحح معاملة العامل السابقة، و هذا یعنی صحة بیع الفضولی بعد تعقّبه بالإجازة.

قال الشیخ الأعظم ما نصه: «فإنّها اُبقیت علی ظاهرها من عدم توقف ملک الربح علی الإجازة - کما نسب إلی ظاهر الأصحاب(1) و عدّ هذا خارجا عن بیع الفضولی بالنص کما فی المسالک(2) و غیره(3)- کان فیها استئناس لحکم المسألة، من حیث عدم اعتبار إذن المالک سابقا فی نقل مال المالک إلی غیره.

و إن حملناها علی صورة رضا المالک بالمعاملة بعد ظهور الربح - کما هو الغالب و مقتضی الجمع بین هذه الأخبار و بین مادلّ علی اعتبار رضا المالک فی نقل ماله و النهی عن أکل المال بالباطل - اندرجت المعاملة فی الفضولی.

و صحّتها فی خصوص المورد و إن احتمل کونها للنص الخاص، إلاّ أنّها لا تخلو

ص: 209


1- 1 . راجع: جامع المقاصد 8/110، و المسالک 4/353، و الروضة 4/213، و ملاذ الأخیار 11/337 للعلاّمة محمّدباقر المجلسی، و ریاض المسائل 9/346، و المناهل /207، و المقابس، کتاب البیع /26، و الجواهر 26/354.
2- 2 . المسالک 4/352.
3- 3 . الحدائق 21/207، المناهل /207.

عن تأییدٍ للمطلب»(1).

هذا هو استدلال الشیخ الأعظم فی المقام.

و أمّا الروایات الواردة فکثیرة:

منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال: سألته عن الرجل یعطی المال مضاربة و ینهی أن یخرج به فخرج؟ قال: یضمن المال و الربح بینهما.(2)

و منها: صحیحة الحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال فی الرجل یعطی المال فیقول له: أئت أرض کذا و کذا و لا تجاوزها و اشتر منها، قال: فإن جاوزها و هلک المال فهو ضامن، و إن اشتری متاعا فوضع فیه فهو علیه و إن ربح فهو بینهما.(3)

و منها: صحیحة الکنانی قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن المضابة یعطی الرجل المال یخرج به إلی الأرض، و ینهی أن یخرج به إلی غیرها، فعصی فخرج به إلی أرض اُخری فعطب المال؟ فقال: هو ضامن، فإن سلم فربح فالربح بینهما.(4)

و منها: موثقة جمیل عن أبی عبداللّه علیه السلام فی رجل دفع إلی رجل مالاً یشتری به ضربا من المتاع مضاربة فذهب فاشتری به غیر الذی أمره، قال: هو ضامن و الربح بینهما علی ما شرط.(5)

و منها: موثقة أبی بصیر عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الرجل یعطی الرجل مالاً مضاربة و ینهاه أن یخرج إلی أرض اُخری فعصاه، فقال: هو له ضامن و الربح بینهما إذا خالف شرطه و عصاه.(6)

و منها: خبر زید الشحام عن أبی عبداللّه علیه السلام فی المضاربة إذا أعطی الرجل المال و

ص: 210


1- 1 . المکاسب 3/359.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/15، ح1، الباب 1 من أبواب کتاب المضاربة.
3- 3 . وسائل الشیعة 19/15، ح2.
4- 4 . وسائل الشیعة 19/17، ح6.
5- 5 . وسائل الشیعة 19/18، ح9.
6- 6 . وسائل الشیعة 19/18، ح10.

نهی أن یخرج بالمال إلی أرض اُخری فعصاه فخرج به، فقال: هو ضامن و الربح بینهما.(1)

الروایة ضعیفة الإسناد بأبی جمیلة المفضل بن صالح.

و منها: صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه قال فی المال الذی یعمل به مضاربة: له مِنْ الربح و لیس علیه من الوضیعة شی ء، إلاّ أن یخالف أمر صاحب المال، فإنّ العباس کان کثیر المال و کان یعطی الرجال یعملون به مضاربة و یشترط علیهم أن لا ینزلوا بطن وادٍ، و لا یشتروا ذا کبد رطبة فإن خالفت شیئا ممّا أمرتک به فأنت ضامن للمال.(2)

قال الشیخ أسداللّه التستری قدس سره بعد نقل موثقة جمیل الماضیة: «و یعضدها أخبار أُخَرُ قد عمل بها الأصحاب بلا خلاف یعرف بینهم، و وجه الاستدلال بها: أنّ العامل لم یکن وکیلاً فی تلک المعاملة، فلو بطل عقد الفضولی لبطل عقد العامل هنا أیضا، فوجب ردّ کلٍّ إلی صاحبه و لم یجز تقسیم الربح بینهما کما دلّت علیه - أی علی تقسیم الربح بینهما - الروایة، فهی محمولة علی تحقق الإجازة مع الربح کما هو الغالب دون الخسران، و إنّما قُسِّم الربح بینهما بناءً علی اطلاق عقد المضاربة و تعلِّقه بکلِّ عقدٍ صحیحٍ وقع بذلک المال برضا المالک سابقا أو لاحقا. و فی هذا کلامٌ یُبَیِّنُ فی محلِّه»(3).

و قال صاحب الجواهر رحمه الله فی کتاب المضاربة من کتابه فی ما إذا خالف العاملُ ما شرطه ربُّ المال علیه: «لم یمض إلاّ مع إجازة المالک، لکونه تصرفا قد وقع بدون إذن المالک، و هو غیر باطل عندنا و إنّما فضولیٌّ، فإن أجاز نفذ»(4).

أقول: لابدّ أوّلاً من توضیح محتملی کلام الشیخ الأعظم قدس سره ثمّ نقدهما:

أمّا الاحتمال الأوّل:

فحکم الإمام علیه السلام بتقسیم الربح فی عقد المضاربة التی خالف العامل فیها ما شرط

ص: 211


1- 1 . وسائل الشیعة 19/18، ح11.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/17، ح7.
3- 3 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /26.
4- 4 . جواهر الکلام 26/351.

علیه صاحب المال، مع عدم التنبیه علی أنّ العامل لابدّ له من أخذ الإجازة من المالک فی هذه المعاملات المنهی عنها، فَهُوَ ظاهِرٌ فی اختصاص المضاربة بحکم تعبدیّ و هو صحة هذه المعاملات بلا توقف علی إجازة المالک، و إذا صحت معاملة من دون استیذان من المالک، یمکن أن یصحح بیع الفضولی من دون الإجازة السابقة و من دون النهی السابق من المالک مع الإجازة المتأخرة و لعلّ هذا هو المراد من الاستیناس فی کلامه رحمه الله .

و فیه: استفادة الاستیناس من هذه الروایات لایتم، لأنّ مع عدم لحوق إجازة ربّ المال یستفاد منها أنّ المورد من الموارد التی یکون التصرف فی مال الغیر نافذا بلا إذن مالکه أو إجازته اللاحقة کنفوذ التصدّق بالمال المجهول مالکه و کبیع الوکیل قبل بلوغ عزله إلیه، هذا أوّلاً.(1)

و ثانیا: علی فرض وجود الاستیناس، فَهُوَ لا یفید إلاّ الظن، و الظن لا یغنی من الحقّ شیئا.(2)

و ثالثا: اشتراک مورد النصوص مع العقد الفضول فی عدم اقتران العقد بإذن المالک لا یتقضی الاتحاد من جمیع الجهات، و الا لایحتاج عقد الفضولی حتّی إلی الإجازة اللاحقة، لفقدانها فی مورد النصوص.(3)

و أمّا الاحتمال الثانی:

فَتوضیحه: أنّ الغرض الواقعی من المضاربة هو تنمیة المال و إزدیاده، ولو شرط المالک علی العامل شروطا یراها أفضل لحصول هذا الغرض، ولو تخلف العامل و حصل علی الربح ظهر خطاء المالک و رضی بتصرفاته کما یظهر من المحقّق و الشهید الثانیین.(4)

و کذلک اقتضاء الجمع العرفی بین الضرورة الفقهیة و إطلاق نصوص المضاربة

ص: 212


1- 1 . یظهر من شیخنا الاُستاذ قدس سره فی إرشاد الطالب 3/305.
2- 2 . کما یظهر من المحقّق السیّد الخوئی فی مصباحه 4/52.
3- 3 . کما یظهر من المحقّق السیّد الخوئی فی مصباحه 4/52.
4- 4 . جامع المقاصد 8/85، و المسالک 4/353، و حاشیة المکاسب 2/221 للمحقّق الإیروانی، و حاشیة العروة الوثقی 5/165 للسیّد البروجردی.

یدلّنا علی حمل هذه النصوص علی صورة إجازة المالک بعد ظهور الربح، خصوصا بعد مطالبته بالربح فتکون إجازة عملیة فی نفوذ تصرفات العامل.

فلا یکون تملّک الربح فی نصوصها تعبّدا محضا.(1)

و فیه: بعد قبول الفضولیة فی هذه المعاملة لابدّ أن یکون تمام الربح للمالک، لا بعضها المقرَّر لأنّ عقد المضاربة بتعدی النهی تکون باطلة، فیصیر تصرفات العامل فضولیة و أجازها المالک فصارت صحیحة و تمام الربح یکون له، و لایستحق العامل حتّی اُجرة المثل، لأنّ عمله لم یصدر بأمر من المالک و لا إذنه.(2)

بعبارة أُخری: إنّ ما وقع علیه عقد المضاربة بین المالک و العامل، لم یوجده العامل لتخلفه عن الشروط، و ما اُوجده العامل غیر مربوط بالمضاربة بل هو عقد فضولی آخر فإن أجازه المالک ینتسب إلیه و الربح کلّه له، و إن لم یجزه بطل من أصله.

مضافا إلی أن لو صحت الإجازة اللاحقة المضاربة السابقة، لابدّ أن یکون التلف و الخسران علی المالک - کما هو کذلک فی المضاربة - لا علی العامل، مع أنّ النص یجعله علی العامل فقط.(3)

فحینئذ لابدّ من القول فی هذه الروایات بأنّها محمولة علی التعبد المحض و تختص بباب المضاربة فقط(4) و لا یمکن التعدی منها إلی غیرها من الأبواب نحو: الوکالة و البیع.

ص: 213


1- 1 . کما یظهر من المحقّق المروج فی هدی الطالب 4/433.
2- 2 . کما یظهر من شیخنا الاُستاذ قدس سره فی إرشاد الطالب 3/305 و قبله السیّد الخوئی فی مصباحه 4/52.
3- 3 . کما علیه المحقّق الخوئی فی مصباحه 4/53.
4- 4 . کما یظهر من الشیخ محمّد الحسین کاشف الغطاء و المحقّق العراقی فی تعلیقهما علی العروة الوثقی 5/165 و شیخنا الاُستاذ قدس سره فی إرشاده 3/311.

وجهان لتطبیق الروایات علی القواعد

الأوّل: ما ذکره صاحب العروة

قال الفقیه السیّدُ الیزدی رحمه الله : «فالاُولی أن یقال: إنّ مجرد منع المالک عن تصرف خاص أو السفر إلی جهة خاصة لایستلزم عدم الرخصة فی المعاملة، و بعبارة اُخری یمکن أن یکون منعه منعا تکلیفیا منه، لا وضعیّا حتّی یستلزم کون التصرف غیر مأذون فیه بالإذن الوضعی، و إن شئت فقل إنّها محمولة علی صورة تعدد المطلوب، فالضمان إنّما هو من جهة المخالفة فی المطلوب الثانی، و کون المعاملة صحیحة و الربح بینهما من جهة الموافقة فی المطلوب الأوّل و هو أصل التجارة المربحة و یشیر إلی ذلک ذیل صحیحة الحلبی(1) المشتملة علی قضیة العباس فإنّ ظاهره أنّه کان یشترط الضمان مع بقاء الإذن فی التجارة فیکون المراد من الاشتراط فیها الضمان لا تخصیص مورد الإذن فی التجارة و التقیید فیه، و علی هذا فلا دخل لها بمسألة الفضولی أصلاً»(2).

و تبعه المحقّق الاصفهانی فی حاشیته علی المکاسب.(3)

و یرد علیه: أوّلاً: بالنسبة إلی حمله المنع علی التکلیف لا الوضع، یمکن القول به فی العقود اللازمة بأن اشتراط العمل الخاص علی أحد المتعاقدین خارجا عن المعاملة فی ما إذا کان مدلول المعاملة أمرا مغایرا لإلزام الطرف کما إذا باع شیئا و اشترط علیه عدم تملیکه إلی شخص خاص، یمکن القول بصحه البیع و هذا الاشتراط یکون تکلیفا علی المشتری.

و أمّا فی العقود الإذنیة - التی عقد المضاربة منها - فَلا یمکن هذا الحمل التکلیفی، لأنّ الإذن ینافی مع التکلیف، فلا یتم الحمل علی التکلیف فی المضاربة و لابدّ من حمله علی التقیید و عدم صحة المضاربة إذا خالف الشرط، فیحنئذ تکون الروایات الواردة علی تقسیم الربح علی خلاف القواعد.

ص: 214


1- 1 . وسائل الشیعة 19/17، ح7.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/117
3- 3 . حاشیته علی المکاسب 2/93.

و ثانیا: بالنسبة إلی تعدد المطلوب، ظهر عدم إمکان الأخذ به، لأنّه لابدّ من حمل النهی علی التقیید و بعد التقیید یحکم بعدم صحة المضاربة إذا خالف الشرط، و هذا یعنی عدم تعدد المطلوب بل تکون هنا مضاربة مقیّدة بشروط، فاذا خالف الشرط لا تکون مضاربة أصلاً، فلا یتم تعدد المطلوب.

الثانی: مقالة المحقّق الإیروانی رحمه الله :

قال: «... بل من المحتمل قویّا وجود الرضا المقارن من ربّ المال بالمعاملة و إنّما قصّر إذنه بغیرها زعما منه أنّ المعاملة لیست معاملة رابحة فبعد ما انکشف أنّها رابحة ظهر أنّها کانت مشمولة لرضاه من ابتداء الأمر، و إن کانت خارجة عن مورد إذنه الصریح، هذا فی صورة الربح.

و أمّا فی صورة الخسران فقد حکم الإمام علیه السلام بأنّ العامل ضامن و معنی ضمانه هو تتمیمه لرأس المال فإمّا من کیسه مع إبقاء المعاملة أو بردّ المعاملة، و المالک راض فی صورة التتمیم من ماله بإبقاء المعاملة علی حالها»(1).

أقول: یرجع بیانه رحمه الله إلی الخطأ فی التطبیق و تخیّله عدم وجود النفع فی المنهی عنه، مع وجوده فیه واقعا.

و فیه: أوّلاً: لا یمکن القول بالخطأ فی التطبیق فی جمیع الموارد المنهی عنها، نعم فی موارد العلم بمطلق الاسترباح تجری و أمّا فی غیرها فلا، و یمکن أن ینهی المالک من تجارة فیها حضاضة عرفیة نحو الإتجار مع الکفار أو بیع السلاح أو المخدرات و نحوها، و فی هذه الفروض لایتم القول بالخطأ فی التطبیق.

و ثانیا: فی موارد العلم بمطلق الاسترباح لعلّ المعاملة التی عمل بها العامل یکون أقلّ ربحا من غیرها فلا یحصل غرض استرباح المالک، فلا یتم کبری الخطأ فی التطبیق حتّی فیها.

و ثالثا: لا دلیل علی اتباع غرض المالک فی العقود و الإیقاعات ما لم یبرز بمظهر

ص: 215


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/221.

خارجی و إلاّ یصح ذلک فی جمیع الموارد و یلزم منه تأسیس فقه جدید کما هو الواضح.(1)

و رابعا: کون الخسران علی العامل فی مورد الروایات لیس من ناحیة الاشتراط و إلاّ کان تخلفه موجبا للخیار، لا کون الوضیعة علی العامل، بل هو من قبیل اشترطا کون الوضیعة علی العامل فی صورة المخالفة إن اتفقت(2)، و إحراز رضایة المالک بعد جبران الخسارة من مال العامل بإبقاء المعاملة علی حاله دون إثباته خرط القتاد.

و الحاصل: لا یمکن من هذه الروایات استفادة صحة بیع الفضولی، بل هی نصوص تعبدیة یأخذ بها فی مورد خاصٍّ لصحة أسنادها و تمامیة دلالتها و عمل الأصحاب بها کما مرّ و لایمکن تطبیقها علی القواعد العامة فی الفقه، فیعمل بها علی الْقَدرِ المتیقن منها و اللّه العالم.

ص: 216


1- 1 . کما عن المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله فی مصباحه 4/55.
2- 2 . کما عن المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله فی مصباحه 4/56.
الوجه السادس: الروایات الواردة فی الاِتِّجار بمال الیتیم

قال المحقّق فی مَنْ تجب علیه الزکاة: «فالبلوغ یعتبر فی الذهب و الفضة إجماعا. نعم، إذا اتَّجرَ له مَنْ إلیه النظر استُحِبَّ له إخراج الزکاة من مال الطفل. و إن ضمنه و اتجَّرَ لنفسه و کان ملیّا و کان الربح له و یُسْتَحَبُّ له الزکاة، أمّا لو لم یکن ملیّا أو لم یکن ولیّا کان ضامنا و للیتیم الربح و لا زکاة هنا»(1).

فی الفرض الثانی من الأخیر فی کلام المحقّق قدس سره بأنّ المُتاجِر بمال الیتیم لو لم یکن الولیّ غنیّا أو لم یکن المتاجِر ولیّا کان ضامنا لماله و الربح للیتیم و لا زکاة هنا، ذهب جماعة من الفقهاء تبعا للشهید فی الدروس(2) من أنّ التجارة کانت بإذن الولی بعدها فتصیر من أفراد الفضولی.

منهم: المحقّق الثانی(3) و الشهید الثانی(4) و السیّد محمّد العاملی(5) و صاحب الحدائق(6) و صاحب الجواهر(7).

ولو حملت الروایات علی إطلاقها - کما عن جماعة ممّن تقدّم - لم تکن من أفراد الفضولی ولکن یستأنس بها له بما مرّ من عدم اعتبار الإذن السابق من المالک فی نقل ماله إلی الغیر، و لأنّ صحة الاتّجار بمال الغیر بدون إذن سابق و لا إجازة لاحقة یقتضی صحتها بعد الإجازة بطریق اُولی.

و من هذه الجماعة المتقدّمة: الشیخ(8) و ابن ادریس(9) و المحقّق(10) و العلاّمة(11)

ص: 217


1- 1 . الشرائع 1/128.
2- 2 . الدروس 1/229.
3- 3 . جامع المقاصد 3/5.
4- 4 . المسالک 1/375.
5- 5 . المدارک 5/30.
6- 6 . الحدائق 12/26.
7- 7 . الجواهر 15/23 طبعة اسلامیة.
8- 8 . النهایة /175، المبسوط 1/234.
9- 9 . السرائر 1/441.
10- 10 . الشرائع 1/128.
11- 11 . تذکرة الفقهاء 5/14، القواعد 1/329.

و ابنه(1). و تبعهم سیّد الریاض(2).

ولو حملت الروایات علی إِطلاقها ربما احتمل(3) دخولها فی مسألة الفضولی بأنّ الحکم بالصحة إجازة إلهیّة لاحقة للمعاملة، فتأمل.

هذه مقالة الشیخ الأعظم(4) حول هذا الوجه. و أمره بالتأمل لَعَلَّهُ إشارة إلی أنّ حکم الشارع أجنبیٌّ عن الإجازة اللاحقة للعقد لأنّه ثابت حین العقد و قبله و لیس حادثا بعد العقد حتی عُدّ من الإجازة اللاحقة، أو أنّ مورد عقد الفضولی هو إجازة مالک أمر العقد التی تکون جزء السبب المملِّک دون الشارع الذی تکون إجازته حکم العقد التام.(5) أو أنّ قیاس إذن مالک الحقیقی بإجازة مالک الاعتباری مع الفارق.

و قال قبله الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره : «و کذا [فیما دلّ علی حکم صحة الفضولی] الأخبار الواردة فی اقتراض مال الصبی - مع عدم الإذن الشرعی - لیتّجر به الدالة علی أنّ الربح للصبی و تطبیقها علی القواعد باشتراط الإجازة ممّن له أهلیتها أو بإغناء الموافقة للمصلحة الشرعیة عنها، اُولی من طرحها أو الجمود علیها فی مخالفة القاعدة»(6).

نقل صاحب الجواهر(7) عین عبارة اُستاذه الشیخ جعفر رحمهماالله .

ص: 218


1- 1 . إیضاح الفوائد 1/167.
2- 2 . ریاض المسائل 5/38.
3- 3 . الُمحْتَمِلُ هو الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد 2/75 و تبعه تلمیذه صاحب الجواهر 23/450 (22/277).
4- 4 . راجع المکاسب 3/360.
5- 5 . کما ذکره المحقّق المروج فی هدی الطالب 4/442.
6- 6 . شرح القواعد 2/75.
7- 7 . الجواهر 23/450 (22/277).

و قال تلمیذه الآخر جدنا الشیخ محمّد تقی قدس سره : «... ولو لا صحة العقد حینئذ مع الإجازة لما أمکن تصحیح ذلک، فإنّ مقتضی الفساد تغریم المتصرف لمال الصبی لضمانه بالتصرف المذکور، و العوض إلی مالکه، فتملّک الصبی الربح مبنیٌّ فی(1) صحة العقد من جهة الإجازة و إن لم یصرّح به فی الروایة أو بعد حصول الربح یکون مصلحة للیتیم فیجیزه الولیّ»(2).

و قال السیّد محمّد بحرالعلوم رحمه الله : «و منها: ما ورد مستفیضا - و فیه الصحیح و المعتبر - فیمن اتّجر بمال الطفل لنفسه بغیر إذن ولیّه أنّه یضمن المال و الربح للطفل أو الیتیم، و التقریب فیه ما تقدّم حرفا بحرف»(3).

أقول: هاهنا مقامان من البحث:

المقام الأوّل: حکم التجارة بمال الیتیم بمقتضی القواعد الشرعیة الأوّلیة

التجارة بماله تارة تکون من الولیّ و اُخری من الأجنبیّ:

أمّا تصرّف الولی فهو علی قسمین:

أ: تارة یستقرض مال الیتیم و یتّجر به لنفسه، فیکون ضامنا لمال الیتیم بضمان القرض و تنتسب التجارة للولی و الربح یکون له. و النصوص أیضا تدلّ علی صحة هذا التصرف کما یأتی.

ب: اُخری یتصرف الولیّ فی مال الیتیم و یتّجر به للیتیم مضاربة بأنّ یجعل سهما من الربح له أو حتّی کلّه له، و لا شبهة فی صحة هذا التصرف لأنّه کان بمقضی ولایته، و لا ضمان علی الولیّ حینئذ لعدم الضمان علی الأمین و المحسن.

أمّا تصرّف الأجنبی فأیضا یکون علی قسمین:

أ: تارة یتعامل بثمن ما فی ذمّته ثم یسدّده من مال الیتیم، فمقتضی القواعد ضمانه بالنسبة إلی مال الیتیم لأنّه یتصرف فیه من دون إذن، و صحة معاملة المتعامل لنفسه و

ص: 219


1- 1 . کذا فی المطبوعة، و الاُولی تبدیله ب-«علی».
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/334.
3- 3 . بلغة الفقیه 2/214 و نقل عنه السیّد الخوئی فی مصباحه 4/58 و ردّ علیه.

تملّکه للربح.

ب: و اُخری یتعامل بعین مال الیتیم فمعاملته هذه تکون فضولیة و یتوقّف صحتها علی إجازة الولیّ فإن أجازها صحت و إلاّ تکون فاسدة.

هذا کلّه فی المقام الأوّل.(1)

المقام الثانی: ما یستفاد من النصوص فی حکم الإتجار بمال الیتیم

لابدّ أوّلاً من سرد الروایات ثمّ بیان ما یستفاد منها وَ هِیَ کثیرة:

منها: معتبرة أو صحیحة سعید السّمان قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: لیس فی مال الیتیم زکاة إلاّ أن یتّجر به، فإن اتّجر به فالربح للیتیم، و إن وضع فعلی الذی یتّجر به.(2)

و منها: صحیحة زرارة و بکیر عن أبی جعفر علیه السلام قال: لیس علی مال الیتیم زکاة إلاّ أن یتّجر به، فإن اتّجر به ففیه الزکاة و الربح للیتیم، و علی التاجر ضمان المال.(3)

و منها: معتبرة أبی الربیع قالت: سُئل أبو عبداللّه علیه السلام عن الرجل یکون فی یدیه لأخ له یتیم و هو وصیّه أیصلح له أن یعمل به؟ قال: نعم، کما یعمل بمال غیره و الربح بینهما، قال: قلت: فهل علیه الضمان؟ قال: لا، إذا کان ناظرا له.(4)

و منها: موثقة منصور الصیقل قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن مال الیتیم یعمل به؟ قال: فقال: إذا کان عندک مالٌ و ضمنته فلک الربح و أنت ضامن للمال، و إن کان لا مال لک و عملت به فالربح للغلام و أنت ضامن للمال.(5)

و منها: معتبرة أسباط بن سالم قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : کان لی أخ هلک، فأوصی إلی أخ أکبر منّی و أدخلنی معه فی الوصیة و ترک ابنا له صغیرا و له مال، أفیضرب

ص: 220


1- 1 . العقد النضید 3/79.
2- 2 . وسائل الشیعة 9/87، ح2، الباب 2 مَنْ أبواب من تجب علیه الزکاة.
3- 3 . وسائل الشیعة 9/89، ح8.
4- 4 . وسائل الشیعة 9/89، ح6.
5- 5 . وسائل الشیعة 9/89، ح7.

به أخی؟ فما کان من فضل سلّمه للیتیم و ضمّن له ماله؟ فقال: إن کان لأخیک مال یحیط بمال الیتیم إن تلف فلا بأس به، و إن لم یکن له مال فلا یعرض لمال الیتیم.(1)

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام فی مال الیتیم، قال: العامل به ضامن و للیتیم الربح إذا لم یکن للعامل مال، و قال: إن عطب أدّاه.(2)

و منها: صحیحة ربعی بن عبداللّه عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: فی رجل عنده مال الیتیم، فقال: إن کان محتاجا و لیس له مال فلا یمسّ ماله، و إن هو اتجر به فالربح للیتیم و هو ضامن.(3)

و منها: خبر أسباط بن سالم قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام فقلت: أخی أمرنی أن أسألک عن مال الیتیم فی حجره یتّجر به؟ فقال: إن کان لأخیک مال یحیط بمال الیتیم إن تلف أو أصابه شی ء غرمه له و إلاّ فلا یتعرض لمال الیتیم.(4)

سند الروایة علی القول باعتبار سهل بن زیاد معتبر.

و منها: صحیحة منصور بن حازم عن أبی عبداللّه علیه السلام فی رجل ولیّ مال یتیم أیستقرض منه؟ فقال: إنّ علی بن الحسین علیه السلام قد کان یستقرض من مال أیتام کانوا فی حجره، فلا بأس بذلک.(5)

و منها: خبر البزنطی قال: سألت أبالحسن علیه السلام عن الرجل یکون فی یده مال لأیتام فیحتاج إلیه فیمدّ یده فیأخذه و ینوی أن یردّ، فقال: لاینبغی له أن یأکل إلاّ القصد و لا یسرف، فإن کان من نیّته أن لا یردّه علیهم فهو بالمنزل الذی قال اللّه عزّوجلّ: «إنّ الذین یأکلون أموال الیتامی ظلما»(6).(7)

ص: 221


1- 1 . وسائل الشیعة 17/257، ح1، الباب 75 من أبواب ما یکتسب به.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/257، ح2.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/257، ح3.
4- 4 . وسائل الشیعة 17/258، ح4.
5- 5 . وسائل الشیعة 17/258، ح1، الباب 76 من أبواب ما یکتسب به.
6- 6 . سورة النساء /10.
7- 7 . وسائل الشیعة 17/259، ح2.

سند الروایة علی القول باعتبار سهل بن زیاد معتبرٌ.

و منها: مرفوعة زرارة و محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: مال الیتیم إن عمل به الذی وضع علی یدیه ضمن و للیتیم ربحه. قالا: قلنا له: قوله: «و من کان فقیرا فلیأکل بالمعروف»(1) قال: إنّما ذلک إذا حبس نفسه علیهم فی أموالهم فلم یجد نفسه فلیأکل بالمعروف من مالهم.(2)

یظهر من الروایات جواز استقراض الولیّ من مال الیتیم، و کذلک اتّجاره به لنفسه أولهما مضاربة أو للیتیم خاصة لکنّ الإتجار منوط بأنّ للولی مال یحیط بمال الیتیم، فإن کان له مال یحیط بماله یجوز له الإتجار به، و الربح علی ما قصد من أنّه مشترک أو للیتیم و لیس علی الولی ضمان، و ان لم یکن للولی مال یحیط بماله و اتّجر بمال الیتیم یکون الولی ضامنا للخسارة و الربح کلّه یکون للیتیم حینئذ. هذا ما یستفاد من الروایات بالنسبة إلی تصرفات الولی.

و أمّا الأجنبیُّ فَإِنْ کان مأذونا من الولی فی تصرفاته یجری علیه ما جری علی الولیّ طابقا النعل بالنعل و إن لم یکن له الإذن من الولی فلا یجوز له التصرف فی مال الیتیم فیکون ضامنا فی جمیع الأحوال و أمّا الربح الحاصل من تجارته لِمَنْ؟ له أو لهما أو للیتیم خاصة؟ إطلاق الروایات یدلّ علی أنّه للیتیم خاصة نحو: معتبرة أو صحیحة سعید السّمان(3) و صحیحة زرارة و بکیر.(4)

و أنت تری أَنَّ المستفاد من النصوص لا ینطبق علی القواعد الأوّلیة إلاّ فی استقراض الولی من مال الیتیم فقط، فهذه الروایات تؤخذ بها فی موردها الخاص تعبدا.

نعم، فی الفرض الأخیر و هو تصرف الأجنبی من دون الاستیذان من الولی، من

ص: 222


1- 1 . سورة النساء /6.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/258، ح5.
3- 3 . وسائل الشیعة 9/87، ح2.
4- 4 . وسائل الشیعة 9/89، ح8.

الحکم بالضمان فی فرض الخسارة و الربح للیتیم کلّه یأتی فیه محتملات الشیخ الأعظم رحمه الله الثلاث، و لذا یمکن أن یکون دلیلاً علی صحة الفضولی علی الاحتمال الأوّل و هو ظهور إذن الولی بعد الربح، أو یستأنس منه الحکم الفضولی علی الاحتمال الثانی کما مرّ، و أمّا الاحتمال الثالث - و هو الإجازة الالهیّة - لم یتم بما مرّ.

و الحاصل: نحن مع الشیخ الأعظم رحمه الله و غیره من الأعلام الذی مرّ ذکرهم فی صحة الاستدلال بهذه الروایات و الحمدللّه.

ص: 223

الوجه السابع: روایة موسی بن أشْیَم

(1)

ذکرها الشیخ الأعظم(2) بعنوان المؤیِّد ولکن ظاهر المحقّق التستری(3) الاستدلال بها و جماعة(4) یردّون التأیِیْدَ و الدلالة.

و هی رِوایَةُ موسی بن أشْیَم عن أبی جعفر علیه السلام عن عبدٍ لقوم مأذون له فی التجارة دفع إلیه رجل ألف درهم فقال: اشتر بها نسمة و أعتقها عنّی و حجّ عنّی بالباقی ثمّ مات صاحب الألف فانطلق العبد فاشتری أباه فاعتقه عن المیت و دفع إلیه الباقی یحج عن المیت فحج عنه، و بلغ ذلک موالی أبیه و موإلیه و ورثة المیت جمیعا فاختصموا جمیعا فی الألف، فقال موالی العبد المعتَق: إنّما اشتریتَ أباک بمالنا، و قال الورثة: إنّما اشتریت أباک بمالنا، و قال موالی العبد: إنّما اشتریت أباک بمالنا، فقال أبوجعفر علیه السلام : أمّا الحجة فقد مضت بما فیها لا تردّ، و أمّا المعتَق فهو رُدّ فی الرقّ لموالی أبیه، و أیُّ الفریقین بعد أقاموا البینة علی أنّه اشتری أباه من أموالهم کان له رقا.(5)

و السند ضعیف بموسی بن أشیم لأنّه کان من الخطّابیّة - و هم طائفة من الغلاة

ص: 224


1- 1 . ضبطه السیّد الجزائری فی شرح التهذیب «اُشَیْم» بضم الهمزة و فتح الشین کما فی هدایة الطالب 3/36. ولکن قال المامقانی: «أشْیَم: بفتح الهمزة و سکون الشین المعجمة و فتح الیاء المثناة من فوق بعدها میم وزان أحْمَر». تنقیح المقال 5/329. و قال ابن منظور فی لسان العرب 12/332: «الأشْیَمُ و شَیْمانُ: اسمان». و ضبطه فی هامش توضیح المشتبه 1/233.
2- 2 . المکاسب 3/361.
3- 3 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /26.
4- 4 . کالسیّد الیزدی فی حاشیته 2/121، و الأصفهانی فی حاشیته 2/94، و الإیروانی فی حاشیته 2/222، و المحقّق النائینی فی منیة الطالب 2/25، و السیّد الخوئی فی مصباحه 4/69، و محاضراته فی الفقه الجعفری 2/331.
5- 5 . وسائل الشیعة 18/280، ح1، الباب 25 من أبواب بیع الحیوان.

منسوبة إلی أبی الخطاب و تزعمون أنّ الأئمة علیهم السلام أنبیاء ثم آلهة - و قُتل مع أبی الخطاب(1) و ذمّه الصادق علیه السلام و له روایة واحدة.

تقریب الاستدلال أو التأیِیْد: بالنسبة إلی العبد المعتَق ثلاث دعاوی موجودة:

أ: موالی الأب یدعون أنّ العبد المأذون إنّما اشْتُرِیَ بمالهم فیبطل الشراء لأنّه حینئذ یکون الثمن و المثمن من مال واحد فَالْمُعْتَق باق فی ملکهم.

ب: موالی العبد المأذون یدعون أنّ المعتق یشتری من مالهم فهو لهم، و حیث یکون العبد مأذونا فی الشراء لهم فلا یکون حینئذ فضولیا، بناءً علی أن یکون إذنه أو وکالته عامة بحیث یشمل شراء العبید، و إلاّ یکون الشراء بالنسبة إلیهم أیضا فضولیّا.

ج: ورثة المیت یدعون أنّ المعتَق یشتری من أموالهم فهو لهم، و حیث أنّهم لم یجیزوا هذا الشراء من قبل و هم یریدون العبد المعتق فتکون المعاملة بالنسبة إلیهم فضولیّةً، لبطلان الوکالة بموت الموکِّل و انتقال ماله إلی ورثته.

و فی إجابة الإمام علیه السلام حکم أوّلاً بصحة الحج ثمّ رجوع العبد المعتَق (الأب) إلی موإلیه السابق و المدعیان الآخران لابدّ أن یأتیا بالبیّنة، فأیّهما أتی بالبیّنة بأنّ العبد المعتَق (الأب) یشتری من ماله فهو له.

و یظهر الاستدلال بأنّ الإمام علیه السلام حکم بإعطاء الأب المعتَق إلی ورثة المیت بعد إقامة البینة مع أنّ المعاملة بالنسبة إلیهم فُضولیّةٌ و مطالبتهم الأب تکون فی حکم إجازتهم للبیع و بعد إقامة البینة من الشراء من مالهم فهو لهم. فیتم الاستدلال بها فی صحة العقد الفضولی أو التأئید له.

و لذا قال المحقّق التستری: بأنّه علیه السلام اکتفی فی الحکم بتملّک العبد بثبوت کون الشراء وقع بماله، فلو لم تکن إجازة المالک الفضولی کافیة فی صحة العقد لم یکن کذلک، لعدم استلزام العام للخاص فتدّبر»(2).

ص: 225


1- 1 . راجع معجم رجال الحدیث 19/17.
2- 2 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /26.

و قال الشیخ الأعظم: «بناءً علی أنّه لو لا کفایة الاشتراء بعین المال فی تملّک المبیع بعد مطالبته المتضّمنة لإجازة البیع، لم یکن مجرد دعوی الشراء بالمال و لا إقامة البینة علیها کافیة فی تملّک المبیع»(1).

ولکن یرد علی الاستدلال أو التأیِیْدِ: إذا کان العبد مأذونا فی التجارة من قِبَلِ موإلیه لهم و لغیرهم و أجری عقدا فتعیین مَنْ له العقد یکون بید العبد العاقد إذا اشتری بالذمة کما هو الغالب و المتعارف فی المعاملات، نعم إذا اشتری بالثمن الخارجی الخاص تکون المعاملة شخصیّة و لِمَنْ له الثمن، و الاستدلال أو التأیِیْدِ للفضولی یبتنی علی شخصیة المعاملة و تنفیه المتعارف و الغالبیة فی المعاملات هذا أوّلاً.

و فیه: مورد الروایة الشراء بمالهم - و لذا ادعی کلّ من الورثة و المَوالی أنّ الشراء کان بمالهم - و ظاهرها الشراء بالثمن الخارجی الخاص و عین أموالهم فتکون المعاملة شخصیّة و مضافا إلی أنّ الغالب فی المعاملات معاطاةٌ و هی لاتتم إلاّ بالمعاوضة بین الأعیان الخارجیة نوعا، و مضافا إلی أنّ حجیة قول من لایعلم الأمر إلاّ من قبله فی مقام التخاصم غیر ظاهرة بنحو الإطلاق کما عن المحقّق السیّد الخمینی(2) رحمه الله .

و ثانیا: الفضولیة لا تثبت إلاّ بعد سقوط الإذن و الوکالة و لا سبیل إلی إحراز السقوط إلاّ فی بعض محتملات الروایة کما مَرَّ.

و فیه: مورد الروایة الشراء بعد الموت و به تسقط الوکالة و تَتُمُّ الفضولیة.

و ثالثا: متن الروایة مخالف لعدّة من القواعد العامة الجاریة فی الفقه:

منها: عدم صحة حج العبد من دون إجازة مولاه، بعد ارجاع العبد إلی موإلیه الأوّلِیْنَ یظهر عدم تمامیة تحریره فحین الحج یکون عبدا و لم یأذن مولاه فیه و تصرف العبد بأعمال الحج فی نفسه تصرف فی ملک مولاه من دون إذنه و هو حرام و النهی فی العبادة مبطل لها.

ص: 226


1- 1 . المکاسب 3/361.
2- 2 . کتاب البیع 2/130.

و ما ذکره المحقّق السیّدُ الخمینی تحت عنوان: «یمکن أن یقال: أن قوله علیه السلام : «الحجة قد مضت بما فیها لا ترد»، لا یکون بصدد بیان حکم الحج صحة و فسادا، بل بصدد التقابل بینه و بین العبد، بأنّ العبد باق قابل للردّ دون الحج الذی مضی و تصرم...»(1).

غیر تام لأنّ «ظاهر مضی الحج صحته، و ظاهر عدم ردّه عدم جواز استرداد ما دفع إلیه بعنوان الاُجرة علی الحج»، کما عن شیخنا الاستاذ(2) رحمه الله .

و مضافا لأنّ «المراد بردّ العبد إلی موإلیه لیس هو الردّ الخارجی التکوینی بل المراد به الردّ التشریعی و هو الحکم برقّیّته، فالمقصود بعدم ردّ الحج بقرینة المقابلة هو عدم الردّ شرعا، أی الصحة»(3).

نعم، بطلان الحج لیس مستندا علی أنّ صحة حجّ العبید مشروطة بإذن الموالی - کما علیه شیخنا الاُستاذ(4)- أو أنّ الإذن المقارن شرط لصحة المناسک - کما علیه المحقّق السیّد المروج(5)- بل حجة الإسلام مشروطةٌ بالحریّة فقط و مع عدم إذن المولی تکونُ تصرفات العبد بأعمال الحج تصرفا فی ملک الغیر فیکون مَنْهِیّا عنه و باطلاً لاستلزام أنّ النهی فی العبادة یَدُلُّ علی البطلان، حتّی علی القول بجواز اجتماع الأمر و النهی علی المختار بأنّ المُبَعِّد لا یکون مُقَرِّبا.

و أمّا مع فرض غفلة العبد عن بطلان عتقه لا یترتب النهی - لأنّ نهی الغافل قبیح - و إذا لم یکن نَهْیا لا تبطل العبادة و یشملها مادل علی مشروعیة الحج عن نفسه أو غیره. فتکون الحجّة صحیحة، هذا غایة ما یمکن أن یقال فی تصحیح الحج فإن قبلتَ فهو و إلاّ فتحمل علی التعبد الخاص.

ص: 227


1- 1 . کتاب البیع 2/129.
2- 2 . إرشاد الطالب 3/318.
3- 3 . کما عن المحقّق المروج فی هدی الطالب 4/449.
4- 4 . إرشاد الطالب 3/318.
5- 5 . هدی الطالب 4/450.

و منها: مقتضی قواعد باب القضاء تقدیم قول الورثة لأنّهم منکرون لموافقة قولهم الحجّة لأنّ قول الوکیل حجّة فی المقام فیکون الورثة منکرا و غیرهم مدعیّا، فتقدیم قول موالی العبد المدعیین و إرجاعه رقّا لهم خلاف قواعد باب القضاء.

و فیه: أنّ العبد المأذون کان وکیلاً للمیت و بَطَلَتْ وکالته بموته و ظاهر الروایة وقوع الشراء و العتق و الحج بعد موت الموکِّل و بعد بطلان الوکالة لا یکون قول الوکیل حجّة حتّی یکون قول الورثة من حیث مطابقته مع قول الوکیل حجّة فیرتفع الاشکال من رأسه.

و منها: ما ورد فی الروایة من رجوع العبد إلی موإلیه السابقین کان مورد الاستصحاب لکنّه مخالف لأصالة الصحة الحاکمة علیه المقتضیة لخروج العبد عن ملکهم.

و فیه: مورد أصالة الصحة الشک فی صحة العقد بعد تحققه و وجوده و مع قابلیته للصحة أو الفساد، و أمّا إذا دار الأمر بین أمرین أحدهما الصحیح و الآخر لیس عقدا و معاملة أصلاً، لأنّ اشتراء العبد بمال مالکه لا یکون معاملة فیحنئذ لا یحرز العقدیة و الصحة بأصالة الصحة.

و بعبارة اُخری: أصالة الصحة لا تجری إلاّ مع إحراز عنوان العمل المشکوک صحته ککونه بیعا أو إجارة أو غیرهما إذ مع عدم إحراز عنوانه لا یترتب علی جریانها أثرا، بل یجری فیه أصالة العدم و ینفی ترتب العنوان الخاص ففی المقام یجری أصالة عدم وقوع البیع و تنفی البیعیّة و لا تصل النوبة إلی أصالة الصحة.

و منها: الرجوع إلی الموالی السابِقِیْنَ مطابق للاستصحاب ولکنه مخالف لقاعدة «من ملک شیئا ملک الاقرار به» لأنّ العبد المأذون المالک لأمر العقد یعترف بالشراء بمال المیت فیقدّم قوله علی الأصل العملی و هو الاستصحاب.

و قال الشیخ الأعظم بالنسبة إلی هذه القاعدة: «ولکن الانصاف أنّ القضیة المذکورة [قاعدة من ملک...] فی الجملة إجماعیة بمعنی أنّه ما من أحد من الأصحاب ممّن وصل إلینا کلامهم إلاّ و قد عمل بهذه القضیة فی بعض الموارد بحیث نعلم أن لا مستند له سواها، فإنّ من ذکرنا خلافهم إنّما خالفوا فی بعض موارد القاعدة ولکنّهم عملوا

ص: 228

بها فی مورد آخر»(1).

و فیه: نعم، علی قاعدة من ملک یعتبر قول العبد المأذون فی الشراء قبل موت صاحب الألف لأنّه کان مالکا حین الإقرار و کان إقراره حال تسلّطه علی الشراء بقرینة «ملک» الاُولی الواردة فی القاعدة، و أمّا بعد موته فلا عبرة بإقراره لارتفاع سلطنته و مالکیته لأمر العقد، لانعزال الوکیل بموت الموکِّل فلا یکون إقراره بعد الموت نافذا.

و منها: «الظاهر من الروایة أنّ الدافع دفع الألف بعنوان الوصیة فورثته یدّعون الشراء بالألف لیکون ولاء العتق لهم و یؤید ذلک قوله علیه السلام : «أمّا الحجة فقد مضت بما فیه لا تردّ» فالورثة لا ینکرون الوصیة حتّی یکون شراء العبد المأذون أباه فضولیا» کما عن المحقّق النائینی(2)، فلا یتم الحکم بارجاع العبد المعتَق إلی موالیه، و لا الحکم علیه لِمَنْ أقام البینة، لتمامیة عتقه فلا یرجع إلی الرق.

و فیه: لم یکن فی الروایة ما یدل علی صدور الوصیة من صاحب المال، و یمکن تصحیح الحج بما مرّ فلا نحتاج لتصحیحه إلی الوصیة، و الورثة لا یدعون ولاء العتق بل یدعون أنّه رقهم و لایعترفون بحرّیّته، مضافا إلی أن ولاء العتق مشروط بکون التبرع فی العتق، فلو کان العتق واجبا کالکفارة و النذر لم یثبت فحینئذ ثبوت ولاء العتق مشکوک فیه و مقتضی الأصل عدمه.

و بالجملة: حیث أجبنا عن المناقشات یمکن تأیید بیع الفضولی بروایة ابن اشیم کما علیه الشیخ الأعظم و تبعه المحقّقون الهَمَدانی(3) و الشهیدی(4) و الخمینی(5) و ظاهر شیخنا الاُستاذ(6) رحمه الله حیث استشکل علیه بضعف السند فقط.

ص: 229


1- 1 . الطهارة 2/450، رسائل فقهیة /194.
2- 2 . منیة الطالب 2/23.
3- 3 . حاشیة المکاسب /200.
4- 4 . هدایة الطالب 3/38.
5- 5 . کتاب البیع 2/129.
6- 6 . إرشاد الطالب 3/318.
الوجه الثامن: صحیحة الحلبی

التی رواها المشایخ الثلاثة بسند صحیح عنه قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن رجل اشتری ثوبا (و لم یشترط علی صاحبه شیئا فکرهه) ثمّ ردّ علی صاحبه، فأبی أن یقیله إلاّ بوضعیة قال: لا یصلح له أن یأخذه بوضیعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأکثر من ثمنه ردّ علی صاحبه الأوّل ما زاد.(1)

الإقالة بالوضعیة باطلة عند الأصحاب - کما علیها الصحیحة - إلاّ ابن الجنید.

قال فی القواعد: «الأقالة فسخ لا بیع فی حقّ المتعاقدین و غیرهما، و شرطها عدم الزیادة و النقصان فی الثمن فتبطل بدونه...»(2).

و قال فی شرحه فی المفتاح: «... و هی فسخ لا بیع إجماعا کما فی مجمع البرهان(3) و عندنا کما التذکرة(4) و الروضة(5)، و إلیه ذهبت الإمامیة کما فی کشف الحقّ(6) فی حقِّ المتعاقدین و غیرهما، سواء کان قبل القبض أو بعده کما فی الوسیلة(7) و الخلاف(8) و التحریر(9)، و سواء وقعت بلفظ الفسخ أم الإقالة کما فی التذکرة(10) و الروضة(11)، و لا تثبت بها الشفعة عندنا کما فی التذکرة(12)»(13).

ص: 230


1- 1 . وسائل الشیعة 18/71، ح1، الباب 17 من أبواب أحکام العقود.
2- 2 . قواعد الأحکام 2/97.
3- 3 . مجمع الفائدة و البرهان 9/46.
4- 4 . تذکرة الفقهاء 12/117.
5- 5 . الروضة البهیة 3/546.
6- 6 . نهج الحق و کشف الصدق /488.
7- 7 . الوسیلة /257.
8- 8 . الخلاف 3/205.
9- 9 . تحریر الأحکام الشرعیة 2/440.
10- 10 . تذکرة الفقهاء 12/117.
11- 11 . الروضة البهیة 3/546.
12- 12 . تذکرة الفقهاء 12/118.
13- 13 . مفتاح الکرامة 14/834.

و قال فی شرح قوله: «و شرطها...»: «إجماعا کما سمعت حکایته عن الخلاف(1) و کشف الحقّ(2) و به - أی الشرط المذکور- طفَحت عبارتهم... و لا فرق فی الزیادة بین أن تکون عینیة أو حکمیة...»(3).

و قال فی شرح قوله: «فتبطل بدونه»: أی الإقالة بدون الشرط کما فی الوسیلة(4) و الشرائع(5) و غیرهما(6) و استدل علیه فی الخلاف(7) بالإجماع المرکّب و ستسمع عن الشهید(8) نسبته إلی الأصحاب»(9).

و فی الجواهر: «... و اصطلح المتبایعان بزیادة أو نقیصة صح عند ابن الجنید و الأصحاب علی خلافه لأنّها فسخ لا بیع»(10).

و إذا کانت هذه الإقالة باطلة فالعین للمشتری، و البائع جاهل بأنّها له و باعه بأکثر من ثمنه الأوّل، لابدّ له من ردّ الزیادة إلی المشتری الأوّل لأنّ العین کانت له فیقع بیع البائع للعین فضولیّا و للعلم بإجازة المشتری الأوّل للبیع إذا أخبره بالمال عادة. فردّ الزیادة علی المشتری لا تتم إلاّ بصحة بیع الفضولی.

فالصحیحة تدلّ علی صحة بیع الفضولی و لذا استدلّ جماعة من الفقهاء بها:

منهم: الجدّ الشیخ جعفر قال: «و للصحیحة عن الصادق علیه السلام : أنّه لا یجوز لمن باع

ص: 231


1- 1 . الخلاف 3/205.
2- 2 . نهج الحق و کشف الصدق /488.
3- 3 . مفتاح الکرامة 14/835.
4- 4 . الوسیلة /257.
5- 5 . الشرائع 2/60.
6- 6 . کالکفایة 1/525.
7- 7 . الخلاف 3/206.
8- 8 . الحاشیة النجاریة /260.
9- 9 . مفتاح الکرامة 14/835.
10- 10 . الجواهر 24/353.

ثوبا أن یأخذه من المشتری بوضیعة فإن أخذه جهلاً فباعه بأکثر من ثمنه، ردّ علی صاحبه الأوّل مازاد»(1).

و قال الجدّ العلاّمة التقی رحمه الله : «و وجوب دفع الزاید علی صاحبه مبنیٌّ علی صحة العقد، للعلم بإجازته له إذا أخبره بالمال کما هو قضیة المقام و حینئذ فدلالتها علی المدّعی ظاهرة، و مع الغص عنه فلابدّ من تقیید إطلاقها بذلک للإجماع علی عدم صحة العقد مع عدم إجازة المالک»(2).

و أنت تری بأنّ الجدّین استدلاّ بالصحیحة له ولکن صاحبا الجواهر و المکاسب یؤیّدان صحة بیع الفضولی بالصحیحة.

قال صاحب الجواهر فی عداد المؤیدات: «و فیمن باع ثمّ أقال بوضیعة ثمَّ باع بأکثر من الثمن: أنّ الربح للمالک الذی اشتری أوّلاً»(3).

و قال الشیخ الأعظم: «فإنّ الحکم بردّ مازاد لاینطبق بظاهره إلاّ علی صحة بیع الفضولی لنفسه»(4).

و قال تلمیذه المامقانی: «و إذا صح بیع الفضولی لنفسه و لزم بإجازة المالک فصحة بیع الفضولی للمالک و لزومه بإجازته اُولی»(5).

و یری السیّد الحکیم عدم البأس بالاستدلال بها لصحة بیع الفضولی ولکن تأمّل فی آخر کلامه حیث یقول بعد روایة مسمع [التی تأتی]: «و قریب منه صحیح الحلبی الوارد فی الإقالة بوضیعة فتأمّل»(6).

ص: 232


1- 1 . شرح القواعد 2/79.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/338.
3- 3 . الجواهر 23/451 (22/279).
4- 4 . المکاسب 3/362.
5- 5 . غایة الآمال /357.
6- 6 . نهج الفقاهة /359.

ولکن استشکل علی الاستدلال أو التأیید بوجوه:

الأوّل: الاحتمال البعید فی کلام الفقیه الیزدی

قال: «و یمکن علی بُعد أن یحمل علی شرائه ثانیا من المشتری بوضیعة و حینئذ فیکون المراد من عدم الصلاح الکراهة [و] من ردّ الزیادة ردّها علی وجه الاستحباب فلا دخل لها بالفضولی أصلاً، إذ یکون الثوب حینئذ للبائع لأنّه رجع إلیه بالشراء من المشتری بوضیعة و لا دخل له بصاحبه الأوّل و هو المشتری»(1).

و تبعه الشیخ أبوالحسن الشعرانی فی تعالیقه علی الوافی.(2)

أقول: و هذا الاحتمال کما إعترف ببعده الفقیه السیّدُ الیزدی رحمه الله لا یتم مع جملة «ثمّ ردّ علی صاحبه فأبی أن یقیله إلاّ بوضیعة» الواردة فی کلام السائل حیث صرّح بالإقالة و هو غیر البیع بل فسخه، و کذا لا یتم مع جواب الإمام علیه السلام : «لا یصلح له أن یأخذه بوضیعة» و هذ الأخذ یرجع إلی ذاک الردّ و هو إذا کانت الإقالة - کما هو المستفاد من سُؤالِ الحلبی - «لا یصلح» یحمل علی الحرمة الوضعیة لا الکراهة کما علیه الأصحاب من بطلان الإقالة بزیادة أو نقیصة کما مرّ من صاحبی المفتاح و الجواهر.(3)

و کذلک ظهور ردّ مازاد علی الوجوب لا ینکر، فحمله علی الاستحباب مشکل.

نعم، هناک خلاف فی ضبط کلمة «یقیله» بالیاء الثانیة و هی المرویة فی الفقیه(4) و الوافی(5) و الوسائل(6) و بعض نسخ الکافی(7) و مرآة العقول(8)، بتبدیله بالباء الموحدة

ص: 233


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/121.
2- 2 . الوافی 17/441.
3- 3 . الجواهر 24/353.
4- 4 . الفقیه 3/217، ح3806.
5- 5 . الوافی 17/441.
6- 6 . وسائل الشیعة 18/71، ح1.
7- 7 . کما فی الکافی 10/151.
8- 8 . مرآة العقول 19/212، حیث یقول فیه: «و یدلّ علی ما هو المشهور بین الأصحاب من أنّه لا یجوز الاقالة بزیادة علی الثمن و لا نقصان منه».

«یقبله» کما فی متن الکافی(1) و التهذیب(2). و علی القرأة الثانیة «یقبله» بالباء الموحدة یرفع البعد عن احتمال الفقیه الیزدی رحمه الله و یأتی فی المقام و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

اللهم إلاّ أن یقال: ولو کانت ما ورد فی الروایة کلمة «یقبله» بالباء الموحدة مع ذلک تدلّ علی الإقالة لا المعاملة الحدیثة بقرینة کلمة «ردّ» الواردة قبلها حیث لا یصدق الردّ إلاّ فی الإقالة، ولو کانت المعاملة الجدیدة لابدّ أن یقال «باع» أو «صالح» و نحوهما.

و هنا جواب آخر للسیّد الیزدی یأتی فی ضمن إِشْکالِ المحقّق الإیروانی فانتظر.

الثانی: مقالة المحقّق الإیروانی

قال: «ظاهر التعبیر بلفظ لا یصلح فی الصحیحة و ظاهر تعلیق ردّ مازاد علی بیع أخذه بأکثر ممّا أخذ دلیل الکراهة و أنّ ردّ مازاد علی وجه الاستحباب فتدلّ علی صحة الإقالة بوضیعة و «إلاّ»(3) باع أو لم یبع.

و علی تقدیر البیع بأیّ ثمن باع لم یکن له مخلص من المشتری الأوّل بل وجب علیه ردّ عین ماله فالصحیحة دلیل لابن الجنید القائل بصحة الإقالة بوضیعة و قد استدلوا بها علیه.

و أیضا لو کانت الإقالة باطلة و البیع الثانی فضولیّا لزم الاستجازة من المشتری الأوّل لا الحکم بردّ مازاد بضرس قاطع، إلاّ أن یقال: إنّ القطع حاصل برضاه إمّا مطلقا إذ رضی بالاقالة و مضی بسبیله أو فی صورة بناء البائع علی ردّ مازاد و هذا المقدار من الرضا کاف فی الإجازة و حینئذ یقال: إذا کان الرضا المذکور کافیا فی الإجازة کان کافیا فی خروج البیع عن الفضولیة إذا کان هذا الرضا سابقا علی العقد و من المعلوم سبق الرضا

ص: 234


1- 1 . کما فی الکافی 10/151.
2- 2 . التهذیب 7/56، ح42.
3- 3 . کذا فی المصدر و الظاهر زیادتها.

فی المقام علی العقد فلا تصلح الصحیحة للتأئید علی صحة الفضولی»(1).

أقول: و فیه: أوّلاً: لم تَکُنْ لفظة «لایصلح» ظاهِرَةً فی الکراهة و الشاهد علیها عدّة من الروایات التی تستعمل «لایصلح» فی الفساد و البطلان.(2) و لا أدری کیف یکون ظهور التعلیق فی الاستحباب حتّی فی المقام؟!

و ثانیا: علی تقدیر صحة الإقالة بالوضیعة - کما علیه ابن الجنید - کیف لم یکن مخلص من المشتری الأوّل و وجب علیه ردّ عین ماله، إذا کانت الإقالة بالوضیعة صحیحة تمّت مالکیة البائع علی العین فکیف وجب ردّ عین مال البائع إلی المشتری الأوّل؟! سبحان من لا یسهو.

و ثالثا: الإقالة باطلة و البیع الثانی یکون فضولیّا و لزم الاستجازة من المشتری الأوّل و یکفی فیها أخذه الزیادة و هذا الأخذ إجازة عملیّة فی بیع الفضولی.(3)

و الرضا لا یکفی فی الانتقالات کما مرّ مرارا، و لا یخرج البیع من الفضولیة. و بما ذکرنا یَظْهَرُ ضعف مقالة المحقّق الشهیدی حیث یقول: «لا وجه لذلک [تأئید بیع الفضولی بالصحیحة] أصلاً، إذ غایة ما یدلّ علیه قوله «لا یصلح» إنّما هو کراهة الإقالة بالوضیعة بل نفی رجحانها و أنّ طریق تدارک ذلک - علی تقدیر الإقدام علیها - ردّ مازاد علی صاحبه الأوّل فلا یرتبط بالفضولی، إذ الإقالة صحیحة إلاّ أنّها مکروهة و مع الصحة یکون البائع مالکا فیقع المبیع فی ملکه...»(4).

الثالث: احتمال المحقّق النائینی

قال: «و یحتمل أن یکون البائع اشتراه من المشتری ثانیا فیکون ردّ الزائد استحبابیّا. و یشهد لهذا قوله علیه السلام : «صاحبه الأوّل» فإنّ التعبیر بصاحبه الأوّل لا یناسب مع

ص: 235


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/223.
2- 2 . راجع وسائل الشیعة 17/341، ح1، الباب 4 من أبواب عقد البیع و شروطه، و 17/353، ح1 و 2 من الباب 11 من أبواب عقد البیع و شروطه.
3- 3 . کما علیه شیخنا الاُستاذ رحمه الله فی إرشاد الطالب 3/320.
4- 4 . هدایة الطالب 3/39.

کون الثوب ملکا للمشتری فعلاً»(1).

أقول: و فیه: مرّ هذا الاحتمال البعید من الفقیه السیّدِ الیزدی و المحقّقین الإیروانی و الشهیدی و قد عرفت ما فیه فلا نعید.

و قال السیّد الخوئی فی توضیح کلام استاده: «و الظاهر أنّ منشأ هذا الاحتمال إنّما هو ارجاع الضمیر فی کلمة «صاحبه» إلی لفظ «الثوب» فیکون معنی الروایة حینئذ أنّ البائع یردّ الزائد إلی صاحب الثوب و علیه فتدلّ الروایة علی أنّ من اشتری شیئا بثمن ثمّ باعه بأزید منه فیستحب له أن یردّ الزائد علی المالک الأوّل»(2).

و اعترض علیه بقوله: «إنّ ارجاع الضمیر إلی المال خلاف ظاهر الحدیث بملاحظه قوله علیه السلام : «ردّ» فإنّ وحدة السیاق تقتضی ارجاع الضمیر فی لفظة «صاحبه» إلی ما یرجع إلیه ضمیر «ردّ» یعنی أنّ البائع یردّ إلی صاحبه أی طرف معاملته الأوّل الذی هو المشتری الأوّل و علیه فلا یمکن استظهار أنّ البائع أیضا مالک و یحکم بذلک علی استحباب ردّ مازاد فی الإقالة، هذا.

مضافا إلی أنّا لو اغمضنا النظر عمّا ذکرناه أیضا لا یمکن إرجاع الضمیر إلی المال إذ البائع حینئذ لو ردّ لا یردّ إلاّ إلی المشتری و لیس هناک غیر المشتری مالک آخر یرد علیه مازاد، فلاوجه لوصف المشتری بالمالک الأوّل دفعا عن ردّه إلی غیره، و بالجملة لیس هناک مالک إلاّ المشتری و البائع، و البائع لا یردّ إلی نفسه فوصف المشتری بالمالک الأوّل لا یخلو عن البشاعة»(3).

أقول: و فیه: لا أدری کیف صار هذا الارجاع منشأ احتمال المحقّق النائینی، مضافا إلی أنّ الضمیر فی «صاحبه» و «یأخذه» و «فأخذه» و «فباعه» و «صاحبه الأوّل» فی کلّها یرجع إلی الثوب، و أمّا المراد من مجموع کلمتی «صاحبه الأوّل» فَهُوَ المشتری الأوّل، لأنّ هناک مُشْتَرِیَیْنِ الأوّل المستقیل الرادّ، و الثانی الذی اشتری بمازاد، فما

ص: 236


1- 1 . منیة الطالب 2/25.
2- 2 . مصباح الفقاهة 4/73.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/401.

ذکره قدس سره من قوله: «و بالجملة لیس هناک مالک إلاّ المشتری و البائع» لم یتم لأنّ البائع باع ماله إمّا بالمشتری الأوّل أو الثانی و لذا عبرّ عن المشتری الأوّل بصاحبه الأوّل فی مقابل المشتری الثانی الذی هو صاحبه الثانی، و لا بشاعة فی البین.

الرابع: مقالة المحقّق السیّد الخوئی

و قد جمع و بیّن مقالتی استاذیه النائینی(1) و الأصفهانی(2) و قال: «إِنّ الروایة غریبة عن بیع الفضولی إذ البیع الواقع بالزیادة لیس بفضولی لأنّه لو کان فضولیّا لکان فضولیّا من أصله من غیر فرق بین وقوعه علی ما یساوی الثمن المطلوب له بردّه و بین الزائد علیه لأنّ معنی الإقالة إنّما هو انفساخ العقد من أصله و رجوع کلّ من العوضین إلی صاحبه الأوّل... فلا وجه حینئذ لکون الناقص ملکا للبائع فی فرض الوضیعة و کون الزائد ملکا للمشتری فی فرض الزیادة.

... و یضاف إلی ذلک [تبیین مقالة الأصفهانی] أنّه یمکن أن یکون للمشتری غرض خاص من الاستقالة فإذا لم یقبلها البائع حین الاستقالة فاته ذلک الغرض و إذن فلا تؤثر إقالته بعد مدّة طویلة خصوصا مع ترق القیمة السوقیة...»(3).

و قال: «... لو کان البیع الواقع علی الثوب فضولیا لتوقف نفوذه علی إجازة المشتری و لم یتعرض الإمام علیه السلام لها أصلاً مع أنّه لیس البیع بالزائد موردا لإجازة المشتری أصلاً إذ لعلّ المبیع صار موردا للترقی بحسب القیمة السوقیة فیما بین زمان الإقالة و زمان البیع...»(4).

و قال: «... و فی المقام یکون نفس إقدام المشتری علی الإقالة دالاًّ علی الرضا بالمبادلة بالأکثر بالدلالة الالتزامیة حیث إنّه دالّ بالدلالة المطابقیة علی رضاه بأخذ البائع الثوب بالوضیعة و یدلّ علی جواز أخذه بالأکثر لغیر البائع بالدلالة الالتزامیة و إن لم

ص: 237


1- 1 . منیة الطالب 2/25.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/95.
3- 3 . مصباح الفقاهة 4/70 و 71.
4- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/333.

یعرفه و هی کافیة فی صحة المعاملة لما ذکرنا فی محلّه من أنّ نظر البائع فی المعاملة إلی استبدال ماله من دون نظر إلی مشتر خاص فهی قائمة بالمالین لا بالمتعاقدین... فهو بیع صحیح و لا ربط بالفضولی»(1).

أقول: یمکن أن یُناقَشَ فی وُجوهٍ: أوّلاً: عدم التعرض فی الصحیحة لصورتی تساوی الثمن مع ما ردّه البائع أوّلاً إلی المشتری أو نقصانه، لعدم ترتب الثمرة العملیة فی فرض التساوی و ندرة فرض النقصان، فما یقع غالبا هو صورة الزیادة و لذا تعرض لحکمها.

و ثانیا: فرض ترقی القیمة السوقیة لاسیما فی تلک الأیام و إن کان متصورا ولکنّه بعید فی الغایة بالنسبة إلی الإیام المعدودات.

و ثالثا: إقدام المشتری علی الإقالة لم یدلّ علی الرضا بالبیع، لأنّهما شیئان مختلفان أحدهما فسخ البیع و الآخر بیع و هما نقیضان. و إذا کانت الإقالة باطلة فالبیع فضولیّا یحتاج إلی إجازة المالک - و هو هنا المشتری الأوّل - و أجاز البیع عملاً بأخذه الزیادة.

و رابعا: کفایة الرضا فی المبادلات المالیة و المعاملات محلّ مناقشة بل منع کما مرّ مرارا.

الخامس: مقالة الفقیه المعاصر

قال السیّد محمّد سعید الحکیم - مدظله -: «نعم، حمل النصوص علی صورة إجازة المشتری الأوّل للبیع لا یناسب اطلاقها الظاهر فی صحة البیع و استحقاق المشتری الزیادة بمجرد وقوعه من دون حاجة للإجازة. و لاسیما و أنّ عدم الإجازة قد یکون أنفع للمشتری لو بقی الأمر علی مقتضی القاعدة کما إذا ارتفعت قیمة الثوب إلی أکثر من ثمن البیع الثانی حیث یکون مقتضی القاعدة ضمان البائع له لو فرض عدم الإجازة و تعذر الاسترجاع الثوب بسبب أخذ المشتری الثانی له. فعدم التنبیه لذلک فی الصحیح و

ص: 238


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/401.

الاقتصار فیه علی استحقاق الزیادة من دون تنبیه لاشتراط الإجازة یناسب صحة البیع الثانی من دون حاجة للإجازة تعبدا ولو لأنّه الأنسب بفرض المالک غالبا و تجنّبا للمشاکل المترتبة علی بطلان البیع نظیر ما(1) سبق فی نصوص المضاربة و مِن ثَمَّ یشکل الاستدلال و الاستئناس بالصحیح فی المقام»(2).

أقول: و فیه: أوّلاً: لابدّ من حمل إطلاق النص - لا النصوص - علی صورة إجازة المشتری الأوّل للبیع، کَما مرّ من الجدّ العلاّمة التقی قدس سره : «للإجماع علی عدم صحة العقد مع عدم إجازة المالک»(3).

و ثانیا: إذا کان البیع الثانی صحیحا من دون الإجازة تعبدا فلا یکون أنفع للمشتری کما إذا ارتفعت القیمة السوقیة، لاِءَنَّهُ بعد الحکم بصحة البیع تعبدا لایستحقّ المشتری شیئا.

و ثالثا: مع إمکان الحمل علی القاعدة، حمل الصحیحة علی التعبد لا یتم.

و الحاصل: بعد الجواب عن الإشکالات تمَّ الاستدلال أو لاأقل من التأیید لصحة بیع الفضولی بالصحیحة والحمدللّه.

ص: 239


1- 1 . فی المصدر «ممّا».
2- 2 . مصباح المنهاج - کتاب التجارة 2/216.
3- 3 . تبصرة الفقهاء 3/338.
الوجه التاسع: موثقة عبدالرحمن بن أبیعبداللّه

قال: سألتُ أباعبداللّه علیه السلام عن السِمْسار أ(1) یَشْتَری بالأجر فیُدْفَعُ إلیه الوَرِق و یشترط علیه أنَّکَ إن تأتی بما نشتری(2) فما شئتُ أخذتُهُ و ما شئتُ ترکته فیذهب فیشتری ثم یأتی بالمتاع فیقول: خُذ ما رضیتَ و دَعْ ما کرهتَ؟ قال: لا بأس.(3)

بتقریب من الشیخ الأعظم(4): أنّ محتملات الروایة ثلاثة:

الأوّل: أن یکون شراء السمسار - و هو الدلال - لنفسه، و یکون الوَرِق - و هو الدرهم المضروب من الفضة جمعه اُوراق و وراق - من المشتری علیه قرضا و یبیع ما اشتراه بالورق علی صاحب الورق المشتری و یؤدّی بذلک دینه. و یکون قوله علیه السلام : «یشتری بالأجر» قیدا توضیحیا لمعنی السمسار الذی هو الدلال. و هذا الاحتمال أجنبیٌّ عن الفضولی.

الثانی: أن یکون شرائه لمالک الورق - المشتری - بإذنه مع جعل الخیار له علی البائع بتمامیة البیع فی ما شاء المشتری و فسخه فی ما کره. و هذا الاحتمال أیضا بیع مع الإذن فیخرج عن الفضولی.

الثالث: أن یکون الشراء من السمسار لمالک الورق - المشتری - فضولیا بحیث یختار مایشاء و یأذن فیه و یردّ ما لا یرید و لم یأذن فی بیعه. و هذا الاحتمال الأخیر ینطبق علی الفضولی.

ثم: إذا کانت محتملات مورد السؤال متعددة و تشمل الثلاثة و لم یسأل الإمام علیه السلام عنها، و ترک الاستفصال یقتضی عموم الحکم لجمیع المحتملات التی منها شراء الفضولی، فیتمّ علی أن قوله علیه السلام : «لا بأس» یجری بالنسبة إلی الفضولی أیضا فیحکم بصحته.

أقول: محتملات الروایة لا تنحصر فی الثلاثة و یمکن أن یضاف إلیها:

ص: 240


1- 1 . فی الکافی 10/159، ح5: لیست همزة الاستفهام.
2- 2 . فی المصدر: تشتری.
3- 3 . وسائل الشیعة 18/74، ح2، الباب 20 من أبواب أحکام العقود.
4- 4 . المکاسب 3/363 و 362.

الرابع: أن یکون الغرض من دفع الورق مجرد دفعها إلی صاحب الأمتعة لیکون وثیقة عنده لدفع الأمتعة إلی السمسار لیشتری بعد ماشاء.(1)

الخامس: أن یکون شراء السمسار لنفسه من دون استقراض و من دون استیذان من صاحب الورق نظیر شراء الغاصب لنفسه.(2)

السادس: السمسار یشتری لنفسه بالورق الذی دفعه إلیه صاحبه، فالمبیع له ثمّ إن شاء المشتری صاحب الورق - یشتری من السمسار و إن شاء ترک.(3)

السابع: «وقوع الاشتراء بالمساومة و إطلاقه علیه إطلاق شائع أو مجاز بالمشارفة و یکون دفع الورق لطمأنینة السمسار و هو کثیر الوقوع سیّما مع الدلال و السمسار». ذکر هذا الاحتمال صاحب البلغة و جعله أظهر الاحتمالات.(4)

و قال السیّد الخوئی فی ذیله: «و هذا الاحتمال أیضا لا بأس به»(5).

الثامن: الاحتمال الثانی مع عدم إعطاء صاحب الورق الأجرة علی شراء السمسار فی فرض عدم أخذه ما اشتراه السمسار.

هذا الاحتمال هو مختار شیخنا الاستاذ(6) قدس سره .

التاسع: البیع إذا وقع وقع للمالک، و الشراء إن وقع وقع للمشتری الذی صاحب الورق، و السمسار یعرض المتاع علی المشتری فقط و اختار هو ما اختار و حین اختیاره یعطی اُجرة السمسار و إلاّ فلا، و إعطائه الورق للسمسار لأجل أنّه صادق فی إرادة بیعه.

هذا الاحتمال هو مختارنا و هو أحد محتملی الفقیه المعاصر(7) و لعلّ المراد

ص: 241


1- 1 . کما فی بغیة الطالب 1/353.
2- 2 . کما فی بغیة الطالب 1/353.
3- 3 . کما فی حاشیة المکاسب للإیروانی 2/223.
4- 4 . بلغة الفقیه 2/219 و نقل عنه فی مصباح الفقاهة 4/76.
5- 5 . مصباح الفقاهة 4/76.
6- 6 . إرشاد الطالب 3/321.
7- 7 . مصباح المنهاج، کتاب التجارة 2/218.

بالاحتمال السابع الذی هو مختار صاحب البلغة أیضا هذا. فلا یتم العموم و لا الفضولی.

و غیرها من المحتملات و لا تضرّ بالاستدلال لو تمّ تعدّد مورد السؤال و ترک استفصال الإمام علیه السلام بحیث یقتضی عموم الحکم لجمیعها.

ولکن ناقش المحقّق الإیروانی فی تعدّد محتملات مورد السؤال عند السائل الذی یسأل مسألة صاحب الورق بأنّ موضوع السؤال عنده واضح و کان ما وقع بین صاحب الورق و السمسار عند السائل معیّنا و إنّما یسأل من حکمه فقط و أجابه الإمام علیه السلام بقوله: «لا باس».

«نعم، نحن لا نعلم ذلک الذی جری ماذا؟ و نحتمل أن یکون شی ء من الاُمور المذکورة، و هذا لایوجب الحکم بالعموم، فإنّ عدم الاستفصال الذی هو دلیل العموم هو عدم الاستفصال فی موضوع عدم تبیّن موضوع السؤال [عند السائل] لا موضوع تبیّنه [السائل] و کان الاشتباه فی حقِّ غیر المخاطبین کما فی المقام.(1)

و تبعه السیّد الخوئی رحمه الله و قال: «إنّما یتمسّک بترک الاستفصال فیما إذا کان المسئول عنه مرددا منقسما إلی أقسام عدیدة بأن کان حکما کلّیّا، و لا یجری ذلک فیما إذا کان المسؤول عنه قضیة شخصیّة»(2).

و یمکن أن یجاب عن هذه المناقشة: بعدم الفرق بین القضیّتین الشخصیة و الحقیقیة بالنسبة إلی ترک الاستفصال و إفادته العموم لأنّ الوجه فیه هو لزوم الإغراء بالجهل و فوات الغرض بلا فرق بین الحکم الکلّی - القضیة الحقیقیة - و الجزئی - القضیة الشخصیة - لأنّ فی کلِّ مورد ترک الاستفصال یوجب الإغراء بالجهل وفوات الغرض - و لا یمکن انتساب الأمرین إلی الشارع - فیحکم بإفادة ترک الاستفصال للعموم بلا فرق بین القضیتین.(3)

و أمّا ما أفاده المحقّق الإیروانی من تبیّن الموضوع عند السائل و عدمه عند غیر

ص: 242


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/224.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/335.
3- 3 . کما یظهر من المحقّق المروج راجع هدی الطالب 4/465.

المخاطبین فدون إثباته خرط القتاد.

و کذا ما ذکره السیّد الخوئی من قوله: «... إذا علم المسؤول مراد السائل بقرائن حالیة أو مقالیة فأجابه بشی ءٍ و نحن لم نعلم المراد و تردّدنا بین الاحتمالات فهذا کیف یمکن أن یکون دلیلاً علی العموم»(1).

ثم: لو تمّ ما أفاده المحقّقان الإیروانی و السیّد الخوئی رحمهماالله من عدم تمامیة العموم فتکونُ الروایة مجملة، کما اعترف به الفقیه المعاصر(2)- مد ظله - .

نعم، لو کانت الروایة ظاهرة فی إحدی المحتملات غیر الفضولی فلا یتم العموم لعدم جریان قاعدة ترک الاستفصال.

و ذهب جماعة إلی تعیّن الإحتمالین الأوّلین کما هو مختار المحقّقین الیزدی(3) و الأصفهانی(4) و الشریعتمداری(5) و الأردکانی(6) و المروج(7) و الاُستاذ المحقّق(8) - مدظله - .

و إلی تعیّن الاحتمال الأوّل الشهیدی(9).

و إلی تعیّن الاحتمال الثانی السیّد الإشکوری(10) و المحقّق النائینی(11) و السیّد

ص: 243


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/403.
2- 2 . مصباح المنهاج، کتاب التجارة 2/217.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/122.
4- 4 . حاشیته علی المکاسب 2/95.
5- 5 . تحقیق و تقریرات فی باب البیع و الخیارات 2/72.
6- 6 . غنیة الطالب 2/328.
7- 7 . هدی الطالب 4/463.
8- 8 . العقد النضید 3/94.
9- 9 . هدایة الطالب 3/40.
10- 10 . بغیة الطالب 1/354.
11- 11 . منیة الطالب 2/25.

الخوئی(1) و شیخنا الاُستاذ(2) قدس سره لکن مع تقیید کما مرّ و یأتی.

ولکن نفی المؤسس الحائری(3) البُعْدَ فی کونها ظاهرة فی الاحتمال الثالث أی الفضولی.

و قد مرّ أنّ الاحتمال السادس مُتَعَیِّنٌ عند المحقّق الإیروانی.

و الاحتمال السابع متعیّن عند صاحب البلغة.

و الاحتمال الثامن عند شیخنا الاُستاذ رحمه الله .

و قد مرّ أنّ الاحتمال المختار عندنا هو الاحتمال التاسع فلا یتم الاستدلال بها لصحة بیع الفضولی.

و أمّا ما ورد فی أحَدِ تقریرات السیّد الخوئی رحمه الله من: «أنّ الروایة غیر نقیة السند»(4).

و حمله الاُستاذ المحقّق(5) - مدظله - من أنّه یقصد اولئک الرواة الذین روی عنهم الحسن بن محمّد بن سماعة لجهالة «غیر واحد».

لا یتم لأنّ المراد بغیر واحد جماعة من الرواة و لاأقل من دخول ثقة فیهم، مضافا إلی أنّ الصدوق رواها فی الفقیه(6) بسند صحیح و الشیخ بسند مُوَثَّقٍ فی التهذیب(7).

ص: 244


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/76، محاضرات فی الفقه الجعفری 2/335، التنقیح فی شرح المکاسب 1/403.
2- 2 . ارشاد الطالب 3/321 و 320.
3- 3 . کتاب البیع 1/308 لشیخنا آیة اللّه محمّد علی الأراکی.
4- 4 . مصباح الفقاهة 4/76.
5- 5 . العقد النضید 3/94.
6- 6 . الفقیه 3/218، ح3809.
7- 7 . التهذیب 7/56، ح43.
الوجه العاشر: معتبرة مسمع أبیسیّار

قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی کنتُ استودعتُ رجلاً مالاً فجحدنیه و حلف لی علیه ثمَّ جاء بعد ذلک بسنین بالمال الذی کنتُ استودعته إیّاه، فقال: هذا مالک فخُذه و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها فی مالک فهی لک مع مالک و اجعلنی فی حلٍّ، فأخذت المال منه و أبیتُ أن آخذ الربح و اُوقفت المال الذی کنت استودعته و أتیت حتّی أستطلع رأیک فما تری؟ قال: فقال: خذ الربح و أعطه النصف و أحلّه، إنّ هذا رجل تائب و اللّه یحبُّ التوابین.(1)

سند الشیخ ضعیف بالحسن بن عُمارة، ذکره الشیخ فی أصحاب علی بن الحسین علیه السلام مع توصیفه بالکوفی(2) و فی أصحاب الباقر علیه السلام وصفه بأنّه عامیّ(3) و فی أصحاب الصادق علیه السلام قال: «الحسن بن عمارة بن المضرب أبو محمّد البجلی الکوفی اُسند عنه»(4).

و قال ابن حجر فی شأنه: «الحسن بن عمارة بن المضرب البجلی مولاهم الکوفی أبو محمّد کان علی قضاء بغداد فی خلافة المنصور...»(5).

و قال فی تقریب التهذیب الحسن بن عمارة البجلی مولاهم أبو محمّد الکوفی قاضی بغداد متروک من السابعة مات سنة ثلاث و خمسین [أی بعد المائة]»(6).

و قال الذهبی فی میزان الاعتدال: «الحسن بن عُمارة الکوفی الفقیه مولی بَجِیلة... - ثم ذکر تضعیفه عن جماعة إلی أن قال: - مات سنة ثلاث و خمسین و مائة و کان من کبار الفقهاء فی زمانه ولی قضاء بغداد»(7).

ص: 245


1- 1 . وسائل الشیعة 19/89، ح1، الباب 10 من أبواب کتاب الودیعة.
2- 2 . رجال الشیخ /88، الرقم 19.
3- 3 . رجال الشیخ /115، الرقم 17.
4- 4 . رجال الشیخ 166، الرقم 15.
5- 5 . تهذیب التهذیب 2/304، الرقم 532.
6- 6 . تقریب التهذیب 1/169، الرقم 298.
7- 7 . میزان الاعتدال 1/513، الرقم 1918.

قال الشیخ محیی الدّین المامقانی رحمه الله : «الذی یظهر من إصرار العامة علی تضعیفه -مع أنّه من قضاتهم- و روایة ثقات رواتنا مثل أبان بن عثمان الثقة الجلیل و الحسن بن محبوب الثقة الجلیل عنه، أنّ المترجَم إمّا کان متقیّا فی مذهبه و کان فی الباطن إمامیّا، أو أنّه کان عامیّا إلاّ أنّه غیر معاند للحقّ وثقة فی مذهبه عند رواتنا و حیث أنا لم نجزم بأحد الاحتمالین ینبغی أن نعده ممّن لم یتضح لنا حاله و إن کان المظنون کونه موثقا»(1).

أقول: الاحتمالان یجریان بالنسبة إلیه، و أمّا توثیقه فَلا یحصل العلم به إلاّ علی القول بأنّ أصحاب الإجماع لا یروون إلاّ عن الثقة و هو لا یتم عندی.

و کذلک الروایة ضعیفة بأبیه عُمارة بن المضرب و هو مهمل و لیس له إلاّ هذه الروایة. هذا کلّه بالنسبة إلی سند الشیخ.

ولکنّها مرویة فی الفقیه(2) بإسناده عن مسمع أبی سیار، و ذکر الصدوق سنده فی المشیخة هکذا: «و ما کان عن مسمع بن مالک البصری فقد رویته عن أبی - رضی اللّه عنه - عن سعد بن عبداللّه عن أحمد بن محمّد بن عیسی عن الحسین بن سعید عن القاسم عن محمّد عن أبان عن مسمع بن مالک البصری و یقال له: مسمع بن عبدالمالک البصری لقبه کردین و هو عربی من بنی قیس بن ثعلبة و یکنی أبا سیار و یقال: إنّ الصادق علیه السلام قال له أوّل ما رآه: ما اسمک؟ فقال مسمع، فقال: ابن مَنْ؟ قال: ابن مالک، فقال: بل أنت مسمع بن عبدالملک»(3).

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ القاسم بن محمّد الجوهری و هو معتبر عندنا فالسند معتبر، فصارت الروایة معتبرة الأسناد بسند الصدوق.

تقریب الاستدلال: أمر الإمام علیه السلام بأخذ الربح من جانب المالک لا یتم إلاّ بامضاء معاملات الودعی الجاحد حتّی یجوز له تملک ربحها و أمّا أمره علیه السلام باعطاء الودعی الجاحد التائب النصف فَهُوَ أمر استحبابی لأنّه تائب و یکون الإعطاء تشویقا له.

ص: 246


1- 1 . تعلیقه تحت عنوان حصیلة البحث علی کتاب والده تنقیح المقال 20/289.
2- 2 . الفقیه 3/305، ح4091.
3- 3 . الفقیه 4/451.

لم یذکر الشیخ الأعظم هذه المعتبرة ولکنَّ تمسّک بها جماعة من الأصحاب رحمهم الله :

منهم: الشیخ جعفر رحمه الله قال: «لروایة مسمع أبی سیّار عن الصادق علیه السلام - فی رجل استودع رجلاً مالاً فجحده الودعی و استربح به أربعة آلاف درهم - الدالة علی أنّ الربح لصاحب المال»(1).

و منهم: الجدّ العلاّمة التقی قال بعد نقل الروایة: «و الظاهر أنّ تملّکه للربح مبنیٌّ علی إجازته للعقد الصادر منه المشتمل علی الربح، و أمره علیه السلام بردّ نصف الربح علیه علی وجه الندب کما یشیر إلیه التعلیل المذکور و دلالتها علی المدّعی ظاهرة أیضا»(2).

و منهم: صاحب الجواهر قال فی ضمن المؤیدات: و کذ ما ورد فی ودعیّ جحد الودیعة و اتّجر بها: من أنّ الربح للمالک»(3).

و منهم: الفقیه الیزدی قال: فإنّ ظاهر ذیله أنّ تمام الربح له و أنّه أمره بإعطائه النصف منه من جهة أنّه تائب و هو لا ینطبق إلاّ علی صحة الفضولی»(4).

ولکن استشکل علیها المحقّق السیّدُ الخوئی بإشکالین و قال: «و فیه: أوّلاً: أنّ الروایة ضعیفة السند کما مرّ فلا یمکن الاستناد إلیها فی الحکم الشرعی.

و ثانیا: أنّ الاستدلال بها علی ما نحن فیه یتوقف علی وقوع المعاملة علی عین الودیعة إمّا بنحو المعاطاة أو بالعقد اللفظی ولکن لا قرینة فی الروایة علی ذلک»(5).

و یمکن الإجابة عنهما أمّا الأوّل: فَقَدْ عرفت ضعف سند الشیخ و اعتبار سند الصدوق بالروایة، لاسیما أنّ القاسم بن محمّد الجوهری المختلف فیه عند الأصحاب، فَهُوَ عند المحقّق السیّد الخوئی(6) رحمه الله معتبر فسند الصدوق عنده و عندنا معتبر(7)، فَرَمْیُهُ

ص: 247


1- 1 . شرح القواعد 2/79.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/338.
3- 3 . الجواهر 23/450 (22/279).
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/122.
5- 5 . مصباح الفقاهة 4/77.
6- 6 . راجع معجم رجال الحدیث 14/47، الرقم 9542.
7- 7 . راجع الآراء الفقهیة 3/352.

الروایةَ بضعف السند لا وجه لَهُ.

و أمّا الثانی: فَلَوْ لو کانت معاملات الودعی الجاحد بالکلّی فی الذمة لا بالعین المودعة عنده، یکون تمام الربح للودعی و لا یستحق أَبُوْسیّار شیئا منه، مع أنّ الإمام علیه السلام أمره بأخذ الربح، و هذا الأمر أقوی قرینة علی أنّ المعاملات وقعت علی عین الودیعة. و من المعلوم أنّ ارجاع نصف الربح من المالک علی الودعی یکون تفضلاً من المالک لأجل تشویق الودعی علی توبته.

و الشاهد لما ذکرنا مقالة المؤسس الحائری حیث یقول: «... أنّ البیع أو الشراء لما فی الذمّة إذا کان القصد حین المعاملة الدفع من عین مال الغیر یکون کالمعاملة الواردة علی عین المال ابتداءً فیندرج فی الفضولی و یرجع ربحها إلی صاحب العین و یناسب ذلک مع ارتکاز العرف، ألا تری أنّ العصاة و الظلمة مع شرائهم و تحصیلهم لما یملکونه غالبا بالثمن فی ذمّتهم یقال: إنّ ما بیدهم مالٌ لغیرهم، فإن لم یکن علی خلاف هذا المطلب إجماع نقول به...»(1).

لا یقال: «أنّ استحقاق مسمع للربح بتمامه قد یکون بسبب بذل الودعی له فی مقابل تحلیل مسمع له من دون أن یکون مسمع مستحقّا له بالأصل» کما عن الفقیه المعاصر - مدظله - .(2)

لأنّا نقول: البذل مقابل التحلیل و ان کان محتملاً و متعارفا فی العادة ولکنّه خلاف لظاهر المعتبرة حیث یقول الودعی فیها: «هذه أربعة آلاف درهم ربحتها فی مالک فهی لک مع مالک» فحکم الودعی بأنّ أربعة آلاف درهم للمالک و ربح ماله. و هذا مخالف للبذل مقابل التحلیل.

و قوله: «و اجعلنی فی حلٍّ» لا یدل علی أنّ البذل مقابل التحلیل.

فدلالة المعتبرة علی صحة بیع الفضولی تامة.

ص: 248


1- 1 . کتاب البیع 1/310 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی.
2- 2 . منهاج المصباح، کتاب التجارة 2/221.
الوجه الحادی عشر: خبر أبیحمزة الثمالی

عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن الزکاة تجب علیَّ فی موضع لا یُمْکِنُنی أن اُؤَدِّیَهَا؟ قال: اعزلها فإن اتجرت بها فأنت ضامن لها و لها الربح، و إن تَوِیَتْ(1) فی حال ما عَزَلْتَها من غیر أن تشغلها فی تجارة فلیس علیک و إن لم تعزلها و اتّجرت بها فی جملة مالک فلها بقسطها من الربح و لا وضیعة(2) علیها.(3)

بتقریب: إذا وجبت الزکاة مع بِشَرائِطِها المعلومة فی مال یجب إخراجها و إن لم یتمکن المالک من أدائها یجب عزلها، فإن عزلها و تلفت من دون تفریط لیس علیه شی ء ولکن إن لم یعزلها و اتّجربها، یتعلّق بها الربح بقدرها من دون أن یتعلّق بها الضرر.

و تعلّق ربح التجارة بمال الزکاة من دون الضرر یکون من مصادیق بیع الفضولی الذی أجازه الشارع ولایة علی مستحقی الزکاة و حفظا لمنافعهم، و الضرر یکون فی مال المالک لأنّه یتصرف فی الزکاة من دون إجازة أربابها فیکون ضامنا لها و لا یتعلَّق بها الخسارة.

و استدلّ الفقیه السیّدُ الیزدی(4) علی صحة بیع الفضولی بهذه الروایة.

و یمکن أن یناقش علیه: بحمل الروایة علی التعبد کما هو الظاهر مضافا علی ضعف سندها بجهالة عمّن حدّث عنه علی بن محمّد و إهمال مَعَلَّی أو یَعْلی بن عبید فی کتب الرجل و لیس لهما - علی فرض تعدّدهما - إلاّ هذه الروایة، فالاستدلال بها لا یتم.

ص: 249


1- 1 . تویت: هلکت.
2- 2 . الوضیعة: الخسارة.
3- 3 . الکافی 7/361، ح2 (4/60) و نقل عنه فی وسائل الشیعة 9/307، ح3، الباب 52 من أبواب المستحقین للزکاة.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/123.
الوجه الثانی عشر: بیع عقیل دور النبی صلی الله علیه و آله و بنی هاشم

روت العامة فی صحاحهم(1) و سیرهم(2) أنّ عقیلاً عمد إلی دور بنیهاشم فی مکة - و کانت قریش تعطی من لم یُسْلِم مالَ مَن أسْلَمَ بعد هجرة المسلمین إلی المدینة - فباعها حتّی دار رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فلما دخل رسول اللّه صلی الله علیه و آله مکة یوم الفتح قال له اُسامة بن زید: أ تنزل غدا فی دارک یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ فقال صلی الله علیه و آله : و هل ترک لنا عقیل من رِباع(3)؟!

وردت الروایة فی کتبنا التفسیریة(4) و الفقهیة(5) و التراجمیة(6).

و استدل بها الشیخ جعفر لصحة بیع الفضولی و قال: «و لحدیث بیع عقیل دار النبی صلی الله علیه و آله بمکة من دون إذنه فلمّا أخبره أجازه»(7).

و تبعه صهره العلاّمة التقی الجدّ و قال: «و منها: من أنّ عقیلاً باع دورا للنبی صلی الله علیه و آله بمکة من دون إذن، فلمّا أخبره بذلک أجازه»(8).

و قال قبلهما السیّد مهدی بحرالعلوم فی رسالة سمّاها «مبلغ النظر فی حکم قاصد الأربعة من مسائل السفر» بعد نقل الروایة: «و ظاهره أنّه أجاز ما صنعه عقیل تکرّما و

ص: 250


1- 1 . صحیح البخاری 2/181، صحیح مسلم 2/984، ح1351، سنن ابن ماجه 2/912، ح2730، مسند أحمد 5/202، فتح الباری 8/12، شرح مسلم للنووی 9/120، المستدرک للحاکم 2/602، المعجم الکبیر للطبرانی 1/168.
2- 2 . السیرة الحلبیة 3/85، المغازی للواقدی 2/829، أخبار مکة 2/161، سیر أعلام النبلاء 10/68.
3- 3 . رِباع جمع الرَّبْعُ: الدار بعینها حیث کانت. الصحاح 3/1211.
4- 4 . نحو: مجمع البیان 9/147 فی تفسیر الآیة 30 من سورة ق من الجزء السادس و العشرین.
5- 5 . نحو: تذکرة الفقهاء 10/40 و غیرها التی تذکر.
6- 6 . نحو: الدرجات الرفیعة /154 فی ترجمة عقیل، للسیّد علی خان المدنی صاحب شرح الصیحفة.
7- 7 . شرح القواعد 2/77.
8- 8 . تبصرة الفقهاء 3/338.

یستفاد منه صحة بیع الفضولی إذا تعقبه الإجازة ولو کان غصبا»(1).

أقول: علی فرض وقوع هذه القضیة - کما أنّ الظاهر وقوعها حیث لم یرد من الأئمة المعصومین علیهم السلام نفیها - و إجازة النبی صلی الله علیه و آله و بنیهاشم له، استفادة صحة بیع الفضولی منها لا ینکر.

فلا یصغی إلی مقالة الفاضل النراقی حیث یقول: «و احتجوا بما ورد من تقریر النبی صلی الله علیه و آله بیع عقیل داره بمکّة وضعفه ظاهر»(2).

ص: 251


1- 1 . نقلها بتمامها السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 10/(435-333)، و العبارة المنقولة فیه 10/370.
2- 2 . مستند الشیعة 14/276.
الوجه الثالث عشر: اجازة الوارث بالنسبة إلی الوصیة الزایدة علی الثلث

الوصیة جائزة و نافذة فی أموال الموصی إذا بلغت إلی حدّ ثلث أمواله، و أمّا مازاد علی الثلث فلا یجوز إلاّ بعد إمضاء الورثة و إجازتهم(1)، نعم لو أجاز بعضهم فی حیاة الموصی فلیس له الرجوع عنها بعد مماته.(2)

و کأنّ الوصیة من الموصی فی مازاد علی ثلث الأموال تصرف فی مال الورثة فلذا یحتاج إلی إذنهم و بعد الإِذن تکون نافذة، نظیر بیع الفضولی لکونه تصرفا فی مال المالک و بعد إذنه یکون نافِذا.

قال الشیخ جعفر: «و فی اجازة السیّد عقد العبد و الوارث للوصیة بمازاد علی الثلث إشعار بذلک»(3).

و تبعه العلاّمة التقی الجدّ و قال: «و ممّا یستأنس به للقول المذکور [صحة بیع الفضولی] دلّ علی صحة الوصیة الزایدة علی الثلث إذ أجازته الورثة»(4).

و ذکرها صاحب الجواهر(5) من المؤیدات.

أقول: الإشعار و الاستیناس و التأیِیْد لا بأس به، و أمّا دلالة فرع علی فرع آخر فَهِیَ من القیاس المحرّم عندنا مضافا إلی ما اُورده الفقیه السیّدَ الیزدی بقوله: «... فإنّ إجازته [الوارث] شرط فی نفوذ تصرف المیت لنفسه فلا دخل له بالمقام من إجازة المالک للعقد الواقع علی ماله علی أن یکون له، إذ من المعلوم أنّ الإجازة لا تصیّر الوصیة للوارث، بل توجب عدم انتقال المال إلیهم»(6).

و تبعه السیّد الخوئی(7).

ص: 252


1- 1 . راجع وسائل الشیعة 19/275، الباب 11 من أبواب کتاب الوصایا.
2- 2 . راجع وسائل الشیعة 19/283، الباب 13 من أبواب کتاب الوصایا.
3- 3 . شرح القواعد 2/76.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/338.
5- 5 . الجواهر 23/451 (22/279).
6- 6 . حاشیة المکاسب 2/123.
7- 7 . مصباح الفقاهة 4/77.
الوجه الرابع عشر: التصدق بمجهول المالک و اللقطة

وردت فی بعض الروایات(1) التصدّق بمجهول المالک و اللقطة - بعد الیأس عن الظفر بصاحبهما - فإن جاء صاحبه و أمضی الصدقة مضت و إلاّ غرمها المتصدِّق و الثواب له.

و هذا التصدّق تصرف فی مال صاحبه و بعد إجازته لا یجوز له طلب المال من المتصدِّق و أمّا إذا لم یجز فیجوز له طلبب ماله من المتصدِّق.(2)

و أنت تری وُجُوْدَ التشابه بین هذ التصدّق بعد اجازة المالک ببیع الفضولی بل هو تصدّق الفضولی.

و عدّها الشیخ جعفر من الاُمورِ المُشْعِرَةِ بصحة بیع الفضولی و قال: «... و کذا الأخبار الدالة علی التصدّق بمجهول المالک عنه فإن جاء و أمضی الصدقة مضت و إلاّ عزم المتصدِّق و الثواب له لا یخلو من ظهور فی ذلک»(3).

و تبعه العلاّمة التقی الجد و قال: «و ممّا یستأنس به... و ما ورد فی التصدّق بمجهول المالک إن جاء صاحبها و أمضی الصدقة مضت، و إلاّ غرّمه المتصدِّق و إلاّ أجزأه»(4).

و جعلها صاحب الجواهر(5) من المؤیدات.

أقول: تصدّق الفضولی هنا واضح و صحیح و البیع مثله، و أمّا فرض الغرامة لأنّ صاحب المال یطلب ماله فیجب علی المتصدِّق أداء ماله إلیه لأنّه أتلفه علیه بالصدقة. فینطبق الحکم علی شطریه علی القواعد فلا نحتاج إلی تعبد شرعی فی المقام.

و ممّا ذکرنا یَظْهَرُ عدم تمامیة مقالة الفقیه السیّد الیزدی حیث یقول: «أنّ الإذن

ص: 253


1- 1 . راجع وسائل الشیعة 25/450، الباب 7 من أبواب کتاب اللقطة.
2- 2 . راجع ما حررته فی هذا المجال فی الآراء الفقهیة 3/349.
3- 3 . شرح القواعد 2/76.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/338.
5- 5 . الجواهر 23/451 (22/279).

الشرعی حاصل فی التصدّق و هو صحیح علی کلّ حال أجاز المالک أو لا، و ضمانه علی فرض عدم الرضا حکم تعبدی، و عدم ضمانه فی غیر هذا الفرض حکم تعبدی»(1).

و تبعه السیّد الخوئی و قال: «أنّه لا شبهة فی صحة التصدّق هناک للإذن الشرعی و إن لم یرض به المالک، و إنّما الرضا یؤثر فی عدم الضمان تعبّدا کما أنّ عدمه یؤثر فی عدمه کذلک»(2).

أقول: الرضا بل الإذن یصحح تصدّق الفضولی و عدمه یصحح الضمان لأنّ المالک یطالب بماله فمِنْ أین نحتاج إلی التعبّد. نعم، فی فرض عدم وجدان المالک الإذن الشرعی من المالک الحقیقی یصحح التصدّق، و اللّه العالم.

ص: 254


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/123.
2- 2 . مصباح الفقاهة 4/77.
الوجه الخامس عشر: أخبار تحلیل خمس المناکح و المساکن

وردت عدّة من الروایات فی تحلیل خمس المناکح(1) و المساکن(2) و ورد فی بعضها(3) طلب الإجازة من الإمام علیه السلام فی مال الخمس فأجازهم.

بتقریب: إنّ الناس یشترون المساکن و المناکح و فیها حقّ الإمام علیه السلام ، أو غیرهما بالمال المخمّس ثمّ أجازهم الإمام علیه السلام و بعد إجازته تخرج المعاملة من الفضولیة أو الغصبیة بالنسبة إلی طرف الذی أحلّ له، فیمکن استفادة صحة الفضولی منها.

و لا ینافی تقدم صدور التحلیل أو الإجازة منهم لما ذکره فی الجواهر: «و قد عرفت أنّه لا ینافی الفضولیة تقدّم الإذن لخصوص المشتری و إن کان البائع باقیا علی غصبیّته نحو ما سمعته فی الخراج»(4).

و إمکان التفکیک فی صحة المعاملة بین الطرفین خلافا للفقیه المعاصر(5) - مدظله - حیث یری امتناعه.

قال الشیخ جعفر: «و فی أخبار الخمس من تحلیل المناکح و المساکن و خصوص ما صُرّح فیه منها بالشراء من مال الخمس من الجواری و إجازة الإمام لأهل الحقّ فی ذلک ما یُرشد إلیه و إن احتملت وجها آخر»(6).

ص: 255


1- 1 . منها: صحیحة أبی خدیجة سالم بن مکرم المرویة فی وسائل الشیعة 9/544، ح4، الباب 4 من أبواب الأنفال. و منها: صحیحة الفضلاء المرویة فی وسائل الشیعة 9/543، ح1. و منها: صحیحة ضریس الکناسی المرویة فی وسائل الشیعة 9/544، ح3. و منها: صحیحة الفضیل المرویة فی وسائل الشیعة 9/547، ح10.
2- 2 . منها: صحیحة أبی سیار مسمع بن عبدالملک المرویة فی وسائل الشیعة 9/548، ح12. و منها: صحیحة علی بن مهزیار المرویة فی وسائل الشیعة 9/501، ح5.
3- 3 . منها: معتبرة یونس بن یعقوب المرویة فی وسائل الشیعة 9/545، ح6.
4- 4 . الجواهر 23/451 (22/279).
5- 5 . مصباح المنهاج، کتاب التجارة 2/223.
6- 6 . شرح القواعد 2/76.

و لعلّ مراده من الوجه الآخر صدور الإجازة و الإذن قبل الشراء فتخرج المعاملة عن الفضولیة فلا یستفاد منها صحة بیع الفضولی.

و تبعه المحقّق التقی و قال: «و ممّا یستأنس... و کذا فیمن یشتری من مال الخمس من الجواری من إجازة الإمام علیه السلام ذلک لأهل الولایة، و ما ورد من تحلیل المناکح و المساکن لأهل الحقّ»(1).

و قال صاحب الجواهر فی ضمن المؤیدات: «و بالنصوص الواردة فی باب الخمس المشتمل. بعضها علی التصرف فیه من بعضهم و طلب الإجازة من الإمام علیه السلام فأجاز... بل فی نصوص المناکح و المساکن سیّما ما صُرّح فیه منها بالشراء من مال الخمس من الجواری المشتملة علی إجازة الإمام علیه السلام ذلک لأهل الحقّ ما یؤیّد ذلک أیضا»(2).

أقول: وجه التأیِیْدِ أو الاستیناس أو الإرشاد و عدم الاستدلال فی کلامهم هو وجود الاحتمال الآخر فی کلام الشیخ جعفر کما مرّ و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

نعم، هذا الاحتمال لا یجری بالنسبة إلی التصرف الفعلی فی مال المخمّس ثمّ الاستیذان من الإمام علیه السلام و صدور الإجازة منه علیه السلام ، و لیس هذه المعاملة إلاّ فضولیا بالنسبة إلی حقّه علیه السلام و حصّته علیه السلام و بعد صدور الإجازة منه علیه السلام تمت. فیتم الاستدلال بهذا الأخیر.

و لا یردّ علی هذا الأخیر ما ذکره شیخنا الاستاذ قدس سره من قوله: «و الصحیح أنّ التحلیل المزبور لا یرتبط بإجازة شراء الفضولی و لا بالتوکیل...»(3).

ص: 256


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/338.
2- 2 . الجواهر 23/451 (22/279).
3- 3 . إرشاد الطالب 3/325.
الوجه السادس عشر: اجازة السیّد عقد العبد

قد مرّ فی الشرط الخامس من شرائط المتعاقدین بأنّ إذن السیّد لو کان العاقد عبدا یصحح العقد. بلا فرق بین أن یکون العقد نکاحا(1) أو معاملة مالیّة. و أن یکون الإذن سابقا أو لاحقا. و الإذن اللاحق یسمّی إجازة غالبا. و مع لحوق الإجازة یکونُ عقد العبد صحیحا بلا فرق بین أن یعقد لنفسه أو لمولاه أو لغیرهما، نعم لو کان للغیر یحتاج إلی اذنه و إلاّ صار فضولیّا بالنسبة إلیه.

ثم إجازة السیّد تصحح عقد العبد فکذلک إجازة المالک تصحح بیع الفضولی.

و لذا قال الشیخ جعفر: «و فی إجازة السیّد عقد العبد... إشعار بذلک»(2).

و تبعه صهره العلامة التقی و قال: «... و من ذلک الأخبار الدالة علی صحة عقد العبید مع إجازة الولی فإنّه عقد فضولی قطعا، و من البیّن أنّ الأمر فی الفروج و شدّة الاحتیاط فیها آکد کما ورد فی الروایة(3) و نصّ علیه جماعة من الأجلة فیدلّ بالفحوی علی الصحة فی غیرها»(4).

أقول: قد مرّ البحث حول هذه الفحوی فی الوجه الرابع(5) من أدلة صحة بیع الفضولی فراجعه.

و تبعهما صاحب الجواهر و قال: «بل یؤیّده أیضا: ما ورد فی إجازة السیّد عقد العبد...»(6).

ص: 257


1- 1 . عدّة من الروایات تدلّ علی صحة نکاح العبد بعد إجازة مولاه من حین عقد النکاح راجع فی هذا المجال وسائل الشیعة 21/114، ح1 صحیحة زرارة، و وسائل الشیعة 21/115، ح2 موثقته، و وسائل الشیعة 21/116، ح1 خبر عبید بن زرارة، و وسائل الشیعة 21/117، ح1 صحیحة معاویة بن وهب، و وسائل الشیعة 21/118، ح1 حسنة علی بن جعفر، و غیرها.
2- 2 . شرح القواعد 2/76.
3- 3 . وسائل الشیعة 19/163، ح2 = 20/259، ح3 حسنة العلاء بن سیابة.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/333.
5- 5 . راجع هذا المجلد صفحة 200.
6- 6 . الجواهر 23/451 (22/279).

الاستدلال علی بطلان عقد الفضولی

اشارة

احتجوا للبطلان بالأدلة الأربعة:

1- الکتاب
قوله تعالی: «لا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل إلاّ أن تکون تجارة عن تراض»
اشارة

(1)

تمسّکوا بدلالة الآیة الشریفة علی البطلان بتقریبین:

التقریب الأوّل: الاستثناء یدل علی الحصر فی جواز أکل أموال الناس بالتجارة عن تراض فقط، و بیع الفضولی لیس تجارة عن تراض فأْکُل المال بسببه أَکْلٌ للمال بالباطل.

إن قلت: لحوق الإجازة یدرجه فی التجارة عن تراض فیجوز أکل المال به.

قلت: إذا لم یکن حین العقد ثَمَّةَ مِصْداقٌ للتجارة عن تراض، فَلُحُوقُ الإجازة بها لا یجعله مصداقا لها.

ناقش الشیخ الأعظم(2) فی هذا التقریب بأنّ الاستثناء یدل علی الحصر إذا کان متصلاً ولکنّه هنا منفصلاً لخروج تجارة عن تراض عن أکل المال بالباطل و تصریح جماعة من المفسرین کما مرّ(3) فی بحث بیع المکرَه فی التمسک بالآیة الشریفة علی بطلانه حتّی إذا تعقّبه الرضا.

ص: 258


1- 1 . سورة النساء /29.
2- 2 . المکاسب 3/364.
3- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 153.

و اعترض علیه السیّد الخوئی؛ بوجوه: الأوّل: أنّ الاستثناء المنقطع من أوضح الأغلاط إذ لایصح أن یقال: ما رأیتُ عالما إلاّ الجاهل، و هو لایصدر من المبتدئین فی البلاغة فکیف بصدوره من اللّه العظیم و وجوده فی کتابه الکریم الذی نزل بعنوان الإعجاز و التحدی تعالی کلامه عزّوجلّ عن ذلک علوا کبیرا. فالاستثناء فی الآیة الشریفة استثناء متصل ولو کان ذلک بالعنایة.(1)

و الثانی: الاستثناء فی الآیة من قبیل المتصل دون المنقطع، إذ قد یحذف من الجملة شی ءٌ و یُقام مقامه علّته نظیر قوله تعالی: «و من کفر فإن اللّه غنیٌّ عن العالمین»(2) لأنّ التعلیل لیس مترتّبا علی الشرط المذکور فیه لأنّه تعالی غنّی علی أیّ حال حجّوا أم لم یحجّوا، کفروا أم آمنوا، إنّما هو تعلیل لما حذف عن الآیة... و فی المقام أیضا کذلک فکأنّ الآیة کذا: و لا تأکلوا أموالکم بینکم بشی ءٍ من الأسباب کالنهب و القمار و البیع - فإنّها باطلة إلاّ إذا کان ذلک السبب تجارة عن تراض و علیه فالاستثناء متّصل مفرغ.(3)

و الثالث: ولو کان الاستثناء منقطعا یفید الحصر لأنّ اللّه تعالی کان بصدد بیان الأسباب المشروعة للمعاملات و تمییز صحیحها عن فاسدها و کان الاهمال مخّلا بالمقصود فلا محالة یستفاد الحصر من القرینة المقامیة و تحصل أنّها مسوقة لبیان حصر الأسباب الصحیحة بالتجارة عن تراض سواء أکان الاستثناء متصلاً أم کان منقطعا، فدلالة الآیة علی مفهوم الحصر ممّا لا ریب فیه و هو بطلان التجارة عن غیر تراض و منها بیع الفضولی.(4)

أقول: یرد علیه أوّلاً: لم یکن الاستثناء المنقطع من الأغلاط و لا من أوضحها بل هو نوع من الکلام و یحسن استعماله فی محلّه فلا إشکال فی وروده فی المعجزة الخالده

ص: 259


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/79، نقلته مختصرا.
2- 2 . سورة آل عمران /97.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/338، التنقیح فی شرح المکاسب 1/406.
4- 4 . مصباح الفقاهة 4/81.

أعنی الکتاب الکریم، ولو لم یرد فیه فکیف یفسّر السیّد الخوئی رحمه الله قوله تعالی: «و إذ قلنا للملائکة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبلیس أبی و استکبر و کان من الکافرین»(1)، و قوله تعالی: «یوم لا ینفع مالٌ و لا بنون إلاّ من أتی اللّه بقلب سلیم»(2)، و قوله تعالی: «مالهم به من علمٍ إلاّ اتباعَ الظنِ»(3)، و هل تَتَمُّ الفصاحة وَ تَطَّرِدُ صِحّةُ الْمَعْنی فیها و نظائرها إلاّ بانقطاع الاستثناء.

و ثانیا: یمکن فی بَعْضِ الموارِدِ حذف الجزاء و قیام تعلیله مقامه نحو قوله تعالی: «و إن یسرق فقد سرق أخٌ له من قبل»(4)، ولکن الآیة الشریفة لم تکن کذلک، و لم تکن قرینة علی قیام تعلیل الجزاء مقامه بل القرینة علی خلافه و هی باء السببیة الواردة علی الباطل أی لم یأکلوا أموالکم بینکم بالأسباب الباطلة نحو القمار و السرقة و الزنا و الربا و شرب الخمر، و حیث لم یکن من أوّل الأمر تجارة عن تراض من الأسباب الباطلة فیکون الاستثناء منقطعا. و العجب منه قدس سره کیف یدخل البیع فی عنوان الباطل.

و ثالثا: الاستثناءُ منقطعٌ و لایستفاد منها حصر و لیست فی البین قرینة مقامیة تدل علی الحصر کما مرّ فی بحث بیع المکرَه(5) فراجع ما حررناه هناک و لا نعید.

و نضیف هنا بأنّ علی بن إبراهیم القمی فی تفسیره(6) و الطبرسی فی مجمعه(7) یذهبان إلی التوسّع فی مدلول الآیة بحیث تشمل أخذ المال من الظالم و فی موثقة سماعة(8) استشهد الإمام علیه السلام علی حرمة تصرّف الرجل فی أمواله مع تعلّق الدین بذمّته

ص: 260


1- 1 . سورة البقرة /35.
2- 2 . سورة الشعراء /89.
3- 3 . سورة النساء /157.
4- 4 . سورة یوسف /77.
5- 5 . راجع هذا المجلد صفحة 155.
6- 6 . تفسیر القمی 1/136.
7- 7 . مجمع البیان 2/36.
8- 8 . الکافی 9/587، ح2 (5/95).

بالآیة الشرفة و هذه تدل علی عدم الحصر.

التقریب الثانی: سیاق التحدید لأنّ کلّ وصف ورد فی مقام التحدید یدلّ علی اختصاص الحکم بمورد الوصف و إن لم نقل بمفهوم الوصف، و من المعلوم أنّ قید التراضی وصف ورد مورد التحدید فیدلّ علی انحصار جواز الأکل بمورد التراضی فقط، و التراضی فی بیع الفضولی مفقودٌ.

و اُورد علیه الشیخ الأعظم بالوجوة الأربعة الماضیة فی بحث بیع المکرَه(1) فلا نعید.

و ناقشه السیّد الخوئی رحمه الله فی عدم المفهوم فی تحدید الوصف بأنّ: نعم عدم المفهوم للوصف تام ولکن إذا کان الوصف فی مقام التحدید - کما فی المقام - یدلّ علی انتفاء الحکم عند انتفاء الحدّ نظیر قوله علیه السلام فی جواب السائل عمّا لا ینفعل بالملاقاة؟ کرّ من الماء(2).(3)

و ذکر التراضی فی الآیة من هذا القسم لأنّها متوجّة إلی فصل الأسباب الصحیحة للمعاملة عن الأسباب الباطلة لها و حصر أسبابها الصحیحة بالتجارة عن تراض.(4)

و کذلک ناقشه فی «احتمال أن یکون «عن تراض» خبرا بعد خبر لتکون علی قراءة نصب التجارة لا قیدا لها و إن کان غلبة توصیف النکرة تؤید التقیید...».

بقوله رحمه الله : «فلأنّه فی حدّ نفسه خلاف ظاهر الآیة، لأنّ ظاهر الآیة الشریفة أنّ الجمیع کلام واحد متصل لا أنّه خبر بعد خبر و قد اعترف قدس سره بأنّ غلبة وصف النکرة تؤید التقیید، هذا أوّلاً.

و ثانیا: فلو سلّمنا أنّه خبر بعد خبر فهل ذلک یرفع الإشکال، لأنّ معنی الآیة حینئذ

ص: 261


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 154.
2- 2 . نحوها معتبرة بل صحیحة اسماعیل بن جابر راجع وسائل الشیعة 1/159، ح7، الباب 9 من أبواب الماء المطلق.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/406.
4- 4 . مصباح الفقاهة 4/82.

کما مرّ أنّ السبب لابدّ أن یکون تجارة و لابدّ أن یکون عن تراض فبانتفاء کلّ واحد من الأمرین یرتفع الحلّیة و المفروض أنّ الفضولی لیس عن تراض»(1).

ثم قال: «و من هنا ظهر الجواب عمّا ذکره المحقّق صاحب المقابیس من أنّه یمکن أن یکون التقدیر علی کلتا القرائتین إلاّ «أن تکون تجارة کاملة عن تراض أو ممضاة عن تراض فیندرج عقد الفضولی فی الآیة لأنّ کماله و امضائه بالإجازة و هذا نظیر ما حکی فی المجمع(2) عن مذهب الإمامیة و الشافعیة و عن غیرهم من أنّ معنی التراضی بالتجارة امضاء البیع بالتفرّق أو التَّخایُر بعد العقد»(3)، فإنّ هذا أیضا بعید عن ظاهر الآیة و التزام بالتقدیر بلا ملزم»(4).

و لتوضیح هذا الأخیر راجع حاشیة المکاسب(5) للمحقّق الاصفهانی رحمه الله .

و اُضیف إلی مناقشاته علی الشیخ الأعظم فی قیده الوارد مورد الغالب بأنّ: «ظهور قید «عن تراض» [یکون] فی الاحتراز و التحدید و یؤکّده کونه نصّا قرآنیّا و قانونا تشریعیّا دستوریّا لایناسبه القید الغالبی بقدر ما یناسبه کونه قیدا احترازیا مع عدم الشاهد الواضح علی الاحتمال المقابل و مجرد الاحتمال لاینفع و لایقتضی إجمال الخطاب و لا یمسّ الظهور فی احترازیة القید»(6).

أقول: یمکن أن یدافع عن الشیخ الأعظم قدس سره و ردّا علی السیّد الخوئی فی مناقشته الاولی علیه: بأنّ الشیخ الأعظم لا یقول بعدم ثبوت المفهوم للتحدید بالوصف، بل یقول بأنّه مبنائی و الاستدلال لابدّ بأنّ یتم علی جمیع المبانی فلا یرد النقاش علیه.

و یمکن أن یجاب عن مناقشته الثانیة: «تکون» الواردة فی الآیة کما یمکن أن

ص: 262


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/406.
2- 2 . مجمع البیان 2/37.
3- 3 . مقابیس الأنوار /128.
4- 4 . مصباح الفقاهة 4/83.
5- 5 . حاشیته علی المکاسب 2/100.
6- 6 . بُشری الفقاهة 4/23 لآیة اللّه الشیخ محمّد أمین المامقانی - مدظله - .

تکون ناقصة، یمکن أن تکون تامة و ظهور الآیة الشریفة لا ینافی تمامیة کان، کما أنّ القراءة بِهِما موجودة، و القرینة علی تمامیته هی عدم الحصر و إذا کانت تامة فالأسباب الصحیحة لأکل المال شیئان هما: التجارة و الاکل عن تراض بحیث لو ینعدم کلاهما معا - لاکل واحد منهما - یرتفع الحلیّة.

و یمکن أن یجاب عن مناقشة تلمیذ الشیخ الأعظم لِشَیْخِهِ: بأنّ کون قید «عن تراض» نصا قرآنیا و قانونا تشریعیا دستوریّا لا یردّ القید الغالبی کما فی قید «فی حجورکم»(1) و الشاهد علی غالبیة «عن تراض» موجود و هو تحقق نوع التجارة مع تراضی الطرفین. نعم، یمکن أن یوجد تجارة لیست فیها رضایة أحد الأطراف نحو بیع المضطر.

فما ذکره الشیخ الأعظم تامٌ، و الذی یُهَوِّنُ الخطب أنّ المحقّق التستری و الشیخ الأعظم و السیّد الخوئی و تلمیذه و هذا القاصر کلنّا نری أنّ بیع الفضولی مع صدور الإجازة و الإذن من المالک یکون من مصادیق المستثنی أعنی «تجارة عن تراض» لا فرق بین القول بانقطاعه أو اتصاله، و دلالته علی الحصر أو عدمه، و تمامیة «تکون» أو ناقصیته، و غالبیّة قید «عن تراض» أو احترازیته، و خبریّة «عن تراض» بعد الخبر أو قیدیّته، فهذه المناقشات لا تثمر عملیّا و لا یتم الاستدلال علی بطلان بیع الفضولی بهذه الآیة الکریمة و الحمدللّه.

و لذا قال الجدّ الشیخ جعفر رحمه الله : «و أضعف منه [أی من الاستناد إلی الأخبار المنقولة عند العامة و الخاصة الآتیتان] الاستناد إلی آیة: «تجارة عن تراض» لأنّ التجارة لا تتمّ إلاّ بالنقل و الانتقال و هما ناشئان عن التراضی و إن تأخّر عنهما، و مثل ذلک کثیر فی أبواب النکاح، و لا بحث فی جریان الفضولی فیه»(2).

ص: 263


1- 1 . سورة النساء /23.
2- 2 . شرح القواعد 2/83.
2- السنة
تمسّکوا لبطلان بیع الفضولی بعدّة من الروایات:

بعضها عامیات: نحو قوله صلی الله علیه و آله لحکیم بن حزام: لا تبع ما لیس عندک.(1)

و رواها الصدوق(2) فی حدیث مناهی النبی صلی الله علیه و آله من طریقنا هکذا: و نهی عن بیع ما لیس عندک.

ولکن سند الصدوق إلی حدیث مناهی النبی صلی الله علیه و آله ضعیف لوجود عدّة من المجاهیل فی السند و منهم شعیب بن واقد.

و العجب من المحقّق السیّد المروج(3) کیف حکم بصحة سند حدیث المناهی إلی شعیب بن واقد؟!

نعم، رواها الشیخ(4) بسنده الصحیح عن سلیمان بن صالح - الجصاص الثقة - عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن سلف و بیع و عن بیعین فی بیع، و عن بیع ما لیس عندک و عن ربح ما لم یضمن.

و یراها الشیخ(5) نصا فی بطلان بیع الفضولی.

بتقریب: أنّ الفضول «باع ما لایقدر علی تسلیمه فأشبه الآبق و الطیر فی الهواء»(6)، و لأنّ جواز التصرف فی العقود معلول للملک و هو [الملک] سببٌ و علةٌ له

ص: 264


1- 1 . سنن ابن ماجه 2/737، ح2187، سنن أبی داود 3/283، ح3503، سنن الترمذی 3/534، ح1232، سنن النسانی 7/289، سنن البیهقی 5/267، 317، 339، مسند أحمد 4/403 و 455، المعجم الکبیر 3/217 و 218 للطبرانی.
2- 2 . الفقیه 4/8، ح4968 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 17/357، ح12، الباب 12 من أبواب عقد البیع و شروطه، و 18/48، ح5، الباب 7 من أبواب أحکام العقود.
3- 3 . هدی الطالب 4/486.
4- 4 . التهذیب 7/230، ح1005 و نقل عنه فی وسائل الشیعة 18/47، ح2.
5- 5 . الخلاف 3/169، مسألة 275.
6- 6 . کما فی تذکرة الفقهاء 10/15.

[لجواز التصرف(1)]، و لأنّ «عدم حضوره عنده کنایة عن عدم تسلّطه علی تسلیمه لعدم تملّکه»(2)، و الحاصل: البیع لا یتم إلاّ فی الملک و حیث أنّ الفضول لا یکون مالکا فبیعه باطلٌ.

و یرد علیه: «النهی فی المعاملات لا یقتضی الفساد و نصرفه إلی باع عن نفسه و یمضی فیشتریه من مالکه لأنّه ذکره صلی الله علیه و آله جوابا لحکیم بن حزام حین سأله انه أنّه یبیع الشی ء ثم یمضی و یشتریه و یسلّمه و القدرة علی التسلیم من المالک موجودة إن أجازه»(3).

و «الأخبار العامیة علی ضعفها غیر واضحة الدلالة... لاحتماله المنع عن بیع غیر المقدور علی تسلیمه... و ربّما قیل(4): بانتقاضه ببیع الوکیل... و أنّ فی أخبارنا ما یعارض هذا الخبر معربا عن کون المنع مذهبا للعامة ففی الصحیح - کما قیل(5)- عمّن باع ما لیس عنده، قال: لا بأس، قلت: إنّ مَن عندنا یفسده، قال: و لِمَ؟ قلت: باع ما لیس عنده، قال ما یقول فی السلم قد باع صاحبه ما لیس عنده(6). فتأمل»(7).

و الفضول لا یبیع لنفسه حتّی یشمله النبوی الشریف بل یبیع لمالکه فیکون البیع فی ملکه و بعد إجازته ینسب إلیه و یقدر الفضول علی تسلیمه، و یتم البیع و بما ذکرنا صح تعجّب التستری(8) من الشیخ حیث یری هذا النبوی نصا فی بطلان بیع الفضولی.

و حاصل الرد: المراد من الموصول فی الحدیث الأعیان الشخصیة الخارجیة و إلاّ

ص: 265


1- 1 . کما فی مفتاح الکرامة 12/595.
2- 2 . کما فی المکاسب 3/365.
3- 3 . کما فی تذکرة الفقهاء 10/15.
4- 4 . کما فی الحدائق 18/379 و الریاض 8/222 و شرح القواعد 2/83.
5- 5 . القائل صاحب الریاض 8/226.
6- 6 . وسائل الشیعة 18/47، ح3، صحیحة عبدالرحمن بن الحجاج.
7- 7 . مفتاح الکرامة 12/596 و 597.
8- 8 . مقابیس الأنوار، کتاب البیع /30.

جواز بیع الکلّی مطلقا - حالاًّ و سلفا - عند الإمامیة من الواضحات، و کذا عند العامة(1) ولکن فی خصوص بیعه سلفا لأنّهم لا یجوّزون بیع الکلّی حالاً، فلا یمکن الاستدلال به علی بطلان بیع الفضولی لأنّ الظاهر منه إرادة بیع شی ء لنفسه مع أنّه غیر مالک له حین المعاملة علی أن یمضی فیشتریه من مالکه و یدفعه إلی من باعه منه، و هذا غیر بیع الفضولی. هذا أوّلاً.

و منه یظهر أنّ ما ورد فی تقریرات المحقّق النائینی من «أنّ بیع الکلّی سلفا أو حالاًّ جائز باتفاق الفریقین»(2) غیر تام.

و ثانیا: لو تنزّلنا عن هذا الظاهر یکون الحدیث مجملاً إذ لا نعلم أنّ المراد منه إرادة مطلق بیع ما هو خارج عن ملکه - حتّی یشمل بیع الفضولی - أو خصوص البیع الشخصی لنفسه علی أن یمضی و یشتریه و یدفعه إلی المشتری، فلا یمکن التمسک به فی بطلان بیع الفضولی لإجماله.

و ثالثا: علی تقدیر أنّ المراد من الحدیث إرادة مطلق بیع ما هو خارج عن ملکه، لا یدلّ علی بطلان بیع الفضولی لجهتین:

1- بیع الفضولی بعد إجازة المالک و استناد البیع إلیه یدخل فی عنوان بیع ما عنده و ما هو مالکه فیخرج من عموم الحدیث کما مرّ.

2- و علی فرض عمومیته، هذا الحدیث بعمومه یدلّ علی بطلان بیع الفضولی و ما مرّ من الروایات الدالة علی صحته تدل بالخصوص علی صحته فیخصصن عمومه.

هذا توضیح ما أفاده الشیخ الأعظم(3) فی ردّه.

مقالة المحقّق النائینی

ولکن اعترض النائینی علی الشیخ الأعظم فی تخصیص عموم الحدیث بالروایات الخاصة الدالة علی صحة بیع الفضولی، لأنّه یری النسبة بینهما التباین لا العموم

ص: 266


1- 1 . الفقه علی المذاهب الأربعة 2/164 و 240 و 304.
2- 2 . منیة الطالب 2/28.
3- 3 . المکاسب 3/367 و 368.

و الخصوص و قال: «لو سلّم دلالتها [علی المنع بالعموم] فلا یمکن تخصیصها بالأدلة الدالة علی صحة الفضولی لأنّ تعارضهما لیس بالعموم و الخصوص المطلق [بل بالتباین[ بتقریب: أنّ مفاد الأدلة المانعة هو أنّ بیع مال الغیر لا یجوز سواء قصد لنفسه أم للمالک و سواء أجاز أم لم یجز.

و مفاد الأدلة المجوّزة صحة البیع المالک إذا أجاز لأنّه لم یکن البیع لنفسه أو للمالک بلا إجازته محلاًّ لتوهم الصحة حتّی یرد المنع بنحو العموم، بل التعارض بینهما بالتباین...»(1).

و ناقشه فی هذا الاعتراض السیّد الخوئی بقوله: «أنّ ما أفاده ذهول عن طریقة الجاهین و من جهة عدم التوجّه إلی أفعال الظالمین و المسلمین غیر المبالین بالدین، أفلا ینهبون أموال الناس و یبیعونها و الناس [الآخرون] یشترون منهم، و هذا فی زماننا کثیر فکیف بزمان الجاهلیة فإنّ النهب و السرقة کان شعارهم و کانوا یفتخرون بذلک بینهم أفلا یصحّ مع ذلک أن ینهاهم النبی صلی الله علیه و آله بقوله: «لا تبع ما لیس عندک» و من الظاهر أن [عموم[ نهیه صلی الله علیه و آله بمکان من الصحة و المتانة لیرتدعوا بذلک عن بیع أموال الناس و علیه فالنسبة بینهما عموم و خصوص فیتقدّم الروایات [الخاصة الدالة علی صحة الفضولی] علیه لا محالة هذا»(2).

مقالة المحقّق الإیروانی

یری الإیروانی النسبة بینهما هو العموم من وجه و قال: «... المنفی فی هذه الأخبار [لا تبع ما لیس عندک] لو کان هو البیع لنفسه کانت هذه الأخبار أخص من هذه الجهة و إن کانت أعمّ من حیث إجازة المالک فتکون النسبة عموما من وجه و تقدیم تلک علی هذه لیس اولی من العکس بتقدیم هذه و الحکم ببطلان البیع لنفسه و إن أجاز المالک کما قالوه فی بیع الغاصب...»(3).

ص: 267


1- 1 . منیة الطالب 2/29.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/409.
3- 3 . حاشیته علی المکاسب 2/230.

مراده قدس سره : الحدیث عن بیع ما لیس عندک عام سواء تعقّبه الإجازة أم لا و یختص ببیع البائع لنفسه، و الروایات الدالة علی صحة الفضولی أیضا عام سواء باعه الفضولی لنفسه أو لمالکه ولکن إذا تعقّبه الإجازة.

فیتعارضان فی بیع الفضول لنفسه إذا تعقّبه الإجازة و لماذا فی محل الاجتماع تقدّمون الروایات الدالة علی صحة الفضولی؟ و لا یقدّمون الحدیث؟!

أجاب الإیروانی بنفسه عن الاشکال بقوله: «... إنّ نتیجة التعارض بین الطائفتین بالعموم من وجه هو التساقط و الرجوع إلی العمومات و مقتضی العمومات کما تقدّم هو الصحة»(1). هذا أوّلاً إذا تمّ العموم من وجه.

و ثانیا: علی فرض وجود هذه النسبة بین الحدیث و الروایات المجوّزة یکون مورد المعارضة بینهما و محل اجتماعهما هو بیع مال الغیر لنفسه مع لحوق الاجازة و هو خارج عن محل بحثنا فعلاً لأنّ محل البحث بیع الفضول مال الغیر مع عدم سبق النهی منه و صدور الاجازة منه بعد العقد.

و ثالثا: لا یتم العموم من وجه لأنّ الروایات الدالة علی صحة الفضولی لیس فیها ما یدّل علی صحة بیع الفضول لنفسه أو من دون إجازة المالک، غایة الأمر تدل علی صحة بیع الفضولی إذا باعه لمالکه مع صدور إجازته، فلم یکن بینهما نسبة و ترتفع المعارضة من رأسه، لأنّ الحدیث یختص ببیع البائع لنفسه سواء تعقّبه الإجازة أم لا، و الروایات المجوّزة تدل علی صحة بیع الفضول لمالکه مع صدور إجازته و لم یکن بینهما محل اجتماع.(2)

و من العامیات:

النبوی الآخر عنه صلی الله علیه و آله : لاطلاق إلاّ فی ما یملک و لا عتق إلاّ فی ما یملک و لا بیع إلاّ فی ما یملک.(3)

ص: 268


1- 1 . حاشیته علی المکاسب 2/230.
2- 2 . راجع محاضرات فی الفقه الجعفری 2/341.
3- 3 . سنن الترمذی 3/486، ح1181، مسند أحمد 2/207، السنن الکبری 7/318، سنن الدار قطنی 4/14، ح42، المصنَّف 6/417، ح11456 لعبد الرزاق، کنزالعمال 9/641، ح27779، مستدرک الحاکم 2/17.

رواها النوری فی مستدرکه(1) عن ابن أبی جمهور الأحسائی فی کتابه عوالی اللآلی(2) ثلاث مرات کلّها مرفوعات و بلفظ «لا تملک» بالتاء لا الیاء.

نعم، ورد فی صحیحة الصفار أنّه کتب إلی أبی محمّد الحسن بن علی العسکری علیه السلام : فی رجل باع قطاع أرضین فیحضره الخروج إلی مکة و القریة علی مراحل من منزله و لم یکن له من المقام ما یأتی بحدود أرضه و عرف حدود القریة الأربعة، فقال للشهود: أشهدوا أنّی قد بعتُ فلانا - یعنی المشتری - جمیع القریة التی حدّ منها کذا، و الثانی و الثالث و الرابع و إنّما له فی هذه القریة قطاع أرضین فهل یصلح للمشتری ذلک و إنّما له بعض هذه القریة و قد أقرّ له بکلّها؟ فوقع علیه السلام : لا یجوز بیع ما لیس یملک و قد وجب الشراء من البائع علی ما یملک.(3)

قال صاحب الحدائق: «و الأصحاب قد افتوا فی هذه المسألة التی هی مضمون هذه الروایة بلزوم البیع فیما یملکه و وقوفه فیما لا یملک علی الإجازة من المالک بمعنی أنّه صحیح لکونه فضولیّا موقوفا فی لزومه علی إجازة المالک، و الروایة - کماتری - تنادی بأنّه «لا یجوز» الدال علی التحریم، و لیس ثمة مانع یوجب التحریم سوی عدم صلاحیة المبیع للنقل بدون إذن مالکه»(4).

و فیه: علی فرض قبول ما ذکره قدس سره من المانع، لا یدخل فی بیع الفضولی لمالکه بعد صدور الإجازة منه التی هی إعلام و إظهار للرضا و إذن منه فلا یشمل الفضولی.

مضافا: إلی أنَّ ظاهرها بیع الفضول مال غیره لنفسه لا لمالکه من دون إذنه، أو عدم صحة البیع الواقع من غیر المالک علی الاستقلال من دون لحوق إجازة المالک و کلاهما

ص: 269


1- 1 . مستدرک الوسائل 13/230، ح3 و 4، و 15/293، ح5.
2- 2 . عوالی اللآلی 2/247، ح16، 3/205، ح38، 1/233، ح136.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/339، ح1، الباب 2 من أبواب عقد البیع و شروطه.
4- 4 . الحدائق 18/386.

غیر مسألتنا هذه.

هذا کلّه بالنسبة إلی الصحیحة.

و أمّا النبوی الآخر بالتقریب و الردّ اللذین مَضَیا آنفا فی النبوی الأوّل فلا نعید بناءً علی القراءَةِ بصیغة المعلوم.

و أمّا بناءً علی القِراءَةِ بصیغة المجهول: فتکون دلیلاً علی بطلان بیع ما هو غیر مملوک کالسمک فی البحر و الطیر فی الهواء و الدابة الوحشیة علی الجبال، و کذا عتق العبد قبل استرقاقه بأن یقول: لو تملکّتُکَ فأنتَ حرّ، و کذا طلاق المرأة قبل تزوّجها بأن یقول: لو تزوّجُتکِ فأنتِ طالق، أو أن یطلّقها أوّلاً ثمّ یتزوّجها لیؤثر الطلاق بعد النکاح، و أنت تعلم بأنَّها کلّها خارجة عمّا نحن بصدده فی المقام من أدلة بطلان بیع الفضولی.

و أمّا غیر عامیات

فعدّة من الروایات:

منها: صحیحة محمّد بن القاسم بن الفضیل قال: سألت أباالحسن الأوّل علیه السلام عن رجل اشتری من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم، و کتب علیها کتابا بأنّها قد قبضت المال و لم تقبضه، فیعطیها المال أم یمنعها؟ قال: قل له لیمنعها أشدّ المنع فإنّها باعته مالم تملکه.(1)

قال الفیض: «فلانٌ کنایة عن العباس، و فی الکافی(2) من امرأة من العباسیین. و القطائع: محالّ ببغداد أقطعها المنصور لاُناس من أعیان دولته لیعمّروها و یسکنوها، و إنّما لم تملکها لأنّها کانت للإمام علیه السلام »(3).

أقول: القطائع: جمع القطیعة و هی طائفة من أرض الخراج و اسم للشی ء الذی یُقْطَع، و اسم لما ینقل من المال کالقری و الأراضی و الأبراج و الحصون.(4) و الظاهر أنّ

ص: 270


1- 1 . وسائل الشیعة 17/333، ح2، الباب 1 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- 2 . الکافی 9/712، ح8 (5/133).
3- 3 . الوافی 17/294، ح17310.
4- 4 . راجع القاموس المحیط 2/1008، و مجمع البحرین 4/381.

العراق کلّه مفتوح عنوة فکانت أراضیه ملْکا للمسلمین - لا الإمام علیه السلام - وَ لِذا نَهاهُ الإمام علیه السلام عن قَبْضِ الثمن.

قال الیاقوت الحموی فی معجم البلدان: «و أمّا القطیعة فلها معنیان:

أحدهما: ة ن یعمد الإمام الجائز الأمر و الطاعة إلی قطعة من الأرض یفرزها عمّا مجاورها و یهبها ممّن یری لیعمّرها و ینتفع بها، إمّا أن یجعلها منازل یسکنها من یشاء، و أمّا أن یجعلها مزدرعا ینتفع بما یحصل من غلّتها و لا خراج علیه فیها، و ربّما جعل علی مذدرعها خراج، و هذه حال قطائع المنصور و ولده بعده ببغداد فی محالّها فمن ذلک قطیعة الربیع و قطیعة أمّ جعفر و قطیعة فلان... .

القطیعة الاخری: فهی أن یقطع السلطان من یشاء من قواده و غیرهم القری و النواحی و یقطع علیهم عنها شیئا معلوما یؤدونه فی کلِّ عام قلَّ أو کثر، توفّر محصولها أو نزر لا مدخل للسلطان معه فی أکثر من ذلک»(1).

قال فی الحدائق فی تذییل الصحیحة: «فلو کان البیع الفضولی صحیحا - کما یدّعونه - و دفع الثمن للبائع الفضولی جائزا - کما یقولونه - لما أمر علیه السلام بمنعها أشدّ المنع معلَّلاً ذلک بأنّها باعت ما لا تملکه»(2).

ثمّ العجب من شیخنا الاستاذ قدس سره حیث یقول: «و لا یخفی ضعف الروایة سندا لعدم ثبوت توثیق لأبی عبداللّه البرقی [محمّد بن خالد]»(3).

لأنّ الشیخ(4) وثقه فی رجال الرضا علیه السلام و عدّه من أصحاب أبی الحسن موسی علیه السلام ، کما ذکره فی أصحاب الجواد علیه السلام قائلاً: «من أصحاب موسی بن جعفر و الرضا علیهماالسلام »(5). و

ص: 271


1- 1 . معجم البلدان 1/42.
2- 2 . الحدائق 18/386.
3- 3 . إرشاد الطالب 3/332.
4- 4 . رجال الشیخ /386، رقم 4.
5- 5 . رجال الشیخ /404، رقم 1.

أمّا مقالة النجاشی فی شأنه: «کان محمّد ضعیفا فی الحدیث»(1) یرجع إلی تضعیف حدیثه لا نفسه لأنّه یقال: «یروی عن الضعفاء و یعتمد المراسیل»(2) فیبقی توثیق الشیخ بلا معارض کما علیه السیّد الخوئی(3) و لذا وثّقه العلاّمة و قال: «و الاعتماد عندی علی قول الشیخ أبی جعفر الطوسی رحمه الله من تعدلیه»(4).

و الصحیحة منعت عن إقباض الثمن فی بیع الفضولی، و لا بأس بالالتزام بها و لا دلالة لها علی فساد بیع الفضولی بل تؤید صحته إذ لم یعلّل الإمام علیه السلام المنع عن إقباض الثمن ببطلان البیع بل علّله بأنّها باعت مالم تملکه مع أنّه لو کان باطلاً لکان التعلیل به اُولی و أنسب.(5)

و بعبارة اُخری: تدلّ علی «عدم جواز القبض و الإقباض للبائع غیر المالک و هذا أمر متسالم علیه بین القائلین بتمام بیع الفضولی بلحقوق الإجازة به و بین المنکرین له»(6).

مضافا إلی أنّها لم تبعه لمالکه - و هو المسلمین - بل باعته لنفسها مع ادعاء المالکیة فالروایة خارجة عن محلّ بحثنا فعلاً و هو بیع الفضولی لمالکه إذا تعقّبه الإجازة منه.

و منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث قال: سأله رجل من أهل النیل عن أرض اشتراها بفم النیل، و أهل الأرض یقولون: هی أرضهم، و أهل الاُستان یقولون: هی من أرضنا، فقال: لاتشترها إلاّ برضا أهلها.(7)

ص: 272


1- 1 . رجال النجاشی /335، رقم 898.
2- 2 . رجال الغضائری /93، رقم 132.
3- 3 . راجع معجم رجال الحدیث 16/67، رقم 10688.
4- 4 . ترتیب خلاصة الأقوال 376، رقم 98.
5- 5 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/411.
6- 6 . إرشاد الطالب 3/332.
7- 7 . وسائل الشیعة 17/334، ح3.

النیل: موضع قریب ببغداد بینه و بین واسط(1) قال الیاقوت الحموی: «النیل: بکسر أوّله بلفظ النیل الذی تصبغ به الثیاب فی مواضع: أحدها: بلیدة فی سواد الکوفة قرب حلّة بنیمزید یخترقها خلیخ کبیر یتخلّج من الفرات الکبیر حفره الحجاج بن یوسف و سما بنیل مصر، و قیل: إنّ النیل هذأیستمدّ من صراة جاماسب ینسب إلیه خالد بن دینار النیلی...»(2).

و الاُستان: أربع کُوَر(3) ببغداد: عال و أعلی و أوسط و أسفل.(4)

قال صاحب الحدائق فی ذیلها: «لا یقال: إنّ السؤال فی الروایة إنّما وقع عن أرض متنازع فیها، معلوم عدم إجازة المالک فیها علی تقدیر الفضولیة.

لأنّا نقول: موضع الاستدلال فی الخبر إنّما هو قوله: «لا تشترها إلاّ برضا أهلها» الدال علی تحریم الشراء قبل تقدّم الرضا.

و دعوی قیام الإجازة المتأخرة مقام الرضا السابق، مع کونه لا دلیل علیه، مردود بما ینادی به الخبر من المنع و التحریم إلاّ مع تقدّم الرضا.

و حاصل معنی الجواب تطبیقا علی السؤال: أنّ الأرض المذکورة لما کانت محلّ النزاع فلا تشترها حتی تعلم مالکها من أیّ الفریقین و یکون راضیا بالبیع»(5).

أقول: اعتبر الإمام علیه السلام رضا أهلها - أی أهل النیل - دون أهل الاُستان لأنّهم ذَوُوْ الید علیها و الید أمارة للملکیة حتّی یثبت خلافها، و رضا المالک یدخل فی صحة البیع بلا کلام، و القائل بصحة بیع الفضولی مع لحوق الإجازة به یری الإجازة إظهارا لرضا المالک بالبیع و إلاّ لم یجزه.

ص: 273


1- 1 . فی القاموس المحیط 2/407: النیل - بالکسر - : نهر بمصر، و قریة بالکوفة، و اُخری بیزد، و بلدة بین بغداد و واسط.
2- 2 . معجم البلدان 5/334.
3- 3 . کُوَر: جمع الکورة: المدینة و الناحیة.
4- 4 . القاموس المحیط 2/1583، الوافی 18/992، ح18689.
5- 5 . الحدائق 18/387.

فالصحیحة لا تدلّ علی بطلان بیع الفضولی، فلا یتم ما ذکره صاحب الحدائق قدس سره .

و منها: ما ورد فی التوقیع الذی رواه الحمیری أنّه کتب إلی صاحب الزمان علیه السلام : أنّ بعض أصحابنا له ضیعة جدیدة بجنب ضیعة خراب للسلطان فیها حصة، و أکَرَتُهُ(1) ربّما زرعوا تنازعوا فی حدودها، و تؤذیهم عمّال السلطان، و تتعرض فی الکلِّ من غلات ضیعته، و لیس لها قیمة لخرابها و إنّما هی بائرة منذ عشرین سنة، و هو یتحرج من شرائها لأنّه یقال: إنّ هذه الحصة من هذه الضیعة کانت قبضت من الوقف قدیما للسلطان، فإن جاز شراؤها من السلطان کان ذلک صونا و صلاحا له و عمارة لضیعته، و أنّه یزرع هذه الحصة من القریة البائرة بفضل ماء ضیعته العامرة و ینحسم عن طمع اولیاء السلطان، و إن لم یجز ذلک عمل بما تأمره به إن شاء اللّه.

فأجابه علیه السلام : الضیعة لا یجوز ابتیاعها إلاّ من مالکها أو بأمره أو رضا منه.(2)

قال فی الحدائق: «و التقریب فیها ما تقدّم من تحریم الشراء إلاّ بعد تقدّم رضا المالک»(3).

أقول: الروایة مرسلة سندا. و لا تدلّ علی بطلان بیع الفضولی، لأنّه بعد صدور الإجازة من المالک یکون بیعا من المالک و بأمره و إجازته و رضایته، فإیرادها هنا بلا وجه و مرّ ما فی کلام صاحب الحدائق قدس سره .

و منها: معتبرة خالد بن الحجاج قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الرجل یجی ء فیقول: اشتر هذا الثوب و أربحک کذا و کذا، قال: ألیس إن شاء ترک و إن شاء أخذ؟ قلت: بلی: قال: لا بأس به إنّما یحلّ الکلام و یحرم الکلام.(4)

و منها: صحیحة أخیه یحیی بن الحجاج قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن رجل قال لی: اشتر هذا الثوب و هذه الدابة و بعنیها أربحک فیها کذا و کذا، قال، لا بأس بذلک،

ص: 274


1- 1 . الأکَرَة: جمع أکّار: الفلاح، راجع الصحاح 2/580.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/337، ح8.
3- 3 . الحدائق 18/387.
4- 4 . وسائل الشیعة 18/50، ح4، الباب 8 من أبواب أحکام العقود.

اشترها و لا تواجبه البیع قبل أن تستوجبها أو تشتریها.(1)

بتقریب: أَنَّ الرِّوایَتَیْنِ تَدُلاّنِ عدم جواز بیع مال الغیر مطلقا إلاّ بعد دخوله فی ملک البائع و حیث أنّ الفضول یبیع مال غیره تنفیه الروایتان.

و یردّه: تنفی الروایتان بیع مال الغیر عن نفسه ثمَّ شرائه من مالک و تحویله للغیر، و هذا البیع الشخصی باطل عندنا، ولکن إذا کان علی وجه البیع الکلّی فلا إشکال فیه کما مرّ.

و لذا قال الشیخ الأعظم: «... و هذا المعنی یرجع إلی المراد من روایتی خالد و یحیی الآتیتین فی بیع الفضولی لنفسه و یکون بطلان البیع بمعنی عدم وقوع البیع للبائع بمجرد انتقاله إلیه بالشراء فلا ینافی أهلیّته لتعقّب الإجازة من المالک...»(2).

و مراده من هذا المعنی ما مرّ من البیع الشخصی لنفسه لا مالکه، و لا البیع الکلّی.

ثم قال بعد سطور: «و أمّا الروایتان فدلالتهما علی ما حملنا علیه السابقَیْن اُوضح»(3).

مراده قدس سره من السابقَیْن: النبویان السابقان کما عن الفقیه المامقانی(4) و أمّا المراد من الروایتین فَهُما روایتا خالد و یحیی ابنی الحجاج الماضیتان کما قاله الفقیه الیزدی(5) و المحقّقون الشهیدی(6) و الخوئی(7) و المروج(8) و شیخنا الاستاذ(9) رحمهم الله ، لا التوقیعان

ص: 275


1- 1 . وسائل الشیعة 18/52، ح13.
2- 2 . المکاسب 3/367.
3- 3 . المکاسب 3/368.
4- 4 . غایة الآمال /364.
5- 5 . حاشیة المکاسب 2/132.
6- 6 . هدایة الطالب 3/51.
7- 7 . مصباح الفقاهة 4/99.
8- 8 . هدی الطالب 4/500.
9- 9 . إرشاد الطالب 3/337.

للصفار و الحمیری کما عن الفقیه المامقانی(1) رحمه الله .

أعنی: لابدّ من أن تحملا علی النبویین اللذَیْن مرّا.

و منها: التوقیع المروی بسند معتبر و فیه: و أمّا ما سألت عنه من أمر الضیاع التی لناحیتنا هل یجوز القیام بعمارتها و أداء الخراج منها و صرف ما یفضل من دخلها إلی الناحیة احتسابا للأجر و تقرّبا إلیکم؟ فلا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر إذنه، فکیف یحلّ ذلک فی مالنا؟! مَنْ فعل شیئا مِنْ ذلک لغیر أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرم علیه، و مَنْ أکل مِنْ مالنا شیئا فإنّما یأکل فی بطنه نارا و سیصلی سعیرا.(2)

صاحب الحدائق أصرّ علی أنّ عقد الفضول تصرف فی مال الغیر فیکون حراما و باطلاً و یقول: «... من حرمة التصرف فی مال الغیر بغیر إذنه إلاّ ما استثنی، و لیس منه هذا، و لا شک أنّ هذا العقد الواقع بغیر اذن المالک و ما یترتب علیه من دفع المبیع و قبض الثمن من ذلک القبیل، و إذنه أخیرا.

لا یخرج تلک التصرفات السابقة علی أن تکون غصبا.

نعم، یعفی عمّا جناه من ذلک کما لوجنی شخص علی شخص ثمّ أبرأه من ذلک. ولو لم یأذن المالک فإنّ حکم الغصب باق فیکون هو مؤاخذا لجمیع تصرفاته دینا و دنیا، أمّا الأوّل فبالمعاقبة و أمّا الثانی فبوجوب إرجاع کلّ إلی حقٍّ مستحقه»(3).

و قرّب المحقّق التقی الاستدلال بقوله: «أنّه تصرف فی ملک الغیر بغیر إذنه فیکون قبیحا عقلاً و شرعا فیکون فاسدا»(4).

و قرّبه الشیخ الأعظم بقوله: «و لا ریب أن بیع مال الغیر تصرّف فیه عرفا»(5).

ثم ردّ المحقّق التقی هذا الاستدلال و قال: «... و دعوی کونه تصرفا فی ملک الغیر

ص: 276


1- 1 . غایة الآمال /364.
2- 2 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال.
3- 3 . الحدائق 18/382.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/339.
5- 5 . المکاسب 3/371.

محرّما أوهن شی ءٍ، للمنع مِن عَدّ مجرد إیقاع الصیغة تصرفا عرفا و منع حرمة مثله لو عَدّ تصرفا، ولو سلّم کونه محرّما فبعثه علی الفساد ممنوع أیضا لکون النهی عنه لأمر خارج»(1).

و قال السیّد العاملی: «أمّا دعوی التصرف فممنوعة، لأنّ البیع بمجرّده مع کون المال عند صاحبه و أنّ أمره موکل إلیه إن شاء أجاز و إن شاء لم یجز لا یسّمی تصرفا»(2).

و کذلک قال صاحب الجواهر: «منع کون إیقاع لفظ العقد - الذی لم نتحقّق تأثیره إلاّ برضا المالک - تصرّفا فی مال الغیر، حتّی من الغاصب ضرورة أصالة براءة ذمّته من حرمة القول المزبور، نعم یحرم علیه تصرفاته فیه بالقبض و الإقباض و نحوهما. علی أنّ حرمة ذلک علیه لا تقتضی الفساد عقلاً بل و لا شرعا لعدم تعلّق النهی به علی وجهٍ یفهم منه عرفا ذلک»(3).

و قال الشیخ الأعظم: «و الجواب: أنّ العقد علی مال الغیر متوقّعا لإجازته غیر قاصد لترتیب الآثار علیها لیس تصرفا فیه»(4).

أقول: ردّ القوم تام و أنت تجد هذا الرد فی کلام صاحبی المقابس(5) و شرح القواعد(6).

هذا کُلُّهُ ما ذَکَرَهُ الشیخ الأعظم من الروایات، و بَقِیَ بعضها الاْآخَرُ وَ هُوَ مَذْکُوْرٌ فی کلام صاحب الحدائق(7) و ترکها الشیخ الأعظم لعلّ لوضوح جوابها عنده:

و استشهد صاحب الحدائق بالروایات الواردة فی النهی عن شراء الخیانة و

ص: 277


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/340.
2- 2 . مفتاح الکرامة 12/595.
3- 3 . الجواهر 23/457 (22/282).
4- 4 . المکاسب 3/371.
5- 5 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /28.
6- 6 . شرح القواعد 2/84.
7- 7 . الحدائق 18/387 و ما بعدها.

السرقة:

منها: موثقة سماعة قال: سألته عن شراء الخیانة و السرقة فقال: إذا عرفت أنّه کذلک فلا إلاّ أن یکون شیئا اشترتیه من العامل.(1)

قال صاحب الحدائق فی تقریب الاستدلال بها: «فقد نهی علیه السلام عن الشراء مع العلم و النهی دلیل التحریم، و لیس ذلک إلاّ من حیث أنْ المبیع غیر صالح للنقل لکون التصرف فیه غصبا محضا و التصرف فی المغصوب قبیح عقلاً و نقلاً. و الأصحاب فی مثل هذا یحکمون بالصحة و الوقوف علی الإجازة و هل هو إلاّ ردّ لهذا الخبر و نحوه...»(2).

و منها: فی حدیث مناهی النبی صلی الله علیه و آله : و من اشتری خیانة و هو یعلم فهو کالذی خانها.(3)

و منها: صحیحة أبی بصیر قال: سألت أحدهما علیهماالسلام عن شراء الخیانة و السرقة؟

قال: لا إلاّ أن یکون قد اختلط معه غیره، فأمّا السرقة بعینها فلا، إلاّ أن یکون من متاع السلطان فلا بأس بذلک.(4)

قال العلاّمة المجلسی رحمه الله : «قوله علیه السلام : إلاّ أن یکون من متاع السلطان، الظاهر أنّ الاستثناء منقطع و إنّما استثنی علیه السلام ذلک لأنّه کالسرقة و الخیانة من حیث أنّه لیس له أخذه. و علی هذا لا یبعد أن یکون الاستثناء متصلاً. و قیل(5): المعنی أنّه إذا کانت السرقة من مال السلطان یجوز للشیعة ابتیاعها بإذن الإمام. و قیل: اُرید به ما إذا سرق الانسان مال ظالمٍ علی وجه التقاص. و الأوّل اُوجه»(6).

و منها: معتبرة جراح المدائنی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لا یصلح شراء السرقة و

ص: 278


1- 1 . وسائل الشیعة 17/336، الباب 1 من أبواب عقد البیع و شروطه.
2- 2 . الحدائق 18/387.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/333، ح1.
4- 4 . وسائل الشیعة 17/335، ح4.
5- 5 . الظاهر أنه من الفیض فی الوافی 17/289 ذیل ح17302.
6- 6 . مرآة العقول 19/268.

الخیانة إذا عُرفت.(1)

و منها: صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل سرق جاریة ثمّ باعها یحلّ فرجها لمن اشتراها؟ قال: إذا أنباهم أنّها سرقة فلا یحلّ، و إن لم یعلم فلا بأس.(2)

قال صاحب الحدائق فی ذیل هذه الروایات: «فهذه جملة من الأخبار الواضحة الظهور کالنور علی الطور فی عدم جواز بیع الفضولی و عدم صحته ولو کان ما یدعونه من صحة بیع الفضولی و تصرفه بالدفع و القبض صحیحا و إنّما یتوقف علی الإجازة، لصرح به بعض هذه الأخبار أو اُشیر إلیه و لأجابوا علیهم السلام بالصحة، و إن کان اللزوم موقوفا علی الإجازة فی بعض هذه الأخبار إن لم یکن فی کلّها مع أنه لا أثر فیها لذلک ولو بالإشارة، فضلاً عن صریح العبارة»(3).

قال الجدّ فی نقد هذا الاستشهاد ما نصه: «... و أضعف من ذلک(4) الاحتجاج علی ذلک(5) بما ورد فی الأخبار من المنع عن شراء السرقة و الخیانة و المنع عن وطی الجاریة المسروقة إذا اشتراها عن السارق و نحو ذلک، فإن تلک الروایات ظاهرة جدّا بل صریحة فی غیر صورة رضا المالک و تنفیذه للبیع الواقع فلا وجه للاحتجاج بها فی المقام. و هو ظاهر علی أنّه لو سلّم اطلاقها فلا ریب فی تنزیلها علی غیر صورة الإجازة إذا قلنا بصحة فضولی الغاصب مع تعقّب الإجازة بناءً علی شمول الأدلة له فهی المقیّدة لإطلاقها و إن لم نقل بصحّته فلا کلام»(6).

و قال صاحب الجواهر فی نقده: «فمن الغریب الاستدلال بهذه النصوص علی

ص: 279


1- 1 . وسائل الشیعة 17/336، ح7.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/338، ح12.
3- 3 . الحدائق 18/388.
4- 4 . أی: من الاستدلال بالروایات السابقة.
5- 5 . أی: علی بطلان بیع الفضولی.
6- 6 . تبصرة الفقهاء 3/341.

ذلک، فضلاً عن التبجّح(1) و التعجّب من الاهتداء إلیها دون الأصحاب، إذ لا یخفی أنّ العجب من ذلک أعظم»(2). و قال فی موضع آخر: «... أنّه لم یفهم محلّ النزاع و تخیّل أنّ القائل بالصحة یرید حصول أثرها من الملک و التملیک و جواز التصرف و غیر ذلک عدا اللزوم فأبرق و أرعد ثم ترنّم و غرّد(3) و ساق جملة من النصوص الدالة علی خلاف ذلک متبجّحا بالعثور علیها و الاهتداء إلی الاستدلال بها...»(4).

و قال السیّد الخوئی: «و یتوجّه علی الاستدلال بها علی ما نحن فیه أنّها ظاهرة فی إرادة التملّک من الابتیاع المذکور بحیث تترتب علیه الآثار نحو ترتّبها علی الابتیاع من المالک، فلا إشعار فی شی ء منها ببطلان بیع الفضولی فضلاً عن الدلالة علیه و من نظر إلیها بعین الإنصاف و جانب طریق الاعتساف یری صدق ما ذکرناه، و العجب من صاحب الحدائق مع تبحره فی الأخبار و غوره فیها قد خفی علیه ما ذکرناه مع أنّه من الوضوح بمکان بل هو کالنار علی المنار، و أعجب من ذلک أنّه مع عدم فهمه محل النزاع کما یظهر من کلامه المتقدّم حیث جعل بیع الفضولی تصرفا فی المغصوب ابتهج...»(5).

أقول: مضافا إلی ما ذکره الأعلام قدس سرهم فی نقده إِنّ النسبة بین الشراء و الخیانة و بین بیع الفضولی عن مالکه مع صدور الإجازة منه الذی هو محلّ بحثنا فعلاً، هی التباین، و الخلط بینهما یکون محلاًّ للتعجب، نعم، بینها و بَیْنَ بیع الغاصب الفضول مع تعقّب الإجازة نسبة کما مرّ عن الجدّ قدس سره .

و منها: معتبرة رُزَیْق بن الزبیر أبی العباس الخُلْقانی قال: کنت عند أبی عبداللّه علیه السلام إذ دخل علیه رجلان - إلی أن قال - فقال أحدهما: إنّه کان علیَّ مال لرجل من بنی عمار و له بذلک حقٌّ و شهودٌ فأخذ المال و لم استرجع منه الذکر بالحقّ و لا کتبت علیه کتابا و لا

ص: 280


1- 1 . بجح بالشی ء: إذا فخر به و تَبَجَّحَ به، کذلک. [موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4/47].
2- 2 . الجواهر 23/461 (22/285).
3- 3 . غرّد: کلّ صائتٍ طَرِبَ الصوت فهو غَرِدٌ و قد غَرَّدَ تغریدا.[ترتیب کتاب العین /710].
4- 4 . الجواهر 23/453 (22/281).
5- 5 . مصباح الفقاهة 4/98.

أخذت منه براءة، و ذلک لأنّی و ثقت به و قلت له: مزّق الذکر بالحقّ الذی عندک، فمات و تهاون بذلک و لم یمزّقها، و عَقَب هذا أن طالبنی بالمال ورّاثه و حاکمونی و أخرجوا بذلک الذکر بالحقِّ و أقاموا العدول فشهدوا عند الحاکم فاُخذتُ بالمال و کان المال کثیرا فتوارثت من الحاکم فباع علیَّ قاضی الکوفة معیشة لی و قبض القوم المال، و هذا رجل من إخواننا إبتلی بشراء معیشتی من القاضی، ثمّ أنّ ورثة المیت أقروا أنّ المال کان أبوهم قد قبضه و قد سألوه أن یردّ علیّ معیشتی و یعطونه فی أنجم معلومة، فقال: إنّی اُحبّ أن تسأل أبا عبداللّه علیه السلام عن هذا، فقال الرجل - یعنی المشتری - جعلنی اللّه فداک کیف أصنع؟ فقال: تصنع أن ترجع بمالک علی الورثة و تردّ المعیشة إلی صاحبها، و تخرج یدک عنها، قال: فإذا أنا فعلت ذلک له أن یطالبنی بغیر هذا؟ قال: نعم، له أن یأخذ منک ما أخذت من الغلّة ثمن الثمار، و کلّ ما کان مرسوما فی المعیشة یوم اشتریتها یجب أن تردّ ذلک إلاّ ما کان من زرع زرعته أنت، فإنّ للزارع إمّا قیمة الزرع و إمّا أن یصبر علیک إلی وقت حصاد الزرع، فإن لم یفعل کان ذلک له و ردّ علیک القیمة و کان الزرع له، قلت: جعلت فداک فإن کان هذا قد أحدث فیها بناءً و غرس، قال: له قیمة ذلک أو یکون ذلک المحدِث بعینه یقلعه و یأخذه، قلت: أ رأیت إن کان فیها غرس أو بناء فقلع الغرس و هدم البناء، فقال: یرد ذلک إلی ما کان أو یعزم القیمة لصاحب الأرض، فإذا ردّ جمیع ما أخذ من غلاّتها إلی صاحبها و ردّ البناء و الغرس و کلّ محدَث إلی ما کان أو ردّ القیمة کذلک یجب علی صاحب الأرض أن یردّ علیه کلّ ما خرج عنه فی إصلاح المعیشة من قیمة غرس أو بناءٍ أو نفقة فی مصلحة المعیشة و دفع النوائب عنها کلّ ذلک فهو مردود إلیه.(1)

قال صاحب الحدائق فی تقریب الاستدلال بهذه المعتبرة: «هذا الخبر و إن تضمن أنّ البائع هو الحاکم و هو صحیح بحسب الظاهر، بناءً علی ما ورد عنهم علیهم السلام من الأخذ بأحکامهم فی زمان الهدنة و التقیة، إلاّ أنّه بعد ظهور الکاشف عن بطلانه و اعتراف الورثة بقبض الدین یکون من باب البیع الفضولی و هو کما سیأتی - إن شاء اللّه تعالی - علی

ص: 281


1- 1 . وسائل الشیعة 17/340، ح1، الباب 3 من أبواب عقد البیع و شروطه.

قسمین:

أحدهما: ما یکون المشتری عالما بالغصب و انّه لیس ملکا للبائع،

و ثانیهما: أن یکون جاهلاً أو أدعی البائع الإذن من المالک.

و ما اشتمل علیه الخبر من القسم الثانی إلاّ إنّ ما اشتمل علیه الخبر المذکور من رجوع المشتری بما أغترمه علی المالک خلاف ما سیأتی فی کلامهم من أنّه إنّما یرجع إلی البائع، و ما ذکره علیه السلام هو الاُوفق بالقواعد کما سیظهر لک...»(1).

و أجابه السیّد الخوئی بقوله: «أنّ الروایة أجنبیة عن بطلان بیع الفضولی، فإنّها لیست مسوّقة لبیان بطلان البیع حتّی مع الإجازة اللاحقة، بل هی ناظرة إلی بیان حکم الواقعة و أنّه بعد کشف الخلاف فلابدّ و أن یکون یرجع المال المأخوذ بلا حقٍّ إلی صاحبه»(2).

ص: 282


1- 1 . الحدائق 18/389.
2- 2 . مصباح الفقاهة 4/100.
3- الإجماع المُدّعی علی البطلان

قال الشیخ فی الخلاف: «إذا باع انسانٌ ملک غیره بغیر إذنه، کان البیع باطلاً و به قال الشافعی. و قال أبوحنیفة: ینعقد البیع و یقف علی إجازة صاحبه و به قال قوم من أصحابنا.

دلیلنا: إجماع الفرقة و مَنْ خالف منهم لا یعتدّ بقوله، و لأنّه لا خلاف أنّه ممنوع من التصرف فی ملک غیره، و البیع تصرّف»(1).

أقول: أنت تری بأنّ الشیخ اعترف بخلاف قوم من أصحابنا لِلاْءجْماعِ و من المخالفین: الشیخ نفسه فی نهایته(2) و جماعة من المتقدمین علیه و أساتیده و معاصریه کالقدیمین(3) و أبی الصلاح(4) و المفید(5) و الشریف المرتضی(6) و سلاّر(7) و ابنَیْ البراج(8) و حمزة(9) و غیرهم کما مرّ(10). و مع وجود هذه الشهرة فی طرف الخلاف فَادِّعاءُ الإجماع لا یتم.

و ادّعی ابن زهرة(11) الإجماع أیضا و الحلّی(12) فی باب المضاربة عدم الخلاف فی بطلان شراء الغاصب إذا اشتری بعین المغصوب.

ص: 283


1- 1 . الخلاف 3/168، مسألة 275.
2- 2 . النهایة /385.
3- 3 . نقل العلاّمة عن ابن الجنید فی المخلتف 5/53 و عن ابن أبی عقیل فیه 7/119.
4- 4 . الکافی فی الفقه /353 و 352 و 292.
5- 5 . المقنعة /606.
6- 6 . الناصریات /330، مسألة 154.
7- 7 . المراسم /148.
8- 8 . المهذب 1/350.
9- 9 . الوسیلة /249.
10- 10 . راجع صفحة 179 من هذا المجلد.
11- 11 . غنیة النزوع /207.
12- 12 . السرائر 2/415.

و قد مرّ(1) فی أوّل البحث ذِکْرُ القائلین بالبطلان فلا نعید.

فظهر لک عدم تمامیة هذا الإجماع أوّلاً.

و ثانیا: لو تمّ هذا الإجماع المُدَّعی - و لم یتم - فَمِنَ المحتمل جدّا أنّه مدرکیّ و لیس بتعبدی و یکون مستندهم ما مرّ من أدلة البطلان فلا یفید فی المقام شیئا.

و لذا قال الشیخ جعفر رحمه الله : و أمّا القول بالفساد مع الإجازة فهو قول نادر، و من(2) زعم کثرة القائل به مستندا إلی اشتراطهم الملک فی صحة العقود فهو اشتباه منه، لأنّ مثل ذلک یجری علی لسان کلّ من الفریقین و مرادهم أنّ حصول الأثر موقوف علیه. و لم أعرف فیه قائلاً محقَّقا من القدماء سوی مَن ادعیا الإجماع فیه و تبعهما ابن ادریس و أنّی لهما بإثباته؟! و کیف یمکن العمل بروایتهما له بعد اتفاق الفقهاء متقدّمیهم و متأخّریهم - سوی مَنْ شذّ منهم - علی خلافه! فالاستناد إلی الإجماع لا وجه له»(3).

و قال الجدّ العلاّمة التقی: «و أمّا الإجماع فموهون باشتهار خلافه و ذهاب جماعة من أساطین المتقدمین إلی صحة بل ذهاب ناقله إلی خلافه حسبما عرفت»(4).

و قال السیّد العاملی: «و أمّا الإجماع فیوهنه عدم وجود القائل به غیر مدّعیه و مَنْ شذَّ ممّن تأخّر عن الشیخ، مع مخالفة الشیخ له فی النهایة و نسبة الخلاف فی «الخلاف» إلی قوم من أصحابنا و قد عرفت من ذهب إلی الصحة ممّن تقدّم علی الشیخ فینبغی تأویله إن أمکن أو طرحه»(5).

قال فی الجواهر: «و من الغریب دعوی الشیخ و ابن زهرة الإجماع علی ذلک، و لم نعرف القائل به مِنْ غیر مَن عرفت، بل المحکی عن أعاظم الأصحاب کالمفید و ابن الجنید و غیرهم الصحة أیضا. علی أنَّ المحکی عن نهایة الشیخ ذلک أیضا بل عبارته فی

ص: 284


1- 1 . راجع صفحة 180 من هذا المجلد.
2- 2 . هو صاحب الحدائق فیه 18/386.
3- 3 . شرح القواعد 2/82.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/340.
5- 5 . مفتاح الکرامة 12/595.

محکّی المبسوط(1) غیر صریحة فی البطلان أیضا. فمثل هذا الإجماع الذی یقوی الظن بخلافه لم تثبت حجّیّته مضافا إلی قصوره عن معارضته بعض ما عرفت فضلاً عن جمیعه...»(2).

و قال الشیخ الأعظم: «عدم الظن بالإجماع، بل الظن بعدمه بعد ذهاب معظم القدماء... علی الصحة و إطباق المتأخّرین علیه عدا فخرالدّین(3) و بعض متأخّری المتأخرین(4)»(5).

و قال الفقیه السیّدُ الیزدی: «الإنصاف أنّ التمسک بالإجماع فی مثل المسألة علی أحد الطرفین أوهن شیءٍ»(6).

ص: 285


1- 1 . راجع المبسوط 2/100 و عبارته هکذا: «من باع ما لا یملک کان البیع باطلاً».
2- 2 . الجواهر 23/454 (22/281).
3- 3 . إیضاح الفوائد 1/416 و 417.
4- 4 . نحو الأردبیلی فی مجمع الفائدة 8/158، البحرانی فی الحدائق 18/378 و 391.
5- 5 . المکاسب 3/370.
6- 6 . حاشیة المکاسب 2/133.
4- العقل
اشارة

مستقل ببطلان عقد الفضولی بالتقریب التالی:

التصرف فی مال الغیر بدون إذنه ظلم فی حقّ مالکه و الظلم قبیح عقلاً لاستقلال العقل بقبحه، و الرضا اللاحقّ لایرتفع هذا القبح لأنّ الشی ء لایتغیّر عما وقع علیه، و هذا القبح العقلی یستتبع النهی الشرعی بقاعدة کلّما حکم به العقل حکم به الشرع، هذِه کبری الاستدلال.

و أمّا صغراه: فَیَصْدُقُ علی بیع الفضول أو عقده التصرف کما صرّح به الشیخ فی الخلاف و قال: «... لا خلاف أنّه [الفضول] ممنوع من التصرف فی ملک غیره و البیع تصرف»(1).

و لأنّه لم یقصد بعقده الهزل و المزاح و إلاّ کان إنْشاؤُهُ لغوا و ساقطا عن درجة الاعتبار بل قصد النقل و الانتقال حقیقة و لا ریب فی کون ذلک تصرفا.

و النتیجة: یحکم العقل بقبح بیع الفضول و عقده الذی یتبع الحکم الشرعی بالبطلان.

و أجاب الشیخ الأعظم(2) عن هذا الاستدلال بوجوه خمسة:

الأوّل: منع الصغری: إنّ العقد علی مال الغیر مُتَوَقِّفُ عَلی إِجازَتِه غیر قاصد لترتیب الآثار علیه لیس تصرّفا فیه. و هذا الجواب تام کما مرّ فی ذیل التوقیع المروی بسند معتبر.

الثانی: منع الکبری: لأنّه لیس کلّ تصرّف فی مال الغیر منهیا عنه لجواز مثل الاستضاءة بنور الغیر و الاصطلاء بناره و الاتکاء عَلی جِدارِهِ و الاستظلال بشجرته التی تخرج إلی الشارع، فلو فرض أنّ العقد علی مال الغیر تصرف فهو من هذا القبیل ممّا استقلّ العقل بجوازه.

ص: 286


1- 1 . الخلاف 3/168.
2- 2 . راجع المکاسب 3/371.

الثالث: قد یفرض الکلام فیما إذا علم الإذن فی البیع من شاهد الحال أو المقال، و بناءً علی أنّ العلم بالإذن لا یخرجه عن الفضولی فیکون الدلیل أخص من المُدّعی.

الرابع: منع دلالة النهی و التحریم علی الفساد کالنهی عن البیع فی وقت النداء.

الخامس: أنّه لو دلّ هذا التحریم علی الفساد لدلّ علی بطلان البیع بمعنی عدم ترتّب الأثر علیه و عدم استقلاله فی ذلک، و لا ینکره القائل بالصحة لأنّ البیع بعد إجازة المالک یستند إلیه و یکون بیعه فیکون صحیحا بهذا الاستناد لا من جهة استناده إلی الفضول العاقد.

مناقشة أجوبة الشیخ الأعظم

الجواب الأوّل: تام لا نقاش فیه کما مرّ.

ولکن قال الفقیه السیّدُ الیزدی رحمه الله : «أنّ الفضولی إنّما یقصد النقل و الانتقال جدّا مطلقا، لا هزلاً و لا معلَّقا علی الإجازة، و إلاّ لم یکن صحیحا مع الإجازة أیضا و حینئذٍ فلا یبعد صدق التصرف علیه عرفا کما یصدق علی بیع الغاصب...»(1).

و یرد علیه أوّلاً: صرف قصد النقل و الانتقال لا یکون تصرفا عرفا و لا یقاس ببیع الغاصب الذی یری المال لنفسه و یبیع لنفسه.

و ثانیا: قد مرّ منّا فی بحث التعلیق فی العقود بأنّه لا یبطل العقد لا سیما إذا کان التعلیق علی ما تَتَوَقَّفُ صحة العقد علیه، و هذا الأخیر لا یوجب البطلان عند الکلّ نحو قول البائع: بعتک إن اشتریتَ أو رضیتَ، أو قول الزوج: فلانة هی طالق إن کانت زوجتی.(2)

الجواب الثانی: منع کون الاستضاءة و الاصطلاء و الإتکاء و الاستظلال من التصرف فی مال الغیر بل إنّها من قبیل الانتفاع بمال الغیر و هذا الانتفاع محکوم فی الشرع بالجواز، و بین العنوانین عموم و خصوص من وجه إذ قد یکون انتفاعا و لا یکون

ص: 287


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/133.
2- 2 . راجع مصباح الفقاهة 4/104، التنقیح فی شرح المکاسب 1/415.

تصرفا نحو أَمْثِلَتِنا الْمَذْکُورَةِ آنِفا، و قد یکون تصرفا و لا یکون انتفاعا نحو إتلاف مال الغیر عمدا من دون الانتفاع به، و قد یجمع بینهما نحو غصب أرض الغیر و زرعه أو السکونة فیه، و إجراء العقد علی مال الغیر فضولاً لایکون تصرفا و لا انتفاعا فیخرج من هذه الأمثلة.(1)

الجواب الثالث: هذا الجواب لا ینافی استدلال المستدل علی الفساد علی نحو الموجبة الجزئیة.

نعم، لو کان القائل بالفساد یرید السلب الکلّی فحینئذ یکفی فی نقضه الإیجاب الجزئی. فیکون الجواب تاما.(2)

الجواب الرابع: أُورد علیه المحقّق النائینی بکلام یطول ذکره فی الأُصول(3) و إجماله: أنّ النهی فی المعاملة تارةً یتعلّق بنفس السبب بما هو کالنهی عن البیع فی وقت النداء أو فی أثناء الصلاة مثلاً، فلا یدل علی الفساد لعدم الملازمة بین حرمة السبب و ترتب المسبب علیه و صحته.

و اُخری: یتعلّق بالمسبب کالنهی عن بیع الخمر أو عن بیع السلاح لاِءَعْداءِ الدین أو بیع المصحف من الکافر فیدلّ علی الفساد بالالتزام، لأنّ من شرائط صحة العقد الاختیار و القدرة علیه شرعا، و النهی عن الشی ء یدلّ علی سلب قدرة المکلف عنه شرعا و حیث یکون مسلوب القدرة عن إیقاعه و یوقعه یقع فاسدا.(4)

و اعترض المحقّق السیّد الخوئی علی أُستاذه نقضا و حلاًّ:

فأمّا النقض: فَهُوَ فیما لو کانت المعاملة واجبة کما لو اشترط بیع داره فی ضمن عقد لازم أو اضطرّ إلی بیعه لنفقة عیاله، لأنّ الواجبات أیضا غیر مقدورة شرعا لأنّ الأمر یسلب القدرة علی الترک کما إِنّ النهی یسلب القدرة عن الفعل، و لا یمکن الالتزام بفساد

ص: 288


1- 1 . راجع منیة الطالب 2/30، و إرشاد الطالب 3/339.
2- 2 . راجع مصباح الفقاهة 4/103.
3- 3 . راجع فوائد الاصول 2/471، فی النهی عن المعاملة.
4- 4 . منیة الطالب 2/31.

المعاملات الواجبة و إن عطف قدس سره الحرمة عَلی الْوُجُوْبِ فی تقریر بحثه و قال: «إنّ ما کان واجبا أو حراما یخرج عن تحت قدرة المکلّف»(1) الظاهر فی اشتراک المعاملات الواجبة مع المعاملات المحرّمة. ولکنّه لا یلتزم ببطلان المعاملات الواجبة.

و أمّا الحلّ: فما تکون المعاملات مشروطة بها هی القدرة الوضعیة أی العقلیة، لا التکلیفیة أی الشرعیة، و ما یسلبها الأمر و النهی هی الثانیة لا الاُولی و التفصیل یطلب من محلّه.(2)

ثم قرّب السیّد الخوئی جواب الشیخ الأعظم فی عدم دلالة النهی فی المقام علی الفساد بقوله: «أنّ النهی فی المعاملات تارة یتعلّق بنفس المعاملة - کما فی النهی عن بیع الغرر مثلاً -، و اُخری یتعلّق بعنوان آخر متحد معها وجودا - کما فی المقام - فإن کان من قبیل الأوّل یدلّ علی الفساد - لا لما ذکره الاُستاذ النائینی قدس سره من ملازمة النهی مع الفساد - بل من جهة ظهور النهی حینئذ فی الفساد فیکون إرشادیا نظیر النهی المتعلَّق بالموانع أو الأمر المتعلَّق بالأجزاء فی المرکبات نحو: «لا تکفّر فی الصلاة» أو «اقرأ الحمد فیها».

و إن کان من قبیل الثانی لا یدلّ علی الفساد و إنّما یدل علی الحرمة التکلیفیة فقط، و المقام من هذا القبیل. فهذا الجواب من الشیخ الأعظم متین جدّا.(3)

أقول: و لذا قال المحقّق التقی: «ولو سلّم کونه [العقد تصرفا] محرّما فبعثه علی الفساد ممنوع أیضا، لکون النهی عنه لأمر خارج».(4)

الجواب الخامس: و مراده قدس سره أنّ البیع بعد الاجازة یکون بیع المالک و من هذه الجهة یکون صحیحا لا من جهة استناده إلی البائع الفضولی.

وَ ارْتَضی المحقّق النائینی هذا الجواب و قال: «... فالأوجه الإیراد [الجواب[ الخامس و هو أنّ الفساد من قبل الفضولی لا ینافی الصحة من قبل المالک بإجازته فإنّ

ص: 289


1- 1 . منیة الطالب 2/31.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/345، التنقیح فی شرح المکاسب 1/414.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/345، التنقیح فی شرح المکاسب 1/414.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/340.

الفضولی أوجد المادّة القابلة لأنّ تُصوَّر بصورة المالکیة بإجازة المالک لأنّ جمیع شروط البیع المالکی موجودة فیه سوی الرضا و الاستناد إلیه، فإذا تحقّقت الإجازة تحقّقت الشرائط طرّا، لأنّ المفروض أنّ العقد من حیث الإنشاء تام...»(1).

و استشکل علیه السیّد الخوئی(2) بناءً علی ما یراه النائینی من أنّ نفس إنشاء البیع یکون منهیّا عنه و أنّ النهی یدلّ علی فساده، فحینئذ یکون ذات الإنشاء فاسدا و ملغاة شرعا و غیر قابل لترتب الأثر علیه ولو بعد الإجازة و لحوق الإجازة بالانشاء الفاسد غیر مُجْدٍ.

و أمّا بناءً علی مختار الشیخ الأعظم و السیّد الخوئی و مختارنا فیکون الجواب الخامس تامّا.

ثم ختم الشیخ الأعظم مقاله و قال: «و ممّا ذکرنا ظهر الجواب عمّا لو وقع العقد من الفضولی قاصدا لترتیب الأثر من دون مراجعة المشتری، بناءً علی أنّ العقد المقرون بهذا القصد قبیح محرّم، لا نفس القصد المقرون بهذا العقد»(3).

مراده من الجواب: هو جوابه الخامس من عدم ترتب الأثر علی العقد من الفضولی بالاستقلال، لا عدم ترتبه علیه مطلقا ولو مع إجازة المالک. فمراد بالفساد مع هذا القصد ما مرّ، و بناءً علی أنّ القصد لا یکون محرّما بل العقد المقرون بهذا القصد یکون قبیحا و محرَّما و فاسدا، و الاُولی بل الصواب تبدیل «المشتری» فی کلامه ب-«المالک» کما علیه المحقّق الشهیدی إِذْ قالَ: «حق العبارة أن یقول: من دون مراجعة المالک»(4).

ص: 290


1- 1 . منیة الطالب 2/31.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری2/345، التنقیح فی شرح المکاسب 1/415.
3- 3 . المکاسب 3/371.
4- 4 . هدایة الطالب 3/54.
الاستدلال علی بطلان بیع الفضولی بوجوه اُخری
الأوّل: الفضولی غیر قادر علی تسلیم المبیع

قال العلاّمة فی عدّ أدلة البطلان: «... و لأنّه باع ما لا یقدر علی تسلیمه فأشبه الآبق و الطیر فی الهواء»(1).

و صاحب الحدائق(2) استدلّ به علی بطلان بیع الفضولی.

و أنت تری هذا الاستدلال فی کلام ولده(3) و السیّد المجاهد(4) و الشیخ أسداللّه(5) و الشیخ الأعظم(6).

و ردّه العلاّمة نفسه بقوله: «و القدرة علی التسلیم من المالک موجودة إن أجازه»(7).

و قال الشیخ جعفر: «و أضعف منها [أی من الأدلة السابقة علی بطلان عقد الفضولی] الاستناد إلی أنّه لا قدرة علی التسلیم فیه و هی شرط، لمنع الشرطیة فی العاقد

ص: 291


1- 1 . تذکرة الفقهاء 10/15.
2- 2 . الحدائق 18/382.
3- 3 . إیضاح الفوائد 1/417.
4- 4 . المناهل /288.
5- 5 . مقابس الأنوار /128.
6- 6 . المکاسب 3/372.
7- 7 . تذکرة الفقهاء 10/15.

و إلاّ بطل عقد أکثر الوکلاء و أمّا فی المالک فمسلَّمة و هی حاصلة»(1).

و قال جدی التقی: «و کذا الحال [أی هذا الاستدلال أو هن شی ءٍ] فی دعوی عدم القدرة علی التسلیم، إذ مع تعقّب الإجازة لا مانع من التسلیم. ولو فُرض مانعٌ خارجیٌّ عنه فهو خارج عن محلّ الکلام»(2).

و قال السیّد العاملی: «و القدرة علی التسلیم حاصلة(3) إذا أجاز المالک، لأنّه هو المخاطَب بالإیفاء و التسلیم و هوقادر علی ذلک، و لیس الفضولی إلاّ کالوکیل علی إیقاع الصیغة لا یترقّب منه إیفاءٌ و لا تسلیمٌ»(4).

و قال صاحب الجواهر: «و ما دلّ علی اعتبار القدرة علی تسلیمه، إنّما هو فی البائع ذی السلطنة الذی یراد منه الإقباض حتّی یقبض الثمن، لا البائع بمعنی العاقد، ضرورة تخلّفه فی الوکیل علی الصیغة و نحوه کما هو واضح»(5).

و قال الشیخ الأعظم بعد أن وصف الاستدلال بأقوی الوجوه فی ردّه: «مضافا إلی أنّ الفضولی قد یکون قادرا علی إرضاء المالک بأنّ هذا الشرط غیر معتبر فی العاقد قطعا، بل یکفی تحقّقه فی المالک فحینئذ یشترط فی صحّة العقد مع الإجازة قدرة المجیز علی تسلیمه أو قدرة المشتری علی تسلّمه علی ما سیجی ء(6)»(7).

و قال المحقّق النائینی: «مَنْ اعتبر قدرته علیه [أی علی التسلیم] و هو المالک قادر و من هو عاجز [الفضول] فلا یعتبر قدرته»(8).

ص: 292


1- 1 . شرح القواعد 2/84.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/340.
3- 3 . ممکنة، نسخة بدل.
4- 4 . مفتاح الکرامة 12/596.
5- 5 . الجواهر 23/457 (22/283).
6- 6 . المکاسب 4/175، الثالث من شروط العوضین: القدرة علی التسلیم.
7- 7 . المکاسب 3/372.
8- 8 . منیة الطالب 2/31.

و قال المحقّق السیّدُ الخوئی: «جواب واضح کما ذکره [الشیخ الأعظم] قدس سره ، و لذا تری صحة عقد الوکیل فی إنشاء العقد فقط و إن لم یکن قادرا علی التسلیم فالمعتبَر قدرة المالک علی التسلیم، بل قدرة المشتری علی التَسَلُّم و إن لم یکن المالک قادرا علی التسلیم کالمال الواقع فی البحر إذا کان المشتری قادرا علی إخراجه و لم یکن البائع قادرا علیه، و تعبیر الفقهاء بالقدرة علی التسلیم من باب الغلبة. و بالجملة هذا الاستدلال لم نفهم له وجها»(1).

الثانی: الفضولی غیر قاصد للنقل و الانتقال فی عقده

قال الشیخ أسداللّه فی تقریب الاستدلال: «یشترط فی صحة العقد مقارنته لقصد المدلول فإنّ العقود تتبع القصود و هو منتف فی الفضولی لأنّه لا یتعلَّق إلاّ بالمقدور و النقل غیر مقدور له فیمتنع قصده»(2).

وَ قَد استفاد هذا الوجه من کلام ثانی الشهیدین(3) و ینسب إلی السیّد بحرالعلوم.(4)

و قال الشیخ الأعظم فی جوابه: «المعتبر فی العقد هو هذا القدر من القصد الموجود فی الفضولی و المکرَه لا أزید منه، بدلیل الإجماع علی صحّة نکاح الفضولی و بیع المکرَه. بحقٍّ، فإنّ دعوی عدم اعتبار القصد فی ذلک للإجماع کما تری»(5).

و قال المحقّق النائینی: «إنّ ما هو مناط العقدیّة - و هو کون العاقد قاصدا للفظ و المعنی - موجود فی عقد الفضولی و ما هو مفقود فی عقد الفضولی و مکرَه - و هو قصد النتیجة - لیس مناطا فی العقدیّة حتّی فی عقد المالک أیضا، فإنّ تحقّق المنشَأ فی عالم الاعتبار الذی هو من الأحکام الشرعیة الإمضائیة لا یعتبر قصده من المالک أیضا، بل لا یمکن أن تتعلَّق إرادته به، و إنّما هو من دواعی الإنشاء فلا یمکن إنشاء هذا المعنی من

ص: 293


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/346.
2- 2 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /27: العاشر.
3- 3 . راجع المسالک 3/156.
4- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/346، إرشاد الطالب 3/343.
5- 5 . المکاسب 3/372.

المالک فضلاً عن الفضولی الذی لیس زمام أمره بیده، لأنّ ما یمکن إنشاؤه و إیجاده هو العلقة بین المال و الطرف، و أمّا تحقّقه بحیث یکون ممّا تعلَّق به الإمضاء الشرعی فهو من أحکام هذا الإنشاء لا من منشآت المنشی ء...»(1).

و قال السیّد الخوئی بعد مقالة استاذه: «... ولکن الذی یقتضیه النظر أنّ مراد السیّد [بحرالعلوم] قدس سره لیس ما استفادوا من کلامه لأنّ ما فهموه واضح الفسادکما أجابوا عنه، بل مراده أنّ بین قصد إنشاء المعنی باللفظ و قصد ترتب الأثر علیه واسطة و هی اعتبار التبادر فی نظره، و اعتباره بحیث یری فی عالم اعتباره خروج المبیع عن ملک البائع و دخول الثمن فی ملکه، و فی جانب المشتری بالعکس، و هذا الاعتبار و القصد یکون معتبرا فی صدق العقد و إلاّ لزم صحة عقد الهازل إذا تعقّبه الرضا، لأنّ قصد إنشاء المعنی باللفظ موجود فیه، و هو موجود حتّی فی الوکیل فی إجراء الصیغة فقط، و هذا المعنی غیر مقصود للفضولی.

و أصل هذا الدعوی - و إن کان صحیحا جدّا - ولکن کون الفضولی غیر قاصد لهذا المعنی ممنوع، بل هو أیضا یعتبر التبادل فی نظره لکن معلَّقا علی إجازة المالک، و التعلیق علی إجازة المالک لا یوجب الفساد فی العقد لکونها ممّا یتوقّف صحته علیها، و تقدّم أنّ التعلیق علی ما یکون العقد معلَّقا علیه واقعا لا یضرّ»(2).

أقول: و نحو ما تقدّمَ مذکورٌ فی الإرشاد(3).

و قد نقل الشیخ الأعظم هذین الاستدلالین فقط، ولکن أذکر لک الآن بعضها الآخر فخذ و اغتنم.

الثالث: قصد النقل شرط فی صحة العقد و هو مفقود فی الفضولی

شرط صحة العقد هو قصد نقل المبیع إلی المشتری و انتقال الثمن إلی البائع و هذا القصد مفقود فی بیع الفضولی و إذا انتفی الشرط ینتفی المشروط. أی العقد.

ص: 294


1- 1 . منیة الطالب 2/31.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/346.
3- 3 . إرشاد الطالب 3/343.

قال المحقّق التقی فی جوابه: «دعوی لزوم مقارنة الشرط للمشروط مسلّمة إن اُرید توقف التأثیر علیها بأن یکون ترتّب الأثر علی المشروط مقارنا لحصول الشرط و لا یلزم منه تقارنهما فی الوجود. ألا تری أنّ القبض فی المجلس شرط فی [صحة ن خ] بیع الصرف و السلّم مع أنّ القبض قد یتأخّر عن العقد و کذا الحال فی قبض الوقف و قبض الهبة.

علی أنّه قد یکون الشرط وجوده فی الجملة ولو متأخرا عن المشروط فلا یتوقف تأثیر المشروط علی وجوده حین تأثیره، فیکشف وجوده المتأخر عن اقتران الشرط بالمشروط حین التأثیر کما هو الحال فی المقام بناءً علی القول یکون الإجازة کاشفة»(1).

و قال قبله جد اُولاده الشیخ جعفر: «و أضعف منهنّ إیراد لزوم الخلوّ عن القصد المشروط فی العقد.

و فیه: أنّه إذا جُعل الشرط قصد النقل الشرعی فمسلَّم لکنّه فی محل المنع. و إن اُرید العرفی فهو حاصل. ثمّ مع الاکتفاء بالقصد ولو مع التردّد یندفع الإشکال. علی أنّ الاکتفاء بالقصد اللاّحق غیر بعید»(2).

أقول: هذا الوجه تَعْبِیْرٌ آخَرُ عن الوجه الثانی و یرد علیه ما یرد علی الوجه الثانی، مضافا إلی أنّ الشرط و المشروط فی عالم التکوین غیر الشرط و مشروطه فی عالم التشریع الذی یکون من الاعتبارات و أمره بید الشارع نحو شرطیة الغسل اللیلی للمستحاضة لصحة صیامها فی الیوم السابق و غیرها من الشروط المتأخرة فی الشریعة المقدسة، فقیاسُ أَحَدِ العالَمَیْن عَلی الآخر یکون مع الفارق.

الرابع: من لوازم صحة عقد البیع حلّیّة التصرف

و ترتب سائر الآثار و انتفاء اللازم فی المقام بالإجماع یکشف عن عدم الملزوم، و بتقریر آخر إن کان الفضولی داخلاً تحت عموم «اوفوا» و «أحل اللّه البیع» و نحوهما

ص: 295


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/340.
2- 2 . شرح القواعد 2/84.

وجب الحکم بوجوب الوفاء و حصول الملکیة و إلاّ فلا یکون صحیحا.

قال الفقیه السیّد الیزدی رحمه الله فی جوابه بعد أنّ قرّره: «و فیه: أنّ الرضا شرط بالإجماع و الأخبار فلابدّ من حصوله أیضا و بعده یترتب جمیع الأحکام فالمقام نظیر صحة البیع قبل القبض فی الصرفِ و السَّلَمِ»(1).

أقول: مراده من الرضا عنده هو الإذن عندنا.

الخامس: الرضا شرط فی صحة العقد و المفروض انتفاؤه حال العقد

قال المحقّق التقی فی تقریر هذا الوجه: «أنّ الرضا شرط فی صحة العقد إجماعا و المفروض انتفاؤه حال العقد و قضیة انتفاء الشرط انتفاء المشروط به و حصوله عقیب العقد غیر نافع، إذ قضیة الشرطیة اعتبار مقارنة الشرط، إذ لا فائدة فی حصول الشرط بعد انتفاء السبب المشروط به أعنی العقد کالصلاة المتعقّبة للطهارة»(2).

و قال السیّد الیزدی فی تقریره: «أنّ مقتضی شرطیة الرضا فی العقود و الإیقاعات وجوده حالها، و إلاّ فلا یثمر وجوده بعد انعدامها، کما أنّ هذا هو الحال فی سائر الشرائط من القصد للمدلول و الالتفات و المعلومیة و القدرة علی التسلیم و نحو ذلک»(3).

ثمّ أجابه المحقّق التقی بما مرّ فی جواب الوجه الثالث، و قال الفقیه السیّدُ الیزدی قدس سره فی جوابه: «إنّا نمنع شرطیته إلاّ فی النقل و الانتقال و لیس شرطا فی العقد إذ هو أوّل الکلام، و هذا بخلاف الالتفات و القصد إلی المدلول و نحو ذلک، و أمّا المعلومیة و القدرة علی التسلیم و نحوهما فقد ثبت من الأدلة وجوب اقتران العقد بها، و إلاّ أمکن أن یقال إذا عقد ثمَّ حصل العلم صح، و السرّ أنَّ البیع مع الجهل وقع غرریّا و کذا مع انتفاء القدرة علی التسلیم.

نعم، لقائل أن یقول: لِمَ لا یصح بعد حصول العلم و القدرة ولو أجاز العقد الواقع.

ص: 296


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/135.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/339.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/135.

و الجواب: عدم الدلیل علی تأثیر مثل هذه الإجازة فتدبّر»(1).

أقول: الرضا عنده هو الإذن عندنا و القدرة علی التسلیم ترجع بالقدرة علی تسلّم المشتری کما مرّ فی الوجه الأوّل.

السادس: البیع بالنسبة إلی الأصیل غرریٌّ

للجهل بحصول أثره و قد نهی النبی صلی الله علیه و آله عن بیع الغَرَر.

أجاب الفقیه الیزدی رحمه الله عنه: «أنّ هذا إن قلنا باللزوم بالنسبة إلیه و إلاّ فلا غرر، مع أنّه قد یکون واثقا بإجازة المالک»(2).

و أضاف المحقّق السیّد الخوئی قدس سره علی جوابه: «أنّ عمدة الدلیل علی بطلان بیع الغرری إنّما هو الإجماع لأنّ النبوی ضعیف السند و غیر منجبر بشی ءٍ و المتیقن منه غیر ما نحن فیه»(3).

السابع: أصل الفساد

بتقریر: أنّ الأصل الأوَّلی فی المعاملات هو الفساد أعنی به عدم انتقال المالین إلی غیر صاحبه فلو شککنا فی صحة عقد الفضولی یجری فیه هذا الأصل و یحکم بفساده. و یمکن أن یعبّر عنه باستصحاب بقاء الملک. کما جری المقدس الأردبیلی(4) هذا الأصل.

قال الشیخ جعفر فی جوابه: «و أضعف من الجمیع الرجوع إلی الأصل بعد الشک فی دلالة أدلة الصحة لأنّا بیّنا قوة الأدلة علی وجه لا یمکن ردّها»(5).

و قال صهره التقی فی جواب هذا الوجه: «أمّا الأصل فبما عرفت من قیام الدلیل

ص: 297


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/135.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/135.
3- 3 . مصباح الفقاهة 4/104.
4- 4 . مجمع الفائدة و البرهان 8/158.
5- 5 . شرح القواعد 2/85.

علی الصحة، بل ما عرفت من الأصل الثانوی القاضی بصحة العقود کافٍ فی دفعه»(1).

و قال السیّد العاملی: «و احتج المانعون بالأصل... أمّا الأصل فمقطوعٌ بما ستسمعه»(2).

و قال فی الجواهر: «بالأصل المقطوع بذلک أیضا»(3).

أقول: مرادهما بالمقطوع هو أدلة الصحة التی هی تامَّةٌ عندهما و عند غیرهما.

ثمَّ هاهنا وجوه أُخَرُ أنهاها الشیخ أسداللّه فی مقابسه(4) إلی العشرة أغمضنا عنها روما للاختصار و اکْتِفاءً بما ذکرناهُ من الوجوهِ الحاکمة علی غیرها بِعَدَمِ الاعتبار.

ص: 298


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/340.
2- 2 . مفتاح الکرامة 12/595.
3- 3 . الجواهر 23/455 (22/281).
4- 4 . مقابس الأنوار /128.
ثم لابدّ هاهنا من التنبیه علی اُمور:
الأوّل: هل الرضا بالعقد یخرجه عن الفضولی؟

ذهب الشیخ الأعظم(1) قدس سره إلی صحة العقد الفضولی إذا کان مقترنا مع رضا المالک و طیب نفسه و عدم احتیاجه إلی لحوق الإجازة و استدل علیه بوجوه خمسة:

الوجه الأوّل: عموم قوله تعالی: «اوفوا بالعقود»(2)

عقد الفضول مع رضا المالک و طیب نفسه تشمله الآیة الشریفة فیجب الوفاء به.

و فیه: الآیة الشریفة خطاب للعاقدین بأنّ کل مکلّف یجب علیه الوفاء بعقد نفسه و الفضولی لا یتمکن من الوفاء به استقلالاً و من دون الإجازة اللاحقة للمالک، و مجرد رضا المالک و طیب نفسه لا یستند العقد إلیه و لا یصیر عقد الأجنبی عقد المالک بمجرد رضاه.

الوجه الثانی: قوله تعالی: «إلاّ أن تکون تجارة عن تراض»(3)

عقد الفضولی مع رضا المالک و طیب نفسه یکون مصداقا لِ-«تجارة عن تراض» فیحلّ أکل المال به و یکون صحیحا.

و فیه: لا تتحق «تجارة عن تراض» بمجرد الرضا الباطنی بالعقد، و أنّ التجارة لا یصدق إلاّ بعد إذن المالک، و لا یصدق بمجرد رضا المالک بعقد غیره أنّه اتّجر أو تکسّب.

ص: 299


1- 1 . المکاسب 3/(348-346).
2- 2 . سورة المائدة /1.
3- 3 . سورة النساء /29.

الوجه الثالث: قوله علیه السلام : «لایحلّ مال امْرِی ءٍ مسلم إلاّ عن طیب نفسه»

ورد شبیه هذه الفقرة فی صحیحة أبی أُسامة زید الشحام عن أبی عبداللّه علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أَنّه قال فی خُطْبَتهِ بمِنی فی حجة الوداع حین قضی مناسکها: فإنّه لا یَحِلُّ دمُ امری ءٍ مسلمٍ و لا ماله إلا بطیبة نفسه و لا تظلموا أنفسکم و لا ترجعوا بعدی کفّارا.(1)

و رواها الکلینی بسند موثق عن سماعة أیضا(2) و الصدوق بهذا السند الأخیر فی الفقیه(3). و الشیخ الحر عن الصدوق و سند أوّل الکلینی فی الوسائل(4)، و عنه و عن سندی الکلینی فیه(5) أیضا.

قال المجلسی رحمه الله : «قوله صلی الله علیه و آله : إلاّ بطیبة نفسه، الاستثناء من المال فقط. قوله صلی الله علیه و آله : و لا تظلموا أنفسکم، أی بمخالفة اللّه تعالی فیما أمرتکم به و نهیتکم عنه فی هذه الخطبة أو مطلقا، أو لا یظلم بعضکم بعضا فإنّ المسلم بمنزلة نفس المسلم»(6).

و أمّا نصها فَقَدْ رَواهُ الأحسائی(7) و عنه النوری(8).

بتقریب: أنّ الرضا و طیب النفس موجود علی الفرض فیحلّ المال به و لا یحتاج إلی الإجازة.

و فیه: قال السیّد الخوئی رحمه الله : «أنّ الحلّ لو اُرید به الحلّ التکلیفی فهو خارج عن محل الکلام، لأنّه لیس بحثنا فی جواز إیقاع الإنشاء علی مال الغیر تکلیفا برضاه أو بدونه فإنّه أمر واضح.

ص: 300


1- 1 . الکافی 14/283، ح12 (7/273).
2- 2 . الکافی 14/287، ح5 (7/275).
3- 3 . الفقیه 4/94، ح5158.
4- 4 . وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.
5- 5 . وسائل الشیعة 29/10، ح3، الباب 1 من أبواب القصاص فی النفس.
6- 6 . مرآة العقول 24/9.
7- 7 . عوالی اللآلی 3/205، ح36.
8- 8 . مستدرک الوسائل 13/245.

و إن أُرید به الأعم - کما هو الظاهر لأنّ الحلّ بمعنی الارسال و فتح الطریق فی مقابل السدّ - فیرد علیه ما ذکرناه فی بعض مباحث الاُصول(1)... ردا علی أبی حنیفة حیث استدل علی عدم دلالة الاستثناء علی الحصر بقوله علیه السلام : لا صلاة إلاّ بطهور، و لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب، و قلنا إِنّه فی موارد نفی الحقیقة لیس الاستثناء حقیقیا کقوله: جاء القوم إلاّ زیدا لیدل علی الحصر و إنّما هی صورة استثناء. و فی الحقیقة اشارة إلی الشرطیة أو الجزئیة.

و بعبارة أُخری: لسان هذه التراکیب لبیان النفی -أی نفی الصحة - عند فقدان القید لا الإثبات، أعنی کفایته فی الصحة و کونه علّة تامة لها... و غایة مفاده [النبوی[ اعتبار طیب النفس فی الحلّ، و أمّا کون الحلّ به فقط فلایُستفادُ منه، فلا ینافیه اعتبار الاستیذان بدلیل»(2).

الوجه الرابع: روایة عروة البارقی(3) الماضیة(4)

بتقریب: تقریر النبی صلی الله علیه و آله لفعل عروة یدلّ علی کفایة الرضا المقارن للعقد، لأنّ القبض و الإقباض الواردین فیها لا یحلّ بدون الرضا المقارن عند الکلّ.

و فیه: یمکن القول فی کفایة الرضا فی التصرفات الخارجیة و منها القبض و الإقباض، و إنّما الکلام فی کفایته فی التصرفات الاعتباریة و لا دلالة فیها علی ذلک.

الوجه الخامس: ما ورد فی نکاح العبد، و سکوت البکر

وردت عدة من الروایات(5) فی صحة نکاح العبد مع سکوت مولاه و عدم ردّه،

ص: 301


1- 1 . محاضرات فی اصول الفقه 4/294 بحث المفاهیم، طبع موسوعة السیّد الخوئی رحمه الله .
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/307، و نحوها فی التنقیح فی شرح المکاسب 1/373.
3- 3 . مسند أحمد 4/376، السنن الکبری 6/112 للبیهقی، سنن الدار قطنی 3/10، ح29، سنن الترمذی 3/559، ح1258، و الثاقب فی المناقب /112، ح108 لابن حمزة الطوسی منّا.
4- 4 . فی أوّل بحث بیع الفضولی، الوجه الثانی.
5- 5 . منها: صحیحة معاویة بن وهب المرویة فی وسائل الشیعة 21/117، ح1، الباب 26 من أبواب نکاح العبید و الإماء. و منها: صحیحة اُخری له المرویة فی وسائل الشیعة 21/117، ح2. و منها: موثقة الحسن بن زیاد الطائی المرویة فی وسائل الشیعة 21/118، ح3.

وعدّة منها(1) فی أنّ سکوت البکر رضاها، فیظهر منهما کفایة الرضا فی العقود و منها عقد الفضولی.

و فیه: لا یبعد أن یکون سکوت المولی کاشفا عرفیا عن الرضا فیکون إذنا منه، مضافا إلی أنّ استناد العقد إلی العبد معلوم مع قطع النظر عن الرضا، و رضا المولی یصحّحه ولو لم یکن مبرزا لطیب نفسه نحو تزویج بنت أخ الزوجة أو بنت أُختها لأنّ استناد النکاح إلی الزوج معلوم و إنّما اعتبر فیه رضا العمّة أو الخالة فیکفی طیب نفسها وَ رِضاها ولو لم یکن مبرزا هناک، و هکذا بیع العین المرهونة.

و ثالثة: لابدّ من الاقتصار علی مورد الروایة حیث تکون علی خلاف القاعدة.

و أمّا سکوت الباکر فلا یبعد أن یکون کاشفا عرفیا عن الرضا لانّها لعفّتها تخجل عن التصریح فتسکت لا سیما فی تلک الأزمنة فیستکشف من سکوتها إذنها و لا یستدلّ بها فی المقام.

ثم قال الشیخ الأعظم: «ثم أنّه لو اُشکل فی عقود غیر المالک فلا ینبغی الاشکال فی عقد العبد - نکاحا أو بیعا - مع العلم برضا السیّد ولو لم یأذن له، لعدم تحقّق المعصیة التی هی مناط المنع فی الأخبار، و عدم منافاته لعدم استقلال العبد فی التصرّف»(2).

أقول: قد مرّ بعض روایات نکاح العبد فی الْوَجْهَیْنِ: الرابع(3) و السادس عشر(4)

ص: 302


1- 1 . منها: صحیحة البزنطی المرویة فی وسائل الشیعة 20/274، ح1، الباب 5 من أبواب عقد النکاح و اولیاء العقد. و منها: صحیحة داود بن سرحان المرویة فی وسائل الشیعة 20/274، ح2.
2- 2 . المکاسب 3/348.
3- 3 . راجع صفحة 201 من هذا المجلد.
4- 4 . راجع صفحة 254 من هذا المجلد.

من الاستدلال علی صحة بیع الفضولی، و ظهر ممّا ذکرنا هناک أنّ المولی إذا علم بنکاح العبد و لم یفرّق بینه و بین زوجته، تمّ نکاحه و صح، و لا یحتاج إلی الإذن بل لا یحتاج إلی الرضا و طیب نفسه.

ولکن هذا یختص بنکاحه و لا یجری فی غیره من عقوده و فیها یحتاج إلی الإذن و لا یکفی الرضا و طیب النفس، لأنّ العقود یحتاج إلی الاستناد، و الاستناد لا یتحقّق بالرضا و طیب النفس لما ذکره المحقّق النائینی من أنّ: «الاستناد و التنفیذ من الاُمور الإنشائیة و یکونان کسائر الإیقاعات لابدّ من إیجادهما إمّا باللفظ أو بالفعل، فلا الکراهة الباطنیة ردّ و لا الرضا الباطنی إجازة بل کلّ منهما یحتاج إلی کاشف»(1).

و هذا الکلام منه قدس سره هو القول الفصل فی المقام بلا فرق بین العبد و غیره، و لذا ما ذکره السیّد الخوئی رحمه الله من القول بالتفصیل بین الشیخ الأعظم و المحقّق النائینی رحمهماالله لم یرد علی الأخیر حیث یقول: «الصحیح هو التفصیل بین ما إذا کان العقد مستندا إلی مَنْ یعتبر استناده إلیه مع قطع النظر عن الرضا و الإجازة، و ما إذا کان استناده إلیه غیر ثابت و ارید إثباته بالرضا المقارن فیکفی الرضا و طیب النفس فی الأوّل دون الثانی، أمّا عدم الکفایة فی الثانی فلفساد استدلال المصنف بالوجوه المتقدمة»(2).

و الوجه فی عدم وروده لأنّ الکلام هنا فی القسم الثانی، و أمّا القسم الأوّل فَهُوَ الندم علی البیع بعد الرضا به إذا فرض الرضا المقارن أو بیع المکرَه إذا فرض الرضا المتأخر.

و أمّا ما ذکره الشیخ الأعظم من: «أنّ کلمات الأصحاب فی بعض المقامات یظهر منها خروج هذا الفرض عن الفضولی و عدم وقوفه علی الإجازة مثل قولهم فی الاستدلال علی الصحة: إنّ الشرائط کلّها حاصلة إلاّ رضا المالک، و قولهم: إنّ الإجازة لا یکفی فیها السکوت، لأنّه أعم من الرضا و نحو ذلک»(3).

ص: 303


1- 1 . منیة الطالب 2/3.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/306.
3- 3 . المکاسب 3/348.

فَقَد اعترض علیه المحقّق النائینی قدس سره و قال: «حمل الرضا فی أمثال هذه الکلمات إلی «الاختیار» لا «طیب النفس» و استعمال الرضا فی معنی الاختیار شایع و کثیر فی استعمالات أهل العرف و اللغة نحو قول بحرالعلوم فی الدرّة: کما ارتضاه المرتضی(1)، و قوله علیه السلام : فذلک رضا منه(2) الوارد فی أنّ إحداث ذی الخیار یوجب سقوط خیار، و قوله علیه السلام : و رضیکم خلفاء(3)، و قول العامة: إنّما سمّی الرضا علیه السلام بالرضا لأنّ المأمون اختاره ولیّ العهد»(4).

و أمّا اعتراض المحقّق السیّد الخوئی علی الشیخ الأعظم من أنّ: «لیس کلماتهم آیة و لا روایة لتکون حجة یتمسک بها»(5)، فَغَیْرُ تامٍّ لأنّ الأصحاب إذا اکتفوا بالرضا بمعنی طیب النفس فی هذه الکلمات، یظهر منها تمامیة القول بکفایة الرضا عندهم، و هذا القول هو مدعی الشیخ الأعظم، نعم، قولهم لیس بحجّة عندنا و لعلّ هذا الأخیر یکون مراد السیّد الخوئی فیکون تامّا.

قال الشیخ الأعظم: «ثم لو سلّم کونه فضولیّا، لکن لیس کلّ فضولیٍّ یتوقّف لزومه علی الإجازة، لأنّه لا دلیل علی توقّفه مطلقا علی الإجازة اللاحقة، کما هو أحد الاحتمالات فی من باع ملک غیره ثمّ ملکه»(6).

و یرد علیه: «إن دلّ دلیل علی کفایة الرضا المقارن فی صحة العقد، فالعقد المقرون به لا یکون فضولیا و إلاّ فلابدّ من الإجازة اللاحقة.

و بعبارة أُخری: إن قلنا بتحقّق الاستناد بمجرد الرضا و شمول عموم «اوفوا بالعقود» للعقد الفضولی المقرون برضا المالک فلا وجه لکونه فضولیّا و إلاّ فلابدّ من

ص: 304


1- 1 . الدرّة النجفیة /88.
2- 2 . وسائل الشیعة 18/13، الباب 4 من أبواب الخیار.
3- 3 . التهذیب 6/97 قطعة من الزیارة الجامعة.
4- 4 . منیة الطالب 2/5.
5- 5 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/309.
6- 6 . المکاسب 3/348.

الإجازة، و لا یکفی الرضا المقارن و لا واسطة بین الحدّین»(1).

ثم قال الشیخ الأعظم: «مع أنّه یمکن الاکتفاء فی الإجازة بالرضا الحاصل بعد البیع المذکور آنا ما، إذ وقوعه برضاه لا ینفکّ عن ذلک مع الالتفات»(2).

و یرد علیه: «الاکتفاء بالرضا الحاصل بعد البیع ولو آنا ما فی الإجازة لا معنی له، لأنّه لو کان مبرزا یکتفی بتحقّقه مقارنا للعقد، و إلاّ فلا یکتفی بالرضا الحاصل بعد البیع کما لا یکتفی بالمقارن منه»(3).

یمکن الاستدلال لقول الشیخ الأعظم بقوله علیه السلام : «لاتشترها إلاّ برضا أهلها»(4)، و قوله علیه السلام : «الضیعة لا یجوز ابتیاعها إلاّ من مالکها أو بأمره أو رضا منه»(5)، و قد مرّت الروایتان.

بتقریب: اکتفی فی الأُولی منهما بالرضا، و فی الثانیة قرن الرضا من المالک بالابتیاع منه أو أمره، فیستفاد منهما کفایة الرضا بدلاً من أمر المالک.

و فیه: أوّلاً: لا یبعد أن یراد به الرضا المبرز لا مطلقا.

و ثانیا: لو تنزّلنا یکون نظیر قوله علیه السلام : لا یحل مال امری ء مسلم إلاّ بطیب نفسه، من اعتبار الرضا و طیب النفس لا بدلیته للإذن و الإجازة لما مرّ من أنّ الاستناد المعتبر فی العقود لا یتم بالرضا و طیب النفس.

و ثالثا: لسانهما النفی لا الاثبات فلا یستفاد منه صحة العقد بمجرد رضا المالک و عدم تحقّق بقیة الشرائط بل استفاد منه اعتبار الرضا فی الصحة، فلا ینافیه اعتبار الإذن و الإجازة بدلیل مستقل.

ص: 305


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/309.
2- 2 . المکاسب 3/348.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعری 2/309.
4- 4 . وسائل الشیعة 17/334، ح3، الباب 1 من أبواب عقد البیع و شروطه. صحیحة محمّد بن مسلم.
5- 5 . وسائل الشیعة 17/337، ح8، مرسلة توقیع الحمیری.
الثانی: هل یجری الفضولی فی الإیقاعات؟

أو أنّه مختص بالعقود فلا یجری فی الإیقاعات؟ ادعی الشهید(1) وجود الإتفاق علی بطلان الفضولی فی الإیقاعات.

قال الأردبیلی: «و الظاهر عدم القول به - أی بالفضولی - فی العتق لقولهم علیه السلام : لا عتق إلاّ فی ملک، و یمکن الجواز و التأویل کما لا بیع إلاّ فیما یملک»(2).

و استُدِلّ لعدم جریانه فی الإیقاعات بثلاثَةِ وجوه:

الأوّل: الإجماع لو لم یکن حاصلاً فی جمیعها، فهو موجود فی العتق و الطلاق و بعدم القول بالفصل نتعدی منهما إلی غیرهما من الإیقاعات.

و فیه: نعم قد ادُّعِیَ الإجماع فیهما ولکن من المحتمل استنادهم فی الطلاق إلی ما ورد من قوله علیه السلام : الطلاق بید من أخذ بالساق(3)، و فی العتق إلی قوله علیه السلام : لا عتق إلاّ بعد ملک(4)، و من الواضح عدم دلالتهما علی اعتبار الإذن السابق نظیر ما مرّ فی البیع من قوله علیه السلام : لا بیع إلاّ فی ملک، فالجواب کالجواب.(5) و الإجماع إذا احتمل کونه مدرکیّا فلا یفید شیئا.

مضافا إلی عدم اعتبار الإجماع المنقول.

و ثالثة: إنّهم فی فروع الطلاق و العتق ذهبوا إلی جریان الفضولی فیهما حیث ذکروا فی الطلاق الخلع إذا کان مال الخلع زائدا علی المهر أنّه موقف علی إجازة الزوجة، و فی عتق الراهن العبد المرهون بلا إذن المرتهن أنّه صحیح یتوقّف علی إجازة المرتهن أو فکّ الرهن(6)، کأنّهم نسوا فی البحث ما ادعوه أوّلاً من الإجماع فی بطلان الفضولی فی

ص: 306


1- 1 . غایة المراد 3/37.
2- 2 . مجمع الفائدة 9/163.
3- 3 . مستدرک الوسائل 15/307.
4- 4 . وسائل الشیعة 23/15، ح2 و 6، الباب 5 من أبواب کتاب العتق.
5- 5 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/305.
6- 6 . هدایة الطالب 3/11.

الإیقاع.

و رابعة: نمنع من عدم القول بالفصل و التعدی. علی فرض ثبوته(1) فیهما.(2)

الثانی: عدم جواز التعلیق فی الإیقاع، فلا یدخل الفضولی فیه.

و فیه: المشهور یذهب إلی عدم جواز التعلیق فی العقود أیضا کما مرّ سابقا و مفصلاً، فلو کان دلیلهم ذلک فلابدّ أن لایدخل الفضولی فی العقود أیضا و التالی باطل و المقدّم مثله.(3)

الثالث: العقود بما أنّها من فعل اثنین یعتبر لها بقاء، و لذا یتعلَّق بها الفسخ مع أنّه حلّ للعقد فی جهة بقائه، و فی الفضولی بإجازة المالک یتم تمام الموضوع و أمّا الإیقاع بما أنّه فعل واحد فیعتبر أمرا آنیّا فإن حصل ممّن له سلطنة علی ذلک الأمر فهو و إلاّ فلا یحصل ذلک الأمر أصلاً.

و فیه: أنّ ما ذُکر مجردُ ادعاءٍ لأنّه کیف یمکن الالتزام ببقاء العقد اعتبارا دون الإیقاع، مع أنّه لو لم یکن له بقاء فکیف یجوز للزوج فی الطلاق الرجعی إلغاء طلاقه بالرجوع، لأنّ الرجوع فی الطلاق کالرجوع فی الهبة.(4)

و مع عدم تمامیة الوجوه الثلاثة نقول: إن قلنا بصحة بیع الفضولی لشمول الاطلاقات و العمومات - کما مرّ فی الوجه الأوّل من وجوه الاستدلال علی صحته - فإلحاق سائر العقود به فی محلّه بل مقتضاها القول بالصحة فی الإیقاعات أیضا إلاّ ما خرج بالدلیل.(5)

و إن قلنا بصحته بالروایات الخاصة - حیث لم ترد إلاّ فی النکاح و البیع - فإلحاق

ص: 307


1- 1 . الإجماع.
2- 2 . أی الطلاق و العتق.
3- 3 . راجع هدایة الطالب 3/12.
4- 4 . إرشاد الطالب 3/284.
5- 5 . کما فی حاشیة المکاسب 2/99 للفقیه الیزدی رحمه الله .

سائر العقود بهما لا وجه له فکیف بالإیقاعات(1)؟

مع أنّک تری أنّهم یجرون الفضولی فی جمیع العقود، فهم یرونه علی الوجه الأوّل فالحکم بجریانه فی الإیقاعات تام إلاّ ما خرج بالدلیل. و الحمدللّه.

الثالث: هل یجری الفضولی فیما جرت فیه الوکالة من العبادات و نحوها؟

قال الجدّ الشیخ جعفر: «و فی جری الفضولی فیما جرت فیه الوکالة من العبادات -کالأخماس و الزکوات و أداء النذور و الوقوف و الصدقات و نحوها من مال مَنْ وجبت علیه أو من ماله- و فیما قام الأفعال مقام العقود و نحوه، و کذا الإیقاعات ممّا لم یقم الإجماع علی المنع فیها وجهان، أقواهما الجواز.

و یقوی جریانه فی الإجازة و إجازة الإجازة و هکذا. و یتفرّع علیها أحکام لا تخفی علی ذوی الأفهام»(2).

و اعترض علیه تلمیذه صاحب الجواهر و قال: «و إن کان قد یناقش فی فحوی أداء الخمس و الزکاة من مال مَنْ وجبت علیه إذا کان بوجه لا یصحّ له نیّة التقرّب فیه ولو لعدم العلم بالإذن فیه، بل فی جریانه فی إجازة الإجازة لأنّها من الإیقاع الذی علم عدم قیام الغیر مقامه فیه ولو أجاز بعد ذلک، ولکن الأمر سهل بعد ما عرفت من الاتحاد فی مدرک المسألة فلا حظ ما قدّمناه و تأمّل ذلک، فإنّ فیه ما اشتمل علی غیر العقد من القبض و الإقباض و نحوهما»(3).

أقول: نعم، «الأمر سهل بعد ما عرفت من الاتحاد فی مدرک المسألة» کما قاله صاحب الجواهر رحمه الله فیمکن القول بجریان الفضولی فی جمیع ما ذکره الجدّ قدس سره من العبادات التی تقبل الوکالة و حتّی الإجازة و إجازة الإجازة.

و ممّا ذکرناه یَظْهَرُ وضوح جریان الفضولی فی الشراء أیضا و فی غیره من العقود و لأجل التبرک نذکر لک کلام عَلَمَیْن من أعلام الفقه هما:

ص: 308


1- 1 . راجع محاضرات فی الفقه الجعفری 2/305.
2- 2 . شرح القواعد 2/85.
3- 3 . الجواهر 23/452 (22/280).

جدنا العلاّمة التقی قدس سره قال: «أنّه کما یجری الفضولی بالنسبة إلی البیع کذا یجری فی الشراء فیحکم بصحته مع الإجازة من غیر فرق لاتّحاد المناط و شمول الإطلاق للأمرین، و فی عدّة من الروایات المتقدمة(1) دلالة علیه أیضا»(2).

و السیّد العاملی قال: «و لیعلم أنّه لا فرق فی ذلک بین البیع و الشراء کما صرّح به جماعة منهم المصنف [العلاّمة الحلّی] فی نهایة الإحکام(3) و أشار إلیه فی التذکرة(4)، و الشهید فی مسائله المدوّنة، و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(5) و إن کانت المسألة مفروضة فی البیع کالروایة.(6)

و أعلم أنّه یجری فی سائر العقود لأنّه إذا ثبت فی النکاح و البیع ثبت فی جمیع العقود، إذ لا قائل باختصاص الحکم بهما کما فی الروضة(7) ذکر ذلک فی کتاب النکاح.

نعم، قیل(8) باختصاصه بالنکاح، و قیل(9) ببطلانه فی النکاح و غیره»(10).

الرابع: صور بیع الفضولی

قال الشیخ الأعظم رحمه الله : إِنّ الفضولی قد یبیع للمالک و قد یبیع لنفسه و علی الأوّل

ص: 309


1- 1 . نحو حدیث عروة البارقی الذی مرّ فی الوجه الثانی من وجوه صحة بیع الفضولی.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/341.
3- 3 . نهایة الإحکام 2/476.
4- 4 . تذکرة الفقهاء 10/217.
5- 5 . جامع المقاصد 4/69.
6- 6 . مراده من الروایة صحیحة محمّد بن قیس التی مرت فی الوجه الثالث من وجوه التی أقاموها لصحة بیع الفضولی.
7- 7 . الروضة البهیة 5/141.
8- 8 . نقله فی الروضة 5/141، و قال به صاحب الحدائق 23/257.
9- 9 . کما مرّ عن القائلین بالبطلان نحو: الشیخ فی المبسوط 4/163، و الفخر فی الإیضاح 3/27 و نقله صاحب الحدائق 18/377 عن میرالداماد.
10- 10 . مفتاح الکرامة 12/604.

فقد لا یسبقه منع من المالک و قد یسبقه المنع، فهنا مسائل ثلاث»(1).

الظاهر أنّ المسألة الاُولی - و هی أن یبیع من لا یملک البیع للمالک من دون أن یسبقه منع منه - تکون أساسا للمسالتین الاُخریتین - .

الثانیة: أن یبیع للمالک مع سبق المنع منه.

و الثالثة: أن یبیع لغیر المالک إمّا لنفسه أو لشخص ثالث.

لأنّه لو قلنا بالفساد فی الاُولی فلابدّ من القول بالفساد فی الثانیة و الثالثة، و أمّا لو قلنا بالصحة فی الاُولی فیمکن مجال للبحث عنهما فیبحث فی الثانیة عن أنّ سبق المنع من المالک هل یوجب الفساد أم لا؟ و فی الثالثة عن أنّ وقوع البیع عن غیر المالک الذی هو مناف لمقتضی العقد هل یوجب الفساد أم لا؟(2)

و ما مرّ منّا إلی هنا من صحة بیع الفضولی کلّه کان فی المسألة الاُولی.

ص: 310


1- 1 . المکاسب 3/348.
2- 2 . راجع محاضرات فی الفقه الجعفری 2/311.
و أمّا المسألة الثانیة:
اشارة

فهی أن یبیع الفضولی مال غیره مع سبق منع مالکه، المشهور(1) علی صحته ولکن حُکی(2) عن فخر المحقّقین(3): أنّ بعض المجوّزین لبیع الفضولی اعتبر عدم سبق نهی المالک.

و یظهر ذلک من نکاح تذکرة والده حیث حمل النبوی: «أیّما عبد تزوّج بغیر إذن مولاه فهو عاهر»(4) - بعد تضعیف سنده - علی أنّه نکح بعد منع مولاه و کراهته فیقع باطلاً.(5)

و استظهر الشیخ أسداللّه(6) عدم الفرق بین النکاح و غیره.

و الفساد هو مُحْتَمَلُ کلام المحقّق الثانی فی بیع الغاصب: «نظرا إلی القرینة الدالة علی عدم الرضا و هی الغصب»(7). و إن اختار هو الصحة فیه.

قد یناقش(8) فی استظهار عدم الفرق بین النکاح و غیره بأنّ العلاّمة صرّح فی باب الوکالة(9) بعدم جواز بیع الوکیل الذی نهاه الموکِّل عن معاملة خاصة، ولکنّه لا یستلزم البطلان لتصریحه بصیرورة الوکیل المخالف لما عیّنه علیه الموکِّل فضولیا و أنّ عقده

ص: 311


1- 1 . کما فی المکاسب 3/373.
2- 2 . مقابس الأنوار /121.
3- 3 . ایضاح الفوائد 1/417 - 2/314.
4- 4 . سنن الترمذی 3/419 و 420، ح1111 و 1112 - سنن البیهقی 7/127.
5- 5 . تذکرة الفقهاء 2/588 من طبع الحجری.
6- 6 . مقابس الأنوار /121.
7- 7 . جامع المقاصد 4/69.
8- 8 . المناقش هو المحقّق المروج فی هدی الطالب 4/526.
9- 9 . تذکرة الفقهاء 15/97، مسألة 715.

موقوف علی الإجازة و لا یبطل رأسا.(1)

و لازمه اختصاص الحمل المزبور بنکاح العبد و لا سبیل لاستظهار عدم الفرق بین النکاح و غیره.

مستند القول بالفساد

1- قال الشیخ الأعظم: «فهذا القول [الفساد] لا وجه له ظاهرا عدا تخیّل أنّ المستند فی عقد الفضولی هی روایة عروة المختصة بغیر المقام»(2).

فی بعض الکتب الفقهیة(3) ذُکرت روایة عروة فقط بعنوان دلیل صحة بیع الفضولی، و هی مختصة برضا النبی صلی الله علیه و آله بما صنعه عروة و عدم ورود نهی النبی صلی الله علیه و آله فلا یشمل صورة منع المالک و یجری فیها أصالة الفساد الجاریة فی العقود. هذا توضیح مقالة الشیخ الأعظم.

ولکن تخیّل وحدة الدلیل فی روایة عروة، لا أدری أَصَدَرَ من أحد أم لا؟! لأنّ المذکور فی کلام الفاضل النراقی القائل ببطلان بیع الفضولی - کما مرّ- : «فیعلم أنّ من یقتصر فی دلیل الخروج بخبر البارقی و نحوه یجب أن لا یصحّ عنده بیع الغاصب و لا تفید إجازة المالک فی الصحة...»(4).

و أنت تری بأنّه عطف عَلی خَبَرِ البارقی «و نحوه» و ذکر قبل ورقة بعض الأدلة الواردة فی صحة بیع الفضولی من الروایات فهو لا یری أنّ مستند عقد الفضولی هی روایة عروة فقط.

فالتخیل المذکور لم یصدر من الفاضل النراقی بل لم یصدر من متفقّةٍ فکیف بفقیهٍ.

2- قال الشیخ الأعظم: «و أنّ العقد وقع منهیّا عنه فالمنع الموجود بعد العقد - ولو

ص: 312


1- 1 . تذکرة الفقهاء 15/105، مسألة 720، و قواعد الأحکام 2/360 و فیه: «ولو خالفه فی البیع وقف علی الإجازة».
2- 2 . المکاسب 3/373.
3- 3 . نحو تذکرة الفقهاء 10/14 و مختلف الشیعة 5/54 و التنقیح الرائع 2/25.
4- 4 . مستند الشیعة 14/279.

آنّا ما- کافٍ فی الردّ فلا ینفع الإجازة اللاحقة، بناءً علی أنّه لا یعتبر فی الردّ سوی عدم الرضا الباطنی بالعقد علی ما یقتضیه حکم بعضهم بأنّه إذا حلف الموکِّل علی نفی الإذن فی اشتراء الوکیل انفسخ العقد لأنّ الحلف علیه أمارة عدم الرضا»(1).

مراده من حکمهم هو هذا الفرع المذکور فی کلام المحقّق: «إذا اشتری انسانٌ سِلْعَةً و ادّعی أنّه وکیلٌ لإنسانٍ فانکر کان القول قوله مع یمینه و یقضی علی المشتری بالثمن، سواءٌ اشتری بعین أو فی الذمة، إلاّ أن یکون ذکر أنّه یبتاع له فی حالة العقد»(2).

و تبعه فی هذا الفرع العلاّمة(3) و المحقّق(4) و الشهید(5) الثاینین و السیّد العاملی(6) و صاحب الجواهر(7).

و غرضه من الاتیان بهذا الفرع و الاستشهاد به: أنّ المنع الموجود حال العقد من المالک یکون کافیّا فی بطلان بیع الفضولی و لا یحتاج إلی إنشاء ردّ جدید بعد عقد الفضولی، کما أنّ إنکار الوکالة کافٍ فی بطلان العقد الذی أنشاه الوکیل - المدعی للوکالة - و لا یحتاج إلی إنشاء ردّ جدید.

و کما لا تنفع إجازته بعد الإنکار لو أجاز الموکِّل عقد الوکیل فکذلک لا تنفع الإجازة بعد المنع الصادر من المالک لو أجاز عقد الفضولی.

و ردّ الشیخ الأعظم نفسه هذا الاستدلال بقوله: «و أمّا ما ذکر من المنع الباقی بعد العقد ولو آنا ما، فلم یدلّ دلیل علی کونه فسخا لا ینفع بعده الإجازة»(8).

ص: 313


1- 1 . المکاسب 3/374.
2- 2 . الشرائع 2/163، کتاب الوکالة - التنازع - المسألة الرابعة.
3- 3 . القواعد 2/367 - البحث الثانی فی صور النزاع (أ).
4- 4 . جامع المقاصد 8/293.
5- 5 . المسالک 5/300.
6- 6 . مفتاح الکرامة 21/346.
7- 7 . جواهر الکلام 27/435.
8- 8 . المکاسب 3/375.

أقول: المنع السابق من المالک لا یستکشف منه إلاّ عدم الرضا الباطنی بالعقد و هو لایکفی فی الردّ. لأنّ الرد یحتاج إلی إبراز و إظهار و استناد إلی المالک، و عدم الرضا الباطنی أمر نفسانیٌّ و قلبیٌّ و جوانحیٌّ یحتاج إلی مبرز و مظهِرٍ و مستنِدٍ حتّی یفید فی الردّ کما مرّ آنفا بعدم کفایة الرضا الباطنی فی الإجازة أیضا.

و العجب من الشیخ الأعظم قدس سره یری کفایة الرضا الباطنی فی الإجازة و عدم کفایة عدمه فی الردّ، مع أنّ الأمرین من سنخ واحد و الفرق بینهما فی غیر محلّه. و لم یدّل دلیل علی الفرق.

و أمّا الاِستشهادُ بفرع مدعی الوکالة فَقَدْ قال الشیخ الأعظم فی نقده: «و ما ذکره من حلف الموکِّل غیر مسلَّمٍ، ولو سُلّم فمن جهة ظهور الإقدام علی الحلف علی ما أنکره فی ردّ البیع و عدم تسلیمه له»(1).

أقول: الحلف علی إنکار الوکالة یبطل الشراء للموکِّل - المدعی علیه - و یصیر الشراء للوکیل لأنّ الحلف علی إنکار الوکالة إظهار و ابراز للکراهة الباطنیة بالبیع و هذا الإظهار و الإبراز یکفی فی الردّ. فلا یستند الشراء إلی الموکِّل، فلا وجه للاستشهاد بهذا الفرع.

ثم لا أدری ما المراد من قوله قدس سره : «ما ذکره من حلف الموکِّل غیر مسلَّم». لاِءَنّ الْحِلْفَ لا یُحْکَمُ بِهِ علی ثبوت الوکالة قطعا و إذا انتفت الوکالة لا یستند الشراء إلی الموکِّل، و لعلّ مراده نفی الشراء له ظاهرا بالحلف، و أمّا لو کان وکیلاً عنه واقعا فیستند الشراء به و تمّ، و الإنکار و الحلف به یدل علی عدم الصحة ظاهرا لا واقعا.(2)

مستند القول بالصحة:
1- العمومات و الاطلاقات

قال الشیخ الأعظم: «و کفایة العمومات»(3).

ص: 314


1- 1 . المکاسب 3/375.
2- 2 . کما عن الفقیه الیزدی فی حاشیته علی المکاسب 2/138.
3- 3 . المکاسب 3/374.

قد مرّ فی الوجه الأوّل من الاستدلال علی صحة عقد الفضولی دلالة العمومات و الإطلاقات علیها فلا نعید، و هما یدلان علی الصحة مع سبق منع المالک أیضا لأنّه مع لحوق الإجازة یکون مشمولاً للعمومات و الإطلاقات فی صورتی عدم منع المالک و منعه.

2- و أمّا حدیث عروة البارقی

فلا یشمل صورة سبق منع المالک لأنّ النبی صلی الله علیه و آله أمره باشتراء شاة و لم ینه عن بیعها، فالحدیث لا یجری فی هذه الصورة.

3- صحیحة محمّد بن قیس

قال الشیخ الأعظم: «مضافا إلی ترک الاستفصال فی صحیحة محمّد بن قیس»(1).

مراده قدس سره : أنّ الإمام علیه السلام لم یستفصل من سیّد الولیدة أنّه نهی عن بیع الولیدة قبل مسافرته أم لا، و ترک الاستفصال یفید العموم فیشمل صورة سبق نهی المالک.

و اعترض علیه السیّد الخوئی بأنّ قول «السائل: «ولیدتی باعها ابنی بغیر إذنی»(2) و عدم الإذن و إن کان لا ینافی المنع ولکن ظاهره فیه لا ینکر»(3).

أقول: حیث أنّ السائل فی مقام بیان طرح دعواه أو سوأله الشرعی عند أمیرالمؤمنین علیه السلام ولو کان نهی عن بیع الولیدة ذکره له و حیث لم یذکره فلم ینه عنه و هذا الاستدلال - اطلاق الدعوی و عدم تقییده بنهیه - یوجّه ترک استفصال الإمام علیه السلام فلا یدل علی عموم یشمل الصورتین فیتم اعتراض السیّد الخوئی بهذا البیان - و أمّا ادّعاء ظهور عدم الإذن فی عدم المنع فَهُوَ قابل للمناقشة - و لا تَتُمُّ مقالة الشیخ الأعظم رحمه الله فی المقام.

4- فحوی أدلّة نکاح العبد بدون إذن مولاه

قال الشیخ الأعظم: «و جریانه... مع ظهور المنع فیها ولو بشاهد الحال بین الموالی

ص: 315


1- 1 . المکاسب 3/374.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/203، ح1.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/347.

و العبید، مع أنّ روایة إجازته صریحة فی عدم قدح معصیة السیّد»(1).

مراده: أنّ التعلیل الوارد فی الروایتین: صحیحة زرارة و موثقته.(2) من «أنّه لم یعص اللّه و إنّما عصی سیّده» و «إنّما عصی سیّده و لم یعص اللّه» یدلّنا علی کبری کلّیّة و هی أنّ عصیان المخلوق یجبر برضاه دون عصیان الخالق فإنّه لا یجبر بشی ءٍ ففی کلّ مورد من العقود و الإیقاعات التی تجری فیها معصیة المخلوق کالبیع و النکاح و الطلاق و نحوها ترتفع برضاه الحاصل بعد العقد و لا یضرّ بصحته بعد الرضا، بخلاف موارد تجری فیها معصیة الخالق لعدم تصحیحها بشی ءٍ.

أقول: هذا البیان تام بناءً علی ما ذکرنا(3) من تمامیة فحوی ما دلّ علی صحة نکاح الفضولی علی صحته فی البیع بل فی جمیع العقود لأنّ الاحتیاط فی الفروج آکد و الأمر فیها أشدّ، ولکنّ بناءً علی مناقشة الشیخ الأعظم فی هذه الفحوی(4) و ذهابه علی عکسه بأنّ امضاء العقود المالیة یستلزم امضاء النکاح من دون العکس(5) فلا یتم ما ذکره قدس سره هنا لعدم تمامیة هذه الفحوی عنده، و سبحان من لا یسهو.

اللهم إلاّ أن یقال: «إِنّ تعلیل النکاح بعصیان السیّد من سنخ العلّة المنصوصة و الحکم ثابت فی جمیع العقود من باب انطباق الکلّی - الذی هو موضوع الحکم - علیها عرضا لا طولاً حتّی تصل النوبة إلی الاُولویة»(6). فیکون محور الاستدلال بالعلّة المنصوصة - أو کبری کلّیة - لا الفحوی المذکور سابقا فلا یتمّ الاشکال علی الشیخ الأعظم.

ولکن هذا البیان یُنافی قوله «فحوی أدلة نکاح العبد بدون إذن مولاه...».

ص: 316


1- 1 . المکاسب 3/374.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/114، ح1 و 2، الباب 24 من أبواب النکاح العبید و الإماء.
3- 3 . مرّ فی الوجه الرابع من أدلة صحة بیع الفضولی راجع صفحة 197 من هذا المجلد.
4- 4 . المکاسب 3/356 و ما بعده.
5- 5 . المکاسب 3/358.
6- 6 . کما فی هدی الطالب 4/535.
5- الاِتِّجار بمال الیتیم

قال الشیخ الأعظم: «مع جریان المؤیّدات المتقدمة له: من بیع مال الیتیم و المغصوب»(1).

أقول: قد مرّ فی الوجه السادس(2) الروایات الواردة فی الاِتِّجار بمال الیتیم و الاحتمالات الثلاثة حولها و تمامیة الاستدلال علی صحة بیع الفضولی هناک علی بعضها، و الکلام هنا الکلام.

و أمّا عطف المغصوب علی الیتیم إن کان عطف تفسیر فلا بأس به و إلاّ لم یتقدّم من الشیخ الأعظم شی ءٌ فی المغصوب حتّی یصح عطفه علی مال الیتیم.

اللهم إلاّ أن یقال: إِنّ مراده من المغصوب ما ورد فی معتبرة مسمع أبی سیار فی الوجه العاشر(3) من وجوه الاستدلال علی صحة بیع الفضولی و لا ریب فی أنّ الودیعة بید الودعی المنکر لها تَکونُ غصبا.

6- ما ورد فی عامل المضاربة

قال الشیخ الأعظم: «و مخالفة العامل لما اشترط علیه ربّ المال الصریح فی منعه عمّا عداه»(4).

أقول: قد مرّ فی الوجه الخامس(5) من وجوه الاستدلال علی صحة بیع الفضولی تفصیل القول فی هذه الروایات و عدم إمکان استفادة صحة بیع الفضولی منها و أنّها نصوص تعبدیة یؤخذ بها فی مورده الخاص.

و الحاصل: تمامیة جریان بعض الأدلة الماضیة بالنسبة إلی الصورة الثانیة - و هی

ص: 317


1- 1 . المکاسب 3/374.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 217.
3- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 245.
4- 4 . المکاسب 3/374.
5- 5 . راجع هذا المجلد صفحة 209.

بیع الفضولی مع سبق نهی المالک - فیحکم بصحته.

دفع وهم: هل یکون نهی المالک مانعا من صحته؟

یمکن أن یقرّب المانعیة بوجوه متعددة:

منها: إذا کان الردّ بعد العقد مانعا عن صحته بالإجازة کان النهی عنه اُولی بالمانعیة لأنّ الدفع أهون من الرفع.

و فیه: أوّلاً: منع الاولویة، لأنّ مانعیة الردّ ثبتت بالإجماع و المتیقن منه هو إنشاء الکراهة بقولٍ أو فعلٍ بعد العقد، و أمّا الکراهة الباطنیة المدلول علیها بالنهی السابق علی العقد و الباقیة إلی ما بعد العقد فخارج عن المتیقن منه.

و ثانیا: الردّ عرفا کالفسخ حلاّ للعقد ولکن الأوّل حلّ لصحته التأهلیة و الثانی حلّ لصحته الفعلیة، و لا یمکن حلّ العقد قبل وجوده و وقوعه فلایطلق علی النهی السابق الردّ.

و منها: العقد مع النهی السابق لا یضاف إلی المجیز بالإجازة.

و فیه: النهی السابق لا ینفصل ارتباط العقد و المجیز و للمالک أن یجیز العقد و ینفذه، و الشاهد علیه نهی التجار للدلالین عن معاملة خاصة و إجازتهم لها بعد وقوعها لمصالح.

و منها: النهی السابق یدل علی الکراهة الباطنیة و هی مانعة عن تحقق العقد و انتسابه إلی المالک.

و فیه: الکراهة الباطنیة لا تَمْنَعُ من تحقق العقد لا عرفا و لا شرعا. و الشاهد علیها صحة عقد النکاح علی المرأة التی تکره الزواج أو بیع المضطر.

نعم، عقد المکرَه یکون باطلاً و هو غیر من له الکراهة الباطنیة.

و الحاصل: عقد الفضولی مع سبق نهی المالک صحیح إذا أجازه المالک و نهیه السابق و کراهته الباطنیة لا یمنعان الصحة، و الحمدللّه.

و لذا قال السیّد العاملی فی کتاب الحجر: «و اشتراط بعضهم عدم مسبوقیّته بنهی المالک غیر جیّد علی إطلاقه، و إلاّ فالغاصب و العبد منهیّان شرعا عن التصرّف، فالأوّل

ص: 318

فی مال الغیر، و الثانی فی نفسه، بل قد نقول: إنّ هذا النهی مطلقا غیر مضرّ، لکنّ قضیة کلامهم فی هذا المقام أنّ الغرماء لو صرّحوا بالردّ لا ینفسخ العقد، فإنّما یعتبر کلامهم فی الإجازة لا فی الردّ، و أنّ الواقع موقع المجیز هو بقاء شیء من ماله یسع ذلک، فإن حصل ذلک کان إجازة و إلاّ کان ردّا، و قد نبّهنا علی ذلک فی باب البیع عند قوله «و الأقرب اشتراط أن یکون مجیزا فی الحال»(1) و بیّنّا الحال فی ذلک»(2).

ص: 319


1- 1 . قواعد الأحکام 2/19.
2- 2 . مفتاح الکرامة 16/251.
المسألة الثالثة: بیع الفضولی لنفسه
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «و هذا غالبا یکون فی بیع الغاصب»(1).

الأقوال فی بیع الغاصب:
اشارة

أکثر الفقهاء عدّوا بیع الغاصب من أقسام بیع الفضولی و من أفراده کما صرّح به فخر المحقّقین فی الإیضاح(2)، و علی أنّه من أفراده والده العلاّمة فی التذکرة(3) و المختلف(4) و نهایة الإحکام(5) و الشهید فی الدروس(6) و حواشیه(7) و الفاضل المقداد فی التنقیح(8) و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(9) و الصیمری فی غایة المرام(10).

القول الأوّل

قال الشیخ أسداللّه التستری: «... و هو قضیة إطلاق الباقین و اللازم من فتاواهم فی

ص: 320


1- 1 . المکاسب 3/376.
2- 2 . إیضاح الفوائد 1/417.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 10/17 و 219.
4- 4 . مختلف الشیعة 5/55.
5- 5 . نهایة الإحکام 2/476.
6- 6 . الدروس 3/193.
7- 7 . نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/599.
8- 8 . التنقیح الرائع 2/27.
9- 9 . جامع المقاصد 4/76 و 77.
10- 10 . غایة المرام 2/15.

مسألة ترتیب مسلسلة العقود علی أحد العوضین»(1).

و قال فی الجواهر: «... و من هنا کان بیع الغاصب من الفضولی عند المعظم أو الجمیع»(2).

فعلی القول بصحة بیع الفضولی یکون بیع الغاصب صحیحا بإذن المالک. و هذا هو القول الأوّل.

و القول الثانی: هو البطلان مطلقا.
و القول الثالث: التفصیل بین الغاصب و غیره کما عن ابن ادریس فإنّ المحکی

و القول الثالث: التفصیل بین الغاصب و غیره کما عن ابن ادریس (3) فإنّ المحکی عنه نفی الخلاف فی بطلان شراء الغاصب إذا کان بعین المغصوب.

و القول الرابع: التفصیل المنسوب إلی العلاّمة و ولده و الشهید و قطب الدین بین

و القول الرابع: التفصیل المنسوب إلی العلاّمة و ولده و الشهید و قطب الدین بین علم المشتری بالغصبیة و جهله بها.(4)

أقول: بعد ظهور الأقوال الأربعة لابدّ من التَّذْکیر بأنّ هذا البیع لا یکون نادرا من غیر الغاصب خلافا لما یظهر من الشیخ الأعظم حیث یقول بأنّه «و قد یتّفق من غیره بزعم ملکیّة المبیع»(5)، بل کثیرا ما یقع کالبیوع الفاسدة المبنیّة علی الأمارات المعتبرة کالید و السوق و علی الاصول المعتبرة نحو الاستصحاب و أصالة الصحة و غیرها، وَ الْبائِعُوْنَ فی هذه الموارد یبیعون لأنفسهم باعتقاد الملکیة لهم و إذا ظهر بطلان اعتقادهم یکون مصداقا لهذه المسألة و ضرب الشیخ الأعظم مثلاً لهذه الموارد بصحیحة الحلبی(6) التی رواها المشایخ الثلاثة فی الإقالة بالوضیعة التی مرّ الاستدلال بها فی الوجه الثامن من وجوه

ص: 321


1- 1 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /31.
2- 2 . الجواهر 23/457 (22/282).
3- 3 . نقل عنه الفقیه الیزدی فی حاشیته علی المکاسب 2/138.
4- 4 . کما فی مفتاح الکرامة 12/600، و المکاسب 3/387 و حاشیة المکاسب 2/138 للسیّد الیزدی، و هدی الطالب 4/540.
5- 5 . المکاسب 3/376.
6- 6 . وسائل الشیعة 18/71، ح1، الباب 17 من أبواب أحکام العقود.

الاستدلال علی صحة الفضولی فراجعه(1) و التمثیل تام.

أدلة صحة بیع الفضولی لنفسه
1- العمومات و الاطلاقات

بالتَّقْرِیب الذی مرّ فی المسألتین السابقتین، قال الشیخ الأعظم: «للعمومات المتقدمة بالتقریب المتقدّم»(2).

2- فحوی الصحة فی النکاح

التی مرّت فی الوجه الرابع من وجوه الاستدلال علی المسألتین، و الفحوی تام عندنا و لم یتم عند الشیخ الأعظم کما مرّت، و الکبری الکلّیّة المستفادة من روایاتها و التعلیل الوارد فیها تام و تشمل هذه المسألة أیضا.

3- صحیحة محمّد بن قیس

التی رواها المشایخ الثَّلاثُةُ فی قضاء أمیرالمؤمنین علیه السلام فی ولیدة باعها ابن سیّدها و أبوه غائب الخ(3). ظاهرة فی بیع الولیدة لِلابن لا الأب فضولة و هو عین مسألتنا هذه.

لأنّ الحکم مستفاد من ترک الاستفصال و هو أمارة العموم کما علیه السیّد الخوئی(4) ثمّ فرّق بین جریانه فی المسألتین الثانیة و الثالثة بعدم جریانه فی الثانیة و جریانه فی الثالثة، و التفصیل بین المسألتین بلا وجه کما یظهر من مقالتنا فی المسألة الثانیة حولها.(5) و إن کان السیّد الخوئی یمنع جریان ترک الاستفصال فی المسألة الثانیة بادعاء أنّ ظهور عدم الإذن فی عدم المنع لا ینکر ولکن هذا الظهور مفقود فی المسألة الثالثة فیجری ترک الاستفصال فتأمل.

ص: 322


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 230.
2- 2 . المکاسب 3/376.
3- 3 . وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
4- 4 . مصباح الفقاهة 4/112.
5- 5 . راجع هذا المجلد صفحة 315.
4- الروایات الواردة فی الاِتِّجار بمال الیتیم

لأنّ غیر الولی إذا اتَّجَرَ بمال الیتیم من دون إذن الولی یکون غاصبا و ضامنا لأصل ماله و الربح یکون للیتیم و لا زکاة هنا، و بعد أن یأخذ الیتیم ربحه یحکم بصحة معاملات المتاجر الغاصب و یمکن استفادة صحة بیع الفضولی فی هذه الصورة من هذه الروایات.(1)

5- معتبرة مسمع أبی سیار

(2)

الماضیة(3) فی الوجه العاشر من وجوه الاستدلال علی صحة الفضولی، و الودعی الجاحد یکون غاصبا و أمر الإمام علیه السلام بأخذ نصف الربح منه و هذا الأخذ یکون إذنا و إجازة فی معاملاته السابقة الغاصبة فیکون بیع الفضولی لنفسه صحیح، و المعتبرة یکون کالنص فی صحته.

و هذا المقدار من الأدلة یکفی فی الحکم بالصحة و أمّا ادِّعاءُ جریان «أکثر ما تقدّم من المؤیدات»(4) کما عن الشیخ الأعظم فَهُوَ غیر تام، لعدم جریان غیر ما ذکرها إلاّ هذه المعتبرة و هی غیر مذکورة فی ما تقدّم من کلام الشیخ الأعظم - و لعلّه لا تتم دلالتها علی صحة بیع الفضولی - فالإدعاء فی غیر محلّه، و لذا استشکل علیه الفقیه الیزدی بقوله: «و المؤیدات المتقدمة أیضا غیر جاریة»(5).

ص: 323


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 217.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/89، ح1، الباب 10 من أبواب کتاب الودیعة.
3- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 245.
4- 4 . المکاسب 3/376.
5- 5 . حاشیة المکاسب 2/138.
أدلة بطلان بیع الفضولی لنفسه و مناقشتها
اشارة

ذکر الشیخ الأعظم(1) خمسة وجوه للبطلان و ناقش الجمیع:

الوجه الأوّل: النبویان

الماضیان فی أوّل الاستدلال بالسنة الشریفة(2) علی بطلان بیع الفضولی و الجواب عنهما کالجواب فلا نعید.

قال الشیخ الأعظم: «بناءً علی اختصاص مورد الجمیع ببیع الفضولی لنفسه»(3).

و قال الفقیه السیّد الیزدی فی تبیین مراده: «یعنی بعد ما عرفت من اختصاص موردها بالبیع لنفسه و إلاّ فالاستدلال بها لیس مبنیّا علی الاختصاص، إذ مع الإطلاق أیضا یمکن الاستدلال بها للمقام بدعوی أنّ صورة البیع للمالک خارجة عنها بالدلیل، هذا إن قلنا فیه بالصحة، و إلاّ فالأمر أوضح»(4).

أقول: تبیینه تامٌّ، و بیع الفضولی بعد إجازة المالک یستند إلیه و یدخل فی عنوان بیع ما عنده و بیع ما یَمْلک بلا فرق بین بیعه للمالک أو مع سبق نهیه أو لنفس الفضولی و لذا قال الاُستاذ المحقّق - مدظله - «مع لحوق الإجازة یتبدّل الموضوع و یصحّ البیع»(5). هذا أوّلاً.

و ثانیا: علی فرض تعمیم الحدیثین علی صور بیع الفضولی أو اختصاص موردهما ببیعه لنفسه لا لمالکه یدلان علی بطلان صور بیع الفضولی أو الصورة الثالثة التی یبیع الفضولی لنفسه، و الأدلة الدالة علی صحة الفضولی عموما أو خصوص الصورة الثالثة یخصصن عموم الحدیثین بجریان قاعدة العام و الخاص.

ص: 324


1- 1 . راجع المکاسب 3/3786 و ما بعده.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 264 و 268.
3- 3 . المکاسب 3/376.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/138.
5- 5 . العقد النضید 3/140.
الوجه الثانی: اعتبار عدم سبق منع المالک

و هذا الاعتبار مفقود فی المغصوب و قد مرّ عن المحقّق الکرکی(1) بأنّ الغصب قرینة عدم الرضا و معلوم بأنّ عدم الرضا یعنی الکراهة و هی عبارة أُخری عن الردِّ، و بقاء هذه الکراهة - أی الردّ - بعد العقد ولو آنا ما کافٍ فی الردّ و البطلان و أجمع الأصحاب علی بطلان العقد بعد الرد و أنّ الإجازة بعد الرد لا تصححه

و ذکر هذا الوجه الشیخ أسداللّه التستری(2) و أحال جوابه علی ما ذکره فی المسألة الأُولی.

و ناقش فیه الشیخ الأعظم(3) بأمور:

الأوّل: الدلیل أخصّ من المدّعی، لأنّه مختص بالغاصب و البحث فی هذه الصورة أعمّ من الغاصب و غیره من الذین یرون مال الغیر ملکهم خطاءً.

الثانی: أنّ الغصب لیس قرینة علی عدم الرضا بالبیع مطلقا حتّی للمالک و رجوع الثمن إلیه، بل قرینة علی عدم الرضا بکون البیع للغاصب و رجوع الثمن إلیه، فلا یعدّ ردّا للبیع لمالکه و تملّکه للثمن.

الثالث: «قد عرفت أنّ سبق منع المالک غیر مؤثّر»، و أنّه لیس ردّا، و الکراهة السابقة بعد ورود الإجازة لا عبرة بها، مع أنّ أصل الکراهة غیر مضرّة بالصحة کما مرّ نظیره فی بیع المضطرّ.

الوجه الثالث: فقدان قصد المعاوضة الحقیقیة
اشارة

قال العلاّمة: «لا یتصوّر أن یبیع الإنسان مال غیره لنفسه»(4).

و مراده: اعتبار المعاوضة الحقیقیة فی البیع و هی دخول الثمن فی ملک مَنْ یخرج المبیع مِنْ ملکه و دخول المبیع فی ملک مَنْ یخرج الثمن مِنْ ملکه، و قصد هذه المعاوضة

ص: 325


1- 1 . جامع المقاصد 4/69.
2- 2 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /32.
3- 3 . راجع المکاسب 3/377.
4- 4 . تذکرة الفقهاء 13/246، و نحوها فی القواعد 2/127.

مفقودة فی بیع الفضولی لنفسه، لأنّه یرید خروج المبیع من ملک مالکه ولکن دخول الثمن فی ملک نفسه، و إذا لم یقصد المعاوضة الحقیقیّة لم یتحقق المعاقدة و ما هو مقوِّم للعقد فلم یتحقّق البیع.(1)

و أجاب الشیخ الأعظم عن هذا الوجه بجوابین
اشارة

(2):

الأوّل: الدلیل أخص من المدّعی لأنّه یختص بالغاصب

الأوّل: الدلیل أخص من المدّعی لأنّه یختص بالغاصب، و أمّا من کان معتقدا بملکیة المبیع له یتمشّی منه قصد المعاوضة الحقیقیة.

الثانی: الغاصب بعد أن یدعی أنّه مالک یقصد المعاوضة الحقیقیة

الثانی: الغاصب بعد أن یدعی أنّه مالک یقصد المعاوضة الحقیقیة، فقصد المعاوضة الحقیقیة موجودة و مبنیّة علی أمر غیر واقعی، و ادعاءه یکون نظیر المجاز الادّعائی فی الاُصول.

ثم اعترضوا علی جوابی الشیخ الأعظم بأُمور لا یتم بعضها:
الاعتراض الأوّل:

الاعتراض الأوّل: توجیه الشیخ الأعظم «یختصّ بالغاصب و الموضوع فی المسألة الثالثة أعمّ من الغاصب و یشمل البایع الذی یری نفسه مالکا جهلاً أو خطأً أو اجتهادا حیث لا یدّعی المالکیة بل یری نفسه مالکا حقیقةً منذ البدایة فجوابه رحمه الله أخص من المدّعی»(3).

و یرد علیه: أَنَّهُ لابدّ أن ینظر إلی جوابی الشیخ الأعظم معا و من الواضح أنّ من یری نفسه مالکا یتمشّی منه قصد المعاوضة الحقیقیة فیتمّ جوابه فی الفرضین.

اللهم إلاّ أن یقال: بعدم کفایة قصد المعاوضة الحقیقیة بل لابدّ من نفس المعاوضة الحقیقیة و هی مفقودة فی الفرضین فیعود الإشکال.

ولکن یمکن أن یقال: بتحقق المعاوضة الحقیقیّة بعد إجازة المالک و استناد البیع إلیه و أخذه للثمن أو ماشاء به، فیرتفع الإشکال من رأسه.

ص: 326


1- 1 . قد مرّ هذا الوجه الثانی و الثالث من وجوه الاستدلال علی بطلان بیع الفضولی بوجوه اُخری فراجع هذا المجلد صفحة 293 و 294.
2- 2 . راجع المکاسب 3/377 و 378.
3- 3 . العقد النضید 3/142.
الاعتراض الثانی: قال المحقّق الإیروانی

الاعتراض الثانی: قال المحقّق الإیروانی رحمه الله : «انّ دعوی الغاصب الملکیة تارة تکون من قبیل الواسطة فی الثبوت و اُخری من قبیل الواسطة فی العروض، أعنی: [1]تارة یقصد وقوع المعاوضة لنفسه و کان مصحّحه دعواه الملکیة کما تثبت الأظفار للمنیّة بدعوی أنّها سبع، [2] و اُخری یقصد وقوع المعاوضة للمالک الواقعی ثم یدّعی أنّه هو هو لأجل تملّک العوض... و فی هذا(1) یکون للغصب قصدان، قصد کبرویّ و هو قصد وقوع المعاملة للمالک الواقعی و آخر صغروی و هو قصد أنّه هو ذلک المالک الواقعی لأجل تلقی الثمن و و تملّکه، فإن کان الأوّل: اتّجه علیه أنّ ادّعاء کونه مالکا لا یصحّح القصد إلی المعاوضة الحقیقیة فإنّ المعاوضة المبنیّة علی الإدّعاء لا تکون حقیقّة، و کیف یکون حقیقیّا ما أساسه الإدّعاء و لا أدری کیف ذکر المصنف [الشیخ الأعظم] ذلک مع وضوح فساده، و هل یکون إثبات الأظفار علی وجه الحقیقة للسبع الإدعائی، فاذا کانت المعاملة الإدعائیة لم تجدها الإجازة فی صیرورتها حقیقیّة و فی ترتب الأثر علیها.

و إن کان الثانی: فالمعاملة و إن کانت حینئذ حقیقیة لکن الوجدان یکذّب أن یکون للغاصب قصدان و إنّما قصد واحد للمعاملة فی حقّ نفسه کالمالک الحقیقی فالادعاء إن کان فهی من قبیل الوسطة فی الثبوت دون العروض... - إلی أن قال: - کیف تکون المعاوضة المبنیّة علی أمر غیر حقیقی حقیقیة و هل یزید الفرع علی أصله و لعمری أنّ هذه الدعوی من المصنف رحمه الله فی غیر محلّها»(2).

و یرد علیه: أوّلاً: أَنَّ اعتراضه قدس سره ناشِئٌ من عدم الوصول إلی لبّ المراد فی مسلک الحقیقیة الاِدّعائیة فی باب المجاز و أنّه «لیس من وضع اللفظ محلّ اللفظ بل هو وضع المعنی محلّ المعنی»(3) فإذا جعل الغاصب نفسه مقام المالک ادعاءً ینشی ء منه قصد المعاوضة حقیقةً لا ادعاءً فیتمّ المطلوب.

و ثانیا: کثیرا ما یترتب علی أمر غیر حقیقی أُمُوْرٌ واقِعیَّةٌ و حقیقیّةٌ نحو عقد

ص: 327


1- 1 . أی الثانی.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/238 و 239.
3- 3 . کما علیه مؤسسها العلاّمة الجدّ فی وقایة الأذهان /106.

النکاح الذی لیس إلاّ أن یکون اعتباریا و یترتب علیه أُمُوْرٌ واقِعیَّةٌ و حقیقیّةٌ کالوطی و الولد و وجوب الإنفاق و الإرث و نحوها.

و ثالثا: لا نقول بصحة بیع الغاصب أو الذی یبیع لنفسه إلاّ بعد صدور الإجازة من المالک و بعدها یکون نظیر مَنْ باع شیئا وَ تَخیَّلَ أنّه لغیره فبان أنّه لنفسه، أو أنّه سرقة أو خیانة فبان أنّه لنفسه صح البیع بلا خلاف فی ذلک، أو تزوّج بامرأة، بتخیل أنّها خامسة أو ذات بعل أو اُخت زوجته فبانت أنّها لیست کذلک بل هی امرأة خلیّة یجوز تزویجها حکم بصحة النکاح اتفاقا.(1)

الاعتراض الثالث:

جواب الشیخ الأعظم رحمه الله بالنسبة إلی الغاصب یجری فی الغاصب الملتفت لغصبه النازل نفسه منزلة المالک ادعاءً و مجازا ثمّ بعد هذا الالتفات و التنزیل و الاِدّعاء أنشأ البیع فیتم بیعه عند الشیخ الأعظم، ولکن هذه القیود یغفل عَنْها الغاصب غالبا - لو لم نقل دائما - و مع غفلته لا یتم ما ذکره قدس سره .

و لذا قال الفقیه السیّدُ الیزدی رحمه الله : «... فإنّا لو سلَّمنا هذا الجعل من الغاصب غالبا فلا نسلّمه دائما، ولو کان الملاک ذلک لزم فی الحکم بصحته بالإجازة إحراز هذا الجعل منه بالعلم، إذ مع عدمه لا وجه للحمل علیه إلاّ من باب حمل فعله علی الصحة، و المفروض فساد فعله جهة حرمة بیعه...»(2).

الاعتراض الرابع:

لازم جواب الشیخ الأعظم هو التفصیل بین الغاصب الذی یدعی الملکیة لنفسه و الذی لایدّعیها، و هذا ممّا لا یلتزم به فقیهٌ، لأنّ المشهور عندهم تصحیح بیع الغاصب بالإجازة اللاحقة من المالک.

قال الفقیه السیّدُ الیزدی رحمه الله : «... و لازم هذا الوجه عدم الحکم بالصحة إذا علم منه

ص: 328


1- 1 . کما یظهر هذا الأخیر من السیّد الخوئی فی مصباح الفقاهة 4/112.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/139.

عدم التنزیل المذکور و لم یقل أحد بهذا التفصیل»(1).

الاعتراض الخامس:

وَ بِناءً علی جوابه قدس سره فلا یصحّ بیع الغاصب إلاّ بعد ادّعاء المالکیة، و إذا شککنا فی غاصب بأنّه هل یدعی المالکیة أم لا؟ تحقّق الشبهة المفهومیة و معها لا مجال للتمسّک بأصالة الصحة فی العمل الصادر منه حتّی نحکم بصحته بعد إجازة المالک الواقعی، لأنّ جریان أصالة الصحة متوقف علی إحراز أصل العمل - و هو البیع هنا - ثمَّ الشک فی اجتماع الشرائط و فقد الموانع، و مع عدم إحراز أصل العمل لا مجال لجریانها.(2) کما مرّ کلام الفقیه الیزدی فی عدم جواز التمسک بأصالة الصحة، فی ذیل الاعتراض الثالث.

لأجل هذه الاعتراضات تَصَدّی جماعة من الأعلام لدفع هذا الوجه الثالث و الیک أقْوالُهم:
جواب الفقیه السیّدِ الیزدی:

قال: «فالصواب فی الجواب أن یقال: حقیقة البیع لیس إلاّ مبادلة مال بمال من غیر نظر إلی کونه لنفسه أو لغیره، و هذا المعنی موجود فی بیع الغاصب، و قصد کونه لنفسه خارج عن حقیقته و لاینافیه أیضا، و لا فرق فیه بین الوجهین من التنزیل و عدمه»(3).

أقول: یأتی نقده فی ردّ جواب المحققق النائینی الآتی.

جواب المحقّق النائینی:

قال: «الحقّ امکان تحقّق قصد المعاوضة الحقیقیة من الغاصب فضلاً عن الجاهل المعتقِد بأنّه ملکه.

أمّا اجمالاً: فلما نری خارجا من قصد المعاوضة حقیقة من الظَلَمة و السرّاق بل لا یفرّقان بین ملکهما الموروثی و الملک الذی بیدهما من غیرهما.

ص: 329


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/139.
2- 2 . هذه الاعتراضات الثلاثة الأخیرة تظهر من العقد النضید 3/143.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/139.

و أمّا تفصیلاً: فلأنّ صدور المعاملة من الغاصب مبنیّ علی تجعّلٍ منه فی المالکیة بمعنی أنّه یغصب الإضافة الحاصلة بین المالک و ملکه و یسرقها و کأنّه یقطع حبل الملکیّة المتصلة بین المالک و ملکه و یوصله بنفسه، فبعد سرقة الإضافة یری السارق نفسه ذا إضافةٍ و ذا جدةٍ اعتباریة، فیبیع ما هو ملک له کسائر أمواله التی تحت سلطنته. و بهذا الاعتبار یصدر المعاوضة منه حقیقةً و یوقع التبدیل بین ملکی المالکین.

ثمّ لا یخفی أنّ هذه المقدمة المطویّة - أی رؤیة نفسه مالکا - لا تضرّ بالمعاملة و لیس من موانع العقد کمانعیة الفصل بین الإیجاب و القبول و نحو ذلک، فإنّ هذا البناء و التشریع کالبناء فی العبادات الغیر المضرّ بعبادیتها... .

ففی مقامنا لو قصد المعاوضة بین ملک نفسه و ملک غیره بأن باع مال الغیر لنفسه من دون بنائه علی ملکیة المبیع أو اعتقاده فهذه المعاوضة فاسدة لأنّه قصد تملّک الثمن بلا تملیک المثمن من ماله.

و اُخری: یقصد المعاوضة بین ملکی المالکین مع اعتقاده أو بنائه علی أنّه مالک فهذا البناء و الاعتقاد یلغی و یصحّ العقد بالاجازة و المَنْشَأ هو المجاز، لأنّ الإجازة تعلّقت بالتبدیل بین ملکی المالکین، لا بالقصد المقارن أو الخطأ فی التطبیق»(1).

و یرد علیه: أوّلاً: الغصب یتعلّق بمال الغیر أو حقّه و أمّا تعلّقه بالإضافة الملکیّة و سرقتها فهو ممّا لایمکن أن یُعْقَلَ، و لذا قال السیّد الخمینی: «إنّ سرقة الحقیقیّة غیر ممکنة و لا واقعة، و السرقة الإدعائیة لا تدفع الإشکال»(2).

و لعلّ لأجل عدم إمکان تعقّله عدل عنه فی دورته الأخیرة و لم یأت بهذا البیان بل قال: «تقوّم البیع و نحوه من عقود المعاوضات علی العوضین و أنّ المتعاملین لیسا رکنین فیها بخلاف النکاح...»(3).

و ثانیا: یتم ما ذکره من أن البیع هو المبادلة بین الملکین دون المالکین ولکن لا

ص: 330


1- 1 . منیة الطالب 2/36 و 35.
2- 2 . کتاب البیع 2/142.
3- 3 . المکاسب و البیع 2/47.

ینافی حصول المبادلة القهریة بین المالکین عند البیع فحینئذ یعود الإشکال من رأسه، لأنّ بیع الغاصب یوجب خروج المبیع من ملکیّة المالک الواقعی و دخول الثمن فی ملکیّة المالک الإدعائی.

و هذا الإشکال الأخیر أیضا یرد علی الفقیه السیّدِ الیزدی رحمه الله .

جواب المحقّق الإیروانی

قال: «منع توقّف المبادلة علی قصد دخول أحد العوضین فی ملک مالک الآخر و توضیح ذلک یتوقّف علی شرح حقیقة الملکیة:

فاعلم أنّ الملکیة علاقة اعتباریة بین المالک و المملوک تشبه العلاقة الحسیّة الحاصلة بین السلطان و المسلَّط و بین المستولی و المستولی علیه استیلاءً خارجیّا فکانّما هناک حبل واصل بینهما أحد طرفی هذا الحبل متصل بالمالک و الآخر متصل بالمملوک... و هذه الملکیّة و الاعتبار الوهمی قد تتغیّر بتغیّر المالک مع حفظ إضافتها إلی جانب المملوک کما تعطی فی مثل الدابة المقود عن یدک إلی غیرک، و یعبّر عن هذا فی المقام بالهبة فیقوم المالک و یجلس مالک آخر مکانه مع انحفاظ اضافة الملکیة فی جانب المملوک.

و قد تتغیّر بتغیّر المملوک مع حفظ إضافتها إلی المالک کما فی مثال الدابة محلّ رسن الدابة من رأس دابتک و تربطه بدابّة صاحبک بازاء أن یحلّ صاحب رسن دابته و تربطه بدابتک مع بقاء المُمْسَکَیْنِ فی أیدیکما و یعبّر عن هذا فی المقام بالبیع، فالبیع أن یأخذ کلّ من العوضین ملکیّة صاحبه و یعطیه ملکیة نفسه، و هذا تارة یکون مع انحفاظ الإضافة إلی المالکین کما فی [ما] ذکرناه من المثال و کما فی أغلب البیوع.

و اُخری: یکون مع نقل هذه الإضافة أیضا إمّا من المالکین جمیعا أو من أحدهما فیکون التبادل فی العینین فی ملکیتهما مع انتقال الملک من مالکه الأصلی إلی غیره فیکون هذا ثالث الأقسام و متضمّنا لمعنی البیع و الهبة جمیعا فکان لنا هبة ساذجة و بیع ساذج و مرکب من الأمرین... .

و من هنا ظهر أنّ حقیقة البیع و المعاوضة و المبادلة غیر متقوّمة بقصد دخول

ص: 331

العوض فی ملک مالک المعوّض، نعم إذا أطلق کان قضیته ذلک... .

و إن تعاسرت من هذا قلنا: فلاأقل من أن یکون ما یصنعه الغاصب أو کلّ بایع مال غیره لنفسه أو مشتری بماله لغیره هبّة معوّضة فیهب مال الغیر بازاء أن یهبه الطرف المقابل مال نفسه أو یهب ماله للغیر بازاء أن یهب الجانب الآخر ماله لغیره، و یکون القبول الطرف الآخر إنشاءً للهبة الاُخری فإن کان هذا من المالک صحّ بعموم أدلّة صحة المعاملات و خصوص أدلة صحة الهبّة، و إذا کان من الفضولی صحّ بإجازة المالک بدلیل صحة معاملة الفضولی ولکن لازم هذا أن یملک الغاصب الثمن بل لازم الأوّل أیضا ذلک...»(1). و لإجل تفصیل کلامه راجع إلی کتابه.

أقول: یرد علیه: أوّلاً: المبادلة تستلزم تبادل العوضین و دخول المعوّض فی ملک مَن خرج من ملکه العوض. و هی من العناوین ذات التعلّق و کلّ عنوان مبادلی یحتاج إلی طرف آخر لیتم من خلاله التبادل. فحقیقة المبادلة یتوقف علی المبدل و البدل فلا تَتَحَقَّقُ هذه المبادلة فی بیع الغاصب لخروج المال من ملک مالکه الواقعی و دخول الثمن فی ملک الغاصب.

و ثانیا: الملکیة تدخل فی الْعَناوِیْنِ ذات الإضافة الاعتباریة و تحتاج إلی المضاف و المضاف إلیه، ففی الهبة ذات المملوک تکون باقیة ولکن إضافتها الملکیة تتبدّل فی جهتی المالکیة و المملوکیة باعتبار تبدیل اضافة الملکیة و کذلک الحال فی البیع.

و تشبیهها [أی تشبیه اضافة الملکیة] بالرسن غیر تام لأنّ الملکیة من مقولة الإضافة و الرسن وجود رابطیٌّ و بینهما برزخ لا یبغیان.

و ثالثا: و أمّا تصویر بیع الغاصب من کونه مرکبا من البیع و الهبة فَغَیْرُ معقول لأنّ البیع عقد متقوّم بعدم المجانیة و الهبة عقد متقوّم بالمجانیة و الجمع بین المجانیة و عدمها فی عقد واحد من المحالات.

و رابعا: و تصویر بیع الغاصب بالهبة المعوّضة أیضا غیر تام لأنّ العقد أمرٌ انشائیٌ

ص: 332


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/(238-236).

قصدیٌ و ما یقوم به الغاصب هو البیع فکیف یمکن حمله علی الهبة المعوّضة مع عدم قصدها عند الغاصب.(1)

فلا یتم ما ذکره المحقّق الإیروانی قدس سره .

جواب المحقّق الاصفهانی:

قال بعد نقض بعض الاْءَجْوِبَةِ: «و التحقیق: إِنَّ البیع لیس من المعاوضة بالمعنی المزبور [أی المبادلة الحقیقیة الواردة فی کلام الشیخ الأعظم] حتّی یرد المحذور المذکور [أی الإشکال الذی طرحه الشیخ الأعظم] بل هو التملیک لا مجانا - أی تملیک شی ءٍ فی قبال شی ءٍ بحیث لا یکون مجانا - فالتملیک بإزاء سقوط الحقّ عن ذمّته تملیک شی ءٍ بازائه شی ء، لا بحیث یقوم مقامه فی ماله من الإضافة، بل قد مرّ فی محلّه(2) من أنّ البیع لا یجب أن یکون تملیکا کما فی بیع العبد بالزکاة فإنّ حقیقته قطع إضافة الملکیة بإزاء شی ء لا تملیک من یؤدی الزکاة فراجع ما قدمناه»(3).

و یرد علیه: أوّلاً: تعریف البیع بالتملیک لا مجانا لا یُطابق ما هو المرتکز عند العقلاء، لأنّه لیس عندهم مرکبا من أمر وجودی و أمر عدمی، مضافا إلی أنّ الأمر العدمی کیف یکون فصلاً للأمر الوجودی.

و ثانیا: لو تنزّلنا و قبلنا منه هذا التعریف الأخیر - أی التملیک لا مجانا - فکیف یمکن الجمع بینه و بین تعریفه فی أوّل البیع بأنّه «البیع: هو المعنی الذی یحصل بالتسبیب إلیه بإنشاء»(4).

و مراده بالأخیر أنّ البیع متقوّم بقصد التسبیب بإنشاء الملکیّة الشرعیة و العرفیة،

ص: 333


1- 1 . یظهر هذه الرودود من الاستاذ المحقّق - مدظله - بناءً علی ما ورد فی العقد النضید 3/(150-148).
2- 2 . راجع حاشیة المکاسب 1/64.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/118.
4- 4 . راجع حاشیة المکاسب 1/64.

مضافا إلی انّه لا یمکن أنْ یتمشی من الغاصب التسبیب بذلک.(1)

جواب المحقّق السیّدِ الخوئی:

ظهر منه قدس سره جوابان لهذا الإشکال فی الدورتین المختلفین من درسه الشریف:

1- فی الدورة الاُولی تبع المحقّق السیّدِ الخوئی استاذَه الأصفهانی و قال: «حقیقة البیع... لیس إلاّ إعطاء لا مجان و لا یعتبر فیه دخول العوض فی کیس من خرج عن کیسه المعوّض و بالعکس، لما یرد علی العلاّمة و من تبعه [القائلین بهذا الاشتراط - أی دخول العوض فی کیس مَنْ خرج عن کیسه المعوّض و بالعکس] من النقض ببیع الکلّی و بیع الاوقاف و الزکوات و أمثال ذلک فلا إشکال فی صحته، و أنّه یقع للمالک إذا أجاز، و مجرد اقتران الإنشاء بقصد لغو لا یمنع عن الصحة»(2).

یرد علیه غیر ما اُوردناه علی المحقّق الاصفهانی رحمه الله فی الإشکال الأوّل، أوّلاً: تعریف البیع بالإعطاء لا مجّانا مخالف لما اختاره فی تعریف البیع فی أوّل تقریر دروسه من أنّه «تبدیل عین بمال فی جهة الإضافة»(3). و بین التعریفین بون بعید وَ فَرْقٌ مَدِیْد.

و ثانیا: و ما اورده قدس سره من النقوض علی اشتراط العلاّمة لا یَرِدُ لأنّ بیع الکلّی یدلّ علی عدم اعتبار ملکیة المبیع لبائعه حین البیع، لا نفی الاشتراط المذکور.

و أمّا بیع الاوقاف و الزکوات فلا یدل علی نفی الاشتراط المذکور لأنّ فی هذه البیوع یدخل العوض فی کیس من یخرج عن کیسه المعوّض، لأنّ المخرِج عن کیسه هو الجامع المنطبق علی کلٍّ من الأصناف الثمانیة - فی بیع الزکوات - أو العنوان العام - فی الوقف العام - أو الأشخاص - فی الوقف الخاص - المعبّر عنهم بالموقوف علیهم فی الوقفین کما ذکره شیخنا الاستاذ(4) قدس سره .

2- ولکن فی دورته الثانیة قال: «... حقیقة البیع عبارة عن الاعتبار النفسانی

ص: 334


1- 1 . الاشکالان للاستاذ المحقّق - مدظله - کما فی العقد النضید 3/152.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/350.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/16.
4- 4 . إرشاد الطالب 3/353.

المظهر بمبرز خارجی، و من الظاهر أنّه یمکن تحقق هذا المعنی بمحض وجود المتبائعین، و إن لم یکن فی العالَم شی ءٌ من الشرع و العرف، و أمّا کونه ممضی للعقلاء و الشرع فهو أمر خارج عن حقیقة البیع و إنّما هو من الأحکام اللاحقة له، و علی هذا فالبائع الغاصب مثلاً و إن قصد دخول الثمن فی ملکه مع أنّ المبیع قد خرج عن ملک غیره، ولکن الإخلال بذلک لا یوجب الاخلال بحقیقة البیع لأنّ قصد حقیقته لما کان مستلزما لقصد دخول أحد العوضین فی ملک من خرج الآخر عن ملکه تحققت المعاوضة حقیقة و إنْ انضم إلی ذلک قصد وقوعه لنفسه باعتبار تنزیل نفسه منزلة المالک، لأنّ تعیین المالک الواقعی غیر معتبر فی مفهوم تحقق حقیقة البیع بل القصد إلی العوض و تعیینه یغنی عن القصد إلی المالک و تعیینه»(1).

و یرد علیه: أوّلاً: ما ذکره بعنوان حقیقة البیع - الاعتبار النفسانی المُظْهِر بمبرز خارجی - لیس حقیقة البیع بل هو تعریف الإنشاء علی مبناه الخاص المتفرّد به(2) فی قبال المشهور - حیث ذهب إلی أنّ الإنشاء أمر نفسانی أو اعتبار کذلک یظهر بمبرز خارجی نحو الجمل الإنشائیة - و هو غیر تام عندنا و تفصیل البحث حول النقود الواردة علیه یطلب من أبحاثنا فی علم الاُصول.

و ثانیا: الغاصب الذی یقصد المعاوضة الحقیقیّة أمّا أن یدعی أنّه عنوان المالک الحقیقی أو شخصه و مصداقه، و الأوّل - العنوان - لا یصدر منه البیع لأنّ حقیقة المعاوضة فی شخص المالک و مصداقه، و العنوان بما هو عنوان لا ینشأ و لا یصدر منه شی ءٌ.

و الثانی - شخص المالک و مصداقه - و إن یمکن إصدار البیع منه ولکن البیع یقتضی التبادل فی إطار المالین المملوکین للمالکین و الغاصب أجنبیٌّ عنهما و یستلزم إصدار البیع منه دخول العوض فی ملک من لم یخرج من کیسه المعوّض فیعود الإشکال من رأسه(3)، و لعلّ السیّد الخوئی فَطنَ لعوده و لذا قال بعد ما ذکرناه عنه: «نعم، یعتبر فی

ص: 335


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/114.
2- 2 . راجع لتفصیل البحث محاضرات فی اصول الفقه 1/99 و 98، طبع موسوعته.
3- 3 . راجع العقد النضید 3/153 بتقریر منّا.

مفهوم البیع قصد المتبائعین دخول العوض فی ملک من خرج المعوّض عن ملکه و بالعکس و إلاّ فلا یصدق علیه البیع، و علیه فلو اشترط علی البائع دخول الثمن فی ملک الأجنبی، أو اشترط علی المشتری دخول المبیع فی ملک غیره کان ذلک سببا لبطلان البیع جزما ضرورة أنّ الاشتراط المزبور علی خلاف مقتضی العقد»(1).

جواب المحقّق السیّد الخمینی رحمه الله :

قسّم الإشکال إلی قسمین العقلی و العقلائی، مراده بالأوّل هو قصد التسبّب بالإنشاء إلی الملکیة الشرعیة أو العرفیة کیف یتحقق من الغاصب الملتفت إلی غصبه و إلی أنّه غیر المالک، فهذا الاشکال یختص بالغاصب الملتفت.

و الثانی: أنّ البیع عبارة عن تملیک العین بالعوض و هو متقوّم بدخول الثمن فی ملک مَنْ یخرج من ملکه المثمن و هذا المعنی لا یتحقق فی بیع الغاصب لنفسه ولو تَمشّی منه القصد إلی التسبیب إلی الملکیّة الشرعیة أو العرفیة.

ثم قال فی دفع الإشکال العقلی: «إنّ الإیجاب و القبول فی البیع و سائر الأسباب فی المعاملات لا تکون أسبابا واقعیّة و علّلاً لإیجاد الملکیّة أو الزوجیّة و نحوهما، ضرورة أنّ المذکورات اُمور اعتباریة لا واقعیة لها فی غیر صقع الاعتبار، ولو کان الاعتبار اعتبار أمر خارج فلا تکون الملکیّة من الاُوصاف التکوینیة الموجودة فی الخارج، بل لو کان لها خارجیة تکون خارجیتها خارجیة اعتباریة لا واقعیّة، فلا یعقل أن تکون الأسباب علّلاً لها، لعدم إمکان علّیّتها لاعتبار العقلاء، بل له مبادٍ خاصة به فإنشاء أینما تحقق لا یوجد الملکیّة، بل قد یکون موضوعا لاعتبار العقلاء کالإیجاب و القبول من الأصلیین... ففی جمیع الموارد لا یکون إیجاد السبب موجبا لوجود المسبب أی الملکیة، و لیس التملیک و التملّک الواقعیان من قبیل الإیجاد و الوجود أو الکسر و الانکسار، بل الإیجاب و القبول موضوع لاعتبار العقلاء...»(2).

ص: 336


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/114.
2- 2 . کتاب البیع 2/144.

و قال فی دفع الإشکال العقلائی: «إنّ ماهیة البیع عبارة عن مبادلة المال بالمال، و هذا المعنی لا یتقوّم بإخراج المال عن ملک البائع و إخراج العوض عن ملک الطرف کما فی بیع الوقف أو بیع وقف بمال وقف بناءً علی عدم کون الموقوفة ملکا لأحد و کمبادلة الزکاة بمثلها من ولیّین شرعیین.

نعم، بعد تأثیر الإیجاب و القبول بالمعنی الذی تقدَّم و صیرورة العین ملکا للمشتری غالبا، و فی المعاملات المتعارفة یسقط ملکیّة البائع عن المبیع و ملکیة المشتری عن الثمن و هذا غیر کونهما داخلاً فی ماهیة المعاملة، فالمعاملات المتعارفة من الفضولی لنفسه بل کلّ متعاملٍ هی المتبادلة بین المالین من غیر کون خروج العین من الملک و دخول الثمن فی الملک فی حریم الإنشاء فبیع الفضولی لنفسه کبیع الفضولی للمالک بل کبیع الأصلیین فی مقام الإنشاء... إلاّ أنّ بیع الأصیل بتعقّب القبول یصح و یصیر موضوعا للأثر و بیع الفضولی یحتاج إلی الإجازة، و بالإجازة یدخل الثمن فی ملک البائع و المثمن فی ملک المشتری، و نیّة الفضولی - کون الثمن داخلاً فی ملکه - لو فرض إمکانه أو دعواه کونه منه أو اعتقاد الجاهل به غیر مربوط بماهیة المعاملة و البیع. و علی ذلک یدفع إشکال(1) عدم لحوق الإجازة بالبیع المذکور، و أنّ ما وقع غیر مجاز و المجاز غیر واقع. و قد اتضح أنّ هذا الجواب یدفع الإشکالین...»(2).

المختار فی الجواب و نقد القسم الأخیر من جواب المحقّق السیّدِ الخمینی:

أقول: ما ذکره قدس سره فی دفع الإشکال العقلی تام، و هو ما أصرّ علیه من أنّها اُمور اعتباریة محضة و لا واقعیة لها أصلاً إلاّ فی عالَم الاعتبار، و لیس المراد بالانشاء هو استعمال اللفظ بقصد إیجاد المعنی فی وعائه و ترتب الإیجاد علی الإنشاء مباشرة و فعلاً، بحیث یکون الإنشاء علّة تامة لإیجاد المُنْشَأ، بل المراد به استعمال اللفظ فی مقام إیجاد المعنی فی وعائه المقرّر له علی نحو العلیّة الناقصة بحیث لو انضمّ إلیه ماله دخل و

ص: 337


1- 1 . هذا هو الإشکال الإتی فی الوجه الرابع فانتظر.
2- 2 . کتاب البیع 2/146 و 145.

تأثیر فی تحقّق المُنْشَأ فیترتب علیه و إلاّ رُوْعِیَ حتّی یَنْضَمَّ إلیه، فیکون الإنشاءُ جزءً للعلّة لا کلّها.(1) فیرتفع الإشکال من رأسه و أساسه ففی بیع الغاصب سواءً یکون ملتفتا أم غیر ملتفت و فی بیع الفضولی لنفسه روعی إنشاءُه حتّی یلحقه إجازة المالک فإن لحقه تمّ البیع و إلاّ فلا، و بهذا البیان یرتفع الإشکالین لأنّ بالإجازة تمّ الإنشاء و یدخل الثمن فی ملک المالک المجیز.

و أمّا ما ذکره فی دفع الاشکال العقلائی فَلَیْسَ تامّا عندنا لما مرّ من استلزام البیع تعویض طرفی الإضافة و إلاّ لایتحقق المبادلة الواقعیة کما مرّ من مناقشتنا الثانیة لِلْمُحَقِّقِ النائینی، و الأُولی لِلْمُحَقِّقِ الإیروانی و لا نعیدها.

مضافا: إلی عدم تمامیة مؤیداته فی بیع الوقف و نحوه کما مرّ فی مناقشتنا الثانیة لِلْجَوابِ الأوّل للمحقّق السیّدِ الخوئی فلا نعیدها.

و ثالثة: ما یرتفع به الإشکال هو الجواب عن الإشکال العقلی - کما عرفت - لا ما ذکره فی جواب الإشکال العقلائی لعدم تمامیته بالمناقشتین الماضیتین.

نعم، ما ذکره أخیرا من أنّ «بالإجازة یدخل الثمن فی ملک البائع و المثمن فی ملک المشتری» تام فیرتفع الإشکال العقلائی من أساسه.

و بما ذکرنا یظهر لک الجواب الصحیح عن الإشکال و الحمدللّه علی کلّ حالٍ.

تنبیهٌ:

قال العلاّمة: «لو اشتری الفضولی لغیره شیئا بمال نفسه فإن لم یُسمّه وقع العقد علی المباشر سواء أذن ذلک الغیر أو لا. و إن سمّاه فإن لم یأذن له لَغَت التسمیة، و به قال الشافعی... و الأقرب: البطلان فیما لو أذن، إذ لیس للإنسان أن یملک شیئا و الثمن علی غیره...»(2).

و أورد الشیخ أسداللّه التستری علیه بقوله: «و یلزم من کلامه أنّه لو باع مال

ص: 338


1- 1 . لتوضیحه راجع منتقی الاصول 1/134 و ما بعده.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/218.

غیره لنفسه ثم أذن المالک - أی أجاز - علی ما وقع علیه العقد کان أیضا باطلاً للعلّة المذکورة»(1).

و ظاهره النقض علی العلاّمة بإلزامه بالبطلان - بمقتضی تعلیله - فی مسألتنا و هی بیع الفضولی مال غیره لنفسه مع ذهاب المشهور إلی صحته.

لأنّ التستری رحمه الله یری مسألتنا - و هی بیع الفضولی مال غیره لنفسه - و مسألة التی ذکرها العلاّمة - و هی الشراءُ للغیر بمال نفسه و هی عکس تلک - تکونا من باب واحد، لأنّ تنزیل الغیر منزلة نفسه ثابت فیهما.

و اعترض الشیخ الأعظم علی التستری و قال: «و قد تخیّل بعض المحقّقین أنّ البطلان هنا [أی فی مسألة العلاّمة و هی الشراء للغیر بمال نفسه] یستلزم البطلان للمقام و هو ما لو باع مال غیره لنفسه، لأنّه عکسه، و قد عرفت أنّ عکسه هو ما إذا قصد تملّک الثمن من دون بناءٍ و لا اعتقادٍ لتملّک المثمن، لأنّ مفروض الکلام فی وقوع المعاملة للمالک إذا أجاز»(2).

مراده من «قد عرفت» قوله قدس سره : «نعم، لو باع لنفسه من دون بناء علی ملکیّة المثمن و لا اعتقاد له، کانت المعاملة باطلة غیر واقعة له و لا للمالک لعدم تحقّق معنی المعاوضة»(3).

توضیح کلامه: مسألة العلاّمة - الشراء للغیر بمال نفسه - هِیَ علی عکس مسألتنا - بیع الفضولی لنفسه مال غیره - بناءً علی عدم إدعاء المالکیة من البائع الفضولی لنفسه للمثمن - العین - و قصد تملّکه الثمن، و یرد إشکال التستری علیه. و إمّا بناءً علی مقالة الشیخ الأعظم من ثبوت ادّعاء الملکیّة للبائع الفضولی لنفسه، فَلَیْسَتْ تلک عکس هذه، لأنّ فی مسألة العلاّمة هذا الادّعاء مفقود. فلا یرد إشکال التستری علی العلاّمة.

أقول: قد مرّ أنّ جواب الشیخ الأعظم قدس سره لم تصحح المعاوضة الحقیقیة فثبوت هذا

ص: 339


1- 1 . مقابس الأنوار - کتاب البیع /32.
2- 2 . المکاسب 3/378.
3- 3 . المکاسب 3/378.

الإدعاء - علی فرض الشیخ الأعظم - و عدمه فی عکسه لا یفرّق بین المسألتین فلا یتم ردّ الشیخ الأعظم علی التستری، و إیراده واردٌ علی کلام العلاّمة.

و قد ظهر من جوابنا دفع إشکال المعاوضة الحقیقیة علی مسألتنا - بیع الفضولی لنفسه - و أمّا بالنسبة إلی فرع العلاّمة - الشراء للغیر بمال نفسه - فَیُمْکِنُ الحکم بصحته أیضا لأنّ ما هو المتعارف فی هذه الموارد توکیل للبائع فی تملیک العین إلی ذلک الغیر بعد دخوله فی ملک المشتری، فینحل إلی عقود، البیع و الوکالة و الهبة. کما یظهر الانحلال إلی هبة و بیع معا من جدی کاشف الغطاء(1) قدس سره و یأتی کلامه فی ما بعد فی الإشکال الآتی [الرابع] فانتظر.

و کذلک إذا قال للغیر: اشتر بمالی هذا لنفسک شیئا، فهذا الکلام أیضا توکیل للعاقد فی تملیک الشی ء لنفسه بعد الشراء و دخوله فی ملک صاحب المال، أو تملیک ذلک المال من المالک علی أن یصرفه العاقد فی شراء هذا الشی ء.(2)

الوجه الرابع: المُنْشَأُ غیرُ مُجازٍ و المُجازُ غیرُ مُنْشَأ
اشارة

بتقریب: إن أراد المالک أن یجیز البیع علی نحو اوقعه الفضولی بأن یکون راجعا إلی الفضولی فهذا لایقبل إجازة المالک لعدم صحة هذا البیع بواسطة عدم تحقّق المعاوضة الحقیقیّة لأنّ الثمن یدخل فی ملک غیر من خرج المثمن من ملکه.

و إن أراد المالک أن یجیز البیع لنفسه لا للفضولی فهذا أمر لم ینشأه الفضولی حتّی أجازه المالک، لأنّ الفضولی أنشأ البیع لنفسه لا لمالکه.

و هذا یعنی الواقع غیر مجاز و المجاز غیر واقع. و هو الإشکال الرابع الذی طرحه الشیخ الأعظم.(3)

و جوابه: یظهر ممّا ذکرنا فی جواب الإشکال الماضی من أنّ انشاء الفضولی بالنسبة إلی أصل البیع - لا کونه لنفسه - رُوعی حتّی یلحقه إجازة المالک و بعدها یصیر

ص: 340


1- 1 . شرح القواعد 2/85.
2- 2 . راجع إرشاد الطالب 3/353.
3- 3 . راجع المکاسب 3/378.

البیع، بیع المالک و یدخل الثمن فی کیسه فالمُنْشَأ و المُجاز کلاهما واحد، لأنّ الفضولی أنشأ أصل البیع و أجازه المالک فتمّ الجواب.

ولکن یظهر جوابٌ آخَرُ من المحقّق القمی فی أجوبة مسائله و کتابه قال فی مسألة مَن باع شیئا ثمّ ملکه و دفع إشکال عدم کون إجازة المالک الفعلی إیثاقا للعقد الذی اُوقعه الفضولی: «و یمکن دفعه و جعله من باب إیثاق العهد لو جعلنا الإجازة عقدا جدیدا کما هو أحد المحتملات فی الفضولی المعهود - کما نُقل عن صاحب کتاب کشف الرموز(1) وفاقا لشیخه المحقّق - علی أنّا نقول: إنّه لا مناص لهم أیضا عن ذلک أی إلتزام العقد الجدید فی بعض الصور. و توجیه صدقها علیه بملاحظة ما یشبه نوعا من الاستخدام(2)، فمعنی أجزت البیع، رضیتُ بالانتقال إلیه من باب البیع.

فاللام فی «البیع» أو الضمیر فی «أجزتها» راجع إلی الأثر المترتب علی مطلق البیع، لا البیع الخاص الواقع فی الخارج حتّی یقال: إنّه لیس رضا به و یکفی هذا فی صدق معنی الإجازة.

توضیحه: أنّ الإجازة فی صورة کون البائع غاصبا و قاصدا لبیع الملک لنفسه مصححة للبیع علی الأصح، کما ذهب إلیه الأکثر، و هو لیس فی معنی لحوق الإجازة بالعقد کما هو کذلک فی الفضولی المعهود، بل بمعنی تبدیل رضا الغاصب و بیعه لنفسه و قصده لوقوع البیع لنفسه برضا المالک، و وقوع البیع عنه. و الفرق واضح بین لحوق رضا المالک بمقتضی العقد و وقوعه من قبله بالعقد، و بین تبدیل الرضا و الإیقاع بتحقق لحوق الرضا من المالک عن المالک... و الحاصل: أنّ الإجازة فی بیع الغاصب إنّما هو فی معنی التزام ورود معاملة جدیدة علی مال المغصوب منه، لا إمضاء للعقد السابق...»(3).

ص: 341


1- 1 . کشف الرموز 1/445.
2- 2 . الاستخدام: هو أن یذکر لفظ له معنیان، فیراد به أحدُهما ثم یراد بالضمیر الراجع إلی ذلک اللفظ معناه للآخر، أو یراد بأحد ضمیریه أحد معنییه ثم بالآخر معناه الآخر. [التعریفات /15 للجرجانی]. و قد ألّفَ فیه جماعةُ و من الأدباء رسائِلَ مُسْتَقِلَّةً.
3- 3 . جامع الشتات 2/320 من الطبع الحروفی، (1/164 من الطبعة الحجریة).

و قال قبل أقل من خمسین صفحة: «... و التحقیق: و إن کان انتفاء الجنس بانتفاء الفصل - أی انتفاء جنس التملیک بانتفاء فصله و هو وقوعه للغاصب - و أنّه لا بقاء للجنس بعد انتفاء الفصل و أنّ عقد الغاصب حرام و فاسد بالنسبة نفسه، لکنّه عَقَدَ البیع عرفا. و فائدة ملاحظة الجنسی هنا الإشارة إلی الصیغة، یعنی: أنّ العقد الذی وقع بضمّ الصیغة إلی قصد کونها واقعةً علی المال المعیّن لنفس البائع الغاصب و المشتری العالِم، قد بدّلتُهُ بجریانها علی ذلک المال بعینه لنفسی، فیکون عقدا جدیدا کما هو أحد الأقوال فی الإجازة... فالمعیار هو وقوع الإیجاب و القبول علی ملکٍ معیّن... و لا یذهب علیک أنّ ما اخترناه من کون ذلک عقدا جدیدا لا ینافی القول بالکشف، إذ معناه: إنّی جعلتُ هذا العقد فی موضع ما اُوقعه الفضولی، لا أنّی جعلته ناقلاً من الحین کما هو الظاهر من لفظ العقد الجدید...»(1).

و ذهب إلی نظیر هذا الکلام فی کتابه غنائم الأیام(2) فراجعها.

و اعترض علیه الشیخ الأعظم(3) بما حاصله: إذا کانت الإجازة عقدا جدیدا یلزم انّها قامت مقام شیئین أحدهما الإیجاب و الآخر القبول.

بیان الملازمة: إیجاب العاقد الفضولی قد تبدّل بإیجاب المالک بسبب إجازته، و بعد تبدیل صیغة الإیجاب لا محالة صیغة القبول تتحوّل، مع أنّ المشتری لا یُنْشِئُ صیغة قبول جدید حتی یتملّک المبیع من جدید، فلابدّ حینئذ من الالتزام بقیام الإجازة مقام القبول أیضا، فبالنتیجة أَنَّ الإجازَةَ تقومُ مقام الإیجاب و القبول الْجَدِیْدَیْنِ.

و هذا القیام خلاف للإجماع و العقل: لأنّه لم یقل أحدٌ من الفقهاء بقیام الإجازة مقام الإیجاب و القبول. و لا یعقل أن یتغیّر الشی ء عمّا وقع علیه و یتبدّل بیع الفضولی ببیع المالک فلا یتم جواب المحقّق القمی قدس سره .

و قال الفاضِلُ الآبی رحمه الله : «و الذی نراه أنّ البحث مبنیٌّ علی أنّ النهی هل یدلّ فی

ص: 342


1- 1 . جامع الشتات 2/276 من الطبع الحروفی، (1/155 من الطبعة الحجریة).
2- 2 . غنائم الأیام /541، 554، 555 من الطبعة الحجریة.
3- 3 . المکاسب 3/380.

المعاملات علی فساد المنهی عنه أم لا؟ فمَنْ قال بالأوّل یلزمه القول بالبطلان، لأنّ الفاسد باطل، اللّهم إلاّ أن یقول: انّ عقد البیع لایستلزم لفظا مخصوصا أعنی «بعت» بل کلّ ما یدلّ علی الانتقال فهو عقد فلو (فمن ظ) یلتزم هذا القول یکون إجازة المالک عنده بمثابة (بمنزلة خ ل) عقد ثان، و من قال بالثانی فله أن یقول: العقد الأوّل لا یوصف بالصحة و لا الفساد، بل یقف علی إذن المالک فإن أذن فهو صحیح و إلاّ ففاسد.

و إذا تقرّر هذا فلا إشکال علی شیخنا(1) - دام ظله - لأنّ النهی عنده فی المعاملات لا یقتضی الفساد، و لا للبیع لفظ مخصوص، بل یشکل علی الشیخین لأنّهما یخالفانه فی المسألتین، و المختار عندنا اختیار شیخنا - دام ظله -»(2).

یری السیّد العاملی هذا الکلام قولاً ثالثا فی الإجازة فی قبال الکشف و النقل، و قال: «و قضیة کلامه فی الکتاب المذکور أنّ الإجازة بیع فکأنّه قول ثالث کما ستسمع»(3).

و قال أیضا: «و قد سمعت ما فی کشف الرموز عن شیخه فکأنّه قول ثالث»(4).

و قال الشیخ الأعظم حول کلام الفاضل الأبی: «و أمّا القول بکون الإجازة عقدا مستأنفا فلم یعهد من أحد من العلماء و غیرهم و إنّما حکی کاشف الرموز عن شیخه أنّ الإجازة من مالک المبیع بیع مستقل فهو بیع بغیر لفظ البیع قائم مقام إیجاب البائع و ینضمّ إلیه القبول المتقدّم من المشتری»(5).

أقول: لابدّ من التنبیه علی أنّ کلام الفاضل الآبی یجری بالنسبة إلی الفضولی المعهود و جریانه بالنسبة إلی القسم الثالث من الفضولی علی القاعدة لا لتنصیص منه علیه.

و العجب من الشیخ الأعظم رحمه الله حیثث حمل کلام الفاضل الآبی علی أنّ الإجازة

ص: 343


1- 1 . و هو المحقّق الحلّی صاحب الشرائع.
2- 2 . کشف الرموز 1/445 و 446.
3- 3 . مفتاح الکرامة 12/601.
4- 4 . مفتاح الکرامة 12/606.
5- 5 . المکاسب 3/380.

بیع جدید «بغیر لفظ البیع قائم مقام إیجاب البائع و ینضم إلیه القبول المتقدّم من المشتری»(1) ولکن حمل کلام المحقّق القمی علی إذا کانت الإجازة عقدا جدیدا یلزم أنّها قامت مقام شیئین أحدهما الإیجاب و الآخر القبول و هذا القیام عنده مخالف للإجماع و العقل، مع تصریح المحقّق القمی رحمه الله بأنّ معنی کلامه: «إنّی جعلتُ هذا العقد فی موضع ما اُوقعه الفضولی»(2) أی الإیجاب فقط دون القبول، فلا یتم نقد الشیخ الأعظم علی المحقّق القمی.

جواب الشیخ الأعظم:

و حیث لم تَتُمّ مقالة المحقّق القمی عند الشیخ الأعظم قال: «فالاُولی فی الجواب منع مغایرة ما وقع لما اُجیز و توضیحه...»(3).

بَیانُنا: إِنَّ الفضولی لنفسه بإیجابه یقصد تملیک العین للمشتری بازاء الثمن، و لا یدلّ إیجابه علی کون العین ملکا له أو لغیره، ولکنّه حیث یبنی علی مالکیته للعین فلازم هذا الإدعاء تملک الثمن. و هذا الادعاء المترتب علیه تملک الثمن فهو خارج عن مدلول الإیجاب. فحینئذ یتحقق فی إیجابه قصد المعاوضة و المبادلة الحقیقیّة بین العین و الثمن، و المالک أجاز هذه المعاوضة و المبادلة الحقیقیّة و یتملّک الثمن، فما وقع عین المجاز و المجاز عین ما وقع.

ولکن یشکل جریان هذا الجواب بالنسبة إلی المشتری لنفسه بمال الغیر لأنّه أنشا مثلاً تملّک الثوب لنفسه و إذا أجازه مالک المال ینتقل الثوب إلیه و لا یدخل فی ملک المالک فلا یتمّ المبادلة الحقیقیة. و لذا لابدّ من الالتزام بکون الإجازة نقلاً مستأنفا بحیث ینتقل بها الثوب المشتری إلی مالک المال. فینصرف الإجازة عن معناها و هو التنفیذ.

و بهذا الأشکال تَعَلَّقَ نظر العلاّمة حیث یقول: «لو باع الفضولی أو اشتری مع جهل الآخر فإشکال ینشأ من أنّ الآخر إنّما قصد تملیک العاقد. أمّا مع العلم فالأقوی ما تقدّم

ص: 344


1- 1 . المکاسب 3/380.
2- 2 . جامع الشتات 2/276.
3- 3 . المکاسب 3/380.

-أی الوقوف علی الإجازة - و فی الغاصب مع علم المشتری أشکل إذ لیس له الرجوع بما دفعه إلی الغاصب هنا»(1).

مراده من الاشکال: هو أنّ الآخر مع جهله بفضولیة العاقد یملّکه و مع التملیک یشکل الإجازة. و فی الغاصب - مع علم المشتری - یکون أشکل کما ذکره قدس سره .

عدّ المحقّق التستری کلام العلاّمة ثالثَ وجوه الإشکال علی بیع الغاصب لنفسه

عدّ المحقّق التستری کلام العلاّمة ثالثَ وجوه الإشکال علی بیع الغاصب لنفسه ثمّ ردّه بقوله: «و یلزم علیه أنّه لو باع الوکیل أو إشتری مع الآخر جری الإشکال. و أنّه لو علم الآخر بکونه فضولیّا و هو قد قصد البیع لنفسه کان أیضا موضع إشکال بعدم مطابقة القصدین»(2).

مراد التستری من نقضه علی العلاّمة أنّ: الآخر الجاهل بالفضولیة إذا أنشا المالکیة للفضول فلا یتمکن المالک من إجازة هذا الإنشاء، کذلک یقتضی هذا الإشکال بطلان عقد الوکیل أو الوِلیّ مع جهل الآخر بالوکالة أو الولایة مع أنّ الفقهاء یصححونه، و من هنا ظهر عدم العبرة بقصد الأصیل الجاهل و لا بخطابه للفضولی و لابدّ من الحکم بالصحة هنا أیضا.

و دَفَعَ الشیخُ الأعظمُ نقض التستری بأنّ: العاقد الجاهل بالوکالة

و دَفَعَ الشیخُ الأعظمُ نقض التستری بأنّ: العاقد الجاهل بالوکالة أو الولایة إنّما یقصد بخطابه العموم بحیث یشمل الوکیل أو الولی فلا یقصد شخص الطرف المقابل - المخاطَب - بحیث لا یعمّ غیره. بخلاف مَنْ یخاطب الفضولی فإنّه یقصد تملیک الثمن له بشخصه لا بما یعمّ الغیر و هو المالک، فالفرق بین الفضولی و الوکالة و الولایة موجود.

أقول: و أنت تری بأنّ هذا الفرق لا یتم.

ثم قال الشیخ الأعظم: «قد تفطن بعض المعاصرین(3) لهذا الإشکال [الذی مرّ بالنسبة إلی المشتری لنفسه بمال الغیر] فی بعض کلماته فالتزم تارة ببطلان شراء الغاصب لنفسه مع أنّه لا یخفی مخالفته للفتاوی و أکثر النصوص المتقدمة فی المسألة کما اعترف

ص: 345


1- 1 . تذکرة الفقهاء 10/17.
2- 2 . مقابس الأنوار - کتاب البیع - /33.
3- 3 . راجع مقابس الأنوار /131 و 132.

به أخیرا(1)، و اُخری بأنّ الإجازة إنّما تتعلّق بنفس مبادلة العوضین و إن کانت خصوصیة ملک المشتری الغاصب للمثمن مأخوذة فیها»(2).

و ردّ الشیخ الأعظم جواب الأخیر للمتفطن المعاصر له - الذی ذکره بقوله و اُخری - بقوله: «حقیقة العقد... تملّکتُ أو ملّکتُ هذا منک بهذه الدراهم لیس إلاّ إنشا تملّکه للمبیع، فإجازة هذا الإنشاء لا یحصل بها تملّک المالک الأصلی له، بل یتوقّف علی نقل مستأنف»(3).

مراده قدس سره : إنّ إجازة مضمون هذا العقد - المشتری لنفسه بمال الغیر - لو تمت تفید فی مالکیة المشتری الفضولی للمبیع و هو خلاف حقیقة المعاوضة، إذ یلزم خروج الثمن عن ملک مالکه من دون عوض، فلابد من إنشاء مستأنف یتوقف علیه انتقال المبیع - المثمن - إلی مالک الثمن و هذا هو عود الإشکال من جدیدٍ.

أقول: الظاهر أنّ الشیخ الأعظم حمل کلام المحقّق التستری عَلی ما لا یرضی به، لأنّه حمل القسم الأوّل من کلامه من بطلان شراء الغاصب لنفسه علی ما بعد إجازة الغاصب ثم اعترض علیه بأنّه مخالف «للفتاوی و أکثر النصوص» مع أنّ التستری بقرینة عِدْل الثانی لکلامه و هو الإجازة اراد البطلان قبل الإجازة و هو واضح.

و حمل القسم الأخیر من کلامه علی أنّ المالک أجاز أصل مبادلة العوضین ولکن خصوصیة انتقال المثمن إلی المشتری الغاصب أیضا مأخوذة فیها و استشکل علیه بعود إشکال عدم المعاوضة الحقیقیة، مع أنّ «إن» الواردة فی کلامه نافیة أعنی هذه الخصوصیة غیر مأخوذة فلا یعود الإشکال، فلا یتم نقد الشیخ الأعظم علی المحقّق التستری رحمهماالله و لعلّه بهذین الحملان فی کلامه خرج من الإنصاف فی حقّه و اللّه هو الغفور.

و حیث لَمْ یتم جواب المحقّق التستری عند الشیخ الأعظم قدس سره تصدی بنفسه

ص: 346


1- 1 . مقابس الأنوار - کتاب البیع /33.
2- 2 . المکاسب 3/382.
3- 3 . المکاسب 3/382.

إلی جواب الإشکال بقوله: «فالأنسب فی التفصّی أن یقال...»(1).

و توضیحه: أنّ قصد المعاملة الحقیقیة یتمشّی من المالکین سواء کانا حقیقیین أو ادّعائیّین. و الحکم تابع للحیثیة التقییدیّة(2) الواقعیة لأنّها موضوع للحکم فإجازة المالک الحقیقی للثمن إجازة للعقد الواقع بین المالین لمالکیهما الواقعیین فینتقل المبیع - المثمن - إلی من هو مالک واقعی للثمن.

و المشتری لنفسه بمال الغیر و إن ادَّعی مالکیة الثمن و إلاّ بدون الادعاء لا تَتَحَقَّقُ منه المعاوضة الحقیقیّة ولکن لَمّا کانت حیثیة المالکیة حیثیة تقییدیه واقعیة فَتَقَعُ المعاملة للمالک الحقیقی بعد إجازته.

ولکن یرد علیه: أوّلاً: هذا الجواب یَبْتَنی علی جوابه عن الإشکال الثالث من أنّ الغاصب یدعی المالکیة بالنسبة إلی مایبیعه و قد عرفت عدم تمامیته فی محلّه فالبناء کذلک.

و ثانیا: الجهة المالکیة فی البیع و نحوه تکون من الجهات التعلیلیّة لا التقییدیّة ضرورة أنّ الغاصب أراد بصیغة بیعه نحو تملّکتُ خصوص نفسه لا المالک الواقعی و أنّه -أی نفسه الذی یدعی المالکیة - لیس إلاّ الغاصب.

و ثالثا: علی فرض أنّها تقییدیّة و کون الحکم واردا علیها، نمنع اقتضاءها ما ذکره، إذ لابدّ فی ورود الحکم علی الجهة مطلقا من قابلیة المحلّ للإطلاق و إلاّ فلا یستلزم الإطلاق ألا تری أنّک إذا قلت لزید: «اُدخل داری من حیث إنّک صدیقی»، لا

ص: 347


1- 1 . المکاسب 3/383.
2- 2 . الحیثیّة التقییدیّة: إذا کانت الحیثیة علی نحو جزء الموضوع کناطق للإنسان، و الاختلاف فیها یوجب التکثر فی الموضوع یعنی ذاتها. و فی مقابلها الحیثیّة التعلیلیة: إذا کانت الحیثیة خارجا عن ذات الموضوع نحو کون الشی ء علةً أو معلولاً، لأنّهما خارجان عن الذات و ان کان نفس التقیّد و التحیّث داخلان، مشروطا علی أنّهما مأخوذان علی نحو التحیّث و التقیّد لا علی نحو القیدیّة. و الاختلاف فیها لا یوجب التکثر فی الموضوع بل یوجب تکثّر ما خرج عنه الموضوع.

یکون هذه الجملة الإذن لدخول مطلق صدیقک. ففی المقام و إن کان الغاصب یدعی الملکیّة و کان تملّکه للمثمن من هذه الجهة ولکنّه لا یقصد إلاّ تملّک نفسه لا المالک الواقعی.

هذه الردود الثلاثة للفقیه الیزدی(1) رحمه الله .

و رابعا: أنّ بناء الفضولی علی المالکیة أخصّ من المدّعی، إذ لیس بناء جمیع الفضولیین کالغاصبین علی مالکیتهم حتّی یقال: أنّهم طبقّوا طبیعی المالک الذی هو جهة تقییدیة علی أنفسهم.

و خامسا: فی فرض اعتبار المعاوضة الحقیقیة و أنّها من مقوّمات البیع لا یفید ادعاء المالکیة من الفضولی، لأنّ هذا الإدعاء و البناء لا یوجب الدخول فی ملک من یجب أن یدخل فی ملکه و لا یتغیّر الواقع عمّا وقع علیه، و لیس مملِّکا لا شرعا و لا عرفا.

و هذان الأخیران للمحقّق المروج(2) رحمه الله .

و حیث لَمْ یتم جواب الشیخ الأعظم ذهب تلمیذه الفقیه المامقانی إلی أنّ «الحقّ أنّ الحکم فی هذا المقام غیر مطابق للقواعد، فإن تم الإجماع أو دلالة النصوص فذاک، و إلاّ کان اللازم هو الحکم بالبطلان»(3).

ولکن قد مرّ منّا الجواب عن الإشکال و عن الشراء بمال الغیر فلا نعیدهما.

ثم تعرّض الشیخ الأعظم لِ-

جواب کاشف الغطاء قدس سره

قال جدی الفقیه الشیخ جعفر رحمه الله : «ولو أجازه [أی لو أجاز المالک بیع الغاصب] مع القصد لنفسه [أی لنفس الغاصب] علی نحو ما قصد [الغاصب] احتمل رجوعه إلی هبة و

ص: 348


1- 1 . راجع حاشیته علی المکاسب 2/146.
2- 2 . راجع هدی الطالب 4/584 و 585.
3- 3 . غایة الآمال /369.

بیع معا کقوله: اشتر بمالی لنفسک کذا»(1).

و قال الشیخ الأعظم: «مع أنّه ربّما یلتزم صحة أن یکون الإجازة لعقد الفضولی موجبة لصیرورة العوض ملکا للفضولی، ذکره شیخ مشایخنا فی شرحه علی القواعد و تبعه غیر واحد من أجلاّء تلامذته(2)»(3).

ثم ذکر(4) عن بعض تلامذته [أی بعض تلامذة الشیخ جعفر] - و لعلّ المراد بالبعض أصحاب تبصرة الفقهاء(5) و المقابس(6) و الجواهر(7)- فی الاستدلال له وجهین.

أحدهما: التملیک الضمنی:

بیع مال الغیر لنفسه أو شراء لنفسه بمال الغیر، بعد أن یجیزهما المالک، یدخل الثمن فی الأوّل و المثمن فی الثانی فی ملک الفضولی - ولو آنا ما قبل بیعه أو شرائه - حتّی یکون الانتقال من الفضولی صحیحا، ثمَّ هذه الإجازة یتضمن تملیک ضمنّی من المالک للغیر الفضولی، نظیر ما إذا قال: «اعتق عبدک عنّی» أو قال: «بع مالی عنک» أو «اشترلک بمالی کذا» فهو تملیک ضمنی حاصل ببیعه أو الشراء.

أقول: أصل هذا البیان - علی ما وجدته مع قصر تتبعی - للعلاّمة فی التذکرة حیث یقول: «إنّما یفتقر إلی الإیجاب و القبول فیما لیس بضمنّیٍ من البیوع، أمّا الضمنی ک-«اعتق عبدک عنّی بکذا» فیکتفی فیه الالتماس و الجواب و لا تعتبر الصیغ المتقدّمة إجماعا»(8).

ص: 349


1- 1 . شرح القواعد 2/85.
2- 2 . منهم المحقّق التستری فی مقابس الأنوار /132.
3- 3 . المکاسب 3/384.
4- 4 . المکاسب 3/384 و 385.
5- 5 . تبصرة الفقهاء 3/349 و 350.
6- 6 . مقابس الأنوار - کتاب البیع /33، السطر 16.
7- 7 . الجواهر 23/364 طبع جماعة المدرسین (22/225 طبع الإسلامیة)، و 23/376 (22/232).
8- 8 . تذکرة الفقهاء 10/10.

ولکن یرد الشیخ الأعظم(1) علیه: أوّلاً: أنّ الصحة فی نفس هذه الأمثلة المذکورة ممنوعة بما مرّ فی تنبیه الرابع من بحث المعاطاة.(2) فکیف ببحثنا البیع أو الشراء لنفسه من مال الغیر أو به.

و ثانیا: قیاس الإجازة علی الإذن یکون مع الفارق، لأنّ دلالة الإذن یمکن أن تَکُوْنَ تامة لتقدیر الملک آنا ما قبل البیع للمخاطب و وقوع البیع فی ملکه حینئذ، بخلاف الإجازة لأنّها لا تتعلَّق إلاّ بما وقع فی السابق و هی رضا بما وقع و تنفیذ له و المفروض أنّ ما وقع هو تبدیل مال المالک، لا مال الفضولی العاقد.

و بعبارة أُخری: الإذن إعلامٌ للرضا بما یقع و الإجازة إعلامٌ للرضا بما وقع و بنیهما بون بعید.

أقول: و یمکن المناقشة فی الإیرادین: أمّا الأوّل: قد مرّ الصحة فی الأمثلة المذکورة بما مرّ فی التنبیه الواردة فی ذیل الوجه الثالث الماضی(3) فلا نعیده، و یمکن تطبیق بحثنا علیها.

و أمّا الثانی: فَنَعَمْ، قیاس الإجازة علی الإذن مع الفارق و هی (الإجازة) إعلام للرضا بما وقع و تنفیذ له و هو (الإذن) إعلام للرضا بما یقع، ولکن فی بحثنا ما وقع عبارة عن بیع مال الغیر لنفسه أو شراء لنفسه بمال الغیر، وجهة الاشتراک فی کلیهما قید لنفسه -لا لمالکه - و القول بالتملیک الضمنی یصحح البیع أو الشراء مع هذا القید - لنفسه - و لا مانع من الالتزام به.

و ثانیهما(4):

لا یشترط کون أحد العوضین ملکا للعاقد الفضولی أو غیره فی انتقال بدله إلیه، بل یکفی أن یکون مأذنونا فی بیعه لنفسه، فیملک الثمن بانتقال المبیع عن مالکه إلی

ص: 350


1- 1 . المکاسب 3/385.
2- 2 . المکاسب 3/83 و 85.
3- 3 . راجع صفحة 335 من هذا المجلد.
4- 4 . المکاسب 3/385.

المشتری، فی ما قال له المالک: «بع هذا لنفسک».

و أمّا إذا قال له: «اشترلک بهذا» یکفی هذا البیان بعنوان الإذن فی الشراء لنفسه بهذا المال، فینتقل ملک الثمن من مالکه مع إذنه إلی البائع و یملک العاقد المبیع.

و یتفرّع علی هذا البیان: لو اتّفق بعد البیع أو الشراء فسخ المبادلة رجع الملک إلی مالکه دون العاقد سواء کان فضولیّا أو غیره.

و یرد علیه الشیخ الأعظم رحمه الله بقوله: «فلما عرفت(1) من منافاته لحقیقة البیع التی هی المبادلة، و لذا صرّح العلاّمة رحمه الله - فی غیر موضع من کتبه - تارة بأنّه «لا یتصوّر»(2) و اُخری بأنّه: «لا یعقل»(3) أن یشتری الإنسان بمال غیره شیئا، بل ادّعی بعضهم(4) فی مسألة قبض المبیع: عدم الخلاف فی بطلان قول مالک الثمن «اشتر لنفسک به طعاما» و قد صرح به الشیخ(5) و المحقّق(6) و غیرهما(7)»(8).

ثم استدرک علی نفسه بقوله: «نعم، سیأتی فی مسألة جواز تتبّع العقود للمالک مع

ص: 351


1- 1 . فی أوّل البیع و تعریفه قال: «هو فی الأصل - کما عن المصباح - مبادلة مالٍ بمالٍ». [المکاسب 3/7].
2- 2 . قال فی القواعد 2/127: «لا یُتصوّر أن یبیع ملک غیره لنفسه». و قال فی تذکرة الفقهاء 13/246: «لا یتصوّر أن یبیع الإنسان مال غیره لنفسه».
3- 3 . حکمه بالبطلان موجود فی القواعد 1/87 و تذکرة الفقهاء 10/106 و تحریر الأحکام الشرعیة 2/338.
4- 4 . و هو صاحب الجواهر قال: «بلا خلاف اُجده فیه لامتناع الشراء بمال الغیر لغیره مادام علی ملک الغیر ولو بإذنه». [الجواهر 23/174 من طبع الإسلامیة].
5- 5 . المبسوط 2/121.
6- 6 . الشرائع 2/26.
7- 7 . کالقاضی فی المهذب 1/387 و الشهید فی الدروس 3/211 و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد 4/400 و الصیمری فی غایة المرام 2/58 و ثانی الشهیدین فی المسالک 3/252، راجع مفتاح الکرامة 14/678.
8- 8 . المکاسب 3/386.

علم المشتری بالغصب(1) أنّ ظاهر جماعة - کقطب الدین و الشهید و غیرهما -: أنّ الغاصب مسلّط علی الثمن و إن لم یملکه، فإذا اشتری به شیئا ملکه، و ظاهر هذا إمکان أن لا یملک الثمن و یملک المثمن المشتری.

إلاّ أن یحمل ذلک منهم علی التزام تملّک البائع الغاصب للثمن مطلقا کما نسبه الفخر(2) رحمه الله إلی الأصحاب، أو آنا ما قبل أن یشتری به شیئا تصحیحا للشراء»(3).

أقول: یمکن أن یناقش: بأنّ عدم تصور أن یبیع الإنسان مال غیره لنفسه تام ولکنّه مقیدٌ بعدم إذن مالکه، ولکن مع إذنه یمکن أن یتصوّر بانحلال إذنه أو إجازته أو بیع العاقد أو نحوه إلی عقدین أو عقود مثل بیع وهبة، أو وکالة وهبة، أو بیع و صلح، أو بیع وهبة و وکالة أو نحوها.

و یمکن حمل کلام قطب الدین و الشهید و غیرهما بأنّ شراء الغاصب کان علی ذمّته و علی نحو ثمن الکلّی لا الشخصی فلا یحمل علی مقالة الفخر.

و الحاصل: یمکن تصحیح مقالة جدی الفقیه کاشف الغطاء رحمه الله و وَجْهَی استدلال بعض تلامذته علیه و هما صاحبا المقابس و الجواهر کما مرّ.

الوجه الخامس: التسلیطُ المجّانیُّ لا یکون بیعا
اشارة

إذا کان الأصیل عالما بغصبیة المبیع و مع ذلک یشتری من الغاصب و یدفع إلیه الثمن. فقد حکم الأصحاب [نحو العلاّمة فی التذکرة قال: «لو کان عالما لا یرجع بما اغترم و لا بالثمن مع علم الغصب مطلقا عند علمائنا»(4) - و ظاهره دعوی الإجماع مع التلف و بدونه - و مثله ما فی نهایة الإحکام و قال: «و اطلق علماؤنا ذلک»(5). و قال فی

ص: 352


1- 1 . المکاسب 3/471.
2- 2 . ایضاح الفوائد 1/417.
3- 3 . المکاسب 3/387.
4- 4 . تذکرة الفقهاء 10/18.
5- 5 . نهایة الإحکام 2/478.

المختلف(1) و ولده فی الإیضاح(2): «قال علماؤنا: لیس للمشتری الرجوع علی الغاصب» و أطلقوا القول فی ذلک. و نسب عدم الرجوع مع بقاء العین فی الإیضاح(3) أیضا فی مقامٍ آخر تارةً إلی قول الأصحاب و أُخری إلی نصّهم و فی موضع آخر(4) إلی کثیر منهم. و فی جامع المقاصد(5) یمتنع استرداده العین عند الأصحاب و إن بقیت العین، و فی موضع آخر من الکتاب(6) المذکور نسبته إلی ظاهر الأصحاب، و فی الروضة(7) نسبته إلی ظاهر کلامه و فی موضع آخر منه(8) إلی الأکثر، و فی المسالک(9) و الکفایة(10) و الریاض(11) نسبته إلی المشهور، کما یظهر کلّه من المفتاح(12) و فی الجواهر(13): ظهور إطباق الأصحاب، علیه[ بأنّ المالک لو ردّ البیع فلیس للمشتری الرجوع علی البائع بالثمن - مطلقا أی سواء بقیت العین أم تلفت، أو مع بقائها خاصة - و هذا الحکم یکشف عن أنّ الغاصب ملک الثمن بمجرد تسلیط الأصیل إیّاه، فلا یبقی موردٌ للحوق الإجازة، فلو أجاز و صحّ یکون بیعا بلا ثمن و هو مناف للمعاوضة الحقیقیة المعتبرة فی البیع فیکون باطلاً.

و هذا الإشکال مختص بصورة علم المشتری بالغصب فلا یجری فی صورة جهله

ص: 353


1- 1 . مختلف الشیعة 5/55.
2- 2 . إیضاح الفوائد 1/417.
3- 3 . إیضاح الفوائد 1/417.
4- 4 . إیضاح الفوائد 2/194.
5- 5 . جامع المقاصد 4/71.
6- 6 . جامع المقاصد 4/77.
7- 7 . الروضة البهیة 3/235.
8- 8 . الروضة البهیة 3/235.
9- 9 . المسالک 3/160.
10- 10 . الکفایة 1/450.
11- 11 . ریاض المسائل 8/228.
12- 12 . مفتاح الکرامة 12/615.
13- 13 . الجواهر 23/492 (22/306).

أو عدم غاصبیة العاقد.

و أصل هذا الاشکال من العلاّمة الحلّی حیث قال فی ما وُجد بخطه الشریف علی نسخة بعض تلامذته لکتابه القواعد و نقله الشهید فی الحواشی النجاریة و عنه صاحب مفتاح الکرامة قال: «و الفرق بین علم المشتری و جهله أنّ البیع إنّما یتحقّق مع الجهل بالغصبیة لیقع العقد شبیها بالصحیح و یقع فی ملک البائع فینتقل منه إلی المالک، أمّا مع علمه فلا یقع العقد صحیحا بوجهٍ فلا یستحق البائع الثمن حتّی یستحقّه المالک»(1).

و قال فی التذکرة فی العبارة الماضیة(2): «... و فی الغاصب مع علم المشتری أشکل، إذ لیس له الرجوع بما دفعه إلی الغاصب هنا»(3).

و قد أجاب عنه الشیخ الأعظم(4) بثلاثة وجوه:

الأوّل: لا نسلّم ما حکم به الأصحاب من انّه لیس للمشتری استرداد الثمن مع ردّ المالک.

و لذا حکم جماعة من الأصحاب بجواز رجوع المشتری إلی الثمن مع وجود عینه کالعلاّمة فی القواعد(5) و التذکرة(6) و المختلف(7) و نهایة الإحکام(8)، و ولده فی الإیضاح(9) و شرح الإرشاد(10)، و الشهید فی الدروس(11) و اللمعة(12)، و المحقّق الثانی فی

ص: 354


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/599.
2- 2 . فی صفحة 341 من المخطوطة.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 10/17.
4- 4 . المکاسب 3/388.
5- 5 . القواعد 2/19.
6- 6 . تذکرة الفقهاء 10/18.
7- 7 . مختلف الشیعة 5/56.
8- 8 . نهایة الإحکام 2/478.
9- 9 . إیضاح الفوائد 1/418.
10- 10 . شرح الإرشاد، مخطوط، نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/616.
11- 11 . الدروس 3/193.
12- 12 . اللمعة الدمشقیة /110.

جامع المقاصد(1)، و الشهید الثانی فی المسالک(2) و الروضة(3)، و السبزواری فی الکفایة(4).

و کأنّ المحقّق فی الشرائع(5) و العلاّمة فی غصب القواعد(6) متردّدان کصاحب مجمع البرهان(7) کما ذکره صاحب المفتاح(8).

و تبعهم جدی الشیخ جعفر.(9)

ولکن ذهب المحقّق(10) إلی القول بالرجوع بالثمن مطلقا - أی مع وجود عینه و تلفه - .

الثانی: إنّ المشتری لم یسلّط البائع علی ماله بوجه الاطلاق، سواء أجازه المالک أم ردّه، و إنّما سلّطه علیه علی تقدیر ردّ المالک، و أمّا فی صورة الإجازة فإنّما أعطاه للمالک فی مقابل المبیع، و علیه إذا أجازه المالک یتملّک الثمن لا محالة.

و بالجملة: بناءً علی تمامیة ما حکم به الأصحاب، إنّما یصح إذا کان التسلیط مطلقا لا مراعی علی إجازة المالک.

الثالث: الإشکال إنّما یتمّ بناءً علی القول بالنقل، و أمّا علی القول بالکشف فلا،

ص: 355


1- 1 . جامع المقاصد 4/71.
2- 2 . المسالک 3/161.
3- 3 . الروضة البهیة 3/235.
4- 4 . الکفایة 1/450.
5- 5 . الشرائع 2/8.
6- 6 . القواعد 2/238.
7- 7 . مجمع الفائدة 8/164 و 165.
8- 8 . مفتاح الکرامة 12/616.
9- 9 . شرح القواعد 2/105.
10- 10 . المسائل الطبریة، المطبوعة ضمن الرسائل التسع /306 و 307، و نقل عنه فی جامع المقاصد 4/77 و الجواهر 23/491 (22/305).

لأنّها تکشف حینئذ عن أنّ الثمن ملک للمالک من أوّل الأمر فیکون تسلیط المشتری للبائع علی ملک المالک لغوا.

و بعبارة اُخری: إِنّ الإشکال إنّما یتوجّه علی النقل، لأنّه حینئذ یکون المال منتقلاً إلی الغاصب قبل انتقاله إلی المالک المجیز، و أمّا علی الکشف فالإجازة تکشف من أنّ التسلیط کان لغوا و تسلیطا لمال الغیر.

الجوابان الأوّلان تامان، و أمّا الثالث: فهو مبنیٌّ علی القول بالکشف الحقیقی الدال علی تحقّق الملکیّة من حین العقد للمالک و أنّ الإجازة کاشفة عنها لاحقا، و لها المدخلیّة فی الکشف و الإثبات دون الثبوت و الواقع، فالإجازة علی الکشف الحقیقی لم یتأثر فی شی ءٍ. و لا یمکن الالتزام بهذا القول.

و أمّا علی القول بالکشف الحکمی - أو اشتراط الإجازة بنحو الشرط المتأخر، أو اشتراط وصف التعقب، أو الکشف الاِنقلابی - فلا یتم جوابه، لأنّ بناءً علیه یکون المال باقیا علی ملکیّة أصحابه فی حدّ الفاصل بین العقد و صدور الإجازة، و إنّما تحصل الملکیّة و اعتبارها من حین صدور الإجازة ولکن المعتبَر من زمن العقد بمعنی أن الإجازة و إن صدرت متأخرة إلاّ أنّها تشمل الفترة السابقة علی صدورها إلی حین إنشاء العقد - و علی هذا القول (أی الکشف الحکمی) - یکون الثمن فی الفترة الواقعة بین العقد إلی الإجازة للمشتری نفسه حقیقةً ولکن ینقلب إلی ملک المالک المجیز من حین صدور الإجازة بحیث تشمل ملکیته من حین العقد، فیکون تسلیط المشتری الأصیل الثمن للغاصب تسلیطا علی ماله نفسه لا مال الغیر.

ثمّ هذا الاشکال إنّما یتم بناءً علی جواز البیع من طرف الأصیل، إذا بناءً علی لزومه لیس للأصیل تملیک الثمن الغیر - الغاصب هنا - بالتسلیط أو بغیر تسلیط.(1)

ص: 356


1- 1 . راجع محاضرات فی الفقه الجعفری 2/352، التنقیح فی شرح المکاسب 1/424، العقد النضید 3/167.
تنبیه:

إنّ هاهنا مَسْأَلَتَیْنِ: الأُولی: «صحة بیع الفضولی لنفسه - غاصبا کان أو غیره - إنّما هو فی وقوعه للمالک إذا أجاز، و هو الذی لم یفرّق المشهور بینه و بین الفضولی البائع للمالک، لا لنفسه»(1).

الثانیة: البائع الفضولی لنفسه أو للمالک لو تملّک المبیع بعد العقد و أجازه فهل یصح لنفسه أم لا؟ لأنّ الکلام فی الاُولی «فی وقوع البیع للمالک»(2)، و فی الثانیة «فی وقوعه [للفضولی] العاقد إذا ملک»(3).

ولکن ظاهر عبارة الریاض خلط المسألتین قال: «فلو باع الفضولی ملک الغیر من دون إذنه مطلقا لم یلزم إجماعا، بل لم یصحّ إذا کان البیع لنفسه لا للمالک، فیمشی إلی المالک فیشتریه منه کما صرّح به جماعة کالفاضلین: العلاّمة فی جملة من کتبه کالمختلف(4) و التذکرة(5) مدّعیّا فیها عدم الخلاف فیه بین الطائفة، و المقداد فی شرح الکتاب(6) [المختصر] و غیرهما(7)...»(8).

قال جدی العلاّمة الشیخ محمّد تقی صاحب الهدایة: «و قد حکم فی الریاض بفساد المعاملة فی هذه الصورة [إذا کان البیع لنفسه لا للمالک فیمشی إلی المالک فیشتریه منه (المسألة الثانیة)] و عدم صحتها بتعقّب الإجازة حاکیا عن الجماعة... و أنت خبیر بأنّ الصورة المفروضة فی التذکرة ممّا لا ربط له بهذه المسألة، إذ لیس المقصود هناک

ص: 357


1- 1 . المکاسب 3/389.
2- 2 . المکاسب 3/389.
3- 3 . المکاسب 3/389.
4- 4 . المختلف 5/55.
5- 5 . تذکرة الفقهاء 10/17 و 219.
6- 6 . التنقیح الرائع 2/26.
7- 7 . کالشیخ فی الخلاف 3/168.
8- 8 . ریاض المسائل 8/221.

[المسألة الثانیة التی عنونها صاحب الریاض] تصحیح تلک المعاملة من جهة لحوق إجازة المالک، بل المقصود تصحیحها من جهة الشراء من المالک بعد ذلک، و لا ریب فی عدم صحتها حینئذ بذلک، و الظاهر عدم الخلاف بین الاُمّة فضلاً عن الفرقة، و الظاهر أنّ ذلک هو مقصود الجماعة،...»(1).

وَ قالَ الشیخ الأعظم: «و من هنا یعلم أن ما ذکره فی الریاض من أن بیع الفضولی لنفسه باطل... فی غیر محلّه، إلاّ أن یرید ما ذکرناه [أی المسألة الثانیة] و هو خلاف کلامه»(2).

هذا تمام الکلام فی المسألة الثالثة من بیع الفضولی - و هی بیع الفضولی لنفسه - و الحمدللّه.

ص: 358


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/343 و 342.
2- 2 . المکاسب 3/389.
بقی هنا أمران:
الأوّل: بیع الفضولی فی الذمة
اشارة

تعرّض له صاحب المقابس(1) و هو أن لا فرق فی بیع الفضولی بین کون مال الغیر عینا أو کلّیّا فی ذمّة الغیر - بلا فرق بین کون مال الغیر ثمنا أو مثمنا -، و البائع الفضولی [1] تارةً یضیف الثمن أو المثمن إلی ذمّة خاصة من دون أن یعقِّبه بما ینافیه - کإضافته إلی نفسه - [2] و اُخری أن یجمع بین المتنافیین.

فیقع الکلام فی مَسْأَلَتَیْنِ:

المسألة الاُولی و صورها:
اشارة

و هی أن یضیف البائع الثمن أو المثمن إلی ذمّة خاصة، و تتصوّر علی ثَلاثِ صور:

أ: أن یکون الکلّی فی ذمّة غیر الفضولی قبل البیع

نحو: أن یبیع الفضولی طنّا من الحنطة مملوکا لعمروٍ فی ذمّة بکر، - و الوجه فی اشتغال ذمّة بکر لایهمّنا لأنّه من الممکن أن یکون بسلف أو تلف أو غیرهما - فباع الفضولی هذا الطن من الحنطة الذی کان ملکا لعمرو فی ذمّة بکر بکذا، فإن إجازه المالک - و هو عمرو - صحّ لعموم أدلة صحة بیع الفضولی و إن ردّه بطل.

ب: أن یکون الکلّی فی ذمّة نفس الفضولی

نحو: أن یکون البائع الفضولی - و هو زید مثلاً - مدیونا لِعَمْرٍوْ طَنّا من الحنطة، فباع هذه الحنطة الذمیّة لعمروٍ من بکرٍ بکذا، فالبکر یکون مشتریا لمال عمرو الذی فی ذمّة زید البائع، فإن أجاز عمرو البیع صحّ و یدخل الثمن فی ملکه و یشتغل ذمّة زید لبکرٍ.

ج: أن یجعل الکلّی متعلِّقا بذمّة المالک بنفس بیع الفضولی

نحو: باع الفضولی طنا من حنطة فی ذمّة عمروٍ لبکرٍ بکذا - مع عدم اشتعال ذمّة عمرو شیئا من الحنطة لأحدٍ قبل هذا البیع - و أجازه عمرو فیستقرّ فی ذمّته بنفس هذا

ص: 359


1- 1 . مقابس الأنوار - کتاب البیع /40.

البیع.

ثمّ حیث أن بیع الأعیان الشخصیة فضولة لا یتوقف إلاّ علی إجازة المالک فلا نحتاج إلی تعیینه [أی المالک] و لذا قال الشیخ الأعظم: «إِنّ تعیین العوض فی الخارج یغنی عن قصد من وقع له العقد»(1).

و أمّا بالنسبة إلی الکلّیّ الذمّی فلمّا لم یکن موجودا فی الخارج توقّف تعیّنه علی إضافته إلی ذمّةٍ معیّنةٍ لیکون أمر الإجازة بیده، فلابدّ من تعیینه بتصریح من الفضولی بأن یقول: «بعتک طنا من الحنطة فی ذمّة زید بکذا». أو أن نیوی الفضولی وقوع البیع لزید - ولو لم یصرح فی العقد باسمه بأن یقول: «بعتک طنا من الحنطة الذمّیّة بکذا» و یقصد اشتغال ذمّة زید به. و فی هذه الصورة الأخیرة المنویّة - دون المصرحة - إن أجاز زید صح بیع الفضول و اشتغلت ذمّة زید، و إن ردّ زیدٌ بطل البیع إلاّ فی صورة واحدة و هی ما إذا باع الفضول بقصد وقوعه فی ذمّة زید و أنکر المشتری علیه - و حلف علی عدم علمه بالفضولیة - فیقع حینئذ لنفس الفضول أو یبطل من رأسه؟

قولان: ذهب أصحاب المبسوط(2) و الشرائع(3) و القواعد(4) و الإیضاح(5) و جامع المقاصد(6) و المسالک(7) إلی وقوع العقد لنفسٍ الفضول حینئذ ظاهرا، و عن الشیخ و المحقّق و العلاّمة و المقداد(8) فی الکتب الماضیة واقعا. کما نسب(9) الأخیر إلی جماعة

ص: 360


1- 1 . المکاسب 3/390.
2- 2 . المبسوط 2/386.
3- 3 . الشرائع 2/158، و لأجل توضیح کلامه راجع الجواهر 27/403 طبع الإسلامیة.
4- 4 . قواعد الأحکام 2/360.
5- 5 . إیضاح الفوائد 2/347.
6- 6 . جامع المقاصد 8/251.
7- 7 . المسالک 4/379 و 5/300.
8- 8 . التنقیح الرائع 2/220.
9- 9 . الناسب هو السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 20/557.

فی بعض فروع المضاربة.(1)

و ذهب الشیخ الأعظم(2) إلی البطلان واقعا و عدم وقوعه للفضولی أیضا، ولکن لو لم یصدّقه الطرف الآخر علی قصد الفضولیة و حلف علی عدم علمه بالفضولیة حکم بوقوع العقد للفضولی بحسب الظاهر کما عن المحقّق و فخرالإسلام و الکرکی و ثانی الشهیدین فی الکتب الماضیة.

أقول: أمّا بحسب الحکم الواقعی فالحقّ هو البطلان کما اختاره الشیخ الأعظم قدس سره لأنّ مالیّة الکلّی إنّما هی بحسب إضافته إلی الذمم، فالکلّی المضاف إلی ذمّةٍ غیر الکلّی المضاف إلی ذمّة شخص آخر، و علیه فإذا وقع أحدهما متعلِّقا للعقد فلا معنی لصحة العقد بالنسبة إلی الآخر، و حیث لم یظهر أحدهما فیکون العقد باطلاً واقعا.

و أمّا بحسب الحکم الظاهری فی فرض الترافع فالمدّعی للفضولیة هو المدعی، لمخالفة قوله لظاهر العقد و لأصالة الصحة، و الطرف الآخر منکر لموافقة قوله لأصالة الصحة، و حیث إنّ القصد أمر قلبی لایمکن للمدّعی إقامة البینة علیه، تصل النوبة إلی حلف المنکر، و لابدّ للمنکر أن یحلف علی عدم قصد طرفه الفضولیة لا علی عدم العلم به، لأنّ عدم علمه لاینافی قصد طرفه الفضولیة و حیث إنّه لا یمکن للمنکر الحلف علی عدم قصد طرفه الفضولیة لکونه أمرا قلبیّا فلا محالة یردّ الحلف إلی المدّعی فیحلف و یحکم ببطلان العقد ظاهرا.

فاتضح أنّ الحقّ هو البطلان واقعا و ظاهرا.(3)

المسألة الثانیة: جمع العاقد بین المتنافیین
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «بأن قال: «اشتریتُ هذا لفلان بدرهم فی ذمّتی» أو «اشتریتُ هذا لنفسی بدرهم فی ذمّة فلان».

ففی [المثال] الأوّل: یحتمل البطلان، لأنّه فی حکم شراء شی ءٍ للغیر بعین ماله، و

ص: 361


1- 1 . راجع الجواهر 26/384 طبع الإسلامیة.
2- 2 . المکاسب 3/390 و 391.
3- 3 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/426.

یحتمل إلغاء أحد القیدین و تصحیح المعاملة لنفسه أو للغیر.

و فی [المثال] الثانی: یحتمل کونه من قبیل شرائه لنفسه بعین مال الغیر فیقع للغیر بعد إجازته لکن بعد تصحیح المعاوضة [للغیر] بالبناء علی التملّک فی ذمّة الغیر اعتقادا [لعدم إمکان غصب الکلّی فی الذمّة]. و یحتمل الصحة [لنفسه] بإلغاء قید «ذمّة الغیر»، لأنّ تقیید الشراء أوّلاً بکونه لنفسه یوجب إلغاء ما ینافیه من إضافة الذمة إلی الغیر.

و المسألة تحتاج إلی تأمل»(1).

أقول: فی المثالین: بناءً علی ما اختاره الشیخ الأعظم فی معنی قصد المعاوضة الحقیقیة لابدّ من القول بالبطلان إذ یمتنع الجمع بین القیدین. أمّا ما ذکره من إلغاء أحد القیدین فتتم المعاملة لنفسه أو لغیره فَلا یتم لأنّ الکلام واحدٌ و مع وقوع قیدین متنافیین فی الکلام تبطل المعاملة للإجمال الحاصل.

و أمّا بناءً علی ما اخْتَرْنا فی معنی قصد المعاوضة الحقیقیة و تصحیح الشراء للغیر بمال نفسه من انحلال العقد إلی بیع و هبة مثلاً، فَیُحْکَمُ بالصحة فی المثالین، ولکن فی المثال الأوّل؛ الهبة أو الصلح عقد تحتاج إلی قبول الموهوب له أو المتصالح اللذین هما فلانٌ [الغیر]، و فی المثال الثانی إذا أجاز صاحب الذمة و هو الغیر.

و لذا قال الفقیه السیّدُ الیزدی: «إن قلنا بجواز الشراء للغیر بمال نفسه أو العکس فلا إشکال فی الصحة فی الصورة الاُولی بلا حاجة إلی الإجازة، و کذا فی الثانیة مع اجازة ذلک الغیر. و إن قلنا بمقالة المصنف [الشیخ الأعظم] من عدم الصحة فمقتضی القاعدة البطلان فیهما جزما، و ذلک لأنّ المفروض أنّه قاصد للقیدین عن جدٍ و هما متنافیان فلا وجه لإلغاء أحدهما و الأخذ بالآخر»(2).

ثمّ نَقَلَ الشیخ الأعظم کلاما من العلاّمة الحلّی بطوله

ثمّ نَقَلَ الشیخ الأعظم(3) کلاما من العلاّمة الحلّی بطوله نقتفی إثره:

قال فی تذکرة الفقهاء: «لو اشتری فضولیا فإن کان بعین مال الغیر فالخلاف فی

ص: 362


1- 1 . المکاسب 3/392.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/157.
3- 3 . المکاسب 3/392 و 393.

البطلان و الوقف علی الإجازة، إلاّ أنّ أبا حنیفة قال: یقع للمشتری بکلِّ حالٍ.

وإن کان فی الذمّة لغیره و أطلق اللفظ، قال علماؤنا: یقف علی الإجازة، فإن أجازه صحّ و لزمه أداء الثمن، و إن ردّ نفذ عن المباشر - و به قال الشافعی فی القدیم و أحمد - و إنّما یصحّ الشراء، لأنّه تصرّف فی ذمّته لا فی مال غیره، و إنّما وقف علی الإجازة لأنّه عقد الشراء له، فإن أجازه لزمه، و إن ردّه لزم مَنْ اشتراه، و لا فرق بین أن ینقد من مال الغیر أو لا.

و قال أبو حنیفة: یقع عن المباشر. و هو جدید للشافعی(1)».(2)

حمل الشیخ الأعظم(3) هذا الکلام من العلاّمة علی هذه المسألة الثانیة - أی الجمع بین المتنافیین - بقرینة تعلیله بقوله: «لأنّه تصرّف فی ذمّته [أی ذمّة نفسه أی المباشر] لا فی مال الغیر»، لأنّ هذا التعلیل لا یأتی بالنسبة إلی المسألة الاُولی - قصد وقوع الکلّی فی ذمّة الغیر و تعیینه بالنیة، [الصورة ج] - التی یمکن حمل صدر کلام العلاّمة علیه.

و الحقّ مع الشیخ الأعظم فی هذا الحمل کما أنّ المشهور ذهب - فی فرض التنافی- إلی أنّ الغیر إذا ردّ المعاملة تقع عن الفضولی، و یدل علیه قول العلاّمة: «قال علماؤنا».

و قال الشیخ الأعظم: «لکن أشرنا سابقا(4) إجمالاً إلی أنّ تطبیق هذا علی

ص: 363


1- 1 . أی فی مَذْحَبِهِ الجدید عَنْدَ مَا سَکَنَ فی مِصْر إِذْ إنَّهُ لَمّا کانَ فی الْعِراقِ کانَتْ له طریقةٌ فی استنباط الأَحْکامِ تقربُ مِنْ مَذْهَبِ أهْلِ الرأی، و عند ما نَزَلَ فی مِصْرَ عَدَلَ عن هذه الطریق وَ سَلَکَ مَسْلَکَ أهل الحدیث و لذلک کانوا یقولون: قال الشافعی فی القدیم، و قال الشافعی فی الجدید و لِکُلٍّ مِنْ مَذْهَبِیْهِ (القدیم و الجدید) رُواةٌ فمِنْ رواة القدیم الحسنِ الزغفرانی البغدادی و من رواة الجدید المُزَنی و البُوَیْطی.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/15، فروع، فرع «ب».
3- 3 . المکاسب 3/393.
4- 4 . المکاسب 3/381.

القواعد مشکل»(1).

و علّله(2) بأنّ: المشتری العاقد، المباشر للعقد إن جعل المال فی ذمّة نفسه بالأصالة ولو رجّحنا نیّته من وقوع العقد لذلک الغیر و خروج العوض من ملک هذا العاقد یکون باطلاً واقعا لعدم تحقق المعاوضة الحقیقیة فی المقام. ولو رجحنا وقوع العقد لنفس العاقد المباشر صحّ العقد لتحقق المعاوضة الحقیقیة فلا وجه لوقوعه عن الغیر.

و المشتری المباشر للعقد إن جعل المال فی ذمّة نفسه نیابةً و وکالةً عن الغیر یترتب إشکالان:

أحدهما: صحة هذا العقد یبتنی علی جریان الفضولی فی الوکالة و هو مشکل، لأنّ الوکالة عبارة عن الاستنابة فی التصرف و الفضولی عبارة عن المباشرة فی التصرف من عند نفسه.

نعم، إن رجع مآل هذا العقد إلی أنّ الفضولی جعل نفسه نائبا عن الغیر و اشترا فی ذمّة الغیر - بدون تحقق النیابة عنه و صدوره عن الغیر - لا یترتب إشکال الوکالة الفضولیة ولکنّه یترتب إشکال عدم تحقق المعاوضة الحقیقیّة.

ثانیهما: لابدّ من الالتزام ببطلان المعاملة إن ردّها الغیر - أی المنوب عنه - لأنّ المفروض إنشاء الشراء له، لا أنّ المعاملة تقع عن المباشر العاقد.

نعم، فی هذا الفرض - إذ جعل المشتری العاقد المال فی ذمّة نفسه نیابة عن الغیر - و عجز عن إثبات النیابة علی البائع، و ردّها المنوب عنه - الغیر - تَقَعُ المعاملة علی العاقد فی الظاهر، کما نص علیه جماعة من الأصحاب(3) فی باب التوکیل.

و کیف ما کان المعاملة إمّا باطلة رأسا أو صحیحة للفضولی العاقد، و لا تکون

ص: 364


1- 1 . المکاسب 3/393.
2- 2 . راجع المکاسب 3/393 و 394.
3- 3 . نحو: الشیخ فی المبسوط 2/386، و المحقّق فی الشرائع 2/158، و العلاّمة فی القواعد 2/360، و ولده فی الإیضاح 2/347، و الکرکی فی جامع المقاصد 8/251، و ثانی الشهیدین فی المسالک 5/300، و لتوضیحه راجع الجواهر 27/403 من طبع الاسلامیة.

مردّدة فی الواقع بین الفضولی العاقد و مَنْ عقد له الشراء فلا وجه للقول بوقوع العقد مردّدا بین المباشر و المنوی.

ولکن یمکن تنزیل عبارة العلاّمة فی التذکرة علی وقوع المعاملة للمباشر ظاهرا -کما علیه جماعة من الأصحاب ولکنه بعید لأنّه علل کلامه و قال: «لأنّه تصرّف فی ذمّته» و هذا یقتضی وقوع العقد للمباشر واقعا لا ظاهرا.

هذا تمام کلام الشیخ الأعظم بتوضیح منّا.

بیان الفقیه السیّدِ الیزدی رحمه الله :

ولکن قال الفقیه الیزدی: «الظاهر أن مراده [العلاّمة] جعل الثمن کلّیا فی الذمة من غیر التفات إلی کونه فی ذمّة نفسه أو غیره، إلاّ أنّه قصد کون الشراء للغیر من غیر أن یذکره فی اللفظ، و علی هذا فیکون قوله «للغیر» خبرا بعد خبر، و أمّا احتمال کون مراده جعله فی ذمّة نفسه فهو مناف لما حکم به من الصحة للغیر إن أجاز، و کون الأداء واجبا علی ذلک الغیر، لأنّ لازم ذلک إمّا البطلان أو الصحة مع کون الثمن علی المباشر إن قلنا بصحة الشراء للغیر بمال نفسه، کما أنّ احتمال کون المراد جعله فی ذمّة ذلک الغیر، بأن یکون قوله «للغیر» قیدا لذمّته، لا خبرا بعد خبر منافٍ لما ذکره بقوله: «لأنّه تصرف فی ذمّته لا فی مال غیره» إذ مراده أنّه تصرّف فی ذمّة نفسه لا فی ذمّة غیره کما هو واضح.

و الحاصل: أنّ الظاهر من مجموع العبارة ما ذکرنا، من أنّ المراد الشراء فی الذمّة، بمعنی عدم کون الثمن عینا خارجیا من غیر تعیین لذمّة النفس أو الغیر، و من غیر التفات إلی ذلک، لکن مع قصد کون الشراء للغیر و حینئذ فیکمن تطبیقه علی القاعدة أیضا بدعوی أنَّ مقتضی شراء شی ءٍ فی الذمّة کون المباشر ملزما به و الحکم بکونه فی ذمّته لا من جهة الانصراف، بل من باب الحکم العرفی بذلک و إن أغمض عن الانصراف أیضا، إلاّ إذا عیّن کونه فی ذمّة الغیر، فحینئذ ینصرف إلی ذلک الغیر، أو قصد کون الشراء لذلک الغیر فحینئذ یجوز له أن یمضیه و یکون الثمن فی ذمّته، و مع عدم امضائه فالحکم العرفی الزام

ص: 365

المباشر...»(1).

بیان المحقّق النائینی لتطبیق الفرع علی القاعدة

وَ أَخَذَ المحقّق النائینی(2) أیضا بتطبیق هذا الفرع - فی فرض التنافی إذا ردّ الغیر المعاملة تقع عن الفضولی - علی القواعد بوجهین:

الأوّل: أن یکون مراد العاقد وقوع المعاملة لنفسه مع کون المال فی ذمّته و یکون قصده للغیر من باب جعل تولیة العقد للغیر، و تکون إجازة الغیر من قبیل القبول، و حینئذ فإن أجاز الغیر التولیة یکون البیع له و إلاّ یکون للعاقد، غایة الأمر أنّه یتوقف علی إحراز أنّ قصده للغیر من قبیل جعل التولیة له و إجازة الغیر من قبیل القبول.

الثانی: أن یکون مراد العاقد وقوع البیع للغیر و قَصَدَ إضافة الکلّی إلی ذمّة الغیر، لکنّه ضمن ذمّة الغیر بناءً علی أن لایکون الضمان موجبا لانتقال المال إلی ذمّة الضامن کما علیه العامة(3) فیکون کلّ منهما ضامنا بنحو الطولیة.

و اعترض السیّد الخوئی(4) علی الوجهین بما حاصِلُهُ:

یرد علی الأوّل: أوّلاً: احتساب قصد العاقد للغیر من باب جعل تولیة العقد له خلاف الفرض، لأنّ المفروض أنّه لو أجاز ینتقل المال من مالکه إلیه لا من ملک العاقد، و علی التولیة ینتقل المال من ملک المالک إلی العاقد و من ملک العاقد إلی ملک المجیز.

و ثانیا: أنّ ذلک لو تمّ فإنّما یتمّ فی شراء الفضولی متاعا بثمن فی ذمّته فیبیع ذلک المتاع تولیة للغیر، و أمّا إذا باع الفضولی شیئا فی ذمّته بثمن للغیر فلا معنی لبیع ذلک الشی ء تولیة للغیر لأنّه باع مال نفسه للمشتری و جعل ثمنه للغیر، و لم یبع شیئا للغیر حتی یصحّ بإجازته، مع أنّ کلامهم فی مطلق المعاملة الفضولیة سواء کان فی البیع أو الاشتراء.

ص: 366


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/158.
2- 2 . راجع منیة الطالب 2/47 و 48.
3- 3 . المغنی لابن قدامة 5/70 و 83، المجموع 14/24، المهذب 2/307.
4- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/428، محاضرات فی الفقه الجعفری 2/356 و 357.

و ثالثا: أنّ الفضولی ربّما یموت قبل إجازة الغیر، فلو کانت الإجازة قبولاً لبیع التولیة فلا محالة یبطل البیع لخروج الموجب عن أهلیة العقد قبل تحقّق القبول مع أنّهم یلتزمون بالصحة فی هذا الفرض.

و یرد علی الثانی: أوّلاً: أنّه لو لم یجز الغیر العقد فلا معنی لوقوع العقد للضامن و کونه ملزما بالأداء.

و ثانیا: أنّه لو أجاز الغیر العقد و لم یؤد المال یلزم أن یکون الضامن ملزما بأدائه.

بیان السیّد الخوئی لتطبیقه علی القواعد

قال قدس سره : «یمکن حمله بحیث ینطبق علی القواعد علی ما إذا اشتری بالکلّی و التزم هو بأدائه إمّا من مال غیره فیکون الشراء للغیر، و إمّا من ماله فیکون الشراء لنفسه ولکن الملتزم بالأداء هو المباشر لا الغیر، و ینحلّ هذا الشراء إلی شرائین طولیین فیشتری للغیر فإن أجاز وقع له و إلاّ فیشتری لنفسه، و هذا التعلیق لا یوجب البطلان، لأنّه تعلیق علی ما توقّف صحة العقد علیه واقعا، لأنّ الدلیل علی مبطلیة التعلیق هو الإجماع، و المتیقّن منه غیر هذا المورد - أی إنشاء بیعین طولیین - فتشمله أدلة صحة البیع و العقود، و علیه فإذا أجاز الغیر وقع العقد له و إلاّ وقع للمباشر»(1).

ص: 367


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/427.
الثانی: جریان الفضولی فی المعاطاة
اشارة

هل یجری الفضولی فی العقد المعاطاتی کما یجری فی العقد اللفظی أم یختص بالثانی؟ فیه أقوال:

الأوّل: ذهب السیّد المجاهد رحمه الله إلی جریان الفضولی فی المعاطاة و قال: «لا فرق فی بیع الفضولی بین أن یکون معاطاة أو لا، فلا یشترط فی صحة بیع الفضولی عدم المعاطاة»(1).

الثانی: و ذهب الشیخ أسداللّه التستری إلی اختصاص الفضولی بالعقد اللفظی و قال: «تذنیب: فلیُعلم أنّ ما سبق کلّه فیما إذا باع أو إشتری الفضولی بالصیغة، فأمّا لو باع أو إشتری بطریق المعاطاة فإنّه یلغو و یفسد من أصله، و لا یقف علی الإجازة علی الأقرب للأصل و...»(2).

و تبعه المحقّق النائینی و قال: «الأقوی عدم جریان الفضولی فیها...»(3). و نقل عنه تقریراته الآخر: «فالحکم بإجرائه [أی إجراء الفضولی] فی المعاطاة فی غایة الإشکال».(4)

الثالث: ذهب الشیخ الأعظم(5) إلی التفصیل بین إفادة المعاطاة للإباحة فلا یجری الفضولی فیها، و بین إفادتها الملک فیجری الفضولی فیها.

أقول: بناءً علی مختارنا فی بحث المعاطاة من أنّها عقدٌ فعلیٌّ کالعقد اللفظی بلا فرق بینهما، الأمر یکون واضحا فی جریان الفضولی فیها، لأنّ الفضولی عندنا لا یکون علی خلاف القاعدة فلا یکون منحصرا بالنکاح و البیع اللفظی اللذین یختص بهما روایاته.

ص: 368


1- 1 . المناهل /289.
2- 2 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /41 و 42.
3- 3 . منیة الطالب 1/50.
4- 4 . المکاسب و البیع 2/74.
5- 5 . راجع المکاسب 3/394 إلی 397.

و أمّا بناءً علی أنّ المعاطاة تفید الملک:

فیجری الفضولی فیها أیضا لما ذکره الشیخ الأعظم رحمه الله بقوله: «لا فارق بینها [بین المعاطاة [و بین العقد [اللفظی] فإنّ التقابض بین الفضولیّین أو فضولیّ و أصیل إذا وقع بنیّة التملیک و التملّک فأجازه المالک فلا مانع من وقوع المجاز من حینه أو من حین الإجازة...»(1).

و استدلّ له بقوله تعالی: «أحلّ اللّه البیع»(2) بتقریب: أنّ عمومها یشملها لأنّ المعاطاة الفضولیة بیعٌ مُجازٌ. و یمکن أن یستدل بإطلاق قوله تعالی: «اوفوا بالعقود»(3) بالتقریب. و بقوله تعالی: «تجارةً عن تراض»(4) لشمولها لها.

و أیّده بروایة عروة البارقی(5) الماضیة بتقریب: «إنّ الظاهر وقوع المعاملة بالمعاطاة»(6).

لا یقال: یمکن أن یستدل بترک الاستفصال فی صحیحة محمّد بن قیس(7) التی رواها المشایخ الثَّلاثَةُ، بعد فرض صدق البیع علی البیع المعاطاتی، کما ذکره السیّد الیزدی(8).

لأنّا نقول: فی الجواب لابدّ من الإجابة بالنسبة إلی جهة السؤال و أمّا غیرها فتفرض صحیحةً بمقتضی الحمل علی الصحة، و إلاّ یمکن أن تسری الصحیحة بالنسبة

ص: 369


1- 1 . المکاسب 3/394.
2- 2 . سورة البقرة /275.
3- 3 . سورة المائدة /1.
4- 4 . سورة النساء /29.
5- 5 . مسند أحمد 4/376، السنن الکبری 6/112، سنن الدارقطنی 3/10، ح29، سنن الترمذی 3/559، ح1258، الثاقب فی المناقب /112، ح108 و عن الأخیر فی مستدرک الوسائل 13/245، ح1، الباب 18 من أبواب عقد البیع و شروطه.
6- 6 . المکاسب 3/395.
7- 7 . وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
8- 8 . حاشیة المکاسب 2/161.

إلی البیع الغرری أو غیره و أنّ الانشاء وقع بلفظ الماضی أو غیره و نحوهما، و هذه السرایة مردودٌ. کما ذکره السید الخوئی(1).

الاستدلال لاختصاص الفضولی بالعقد اللفظی
اشارة

استدلّ لمنع جریان الفضولی فی المعاطاة بأُمور:

الأمر الأوّل:

«إنّ الإقباض الذی یحصل به التملیک محرّم لکونه تصرّفا فی مال الغیر فلا یترتّب علیه الأثر»(2).

و ردّه الشیخ الأعظم بوجوه أربعة:

أولها: «قد لا یحتاج إلی إقباض مال الغیر، کما لو اشتری الفضولی لغیره فی الذمّة»(3)، فیکون الاستدلال أخصّا من المُدعی.

و ثانیها: «قد یقع الإقباض مقرونا برضا المالک، بناءً علی ظاهر کلامهم من أنّ العلم بالرضا لا یخرج المعاملة عن معاملة الفضولی»(4) فیکون الاستدلال أَخَصَّ من المُدعی أیضا لعدم حرمة هذا الإقباض.

و یظهر هذان الوجهان من الشیخ التستری(5) قدس سره .

و أمّا ما أضافه السیّد الیزدی إلی هذا الوجه بقوله: «و أیضا قد یقبض بتخیّل أنّه مأذون فی التصرف أو بتخیّل أنّه ماله أو نحو ذلک»(6) فَلا یتم، لأنّهما لیسا من موارد عدم حرمة الإقباض حتّی لا یکون فاسدا، بل من موارد عدم تنجز الحرمة و هو لا یرفع الفساد

ص: 370


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/360.
2- 2 . المکاسب 3/395.
3- 3 . المکاسب 3/395.
4- 4 . المکاسب 3/395.
5- 5 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /41 تحت عنوان «إن قلت».
6- 6 . حاشیته علی المکاسب 2/161.

المترتب علی الحرمة الواقعیة کما ذکره المحقّق المروج(1).

أقول: إذا اعتقد أنّ المال ملکه أو أنّه مأذونٌ فی التصرف و اشتری به شیئا أو تصرّف فیه بأنحاء التصرف ینتفی الحرمة واقعا کما فی موارد الغفلة و النسیان و الجهل المرکب کما علیه السیّد الخوئی.(2)

و ثالثها: «مع أنّ النهی لا یدلّ علی الفساد»(3) فی المعاملات لأنّه تکلیفیٌ کما هو المحقَّق فی محلّه، «و لعدم تعلِّقه بالإقباض من حیث إنّه بیع، بل به من حیث أنّه تصرف فی ملک الغیر»(4) کما ذکره الفقیه الیزدی.

و رابعها: بعد تسلیم تعلّق النهی بالإقباض من حیث کونه بیعا حتّی یدلّ علی الفساد - لا من حیث أنّه تصرف فی مال الغیر - نقول: «أنّه لو دلّ لدلّ علی عدم ترتّب الأثر المقصود و هو استقلال الإقباض فی السببیّة، فلا ینافی کونه جزءَ سبب»(5) لتحقق الأثر فی الخارج و الجزء الآخر هو الإجازة.

و بعبارة أُخری: لو سلّمنا أنّ النهی یدل علی الفساد، لا یقتضی إلاّ فساد المعاملة بالنسبة إلی مَنْ توجّه علیه - و هو الفضولی - لا بالنسبة إلی المالک بعد إجازته.(6)

الأمر الثانی:

ما ذکره الشیخ التستری و قال: «... إنّ المعاطاة منوطة بالتراضی و قصد الإباحة أو التملیک للمعیّن أو المقدّر فی الذمة - بناءً علی جوازه - و هما من وظائف المالک و لا یتصوّر صدورهما من غیره»(7).

ص: 371


1- 1 . هدی الطالب 4/652.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/431.
3- 3 . المکاسب 3/395.
4- 4 . حاشیته علی المکاسب 2/161.
5- 5 . المکاسب 3/395.
6- 6 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/431.
7- 7 . مقابس الأنوار /138.

و ردّه الشیخ الأعظم(1) بما حاصله: منع کون حقیقة المعاطاة مجرد تراضی المالکین و قصد التملیک أو الإباحة، لأنّ القبض و الإقباض آلة للإنشاء کالصیغة، و لیسا کاشفین عن التراضی، بل هما سبب فعلیّ للتملیک أو الإباحة. و أمّا التراضی معتبر فی المعاطاة کما أنّه معتبر فی البیع القولی.

و لذا صرّح الشهید فی قواعده(2) بأنّ المعاطاة عند الفقهاء تکون من الأسباب الفعلیّة. بل «المعاطاة عندهم عقدٌ فعلیٌّ، و لذا ذکر بعض الحنفیة(3) القائلین بلزومها: أنّ البیع ینعقد بالإیجاب و القبول و بالتعاطی»(4).

أقول: لو تمّ کلام الشیخ التستری عمّ البیع القولی و لایختص بالمعاطاة فلا یصح القول بالفضولی مطلقا - بلا فرق بین المعاطاة و البیع القولی - مع أنّ جریان الفضولی فی البیع اللفظی مفروغ عنه. هذا نقض اعتراضه و هو أوّلاً.

و أمّا ثانیا: حلّه: إنشاء التملیک أمرٌ لا مؤونة فیه و یتحقّق من کلّ أحد فی کلّ مال لکلِّ شخص لأنّ الإنشاء قلیل المؤونة، و أمّا رضایة المالک فالمفروض أنّها حاصلة بعد المعاطاة.(5)

الأمر الثالث:

ما ذکره الشیخ التستری بقوله: «... [المعاطاة] مشروطة أیضا بتحقّق الإقباض من الطرفین [المالکین أو المأذونین] أو من أحدهما مقارنا للأمرین [أی مع قصد الإباحة أو التملیک]»(6).

فحینئذ لا أثر للقبض و الإقباض الصادرین من الفضولی الذی لیس بمالک و لا

ص: 372


1- 1 . المکاسب 3/395.
2- 2 . القواعد و الفوائد 1/50، القاعدة 17، 1/178 القاعدة 47.
3- 3 . راجع الفتاوی الهندیة 3/2، لجماعة من علماء الهند، طبع دار إحیاء التراث العربی، بیروت.
4- 4 . المکاسب 3/396.
5- 5 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/431.
6- 6 . مقابس الأنوار /138.

مأذون منه.

و ردّه الشیخ الأعظم بقوله: «و اعتبار مقارنة الرضا من المالک للإنشاء الفعلی دون القولی مع إتحاد أدلة اعتبار الرضا و طیب النفس فی حلّ مال الغیر لا یخلو عن تحکّم»(1).

أقول: مراده: التقارن بین رضا المالک و المعاملة - مع وحدة الأدلة - لو کان معتبرا یکون علی حدّ السواء بین البیع اللفظی و المعاطاة. أمّا اعتباره فی الثانی [المعاطاة] دون الأوّل [البیع اللفظی] فَهُوَ تحکّم.

ولکن هذا التقارن لایکون معتبرا أصلاً لما مرّ من صحة بیع الفضولی و المکرَه و المضطّر و الغصب بعد إجازة المالک و إعلام رضایته.

و لایخفی أنّ الأمرین الأخیرین الواردین فی کلام الشیخ التستری یُشَکِّلانِ دلیلاً واحدا فی کلامه و عنده و قوله «مشروطة» مبیِّنا للمعاطاة و إنّما أفردناهما تبعا لظاهر الشیخ الأعظم رحمهماالله .

الأمر الرابع:

العقد الفضولی هُوَ علی خلاف الأصل و القاعدة و إنّما تمّ فی الموارد التی ورد فیها النص من البیع و النکاح فقط، فلا یجری فی المعاطاة و لعلّ هذا مراد الشیخ أسداللّه التستری(2) من استدلاله للبطلان فی المعاطاة بالأصل.

و ردّه الشیخ الأعظم بقوله: «لکنّک قد عرفت أنّ عقد الفضولی لیس علی خلاف القاعدة»(3).

و یمکن أن یقال فی نقد الاستدلال: الفضولی یجری فی المعاطاة ولو کان علی خلاف القاعدة، لأنّ الروایات الواردة فی الفضولی عامة و لا تختص شی ءٌ منها بالبیع القولی و لم یفصّل فیها بین المعاطاة و العقد اللفظی.

ص: 373


1- 1 . المکاسب 3/396.
2- 2 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /42.
3- 3 . المکاسب 3/396.
الأمر الخامس:

ما ذکره المحقّق النائینی بقوله - مختصرا -: «أمّا علی الإباحة: أنّ الإباحة المؤثرة هی التسلیط المالکی، لا تسلیط غیره، و إجازة المالک تسلیط الغیر هی بنفسها مؤثرة لا لکونها إجازة لإباحة الغیر، لأنّ العقود الإذنیة و الاُمور المتقومة برضا المالک لا تتوقّف علی سبب خاص، فإجازة الإباحة هی بنفسها إباحة... .

و أمّا بناءً علی الملک: فلأنّ الفعل الواقع من الفضولی لا یعنون إلاّ بعنوان الإعطاء و التبدیل المکانی، و أمّا فعل المالک فإنّه فی مقام البیع یعنون بالعنوان الثانوی بتبدیل طرف الإضافة و الفرق بین المعاطاة و بین البیع القولی: یمکن إنفکاک حاصل المصدر من المصدر فی الإنشاء القولی، فإذا أجاز المالک و أسنده إلی نفسه وقع له.

و أمّا الفعل الواقع من الفضولی فاسم المصدر منه لا ینفک عن مصدره بمعنی أنّه لیس للإعطاء اسم مصدر غیر العطاء و هذا لا ینفک عنه و بإجازة المالک لا ینقلب الفعل عمّا وقع علیه...»(1).

و قال فی توضیح ذلک: «فی الحکم بإجراء الفضولی فی المعاطاه إشکال بل منع، و توضیحه یتوقف علی بیان اُمور:

(الأوّل): إنّه قد تقدم مرارا من أنَّ البیع إمّا یراد به المعنی المصدری أعنی المعاملة الخاصة من حیث صدورها عن الفاعل بحیث یکون جهة صدورها ملحوظا، و إمّا یراد منه معنی الاسم المصدری و هو نفس تلک المعاملة بلا حیث إسنادها إلی الفاعل بل من حیث هی هی.

(الثانی): إنّ البیع القولی یتصور فی المعنیان معا دون الفعلی أمّا فی القولی فلأن آلة الإنشاء أعنی کلمة بعت المرکبة من الهیئة و المادة الواردة هیئتها علی مادتها یصح أن یراد من البیع الوارد علیه الهیئة بالمعنی المصدری، کما یصح أن یراد منه المعنی الاسم المصدری، و ذلک لوجود لفظ صالح لکلا المعنیین، و أمّا فی الفعلی، فلأنه لیس فی البین

ص: 374


1- 1 . منیة الطالب 2/52.

دال یمکن أن یراد منه المعنی المصدری تارة و الاسم المصدری أُخری، بل لیس فی البین إلاّ فعل خارجی تکوینی و هو ذلک الفعل المعاطاتی الذی هو مصداق للبیع و التملیک الصادر عن الفاعل و القائم به بالقیام الصدوری.

(الثالث): الإجازة فی بیع الفضولی القولی یمکن أن یتعلق فی عالم التصور بالبیع بالمعنی المصدری و یمکن أن یتعلَّق بمعنی الاسم المصدری و معنی تعلّقه بالأوّل هو صیرورة البیع الصادر عن الفضولی من حیث صدوره عنه بیعا للمجیز، و لازم تعلقه بالثانی هو صیرورة نفس الصادر عن الفضول هو بیع المجیز، لکن المطابق بالوجدان هو تعلق الإجازة بمعنی الاسم المصدری و ذلک لأنّ المعنی المصدری فعل تکوینی و له إضافة إلی الفاعل المباشر تکوینا و هذا غیر قابل لان یرتبط إلی المجیز بسبب الإجازة کالضرب الحاصل من الضارب حیث أنّه بالإجازة لایصیر فعل المجیز، و هذا بخلاف المعنی الاسم المصدری الذی هو لحاظ ذلک الحدث مقطوع النسبة عن فاعله إذ هو قابل لأن یسند إلی المجیز فعلی هذا فطبع الإجازة المؤثرة یقتضی تعلقها بمعنی الاسم المصدری، اللهم إلاّ أن یقوم دلیل علی تعیین تعلّقها بالمعنی المصدری فیصیر أمرا تعبدیا مخالفا مع القاعدة من هذه الجهة قد ثبت بالدلیل.

إذا تَحَقَّقَتْ هذه الأُمور، فنقول: إذا وقعت المعاطاة فضولیا فلا یخلو إمّا أن نقول بعدم قیام دلیل علی تعیین تعلّق الإجازة بالمعنی المصدری أو نقول بقیامه، و علی کلا التقدیرین لایتم القول بصحة الفضولی، أمّا علی الأوّل فلعدم المعنی الاسم المصدری فی المعاطاة حتّی تتعلق به الإجازة، و أمّا علی الثانی فلأنَّ الفضولی حینئذٍ یصیر مخالفا للقاعدة فیجب فیه الاقتصار علی ما ثبت فیه بالدلیل و هو منحصر بالقولی ولو سلم تعمیمه للفعلی بدعوی إطلاق خبر عروة مع ترک الاستفصال فیه عن اشترائه الشاة من کونه قولیا أو فعلیا علی أقرب الاحتمالین أو انصرافه إلی الفعلی علی أبعد الاحتمالین للزم التخصیص بباب البیع لعدم تمشی ذلک فی سائر أدلته التی العمدة منها واردة فی موارد النکاح لعدم تصویر المعاطاة فیه فاللازم حینئذٍ هو التفصیل فی جریان الفضولی فی المعاطاة بین البیع و بین غیره (و بالجملة) فالحکم بإجرائه فی المعاطاة فی غایة

ص: 375

الإشکال»(1).

و قال تلمیذه السیّد الخوئی فی توضیح کلامه: «إنّا إذا بنینا علی إفادة المعاطاة للإباحة فالمؤثر فیها هی التسلیط المالکی لا تسلیط غیره و إجازة المالک تسلیط الغیر، بنفسها مصداق للتسلیط المالکی لا أنّها توجب تأثیر التسلیط السابق الصادر من غیر المالک فإنّه لغو لا یترتّب علیه الأثر و إنّما یترتّب الأثر علی تسلیط المالک.

و أمّا إذا بنینا علی أنّها تفید الملک فأجازه المالک إنّما تتعلَّق بما یکون قابلاً للبقاء و هذا لایتحقّق إلاّ بالعقد اللفظی فإنّه بالعقد الذی هو بیع بالمعنی المصدری یتحقَّق أمّر قابل للبقاء و هو تبدیل طرفی الإضافة و یعبر عنه باسم المصدر و الإجازة اللاحقة إنّما تتعلَّق بهذا الأمر الباقی. و أمّا الفعل الصادر من الفضولی فهو لایعنون إلاّ بعنوان الإعطاء و التبدیل و المکانی و لیس له اسم مصدر غیر العطاء. و هذا لا ینفکّ عنه و لیس قابلاً للبقاء حتّی تتعلَّق به إجازة المالک»(2).

أقول: ما ذکره من أنّ البیع تارة: یراد منه المعنی المصدری أی المعاملة الخاصة من حیث صدورها عن الفاعل بحیث یکون جهة صدورها ملحوظا، و أُخری: یراد منه معنی الاسم المصدری و هو نفس تلک المعاملة لا حیث إسنادها إلی الفاعل بل من حیث هی هی، تام لا نقاش فیه.

و أمّا انحصار هذین المعنیین فی البیع القولی فقط دون البیع الفعلی الذی منه المعاطاة فَمَحَلُّ منع، بل هما یجریان فی المعاطاة أیضا، و کذلک ما ذکره فی معنی المعاطاة بأنّها هی الإعطاء، مع وضوح الفرق بینهما، و المعاطاة یعدّ بیعا و أمّا الإعطاء فلا!

و بالجملة: التفکیک بین المعنی المصدری و اسمه فی المعاطاة دون البیع القولی غیرتام. مضافا مع أنّ الإنشاء أمره سهلٌ و خفیف المؤونة و لا فرق بین أنّ سببه یکون اللفظ أو الفعل.

ص: 376


1- 1 . المکاسب و البیع 2/74 و 73.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/432.

هذا کلّه بناءً علی أنّ المعاطاة تفید الملک، و قد عرفت جریان الفضولی فیها.

و أمّا بناءً علی أنّ المعاطاة تفید الإباحة:

فذهب الشیخ الأعظم إلی بطلان الفضولی فیها لوجود محذوری الإثباتی و الثبوتی:

و أمّا المحذور الإثباتی فهو قصور المقتضی بتقریب: «إنّ إفادة المعاملة المقصود بها الملک الإباحة خلاف القاعدة فیقتصر فیها علی صورة تعاطی المالکین»(1)، مراده قدس سره من القاعدة هی قاعدة تبعیّة العقود للقصود، و هی تقتضی حصول الملکیّة دون الإباحة، فحصول الإباحة من قصد الملکیّة یکون خلافا للقاعدة و لأنّ ما قصد لم یقع و ما وقع لم یقصد فیقتصر علی المتیقن من مورد الدلیل - و هو الإجماع و تسالم الأصحاب - و هو معاطاة الأصیلین دون الفضولی.

و أمّا المحذور الثبوتی فهو: «إنّ حصول الإباحة قبل الإجازة غیر ممکن و الآثار الاُخر - مثل بیع المال علی القول بجواز مثل هذا التصرف - إذا وقعت فی غیر زمان الإباحة الفعلیّة لم تؤثر أثرا، فإذا أجاز حدث الإباحة من حین الإجازة»(2).

مراده قدس سره : لغویّة تعاطی الفضولی - ولو کان إنشاءً - لأنّه علی القول بالکشف لا تحصل الإباحة الفعلیّة قبل الإجازة حتّی تکون الإجازة کاشفة عنها، و علی القول بالنقل إجازة المالک الْکاشِفَةِ عن رضاه و إذنه تکون العلّة لحدوث الإباحة فلا دخل لتعاطی الفضولی فیه و یکون لغوا.

و الآثار الأُخر: نحو البیع بتوسّط من أخذ العین بالمعاطاة الفضولیة - بناءً علی الإباحة و علی جواز هذا التصرف - لو یُوجب دخولَ المال المباح فی ملکه، خلافا للمتعاطی الأصیل فی هذا الحکم کما تقدّم فی ملزمات المعاطاة.(3) لأنّه هنا وَقَعَ فی غیر

ص: 377


1- 1 . المکاسب 3/397.
2- 2 . المکاسب 3/397.
3- 3 . راجع الآراءُ الفقهیة 4/165 و 169.

زمان الإباحة الفعلیّة فلا یفید شیئا.

ثم استدرک علی قوله: «و الآثار الأُخر» و قال: «اللهم إلاّ أن یقال: بکفایة وقوعها مع الإباحة الواقعیة [الشرعیة المستکشفة بالإجازة اللاحقة إلی ما قبلها إلی حین تعاطی الفضولی] إذا کشف عنها الإجازة فافهم»(1).

و لعلّ أمره بالتفهم إشارة إلی عدم تمامیة التفصیل بین الإباحة المالکیّة و الشرعیّة(2) أو إلی أنّ علی القول بالإباحة الشرعیة لا تعقل فی الإجازة إلاّ النقل و لا یتم الکشف، إذ لایعقل الکشف فی الإباحة الشرعیة التکلیفیّة لأنّ الحکم التکلیفی یتعلَّق بالمستقبل لا الماضی لمضی أمره.(3)

نقد مقالة الشیخ الأعظم علی القول بأنّ المعاطاة تفید الإباحة

أقول: إن کان مراده قدس سره من الإباحة هی الشرعیة الحاصلة من قصد التملیک کما هو ظاهر محذوره الإثباتی یمکن أن یناقش:

علی محذوره الإثباتی: بأنَّهُ علی القول بجریان الفضولی فی العقود علی وفاق القاعدة - لا خلافها - کما یظهر من الشیخ الأعظم(4) و نحن نقتفی أثره، بأَنَّ الْفُضُولیَّ یَجْرِی فی المعاطاة التی تفید الإباحة الشرعیة من قصد التملیک، لأنّ المالک یجیز ما أنشأه الفضولی من الملکیّة التی هی موضوع للحکم الشارع بالإباحة. و الوجه فی جریانه عموم دلیله و أنّه علی وفق القاعدة لا خلافها.

و إن کان مراده من الإباحة هی الإباحة المالکیة المجعولة من المالکین بالمعاطاة فلا یجری محذوره الإثباتی من أساسه لأنّه مبنیّ علی قاعدة تبعیّة العقود للقصود و هی فی هذا الفرض منتفیة لأنّ المالکین قصدا هذه الإباحة.

ص: 378


1- 1 . المکاسب 3/397.
2- 2 . کما فی هدی الطالب 4/669.
3- 3 . کما فی إرشاد الطالب 3/385.
4- 4 . المکاسب 3/396.

و أمّا بالنسبة إلی محذوره الثبوتی: و بناءً علی أنّ المراد من الإباحة هی الشرعیة الحاصلة من قصد التملیک، فالإجازة علی القول بالکشف الحقیقی یمکن الالتزام بجعل الإباحة الشرعیة من حین تعاطی الفضولی إلی حین الإجازة من الشارع الأقدس، و لأنّ الإباحة حکمه و یمکن جعله هذا الحکم من أوّل التعاطی و الإجازة کاشفة عنها. ولکن العمدة عدم وجود الدلیل فی المقام الإثبات علی هذا الکشف الحقیقی و إن کان فی المقام الثبوت ممکنا.

و أمّا علی القول بأّن الإجازة کاشفة علی نحو الکشف الانقلابی - أو الحکمی - فَلا تَحْصَلُ الإباحة الشرعیة بین التعاطی الفضولی و إجازة المالک، لأنّ الإجازة من حینها تحدث الإباحةَ الشرعیةَ - و إن کانت تحدث الحکم الوضعی من حینها ولکن معتبَره من فعل الفضولی کما مرّ(1) و الانقلاب فی الحکم الوضعی ممکن أمّا الانقلاب فی الحکم التکلیفی فمستحیلٌ، فالإباحة الشرعیة تحصل من حین الإجازة و یأتی هذا المحذور و هو عدم حصول الإباحة الشرعیة قبل الإجازة.

و جریان المحذور علی القول بالنقل فی الإجازة واضح.

و أمّا بناءً علی أنّ المراد من الإباحة هی المالکیة فلا شبهة فی عدم جریان الفضولی فی المعاطاة لأنّ الإباحة لاتحصل قبل إجازة المالک علی جمیع المبانی فی الإجازة سواء قلنا بأنّها کاشفة حقیقیة أو الانقلابیة - الحکمیة - أو کانت ناقلة.

و الذی یسهّل الخطب عدم تمامیة هذه الأقوال فی المعاطاة عندنا و هی عقد أو إیقاع فعلیٌّ فی قبال العقود و الإیقاعات القولیة اللفظیة التی أُنْشِئَتْ بالصیغة، فتجری فی جمیعها إلاّ ما خرج بالدلیل و الحمدللّه الهادی إلی مَهْیَعِ السَّبیل.

ص: 379


1- 1 . راجع صفحة 352 من هذا المجلد.

ص: 380

وصلٌ: القول فی الإجازة

اشارة

ص: 381

ص: 382

صحة الفضولی یتوقّف علی الإجازة بالاِتفاق ولکن:

هل الإجازة کاشفةٌ أو ناقلة أو غیرهما؟

اشارة

یظهر أنّها کاشفة عن صحة العقد عن ظاهر جماعة منهم المحقّق فی النافع(1) و تلمیذه الفاضل الآبی فی کشف الرموز(2) و ابن فهد الحلّی فی المهذب البارع(3) و صریح جماعة أُخری نحو الشهید فی الدروس(4) و الحواشی النجاریة(5) و اللمعة(6) و الفاضل المقداد فی التنقیح(7) و المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(8) و الشیخ ابراهیم القطیفی فی إیضاح النافع(9) و الشیخ لطف اللّه المیسی العاملی فی المیسیة(10) و الشهید الثانی فی

ص: 383


1- 1 . المختصر النافع /118.
2- 2 . کشف الرموز 1/444 و 445.
3- 3 . المهذب البارع 2/356.
4- 4 . الدروس 3/192 و 233.
5- 5 . الحاشیة النجاریة /221 و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/605.
6- 6 . اللمعة /110.
7- 7 . التنقیح الرائع 2/26.
8- 8 . جامع المقاصد 4/74 و 75.
9- 9 . إیضاح النافع /مخطوطة و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/605.
10- 10 . المیسیة /مخطوطة و نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/605.

المسالک(1) و الروضة(2)، و قال سیّد الریاض: «قولان، الأظهر الأوّل [کاشفة] وفاقا للأشهر»(3) و فی جامع الشتات أنّ الکشف أنّه «مذهب الأکثر»(4) و فی موضع آخر منه «أنّه الأشهر الأقوی»(5).

و اختار المقدس الأردبیلی(6) أنّها ناقلة مع إقراره بأنّ الکشف مذهب الأکثر، و تبعه الفاضل النراقی(7)، و هی الظاهر من فخرالمحقّقین فی الإیضاح(8) و قد نقل عنه الشهید فی الحواشی النجاریة(9) وصرح به الفخر فی موضع آخر(10)، و إلیه مال الفاضل الأصبهانی فی کشف اللثام(11).

و لم یرجّح المحقّق الثانی فی تعلیقه علی الإرشاد(12)، و استشکل فیه العلاّمة فی القواعد(13) و تبعه السبزواری فی الکفایة(14).

و یظهر من الفاضل الآبی فی کشف الرموز(15) قولاً ثالثا فی الإجازة و هو أنّها «بیع

ص: 384


1- 1 . المسالک 3/158.
2- 2 . الروضة البهیة 3/229.
3- 3 . ریاض المسائل 8/227.
4- 4 . جامع الشتات 1/164 من الطبعة الحجریة (2/319 من طبع الحروفی).
5- 5 . جامع الشتات 1/155 من الطبعة الحجریة (2/279).
6- 6 . مجمع الفائدة 8/159.
7- 7 . مستند الشیعة 14/284.
8- 8 . إیضاح الفوائد 3/28.
9- 9 . لم أعثر علی هذا النقل فی الحاشیة النجاریة ولکن نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/605.
10- 10 . إیضاح الفوائد 1/420.
11- 11 . کشف اللثام 7/103.
12- 12 . حاشیة إرشاد الأذهان /337 المطبوعة فی المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی و آثاره.
13- 13 . قواعد الإحکام 2/19.
14- 14 . الکفایة 1/449.
15- 15 . کشف الرموز 1/446.

و بمثابة عقد ثانٍ». و أکثر ما ذکرناه من الأقوال یظهر من السیّد العاملی(1) رحمه الله .

ثمّ یقع الکلام فی مَقامَیْنِ:
المقام الأوّل: قد یقال بامتناع قولی الکشف و النقل فی مقام الثبوت

أمّا الکشف: فلاستلزامه کون الإجازة شرطا متأخرا و هو محال، ضرورة کون الشرط من أجزاء العلّة التامة و تقدّمها علی المعلول من الواضحات و إلاّ یلزم تأخر بعض أجزاء العلّة عن المعلول و هو مستحیل.(2)

و أمّا النقل: فلاستلزامه تأثیر المعدوم - و هو العقد - فی الموجود أی الملکیّة أو النقل، و أمّا انعدام العقد حال الإجازة فلکونه متصرم الوجود و أمّا تأثیره فی الوجود فلأنّ المفروض حصول الأثر و هو النقل و الانتقال حال الإجازة الواقعة بعد انعدام العقد. و لا یعقل تأثیر العدم فی الوجود.(3)

ولکن نقول: بعدم تمامیة هذین الدلیلین بالنسبة إلی قولی الکشف و النقل

و أمّا ردّ دلیل امتناع الکشف: فبما مرّ مرارا و تکرارا فی أبحاثنا الاُصولیة من أنّ امتناع تخلف المعلول عن العلّة إنّما فی عالَمِ التکوین و الوجود، ولکن فی العالَم الاعتبار و الجَعْل الذی تجری الأحکام الشرعیة فیه لیس کذلک أی لا تکون العلّة و المعلول و العلیّة بل الأمر یدور مدار الجعل و الاعتبار و بأیّ نحو جُعلت و اعتبرت تکون کذلک ولو علی نحو الشرط المتأخر کأجزاء من صوم النهار الذی یقع قبل غسل المستحاضة، و الغسل شرط لصحة تلک الأجزاء الماضیة بل کغسلها اللیلی لصوم النهار الماضی کما عن بعض، و لذا قال جدی الشیخ جعفر قدس سره : «و لیس فی تأخّر بعض الشروط غرابة لا فی عبادة و لا فی معاملة»(4). و تبعه تلمیذه صاحب الجواهر إذ ذَهَبَ إلی: «إنّ

ص: 385


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/605 و 606.
2- 2 . کما ذکره الفخر باختصار فی الإیضاح 1/420.
3- 3 . کما ذکر الفخر نحوه فی إیضاح الفوائد 1/419.
4- 4 . شرح القواعد 2/95.

الشروط الشرعیة لیست کالعقلیة»(1). و التفصیل یطلب من بحث الشرط المتأخر فی علم الأُصول.

و أمّا ردّ دلیل امتناع النقل: فالعقد الذی یقع فی زمن الماضی ألفاظه تکون معدومة لأنّها من متصرمات الوجود و أمّا اعتباره و جعله الشرعی فی العالَم الاعتبار یکون باقیّا و یتم و یصح بالإجازة من المالک، و بردّه ینعدم و یبطل فی العالَم الاعتبار الشرعی.

و الدلیل علی البقاء الاعتباری عند العقلاء و المتشرعة هو صحة فسخ العقود الخیاریة و صحة الإقالة و صحة لحوق القبول بالإیجاب عرفا، فلا یلزم تأثیر المعدوم فی الموجود أصلاً.

المقام الثانی: دلیل القولین فی مقام الإثبات
ما استُدل به علی الکشف
الوجه الأوّل: حُکی عن المحقق و الشهید الثانییین بأن العقد بنفسه

الوجه الأوّل: حُکی(2) عن المحقّق و الشهید الثانیین(3) بأنّ العقد بنفسه و بدون ضمّ شی ء آخر یکون سببا لوجوب الوفاء فی قوله تعالی: «اوفوا بالعقود»(4) و یکون سببا لحصول الملکیة، و تَنْکَشِفُ تمامیة العقد بإجازة المالک و إعلام رِضاهُ، ولو لم یترتب الأثر لزم أن لایکون وجوب الوفاء بنفس العقد فقط و هو خلاف الفرض.

و ردّ الشیخ الأعظم(5) علی هذا الاستدلال بأنّ علّیّة العقد للملکیّة إذا صدر عن رضا المالک فهو مسلَّمٌ، ولکن فی الفضولی قبل الإجازة لا یُعلم رضا المالک أصلاً، فکیف یُحکم بالملکیّة قبل حصول الإجازة و أمّا بعدها فلا مانع من ترتب الملکیّة فتکون

ص: 386


1- 1 . الجواهر 23/462 و مابعده (22/286).
2- 2 . حکاه السیّد المجاهد فی المناهل /290، و السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 12/606 عن القائلین بالکشف.
3- 3 . جامع المقاصد 4/74 و 75، الروضة البهیة 3/229.
4- 4 . سورة المائدة /1.
5- 5 . المکاسب 3/400.

الإجازة ناقلة لا کاشِفَةً.

و أمّا إذا لم یصدر العقد عن رضا المالک فعلِّیته بالنسبة إلی الملکیّة محلّ منع واضح، لاعتبار رضا المالک فی العقود المالیة و غیرها.

ثمّ ذکر الشیخ الأعظم(1) تقریرا آخرا لهذا الدلیل، و هذا التقریر للشیخ الفقیه الشیخ محسن الأعسم فی کتابه «کشف الظُّلام فی شرح شرائع الاسلام»(2) المخطوط قال فیه: «احتج الکاشفون بأُمور: الأوّل: أنّ السبب الناقل للملک هو العقد المشروط بشرائط و کلّها حاصلة إلاّ رضا المالک، فإذا حصل الشرط عمل السبب التام. و اشتراط المقارنة فی تأثیر العقد محتاج إلی الدلیل بعد عموم الأمر بالوفاء بالعقود. فلو توقف العقد علی أمر آخر لزم أن لایکون الوفاء بالعقد خاصة، بل هو مع الأمر الآخر»(3).

و الفرق بین التقریرین: الإجازة اللاحقة ببیع الفضولی کاشفة عن وجود الرضا حال العقد فبها تحرز تمامیة عقد الفضولی للملکیّة.

ولکن الإجازة اللاحقة فی التقریر الثانی تکون بنفسها رضا بسببیّة العقد للملکیة.

و ردّ الشیخ الأعظم علی هذا التقریر بقوله: «انّه إذا اعترف أنّ رضا المالک من جملة الشروط فکیف یکون کاشفا عن وجود المشروط قبله؟»(4).

و بالجملة: ایراد الشیخ الأعظم یرجع إلی ما مرّ من امتناع القول بالکشف فی مقام الثبوت.

و حاصله: سببیة الإجازة اللاحقة - و هی الرضا- لحصول الملکیّة بالعقد، توجب حصول الملکیة بعد الإجازة و هذا هو القول بالنقل، ولو حصل الملکیة قبل حصول الإجازة، یلزم تقدّم المسبَّب علی السبب أو المشروط علی الشرط أو المعلول علی العلّة التامة و هو محال.

ص: 387


1- 1 . المکاسب 3/400.
2- 2 . کما نبّه علیه المحقّق الشهیدی فی هدایة الطالب 3/94.
3- 3 . کشف الظلام، المتاجر، مخطوط، نقل عنه المحقّق المروج فی هدی الطالب 5/20.
4- 4 . المکاسب 3/401.

قال: «و دعوی(1) أنّ الشروط الشرعیة لیست کالعقلیة، بل هی بحسب ما یقتضیه جعل الشارع، فقد یجعل الشارع ما یشبه تقدیم المسبَّب علی السبب کغُسل الجمعة یوم الخمیس [لمن خاف عدم وجدان الماء(2)] و إعطاء الفطرة قبل وقتها [من أوّل شهر رمضان(3)] فضلاً عن تقدُّم المشروط علی الشرط کغُسل الفجر بعد الفجر للمستحاضة الصائمة [لتبعیة حصوله للصوم لحصوله للصلاة(4)] و کغُسل العشائین لصوم الیوم ماضی علی القول به(5)»(6).

و هذه الدعوی مِنَ الشیخ الأعظم(7) مدفوعة بأنّ استحالة تقدّم المشروط علی الشرط أو المسبَّب علی السبب تکون من الأحکام العقلیة فلایمکن تخصیصها کاجتماع المتناقضین، و تکثیر الأمثلة لا یوجب وقوع المحال العقلی.

و الأمثلة التی تُوْهِمُ ذلک «لابدّ فیه من التزام أنّ المتأخّر لیس سببا أو شرطا، بل السبب و الشرط الأمر المنتزَع من ذلک»(8) و هو التعقّب و اللحوق ففی الغسل تعقّبه بیوم الجمعة و فی الفطرة تعقّبه بالإهلال و فی المستحاضة تعقّبه بالغُسل و فی الإجازة تعقّبها و لحوقها بالعقد، و اللحوق التعقّب أمر مقارن لا متأخر.

ثمّ یری الشیخ الأعظم(9) هذا الأمر الانتزاعی - و هو التعقب و اللحوق - خلاف

ص: 388


1- 1 . المدعی کما مرّ هو صاحب الجواهر 23/464 (22/287) لأنّه قال: «قد عرفت الفرق بینها [العلّة التامة أی العقلیة] و بین ما نحن فیه من العلل الشرعیة التی لا غرابة فی تأخّر الشرائط فیها - فی عبادة و لا معاملة - ولکن علی الوجه المزبور...».
2- 2 . راجع الشرائع 1/36.
3- 3 . راجع المسالک 1/452.
4- 4 . راجع الجواهر 3/644 من طبعة جماعة المدرسین (3/366 من طبعة الاسلامیة).
5- 5 . راجع مستند الشیعة 3/38 و 39.
6- 6 . المکاسب 3/401.
7- 7 . المکاسب 3/401.
8- 8 . المکاسب 3/401.
9- 9 . المکاسب 3/401.

ظاهر أدلة اعتبار التراضی و طیب النفس الظاهریْن فی موضوعیتهما دون الأمر الانتزاعی.(1)

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «اللهم إلاّ أن یکون مراده [أی مراد هذا المدعی] بالشرط ما یتوقّف تأثیر السبب المتقدّم فی زمانه علی لحوقه»(2).

مراده: أن یجعل اتصاف الرضا و الإجازة بالشرطیة من الوصف بحال المتعلَّق، لاِءنَّهُ بناءً علی الکشف یتأثّر العقد من زمن وقوعه من الإجازة و یحکم بصحته من حینه، لأنّه ملحوق بالإجازة و الملحوقیة شرط مقارن للعقد، فتوصیف الرضا و الإجازة بالشرطیة یکون بحال متعلَّقه. و من قبیل المجاز فی الکلمة، لأنّ معنی الشرط اصطلاحا هو ما یتوقّف تأثیر المقتضی علی نفسه لا علی لحوقه کما فی هذا البیان.

ثمّ اعترض علیه الشیخ الأعظم بقوله: «و هذا [1] مع أنّه لا یستحقّ اطلاق الشرط علیه، [2] غیر صادق علی الرضا، لأنّ المستفاد من العقل و النقل اعتبار رضا المالک فی انتقال ماله، و أنّه لایحلّ لغیره بدون طیب النفس، و أنّه لاینفع لحوقه فی حلّ تصرف الغیر و انقطاع سلطنة المالک»(3).

و عطف علی هذا المقال قوله: «و ممّا ذکرنا یظهر ضعف ما احتمله فی المقام بعض الأعلام - بل التزم به غیر واحد من المعاصرین - من أنّ معنی شرطیة الإجازة مع کونها کاشفة، شرطیة الوصف المنتزع منها، و هو کونها لاحقة للعقد فی المستقبل، فالعلّة التامة: العقد الملحوق بالإجازة، و هذه صفة مقارنة للعقد و إن کان نفس الإجازة متأخّرة عنه»(4).

مراده: من بعض الأعلام هو جدّی العلاّمة الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة کما نقل عن الشیخ الأعظم تلمیذه الشیخ محمّدحسن المامقانی رحمه الله و قال: «و سمعت منه

ص: 389


1- 1 . کما فی هدی الطالب 5/27.
2- 2 . المکاسب 3/401.
3- 3 . المکاسب 3/402.
4- 4 . المکاسب 3/402.

شفاها فی بعض أبحاثه حکایته عن شرح التبصرة للشیخ الجلیل محمّدتقی الأصبهانی»(1).

و مراده من غیر واحد من المعاصرین هم أصحاب الفصول و المستند و أنوار الفقاهة و الجواهر.

فحینئذ لابدّ من نقل کلمات هؤلاء القوم حتّی تعرف حقیقة مرامهم فنقول:

قال العلاّمة الجدّ الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة رحمه الله : «و دعوی لزوم مقارنة الشرط للمشروط مسلّمة إن اُرید توقف التأثیر علیها بأن یکون ترتب الأثر علی المشروط مقارنا لحصول الشرط، و لا یلزم منه تقارنهما فی الوجود، ألا تری أنّ القبض فی المجلس شرط فی (صحة، ن ل) بیع الصرف و السَّلم مع أنّ القبض قد یتأخر عن العقد، و کذا الحال فی قبض الوقف و قبض الهبة.

علی أنّه قد یکون الشرط وجوده فی الجملة ولو متأخرا عن المشروط، فلا یتوقف تأثیر المشروط علی وجوده حین تأثیره، فیکشف وجوده المتأخر عن اقتران الشرط بالمشروط حین التأثیر کما هو الحال فی المقام بناءً علی القول بکون الإجازة کاشفة»(2).

و قال أخیه صاحب الفصول: «... و من هذا القبیل کلّ شی ءٍ یکون وقوعه مراعی بحصول شی ءٍ آخر کالصحة المراعاة بالإجازة فی الفضولی فإنّ شرط الصحة فیه کون العقد بحیث یتعقّبه الإجازة، و لیست مشروطة بنفس الإجازة، و إلاّ لامتنعت قبلها»(3).

و قال الفاضل النراقی: «و الحاصل: أنّه یتوقف تأثیر العقد علی وجود الإجازة لا بمعنی توقّفه علی وجودها الفعلی، بل علی وجودها ولو فی وقت آخر، فلو کان العقد فی الواقع بحیث تتعقّبه الإجازة بعد مدّة یکون حین الصدور سببا تاما، و إذا کان فی الواقع بحیث لم تتعقّبه الإجازة یکون فاسدا»(4).

ص: 390


1- 1 . غایة الآمال /375.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/340؛ و کذا استظهر من عبارة هدایة المسترشدین 2/175.
3- 3 . الفصول الغرویة /80.
4- 4 . مستند الشیعة 14/283.

و قال خالی الشیخ حسن ابن الشیخ جعفر کاشف الغطاء رحمهماالله : «إنّ الإجازة ناقلة من حینها... أو کاشفة عن الصحة المتقدمة بمعنی: أنّ الصحة ثابتة من قبل إنکشف بها، لأنّها موقوفة علی حصول الشرط، و هو الرضا فی أحد الأزمنة ولو متأخرا، فبالإجازة بان حصوله. أو بمعنی أنّ الإجازة أثّرت فی صحة العقد الماضی حین صدوره، فبها انکشف أنّ العقد الأوّل کان صحیحا من حینه؟ وجوه أقواها الوسط و ربّما کان هو المشهور»(1).

أقول: هذه العبارة کما تری لَیْسَتْ صریحة فی شرطیة الوصف المنتزع.

و قال صاحب الجواهر فی عدّ معانی الکشف: «الثالث: - و هو التحقیق - أن یکون الشرط حصول الرضا ولو فی المستقبل، الذی یعلم بوقوعه من المالک مثلاً أو بإخبار المعصوم أو نحو ذلک، و المراد شرطیة الرضا علی هذا الوجه. و کأنّ هذا هو المتعیّن»(2).

و اعْتَرَضَ علیهم الشیخُ الأعظمُ بوجوه ثلاثة:

الأوّل: هذا البیان و التعریف - و هو شرطیة اللحوق و التعقّب أو شرطیته فی الجملة ولو کان متأخرا عن المشروط کما یظهر من المحقّق التقی - بالنسبة إلی الشرط غیر تام، لأنّ الشرط هو ما یتوقّف تأثیر المشروط علیه و لا یحصل المشروط من دون تحقّق شرطه.

الثانی: انتزاع التعقّب و اللحوق و الشرطیة فی الجملة من شرطیة الإجازة لبیع الفضولی خلاف ظاهر أدلة اعتبار التراضی و طیب النفس الظاهریْن فی موضوعیتهما و فعلیتهما.

الثالث: المستفاد من العقل و النقل اعتبار رضا المالک فی انتقال ماله و لا ینفع اللحوق و التعقّب بالنسبة إلی الرضا فی انقطاع سلطنة المالک و تصرفات الغیر فی ماله فعلاً.

و أنت تری بأنّ الاعتراض الثالث هُوَ عبارة أُخری عن الاِءعْتِراضِ الثانی.

ص: 391


1- 1 . أنوار الفقاهة / مخطوط، نقل عنه المحقّق المروج فی هدی الطالب 5/30.
2- 2 . الجواهر 23/466 (22/289).

و بعد هذه المناقشات علی لاِءعْلامِ الطائفة قال: «و قد التزم بعضهم بما یتفرّع علی هذا من أنّه إذا علم المشتری أنّ المالک للمبیع سیجیز العقد، حلّ له التصرّف فیه بمجرد العقد، و فیه: ما لا یخفی من المخالفةُ للأدلّة»(1).

مراده من هذا البعض هو صاحب الجواهر رحمه الله حیث یقول: «نعم، لو أخبر المعصوم بأنّه یحصل الرضا فعلاً من المالک الذی یؤثّر رضاه، کفی ذلک فی ترتّب الآثار الآن علیه لتحقّق الشرط حینئذ کتحقّقه بنفس وقوعه، إذ الشرط الحصول فعلاً ولو فی المستقبل، و لا ریب فی تحقّق الحصول فی المستقبل بالإخبار، أو لأنّ مثل هذا الشرط لا بأس بحصول مشروطه قبله بعد أن کان من الأوضاع الشرعیة التی منها ما یشبه تقدّم المعلول علی العلّة»(2).

و اعترض علیه: بأنّ التصرف فی مال الغیر قبل حصول الرضا و طیب النفس الفعلیان خلاف لأدلة اعتبارهما.

ولکن یمکن أن یدافع عن العلاّمة الجدّ و أتباعه فی قبال اعتراضات الشیخ الأعظم بمایلی:

الأوّل: تعریف الشرط بما یتوقف علیه المشروط صحیح بالنسبة إلی الشروط التکوینیة الخارجیة أمّا بالنسبة إلی الشروط الشرعیة فلا، کما یظهر ذلک من الأمثلة الأربعة المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم(3) و الثلاثة المذکورة فی کلام العلاّمة الجدّ.

الثانی: لا یُنکر الظُّهُوْرُ الأوّلی لأدلة اعتبار التراضی و طیب النفس فی فعلیتهما و موضوعیتهما کما علیه الشیخ الأعظم ولکن لا نسلّم اعتبار رضا المالک و طیب نفسه الفعلیّین فی صحة الانتقال و حلّیّة التصرف، بل یکفی حصولهما و لحوقهما و تعقّبهما ولو فی ما بعد فیتمّ ما ذکره صاحب الجواهر من التفریع و حیث أنّ الإعتراض الثانی و الثالث واحد نکتفی بجواب واحد، و هذا کلّه فی توضیح کلام الشیخ الأعظم و نقده بالنسبة إلی

ص: 392


1- 1 . المکاسب 3/402.
2- 2 . الجواهر 23/466 (22/288).
3- 3 . المکاسب 3/401.

الوجه الأوّل من وجوه الاستدلال علی الکشف، و الحمدللّه علی الستر.

الوجه الثانی: للاستدلال علی الکشف
اشارة

قال الشیخ الأعظم عن هذا الوجه: «انّ الإجازة متعلّقة بالعقد، فهی رضا بمضمونه و لیس إلاّ نقل العوضین من حینه»(1).

و هذا الاستدلال لسیّد الریاض قال: «... إذ لیس معناها [الإجازة] إلاّ الرضا بمضمون العقد و لیس إلاّ إنشاء نقل العوضین من حینه»(2).

و للمحقّق القمی فی جامع شتاته(3) و غنائم أیامه(4).

و الاستدلال قِوامُهُ أُمورٌ ثلاثة:

الأوّل: متعلَّق الإجازة هو العقد کما أنّ متعلَّق الرد و الفسخ کذلک.

الثانی: عقد الفضولی یدل علی النقل من حین وقوعه.

الثالث: الإجازة هی رضا بمدلول العقد و مضمونه.

فالإجازة تصحّح استناد العقد إلی مالکه المجیز و تکون کاشفة عن صحة العقد من حین وقوعه.

ثمّ اورد علیه الشیخ الأعظم بوجوه ثلاثة:
الأوّل: مضمون العقد هو النقل ولکن من دون تقیّد بزمان وقوعه

الأوّل(5): مضمون العقد هو النقل ولکن من دون تقیّد بزمان وقوعه، و إن کان الزمان ظرف وجوده لأنّه من الزمانیات ولکن وقوعه فی زمان لا یدلّ علی أنّه مقیّد بذلک الزمان و «کما أنّ الشارع إذا أمضی نفس العقد وقع النقل من زمانه فکذلک إذا أمضی

ص: 393


1- 1 . المکاسب 3/400.
2- 2 . ریاض المسائل 8/227.
3- 3 . جامع الشتات 1/155 من الطبعة الحجریة (2/279).
4- 4 . غنائم الأیام /542 من الطبعة الحجریة.
5- 5 . المکاسب 3/403.

إجازة المالک وقع النقل من زمان الإجازة»(1).

أقول: کما أنّ العقد و مضمونه و هو النقل غیر مقیّد بالزمان، یمکن أن یقال بأنّ الإجازة أیضا کذلک غیر مقیّدة بالزمان فیمکن أن یتعلَّق بالعقد من حین وقوعه أو من حین وقوع الإجازة، فهذا البیان یکون أخص من مدعاه و هو الردّ علی القول بالکشف کما یظهر ذلک من المحقّق الإیروانی.(2)

ثمّ استشهد لمقالته بأنّ مقتضی القبول لیس وقوع الملک من زمان الإیجاب مع أنّ مقتضی القبول لیس إلاّ الرضا بمضمون الإیجاب، بل یتمّ العقد من حین القبول.

ولکن الاْءُولی تنظیر الإجازة بمقابلها و هو الفسخ، فکما أنّ الفسخ حلّ العقد من حینه لا من حین وقوع العقد، فکذلک الإجازة فإنّها تنفیذ العقد من حین وقوعها لا من حین وقوع العقد حتّی تدلّ علی الکشف(3) کما یأتی منه قدس سره .

ثمّ اعترض(4) علی استشهاده بوجود الفارق بین القبول و الإجازة، و هو العقد لا یتم إلاّ بالقبول و العقد سبب للملک فلا یتقدّم الملک علی سببه، ولکن فی الإجازة، العقد وقع تماما و هو السبب للنقل و الإجازة هی الرضا بمضمون العقد فیکشف صحته من حین تحقّقه.

و أجاب(5) عن الاِعتراض بأنّ: کما أنّ الإیجاب بنفسه لیس سببا للملک، کذلک عقد الفضولی لا یترتب علیه الأثر إلاّ بعد الإجازة فکلّ من القبول و الرضا جزءُ علّة الملک، فالفارق بینهما غیر موجود.

ثمّ استشهد(6) بتنظیر الإجازة و الفسخ، فکما أنّ الفسخ حلّ للعقد من حین وقوع

ص: 394


1- 1 . المکاسب 3/403.
2- 2 . حاشیة المکاسب 1/127.
3- 3 . کما فی هدی الطالب 5/39.
4- 4 . المکاسب 3/403 قوله: «و دعوی: أنّ العقد سبب للملک فلا یتقدّم علیه...».
5- 5 . المکاسب 3/403 قوله: «مدفوعة بأنّ سببیته...».
6- 6 . المکاسب 3/404 قوله: «و لأجل ما ذکرنا أیضا...».

الفسخ فکذلک الإجازة تثبت العقد من حینها، و السرّ فی ذلک کلّه عدم کون الزمان قیّدا للنقل فی البیع بل ظرفا له «فجمیع ما یتعلَّق بالعقد من الإمضاء و الردّ و الفسخ إنّما یتعلَّق بنفس المضمون دون المقیّد بذلک الزمان»(1).

ثمّ استشهد(2) بأمر آخر و هو: جواز إنشاء الإجازة بکل ما یدلّ علی الرضا بنفس عقد الفضولی أو بنتیجته فیمکن صدور الإجازة بمثل قول المالک: «رضیتُ بالعقد أو أجزته» أو قوله: «رضیتُ أو أجزتُ بانتقال مالی إلی المشتری» أو بالفعل الدال علیه نحو: تسلیم المبیع إلی المشتری أو أخذ الثمن منه أو تمکین المرأة نفسها من الزوج فی نکاح الفضولی.

فنفس إمکان صدور الإجازة بنتیجة العقد أو بالفعل یدلّ علی أنّ النقل وقع من حینها، لاِءَنَّهُ لم یُلاحَظْ فیهما زمان وقوع العقد.

ثمّ أتی(3) بتقریر آخر و هو: الإجازة تقوم مقامَ الرّضا و الإذنِ المَقْرُوْنَیْنِ بالعقد الفضولی و بهما یصیر المالک بمنزلة العاقد، فالإجازة إمّا شرط للعقد لکونها قائمة مقام الإذن الذی هو شرط للعقد. و إمّا جز سبب الملک لکونها قائمةً مقام إنشاء المالک، و علی الحالین لا یتم العقد و مضمونه - و هو النقل - إلاّ بعد صدور الإجازة التی هی شرط للعقد أو جزء سببٍ للملک الذی هو مضمون العقد.

و یری الفقیه السیِّدُ الیزدی(4) رحمه الله هذا التقریر دلیلاً مستقلاً لا دخل له بماضیه بل هو قریب بإشکاله الثانی الآتی.

ثمّ ردف الشیخ الأعظم هذا التقریر «بعبارة اُخری» و قال: «المؤثِّر هو العقد المرضیّ به، و المقیَّد من حیث أنّه مقیَّدٌ لا یوجد إلاّ بعد القید، و لا یکفی فی التأثیر وجود

ص: 395


1- 1 . المکاسب 3/404.
2- 2 . المکاسب 3/404 قوله: «و الحاصل: أنّه لا إشکال...».
3- 3 . المکاسب 3/404 قوله: «و بتقریر آخر أنّ الإجازة...».
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/180.

ذات المقیَّد المجردة عن القید»(1).

أقول: الملکیة المجعولة المنشأ توسط العاقد، التی أجازها المالک تستحیل أن تکون مهملة - أی غیر مقیّدة بشی ءٍ - لأنّ العاقد المنشی الجاعل إمّا أن تجعل الملکیّة مطلقة - أی من هذا الزمان إلی یوم القیامة أو حدوث ما یزیله - أو مقیّدة بزمان - کالملکیة بعد ساعة أو یوم أو اُسبوع أو شهر أو... - و بما أنّها لا تکون مقیّدة فتکون مطلقة یعنی من زمان العقد إلی یوم القیامة، و الإجازة إنّما تعلّقت بتلک الملکیّة المطلقة یعنی من زمان العقد فلا محالة تکون الإجازة کاشفة.

و النقض بالقبول غیر وارد، لأنّ الملکیة المنشأة بالإیجاب مقیّدة بالقبول و لیست مطلقة فکأنّه قال: بعتک إن قبلتَ، و قد ذکرنا أنّ مثل هذا التعلیق فی العقود ممّا لا بأس به لأنّه تعیلق یقتضیه نفس العقد. فالملکیة أنشات معلّقة علی القبول فلا معنی لتقدّمها علیه بخلاف(2) الإجازة.

الثانی: قال ما حاصله: سلّمنا کون مضمون العقد هو النقل المقیّد

الثانی: قال(3) ما حاصله: سلّمنا کون مضمون العقد هو النقل المقیّد بالزمان و سلّمنا تعلّق الإجازة بهذا المضمون إلاّ أنّه لایترتّب علیه الملکیة الشرعیة، لتوقفها علی إمضاء الشارع، و إمضائه یتوقف علی إجازة المالک حتّی یشمله قوله تعالی «اوفوا بالعقود»(4)، فالملکیّة الشرعیة تحدث فی زمان إمضاء المالک لا إنشاء العاقد، و هذا یعنی أنّ الإجازة ناقلة و لیست بکاشفة.

فظهر مِنْ ذلِکَ عدم تمامیة الاستدلال علی الکشف بقوله تعالی «اوفوا بالعقود»، لأنّ وجوب الوفا یترتّب علی عقد المالک، و عقد الفضولی لا یصیر للمالک و لا یستند إلیه إلاّ بعد إجازته، و بعدها یترتب وجوب الوفاء بالعقد و هذا هو القول بالنقل.

ص: 396


1- 1 . المکاسب 3/404.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/441.
3- 3 . المکاسب 3/405.
4- 4 . سورة المائدة /1.

و ظهر عدم تمامیة الاستدلال علی الکشف بقوله تعالی «أحل اللّه البیع»(1)، لأنّ الملک ینشأ من حلیّة التصرف و هی تتوقف علی الإجازة و الرضا من المالک، فقبلها لا یحلّ التصرف، «خصوصا إذا علم عدم رضایة المالک باطنا أو تردّده فی الفسخ و الإمضاء»(2)، فإذا لم یحلّ التصرف فلا یتحقّق الملکیة.

أقول: نعم، الشارع یحکم بالملکیّة بعد إجازة المالک إلاّ أنّه لا ینافی أن یحکم بعد الإجازة بالملکیة من أوّل الأمر، و لا مانع من تغایر زمانی الحکم و المحکوم به کما وقع عکس ذلک فی الوصیة حیث حکم الموصی بالملکیة للموصی له بعد موته - فإذ جاز ذلک فلیکن عکسه أیضا جائزا، ففی المقام حکم الشارع بعد الإجازة بالملکیة المتقدّمة بعد العقد.(3)

و الشاهد علیه: ملاحظة باب الإجازة کما إذا اَجَّرَ الفضولی دار شخص من أوّل السنة فأجازها المالک بعد شهر مضت من أوّل السنة، حکم الشارع بعد الإجازة بصحة الإجارة ولکن المحکوم به هو ملکیة منافع الدار من أوّل السنة للمستأجر.(4)

و یمکن أن یورد علی هذا المقال بوجهین:

أ: إنّ الحکم بملکیة شی ءٍ لشخصین مستحیل و العبرة بتعدّد المتعلَّق لا بتعدّد زمان الاعتبار، فلو کان المتعلّق واحدا فالحکم علیه بحکمین متنافیین محال، ولو کان الحکمان و الاعتباران یتعلّقان بشی ء واحد فهذا مستحیل و إن کان زمانهما غیر واحد.

و أمّا إذا کان المتعلّق متعدّدا فیَصَحُّ أن یحکم علیهما بحکمین مختلفین ولو کانا فی زمان واحد. أو فی زمانین.

و فی المقام متعلّق الحکم و الاعتبار واحد و هو الملکیة قبل الإجازة، فقد یقال نعتبرها قبل الإجازة للمالک و بعدها للمشتری، فهی شی ءٌ واحد قد حکم به لشخصین و

ص: 397


1- 1 . سورة البقرة /275.
2- 2 . المکاسب 3/406.
3- 3 . کما یظهر من المحقّق الخراسانی فی حاشیته علی المکاسب /61.
4- 4 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/442.

هو مستحیل.

یظهر هذا البیان من المحقّق النائینی(1) فی بحث حکم الخروج من الأرض المغصوبة.

و أجاب عنه تلمیذه السیّد الخوئی رحمه الله : «أنّ ما أفاده إنّما یتم فی الأحکام البعثیة و الزجریة و هی التکلیفیّة فقط حیث أنّها تحتاج إلی المتعلَّق لا محالة، و الشی ء الواحد لا یمکن أن یبعث إلیه و یزجر عنه و لا یمکن إیجابه و تحریمه... و أمّا الأحکام الوضعیة فلا، لأنّها ناشئة من مصالح فی جعلها و لا مانع من أن یعتبر فی زمان شخصا مالکا لشی ءٍ لأجل مصلحة فی هذا الاعتبار، و أن یعتبر فی زمان آخر غیره مالکا له لأجل مصلحة اُخری و هذا أمر ممکن فی الاعتبار...»(2).

ب: ما ذکرتم من وجود الاعتبارین بالنسبة إلی متعلَّق واحد فی زمانین مختلفین إنّما یتم فی القضایا الخارجیة و الموالی العرفیة التی نظرها إلی البیوع الخارجیة، و أمّا فی القضایا الحقیقیة و الأحکام الشرعیة التی لا نظر فیها إلی الخارج فلا یتم بوجه، بل إنّما هی مترتّبه علی موضوعاتها المقدّرة الوجود و صادرة قبل خلق الخلق و العالَم أو حین نزول الشریعة فلا یتمّ أبدا، لأنّ الشارع إنّما اعتبر الملکیة قبل وجود المتبائعین لا محالة کما هو کذلک فی الأحکام التکلیفیة کوجوب الحج... .

و علیه فنقول: إنّ الشارع الذی اعتبر الملکیة هل اعتبرها من حین العقد أو من حین الإجازة فعلی الأوّل تکون الإجازة کاشفة حقیقة کما أنّها علی الثانی تکون ناقلة فلا یبقی لاستکشاف ما ذکرتموه مجال...»(3).

ثمّ أجاب السیّد الخوئی(4) عن هذا الإیراد بجوابین:

أحدهما: إنّ الشارع بالنسبة إلی الإعتباریات لیس جاعل بل هو لم یردع عنها و

ص: 398


1- 1 . راجع أجود التقریرات 2/188.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/444.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/445.
4- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/446.

أمضاها بما لها عند العقلاء و فی المقام ما أتی به المالک هو الاعتبار بعد الإجازة المتعلِّقة بالملکیّة السابقة و المفروض أنّ الشارع قد أمضی هذ الاعتبار فی الفضولی فیقع الملکیة بعد الإجازة من أوّل العقد.

ثانیهما: و علی فرض أنّه جاعلٌ و معتبِرٌ و اعتباره أزلیٌّ، موضوع اعتباره هی الإجازة، لأنّه اعتبر ملکیّة المشتری من أوّل العقد إذا تحقّقت الإجازة و بعد ما تحقّقت فیتحقّق الحکم بالملکیة من أوّل الأمر کما فی وجوب الحج بالنسبة إلی الاستطاعة، فکون القضیة حقیقیّة و یترتّب الحکم فیها علی موضوعاتها المقدّرة غیر مضرّ بالاستدلال.

الثالث: قال ما حاصله: الإجازة لا توجب نفوذ العقد من حین

الثالث: قال(1) ما حاصله: الإجازة لا توجب نفوذ العقد من حین وقوعه، و إن کانت موجبةً لنفوذه من حین وقوعها، کما أنّ مضمون صیغة القبول - و هو رضا بمضمون الإیجاب - لا یوجب ترتّب الأثر من زمن الإیجاب. هذا أوّلاً.

و ثانیا: ولو کانت الإجازة موجبةً لنفوذ العقد من حین وقوعه، فلابدّ من رفع الید عن هذا الظهور لأنّه غیر معقول لاستلزامه استحالة انقلاب الشی ء عمّا وقع علیه، لأنّ عقد الفضولی لم یقع حین حدوثه مؤثّرا، فکیف یصیر مؤثرا بعد صدور الإجازة من زمان وقوعه؟(2)

و لذا لو ورد دلیلٌ علی وقوع عقد الفضولی من حینه بعد صدور الإجازة لابدّ من صرفه عن ظاهره و حمله علی «إرادة معاملة العقد بعد الإجازة معاملة العقد الواقع مؤثّرا من حیث ترتّب الآثار الممکنة»(3) نحو انتقال نماء المبیع بعد العقد إلی المشتری، و إن کان أصل الملک قبل الإجازة یکون للمالک و النماء یقع فی ملکه.

و هذا القول فی الکشف هو الکشف الحکمی و هو غیر الکشف الحقیقی و قال الشیخ الأعظم فی شأنه: «و لم أعرف من قال بهذا الوجه من الکشف إلاّ الاُستاذ

ص: 399


1- 1 . المکاسب 3/406.
2- 2 . هدی الطالب 5/53.
3- 3 . المکاسب 3/407.

شریف العلماء(1) فیما عثرت علیه من بعض تحقیقاته»(2).

ترجمة شریف العلماء المازندرانی

و یری الشیخ الأعظم(3) هذا القول فی الکشف خلاف ظاهر کلام القائلین به و استشهد بکلام العلاّمة فی القواعد حیث قال: «فی زمان الإنتقال إشکال»(4)، حیث جعل النزاع فی زمان الإنتقال.

و یرد علی أوّله: وجود الفارق بین صیغة القبول فی العقد، و الإجازة فی بیع

ص: 400


1- 1 . هو محمّد أو محمّدشریف بن حسنعلی الآملی المازندرانی، وُلد فی کربلا المقدسة و حضر علی السیّد محمّد المجاهد و والده صاحب الریاض و علی الأخیر تسع سنین، و قد یقال: حضر سنة علی المیرزا أبوالقاسم القمی صاحب القوانین و اشتغل بالسیاحة فی أطراف بلاد العجم و زار الإمام الرضا علیه السلام و رجع إلی کربلا و جلس علی کرسی التدریس فی مدرسة حسن خان، و له اهتمام تام فی أمر التدریس و لذا لم یوفّق للتألیف إلاّ أنّه کتب رسالة فی «أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الأمر» بالتفصیل. و کانَ له مجلسان للدرس، مجلس للمبتدئین و مجلس للمنتهین. و حضر علیه قریبا من ألف طالب و عالم أمثال الشیخ الأعظم و السیّد ابراهیم الموسوی القزوینیّ صاحب ضوابط الاُصول و الملاّ آغا الدربندی و السیّد محمّدشفیع الجابلقی و المولی اسماعیل الیزدی و سعیدالعلماء المازندرانی و الشیخ محمّدحسن آل یاسین. توفّی بمرض الطاعون فی سنة 1245 و دفن فی سرداب بیته قریبا من الجهة الجنوبیة للصحن الحسینی الشریف، و خلف ولدا ذکورا توفّی فی هذه السنة و لم یبق له من الاُولاد. راجع: الروضة البهیة /(11-9) لتلمیذه السیّد محمّدشفیع الجابلقی؛ معارف الرجال 2/298، رقم 358؛ أعیان الشیعة 9/364؛ و زندگانی و شخصیت شیخ انصاری /148؛الکنی و الألقاب 2/354، رقم 388 (طبعة جماعة المدرسین)؛ هدیة الأحباب /182؛ تکملة أمل الآمل 3/157، رقم 851؛ نجوم السماء 2/399، رقم 42؛ الکرام البررة 2/619، رقم 114؛ غرقاب /196، رقم 81.
2- 2 . المکاسب 3/407.
3- 3 . المکاسب 3/407.
4- 4 . القواعد 2/19.

الفضولی لأنّ العقد مقیّد بالقبول و معلَّق علیه کما مرّ(1)، ولکن الإجازة علی القول بالکشف کاشِفَةٌ عن صحة العقد من حین وقوعه و بینهما برزخ لا یبغیان.

و یرد علی ثانیه: ما ذکره مِنْ أنَّ عقد الفضولی لم یقع من حین حدوثه، أوّل الکلام و محل نزاع بین قولی الکشف و النقل فی الإجازة، فجعل محل النزاع من أرکان استدلاله و هذا لیس إلاّ مصادرة بالمطلوب. کما نبّه الفقیه السیّد الیزدی(2) علی أنّه أوّل الکلام.

ص: 401


1- 1 . فی نقد إشکاله الأوّل، صفحة 391 من هذا المجلد.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/181.
وجوه الکشف فی مقام الثبوت
اشارة

فسرّ الکشفیون الإجازة بوجوه متعددة و لهم مسالک مختلفة نعدّ لک أهمّها:

الأوّل: الکشف الحقیقی الشرطی

و هو الالتزام بأنّ الإجازة تکون شرطا متأخرا و المشهور یذهبون إلیه، و اعترض علیهم جمال المحقّقین فی حاشیته علی الروضة(1) بأنّ الشرط لا یتأخر.

الثانی: الکشف الحقیقی التعقّبی

و هو الالتزام بأن الشرط هو تعقّب العقد بالإجازة، لا نفس الإجازة، فرارا عن لزوم تأخر الشرط عن المشروط و یلتزم بعضهم بجواز التصرف قبل الإجازة لو علم تحقّقها فی مابعد، نُسب(2) هذا القول إلی جدّنا العلاّمة التقی صاحب الهدایة(3) و أخیه صاحب الفصول(4) و الفاضل النراقی(5) و خالی الشیخ حسن ابن الشیخ جعفر کاشف الغطاء(6) قدس سرهم .

ص: 402


1- 1 . حاشیة الروضة /358، لآقا جمال الخوانساری.
2- 2 . الناسب إلی الجدّ هو الفاضل المامقانی فی غایة الآمال /375.
3- 3 . تبصرة الفقهاء 3/340؛ هدایة المسترشدین /219 من طبعة مؤسسة آل البیت الحجریة (2/175 من طبعة جماعة المدرسین).
4- 4 . الفصول الغرویة /80.
5- 5 . مستند الشیعة 14/283.
6- 6 . أنوار الفقاهة / مخطوط قد مرّ عبارته فی صفحة 386 من هذا المجلد.
الثالث: الکشف الحقیقی التقدیری

و هو الالتزام بکفایة الرضا التقدیری المنکشف بالإجازة بمعنی أنّ المالک لو التفت لکان راضیا و الإجازة کاشفة عنه ککشف شاهد الحال عنه، هذا قول المحقّق الرشتی.(1)

الرابع: الکشف الحقیقی التامی

و هو الالتزام بأنّ الإجازة تکشف عن أنّ العقد هو سبب تام للملکیة و هو مذهب ثانی المحقّقیین(2) و الشهیدین(3) کما مرّ.

و هو المستفاد من کلام صاحب مفتاح الکرامة حیث یقول: «إنّ العقد سبب تامّ مع الإجازة و إن تأخرت عنه فعلاً فهو مراعی لا موقوف، فإن حصلت کشفت عن تأثیره من حین وقوعه لتقدّمه و تعلّق مقتضاها به، إذ المالک إنّما رضی بإنتقال ملکه عنه من وقت العقد فحینئذ هی شرط للعلم بالوقوع و التأثیر لا شرط للنقل، فلذا قلنا: إنّها کاشفة، و العقد مع عدم ظهورها موقوف لا نعلم سببیّته و لا تأثیرها ظاهرا إذا تجرّد عنها فلیتأمل جیّدا»(4).

و تبعه معاصره - الشیخ جواد ملاّ کتاب قدس سره - فی شرحه علی اللمعة(5): من أنّ الإجازة تکون نظیر التبادر علاّمةً کاشفةً عن وضع اللفظ المتبادر منه، و کعلامات البلوغ. ولکن عدّ الفقیه الیزدی(6) رحمه الله هذا الوجه وجها مستقلاً.

الخامس: الکشف الحقیقی الحصولی

و هو الالتزام بأنّ «الشرط حصول الرضا ولو فی المستقبل الذی یُعلم بوقوعه من

ص: 403


1- 1 . راجع کتاب الإجازة /184 للمحقّق الرشتی، الطبعة الحجریة.
2- 2 . جامع المقاصد 4/74.
3- 3 . الروضة البهیة 3/229.
4- 4 . مفتاح الکرامة 12/607.
5- 5 . شرح اللمعة / مخطوط، نقل عنه فی هدی الطالب 5/61.
6- 6 . حاشیة المکاسب 2/181.

المالک مثلاً أو بإخبار المعصوم علیه السلام أو نحو ذلک» کما علیه صاحب الجواهر(1) رحمه الله .

السادس: الکشف الحقیقی الدهری

الشرط المتأخر بوجوده الدهری یکون شرطا بمعنی أنّ جمیع الأجزاء و الشروط المتعددة و المتکثرة، تکون مجتمعة فی وعاء الدهر فلا تقدّم و لا تأخّر.

نسبه المحقّقان الخراسانی(2) و النائینی(3) إلی المیرزا الشیرازی الکبیر قدس سره مع أنّ الأخیر ذکر إعلام عدم رِضاه بهذه النسبة.

السابع: الکشف الحقیقی الحدوثی

و هو الالتزام بکون «ظرف حدوث الأثر و ترتّبه علی العقد زمان الإجازة، و ظرف الحادث المترتّب علیه زمان العقد»(4)، و بعبارة اُخری: الإجازة تکشف «عن حکم الشارع بعدها بحصول الملک من حین العقد کأنّها وقعت حینه، و حاصله: أنّ زمان حکم الشارع بالملکیة مابعد الإجازة و أمّا نفس الملکیة المحکوم بها فزمانها من حین وقوع العقد»(5) و هذا الوجه هو مختار المحقّق الشهیدی(6).

الثامن: الکشف الحکمی

«و هو إجراء أحکام الکشف بقدر الإمکان مع عدم تحقّق الملک فی الواقع إلاّ بعد الإجازة»(7).

و بعبارة أُخری: «أنّه یعامل بعد الإجازة معاملةَ العقد الواقع مؤثرا من حینه بالنسبة

ص: 404


1- 1 . الجواهر 23/466 (22/289).
2- 2 . فوائد الاُصول /58 للآخوند الخراسانی.
3- 3 . المکاسب و البیع 2/89.
4- 4 . هدایة الطالب 3/106.
5- 5 . هدایة الطالب 3/91.
6- 6 . هدایة الطالب 3/92.
7- 7 . المکاسب 3/408.

إلی ما أمکن من الآثار، و هذا نقل حقیقیٌّ فی حکم الکشف من بعض الجهات»(1).

قال الشیخ الأعظم: «و لم أعرف من قال بهذا الوجه من الکشف إلاّ الاستاذ شریف العلماء قدس سره فیما عثرت علیه من بعض تحقیقاته»(2).

و قال: «أنّ الأنسب بالقواعد و العمومات هو النقل ثمّ بعده الکشف الحکمی...»(3).

التاسع: الکشف الحکمی الإنقلابی

عقد الفضولی لا یفید شیئا بالنسبة إلی ملکیة المشتری للمبیع و ملک المالک باق علیه قبل الإجازة و أمّا بعدها ینقلب الأمر و یصیر المبیع ملکا للمشتری من حیث العقد، و الإجازة تکشف علی نحو الإنقلاب عن هذه الإنتقال.

یراه الاستاذ المحقّق - مد ظله -: «أتقن الوجوه فی مقام الثبوت»(4). و اختاره صاحب بشری الفقاهة(5) - مد ظله - .

العاشر: الکشف الحکمی الصورتی

«و حاصله: أنّ کل أمر متقدّم یکون کالمادة الهیولائیة بالنسبة إلی أمر متأخر عنه و کان المتأخر کالصورة فی إفادة فعلیة ذاک الأمر یکون بوجوده منشاءً لتحقّق الفعلیة فی ذاک المتقدم»(6) «فمقتضی القاعدة ترتیب آثار الموضوع من أوّل تحقّقه»(7).

نقل المحقّق النائینی هذا الوجه عن استاذه المحقّق جدّی الشیخ محمّدباقر النجفی الأصفهانی(8) نجل صاحب الحاشیة أعلی اللّه مقامهما.

ص: 405


1- 1 . المکاسب 3/407.
2- 2 . المکاسب 3/407.
3- 3 . المکاسب 3/408.
4- 4 . العقد النضید 3/230.
5- 5 . بشری الفقاهة 4/65.
6- 6 . المکاسب و البیع 2/84.
7- 7 . منیة الطالب 2/61.
8- 8 . کتب المحقّق النائینی فی شأن ولده الشیخ محمّدحسین صاحب التفسیر و والده الشیخ محمّدباقر بقلمه الشریف ما نصه: «ولکن معظم تلمّذی و استفادتی کان من الحبر المحقّق الفرید و البحر الزاخر الوحید، مَنْ قلّ ان یسمح الزمان بمثیله أو یر عینه بعدیله شیخی العلاّمة الشیخ محمّدحسین سبط المحقّق التقی صاحب التعلیقة الکبری علی المعالم و کان فیمن ادرکته و رأیته حائزا فی علمه و عمله و زهده و ورعه و طول باعه فی العلوم العقلیة و النقلیة ما یبهر العقول و قد أکمل جمیع ذلک و لم یبلغ الأربعین من عمره و مع أنّه کان من ذوی الفنون الذین قلّ أنْ یعهد الدهر بأمثالهم ففی کلّ واحد منها کان أبا عذرته و الوحید فیه، و کان له فی علم الهیئة مسلک بین المسلکین به یتضح رموز الأخبار و ینحل مشکلاتها و لم یبرز من تصانیفه التی أخبرنی بها إلاّ الیسیر من تفسیره الذی لم یعمل مثله و قد أودع فیه ما ینبئ عن کمال تبحره و طول باعه، و کان قدس سره من أظهر مصادیق مَنْ وصفه أمیرالمؤمنین - علیه و آله أفضل الصلوة و السلام - فی خطبتی همام المرویة أحدهما فی الکافی [الکافی 3/573، ح1، باب المؤمن و علاماته و صفاته. (2/226)] و الاُخری فی النهج [نهج البلاغة، خطبة 193] : «یذکّر اللّه تعالی برؤیته و یدعو إلیه برویّته» [لم ترد هذه العبارة فی خطبة الهمام ولکن ورد فی الکافی 1/95، ح3، باب مجالسة العلماء (1/39) هکذا: «مَن تُذَکِّرکم اللّه ُ رُؤْیَتُهُ و یَزیدُ فی عِلْمِکُمْ مَنْطِقُهُ و یُرَغِّبُکُمْ فی الآخرة عَمَلُهُ»] و قد أثرتْ مواعظه الشافیة فی سنی إقامته بأصبهان من التقوی فی نفوس الخواص و العوام ما لایوصف، و قد انقطعتُ به و اعتکفتُ علیه و کنتُ أحضر جمیع أبحاثه الفقهیة و الأصولیة و الکلامیة، و اکتبها فی مجلس البحث بکمال السرعة مترجما لها بالعربیّة و أعرض علیه کراریسی و یتعجّبُ هو و جمیع مَنْ یحضره عن عدم فوت شی ء ممّا کان یفیده و یستنسخها الحاضرون، و قد طلبها منی أخوه الفقیه البارع الزکی حضرة الشیخ محمّدتقی المعروف بآقانجفی قدس سره لیطبعها و لم یرض هو - طاب رمسه - بذلک و منعنی عن دفعها الیه، و کان - نوّر ضریحه - أشفق بی من الوالد لولده و کثیرا ما یرغبّنی و یحثّنی إلی الحضور معه بحث والده الفقیه العلاّمة حجّة العصابة و وجهها الزاهر حضرة الآقا الشیخ محمّدباقر - قدس سره الزکی - ولکنّی کنتُ أرغب عن ذلک لعدم بلوغی من العمر مبلغا یلیق لی الحضور فی ذلک المجلس العظیم الذی کان یحضره أعاظم العلماء البارزین و کنت أنا ابن تسعة عشر أو العشرین إلی أن أخذنی ذات یوم بعد فراق عن بحثه معه و أحضرنی ذلک المحضر و أجلسنی بجنبه و أظهر من جمیل الصنع ما أسکن روعتی و أذهب خجلتی فکنت أحضر بعد ذلک بحثه و بعد الفراغ نحضر جمیعا بحث والده و استمر ذلک قریبا من خمسة العوام و کان عنوان بحثه حینئذٍ کتاب البیع و قد أدرکتُ بحثه من مبحث المعاطاة إلی الخیارات و شاهدتُ من تبحره و فقاهته و طول باعه فی تنقیح قواعد المعاملات و تفریع الفروع علیها مع ابتلائه بتلک الریاسة العظمی و استغراق أوقاته بشئونها ما لا یکاد ینقضی عجبی عنه مهما أتذکره و کان تهجّده و مناجاته بالأسحار و کثرة بکائه فیها یقلب القلوب القواسی و یزیل الجبال الرواسی و إذ شرع فی مبحث الخیارات أختار اللّه تعالی له دار کرامته و نعی نفسه المقدسة و فی الجمعة الاُولی أو الثانیة من ذی القعدة سنة 1299 أسرّ إلی ولده المعظم السابق ذکره شیخی العلاّمة الشیخ محمّدحسین قدس سره و کان هو موضع سرّه انّه ظهر له فی ذلک الیوم علامة دنو أجله و لم یذکر له أزید من ذلک و هو - نوّر مضجعه - حدثنی به بعد ذلک فأخذ فی تصفیة اُموره و تجهیز سفره إلی النجف الأشرف من ذلک الیوم مسرعا عجلاً، و فی الیوم الثانی من ذی الحجة تلک السنة خرج مِن أصبهان خروج من لایرجو العود أبدا و اختار شیخی المعظم المذکور من بین أولاده لصحبته و أخذنی معه و کنت عازما علی المسیر معهما فحالت العوائق بینی و بین نیّتی و کانت کبقیة سفره إلاّ ما حدثنی به ولده المحقّق المذکور أنّه جدّ فی السیر و لم یمکث فی البلاد الواقعة فی الطریق أزید من متعارف الزوّار و لا فی الکاظمیة المشرفة أزید من لیلة و ورد کربلا المقدّسة لیلة عاشورا و لم یقم فیها مع بُعد عهده بها و اشتیاقه إلیها أزید من ثلاث و فی الیوم الرابع خرج إلی النجف الأشرف و فی الیوم الثانی من وروده زار بعد خروجه عن الحضرة المقدّسة مقبرة جدّه الشیخ الأکبر فقیه العصابة و محیی ما درس من رسومها الشیخ جعفر - أنار اللّه تعالی - و عیّن موضع قبره فیها و خطه بعصاه و أمر أن یحفر مَن یحفره بحضرته فألح علیه مَن حضره مِن عشیرته بالقیام و تعهدوا له أنّهم یکفونه حفره، و دفع کفنه إلی مَن یعمل الأکفان لیکتب علیه آیا مِن القرآن بالتربة المقدّسة و أمره أن یعجّل فی إتمامه و لمّا رجع إلی أهله حمی تلک العشیة و لم یخرج بعده إلی أن خرج سریره و انتقل إلی الدرجات التی أعدّها لنزوله».

ص: 406

البحث حول الوجوه فی مقام الثبوت
الوجه الأوّل: الکشف الحقیقی الشرطی

استشکل الشیخ الأعظم علیه بأنّ الشرط المتأخر محالٌ عقلاً.

ص: 407

و قد مرّ(1) الجواب عنه فإمکان هذا الوجه عندنا باق و أجاب عنه المحقّق الخراسانی بخسمةِ أَجْوِبَةٍ استشکل فی أربعة منها کانت للقوم و اختار الخامس الذی لنفسه فراجع فوائده.(2)

الوجه الثانی: الکشف الحقیقی التعقبی

مرّ اعتراض الشیخ الأعظم علی أعلام القائلین بهذا القول و جوابه منّا فراجع(3).

الوجه الثالث: الکشف الحقیقی التقدیری

و هذا الوجه هو ما أفاده المحقّق المیرزا حبیب اللّه الرشتی رحمه الله من کفایة الرضا التقدیری فی صحة العقد، نظیر الإذن المستفاد من شاهد الحال، قال: «إنّ الإجازة کاشفة عن ذلک جدّا ولو بعد الردّ فإنّ الکراهة الباعثة علی الردّ من حیث خفاء الجهة الراجحة، فلا منافاة بین الردّ فعلاً و الرضا التقدیری...»(4).

و فیه: دعواه مرکبة من صغری و کبری، أمّا الأُولی: فهی أنّ الإجازة کاشفة عن الرضا التقدیری، و أمّا الثانیة: فهی أنّ الرضا التقدیری کاف فی صحة العقد.

و یمکن المناقشة فیهما:

أمّا الصغری: فیمکن أنّ یناقش فیها: بأنّ المراد من الکاشفیة إمّا:

أ: اللفظیة: ککاشفیة الجملة الخبریة عن المخبریة، فهی باطلة بالضرورة.

ب: العقلیة الإنّیة: ککاشفیة المعلول عن علته، بدعوی أنّ معلولیة الإجازة تدل علی علّیّة الرضا التقدیری، فهی أیضا باطلة لأنّ التقدیر و هو المحذوف و المعدوم لا یتصور أن یکون علّة، نعم، الرضا الفعلی یمکن أن تکون علّة لمعلول الإجازة ولکن بینهما - الرضا التقدیری و الرضا الفعلی - تنافی ظاهر.

ص: 408


1- 1 . راجع صفحة 380 من هذا المجلد.
2- 2 . فوائد الاصول /(60-55)، فائدة فی تقدّم الشرط علی المشروط.
3- 3 . راجع صفحة 386 من هذا المجلد.
4- 4 . کتاب الإجارة /184، الطبعة الحجریة.

ج: العرفیة: بدعوی أنّ الإجازة کاشفة عرفا عن الرضا التقدیری فهی أیضا باطله، لأنّ الرضا التقدیری معدوم و الإجازة موجودة و العرف لایری الملازمة بین الموجود و المعدوم.

و بالجملة: بطلان الصغری واضح لعدم دلالة الإجازة علی الرضا التقدیری بوجه من الوجوه.

و أمّا الکبری: فبما مرّ بأنّ الرضا الفعلی - فضلاً عن التقدیری - لا یکفی فی صحة العقد و العقود یحتاج إلی الانتساب و الاستناد إلی مالکه و هذا لا یتم إلاّ بإصدار الإذن سابقا أو لاحقا أو مقارنا.(1)

هذا مضافا إلی ورود الإشکالات الأربعة التی ذکرها هذا القائل العظیم علی مدعاه و أجاب عن ثلاث منها بجوابات لا یتم عندنا و ترک الجواب عن الرابع و لعلّ وجه ترکه معلومیته عن الأجوبة السابقة، فراجع کتابه.

الوجه الرابع: الکشف الحقیقی التامی

مرّ(2) استدلال القائلین بهذا القول فی الوجه الأوّل من وجوه الاستدلال علی الکشف بالتقریرین و مناقشات الشیخ الأعظم علیهما، فلا یمکن الأخذ بهذا الوجه و لا نعید الکلام فیه.

الوجه الخامس: الکشف الحقیقی الحصولی

قال صاحب الجواهر مضافا إلی ما نقلتُه عنه سابقا: «... ولکن لابدّ فیه من حصول الرضا ولو فی المستقبل و لا یکفی فیه الرضا التعلیقی بمعنی أنّه لو علم لرضی...»(3).

و لا بأس بهذا الوجه فی مقام الثبوت و أمّا اقامة الدلیل علیه فی مقام الإثبات فمشکل جدّا.

ص: 409


1- 1 . راجع کتاب البیع 2/(221-217) للمحقّق الخمینی رحمه الله .
2- 2 . راجع صفحة 382 من هذا المجلد.
3- 3 . الجواهر 23/467 (22/289).
الوجه السادس: الکشف الحقیقی الدهری

المنقول عن المیرزا الشیرازی الکبیر.

قال تلمیذه المحقّق الخراسانی فی فائدة فی تقدّم الشرط علی المشروط من فوائده ما نصه: «ثالثها: ما أفاده سیّدنا الاُستاد - أطال اللّه بَقاءَهُ - من أنّ الشرط فی هذه الموارد لیس المتقدّم أو المتأخر بوجودهما الکونی الزمانی لکی یلزم المحذور، بل بوجودهما الدهری المثالی، و هما بهذا الوجود لایکونان إلاّ مقارنتین للمشروط، فإنّ المتفرقات فی سلسلة الزمان مجتمعات فی وعاء الدهر(1)»(2).

«و توضیحه [فی کلام تلمیذه الآخر المحقّق النائینی] أنّ أهل المعقول قالوا بأنّ المتغیّرات فی وعاء الزمان ثابتات فی عالم الدهر، و مرادهم من هذه العبارة أنّ لکلِّ ماهیة نحوین من الوجود: وجود تفصیلی یختص بها الذی به موجودیة الماهیة فی عالم الزمان بنحو البسط و النشر و هو یتکثر بتکثر الماهیات، و وجود واحد جمعی فی عین وحدته وجود کلّ الماهیات فتکون الکلّ موجودة به علی نحو الجمع و اللف و هو المعبر عنه بعالم الدهر، فالأمر المتأخر و إن کان متأخرا بالوجود التفصیلی الزمانی لکنّه مقارن مع المتقدم بحسب وجوده الجمعی الدهری فهو شرط بهذا الوجود فلا تأخر للشرط...»(3).

و یرد علیه: هذا الوجه لایدفع إشکال الشرط المتأخر لأنّ «إجتماع الزمانیات فی عالم الدهر علی نحو الترتب نظیر إجتماع الخط المختلف الألوان بجمیع ألوانه المختلفة تحت نظر واحد حیث أنّ الألوان المختلفة مجتمعات فی النظر و اللحاظ علی ما هی علیه من الترتب کما لا یخفی»(4) کما قاله المحقّق النائینی.

قال المحقّق الخراسانی فی نقده: «قلتُ: لا یخفی أنّ ذلک و إن کان لطیفا فی نفسه إلاّ أنّه لا یکاد أن یکون شرطا للزمانی إلاّ الزمانی، مضافا إلی وضوح أنّ الشرط فی

ص: 410


1- 1 . واحد، نسخة بدل.
2- 2 . فوائد الاُصول /58.
3- 3 . المکاسب و البیع 2/89.
4- 4 . المکاسب و البیع 2/89.

الموارد حسب دلیله إنّما هو الشی ء بوجوده الکونی، ضرورة أنّ إجازة المالک فی الفضولی... بما هی إجازة... یکون شرطا، و هی کذلک لیست إلاّ زمانیة لأنّها بوجوده الدهری لا یکون محدودة بهذه الحدود، بل بحدود آخر یجتمع الشرط و المشروط فیها... و بهذا المعنی یکون الدهر مجمع المفترقات الزمانیة»(1).

بعبارة أُخری: الإجازة المعتبرة فی صحة بیع الفضولی هی الإجازة الواردة فی عمود الزمان بعد عقد الفضولی و أمّا الإجازة التی فی وعاء الدهر فلا عبرة بها فی الشروط الشرعیة و لوازمها و صحة بیع الفضولی.(2)

فلا یتم هذا الوجه.

الوجه السابع: الکشف الحقیقی الحدوثی

قال المحقّق المیرزا فتاح الشهیدی فی الاستدلال علی هذا الوجه - و هو کما مرّ مختاره - : «... فمقتضی أدلة الإمضاء فی مسألة الفضولی بحسب زمان حدوث الملکیّة و تحدیده بحدّ التقدّم علی الإجازة و التأخر عنها و التقارن لها هو الثالث بمعنی حدوثها بعدها بلا فصل، و أمّا إنّ الحادث هو الملکیة المقارنة لها المعبّر عنها بالنقل أو الملکیة السابقة علیها المعبّر عنها بالکشف فهو و إن کان لایستفاد من الأدلة العامة المذکورة بمجردها قاعدة مطردة فی هذا الباب تکون مرجعا فی موارد الشک، لکن لمّا کان الغالب عند المتعاقدین من أهل العرف هو تسبّب الملک عن العقد المرکب من الإیجاب و القبول، أمکن أن یقال: إنّ مقتضی القاعدة المستفادة من أدلة الإمضاء بضمیمة ملاحظة الغلبة المذکورة هو الکشف، أی کون الحادث بعد الإجازة هو الملک من حین العقد»(3).

أقول: قد مرّ(4) إمکان هذا الوجه فی الجواب عن الإشکال الثانی للشیخ الأعظم

ص: 411


1- 1 . فوائد الاُصول /58.
2- 2 . راجع العقد النضید 3/226.
3- 3 . هدایة الطالب 3/91.
4- 4 . راجع صفحة 391 من هذا المجلد.

عن الدلیل الثانی للکشفیین بما یظهر من المحقّق الخراسانی.(1)

و أمّا الاستدلال علیه بما ذکره المحقّق الشهیدی قدس سره من ضمیمة أنّ الغالب عند المتعاقدین من أهل العرف هو تسبّب الملک من العقد و أدلة إمضاء عقد الفضولی فَهُوَ غیر تام، لأنّه أقرّ بعدم استفادة الکشف من أدلة الإمضاء، و یمکن المناقشة فی الغلبة المدعاة بأنّها فی عقد الأصیل - لا الفضولی - أو علی فرض جریانها فی الفضولی، شمول دلیل الإمضاء لها أوّل الکلام، فإذا لم تتم الضَّمِیْمَتانِ لا ینتج الدلیل.

الوجه الثامن: الکشف الحکمی

و هو مختار شریف العلماء و یراه تلمیذه الشیخ الأعظم الأنسب بالقواعد و العمومات بعد النقل.

ولکن اعترض المحقّق السیّدُ الخوئی قدس سره علیه: «بأنّ الکشف الحکمی بمعنی تنزیل غیر المالک بمنزلة المالک فی جیمع الآثار لا یکون ممکنا ثبوتا، و ذلک لأنّ المنزّل علیه فی باب التنزیل قد یکون أمرا خارجیا کقوله الفقاع خمر و الصلاة طواف(2)، و قد یکون أمرا اعتباریا شرعیّا یکون وضعه و رفعه بید الشارع، ففی القسم الأوّل یصح التنزیل - سواء کان فی بعض الآثار أو فی جمیعها - و أمّا فی القسم الثانی فلا یصح التنزیل فیه إلاّ إذا کان فی بعض الآثار و أمّا فی تمام الآثار فلا معنی للتنزیل أصلاً بل یثبت حینئذ نفس المنزّل علیه، فإذا نزلت المطلقة الرجعیة مثلاً منزلة الزوجة فی جمیع الآثار فهی زوجة حقیقة، و هکذا إذا نزل غیر الواجب بمنزلة الواجب کذلک فهو واجب و لا معنی للتنزیل. و المقام من قبیل الثانی فإنّ الملکیة الشرعیة التی هی محلّ کلامنا اعتبار شرعی، فإذا نزل غیر المالک منزلة المالک فی جمیع الآثار فلا محالة اعتبر مالکا و علیه فالکشف الحکمی بهذا المعنی فاسد ثبوتا»(3).

ص: 412


1- 1 . حاشیة المکاسب /61.
2- 2 . کذا، ولکن الصحیح الطواف صلاة، کما یظهر من التنقیح فی شرح المکاسب 1/448.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/369؛ و نحوها فی التنقیح فی شرح المکاسب 1/448؛ و مصباح الفقاهة 4/152 و 153.

أقول: أوّلاً: شریف العلماء لا یقول بترتّب جمیع آثار الملک من حین العقد حتّی یرد إشکال السیّد الخوئی قدس سره علیه، بل یقول بترتّب ما أمکن من الآثار، و هذا غیر جمیع الآثار فلا یرد الاِعتراض.

و ثانیا: ما ورد فی کلامه من تنزیل المطلقة الرجعیة «منزلة الزوجة فی جمیع الآثار فهی زوجة حقیقة عجیبٌ، لأنّها إذا کانت زوجة حقیقة فکیف یمکن وصفها بالمطلقة، و ما ذکره لیس اعتبار الموضوع تنزیلاً بل هی حقیقة و هو غیر معقول، و مراد الشارع تحقّق جمیع آثار الزوجیة فی حقّها مع عدم تحقّق موضوع الزوجیة»(1).

الوجه التاسع: الکشف الحکمی الإنقلابی

مرّ(2) تعریفه و أنّ الاُستاذ المحقّق - مد ظله - یراه: «أتقن الوجوه فی مقام الثبوت حیث لا تعارضه الأدلة العقلیة و الارتکازات العرفیة، و بناءً علیه لابدّ من الحکم بثبوت الملکیة للأصیل قبل الإجازة، و بعدها ینقلب الاعتبار و تثبت الملکیة للمشتری من بدایة العقد»(3).

أقول: یمکن أن أُورد علیه أوّلاً: الشرط لا یتأخر کما مرّ عن جمال المحقّقین(4).

و فیه: مرّ جوابه من وجود الفارق بین عالَمی التکوین و التشریع فلا نعید.

و ثانیا: عدم معقولیة ثبوت حکمین متغایرین علی موضوع واحد و زمان واحد، و إن کان زمان الحکم و الاعتبار یکون متعددا کما مرّ عن المحقّق النائینی(5).

و فیه: عدم المعقولیة ثابت فی الأحکام التکلیفیة، و أمّا الوضعیة فلا و الحکم فیها

ص: 413


1- 1 . العقد النضید 3/230.
2- 2 . راجع صفحة 400 من هذا المجلد.
3- 3 . العقد النضید 3/230.
4- 4 . حاشیة الروضة /358.
5- 5 . أجود التقریرات 2/188.

ناشئة من مصالح فی جعلها و اعتبارها کما مرّ عن السیّد الخوئی(1)»(2).

و ثالثا: الاعتباران بالنسبة إلی متعلَّق واحد فی زمانین مختلفین إنّما یتمّ فی القضایا الخارجیة و أمّا فی القضایا الحقیقیة التی لا نظر فیها إلی الخارج فلا یمکن کما مرّ(3).

و فیه: الشارع بالنسبة إلی الأحکام الوضعیة لیس بجاعل بل هو ممضٍ لما یعتبره العقلاء فیها، مضافا إلی إمکان جعلها بأنّ موضوع الاعتبار الشرعی هی الإجازة، بحیث إذا تحقّقت الإجازة اعتبر الشارع ملکیة المشتری من أوّل العقد.(4) کما عن السیّد الخوئی(5).

و رابعا: ما مرّ(6) آنفا - فی الوجه الثامن: الکشف الحکمی - من السیّد الخوئی(7) من استحالة تنزیل تمام الآثار فی الأمر الاعتباری الشرعی.

و فیه: أوّلاً: هنا اعتباران لا اعتبار واحد.

و ثانیا: اختلاف زمان الاعتبارین یکفی فی الفرق بینهما.

و خامسا: عدم تمامیة هذا الوجه فی مقام الإثبات، و الأدلة لا تشمله کما علیه الاستاذ المحقّق(8) - مد ظله - . و هذا هو الإشکال الوحید فی هذا القسم.

ولکن مع ذلک کلّه قال صاحب بشری الفقاهة - دام ظِلُّهُ - : «إذن لا محذور فی

ص: 414


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/444.
2- 2 . راجع صفحة 393 من هذا المجلد.
3- 3 . راجع صفحة 393 من هذا المجلد.
4- 4 . راجع صفحة 393 من هذا المجلد.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/446.
6- 6 . راجع صفحة 407 من هذا المجلد.
7- 7 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/369؛ و نحوها فی التنقیح فی شرح المکاسب 1/448؛ و مصباح الفقاهة 4/152 و 153.
8- 8 . العقد النضید 3/230.

الکشف [الإنقلابی] المختار ثبوتا فإنّه معقول فی نفسه و ظاهر من الأدلة المطلقة إثباتا فیتعیّن التزامه من دون حاجة إلی دلالة خاصة إثباتیة، و مع ذلک دلّت بعض الروایات الخاصة علیه و یأتی التعرض لها و تقریب دلالتها...»(1).

الوجه العاشر: الکشف الحکمی الصورتی

هذا الوجه هو ما نقله المحقّق النائینی عن اُستاذه - جدّی - آیة اللّه العظمی الحاج الشیخ محمّدباقر النجفی الأصفهانی (1301-1235) نجل العلاّمة التقی صاحب هدایة المسترشدین (1248-1185ح) و اختاره و قال: «حاصله: أنّ کلّ ما یکون موضوعا لحکم من الأحکام بتوسّط الأمر المتأخر و العنوان اللاحق بحیث کان الأمر السابق بمنزلة المادّة الهیولائیة و العنوان المتأخر بمنزلة الصورة النوعیة فمقتضی القاعدة ترتیب آثار الموضوع من أوّل تحقّقه.

مثلاً: أخذ عنوان فاضل المؤنة موضوع الخمس و ذاته یتحقّق أوّل زمان ظهور الربح، ولکن اتصافه بعنوان فاضل المؤنة إنّما هو بعد انقضاء السنة. و هکذا موضوع الزکاة فی الغلات هو بلوغ المال بعد انعقاد الحبّ حدّ النصاب ولکنّه معنون ببلوغه هذا الحدّ بعد التصفیة، فبعد التصفیة لو کان بهذا الحدّ یکشف عن تعلّق الزکاة به حین انعقاد الحبّ.

و ثمرة هذا الکشف فی باب الخمس و الزکاة هی صحة أدائهما قبل تحقّق هذا العنوان. ولو أتلفهما مَنْ تعلَّقا بماله یحسبان علیه.

و هکذا صحة بیع الزکوی متوقفة علی إخراج حقّ الفقراء، فلو أخرجه الساعی أو الوالی أینما وجده یکشف عن صحة البیع من أوّل الأمر.

و هکذا فی مسألة الرکوع فإنّه بناءً علی أن یکون من أوّل التقوّس إلی آخر حدّ الإنحناء رکوعا یتوقف اتصاف الجزء الأوّل بکونه رکوعا علی لحوق الجزء الأخیر، ولکنّه بعد اللحوق یکشف عن کونه رکوعا من أوّل الأمر.

و بالجملة: کلّ أمرٍ متأخرٍ کان بمنزلة الصورة للأمر المتقدّم، فالمتقدّم یتحقّق من

ص: 415


1- 1 . بشری الفقاهة 4/65.

أوّل الأمر، و ینکشف بهذا المتأخر وجود المتقدّم فی ظرف وجوده»(1).

و قال فی تقریره الآخر: «بأنّه کان یجمع بین الأمرین: أعنی بین مفاد قول المحقّق الثانی قدس سره بکون الإجازة مصححة للاستناد و یجعل العقد مستندا إلی المالک المجیز، و بین کون الإجازة إنفاذا للعقد السابق و موجبة لتأثیره من حین وقوعه، ثمّ کان یتعدّی عن مورد الفضولی إلی أبواب اُخر و یدعی کون الکشف الحکمی علی القاعدة»(2).

«... و قد فرّع علی ما أفاده من انطباق الکشف الحکمی علی القاعدة فروعا کثیرة من أوّل الطهارة إلی کتاب الحج فی مدّة تقرب من أربعة أشهر، و لایخفی أنّه أحسن ما افید فی المقام»(3).

ثمّ قال: «و الأجود بحسب النظر هو تتمیم الکشف الحکمی علی القواعد بالتقریب... المنقول عن الشیخ محمّدباقر قدس سره و توضیحه یتوقف علی بیان اُمور:

الأوّل: إنّ ما یوجد من موارد الشرط المتأخر بحسب ما استقصیناه هو انطباقه علی ما أسسه من ضابط الکشف الحکمی أعنی کون الأمر المتأخر کالصورة بالنسبة إلی الأمر المتقدّم و الأمر المتقدّم کالمادة الهیولائیة، کما یظهر ذلک من المراجعة إلی موارد الشرط المتأخر، مثل الإجازة بالنسبة إلی العقد، و فک الرهانة بالنسبة إلی البیع الواقع علی العین المرهونة، و أداء الزکوة و الخمس بالنسبة إلی العقد الواقع علی العین الزکوی و الخمس، و إجازة العمّة و الخالة للعقد الواقع علی بنت الأخ أو اُخت، و سائر النظائر من غیر فرق، بین ما إذا کان العقد السابق واردا علی ملک الغیر کما فی باب الفضولی، أو علی ملک العاقد الذی یکون متعلَّق حقّ الغیر کما فی باب عین المرهونة قبل إذن المرتهن.

الثانی: إنّ کلّ أمر متأخر یکون کالصورة بالنسبة الأمر المتقدّم لا یخرج عن أحد نحوین، فإمّا أن یکون بمؤداه و مدلوله ناظرا إلی تنفیذ الأمر السابق و یکون مدلوله المطابقی إنفاذه و ذلک کالإجازة و مایؤدی معناها من الإمضاء أی إنشاء الإجازة بلفظ

ص: 416


1- 1 . منیة الطالب 2/62.
2- 2 . المکاسب و البیع 2/78.
3- 3 . المکاسب و البیع 2/84.

أمضیت و نحوه و إمّا یکون متمّما للأمر السابق و موجبا لفعلیته من غیر أن یکون مدلوله المطابقی إنفاذا له، و ذلک کما فی فک الرهانة حیث أنّه لیس ناظرا إلی إنفاذ البیع السابق کالإجازة لکنّه یوجب تمامیة البیع السابق بعد تحقّق تمام أرکانه، فکم فرق بین القبض فی باب السلم مثلاً، و بین فک الرهانة فی بیع عین المرهونة، حیث أنّ القبض لا یکون موجبا لتأثیر العقد السابق بخلاف فک الرهانة فإنّ الرهن کان مانعا عن نفوذ البیع و بالفک یرتفع المانع فیؤثر البیع برفع المانع عن تأثیره.

و إن شئت فقل: ضابط ما کان الأمر المتأخر کالصورة بالقیاس إلی الأمر المتقدّم، هو کون الأمر المتأخر موجبا لرفع المنع عن تأثیر الأمر المتقدّم من غیر فرق بین أن یکون المنع لأجل ورود العقد علی ملک الغیر أو وروده علی متعلَّق حقّ الغیر، و سواء کان لسان الأمر المتأخر لسان إنفاذ الأمر السابق أو صرف رفع المانع المترتب علیه إنفاذ الأمر السابق.

الثالث: إنّ معنی الکشف الحکمی هو ترتیب الآثار السابقة علی الأمر المتأخر المترتبة علی الأمر المتقدّم من حین تحقّق الأمر المتأخر لکن لا مطلقا بل کلّما یمکن ترتیبها زمان الأمر المتأخر فبالإجازة یترتب کلّ أثر ترتب علی الملکیة من حین العقد إلی زمان الإجازة من الآثار التی مافات وقت ترتّبها وقت الإجازة، و أمّا ما لا یمکن ترتیبها حین الإجازة فلا یترتّب بالإجازة، و علی هذا فلو وقع النکاح علی إمرئة ثمَّ زُنی بها فأجازت بعد الزنا لم یکن الزنا بذات البعل إذ الزنا بها إنّما هو بالوطی ء علی إمرئة تکون فی حال الزنا بهاذات البعل و هذه المرئة بالإجازة تصیر ذات البعل، فلا یمکن ترتیب آثار الزنا بذات البعل علی الزنا بها قبل الإجازة.

الرابع: إنّ المُنْشَأ بالعقد و إنْ لم یکن مقیدا بزمان الإنشاء عقلاً کما قدمناه، بمعنی أنّه لیس الملکیة المقیدة بکونها فی حال البیع مُنْشَأةً بالإنشاء. بل الملکیة بما هی بلا تقیید بزمان هی المُنْشَأ لکن العرف یرون المُنْشَأ حاصلاً حین الإنشاء أعنی بحسب الفهم العرفی یکون المُنْشَاء هو الملکیة المقیدة بحال الإنشاء، فإذا تعلَّق بها إجازة أو ما یؤدی مؤاده یرونها بسبب الإنفاذ اللاحق حاصلة من حین الإنشاء، فالإجازة اللاحقة تؤثر

ص: 417

عندهم فی تأثیر العقد السابق من حینه لا من حین الإجازة.

الخامس: إنّ ما ورد فی الشرع ممّا یدل علی الکشف یکون إمضاء لذاک الأمر الإرتکازی العرفی، و یکون جریا علی ما یفهم العرف من الکشف الحکمی، و ذلک کخبر محمّد بن قیس(1) المتقدّم الوارد فی قضاء أمیرالمؤمنین علیه السلام فی ولیدة باعها ابن سیّدها و أبوه غائب، و فیه قال علیه السلام : فلما رأی ذلک سیّد الولیدة أجاز بیع ابنه (الخ) حیث یترتّب علی إجازة سیّد الولیدة بیع ابنه، صیرورة الولیدة أم ولد للمشتری، بمعنی أنّ الإجازة و تنفیذ البیع تصیر مَنْشَأ لترتیب هذا الأثر أعنی صیرورة الولیدة اُم الولد فی زمان ولادتها الذی هو قبل الاجازة، و کالخبر(2) الوارد فی تزویج الصغیرین فضولاً الأمر بعزل المیراث من الزوج المدرِک الذی أجاز فمات بعد الإجازة للزوجة الغیر المدرکة إلی أن تدرک و تحلف علی أنّها أجازت للزواج لا لأجل أخذ الإرث، فإنّه یترتب علی إجازتها ملکیّة سهمها من الإرث من حین وفاة الزوج.

فإن قلت: الخبر الأوّل و إن کان یلائم الکشف الحکمی لکن الثانی لا یستقیم إلاّ علی الکشف الحقیقی بمعنی تحقّق الزوجیة من حین العقد واقعا لا تحقّقها من حین الإجازة مع ترتیب آثار الزوجیة من حین العقد و ذلک لعدم استقامة الحکم بعزل سهم الزوجة لو لا الکشف الحقیقی لأنّه یکون ملکا لسایر الورثة حینئذ، و إنّما یصیر ملکا للزوجة بالإجازة، فلا وجه للحکم بعزل ما دخل فی ملک الغیر واقعا کما لا یخفی.

قلت: الحکم بالعزل حکم احتیاطی شُرِعَ لرعایة حقّ الزوجة لئلا یضیع حقّها بعد الإجازة و لا محمل له إلاّ ما ذکرناه و إلاّ فلا یستقیم حتّی علی الکشف الحقیقی أیضا، و ذلک لانتقال الملک إلی سایر الورثة بواسطة استصحاب عدم صدور الإجازة عن الزوجة أی الأصل الجاری فی إثبات عدم تحقّق الأمر المتأخر فیما إذا کان له أثر فی المتقدِّم المعبر عنه بالاستصحاب فی الاُمور المستقبلة.

ص: 418


1- 1 . وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء، صحیحة.
2- 2 . وسائل الشیعة 26/219، ح1، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج، صحیحة أبیعبیدة.

و الحاصل: إنّ المستفاد من أدلة الفضولی لیس أزید من الکشف الحکمی علی الضابط الذی مهّدناه فی تطبیقه علی القاعدة فیکون إمضاء للأمر الإرتکازی و علی هذا فیکون الکشف الحکمی مطابقا مع القاعدة فیقال به ولو فی غیر مورد الدلیل، و لا یجب فیه الاقتصار علی مورد و هو المطلوب»(1).

ولکن المحقّق النائینی مع اختیاره هذا القول و إثباته فی درسه اعترض علیه بقوله: «و فیه: أنّه إذا کان العنوان اللاحق بمنزلة الصورة و السابق بمنزلة المادّة فلابدّ من الالتزام بالنقل، لأنّ فعلیة الشی ء إنّما هی بالصورة، و بالجملة: مع دخل المتأخر فی تحقّق اتصاف السابق بوصف الموضوعیة یستحیل اتصافه بهذا الوصف قبل تحقّق المتأخر و مجردا عنه»(2).

و قال فی تقریره الآخر: «ولکنّه لا یخلو أیضا عن المنع حیث أنّ السؤال عن دخل الإجازة المتأخرة بعد باق علی حاله فیقال: ذلک الأمر المتأخر إمّا یکون دخیلاً فی نفح الصورة فی الأمر المتقدّم أو لا؟ و إن لم یکن دخیلاً یکون خلفا، و إن کان دخیلاً فلا تتحقّق له الصورة إلاّ عند تحقّق الأمر المتأخر فیجب ترتب الأثر المترتب علیه حین الأمر المتأخر لا أن یترتب علیه قبله»(3).

المناقشات

و جعل الاُستاذ المحقّق - مد ظله - هذا الاِعتراض هُوَ مناقشته الاُولی(4) علی النائینی! مع أنّه مذکور فی کلامه.

و أمّا مناقشته الثانیة و الثالثة فَهُما واردتان علی الأمر الرابع من أُمور النائینی:

فذهب من الثانیة(5) إلی عدم إمکان الجمع بین هذا الأمر و قاعدة العقود تابعة للقصود، لأنّ إذا باع البائع قاصدا به الملکیة الغیر المقیّدة کیف یحقّ للعرف أن یحمل بیعه

ص: 419


1- 1 . المکاسب و البیع 2/(89-85).
2- 2 . منیة الطالب 2/62.
3- 3 . المکاسب و البیع 2/84.
4- 4 . العقد النضید 3/216.
5- 5 . العقد النضید 3/216.

علی أنّه قاصد الملکیّة من حین العقد؟! و ما الدلیل علی حجیة هذا الحمل العرفی؟!

و ذهب فی الثالثة(1) إلی: أنّ الإرتکاز العرفی المُدعی لا یجمع مع التصریح بالکشف الحکمی بمعنی ترتب آثار الملکیة من حین العقد برغم عدم ثبوت الملکیة فی تلک الفترة!

و حاصل إشکاله الأخیر عدم إمکان الجمع بین الإرتکاز و التصریح.

الجواب عن المناقشات الثالثة

أقول: المحقّق النائینی یرفع الید عن المناقشة الأُولی و اختار قول اُستاذه و لعلّ الوجه فی ذلک: بأنّ فعلیة الهیولاء و المادة و نوعیتها تکون بالصورة و مادام لم یتحقّق الصورة لم یتحقّق المادة فعلاً بهذه الصورة الموجودة ولکن المادة قبلها موجودة فی نفس الأمر، و فی الفضولی ما لم یتحقّق الإجازة، لا یتحقّق العقد ولکن إذا تتحقّقت الإجازة وقع العقد من حینه و یترتب علیه آثاره من حین وقوعه، لا من حین الإجازة.

و أمّا المناقشة الثانیة: فَإنَّ الملکیة المطلقة عند العرف تُحمل علی وقوعها من حین العقد و هذا لا ینافی قاعدة العقود تتبع القصود کما أنّ البیع المطلق تحمل عند العرف علی النقد و الحال.

و أمّا المناقشة الثالثة: فَإنَّ الإرتکاز العرفی جارٍ بالنسبة إلی حمل الملکیة المطلقة علی وقوعها من حین العقد ولکن یقیّده بما بعد صدور الإجازة لزوم انتساب العقد إلی صاحب أمره و مالکه المعتبر عند العقلاء و الممضی بالأدلة الشرعیة.

فلا تتم الإشکالات الثلاثة و تمّ مختار الشیخ الجدّ قدس سره .

هذا کلّه بالنسبة إلی مقام الثبوت.

فذلکة الکلام حول الوجوه فی مقام الثبوت

قد عرفت استحالة الْوِجْهِ الثالث (الکشف الحقیقی التقدیری)، و الرابع (الکشف الحقیقی التامی)، و السادس (الکشف الحقیقی الدهری)، و الباقی منها فی مقام الثبوت ممکن فلابدّ من مراجعة مقام الإثبات لتعیین الوجه المختار، و الحمدللّه.

ص: 420


1- 1 . العقد النضید 3/217.
الوجوه فی مقام الإثبات
اشارة

أبحث فی هذا المقام عن الأدلة الواردة فی صحة بیع الفضولی و مدی دلالتها بالنسبة إلی أن الإجازة ناقلة أو کاشفه و فی الکشف تدلّ علی أیّ الوجوه من الوجوه الممکنة فی مقام الثبوت.

الأوّل: الإطلاقات و العمومات

نحو الآیات الثلاثِ(1)، و من الواضح أوّل زمان یصیر العقد الفضولی مصداقا لها هو زمن الإجازة فتدلّ علی النقل، لا الکشف، فلا أدری ما المراد من قول صاحب بشری الفقاهة(2) من ظهور الأدلة المطلقة فی الکشف الإنقلابی إثباتا؟!

الثانی: حدیث عروة البارقی

(3)

یدلّ علی الکشف الحقیقی الشرطی أو التعقبی لما ورد فیه من تصرف عروة فی الشاتین بالبیع و إقباض شاة إلی المشتری و قبض دینار منه، و لم ینه النبی صلی الله علیه و آله عَنْ هذه الأفعال.

ص: 421


1- 1 . سور المائدة /1؛ النساء /29؛ البقرة /275.
2- 2 . راجع بشری الفقاهة 4/65.
3- 3 . مسند احمد 4/376؛ السنن الکبری 6/112.
الثالث: صحیحة محمّد بن قیس

(1)

ظاهرة فی الکشف کما صرح به فی الدروس(2)، لأنّ المشتری وطئ الجاریة و رُزق منها الولد، و انتسب الولد إلیه و صار ابنه و صارت الجاریة أُمّ ولده، و لم ینه أمیرالمؤمنین علیه السلام من هذه الاُمور، ولکنّها ظاهرة فی أقسام الکشف الحقیقی الممکنة فی مقام الثبوت، کما یمکن حملها علی الکشف الحکمی الصورتی کما مرّ من المحقّق النائینی.(3)

الرابع: فحوی مادلّ علی صحة نکاح الفضولی

(4)

یدلّ علی النقل لا الکشف، لعدم جواز ترتّب آثار الزوجیة قبل الإجازة و الإذن.

الخامس: الروایات الواردة فی الإتجار بمال الیتیم

(5)

تدلّ علی الکشف فی بعض محتملاته - و هو ظهور إذن الولی بعد الربح للأجنبی فی الإتجار بمال الیتیم - ولکن الکشف الحقیقی بأقسامه الأربعة الممکنة.

السادس: معتبرة مسمع أبیسیّار

(6)

تدلّ علی الکشف الحقیقی بأقسامه الممکنة.

السابع: بیع عقیل دور النبی صلی الله علیه و آله و بنیهاشم

(7)

هذه الواقعة لا تدلّ علی أکثر من النقل.

ص: 422


1- 1 . وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
2- 2 . الدروس 3/233.
3- 3 . المکاسب و البیع 2/88.
4- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 200.
5- 5 . راجع هذا المجلد، صفحة 217.
6- 6 . وسائل الشیعة 19/89، ح1، الباب 10 من أبواب کتاب الودیعة.
7- 7 . راجع هذا المجلد، صفحة 250، الوجه الثانیعشر.
الثامن: التصدق بمجهول المالک و اللقطة

(1)

یدلّ علی الکشف الحکمی بأقسامه الثلاث.

التاسع: أخبار تحلیل خمس فی الموارد الخاصة

(2)

تدلّ علی الکشف الحقیقی لوجود التصرفات فیها قبل إجازة الإمام علیه السلام ، بوجوه الممکنة.

العاشر: إجازة السیّد عقد العبد

(3)

ظاهرة فی الکشف الحقیقی بأقسامها الممکنة.

الحادی عشر: صحیحة أبیعبیدة

(4)

«ظاهرة فی قول الکشف، إذ لو کان مال المیت قبل إجازة الزوجة باقیة علی ملک سائر الورثة کان العزل مخالفا لقاعدة تسلّط الناس علی أموالهم...»(5).

کما یمکن حملها علی الکشف الحکمی الصورتی کما مرّ من المحقّق النائینی.(6)

فذلکة القول فی مقام الإثبات

قد عرفت نهوض الدلیل علی الکشف الحقیقی بأقسامه الممکنة - و لاأقل من القسمین الأوّلین - و علی الکشف الحکمی الصورتی، فلابدّ من القول بالکشف بهذه الأقسام الثلاثة أعنی الکشف الحقیقی الشرطی أو الکشف الحقیقی التعقبی أو الکشف الحکمی الصورتی، فاختر أیّ منها شئت، و الحمدللّه الکاشف بالتوفیق عن المبهمات، الواهِب لما یَشاءُ تحقیق الحقّ بالأدِلّة البیّنات.

ص: 423


1- 1 . راجع هذا المجلد، صفحة 253، الوجه الرابع عشر.
2- 2 . راجع هذا المجلد، صفحة 255، الوجه الخامس عشر.
3- 3 . راجع هذا المجلد، صفحة 257، الوجه السادس عشر.
4- 4 . وسائل الشیعة 26/219، ح1، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج.
5- 5 . المکاسب 3/409.
6- 6 . المکاسب و البیع 2/88.

ثمرة النزاع بین الکشف و أقسامه و النقل

اشارة

هاهنا جهات ثلاث لابدّ من البحث حولها:

الجهة الاولی: الثمرة بین قسمی الکشف الحقیقی

و هما الأولان من أقسام الکشف الحقیقی أی الشرطی و التعقبی، ذهب الشیخ الأعظم بأنّ الثمرة بینهما «یظهر فی جواز التصرف کلّ منهما [أی من المتعاقدین] فیما إنتقل إلیه بإنشاء الفضولی إذا علم إجازة المالک فیما بعد»(1) بناءً علی التعقبی دون الشرطی.

و ظاهر کلامه: إنّ التصرف فیما إنتقل إلیه قبل الإجازة بناءً علی شرطیة الإجازة [القول الأوّل] حرام واقعا لأنّه تصرفٌ فی مال الغیر، و أمّا بناءً علی أنّ الشرط هو تعقب العقد بالإجازة [القول الثانی] فلا، لأنّ الإجازة تکشف عن أنّ العقد کان ملحوقا و متعقّبا بالإجازة واقعا، فیجوز التصرف واقعا.

و فیه: کلامه بالنسبة إلی التعقبی کلام متین و أمّا بالنسبة إلی الشرطی فلا، و لابدّ بأن یلتزم بإباحة التصرفات فیه واقعا، لأنّ فی الکشف الحقیقی الإجازة بوجودها المتأخر تؤثر فی الملکیة المتقدمة و تکشف عن الملکیة حال العقد فَتَجُوْزُ التصرفات واقعا. هذا أوّلاً.

ص: 424


1- 1 . المکاسب 3/410.

و ثانیا: إنّ قوله هنا مُنافٍ لِما یأتی لاحِقا منه: «فإن الوط ء علی الکشف الحقیقی حرام ظاهرا لأصالة عدم الإجازة، حلال واقعا لکشف الإجازة عن وقوعه فی ملکه»(1).

وجه التنافی: حکم أوّلاً بعدم حلیة التصرفات بناءً علی الکشف الحقیقی فیما إذا کان الإجازة شرطا، و ثانیا حکم بحلیة مثل الوط ء واقعا بناءً علی الکشف الحقیقی الشرطی. و القولان متنافیان(2).

و بالجملة: لم تظهر الثمرة بین قولی الکشف الحقیقی، لأنّها بناءً علی الشرطی تکون تصرفات المشتری إذا علم بلحوق الإجازة حلال ظاهرا و واقعا لتحقّق الملکیّة من حین العقد بعد الإجازة، و إن لم یعلم بلحوقها فإنّ تصرفاته محرّمة ظاهرا و محلّلة واقعا.

و أمّا بناءً علی التعقبی: فَالتصرفات - إذا علم بلحوق الإجازة - کانت محلّلة واقعا و ظاهرا لتحقّق الملکیة من حین العقد إذا لحقه الإجازة، و أمّا إذا لم یعلم بلحوق الإجازة فتکون تصرفاته محلّلة واقعا - إذا لَحِقَتْها الإجازة - و حَراما ظاهرا بمقتضی استصحاب عدم تحقّقها.

و الحاصل: لم تتحقّق الثمرة بین الکشف الحقیقی الشرطی و التعقبی خلافا للشیخ الأعظم قدس سره .

الجهة الثانیة: الثمرة بین الکشف الحقیقی و الحکمی

اشارة

قال الشیخ الأعظم: «و أمّا الثمرة بین الکشف الحقیقی و الحکمی مع کون نفس الإجازة شرطا یظهر فی مثل ما إذا وطئ المشتری الجاریة قبل إجازة مالکها فأجاز، فإنّ الوط ء علی الکشف الحقیقی حرام ظاهرا، لأصالة عدم الإجازة، حلال واقعا لکشف الإجازة عن وقوعه فی ملکه»(3).

ص: 425


1- 1 . المکاسب 3/410.
2- 2 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/451؛ و محاضرات فی الفقه الجعفری 2/371؛ کتاب البیع 2/252 للسیّد الخمینی رحمه الله .
3- 3 . المکاسب 3/410.

أقول: قد مرّ آنفا تنافی هذا القول - أی الحلیة الواقعیة - بناءً علی الکشف الحقیقی مع ما مرّ منه من الحرمة الواقعیة.

نعم، ما أفاده بناءً علی الکشف الحکمی من حرمة الوط ء واقعا تام، لأنّ قبل الإجازة الأمة باقیة علی ملک مالکها فیکون الوط ء فی غیر الملک و هو حرام ولو فرضناه عالما بأنّه سیعتبر مالکا لها، فالحرمة الواقعیة و الظاهریة - لأصالة عدم تحقّق الإجازة - جاریتان فی المقام.

و بالجملة: بناءً علی قولی الکشف الحقیقی الوط ء حرام ظاهرا و حلال واقعا، و علی الکشف الحکمی یکون حراما ظاهرا و واقعا. لعدم إمکان جریان الحلّیّة فی التصرف الواقع فی ملک الغیر.

ثمّ إنّ هاهنا فَرْعَیْنِ: تظهر الثمرة فیهما:
الفرع الأوّل:

ما قالَهُ الشیخ الأعظم: «ولو أولدها صارت اُمّ ولد علی الکشف الحقیقی و الحکمی لأنّ مقتضی جعل العقد الواقع ماضیا ترتّب حکم وقوع الوط ء فی الملک، و یحتمل عدم تحقّق الاستیلاد علی الحکمی، لعدم تحقّق حدوث الولد فی الملک و إن حکم بملکیّته للمشتری بعد ذلک»(1).

أقول: بناءً علی قولی الکشف الحقیقی لا إشکال فی صیرورة أمة اُمّ ولدا بالاستیلاد لأنّ الإجازة کاشفةٌ عن وقوع الوط ء فی ملک الواطی ء فتصیر الأمة اُم ولدٍ له.

و أمّا بناءً علی الکشف الحکمی فیحتمل الشیخ الأعظم احتمالین:

الأوّل: الأمة تصیر اُمّ ولد بالاستیلاد للزوم ترتیب أحکام الملکیة السابقة التی منها صیرورة الأمة اُمّ ولدٍ للمشتری.

الثانی: عدم صیرورتها اُمّ ولد لوقوع الوطی فی ملک الغیر، لأنّ من شرائط الاستیلاد وقوع الوطی فی ملک الواطی و حلّیته.

ص: 426


1- 1 . المکاسب 3/410.

وَ أصرّ المحقّق الإیروانی(1) رحمه الله علی الاحتمال الأوّل و أنّ الاستیلاد صحیح بدعوی أنّ الکشف الحکمی مشترک مع الکشف الحقیقی فی جمیع الآثار غایة الأمر أنّه محتاج إلی التنزیل دون الکشف الحقیقی.

و تبعه السیّد الخمینی(2) قدس سره .

ولکن المختار هو الاِحتمال الثانی لأنّ ظهور أدلة استیلاد الأمة یکون علی الوط ء الحلال، حین الوط ء، و حیث بناءً علی الکشف الحکمی یکون الأمة ملکا للغیر قبل الإجازة، فیقع الوط ء فی ملک الغیر فیکون حراما، فلا یتحقّق شرط الاستیلاد.

کما مرّ(3) من المحقّق النائینی قوله فی ترتیب الآثار الممکنة علی الکشف الحکمی: «فلو وقع النکاح علی إمرأة [فضولاً] ثمّ زُنی بها فأجازت بعد الزنا، لم یکن الزنا بذات البعل، إذ الزنا بها إنّما هو بالوطی ء علی إمرأة تکون فی حال الزنا بها ذات البعل و هذه المرأة بالإجازة تصیر ذات البعل، فلا یمکن ترتیب آثار الزنا بذات البعل علی الزنا بها قبل الإجازة»(4).

و قال: «... فالحقّ عدم صیرورة الموطوءة اُمّ ولدٍ بناءً علی الکشف الحکمی لأنّه إذا حرم علیه الوط ء واقعا لعدم کونها ملکا له فبالإجازة لا یمکن ترتیب هذا الأثر من حین العقد، لأنّ کون الموطوءة اُمّ ولدٍ مترتّب علی الملک، لا علی ما هو فی حکم الملک، ولو قلنا بأنّ الکشف الحکمی مطابق للقاعدة لأنّه لیس للمالک قلب الحرمة إلی الحلّیّة، و لا قلب غیر الملک إلی الملک، بل له إنفاذ ما وقع بالنسبة إلی الآثار التی یکون العقد بالنسبة إلیها تمام الموضوع... و هذا لا ینافی کون ولدها حرّا لأنّ الولد من النماء»(5).

أقول: الوط ء لابدّ أن یکون فی الملک حتّی یتحقّق الاستیلاد شرعا، و الزنا لابدّ أن

ص: 427


1- 1 . حاشیته علی المکاسب 2/216.
2- 2 . کتاب البیع 2/253.
3- 3 . راجع صفحة 412 من هذا المجلد.
4- 4 . المکاسب و البیع 2/87.
5- 5 . منیة الطالب 2/68.

یقع علی ذات البعل حتّی تتحقّق الحرمة الأبدیة و حدّ القتل، و حیث فی الموردین لم یتحقّق الملک و لا ذات البعل فلا یتحقّق الاستیلاد و لا الحرمة الأبدیة و القتل.

الفرع الثانی:
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «ولو نقل المالک [اُمّ] الولد عن ملکه قبل الإجازة فأجاز، بطل النقل علی الکشف الحقیقی، لانکشاف وقوعه فی ملک الغیر - مع إحتمال کون النقل بمنزلة الردّ - و بقی صحیحا علی الکشف الحکمی، و علی المجیز قیمته [قیمتها]، لأنّه مقتضی الجمع بین جعل العقد ماضیا من حین وقوعه و مقتضی صحة النقل الواقع قبل حکم الشارع بهذا الجعل، کما فی الفسخ بالخیار مع انتقال متعلَّقه بنقلٍ لازم»(1).

اختلفت أنظار الأعلام حول ما هو الأرجح فی ضبط عبارة الشیخ الأعظم هل هی: «اُمّ الولد... و علی المجیز قیمتها»، أو «الولد... و علی المجیز قیمته»، و الفقهاء المامقانی(2)، و الیزدی(3)، و النائینی(4) و الإیروانی(5) علی الأوّل.

و الإشکوری(6) و الأصفهانی(7) و الخوئی(8) علی الثانی.

و نحن نبحث الفرع و ظهور الثمرة فیه علی النسختین:

النسخة الاُولی: «لو نقل المالک اُمّ الولد... و علی المجیز قیمتها».

توضیحها: لو نقل المالک أُمّ الولد - التی باعها الفضولی و وطأها المشتری و

ص: 428


1- 1 . المکاسب 3/411.
2- 2 . غایة الآمال /380.
3- 3 . حاشیته علی المکاسب 2/188.
4- 4 . منیة الطالب 2/69 و 70.
5- 5 . حاشیته علی المکاسب 2/260.
6- 6 . بغیة الطالب 385/1.
7- 7 . حاشیته علی المکاسب 155/2.
8- 8 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/459؛ محاضرات فی الفقه الجعفری 2/378؛ مصباح الفقاهة 4/166.

صارت ذات ولدٍ منه - عن ملکه ببیعٍ أو هبةٍ قبل أن یُجیز عقد الفضولی ثمّ أجازه:

بناءً علی الکشف الحقیقی - و علی جهل المالک بالبیع الفضولی - یحتمل الأمران:

الأوّل: بطلان النقل

لأنّ الإجازة المتأخرة کشفت عن دخول أُمّ الولد فی ملک مَن اشتراها من الفضولی من حین بیعها منه، فنقلُ المالک لأُم الولد نقلٌ لمالِ الغیر و هو غیر نافذ، فیحکم ببطلانه، و صحة بیع الفضولی بعد الإجازة.

الثانی: صحة النقل

لأنّ نقل المالک أَمَتَهُ قبل إجازة بیع الفضولی، یکون ردّا له، فیصح النقل و تبطل الإجازة لعدم وجود موضوع لها. لأنّ الأمة تنتقل إلی من اشتراها من مالِکِها لا من الفضولی.

و أمّا لو کان المالک عالما ببیع الفضولی و نقل الأمة إلی الغیر بهبةٍ أو بیعٍ، یکون هذا النقل ردّا لبیع الفضولی قطعا.

و بنا علی الکشف الحکمی: فیصحّ نقل المالک لأُمّ الولد، لأنّها باقیة علی ملکه، و إذا أجاز بیع الفضولی یکون صحیحا فیتحقّق من المالک عقدان صحیحان علی المبیع الواحد الشخصی - أی الأمة - فیتعیّن تسلیم الأمة إلی المشتری من الفضولی، و دفع قیمتها إلی من نقلها المالک إلیه.

نظیر تصرّف من علیه الخیار فی المبیع الخیاری بناقل لازمٍ إذا فسخ ذو الخیار بعد ذلک، حیث حکموا بصحة التصرف الناقل و بصحة الفسخ و اشتغال ذمّة مَنْ علیه الخیار بالبدل من المثل أو القیمة.(1) هذا کلّه بناءً علی النسخة الاُولی.

و أمّا النسخة الثانیة: «لو نقل المالک الولد... و علی المجیز قیمته».

فتوضیحها: لو نقل المالک الولد ثمّ أجاز بیع الفضولی فعلی الکشف الحقیقی

ص: 429


1- 1 . راجع هدی الطالب 5/85.

یبطل نقل الولد، لأنّ الإجازة کشفت عن کون الأمة و ولدها ملکا للمشتری من حین العقد، و نقل المالک للولد تصرّف فی ملک الغیر فیبطل.

و احتمل أن تکون الإجازة لغوا و بیع النماء [الولد] یکون ردّا للعقد الفضولی فیقع بیع الولد صحیحا لا محالة.

و بناءً علی الکشف الحکمی: یصحّ نقل الولد، لأنّه یکون نماءً لملکه و لم یتعلّق به حقّ غیره. و حیث أجاز بیع الفضولی للأمة فقد أتلف علی المشتری نماءها فیضمن المالک له بدله فیجب دفع قیمة الولد إلی المشتری.

هذا توضیح ما ذکره الشیخ الأعظم فی المقام.

أقول: التصرفات الصادرة من المجیز قبل الإجازة علی قِسْمَیْنِ:

الأوّل: التصرفات المنافیة للعقد الفضولی

و هی التصرفات التی لا یبقی معها محلٌّ للإجازة، کما إذا زُوّجت المرأةُ فضولاً ثمّ أنّها مع الجهل بالعقد الفضولی زَوّجتْ نفسَها من آخر، التزویج الثانی ینافی العقد الفضولی و لا یبقی معه محلٌّ للإجازة و یکون ردّا عملیّا للعقد الفضولی، إذا لایمکن تزویج المرأة من زوجین فی زمان واحد.

و أمّا مع العلم بالعقد الفضولی فإقدامها علی التزویج الثانی یعدّ ردّا لما أصدره من الفضولی قطعا.

إن قلت: یمکن أن یقال عکس ما ذکرنا بأنّ الإجازة المتأخرة تکشف عن العقد الثانی بأنّه وقع علی زوجة الغیر فیکون باطلاً و العقد الفضولی یکون تامّا.

قلت: المرأة تکون ذات اختیار و زوّجت نفسها من الثانی فشملتها العمومات فیصح عقدها. و بعد الحکم بصحة العقد الثانی لا یبقی محلٌّ للإجازة المتأخرة للعقد الفضولی لبطلان العقد علی المرأة المتزوّجة من الغیر. و لما مرّ فی باب الأمارات من الاُصول من أنّ الموضوع لأحد الدلیلین إذا کان تنجیزیّا و متحقّقا بالفعل فلا محالة یترتّب علیه حکمه و لایبقی محلّ لموضوع الدلیل الثانی المتوقف علی عدم موضوع الدلیل الأوّل.

ص: 430

و الحاصل: الأدلة العامة فی عقد الفضولی إنّما توجب صحة الفضولی من جهة استناده إلی من یملک أمر العقد، و هذا الاستناد لایتحقّق مع العقد الثانی فلا تشمله العمومات. و الأدلة الخاصة فی صحة الفضولی لا إطلاق لها حتّی تشمل ما نحن فیه.

و لا فرق فی ما ذکرناه بین کشفی الحقیقی و الحکمی.

الثانی: التصرفات غیر المنافیة للعقد الفضولی

و هی التصرفات التی یبقی معها محلٌّ للإجازة کما إذا باعَ المالکُ أمَتَهُ أو وهبها أو صالحها أو أعتقها ثمَّ علم أنّ الفضولی قد باعها من آخر فأجاز بیع الفضولی.

هذا التصرف لیس منافیا للعقد الفضولی لأنّ بقاء العوضین لیس شرطا فی الإجازة فلایعتبر وجودهما حین استناد العقد إلی المالک، لأنّ مع عدم بقائه ینتقل إلی البدل.

و الوجه فی ذلک: أنّ الإجازة کالفسخ و الردّ تتعلّق بالعقد و إن کان الردّ دفعا و الفسخ رفعا من حینهما و هما مشترکان فی تعلّقهما بالعقد. و تتبعهما الإجازة فالمعتبر أن یکون المجیز مالکا حین العقد لا حین الإجازة و إلاّ فلا تعقل الإجازة بناءً علی الکشف الحقیقی لأنّ المفروض أنّ المشتری صار مالکا للمال من حین العقد فالمال یکون ملکا له حین الإجازة و کان خارجا عن ملک المجیز حین الإجازة فلا یقبل الإجازة منه، فالمعتبر أن یکون المجیز مالکا للمال حین العقد لا حین الإجازة.(1)

و ممّا ذکرناه یَظْهَرُ عدم تمامیة مقالة المحقّق النائینی من الحکم بلغویة الإجازة فی ما نحن فیه لأنّ «المالک یجوز له التصرف فی متعلّق عقد الفضولی ولو کان عالما بصدور العقد منه، فإذا جاز له التصرف نفذ تصرفه و إذا نفذ فلا یبقی محلّ للإجازة لصیرورة المالک إجنبیّا»(2).

و قال المحقّق السیّد الخوئی فی مقالة استاذه: «و السرّ فیما أفاده أنّ الإجازة عنده

ص: 431


1- 1 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/456.
2- 2 . منیة الطالب 2/69.

تتعلّق بالعین لا بالعقد و من الواضح أنّ البیع أو العتق أو غیرهما من التصرفات الناقلة تخرج العین عن ملک المجیز فلا یبقی مجال للإجازة لانتفاء متعلّقها و موضوعها»(1).

أقول: وجه الظهور ما مرّ منّا من أنّ الإجازة کالفسخ و الردّ تتعلّق بالعقد لا بالعین.

ثمّ بناءً علی الکشف الحقیقی حیث لا یکون هذا التصرف - النقل أو العتق - منافیا للعقد الفضولی و یبقی محلّ الإجازة و أجاز المالک ینتقل المال - الأمة - إلی المشتری من حین العقد فیبطل النقل أو العتق کما احتمله الشیخ الأعظم(2) أوّلاً.

و أمّا بناءً علی الکشف الحکمی فانتقال المال - الأمة - إلی المشتری یکون بعد الإجازة فیکون المال باقیا علی ملک مالکه و انتقله إلی الغیر أو أعتقها فالإنتقال و العتق یکونان تامان. و کذلک الإجازة نافذة للعقد الفضولی و حیث أنّ المالک أتلف المال علی المشتری بالإنتقال أو العتق، فینتقل حقّ المشتری بالبدل من المثل أو القیمة. و هذا هو مقتضی الجمع بین الأدلة الدالة علی صحة تصرفات المالک فی ماله و بین أدله وجوب الوفا بالعقد بعد الإجازة.

هذا کلّه علی النسخة الأُولی أی أُم الولد.

و أمّا علی النسخة الثانیة أی الولد

فأقول: علی القول بالکشف الحقیقی: و جهل المالک بالبیع الفضولی لو نقل أو أعتق الولد [النماء] إلی الغیر ثمّ أجاز البیع الفضولی یبطل نقله أو عتقه، لأنّ بالاجازة تکشف عن ملکیة العین و بتبعها النماء [الولد] للمشتری، فالمالک باع ملک الغیر فیکون باطلاً أو لاأقلَّ مِنْ أَنْ یکون فضولیّا.

و أمّا احتمال صحة نقل الولد و لغویة الإجازة و بطلان الفضولی الذی ذکره الشیخ الأعظم لا یجری عندنا لأنّ مجرد بیع النماء [الولد] و التصرف فی منافع المبیع لایمکن أن یکون ردّا فعلیّا للمعاملة الصادرة فضولة، و السرّ فی ذلک أنّ الردّ کالإجازة من الاُمور

ص: 432


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/456.
2- 2 . المکاسب 3/411.

القصدیة، فاذا کان المالک جاهلاً بوقوع المعاملة الفضولیة أو باع النماء مع بنائه علی الإجازة لا یعدّ ذلک إنشاءً للردّ.

نعم، لو کان المالک عالما بالبیع الفضولی و قصد بنقل النماء [الولد] ردّ المعاملة الفضولیة یکون ذلک ردّا و یقع نقل النماء [الولد] صحیحا.

و أمّا بناءً علی الکشف الحکمی: و جهل المالک بالبیع الفضولی، فیکونُ تصرف المالک فی الولد [النماء] فی ملکه و یقع صحیحا إلاّ أنّه یدفع قیمة النماء [الولد] إلی المشتری بعد إجازة البیع، لدخول النماء [الولد] فی ملک المشتری بعد الإجازة و مقتضی الجمع بینهما هو الحکم بصحة النقل و تغریم القیمة للمشتری.

ولکن استشکل المحقّق النائینی علی ما ذکرناه - و هو توضیح لمقالة الشیخ الأعظم - بقوله: «... أنّ مثل هذا النماء المنفصل المستقل لا وجه لکونه تبعا للعین، فلو أجاز بیع الاُمّ فبناءً علی الکشف الحقیقی یصحّ أن یقال: الولد للمجاز له تبعا، لأنّه حدث فی ملکه. و أمّا بناءً علی الکشف الحکمی فالمفروض أنّه لم یحدث فی ملکه و إنّما یحکم تعبدا أو قاعدةً أنّه فی حکم حدوثه فی الملک، و هذا التعبد أو القاعدة إنّما یصح إذا کان للإجازة محلّ، و بعد صحة النقل لایتعلّق للمجاز له حقّ به حتّی یجب علی المجیز بدله جمعا بنی الحقّین»(1).

و أجابه تلمیذه السیّد الخوئی بقوله: «هذه المناقشة ظاهرة الاندفاع، لأنّ الحکم بالملکیة لیس بلحاظ حال الانعدام، و إنّما هو بلحاظ حال الوجود، فمن الآن یحکم بأنّ الموجود سابقا ملک للمشتری فیترتّب علیه وجوب دفع القیمة»(2).

و قال فی تقریره الآخر: «لأنّ زمان الإنتقال و إن کان هو زمان الإجازة ولکن تنتقل العین بالإجازة من زمان العقد فیترتب جمیع أحکام الملکیة من ذلک الزمان تنزیلاً علی الکشف الحکمی و تحقیقا علی ما ذکرنا من الکشف الحقیقی، و إذن فیکون المالک

ص: 433


1- 1 . منیة الطالب 2/70.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/459.

ضامنا بالنماءات لو أتلفها و مع نقلها إلی الغیر فیکون المقام أیضا من صغریات تعاقب الأیدی کما عرفت فی الکشف الحقیقی و هذا واضح جدّا»(1).

و قال: «و المراد بالولد هو ولد الحیوان لا ولد الأمة فإنّه حرّ علی الکشف الحقیقی، و هکذا لو کانت النسخة اُمّ الولد فإنّ اُم الولد لا یجوز بیعها فی نفسها إلاّ فی الموارد المنصوصة»(2).

أقول: الظاهر أنّ المراد بالولد هو ولد الأمة لا ولد الحیوان بقرینة الفرع الأوّل - أی الاستیلاد - فیکون «ال» فی الولد للعهد الذهنی بالاستیلاد. و ولدها فی بعض الفروع یکون عبدا کما فی بعضها یکون حرّا.

هل النسخة الصحیحة هی أُمّ الولد أو الولد؟

الظاهر أنّ النسخة الصحیحة هی الولد لاِءَنَّهُ علی فرض اشتمال النسخة علی کلمة الاُمّ یلزم التهافت بین هذه العبارة و ما ذکره الشیخ الأعظم فی نفس الصفحة بعد أسطر من قوله: «و إن نافی الإجازة کإتلاف العین عقلاً أو شرعا - کالعتق - فات محلّها»(3).

لأنّه صریح فی أنّ تصرف المالک فی العین علی الکشف الحکمی مفوّت لمحل الإجازة، و أمّا العبارة السابقة - بناءً علی اشتمالها علی کلمة الأُمّ لیکون التصرف فی العین - فهی صریحةٌ بصحة تصرفه مع بقاء محلّ الإجازة و نفوذها لیکون علی المجیز قیمة ما نقله. فلابدّ أن تکون العبارة الأُولی ناظرة إلی تصرفه فی النماء فلا یفوت به محلّ الإجازة علی الکشف الحکمی، و العبارة الأخیرة ناظرة إلی تصرف المالک فی العین فیفوت به محلّ الإجازة، و هذا هو الذی یقتضیه حفظ مقام المصنف قدس سره ، کما نبّه علیه المحقّق السیّدُ الخوئی(4).

ص: 434


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/166.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/378.
3- 3 . المکاسب 3/411.
4- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/378؛ التنقیح فی شرح المکاسب 1/459.

أقول: و الشاهد علیه کلام الشیخ الأعظم فی أوّل «مسألة فی أحکام الردّ»(1) فراجعه و انتظر.

فذلکة القول فی حکم التصرفات الصادرة من المشتری

فی ما انتقل إلیه فضولة قبل الإجازة:

بناءً علی النقل: لا إشکال فی حرمة تصرفات المشتری قبل الإجازة ظاهرا و واقعا لأنّه تصرّف فی مال الغیر. و أمّا بحسب الوضعی أیضا تصرفاته باطل، نعم یکون فضولیا فلو أجاز المالک معاملته السابقة یدخل فی مسألة مَنْ باع شیئا ثمّ ملکه و سیاتی بحثه.

و أمّا بناءً علی الکشف الحقیقی: و بعد صدور الإجازة یکشف أن تصرفات المشتری قبلها کانت جائزة تکلیفا واقعیا و نافذة وضعا واقعا، نعم، تکون محرّمة ظاهرا لاستصحاب عدم لحوق الإجازة، فیکون المشتری متجریا فی الظاهر فقط، و لذا لو کانت تصرفاته عبادیا کالوضوء و الغسل بالماء المبیع فضولة یقع فاسدا لمنافاة الحرمة الظاهریة مع قصد القربة، إلاّ إذا کان جاهلاً بها.

و أمّا بناءً علی الکشف الحکمی: فتکونُ تصرفاته قبل الإجازة حراما تکلیفا واقعیا و ظاهریا لأنّه تصرّف فی مال الغیر و استصحاب عدم لحوق الإجازة.

و أمّا الحکم الوضعی فیها و إن کانت تصرفا فی ملک الغیر حدوثا ولکن بحسب البقاء - و بعد الإجازة - ملکٌ للمشتری فیجوز تصرفاته فیه و یمضی.

نعم، لا یتحقّق الاستیلاد و لا الزنا بذات البعل لأنّهما یتحقّقان من المملوک و الزوجة الفعلیین دون ما سیکون مملوکا أو زوجة. هذا فی الموردین بجهة ا لحکم الوضعی و أمّا وطی ء الأمّة یکون حراما تکلیفا لأنّه فی غیر ملک و الإجازة الآتیة لایحلّله لأنّ الشی ء لا ینقلب عمّا هو علیه کما مرّ.

ص: 435


1- 1 . المکاسب 3/477.

الجهة الثالثة: الثمرة بین الکشف و النقل

اشارة

و هی متعددة:

الاُولی: النماء
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «فإنّه علی الکشف بقولٍ مطلقٍ - أی بأقسامه المختلفة - لِمَنْ إنتقل إلیه العین، و علی النقل لِمَنْ انتقلت عنه»(1).

و المراد بالنماء فی کلامه نماء المنفصل للعین المبیعة، و هو بناءً علی الکشف یکون لمشتری العین و بناءً علی النقل یکون لمالکها و هذا واضح لا ارتیاب فیه.

ولکنْ للشهید الثانی رحمه الله فی المقام کلام یحتاج إلی توجیه لأنّه قال: «... و تظهر الفائدة فی النماء. فإن جعلناها کاشفة فالنماء المنفصل المتخلل بین العقد و الإجازة الحاصل من المبیع للمشتری، و نماء الثمن المعین للبائع، ولو جعلناها ناقلة فهما للمالک المجیز»(2).

قال المحقّق جمال الدین الخوانساری فی حاشیته علی الروضة: «فقوله: «فهما للمالک المجیز»، کماتری إلاّ [1] أنّ یفرض کون العقد فضولیا من الطرفین و یکون المراد بکونهما للمالک المجیز کون کلٍّ منهما للمالک أصله المجیز. و فیه تکلّف.

[2] أو یقال: إنّ المراد أنّ کلاًّ منهما للمالک المجیز ولو فی صورتین. فنماء المبیع للبائع عند کونه فضولیا من قِبله، و نماء الثمن للمشتری إذا کان فضولیا من قِبله. و لم یتعرّض لنماء الطرف الآخر لظهوره بالمقایسة و لا یخفی بُعده.

[3] و یمکن أن یقال: فی صورة کون أحد الطرفین فضولیا: إنّ الطرف الآخر قد رضی و أجاز من حین العقد فَوَقع الانتقالُ من طرفه، و إنّما یبقی التزلزل من الطرف الآخر، فلا ینتقل منه إلاّ بعد الإجازة، و حینئذ فیکون نماءُ کلٍّ منهما قبل الإجازة للمالک المجیز، و فیه إشکال...»(3).

ص: 436


1- 1 . المکاسب 3/411.
2- 2 . الروضة البهیة 3/229.
3- 3 . حاشیة الروضة /358، الطبعة الحجریة، لآقا جمال الخوانساری.

ولکن قال الفقیه السیّدُ العاملی بعد نقل عبارة الروضة:«و فیه خفاءٌ. أمّا نماء المبیع فظاهرٌ. و أمّا الثمن فلأنّه انتقل عن المشتری من حین العقد بقبوله. و تصرف المشتری فی ملکه لایتوقف علی إجازة غیره»(1).

أقول: هذا الکلام قریب من التوجیه الثالث للمحقّق الخوانساری و هو: «أن یکون نماء کلّ من العوضین لشخص واحد علی القاعدة کما إذا کان البیع من طرف المبیع فضولیّا دون غیره، فیکون نماء المبیع للمالک المجیز لحدوثه فی ملکه و یکون نماء الثمن له أیضا لإقدام المشتری علی تملیکه له بإقدامه علی الشراء من الفضولی»(2).

و یری الشیخ الأعظم توجیه الأوّل من المحقّق جمال الدین الخوانساری - الذی هو توجیه المراد بحمله علی خلاف الظاهر - اُولی من توجیه الثالث فی کلامه و هو قریب من توجیه الفقیه السیّدِ العاملی - الذی هو توجیه الحکم مع التحفظ علی ظاهر الکلام - .

و لعلّ وجه الاُولویة فی کلامه: أنّه یرد علی التوجیه الأوّل أن یکون خلافا للظاهر فقط، لأنّ قوله: «فهما للمالک المجیز» ظاهر فی کون کلا النمائین لشخص واحد.

ولکن یردّ علی التوجیه الثالث: «أوّلاً: یمکن أن لایکون المشتری عالما بالفضولیة، بل تخیّل أنّ البائع مالک أو ولیّ أو وکیل.

و ثانیا: یمکن أن یکون الشراء أیضا فضولیا کالبیع.

و ثالثا: الاقدام علی التملیک لیس أحد المملکات.

و رابعا: المشتری لم یقدم علی تملیک النماء للبائع مجانا و إنّما أقدم علی تملیکه بعوض»(3).

و الحاصل: هذا التوجیه الثالث لا یتم صغریً و کبریً:

أمّا الصغری: «فلأنّ الشراء قد یکون فضولیّا کالبیع فلم یُقدم مالک الثمن علی التملیک، و قد یکون المشتری أصیلاً لکنّه جاهل بکون المعاملة فضولیة، و قد یکون

ص: 437


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/608.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/380.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/380.

عالما بذلک ولکنّه اشتری بمال الصغیر الذی تحت ولایته فهو لم یقدم علی تملیک مال نفسه و إنّما أقدم علی تملیک مال الصغیر خلافا للمصلحة»(1).

و أمّا الکبری: «فلأنّ الإقدام لیس من أحد المملِّکات فی الشریعة المقدسة.

نعم، فی التسلیط الخارجی کلام بین الأعلام ولکنّه غیر المقام أعنی المعاملة الفضولیة کما لا یخفی»(2).

فرعٌ: تصرف المالک فی النماء

لو أقدم الفضولی علی بیع العین و تصرّف المالک فی نمائها کالثمرة أو البیض أو نحوهما. هل یصح هذا التصرف أم لا؟ و هل یعدّ ردّا لبیع الفضولی أم لا؟ و هل الفرق موجود بین صورتی علم المالک بالبیع و جهله أم لا؟

أقول: أمّا بناءً علی النقل: فَتَصحُّ تصرفاته فی النماء لاِءَنَّهُ تصرّف فی ملکه لعدم صدور الإجازة منه و بعد صدورها تمت و کانت نافذة بالنسبة إلی العین دون نمائها لفقد الموضوع بالنسبة إلی النماء بلا فرق بین صورتی علم المالک و جهله بالبیع.

و أمّا بناءً علی الکشف: إذا تصرّف المالک فی نمائها فَیُحکَمُ بصحة هذا التصرف و قد ثبت بالدلالة الالتزامیة أنّ العین کانت له و هذا یعدّ ردّا للبیع، لأنّ النماء فرع و تابع للعین و هی أصل، فی ما إذا کان عالما ببیع الفضولی، و أمّا إذا کان جاهلاً به فلا یعدّ ردا له.

نعم، إذا لم تتم الدلالة الالتزامیة فی مورد کما فی جهل المالک ببیع الفضولی أو أنّ المالک یری الفرق بین العین و نمائها و لایعدّ التصرف فی النماء التصرف فی العین، لأنّ النماء یکون منفصلاً فلایعدّ التصرف فی النماء ردّا لبیع الفضولی حتّی بناءً علی الکشف و له إجازته.

الثانیة: جواز فسخ الأصیل بناءً علی النقل

لا یخفی أنّ للمالک إمضاء العقد بالإجازة و حلّه بالردّ علی النقل و الکشف، و أمّا

ص: 438


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/462.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/462.

الأصیل هل یجوز له أن یفسخ العقد و یرفع الید عن إلزامه ما لم یجیزه المالک أم لا؟

أقوال: ثالثها القول بالتفصیل بین الکشف و النقل، علی الأوّل لا یجوز لتمامیة العقد بالنسبة إلی الأصیل و علی الثانی یجوز لأنّ العقد بالنسبة إلیه غیر تام و له أن یفسخه و هو مختار الشیخ الأعظم حیث یقول: «أنّ فسخ الأصیل لإنشائه قبل إجازة الآخر مبطل له علی القول بالنقل دون الکشف بمعنی أنّه لو جعلناها ناقلة کان فسخ الأصیل کفسخ الموجب قبل قبول القابل فی کونه ملغیّا لإنشائه السابق، بخلاف ما لو جعلت کاشفة، فإنّ العقد تام من طرف الأصیل غایة الأمر تسلّط الآخر علی فسخه، و هذا مبنیٌّ علی ما تسالموا علیه من جواز إبطال أحد المتعاقدین لإنشائه قبل انشاء صاحبه، بل قبل تحقّق شرط صحة العقد کالقبض فی الهبة و الوقف و الصدقة»(1).

استدلّ الشیخ الأعظم فی کلامه بوجوه:

الأوّل: الإجماع علی بطلان العقد إذا تخلل الفسخ بین الإیجاب و القبول أو ما یقوم مقامهما من طرفی العقد. بل و بعد تحقّق الإیجاب و القبول و قبل وجود شرط الصحة کالقبض فی الهبة و الوقف و الصدقة و بیع الصرف و السلم.

الثانی: إذا رجع الموجِب مثلاً عن إیجابه قبل تحقّق القبول، لم یصدق العقد عرفا حتّی تشمله أدلة الصحة و اللزوم. فخروج هذا الإیجاب المعدَّل عنه موجِبُهُ عن أدلة صحة العقود و لزومه موضوعیٌّ لا حکمیٌّ تخصیصیٌّ.

الثالث: قال تلمیذه الفقیه المامقانی رحمه الله : «إنّ المصنف قدس سره کان یعلِّل جواز إبطال الإنشاء فی مجلس البحث بأنّ العقد عبارة عن المعاهدة المعبّر عنها بالفارسیة بقولهم: (پیمان)، و من المعلوم أنّ الموجب إذا رجع عن مضمون الإیجاب قبل القبول أو قبل وجود ما هو من شرائط صحة العقد کالقبض و نحوه انتفی معنی المعاهدة التی لیس قوام العقد إلاّ بها فینتفی العقد و هو معنی بطلانه»(2).

ص: 439


1- 1 . المکاسب 3/412.
2- 2 . غایة الآمال /380.

و أمّا الوجوه المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم:

فالأوّل: تحقّق الإجماع علی بطلان العقد إذا تخلل الفسخ و الردّ بین الإیجاب و القبول تامٌ کما یرد الإجماع فی کلام صاحبی الجواهر(1) و العناوین(2).

و قد مرّ فی تنبیهات الموالاة بین الإیجاب و القبول قولنا: «الإجماع المحصّل من الأصحاب فی أبواب مختلفة من العقود المشروطة صحتها بعدم تخلّل الرد، و کذا الإجماع المحکی المستفیض علیه»(3).

و أمّا تخلّل الفسخ أو الرد بعد تحقّق الإیجاب و القبول و قبل وجود شرط الصحة فَهُوَ أیضا تام لما مرّ مِنْ قولنا: «و کذا الردّ یبطل بتخلله فی اثناء الإیجاب و القبول و کذلک یبطل بتخلّله بین العقد و القبض فی کلّ عقد یشترط فیه القبض کالوقف و الحبس و السکنی و الهبة و القرض و الصدقة و الصرف و السَّلم لعدم حصول التملیک ما لم یتحقّق القبض»(4). فهذا الدلیل تام.

فالثانی: أیضا تام لأنّ الردّ و الفسخ إذا تخلل بین الإیجاب و القبول لا یبقی إیجاب حتّی یلحقّه القبول هذا إذا کان من الموجب و إمّا إذا کان من القابل أیضا مبطل للإیجاب فلا ینفع القبول بعده، لأنّ مع تخلل الردّ لا یکون عقدا لا شرعا و لا عرفا حتّی یشمله إطلاقات صحة العقود و الأصل أیضا یقتضی فساده لأنّه هو الأصل فی العقود کما مرّ(5).

فالثالث: أیضا تام و هو عبارة اُخری عن الدلیل الثانی.

و بتمامیة هذه الوجوه إلی هنا تتم مقالة الشیخ الأعظم عندنا فی الأصیل بناءً علی النقل و أمّا بناءً علی الکشف فالکشف الحقیقی بوجوه المختلفة الماضیة یترتب الثمرة

ص: 440


1- 1 . الجواهر 29/47 و فیه: «بلا خلاف أجده فیه کما اعترف به بعضهم».
2- 2 . العناوین 2/177.
3- 3 . الآراء الفقهیة 4/242.
4- 4 . الآراء الفقهیة 4/242.
5- 5 . راجع الآراء الفقهیة 4/242.

لحصول النقل و الانتقال بالعقد و المفروض أنّ الإجازة تأتی فیتحقّق المعلَّق علیها و أمّا بناءً علی الکشف الحکمی بالْوُجُوْهِ الثلاثة من المطلق و الإنقلابی و الصورتی فلا تَتَرَتَّبُ هذه الثمرة لأنّ قبل لحوق الإجازة لا تعتبر الملکیة شرعا و عرفا فیتمکن الأصیل من الفسخ.

مقالة المحقّق النائینی و نقده

ولکن المحقّق النائینی ذهب إلی عدم نفوذ فسخ الأصیل و ردّه حتّی علی القول بالنقل و قال: «و الأقوی أنّه لا یجوز تصرّفه مطلقا، بناءً علی استفادة الحکم التکلیفی من قوله عزّ من قائل: «اوفوا بالعقود»(1) لدلالته علی أنّ کلّ منشئٍ و معاهدٍ ملزم بانشائه و عهد، فإن وجوب الوفاء تکلیفا لا معنی له إلاّ تعلّقه بفعل المتعاقدین أی: یتعلّق بالمعنی المصدری، فیجب علی کلٍّ منهما الالتزام بما اُلزم علی نفسه و هو: إیجاده المادّة بالهیئة سواء تحقّق الالتزام من الآخر أم لا...»(2).

مراده: مفاد العمومات و منها قوله تعالی «اوفوا بالعقود» هو الحکم التکلیفی لا الوضعی و علیه معناها لزوم إنها الالتزام تکلیفا لکلٍّ من طرفی العقد ولو لم یترتب علی العقد الحکم الوضعی و لأنّ الحکم التکلیفی المتعلَّق بالبائع غیر المتعلَّق بالمشتری فلا ینافی عدم ترتب الأثر الوضعی علیه فعلاً و قبل الإجازة فی بیع الفضولی.

و بعبارة أُخری: «إن کان المراد بالعقد فی الآیة معناه الاسم المصدری - أعنی نتیجة العقد و هو حصول المبادلة و الملکیة فلا یمکن أن تعم عقد الأصیل قبل الإجازة لعدم حصول نتیجته حینئذ، و أمّا إن کان المراد معناه المصدری و هو الالتزام فلا مانع من شموله لالتزام المالک [الأصیل] فیجب علیه الوفاء و لا یجوز له الفسخ و هذا جار فی جمیع العقود إلاّ المنصوصة کالوقف قبل القبض، و لاینتقض ذلک بالإیجاب و القبول فإنّ العقد غیر متحقّق بمجرد الإیجاب قبل لحوق القبول»(3).

ص: 441


1- 1 . سورة المائدة /1.
2- 2 . منیة الطالب 2/78.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/382.

و یرد علیه: أوّلاً: لازم الحکم التکلیفی بوجوب الوفاء بالعقد هو جواز العقد لأنّ الأمر بإنهاء الالتزام إنّما یصح فیما إذا کان المخاطب متمکنا من عدمه، أی من رفع الید عن التزامه بحیث إذا خالف الحکم التکلیفی و فسخ العقد کان ذلک ممضی منه شرعا و هذا المعنی هو جواز العقد، فلابدّ من القول بأنّ وجوب الوفاء بالعقد یکون إرشادا إلی ترتیب آثار الملکیة، فلا یعم إلاّ العقد التام من حیث الأجزاء و الشرائط و یترتب علیه أثره و هو الملکیة.

و ثانیا: الخطاب التکلیفی إنّما یتوجه إلی المالکین و موضوعه العقد - أی الارتباط بین التزامی المالکین - و لیس التزام الأصیل مصداقا للعقد علی القول بالنقل ما لم تتحقّق الإجازة و بهذا یفرق المقام عن النذر، فللأصیل أن یرفع یده عن العقد فینتفی به موضوع الإجازة.(1)

أقول: قد مرّ منّا من فی بدایة الکتاب(2) استفادة صحة العقود و وجوب الوفاء بها من الآیة الشریفة أعنی: «اوفوا بالعقود»، فیُستفاد منها الْحُکْمانِ: التکلیفیٌ - أی وجوب الوفاء بها و الإیفاء بها - و الوضعی - أی صحة العقود و تمامیتها - فنحن نستفید منها الحکمین خلافا للعَلَمین - النائینی و السیّد الخوئی رحمهماالله - ولکن الأخیر هنا و فی بعض أبحاثه الفقهیة و إلاّ فهو - أی السیّد الخوئی - فی بعض أبحاثه الفقهیة الأُخر و الأُصولیة - علی ما ببالی - ذهب إلی امکان استفادة الحکمین من الآیة الشریفة و الجمع بینهما. کما هو مختارنا.

و علی القول المختار - من إمکان الجمع بین الحکمین - فنحن فی فسحة من إشکال المحقّق النائینی وَ جَوابِ السیّد الخوئی رحمهماالله لأنّا نستفید من الآیة الشریفة الحکمین - أی التکلیفی و الوضعی معا - فالآیة کما تدلّ علی لزوم الوفاء بالعقد کذلک تدلّ علی صِحَّتِهِ ولکن إذا رجع الموجِب عن إیجابه لم یبق العقد علی حاله و لم یکن فی

ص: 442


1- 1 . الإیرادان للمحقّق الخوئی فی محاضرات فی الفقه الجعفری 2/383.
2- 2 . الآراء الفقهیة 1/14.

البین إیجابا حتّی یلحقّه القبول أو الإجازة. فیتم إلی هنا مقالة الشیخ الأعظم رحمه الله .

اعتراض للمحقّق القمی(1) رحمه الله و نقده

تقریب هذا الاعتراض: ترتب الأثر علی جزء السبب - و هو العقد أو انشاء الأصیل - بعد انضمام الجزء الآخر و هو الإجازة من الأحکام الوضعیة و لا یعتبر فیه اختیار الأصیل لترتّبه و إرادته و عدم رجوعه عن انشائه.

و بعبارة اُخری: الإیجاب و القبول هما جزءان للسبب المؤثر فی عقد الفضولی و المفروض تحقّقهما، فإذا انضمّ إجازة المالک إلی العقد ترتّب علیه النقل قهرا، سواء رجع الأصیل عن انشائه قبل إجازة المالک أم لم یرجع، لأنّ اتصاف الإیجاب و القبول بعنوان «جزء السبب» قهری.

فلا فرق بین عدم تأثیر فسخ الأصیل بین قولی النقل و الکشف فی الإجازة، فلا یترتب هذه الثمرة.(2)

ولکن ردّه الشیخ الأعظم بقوله: «و فیه: أنّ الکلام فی أنّ عدم تخلّل الفسخ بین جزئی السبب شرط، فانضمام الجزء الآخر من دون تحقّق الشرط غیر مجدٍ فی وجود المسبّب»(3).

مراده: شرط تأثیر العقد بالإجازة و الحکم بصحته هو عدم تخلّل الفسخ بین الإیجاب و القبول فی العقود، و فی الفضولی بین الإیجاب و الإجازة، و إذا لم یتحقّق هذا الشرط المعتبَر، فَإِنَّ انضمام الجزء الآخر و هو الإجازة فی المقام لا یفید شیئا.

ثمّ قال الشیخ الأعظم رحمه الله : «فالاُولی فی سند المنع دفع احتمال اشتراط عدم تخلّل الفسخ بإطلاقات صحة العقود و لزومها»(4).

ص: 443


1- 1 . راجع عنائم الأیام /543 من الطبعة الحجریة، جامع الشتات 2/281 (1/156 من الطبعة الحجریة).
2- 2 . راجع هدی الطالب 5/104 و 105.
3- 3 . المکاسب 3/412.
4- 4 . المکاسب 3/413.

مراده: ردّ الشرطیة المدعاة بالإطلاقات الواردة فی صحة العقود و لزومها. و أجاب عنه بقوله: «و لا یخلو من إشکال»(1).

مراده من الإشکال ما مرّ فی دلیله الثانی من عدم صدق العقد العرفی بعد رجوع الموجِب عن إیجابه، فخروج المورد عن إطلاقات صحة العقود و لزومها موضوعیٌّ و تخصصیٌّ لا حکمیٌّ و تخصیصیٌّ حتّی تنفیه الإطلاقات و عدم ورود المخصّص.

نعم، یمکن أَنْ یُناقَشَ الشیخُ الأعظمُ بما ذکره السیّد الخمینی من: «... أنّ الفسخ هل هو هادم للعقد أم لا؟ فإن قلنا: أنّه هادم فلا فرق بین النقل و الکشف حتّی الحقیقی منه، لأنّ تعقب العقد بالإجازة إنّما هو مؤثر إذا لم ینهدم العقد، فإذا تخلّل بین العقد و الإجازة فسخ هادم، لم یبق عقد حتّی تتعقّبه الإجازة.

و بعبارة أُخری: إنّ العقد إذا تعقّبه الهدم قبل الإجازة، لم یکن فی علم اللّه من الأوّل عقدا متعقّبا بالإجازة حتّی یکون مؤثرا. و إن لم یکن هادما فلا فرق بینهما أیضا.

نعم، لو قلنا: بأنّه علی النقل هادم دون الکشف، یتم القول بالثمرة، لکن لا دلیل علی التفریق.

و ما قیل(2): من أنّ العقد تام من قبل الأصیل علی الکشف، لا یرجع إلی محصّل، فإنّ المراد من التمام إن رجع إلی أنّ الأصیل حصل منه ما هو مِنْ قِبَلِهِ من إنشاء العقد، فلا شبهة فی أنّه علی النقل أیضا کذلک، بل الموجِب أیضا حصل منه ما هو مِنْ قِبَلِهِ.

و إن رجع إلی أنّ النقل حاصل مِنْ قِبَلِهِ علی الکشف، فهو موقوف علی القول بأنّ الإجازة لا دخالة لها، أو أنّ الفسخ غیر هادم، فتمامیّة العقد موقوفة علی عدم الهادمیّة و هو أوّل الکلام»(3).

و بالجملة: ظهور هذه الثمرة بعد قبول هذه المقالة مشکل جدّا فنرفع الید عنها و لا نحتاج إلی البحث حولها فی الکشف و الحمدللّه.

ص: 444


1- 1 . المکاسب 3/413.
2- 2 . القائل هو الشیخ الأعظم کما مرّ، فی المکاسب 3/412.
3- 3 . کتاب البیع 2/256.

أقول: فسخ العقد هو حلّه من حینه - أی من حین الفسخ - لا هدمه من أصله، و الشاهد علیه، عدم جواز مطالبة المنافع من طرف الآخر، فالتعبیر بأنّ الفسخ هادم للعقد مسامحیٌّ.

الثالثة: تصرف الأصیل فیما انتقل عنه
اشارة

ذهب الشیخ الأعظم(1) إلی الجواز بناءً علی النقل حتّی علی القول بأنّ فسخه لفظا غیر مبطل لإنشائه و العدول من إیجابه لا یبطل العقد - کما علیه المحقّقان القمی و النائینی رحمهماالله - ، لأنّ الأصیل مادامَتِ الإجازَةُ لَمْ تَأْتِ مِنَ الْمالِکِ، فله أن یتصرف فی ماله لأنّ المال لم یخرج من ملکیته بناءً علی النقل. فهذا التصرف منه تکلیفا و وضعا جائز.

و قال: «و الحاصل: إنّ الفسخ القولی و إن قلنا أنّه غیر مبطل لإنشاء الأصیل، إلاّ أنّ له فعل ما ینافی انتقال المال عنه علی وجهٍ یفوّت محلّ الإجازة، فینفسخ العقد بنفسه بذلک»(2).

و استشهد بفرعین:
الأوّل: لو باع المالکُ جاریتَه بالشراء الفضولی

الأوّل: لو باع المالکُ جاریتَه بالشراء الفضولی، فمادام لم تصدر الإجازة من المشتری یجوز للمالک وطؤها لأنّها کما کانت ملکه باق علیها و لم ینتقل منه فلو استولدها و صارت اُمّ ولدٍ یفوت محلّ الإجازة لعدم صحة بیع أُمّ الولد.

الثانی: لو زوّجت الحرّة نفسها من فضولی جاز لها التزویج من الغیر
اشارة

الثانی: لو زوّجت الحرّة نفسها من فضولی جاز لها التزویج من الغیر ما لم تصدر الإجازة من الغیر، و التزویج الثانی یفوت محلّ الإجازة.

و فی الفرعین لو صدرت الإجازة من طرف الفضول لغت لعدم بقاء المحلّ قابلاً لقبولها.

ثمّ نقل الشیخ الأعظم(3) احتمال عدم جواز تصرف الأصیل فیما انتقل عنه حتّی علی القول بالنقل کما هو کذلک علی الکشف مستدلاًِّ له - علی وجه لعلّ - «لِجریان عموم

ص: 445


1- 1 . المکاسب 3/413.
2- 2 . المکاسب 3/413.
3- 3 . المکاسب 3/413.

وجوب الوفاء بالعقد فی حقِّ الأصیل و إن لم یجب فی الطرف الآخر»(1).

مراده: کون عقد الفضولی جامعا لجمیع شرائط العقد سوی الإجازة فیشمله عموم قوله تعالی: «اوفوا بالعقود»(2) فیجب علی الأصیل الوفاء به و مقتضاه عدم جواز تصرفه فیما انتقل عنه.(3)

و استظهر(4) هذا الاحتمال من کلام المحقّق الثانی فی مسألة شراء الغاصب بعین المال المغصوب حیث یقول: «و لیس لکلٍّ من البائع و الغاصب التصرف فی العین لإمکان إجازة المالک، خصوصا علی القول بأنّ الإجازة کاشفة»(5).

ثمّ ردّ هذا الاحتمال(6): بأنّ الإجازة بناءً علی النقل لها دخل فی العقد جزءً أو شرطا، فما لم تتحقّق الإجازة لم یتم العقد فلا یجب الوفاء به علی أحد من المتعاقدین، لأنّ موضوع وجوب الوفاء هو العقد المقیَّد بالإجازة و من الواضح أنّ المقیَّد لا یتحقّق إلاّ بعد وجود قیده.(7)

و الحاصل: یجوز للأصیل أن یتصرف فیما انتقل عنه - تکلیفا و وضعا - بناءً علی النقل.

أقول: یمکن أَنْ یُناقَشَ الشیخُ الأعظمُ بأنّ التفصیل بین الفسخ القولی و الفعلی ممنوعٌ، لأنّ آیة «اوفوا بالعقود» إن شملت الاْءَصِیْلَ فلا یجوز له الفسخ لا قولاً و لا فعلاً، و إن لم تَشْملْهُ فیجوز له الفسخ القولی کما یجوز له الفسخ الفعلی، فما ذکره تحت عنوان

ص: 446


1- 1 . المکاسب 3/413.
2- 2 . سورة المائدة /1.
3- 3 . راجع هدی الطالب 5/110.
4- 4 . المکاسب 3/413.
5- 5 . جامع المقاصد 6/331.
6- 6 . المکاسب 3/413.
7- 7 . راجع هدی الطالب 5/111.

«و الحاصل: أنّ الفسخ القولی و إن قلنا...»(1) الخ غیر تام.(2)

و ما ذکره الشیخ الأعظم من جواز تصرفات الأصیل فیما انتقل عنه تام بناءً علی النقل لأنّها من آثار الملکیة الشرعیة و مادامت الإجازة لم تصدر، فمِلْک الأصیل باق علی ماله فیجوز له التصرف فیه ولو التصرفات الناقلة کاستیلاد اُمّ الولد أو عتقها أو بیعها و غیرها.

و أمّا بناءً علی الکشف: فَقَدْ قال الشیخ الأعظم:

و أمّا بناءً علی الکشف: فَقَدْ قال الشیخ الأعظم: «فلا یجوز التصرف فیه علی ما یستفاد من کلمات جماعة کالعلاّمة(3) و السیّد العمیدی(4) و المحقّق الثانی(5) و ظاهر غیرهم(6)»(7).

و الوجه فی کلامه: تحقّق الملکیة من حین العقد لمن انتقل إلیه فیعدّ تصرف مَنْ انتقل عنه تصرفا فی ملک الغیر، و المسألة معنونة فی کلماتهم فی کتاب النکاح لا البیع کما تعرّض لأقوالهم الشیخ الأعظم فإنّا نقتفی أثره.

ثمّ نقل الشیخ الأعظم عن بعض معاصریه جواز تصرف

ثمّ نقل الشیخ الأعظم(8) عن بعض معاصریه جواز تصرف الأصیل فیما انتقل عنه للشک فی تحقّق الشرط - و هو الإجازة اللاحقة - و یسری هذا الشک فی تحقّق المشروط - و هو الملکیة لمن انتقل إلیه - فملکیته مشکوکة و الأصل عدم تحقّقها فلا ینتقل المال من الأصیل إلی غیره، فیجوز للأصیل التصرف فی ملکه.

ثمّ نقل عنه استدراکه: «نعم إذا حصلت الإجازة کشفت عن

ثمّ نقل عنه استدراکه: «نعم إذا حصلت الإجازة کشفت عن بطلان کلّ تصرّف

ص: 447


1- 1 . المکاسب 3/413.
2- 2 . کما یظهر من العقد النضید 3/255.
3- 3 . قواعد الأحکام 3/16.
4- 4 . کنز الفوائد 2/322 و 357.
5- 5 . جامع المقاصد 12/160 و 297 و 298.
6- 6 . کالفاضل الأصفهانی فی کشف اللثام 7/107 و الشیخ یوسف فی الحدائق 23/288 و 289.
7- 7 . المکاسب 3/414.
8- 8 . المکاسب 3/414.

منافٍ لانتقال المال إلی المجیز فیأخذ المال مع بقائه و بدله مع تلفه. قال: «نعم، لو علم بإجازة المالک لم یجز له التصرف» انتهی»(1).

أقول: فیری الشیخ الأعظم کلام معاصره تاما ولکن بناءً علی مذهبه فی الکشف الحقیقی التعقبی - و هو الالتزام بأنّ الشرط هو تعقّب العقد بالإجازة، لا نفس الإجازة و قد نُسب هذا القول إلی جدی - صاحب الهدایة - و عمّی - صاحب الفصول - و خالی - الشیخ حسن ابن الشیخ الأکبر - و الفاضل النراقی قدس سرهم .(2)

هو - معاصره - هنا جدی الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة

و هو - معاصره - هنا جدی الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة قال فی کتاب فقهه تبصرة الفقهاء ما نصه: «رابعها: أنّه لو عقد فضولاً فهل للآخر التصرف فی متعلَّق العقد قبل إجازة المالک أو ردّه، أو لابدّ من توقّفه عن التصرف إلاّ بعد ظهور الردّ؟ یحتمل الثانی، نظرا إلی لزوم العقد من طرف المالک علی تقدیر إجازة الآخر، فیدور العقد حینئذ بین الصحیح و الفاسد، فلا یجوز له التصرف فیه إلاّ بعد انکشاف الحال لیجری علی مقتضاه.

و الأظهر جواز تصرفاته فیه أخذا بمقتضی الأصل لعدم العلم بصحة العقد المانع من التصرف فیه، لدورانه بین الصحیح و الفاسد.

و مجرد الاحتمال لا یقضی بارتفاع الحکم الثابت، بل لا مانع لسایر العقود الناقلة لعینه أو منافعه اللزوم أو غیره، غیر أنّه بعد حصول الإجازة یؤخذ بمقتضاه من الرجوع إلی العین مع بقائها و إلی عوضه مع تلفها.

نعم، لو علم بالفحوی إجازته له بعد ذلک لم یجز له التصرف فیه کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه»(3).

ثمّ یقول الشیخ الأعظم: «ما ذکره البعض المعاصر صحیح

ثمّ یقول الشیخ الأعظم: «ما ذکره البعض المعاصر صحیح علی مذهبه فی الکشف من کون العقد مشروطا بتعقّبه بالإجازة، لعدم إحراز الشرط مع الشک فلا یجب

ص: 448


1- 1 . المکاسب 3/414.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 402.
3- 3 . تبصرة الفقهاء 3/352.

الوفاء به علی أحد من المتعاقدین»(1).

اعترض علیه الشیخ الأعظم: بأنّ مذهب المشهور فی الکشف

ولکن اعترض علیه الشیخ الأعظم(2): بأنّ مذهب المشهور فی الکشف هو الحقیقی الشرطی فیکون المؤثر التام فی الانتقال هو العقد، و قد تحقّق العقد - و الإجازة لا تکون إلاّ شرطا متأخرا یکشف عن تحقّق العقد من حینه - و إذا تحقّق العقد یجب علی الأصیل بمقتضی عموم وجوب الوفاء بالعقد و حرمة نقضه من جانبه، و الالتزام به و عدم نقضه، و لأنّ وجوب الوفاء علیه لیس مراعی بإجازة المالک بل مقتضی عمومه وجوب الوفاء علیه حتّی مع العلم بعدم إجازة المالک - و من هنا ظهر أنّه لا فائدة فی أصالة عدم الإجازة - .

نعم، «ردُّ المالکِ فسخٌ للعقد من طرف الأصیل، کما أنّ إجازته إمضاء له من طرف الفضولی»(3).

ثمّ ذکر توهما و هو: «أنّ العمل بمقتضی العقد کما یوجب حرمة

ثمّ ذکر توهما و هو: «أنّ العمل بمقتضی العقد کما یوجب حرمة تصرف الأصیل فیما انتقل عنه، کذلک یوجب جواز تصرفه فیما انتقل إلیه، لأنّ مقتضی العقد مبادلة المالین، فحرمة التصرف فی ماله مع حرمة التصرف فی عوضه ینافی مقتضی العقد، أعنی المبادلة»(4).

أقول: قد مرّ منّا(5) بأنّ بعضهم یلتزمون بجواز تصرف الأصیل فیما ینتقل إلیه قبل الإجازة لو علم بتحقّق الإجازة فی ما بعد. فهذا البعض یقرّون بهذه المبادلة بین المالین و عوضیّة کل واحد منهما بدلاً من الآخر فلا توهّم فی البین بل قول فی المقام.

ولکن الشیخ الأعظم ردّ هذا الذی سمّاه بالتوهم بأنّه مبنیٌّ

ولکن الشیخ الأعظم(6) ردّ هذا الذی سمّاه بالتوهم بأنّه مبنیٌّ علی استفادة

ص: 449


1- 1 . المکاسب 3/415.
2- 2 . راجع المکاسب 3/414 و 415.
3- 3 . المکاسب 3/415.
4- 4 . المکاسب 3/415.
5- 5 . راجع هذا المجلد صفحة 402.
6- 6 . المکاسب 3/416.

حکمین من وجوب وفاء العاقد الأصیل بما التزم به و هما حرمة التصرف فیما انتقل عنه و جواز تصرفه فیما انتقل إلیه، ولکن الصحیح أنّ أدلة وجوب الوفاء بالعقد لا یدلّ إلاّ علی الأوّل - أی حرمة التصرف فیما انتقل عنه - لأنّها هی مقتضی التزامه بخروج المال عن ملکه.

و أمّا دخول بدله فی ملکه فَهُوَ خارج عن التزامه و لیس من التزام علی نفسه بل هو ممّا جعله لنفسه فهو خارج عن مدلول التزامه علی نفسه، و إن کان داخلاً فی مفهوم المبادلة.

و حیث أَنَّ أدلة وجوب الوفاء بالعقد لا تشمل جواز تصرف الأصیل فیما انتقل إلیه، فالمرجع فی هذا التصرف هو الأصل العملی فی المقام و هی أصالة عدم الانتقال.

ثمّ تعرّض الشیخ الأعظم لما سمّاه دعوی: و هی إثبات جواز تصرف

ثمّ تعرّض الشیخ الأعظم(1) لما سمّاه دعوی: و هی إثبات جواز تصرف الأصیل فیما انتقل عنه و عدم حرمته بناءً علی الکشف بتقریب: التزام الأصیل بخروج ماله عن ملکه لم یکن مطلقا حتّی یحرم تصرّفه فیه بمقتضی عموم وجوب الوفاء بالعقود، بل کان معلَّقا علی تقدیر الإجازة و دخول مال الغیر فی ملکه و المبادلة بین المالین، و حیث لم یعلم الأصیل بتحقّق الإجازة، فتصرّفه فی ماله لایعدّ نقضا لما التزم به، لأنّ التزامه کان معلَّقا و هو لایعلم بتحقّق المعلَّق علیه و هی الإجازة.

ثمّ أتی الشیخ الأعظم(2) بتنظیر لهذه المسألة فی مسألة النذر المعلَّق علی شرط قبل تحقّق شرطه من جواز تصرف الناذر فی المنذور قبل تحقّق شرطه من دون لزوم حِنْث للنذر.

و دفعها بأمرین:
اشارة

و دفعها(3) بأمرین:

الأوّل: التزام الأصیل بنقل ماله إلی المالک

الأوّل: التزام الأصیل بنقل ماله إلی المالک غیر معلَّقٍ علی إجازة المالک بل هو مراعی علیها بحیث أنّها تکشف عن تحقّق المبادلة من زمن العقد، فالأصیل التزم بالمبادلة متوقّعا للإجازة لا مشروطً علیها أو معلَّقا علیها، فیجب علیه

ص: 450


1- 1 . المکاسب 3/416.
2- 2 . المکاسب 3/416.
3- 3 . المکاسب 3/416.

الوفاء بالتزامه و یحرم علیه نقضه إلی أن یحصل ما یتوقّعه من الإجازة فتم النقل و الانتقال من حین العقد، أو یصدر الردّ من المالک فینتقض التزام الأصیل به.

و بالجملة: تنظیر المقام بمسألة النذر قیاس مع الفارق، و الفرق تعلیق النذر علی الشرط ولکن التزام الأصیل غیر معلَّق علی الإجازة.

الثانی: جواز تصرف الناذر فی المال المنذور المشروط قبل تحقّق
اشارة

الثانی: جواز تصرف الناذر فی المال المنذور المشروط قبل تحقّق شرطه لا یخلو من إشکال و لم یتسالم الأصحاب علیه. فالمسألة فی المُنْظَرِ علیه أیضا غیر تام فما بالک بالمُنْظَر.

أقول:

یقع الکلام فی جِهَتَیْنِ:

الجهة الاُولی: نقد مقالة الشیخ الأعظم

الجهة الثانیة: البحث حول مسألة النذر المشروط و التصرف فی المنذور قبل تحقّق شرطه.

أمّا الجهة الاُولی:

فیرد علی الشیخ الأعظم أوّلاً: «إنّ موضوع وجوب الوفاء بالعقد إنّما هو الالتزام بالملکیّة، لا حصول نفس الملکیّة، و موضوع عدم جواز التصرف فی المال تکلیفا نفس الملکیّة و ما لم تحصل لا تشملها حرمة التصرف فی مال الغیر»(1). فما ذکره الشیخ الأعظم من أنّ «مقتضی العموم حرمة نقضه علی الأصیل مطلقا فکلّ تصرف یعدّ نقضا لعقد المبادلة... فهو غیر جائز»(2) غیر تام.

و ثانیا: ما ذکره من قوله قدس سره : «بل مقتضی العموم وجوبه [أی وجوب الوفاء بالعقد و حرمة تصرف الأصیل فیما انتقل عنه] حتّی مع العلم بعدم إجازة المالک...»(3). غیر تام لأنّ فی صورة العلم بعدم الإجازة یجوز تصرف الأصیل فی ماله، للعلم بعدم صدور الإجازة و عدم تمامیة العقد، فماله باق علی ملکه فیجوز له التصرف فی ماله و ملکه وجدانا.

ص: 451


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/175.
2- 2 . المکاسب 3/415.
3- 3 . المکاسب 3/414.

و ثالثا: حکمه قدس سره بعموم شمول آیة «اوفوا بالعقود» بما التزم به لِلاْءَصِیْلِ، فی عقده مع الفضولی ما لم تَتَحَقَّقَ الإجازة من المالک، مشکل جدّا، و لأحدٍ أن یَقُوْلَ: أنّه تمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة لذلک العام. لأنّ تمامیة العقد مَنُوْطَةٌ بصدور الإجازة من المالک، فما لم تصدر الإجازة منه نشک فی کون ما وقع من الأصیل و الفضولی أنّه عقدٌ أم لیس بشی ءٍ أصلاً، فنشک فی مصداقیة ما وقع عنهما بکونه عقدا أم لا؟ فلا یجوز التمسک بهذا العموم.

و بعبارة أُخری قوله تعالی: «اوفوا بالعقود» یدلّ علی وجوب الوفاء بالعقد الذی یراه العرف عقدا کما هو کذلک فی قوله تعالی: «أحل اللّه البیع»، و العرف لا یری عقد الفضولی و لا بیعه قبل صدور الإجازة من المالک عقدا تاما أو بیعا کذلک، فلا یمکن إثبات وجوب الوفاء به بالآیة الشریفة.

و رابعا: قوام البیع بمبادلة المالین و خروج أحد العوضین عن ملک أحد من المتبایعین و دخوله فی ملک الآخر و عکسه، و فی بیع الفضولی أیضا الأصیل یبدِّل ماله بمال المالک و انتقل ماله إلی المالک فی قبال انتقال مال المالک إلیه، فلا أدری ما المراد من قوله: «و أمّا قید» کونه بإزاء مال «فهو خارج عن الالتزام علی نفسه و إن کان داخلاً فی مفهوم المبادلة»(1)؟ الأصیل یلتزم علی نفسه بالبیع و هو المبادلة، و علیه قید «کونه بإزاء المال» داخل فی الالتزام، فإذا حرم علی الأصیل التصرف فیما انتقل عنه، فیجوز له التصرف فیما انتقل إلیه بهذه المبادلة التی هی قوام البیع، فالتفصیل بینهما غیر وجیه.

و خامسا: لا وجه لحرمة تصرف الأصیل فی ماله قبل صدور الإجازة من المالک، لأنّ ملکه باق علی ماله فیجوز له التصرف فی ملکه لا سیما إذا علم بعدم صدور الإجازة من المالک. نعم، لو تصرّف و صدر الإجازة من المالک تصیر تصرفاته حراما واقعا بناءً علی بعض أقسام صور الکشف الحقیقی نحو الشرطی منه، لکنّها کانت حلالاً ظاهرا. نعم، إذا علم بصدور الإجازة من المالک تکون تصرفاته حراما ظاهرا و واقعا.

ص: 452


1- 1 . المکاسب 3/416.

و إذا علم بعدم صدورها منه تکون تصرفاته حلالاً ظاهرا و واقعا.

و إذا لم یعلم بصدورها منه تکون تصرفاته حلالاً ظاهرا، فإذا صدرت منه تکون حراما واقعا، و إذا لم تصدر منه تکون حلالاً ظاهرا و واقعا.

فحکم الشیخ الأعظم بحرمة تصرفات الأصیل مطلقا ظاهرا و واقعا فی غیر محلّه.

و أمّا الجهة الثانیة: مسألة النذر المشروط

فأقول: قال المحقّق: «لو نذر عتق أمته إن وطأها صحّ، فإن أخرجها من ملکه انحلت الیمین. ولو أعادها بملک مستأنف لم تُعد الیمین»(1).

و اسْتُدلَّ(2) علیه بصحیحة محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: سألته عن الرجل تکون له الأمة، فیقول: یوم یأتیها فهی حرّة، ثمّ یبیعها من رجلٍ ثمّ یشتریها بعد ذلک، قال: لا بأس بأن یأتیها، قد خرجت من ملکه.(3)

و الصحیحة کما تری مطلقة ولکن الأصحاب حملوها علی صورة النذر و أفتی بها جمعٌ منهم: الصدوق(4)و القاضی ابن البراج(5) و یحیی بن سعید(6) و العلاّمة فی الإرشاد(7) و التحریر(8) و الشهید(9) و ثانیة(10).

ص: 453


1- 1 . الشرائع 3/81.
2- 2 . کما فی المسالک 10/306 و الجواهر 34/131 و 35/412.
3- 3 . وسائل الشیعة 23/94، ح1، الباب 59 من أبواب کتاب العتق.
4- 4 . المقنع /157.
5- 5 . المهذب 2/360.
6- 6 . الجامع للشرائع /403.
7- 7 . إرشاد الأذهان 2/67.
8- 8 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/203.
9- 9 . الدروس 2/205.
10- 10 . المسالک 10/306، و الروضة البهیة 6/296.

ولکن ابن ادریس(1) و العلاّمة فی بعض کتبه(2) و ولده(3) توقفوا عن الفتوی بمضمونها(4)، أو افتوا بعدم جواز التصرف فی المنذور المعلَّق علی الشرط قبل حصوله(5) أو إعادة النذر بملک مستأنف.(6)

ثمّ تعدّی بعض من الأصحاب من مسألة الأمة إلی غیرها و إلی التعلیق بغیر الوط ء کالشهید الثانی قال: «... و المتجه التعدّی نظرا إلی العلّة، و یتفرّع علی ذلک أیضا جواز التصرف فی المنذور المعلَّق علی شرطٍ لم یوجد، و هی مسألة إشکالیة. و العلاّمة اختار فی التحریر(7) عتقَ العبد لو نذر إن فعل کذا فهو حرٌّ، فباعه قبل الفعل ثمّ اشتراه ثمّ فعل. و ولدُه(8) استقرب عدمَ جواز التصرف فی المنذور المعلَّق علی الشرط قبل حصوله. و هذا الخبر حجة علیهما»(9).

و قال سبطه السیّد محمّد العاملی: «هذا الحکم مقطوع به فی کلام الأصحاب و المستند فی ذلک ما رواه الشیخ فی الصحیح... و لیس فی الروایة تصریح بنذر العتق إذا

ص: 454


1- 1 . قال ابن ادریس: «و قد رُوی أنّه إذا کان للرجل جاریة فنذر أنّه متی وَطِئَها کانت معتقة فإن وَطِئَها قبل أن یخرجها من ملکه انعتقت، و إن أخرجها ثمّ اشتراها بعد ذلک [و] وَطِئَها لم یقع بذلک عتق. و فقه هذه الروایة إن صحت: إنّه إذا أخرجها من ملکه انحل نذره، لأنّه نذر فی ملکه، فإذا زال ملکه عنها انحلّ نذره، و لا یصح فی ملک الغیر، فیحتاج إذا عادت إلی ملکه إلی دلیل علی عتقها»، السرائر 3/12 و 13.
2- 2 . القواعد 3/203، تحریر الأحکام الشرعیة 4/210، مختلف الشیعة 8/31.
3- 3 . إیضاح الفوائد 3/485.
4- 4 . کابن ادریس فی السرائر 3/12 و 13.
5- 5 . کالفخر المحقّقین فی إیضاح الفوائد 3/485.
6- 6 . کالعلامة فی التحریر 4/210.
7- 7 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/210.
8- 8 . إیضاح الفوائد 3/485.
9- 9 . الروضة البهیة 6/296.

حصل الوطؤ بل الظاهر منها أنّ العتق وقع معلَّقا علی شرط، لکن الأصحاب حملوها علی النذر. و حملها ابن ادریس علی ما إذا تعلَّق النذر بوطئها و هی فی ملکه.

و لا ریب فی انحلال النذر بخروجها عن ملکه علی هذا التقدیر، کما أنّه لا إشکال فی عدم انحلاله إذا تعلَّق النذر بمطلق الوطؤ المتناول لما بعد خروجها عن الملک، و إنّما یقع الإشکال مع إطلاق النذر، و لایبعد مساواته لصورة التمیم»(1).

و قال الشیخ اسداللّه التستری: «و عندی أنّه إن کان النذر مشروطا صریحا أو ضمنا - بما إذا وجد الشرط و المنذور باقٍ فی ملکه - فإخراجه من الملک قبله جائز قطعا، لأنّ الالتزام بالنذر حینئذ بالنسبة إلی بقاء المنذور فی الملک کالواجب المشروط و لا یجب تحصیل مقدمته إجماعا - ثمّ ذکر صحیحة محمّد بن مسلم، و حمل الأصحاب لها علی صورة النذر و قال: - و فیه دلالة علی جواز البیع و علی سقوط النذر به و إن عادت إلی ملکه...»(2).

و قال صاحب الجواهر: «(لو نذر عتق أمته إن وطأها صحّ) لما عرفت من عموم أدلّة النذر و قابلیة للتّعلیق، و أنه لیس من العتق المعلّق و حینئذ (ف)تعتق أو تنعتق بتحقّق مسمی الوط ء نعم (إن أخرجها عن ملکه انحلّت الیمین فلو أعادها بملک مستأنف لم یعد الیمین) الذی کان ظاهره التعلیق علی الوط ء بالملک الأوّل، نحو ما سمعته فی الإیلاء، نعم لو قصد الأعم من العائد و الموجود فلا إشکال فی عدم الانحلال، کما لا إشکال فیه مع قصده الوط ء بالملک الموجود.

إنّما الکلام مع الإطلاق، و قد عرفت أنّ الظاهر منه ما ذکرناه، و یدلّ علیه مضافا إلی ذلک صحیح محمّد بن مسلم(3) عن أحدهما علیهماالسلام «سألته عن الرجل تکون له الأمة فقال: یوم یأتیها فهی حرّة، ثمّ یبیعها من رجل ثمّ یشتریها بعد ذلک، قال: لا بأس بأن یأتیها، قد خرجت عن ملکه» المحمول علی النذر و شبهه، لما عرفت من عدم جواز

ص: 455


1- 1 . نهایة المرام 2/267.
2- 2 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /111 و 112.
3- 3 . وسائل الشیعة 23/94، ح1.

التعلیق فی العتق، و فی الروضة(1) «و یشهد له تعلیله بأنها قد خرجت عن ملکه، ولو لم یکن منذورا لم یتوقف ذلک علی الخروج، کما لا یخفی» و إن کان فیه ما فیه. و علی کلِّ حال فقد فهم الأصحاب منها ذلک و عملوا به، بل فی المسالک(2) ما وقف علی رادّ لها إلاّ ما یظهر من ابن إدریس.

نعم فی الروضة(3) و کذا المسالک(4): «فی تعدیة الحکم إلی غیر الوط ء من الافعال و إلی غیر الأمة وجهان: من کونه قیاسا و الفرض مخالفة الحکم للأصل من حیث أَنّ خروجها عن ملکه لا مدخل له فی انحلال النذر، لأن غایته أن تصیر أجنبیّة منه و النذر یصحّ تعلیقه بالأجنبیّة کنذر عتقها إن ملکها، و هی فی ملک غیره ابتداءً کما تقدّم فی نظائره - و فیه ما عرفت من ظهور النذر فی الوط ء بذلک الملک - و من إیماء النّص إلی العلّة بقوله علیه السلام «قد خرجت عن ملکه» و ذلک یوجب التعدی إلی ما توجد فیه العلّة المنصوصة». و فی الروضة(5) «و هو المتّجه».

و فیه: أنّ المبنی إذا کان ما ذکرنا من الظهور ینبغی أن یکون المدار علیه، لا نفس الخروج عن الملک مطلقا، ضرورة إمکان الفرق بین الوط ء و غیره من الأفعال فی الظهور المزبور، بل ینبغی القطع بإیماء التعلیل إلی ذلک، لا أنّ الحکم تعبدی.

ثمّ قال فیهما(6) أیضا: «إنّ ظاهر الصّحیح المزبور جواز التصرف فی المنذور المعلّق علی شرط لم یوجد، و هی مسألة إشکالیة» ثمّ حکی فی الروضة عن الفاضل فی التحریر «اختیار عتق العبد لو نذر إن فعل کذا فهو حرّ فباعه قبل الفعل ثمّ اشتراه ثمّ فعل، و

ص: 456


1- 1 . الروضة البهیة 6/295.
2- 2 . المسالک 10/306.
3- 3 . الروضة البهیة 6/295.
4- 4 . المسالک 10/306.
5- 5 . الروضة البهیة 6/296.
6- 6 . الروضة البهیة 6/296، المسالک 10/306.

عن ولده أنّه استقرب [عدم(1)] جواز التصرف فی المنذور المعلَّق علی شرط قبل حصوله، و هذا الخبر حجّة علیهما»(2).

قلت: قد عرفت ما یمکن الجواب به عن الأوّل منهما، و أمّا مسألة التصرف فی المنذور المعلّق علی شرط فقد یقال: إن محلَّها ما لو کان المعلّق علیه متوقعا کَشِفاءِ المریض و نحوه، و أما مع فرض القطع بعدمه فلا إشکال فی الجواز، و الفرض فی المسألة أنّه بالخروج عن الملک یمتنع المعلَّق علیه بناءً علی أنّ المراد الوط ء بذلک الملک فتأمّل جیدا، و اللّه العالم»(3).

قال المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله : «الکلام فیها یقع من جهتین:

1- من جهة الحکم التکلیفی 2- من جهة الحکم الوضعی

أمّا الجهة الاُولی، فملخّص الکلام فیها: أنّ النذر إذا کان علی نحو الاطلاق المعبّر عنه بالمنجز و لم یکن مقیّدا بشی ء فلا ینبغی الإشکال فی أنّ التصرف فی المال المنذور للفقراء حرام، سواء کان النذر نذر نتیجة بأن ینذر انتقال الشاة إلی ملکهم أو کان نذر فعل کنذره أن یملّکها للفقراء، لأنّه تصرّف فیما یجب تملیکه للغیر فلا یجوز أکله و لا بیعه و لا غیرهما من التصرّفات المنافیة للوفاء بالنذر، و هذا ظاهر جدّا.

کما أنّه إذا کان علی نحو الواجب المعلّق بأن یکون النذر معلّقا علی شی ء إلاّ أنه من الآن یلتزم بالعمل و إن کان ظرف العمل متأخرا و هو زمان مجی ء ولده أو شفاء مریضه کما هو الظاهر فیما إذا کان المعلّق علیه أمرا متیقّن الحصول کما إذا قال: للّه علیّ کذا إذا جاء الغد، فلا إشکال أیضا فی عدم جواز التصرّف فی المال، لأنّ الوجوب فعلیّ و معه کیف یجوز له البیع أو الذبح و نحوهما.

و کذا الحال فیما إذا کان علی نحو الواجب المشروط إلاّ أنّ الشرط کان معلوم الحصول، و ذلک لما ذکرناه فی المقدّمات المفوّتة من أنّ تفویت الملاک الملزم قبیح فی

ص: 457


1- 1 . لیس فی المطبوعة ولکنّ الصحیح إثباتها.
2- 2 . الروضة البهیة 6/296.
3- 3 . الجواهر 34/131 و 132.

نظر العقل و هو کعصیان التکلیف المنجز عنده، و لا إشکال أنّه بذبح الشاة أو بیعها یعجز عن إستیفاء الملاک الذی یعلم أنّه یتوجّه علیه، فلا یجوز تفویت الملاک لأنّه روح الأمر و حقیقته.

و أمّا إذا کان مشروطا بشرط مجهول الحصول، فإن کان بنذره ذلک قاصدا لإبقاء الشاة أیضا إلی وقت حصول الشرط المجهول کما هو الغالب فی الناذرین فلا إشکال فی عدم جواز إتلافها و بیعها أو ذبحها، لأنّه بنذره ذلک أوجب أمرین: أحدهما تملیک الشاة للفقراء. و ثانیهما: إبقاؤها إلی زمان الشرط، و هذا نظیر ما ذکره الفقهاء فی الشروط من أنّه إذا باع داره بشرط أن یبیعها المشتری للبائع فیما إذا جاء بمثل الثمن، فهو بمنزلة اشتراط أن لا یبیعها المشتری للغیر.

و فی المقام أیضا یمکن أن یقال إنّه بنذره ذلک نذر أن یبقی المال إلی ذلک الوقت، و هذا من دون فرق بین أن یکون الشرط اختیاریا للناذر کما إذا نذر أن یفعل کذا إذا شرب التتن، و بین کونه غیر اختیاری له کما إذا نذر کذا إذا نزل المطرفی وقت معلوم، نعم لو فرضناه علی نحو الواجب المشروط من دون أن ینذر الإبقاء و غیره و کان الشرط مجهول الحصول، فلا مانع من التصرف فی المال ببیعه و ذبحه هذا کلّه بحسب الحکم التکلیفی.

و أمّا الجهة الثانیة: و هو الحکم الوضعی، فلا ینبغی الإشکال فی أنّ النذر إذا کان نذر نتیجة و کان مطلقا، أو کان مشروطا ولکن حصل شرطه لایصحّ التصرّف فی المال المنذور صرفه فی جهات خاصّة، لأنّه ملک الغیر حینئذ فلا تکون التصرّفات نافذة أبدا.

و أمّا فیما إذا کان نذر فعل و کان معلّقا أو مشروطا مع کون الشرط معلوم الحصول، أو غیر ذلک من الموارد التی حکمنا بعدم جواز التصرف فیها فی المال من دون تعلّق حقّ به و إنّما کان مجرد حکم تکلیفی بعدم الجواز، فهل تصحّ التصرفات فی المال حینئذ و تکون نافذة أو أنّها تقع باطلة؟ فقد وقع فیه الخلاف، فذهب بعضهم إلی الصحّة و النفوذ، و منعه بعض آخر بعد الاتّفاق علی صحّة التصرفات و نفوذها فی الموارد التی حکمنا بالجواز فیها تکلیفا.

و لا إشکال فی أنّ مقتضی العمومات و الإطلاقات صحّة التصرفات و المعاملات

ص: 458

الواقعة علی المال فی الموارد المبحوث عنها، و هذا ممّا لا کلام فیه، و إنّما المهمّ بیان ما استند إلیه المانعون فی المقام.

فقد استدلّوا علی بطلان البیع و سائر التصرّفات بوجهین:

أحدهما: أنّ الملک فی المعاملة یعتبر أن یکون طلقا و لا یصحّ بیع ما لیس بطلق کبیع الوقف و الرهن، و المال فی المقام کالرهن و الوقف لیس طلقا لتعلّق حقّ الفقراء أو السادات به أو حقّ غیرهما ممّا نذر صرفه فیه، و علیه یکون البیع الواقع علیه باطلاً، هذا.

و فیه: منع الصغری و الکبری، أمّا الصغری فلا، لانّ المفروض أنّ الموجود فی البین لیس إلاّ حکما تکلیفیا و لم یتعلّق بالمال حقّ بالنسبة إلی الغیر لعدم تحقّق شرطه، و الذی یوضّح ذلک و یدلّ علی أنّ الأمر بصرفه فی الجهات الخاصّة مجرد حکم تکلیفی و لیس هناک حقّ للغیر هو أنّه لایقبل السقوط بالاسقاط و لایسقط بشی ء، فلو فرضنا أنّ فقراء البلد اجتمعوا و أسقطوا حقّهم عن المال لایسقط وجوب الصرف بذلک بل یجب علیه الوفاء بالنذر علی تقدیر حصول شرطه، و من المعلوم أنّه لو کان حقّا لکان قابلاً للإسقاط لما ذکرناه فی أوائل البیع(1) من أنّ الفارق بین الحقّ و الحکم لیس إلاّ ذلک، و أنّ الأوّل یسقط بالاسقاط دون الثانی و إلاّ فکلّ حقّ حکم، فالملک طلق فی المقام.

و أمّا منع الکبری فلما سیأتی(2) من أنّ هذا العنوان أی اعتبار کون المبیع ملکا طلقا لم یرد فی شی ء من الآیات و الروایات و إنّما انتزعه الفقهاء من الموارد الخاصّة کالمنع عن بیع الوقف و الرهن و أمّ الولد و نحوها، فالعبرة إنّما هی بتلک الموارد لا بالعنوان فلا یمکن التعدّی عنها، و المقام لیس من قبیل الموارد المذکورة کما هو واضح، فعلی تقدیر تسلیم أنّ المال تعلّق به حقّ الغیر لا یمکن الالتزام ببطلان بیعه.

الثانی ممّا استدلّ به علی المنع: ما ذکره شیخنا الأُستاذ(3) قدس سره من أنّ الممنوع شرعا کالممتنع عقلاً، و بما أنّ الشارع أمر بصرف المال فی الجهات الخاصّة فبالملازمة

ص: 459


1- 1 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/30.
2- 2 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 2/252.
3- 3 . لا حظ منیة الطالب 2/83.

نستکشف أنّ ضدّها و هو التصرف فی المال و صرفه إلی غیر الجهات الخاصّة حرام و منهی عنه شرعا، فیکون تسلیمه إلی المشتری ضدّا لصرفه فی الجهات و محرّما شرعا، و الممنوع شرعا کالممتنع عقلاً فیکون النهی موجبا لسلب القدرة علی التسلیم، و من شرائط صحّة المعاملات هو القدرة علی تسلیم المبیع و بهذا بنی علی أنّ النهی المولوی فی المعاملات یوجب الفساد، هذا.

و فیه: أنّ المتّبع هو الدلیل الذی دلّ علی اشتراط القدرة علی التسلیم و هل أنّه دلّ علی اعتبار القدرة خارجا و تکوینا أو علی اعتبار القدرة شرعا أیضا، و لا إشکال أنّه إنّما یقتضی اعتبار القدرة علی التسلیم تکوینا، و لا إشکال أنّ الناذر قادر علیه خارجا فلا محالة یصحّ بیعه و إن ارتکب محرّما شرعیا حینئذ، و بالجملة أنّه لا تنافی و لا تضادّ بین حرمة التصرفات و نفوذها أبدا، فلذا یصحّ البیع فیما إذا حلف علی ترکه غایة الأمر أنّه عاصٍ للحکم التحریمی حینئذ، و القائل أنّ الممنوع شرعا کالممتنع عقلاً إن أراد بذلک أنّه غیر مقدور تکلیفا فهو مسلّم، و إن أراد أنّه غیر مقدور وضعا بمعنی أنّه غیر نافذ فهو أوّل الکلام کما لا یخفی.

فالمتحصل: أنّه لا مانع من الالتزام بصحة بیع المال الذی تعلَّق به النذر و وجب صرفه فی جهات معیّنة و إن کان ذلک معدما له حینئذ. ثمّ إنّه لا إشکال فی صحة البیع فیما إذا علم برجوعه إلی ملکه عند فعلیة النذر بحصول شرطه کما إذا علم أنّه یهبه له أو یبیحه أو یبیعه منه و هکذا، و لعلّ المانع یمنعه فی غیر تلک الصورة أیضا بل لا یکون التصرف حراما أیضا لعدم منافاته الوفاء بالنذر»(1).

تنبیه:

ثمّ استشهد الشیخ الأعظم علی قوله بِحُرْمَةِ تصرف الأصیل فیما انتقل عنه و وجوب الوفاء و الالتزام بما عقد علی نفسه بما ذکره القوم فی باب النکاح:

قال العلاّمة: «ولو تولّی الفضولی أحد طرفی العقد ثبت فی حقّ المباشر تحریم

ص: 460


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/(474-470).

المصاهرة فإن کان زوجا حرم علیه الخامسة و الأُخت و الأُمّ و البنت، إلاّ إذا فسخت - علی إشکال - فی الأُمّ، و فی الطلاق نظر، لترتّبه علی عقد لازم فلا یبیح المصاهرة، و إن کان المباشر زوجةً لم یحلّ لها نکاح غیره إلاّ إذا فسخ، و الطلاق هنا معتبر»(1).

و قال المحقّق الثانی: «لو تولّی العقد عن الرجل أو المرأة فضولی و باشر الآخر منهما العقد بنفسه، فقد علم من ما مضی أنّ العقد لازم بالنسبة إلی المباشر، و حینئذ فیثبت تحریم المصاهرة بالنسبة إلیه، لأنّ ذلک دائر مع النکاح الصحیح، و قد علمت أنّ النکاح صحیح بالنسبة إلیه حیث أنّه لازم من طرفه.

فالمباشر إمّا زوج أو زوجة، فإن کان زوجا حرم علیه نکاح الخامسة لو کانت المعقود علیها فضولاً رابعة و حرم علیه اُخت المعقود علیها و اُمّها و بنتها، لأن ذلک أثر النکاح الصحیح، إلاّ إذا فسخت المعقود علیها، فان التحریم ینتفی حینئذ لانتفاء مقتضیه.

و ذلک واضح فی الاُخت، فإنّها لا تحرم إلاّ جمعا لا عینا و قد انفسخ النکاح، و کذا البنت، فإنّها لا تحرم عینا إلاّ مع الدخول باُمّها.

أمّا الأُمّ، فإنّ فی بقاء تحریمها بعد الفسخ و زواله إشکال، ینشأ: من أن تحریم الأُمّ یثبت بالعقد الصحیح اللازم، و قد تبین أنّ العقد صحیح لازم من طرف المباشر، فیتعلّق به تحریم الاُمّ. و من أنّ الفسخ رفع النکاح من أصله، فارتفعت أحکامه.

و أیضا فإنّ النکاح لا یعقل ثبوته بمجرد القبول المعتبر من دون الإیجاب الشرعی، و إیجاب الفضولی لا أثر له من دون الرضی، و إذا لم یثبت النکاح لم یثبت التحریم.

و التحقیق: أن المباشرة من أحد الطرفین لاتقتضی ثبوت النکاح من ذلک الطرف الآخر لأنّ النکاح أمرٌ واحدٌ نسبیٌّ لا یعقل ثبوته إلاّ من الجانبین.

و إنّما قلنا إنّه یلزم فی حقِّ المباشر، بناءً علی أن الإجازة کاشفة عن ثبوت العقد و لزومه من حین وقوعه، کما أن عدمها کاشف عن عدم ذلک.

فلو فسخ المباشر ثمّ أجاز الآخر تَبَیَّنّا أنّ فسخه وقع بعد ثبوت العقد و لزومه فلم

ص: 461


1- 1 . قواعد الأحکام 3/16.

یؤثر شیئا، و الحکم بثبوت حرمة المصاهرة إنّما کان لأنّ العقد الواقع نقل عن حکم الحلّ الذی کان قبله، و إن کانت سببیته و عدم سببیته الآن غیر معلومة، فلم یبق حکم الأصل کما کان.

و مثله ما لو اشتبهت الزوجة المعقود علیها عقدا صحیحا لازما بغیرها، فإنّ تحریم المصاهرة ثابت بالنسبة إلیهما معا، و کذا القول فیما لو اشتبه الطاهر بالنجس و الحلال بالحرام.

و بهذا البیان یظهر أنّه مع الفسخ یتبیّن أنّه لا عقد أصلاً، فلا تحریم أصلاً، و هذا هو الأصح»(1).

قال الفاضل الأصفهانی: «(فإن کان زوجا حرم علیه الخامسة و الاُخت) بلا إشکال لصدق الجمع بین الاُختین و نکاح أربع بالنسبة إلیه، و لا یجدی التزلزل.

(و) لکلٍّ من (الأُمّ و البنت) للمعقود علیها فضولیا (إلاّ) أنّه قبل تبیّن حالها من الإجازة أو الفسخ لا إشکال فی الحرمة، لحرمة الجمع قطعا، و کذا إذا أجازت. و أمّا (إذا فسخت) فلا حرمة بلا إشکال فی البنت، و (علی إشکال فی الاُمّ) من أنّ الفسخ کاشف عن الفساد أو رافع له [أی للعقد] من حینه [أی من حین الفسخ] و الأوّل أصح، فإنّ الأصح أنّ الإجازة إمّا جزءٌ أو شرطٌ.

(و فی) إباحة المصاهرة مع (الطلاق) قبل تبیّن حال الآخر من الإجازة أو الفسخ (نظر لترتبه علی عقد لازم) و إلاّ وقف علی الإجازة، و لأنّه لایتعلّق إلاّ بالزوجیة، و لا زوجیة ما لم یلزم، و الفضولی غیر لازم ما لم یجز، فلا یصح هذا الطلاق (فلا یبیح المصاهرة).

و یحتمل الإباحة لأنّا إنّما نسلّم توقّفه علی اللزوم من قبله و هو حاصل أو نقول: إنّه إنّما یتوقّف علی نکاح صحیح، و الإجازة کاشفة عن الصحة لا متمّمة و الفسخ کاشف عن الفساد فالطلاق مراعی، فإن أجازت تبیّن صحته لصحة العقد و إلاّ تبیّن فساده

ص: 462


1- 1 . جامع المقاصد 12/(161-159).

لفساده، و علی التقدیرین یستباح المصاهرة إلاّ فی الاُمّ.

و قد یقال: لا عبرة بالطلاق مع الجهل بشرطه فلا یفید شیئا.

و یحتمل أن یکون أراده [أی أراد الطلاق] المصنف بأنْ أراد ترتبه علی عقد معلوم الصحة.

و یمکن أن یکون مراده النظر إباحته [أی الطلاق] الاُمّ من ترتبه [أی الطلاق[ علی عقد لازم أی تام، فلا یخلو إمّا أن یحکم بصحته [أی الطلاق] أو لا؟:

و علی کل لم یکن مفیدا للإباحة [أی لإباحة الاُمّ]، إذ علی الأوّل یلزم العقد الصحیح علی البنت، فلا تحلّ الاُمّ، و علی الثانی إن أجازت صح العقد فحرمت الاُمّ، و إن فسخت فالحکم ما تقدّم.

و علی احتمال الإباحة فیه [أی فی الطلاق] فإنّما أُبیحت [الأُمّ] لفساد العقد من أصله، لا للطلاق و من أنّه [أی الطلاق] بالنسبة إلیه [أی إلی الزوج المباشر] بمنزلة الفسخ قبل اللزوم بل قبل التمامیة، و منع توقّفه [أی الطلاق] علی اللزوم أو التمامیة، فلم یتم العقد علی البنت فتحلّ الاُمّ، سواء فسخت [الزوجة التی یکون العقد بالنسبة إلیها فضولیا[ بعده أم أجازت.

(و إن کان المباشر زوجة لم یحل لها نکاح غیره إلاّ إذا فسخ) و هل یحلّ لها حینئذ نکاح أبیه أو إبنه؟ فیه الوجهان فی إباحة الاُمّ بالفسخ، (و الإطلاق هنا معتبر) فإنّه إذا طلّق فقد أجاز قبله فلزم العقد»(1).

و قال الشیخ یوسف البحرانی بعد نقل کلام المحقّق و الشهید الثانیین من غیر ترتیب و بعد کلام الأوّل منهما: «و مرجعه إلی أنّ تحریم المصاهرة فی الصورة المذکورة إنّما هو من حیث وقوع الشبهة بهذا العقد فی أنّ المعقود علیها قبل الإجازة أو الفسخ زوجة أم لا؟ لا أنّ العقد کان لازما من جهة المباشرة کما ذکروه فیترتّب علیه أحکام المصاهرة.

ص: 463


1- 1 . کشف اللثام 7/107 و 108.

و الحقّ أنّ العقد فی الصورة المذکورة یکون موقوفا لا یحکم علیه بلزوم و لا بطلان إلی أن تلحقه الإجازة أو الفسخ فیظهر حاله بذلک، و الحکم باللزوم بمجرد کونه من أحد الطرفین لا یخلو من مناقشة و إشکال»(1).

قال صاحب الجواهر: «(ولو بلغ أحدهما فرضی) به (لزم العقد من جهته) بناءً علی أنّ الإجازة کاشفة، فالمراد باللزوم حینئذ من جهته عدم جواز فسخه له، بل فی القواعد(2) فی نحو المقام أنه نحرم المصاهرة علیه، بل فی کشف اللثام(3) نفی الإشکال فیه، فلا یجوز له إن کان الزوج نکاح الاُخت و الخامسة و کلّ من الأمّ و البنت إلاّ إذا فسخت الزوجة، فلا حرمة علی إشکال فی الأمّ، و فی الکشف(4) من أن الفسخ کاشف عن الفساد أو رافع له من حینه ثمّ قال فیها: و مع الطلاق نظر لترتبه علی عقد لازم، فلا یبیح المصاهرة إلی أن قال فیها: و إن کان الزوجة لم یحل لها نکاح غیره مطلقا إلاّ إذا فسخ، و الطلاق هنا معتبر، و فی الکشف(5) و هل لها نکاح أبیه أو ابنه؟ فیه الوجهان فی إباحة الأمّ بالفسخ، لکنّه قد یناقش باعتبار تحقّق النّکاح فی تحریم ذلک و لیس، إذ الفرض عدم حصول الإجازة من الآخر، و احتمال حصولها غیر کافٍ فی تحقّقها، بل الأصل یقتضی عدمها.

بل مقتضاه جواز ذلک کلّه له حتّی تحصل و إن انکشف بعد حصولها بطلان التصرف الحاصل بین العقد و بینها، فمن باع ماله من فضولی لم یمتنع علیه الانتفاع به ولو المتلَف.

اللّهم إلاّ أن یفرّق بینه و بین النّکاح المطلوب فیه الاحتیاط بالأنساب و غیرها.

أو یلتزم فیهما معا بالحرمة من باب المقدمة، ضرورة أنه علی الکشف بالمعنی المعروف عندهم یکون الأمر دائرا بین کونها أمّ امرأته مثلاً أو غیرها، فیحرم وطؤها مقدمة

ص: 464


1- 1 . الحدائق 23/289 و 290.
2- 2 . القواعد 3/16.
3- 3 . کشف اللثام 7/107.
4- 4 . کشف اللثام 7/107.
5- 5 . کشف اللثام 7/108.

لامتثال تحریم نکاح أمّ الزوجة، و یحرم علیه التصرف فی المال، لدورانه بین کونه ماله و مال غیره، فیجب اجتنابه مقدمة لامتثال حرمة التصرف فی مال الغیر، و بذلک ینقطع استصحاب الجواز السابق، فإنّه لایعارض باب المقدمة، بل لعلّ موضوع المستصحب غیرُ محقّقٍ بعد صدور ما یحتمل السّببیة منه المخرجة له عنه، کما أنّه لم یعلم تناول أد لة الحلِّ للفرض، إذهی نکاح غیر أ مّ المرأة، و لم یعلم کونها کذلک، هذا أقصی ما یمکن أن یقال.

لکن الإنصاف عدم خلوه مع ذلک عن الإشکال، خصوصا بعد ملاحظة أصل عدم حصول الإجازة.

و استصحاب أحکام الموضوع السابق(1)، مثل جریان هذا العقد و العزل فی خبر الحذاء(2) إنّما هو للاحتیاط فی حفظ المال، کالعزل للحمل، فهو مخصوص فی محلِّه، و لذا صرّحوا بإعطائه للوارث مع فرض طول الانتظار و نحوه بجنون و نحوه، فتأمّل.

فإنّه قد یقال بمعارضة أصالة عدم الإجازة بأصالة عدم حصول المبطل للعقد المتأهل للصحة، و الاستصحاب قد انقطع قطعا، ضرورة اندراجها فی المعقودة التی هی غیر نافذة العقد، نعم هی محتملة لکونها من ذی العقد المقبول أو المردود، و لا أصل ینقح ذلک، فیجب الاجتناب مقدمة کالمعقودة المشتبهة بغیرها، مؤیدا ذلک بتناول أمر الوفاء بالعقد الشامل لمثل هذا العقد للأصیل مثلاً، و لیس الوفاء به إلاّ المراعاة لحاله، و إجراء حکم المصاهرة و نحوها علیه، لأن الوفاء بکلِّ شی ء بحسب حاله، بل لعلّ الأمر بعزل المال فی الصحیح الآتی(3) لذلک.

نعم، من الغریب ما سمعته مع احتمال تحریم الأُمّ و الاب و الإبن بمجرد صدور العقد فضولاً الذی تعقَّبه عدم الإجازة ولو من طرف واحد، لإحتمال کون الفسخ من حینه، فإنّه لا یقتضیه أصل و لا قاعدة و لا فتوی، بل یمکن تحصیل الإجماع أو الضرورة بخلافه، و الطلاق غیر مجدٍ، ضرورة اعتبار تعقّبه للنّکاح، و الفرض عدم تمامیته لعدم

ص: 465


1- 1 . أی العقد الفضولی.
2- 2 . وسائل الشیعة 26/219، ح1.
3- 3 . وسائل الشیعة 26/219، ح1.

حصول الإجازة، و إن قلنا بکونها کاشفة بناءً علی مدخلیتها فی تأثیر الصّحة ولو علی جهة الکشف الشرعی فلا یؤثر الطلاق حینئذ فسخا، نعم علی ما حقّقناه سابقا(1) من عدم المدخلیة لها فی الصّحة، و أنّه یکفی فیها أن یرضی الذی هو فی علم اللّه کالمحقَّق یتّجه تأثیر الطلاق لو صادف الصّحة علی الأصح، لعدم اعتبار العلم بها فیه فتأمّل جیّدا، فإنّه دقیق»(2).

أقول: قد مرّ منّا بأنّ صاحب الجواهر قائل بالکشف الحقیقی الحصولی - الوجه الخامس من وجوه الکشف الذی مرّ - و هو یقول: «بأنّ الشرط حصول الرضا ولو فی المستقبل الذی یُعلم بوقوعه من المالک مثلاً أو بإخبار المعصوم علیه السلام أو نحو ذلک... ولکن لابدّ فیه من حصول الرضا ولو فی المستقبل و لا یکفی فیه الرضا التعلیقی بمعنی أنّه لو علم لرضِی...».

ثمّ ما ذکره قدس سره من قوله: «من الغریب... أو الضرورة بخِلافه متین جدّا.

و أمّا الطلاق قبل الإجازة فَلا یتم شرعا لعدم تمامیة النکاح حتّی یترتب علیه الطلاق، ولکن یمکن أن یقال بأنّ هذا الطلاق قبل الإجازة یعدّ فسخا عرفیا للنکاح الذی قبله فیمکن اعتباره فسخا عرفیّا لا طلاقا شرعیّا.

قال الشیخ الأعظم بعد نقل کلام العلاّمة فی القواعد: «و عن کشف اللثام نفی الإشکال و قد صرّح أیضا جماعة بلزوم النکاح المزبور من طرف الأصیل و فرّعوا علیه تحریم المصاهرة»(3).

أقول: قد مرّ کلام الفاضل الأصبهانی من نفیه الإشکال - فی زمان الفاصل بین عقد الفضولی و الإجازة أو الردّ - بالنسبة إلی حرمة الخامسة و الاُخت و الامّ و البنت، و أنت تری خلو عبارته من نفی الإشکال فی الاُمّ بالنسبة إلی حرمتها أو حلّیّتها.

و الظاهر أنّ الشیخ الأعظم استشهد بهذا الفرع فی کتاب النکاح علی قوله من

ص: 466


1- 1 . الجواهر 23/466 و 467 (22/289).
2- 2 . الجواهر 29/217 و 218.
3- 3 . المکاسب 3/417.

حرمة تصرف الأصیل فیما انتقل عنه کما مرّ فی أوّل التنبیه، فاستشهاده بکلام الفاضل الأصبهانی یرجع إلی مقصوده من حرمة تصرف الأصیل فیما انتقل عنه، فأتی بنفی الإشکال فی کلامه بالنسبة إلی حرمة الخامسة و الاُخت و الاُمّ و البنت. فلا یرجع نقل نفی الإشکال فی کلام الأصبهانی من الشیخ الأعظم إلی الاُمّ - کما تراه المحقّق المروج(1) أنّه من المتعین - ثمّ اعترض علیه بأنّه لم یجدِه، فاعتذر له بأنّه: «اعتمد فی نقل کلام الفاضل الأصفهانی علی مطلع کلام صاحب الجواهر(2)»(3).

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «و أمّا مثل النظر إلی المزوّجة فضولاً و إلی اُمّها - مثلاً - و غیره ممّا لا یعدّ ترکه نقضا لما التزم العاقد علی نفسه، فهو باق تحت الاصول لأنّ ذلک من لوازم علاقة الزوجیة الغیر الثابتة، بل المنفیّة بالأصل.

فحرمة نقض العاقد لما عقد علی نفسه لا یتوقّف علی ثبوت نتیجة العقد - أعنی علاقة الملک أو الزوجیة - بل ثبوت النتیجة تابع لثبوت حرمة النقض من الطرفین»(4).

أقول: هذا البیان من الشیخ الأعظم تام بل ثبوت نتیجة العقد تابع لثبوت حرمة النقض من الطرفین کما ذکره قدس سره . فبالنسبة إلی مسألة النکاح الفضولی لا حرمة فی البین أبدا مادام لم یجز الذی أقام الفضولی العقد من طرفه، نعم، بعد إجازته تمَّ عقد و تترتب الحرمة. و أمّا قبلها فلا حرمة فی البین أصلاً بلا فرق بین أن یکون الفضولی من طرف الزوجة أو الزوج، فلو تزوّج الزوج المباشر الخامسة أو الاُخت أو الاُمّ أو البنت قبل الإجازة صح تزویجه و نفس هذا العقد یدلّ علی الفسخ العملی للعقد الفضولی السابق.

و کذا لو تزوّجت الزوجة المباشرة نفسها للغیر أو الأب أو الإبن قبل الإجازة یدلّ نفس هذا العقد الثانی علی الفسخ العملی للعقد الفضولی السابق.

فلا حرمة فی البین أصلاً. نعم، مادام هو أو هی علی عقدهما الفضولیان یجب

ص: 467


1- 1 . هدی الطالب 5/131.
2- 2 . الجواهر 29/217.
3- 3 . هدی الطالب 5/131.
4- 4 . المکاسب 3/417 و 418.

علیهما مراعاة الحرمة کما علیه صاحب الحدائق(1).

و بالجملة: هذه الثمرة - حرمة تصرف الأصیل فی ما انتقل عنه - لا تَتُمُّ عندنا و الحمدللّه.

الرابعة: سقوط أهلیة التملّک عن الأصیل

ثمّ تعرّض الشیخ الأعظم لأربع ثمرات ذکرها الشیخ الأکبر کاشف الغطاء بین النقل و الکشف فنحن نقتفی أثره:

قال الشیخ جعفر کاشف الغطاء: «و تظهر الثمرة أیضا فیما لو انسلخت قابلیة الملک عن أحدهما بموته قبل إجازة الآخر أو بعروض کفر - بارتداد فطری أو غیره - مع کون المبیع مسلما أو مصحفا إن لم نشترط فیها ما نشترطه من الاسلام حین العقد»(2).

مراده: یمکن الخروج عن قابلیة التملک بأحد اُمور ثلاثة:

1. الخروج العرفی عن قابلیة التملک کالموت.

2. الخروج التعبدی عن قابلیة تملک أمواله السابقة کالارتداد الفطری

3. الخروج التعبدی عن قابلیة تملک بعض أمواله نحو المصحف الشریف و العبد المسلم کالإرتداد الملّی.

و تظهر الثمرة بین الکشف و النقل بأنّ العاقد الأصیل إذا أنشا البیع أو الشراء و انسلخت عنه قابلیة التملیک بالموت أو الارتداد، صحت المعاملة بناءً علی الکشف لأنّه حین العقد کان قابلاً و انسلخت القابلیة عنه بعد العقد و بناءً علی النقل کانت المعاملة باطلة لأنّ حین الإجازة و الانتقال لم یکن الأصیل قابلاً للتملک.

و اعترض صاحب الجواهر علی أُستاذه و قال: «إنّ الأوّل و إن کان قد یشهد له خبر(3) الصغیرین اللذین مات أحدهما، لکن یمکن الجمود علیه و دعوی عدم الجواز فی

ص: 468


1- 1 . الحدائق 23/290.
2- 2 . شرح القواعد 2/96.
3- 3 . وسائل الشیعة 26/219، ح1، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج، صحیحة الحذّاء.

غیره بناءً علی الکشف أیضا، ضرورة أنّه یمکن دعوی ظهور الأدلة فی اعتبار القابلیة حاله کالنقل أیضا، و أنّه لو لا الرضا لکان مالکا، بل لابدّ من اتصالها من حین العقد إلی حین الإجازة حتّی لا ینافی زمان التملّک الذی هو مستمرّ أیضا من حین العقد إلی حین الإجازة»(1).

مراده: اعتبار اتصال قابلیة التملّک بین زمانی العقد و الإجازة حتّی یستند خروج المال عن ملک کلّ واحد من المتبایعین إلی إجازة المجیز بحیث لولاها استمرت الملکیة و لم تنقطع إلاّ بالإجازة الموجبة للانتقال.

و دلیل اعتبار هذا الاتصال بعض النصوص الواردة فی صحة بیع الفضولی کصحیحة محمّد بن قیس(2) و موثقة جمیل(3)، إذ ظاهرهما بقاء الأصیل علی أهلیة التملک إلی ظرف الإجازة.

و ردّ الشیخ الاعظم(4) علی صاحب الجواهر بجوابین:

أحدهما: نقضی: قائلین بصحة بیع الفضولی بالإجازة تسالموا(5) فی مسألة ما لو تعاقب العقود المتعددة علی مال المجیز، مع أنّه علی القول بالکشف لیس مالکا حین الإجازة، لزوال ملکیته بها و صحة العقود المتعددة بعدها. و قد التزم صاحب الجواهر نفسه فیها بالصحة حیث یقول: «و أمّا ما بعده من العقود فلا ریب فی صحتها بناءً علی الکشف لوقوع التصرف حینئذ فی الملک. و أمّا علی النقل، فیحتمل البطلان لتعذّر الإجازة حینئذٍ من المالک... و الصحة مع الإجازة منه لکون الرضا الأوّل إنّما کان و المال لغیره و لعلّ الأوّل أقوی»(6).

ص: 469


1- 1 . الجواهر 23/469 (22/291).
2- 2 . وسائل الشیعة 21/203، ح1.
3- 3 . وسائل الشیعة 19/18، ح9.
4- 4 . المکاسب 3/419.
5- 5 . راجع جامع المقاصد 4/70؛ المسالک 3/158.
6- 6 . الجواهر 23/471 (22/292).

و الآخر: حلّی: ظهور بعض الأخبار بل صریح بعضها فی عدم اعتبار قابلیة تملیک أحد المتعاقدین حال إجازة الآخر، مضافا إلی فحوی بعضها الآخر.

الأوّل نحو: موثقة جمیل(1)، و الثانی نحو: روایة ابن أشیم(2)، و الثالث نحو: صحیحة الحذّاء(3).

ولکن المحقّق السیّد الخوئی اعترض علی الشیخ الأعظم و صاحب الجواهر کلیهما و قال: «و لا یخفی أنّ تلک الأخبار بأجمعها خارجة عن البیع الفضولی علی ما ذکرناه سابقا حتّی أنّ شیخنا الأنصاری لم یستدلّ علی صحة الفضولی بتلک الأخبار و أنّما ذکرها تأییدا، و علیه فلم ترد روایة منها فی الفضولی حتّی یستفاد منها عدم اعتبار استمرار القابلیة بالصراحة أو الظهور کما هو الظاهر.

و أمّا النقض الذی اورده علی صاحب الجواهر قدس سره فأعجب، لأنّ الکلام فی اعتبار قابلیة المتعاقدین فی نفسهما و أمّا الخروج عن المالکیة بالإجازة فهو ممّا لا مانع عنه أبدا، و من الظاهر أنّ المالک فی البیوع المتعاقبه لم یخرج عن أهلیة الملک و القابلیة لو لا الإجازة، فهذا النقض من مثله بالنسبة إلی صاحب الجواهر غریب، هذا کلّه بالنسبة إلی ما أفاده شیخنا الأنصاری قدس سره ».

أقول: ما ذکره المحقّق السیّد الخوئی بالنسبة إلی نقض الشیخ الأعظم تام، و أمّا ما ذکره بالنسبة إلی جوابه الحلّی فَغَیْرُ تام، لأنّه لو فُرض عدم تمامیة الاستدلال بهذه الروایات علی بیع الفضولی، - و قد عرفت فی البحث عن أدلة صحة بیع الفضولی تمامیة فحوی ما دل علی صحة نکاح الفضولی أی صحیحة أبی عبیدة الحذاء - کیف لا یمکن استفادة عدم اعتبار استمرار قابلیة تملّک عنها، مع أنّ هذا البحث الأخیر لا یکون من فروع بحث بیع الفضولی، و البحث فیه عام یشمل الفضولی و غیره، فهذا البیان من مثل السیّد الخوئی قدس سره - و هو مرجع الطائفة - غریب.

ص: 470


1- 1 . وسائل الشیعة 19/18، ح9.
2- 2 . وسائل الشیعة 18/280، ح1.
3- 3 . وسائل الشیعة 26/219، ح1.

ثمّ قال المحقّق السیّد الخوئی: «و أمّا ما ذکره صاحب الجواهر قدس سره فإن کان الخروج عن القابلیة بالموت فالظاهر أنّ المعاملة صحیحة علی کلا القولین من الکشف و النقل.

أمّا علی الکشف، فلوضوح أنّ الإجازة تکشف عن صحّة البیع حین العقد و هما کانا حیّین عند العقد، و خروج أحدهما عن الأهلیة بعده لا یوجب فساد المعاملة للعمومات و الاطلاقات الواردة فی صحّة بیع الفضولی الشاملة لما إذا خرج أحد المتعاقدین عن القابلیة حین الإجازة، نعم لو کان المدرک فی صحّة البیع الفضولی هو الأخبار الخاصّة المتقدّمة کروایة عروة البارقی أو صحیحة محمّد بن قیس و نحوهما، کان اللازم أن نقتصر علی موردها، و هما ظاهرتان فی حیاة المالکین و المتعاقدین، و لم یمکن التعدّی منهما إلی ما إذا خرجا عن الأهلیة بالموت إلاّ أنّک عرفت أنّ المدرک هو العمومات و هی شاملة للمقام من دون قصور.

و أمّا علی النقل، فلأنّ المعاملة إنّما تتقوّم بالمبادلة بین المالین و لا نظر فیها إلی المالکین، فإذا صدرت الإجازة من المالک المجیز فتتوقّف صحّة المعاملة علی إجازة وارث الأصیل الذی فرضناه خارجا عن الأهلیة بالموت، لأنّ الموت لا یوجب بطلان المعاملة حینئذ، غایة الأمر أن یکون بیعه بالنسبة إلی الوارث فضولیا لأنّه باع ما ملکه الوارث بعد ذلک فیتوقّف علی إجازة الوارث، و سیأتی فی المسألة الآتیة أنّه لا یعتبر فی المجیز أن یکون مالکا حین العقد علی ما ذهب إلیه الشیخ أسداللّه التستری، و لا مانع من أن یکون المجیز غیر المالک حین العقد، هذا کلّه بالنسبة إلی الموت.

و أمّا إذا کان الخروج عن الأهلیة بالارتداد و الکفر: فالظاهر کما نقل عن کاشف الغطاء و غیره أنّهم لم یفرّقوا فی المرتدّ الفطری بین کون المبیع مصحفا أو عبدا مسلما و بین کونه من الأشیاء الاُخر، و قد حکموا بالصحّة علی الکشف و البطلان علی النقل، ولکنّه مبنی علی أنّ الارتداد عن فطرة یوجب عدم قابلیة المرتدّ للملک مطلقا، إلاّ أنّ هذا ممّا لم یدلّ دلیل علی صحّته و إنّما و رد أنّ المرتدّ عن فطرة تقسّم أمواله بین ورثته و تنتقل إلیهم، و أمّا أنّه إذا اکتسب مالاً بعد الارتداد لایکون مالکا له فلایستفاد من شی ء،

ص: 471

و علیه لابدّ فی الفطری أیضا من التفصیل بین کون المبیع من قبیل المصحف و العبد المسلم و نحوهما ممّا لا یملکه الکافر و بین غیره فالثمرة تظهر فی بیع المصحف و العبد المسلم فإنّه علی الکشف یصحّ لأنّه کان مسلما حین العقد و علی النقل یکون باطلاً لأنّه حین الإجازة کافر و هو لایتملّک شیئا منهما کما لایخفی، و أمّا فی غیرهما کالفرش و الدار و نحوهما فلا یبطل علی النقل أیضا حتّی فی الارتداد عن فطرة، إذ لا دلیل علی أنّ المرتدّ الفطری لا یتملّک بعد الارتداد.

ثمّ لایخفی أنّ ما ذکرناه من بطلان بیع المصحف و نحوه عند ارتداد المشتری قبل الإجازة بناءً علی القول بالنقل إنّما هو فیما إذا کان الثمن کلّیا، و أمّا إذا کان شخصیا و کان الارتداد عن فطرة فهو ینتقل إلی ورثة المرتدّ فتکون المعاملة بقاءً علی مال الورثة فتتوقّف علی إجازتهم کما مرّ فی الموت، لأنّه بالنسبة إلی الوارث فضولی و لا یکون البیع باطلاً، فلا تکون حینئذ ثمرة بین القول بالکشف و القول بالنقل، و إنّما تظهر الثمرة عند کون الثمن کلّیا إذ لا مالیة له إلاّ بالاضافة و هو قد اُضیف إلی ذمّة المرتدّ، و لاینتقل إلی الورثة لمغایرة ما اُضیف إلی ذمّته بالنسبة إلی ما فی ذمّة الورثة.

و الحاصل: أنّ الارتداد موت شرعی، و علیه فلا فرق بینهما فی البیع الشخصی من حیث الصحّة فیهما علی کلا القولین من النقل و الکشف، غایة الأمر أنّها علی النقل تتوقّف علی إجازة الوارث فی کلّ واحد من الارتداد و الموت، لأنّه بالنسبة إلی الوارث فضولی فیهما، کما لا فرق بینهما فی البیع الکلّی من حیث البطلان فی کلیهما علی القول بالنقل دون الکشف، لأنّ ما فی ذمّة المیّت و المرتدّ غیر ما فی ذمّة وارثهما، فلا فرق بینهما من هذه الجهات. نعم یظهر الفرق بین الارتداد و الموت علی القول بالکشف فیما إذا کان الثمن عبارة عمّا فی ذمّة أحدهما من المنافع کما إذا اشتریا المصحف أو العبد المسلم فی مقابل أن یکنسا دار البائع أو فی مقابل عمل آخر، فإنّ البیع فی صورة الموت باطل، لعدم تمکّنه من الثمن و استحالة الکنس أو العمل فی حقّ المیّت فیبطل، اللهمّ إلاّ إذ حکمنا بالانتقال إلی القیمة، و هذا بخلاف المرتدّ فإنّ البیع لایبطل بالنسبة إلیه بل ینتقل المصحف أو العبد إلی الوارث و یلزم المرتدّ علی العمل من الکنس أو غیره لقدرته علیه إلاّ فیما إذا

ص: 472

کان العمل ممّا یشترط فیه الطهارة و الإسلام کالصوم و الصلاة، فالبیع بالنسبة إلی المیّت باطل لعدم قدرته علی تسلیم الثمن، و صحیح فی حقّ المرتدّ فلا تغفل، هذا کلّه بالنسبة إلی ارتفاع الأهلیة و القابلیة عن المالکین قبل الإجازة و بعد العقد»(1).

الخامسة: سقوط أحد العوضین عن المالیة

قال الشیخ الأکبر کاشف الغطاء: «و تظهر الثمرة أیضا فیما لو انسلخت قابلیة المنقول بتلفه أو انقلابه إلی النجس أو عروض النجاسة له مع میعانه إلی غیر ذلک»(2).

مراده: ظهور الثمرة بین قولی الکشف و النقل لو انسلخت قابلیة المال المنقول - ثمنا کان أو مثمنا - للملکیة من طرف الأصیل إمّا بسبب تلف ذلک المال، أو انقلابه إلی النجس نحو: غلیان عصیر العنبی، أو عروض النجاسة علیه بحیث لایقبل التطهیر نحو: اصابة عین النجاسة إلی اللبن أو الدهن المایع أو أمثالهما بحیث لا یقبل التطهیر، فعلی القول بالکشف یصح الشراء و یکون المشتری مالکا للعصیر العنبی مثلاً و یکون ضرره علیه، و علی القول بالنقل وقع السقوط فی ملک البائع الأصیل و بطل الانتقال و یکون ضرره علی البائع.

و اعترض صاحب الجواهر علی أُستاذه بقوله بعد الاعتراض علی الثمرة السابقة: «و منه تنقدح المناقشة فی الثانی، بل هی اوضح من الأوّل ضرورة کون المعتبر علی الکشف و النقل رضا المالک، و الفرض انتفاء ملکیته بانتفاء قابلیة العین لها»(3).

توضیحه: المعتبر فی باب الفضولی إجازة المالک و رضاه بالعقد، فلو انتفت قابلیة العین للتملّک کما إذا إنقلب الخلُّ خمرا بعد انشاء الفضولی لم یصدق علی المالک أنّه مالک هنا حتّی تؤثر إجازته فی صحة بیع الفضولی بلا فرق بین الکشف و النقل.

و بعبارة أُخری: سقوط المال عن الملکیة یوجب انتفاء عنوان المالک، لأنّ

ص: 473


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/(478-475).
2- 2 . شرح القواعد 2/96.
3- 3 . الجواهر 23/469 (22/291).

الملکیة هی اضافة المال أو الملک إلی مالکه، و إذا انتفی الملک انتفت الملکیة و عنوان المالک، و إذا انتفت المالک و الملکیة و الملک انتفی البیع فضولیّا کان أو غیره، نری الإجازة کاشفة أو ناقلة، و هذا هو وجه اُولویة انتفاء هذه الثمرة عند صاحب الجواهر.

و أجابه الشیخ الأعظم(1) بجوابین:

أحدهما: فحوی صحیحة الحذّاء(2)، لأنّ المفروض فیها موت الزوج الذی هو أحد الرکنین فی عقد النکاح و قد حکم بصحة العقد لو رضیت الزوجة بعد إدراکها و حلفها، فکذلک فی بیع الفضولی إذا سقط المبیع عن المالیة أو الملکیّة بعد العقد - لأنّ المبیع لا یکون فی البیع أهم من الزوج فی النکاح - فیحکم بصحة بیع الفضولی بعد إجازة المالک و یکون التلف علی المشتری بناءً علی النقل لأنّ التلف وقع فی ملکه.

ثانیهما: الإطلاق الوارد فی قضیة عروة البارقی الناشی ء من ترک الاستفصال الدالّ علی عدم اعتبار استمرار قابلیة الملک إلی زمان صدور الإجازة، لأنّ عروة إذا أخبر الرسول الخاتم صلی الله علیه و آله بما فعل قال صلی الله علیه و آله : «بارک اللّه لک فی صفقة یمینک»(3) و لم یستفصل عن موت الشاة أو ذبحها أو تلفها، و ترک الاستفصال دلیل علی عدم اعتبار استمرار القابلیة إلی زمان صدور الإجازة.

و قال المحقّق السیّد الخوئی: «و أمّا إذا ارتفعت القابلیة عن المالین و خرجا عن قابلیة التموّل بالتلف و شبهه کما إذا صار الخلّ خمرا لأنّه تلف شرعی قبل الإجازة، فیقع الکلام فیه من جهتین:

إحداهما: أنّ الخروج عن قابلیة التموّل هل یوجب بطلان العقد علی النقل دون الکشف، و یظهر الثمرة بینهما فی مثله أو لا؟

و ثانیهما: أنّ استمرار قابلیة التموّل فی المالین شرط فی صحّة العقد و الإجازة کما ادّعاه صاحب الجواهر أو أنّ الاستمرار غیر لازم؟

ص: 474


1- 1 . المکاسب 3/419.
2- 2 . وسائل الشیعة 26/219، ح1.
3- 3 . مسند احمد 4/376؛ السنن الکبری 6/112 للبیهقی.

فأمّا الکلام فی الجهة الاُولی فملخّصه: أنّ الخروج عن القابلیة بالتلف و نحوه إن کان قبل القبض فلا إشکال فی أنّه یوجب البطلان علی کلا القولین.

أمّا علی النقل، فلوضوح أنّ المال قد تلف قبل البیع و المعاملة علی المعدوم باطلة.

و أمّا علی الکشف، فلأنّ الإجازة و إن تکشف عن الملکیة من حین العقد إلاّ أنّ کلّ مبیع تلف قبل قبضه فهو من مال مالکه فیوجب التلف انفساخ المعاملة، إذ المفروض أنّ المال لم یقبض، و معنی کلّ مبیع تلف قبل قبضه أنّ المال یدخل فی ملک البائع قبل التلف بآن و یتلف فی ملک البائع کنایةً عن انفساخ المعاملة و رجوع الثمن و المثمن إلی ملک مالکهما الأوّل فلا تظهر ثمرة بین القولین حینئذ.

و أمّا إذا خرجا عن القابلیة بالتلف و نحوه بعد القبض فلا مانع من الالتزام بالصحّة علی الکشف و البطلان علی النقل و تظهر الثمرة بینهما حینئذ.

و التلف بعد القبض یُتَصَوَّرُ علی وجهین:

أحدهما: ما إذا کان المبیع بید المشتری قبل المعاملة بإذن مالکه کما إذا استأجر الدار من مالکها و سکن فیها بإذنه ثمّ اشتراها بالبیع الفضولی و تلفت قبل الإجازة، فإنّ المعاملة صحیحة علی الکشف لأنّ الملکیة حصلت حین العقد و قد قبض المشتری المال، و التلف بعد القبض لا أثر له، و ذلک لأنّ المفروض أنّ المشتری قد قبض الدار من مالکها بإذنه و إن لم یقبضها المالک بعنوان المعاملة إلاّ أنّ قبضه صحیح و مستند إلی إجازة المالک و مثله یکفی فی القبض، ولکنّها باطلة علی النقل لأنّها تلفت قبل المعاملة، و القبض قبلها لا یوجب صحّة البیع أبدا لأنّها قد انعدمت و المعاملة علی المعدوم لا تصحّ.

و ثانیهما: ما إذا کان الفضولی وکیلاً من قبل المالک فی خصوص قبض کلّ ما للمالک من الأموال، و اشتری مالاً للمالک فضولاً و قد قبضه من البائع فتلف بعد القبض، فإنّه یصحّ علی الکشف لتقدّم الملکیة و القبض علی التلف، و المفروض أنّ القابض وکیل فی قبض أموال المالک و قبضه قبض المالک لا محالة، و یبطل علی النقل لانعدام المال قبل المعاملة.

ص: 475

و الغرض من هذا التطویل دفع ما أورده بعضهم و منهم شیخنا الأُستاذ(1) قدس سره علی کاشف الغطاء قدس سره فی المقام من أنّ المعاملة عند التلف باطلة علی کلا القولین، أمّا علی النقل فظاهر، و أمّا علی الکشف فلأجل أنّ کلّ مبیع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه، إلاّ أنّک عرفت أنّ التلف یمکن أن یتصوّر بعد القبض و علیه تظهر الثمرة بین القولین لا محالة، هذا.

ثمّ إنّ شیخنا الأنصاری(2) قدس سره مثّل للخروج عن المالیة بمثالین: التلف و عروض النجاسة علی المبیع مع میعانه، و لم نفهم الوجه فی المثال الثانی و أنّ عروض النجاسة علی المائعات کیف یخرج المائع عن المالیة و الملکیة مع أنّه قدس سره صرّح بجواز بیع المتنجّس کالدهن و نحوه للاستصباح أو لجعله صابونا بل لطلی السفن و نحوه، فلا یمکن المصیر إلی أنّ الدهن بتنجّسه یخرج عن المالیة، غایة الأمر أنّ بیعه غیر جائز فیما یتوقّف استعماله علی الطهارة إلاّ أنّه لایوجب الخروج عن المالیة و الملکیة بوجه حتّی أنّه لو أتلفه أحد نحکم بضمانه للمالک کما هو ظاهر.

نعم تظهر الثمرة بین القولین فی المثال إلاّ أنّه لا لأجل خروج المالین عن المالیة بل من جهة انتفاء شرط من شروط صحّة البیع، و علیه ینبغی أن یدرج ذلک فی المقام و یلحقّ بالقسمین المتقدّمین أعنی صورة خروج المالکین عن الأهلیة و صورة خروج المالین عن المالیة و یقال بظهور الثمرة فیما إذا خرج المالکان عن القابلیة أو خرج المالان عن التموّل أو انتفی شرط من شرائط صحّة البیع کما عرفت، هذا کلّه فی الجهة الاُولی.

أمّا الکلام فی الجهة الثانیة: فقد عرفت أنّ صاحب الجواهر قدس سره قد ادّعی ظهور الأدلّة فی اشتراط استمرار القابلیة و المالیة و الشرائط فی صحّة المعاملة و الإجازة، و قد تبعه بعض المتأخّرین و ذکروا أنّه لا إطلاق فی أدلّة صحّة الفضولی لیمکن التعدّی، بل لابدّ

ص: 476


1- 1 . منیة الطالب 2/85.
2- 2 . المکاسب 3/418.

من الاقتصار علی المقدار المتیقّن و هو صورة استمرار القابلیة و المالیة و الشرائط.

إلاّ أنّک عرفت أنّ ذلک إنّما یتمّ فیما إذا استدللنا علی صحّة الفضولی بالأخبار الخاصّة الواردة فی بعض الموارد المخصوصة، و أمّا إذا کان المدرک علی صحّة الفضولی هو الاطلاقات و العمومات فلا ینبغی الإشکال فی إطلاقها و شمولها للمقام و بها ندفع اشتراط الاستمرار بحسب القابلیة و المالیة و الشرائط، فلا یمکن المصیر إلی ما ذهب إلیه صاحب الجواهر قدس سره من بطلان المعاملة علی کلا القولین، بل قد عرفت أنّ الثمرة بینهما تظهر فی الموارد المتقدّمة، فما ذکره کاشف الغطاء هو الصحیح، هذا ما یرجع إلی کلمات صاحب الجواهر قدس سره .

و أمّا ما أفاده شیخنا الأنصاری فی مقام الجواب عن صاحب الجواهر قدس سره من أنّه لا دلیل علی استمرار القابلیة و المالیة فی المعاملة، بل الدلیل علی عدم الاشتراط موجود و هو الروایات الواردة فی صحّة الفضولی حیث إنّ ظاهر بعضها و صریح الآخر عدم اعتبار الحیاة فی المتعاقدین حال الإجازة، مضافا إلی إطلاق روایة عروة حیث لم یستفصل النبی صلی الله علیه و آله عن موت الشاة أو ذبحها و إتلافها، و إلی فحوی خبر تزویج الصغیرین.

فندفع بما ذکرناه سابقا من أنّه قدس سره أراد بالظاهر ما ورد فی المضاربة و فی الاتّجار بمال الیتیم من أنّ الربح للمالک و الصغیر، و الخسران علی العامل و المتصرّف، حیث إنّهما ظاهرتان فی الاطلاق و عدم التفصیل بین موت المالک و عدمه، إلاّ أنّک عرفت أنّهما أجنبیتان عن الفضولی و لا دلالة فیهما علی صحّته کی یتمسّک بهما فی المقام، و أمّا الصریح فلم نفهم أنّه ما أراد بالصریح فی الأخبار، إذ لا روایة صریحة فی ذلک بین الأخبار، و أمّا روایة ابن أشیم الواردة فی العبد المأذون فهی صریحة فی موت الموکّل و تدلّ علی صحّة بیع الوکیل فیما إذا مات الموکّل بعد البیع، و لا إشکال فی صحّة بیع الوکیل و معاملاته فیما إذا مات الموکّل بعد المعاملة، و هذه لا ربط لها بالمقام کما لا یخفی.

و أمّا ما استشهد به ثانیا ففیه: أنّ عدم الاستفصال لأجل الاطمئنان بعدم موت الشاة أو تلفها، إذ من البعید أن تموت الشاة فی ذلک الزمان القصیر المتخلّل بین بیعها و إجازة النبی صلی الله علیه و آله ، و علی تقدیر الشکّ فالاستصحاب جارٍ و أمّا ذبح الشاة و أنّه لم

ص: 477

یستفصل بین ذبحها و عدمه، ففیه: أنّ ذبحها لا یخرجها عن المالیة و الملکیة کما لا یخفی و الکلام فی خروج المالین عن المالیة فلا تغفل.

و أمّا استدلاله بروایة تزویج الصغیرین فهو عجیب، إذ علی تقدیر صحّتها فی موردها کیف یمکن التعدّی منها إلی المعاملات الفضولیة فإنّ التعدّی منها قیاس لا نقول به. و دعوی الفحوی و الأولویة کما صدرت منه قدس سره ممنوعة من جهة أنّا إنّما قلنا بدلالة الروایة الواردة فی صحّة النکاح الفضولی علی صحّة البیع الفضولی بالأولویة من أجل أنّ النکاح - بما أنّ فیه الفروج و الأولاد - أهم عند الشارع قطعا، فإذا صحّ الفضولی فی النکاح فتدلّ علی صحّته فی البیع بطریق أولی.

و أمّا فی المقام فیما أنّه لا یترتّب علی صحّة النکاح بعد فرض موت الزوج ولد و لا وط ء فلا یمکن التعدّی منه إلی البیع، إذ لا أهمیة له علیه و لا أولویة فی البین فکیف یمکن التعدّی عن صحّة النکاح بالإجازة الذی لا یترتّب علیه إلاّ إرث الزوجة إلی صحّة جمیع العقود الفضولیة لینتقل الثمن و المثمن إلی المالکین. فالمتحصّل أنّه لا یمکننا المساعدة علی شی ء ممّا أفاده فی المقام، هذا کلّه فیما إذا کان المالکان و المالان و البیع واجدین للقابلیة و المالیة و الشروط حین العقد ولکنّها ارتفعت بعد العقد إلی زمان الإجازة»(1).

السادسة: تجدّد القابلیة

قال الشیخ جعفر: «و فی مقابله [أی مقابل انسلاخ قابلیة الملکیة - أی الثمرة الخامسة -] ما لو تجدّدت القابلیة قبل الإجازة بعد انعدامها حین العقد، کما لو تجدّدت الثمرة أو بدا صلاحُها بعد العقد قبل الإجازة»(2).

مراده: تجدد قابلیة الملک من تجدید الثمرة أو بدایة إصلاحها بعد العقد ولکن

ص: 478


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/(483-478).
2- 2 . شرح القواعد 2/96.

أمثلة الجدّ تَنْحَصِرُ بمقابلة الثمرة الخامسة أی تجدید المالیة لا تجدید المالکیة فتأمل.

ولکن یمکن تصویره فی ما إذا تجدّدت قابلیة الملک للمالک الذی بیعت مالُه فضولیّا، و کانت قابلیته حین العقد منسلخة لموته مثلاً ولکن الفضول لا یدری انّه مات، ولکن بعد عقد الفضولی و قبل الإجازة أحیاه اللّه تعالی و تجدّدت قابلیته للملک، فعلی القول بالکشف البیع باطل لأنّ البیع وقع فی زمن انسلاخ قابلیة المالک لملکه، و لا یمکن تصحیحه بالإجازة التی کانت کاشفة من وقوع النقل و الانتقال من حین العقد الفاقد لشرائط الصحة، و أمّا علی القول بأنّها ناقلة، حیث وقع النقل و الانتقال من حین الإجازة الناقلة و حین الإجازة تجدّد القابلیة تکون المعاملة صحیحة.

و هذه الثمرة هِیَ علی عکس الثمرة الرابعة و الخامسة و لذا قال الجدّ: «فی مقابله»(1) أی فی مقابله فی تجدید القابلیة و ظهور الثمرة.

و اعترض علیه فی الجواهر و قال: «و اوضح من ذلک فسادا، فاقد القابلیة للملک حین العقد ثمّ وجدت قبل الإجازة، فإنّه لا وجه للصحة علی الکشف کما هو واضح، و علی النقل أیضا لعدم قابلیة العقد حال وقوعه للنقل فلا تنفعه الإجازة بعد أن کان فی غیر محلِّه»(2).

و وافق الشیخُ الأعظم صاحبَ الجواهر فی الاعتراض و قال: «نعم، ما ذکره أخیرا من تجدّد القابلیة بعد العقد حال الإجازة لایصلح ثمرة للمسألة، لبطلان العقد ظاهرا علی القولین...»(3).

توضیح اعتراضهما: العقد لابدّ أن یکون تاما من جمیع الجهات حین العقد فی الفضولی إلاّ إجازة المالک، و حیث فی هذا الفرض انسلخت قابلیة الملک عن مالکه حین العقد یکون باطلاً بلافرق بین الکشف و النقل.

ص: 479


1- 1 . شرح القواعد 2/96.
2- 2 . الجواهر 23/469 (22/291).
3- 3 . المکاسب 3/420.
السابعة: فقد شرط العقد

قال جَدُّنا الشیخ جعفر: «و فیما لو قارن العقد فقد الشروط بقول مطلق ثمّ حصلت و بالعکس»(1).

توضیحه: لو کان الشرط مفقودا حین العقد ولکن تجدّد قبل الإجازة یکون العقد باطلاً علی الکشف لوقوع العقد فاقدا للشرط ولکن یکون صحیحا علی النقل لوقوع العقد واجدا للشرط حین النقل.

و أمّا عکسه: لو کان الشرط موجودا حین العقد ولکن فُقد قبل الإجازة، فیکونُ العقد صحیحا علی الکشف لوقوع العقد جامعا للشرائط، باطلاً علی النقل لوقوع النقل حین فقدان شرائط الصحة.

لم یتعرض صاحب الجواهر لهذه الثمرة ولکن الشیخ الأعظم اعترض علیه بما اعترض علی الثمرة السادسة لأنّه قال بعد ما نقلت عنه فیها: «... و کذا فیما لو قارن العقد فقد الشرط»(2).

ولکن قال المحقّق السیّد الخوئی: «و أمّا إذا انعکس الأمر کما إذا کان المالکان غیر واجدین للقابلیة أو کان العوضان فاقدین للمالیة أو کان البیع فاقدا للشروط حین العقد فصارا واجدین لها فی زمان الإجازة فقد ذکر شیخنا الأنصاری(3) قدس سره فی المقام أنّ المعاملة باطلة حینئذ علی کلا القولین لعدم تمامیة الشروط فی العقد، ثمّ ذکر أنّ باب المناقشة فی ذلک و إن کان واسعا إلاّ أنّ الأرجح فی النظر ما ذکرناه، هذا.

ولکن التحقیق أن یفصّل بین الشروط فإن کان الشرط راجعا إلی المتعاقدین: کالبلوغ و العقل و نحوهما و فرضنا أنّ أحدهما کان صبیّا حین العقد ثمّ بلغ حین الإجازة، فلا ینبغی الإشکال فی بطلان العقد علی کلا المسلکین، لأنّ عمد الصبی و خطأه سیّان، فلا اعتبار بما صدر منه حال کونه صبیّا، فلا عقد حتّی یصحّ علی الکشف أو

ص: 480


1- 1 . شرح القواعد 2/96.
2- 2 . المکاسب 3/420.
3- 3 . المکاسب 3/(418-420).

النقل.

و أمّا إذا کان الشرط من شروط نفس البیع: کعدم کونه غرریا و کان ذلک الشرط مفقودا حال العقد الفضولی ثمّ ارتفع الغرر قبل الإجازة کماإذا باعه صندوقا مقفّلاً من دون أن یعلم المشتری بما فی الصندوق من الأموال ثمّ علمه بعد البیع قبل الإجازة، فالمعاملة باطلة أیضا علی کلا المسلکین، لاشتراط عدم الغرر فی البیع حال الحدوث فوجوده مانع عن صحّة البیع لا محالة، و ارتفاعه بعد ذلک لاینفع فی صیرورة البیع صحیحا، فما أفاده متین فی هذه الصورة أیضا.

و أمّا إذا کان الشرط من شرائط المالین فهو ینقسم إلی قسمین:

فتارةً: یکون أحد المنقولین أو کلاهما ممّا لا مالیة له تکوینا أو ممّا حکم الشارع بعدم مالیته شرعا حین العقد ثمّ انقلب إلی المال حال الإجازة، و هذا أیضا لا مجال لصحّته علی کلا القولین، فإذا باع الثمرة قبل بدوّ صلاحها أی زمان کونها زهرا علی نحو الفضولی ثمّ بدا صلاحها حین الإجازة من المالک، أو کان المبیع خمرا حال العقد ثمّ صار خلاً حین الإجازة فإنّ العقد فی المثالین إنّما وقع علی المعدوم حقیقة أو شرعا، لأنّ الثمرة غیر موجودة قبل بدوّ الصلاح واقعا کما أنّ الخمر محکومة بعدم المالیة شرعا فلا محالة یکون باطلاً، إذ لا معنی لصحّة العقد علی المعدوم علی کلّ من المسلکین و أمّا ما وجد بعد ذلک فهو لم یقع علیه عقد حتّی یصحّ بالإجازة.

و اُخری: یکون کلّ واحد من المنقولین مالاً حقیقة ولکن تختلف أوصافهما فیتّصفان بشی ء حال العقد و بشی ء آخر حال الإجازة، و فی مثل هذا لا وجه للبطلان علی کلا المسلکین کما إذا کان المبیع وقفا أو ماءً متنجّسا أو اُمّ ولد حال العقد ثمّ صار الوقف موردا للخلاف بین أهله حتّی انتهی الأمر إلی القتل و الجدال فصار بیعه صحیحا حال الإجازة، أو طهّرنا الماء قبل صدور الإجازة من المالک فجاز بیعه بعد ما کان بیعه باطلاً لاشتراط الطهارة فی المبیع، أو مات ولد الاُمّ فصحّ بیعها حال الإجازة، و مثل ذلک صحیح علی کلا القولین، أمّا علی النقل فواضح لأنّه حین الإجازة مال یجوز بیعه و قد وقع العقد علی هذا المال فبالإجازة یستند إلی المالک و حین الاستناد هو واجد لشرط

ص: 481

الصحّة فتعمّه العمومات، و أمّا علی الکشف فلأنّ الإجازة لا تکشف عن الملکیة من حین العقد حتّی یقال إنّ المبیع حال العقد کان وقفا أو ماءً متنجّسا أو اُمّ ولد و کیف یحکم بدخولها فی ملک المشتری مع أنّ بیعها غیر صحیح حینئذ، و إنّما تکشف عن الملکیة من زمان صیرورة الوقف أو الماء أو الاُمّ ممّا یجوز بیعه لأجل ما طرأ علیها من المجوّزات، فما أفاده قدس سره من البطلان علی کلا القولین غیر تامّ فی هذه الصورة.

کما أنّ الشرط إذا کان راجعا إلی المالکین: لا إلی المتعاقدین و لا إلی المالین و لا إلی البیع کاشتراط الإسلام فی مالک الثمن فی بیع المصحف أو العبد المسلم، فلا مانع من الالتزام بصحّة البیع علی کلا القولین، أمّا علی القول بالنقل فلوضوح أنّ المشتری قد صار مسلما حال الإجازة، و أمّا علی الکشف فلأنّ الإجازة إنّما تکشف عن الملکیة من زمان إسلام المشتری للمصحف و العبد لا من زمان العقد حتّی یقال إنّه حین العقد محکوم بعدم التملّک لهما، فإذا باع الفضولی شیئا منهما من الکافر للنسیان أو الغفلة و الاشتباه ثمّ أسلم الکافر قبل الإجازة فهو صحیح علی کلا المسلکین، فلا وجه لما أفاده قدس سره من البطلان علی کلا القولین فی هذه الموارد کما هو ظاهر»(1).

الثامنة: ثمرات متعددة

وردت فی کلام جَدِنّا الشیخ جعفر رحمه الله قال: «و فی تعلّق الخیارات و الشفعة و عدم صحة التصرف من حین العقد، و احتساب مبدأ اوقات الخیار، و معرفة مجلس الصرف و السَلَم و اشتراط بقاء القابلیة بعقل و رشد إلی حین الإجازة حیث نلحقها بالعقد الجدید إلی غیر ذلک. و ترتّب ما یتعلّق بالعهود و النذور و الأیمان غیر محتاج إلی الإیضاح و البیان»(2).

أقول: الظاهر أنّه فی زماننا یحتاج إلی الإیضاح و البیان و لذا قال المحقّق السیّدُ

ص: 482


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/(485-483).
2- 2 . شرح القواعد 2/96 و 97.

المروج فی توضیح هذه الثمرات ما نصه: «أنّه إذا إختلف حال المبیع صحةً و عیبا بأن کان صحیحا حین العقد المفروض وقوعه یوم الجمعة، و صار معیبا حال الإجازة الصادرة یوم السبت مثلاً. فعلی القول بالکشف یکون البیع لازما، لحدوث العیب فی ملک المشتری، فلا خیار له. و علی القول بالنقل یکون البیع جائزا، لوقوع العیب فی ملک البائع، فیثبت الخیار للمشتری.

ولو إنعکس الأمر، بأن کان المبیعُ حینَ وقوع العقد معیبا، و صار صحیحا عند صدور الإجازة، فعلی القول بالکشف یثبت الخیار للمشتری، لوقوع البیع علی المعیب، و العیبُ یوجب الخیار. و علی القول بالنقل یکون العقد لازما، لکون المبیع صحیحا عند صدور الإجازة المتممةِ للبیع، هذا.

و کذا تظهر الثمرة فی خیار الغبن، کما إذا بیع المال فضولاً بأکثر من قیمته السوقیة، فصار المشتری مغبونا، و ترقّت قیمته حال الإجازة، فبناءً علی الکشف یثبت خیار الغبن للمشتری، دون النقل.

ولو إنعکس الأمر، بأن بیع المالُ بأقلّ من قیمته الواقعیة، ثمّ إنخفضت حال الإجازة. فعلی الکشف یثبت الخیار للبائع، دون النقل.

و أمّا خیار المجلس، فالظاهر عدم تعلُّقه بعقد الفضولی، لعدم إنطباق ما فی دلیله من أنّه «إذا إفترقا وجب البیع» علیه، إذ لا عبرة بافتراق غیر المتبایعیین عن مجلس العقد، و إن کان مجلس عقد الفضولی مجلس العقد. و علیه فیختص خیار المجلس بما یکون إفتراق المتعاقدین عنه سببا للزوم البیع.

و دعوی «ظهور الثمرة فیما لو استمرّ مجلسُ البیع لافضولی إلی زمان حضور المجیز، و أجاز، فیثبت خیارُ المجلس، لکونه مجلس البیع» غیر ظاهرة، إذ الکلام فی حسبان مبدأ خیار المجلس، و أنّه العقد أو الامضاء، و المفروض فی المثال وحدة المجلسین، و لا ریب فی کون مبدأ الخیار تفرقهما عنه بعد الإجازة سواء علی الکشف و النقل.

و سیأتی تفصیل الکلام - فی اختصاص خیار المجلس بالأصیل، دون الفضولی و

ص: 483

کذا الوکیل فی الانشاء - فی أوائل الخیارات إن شاء اللّه تعالی».

و قال فی ذیل حقّ الشفعة: «یعنی: فی مورد تبدل الشریک، کما إذا کانت الدارُ ملکا مشاعا لزید و عمرو، فباع الفضولی یوم السبت حصّةَ زیدٍ، و باع عمرو حصَّته یومَ الأحد، و أجاز زیدُ یومَ الإثنین. فبناءً علی الکشف یثبت حقُّ الشفعة لعمروٍ، لأنَّ حصّة زیدٍ إنتقلت إلی مَن إشتری من الفضول من یوم السبت، فلعمروٍ الأخذُ بالشفعة و فسخُ البیع الواقع یوم السبت، و ضمُّ حصّة زیدٍ - المبیعة فضولاً - إلی حصته.

فإن أخَذَ بالشفعة فهو، و إلاّ یثبت حقُّ الشفعة للمشتری من الفضولی، و له الأخذ به و فسخُ البیع الواقع یومَ الأحد بین عمروٍ و المشتری منه، لوقوع هذا البیع الثانی بعد تمامیّة البیع الأوّل المجاز من یوم السبت و إن صدرت الاجازةُ یوم الاثنین، و صیرورة المشتری من الفضولی شریکا للأصیل حینما باع حصته یوم الأحد.

و بناءً علی النقل ینعکس الأمر، فیثبت حقّ الشفعة من یوم الأحد لزیدٍ، لصیرورته شریکا مع المشتری من الأصیل و هو عمرو، فله إعمال حقِّه، و تملک حصة عمرو، ثمّ إجازة البیع الواقع علی حصته. و حیث إنّ المفروض عدمُ - أخذ زیدٍ بحقِّ الشفعة - و إنّما أجاز یوم الاثنین عقدَ الفضول - فقد سقط حقّه، و یثبت للمشتری من عمروٍ حقُّ الشفعة علی المشتری من الفضولی».

و قال فی ذیل مبدأ الخیارات: «کما إذا بیعَ حیوانُ فضولاً، فإن مبدأ الثلاثة من حین العقد بناءً علی الکشف، و من حین الإجازة بناءً علی النقل، لتوقف تمامیة البیع علیها.

و کذا الحال لو بیع دار فضولاً، و إشترط المشتری لنفسه الخیار شهرا مثلاً، و أجاز المالک بعد أیامٍ، فبناءً علی الکشف یکون مبدأ الخیار حین العقد، و بناءً علی النقل حین الإجازة».

و قال فی ذیل معرفة مجلس الصرف و السّلَم: «فعلی القول بالکشف یکون المرادُ بالقبض فی المجلس المعتبر فی الصرف و السلم القبضَ فی مجلس العقد، و علی القول بالنقل یکون المرادُ القبض فی مجلس الإجازة».

و قال فی ذیل الأیمان: «کما إذا حلف زیدُ علی أن یتصدَّقَ بجمیع أمواله فی یوم

ص: 484

الغدیر مثلاً، و کان من جملة أمواله کتابُ المکاسب الذی إشتراه من فضولیٍّ، و لم یُجز مالکه إلاّ یوما بعد یوم الغدیر. فعلی القول بالکشف یجب علیه التصدق بکتاب المکاسب، لأنّه صار من أمواله حین الحلف. و علی القول بالنقل لا یجب علیه التصدُّق بالمکاسب، لعدم صیرورته ملکا له یومَ الغدیر.

ولو إنعکس الأمر، بأن بیعَ شی ءٌ من أمواله قبل الغدیر فضولاً، و أجازه بعده. فعلی الکشف لا یجب علیه التصدق، لخروجه عن ملکه قبل الغدیر. و بناءً علی النقل یجب علیه التصدق».

و قال فی ذیل النذور: «کما إذا نذر أن یعطی کتاب المکاسب مثلاً لزیدٍ المشتغل بتحصیل العلم، [فی یوم الجمعة] قد إشتری ذلک من فضولیٍّ یوم الخمیس، لکن لم یجزه مالکه إلاّ یوم السبت. فعلی القول بالکشف یجب الوفاءُ بالنذر، لکونه مالکا لکتاب یوم الجمعة. و علی القول بالنقل لا یجب، لعدم کونه مالکا للکتاب حال النذر»(1).

و اعترض صاحب الجواهر علی استاذه الشیخ جعفر بقوله: «و فیه أیضا: أنّ من المقطوع به عدم [کون [الإجازة من العقود، إذ لیست هی إلاّ الرضا بالعقد السابق.

کما لا یخفی علیک الحال بناءً علی کون المراد من الکشف ما سمعته سابقا - فی أحد الاحتمالین - من کون الرضا المتأخّر مؤثّرا فی اقتضاء العقد النقل سابقا، فیکون شبه تقدیم المسبّب علی السبب و یبقی العقد حینئذ مراعی...»(2).

و قال السیّد الخوئی رحمه الله : «ثمّ إنّ شیخنا الأنصاری ذکر أنّ الثمرة بین الکشف و النقل تظهر فی موارد اُخر کالنذر و الزکوات(3) و الخیارات و حقّ الشفعة.

أمّا النذر: فلأنّه إذا نذر کذا عند کونه مالکا للمال الفلانی فی الوقت الفلانی فیجب علیه الوفاء بالنذر بعد العقد علی المال المذکور ولو علی نحو الفضولی بناءً علی الکشف، لأنّ الإجازة إنّما تکشف عن الملکیة حال العقد، و هذا بخلاف القول بالنقل لأنّه قبل

ص: 485


1- 1 . هدی الطالب 5/(149-146).
2- 2 . الجواهر 23/470 (22/291).
3- 3 . لم یذکر الشیخ الأعظم الزکاة فی الثمرات [المؤلِّف].

الإجازة لم یملک المال حتّی یجب علیه الوفاء بالنذر.

و أمّا الزکاة: فالظاهر أنّه لا ثمرة فیها بین المسلکین، و ذلک لأنّ وجوب الزکاة لا یتوقّف علی الملکیة فقط لیجب إخراجها علی المشتری بعد العقد علی الکشف دون النقل، بل یتوقّف علی الملکیة مع التمکّن من التصرف فی المال، و فی المقام و إن تملّک المال قبل الإجازة علی الکشف إلاّ أنّه غیر متمکّن من التصرف فیه شرعا، فلا یفترق الحال فی الزکاة بالنسبة إلی المشتری بین القول بالکشف و القول بالنقل، و إنّما یجب علیه إخراج الزکاة بعد الإجازة علی کلا القولین.

نعم، تظهر الثمرة فیها بالنسبة إلی المالک، لأنّه علی القول بالکشف لا یجب علیه الزکاة، إذ المفروض أنّه خارج عن ملکه واقعا حتّی قبل الإجازة، و الزکاة إنّما تجب علی المالک کما لایخفی، و أمّا علی القول بالنقل فتجب علیه الزکاة لأنّه المالک حسب الفرض، و المفروض أنّه متمکّن من التصرف فیه أیضا.

و أمّا الخیارات: ففی مثل خیار الحیوان لا بأس بالثمرة بین المسلکین لأنّه إنّما ثبت لصاحب الحیوان کما فی الأخبار، فمع القول بالکشف فالمشتری صاحب للحیوان من حین العقد، و علی النقل إنّما یصیر مالکا بعد الإجازة لا من حین العقد فالثلاثة فی الخیار تحتسب من حین العقد علی الکشف و من حین الإجازة علی النقل.

و کذا تظهر الثمرة فی خیاری العیب و الغبن، فله الفسخ و الامضاء من حین العقد علی الکشف دون النقل، لأنّه علیه لم یملک المال حتّی یحکم بالخیار له من حین المعاملة، نعم لا یصحّ له مطالبة الارش من المالک فی خیار العیب قبل الإجازة ولو بناءً علی القول بالکشف، إذ للمالک أن یقول إنّی لم أرض بالمعاملة بعد فکیف تطالبنی بالأرش ولکنّه یتمکّن من الفسخ و الإمضاء، و هذا لا ینافی ما ذکرناه سابقا من أنّ الأصیل لا یتمکّن من الفسخ لأنّه إنّما یفسخ فی المقام من جهة الخیار.

و تظهر الثمرة(1) بین الفسخ و الردّ فی النماء المتخلّل بین العقد و الفسخ علی

ص: 486


1- 1 . أقول: إنّ هذه الثمرة تکون بین الفسخ و الردّ لا بین الکشف و النقل فذکرها هنا فی غیر محلّها إلاّ استطردا. [المؤلِّف].

القول بالکشف، ففی فرض الفسخ یکون نماء المبیع للمشتری و نماء الثمن للبائع و أمّا فی فرض الردّ فالأمر بالعکس.

و أمّا خیار المجلس: فیمکن أن یقال إنّه مترتّب علی الإجازة علی کلا القولین أمّا علی القول بالنقل فواضح لأنّ «البیّع» إنّما یصدق علیهما حین الإجازة دون قبلها، و أمّا علی القول بالکشف فلأنّ الإجازة و إن تکشف علی الملکیة حال العقد إلاّ أنّ الخیار لم یترتّب علی الملکیة فی الأخبار، بل علی عنوان «البَیِّع» کما فی الروایات، و لا إشکال أنّ البیع إنّما یسند إلی المالک بالإجازة و أمّا قبلها فلا بیع للمالک أبدا، فالبیّع إنّما یصدق علیه بالإجازة و إن کانت الملکیة متقدّمة علیه، و لا مانع من تغایر الملکیة و صدق عنوان البیّع و انفکاک أحدهما عن الآخر أبدا، و هذا کما إذا قلنا بصحّة البیع فیما إذا باع أحد ماله فعلاً قبل ستّة أشهر مثلاً بأن یکون البیع فعلاً و الملکیة قبل الأشهر الستّة حتّی تکون المنافع للمشتری من زمان الملکیة، فإنّ خیار المجلس إنّما یتحقّق حین البیع لا من حین الملکیة المتقدّمة و ذلک ظاهر، فالمناط بالمجلس حال الإجازة و لعلّه ظاهر. و أمّا ما عن شیخنا الاُستاذ(1) قدس سره من أنّه لا خیار فی أمثال المقام فلم نجد له وجها، لشمول إطلاق قوله علیه السلام «البیّعان بالخیار»(2) لهما بعد الإجازة کما ذکرناه فلا تغفل.

و أمّا حقّ الشفعة: فهو أیضا تظهر فیه الثمرة بین المسلکین، فإذا کان زید شریکا لعمرو فی دار فباع الفضولی حصّة زید من ثالث و قبل إجازة باعَ زَیْدٌ عَمْرا حصّة نفسه من شخص رابع ثمّ أجاز زید ما باعه الفضولی من حصّته، فعلی القول بالکشف فالشفعة للمشتری من الفضولی لأنّه صار شریکا مع عمرو فباع عمرو حصّته من آخر فله الشفعة، و علی القول بالنقل تکون الشفعة للمشتری من عمرو لأنّه صار شریکا مع زید فباع زید حصّته من آخر، فالشفعة للمشتری من عمرو لأنّه المالک الشریک عند بیع زید حصّته من

ص: 487


1- 1 . منیة الطالب 2/87.
2- 2 . وسائل الشیعة 18/5، أبواب الخیار الباب 1، ح1 و غیره.

الآخر و هو واضح»(1).

التاسعة: العقود المترتبة
اشارة

قال صاحب الجواهر: «و ربّما تظهر الثمرة أیضا: فیما لو ترتّب العقود علی المبیع أو الثمن أو علیهما فضولاً و لاریب فی أنّ للمالک تتبّع العقود و رعایة المصلحة له فیجیز ما شاء...»(2).

و قال الشیخ الأعظم: «و تظهر الثمرة أیضا فی العقود المترتبة علی الثمن أو المثمن و سیأتی إن شاء اللّه تعالی»(3).

و قال المحقّ السیّد المروج فی شرحه: «و حاصل هذه الثمرة: أنّه إذا باع مَن إشتری فضولاً متاعا، و کان بیعه له قبل إجازة مالک المتاع، ثمّ أجازه مالِکُه. فعلی القول بالکشف یصحّ البیعُ الثانی للمشتری، لوقوعه فی ملکه، بداهة أنَّ الإجازة أوجبتْ صحة شرائه، و صیرورة المتاع ملکا له، و وقوع البیع الثانی للمشتری فی ملکه. و علی النقل یدخل البیع الثانی - الصادِرُ من المشتری - فی مسألة: مَن باع شیئا ثمّ ملکه»(4).

أقول: یأتی هذا البحث من الشیخ الأعظم فی الأمر الثالث من الامور المتعلقة بالمجاز(5) و نحن نتعرض له تبعا للشیخ الأعظم هناک فانتظر.

و قال هناک: «و ملخّص ما ذکرنا: أنّه لو ترتّبت عقود متعددة علی مال المجیز، فإن وقعت من أشخاص متعددة کان إجازة وسطٍ منها فسخا لما قبله، و إجازةً لما بعده علی الکشف، و إن وقعت من شخص واحدٍ انعکس الأمر»(6).

ص: 488


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/(487-485).
2- 2 . الجواهر 23/470 (22/292).
3- 3 . المکاسب 3/420.
4- 4 . هدی الطالب 5/149.
5- 5 . المکاسب 3/469.
6- 6 . المکاسب 3/470.

ثمّ لابدّ من التنبیه علی أُمورٍ:

تنبیهات الإجازة:
الأوّل: لیس الخلاف فی الکشف و النقل مفهومیّا

قال جَدُّنا الشیخ جعفر کاشف الغطاء رحمه الله : «و هل بناءً القولین [أی الکشف و النقل] علی مقتضی الظاهر، فیجوز الانصراف عن مقتضی کلّ منهما بعد وجود الصارف من قبل العاقد أو من خارج، أو علی اللزوم فإذا تعذّر أحدهما أو صُرّح بخلافه بطلت؟ وجهان، أقواهما الثانی»(1).

و تبعه فی الجواهر و قال: «و علی کلّ حالٍ، فالظاهر أنّ بناءً القولین علی اعتبار ذلک شرعا لا أنّه فی حمل الإطلاق علیه و إلاّ فیجوز إرادة الکشف أو النقل بعد وجود الصارف من قبل العاقد أو الخارج بتعذّر أحدهما فیتّجه حینئذ البطلان مع ذلک، و به صرّح شیخنا فی شرحه»(2).

و قال الشیخ الأعظم: «أنّ الخلاف فی کون الإجازة کاشفة أو ناقلة لیس فی مفهومها اللغوی و معنی الإجازة وضعا أو انصرافا، بل فی حکمها الشرعی بحسب ملاحظة اعتبار رضا المالک و أدلة وجوب الوفاء بالعقود و غیرهما من الأدلة الخارجیة، فلو قصد المجیز الإمضاء من حین الإجازة علی القول بالکشف أو الإمضاء من حین العقد علی القول بالنقل، ففی صحتها وجهان»(3).

ص: 489


1- 1 . شرح القواعد 2/95.
2- 2 . الجواهر 23/467 (22/289).
3- 3 . المکاسب 3/421.

أقول: منشأ الخلاف فی الکشف أو النقل یحتمل أن یکون أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: فی سعة مفهوم اللغوی للإجازة وضیقه وضعا بحیث یشمل العقد من حینه أو من حین الإجازة و علی الأوّل یکون کاشفا و علی الثانی یکون ناقلاً.

و بعبارة أُخری: أنّها تنفیذ مضمون العقد لا غیر فیکون کاشفا، أو أنّها الرضا بمضمون العقد من حینها - لا من حین العقد - فیکون ناقلاً.

الثانی: فی مُنْصَرَف الاطلاق بحیث أنّها(1) هی طبیعیّة فی الکشف عن الرضا بالعقد و بنفسه(2) لا یقتضی الکشف أو النقل، فیدعی الکشفی انصراف هذا الاطلاق إلی ترتب أحکام المعاملة من حین العقد، و یدعی النقلی انصرافه إلی ترتب أحکامها من حین الإجازة.

و علی هذا الاحتمال یصحّ صرف الإطلاق بقرینة مقامیة أو حالیة أو مقالیة إلی أحد القولین.

الثالث: فی المستفاد من الأدلة الشرعیة، فالکشفی یدّعی أنّ الشارع حکم بأنّ الإجازة کاشفة و النقلی یدّعی أنّ المستفاد من الأدلة الشرعیة هو النقل.

و الظاهر أنّ منشأ الخلاف هو الثالث - أی المستفاد من الأدلة الشرعیة - لا الأوّل - المفهوم اللغوی الوضعی - و لا الثانی - المنصرَف من الإطلاق - .

ثمّ لو خالف کلٌّ منهما ما یعتقده - اجتهادا أو تقلیدا - یعنی أراد القائل بالکشف النقلَ، أو أراد القائل بالنقل الکشفَ، فهل یلغو قصد الخلاف و لا أثر له، أو یؤثر القصد و یوجب تبدیل الکشف بالنقل و عکسه، أو أنّ قصد الخلاف یوجب بطلان الإجازة من رأسها و یبقی العقد الفضولی متوقفا علی إجازة اُخری؟

وجوه و احتمالات، اختار کاشف الغطاء و صاحب الجواهر بطلان هذه الإجازة کما مرّ کلامهما، و أمّا الشیخ الأعظم ذکر احتمالی الصحة و البطلان من دون ترجیح بینهما

ص: 490


1- 1 . أی الإجازة.
2- 2 . أی طبیعی الرضا بالعقد.

کما مرّ.

بناءً علی أنّ منشأَ النزاع بین قولی الکشف و النقل سعة مفهوم اللغوی و ضیقه وضعا یحکم ببطلان ما لو خالف کلّ منهما ما یعتقده لأنّه استعمل اللفظ فی غیر معناه اللغوی الوضعی فیحکم ببطلان استعماله إلاّ أن أقام القرینة بأنّه استعمل اللفظ مجازا فی غیر ما وضع له.

و أمّا بناءً علی أنّ مَنْشَأَ النزاع کان فی منصرَف الإطلاق فَیُحْکَمُ بصحة مخالفة ما اعتقده، لإمکان تقیید کلّ إطلاقٍ بالقید، و هذا أحد مصادیقه ولکنّه لابدّ من إظهار القید و التقیید حالیة کانت أو مقامیة أو لفظیة.

و أمّا بناءً علی أنّ منشأ النزاع کان فی المستفاد من الأدلة الشرعیة ففیه وجوهٌ ثلاثة:

أ: وجه اللغویة: حیث أن قصد الخلافُ ینافی الوضع اللغوی أو المنصرَف من الإطلاق أو المستفاد من الأدلة الشرعیة فیکون ملغی و لا تأثیر له فیجری الکشف أو النقل.

ب: و وجه الصحة: متعلَّق الإجازة هو مضمون العقد بما یقصده المجیز، فالسبب التام هو العقد و الإجازة المقصودة من المجیز و بهما یحصل المسبَّب قهرا و هو ما أراده المجیز.

ج: و وجه البطلان: إنّ ما أجازه المجیز غیر الواقع و ما هو الواقع غیر ما أجازه المجیز، لأنّ الواقع هو النقل - مثلاً - ولکن المجیز أجاز بالکشف، أو أنّ الواقع هو الکشف - مثلاً - ولکن المجیز أجاز بالنقل، حینئذ المجاز غیر الواقع، و الواقع غیر المجاز.

و هذا الاحتمال الأخیر قوّاه خالی الفقیه الشیخ حسن بن جعفر کاشف الغطاء فی أنوار الفقاهة(1). و کما مرّ أنّه مختار والده و صاحب الجواهر رحمهماالله أیضا.

و حیث أنّ المستفاد من الأدلة الشرعیة هو محلّ الخلاف فلا یمکن تغییره بالقصد،

ص: 491


1- 1 . أنوار الفقاهة، کتاب البیع، مخطوطة.

لأنّه لیس من الأُمور القصدیة فهذه الإجازة المخالفة لما هو المستفاد من الأدلة الشرعیة تکون باطلة و لا یَثْبُتُ بها شَی ءٌ. ففی تصحیح بیع الفضولی نحتاج إلی الإجازة المستأنفة کما علیه الأعلام الثلاثة - قدس اللّه أسرارهم - .

و ممّا ذکرنا یظهر عدم تمامیة التفصیل بین الکشف و النقل، و الحکم بالفساد فی الأوّل و بالصحة فی الثانی کما یظهر من المحقّق السیِّدِ الخوئی(1) رحمه الله .

الثانی: هل الإجازة لابدّ أن تکون باللفظ أم لا؟

یمکن انعقاد البحث فی مَقامَیْنِ:

الأوّل: مقام الثبوت

هل یشترط الإنشاء فی الإجازة أم لا؟ و علی اعتبار الإنشاء هل یشترط أن یکون بالقول أم یکفی الفعل بدلاً من القول؟ و علی تقدیر اعتبار القول هل یشترط فیه الصراحة أو یکفی الکنایة؟

و علی تقدیر عدم اعتبار الإنشاء هل یکفی الرضا الباطنی المقارن للعقد بدلاً من الإجازة أم لا؟

و علی تقدیر عدم کفایة الرضا الباطنی هل یکفی الجمل الأخباریة بدلاً من الإجازة نحو: بارک اللّه و ماشاء اللّه و أحسنت و مثلها.

هذه وجوه و محتملات فی مقام الثبوت.

الثانی: مقام الإثبات

أ: هل یشترط فی الإجازة أن تکون انشاءً باللفظ؟

کما یظهر من الفاضل المقداد(2) و الشهید الثانی(3) و المحقّق القمی(4) و نسبه الفقیه

ص: 492


1- 1 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/488.
2- 2 . التنقیح الرائع 2/27.
3- 3 . الروضة البهیة 3/234.
4- 4 . جامع الشتات 1/154 من الطبعة الحجریة (2/273).

العاملی(1) إلی صریح جماعة و ظاهر آخرین.

ولکن قال الشیخ الأعظم ردّا علی العاملی: «فی النسبة نظر»(2).

1- استدل علیه الفاضل المقداد(3) بأنّ الإجازة کالبیع فی استقرار الملک فکما أنّ البیع لا یتحقّق إلاّ باللفظ فکذلک الإجازة.

ولکن قال الشیخ الأعظم بعد نقله: «و هو یُشْبِهُ المصادرة»(4).

تقریب المصادرة: أنّ کون الإجازة مثل البیع فی اعتبار اللفظ فی أوّل الکلام لما مرّ سابقا من وقوع البیع بالمعاطاة.

فهذا التشبیه أوّلاً یرد علیه: بأنّه قیاس.

و ثانیا یرد علیه: بأنّ الحکم فی المقیس علیه غیر ثابت بل خلافه ثابت کما مرّ مفصلاً فی بحث المعاطاة فلا نعید.

2- استدلّ علی اعتبار اللفظ فی الإجازة: بأنّ اللفظ بحکم الاستقراء فی العقود اللازمة معتبر، فلذا ذهبوا فی المعاطاة إلی القول بعدم لزومها.

قال الشیخ الأعظم عن هذا الاستدلال: «و یمکن أن یوجّه: بأنّ الاستقراء فی النواقل الاختیاریة اللازمة - کالبیع و شبهه - یقتضی اعتبار اللفظ، و من المعلوم أنّ النقل الحقیقی العرفی من المالک یحصل بتأثیر الإجازة»(5).

و فیه: أوّلاً: لو سلّمنا عدم اللزوم فی المعاطاة و بنینا علی اعتبار اللفظ فی العقود اللازمة، لانلتزم به فی المقام لأنّ الإجازة لیست عقدا و لا معاملة و لا بیعا. و إنّما هی من شرائط صحة البیع الحاصل باللفظ الذی أصدره الفضولی. و نحن إذا اعتبرنا اللفظ فی

ص: 493


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/605، قال: «الإجازة کاشفة عن صحة العقد کما هو ظاهر جماعة و صریح» ثمّ ذکر عدّة من الکتب، و أنت تری بأنّ هذا البیان غیر ما فی المتن.
2- 2 . المکاسب 3/422.
3- 3 . التنقیح الرائع 2/27.
4- 4 . المکاسب 3/422.
5- 5 . المکاسب 3/422.

العقود فلا یمکن أن نعتبره فی شرائطها أیضا و لعلّه الظاهر.(1)

و ثانیا: قد مرّ منّا فی بحث المعاطاة عدم اعتبار اللفظ فی العقود لازمةً کانت أو جائزةً إلاّ ما خرج بالدلیل. فلا نسلّم اعتبار اللفظ فی العقود اللازمة و غیرها، فکذلک لا نسلّم القول بعدم لزوم المعاطاة.

فممّا ذکرنا یَظْهَرُ عدم اعتبار اللفظ فی انشاء الإجازة و هی کما یمکن إِنْشاؤُها باللفظ فکذلک یمکن انشاؤُها بالفعل و إن کان الاقتصار علی اللفظ هو الأحوط.(2)

ب: هل اللفظ أو الفعل الدالان علی الإجازة لابدّ أن یکونا صریحین فیها؟

أو أنّها تتحقّق بکلّ لفظ أو فعل یدلّ علیها؟

الظاهر هو الثانی و أنّ الإجازة تتحقّق بکلِّ لفظٍ أو فعلٍ یدلّ علیها و لا تحتاج إلی لفظ صریح کأجزتُ و أمضیتُ و أنفذتُ لعدم وجود الدلیل عی صراحة اللفظ أو الفعل.

بل الدلیل علی خلافه: کروایة عروة البارقی الوارد فیها قوله صلی الله علیه و آله : «بارک اللّه ُ فی صفقة یمینک»(3). فمن المعلوم أنّه بالالتزام و الکنایة یکشف عن الإجازة.

و کذا الروایات الواردة فی الإتجار بمال الیتیم.(4) و صحیحة الحلبی(5) و معتبرة مسمع أبی سیار(6) و قصة بیع عقیل دور النبی صلی الله علیه و آله و بنیهاشم(7). و التصدّق بمجهول المالک و اللقطة.(8)

ص: 494


1- 1 . کما علیه المحقّق الخوئی فی التنقیح فی شرح المکاسب 1/490.
2- 2 . کما علیه الشیخ حسن کاشف الغطاء فی أنوار الفقاهة، مخطوط.
3- 3 . مسند احمد 4/376.
4- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 217، الوجه السادس.
5- 5 . وسائل الشیعة 18/71، ح1. راجع هذا المجلد صفحة 230، الوجه الثامن.
6- 6 . وسائل الشیعة 19/89، ح1، راجع هذا المجلد صفحة 245، الوجه العاشر.
7- 7 . راجع هذا المجلد صفحة 250، الوجه الثانی عشر.
8- 8 . راجع هذا المجلد صفحة 253، الوجه الرابع عشر.

ج: عدم کفایة الرضا الباطنی من الإجازة

ذهب الشیخ الأعظم(1) إلی أنّ العلم بالرضا یکفی فی صحة الإجازة و البیع کما أنّ الرضا الباطنی المقارن للعقد یخرجه عن الفضولی، فالرضا الباطنی بوجوده المقارن للعقد یخرج العقد من الفضولی و بوجوده المتأخر یکفی فی الإجازة، و لا یعتبر فیها الإبراز و الاستناد بمبرز و مستند فعلی أو قولی.

و استشهد علی قوله بکلمات جماعة من الأصحاب و عدّة من الروایات:

أمّا الکلمات فهی:

1- تعلیل جماعة من الأصحاب فی «عدم کفایة السکوت فی الإجازة بکونه أعمّ من الرضا فلا یدلّ علیه، فالعدول عن التعلیل بعدم اللفظ إلی عدم الدلالة کالصریح»(2) فی اعتبار الرضا الباطنی و کفایته فی الإجازة.

کما قال العلاّمة فی هذا التعلیل: «لأنّ السکوت کما یحتمل الرضا یحتمل غیره»(3).

و قال ثانی الشهیدین: «لأنّ السکوت أعم من الرضا فلا یدلّ علیه»(4).

و کذا یظهر من صاحب الجواهر(5).

و یرد علیه: أنّ السکوت غیر الرضا لا أنّه أعمّ منه، و أمّا ما ذکره القوم بأنّ السکوت أعم من الرضا لعلّ مرادهم من حیث الکشف و الإبراز، لأنّ السکوت لا یکشف دائما عن الرضا، بل ربّما یوجد السکوت و الرضا مفقود. و من الواضح أنّ الأعم لا یدلّ علی الأخص، و معناه أنّه لابدّ فی الرضا من شی ءٍ مبرز عنه لا محالة.

بل قد مرّ منّا عدم کفایة الرضا الباطنی فی المعاملات و الانتقالات و لابدّ فیها من

ص: 495


1- 1 . المکاسب 3/422 و ما بعده.
2- 2 . المکاسب 3/423.
3- 3 . نهایة الإحکام 2/475.
4- 4 . الروضة البهیة 3/243.
5- 5 . الجواهر 23/473 (22/293).

الاستناد.

2- انکار الموکّل الإذن فیما اوقعه الوکیل

«قالوا فی باب الوکالة: لو قال الوکیل: وکّلتنی علی شراء الجاریة بألفین، فقال الموکّل: بل بألفٍ، و کان الشراء بعین ماله، أنّه [الموکّل] یحلف علی نفی ما ادّعاه الوکیل و ینفسخ العقد، و لا یکون فضولیّا، لأنّ حلفه یدل علی عدم رضاه»(1).

و من القائلین بهذا القول فی الوکالة: المحقّق الثانی فی جامع المقاصد(2) و فخرالمحقّقین فی إیضاح الفوائد(3) و المحدث البحرانی فی الحدائق(4).

قال الشیخ الأعظم: «و حکی عن آخرین أنّه إذا أنکر الموکّل الإذن فیما أوقعه الوکیل من المعاملة فحلف انفسخت، لأنّ الحلف یدلّ علی کراهتها»(5).

و یرد علیه: الشیخ الأعظم یکون فی مقام إثبات الرضا الباطنی بدلاً من الإجازة و فی هذا الفرع یثبت کفایة الردّ الفعلی، لأنّ الموکّل حیث أنکر الوکالة و حلف علیها تبطل الوکالة فی هذا الشراء و یصیر فضولیّا و نفس هذا التبری و الحلف علی نفی الإذن یُعدّ ردّا فعلیّا للبیع الفضولی. فما یثبت بهذا الفرع کفایة الردّ الفعلی فی المعاملات الفضولیة.

3- کفایة السکوت بدلاً من الإجازة للعقد الواقع علی البکر فضولاً.

ذهب جماعة من الأصحاب بکفایة سکوت البکر المعقود علیها فضولاً بدلاً من إذنها و إجازتها.

قال المحقّق فی ما لو عقد علی صبیة - صغیرة أو کبیرة - غیر أبیها و جدّها: «لم یمض إلاّ مع إذنها أو إجازتها بعد العقد ولو کان أخا أو عمّا، و یُقْتَنَعُ من البکر بسکوتها

ص: 496


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/609، 21/365؛ الجواهر 23/474 (22/295)، و 27/403 من طبعة الإسلامیة.
2- 2 . جامع المقاصد 8/303.
3- 3 . إیضاح الفوائد 2/360.
4- 4 . الحدائق 22/112.
5- 5 . المکاسب 3/423.

عند عرضِهِ علیها و تُکَلَّفُ الثیبُ النطقَ»(1).

و قال صاحب الجواهر فی ذیله: «عند المشهور بین الأصحاب»(2).

و صرح بهذه الشهرة الشهید الثانی(3) و صاحبا الحدائق(4) و الریاض(5).

و قال الشیخ الأعظم: «المراد کفایة السکوت الظاهر فی الرضا و إن لم یفد القطع، دفعا للحرج علیها و علینا»(6).

أقول: قد مرّ(7) الکلامُ بِکِفایةِ سُکُوْتِ البکر لأجل النصوص الواردة(8) فیها و لا یمکن التعدی منها إلی غیرها.

4- قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ الظاهر أنّ کل من قال بکفایة الفعل الکاشف عن الرضا - کأکل الثمن و تمکین الزوجة - اکتفی به من جهة الرضا المدلول علیه به لا من جهة سببیّة الفعل تعبّدا»(9).

أقول: قد مرّ أنّ الإجازة کما تحقّقت بالقول تحقّقت بالفعل أیضا، لأنّ القول و الفعل عند العقلاء سیّان. لا أنّ الفعل یدلّ علی الرضا و هو المعتبَرّ، لأنّ المصحح فی المعاملات هو الاستناد و هو یتحقّق بالقول و الفعل، و لا یعتبر فیها کشف الرضا الباطنی و الفعل و کذا القول لم یکونا کاشفین عنه.

ص: 497


1- 1 . الشرائع 2/222.
2- 2 . الجواهر 29/203.
3- 3 . المسالک 7/164.
4- 4 . الحدائق 23/263.
5- 5 . ریاض المسائل 11/106.
6- 6 . المکاسب 3/423.
7- 7 . راجع هذا المجلد صفحة 302.
8- 8 . وسائل الشیعة 20/274، الباب 5 من أبواب عقد النکاح و اولیاء العقد، ح1، صحیحة احمد بن محمّد بن أبینصر البزنطی، و ح2 صحیحة داود بن سرحان.
9- 9 . المکاسب 3/424.

5- صرح غیر واحد من الأصحاب(1) بأنّ المکرَه علی البیع لو رضی بما اُکره علیه صح ذلک، و لم یعبّروا عن رضایته بالإجازة، فیظهر أنّ الرضا هو المعتبَر.(2)

أقول: هذا الکلام من الشیخ الأعظم یشبه بالمصادرة إلی المطلوب، لأنّ بیع المکرَه تام إلاّ من جهة رضا المالک، فالاستناد فیه حاصلٌ و الرضا مفقودٌ و إذا حصل الرضا تمَّ بیعه. و لذا قال المحقّق: «لا یصح بیع الصبی و... المکرَه، ولو رضی کلّ منهم بما فعل بعد زوال عُذره، عدا المکرَه للوثوق بعبارته»(3).

بخلاف بیع الفضولی لأنّ المفقود فیه الاستناد ولو کان الرضا موجود، و الرضا الباطنی لا یکفی فی الاستناد، لأنّ الاستناد یحتاج إلی مبرز خارجی من قول أو فعل کما مرّ.

6- قد مرّ(4) فی أوّل بحث الإجازة کلام ثانی المحقّقَیْن(5) و الشهیدین(6) بأنّ العقد سبب تام للملک لقوله تعالی: «اوفوا بالعقود» و ینکشف تمامیة العقد بإجازة المالک و إعلام رضایته.

استدلّ الشیخ الأعظم بکلامهما بأنّ العقد تام و انکشاف تمامیته یظهر بالرضا من دون حاجة إلی اللفظ.

أقول: لابدّ من مبرز و إعلام للرضا سواء فی ذلک القول أو الفعل و به تمّ الاستناد کما مرّ.

قد عرفت عدم تمامیة تمسّکه بکلمات الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - .

ص: 498


1- 1 . منهم المحقّق فی الشرائع 2/8؛ و العلاّمة فی القواعد 2/17؛ و الشهید فی الدروس 3/192 و اللمعة /110.
2- 2 . راجع المکاسب 3/424.
3- 3 . الشرائع 2/8.
4- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 386.
5- 5 . جامع المقاصد 4/74 و 75.
6- 6 . الروضة البهیة 3/229.

و أمّا الروایات فمنها:

1- صحیحة ابن بزیع قال: سألت أباالحسن علیه السلام عن امرأة ابتلیت بشرب النبیذ فسکرت فزوّجت نفسها رجلاً فی سکرها، ثمّ أفاقت فأنکرت ذلک، ثمّ ظنّت أنّه یلزمها ففزعت منه فأقامت مع الرجل علی ذلک التزویج، أحلال هولها أم التزویج فاسدٌ لمکان السکر و لا سبیل للزوج علیها؟

فقال: إذا أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها.

قلت: و یجوز ذلک التزویج علیها؟ فقال: نعم.(1)

استدلّ(2) الشیخ الأعظم بجواب الإمام علیه السلام : «فذلک رضا منها»، بکفایة الرضا.

و یرد علیه: أوّلاً: لیس فی الروایة الرضا الباطنی فقط بل «أقامت معه بعد ما أفاقت» و هذه الإقامة بعد الإفاقة هی إبراز فعلی للرضا و إعلام له، و هذا غیر ما یرید الشیخ الأعظم إثباته من کفایة الرضا الباطنی فقط.

و ثانیا: لو سلّمنا کفایة مجرد الرضا الباطنی فی نکاح السکری للصحیحة، فَلا یمکن التعدی منه إلی الفضولی، لأنّ السکری زوّجت نفسها باللفظ مع سائر الشرائط إلاّ الاختیار و الرضا و القصد و إذا حصلت بعد الإفاقة تمّ نکاحها، و لیس نکاحها فضولیّا. کما یظهر من السیّد الخوئی(3).

و ثالثا: صحیحة ابن بزیع معرکة للآراء حتّی من فقیه واحد، و ما یکون کذلک کیف یمکن الاستدلال بها.

عمل بها الصدوق(4) و الشیخ(5) و القاضی(6) و من المقاربین لزماننا یری صاحب

ص: 499


1- 1 . وسائل الشیعة 20/294، ح1، الباب 14 من أبواب عقد النکاح و اولیاء العقد.
2- 2 . المکاسب 3/424.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/491.
4- 4 . المقنع /102 و 103.
5- 5 . النهایة /468.
6- 6 . المهذب 2/196.

العروة(1) عدم البأس بالعمل بها و إن کان الأحوط خلافه - و یأتی ردّه لها فی حاشیة مکاسبه - و وافقه السیّد الحکیم فی المستمسک(2) - مع ردّه لها فی حاشیة مکاسبه أیضا-.

ولکن ابن ادریس(3) و المحقّق(4) ردّاها قال الأخیر: «و فی السکران الذی لا یعقِلُ تردّدٌ، أظهرُهُ أنَّه لا یصِحُّ ولو أفاقَ فأجاز. و فی روایة: إذا زوّجَتْ السَکْری نفسَها ثمّ أفاقت فرضیت، أو دخل بها فأفاقت و أقرَّته کان ماضیا»(5).

ولکن العلاّمة حملها إلی عدم بلوغ السکر إلی حدّ عدم تحصیل القصد و قال: «و إن لم یبلغ السُّکْر إلی ذلک الحدّ صحّ العقد مع تقریرها إیّاه. و علیه تحمل الروایة»(6).

ولکن ردّ علیه الشهید الثانی(7) بما حاصله: هذا الحمل خلاف ظاهر الروایة و مخالف للقواعد العامة الدالة علی صحة العقد مع وجود قصد العاقد من دون حاجة إلی الإجازة بعده، فیردّ علیه ارتکاب هذین المحذورین، فطرح الروایة أُولی.

و حملها الفاضل الأصبهانی إلی مقام التنازع و الدعوی و الحکم الظاهری لا الواقعی، فلو تنازعا فی وقوع العقد مع القصد فادعی الزوج ذلک و انکرت المرأة تأتی هذه الصحیحة، قال: «قلتُ: و یمکن العمل بالخبر مع القول بقضیة الأصل التی هی فساد العقد بأنّ یکون الزوج جاهلاً بسکرها فإنّه حینئذ و إن لم یقع نکاح فی الواقع، لکنّه لا یُسمع فی حقّه قول المرأة، خصوصا بعد التمکین من الدخول و الإقامة معه، فلیس علیه مفارقتها و له إلزامها بحقوق الزوجیة، و أنّها مادامت تظنّ بصحة نکاحها لیس علیها شی ء، و الوط ء

ص: 500


1- 1 . العروة الوثقی 2/689، مسألة 13 أحکام العقد من کتاب النکاح. (5/603 من طبعة جماعة المدرسین).
2- 2 . مستمسک العروة الوثقی 14/388.
3- 3 . السرائر 2/571.
4- 4 . الشرائع 2/218.
5- 5 . الشرائع 2/218.
6- 6 . مختلف الشیعة 7/115.
7- 7 . المسالک 7/115.

الواقع فی تلک المدّة بالنسبة إلیه وط ء صحیح شرعی و بالنسبة إلیها وط ء شبهة و بعد ما علمت بالفساد فأحکام التزویج جائزة علیها أی ماضیة قهرا، ولکن لیس لها فیما بینها و بین اللّه حقوق الزوجیة و إن کان علیها الامتناع من التمکین منها ما أمکنها، مع أنّ فیه تأملاً»(1).

و حملها السیّد الیزدی فی حاشیة مکاسبه(2) علی أنّها وکلّت غیرها فی التزویج و هی سکری و حیث أنّ التوکیل باطل لفقد القصد، فلذا کان تزویجها فضولیّا موقوفا علی الإجازة و الإقامة مع الزوج إجازة فعلیّة، إلاّ أنّها مسبوقة بالردّ لقول الراوی: «فانکرت ذلک»، و المراد بالإنکار و إن کان هو الکراهة و الوحشة ممّا صدر منها، لکنّه کافٍ فی الردّ فلا عبرة بالإجازة بعده.

و ذهب السیّد الحکیم فی تعلیقه علی المکاسب(3) إلی عدم إمکان العمل بظاهرها.

و التفصیل یطلب من کتاب النکاح.

2- الروایات الدالة علی أنّ سکوت المولی بعد علمه بتزویج عبده إقرارٌ منه علی تزویجه و یکون صحیحا.

منها: صحیحة معاویة بن وهب.(4)

و منها: صحیحته الأُخری.(5)

و منها: موثقة الحسن بن زیاد الطائی.(6)

بتقریب ذکره الشیخ الأعظم: «ما ورد فی عدّة من الأخبار من أنّ سکوت المولی

ص: 501


1- 1 . کشف اللثام 7/53 و 54.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/207.
3- 3 . نهج الفقاهة /245.
4- 4 . وسائل الشیعة 21/117، ح1، الباب 26 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
5- 5 . وسائل الشیعة 21/117، ح2.
6- 6 . وسائل الشیعة 21/118، ح3.

بعد علمه بتزویج عبده إقرار منه له علیه»(1).

بعبارة أُخری: سکوته بعد علمه یدلّ علی رِضاهُ و الرضا الباطنی یکفی فی الإذن.

و یرد علیه: أوّلاً: سکوت المولی بالنسبة إلی نکاح عبده بعد علمه به یکون مبرزا عرفیا لإذنه، و الإبراز یکفی فی الاستناد کما مرّ.

و ثانیا: نکاح العبد لیس من قبیل المعاملات الفضولیة بل هو من أفعال نفسه ولکنّه متوقف علی إجازة مولاه، نظیر تزویج الزوج مع بنت أخی زوجته أو بنت أُختها، لأنّه متوقف علی إجازة زوجته، فإذا رضیت الزوجة أو رضی المولی فیتم النکاح. لأنّ هذا النکاح فاقد لبعض الشروط و مع حصولها تمّ النکاح و صحَّ.

بخلاف المعاملات الفضولیة التی لابدّ فیها من الاستناد بقولٍ أو فعلٍ و لا یکفی فیه الرضا الباطنی.

3- «مادلّ علی أنّ قول المولی - لعبده المتزوّج بغیر إذنه - طلِّق، یدلّ علی الرضا بالنکاح فیصیر إجازة»(2).

نحو: حسنة علی بن جعفر.(3)

یرد علیه: أوّلاً: قول المولی: «طلِّق» إبراز و إظهار و استناد، و المولی فی هذه الحسنة لم یکن راضیا بنکاح عبده ولکن حیث استند النکاح إلیه فتمّ و هذا مناقضٌ مع مقالة الشیخ الأعظم التی أراد إثباتها من کفایة الرضا الباطنی.

و ثانیا: قد مرّ أنّ نکاح العبد لیس فضولیّا.

4- و مادلّ «علی أنّ المانع من لزوم نکاح العبد بدون إذن مولاه معصیة المولی التی ترتفع بالرضا»(4).

ص: 502


1- 1 . المکاسب 3/424.
2- 2 . المکاسب 3/425.
3- 3 . وسائل الشیعة 21/118، ح1، الباب 27 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
4- 4 . المکاسب 3/425.

منها: صحیحة زرارة.(1)

و منها: موثقة زرارة.(2)

یرد علیه: ما ذکرته آنفا فی ذیل الروایات الدالة علی أن سکوت المولی بعد علمه بتزویج عبده إقرار منه.

5- «مادلّ علی أنّ التصرف من ذی الخیار رضا منه»(3).

منها: صحیحة علی بن رئاب.(4)

و منها: صحیحة محمّد بن الحسن الصفار.(5)

و منها: صحیحة أُخری لعلی بن رئاب.(6)

و یرد علیه: أوّلاً: معاملة المتصرِّف لم یکن فضولیا.

و ثانیا: التصرفُ فعلٌ و لم یکن الرضا الباطنی الذی ادعاه الشیخ الأعظم.

6- قال الشیخ الأعظم: «غیر ذلک»(7).

أقول: لعلّه إشارة إلی ما ذکره صاحب الجواهر بقوله: «لفحوی بعض نصوص النکاح الفضولی: أنّه یحلف علی عدم الرضا فی نفسه فیما بینه و بین اللّه»(8).

و لعلّ مراد صاحب الجواهر من بعض النصوص هی: صحیحة أبیعبیدة(9) و فیها: «و تحلف باللّه ما دعاها إلی أخذ المیراث إلاّ رضا بالتزویج».

ص: 503


1- 1 . وسائل الشیعة 21/114، ح1، الباب 24 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/115، ح2.
3- 3 . المکاسب 3/425.
4- 4 . وسائل الشیعة 18/13، ح1، الباب 4 من أبواب الخیار.
5- 5 . وسائل الشیعة 18/13، ح2.
6- 6 . وسائل الشیعة 18/13، ح3.
7- 7 . المکاسب 3/425.
8- 8 . الجواهر 23/474 (22/294).
9- 9 . وسائل الشیعة 26/219، ح1، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج.

و خبر عبید بن زرارة.(1)

و یرد علیه: ما اوردتُهُ آنفا فی روایات التصرف من ذی الخیار.

فظهر لک إلی هنا عدم تمامیة الرضا الباطنی بدلاً من الإجازة و الاستناد و الحمدللّه.

بقی فی المقام: اعتراضٌ من الشیخ الأعظم علی نفسه(2)

تحت عنوان الباقی ذهب إلی اعتبار إِنشاء الإجازة و عدم کفایة مطلق الرضا فی تحقّق الرضا و استدلّ علیه بدلیل و أیّده بمؤیِّدٍ:

أمّا الدلیل: فإنَّ کفایة مطلق الرضا فی صحة بیع الفضولی بدلاً من الإجازة یستلزم الخروج عن عنوان الفضولیة إذا علم الفضول قبل بیعه رضا المالک أو أحرز الرضایة مقارنا للبیع و عدم احتیاجه إلی الإجازة المتأخرة حینئذ لأنّ المفروض شرطیة مطلق الرضا الباطنی، مع أنّ هذا البیان - الخروج عن الفضولیة - مخالف لمذهب الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - من اعتبار الإذن السابق فی الخروج عن الفضولیة سواء کان المالک راضیا حال العقد أو قبله أم لا. و إنّهم ذهبوا إلی أنّ مورد إحراز رضا المالک - بلا إذن منه - مشمول لعنوان الفضولی و یتوقف نفوذه علی الإجازة اللاحقّة، و هذا دلیل علی عدم اعتبار الرضا الباطنی عندهم فی المعاملات.

و أمّا المؤیِّد: لو کان مجرد الرضا الباطنی یعدّ إجازة لبیع الفضولی لکان عکسه مجرد الکراهة فیکفی فی الرد و بطلان الفضولی مع عدم القائل به، بل الأصحاب قدس سرهم یذهبون إلی خلافه فی الفرعین المتقدمین:

الأوّل: بیع المکرَه، و هو یقولون بصحته إذا لحقّته رضایة المالک فی ما بعد.

الثانی: صحة البیع الفضولی المسبوق بنهی المالک، إذا عدل المالک عن نهیه و أجاز البیع فی ما بعد.

ص: 504


1- 1 . وسائل الشیعة 21/330، ح14، الباب 58 من أبواب المهور.
2- 2 . المکاسب 3/425.

و هذان الفرعان شاهدان علی عدم اعتبار الکراهة الباطنیة فی الردّ.

أقول: یمکن أن یردّ علی دلیله: بأنّ بعض من الأصحاب ذهبوا إلی خروج البیع مع رضایة مالکه عن الفضولیة و جواز التصرف فیه و عدم احتیاجه بالإجازة اللاحقّة، کما مرّ هذا القول فی الأقوال الواردة فی وجوه الکشف: الثالث: الکشف الحقیقی التقدیری کما علیه المحقّق الرشتی، و الخامس: الکشف الحقیقی الحصولی کما علیه صاحب الجواهر فراجعهما.

و علی مؤیِّده: بعدم وجود الملازمة بین الرضا و الإجازة و بین الکراهة و الردّ، و وجود الفرق بینهما بأنّ مجرد الرضا تعدّ إجازة ولکن مجرد الکراهة لا تعدّ ردّا.

ولکن العمدة عدم تمامیة الدلیل علی کفایة مطلق الرضا الباطنی فی المعاملات و احتیاجها إلی الاستناد.

هذا تمام الکلام فی هذا التنبیه و الحمدللّه.

الثالث: اشتراط الإجازة بعدم سبق الردّ

قال الشیخ الأعظم: «من شروط الإجازة أن لا یسبقها الردّ، إذ مع الردّ ینفسخ العقد فلا یبقی ما یلحقه الإجازة»(1).

و قال السیّد العاملی: «و الردّ أن یقول: فسخت، ولو قال: لم أجز کان له الإجازة بعد ذلک کما صرّح به الشهید فی حواشیه فی باب النکاح، و یشهد له جملة من الأخبار و کلام الأصحاب(2)، و قد سمعت آنفا خبر الولیدة»(3).

و قال فی کتاب الحجر: «و قد قلنا فی باب البیع: إنّ الردّ الّذی یفسخ به الفضولی أن یقول: فسخت، فلو قال: لم أجز کان له الإجازة بعد ذلک کما تشهد به الأخبار، و به صرّح

ص: 505


1- 1 . المکاسب 3/426.
2- 2 . کما فی الروضة البهیة 3/234؛ و التنقیح الرائع 2/27.
3- 3 . مفتاح الکرامة 12/609.

الشهید فی باب النکاح، بل هو ظاهر الأصحاب»(1).

و استدلّ علیه بوجوه ثلاثة:

الأوّل: الإجماع

قال الشیخ الأعظم: «بعد ظهور الإجماع بل التصریح به فی کلام بعض مشایخنا»(2).

ورد التصریح بالإجماع فی الریاض(3) و المناهل(4) و شرح القواعد(5) و الجواهر(6) و العروة الوثقی(7)، و المراد ببعض مشایخنا یمکن أن یکون صاحب الجواهر کما عبّر عنه ب- «بعض مشایخنا المعاصرین»(8)، و أمّا المراد(9) به هو السیّد المجاهد صاحب المناهل فبعید، لأنّ الشیخ الأعظم عبّر عنه ب- «سیّد مشایخنا فی مناهله(10)» أو «بعض سادة مشایخنا»(11).

و أخذ المحقّق النائینی بهذا الإجماع و قال: «إنّ دعوی الإجماع من مثل المصنف رحمه الله [الشیخ الأعظم] کاشفٌ قطعیٌّ عن تسالم الحکم بین الأصحاب»(12).

ولکن یرد علی الإجماع: أوّلاً: ب- «أنّ الإجماع لا أساس له فی المقام لما نُقل من

ص: 506


1- 1 . مفتاح الکرامة 16/251.
2- 2 . المکاسب 3/426.
3- 3 . ریاض المسائل 8/224.
4- 4 . المناهل /289.
5- 5 . شرح القواعد 2/80.
6- 6 . الجواهر 23/450 (22/278).
7- 7 . العروة الوثقی 5/658، کتاب الوصیة، مسألة 4، طبعة جماعة المدرسین.
8- 8 . المکاسب 1/377.
9- 9 . کما احتمله المحقّق المروج فی هدی الطالب 5/182.
10- 10 . المکاسب 5/142.
11- 11 . المکاسب 4/109.
12- 12 . المکاسب و البیع 2/129.

أنّ المسألة کانت مسکوتا عنها إلی زمان الشهید قدس سره و معه کیف یطمئن الإنسان بأنّ الحکم قد وصل یدا بیدٍ من زمن المعصومین علیهم السلام هذا»(1).

و ثانیا: الإجماع المنقول لیس بحجة

و ثالثا: الإجماع یمکن أن یکون مدرکیّا و مدرکه الوجوه التالیة و مع هذا الاحتمال لا یمکن الأخذ به.

الثانی: العقد ربط بین التزامین(2)

حقیقة العقد هی ربط إلتزام بالتزام آخر، و هذا الربط بینهما إنّما یحصل فیما إذا لم یکن هناک قاطع فی البین، و الردّ یقطع الارتباط بینهما، و هذا نظیر رجوع الموجِب عن الإیجاب فإنّه یمنع عن اتصال القبول بالإیجاب.

و فیه: أوّلاً: أنّ الردّ لو کان من طرف الأصیل لکان لما أفاده وجه و صار نظیر رجوع الموجِب عن الإیجاب، و أمّا الردّ من طرف المالک - الذی تصدی الفضولی العقد عنه - فتصریحه بعدم القبول و عدم انتساب العقد إلیه لا یقطع الارتباط، لأنّ لفظ «لا أقبل» لیس أزید من عدم الرضا واقعا، فکما أنّه إذا لم یکن راضیا بما أصدره الفضولی أوّلاً ثمّ رضی به لا یمنع عدم رضاه الواقعی عن الاتصال بین الالتزامین، فکذلک الحال فیما إذا صرّح بعدم القبول ثمّ أجازه بالالتماس و نحوه.(3)

و ثانیا: التنظیر فی غیر محلّه لأنّ رجوع الموجِب عن إیجابه إنّما یکون قبل تمامیة العقد و أمّا الردّ إنّما یقع بعد العقد و بینهما بون بعید.

و بالجملة: إذا ردّ المالک أوّلاً ثمّ رجع و أجاز العقد تمّ انتساب العقد إلیه و یصح العقد و تربط التزامه بالتزام الآخر و ردّ الأوّل لا یقطع هذا الربط.

ص: 507


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/493، و نحوها فی محاضرات فی الفقه الجعفری 2/404 و مصباح الفقاهة 4/211.
2- 2 . راجع المکاسب 3/426.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/494.

اللهم إلاّ أن نقول بمقالة المحقّق الخراسانی(1) رحمه الله و حاصله: الظاهر اعتبار اشتراط الإجازة بعدم سبق الرد إنّما هو لأجل أنّ الإجازة مع سبقه بالردّ لا توجب صحة إسناد العقد عرفا إلی المجیز، و الموجب لإسناده إلی المجیز هو الإجازة غیر المسبوقة بالردّ، و لاأقل من الشک فی إسناده إلیه مع سبق الإجازة به، فلا دلیل حینئذ علی نفوذ هذا العقد علی المجیز، لأنّ التمسک بالعمومات مع هذا الشک تمسک بالدلیل فی الشبهة المصداقیة، هذا.

الثالث: الردّ یؤثر لقاعدة السلطنة

المالک بمقتضی قاعدة السلطنة - المقبولة عند العقلاء من ذهابهم إلی أنّ حقّ السلطنة علی المال للمالک - یتمکّن من الردّ و الإجازة فی بیع الفضولی، و حیث یردّه المالک فلا یبقی بیعٌ حتّی یلحقه الإجازة.(2)

و فصّل المحقّق النائینی فی المقام بقوله: «لا إشکال فی سلطنة المالک علی إجازة العقد الصادر عن الفضولی و أنّ السلطنة علی الشی ء یقتضی أن یکون مسلِّطا علی عدیله، بحیث یکون له القدرة علی طرفی الشی ء و إنّما الکلام فی أنّ سلطنته هل هی علی الإجازة و عدم الإجازة.

و بعبارة أُخری: یکون سلطانا علی النقیضین بحیث یختار أحدهما، أو أنّه مسلِّط علی إمضاء العقد و إبطاله و ردّه، و یکون قدرته متعلِّقة بأمرین وجودیین و یکون التقابل بین متعلّقی قدرته بالتضاد لا بالسلب و الإیجاب؟

و لازم الأوّل [التناقض] عدم سقوط العقد عن قابلیة لحوق الإجازة بسبب الردّ لأنّ المالک حینئذٍ مخیّرٌ بین الإجازة و عدم الإجازة، و عدم الإجازة أمرٌ عدمیٌّ حاصل من أوّل العقد إلی زمان تحقّق الإجازة و الردّ لایوجب سقوط حقّ الإجازة، لأنّ حال المالک بالنسبة إلی ما بعد الردّ و قبله متساوٍ بالنسبة إلی تحقّق عدم الإجازة فکما أنّ عدم

ص: 508


1- 1 . راجع حاشیته علی المکاسب /66.
2- 2 . راجع المکاسب 3/426.

الإجازة قبل الردّ لا یمنع عن الإجازة فکذلک بعد الردّ.

و بالجملة فالردّ یصبح حینئذ أجنبیّا عن متعلَّق سلطنة المالک فیکون وجوده کعدمه.

و لازم الثانی [التضاد] هو سقوط حقّ المالک بسبب الردّ حیث أنّه أعمل حقّه و استوفاه بالردّ، و معه فلا یبقی شی ء حتّی یلحقه الإجازة»(1).

و یرد علی الدلیل و التفصیل: أوّلاً: الإجازة اللاحقة بعد الردّ توجب التردید فی ملکیة المجیز بعدها، لأنّ علی فرض تمامیة الإجازة تخرجُ العین من ملک المجیز و بعد خروجه من ملکه لا تجری قاعدة السلطنة أو حدیثها، لأنّهما فرع الملک و مَبْنیّانِ علیه، و علی فرض عدم تمامیة الإجازة تَبْقی العین فی ملکه و تجری القاعدة و حدیثها.

و حیث لم نعلم تمامیة الاجازة و عدمها فلا تجری قاعدة السلطنة و عدمها.

و ثانیا: بأنّ قاعدة السلطنة و حدیثها لا یُوْجِبان مشروعیة التصرفات المشکوکة بحسب الحکم التکلیفی أو الوضعی، أنّها جائزة بحسب التکلیف و الوضع.

بالجملة: القاعدة و حدیثها ساکتتان عنها، و علیه إذا اشتری لباسا و شکّ فی جواز لبسه من جهة أنّه من مختصات النساء فلا یمکن إثبات اللبس بعموم القاعدة أو حدیث السلطنة، فحینئذ إنّا نشکّ فی أنّ المالک هل یجوز أن یتصرّف فی ماله بقطع العلاقة الحاصلة بالبیع علی نحو لا یصحّ بالإجازة المتأخرة فلا یمکن التمسک بعموم السلطنة فی إثبات صحته و جوازه. هذا بالنسبة إلی الکبری.

و ثالثا: و أمّا الصغری: فَلاِءَنَّ المعاملة الفضولیة لم تحدث شیئا فی مال المالک حتّی نرفعه بقاعدة السلطنة أو حدیثها بناءً علی أنّه یثبت الجواز فی التصرفات المشکوک جوازها و صحّتها.(2)

و الحاصل: حیث لم تَتمّ الوجوه الثلاثة إلی هنا فیمکن أن نقول بأنّ الردّ من المالک

ص: 509


1- 1 . المکاسب و البیع 2/131.
2- 2 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/495.

لا یضرّ بالإجازة اللاحقة کما علیه الفقیه السیّدُ الیزدی حیث یقول: «الحقّ أنّ الردّ من المالک غیر مانع من الإجازة بعد ذلک، و لایوجب الفسخ و ذلک لعدم تمامیة الوجوه المذکورة»(1).

و تبعه المحقّقون السادة البروجردی(2) و الخوئی(3) و الخمینی(4).

و ظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة مقالة المحقّق النائینی من قیاس الردّ بالإجازة حیثث یقول: «... فردّه عقد الفضولی کجواز البیع له، فکما لا یجوز له فسخ البیع بعد صدوره منه فکذلک لا ینفذ منه إبطال ردّه بعد تحقّقه منه. و علی هذا، فمعنی سلطنته أن یکون کلا طرفی الإجازة و الردّ راجعا إلیه فإذا أعمل أحدهما فلا یبقی محلّ للآخر»(5).

و الوجه فی عدم تمامیته: أنّ القیاس بین الردّ و الإجازة مع الفارق لأنّ الإجازة توجب انقطاع سلطنة المالک علی المال کالبیع و الهبة و بعده لا معنی للردّ لأنّه صار ملکا للغیر، و هذا بخلاف الردّ قبل الإجازة، فإنّ غایة ما یترتّب علیه عدم بیع المالک فقط، و هذا لا ینافی بیعه بعد ذلک.(6)

لا یقال: جریان حدیث أو قاعدة السلطنة - علی تقدیر جریانها - للردّ یکون معارضا بجریانها فی الإجازة لأنّ نفوذ الردّ قبل الإجازة بمقتضی السلطنة یکون معارضا بنفوذ الإجازة بعد الردّ لأنّها أیضا من أنواع السلطنة.

فلا یمکن جریانها فی الردّ و الإجازة معا للمعارضة و لأحدهما دون الآخر یکون ترجّحا بلا مرجّح.

لأنّا نقول: المعارضة باطلة، لأنّ علی جریانها للردّ لا یبقی مَحَلٌّ للإجازة و علی

ص: 510


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/209.
2- 2 . فی تعلیقته علی العروة الوثقی 5/658، کتاب الوصیة، مسألة 4.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/497.
4- 4 . کتاب البیع 2/293.
5- 5 . منیة الطالب 2/94.
6- 6 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/497.

فرض جریانها فی الإجازة فلا یبقی مَحَلٌّ للردّ و حیث أنّ المفروض تقدّم الردّ علی الإجازة فحیث یجری فی الردّ فلا یبقی مَحَلٌّ فی الإجازة. فالمعارضة مفقودةٌ نعم، أنّها تجری فی الردّ لما مرّ.

ثمّ یمکن الاستدلال علی عدم اعتبار الردّ فی بطلان بیع الفضولی إذا صدر بعده الإجازة بصحیحة محمّد بن قیس(1) الماضیة حیث أخذ الولیدة و ابنها ردّ عملیٌّ لبیع ولده الفضول، و بعد هذا الردّ العملی و ما وقع أجاز بیع ابنه.

اعترف الشیخ الأعظم(2) بظهور هذه الصحیحة فی صحة الإجازة بعد الردّ و لکن أُورد(3) علیها بأنّ الردّ الفعلی الموجود فی الصحیحة کأخذ المبیع غیر کافٍّ فی تحقّق الردّ بل لابدّ من إنشاء الفسخ و الردّ.

ثمّ اعترض(4) علی نفسه: بأنّ الرد فی المقام لیس بأولی من الفسخ فی المعاملات اللازمة الخیاریة بالعَرَض و قد صرّحوا بحصول الفسخ فیها بالفعل.

و أجاب عنه: ب- «أنّ الفعل الذی یحصل به الفسخ - فی المعاملات - هو فعل لوازم ملک المبیع کالوط ء و العتق و نحوهما، لا مثل أخذ المبیع»(5).

ولکن یمکن إبرام جوابه بأنّ: تحقّق الفسخ الفعلی فی المعاملات اللازمة یکون من جهة أنّ المال خرج من ملک من له الخیار فتصرفه فیه بغیر عنوان الفسخ یکون محرّما شرعیّا فمقتضی حمل فعل المسلم علی الصحة و أنّه لا یفعل الحرام، یوجب حمل فعله و تصرفه و أخذه علی الفسخ. بخلاف تصرف المالک فی البیع الفضولی فإنّه تصرّف فی ماله ولو لم یکن بعنوان الردّ فیکون جائزا، فمن هذه الجهة یکون تصرّف من له الخیار فسخا و

ص: 511


1- 1 . وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
2- 2 . المکاسب 3/426.
3- 3 . المکاسب 3/427.
4- 4 . المکاسب 3/427.
5- 5 . المکاسب 3/427.

لا یکون تصرف المالک المجیز ردّا.(1) فلا یتحقّق الردّ بتصرف المالک فی بیع الفضولی.

أقول: بناءً علی مختارنا من عدم الفرق بین القول و الفعل، الردّ الفعلی تام و یثبت به الردّ إلاّ أنّه قد مرّ آنفا عَدَمُ اشتراط الإجازة بمسبوقیتها بعدم الردّ کما علی عدم الاشتراط جمع من الأعلام.

نعم، صحیحة محمّد بن قیس لم یثبت فیه عدم الرد الفعلی فیه کما مرّ(2) فی الاستدلال بها علی صحة بیع الفضولی.

و العجب من بعض المعاصرین - مد ظله - حیث اعترض علی استاذه المحقّق السیّدِ الخوئی بأنّه لماذا لا یری ظهور صحیحة محمّد بن قیس فی تحقّق الإجازة عقیب الرد ثمّ قال: «و یخیل لی أنّ الأُستاذ الجلیل قدس سره قد ذکر هذا الأمر فی أوائل فقاهته، و بعد نضوجها و اشتدادها رجع عنه و أقرَّ بما یوافق الفهم العرفی المحاوری للروایة علی ما أفاده و ألقاه علینا فی مجلس بحث نکاح العروة و افتی قدس سره به فی بیع «منهاج الصالحین»...»(3).

وجه التعجب: المحقّق السیّد الخوئی لا یری الصحیحة نصا و لا ظاهرا فی تحقّق الإجازة عقیب الردّ ولکن حیث یستشکل فی الأدلة الواردة فی کلام الشیخ الأعظم فی عدم نفوذ الإجازة بعد الردّ، یقول بتحقّقها بعد الردّ فی البیع(4) و النکاح(5) و فی منهاجه(6).

و تبعه فی کتاب فتواه تلمیذاه - و هما استاذای(7)، و أمّا السیّد السیستانی(8) ففی

ص: 512


1- 1 . راجع محاضرات فی الفقه الجعفری 2/408؛ التنقیح فی شرح المکاسب 1/499.
2- 2 . راجع صفحة 192 من هذا المجلد.
3- 3 . بشری الفقاهة 4/132.
4- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/407؛ مصباح الفقاهة 4/218؛ التنقیح فی شرح المکاسب 1/497.
5- 5 . المبانی فی شرح العروه الوثقی 33/261، طبع موسوعة الإمام الخوئی رحمه الله .
6- 6 . منهاج الصالحین 2/17.
7- 7 . منهاج الصالحین 2/22 لشیخنا الاستاذ التبریزی قدس سره ؛ منهاج الصالحین 3/24 لشیخنا الاستاذ الوحید الخراسانی - مد ظله - .
8- 8 . منهاج الصالحین 2/27 للسیّد السیستانی.

إشکاله علی فتوی المشهور فقط.

ولکن مع ذلک یری السیّد الخوئی رحمه الله أنّ الصحیحة لا تخلو عن الإشعار فی الردّ.(1)

و یمکن الاستدلال علی عدم الاشترط بصحیحة محمّد بن اسماعیل بن بزیع(2) الماضیة.

فإنّ قوله: «فأنکرت ذلک»، و قوله: «ففزعت منه» ظاهران فی إظهار التنفرو المخالفة للنکاح. و لاریب أنّهما کافٍ فی الردّ. و لا یعتبر فی الردّ أن تقول «رددتُ» أو «فسختُ» أو نحوهما.

و معنی الإنکار هنا و الإفزاع هما ما یقابلان الرضا و القبول، لا الإنکار لتحقّق الفعل منها، و هما ردّان فعلیان بل قولیان بلا إشکال کما علیه المحقّق السیّدُ الخمینی(3) رحمه الله .

لا یقال: إنّ مورد الروایة بقرینة «فزوجتْ نفسها» ظاهرة فی المباشرة فی التزویج منها لا التوکیل أو الفضولی لها، فحینئذ موردها غیر ما نحن فیه و هو الفضولی.(4)

لأنّا نقول: بأنّ التوکیل فی باب الزواج حتّی فی العصور المتقدمة کان شائِعا و «یوجب - علی الأقل - انقداح احتماله فحینئذ مع ترک الاستفصال تدلّ علی عدم الفرق بین المباشرة و التوکیل»(5)، مع أنّ البحث هنا حول أنّ الردّ هل یوجب انهدام العقد أم لا؟ و من هذه الجهة لا فرق بین إنشاء المباشری و إنشاء الفضولی.

ص: 513


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/407؛ مصباح الفقاهة 4/407؛ التنقیح فی شرح المکاسب 1/498.
2- 2 . وسائل الشیعة 20/294، ح1، الباب 14 من أبواب عقد النکاح و اُولیاء العقد.
3- 3 . کتاب البیع 2/291.
4- 4 . راجع البیع /396 تقریرات الفقیه آیة اللّه السیّد محمّد الحجة الکوهکمری قدس سره بقلم آیة اللّه الشیخ أبوطالب التجلیل رحمه الله .
5- 5 . کتاب البیع 2/292.

«ولو قیل: إنّ رضاها بالتزویج معلَّق علی اللزوم و الرضا المشروط و التعلیقیّ لا أثر له فلا یجوز الإتکال علی الروایة.(1)

یُقال: إنّ ظنّها باللزوم جهة تعلیلیّة و بعد ذلک رضیت به، و الرضا فی باب المعاملات لیس بمعنی طیب النفس بل أعمّ منه کما فی عقد المضطرّ کما مرّ»(2).

أقول: قد مرّ منّا(3) سابقا عدم إمکان التعدی منها إلی الفضولی لأنّ الحکم الوارد فیها یکون خلافا للقاعدة فیجب الاقتصار علیه و لا یمکن التعدی إلی غیره.

ثمّ قال المحقّق السیّدُ الخمینی: «ثمّ لو شککنا فی أنّ الردّ موجب للفسخ فاستصحاب بقاء العقد لا مانع منه فإنّ العقد إذا لحقته الإجازة یکون موضوعا لوجوب الوفاء فالعقد موجود بالأصل و لحوق الإجازة به وجدانیّ.

نعم، لو قلنا بأنّ العقد المتقیّد و المتّصف بکونه مرضیّا به و مُجازا موضوع لکان الأصل مثبتا»(4).

الرابع: الإجازة حقّ أو حکم؟

إذا کانت الإجازة حقّا ینتقل إلی ورثة المالک بعد موته و إذا کانت حکما فلا، لأنّ الحکم لا ینتقل.

قد مرّ منا(5) الفرق بین الحقّ و الحکم الترخیصی - لا الإیجابی و التحریمی - و قلنا: إنّ المجعول ابتداءً فی الحقّ هو السلطنة و فی الحکم هو الإباحة.

و بعبارة أُخری: الداعی إلی تشریع الحقّ هو الرعایة من الشارع لحال المکلّف و

ص: 514


1- 1 . البیع /397 تقریرات الفقیه آیة اللّه السیّد محمّد الحجة الکوهکمری قدس سره ، بقلم آیة اللّه الشیخ أبوطالب التجلیل رحمه الله .
2- 2 . کتاب البیع 2/292.
3- 3 . راجع صفحة 494 من هذا المجلد.
4- 4 . کتاب البیع 2/293.
5- 5 . راجع الآراء الفقهیة 4/17.

لیاقته للسلطنة ولکن الحکم الترخیصی الداعی إلی جعله خلوه من المصلحة و المفسدة فی نوعه.

ثمّ قد مرّ الکلامُ فی انتقال عدّة من الحقوق إلی الورثة بالموت نحو: حقّ الشفعة - علی وجه - و الخیار و القصاص و الرهانه و التحجیر و الشرط.

و قال الفقیه السیّد الیزدی(1): أنّ تشخیص صغریات الحقوق و الأحکام فی غایة الإشکال ثمّ نقل عن خالنا الفقیه الشیخ حسن ابن الشیخ جعفر کاشف الغطاء: «أنَّ ذلک ممّا یمیزه النبیه بذوقه و لیس له معیار کلّی»(2)، و نقل عن صاحب الجواهر قوله: «کلّ ما عُبّر عنه بالحقّ فی الأدلة الشرعیة فهو من الحقوق، و غیره یبنی علی کونه حکما فی صورة الشک لأنّ الأصل عدم ترتب آثار الحقّ فتدبّر»(3).

ثمّ إن کانت الإجازة حکما فلا تنتقل إلی الورثة بلا إشکال، نعم المال ینتقل إلیهم فلکلِّ من ینتقل إلیهم المال الإجازة فی نصیبه منه.

و إمّا إن کانت الإجازة حقّا ینتقل بعد موت المالک إلی ورثته - علی قولٍ(4)-، ثمّ هل یرث کلّ واحد منهم الإجازة و الردّ بالنسبة إلی تمام المبیع علی حسب ما ذکروه فی إرث حقّ الخیار، أو یرث کلّ واحد منهم الإجازة بالنسبة إلی ما انتقل إلیه من المال و فی مال نفسه - کما إذا کانت الإجازة حکما -، أو یرث کلّهم من حیث المجموع فلیس لواحد منهم الفسخ مستقلاً فلابدّ من جمیعهم إمّا الفسخ و إمّا الإجازة؟

وجوه أو أقوال.

ثمّ هذا البحث - توریث الإجازة - یجری لو لم نذهب إلی القول بلزوم أنّ المجیز لابدّ و أن یکون مالکا حین العقد، و إلاّ - أی لو قلنا بلزومه - فلا یجری توریث الإجازة

ص: 515


1- 1 . حاشیته علی المکاسب 2/211.
2- 2 . حاشیته علی المکاسب 2/212.
3- 3 . حاشیته علی المکاسب 2/212.
4- 4 . کما علیه المحقّقون المامقانی فی غایة الآمال /391، و الخراسانی فی حاشیته علی المکاسب /67 و السیّد الیزدی فی حاشیته علی المکاسب 2/212.

لأنّه حینئذ المجیز غیر المالک حین العقد، و لذا قال الشیخ الأعظم: «بناءً علی ما سیجی ء من جواز مغایرة المجیز و المالک حال العقد فی [بحث] من باع مال أبیه فبان میّتا»(1).

و الفرق بین توریث الإجازة و توریث المال: فی الأوّل یرثها الزوجة ولو کانت بالنسبة إلی العقار، لأنّها - الزوجة - من الورثة و فی الثانی لا یرثها لأنّها ممنوعة من إرث العقار علی المشهور.

و فی الأوّل تجری الإحتمالات الثلاثة الماضیة و فی الثانی یتعیّن الإحتمال الثانی فقط - أی یرث کلّ واحد منهم الإجازة بالنسبة إلی ما انتقل إلیه من المال - .

و الذی یُهَوِّنُ الخطب عدم تمامیة احتمال أن تکون الإجازة حقّا، بل علی الأقوی أنّها حکما شرعیّا فی المقام کما علیه ظاهر الشیخ الأعظم(2) و تبعه السیّدان الخوئی(3) و الخمینی(4) رحمهم الله .

الخامس: هل الإجازة إجازة فی القبض و الإقباض للفضولی؟

أقوال:

الأوّل: مَنْقُوْلٌ(5) عن شیخ الطائفة أنّ إجازة بیع الفضولی إجازة للقبض و الإقباض لأنّه قال فی نهایته: «و متی أمضی المغصوب منه البیع لم یکن له بعد ذلک درک علی المبتاع، و کان له الرجوع علی الغاصب بما قبضه من الثمن فیه»(6).

الثانی: إنکار تلازم إجازة بیع الفضولی مع إجازة القبض و هو الظاهر من العلاّمة حیث علَّق علی کلام الشیخ بقوله: «و فیه نظر، فإنّ إمضاء البیع لایوجب الإجازة فی

ص: 516


1- 1 . المکاسب 3/427.
2- 2 . المکاسب 3/427.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 1/499.
4- 4 . کتاب البیع 2/295.
5- 5 . نقل عنه العلاّمة فی المختلف 5/57؛ و الشهید فی الدروس 3/194؛ و الفاضل المقداد فی التنقیح 2/27.
6- 6 . النهایة /402.

قبض الثمن فحینئذ للمالک مطالبة المشتری بالثمن، سواء کان قد دفعه إلی الغاصب أو لا، نعم، لو أجاز القبض کان ما قاله الشیخ حقّا»(1).

و تبع جَدُّنا الشیخُ جَعْفَرٌ العلاّمةَ و قال: «و إجازة القبض من حیث المعاملة إجازة للعقد دون العکس»(2).

و تبعهما صاحب الجواهر و قال: «ثمّ لا یخفی علیک أنّ إجازة العقد لیس إجازة للقبض من غیر فرق فی الثمن بین کونه عینا أو دینا خلافا للمحکی عن الشیخ فجعل إجازته إجازة للقبض. و لا ریب فی ضعفه، فلا یتشخّص الدین - مثلاً - بقبض الفضولی و لا یجری علیه حکم القبض الصحیح فی العین إلاّ بإجازة مستقلة لذلک بناءً علی ما عرفت من جریان حکم الفضولی فی الأقوال و الأفعال...»(3).

الثالث: و استحسن الشهیدُ قول العلاّمة مع تقیید و قال فی الدروس بعد نقل اختیار الشیخ: «... و اشترط الفاضل إجازة القبض و هو حسن إن کان الثمن فی الذمة»(4).

و تابع الفاضلُ المقدادُ الشهیدَ فی تقییده و قال: «لو کان البیع بالعین الحاضرة فإجازة البیع إجازة القبض»(5).

فملخص هذا القول هو التفصیل بین المبیع أو الثمن الشخصی الجزئی و الکلّی، بأنّ إجازة عقد الفضولی تکون إجازةً بالنسبة إلی قبض أو إقباض المبیع أو الثمن الشخصی الجزئی و لا تکون إجازة بالنسبة إلی قبض أو إقباض الکلّی.

الرابع: ذهب الشیخ الأعظم إلی تفصیل آخر فی المقام و قسّم المسألة علی ثلاثة أقسام:

أ: تارة القبض یکون جزءً للسبب المملِّک کما فی بیع الصرف و السلَّم ففی هذا

ص: 517


1- 1 . مختلف الشیعة 5/57.
2- 2 . شرح القواعد 2/95.
3- 3 . الجواهر 23/483 (22/300).
4- 4 . الدروس 3/194.
5- 5 . التنقیح الرائع 2/27.

القسم ذهب إلی وجود الملازمة بین إجازة عقد الفضولی و إجازة القبض للغویة إجازة البیع مجردّا عن إجازة القبض الذی هو جزء السبب.

و قال: «... فلو کان إجازة العقد دون القبض لغوا - کما فی الصرف و السلَّم بعد قبض الفضولی و التفرّق - کان إجازة العقد إجازةً للقبض، صونا للإجازة عن اللغویة. ولو قال: أجزت العقد دون القبض ففی بطلان العقد أو بطلان ردّ القبض وجهان»(1).

ب: و أُخری: القبض یکون وفاءً بالعقد من دون دخله فی ترتب الأثر علی العقد و یکون العوض شخصیّا، ففی هذا القسم ذهب(2) إلی عدم وجود الملازمة بین إجازة البیع و إجازة القبض، و توقف تحقّق الوفاء بالعقد علی إجازة القبض بخصوصها ولو بقرینة تدلّ علیها. خلافا للشیخ و الشهید و الفاضل المقداد حیث یروون الملازمة، و وفاقا للشیخ جعفر و صاحب الجواهر.

ج: و ثالثة: نفس القسم الثانی ولکن مع هذا الفرق: و هو أن یکون العوض کلّیّا فی الذمة، ففی هذا القسم استشکل فی وفاء أدلة صحة البیع الفضولی بإمضاء قبض الفضول و قال: «... و أمّا قبض الکلّی و تشخّصه به فوقوعه من الفضولی علی وجهٍ تصحّحه الإجازة یحتاج إلی دلیل معمِّمٍ لحکم عقد الفضولی لمثل القبض و الإقباض، و إتمام الدلیل علی ذلک لا یخلو عن صعوبة»(3).

توضیح الصعوبة: أدلة صحة عقد الفضولی تشمل العقد الذی هو من الإنشائیات دون القبض الذی هو فعل خارجی، فإجازة المجیز المالک یستند العقد إلیه و لا یتشخّص الکلی فی فردٍ من أفراده، و هذا التشخّص خارج عن مقتضی الإجازة فلا یتحقّق بها.

و تظهر الثمرة علی قول الشیخ الأعظم فی ما کان الثمن معیّنا فأجازه المالک فی قبضه فمرجع الإجازة إلی إسقاط الضمان عن المشتری و أنّه إذا تلف بعد ذلک فیخرج من مال المالک لا من مال المشتری، کما أنّ المثمن إذا کان معیّنا فمرجع الإجازة فی إقباضه

ص: 518


1- 1 . المکاسب 3/428 و 429.
2- 2 . المکاسب 3/428.
3- 3 . المکاسب 3/428.

إلی حصول المبیع فی ید المشتری برضا المالک، و لا یعتبر فی الإقباض إلاّ ذلک المعنی، إذ لا یشترط فیه أن یأخذه المالک بیده ثمّ یقبضه عنه المشتری، فلذا إذا کان المبیع بید المشتری سابقا فرضی به المالک صح الإقباض لا محالة و إذا تلف، تلف من مال المشتری.

و أمّا إذا کان الثمن أو المثمن کلّیّا یتشخص بالقبض و الإقباض فلا وجه لصحة الإجازة فیهما لأنّ قبض غیر المالک أو إقباضه لا یوجب تشخّص الکلّی فیما أخذه الفضولی أو أقبضه بوجه.(1)

أقول: یرد علی قسمه الأوّل [أ]: وجود الملازمة بین عقد الفضولی و إجازة القبض فی بیع الصرف و السلَّم لوجود اللغویة فی فرض عدم الملازمة، إنّما یتم فیما کان المجیز عارفا بالملازمة و لغویة إجازة البیع من دون إجازة القبض فیقصد إجازة القبض أیضا کما علیه السیّد الیزدی و قال: «هذا [صونا للإجازة عن اللغویة] انّما یتم إذا کان المجیز عالما بأنّ البیع بدون القبض باطل، و إلاّ فلا یحمل علی کونه إجازة للقبض أیضا...»(2).

و أمّا إذا کان جاهلاً بالملازمة و صورة اللغویة فی عدمها فلا وجه لکون إجازة البیع إجازة للقبض مع أنّها أمر قصدی لابدّ أن یقصد.

لهذا قال السیّد الیزدی: «لا وجه للوجه الثانی، إذ بعد کونه فی مقام الجدِّ لا معنی للحکم بصحة العقد و بطلان ردّ القبض، مع أنّه صرّح بعدم الرضا به، فالحکم ببطلان العقد متعیّن»(3).

و لذا أیضا قال جدی الشیخ محمّدتقی صاحب هدایة المسترشدین: «لو توقّف صحة البیع علی القبض کبیع الصرف و السَلَم و قد حصل القبض من الفضول فأجاز البیع، فإن کان بعد تفرّق المجلس و علمه به کان إجازة للقبض فی وجه قویّ، إذ لولاه لکان

ص: 519


1- 1 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 1/502.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/213.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/214.

إجازته للبیع لغوا، و لحمل فعل المسلم علی الصحة مع الإمکان. ولو کان جاهلاً بالتوقف ففیه إشکال، و إن کان المجلس باقیا بحسب اعتقاده»(1).

ثمّ ما ذکره الشیخ الأعظم بعده من إجازة العقد دون القبض من وجهین بلا وجه، لأنّ إذا أجاز العقد و ردّ القبض و البیع فی الصرف و السلّم مشروط بالقبض یبطل العقد قطعا لعدم تحقّق شرطه، فلا وجه لإحتمال الآخر من بطلان ردّ القبض مع تصریحه بالردّ.

و یرد علی قسمه الثانی [ب]: من ظهور الثمرة فی أنّ إجازة المالک فی الإقباض تدخل العین تحت ید المشتری الآخذ فإذا تلف المال تلف من مال المشتری، و فی القبض تدخل العین تحت ید المالک فإذا تلف، تلف من ماله.

لا یتم کما قیل: فی قبض الفضولی، لأنّ «المال بعد إجازة المالک أیضا غیر واصل إلیه بل بعد تحت ید الفضول فإذا تلف یصدق علیه التلف قبل القبض و أنّه من مال بائعه فیوجب انفساخ البیع»(2) لأنّ یشمله عموم «کلّ مبیع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه»، و هذا حکم شرعی لایقبل الاسقاط من جانب المجیز حتّی یقال أنّه بالإجازة أسقط الضمان و معنی الضمان هنا هو إسقاط البیع.

و یرد علی قسمه الثالث [ج]: لو کان القبض و الإقباض یتم بإجازة المالک فیهما - کما علیه الشیخ الأعظم فی القسم الثانی [ب] فلماذا منع عن ذلک فیما إذا کان الثمن و المثمن کلّیّا؟

لأنّ الشیخ الأعظم یجری الفضولی فی القبض و الإقباض بحیث تصححهما إجازة المالک فیهما، فهو یری شمول أدلة صحة الفضولی فی الفعل الخارجی و هو القبض و الإقباض، فإذا یجری الفضولی فیهما - القبض و الإقباض - و هما فعلان خارجیان فلماذا لا یری شمولها فی تعیین الکلّی فی الثمن أو المثمن بید الأجنبی و هما فعلان خارجیان أیضا، فالتفصیل بینهما بلا وجهٍ.

ص: 520


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/361.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/410.

و لذا نقول: کلّما یقبل الوکالة یقبل الإجازة و لا إشکال فی أنّ الوکیل یترتّب علی فعله جمیع ما یترتّب علی فعل موکّله، فکذلک لو لم یکن وکیلاً ولکن أجاز المالک فعله فیما بعد، فیصیر بالإجازة فعلُه فعلَ المجیز و ینتسب إلیه بلا فرق بین القبض و الإقباض و بلا فرق بین الثمن و المثمن الْکُلِّیَّیْنِ أَوِ الشَّخْصِیَّیْنِ. فبالإجازة یستند القبض و الإقباض إلی المجیز و کذلک التعیین فی الکلّی و بما ذکرنا یظهر الجواب عمّا اوردناه علی القسم الثانی [ب] من تقسیم الشیخ الأعظم و أنّ الایراد لا یتم.

ثمّ یظهر ممّا ذکرنا ضعف ما ذهب إلیه جمع من الاْءعْلامِ المحشین علی المکاسب من عدم جریان الفضولی فی الأفعال الخارجیة:

منهم: السیّد أبوالقاسم الإشکوری(1) حیث استشکل فی جریان الفضولی فی القبض.

و منهم: الفقیه السیّدُ الیزدی حیث یقول: «لا یخفی أنّ الفضولیة إنّما تجری فی التصرفات المعاملیة بناءً علی عموم دلیها، لا فی الأفعال الخارجیة التی لها آثار شرعیة، و القبض فی المعیّن من الأفعال الخارجیة فهو اُولی بالإشکال من القبض فی الکلّی، لأنّ تشخیص الکلّی المملوک بالفرد و تعیینه فیه نوع من المعاملة...»(2).

و منهم: المحقّق الخراسانی قال: «... لا یقال: إنّ قبض الفضولی بالإجازة صار قبض الأصیل فیکون التلف بذلک تلفا بعد القبض.

فإنّه یقال: لیس کلّ فعل یصّح انتسابه إلی غیر مُباشِرِهِ بإجازته، و القبض لم یعلم أنّه من قبیل العقد و البیع و نحوهما ممّا یصحّ انتسابه إلی غیر المباشر بالإجازة، أو من قبیل الأفعال الخارجیة التی لا یحدث له بذلک انتساب کالأکل و الشرب و غیرهما کما لا یخفی، بل دعوی أنّه مثلها غیر مجازفة و مجرد الفرق بینه و بینها من لزوم المباشرة فیها علی صحة انتسابها و عدم کفایة النیابة و الوکالة فیها أصلاً، بخلاف القبض، ضرورة کفایة

ص: 521


1- 1 . بُغیة الطالب 1/406.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/212.

الوکالة فی صحة انتسابه غیر مجد فی صحة الانتساب بمجرد الرضا و الإجازة، بعد عدم صدوره منه تسبیبا و لا مباشرة، و لا یبعد أن یکون مورد الإجازة هو خصوص العناوین الاعتباریة المنتزعة من أسباب خاصة یتوسّل بها إلیها کالبیع و العقد و البیعة و نحوها، ممّا یتوسّل إلیها بأسباب خاصة صادرة ممّن یقوم بها حقیقة أو من غیرها وکالة أو فضولة مع لحوق الإجازة بها، فالبیع و العقد حقیقة یقوم بالموکل و المجیز و ینسب إلیهما حیث تری صحة اعتبار العقد و البیع و انتزاعها بالإجازة للمجیز مثل اعتبارهما للأصیل أو لغیره بالتوکیل و هذا بخلاف نفس الأفعال الخارجیة کالقبض و الإیجاب و القبول، فإنّها لا یکادینسب إلی غیر المباشرة إلاّ تسبیبا، و لا مباشرة و لا تسبیب هاهنا من المجیز أصلاً، کما لا یخفی»(1).

و حاصل کلامه قدس سره أنّه قسّم الأفعال الخارجیة إلی ثلاثة أقسام:

1- الأفعال التی لیس فیها قابلیة الصدور إلاّ مباشرة کالأکل و الشرب و النوم و الجماع حیث لا یمکن إسنادها إلاّ للمباشر.

2- الأفعال التی لها قابلیة الصدور بالمباشرة أو بالتسبیب من خلال الوکالة أو الإذن السابق أو الإجازة اللاحقة کالبیع و العقد و البیعة.

3- الأفعال التی هی الوسط بینهما فلها قابلیة أن تصدر بالمباشرة أو بالتسبیب من خلال الوکالة أو الإذن السابق أو الاستنابة، و أمّا من خلال الإجازة اللاحقة حیث یصدق علیها الفضولیة فلا، و القبض و الإقباض من هذا القبیل.

و تبعهم المحقّق السیّد الخمینی(2) حیث یری أنّ الأقوی عدم جریان الفضولیة فی القبض و الإقباض و قال: «... أنّ الفضولیة لا تجری فیما یعتبر من القبض و الإقباض فی باب المعاملات»(3).

أقول: سیرة العقلاء جاریة علی أنّ کُلَّ ما یقبل الوکالة یقبل الإجازة و حیث أنّ

ص: 522


1- 1 . حاشیة المکاسب /68.
2- 2 . کتاب البیع 2/296.
3- 3 . کتاب البیع 2/299.

القبض و الإقباض یقبلان الوکالة و کذلک الإجازة السابقة و هی الإذن و الاستنابة، و الإجازة اللاحقة و هی الفضولیة فهما مشمولان بذلک.

و إنّهم لا یروون الفرق من حیث تصحیح الانتساب إلی المالک أو مَنْ ولی أمره بین الوکالة و الاستنابة و الفضولیة.

و إنّهم لا یروون الفرق بین الفعل الحدوثی و غیره - لو تمّ هذا التعبیر لأنّ جمیع الأفعال حدوثیٌّ - فالتفصیل بینهما - لو تمّت الاثنینیة - کما عن شیخنا الاستاذ قدس سره فی غیر محلّه حیث یقول: «و الحاصل: أنّ إجازة القبض فی الحقیقة توکیل، فیکون البائع الفضولی مأذونا فی استیفاء الثمن و الإمساک به، و هذا بخلاف ما إذا کان الأثر مترتّبا علی الفعل الحدوثی فإنّه لا یفید فیه الإجازة اللاحقة مثلاً: للحاج ذبح هدیه بالاستنابة کما إذا أمر الآخر بذبحه، و أمّا إذا ذبح الآخر هدیه بتخیّل أنّه هدی نفسه أو عدوانا أو بقصد النیابة عن مالکه فلا یجری إجازة المالک فی إسقاط وجوب الهدیِ عن نفسه»(1).

أقول: إذا تمت السیرة فخروج الفعل الحدوثی یحتاج إلی دلیل خاص، لو کان نتعبد به، ولکن الظاهر أنّه مفقودٌ فتشمله السیرة و لا وجه للخروج.

نعم، الاستنابة فیما ذکره شیخنا الاستاذ قدس سره من الهدی أو رمی الجمار أو الطواف و السعی و نحوها هو الأحوط.

و المختار عندنا فی المقام: هو قول العلاّمة وَ جَدِّی کاشف الغطاء و صاحب الجواهر من عدم وجود الملازمة بین إجازة العقد و إجازة القبض و الإقباض مطلقا، نعم إذا أجاز القبض و الإقباض فلا فرق بین ثمن الشخصی أو الکلّی و مثمنه و لا فرق بین العین أو الدین و الحمدللّه.

السادس: عدم اشتراط الإجازة بالفوریة

قال الشهید: «و لا یشترط الإجازة فی الحال، و لا کون المجیز حاصلاً حین العقد

ص: 523


1- 1 . إرشاد الطالب 3/449.

فتصحّ إجازة الصبی و المجنون بعد الکمال...»(1).

و قال الفاضل المقداد: «لا یشترط الفوریة فی الإجازة، لما قلنا فی خبر البارقی فله الإجازة ما لم یرد أوّلاً...»(2).

و قال الشیخ جعفر: «و لا فوریة فی الإجازة علی الأقوی»(3).

و قال جدی الشیخ محمّدتقی: «أنّه لا یعتبر الفور فی الإجازة بعد علم المالک بالحال، بل یصحّ مع التراخی أیضا. و ربّما یحتمل أن تکون فوریة لما فی التراخی من إرجاء الأمر و إیصال الضرر إلی آخر فی کثیر من الصور.

و فیه: أنّه مع علمه بالحال أقدم علیه، فیکون الضرر آتیا إلیه من قبله.

و مع جهله و لحوق الضرر علیه یندفع ذلک بثبوت الخیار له کما مرّت الإشارة إلیه»(4).

و قال السیّد العاملی: «و لا یشترط فوریة الإجازة، فله الإجازة ما لم یرد کما فی الدروس و التنقیح و الریاض و الحدائق»(5).

ولکن قال محقّق کتاب مفتاح الکرامة رحمه الله فی تعلیقته: «لم نجد فی الریاض و الحدائق ما نسبه الشارح إلیهما لا فی البیع و لا فی النکاح الفضولیّین، فراجع»(6).

و قال السیّد المجاهد: «لا یشترط فی الإجازة الفوریة کما صرّح به فی الدروس، اللهم إلاّ أن یترتب الضرر علی من لا إجازة له، بحیث لا یتحمّل عادةً فیحتمل حینئذ إجبار من له الإجازة علی اختیار أحد الأمرین الفسخ أو الإمضاء إن أمکن، و إلاّ فیجوز

ص: 524


1- 1 . الدروس 3/193.
2- 2 . التنقیح الرائع 2/27.
3- 3 . شرح القواعد 2/100.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/361.
5- 5 . مفتاح الکرامة 12/609.
6- 6 . مفتاح الکرامة 12/609.

الفسخ مطلقا»(1).

و قال الشیخُ الأعظمُ: «الإجازة لیست علی الفور...»(2).

الاستدلال علی عدم الفوریة:

یدلّ علیها مضافا للعمومات نحو قوله تعالی: «اوفوا بالعقود»(3) و الإطلاقات نحو قوله تعالی: «أحل اللّه البیع»(4) و «تجارة عن تراض»(5) أنّهما لم یقییدا بلحوق الإجازة فورا.

صحیحة محمّد بن قیس(6) المرویة فی قضا أمیرالمؤمنین علیه السلام فی ولیدة باعها أبن سیّدها و أبوها غائب، إلخ. حیث علّم علیه السلام المشتری بقوله: «خذابنه حتّی ینفذلک ما باعک»، و هذا التعلیم من الإمام علیه السلام یدلّ علی بقاء أهلیة الإجازة حتّی بعد شهور من البیع لأنّ المشتری وطأها فولدت له غلاما و أخذ الأب المالک الولیدة مع ابنها. فالصحیحة تدلّ علی عدم فوریة الإجازة و أنّها علی التراخی حتّی عدّة شهور.

قال الشیخ الأعظم: «و أکثر المؤیدات المذکورة بعدها»(7) [أی بعد صحیحة محمّد بن قیس].

مراده من المؤیدات: الأدلة التالیة:

منها: فحوی مادلّ علی صحة نکاح الفضولی، بما فیها من الروایات الدالة علی نکاح الصغیر أو الصغیرة حیث أنّهما أجازا بعد بلوغهما.

و منها: الروایات الواردة فی الأتجار بمال الیتیم، حیث أنّه أجاز بعد بلوغه.

ص: 525


1- 1 . المناهل /289.
2- 2 . المکاسب 3/429.
3- 3 . سورة المائدة /1.
4- 4 . سورة البقرة /275.
5- 5 . سورة النساء /29.
6- 6 . وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید و الإماء.
7- 7 . المکاسب 3/429.

و منها: روایة موسی بن أشْیَم(1)، الظاهرة فی أنّ النزاع وقع بعد موت الدافع و مضی الحج.

و منها: صحیحة الحلبی(2)، لأنّ الأخذ بالوضعیة ثمّ البیع بأکثر ثمّ ردّ مازاد بانضمام الوضعیة إلی صاحبه لا یتحقّق عادة بالفور.

و منها: معتبرة مسمع أبیسیار(3)، لأنّ الودعی الجاحد جاء بالمال و ربحه أربعة آلاف درهم بعد سنین، و طلب من المالک الاستحلال.

و منها: بیع عَقِیل دور النبی صلی الله علیه و آله و بنیهاشم حیث لم یرد إجازتهم علی الفور، و من الواضح أنّها کانت بالتراخی بشهور أو لعلّ بسنین عادةً.

و منها: التصدّق بمجهول المالک و اللقطة، حیث یأتی الإذن من المالک غالبا بعد مدّة، لا علی الفور.

و منها: أخبار تحلیلُ خُمُسِ المناکح و المساکن(4) بعد التصرف فیهما و أخذ الإجازة فی المورد الخاص من الإمام علیه السلام .

فرع:

قال الشیخ الأعظم: «ولو لم یُجِزِ المالک و لم یردّ حتّی لزم تضرّر الأصیل بعدم تصرفه فیم انتقل عنه و إلیه - علی القول بالکشف - فالأقوی تدارکه بالخیار أو إجبار المالک علی أحد الأمرین»(5).

أقول: عدم إجازة المالک إذا وصل إلی حدّ الضرر بالنسبة إلی الأصیل فهل یدفع الضرر عنه بالخیار أو إجبار المالک علی أحد الأمرین - من الإمضاء أو الردّ - أو الفسخ مطلقا - أی بلا فرق بین أن یکون الأصیل جاهلاً بالفضولیة أو عالما بها - وجوه بل أقوال.

ص: 526


1- 1 . وسائل الشیعة 18/280، ح1.
2- 2 . وسائل الشیعة 18/71، ح1.
3- 3 . وسائل الشیعة 19/89، ح1.
4- 4 . راجع الوجه الخامس عشر من وجوه صحة بیع الفضولی، صفحة 252 من هذا المجلد.
5- 5 . المکاسب 3/429.

ذهب جدی الشیخ محمّدتقی(1) صاحب الهدایة إلی ثبوت الخیار فی فرض جهل الأصیل و أمّا مع علمه بالحال هو أقدم علیه فیکون الضرر آتیا إلیه من قبله فلا خیار، و تبعه الشیخ الأعظم(2) فی العِدْل الأوّل من اختیاره، و اختاره الفقیه الیزدی(3) ثانیا و بعد الإجبار، و الخیار هو مختار المحقّق الخراسانی(4).

و ذهب السیّد محمّد المجاهد(5) إلی إجبار المالک علی أحد الأمرین فی فرض إمکان الإجبار و تبعه الشیخ الأعظم(6) فی العِدْل الثانی من اختیاره، و اختار الفقیه الیزدی(7) أوّلاً الإجبار.

و ذهب السیّد المجاهد(8) إلی جواز الفسخ مطلقا للأصیل لو لم یتمکن من إجبار المالک.

ولکن بناءً علی المختار من عدم لزوم العقد من طرف الأصیل فالأمر واضح لأنّه یجوز له التصرف فی ما یملکه قبل الإجازة بأیّ نحو کان فلا یتضرّر أصلاً.

و أمّا بناءً علی لزوم العقد من طرف الأصیل کما علیه جمع من أصحابنا فیجوز له الفسخ، و بجواز فسخه یندفع عنه الضرر، ولکنّه یجری فی حقّه جواز الفسخ مطلقا أم إذا کان جاهلاً بالفضولیة؟ لأنّه إذا کان عالما بها یأتی إلیه الضرر من قبل نفسه و هو أقدم علیه. الأظهر هو الثانی.

و أمّا إجبار المالک علی أحد الأمرین - الإجازة أو الردّ - فلا وجه له أصلاً لأنّه

ص: 527


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/361.
2- 2 . المکاسب 3/429.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/214.
4- 4 . حاشیة المکاسب /70.
5- 5 . المناهل /289.
6- 6 . المکاسب 3/429.
7- 7 . حاشیة المکاسب 2/214.
8- 8 . المناهل /289.

مسلطٌ علی ماله و لم یحدث منه ما یوجب الإجبار و لم یدل دلیل علی جواز هذا الإجبار.

و أمّا ثبوت الخیار فلا یجری - أیضا - لأنّ بعض العقود غیر قابلة له لا بالجعل و لا بغیره کالنکاح إلاّ فی موجبات الخیار لعقد النکاح و أمّا فی غیرها فلا یثبت الخیار.

نعم، فی فرض جهل الأصیل و لحوق الضرر علیه لا یبعد الحکم بوجود الخیار له دفعا للضرر. کما علیه جدّنا الشیخ محمّدتقی(1) قدس سره و المحقّق الخراسانی(2) رحمه الله و الاُستاذ المحقّق(3) - مد ظله - .

و هو العِدْل الأوّل فی کلام الشیخ الأعظم(4) رحمه الله .

السابع: تطابق الإجازة و العقد (المجاز)
اشارة

هل تعتبر فی صحة الإجازة مطابقتها للعقد من حیث العموم و الخصوص أم لا؟ وجهان.

الوجه الأوّل: هو الحکم بلزوم التطابق بینهما، و علی المالک أن یجیز العقد بتمامه، لأنّ العقد واحد و المعاملة الحادثة واحدة و لا مجال لتبعّضها و إجازة جزءٍ منها دون الآخر.

الوجه الثانی: هو الحکم بعدم لزوم التطابق بینهما، لإمکان انحلال العقد و التبعّض فیه، فیمکن إجازة جزءٍ منها دون الآخر.

ص: 528


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/361.
2- 2 . حاشیة المکاسب /70.
3- 3 . العقد النضید 3/341.
4- 4 . المکاسب 3/429.
المسألة فی رأی الشیخ الأعظم

یری الشیخ الأعظم(1) أنّ التفصیل هو الأقوی و قسّم المسألة إلی صور ثَلاثٍ:

الصورة الاُولی: إذا وقع العقد علی کلٍّ و أجازه المالک علی جزءٍ، یصح العقد فی الجزء الذی أجازه المالک و یجبر الضرر علی الأصیل بخیار تبعّض الصفقة.

الصورة الثانیة: إذا کان الاِخْتِلافُ بین العقد و الإجازة علی نحو الإطلاق و الاِشتراط بحیث أوقع الفضولی العقد مشروطا ولکن المالک یجیزه من دون الشرط قد حکم الشیخ الأعظم(2) ببطلانها. لأنّه لا یری العقد قابلاً للتبعیض من حیث الشرط بخلاف الجزء. و إذا أبطل الشرط یسری بطلانه إلی العقد.

الصورة الثالثة: إذا کان الاِختلاف بین العقد و الإجازة علی نحو الإطلاق و الاِشتراط و علی عکس الصورة الثانیة بحیث أوقع الفضولی العقد مطلقا ولکن یجیزه المالک مشروطا فهاهنا ثلاثة احتمالات:

الأوّل: صحة العقد بشرط قبول الأصیل ذلک الشرط.

الثانی: صحة العقد مطلقا ولو لم یقبل الأصیل الشرط، لأنّ الإجازة تعلَّقت بِنَفْسِ العقد و صحّحته، و أمّا الشرط فلایجب الوفاء به، لأنّ الشرط الذی یجب الوفاء به هو خصوص الشرط الواقع فی ضمن العقد و أمّا إذا کان الشرط خارجا عن العقد فلا یجب الوفاء به، لعدم الدلیل علی وجوب الوفاء به.

الثالث: بطلان الإجازة و بتبعها یبطل العقد، لأنّ الشرط حیث لم یقع فی ضمن العقد فیکون باطلاً و یسری بطلان الشرط إلی المشروط و هو العقد لإنتفاء المشروط بإنتفاء شرطه. و لأنّ مجموع العقد و الشرط التزام واحد بسیط لا متعدد و حیث ینتفی الشرط ینتفی المشروط - أی العقد - . و لأنّ ما أجازه المالک علی نحو الاِشتراط لم یقع الفضولی العقد علیه و ما وقعه الفضولی العقد علیه لم یجزه المالک.

ص: 529


1- 1 . المکاسب 3/429.
2- 2 . المکاسب 3/430.

و یری الشیخ الأعظم(1) هذا الاِحتمال الثالث هو الأقوی. و هکذا یری الشیخ الأعظم المسألة.

المسألة فی رأی صاحب الهدایة

ولکن قال جدّی الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة - أعلی اللّه مقامه الشریف - : «أنّه لو أجاز العقد علی ما هو علیه لا کلام، و لو أجاز العقد فی البعض بقسط من الثمن فهل یصحّ ذلک؟ وجهان، أجودها الصحة إلاّ أنّه یتخیر المالک بین الفسخ و الإجازة لتبعیض الصفقة.

و لا فرق بین أن یجیز جُزْأً مشاعا أو معیّنا، و لا بین أن یکون المبیع أمورا عدیدة قد جمعها فی صفقة أو شیئا واحدا.

و أولی بالصحة ما لو کان لشخصین فأجاز أحدهما دون الآخر.

و یحتمل هنا سقوط الخیار مع علمه بکونه لمالکین؛ لإقدامه علیه لا سیّما مع ظنّه(2) عدم إجازة أحدهما.

ولو اشترط علیه شرطا فی ضمن العقد فأجازه بدون الشرط لم یبعد الحکم بالصحة إلاّ أنّه لابدّ حینئذ من قبول الآخر.

و هل یصحّ العقد قبل قبوله و له الخیار علی الفسخ أو یکون مراعی بقبوله فیصحّ معه و یفسد مع عدمه؟ وجهان.

و هل یجوز أن یشترط علیه فی ضمن الإجازة شیئا لم یشترط العاقد فی ضمن العقد، فینعقد الشرط مع قبول الآخر و یلتزم به حینئذ، وجهان:

[1] من عدم وقوع العقد علیه فلا تطابقه الإجازة.

[2] و من حصول الإجازة للعقد، و الشرط المذکور أمر خارج عن أصل العقد قد ألزمه به فی ضمن الإجازة المصحّحة للعقد، و قد أنیطت به الاجازة، فیلتزم به مع قبوله

ص: 530


1- 1 . المکاسب 3/430.
2- 2 . فی نسخة: «ظن».

بمقتضی قوله «المؤمنون عند شروطهم»، فهو بمنزلة وقوعه فی ضمن العقد لکون الإجازة من متّمماته.

و لایقصر ذلک عن الشرط الواقع فی ضمن القبول دون الإیجاب إذا رضی به الموجب کما إذا باعه شیئا فقبل ذلک علی أن یکون له الخیار فی مدّة معلومة فرضی البائع به؛ فإنّه لا یبعد إجراء حکم الشرط الواقع فی ضمن العقد علیه أخذا بمقتضی الإطلاق المذکور»(1).

المختار فی حکم المسألة

لا إشکال فی صحة العقد إذا تطابَقت الإجازة معه و لا إشکال فی البطلان إذا تباین الإجازة مع العقد.

و أمّا إذا لم تنطبق الإجازة مع العقد ولکن لم تتباین معه أیضا فتأتی هذه الصور:

الصورة الاُولی: إذا کانت المخالفة بین الإجازة و العقد بنحو الکلّیّة و الجزئیة تکون المعاملة صحیحة لإنحلال المعاملة عند العرف إلی بیوع متعددة، فیحکم بالصحة فیما أجازه المالک و البطلان فی ما لم یجزه، غایة الأمر للمشتری الأصیل خیار تبعض الصفقة دفعا للضرر المحتمل، و لما یأتی فی بیع مایملک و ما لایملک تفصیله من الانحلال.

الصورة الثانیة: إذا کانت المخالفة بینهما بنحو الإطلاق و التقیید. بحیث أوقع الفضولی العقد مشروطا بشرط للمالک علی الأصیل أو للأصیل علی المالک أو للفضولی علی أحدهما أو للأجنبی علی أحدهما و أجاز المالکُ العقدَ بلا شرط علی نحو الإطلاق.

فحینئذ یحکم بالصحة فی جمیع الصور إلاّ إذا کان الشرط للأصیل علی المالک فله - أی للأصیل - خیار الفسخ بجهة تخلف الشرط.

و الوجه فی ذلک أنّ تخلف الشرط لا یوجب بطلان العقد فی المعاملات، غایة الأمر یوجب خیار الفسخ لمن له الشرط، و لأنّ بطلان الشرط لم یسری إلی المشروط.

ص: 531


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/354 و 353.

فعلی ما ذکرنا یکون العقد صحیحا و لم یَحْتَجْ إلی قبول الأصیل بحیث یکون مراعی بقبوله - کما هو أحد احتمالَیْ جدّی صاحب الهدایة رحمه الله .

و وافقنا فی الحکم بالصحة فی هذه الصورة المحقّق النائینی(1) قدس سره و ظاهر الفقیه الیزدی حیث یری أنّ الأمر فی الشرط أسهل منه فی الجزء(2)، خلافا للشیخ الأعظم(3) حیث حکم بالبطلان مطلقا - أی بلا فرق بین أنّ الشرط لِمَنْ و علی من - .

الصورة الثالثة: إذا کانت المخالفة بینهما بالإطلاق و التقیید ولکن أوقع الفضولی العقد مطلقا و أجازه المالک مشروطا بشرط له علی الأصیل أو للمشتری الأصیل علیه أو للفضولی علی أحدهما - البائع المالک المجیز أو المشتری الأصیل - أو للأجنبی کذلک.

فحینئذ یحکم بالصحة، ولکن فی الفروضِ التی کان الشرط فیها علی المشتری الأصیل لابدّ له من قبوله، فإذا قَبِلَ تمّ العقد و إلاّ بطل لإطلاق قَوْلِهِ صلی الله علیه و آله : «المؤمنون عند شروطهم»، و یصیر کالشرط الواقع فی ضمن القبول إذا رضی به الموجب کما مرّ من جدّی الشیخ محمّدتقی(4) رحمه الله و علیه الفقیه السیّدَ الیزدی(5)، و قال شیخنا الاُستاذ قدس سره فی هذه الصورة: «الأظهر صحة الإجازة مع رضا الأصیل بالشرط فیتم عقد الفضولی بها و یجب علی الأصیل رعایة الشرط أخذا بعموم وجوب الوفاء بالعقود و نفوذ الشروط، لأنّ الشرط فی الإجازة مع رضا الأصیل به لا یکون شرطا ابتدائیا، بل هو شرط فی البیع حیث إنّ تمامه و استناده إلی المالک یکون بالإجازة فیکون إلزام المالک إلزاما فی بیعه، نظیر إلزام المشتری فی قبوله البائع بأمرٍ و رضا البائع به بعد القبول فلاحظ و تدبّر»(6).

ص: 532


1- 1 . راجع منیة الطالب 2/103.
2- 2 . حاشیته علی المکاسب 2/215.
3- 3 . المکاسب 3/430.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/354.
5- 5 . حاشیته علی المکاسب 2/215.
6- 6 . إرشاد الطالب 4/9.
الثامن: هل یعتبر فی الإجازة تعیین العقد؟

قال جدّی الشیخ محمّدتقی رحمه الله : «هل یعتبر فیها [أی فی الإجازة] تعیین العقد من کونه بیعا أو صلحا أو إجارةً(1) أو نکاحا أو یجوز إمضاء العقد الواقع منه کائنا ما کان، سواء علم کمیّة العقد أو جهل التعیین أو علم نوع العقد و شکّ فی الکمیّة أو جهلهما معا کما إذا أجاز کلّ عقد یتعلَّق به قد صدر منه فی هذا الیوم مع جهله بنوع العقد و تعدّد تلک العقود فیه إشکال.

و ظاهر ما ذکرناه من کونه بمنزلة الإذن السابق علی العقد، هو الوجه الثانی.

و هل یعتبر فیها علمه بوقوع العقد من الفضول أو یجوز إِمْضاؤُهُ لما یحتمل وقوعه أو علی تقدیر وقوعه کما إذا أَخْبَرَهُ مجیزٌ بوقوع(2) البیع فأجازه من دون أن یتحقّق عنده وقوعه ثمّ علم بالوقوع؟ وجهان. و یقوی الاکتفاء به فی المقام»(3).

أقول: إلی هنا ظهر أنّ عقد الفضولی تامٌ من جمیع الجهات إلاّ من حیث انتسابه إلی المالک و بالإجازة الصادرة منه یَتُمُّ هذا الانتساب الذی کان اعتباریّا، فلم یدلّ دلیل علی اعتبار تعیین العقد و للمالک أن یجیز العقد أیّا ما کان و کذلک الأمر فی الکمیّة التی وقع العقد علیها أو کمیّة العقود، و الوجه فی ذلک عدم الفرق بین الإذن السابق و الإذن اللاحقّ و أنّ هذه الاُمور کلّها قابلة للوکالة فکذلک للفضولیة و الأذن اللاحقّ، و کذلک الأمر بالنسبة إلی احتمال الوقوع ثمّ الإجازة ثمّ العلم بالوقوع فیکون العقد تاما.

التاسع: عدم اشتراط الشروط المعتبرة فی البیع، فی الإجازة

قال صاحب الهدایة: «هل یشترط فی الإجازة الشروط المعتبرة فی البیع کمعلومیة العوضین للمالک المجیز أو یکتفی بحصول تلک الشروط حال وقوع العقد؟ فلو تحقّق العلم بالعوضین للعاقدین کفی فی صحة العقد و إن جهل المجیز فیصحّ إجازته مع

ص: 533


1- 1 . فی المطبوعة «إجازة»، صححتُهُ بالسیاق.
2- 2 . فی المطبوعة «لوقوع».
3- 3 . تبصرة الفقهاء 3/360.

جهالته بها أو بأحدهما، فیرجع فی التعیین إلیهما أو إلی ما تقوم به النیة مع الإختلاف.

وجهان: [1] من أن البائع [أ]و المشتری علی الحقیقة هو المجیز فلابدّ من اعتبار شروط البیع بالنسبة إلیه.

[2] و أنّ البیع إنّما صدر عن العاقدین دون المجیز، فلا دلیل علی اعتبار تلک الشروط بالنسبة إلیه، فالإجازة المتأخرة بمنزلة التوکیل المتقدم، فکما لایعتبر تحقّق شروط البیع بالنسبة إلی الموکِّل فکذلک المجیز، و هذا هو الأظهر.

و یجری الکلام فی الشروط المنضّمة إلیه، و نحوها إذا جهلها و أجاز البیع علی ما وقع علیه»(1).

أقول: وَ بِهذا البیان من الجدّ الأمجد قدس سره یَنْحَلُّ کثیرٌ من الإشکالات فی الباب و هو أنّ «الإجازة المتأخرة بمنزلة التوکیل المتقدّم»، و قد أصرّنا علیه مررا و تکرارا و الآن وجدنا التصریح به فی کلامه قدس سره ، و مقالته بالنسبة إلی عدم اعتبار الشروط تامة.

و یأتی تفصیل هذا البحث فی الأمر الثانی من القول فی المجاز فانتظر.

العاشر: بعض شرائط الإجازة

قال الشیخ جعفر رحمه الله : «و یشترط فیها [فی الإجازة] الموافقة فی نفس العقد، و فی جنس الثمن و المثمن و المکان و الزمان و الوضع و غیر ذلک علی القولین [فی الإجازة یعنی الکشف و النقل]. و فی القدر وجهان.

ولو تعدّدت العقود متجانسة، فأجازها دفعة صحّ. و فی اعتبار المجلس کلام. ولو أجاز أحدها مبهما بطل. و فی المطلق بحث»(2).

مراده قدس سره : اعتبار تطابق العقد و الإجازة فی نوعه أی إذا کان العقد بیعا و أجاز المالک إجارةً فلا یفید و کذلک الأمر فی جنس الثمن و المثمن و مکان المبادلة بینهما و

ص: 534


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/359.
2- 2 . شرح القواعد 2/100.

زمانها، و أمّا فی مقدارهما فَوَجْهانِ من اعتبار الموافقة و عدمه.

و إذا وَقَعَتْ من الفضولی عُقُوْدٌ متجانسة متعددة علی أموال المالک فأجازها دفعة واحدة کلّها صح، ولو أجاز أحدها مبهما بطل لو لم یقم قرینة علی تعیینها، و أمّا فی الإجازة علی نحو الإطلاق بحث من شموله للجمیع فَیَصحُّ الکلّ و من إمکان تعینه - أی العقد - بالتقیید.

إلی هنا تم بحث الإجازة و تنبیهاتها و به تمّ الجزء الثانی من قسم البیع من کتابنا «الآراء الفقیهة»، فی صباح یوم الأحد 21 شهر صفر الخیر سنة 1433 علی ید مؤلِّفه العبد هادی النجفی ببلدة اصفهان صانها اللّه تعالی عن الحدثان.

و الحمدللّه أوّلاً و آخرا و ظاهرا و باطنا و صلی اللّه علی سیّدنا محمّد و آله الطیّبین الطاهرین المعصومین.

ص: 535

ص: 536

ص: 537

ص: 538

ص: 539

ص: 540

ص: 541

ص: 542

ص: 543

ص: 544

ص: 545

ص: 546

ص: 547

ص: 548

المطبوع من آثار المؤلِّف

* العربیة

- موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام (12 مجلد)

- الآراء الفقهیة قسم المکاسب المحرمة و البیع(1) و (2) (5 مجلد)

- أجود البیان فی تفسیر القرآن (الجزء الثالث)

- الأربعون حدیثا فی من یملأ الأرض قسطا و عدلاً

- یوم الطّف

- ألف حدیثٍ فی المؤمن

- الکنز الجلّی لولدی علی

- کتاب ابلیس اللعین

* الفارسیة

- قبیله عالمان دین

- از چشمه خورشید

- ولایت و امامت

- سه مقاله در اصل امامت

- معراج مؤمن

- اندوخته خداوند (ترجمة الأربعون حدیثا)

- گنج نامه (ترجمة الکنز الجلّی)

- سه سفرنامه

- وادی مقدس

مقدمات علی الکتب:

- مقدمة تبصرة الفقهاء، تألیف المحقّق التقی صاحب هدایة المسترشدین

- مقدمة شرح هدایة المسترشدین، تألیف آیة اللّه الشیخ محمّدباقر النجفی الأصفهانی

- مقدمة غرقاب، تألیف السیّد محمّدمهدی الشفتی حفید حجّة الإسلام الشفتی

- مقدمه رساله صلاتیه، تألیف محقّق تقی صاحب هدایة المسترشدین

- مقدمه و تصحیح و تحقیق رساله امجدیه (الطبع الرابع)، تألیف آیة اللّه علاّمه ابوالمجد شیخ محمّدرضا نجفی اصفهانی

- مقدمه أساور من ذهب در شرح حال حضرت زینب علیهاالسلام ، تألیف آیة اللّه حاج شیخ مهدی نجفی

- مقدمه زندگانی چهارده معصوم علیهم السلام ، تألیف مرحوم حجّة الإسلام شیخ غلامحسین رحیمی

- مقدمه اختران فضیلت ج2، تألیف حجة الاسلام حاج شیخ ناصرالدّین انصاری قمی

تحت الطبع

- تقریرات دروس علم رجال

ص: 549

بعض منشورات مکتبة آیة اللّه النجفی

1. تبصرة الفقهاء (ثلاث مجلّدات)، لآیة اللّه العظمی الشیخ محمّدتقی الرازی النجفی الأصفهانی قدس سره صاحب هدایة المسترشدین، تحقیق: السیّد صادق الحسینی الإشکوری.

2. رساله صلاتیه، له أیضا، بالفارسیة، تحقیق: الشیخ مهدی الباقری السیانی.

3. شرح هدایة المسترشدین، لآیة اللّه العظمی الشیخ محمّدباقر النجفی الأصفهانی نجل صاحب الهدایة (المتوفی عام 1301ق)، تحقیق: الشیخ مهدی الباقری السیانی.

4. اشارات ایمانیه، لآیة اللّه العظمی الشیخ محمّدتقی آقا النجفی الأصفهانی (المتوفی عام1332ق)، تحقیق: مهدی الرضوی مع مساعدة انجمن مفاخر فرهنگی ایران.

5. نقد فلسفة دارون، لآیة اللّه العظمی الشیخ ابوالمجد محمّدالرضا النجفی الأصفهانی (المتوفی عام 1362ق)، تحقیق: الدکتور حامد ناجی الأصفهانی مع مساعدة مکتبة المجلس الشوری الإسلامی.

6. الآراءُ الفقهیة - المکاسب المحرمة - و البیع (5 مجلّد)، لآیة اللّه الشیخ هادی النجفی.

7. ترجمة ارشاد الأذهان، للعلاّمة الحلّی، المترجم إلی الفارسیة: آیة اللّه الشیخ مهدی النجفی الأصفهانی (المتوفی عام 1393ق) مع مساعدة انجمن مفاخر فرهنگی ایران.

8. أساور من ذهب در احوال حضرت زینب (سلام اللّه علیها)، لآیة اللّه الشیخ مهدی النجفی الأصفهانی (المتوفی 1393ق) بالفارسیة، تحقیق: جویا جهانبخش.

9. الأرائک فی علم أصول الفقه، لآیة اللّه الشیخ مهدی النجفی الأصفهانی (المتوفی عام 1393ق)، مع مساعدة The open school شیکاگو آمریکا.

10. غرقاب (تراجم أعلام القرن الحادی عشر و ما بعده)، للسیّد محمّدمهدی الموسوی الشفتی (المتوفی عام 1326ق)، تحقیق: مهدی الباقری السیانی و محمود النعمتی.

11. ترجمة توحید المفضل إلی إنجلیسة، ترجم بأمر آیة اللّه الشیخ مهدی النجفی الأصفهانی، مع مساعدة The open schoolشیکاگو آمریکا، و انتشارات انصاریان قم.

12. الکنز الجلی لولدی علی (گنج نامه)، للشیخ هادی النجفی، ترجمة علی اصغر حبیبی.

ص: 550

المجلد 6

اشارة

سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -

عنوان و نام پدیدآور : االآراء الفقهیه: قسم البیع/ تالیف هادی النجفی.

مشخصات نشر : تهران: شب افروز، 1393.

مشخصات ظاهری : 448 ص.: نمونه.

شابک : 978-600-92902-8-4

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه: به صورت زیرنویس.

موضوع : معاملات اموال شخصی و منقول (فقه)

موضوع : معاملات (فقه)

رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ36 1393

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : 3555378

ص: 1

اشارة

ص: 2

تقریظ آیة اللّه العظمی السیّد محمّدمهدی الموسوی الخلخالی - مدظله العالی

صاحب فقه الشیعة واصول فقه الشیعة نزیل المشهد المقدّس الرضوی

ص: 3

تقریظ فضیلة العلاّمة المحقّق الحجّة

السیّد عبدالسّتار الحسنی البغدادی - دام ظلّه -

تأریخُ وَضْعِ (اللَّمساتِ الأَخِیْرَةِ) علی الجُزْءِ السادسِ مِنْ کِتابِ «الآراء الفِقْهِیَّةِ» لِمُنَضِّدِ عُقُوْدِه وناظِمِ فَرائِدِ دُرَرِهِ فی نَفائِسِ سُمُوْطِهِ، سَماحَةِ آیَةِ اللّه ِ الفَقیهِ المحَقِّق، النَّظّارِ الطُّلَعَةِ مولانا الحاجِّ الشّیْخِ الْهادی مِنْ آلِ أبیالمَجْدِ النَّجَفیِ، دامَ ظِلُّهُ، وَعَمَّ فَضْلُهُ.

حَضَرتْنِی هذِهِ الأَبیاتُ وَوَزْنُها مِنَ (الطَوّیل) ساعَةَ انْتِهائی مِنْ مُطالَعةِ مَخْطُوْطَةِ الکِتابِ المذکورِ، فَأَرْجُوَ مِن سَماحةِ شیخِنا المُعَظّمِ قَبُوْلَها علی عِلاّتِها.

بِسِفْرِکَ هذا خُضْتَ فی کُلِّ لُجَّةٍ مِنَ الْفِقْهِ، فِیْها غَیْرُ ذِیْ العِلْمِ یَغْرَقُ

وَناقَشْتَ (آراءَ) الاْءَعاظِمِ سالِکا سَبِیْلَ هُدیً، ما فِیْهِ لِلرَّأْیِ مَزْلَقُ

وَذا (سادِسُ الاْءَجْزاءِ) وافی بِحُلَّةٍ عَلَیْها مِنَ الْبَحْثِ الْمُؤَصَّلِ رَوْنَقُ

فَقُلْ: هُوَ بَحْرٌ ب-ِ(الْجَواهِرِ) مَدُّهُ ال-ْ مَدِیْدُ عَلی طُوْلِ الْمَدی یَتَدَفَّقُ

وَکَیْفَ عَنِ (الْهادِیْ) تَنِدُّ شَوارِدٌ وَتُفْلِتُ عَنْ (تَقْیِیْدِ) مَنْ لَیْسَ یُسْبَقُ

سَلِیْلِ أَبِیْالْمَجْدِ الَّذِی طابَ أَصْلُهُ کَما طابَ فَرْعٌ - مَنْهُ - بِالْفَخْرِ مُعْرِقُ

وَهَلْ یَرِثُ الاْآسادَ غَیْرُ شُبُوْلِها کَما یَقْتَفِیْ آثارَ مَنْ راحَ مَنْ بَقُوْا

أَجَلْ، ذاکَ خِرِّیْتُ الْفَقاهَةِ، جامِعُ ال-ْ فَضائِلِ طَرّا، والْفَقِیْهُ الْمُحَقِّقُ

فَبُوْرِکَ سِفْرٌ حَرَّرَتْهُ یَراعَةٌ نَدیْ نِقْسِها(1) مِنْهُ الْمَعارِفُ تَغْدَقُ

یَراعَةُ (هادِیْ) الْفَضْلِ فارِسِ حَلْبَةِ ال-ْ مَآثِرِ، مَنْ فی عَزْمِهِ لَیْسَ یُلْحَقُ

وَمُذْ تمّ خاطَبْتُ المُصَنِّفَ دَاعِیا لَهُ اللّه َ أَنْ یَرْعاهُ وَهْوَ مُوَفَّقُ

وفی مُنتهی التَّوْضِیْح(2) قَلْتُ مُؤَرِّخا: (کِتابُکَ هذا بالدَّلائِلِ یَنْطِقُ)

(8) (443) (706) (108) (169)

ص: 4


1- 1 . النِقْسْ: الحِبر، المِداد.
2- 2 . فی عبارة: «وفی مُنْتِهَی التوضیحِ» تورِیَةٌ بِدُخولِ (الحاء) وقِیْمَتُها فی حِساب الجُمَّلِ (8) فی مادَّةِ التاریخ، وَبِها یَتِمُّ الْمَقْصُوْد.

وَصْلٌ: القول فی المجیز

اشارة

ص: 5

ص: 6

استقصاؤه یتمّ ببیان اُمورٍ:

الأوّل: شرائط المجیز

قال الشیخ الأعظم: «یشترط فی المجیز أن یکون حین الإجازة جائز التصرف بالبلوغ والعقل والرشد، ولو أجاز المریض بُنی نفوذها علی نفوذ منجّزات المریض، ولا فرق فیما ذکر بین القول بالکشف والنقل»(1).

أقول: یعیتبر فی المجیز - حال إجازته، لا حال العقد - أن یکون بالغا وعاقلاً - أی لا یکون مجنونا - ورشیدا - وهو الذی یعرف مصلحته من مفسدته ویقبض فی مقابل ماله ما یساوی ماله - وجائزَ التصرف بعدم کونه مفلَّسا أو راهنا، فحینئذ لو أجاز المفلَّس أو الراهن بیع ماله المتعلَّق به حقّ الغرماء أو المرتهن لم تنفذ إجازته لعدم کونه جائز التصرف فی ماله.

وأمّا التصرّفات المالیة الزائدة علی ثلث أموال المریض الذی مات فی ذاک المرض فإنّها لا تکون نافذة إذا کانت مجّانیّةً وتبرّعیّةً کالعتق والهبة والصدقة والوقف، والصلح والإجازة المحاباتیتین أو بعوض أقل، وأبراء الدین وشراء من ینعتق علیه ونحوها، وتحسب علی ثلثه ومازاده یحتاج إلی إذن الورثة، وأمّا إذا کانت علی نحو التسبیبیات کإتلاف مال الغیر والجنایه علیه بما یوجب الأرش أو الدیة أو ما یوجب الکفارة فتکون نافذة من أصل المال لا من ثلثه.

ثمّ العقود المعاوضیة هل تلحق بالقسم الإول فی عدم النفوذ والاحتساب من الثلث أو أنّها تلحق بالقسم الثانی فی النفوذ والاحتساب من أصل المال، الظاهر أنّها تلحق

ص:7


1- 1 . المکاسب 3/431.

بالقسم الثانی.

ثمّ إنَّ الشیخَ الأعظمَ لا یری فرقا فی جمیع ما ذکرناه فی توضیح کلامه بین قولی النقل والکشف، لأنّه یری الإجازة تصرفا مالِیّا وهو مشروط بهذه الشرائط.

قوله قدس سره بناءً علی النقل واضح وأمّا بناءً علی الکشف فلا یتم انتساب العقد إلی المالک إلاّ بعد الإجازة فهی تعدّ تصرّفا مالیّا حقیقةً، لا العقد الذی إذا لم تلحقه الإجازة فإنّهُ یعدّ هباءً منثورا ویکون کتنظیم سند المعاملة وقبالتها وورقتها من دون إمضاء المالک بحیث لیس له قیمة من دون امضائه.(1)

ومن هنا یظهر عدم تمامیه اعتراض الفقیه السیّد الیزدی علیه بقوله: «یمکن أن یقال بناءً علی الکشف یمضی إجازته من غیر توقف علی إجازة الورثة إذا کان البیع فی حال صحته بدعوی أنّه محجور من التصرفات فی ماله حال المرض بمازاد علی الثلث، والإجازة لیست منها، بل هی شرط لنفوذ التصرفات فهی نظیر القبض الموقوف علیه صحة المعاملة کالوقف والصرف والسَّلَم...»(2).

وبعبارة اُخری یمکن أن یقال فی جواب اعتراضه: إنّ المجیز حتّی علی القول بالکشف لابدّ له من أهلیة الإجازة وصحة العقد تتوقف علی تعقّبه بالإجازة لکن لیس مطلق الإجازة بل ممّن له أهلیة إصدارها.(3)

ص: 8


1- 1 . راجع تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 3/18.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/218.
3- 3 . راجع العقد النضید 3/360.

الثانی: هل یشترط فی صحة العقد وجود مجیزٍ حین العقد؟

اشارة

یقع البحث فی ضمن جهات:

الجهة الاُولی: سیر المسألة فی کلمات الفقهاء

قال العلاّمة فی القواعد: «والأقرب اشتراط کون العقد له مجیزا فی الحال، فلو باع مال الطفل فبلغ وأجاز لم ینفذ علی إشکال وکذا لو باع مال غیره ثم ملکه وأجاز...»(1).

وقال فی ذیله الفقیه العاملی: «هذا شرط شرطه أبوحنیفة(2) وقال الشهید(3) وابن المتوّج - علی ما نقل عنه - والفاضل المقداد(4) والمحقّق الثانی فی الشرح(5) إنّه لا یشترط.

واستشکل [العلاّمة] فی نهایة الإحکام(6)، ولم یرجّح [ولده] فی الإیضاح(7) کتعلیق الإرشاد(8) [للمحقّق الثانی].

وإن جعلنا الاشکال الآتی فی کلام المصنف راجعا إلی اشتراط أن یکون للعقد مجیز فی الحال کما ستسمعه کان المصنف [العلاّمة] متردّدا ویکون المعنی أنّه أقرب علی إشکال، فلیتأمّل»(9).

ص:9


1- 1 . القواعد 2/19.
2- 2 . المجموع، 9/261.
3- 3 . الدروس 3/193.
4- 4 . التنقیح الرائع، 2/26.
5- 5 . جامع المقاصد 4/73.
6- 6 . نهایة الإحکام، 2/476.
7- 7 . إیضاح الفوائد 1/419.
8- 8 . حاشیة إرشاد الأذهان 9/337 المطبوعة فی ضِمْنِ حیاة المحقّق الکرکی وآثاره.
9- 9 . مفتاح الکرامة 12/621.

أقول: ومن القائلین بعدم الاشتراط: الشیخ جعفر(1) وتلمیذاه جدّی الشیخ محمّدتقی(2) والفقیه العاملی(3)، وصاحب الجواهر(4) والشیخ الأعظم(5).

نسب العلاّمة هذا الاشتراط إلی أبیحنیفة فی تذکرة الفقهاء وقال: «شرط أبوحنیفة للوقف(6) أن یکون للعقد مُجیزٌ فی الحال، فلو باع مالَ الطفل فبلغ وأجاز لم ینعقد. وکذا لو باع مالَ غیره ثم ملکه وأجاز. وهو قولٌ للشافعیة تفریعا علی القدیم(7)»(8).

وقال فیها: «شرط الوقف عند أبیحنیفة أن یکون للعقد مجیزٌ فی الحال سواء کان مالکا أو لا، حتّی لو أعتق عن الطفل أو طلّق امرأته لا یتوقّف علی إجازته بعد البلوغ. والمعتبر إجازة مَنْ یملک التصرف عند العقد حتی لو باع مال الطفل فبلغ وأجاز لم ینعقد. وکذا لو باع مال الغیر ثم ملکه وأجاز.

والمعتمد: أنّ الطلاق لا یقع موقوفا»(9).

وقال تلمیذه وابن اخته السیّد عمیدالدین الأعرجی فی بیان وجه الاشتراط: «وإلاّ أدّی إلی حصول الضرر علی المشتری کما إذا باع الفضولی مال الطفل علیه لا متناعه من التصرف فیه وفی الثمن جمیعا إلی حین بلوغ الطفل، فإنّه مع تصرفه فی المبیع

ص:10


1- 10 . شرح القواعد 2/92.
2- 11 . تبصرة الفقهاء 3/356.
3- 12 . راجع مفتاح الکرامة 12/622 و 623.
4- 13 . الجواهر 23/481 (22/299).
5- 14 . المکاسب 3/432.
6- 1 . مراده من الوقف: توقُّف صحّة تصرف الفضولی علی الإجازة.
7- 2 . قوله: «تفریعا علی القدیم»، إشارةٌ إلی إنّ الشافعیَّ کان له فی فقهه مَسْلَکان الأوّل عند ما کان فی العراق، والثانی عند ما حَلّ فی مِصْرَ حیث خالف فیها رأیه الأوّل فی کثیر من المسائل ولکلٍّ من مَذْهبیهِ القدیم والجدید رُواةٌ معروفون فمِنْ رُواة مذهبه القدیم الحسن بن الصباح الزّعفرانی فی بغداد ومن رواة الجدید المُزَنی فی مِصْرَ.
8- 3 . تذکرة الفقهاء 10/15.
9- 4 . تذکرة الفقهاء 10/219.

یمکن أن یفسخ عند بلوغه، فیتبیّن بطلان البیع وعدم انتقاله إلی المشتری، ومع تصرفه فی الثمن یمکن أن یجیزه ویکون الثمن ملکا للطفل فیمنع منهما وهو ضررٌّ عظیمٌ منفیٌّ بقوله صلی الله علیه و آله : لا ضرر ولا إضرار»(1).

وقال نجله فخر المحقّقین: «هل یشترط ثبوت المجیز لعقد الفضولی فی الحال یحتمل ذلک ویبتنی علی مقدمات:

(أ): معنی صحة بیع الفضولی قبل الإجازة إمکان ترتب أثره علیه إمکانا قریبا بمعنی أقرب المراتب من مراتب الإمکان الاستعدادی لأنّه عبارة عن اجتماع الشرائط فإذا بقی من شرائط بیع الفضولی شرط واحد وهو إجازة المالک أو ولیّه وکان حصولهما ممکنا إمکانا قریبا أیضا حکم بصحة بیع الفضولی أو صلاحیته لأنّ یترتّب علیه الأثر حال وقوعه.

(ب): کلُّ آنٍ یمتنع وقوع الشرط فیه یمتنع وقوع المشروط فیه.

(ج): البیع إذا بطل فی وقت بطل دائما فحال عدم المجیز یمتنع ترتّب أثره ولا یصح لترتّب الأثر علیه فلا یحصل معنی الصحة بل معنی البطلان، وإذا بطل لم یمکن أن یترتّب صحته.

ویحتمل عدم الاشتراط، لأنّه لا یشترط اقتران الإجازة بالعقد بل یجوز تأخیرها زمانا طویلاً فلایسلِّم اشتراط استعداد القریب.

واعلم إنّ هذا الفرع یتأتی علی مذهب الأشاعرة، وأمّا علی قولنا ففی صورة واحدة وهی بیع مال الطفل علی خلاف المصلحة أو الشراء له»(2).

نقل السیّد العاملی عن الشهید فی حواشیه: «إنّ بعض الجمهور اعترض علی المصنف فی هذه المسألة بسقوطها علی مذهبه، لأنّه یعتقد وجود الإمام علیه السلام فی کلِّ زمان وهو ولیّ من لا ولیّ له، فأجاب بأنّه أراد مجیزا فی الحال یمکن الاطلاع علی إجازته،

ص:11


1- 5 . کنز الفوائد 1/385.
2- 1 . إیضاح الفوائد 1/418 و 419.

وتتعذّر إجازة الإمام علیه السلام لاستتاره عن الناس»(1).

ویذْکُرُ الشیخ الأعظم(2) أنّ المعترض هو القاضی البیضاوی الشافِعِیُّ صاحب أنوار التنزیل فی التفسیر - علی ما قیل - .

وقال المحقّق الثانی: «وجه القرب: أنّه مع عدم من له أهلیة الإجازة تکون صحة العقد ممتنعة فی الحال، وإذا امتنعت فی زمان ما امتنعت دائما، لأنّ بطلان فی زمان یقتضی بطلانه دائما، ولما فیه من الضرر علی المشتری، لامتناع تصرّفه فی العین - لإمکان عدم الإجازة ولعدم تحقّق المقتضی - وفی الثمن لإمکان الإجازة فیکون قد خرج عن ملکه.

وإنّما یتصوّر ذلک عندنا: إذا تصرّف للطفل علی خلاف المصلحة، وأمّا عند الأشاعرة فتصوّره ظاهر.

ویضعّف بانتقاضه ممّن کان بعیدا، یمتنع إلیه الوصول عادة إلاّ فی زمان طویل. والظاهر عدم الاشتراط، لعموم الدلیل الدال علی صحة الفضولی من غیر فرق، فإنّ عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» یتناوله»(3).

وقال فی حاشیة إرشاده: «وهل یُشترط أن یکون للعقد مجیزٌ فی الحال، بحیث لو باع مال الطفل لم یصحّ إذا لم یکن له ولی؟ یحتمل ذلک.

قال الشیخ فخرالدین ولد المصنف رحمهما اللّه: «واعلم أنّ هذا الفرع یتأتی علی مذهب الأشاعرة، أمّا علی قولنا ففی صورة واحدة، وهی بیع مال الطفل علی خلاف المصلحة أو الشراء له». وقد نبّه علی ذلک بأنّ الإمام موجود فی کلِّ زمان عندنا وهو ولیّ مَنْ لاولی له»(4).

ص:12


1- 2 . الحاشیة النجاریة /222 ونقل عنه مفتاح الکرامة 12/622 مع توضیح، وإلاّ عبارة الشهید هکذا: «وبهما ینتقض علیه مذهبه، ذکره بعض الشافعیة».
2- 3 . المکاسب 3/432.
3- 1 . جامع المقاصد 4/72.
4- 2 . حاشیة إرشاد الأذهان /337، المطبوعة فی ضِمْنِ الُمجَلّدِ التاسع من حیاة المحقّق الکرکی وآثاره.

وقال الشهید الثانی فی فوائد القواعد: «المناسب التفریع علی الأقرب أن یحکم بعدم النفوذ بغیر إشکال ولکن نقل ولد المصنف رحمه الله عنه أنّه إذا قال فی المسألة: «علی إشکال یکون حکما بما ذکر قبل الإشکال وفائدته التنبیه علی الخلاف، بخلاف ما لو قال: «فیه اشکال» ونحوه وهذا هو الظاهر من العبارتین، فعلی هذا لا تنافی بین الحکم السابق والتفریع، لکنّه یستغنی عن إعادة ماینبّه علی الخلاف، والأمر فیه أسهل»(1).

الجهة الثانیة: وجوه تصوّر عدم المجیز فی العقد

الأوّل: عدم ذات المجیز وفقد ذاتٍ من شأنها الإجازة للعقد.

وهذا الوجه غیر متحقّق علی مذهبنا، إذ لا یتصور ملک بلا مالک یجیز العقد لأنّ الأمام علیه السلام موجود فی کلِّ عصرٍ وهو الولی علی الإطلاق فهذا الوجه غیر مُتَصَوَّرٍ علی مذهبنا.

بل لا یتم علی مذهب العامة أیضا لأنّهم یَرَوْنَ الخلفاء اُولیاءً علی جمیع الاُمور ومنها الأموال.

الثانی: عدم وجود المجیز بوصف التمکن من الإجازة وإن کانت ذاته متحقّقة إلاّ أنّه حین المعاملة غیر حاضر ولا یتمکّن من الوصول إلیه کما لَوْ کان المالک أو ولیّه غائبا،

أو الإمام علیه السلام کان فی ستر الغیبة کما فی زماننا هذا.

وهذا الوجه وإن کان متصوّرا ولکنّه لا دلیل علی اعتباره.

الثالث: تحقّق ذات المجیز وتمکّنه من الإجازة لکنّه مَمْنُوْعٌ شرعا من الإجازة والتصرف فی الأموال، کما إذا باع الفضولی مال الیتیم علی خلاف المصلحة فإنّ الولی لا یمکنه الإجازة حینئذ لأنّها علی خلاف مصلحة الیتیم.

وهذا الوجه أیضا وإن کان متصوّرا ولکنّه لا دلیل علی اعتباره.

والحاصل: لا ینبغی البحث حول اعتبار الأوَّلَیْن، إذا لا دلیل علی اشتراط ذات

ص:13


1- 3 . فوائد القواعد /532.

المجیز أو المجیز بوصف التمکن من الإجازة فی صحة المعاملات بل ما ورد فی صحة زواج الصغیرین أدّل دلیل علی عدم اعتبارهما بل فی أدلة صحة الفضولی خیر دلیل علی عدم اعتبارهما إذ لم یُفْصَلْ فیها بین وجودهما حال العقد وعدمه.

وکذلک البحث فی الثالث إذ لا یعتبر فی صحة الفضولی أن یکون له مجیز حال العقد شرعا، بل الإعتبار بوجود المجیز حال الإجازة ویظهر لک عدم الاعتبار حین لحاظک بأنّ بیع مال الیتیم کان علی وفق المصلحة حین العقد ولکن حین الإجازة خَرَجَ عن المصلحة وکان علی خلافها، فهل یجوز للولی إجازة هذا البیع الذی کان فعلاً علی خلاف مصلحة الیتیم؟

ومن الواضح عدم جواز إجازته، فتمام العبرة بوجود المجیز حال الإجازة لا حال العقد.

ویأتی البحث من الشیخ الأعظم حول هذا القسم الثالث فی الأمر الثالث(1) الآتی فانتظر.

الجهة الثالثة: الاستدلال علی وجود المجیز حین العقد بوجوه

الأوّل: ما مرّ من فخرالمحقّقین(2) رحمه الله من مقدمتیه (أ) و (ج) وقال الشیخ الأعظم فی الاستدلال له: «واسْتُدلّ له بأنّ صحة العقد والحال هذه ممتنعة، فإذا امتنع فی زمان امتنع دائما»(3).

وقال المحقّق الأصفهانی فی توضیحه وتقریبه: «إنّ العقد الفضولی یتفاوت مع

العقود الفاسدة - مع اشتراکه لها فی عدم التأثیر فعلاً - فی أنّه قابل للتأثیر بالإجازة دون غیره، فلابدّ أن یکون العقد الفضولی واجدا لجمیع مراتب الإمکان الاستعدادی، بحیث لا یستند عدم فعلیة التأثیر إلاّ إلی عدم فعلیة الإجازة، وأمّا مع عدم إمکان الإجازة حال العقد فالعقد حینئذ غیر واجد لجمیع مراتب الإمکان الاستعدادی، إذ منها الإمکان من

ص:14


1- 1 . راجع صفحة 24 من هذا المجلد.
2- 2 . إیضاح الفوائد 1/418.
3- 3 . المکاسب 3/431.

ناحیة امکان الإجازة فعلاً، فإذا امتنعت الإجازة فعلاً امتنعت الصحة التأهلیة فعلاً، زیادة علی الصحة الفعلیة المقرونة بفعلیة الإجازة لا بإمکانها.

ولا نعنی بالصحة التأهلیة إلاّ امکان نفوذ العقد فعلاً بالإجازة، مع أنّه لا یمکن لامتناع الإجازة، وإذا امتنعت الصحة التأهلیة فی زمان امتنعت دائما، لأنّ ما یتفاوت حاله بتفاوت الأزمان هی الصحة الفعلیة - التابعة لوجود شرط الصحة الفعلیة وعدمه - لا الصحة التأهلیة»(1).

لخّص المحقّق المروج هذا التقریب فی ثلاثة اُمور: «أحدها: اقتران الصحة التأهلیة بالعقد وعدم انفکاکها عنه.

ثانیها: توقف هذه الصحة علی إمکان الإجازة فعلاً أی من حین وقوع العقد، ومع امتناعها لا یثبت الصحة التأهلیة فعلاً للعقد، فهذه الصحة منوطة باجتماع جمیع مراتب الإمکان التی منها إمکان فعلیة الإجازة، ومع امتناعها لعدم وجود مجیز حین العقد لا یثبت له الصحة التأهلیة أیضا. وقد عرفت عدم انفکاک الصحة التأهلیة عن العقد فإمکان فعلیة الإجازة دخیل فی الصحة التأهلیة.

ثالثها: أنّ المائز بین عقد الفضولی والعقود الفاسدة هو وجود الصحة التأهلیة فیه دونها، هذا»(2).

وقال الشیخ الأعظم فی نقد هذا الاستدلال: «ویضعّف الأوّل - مضافا إلی ما قیل(3): من انتقاضه بما إذا کان المجیز بعیدا امتنع الوصول إلیه عادة [إلاّ فی زمان طویل[ - منع ما ذکره [فخرالمحقّقین] من أنّ امتناع صحة العقد فی زمان یقتضی امتناعه دائما، سواء قلنا بالنقل أم بالکشف»(4).

ص: 15


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/201.
2- 2 . هدی الطالب 5/224.
3- 3 . القائل هو المحقّق الثانی فی جامع المقاصد 4/72 کما مرّ ولکنّ تنبّه قبله فخر المحقّقین نفسه فی إیضاح الفوائد 1/419.
4- 4 . المکاسب 3/431.

مراده: إنّ الملازمة بین فساد العقد حدوثا وبقاءً وإن کانت مسلَّمة، ولکنّ المقام لیس من صغریاتها لعدم کون وجود المجیز حال العقد من شرائط صحة العقد عندنا ولیس مراده إمکان تفکیک بین بطلان العقد حدوثا وصحته بقاءً لأنّ فقدان شرط الصحة یقتضی بطلانه حدوثا وبقاءً. خلافا لما استفاد بعض الأعلام من عبارته منع الکبری وردّه بأنّه «منظور فیه»(1).

وقال المحقّق الأصفهانی فی نقد تقریبه: «وفیه: لو کانت الصحة التأهلیة - التی یتفاوت فیها العقد الفضولی مع العقود الفاسدة ما یساوق الإمکان الاستعدادی من جمیع الوجوه - لکان لما ذکر وجه، وأمّا إذا کان المراد منها مجرد الصحة بلحوق الإجازة ولو فیما بعد، لا فعلاً فی قبال ما لایجدیه لحوق شیء فی صحته، فلا یکون الصحة التأهلیة مساوقة للإمکان الفعلی، بل العقد الفضولی ممکن التأثیر فیما بعد بلحوق الإجازة له فیما بعد، هذا بناءً علی النقل.

وأمّا بناءً علی الکشف فهو ممکن الصحة فعلاً بإمکان لحوق الإجازة له فیما بعد، إذ لیس أمر الإمکان بأعظم من أمر الوجود، فکما أنّ وجوده الفعلی من ناحیة وجود فیما بعد، کذلک إمکانه الفعلی من ناحیة امکان الإجازة فیما بعد، فإنّ وجود المعلول وإمکانه بوجود العلّة وإمکانها فإذا قلنا بکفایة وجودها المتأخر فی وجوده المتقدّم فکذا نقول بکفایة إمکانها المتأخر فی إمکانه المتقدم»(2).

الثانی: ما مرّ من السید عمیدالدین(3) من حصول الضرر علی المشتری لأنّه مُنع من التصرف فی المبیع والثمن لاحتمال صدور الإجازة من المجیز وعدمه.

وذکر الشیخ الأعظم(4) فی المقام تقریب المحقّق الثانی(5) لهذا الاستدلال وحیث

ص:16


1- 1 . کتاب البیع 2/323.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/201 و 202.
3- 3 . کنز الفوائد 1/385.
4- 4 . المکاسب 3/341 قوله رحمه الله : «وبلزوم الضرر علی المشتری...».
5- 5 . جامع المقاصد 4/72.

أنّه مرّ آنفا فلا نعیده.

ویرد علی هذا الاستدلال أوّلاً: بما مرّ من جواز تصرف الأصیل فی ماله قبل صدور الإجازة من المجیز - وإن کان الشیخ الأعظم لم یوافقنا فی هذا الردّ.

وثانیا: إذا کان جاهلاً بالفضولیة تجری للأصیل قاعدة نفی الضرر کما مرّ من السیّد عمیدالدین(1) منع هذا الاستدلال بهذه القاعدة.

وثالثا: یمکن دفع ضرر الأصیل بجعل الخیار له بحیث إن أراد یجوز له فسخ هذه المعاملة الضرریة.

ورابعا: هذا الدلیل أخص من المُدّعی، لأنّ المدعی بطلان البیع الفضولی إذا لم یکن مجیزا فی حال العقد، والدلیل یقتضی بطلانه فی صورة ضرر الأصیل ولکن إذا لم یتضرر الأصیل أو کان راضیا هو بهذا الضرر، لم یدلّ الدلیل علی البطلان.

الثالث: ما ذکره فی العقد النضید بقوله: «... مطلق المعاملات الفضولیة فاقدة لصفتین وهما الرضا والاستناد ویمکن تصحیح المعاملة من خلال الإجازة اللاحقة فیتمّ بها الصفتان، وهو النهی الوارد عن التقرّب إلی مال الیتیم فی قوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(2)، وبالتالی فلا مجال لتصحیح المعاملة التی یتضرّر منها الصبی لأنّ تصحیحها یستلزم قیام إطلاق یدلّ علی إمکان تصحیح مطلق العقود الفضولیة وإن کان محذورها من غیر ناحیة الرضا والاستناد، وهو ما نعجز عن إثباته لقصور الأدلة الخاصة، وعدم قیام أدلة مطلقة تفید ذلک وبالتالی فإنّه یصل الدور إلی الشک، والمرجع حینئذ أصالة الفساد»(3).

یرد علیه: أوّلاً: کلام العلاّمة(4) عام بالنسبة إلی وجود المجیز حال عقد الفضولی

ص:17


1- 1 . کنز الفوائد 1/385.
2- 2 . سورة الأنعام /152.
3- 3 . العقد النضید 3/364.
4- 4 . قواعد الأحکام 2/19.

ولا یختص ببیع مال الطفل علی خلاف المصلحة وإن کان نجله(1) یَخُصُّهُ بصورة واحدة وهی هذه المسألة، فالدلیل أخص من مُدَّعی العلاّمة.

وثانیا: العقود الفضولیة فاقدة لصفة واحدة وهی الاستناد وبالإجازة یَتُمُّ الاستناد کما مرّ مُفَصّلاً فیما سبق.

وثالثا: الأدلة الواردة فی صحة عقد الفضولی عام تشمل هذه المسألة بعد صدور الإجازة من المالک بعد بلوغه ورشده کما یأتی.

الجهة الرابعة: مادلّ علی عدم اعتبار وجود المجیز حین العقد

امورٌ:

الأوّل: الأدلّة الواردة فی صحة عقد الفضولی عامةٌ ومطلقةٌ ولا تخصّص ولا تقیّد بوجود مجیز فی حال العقد.

ولذا قال المحقّق الثانی: «والظاهر عدم الاشتراط لعموم الدلیل الدال علی صحة الفضولی من غیر فرق، فإنّ عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» یتناوله»(2).

وقال الشیخ جعفر: «لقضاء عمومات الکتاب والسنة بالعموم»(3).

وقال صاحب الجواهر بعد نقل کلام العلاّمة: «إلاّ أنّه - کما تری - لا دلیل علیه، بل مقتضی إطلاق ما سمعته من أدلة الفضولی خلافه...»(4).

الثانی: ما ذکره الفقهاء(5) - قدس اللّه أسرارهم - فی باب النکاح من أنّه لو زوّج الفضولی الصغیریْن اللذیْن لا ولیّ لهما صحّ وتدلّ علیه الروایات:

ص:18


1- 5 . إیضاح الفوائد 1/419.
2- 1 . جامع المقاصد 4/72.
3- 2 . شرح القواعد 2/92.
4- 3 . الجواهر 23/479 (22/297).
5- 4 . منهم المحقّق الثانی فی جامع المقاصد 12/150، والشهید الثانی فی المسالک 7/177، وسیّد الریاض فیه 11/103.

منها: معتبرة محمّد بن الحسن الأشعری.(1)

ومنها: صحیحة مقطوعة محمّد بن اسماعیل بن بزیع.(2)

ومنها: صحیحة أبیعبیدة.(3)

ومنها: خبر عبّاد بن کثیر.(4)

ولذا قال الشیخ جعفر: «وشهادة مادلّ علی جواز إنکاح الفُضُوْلیَّین الصبیَیْن ثمّ مات أحدهما وبقی الآخر حتّی بلغ وأنّه تمضی إجازته مع اعتبار بعض الشروط الاُخَر علی ذلک بطریق الاُولویة»(5).

قال الشیخ أسداللّه التستری: «لو کان شیءٌ ممّا ذکر فی المنع صالحا لذلک لعمَّ

جمیع العقود وثبت فی النکاح أیضا، بل بالطریق الأولی. لکن نکاح الفضولی للصغیر والصغیرة مع إجازتهما بعد البلوغ جائز إتفاقا نصّا وفتویً فکذلک سائر العقود»(6).

وقال فی الجواهر: «مضافا إلی خبر الصغیرین»(7).

وقال الشیخ الأعظم: «مضافا إلی الأخبار الواردة فی تزویج الصغار فضولاً الشاملة لصورة وجود ولیّ النکاح وإهماله الإجازة إلی بلوغهم، وصورة عدم وجود الولیّ، بناءً علی عدم ولایة الحاکم علی الصغیر فی النکاح وانحصار الولی فی الأب والجدّ والوصیّ علی خلاف فیه»(8).

الثالث: قال السیّد العاملی: «... بل قد لا نشترط المجیز بالکلّیّة فإنّهم قالوا بأنّ

ص:19


1- 5 . وسائل الشیعة 20/276، ح2، الباب 6 من أبواب عقد النکاح واولیاء العقد.
2- 6 . وسائل الشیعة 20/282، ح1، الباب 8 من أبواب عقد النکاح واولیاء العقد.
3- 7 . وسائل الشیعة 26/219، ح1، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج.
4- 8 . وسائل الشیعة 26/219، ح2.
5- 9 . شرح القواعد 2/92.
6- 1 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /35.
7- 2 . الجواهر 23/479 (22/297).
8- 3 . المکاسب 3/432.

المحجور علیه لفلس إذا باع بعض أعیان ماله المحجر علیه فیها، أو وقف أو وهب أو عتق أنّه کالفضولی فلاتباع هذه الأعیان التی باعها فی دَیْن الغرماء بل تأخّر فإن وفّی غیرها بمال الغرماء لزیادة القیمة أو لإبراء بعض الدیّان نفذ بیعه وإلاّ فلا، فکان وفاء المال کالإجازة وعدمه کالردّ. وقد حرّرنا المسألة فی باب الحَجْر فلابدّ من مراجعتها»(1).

وفی ذیل کلام العلاّمة فی کتاب الحَجْر: «أمّا لوصادف المال فی الحال: فإن کان مورده عین مال: کالبیع والهبة والرهن والعتق، احتمال البطلان من رأس، والإیقاف، فإن فضلت تلک العین من الدین لارتفاع القیمة أو الإبراء أو غیرهما نفذ»(2).

قال: «إذا صادف تصرفه عین المال بالإتلاف بالمعاوضة کالبیع والإجازة أو بغیر معاوضة کالهبة والعتق والکتابة أو بالمنع من الانتفاع کالرهن ففی المبسوط(3) والشرائع(4) والتحریر(5) والإیضاح(6) أنّه یبطل. وهو المحکی(7) عن أبیعلیّ لأنّه ممنوع منه علی وجه سلبت أهلیته وکانت عبارته کعبارة الصبیّ فلا یصحّ وأن لحقته الإجازة

وهذا هو المناسب للحَجْر فإنّ معنی قول الحاکم: حَجَرْتُ علیک: مَنَعْتُکَ من التصرف ومعناه تعذّر وقوع هذه العقود منه.

وأمّا الإیقاف فقد نفی عنه البأس فی التذکرة(8) وقال فی جامع المقاصد(9): فیه قوّة وفی المسالک(10): لعلّه الأقوی.

ص:20


1- 4 . مفتاح الکرامة 12/622.
2- 5 . قواعد الأحکام 2/143.
3- 6 . المبسوط 2/272 ونحوه فی الخلاف 3/269، مسألة 11.
4- 7 . الشرائع 2/78.
5- 8 . تحریر الأحکام الشرعیة 2/509.
6- 9 . إیضاح الفوائد 2/65.
7- 10 . الحاکی هو العلاّمة فی مختلف الشیعة 5/453.
8- 1 . تذکرة الفقهاء 14/25.
9- 2 . جامع المقاصد 5/229.
10- 3 . المسالک 4/90.

والوجه فیه أنّه لا یقصّر عن التصرف فی مال الغیر فیکون کالفضولی. وحینئذ فلا ینافیه منعه من التصرف المنافی لحقّ الغرماء، إذ لا دلیل علی إرادة غیره، ولأنّ عبارته لا تقصر عن عبارة السفیه المحجور علیه مع صحّة تصرّفه إذا لحقته إجازة الولیّ، فلو کان الحَجْر یقتضی المنع من التصرفات وسلب الأهلیة لسقط به اعتبار عبارة السفیه.

فعلی هذا إذا أجازه الغرماء نفذ وإلاّ اُخّر إلی أن یقسّم ماله، ولایباع ولا یسلّم إلی الغرماء، فإن لم یفضل من ماله شیء بطل، وإن فضل ما یسعه صحّ... فإنّما یعتبر کلامهم فی الإجازة لا فی الردّ، وأنّ الواقع موقع المجیز هو بقاء الشیء من ماله یسع ذلک، فإن حصل ذلک کان إجازةً وإلاّ کان ردّا وقد نبّهنا علی ذلک فی باب البیع...»(1).

ویأتی تفصیل هذا البحث آنفا فی المسألة الاُولی الآتیة(2).

الجهة الخامسة: هل یدخل تحت هذا الاشتراط فرعٌ؟

أم لا، وهل لابدّ من دخوله تحته وإلاّ یلزم اللَّغْوِیَّةَ؟ أم لا.

الظاهر عدم لزوم اللَّغْوِیَّةِ ولو لم یکن فرعا تحت هذا الاشتراط، لأنّ «یکفی فی عدم اللغویة کَوْنُهُ ذا أثر ولو عند غیرنا [من المذاهب]، کما یبحث فی باب الجهاد(3) بعض ما یتعلّق بوجود الإمام علیه السلام وتکلیفه(4) بل قد یبحث عمّا لا یتّفق الوجود له، کالبحث عن نجاسة دم مخلوق الساعة»(5).

مضافا إلی وجود فرع تحت هذا الاشتراط وهو ما ذکره فخرالمحقّقین(6) من بیع

مال الطفل علی خلاف مصلحته أو الشراء له کذلک.

وهکذا یأتی هذا الاشتراط فی تزویج الصغیر فضولة مع فرض عدم وجود الولی

ص:21


1- 4 . مفتاح الکرامة 16/250 و 251.
2- 5 . راجع صفحة 25 من هذا المجلد.
3- 6 . الجواهر 22/86 (21/50).
4- 7 . الجواهر 5/612 (5/362).
5- 8 . کتاب البیع 2/321.
6- 9 . إیضاح الفوائد 1/419.

من الأب والجدّ والوصی - علی خلاف فیه - وبناءً علی عدم ولایة الحاکم الشرعی علی الصغیر فی النکاح کما مرّ من الشیخ الأعظم(1).

وقد مرّ من العلاّمة(2) تفریعه علی هذا الاشتراط ببیع مال الطفل فضولاً ثمّ بلغ وأجاز ثمّ استشکل فی الاشتراط لا فی الفرع - علی ما حکی(3) من نجله فخرالمحقّقین - .

واعترض(4) علیه بعض العامة - وهو البیضاوی علی ما قیل(5)- : بأنّ هذا الاشتراط ساقط علی مذهب العلاّمة - وهو مذهب أهل البیت علیهم السلام - لأنّهم یعتقدون وجود الإمام علیه السلام فی کلِّ زمان وهو ولی من لا ولی له.

ولکن قد عرفتَ ممّا سردناه علیک فی الجهة الأولی أنّ أوّل من اعترض علیه هو نجله فخرالمحقّقین حیث قال: «واعلم أنّ هذا الفرع یتأتی علی مذهب الأشاعرة»(6) وإنَّما یَنْحَصِرُ علی مَذْهَبِنا بفرع واحد وهو بیع مال الیتیم علی خلاف مصلحته کما مرّ.

وأجاب الشهید(7) عن الاعتراض بأنّه أراد مجیزا فی الحال [یمکن الاطلاع علی إجازته].

واعترض المحقّق القمی(8) علی جواب الشهید بأنّ نائب الإمام علیه السلام موجود ویمکن الاطلاع علی إجازته.

وعمّمه الشیخ الأعظم أوّلاً: «بأنّ نائب الإمام - وهو المجتهد الجامع للشرائط -

ص:22


1- 1 . المکاسب 3/432.
2- 2 . قواعد الأحکام 2/19.
3- 3 . الحاکی هو ثانی الشهیدین فی فوائد القواعد /532.
4- 4 . حکاه الشهید فی الحاشیة النجاریة /222.
5- 5 . هکذا نقله الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/432.
6- 6 . إیضاح الفوائد 1/419.
7- 7 . الحاشیة النجاریة /222.
8- 8 . غنائم الإیام 1/553، جامع الشتات 2/318.

موجود، بل لو فُرض عدم المجتهد فالعدل موجود، بل للفسّاق الولایة علی الطفل فی مصالحه مع عدم العدول»(1).

وثانیا: دافع عن الشهید بأنّه إن اُرید - فی أصل الاشتراط - وجود ذات المجیز - وهو الوجه الأوّل من وجوه تصوّر عدم المجیز فی العقد، الذی مرّ منّا فی الجهة الثانیة من البحث - لا تفید إجابة الشهید لأنّ ذات الإمام علیه السلام موجود وعدم التمکن من الوصول إلی إجازته لا یردّ الاعتراض.

وإن أُرید - فی أصل الاشتراط - وجود ذات المجیز مع فرض تمکّنه من الإجازة - وهو الوجه الثانی من وجوه تصوّر عدم المجیز فی العقد الذی مرّ فی الجهة الثانیة - تمت الإجابة لأنّ المجتهد والعدول وحتّی الفساق وإن فرض وجودهم ولکن من الممکن عدم اطلاعهم علی العقد حتّی یُجیزوه.

أقول: قد مرّ منّا فی الجهة الثانیة من البحث أنّ الوجه الأوّل - عدم ذات المجیز - لا یتصوّر علی مذهبنا، والوجه الثانی - عدم ذات المجیز الذی تمکّن من الإجازة - وإن کان متصوّرا ولکنه لا دلیل علی اعتباره.

والوجه الثالث - وهو تحقّق ذات المجیز وتمکّنه من الإجازة ولکنّه مَمْنُوْعٌ شرعا منها - یمکن تصوّره أیضا ولکن لا دلیل علی اعتباره.

قال الشیخ الأعظم: «فالاولی: ما فعله فخرالدین والمحقّق الثانی من تقیید بیع مال الیتیم بما إذا کان علی خلاف المصلحة، فیرجع الکلام أیضا إلی اشتراط إمکان فعلیة الإجازة من المجیز، لا وجود ذات مَنْ مِنْ شأنه الإجازة فإنّه فرض غیر واقع فی الأموال»(2).

أقول: لابدّ من حمل «امکان فعلیة الإجازة» فی کلامه قدس سره - علی الإمکان الشرعی - لا الإمکان التکوینی - کما مرّ فی الجهة الثانیة وآنفا.

ص:23


1- 9 . المکاسب 3/433.
2- 1 . المکاسب 3/433.

الثالث: هل یشترط کون المجیز جائز التصرف حین العقد؟

اشارة

وهذا هو الاحتمال الثالث فی وجوه تصوّر عدم المجیز فی العقد، الذی مرّ منّا(1) أنّه کان فی المقام الثبوت متصوّرا ولکنّه لا دلیل علی اعتباره إثباتا.

ولذا نفی الشیخ الأعظم اعتباره بقوله: «لا یشترط فی المجیز کونه جائز التصرف حال العقد»(2).

ثم قال: «سواء کان عدم جواز التصرف لأجل عدم المقتضی أو للمانع»(3).

مراده من المقتضی: هو الملکیّة مع شرائط کمال المالک من البلوغ والعقل والرشد. وفی فرض عدم الملکیة، الإجازة أو الوکالة فی التصرف من المالک.

ومراده من المانع: هو تعلِّق حقّ الغیر بالعین نحو: تعلّق حقّ الغرماء فی الفلس، وتعلّق حقّ المرتهن بالعین المرهونة وعدم جواز بیع اُمّ الولد فی عدم بیعها.

ثمّ ذکر أربعة مسائل لابدّ إلاّ أن نقتفی أثره.

المسألة الأولی: إذا کان المالک حین العقد ممنوعا من التصرف لحجرٍ أو رهنٍ

هل یصح العقد من مالک کان ممنوعا من التصرف لِحَجْرٍ أو رَهْنٍ أو استیلاد فی الأَمَةِ ولکن حین إجازته ارتفع المنع من التصرف لرفع الحجر أو فک الرهن أو موت الولد؟

قد مرّ آنفا(4) القول بالبطلان من الشیخ(5) والمحقّق(6) والعلاّمة فی التحریر(7)

ص:24


1- 1 . راجع صفحة 14 من هذا المجلد.
2- 2 . المکاسب 3/434.
3- 3 . المکاسب 3/434.
4- 4 . راجع صفحة 19 من هذا المجلد: قولنا: الثالث... .
5- 5 . المبسوط 2/272، الخلاف 3/269 مسأله 11.
6- 6 . الشرائع 2/78.
7- 7 . تحریر الاحکام الشرعیة 2/509.

وولده(1) وهو المحکی عن أبیعلی(2).

ولکن العلاّمة فی بیع التذکره حکم بصحته وقال: «ولو باع ولم یعلم المرتهن ففکّ لزم البیع لانتفاء المعارض...»(3).

ونفی البأس عن إیقافه فی حَجْر التذکرة وقال: «لو صادف تصرّفه عینَ مال بالإتلاف إمّا بمعاوضةٍ کالبیع والإجارة، أو بغیر معاوضةٍ کالهبة والعتق والکتابة، أو بالمنع من الانتفاع کالرهن قال الشیخ رحمه الله : یبطل تصرّفه. و هو أصحّ قولی الشافعی وبه قال مالک والمزنی لأنّه محجور علیه بحکم الحاکم، فوجب أن لا یصحّ تصرفه... .

والقول الثانی للشافعی: إنّ هذه التصرفات لا تقع باطلة فی نفسها بل تکون موقوفة، فإن فضل ما تصرّف به عن الدین إمّا لارتفاع سعر أو لإبراء بعض المستحقّین نفذ، وإلاّ بانَ أنّه کان لغوا، لأنّه محجور علیه بحقّ الغرماء، فلا یقع تصرّفه باطلاً فی أصله، کالمریض. وهذا القول لا بأس به عندی والأوّل أقوی...»(4).

وقال المحقّق الثانی: «فیه قوة»(5)، والشهید الثانی: «لعلّه الأقوی»(6).

وحکم السیّد العاملی الصِّحَّةَ فی بیع مفتاح الکرامة(7) وحجرها(8) ولا یشترط الإجازة.

وقال صاحب الجواهر بعد نقل نفی البأس التذکرة وقوة جامع المقاصد وأقوائیة المسالک: «وهو کذلک بناءً علی أنّ الفضولی علی القاعدة، بل وإن لم نقل بذلک للفحوی

ص:25


1- 8 . إیضاح الفوائد 2/65.
2- 9 . الحاکی و العلاّمة فی المختلف 5/453.
3- 10 . تذکرة الفقهاء 10/42.
4- 1 . تذکرة الفقهاء 14/25 مسألة 270.
5- 2 . جامع المقاصد 5/229.
6- 3 . المسالک 4/90.
7- 4 . مفتاح الکرامة 12/622.
8- 5 . مفتاح الکرامة 16/251.

حینئذ... وعلی کلِّ حالٍ فالأقوی صحة عقده، بل ظاهر جماعة من الأصحاب بل هو کصریح التذکرة عدم بطلانه بردّ الغرماء وأنّه یبقی موقوفا علی أن یقسم المال لایباع ولایسلّم إلی الغرماء فإن فضل لارتفاع قیمة غیره أو لإبراء بعض الدیّان أو غیر ذلک نفذ فیه التصرف وإلاّ بطل لسبق التعلُّق به فیه، ولیس لذوی الدین ابطال التصرف وفسخ العقد قبل ذلک، وهو جید...»(1).

وتبعه الشیخ الأعظم وقال: «والأقوی صحة الإجازة بل عدم الحاجة إلیها إذا کان عدم جواز التصرف لتعلّق حقّ الغیر...»(2).

والوجه فی عدم الحاجة إلی الإجازة لأنّ المعاملة مستندة إلی المالک وإنّما کان المانع من صحتها حقّ المرتهن أو وجود الحَجْر أو الولد وقد سقطت الموانع بفکّ الرهن ورفع الحجر وموت الولد فتمت المعاملة، کما یری السیّد الیزدی(3) عدم البطلان هو التحقیق.

ثمّ هل یجری نزاع الکشف والنقل فی الإجازة بالنسبة إلی رفع هذا المانع من صحة العقد من فکّ الرهن أو رفع الحجر أم لا؟ مع وضوح عدم جریانه فی بیع اُمّ الولد قبل موت ولدها.

قولان:

ذهب المحقّق الثانی(4) مع توغّله فی الکشف بعدم جَرَیانِه فی المقام والتزم بالنقل هنا فقط ویری السیّد الیزدی: «الإنصاف أنّ الحکم بالکشف مشکل».(5)

ولکن ذهب المحقّق النائینی(6) إلی جَرَیان نزاع الکشف والنقل فی المقام أیضا

ص:26


1- 6 . الجواهر 25/284 و 285 طبع الإسلامیة.
2- 7 . المکاسب 3/434.
3- 1 . حاشیته علی المکاسب 2/222.
4- 2 . جامع المقاصد 5/75 و 76.
5- 3 . حاشیته علی المکاسب 2/221.
6- 4 . راجع منیة الطالب 2/109، المکاسب والبیع 2/159.

کما فی الإجازة. وإن کان عنده(1) إشکال بالنسبة إلی فک الرهن.

ویمکن الاستدلال للمحقّق الثانی بأنّ نزاع الکشف والنقل إنّما یجری فیما إذا کان العقد تامّا من جمیع الجهات وکان متوقّفا علی الاستناد إلی المالک فقط فعند حصول الاستناد إلیه بالإجازة یأتی النزاع، وأمّا إذا کانت صحة العقد متوقّفة علی أمر آخر مضافا إلی توقّفها علی الإجازة ففی مثله لا یمکن الالتزام بأنّ الإجازة کاشفة عن الملکیة من حال العقد مع أنّها تتوقّف علی أمر آخر حسب الفرض.(2)

ویمکن الاستدلال للمحقّق النائینی: بإمکان حفظ الرهن وصحة البیع فیمکن

الحکم بالکشف أیضا کما فی بیع العین المرهونة مع الإعلام بوصف المرهونیة وإجازة المرتهن وکبیع العین المستأجرة. مضافا إلی أنّ التنافی بین حفظ الرهن وصحة البیع - علی فرض وجوده - إنّما یأتی بناءً علی الکشف الحقیقی فقط دون أقسام الکشف الحکمی. وکذلک القول فی الحجر وتعلّق حق الغرماء بالمال.(3)

والظاهر جریان نزاع الکشف والنقل بالنسبة إلی رَفْعِ هذَیْنِ الْمانِعَیْنِ من فکّ الرهن ورفع الحجر کما علیه المحقّق الخمینی(4) قدس سره والحمد للّه.

ص: 27


1- 5 . راجع تعلیقته علی منیة الطالب 2/109. قال فیها: «ویمکن أن یقال: إذا کان حقّ المرتهن مانعا عن تأثیر عقد الراهن، فحکم الإسقاط ونحوه حکم القبض فی باب الصرف والسَّلَم، فإنّ عدم المانع من أجزاء العلّة. فملکیّة المشتری کما تتوقّف علی القبض فی الصرف والسلم فکذلک تتوقّف ملکیّة مشتری العین المرهونة علی خروج العین عن کونها للدین، وخروجها عنها یتحقّق فی الإسقاط أو الفکّ لا زمان العقد، فلا یجری فیه نزاع الکشف والنقل، بل لا محیص عن الالتزام بالنقل».
2- 6 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 2/11 و 12.
3- 1 . راجع هدی الطالب 5/240.
4- 2 . کتاب البیع 2/332.
المسألة الثانیة: لو باع شیئا ثمّ ملکه
اشارة

وهی ما لو کان عدم جواز التصرف لأجل عدم المقتضی - وهو عدم الملکیّة للعاقد - ولکن حصلت الملکیة بعد للعاقد الفضولی أو لغیره غیر المالک الأوّل.

وعنوان المسألة فی کلمات القوم یختص بما إذا کان المالک الجدید هو البائع الفضولی حیث عنونه بما جعلتُه عنوانا.

ولکنَّ صُوَرَ المسألة بلغت إلی سِتّ عَشْرَةَ صُوْرَةً(1) لأنّ الفضولی الذی یکون غیر المالک أمّا أن یبیع لنفسه أو للمالک، وانتقال الملک إلی المالک الجدید إمّا اختیارا أو قهرا، وإمّا أن یجیز المالک الجدید البیع أم لا، فبلغ إلی هنا إلی ثَمانِیْ صُوَرٍ وهذا کلّه إذا کان المالک الجدید هو البائع الفضولی وأمّا إذا کان غیره فَتَبْلُغُ الصُّوَرُ إلی سِتّ عَشْرَةَ صُوْرَةً.

هذا إذا جعلنا عنوان المسألة عاما کما جعله الشیخ الأعظم(2) قدس سره ولکن إذا جعلنا عنوانها خاصا کما فی کلمات القوم - وکما جعلتها تبعا لهم - فیخرج الثمانیة الثانیة لأنّهم قالوا: «لو باع الفضولی شیئا ثمّ ملکه»، وهذا العنوان لا یشمل صور الملکیة الجدیدة لغیر البائع الفضولی.

والمهم فی هذه الصور الثَّمانی الأُولی صورتان:

الاُولی: أن یبیع الفضولی لنفسه ثمّ یَشتَریه من مالکه وَیُجیز البیع.

ص:28


1- 1 . کما فی هدایة الطالب 3/134.
2- 2 . المکاسب 3/435 حیث یقول: «... فیجیز المالک الجدید سواء کان هو البائع أو غیره».

الثانیة: أن یبیع الفضولی لنفسه ثمّ یَشْتَریه من مالکه ولا یُجِیْزهُ.

وحکم بقیة الصور یظهر من حکم هاتین بالتأمل، فیقع الکلام فیهما، بل یظهر حکم الصورة الثانیة من الصورة الأُولی کما هو الواضح ولذا بحث الشیخ الأعظم(1) عن

هذه الصورة الاولی مفصلاً وعن الصورة الثانیة مختصرا.

الصورة الأولی:
ویقع الکلام فی ضِمْنِ جِهات:
الجهة الاُولی: کلمات الفقهاء حول المسألة
اشارة

قال الشیخ فی ما إذا باع أو رهن مالک النصاب قبل إخراج زکاته: «إذا وجبت الزکاة فی ماله فرهن المال قبل إخراج الزکاة منه لم یصحّ الرهن فی قدر الزکاة ویصح فیما عداه. وکذلک الحکم لو باعه صحّ فیما عدا مال المساکین ولا یصح فیما لهم، ثمّ یُنظر فإن کان للراهن(2) مال غیره وأخرج حقّ المساکین منه سلم الرهن جمیعه وکذلک البیع»(3).

وقال: «وإن کانت الهبة فاسدة فباع قبل القبض صحّ البیع، وإن باع بعد القبض فإن کان یعلم أنّها فاسدة، وأنّه لا یملک بها صحّ البیع، وإن کان یعتقد أنّها صحیحة وأنّ الموهوب له قد ملکها فهل یصحّ البیع؟ قیل: فیه وجهان: أحدهما: یصحّ لأنّه صادف ملکه وهو الصحیح.

الثانی: لا یصحّ لأنّه لا یبیع ویعتقد أنّه متلاعب بذلک.

کما نقول فی الرجل یبیع ماله مورِّثه وعنده أنّه ما مات، ثمّ یتّفق أن یکون قد مات قبل البیع، قیل: فیه قولان...»(4).

أقول: ظاهر الشیخ فی الزکاة والهبة صحة بیع مَنْ باع شیئا ثمّ ملکه من دون حاجة إن الإجازة المستانفة، فی الزکاة کان الصحة ظاهرةً وفی الهبة شبّه بیع مال المورِّث

ص:29


1- 3 . المکاسب 3/453.
2- 1 . فی المطبوعة «الرهن» صححناه بالسیاق.
3- 2 . المبسوط 1/208.
4- 3 . المبسوط 3/304.

بظن حیاته بالهبة الفاسدة و بیع العین الموهوبة مع اعتقاد صحة الهبة واختار هو قدس سره صحة البیع، فکذلک یکون مختاره فی بیع مال المورِّث الصحة.

وقال المحقّق: «لو باع النصاب قبل إخراج الزکاة أو رهنه صح فیما عدا الزکاة فإن اغترم حصة الفقراء، قال الشیخ رحمه الله : صح الرهن فی الجمیع وکذا البیع. وفیه إشکال لأنّ العین غیر مملوکة له وإذا أدی العوض ملکها ملکا مستأنفا وافتقر بیعها إلی إجازة مستأنفة کمن باع مال غیره ثمّ اشتراه، و...»(1).

وقال: «... ولو کانت الهبةُ فاسدةً صحّ البیعُ علی الأحوال. وکذا القول فیمن باع مالَ مورِّثه وهو یعتقد بقاءَهُ. وکذا إذا أوصَی برقبة مُعْتَقِهِ وَظَهرَ فسادُ عتقِهِ»(2).

أقول: کلامه الأوّل ظاهر فی الصحة مع الإجازة والثانی فی الصحة مطلقا.

قال العلاّمة فی متاجر القواعد: «ولو باع مال أبیه بظن الحیاة وأنّه فضولی فبان میِّتا - حینئذ - وأنّ المبیع ملکه فالوجه الصحة»(3).

وقال فی هبتها: «وإذا باع الواهب بعد الأقباض بطل مع لزوم الهبة، وصحّ لا معه علی رأی، ولو کانت [الهبة] فاسدةً صحّ إجماعا. ولو باع مال مورِّثه معتقدا بقاءه أو أوصی بمن أعتقه وظهر بطلان عتقه فکذلک»(4).

قال السیّد العاملی: «وقد یلوح منه [العلاّمة] هناک [هبة القواعد] أنّها محل إجماع فلیرجع إلیه»(5).

وقال فی نهایة الإحکام: «ولو باع مال أبیه بظن أنّه حیٌّ وهو فضولیٌّ، فبان أنّه کان میّتا حینئذ وأنّ المبیعَ ملکُ للعاقد فالأقوی الصحة لصدوره من الملک... ویحتمل البطلان لأنّه وإن کان العقد منجزا فی الصورة إلاّ أنّه فی المعنی معلَّقٌ، وتقدیره إن مات مورِّثی فقد

ص:30


1- 4 . المعتبر 2/563.
2- 1 . الشرائع 2/181.
3- 2 . قواعد الأحکام 2/19.
4- 3 . قواعد الأحکام 2/409.
5- 4 . مفتاح الکرامة 12/627.

بعتُک ولأنّه کالعابث عند مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبیع لغیره»(1).

وقال فی بیع التذکرة: «لو باع بظن الحیاة وأنّه فضولیٌّ فبان موته وأنّه مالک صحّ البیع - وهو أصحّ قولی الشافعی - لأنّه بیع صدر من أهله فی محلّه.

وأضعفهما: البطلان لأنّه کالغائب عن مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبیع لغیره.

وله آخر: أنّه موقوف علی تیقّن الحیاة أو الموت»(2).

ونحوه فیها(3) فراجعه.

وقال فخرالمحقّقین فی ذیل عبارة متاجر القواعد: «المراد بالصحة هنا اللزوم، ووجه الصحة إنّه تصرّف من أهله فی محلّه.

ویحتمل وقوفه علی إجازته لأنّه لم یقصد البیع اللازم بل الموقوف علی الإجازة متجددة من الأب أو من یقوم مقامه ولمّا اعتبر القصد فی أصل البیع ففی أحواله أَوْلی.

ویحتمل البطلان لأنّه إنّما قصد نقل الملک عن الأب لا عنه ولأنّه وإن کان منجزا فی الصورة فهو فی المعنی معلَّقٌ والتقدیر إن مات مورّثی فقد بعتک ولأنّه کالعابث عند مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبیع لغیره»(4).

وقال الشهید: «وکذا [أی تصحّ] لو باع ملک غیره ثمّ انتقل إلیه فأجاز. ولو أراد لزوم البیع بالانتقال فهو بیع ما لیس عنده وقد نُهی عنه. نعم لو باعه موصوفا فی الذمة یطابق ما عند الغیر ثمّ ملکه ودفعه صحّ وأطلق الحلبی(5) صحة بیع ما لیس عنده ویحمل علی ذلک»(6).

وقال فی القواعد والفوائد: «... ویحتمل البطلان، لأنّه إنّما قصد نقل الملک عن

ص:31


1- 5 . نهایة الإحکام 2/476 و 477.
2- 6 . تذکرة الفقهاء 10/17.
3- 7 . تذکرة الفقهاء 10/220.
4- 1 . إیضاح الفوائد 1/420.
5- 2 . الکافی فی الفقه /359.
6- 3 . الدروس 3/193.

الأب لا عنه، ولأنّه وإن کان منجّزا فی الصورة فهو فی المعنی معلَّقٌ والتقدیر: إن مات مورّثی فقد بعتک، ولأنّه کالعابث عند مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبیع لغیره»(1).

وقال الفاضل المقداد: «... وکذا نقول [بالصحة] فیمن باع ملک غیره ثمّ انتقال إلیه فأجاز»(2).

وقال المحقّق الثانی فی ذیل عبارة متاجر القواعد: «قوله: (وأنّه فضولی) مستغنی عنه. قلنا: بل أراد به الإشعار بمنشأ الوجه الضعیف أعنی العقود تابعة للقصود.

[و] أراد: الصحة من غیر توقف علی شی ء آخر، أعنی: اللزوم وینبغی أن یکون ذلک موقوفا علی إجازته وهو الأصح، لأنّه لم یقصد إلی البیع الناقل للملک الآن، بل مع إجازة المالک، إلاّ أن یقال: قصده إلی أصل البیع کاف. ومثله: ما لو باعه فضولیا ثمّ تبیّن شراء وکیله إیّاه»(3).

وقال فی تعلیقه علی الإرشاد: «ولو باع مُوَرّثه لظن حیاته فبان میّتا وأنّه مِلکُه، أو باع مال غیره ثمّ اشتراه فهل یصح البیع بمعنی عدم اشتراط الإجازة فیه أم لا؟

وجهان، وعدم الاشتراط فی الثانی أبعد، بل البطلان متّجه إذا قلنا بأنّ الإجازة کاشفة، لأنّ انتقال الملک إلی المشتری الأوّل إذا کان من وقت العقد استلزم بطلان البیع الثانی، فینتفی الملک، وصحة البیع الأوّل فرع له»(4).

وقال ثانی الشهیدین فی ذیل قول المحقّق: «(وکذا القول فیمن باع مال مورّثه وهو یعتقد بقاءه)، بمعنی أنّه یحکم بصحّة البیع علی تقدیر ظهور موت المورّث حال البیع، وأنّ البائع باع ما هو ملکه لحصول الشرط المعتبر فی اللزوم وهو صدور البیع عن مالکٍ لأمره.

ویشکل بما مرّ من عدم قصده إلی البیع اللازم، بل إنّما قصد بیع مال غیره وأقدم علی عقد الفضولیّ، فینبغی أن یعتبر رضاه به بعد ظهور الحال، خصوصا مع ادّعائه عدم

ص:32


1- 4 . القواعد والفوائد 2/238، قاعدة 238.
2- 5 . التنقیح الرائع 2/26.
3- 6 . جامع المقاصد 4/76.
4- 1 . حاشیة الإرشاد /337 المطبوعة فی ضِمْنِ المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی وآثاره.

القصد إلی ا لبیع علی تقدیر کونه ملکه. ولعلّ هذا أقوی لدلالة القرائن علیه، فلا أقلّ من جعله احتمالاً مساویا للقصد إلی البَیْعِ مطلقا فلا یبقی وثوق بالقصد المعتبر فی لزوم البیع.

إلاّ أن یقال: إنّ المعتبر هو القصد إلی البیع مطلقاً، ویمنع اعتبار القصد إلی بیعٍ لازم بدلیل صحّة عقد الفضولیّ مع عدم القصد إلی بیعٍ لازم، وتوقّفه علی إجازة المالک أمر آخر، لانّ رضا المالک شرط فی لزوم العقد لا فی صحّته فی نفسه، والأمر هنا وقع من المالک، فاجتمع القصد إلی البیع والشرط وهو بیع المالک فلا یفتقر إلی إجازة أخری. وإلی مثل هذا نظر المصنف وجزم بصحّة البیع. مثله ما لو باع مال غیره فظهر شراء وکیله له قبل البیع.

واعلم أنّ الشهید فی الدروس لمّا نقل عن الشیخ(1) تساوی مسألتی فساد الهبة وبیع مال مورّثه فی الحکم بصحّة البیع وإن جهل الحال قال: «وقد یفرّق بینهما بالقصد إلی صیغة صحیحة فی مال المورّث، بخلاف الموهوب»(2) ولایخفی علیک فساد هذا الفرق، فإنّ القصد إلی الصیغة الصحیحة بالمعنی المقابل للباطل حاصل فی المسألتین وبمعنی اللزوم منتفٍ فیهما، فلا فرق بینهما أصلاً کما لا یخفی»(3).

وقال الصیمری: «الثالث: لو باع مال غیره ثمَّ ملکه قبل فسخ المالک وإجازته، افتقر إلی الإجازة من البائع، لأنّه باع وهو غیر مالک ولابدّ من إجازة المالک وقد صار مالکا فلابدّ من إجازته...»(4).

فذلکة القول فی محتملات المسألة وأقوالها

وهنَّ ثلاثة:

الأوّل: الصحة من دون توقّفها علی إجازة البائع بعد تجدد الملک له: وهو الظاهر من کلام شیخ الطائفة فی بیع مال الزکویء قبل إخراج الزکاة منه إذا غرم حصة

ص:33


1- 2 . المبسوط 3/304.
2- 3 . الدروس 2/289.
3- 4 . المسالک 6/51.
4- 1 . غایة المرام 2/15.

الفقراء بعد البیع، وفی بیع الهبة الفاسدة مع اعتقاد البائع الصحة کما مرّ.

وهو مختار المحقّق فی الشرائع والعلاّمة فی متاجر القواعد وهبتها وبیع التذکرة ویراه الأقوی فی النهایة، وهو مختار الجدّ الشیخ جعفر.(1)

الثانی: صحتها مع توقّفها علی الإجازة: وهو الظاهر من معتبر المحقّق والشهید فی الدروس والفاضل المقداد فی التنقیح ونقله الشهید عن ابن المتوّج(2) وهو مختار المحقّق الثانی فی جامع المقاصد، والشهید الثانی فی المسالک والصیمری فی غایة المرام وعلیه صاحب الجواهر(3) والشیخ الأعظم(4).

الثالث: البطلان: وهو أضعف قولی(5) الشافعی.

وهو مختار الشیخ أسداللّه التستری(6) والمحقّق النائینی(7) کما یأتی منه فی ما بعد فی غیر الانتقال القهری وفیه قال بالصحة(8).

الجهة الثانیة: إشکالات التستری علی القول بالصحة
اشارة

ثمّ تعرض الشیخ الأعظم(9) للإشکالات السبعة - التی ذکرها الشیخ أسداللّه التستری فی مقابس الأنوار(10)- علی القول صحة، وقد مرّ بعضها من العلاّمة وولده

والمحقّق الکرکی فیما نقلتُ عنهم فی الجهة الاُولی.

ص:34


1- 2 . شرح القواعد 2/98.
2- 3 . کما حکاه السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 12/628.
3- 4 . الجواهر 23/482 (22/300)، ولکنّه فی المسألة التی ذکرها الشیخ الطوسی فی کتاب الزکاة یظهر منه القول بالبطلان، راجع الجواهر 15/245 (15/142).
4- 5 . المکاسب 3/437 و 462.
5- 6 . أی مذهبه القدیم والجدید.
6- 7 . مقابس الأنوار /134.
7- 8 . المکاسب والبیع 2/167 و 175.
8- 9 . منیة الطالب 2/118.
9- 10 . المکاسب 3/437.
10- 11 . مقابس الأنوار /134 و 135.
الاشکال الأوّل

(1):

لو باع مال الغیر لنفسه کان باطلاً بوجوه خمسة قد مرّ فی المسألة الثالثة من بیع الفضولی، تحت عنوان «أدلة بطلان بیع الفضولی لنفسه ومناقشتها»(2).

ولکن بعض هذه الوجوه لا یجری هنا وَهُما الوجهان اللذان یختصان بالغاصب - أی الوجه الثانی(3): اعتبار عدم سبق منع المالک، والوجه الثالث(4): فقدان قصد المعاوضة الحقیقیة - لأنّ البائع هنا لیس غاصبا بل یکون مالکا.

وفیه: قد مَرَّتْ هذه الأدلة ومناقشتها مفصلاً فلا نعیدها فراجع ما حررتُه هناک.(5)

الاشکال الثانی

(6):

یعتبر فی صحة البیع أُمور ثلاثة: 1- الملک، 2- رضا المالک، 3- القدرة علی التسلیم. وفی بیع الفضولی یتحقق جمیع هذه الاُمور من جانب المالک. ولکن فی مسألتنا - من باع شیئا ثمّ ملکه - المالک خرج عن قابلیة الإجازة بالموت أو بالبیع للعاقد فلا یتحقق هذه الاُمور الثالثة، والمالک الجدید لا یکون مالکا حین العقد، والمالک حال العقد لا یعتبر رضاه.

وقد أجاب عنه الشیخ الإعظم(7) بجوابین:

الأوّل: بالنسبة إلی عدم رضایة من یعتبر رضاه، ذهب إلی أنّ المعتبر من الرضا إنّما هو رضا المالک حال الإجازة، لا رضا المالک حال العقد، لأنّ دلیل اعتبار الرضا فی

ص:35


1- 1 . مقابس الأنوار /134.
2- 2 . راجع الآراء الفقهیة 5/324.
3- 3 . راجع الآراء الفقهیة 5/325.
4- 4 . راجع الآراء الفقهیة 5/325.
5- 5 . راجع الآراء الفقهیة 5/324.
6- 6 . مقابس الأنوار /134.
7- 7 . المکاسب 3/437.

المعاملات هو آیة التجارة(1) وقوله علیه السلام : لا یحلّ مال امری ء مسلم إلاّ بطیب نفسه.(2) ومدلولهما اعتبار رضا المالک حین الإجازة لا حین العقد.

الثانی: بالنسبة إلی القدرة علی التسلیم، ذهب إلی أنّ القدرة علی التسلیم معتبرة فی حق المالک حین العقد ولا یفید حال الإجازة إلاّ أنّه کلام آخر لا ربط له بالمقام. لأنّ الکلام فی صحة البیع الصادر عن الفضولی فیما إذا ملکه وأجاز، وبطلانه من أجل عدم القدرة علی التسلیم أمر آخر غیر ما نحن بِصَدَدِهِ.

أقول: بل یمکن أن یجاب عن الثانی بأنّ المعتبر هو القدرة علی التسلیم حال الإجازة بل القدرة علی التسلیم فی موعد التسلیم لا القدرة علیه حال العقد، والقدرة علیه حین الإجازة بل فی موعد التسلیم، وهی موجودة فی هذا العقد.

الإشکال الثالث
اشارة

(3):

الإجازة کاشفة علی الأصح عندنا وعند الشیخ التستری عن الملکیة حال العقد، وإذا فرضنا صحة البیع فی مسألتنا فَلازِمُهُ أن یکون المال ملکا للمشتری من حین العقد مع أنّ المفروض عدم دخوله فی ملک المالک المجیز حین العقد حتّی یدخل منه إلی ملک المشتری، والخروج من الملْکِ فرع للدخول فیه، وما لم یدخل فی ملکه کیف یعقل خروجه عنه، وهذا یکشف عن بطلان المعاملة.

جواب الشیخ الأعظم

جواب الشیخ الأعظم(4): الإجازة علی القول بالکشف توجب انتقال المال إلی المشتری من حین العقد إذا لم یکن هُناکَ محذورٌ فی البین، وأمّا إذا وُجد مَحْذُوْرٌ - کما ورد فی الإشکال - فالمتّبع هو دلیل الاعتبار فیحکم بکاشفیة الاجازة من زمن یمکن الانتقال من المالک المجیز إلی المشتری وهو أوّل زمان انتقال المالکیة إلی المالک الثانی الذی أجاز البیع، فیدخل المبیع آنا ما فی ملکه ومنه ینقل إلی المشتری ویرتفع الْمَحْذُوْر.

ص:36


1- 8 . سورة النساء /29.
2- 9 . وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.
3- 1 . مقابس الأنوار /134.
4- 2 . المکاسب 3/438.

مضافا إلی أنّ مقتضی الصحة موجود فی مسألتا - وهو العمومات والإطلاقات الواردة فی صحة البیع - ولا مانع عن الصحة إلاّ إجازة المالک الجدید وإذا حصلت تلک الإجازة فَهِیَ تَکْشِفُ عن ثبوت الملکیة من أوّل أزمنة إمکان قابلیة الملک إلی المشتری له من دون ترتّب محال عقلیّ أو شرعیّ فی المقام.

ثمّ ذکر(1) أنّ مسألتنا لا تُقاسُ بما إذا خصص المالک المجیز الإجازة بزمن متأخر عن العقد مثلاً بأنّ أجازه مِن حین الإجازة فیحکم بالبطلان لأنّ العقد قابل لِتَرْتِیْبِ الأثر

من حینه فلا وجه لتقیید توسط المالک فیکون باطلاً من رأسه.

وأمّا فی مسألتنا فلیس العقد قابلاً لترتّب الملکیة علیه من حینه، فیترتّب علیه من أوّل أزمنة إمکانه وهو کما مرّ انتقال الملک إلی المالک الجدید. انتهی جواب الشیخ الأعظم بتقریب منّا.

ولکن المحقّق النائینی(2) استدلّ للبطلان بمنع اقتضاء البیع للصحة فی المقام لما مرّ من أنّ بیع الأصیل ماله من البائع الفضولی یقتضی بطلان بیع الفضولی لأنّ الردّ کما یتحقّق بالقول یتحقّق بالفعل أیضا.

ولکن یرد علیه أوّلاً: قد مرّ فی تنبیهات الإجازة(3) أنَّ الردّ لا یقتضی بطلان البیع الفضولی فراجع ما حررتُه هناک.

وثانیا: أنّ الدلیل أخص من المدعی لأنّ ما ذکره إنّما یجری فیما إذا ملک البائع ما باعه بالشراء کما مثّل له ولکن لا یجری فیما إذا ملکه بالإرث، والوجه فی ذلک أنّ انتقال الملک بالإرث لا یعدّ ردّا من المورِّث للعقد الصادر عن الوارث.

وثالثا: وعلی فرض أنّ الردّ یقتضی بطلان البیع الفضولی إنّما یقتضی ذلک إذا ردّ المالک العقد الواقع علی ملکه، وأمّا العقد الواقع علی ملک غیره فلیس للمالک ردّه، وفی مسألتنا العقد یَقَعَ فی ملک المالک الجدید فعلاً - بعد الشراء أو الإرث - فلیس للمالک

ص:37


1- 3 . المکاسب 3/439.
2- 1 . منیة الطالب 2/117.
3- 2 . راجع الآراء الفقهیة 5/505.

السابق ردّه، وللمالک الجدید إجازته أو ردّه علی القول بِلُزُوْمِ الصحة الإجازة المُسْتَأنفة منه.

ثمّ لا یُدری ما الفرق بین الإرث والبیع فی انتقال المال إلی الْمالِکِ الجدید؟! حیث ذهب المحقّق النائینی(1) إلی أنّ إجازة الوارث تکشف عن الملکیة من حین العقد للمشتری فی حیاة المورّث بِادِّعاءِ قیام الوارث مقام المورِّث فی الأموال فکأنّ العقد صدر من المورِّث بنفسه، ولکن إذا کان الانتقال بالشراء فَتَأْثِیْرُ الإجازة لحصول الملکیّة للمشتری من حین ملکیة المالک الجدید یحتاج إلی دلیل مفقود.

ولا ینقضی تعجبی من المحقّق السیّد الخوئی حیث استشکل علی الشیخ الأعظم بأنّ المقایسة بین ما إذا خصص المالک الإجازة بزمان متأخر عن العقد ومسألتنا

تامةٌ - خلافا للشیخ الأعظم ومرّ منه بأنّ المقایسة بینهما باطلةٌ - وقال: «الوجه فیه [أی فی البطلان هناک] لیس إلاّ أنّ المُنْشَأَ بالعقد إنّما هی الملکیّة المطلقة من حین العقد، فإذا تعلَّقت الإجازة بالملکیّة المتأخرة عنه لم تتعلَّق الإجازة بما وقع، فما وقع لَمْ یجز وما اجیز لم یقع، وفی المقام [مسألتنا] أیضا یجری هذا الوجه، لأنّه إذا سُئل المشتری من أیّ زمان اشتریتَ؟ أجاب بأنّی اشتریتُ من حین العقد، والمفروض عدم تعلّق الإجازة بالملکیة من حین الشراء ولو کان ذلک لمانع شرعی فلو قلنا بالبطلان هناک لابدّ من القول به فی المقام أیضا»(2).

وجه التعجب: تخصیص الانتقال بزمن ما بعد العقد فی ما إذا کان الانتقال من حین العقد ممکنا - شرعا وعقلاً - یضرّ بالبیع ویصیره باطلاً، وأمّا إذا کان الانتقال من حین العقد فلا یکون ممکنا - شرعا أو عقلاً - ولا یضرّ بصحة العقد الذی مدلوله الانتقال من حینه لأنّ المال غیر قابل للانتقال شرعا إلاّ أوّل أزمنة تملک المالک المجیز، فتکون عموم الإجازة بالنسبة إلی ما قبل ذلک الزمن ملغاةً، وکان ذلک نظیر الإجازة فی ما إذا کان

ص:38


1- 3 . راجع منیة الطالب 2/118.
2- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/432.

القبض فیه شرطا للانتقال کما علیه شیخنا الاستاذ(1) قدس سره .

الإشکال الرابع

(2):

القول بصحة مسألتنا - من باع شیئا ثمّ ملکه - یستلزم اجتماع المالکین علی ملک واحد، واستحالة ملکیّة المشتری للعین المشتراة.

وأمّا الأوّل: فعلی القول بالکشف، الإجازة تکشف عن ملکیة المشتری للعین من حین العقد، والمفروض أنّ المال فی ذلک الوقت یکون للمالک الأوّل ولذا صحّ انتقاله منه إلی المالک الثانی المجیز بالانتقال الاختیاری أو القهری، ثمّ بعد حصول الانتقال إلی المالک الثانی المجیز صحّت إجازته للعقد لأنّه صار مالکا للعین.

ولو لم تکن العین للمالک الأوّل لم یصح شراء الثانی المجیز منه - أو انتقالها إلیه - فلم تصح اجازته للعقد، ولازم ذلک أن تکون العین من حین العقد إلی حین الإنتقال للمالک المجیز مملوکة للمالکین - المالک الأوّل والمشتری - .

وأمّا الثانی: فإنّ ملک المشتری للعین من حین العقد یستلزم عدم کون المالک

الأوّل مالکا لها من حین العقد لاستحالة کونها ملکا للإثنین بالاستقلال، وإذا لم تکن ملکا له - أی للمالک الأوّل - فلا یصح انتقالها إلی المالک الثانی المجیز وبالتالی لم تصح إجازة المالک المجیز للعقد السابق فلا تَتُمُّ ملکیّة المشتری للعین حال العقد، فیلزم من ملکیة المشتری من حین العقد عدم ملکیّته، وما یلزم من وجوده عدمه محالٌ، فملکیّة المشتری للعین مُسْتَحِیْلَةٌ والعقد باطل.

جوابه: لا یَرِدُ الإیرادانِ علی القول بالصحة حتّی علی القول بالکشف فی الإجازة لما مرّ آنفا فی الجواب عن الإشکال الثالث بأنّ العین تنتقل إلی المشتری من أوّل أزمنة إمکان انتقالها من المالک الثانی المجیز إلیه، وهو أوّل زمان دخلت العین فی ملکه - أی المجیز - بالشراء أو الإرث، فحینئذ قبل انتقال العین إلی المجیز کانت فی ملکیّة المالک

ص:39


1- 2 . راجع إرشاد الطالب 4/28.
2- 3 . راجع مقابس الأنوار /134.

الأوّل بلا تزاحم، فلا یلزم اجتماع المالکین علی ملک واحد، ولا یلزم من وجوده عدمه.

الإشکال العام للمحقّق التستری
اشارة

ثمّ ذکر التستری(1) إشکالاً عامّا علی جمیع المعاملات الفضولیة بناءً علی الکشف من حین العقد أو من قابلیة المحلّ کما فی مسألتنا - تحت عنوان إن قلت - وهو أنّ الإجازة تکشف عن ملکیة المشتری للعین من حین العقد أو من حین قابلیة المورد، ولازم ذلک أن لاتکون العین ملکا للمجیز حال الإجازة ومعه کیف تؤثّر فی تملّک المشتری من حین العقد أو مِن حین قابلیة المورد، ولازم صحّة إجازته أن تکون العین ملکا للمجیز والمشتری - معا - فی حال إجازة المجیز.

جوابه:
اشارة

وأجاب التستری نفسه عن الإشکال - تحت عنوان قلنا(2)- بأنّ ملکیة الصوریة الظاهریة الحاصلة بالاستصحاب للمجیز کافیة فی صحّة الإجازة وإن لم یکن مالکا واقعیّا لأنّ الإجازة رفع للید وإسقاط للحقِّ وفیه یکفی الملک الصوری الظاهری، بخلاف العقد الثانی - شراء المجیز العین من المالک الأوّل - لأنّه یحتاج إلی الملک الواقعی لأنّه عقدٌ وصحة العقد تتوقّف علی الملک واقعا.

ولکن الشیخ الأعظم أورد علی جوابه بإیرادات أربعة:

الأوّل: الملک الصوری الاستصحابی لا یکفی فی الإجازة لأنّ الفضولی لو باع مال أحدٍ وقبل إجازة المالک باعه وکیل المالک من شخص آخر ولم یعلم به المالک ثمّ أجاز

المالک البیع الفضولی باستصحاب ملکه، وبعد ذلک ظهر أنّه لم یکن مالکا للمال حال الإجازة لأنّ الوکیل باعه من شخص آخر، فلا یمکن الالتزام بصحة الإجازة حینئذ مع أنّ الملک الصوری متحقّق فی المثال. ومنه یظهر أنّ الإجازة متوقّفة علی الملک الواقعی ولا یکفی فیها الملک الاستصحابی.

الثانی: الفرق بین الإجازة والعقد الثانی غیر موجود لأنّ الإجازة لیست رفعا للید

ص:40


1- 1 . مقابس الأنوار /134.
2- 2 . مقابس الأنوار /134.

واسقاطا للحقِّ، بل هی ممّا یُصَحِّحُ الاستناد وکأنّه باع ماله حین الإجازة ومن الواضح أنّ البیع یتوقّف علی الملک الواقعی ولا یکفی فیه الملکیة الاستصحابیة لأنّه من الشرائط الواقعیة لا العلمیة حتّی یقال فیه بکفایة الاستصحاب فیه.

الثالث: سلّمنا أنّ الإجازة هی إسقاط للحقّ ورفع للید فقط مع ذلک لا یکفی فیها الملکیّة الاستصحابیة الظاهریة لعدم معقولیة إسقاط الحقّ مع انتفاء الحقّ قبل ذلک الاسقاط کما فی مسألتنا بناءً علی الکشف لأنّ الإجازة تکشف عن ملکیّة المشتری من حین العقد فالمجیز لم یکن مالکا حین الإجازة.

الرابع: إشکال التستری علی المعاملات الفضولیة إنّما یبتنی علی الکشف الحقیقی وأمّا بناءً علی الکشف الحکمی فلا یجتمع المالکان علی ملک واحد. لأنّ المشتری إنّما ینزّل منزلة المالک فی ترتب الآثار فقط، لا أنّه یکشف عن الملک الحقیقی لیترتب الاشکال. ولأنّ المشتری مالک تنزیلیٌّ أو مجازیٌّ أو ادعائیٌّ، أمّا المالک الواقعی والحقیقی فَهُوَ المجیز فیرتفع اشکاله من الإساس. مضافا إلی تعدد زمان الاعتبارین کما مرّ فی بحوث الکشف.

أجوبة الإعلام عَنِ الإشکال العام
2- إجابة المحقّق النائینی عن إشکال اجتماع المالکین علی ملک واحد فی مسألتنا
اشارة

ذهب قدس سره إلی أنّ المستحیل هو اجتماع المالکین العرضیین وأمّا اجتماع المالکین الطولیین فلا استحالة فیه قال: «وأدلّ الدلیل علی إمکانه وقوعه کما فی ملک العبد الذی یملکه المولی، وإنّما الممتنع اجتماع مالکین عرضیین ففی المقام حیث إنَّ ملک المجاز له مترتّب علی ملک المجیز وقوامه به فاجتماعهما لا یضرّ»(1).

واعترض علیه المحقّق السیّد الخوئی(2) رحمه الله بأنّ لم یجد مالکان طولیان فی المقام وقال: إذ لا طولیة لملکیّة المشتری والمالک المجیز - لأنّ المالک لا یملک المشتری لیملک ما ملکه بتبعه لیکون ملک أحدهما فی طول ملک الآخر - ولیس فی المقام إلاّ کون مالکیة المشتری معلولة لمالکیة المجیز وهما مالکان مستقلان عرضیان فما ذکره من الإجابة غیر تام.

1- إجابة السیّد الیزدی

قال: «الصواب فی الجواب عنه أن یقال: أنّه یکفی فی صحة الإجازة الملکیّة التقدیریة، بمعنی کون المال له لو لا هذه الإجازة، فإنّ المفروض أنّه یخرج عن ملکه بسبب هذه الإجازة، وهذا المقدار یکفی فی صحتها ولا نسلم توقفها علی الملکیة الفعلیة حینها. ومثل هذا الجواب لا یجری فیما نحن فیه [مسألتنا] فإنّ صحة العقد الثانی لا یکفی فیها الملکیة التقدیریة بل لابدّ من الفعلیة ولو لا تعبیره بالاستصحاب أمکن حمل کلامه علی ما ذکرنا، بأنّ یکون مراده من الملکیة الظاهریة والصوریة ما ذکرنا من التقدیریة، ولکن مع هذا التعبیر لا مفرّ من ورود ایراد المصنف [الشیخ الأعظم] علیه»(3).

ص:41


1- 4 . منیة الطالب 2/119.
2- 5 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/434، التنقیح فی شرح المکاسب 2/26.
3- 1 . حاشیته علی المکاسب 2/230.

مراده: من الملکیة التقدیریة هی الملکیة اللولائیة: أعنی لو لا الإجازة کان المال ملکا له کما صرح بها فی أوّل کلامه، وهذه «نظیر الصحة اللولائیة فی باب النذر، کما إذا نذر ترک الصلاة فی الحمام، فإنّ الناذر لا یقدر علی الصلاة الصحیحة إلاّ بإرادة الصحة لو لا النذر»(1).

وتبعه تلمیذه المحقّق الشهیدی(2).

ولکن یرد علیه: أنّ المستفاد(3) من ظاهر الأدلة فی باب المعاملات وصحتها الملکیة الفعلیة لا الملکیة التقدیریة.

3- جواب المحقّق الایروانی

قال فی توضیح جواب المحقّق التستری فی کفایة الملکیة الصوریة الظاهریة:

ص:42


1- 1 . کما فی هدی الطالب 5/273.
2- 2 . هدایة الطالب 3/139.
3- 3 . کما صرّح به الفقیه الشریعتمداری فی تحقیقٌ وتقریراتٌ فی باب البیع والخیارات 3/62.

«مراده من الملک ظاهرا کونه محکوما بأنّه ملک للمجیز وإن لزم من صحة الإجازة، عدم کشفها کونه ملکا له فی زمان الإجازة ونظیرها فی ذلک الإقرار علی ما فی الید بأنّه للغیر فإنّه یکفی فی نفوذ الإقرار کون ذلک له بمقتضی یده لو لا إقراره وإن لزم من نفوذ إقراره

عدم کونه له.

بل یمکن أن یقال: یکفی فی صحة الإجازة ونفوذها ملک المجیز حال العقد، فإنّ الإجازة تجعل العقد الصادر من الفضولی فی قوّة الصادر من المالک فی ذلک الزمان، والعقد الصادر من المالک فی ذلک الزمان یؤثر فی ذلک الزمان.

وخلاصة بیانه هو: أنّه لایستفاد من أدلة اعتبار طیب نفس المالک فی حِلّ ماله إلاّ عدم ارتفاع ملک أحد إلاّ بطیب نفسه، أمّا کون ذلک الارتفاع بعد طیب النفس لیلزم أن یکون فی رتبة سابقة علی طیب النفس مالکا فلا، فیمکن أن یکون المال بطیب نفس متأخر منتقلاً عنه فی زمان سابق وهو زمان تعلّق رضا المالک بتحقق الانتقال فیه کما هو مبنی القول بالکشف فیکون النقل حالیّا والمنتقل أمرا سابقا کما فی عکسه من النقل الحالی والمنتقل الاستقبالی»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: قیاسُهُ بباب الاقرار لا یتم لأنّ الملکین فی باب الإقرار إمّا فظاهریان أو أحدهما ظاهریٌّ والآخر واقعیّ وإمکان اجتماعهما واضح ولکن فی الفضولی یکونان واقِعِیَّیْنِ ولا یمکن اجتماعهما.

وثانیا: الظاهر من قوله علیه السلام : «لا بیع إلاّ فی ملک» هو وقوع البیع فی الملکیة الفعلیة لا الملکیة السابقة، فلابدّ من صدور الإجازة فی الملک الفعلی لمالک العین.

4- إجابة المحقّق الأصفهانی

قال: «ویندفع الاشکال العام: بأنّ اتصال ملک المجیز بزمان الإجازة بما هی إجازة غیر لازم، بل اللازم اتصال الملک بزمان التصرف الناقل لیکون النقل عن ملکه، فللمالک نقل ملکه مباشرةً وتسبیبا واجازةً، وحیث أنّ زمان العقد علی الکشف زمان التصرف

ص:43


1- 1 . الحاشیة علی المکاسب 2/288.

الناقل لفرض شرطیة المتأخر، فزمان تحقّق العلّة الموجبة للنقل هو زمان العقد، وهو مالک بملکیة متصلة بزمان العلّة الموجبة، والنقل منه فی هذا الزمان نقل لملکه إلی غیره.

وبالجملة: کما أنّ الملکیة الفعلیة المتصلة بحال العقد مباشرة تصحح النقل، کذلک هذه الملکیة تصحح النقل من حین العقد...»(1).

ویرد علیه: لو قلنا بکفایة الملکیة حال العقد وعدم لزوم اتصالها بزمان الاجازة، وعدم اتصال الملکیة بزمن الإجازة حتّی علی نحو الملکیة الظاهریة الصوریة - کما علیه

الشیخ التستری - أو الملکیة التقدیریة اللولائیة - کما علیه السیّد الیزدی - یلزم من هذا القول صحة الإجازة ولو بعد خروج العین عن ملکیة المالک الأصلی، فحینئذ فلو باع الفضولی ثمّ باع المالک الأصلی ما باعه الفضولی، ثمّ أجاز المالک بعد بیعه مباشرة، لابدّ من القول بصحة هذه الإجازة وصحة بیع الفضولی وبطلان بیع المالک الأصلی ولم یقل به أحد.(2)

5- إجابة المحقّق السیّد الخوئی:

قال: «والصحیح أن یقال: إنّه بناءً علی الکشف الحقیقی لا مانع الالتزام بکفایة الإجازة عن من یخرج عن المالکیة بنفس الإجازة، أی الإجازة معتبرة عن مَنْ هو المالک لو لا الإجازة، بأن تکون الإجازة فعلاً بیعا للمال السابق. وهذا أمر ممکن فی حدّ نفسه، نعم یحتاج إلی دلیل فی مقام الوقوع، فإنّا ذکرنا سابقا أنّه لا مانع من بیع المالک فعلاً شیئا من أملاکه منذ أُسبوع بأن یکون البیع فعلیّا [من الآن] والملکیة من السابق فیما إذا وافقه دلیل شرعی، فیکون بیع المالک الذی یخرج عن کونه مالکا بنفس البیع صحیحا وممکنا فی حدّ نفسه، فیتملّک المشتری المال من قبل أُسبوع ولا بأس بالالتزام بذلک، نعم لابدّ من تتبّع الأدلة لیُری أنّها توافق هذا الممکن أم لا»(3).

أقول: وأنت تری بأنّه قدس سره جمع بین جوابی السیّد الیزدی والمحقّق الایروانی فی

ص:44


1- 2 . حاشیة المکاسب 2/218.
2- 1 . یظهر هذا الایراد من السیّد الخمینی فی کتاب البیع 2/352.
3- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/26.

صدر کلامه وذیله فیرد علیه ما أوردته علیهما فلا أُعید.

والجواب الصحیح مضافا إلی ما ذکره الشیخ الأعظم(1) من ابتناء الاشکال علی الکشف الحقیقی وأمّا علی الکشف الحکمی فلا یجری الاشکال ولا یجتمع المالکان علی ملک واحد کما مرّ آنفا فی توضیح إشکاله الرابع علی الشیخ التستری، ما مرّ منّا فی الإجابة عن الاشکال الثانی الذی أورده الشیخ الأعظم علی الوجه الثانی من وجوه الاستدلال علی الکشف فراجع ما حررنّاه هناک(2)، والحمد للّه.

الاشکال الخامس
اشارة

(3):

قد عرفت أنّ الإجازة بناءً علی الکشف الحقیقی تنتقل العین بِها من حین العقد إلی المشتری ویصیرُ مالکا لها، فحینئذٍ یکونُ بَیْعُ المالِکِ الأوّل لها من المالک الثّانی المُجیز فُضولیّا؛ لأنَّهُ وقع علی ملک المشتری فتتوقف صحته علی إجازته وعلیه یلزم أن یَتَوَقَّفَ شراء المالک الثانی المجیز علی إجازة المشتری، وصحة شراء الفضولی تتوقف علی إجازة المالک المجیز فکلّ إجازة تتوقف علی إجازة الآخر وکلّ ملک یتوقف علی ملک الآخر وهذا من الأعاجیب لأنّه من الدور الذی یکون محالاً عقلاً.

بل لازم ذلک اجتماع الثمن والمثمن فی ملک المشتری لأنّه إذا اشتراه مثلاً بخمسین دولارا من المالک الثانی الفضولی المجیز وأجازه بعد ملکه تکشف إجازته عن ملک المشتری من حین العقد، وبعد ذلک إذا باعه المالک الأوّل من المالک الفضولی المجیز بنفس السعر، فقد وقع البیع علی ملک المشتری فیرجع الثمن إلیه لأنّه المالک من حین العقد فیملک المشتری بین الثمن والمثمن بعد البیع الثانی وهذا من المحالات الشرعیة.

بل إذا باعه المالک الأوّل من المالک الثانی الفضولی المجیز بأکثر من الخمسین صارت تلک الزیادة فی ملک المشتری.

نعم، لو باعه بأقل ممّا اشتراه به المشتری من المالک الفضولی - مثلاً بأربعین - یقع

ص:45


1- 3 . المکاسب 3/422.
2- 4 . الآراء الفقهیة 5/396.
3- 5 . مقابس الأنوار /135.

العین فی مقابل عشرة فی المثال.

وأجاب الشیخ الأعظم

وأجاب الشیخ الأعظم(1) عن هذا الإشکال بأنّه کسابقه مبنی علی الکشف الحقیقی من حین العقد ولکنّ قد مرّ أنّ الصحیح هو الکشف فی أوّل أزمنة إمکانه وهو یختلف باختلاف الموارد، ثمّ ذکر منشاء هذه الإشکالات شی ء واحد وقد نبّه علیه فی الإیضاح(2) وجامع المقاصد(3).

جواب السیّد الیزدی عن الاشکال الخامس
اشارة

قال: «الحاجة إلی إجازة المشتری الأوّل لیست علی کلّ تقدیر، بل علی تقدیر إجازة العقد الأوّل [من جانب المالک المجیز] فیمکن أن یصح العقد الثانی بدون إجازة العقد الأوّل، ومعه فلا حاجة إلی إجازة المشتری الأوّل، لیقال إنّها [إجازة المشتری الأوّل] موقوفة علی إجازة المشتری الثانی، فیتوقف صحد العقد الثانی علی إجازة

المشتری الثانی مع الواسطة...»(4).

جواب الشیخ الأعظم عند المحقّق النائینی

یری النائینی بطلان المعاملة: «لأنّ الإجازة انفاذ للعقد السابق ولیس الکشف والنقل داخلین فی مفهومها، إنّما الکشف والنقل حکم شرعی مترتب علیها... فعلی فرض الکشف إذا کان المنکشف باطلاً لأجل عدم تحقّق شرطه تلغو الإجازة، وأمّا تقطیع الملکیة باعتبار استمرارها من زمان العقد... والحکم بکشف الإجازة عن حصولها فی زمان یمکن حصولها وعدم حصولها فی زمان قبله فهو خارج عن متعلَّق الإجازة لأنّها تعلقت بالعقد الصادر عن المجیز کما لا یخفی...»(5).

وقال: «إنّ الحق فی الإجازة بناءً علی الکشف هو الحکم بالبطلان فیما إذا تعذر

ص:46


1- 1 . المکاسب 3/444.
2- 2 . إیضاح الفوائد 1/419.
3- 3 . جامع المقاصد 4/73 و 74.
4- 1 . حاشیة المکاسب 2/232.
5- 2 . المکاسب والبیع 2/167.

النقل من حین العقد لا الحمل علی ما یمکن کما مرّ توضیحه»(1).

إجابة الفقیه الشریعتمداری عن الشیخ الأعظم

یری السیّد الشریعتمداری جواب الشیخ الأعظم صحیحا فی مقام الثبوت وأمّا فی مقام الإثبات وإقامة الدلیل علیه فلا یخلو من الاشکال.

وذهب إلی: «أنّ المطالب والمسائل هنا [فی المعاملات] عرفیٌّ والإجازة کان لها حکم العقد المستأنف کانت تراضیا مستانفا... فیمکن حینئذ القول بأنّ العرف یلغی الخصوصیات والأصل سلطنة المالک واجازته عقد الفضولی أو عدمها، والمسألة مسألة عرفیة بناءً علی هذا الممشی، [و] إقامة الدلیل علی الصحة فی کلِّ مورد حیث یمکن لا تخلو عن إشکال»(2).

الجواب المختار للإشکال الخامس

العقد الثانی أی الذی وقع بین المالک الأصلی والمالک الثانی المجیز لیس للمشتری مدخلیة فیه، لأنّه وقع قبل صدور الإجازة من المجیز وانتقال الملک إلیه فعلیه المالک الأصلی یبیع ملکه والمالک الثانی المجیز یشتری لنفسه وبماله ولیس للمشتری دخالة فی هذا العقد، نعم بعد هذا البیع انتقل المال إلی المالک الثانی المجیز فینتقل منه إلی

المشتری من دون حاجة إلی الإجازة المستأنفة کما هو المختار أو بعد صدور الإجازة منه، ومنهما - أی من أوّل أزمنة نقل الملکیة إلی المالک المجیز أو بعد صدور الإجازة منه - صار المشتری مالکا ولکن مبدأ ملکیته یکون من حین شرائه - بناءً علی الکشف الحقیقی، ولا إشکال فی التفاوت بین زمانی المالکیة والملکیة بلا فرق بین أنّ مبدأ الملکیّة یکون متقدما علی زمان المالکیة - کما فی ما نحن - أو متأخرا عنه کما فی الوصیة التملکیة.

فَنَحْنُ لا نحتاج إلی ما ذکره الشیخ الأعظم من قضیة الانتقال فی ما نحن فیه من

ص:47


1- 3 . المکاسب والبیع 2/175.
2- 4 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 3/71.

أوّل أزمنة الإمکان لأنّ الفرق الزمانی بین المالکیة ومبدأ الملکیة موجود.

مضافا إلی امکان قبول مقالة الشیخ الأعظم من دون إشکال علیه لأنّ العمومات والاطلاقات الواردة فی صحة بیع الفضولی تَقْتَضِیْ صحة بیع مسألتنا ولکنَّ هنا مانِعا یمنع مِنْ جَرَیانِ أدلة الصحة وهو عدم مالکیة البائع ففی أیّ آنٍ ارتفع هذا المانع، تجری أدلة الصحة ویحکم بها، فمقالة الشیخ الأعظم رحمه الله تامَّةٌ عندنا، والحمد للّه.

الاشکال السادس:
اشارة

بیع المالک الأصلی فسخ للمعاملة الفضولیة فلا تجدی الإجازة المتأخرة بعد الفسخ، فعقد الفضولی قبل الإجازة کسائر العقود الجائزة بل اُولی منها، فکما أنّ التصرف المنافی مبطل لها کذلک للعقد الفضولی.(1)

وبعبارة اُخری: «أنّ من المعلوم أنّه یکفی فی إجازة المالک وفسخه فعل ما هو من لوازمهما، ولمّا باع المالک ماله من الفضولی بالعقد الثانی فقد نقل المال عن نفسه وتملّک الثمن وهو لایجامع صحة العقد الأوّل، فإنّها تقتضی تملّک المالک للثمن الأوّل، وحیث وقع الثانی یکون فسخا له وإن لم یعلم بوقوعه فلا یجدی الإجازة المتأخرة»(2).

وبعبارة ثالثة: الردّ الفعلی کافٍ فی بطلان العقد الفضولی والمالک ببیعه المال قد ردّ العقد فلا یبقی هناک مورد للإجازة من البائع بعد ذلک»(3).

إجابة الشیخ الأعظم

(4)

فسخ عقد الفضولی هو إنشاء ردّ العقد، والفسخ هنا غیر معلوم لعدم العلم بقصد المالک الأوّل إنشاء الفسخ بالفعل المنافی - لاسیّما مع جهله بوقوع عقد الفضولی علی ماله - ومع عدم إحراز الفسخ لا وجه للحکم بردّ عقد الفضولی.

نعم، الفعل المنافی قد یفوِّت محلّ الإجازة نحو تزویج المرأة نفسها بغیر مَنْ زوّجها

ص:48


1- 1 . مقابس الأنوار /135.
2- 2 . المکاسب 3/444.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/27.
4- 4 . المکاسب 3/444 و 445.

الفضولی، وفی موردنا یفوِّت محل الإجازة بالنسبة إلی المالک الأوّل الأصلی وأمّا محلّ الإجازة بالنسبة إلی المالک الثانی المجیز فإنَّهُ یکونُ باقیّا وإجازته تُصَحِّحُ بیعه الأوّل مع المشتری.

وبالجملة: إن أراد التستری مع البیع الثانی - أی بیع المالک الأصلی من المالک الثانی المجیز - إبطال أثر عقد الفضولی بالنسبة إلی المالک الأوّل فهو تام لأنّ بعد بیعه لیس له مال حتّی یجیز عقد الفضولی الواقع علیه.

وإن أراد من البیع الثانی إبطال أثر عقد الفضولی مطلقا حتّی بالنسبة إلی المالک الثانی المجیز فهو غیر تام، لأنّ الثانی مالک ویرید إجازة هذا العقد فینفذ فی حقّه.

وتوهّم التعبیر عن البیع الثانی بأنّه ردّ لعقد الفضولی وظاهر فی بطلان عقد الفضولی مطلقا، باطلٌ لعدم الدلیل علی هذا الإطلاق وإمکان بقاء العقد بالنسبة إلی المالک الثانی المجیز.(1)

وقیاس البیع الثانی بالنسبة إلی بطلان عقد الفضولی مطلقا ببطلان عقد الجائز بالتصرف المنافی له من بیع أو هبة أو صلح أو غیرها، لیس فی محلّه «لأنّ صحة تصرف المنافی تتوقّف علی فسخ العقد وإلاّ وقع فی ملک الغیر، بخلاف ما نحن فیه فإنّ تصرّف المالک فی ماله المبیع فضولاً صحیح فی نفسه لوقوعه فی ملکه، فلا یتوقّف علی فسخه، غایة الأمر أنّه إذا تصرّف فات محلّ الإجازة»(2).

«ومن ذلک یظهر ما فی قوله رحمه الله أخیرا: «وبالجملة حکم عقد الفضولی حکم سائر العقود الجائزة بل اولی»(3)، فإن قیاس العقد المتزلزل من حیث الحدوث [الفضولی] علی المتزلزل من حیث البقاء [العقود الجائزة] قیاس مع الفارق فضلاً عن دعوی الاولویّة»(4).

ص:49


1- 1 . راجع المکاسب 3/445.
2- 2 . المکاسب 3/446.
3- 3 . مقابس الأنوار /135.
4- 4 . المکاسب 3/446.
الاشکال السابع: الروایات الناهیة
اشارة

قال التستری: «ویدل علی ما اخترناه [البطلان]: الأخبار المعتبرة المستفیضة، منها: جملة من الأخبار المتقدمة فی الموضوع الأوّل...»(1).

قال الشیخ الأعظم مستدلاً له: «الأخبار المستفیضة الحاکیة لنهی النبی صلی الله علیه و آله عن بیع ما لیس عندک فإنّ النهی فیها إمّا لفساد البیع المذکور مطلقا بالنسبة إلی المخاطب وإلی المالک فیکون دلیلاً علی فساد العقد الفضولی، وإمّا لبیان فساده بالنسبة إلی المخاطب خاصة - کما استظهرناه سابقا(2)- فیکون دالاًّ علی عدم وقوع بیع مال الغیر لبائعه مطلقا ولو ملکه فأجاز، بل الظاهر إرادة حکم خصوص صورة تملّکه بعد البیع، وإلاّ فعدم وقوعه له قبل تملّکه ممّا لا یحتاج إلی البیان»(3).

وهنّ علی طوائف:

الطائفة الاولی: المطلقات

منها: صحیحة سلیمان بن صالح الجصاص عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث: وعن بیع ما لیس عندک، الحدیث.(4)

ومنها: صحیحة الصفار حیث وقّع أبومحمّد الحسن بن علی العسکری علیه السلام فی جواب مکاتبته: لا یجوز بیع ما لیس یملک، المکاتبة.(5)

ومنها: النبوی العامی: لا تبع ما لیس عندک.(6)

ومنها: النبوی العامی الآخر: لا بیع إلاّ فی مایملک.(7)

ص:50


1- 1 . المقابس الأنوار /135.
2- 2 . راجع المکاسب 3/368.
3- 3 . المکاسب 3/446 و 447.
4- 4 . وسائل الشیعة 18/47، ح2، الباب 7 من أبواب أحکام العقود.
5- 5 . وسائل الشیعة 17/339، ح1، الباب 2 من أبواب عقد البیع وشروطه.
6- 6 . سنن ابن ماجه 2/737، ح2187، ومرّت بقیة مصادره فی الآراء الفقهیة 5/264.
7- 7 . سنن الترمذی 3/486، ح1181، ومرّت بقیة مصادره فی الآراء الفقهیة 5/268.

وأنت تری بأنّ هذه الروایات مطلقة وتشمل مسألتنا بإطلاقها وکذا تشمل بیع الکلی والشخصی، لأنّ البائع فی ما نحن فیه یبیع مال الغیر لنفسه، ولکن لو ثبت مقیِّدٌ تأخذ به لأنَّ الإطلاق قابل للتقیید.

الطائفة الثانیة:

مادلّ علی المنع عن بیع الأعیان الخارجیة الشخصیة فیما إذا لم یملکها البائع:

منها: صحیحة یحیی بن الحجاج قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن رجل قال لی: اشتر هذا الثوب وهذه الدابة، وبعنیها أربحک فیها کذا وکذا، قال: لا بأس بذلک، اشترها ولا تواجبه البیع قبل أن تستوجبها أو تشتریها.(1)

والمراد بالجملة الأخیرة «لا تواجبه البیع...»، أی لا تُنْشِی ء ایجاب البیع قبل إیجاب شرائک من مالکه.

ومنها: معتبرة خالد بن الحجاج قال: قلت: الرجل یجیء فیقول: اشتر هذا الثوب وأربحک کذا وکذا، قال: ألیس إن شاء ترک وإن شاء أخذ؟ قلت: بلی، قال: لا بأس به إنّما یحلّ الکلام ویحرم الکلام.(2)

وفی بعض نسخ الکافی الشریف(3) الراوی الأخیر هو خالد بن نَجِیْح ولکن لم أجد روایة یحیی بن الحجاج عنه وتأخر طبقته عنه(4) ولذا اختار المحقّق السیّد الخوئی(5) انّ الصحیح بالنسبة إلی الراوی الأخیر هو خالد بن الحجاج، ولکن بنظری القاصر وجود ابن نجیح لا یضرّ باعتبار السند لأنّ النجاشی(6) ذکره ولم یطعن علیه فهو عندی إمامی معتبر مضافا إلی روایة مشایخ الطائفة نحو ابن ابی عمیر وصفوان بن یحیی وعثمان بن عیسی

ص:51


1- 1 . وسائل الشیعة 18/52، ح13، الباب 8 من أبواب أحکام العقود.
2- 2 . وسائل الشیعة 18/50، ح4.
3- 3 . الکافی 10/175، ح6 (5/201).
4- 4 . راجع معجم رجال الحدیث 7/18، الرقم 4168، و 7/392، 7/35، الرقم 4217.
5- 5 . معجم رجال الحدیث 7/38.
6- 6 . رجال النجاشی /150، الرقم 391.

عنه، هذا بالنسبة إلی السند.

وأمّا الدلالة: فَقَدْ قال صاحب المقابس فی تقریب الاستدلال بها: «والمراد بالکلام عقد البیع فإنّه یُحل نفیّا و یحرِّم إثباتا، أو یُحلّ ثانیا ویحرِّم أوّلاً. والمراد أنّ الکلام الذی جری بینهما قد یحلِّل وقد یُحرِّم بحسب اختلافه، فإن کان بطریق الإلزام حرمت المعاملة بذلک، وإن کان بطریق المرضاة من دون إلزام وإنّما یحصل الإلزام بعد شراء البائع بعقد مستأنف کانت حلالاً»(1).

وقال قبله الفیض رحمه الله : «الکلام هو إیجاب البیع وإنّما یُحَلِّلُ نفیّا ویُحَرِّمُ إثباتا»(2).مراده: إیجاب البیع الأوّل یحلِّل العقد لو لم یکن، ویحرّمه لو کان، وهو کلامٌ.

وقال المجلسی قدس سره : «قوله علیه السلام : «یحلّل الکلام» یعنی إذا قال الرجل: اشتر لی هذا الثوب، لا یجوز أخذ الربح منه، ولیس له الخیار فی الترک والأخذ لأنّه حینئذ اشتراه وکالة عنه، وإن قال: اشتر هذا الثوب لنفسک وأنا اشتریه منک وأربحک کذا وکذا یجوز أخذ الربح منه وله الخیار فی الأخذ والترک»(3).

وقال الشیخ الأعظم بعد نقل مقال الفیض رحمهماالله : «... أو یحلِّل إذا وقع بعد الاشتراء ویحرّم إذا وقع قبله، أو أنّ الکلام الواقع قبل الاشتراء یحرّم إذا کان بعنوان العقد الملزم ویحلِّل إذا کان علی وجه المساومة والمُرْاضاة»(4).

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبیجعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابْتَعْ لی متاعا لعلّی اشتریه منک بنقد أو نسیئة، فَابْتاعَهُ الرجل من أجله، قال: لیس به بأس إنّما یشتریه منه بعد ما یملکه.(5)

«المراد بالمتاع الذی یرجع إلیه ضمیر «أشتریه» لایصح أن یکون معنیً کلیّا، لأنّ

ص:52


1- 7 . مقابس الأنوار /135.
2- 8 . الوافی 18/700، ذیل ح 18144.
3- 1 . مرآة العقول 19/221.
4- 2 . المکاسب 3/448.
5- 3 . وسائل الشیعة 18/51، ح8.

الکلّی والنکرة غیر المعینة غیر قابل للاشتراء»(1).

ومنها: صحیحة منصور بن حازم عن أبیعبداللّه علیه السلام فی رجل أمر رجلاً یشتری له متاعا فیشتریه منه، قال: لا بأس بذلک إنّما البیع بعد ما یشتریه.(2)

أقول: نأخذ بهذه الطائفة الثانیة ونحکم ببطلان بیع الأعیان الخارجیة الشخصیة لو لم یملکها البائع قبل البیع لکن بشرط ایجاب البیع قبل المالکیة وأمّا إذا لم یجب البیع ولم یلزمه بل کان علی وجه المُرْاضاة والاختیار، أو البیع الملزم یکون بعد شراء البائع وملکیته بعقد جدید مستأنف فلا إشکال ویحکم بصحته کما ورد فی الروایات.

الطائفة الثالثة:

ماورد فی المنع عن بیع الکلّی.

منها: صحیحة معاویة بن عمار قال: قلت لأبیعبداللّه علیه السلام یجیئنی الرجل یطلب

[منی(3)] بیع الحریر ولیس عندی منه شی ء فیقاولنی علیه واُقاوله فی الربح والأجل حتّی نجتمع علی شی ء، ثمّ اذهب فأشتری له الحریر فأدعوه إلیه، فقال: أرأیت إن وجد بیعا هو أحبّ إلیه ممّا عندک أیستطیع أن ینصرف إلیه ویدعک، أو وجدت أنت ذلک أتستطیع أن تنصرف إلیه وتدعه؟ قلت: نعم، قال: لا بأس.(4)

ولکن هذه الطائفة لابدّ من أن تحمل علی التقیة لأنّ أبناء العامة(5) یذهبون إلی عدم جواز بیع الکلّی حالاًّ، وقد وردت عدّة من الروایات من أئمتنا علیهم السلام علی جوازه، سأذکر لک بعضها، أو تحمل علی الکراهة جمعا بینها وبین الروایات المجوّزة.

ومن الروایات المجوّزة: صحیحة اسحاق بن عمار وعبدالرحمن بن الحجاج جمیعا قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن الرجل یشتری الطعام من الرجل لیس عنده فیشتری

ص:53


1- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/28.
2- 5 . وسائل الشیعة 18/50، ح6.
3- 1 . زیادة من نسخة.
4- 2 . وسائل الشیعة 18/50، ح7.
5- 3 . راجع المغنی 4/297.

منه حالاًّ، قال: لیس به بأس، قلت: إنّهم یفسدونه عندنا، قال: وأیّ شی ء یقولون فی السلّم؟ قلت: لایرون به بأسا یقولون: هذا إلی أجل فإذا کان إلی غیر أجل ولیس عند صاحبه فلا یصلح، فقال: فإذا لم یکن إلی أجل کان أجود، ثمّ قال: لا بأس بأن یشتری الطعام ولیس هو عند صاحبه [حالاً] وإلی أجل، فقال: لا یسّمی له أجلاً، إلاّ أن یکون بیعا لایوجد مثل العنب والبطیخ وشبهه فی غیر زمانه، فلا ینبغی شراء ذلک حالاًّ.(1)

والنقض علیهم فی عدم جواز بیع الکلّی حالاًّ ببیع السلم یظهر أیضا من صحیحة اُخری من عبدالرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبیعبداللّه علیه السلام : الرجل یجیئنی یطلب المتاع فاُقاوله علی الربح ثمّ اشتریه فأبیعه منه، فقال: ألیس إن شاء أخذ وإن شاء ترک؟ قلت: بلی، قال، لا بأس به، قلت: فإنّ مَنْ عندنا یفسده، قال: ولِمَ؟ قلت: قد باع ما لیس عنده؟ قال: فما یقول فی السَلَم قد باع صاحبه ما لیس عنده، قلت: بلی، قال: فإنّما صلح من أجل أنّهم یسمّونه سَلَما، إنّ أبی کان یقول: لا بأس ببیع کلّ متاعٍ کنتَ تجده فی الوقت الذی بعته فیه.(2)

والجملة الأخیرة: «إنّ أبی کان...» صریحة فی جواز بیع الکلّی ولو لم یملکه البائع

حین البیع ولکنّه متمکن من تهیؤه فی زمن التحویل حالاًّ کان أو مؤجلاً. کما یدلّ علیه أیضا خبر أبیالصباح الکنانی عن الصادق علیه السلام فی رجل اشتری من رجل مائة منٍّ صفرا بکذا وکذا ولیس عنده ما اشتری منه، قال: لا بأس به إذا وفاه الذی اشترط علیه.(3)

والحاصل: بیع الکلّی حالاًّ عندنا جائز ولو لم یکن البائع حین البیع مالکا له، فلا یمکن الأخذ بالطّائِفَةِ الثالثة.

وبالجملة: الطائفة الاُولی وهی المطلقات تقیّد بالطائفتین الثانیة والثالثة ویحکم بصحة بیع الأعیان الشخصیة قبل تملّکها بالبیع الجائز لا اللازم، وصحة بیع الکلّی فی الذمّة حالاًّ ولو لم یکن البائع مالکا له.

ص:54


1- 4 . وسائل الشیعة 18/46، ح1، الباب 7 من أبواب أحکام العقود.
2- 5 . وسائل الشیعة 18/47، ح3.
3- 1 . وسائل الشیعة 18/48، ح4.

ویبقی تحت الإطلاق بیع الأعیان الشخصیة بالبیع اللازم، بیع مال الغیر من دون إذنه وإجازته لمالکه أو لنفسه.

وأمّا المختار فی المسألة

فنقول بالنسبة إلی مسألة «مَنْ باع شیئا ثمّ ملکه» إنّ البیع صحیح من دون توقف علی الإجازة المستانفة من البائع إذا کان المبیع کلّیّا مطلقا - أی حالاًّ أو مؤجلاً - وأمّا إذا کان المبیع عینا شخصیّا جزئیا فمع الإجازة المستأنفة نحکم بصحته مراعاةً للطائفة الثانیة من الروایات حیث ورد فیها عدم إیجاب البیع والإحتیاج إلی الإجازة الجدیدة یکفی فی عدم لزومه وإیجابه.

وظهر ممّا ذکرنا حکم صُوْرَتَیِ المسألة اللَّتَیْنِ کانَتا مُهِمَّتَیْنِ وهما:

الاُولی: أن یبیع الفضولی لنفسه ثمّ یشتریه من مالکه وأجاز البیع، یحکم بصحتها فی فرضی المبیع - أی إذا کان کلّیّا أو شخصیّا - إذا بقی المشتری علی بیعه فی الأخیر.

الثانیة: أن یبیع الفضولی لنفسه ثمّ یَشْتریه من مالکه ولم یجز البیع یحکم ببطلانه إذا کان المبیع شخصیّا لأنّه یحتاج إلی الإجازة المستأنفة، وبصحته إذا کان المبیع کلّیّا فی الذمّة لأنّه لا یحتاج إلیها.

وما ذکرناه لا یختلف مع مقالة العلاّمة فی التذکرة حیث یقول: «لا یجوز أن یبیع عینا لا یملکها ویمضی لیشتریها ویسلّمها وبه قال الشافعی وأحمد ولا نعلم فیه خلافا، لنهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن بیع ما لیس عندک ولاشتماله علی الغرر فإنّ صاحبها قد لا یبیعها وهو

غیر مالک لها ولا قادر علی تسلیمها.

وأمّا إذا اشتری موصوفا فی الذمّة سواء کان حالاًّ أو مؤجّلاً فإنّه جائز. وکذا لو اشتری عینا شخصیة غائبة مملوکة للبائع موصوفة بما یرفع الجهالة فإنّه جائز إجماعا»(1).

لأنّا نحمل حکمه قدس سره بعدم الجواز فی فرض العین الشخصیة الخارجیة علی البیع

ص:55


1- 1 . تذکرة الفقهاء 10/16.

اللازم الواجب وأمّا إن کان غیر لازم واحتاج إلی الإجازة المستأنفة من المالک الجدید والمشتری فلا بأس به ویخرج من الحکم بالبطلان وادعاء عدم الخلاف فیه. هذا.

ولذا قال الشیخ الأعظم: «... لو تبایعا علی أن یکون العقد موقوفا علی الإجازة فاتفقت الإجازة من المالک أو من البائع بعد تملّکه لم یَدْخُلْ فی مورد الأخبار ولا فی معقد الإجماع»(1).

وحکم بقیة الصور یظهر ممّا ذکرنا بالدقة والتأمل، والحمد للّه علی کلِّ حالٍ.

فروع:
الأوّل:

ما مرّ من الشیخ الأعظم آنفا من قوله قدس سره : «لو تبایعا علی أن یکون العقد موقوفا علی الإجازة...»(2) الخ.

مراده قدس سره : لو تبایعا - قبل أن یتملک البائعُ المبیعَ - علی أن یکون البیعُ موقوفا علی الإجازة وحصلت الإجازة من البائع الفضولی بعد انتقال المبیع إلیه، لم یَدْخُلْ هذا الفرع فی الأخبار الناهیة ولا فی معقد الإجماع - علی فرض تحققه - . لأنّها تختصّ بانشاء البیع منجّزا غیر مترقب لإجازة المالک وکذلک الإجماع. والمفروض فی هذا الفرع ترقب الإجازة وکون البیع موقوفا علیها.

الثانی:

«لو تبایعا علی أن یکون اللزوم موقوفا علی تملّک البائع دون إجازته»(3) لم یدخل فی الأخبار الناهیة لأنّ موردها خصوص بیع المنجّز من جمیع الجهات وأمّا الموقوف علی تملک البائع الفضولی فهو خارج عن مورد الروایات ومحکوم بالصحة.

واستشهد الشیخ الأعظم بکلام العلاّمة فی المختلف بأنّه حمل الأخبار الناهیة

علی الکراهة حیث یقول: «... والنهی الوارد عن النبی صلی الله علیه و آله للکراهة، أورد عن الشی ء المشخص الذی فی ملک الغیر فإنّه لا یصح بیعه لأدائه إلی التنازع، إذ ربما یمنع مالکه من

ص:56


1- 2 . المکاسب 3/455.
2- 3 . المکاسب 3/455.
3- 4 . المکاسب 3/455.

بیعه والمشتری یطالب البائع به، وأمّا الغرر الذی ادّعاه فلیس فی هذا الباب من شی ء»(1).

وبکلامه الماضی فی التذکرة: «لاشتماله علی الغرر فإنّ صاحبها قد لایبیعها وهو غیر مالک لها ولا قادر علی تسلیمها»(2)، «حیث علّل [العلاّمة] المنع بالغرر وعدم القدرة علی التسلیم»(3) ولا یأتی التعلیلان فی هذا الفرع.

ثمّ اعترض علی الشهید فی مقالته: «... وکذا لو باع ملک غیره ثمّ انتقل إلیه فأجاز، ولو أراد لزوم البیع بالانتقال فهو بیع ما لیس عنده...»(4).

بقوله: «ولکن الإنصاف ظهورها فی الصورة الاُولی [وهو البیع المنجّز أی غیر موقوف علی إجازة المالک الأصلی أو البائع الفضولی بعد تملّکه] وهی ما لو تبایعا قاصدین لتنجّز النقل والانتقال وعدم الوقوف علی شی ءٍ»(5).

أقول: حُکْمُ هذَیْنِ الْفَرْعَیْنِ بناءً علی ما اخترناه فی أصل المسألة واضح وهو الصحة بِلا فرق بین أن یکون المبیع کلّیّا فی الذمة أو شخصیّا. لما مرّ فی وجه الجمع بین الطوائف الثلاث من الروایات لا لما ذکره الشیخ الأعظم من ادِّعاءِ الظهور.

الثالث:

قال الشیخ الأعظم: «ولو باع عن المالک فاتفق انتقاله إلی البائع فأجازه فالظاهر أیضا الصحة، لخروجه عن مورد الأخبار»(6).

وجه خروجه عدم وقوعه منجّزا من جمیع الجهات لأنّه یحتاج إلی إجازة البائع.

إن قلت: البائع أنشا البیع عن المالک وإجازته لا تُصَحِّحُهُ لأنّه لم ینشأه عن نفسه حتّی تصححه إجازته، والحاصل: المجاز غیر منشأٍ والمنشأُ غیر مجازٍ.

قلت: المالک فی عکس هذه المسألة - وهو ما لو باعه الفضولی لنفسه واجازه

ص:57


1- 1 . مختلف الشیعة 5/132.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/16.
3- 3 . المکاسب 3/456.
4- 4 . الدروس 3/193.
5- 5 . المکاسب 3/455.
6- 6 . المکاسب 3/465.

المالک لنفسه - أجاز المعاوضة الحقیقیة وهی دخول العوض فی ملک مالک المعوّض، وفی هذه المسألة أیضا کذلک، البائع المُنشأ أجاز البیع بعد انتقال المبیع إلیه من قبله ویدخل

الثمن فی ملکه، لتحقّق هذه المعاوضة الحقیقیة فی المقام.

ثمّ أمر الشیخ الأعظم(1) بالتأمل فی هذا الجواب ووجهه وجود الفارق بین المسألتین لأنّ فی العکس بنی البائع اعتقادا أو عدوانا علی کونه مالکا وقصد المعاوضة وهذه الحیثیة البنائیة هی المُصَحِّحةُ فی عکس مسألتنا ولکن فیها لم یدّعِ البائع المالکیة لنفسه لا اعتقادا ولا عدوانا فلم تَحْصَلْ له الحیثیة البنائیة - وهی الملکیة المدعاة - فلم تتحقّق المعاوضة، ویکون المجاز غیر المنشأ.

أقول: لا یعتنی بهذا الاشکال ویحکم بِصِحَّةِ البیع بعد إجازته لصدق مسألتنا «من باع شیئا ثمّ ملکه» فی المقام.

الرابع:

قال الشیخ الأعظم: «ولو باع [الفضولی مال الغیر] لثالث معتقدا لتملّکه أو بانیا عدوانا، فإن أجاز المالک فلا کلام فی الصحة بناءً علی المشهور من عدم اعتبار وقوع البیع عن المالک [لتحقّق المعاوضة الحقیقیة کما مرّ] وإن ملکه الثالث وأجازه، أو ملکه البائع فأجازه فالظاهر أنّه داخل فی المسألة السابقة»(2).

ویحکم بصحته کما مرّ فی مسألة من باع شیئا ثمّ ملکه.

وأمّا الصورة الثانیة:
اشارة

(3):

فهی أن یتجدّد الملک بعد العقد، ولم یجز البائع بعد تملّکه.

وبعبارة اُخری: أن یبیع الفضولی مال غیره لنفسه ثمّ یشتریه من مالکه ولم یجزه.

قال الشیخ الأعظم: «... فإنّ الظاهر بطلان البیع الأوّل [أی بیع الفضولی] [1[ لدخوله تحت الأخبار المذکورة یقینا، [2] مضافا إلی قاعدة تسلّط الناس علی أموالهم،

ص:58


1- 1 . المکاسب 3/456.
2- 2 . المکاسب 3/456.
3- 3 . عطف علی الصورة الاُولی فی صفحة 29 من هذا المجلد.

[3] وعدم صیرورتها حلالاً من دون طیب النفس...»(1).

ثمّ أشار إلی وهم ودفعه بتوضیح منّا:

وأمّا الوهم: فإنّ البائع الفضولی قبل تملّکه للمبیع التزم بکون المبیع ملکا للمشتری، وهذا الالتزام أمارة علی وجود طیب نفسه بذلک بعد تملّکه له.

وبعبارة أُخری: بیع الفضولی کاشف عن طیب نفسه عن انتقال المال إلی المشتری

مطلقا سواءً انتقل إلیه عنه [عن البائع] أو عن غیره.

وأمّا الدفع: فإنّ الالتزام کان متعلِّقا بمال غیره لا بمال نفسه حتّی یجب علیه الوفاء به، ولیس للبائع سلطانٌ علی جعل مال الغیر للمشتری.

ثمّ قال: «اللهم إلاّ أن یقال: إنّ مقتضی عموم وجوب الوفاء بالعقود والشروط علی کلِّ عاقد و شارط هو اللزوم علی البائع بمجرد انتقال المال إلیه، وإن کان قبل ذلک أجنبیّا لا حکم لوفائه ونقضه»(2).

بعبارة أُخری: «مقتضی عموم دلیلی وجوب الوفاء بالعقود ووجوب وفاء المؤمنین بشروطهم وجوبُ الوفاء علی کلّ عاقدٍ وشارطٍ، والبائع الفضولی بعد تملّکه للمبیع یندرج تحت عموم هذین الدلیلَیْنِ العامَّیْنِ بعد أن کان قبل تملّکه أجنبیّا عن أفراد هذین الدلیلین...»(3).

فتکون النتیجة: صحة عقد الفضولی بمجرّد تملّکه للمبیع وعدم احتیاجه إلی الإجازة.

ولذا قال فخرالمحقّقین: «أقول: علی تقدیر صحة بیع الفضولی فإنّه إذا أجازه المالک صح البیع وملک المشتری...»(4).

أی: إذا اشتری البائع الفضولی المال من مالکه صح بیعه الفضولی وینتقل منه إلی

ص:59


1- 4 . المکاسب 3/457.
2- 1 . المکاسب 3/457.
3- 2 . هدی الطالب 5/339.
4- 3 . إیضاح الفوائد 1/419.

المشتری من دون توقف علی إجازته. کما حمل المحقّق التستری(1) کلام الفخر کذلک.

ثمّ قال التستری: «... وهو الذی یلوح من الشهید الثانی فی هبة المسالک(2) وقد سبق استظهارهُ من عبارة الشیخ(3) المحکیة فی المعتبر(4)»(5).

أقول: قد مرّ(6) فی محتملات المسألة وأقوالها، أنّ القول بالصحة من دون التوقف علی إجازة البائع بعد تجدد الملک له یظهر من الشیخ الطوسی والمحقّق فی الشرائع

والعلاّمة فی مُتاجِر القواعد وهبتها وبیع التذکرة ویراه الأقوی فی النهایة وهو مختار جدنا الشیخ جعفر قدس سرهم .

ولکنّ خلافا للشهید الثانی فی المسالک حیث کان من القائلین بالصحة مع توقفها علی الإجازة فراجع ما حررناه هناک.

ولکن الشیخ الأعظم(7) یضعِّفُ هذا القول - أی قول الشیخ والمحقّق والعلاّمة - بوجوه:

الأوّل: إنّ البائع الفضول قبل تملّکه للمبیع لم یکن مأمورا بوجوب الوفاء بالعقد، لعدم شمول خطابی «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، و «المؤمنون عند شروطهم» له فیستصحب عدم وجوب الوفاء بالعقد بعد تملّکه ولذا قال: «والمقام مقام استصحاب حکم الخاص، لا مقام الرجوع إلی حکم العام فتأمل»(8).

وبعبارة أُخری: الزمان تارةً یکون مکثِّرا للعام ومفرِّدا له ولأفراده، واُخری یکون

ص:60


1- 4 . مقابس الأنوار /134.
2- 5 . المسالک 6/49.
3- 6 . المبسوط 1/208 و 3/304.
4- 7 . المعتبر 2/563.
5- 8 . مقابس الأنوار /134.
6- 9 . راجع هذا المجلد صفحة 33 وما قبلها.
7- 1 . المکاسب 3/458.
8- 2 . المکاسب 3/458.

ظرفا لاستمرار الحکم.

فی القسم الأوّل إذا خرج من العام فردٌ من الأفراد فی زمانٍ ما وبعد مضی ذلک الزمان نشک فی جریان العام فی حقّه وعدمه، یجری حکم العام فی شأنه لأنّه شک فی تخصیص زائد والمرجع فیه هو عموم العام. دون استصحاب حکم الخاص فی ذلک الزمان.

وفی القسم الثانی: إذا خرج فرد من العام فی زمان وشُکّ بعد انقضاء ذلک الزمان فی حکمه یستصحب حکم الخاص.

الشیخ الأعظم قدس سره یری ما نحن فیه من القسم الثانی واستصحاب حکم الخاص ثمّ أمر بالتأمل ولعلَّهُ أشار به إلی عدم جریان الاستصحاب للشک فی بقاء الموضوع بل العلم بعدم بقائه لأنّ عدم وجوب الوفاء کان ثابتا للعاقد غیر المالک وبعد صیرورة البائع الفضولی مالکا نشک فی بقاء الموضوع فلا یجری الاستصحاب، فحینئذ یجری حکم العام ویحکم بوجوب الوفاء بالعقد والبقاء عند الشرط.

أو أشار به إلی أنّ العام فی حقّ البائع الفضولی لا یجری إلاّ بعد إجازته للعقد حیث بها یکون العقد عقده وینسب إلیه.

ولو شکّ فی صحة هذا العقد قبل إجازة العاقد الفضولی یجری فیه أصالة الفساد الحاکم فی المعاملات.

الثانی: لزوم العقد علی البائع الفضولی بدون إجازته یکون خلافا لقاعدة سلطنة الناس علی أموالهم.

الثالث: لزوم العقد علیه یکون معارضا لقاعدة عدم حلّ أموال الناس إلاّ بطیب أنفسهم.

الرابع: فحوی مادلّ علی عدم صحة عقد نکاح العبد بمجرد عتقه الموجب لصیرورته مالکا لنفسه، وتوقف صحته علی إجازة المولی التی تتحقّق بسکوته، حیث نعلم أنّ تملّک النفس أقوی من تملّک المال فی تأثیره فی صحة العقد.

ص:61

ننحو: موثقة الحسن بن زیاد الطائی.(1)

وصحیحة معاویه بن وَهْبٍ(2)، وصحیحة أُخری له.(3)

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «لو سُلِّم عدم التوقف [أی عدم توقف صحة العقد] علی الإجازة، فإنّما هو فیما إذا باع الفضولی لنفسه، أمّا لو باع فضولاً للمالک أو لثالث ثمّ ملک هو، فجریان عموم الوفاء بالعقود والشروط بالنسبة إلی البائع أشکل»(4).

وجه أشکلیته: عدم موافقة الإنشاء مع الإجازة، لأنّ البائع الفضولی لم ینشأ العقد عن نفسه، بل أنشأه عن مالکه أو ثالث فلا تصححه إجازته فیرد الإشکال المشهور: المنشأُ غیر مجازٍ والمجاز غیر منشأٍ.

فرع:

قال الشیخ الأعظم: «ولو باع وکالةً عن المالک فبان انعزاله بموت الموکِّل فلا إشکال فی عدم وقوع البیع له [أی للبائع الفضولی] بدون الإجازة ولا معها، نعم یقع للوارث مع إجازته»(5).

وهذا الفرع لیس من فروع مسألة «من باع شیئا ثمّ ملکه» بل هو من فروع

الفضولی المتعارف فیقع البیع للوارث بعد إجازته.

إلی هنا تمّ کلام الشیخ الأعظم فی هذه الصورة الثانیة.

الصورة الثانیة فی رأی المحقّق النائینی ونقده علی الشیخ الأعظم:

قال: «قد تقدّم(6) أنّه لو قلنا بصحّة أصل البیع وعدم ما نعیّة التبدیل فی طرف الملک فلا وجه لاعتبار الإجازة أصلاً، لأنّه لم یقم دلیل تعبّدیّ علی اعتبارها، وإنّما نحتاج إلیها

ص:62


1- 1 . وسائل الشیعة 21/118، ح3، الباب 26 من أبواب نکاح العبید والإماء.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/117، ح1.
3- 3 . وسائل الشیعة 21/117، ح2.
4- 4 . المکاسب 3/458.
5- 5 . المکاسب 3/458.
6- 1 . راجع منیة الطالب 2/118.

فی الفضولیّ؛ لتحقّق الاستناد والرضا، وهما فی المقام حاصلان. فالعمدة بیان وجه أصل الصحّة. والأولی البحث أوّلاً عن إمکان إدراج هذا البیع فی العمومات. ثمّ البحث ثانیا عن الأدلّة المانعة، لأنّه لو لم تعمّه العمومات فلا موقع للبحث عن الأدلّة المانعة.

ویظهر منه(1) قدس سره شمول «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» له، إلاّ أنّه جعل المقام أوّلاً من موارد الرجوع إلی استصحاب حکم الخاصّ، لا من موارد الرجوع إلی عموم العامّ، لأنّ البائع قبل تملّکه لم یکن مأمورا بالوفاء بالعقد فیستصحب. ثمّ أضاف إلیه ثانیا: أنّ عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» معارض بعموم «الناس مسلّطون علی أموالهم»، وعدم حلّها لغیرهم إلاّ بطیب النفس فحکم باعتبار الإجازة من باب الناس مسلّطون.

وفی کلامه(2) ما لا یخفی علی المتأمّل، کما أمر بالتأمّل؛ لأنّ مقام الرجوع إلی الاستصحاب أو العامّ إنّما هو فی الفرد المعلوم فردیّته الخارج عن حکم العامّ فی قطعةٍ من الزمان، والبائع فی المقام قبل أن یشتریه لم یکن مأمورا بالوفاء بعقده، وإنّما الشکّ فی أنّه بعد ما اشتراه هل هو مأمور بالوفاء أو لا فهو قبل أن یشتریه لم یکن مصداقا للعامّ، وکان کشخصٍ لم یکن عالما فی زمانٍ ثمّ صار عالما؟ فلا یمکن أن یقال: هذا الفرد من العامّ لم یکن واجب الإکرام فیستصحب حکم المخصّص؛ لأنّ البائع خارج عن العامّ تخصّصا، مع أنّه لو قیل بأنّ کل من له ربط بالعقد یجب وفاؤه به، إلاّ أنّ محلّ الرجوع إلی حکم العامّ أو الخاصّ إنّما هو فی مورد الشکّ بالنسبة إلی عمود الزمان، کالشکّ بعد زمان الأوّل فی البیع الغبنی بأنّه محکوم بحکم الخیار أو بحکم العامّ، لا فیما کان المخصّص من الزمانیّات، کما إذا خصّص وجوب الوفاء بالعقود بموردٍ خاصٍّ وشکّ فی أنّ هذا هو المورد الخاصّ أو غیره.

ثمّ لایخفی أنّه لو قلنا بأنّ المقام من موارد الرجوع إلی عموم العامّ فلا یمکن أن یعارض بدلیل السلطنة واعتبار الطیب، لأنّ معنی وجوب الوفاء بالعقد هو لزومه علیه

ص:63


1- 2 . من الشیخ الأعظم فی المکاسب 3/458.
2- 3 . أی الشیخ الأعظم.

قهرا، ووجوب الالتزام بآثاره شرعا.

وحاصل الکلام: أنّه لا یمکن تصحیح البیع الشخصیّ لمن لا یملکه، سیّما إذا قصد البیع لنفسه؛ لأنّه لو صحّ له فلا یمکن وقوعه للمالک الأصیل إذا أجاز، مع أنّه لا إشکال فی وقوعه له إذا أجاز قبل بیعه من البائع، لأنّ معنی وقوعه للبائع أنّه قصد خروج المال عن ملکه بعد فرض نفسه مالکا بالأُوْل والمشارفة، فهو فی الحقیقة یوقع المبادلة بین ملکه بما هو ملکه وبین ملک الطرف، فالمالک الأصیل أجنبیّ عن العقد، ولا یمکن قیاسه علی الغاصب؛ لأنّه بعد سرقة الإضافة یوقع المبادلة بین ملکی المالکین، ولا یلاحظ شخص نفسه إلاّ علی نحو الداعی، بل المقام نظیر البیع الکلّی فی إجراء البائع المعاملة علی ملک شخصه.

وبالجملة: الأمر یدور بین أن یجعل البائع أجنبیّا أو الأصیل. والمفروض أنّه یقع للأصیل إذا أجاز، فلا مناص عن(1) جعل البائع أجنبیّا ویکون کمجری الصیغة.

وعلی أیّ حالٍ فقد ظهر ممّا ذکرنا من صدر المبحث إلی هنا أنّه لا فرق بین تحقّق الملک للبائع بالشراء وتحقّقه بالإرث.

نعم، هناک فرق بینهما من جهةٍ اُخری، وهی: أنّ الوارث حیث إنّه یقوم مقام مورّثه فله الإجازة، لا من باب أنّه ملک ما باعه، بل من باب أنّه هو المورّث، فیکون حکمه حکم المالک الأصیل فی نفوذ إجازته قبل بیعه من البائع، وحکمه حکم نفس المورّث لو أجاز حال حیاته.

نعم لو قلنا: بأنّ فی مسألة من باع ثمّ ملک بالشراء لا تَصحُّ الإجازة من المالک الأصیل، لعدم إمکان الجمع بین قابلیّة انتساب العقد إلی کلّ من المالک والبائع، فالوارث فی المقام أیضا لیس له الإجازة من باب قیامه مقام مورّثه، بل هو من أفراد «من باع شیئا ثمّ ملک» فالفرق بینهما لا وجه له. فتأمّل فی أطراف الکلام جیّدا»(2).

ص:53


1- 1 . کذا؛ و «من» أحسن.
2- 2 . منیة الطالب 2/127 و 126.
الصورة الثانیة فی رأی المحقّق السیّد الخوئی ونقده علی استاذه المحقّق النائینی

قال قدس سره : «ثمّ إنّه إذا قلنا ببطلان بیع من باع ثمّ ملک فأجاز، ففی صورة عدم الإجازة

بعد الملک یبطل بطریق أولی ولعلّه ظاهر. وأمّا إذا بنینا علی صحّته مع الإجازة وأغمضنا عمّا ذکرناه سابقا فهل یصحّ بدون الإجازة أیضا کما نقله شیخنا الأنصاری(1) عن بعضهم، أو أنه بدون الاجازة باطل؟ هناک وجهان، والصحیح أنه یقع باطلاً فی صورة عدم الإجازة، وذلک لأنه تارة یبیع للمالک ثمّ یملکه وأُخری یبیعه لنفسه.

فأمّا فی الصورة الأُولی فلا وجه لصحّته بعد الانتقال إلیه فی صورة عدم الإجازة، إذا المفروض أنّه لم یبع لنفسه لتقع المعاملة له بعد الانتقال إلیه وذلک ظاهر.

وأمّا فی الصورة الثانیة فکذلک لا وجه لصحّته بدونها أی بدون الإجازة إلاّ احتمال أنّ العمومات نحو «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ونحوه یشمله بعد الانتقال إلیه وإن لم یشمله من الابتداء یعنی قبل تملّکه، فلا یحتاج إلی الاجازة بعد ذلک.

إلاّ أنه مندفع بأنّ العمومات لا تشمله حین المعاملة لأنه لیس بملکه، وبعد ما صار ملکه لم یقع علیه بیع لتشمله العمومات لأنّها خطابات للملاّک، وقبل الانتقال لا ملک لتشمله وبعده لا بیع حتّی نتمسّک فی صحّته بالعمومات، وبهذا ظهر ما فی جواب شیخنا الأنصاری قدس سره من أنّ المقام مقام استصحاب حکم الخاص لا مقام الرجوع إلی حکم العام، فإنّ الدوران بین الأمرین إنّما هو فیما إذا کان هناک فرد وقد خرج عن حکم العام فی زمان وبعده یقع الکلام فی أنّ الفرد محکوم بحکم المخصّص بالاستصحاب أو أنه مشمول للعام وهو بحث مشهور، وهذا غیر متحقّق فی المقام إذ قبل التملّک لا فرد للعقد إذ لا عقد له قبل الانتقال إلیه وقد عرفت أنه خطاب للملاّک دون غیرهم، وبعد الملک لا بیع ولا عقد له لتشمله العمومات، هذا.

ولو سلّمنا وبنینا علی أنّ مقتضی العمومات صحّة البیع بعد الانتقال إلیه فیکفینا فی الحکم بالبطلان الأخبار المتقدّمة الدالّة علی فساد البیع قبل الملک فتکون هذه الروایات

ص:65


1- 1 . المکاسب 3/457.

مخصّصة للعمومات.

فالمتحصّل أنه لا وجه للحکم بالصحّة من دون توقّف علی الإجازة بوجه.

ومن ذلک یظهر أنّ ما أفاده شیخنا الأُستاذ(1) من أنّ المعاملة إنّما تتوقّف علی الإجازة لأجل أمرین: أحدهما الرضا. وثانیهما: الاستناد، وکلاهما حاصلان فی المقام لأنّ المفروض أنه باعه لنفسه فلا نحتاج إلی الإجازة بعد الانتقال، من غرائب الکلام، لأنّ

المعتبر من الرضا والاستناد إنّما هو رضا المالک واستناد العقد إلیه، لا رضا غیر المالک والاستناد إلیه، وهو قبل الانتقال غیر مالک فلا یکفی رضاه والاستناد إلیه قبل الانتقال، وأمّا بعده فلم یحصل منه شیء من الأمرین بحسب الفرض.

نعم هناک صورة أُخری ذکرناها فی أوائل البحث وهی ما لو باعه فعلاً ما سیملکه بعد الموت فی الارث أو بعد الشراء فی البیع، وهذا علی نحو التعلیق بأن یکون الانشاء فعلیا والملکیة بعد مدّة، والرضا والاستناد فیها صحیحان إلاّ أنّها باطلة لأجل الإجماع علی بطلان التعلیق فی العقود، والأخبار الناهیة عن الشراء قبل أن یشتریه البائع من مالکه، وهذه الصورة خارجة عمّا نحن فیه، إذ الکلام فیما إذا کان البیع بحیث لو أجازه المالک صحّ، وهذا لا یصحّ ولو بإجازة المالک لاختلاله من ناحیة اُخری»(2).

وأمّا ما ذکره شیخنا الأُستاذ(3) قدس سره من أنّ الوارث قائم مقام مورّثه فی المالیات فإذا أجاز المعاملة فکأنّ المورّث أجازها فتکشف عن الملکیة من زمان حیاة المورّث، فهو من غرائب الکلام، إذ لم یرد دلیل علی ذلک التنزیل ولم یدلّ شیء علی أنّ الوارث کالمورّث فی جمیع الأحکام،بل إنّما ورد أنّ ما ترکه المیّت فلوارثه، وهذا یکشف عن أنّ المیّت قد ترکه وزالت ملکیته عنه والوارث شخص آخر غیره کما هو ظاهر»(4).

ص:66


1- 2 . منیة الطالب 2/126.
2- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/(36-34).
3- 2 . منیة الطالب 2/127.
4- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/34.
الصورة الثانیة فی رأی المحقّق السیّد الخمینی

قال قدس سره : «ولو لم یجز البائع بعد تملّکه فالظاهر صحّة بیعه، سواء دخل تحت الأخبار المتقدّمة أم لا؛ لما عرفت من أنّها لا تدلّ علی بطلان البیع.

نعم، یقع الکلام هاهنا فی مقامین:

الأوّل: فی أنّه هل یحتاج بیعه بعد تملّکه إلی الإجازة، أم ینتقل المبیع إلی المشتری بمجرّد تملّکه؟

الثانی: فی وجوب الإجازة علیه لو قلنا: باحتیاجه إلیها.

[المقام الأوّل]:

الأشبه بالقواعد عدم الاحتیاج، لأنّ إنشاء البیع صدر من البائع لنفسه، وعدم التأثیر إنّما هو من جهة عدم الملک، فإذا حصل دخل فی عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وسائر

الأدلّة العامّة، وإنّما الشکّ فی عدم الانتقال؛ لأجل الشکّ فی اعتبار مقارنة الملکیّة لإنشاء البیع.

وهو محصّل ما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره من أنّ البائع بعد ما صار مالکا، لم تطب نفسه بکون ماله للمشتری الأوّل، والتزامه قبل تملّکه بکون هذا المال المعیّن للمشتری، لیس التزاما إلاّ بکون مال غیره له.(1)

وهو یرجع إلی اعتبار أمر زائد علی ماهیّة العقد بشرائطه، وهو مالکیّة المنشئ للعقد لنفسه حال العقد، ومعلوم أنّ اعتبار ذلک لیس متیقّنا، بل مشکوک فیه، فیندفع بإطلاق الأدلّة کسائر الشکوک.

وهذا بوجه نظیر ما إذا باع الراهن العین المرهونة، أو باع السفیه العین التی هی مورد حجره، ثمّ ارتفع المانع، فإنّهما أیضا لایحتاجان إلی الإجازة، بل یصحّان بمجرّد رفع الحجر، واحتمال مقارنة الإنشاء مع عدم المانع، یُدْفَعُ بالإطلاق.

ص:67


1- 1 . المکاسب 3/457.

حول کلام الشیخ قدس سره فی المقام

وعلی ما ذکر یسقط ما أفاده الشیخ قدس سره فی المقام: من التمسّک بقاعدة السلطنة، وعدم الحلّ إلاّ بطیب النفس(1)، فإنّ المعاملة التی أوجد البائع سببها باختیاره وطیب نفسه، لم یکن النقل فیها بعد حصول الشرط - أعنی المالکیّة - مخالفا لقاعدة السلطنة وغیرها، نظیر الأصِیْلِ فی الفضولیّ من أحد الطرفین إذا أوجد سبب البیع باختیاره وطیب نفسه، ثمّ أجاز المالک، وانتقل الثمن أو المثمن من الأصیل حال إجازة غیره، فإنّه لم یکن هذا الانتقال - بعد إیجاده أحد جزئی السبب - مخالفا لقاعدة السلطنة واحترام مال الغیر.

وإن شئت قلت: إنّ القاعِدَتَیْنِ مؤکّدتان للصحّة، لا معارضتان لها؛ فإنّ الانتقال لم یکن قهرا علی البائع، بل بتسبیب منه، ومعلوم أنّ أسباب النقل بأجمعها لیست تحت اختیار أحد المتعاملین فی المعاملات.

وممّا ذکرناه یتّضح: أنّ دعوی معارضة القاعدتین لدلیل وجوب الوفاء(2) لیست مُتَّجِهَةً.

ثمّ إنّه لو شککنا فی شمول «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لمثل ذلک البیع، لا یصحّ التمسّک

بالقاعدتین؛ لاحتمال خروج المال بواسطته عن ملکه، فصارت(3) الشبهة موضوعیّة، أو کالموضوعیّة، فإنّ حصول الملک للبائع الأوّل عند الاشتراء وإن کان معلوما، ولکن مع احتمال کون الانتقال بتسبیب منه - غیر مخالف للقاعدتین کما مرّ(4)- لا یصحّ التمسّک بهما إلاّ بعد إحراز الموضوع.

نعم، یمکن احرازه باستصحاب ملکهما، فحینئذٍ لا یصحّ البیع إلاّ بإجازته للقاعدتین.

ومع الغضّ عن ذلک، لا یصحّ التمسّک بالاستصحاب لإثبات إجازة المالک مؤثّرة

ص:68


1- 2 . المکاسب 3/457.
2- 3 . المکاسب 3/457.
3- 1 . کذا؛ [فَتَصِیْرُ] أحسن.
4- 2 . راجع کتاب البیع 2/380 له رحمه الله .

فی النقل، بناءً علی أنّ السبب هو العقد المتعقّب أو المتقیّد بالإجازة أو العقد بسببیّتها؛ فإنّ إحراز تلک العناوین بالأصل مثبت، إلاّ أن یکون الموضوع للنقل أو السبب له مرکّبا من العقد والإجازة، وکان الحکم الشرعیّ مترتّبا علی العقد وإجازة المالک، فیحرز بالوجدان والأصل، مع الغضّ عن الإشکال فی الموضوع المرکّب.

ثمّ إنّ الشیخ الأعظم قدس سره - بعد فرض أنّ مقتضی عموم وجوب الوفاء بالعقود علی کلّ عاقد، هو اللزوم علی البائع بمجرّد الانتقال إلیه، وإن کان قبله أجنبیّا لا حکم لوفائه ونقضه - ضعّفه بأنّ البائع غیر مأمور بالوفاء قبل الملک، فیستصحب، والمقام مقام استصحاب حکم الخاصّ، لا مقام الرجوع إلی حکم العامّ، ثمّ أمر بالتأمّل.(1)

وهذا بظاهره واضح الإشکال؛ ضرورة أنّه من قبیل التخصّص لا التخصیص.

لکن یمکن توجیهه: بأنّ مقتضی عموم وجوب الوفاء، هو اللزوم بالنسبة إلی هذا الشخص الذی باع ملک الغیر لنفسه، فیجب علیه الابتیاع من الغیر، والردّ إلی المشتری وإن لم یکن ملکا له، کما مرّ منه نظیره فی بیع الفضولیّ بالنسبة إلی الأصیل: من أنّ مقتضی وجوب الوفاء بالعقد هو اللزوم بالنسبة إلیه، فلا یصحّ الفسخ منه، وإن صحّ الردّ من المالک الأصلیّ.(2)

فیکون حاصل مراده: أنّ هذا العقد الصادر من البائع، لمّا کان عقدا لنفسه، یجب علیه الوفاء من أوّل الأمر، فیجب علیه الاشتراء، وینتقل منه بمجرّده.

لکن لا إشکال فی خروج قطعة من الزمان عن لزوم الوفاء، وهو حال عدم کونه مالکا؛ بإجماع أو تسلّم، فکان(3) المقام من موارد اختلافهم فی التمسّک باستصحاب حکم المخصّص، أو بالعموم، أو إطلاق العامّ.

وهذا التوجیه وإن کان مخالفا لظاهر کلامه بدوا، لکنّه أولی من توهّم عدم تفریقه بین التخصیص والتخصّص، وتقدیم أصالة عدم النقل علی القواعد الاجتهادیّة.

ص:69


1- 3 . المکاسب 3/458.
2- 4 . المکاسب 3/415.
3- 1 . کذا؛ [فیکونُ] أحسن.

ولعلّ أمره بالتأمّل(1) لإنکار شمول العامّ لما قبل الملک، فیکون من قبیل التخصّص لا تخصیص العامّ، وهذا أمر یجب البحث عنه فی مجال أوسع.

ولقائل أن یدّعی إطلاق دلیل وجوب الوفاء والشرط لما قبل الملک، فیجب علیه الاشتراء للعمل بمضمون العقد، وکذا لو باع ما لایملکه أحد، کطیر معیّن، ومقدار مشخّص من المعدن، فیجب علیه أخذ الطیر واستخراج المعدن والتسلیم إلی المشتری، ولا یبعد أن یکون ذلک عقلائیّا أیضا، فتأمّل.

ثمّ إنّه یمکن استفادة عدم الاحتیاج إلی الإجازة من بعض الروایات المتقدّمة، کصحیحة یحیی بن الحجّاج(2) بناءً علی ما مرّ: من أنّ النهی عن البیع قبل الاشتراء إنّما هو لأجل التخلّص عن الربا، لا للإرشاد إلی بطلان البیع.(3)

فحینئذٍ لو توقّف بیعه قبل الاشتراء علی الإجازة بعده، کان له التخلّص عن الربا بعدم الإجازة، فلا یکون البیع ثمّ الاشتراء موجبا للربا.

والظاهر منها أنّ الموجب نفس البیع والاشتراء، وهو لا یتمّ إلاّ علی فرض عدم الاحتیاج إلی الإجازة، والأمر سهل بعد ما عرفت من أنّ مقتضی القاعدة الصحّة من غیر احتیاج إلی الإجازة.(4)

[المقام الثانی]:

ومن بعض ما ذکرناه یظهر الکلام فی المقام الثانی، وهو وجوب الإجازة علیه لو قلنا: باحتیاج العقد إلیها؛ بأن یقال: إنّ مقتضی إطلاق وجوب الوفاء علیه العمل علی طبق

مضمونه، وهو لا یحصل إلاّ بإجازته.

إلاّ أن یقال: إنّ الإجازة - کالقبول - من متمّمات العقد، لا من مقتضیاته وجزء

ص:70


1- 2 . المکاسب 3/458.
2- 3 . وسائل الشیعة 18/50، ح7، الباب 8 من أبواب أحکام العقود.
3- 4 . راجع کتاب البیع 2/371 له قدس سره .
4- 5 . راجع کتاب البیع 2/379 له رحمه الله .

مضمونه، فتدبّر»(1).

المختار فی الصورة الثانیة

«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» خطاب إلی الملاّک فلا یشمل البائع مال غیره قبل أن یشتریه من مالکه، ولکنّه بعد أن یشتریه یشمله الخطاب، وذلک مثل مَنْ لم یکن مستطیعا للحج ثمّ صار مستطیعا فیشمله أدلة وجوب الحج.

فلا تعارض الآیة الشریفة قاعدة السلطنة وحدیث طیب النفس لأنّ البائع بنفسه أقدم علی البیع وبعده لیس المال له حتّی یجری فی حقّه قاعدة السلطنة وحدیث طیب النفس.

وکذلک لا یجری استصحاب حکم قبل تملّک البائع لما بعده لتغییر الموضوع عرفا، حیث المالک للمال وغیره بینهما فرق جوهری فی المعاملات.

وأما فحوی موثقة الحسن بن زیاد الطائی وصحیحتی معاویة بن وهب فلا یتم فی الصورة الثانیة، لأنهنَّ نصوص نعمل بها فی موردها الخاص وهو نکاح العبد.

وأمّا الإشکال علی شمول خطاب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بعد تملّک البائع، بأنّه بعد تملّکه لا یجری عقدا فلایتم لأنّ البیع هو تبادل المالین ولا ینظر إلی طرفی العقد بخلاف النکاح، فالبائع أجری العقد بنفسه ثمّ صار مالکا للمال فیشمله الخطاب.

نعم، بعد تملّکه یحتاج إلی الإجازة المستأنفة لا لاستناد البیع إلیه وإعلام رضایته، بل لما ورد من نصوص المسألة (من باع شیئا ثمّ ملکه) من عدم ایجاب البیع وعدم قطعیته وإلاّ یبطل، فهذه الصورة تحتاج إلی الإجازة المستأنفة حتّی تخرج من البطلان.

وإذا أجاز البائع بعد تملّکه صحّ البیع عندنا خروجا عن نصوص البطلان، وإذا لم یجز بطل.

وممّا ذکرنا تَظْهَرُ وجوه موارد خلافنا مع الأعلام والحمد للّه العالم بالأحکام.

ص:71


1- 1 . کتاب البیع 2/(383-379).
المسألة الثالثة: لو باع بزعم عدم جواز التصرف فبان جوازه
اشارة

لو اعتقد البائع عدم جواز تصرفه فی المبیع ثمّ انکشف خلافه وظهر کونه جائز التصرف فهل یکون بیعه صحیحا أم لا؟

وللمسألة صور أربع: لأنّ الاعتقاد بعدم جواز التصرف تارةً یَنْشَأُ من عدم الولایة واُخری من عدم الملک ولکن بان أنّه ولیٌّ أو مالکٌ. وعلی کلّ منهما إمّا أن یبیع لنفسه أو أن یبیع لمالکه فتکون الصُوَرُ أربعا.

الصورة الأولی: لو باع عن المالک فانکشف کونه ولیّا
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «فلا ینبغی الإشکال فی اللزوم حتّی علی القول ببطلان الفضولی»(1).

لأنّ البائع العاقد فی الواقع یکون ولیّا ولیس فضولیّا فیصدر العقد من أهله وفی محلّه، لأنّا نعلم ثلاثة أمور تُصَحِّحُ جواز التصرف: 1- الملک، 2- الولایة، 3- الإذن، والأخیر قد یکون سابقا علی التصرف فهو الوکالة وقد یکون لا حقا به فهو الإذن للفضول.

ولکن یُحکی عن القاضی ابن البَرّاج أنّ المعاملة الصادرة ممّن یزعم أنّه فاقد الولایة مع امتلاکه لها باطلة.

والحاکی عنه هو العلاّمة فی المختلف فی کلام طویل له [للقاضی] أنّه قال: «... وإذا أذن السیّد لعبده فی التجارة فباع واشتری وهو لایعلم بإذن سیّده ولا علم به أحد، لم یکن مأذونا له فی التجارة ولا یجوز شی ء ممّا فعله، فإن علم بعد ذلک واشتری وباع جاز

ص:72


1- 1 . المکاسب 3/459.

ما فعله بعد العلم بالإذن ولم یجز ما فعله قبل ذلک، فإن أمر السیّد قوما أن یبایعوا العبد والعبد لایعلم بإذنه له کان بیعه و شراؤه منهم وجری ذلک مجری الإذن الظاهر، فإن اشتری العبد بعد ذلک من غیرهم وباع کان ذلک جائزا...»(1).

ثمّ ردّه العلاّمة بقوله: «... ولا یفتقر الإذن فی التجارة إلی علم العبد، فلو أذن المولی ولم یعلم العبد فباع العبد صحّ بیعه لأنّه صادف الإذن فی التجارة ولا یؤثر فیه إعلام المولی بعض المعاملین...»(2).

واستحسن الشیخ الأعظم(3) هذا الردّ من العلاّمة.

اعتراض الفقیه الیزدی علی ردّ العلاّمة

قال: «الظاهر أنّ نظر القاضی إلی أنّ الإذن فی البیع مع فرض عدم اطلاع المأذون وعدم اطلاع غیر أیضا علیه لا یعدّ إذنا، وهذا بخلاف ما لو اطلع علیه أحد، سواء کان هو المأذون أو غیره، والظاهر یقتضی ما ذکره فإنّ مجرد إنشاء الإذن من عند نفسه من غیر حضور أحد لایکفی فی الخروج عن الفضولیة، إذ لا فرق بینه وبین الرضا الباطنی من دون إنشاء ظاهری، وقد عرفت سابقا عدم کفایته، إذ لابدّ فی الخروج عن الفضولیة من إسناد صدور البیع إلیه ولو بالواسطة وهو لا یتحقّق إلاّ بمظهر خارجی فالإذن وإن کان من الإیقاعات ولیس کالتوکیل ممّا یحتاج إلی القبول إلاّ أنّ صدقه موقوف علی الإظهار الخارجی.

نعم، لو قلنا بالخروج عن الفضولیة بمجرد طیب بالنفس الواقعی کفی الإذن المفروض بالأولی، لکنّک عرفت عدم کفایته إلاّ بالنسبة إلی الحکم التکلیفی من رفع حرمة التصرف فی مال الغیر... فما أورده علیه فی المختلف فی غیر محلّه بل هو مصادرة مخصة...»(4).

ص:73


1- 2 . مختلف الشیعة 5/435.
2- 1 . مختلف الشیعة 5/437.
3- 2 . المکاسب 3/459.
4- 3 . حاشیة المکاسب 2/247 و 246.

أقول: السیّد الیزدی یری الإذن إذنا إذا أُبْرِزَ بِمُظْهِرٍ خارجی واطلع علیه غیره، والإذن النفسانی من دون إبراز وإظهار واطلاع الغیر لا یصحّح المعاملا ت والعقود.

دفاع المحقّق النائینی عن الشیخ الأعظم
اشارة

قال قدس سره معلِّقا علی المسألة الثالثة والصورة الأُولی منها: «لا یخفی أنّ ربط هذه المسألة بالمسألتین السابقتین منوط بما ذکرنا فی الجهة الثالثة من الجهات الراجعة إلی شرائط المجیز، وهو: أنّ عدم جواز تصرّف المجیز حال العقد إمّا واقعیّ وإمّا خیالیّ،

ونقّحنا الواقعیّ فی ضمن مسألتین، فإنّ عدم جواز التصرّف واقعا إمّا لتعلّق حقّ الغیر بالمال، وإمّا لعدم کونه مالکا. فبقی حکم الخیالیّ، وهو علی صورٍ أربع لأنّ اعتقاد عدم جواز التصرّف المنکشف خلافه إمّا لعدم الولایة فانکشف کونه ولیّا، وإمّا لعدم الملک فانکشف کونه مالکا. وعلی کلا التقدیرین: فإمّا یبیع لنفسه أو عن المالک.

فالصورة الاُولی: أن یبیع عن المالک فانکشف کونه ولیّا. والظاهر من المصنّف قدس سره صحّتها من دون توقّفٍ علی إجازة المالک.

ولا یخفی أنّ الولایة علی قسمین: إجباریّة واختیاریّة، والإجباریّة: إمّا بموهبةٍ من اللّه سبحانه کولایة الأب والجدّ، وإمّا بموهبةٍ من المخلوق کولایة العبد المأذون من قبل المولی فی التجارة. والاختیاریّة کولایة القیّم علی الصغار والوکیل.

ثمّ لا یخفی أنّ صحّة هذه المعاملة وفسادها مبنیّان علی أن یکون العلم بالولایة أو الالتفات بالوکالة طریقیّا أو موضوعیّا، فلو قلنا بالطریقیّة فلا إشکال فی الصحّة؛ والأقوی کونه کذلک؛ لأنّ الأحکام تدور مدار موضوعاتها واقعا، وکونها منوطةً بالعلم بها یتوقّف علی دلیل.

نعم، ولایة العبد لیست فی الظهور کولایة سائر الأولیاء، فإنّه بعد ما دلّ الدلیل علی حجره وعدم قدرته علی شی ءٍ یشکّ فی خروجه عن العجز بمجرّد إذن المولی واقعا مع عدم علمه به. وکون إعطاء الإذن من آثار سلطنة المولی لا ینافی فساد بیعه؛ لاعتبار علمه برفع الحجر.

وبالجملة: فکما أنّ العجز فی امتثال الخطابین المتزاحمین لا یتحقّق إلاّ مع العلم

ص:74

بهما، فکذلک القدرة لا تتحقّق للعبد إلاّ بوصول الإذن إلیه، لعدم صدق کونه قادرا مع عدم العلم بها. ولکنّ الأقوی عدم الفرق بین القدرة والوکالة والولایة فی أنّ العلم فی کلٍّ منها طریقیّ.

هذا، مع أنّ الّذی یهوّن الخطب أنّ العبد وإن لم یصر قادرا شرعا بالإذن الواقعیّ إلاّ أنّه لیس کالصبیّ والمجنون مسلوب العبارة، فیکون بیعه لمولاه من أفراد الفضولیّ فیتوقّف علی إجازة المولی. کما أنّه لو قلنا بموضوعیّة العلم فی جمیع أنحاء الولایة فمع عدم العلم بها یدخل البیع فی الفضولیّ، ولکنّ احتمال موضوعیّته فی باب ولایة الأب والجدّ والحاکم الشرعیّ والقیّم ضعیف. فعلی القول ببطلان الفضولیّ یصحّ هذا البیع لخروجه عنه بالإذن الشرعیّ أو المالکیّ، وفی هذه الصورة لا تتوقّف الصحّة علی

الاجازة؛ لأنّ الإذن السابق لا یقصر عنها»(1).

الأعلام الذین یَرَوْنَ اعتبار الإعلام فی الإذن فی المراد من عبارة القاضی

ولعلّ الإعلام هو مراد المحقّق الایروانی حیث قال: «وظنّی أنّ مقصود القاضی من عبارته المنقولة فی المتن لیس ما فهم من ظاهر کلامه وانّما غرضه اعتبار الإذن الظاهر من المولی فی صحة معاملات العبد بمعنی الإنشاء للإذن وعدم الاکتفاء بالرضا الباطنی ویشهد به حکمه [القاضی] بصحة معاملات العبد إذا أمر السیّد قوما أن یبایعوا العبد، والعبد لا یعلم، سواء عامل هؤلاء القوم أم غیرهم بشرط أن یکون المستفاد من أمر القوم بالمعاملة مع العبد عموم الإذن بلا خصوصیة للقوم...»(2).

وقال: «ظاهر هذه العبارة [عبارة القاضی] اعتبار إنشاء الإذن والرخصة وعدم الاکتفاء بالرضا الباطنی لا اعتبار علم البائع... فیکون خلاف القاضی فی أصل مسألة الاکتفاء بالرضا فی الخروج عن الفضولیة وفی ما هو الشرط لا فی مسألتنا هذه وهی وجود الشرط مع عدم العلم به»(3).

ص:75


1- 1 . منیة الطالب 2/129 و 128.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/299 و 300.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/301.

أقول: وصف الایروانی الإذن بالظاهر، والظهور العرفی لا یصدق إلاّ فی مقابل الغیر.

ویری المحقّق الاصفهانی الإذن بأنّه مساوق للإعلام والإظهار حیث یقول: «... الإذن أصله الإعلام ومنه قوله تعالی: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ»(1) أی اعلموا بالحرب، وشاع فی إظهار الرخصة وإظهار الرضا، ومن الواضح أنّ قصد الاظهار جدّا لا یتمشّی من العاقل إلاّ إذا کان بحضرته من یظهره له، وإلاّ فلا یعقل الإظهار والإراءة...»(2).

ویری قبلهما التستری(3) بأنّ نظر القاضی إلی أنّ إظهار الرضا مع عدم إطلاع الغیر لا یعدّ إذنا عرفا.

وقبلهم قال جدی الشیخ جعفر ذیل الصورة الرابعة: «... وفی تعمیم الحکم حتّی

بالنسبة إلی الوکلاء والاولیاء بعد الإعلام بولایتهم ووکالتهم إشکال»(4).

وکذلک یری الفقیه الشریعتمداری توجّه الإذن بل وصوله إلی المأذون حتّی یَصِحَّ إسناد الفعل إلی الآذن وقال: «وبالجملة، فی باب إسناد الفعل إلی الآذن والمجیز الذی کان هو المنشأُ للأثر وکان هو المنشأ لخروج العقد عن الفضولیة، یعتبر فیه أن یکون المستند فعلاً تسبیبا للإذن ولا یتحقّق هذا إلاّ أن یتوجَّه علی المأذون إیجاد الفعل ویکون مستندا إلیه.

بناءً علیه: فرضهم أنّه إذا أذن الآذن والمجیز مع أنّ الأجیر لم یتوجّه إلی الإذن وعمل الفعل یکون صحیحا لأنّه تحقّق الفعل والإذن، لایصح لأنّ هذا الفعل لم یکن مربوطا للآذن ولم یکن الفعل مستندا إلی الموکّل، هذا واضح فی باب الوکالة والإذن لا یخفی حکمه.

ص:76


1- 4 . سورة البقرة /279.
2- 5 . حاشیة المکاسب 2/241.
3- 6 . مقابس الأنوار /136.
4- 1 . شرح القواعد 2/98.

وأمّا فی مورد الولایة: الإجباریّةِ مِن قبیلِ ولایةِ الأبِ والجدِّ فلمْ تکنِ المسألةُ واضحةً کوضوحِ بابِ الوکالةِ والإذنِ.

لکن یمکنُ أنْ یقالَ: انّ ولایةَ الأبِ أوْ الجدِّ والوصیِّ أو الحاکمِ أو عدولِ المؤمنینَ، هِیَ(1) بمثابةِ ولایةِ الوکیلِ بإذنٍ مِن المالکِ ویعملُ الأبُ والجدُّ والوصیُّ والحاکمُ أو عدولُ المؤمنینَ، العملَ الّذِی یعملُ الوکیلُ باذنٍ منَ المالکِ.

غایةُ الامرِ، انَّهُ باذنٍ منَ الشّارعِ ولیسَ فرقٌ بینهُما فی ماهیَّةِ العملِ بلْ فی نحوِ الولایةِ وتلکَ الولایةُ، مبذولةٌ منَ المالکِ وتلکَ، مبذولةٌ منَ الشّارعِ ولکنْ لمْ یکنْ فرقٌ بینهُما فی نحوِ العملِ.

بعبارةٍ أخری: ولایةُ الولیِّ من قبلِ الشّارعِ فی موردِ الصّغارِ.

معناهُ ولایةُ العملِ تکونُ مستندا إلی ولایتهِ وسمةِ القیمومیّةِ ولیسَ معنِی الولایةِ، جوازَ بیعِ مالِ الصّغیر لنفسِهِ أو بیعِ المالِ بعنوانِ الاستقلالِ.

بالجملة: لا فرقَ فی ماهیّةِ العملِ ونحوِ الولایةِ استِنادا إلی الصّغار بینَ الولایةِ الإجباریَّةِ وبینَ الولایةِ الاختیاریّةِ.

وانّما الفرقُ بینهما فی مُعطی الولایةِ حیثُ أنّ فی الولایةِ الإجباریّةِ، یکونُ مُعطِی الولایةِ، الشّارعُ وفی الولایةِ الاختیاریّةِ، هوَ المالکُ.

فظهرَ مما ذکرناه أنَّ فرضَ کونِ المسألةِ واضحا لا اشکالَ فیهِ، لا یخلُو عنْ اشکالٍ وشبهةٍ قویَّةٍ ویظهر ذلک من مراجعةِ کلماتِ الفقهاءِ فی بابِ الوکالةِ وفروعَها(2)»(3).

وتبعهم السیّد الخمینی وقال: «وأمّا ما عن القاضی فی إذن السیّد لعبده فی التجارة فالظاهر هو عدم خلافه فی هذه المسألة، لأنّ الظاهر منه أنّ الإذن إذا لم یطّلع علیه أحد - لا العبد ولا غیره - لیس إذنا فعدم صحته علی ذلک، لأجل عدم کونه مأذونا نافذ التصرف

ص:77


1- 2 . وفی المصدر: کان.
2- 1 . وفی المصدر: وفروعاتها.
3- 2 . تحقیق و تقریرات فی باب البیع والخیارات 3/122 و 121.

وهو غیر مسألتنا»(1).

وتابعهم شیخنا الاستاذ رحمه الله وقال: «قد ذکرنا مرارا أنّ کلاًّ من الإذن والإجازة من الأُمور الإنشائیة ویکون الإبراز مقوّما لهما، ومجرد إظهار المالک من عند نفسه رضاه بالمعاملة التی تصدر عن الغیر أو صدرت عنه لا یکون إذنا أو إجازة، بل لابدّ من کون الإظهار بحیث یصل إلی الغیر سواء کان ذلک الغیر هو العاقد أو غیره.

وبتعبیر آخر: لایکون فی الحقیقة إظهار فیما إذا کان الإبراز بحیث لایصل إلی الغیر ولایبعد أن یکون المحکی عن القاضی فی المقام یرجع إلی ما ذکر»(2).

أقول: جماعة من الفقهاء نحو: الشیخ اسداللّه التستری والمحقّقین الیزدی والإیروانی والأصفهانی و الشریعتمداری والخمینی والتبریزی یحملون العبارة المنقولة عن القاضی إلی اعتبار أن یکون الإذن فی مقابل الغیر وإلاّ لا یصدق علیه الإذن.

وبعبارة أُخری: اعتبار الإظهار والإرائة والإعلام فی الإذن، واختاره بعضهم نحو: المحقّقین الیزدی والأصفهانی والشریعتمداری والتبریزی رحمهم الله .

مخالفة المحقّق السیّد الخوئی مع الأعلام فی الإعلام

ولایری وجها لما أفاده [القاضی] من اعتبار الإعلام فی الإذن(3) وقال فی وجهه: «فإنّا وإن لم نکتف فی الاستناد وخروج العقد عن الفضولیة بمجرد الرضا الباطنی إلاّ أنّه یکفی فیه الرضا المبرز وإن لم یصل إلی المأذون ولا إلی غیره فإذا فرضنا أنّ المولی کتب إلی العبد یأذنه فی التجارة وهو باع ماله قبل وصول الکتاب إلیه صح بلا إشکال، لأنّ

مجرد الکتابة مبرز للرضا خصوصا فی بیع العبد مال نفسه الذی هو محل الکلام، فإنّه کما ذکرنا لا قصور فیه إلاّ من ناحیة رضا المالک المعتبر فیه شرعا فلا حاجة فیه إلی الإبراز أصلاً»(4).

ص:78


1- 3 . کتاب البیع 2/386.
2- 4 . إرشاد الطالب 4/60.
3- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/37.
4- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/443.
تبعیة صاحب العقد النضید للسیّد الخوئی وردّه علی المحقّق الاصفهانی

قال: «... إنّ معرفة حقیقة الرضا متوقفة علی استقصاء الاستعمالات العرفیة، وغایة ما یمکن أن نقوله من خلال الاستقصاء المذکور، هو أنّ حقیقة الإذن وأضرابه کالإجازة کونها معدودة من الاُمور الواقعیّة - سواء اعتبرناه من الاُمور الإنشائیّة أو أنّه مجرّد مبرز لأمر نفسانی - التی قد تصل إلی الغیر وقد لا تصل، والشاهد له صحة إطلاق القول: «بأنّنی کنتُ مأذونا لکنّی أجهل ذلک» بلا مسامحة وبالتالی فلو اعتبرنا الوصول مقوّما ومحقِّقا للإذن لعدّ إطلاق القول المذکور مجازا. وعلیه فإنّ حقیقة الإذن غیر متقومة بالوصول إلی الغیر ومعرفته بمأذونیّة المتعامل، بل یکفی الصدور فی صحّة المعاملة الصادرة من المأذون وإن لم یعلن عنه الآذن، أو أعلنه لکن لم یتطرّق ذلک إلی أسماع الآخرین ومنهم البائع، کما لو کتب رسالة إلی عمیل له فی مدینة اُخری یخبره أنّه مأذونٌ من قبله فی القیام بمعاملة معیّنة، فالعمیل یعدّ ماذونا وتصحّ معاملاته من حین کتابة الرسالة لا من حین وصولها إلیه»(1).

المختار فی حکم الصورة الاُولی

لو باع عن المالک فانکشف کون البائع ولیّا، البیع یکون تاما لازما ولا یحتاج إلی الإجازة المستأنفة کما علیه الشیخ الأعظم(2).

وأمّا العبارة المحکیة عن القاضی ابن البراج فلا تدلّ إلاّ علی اعتبار الإعلام فی الإذن کما استظهره جمع من الأعلام قدس سرهم منه رحمه الله ، وهو کلام متین لابدّ من اختیاره لعدم صدق الإذن إلاّ فی مقابل الغیر ولو کان ذلک الغیر غیر البائع.

وأمّا النقض بکتابة الرسالة(3) فغیر واردٍ، لأنّ الکتابة وإیصالها إلی المأذون أبلغ إعلام، ونحن لا نعتبر وصول الإذن حتّی ینتقض علینا بمثل هذا النقض بل نعتبر حضور

واحد فی حین صدور الإذن من الآذن حتّی بلغه ذلک الغیر أو نفس الآذن إلی المأذون.

ص:79


1- 2 . العقد النضید 3/453.
2- 3 . المکاسب 3/459.
3- 4 . کما علیه المحقّق السیّد الخوئی فی محاضراته 2/443 و تنقیحه 2/37 کما مرّ.

وصحة(1) إطلاق جملة: «إنّنی کنتُ مأذونا لکنّی أجهل ذلک» وعدم مجازیتها تدلّ علی عدم اعتبار الوصول لا الإعلام وبنیهما برزخ لا یخفی علی مثل الاُستاذ المحقّق - مد ظله - المقرر له. والحمد للّه کما هو أهله.

الصورة الثانیة: لو باع لنفسه فانکشف کونه ولیّا
اشارة

ذهب الشیخ الأعظم(2) إلی صحتها وإلی «أنّ قصد بیع مال الغیر لنفسه لا ینفع ولا یقدح»(3) کما مرّ منه(4) قدس سره .

ثمّ هل یتوقّف نفوذ العقد علی إجازة العاقد الولی للمولّی علیه؟ قال الشیخ الأعظم: «علیه وجه لأنّ قصد کونه لنفسه یوجب عدم وقوع البیع علی الوجه المأذون فتأمّل»(5).

تعلیله رحمه الله یدل علی توجیه اعتبار الإجازة بإلغاء کون العقد للبائع العاقد الولی حتّی یصیر بهذا الإلغاء عقدا للمولّی علیه. ثمّ أمر بالتأمل ولعلّه إشارة إلی ما مرّ منه من لغویة قصد کون العقد للبائع شرعا وعدم نفعه وقدحه، فالأمر موکول إلی وجه المصلحة فی هذا البیع للمولّی علیه فإن کانت موجودة فلا یحتاج إلی الإجازة وإلاّ لم یفد ألف إجازة.

أو لعلّه اشارة إلی أنّ قصد البیع لنفسه إمّا یقیّد العقد أم لا؟ فعلی الأوّل لا مجال لتصحیح البیع حتّی بالإجازة لأنّه یقیّد بنفسه لا بالمولّی علیه.

وأمّا علی الثانی فیتم العقد من دون الإجازة لأنّها تصحح إسناد العقد إلی المالک ومع صدوره من الولّی فلا نحتاج إلیها. فلذا الاحتمال المذکور فی کلامه قدس سره الذی عقّبه

ص:80


1- 1 . کما علیه الاستاذ المحقّق - مد ظله - فی العقد النضید 3/453.
2- 2 . المکاسب 3/460.
3- 3 . المکاسب 3/460.
4- 4 . المکاسب 3/(383-377).
5- 5 . المکاسب 3/460.

بالأمر، بالتَّأَمُّلِ ممّا لا وجه له کما علیه المحقّق السیّد الخوئی(1) رحمه الله .

واختار المحقّق الخراسانی تقیید العقد بقصد البیع لنفسه [القسم الأوّل] وحکم بالبطلان خلافا للشیخ الأعظم رحمه الله ثمّ أمر بالتأمل فی آخر کلامه ولعلّه إشارة إلی ما ذکرنا، قال الخراسانی: «بل الظاهر بطلانه ولو أجاز، لمخالفة الإجازة للعقد واستلزام صحته لعدم تبعیته للقصد حیث قصد لنفسه ووقع بإجازته لغیره، فتأمل»(2).

اشکال المحقّق الخراسانی علی الصورتین
اشارة

للمحقّق الخراسانی قدس سره تعلیقة علی الصورة الاُولی تجری فی الثانیة أیضا وهی: «نعم، یشکل فیما کان جواز تصرّفه من جهة ولایته کالأب والجدّ مثلاً، بأنّ منصرف أدلة نفوذ تصرفات الولی غیر ما إذا کان تصرفه کذلک، أی باعتقاد أنّه غیر ولیّ وغیر جائز التصرف. فتأمل»(3).

أقول: وأنت تری عَدَمَ تمامیة هذا الانصراف لأنّ الولایة أمرٌ اعتباریٌّ مجعولٌ للولی سواءً عَلِمَها أم جهلها، ولا مدخلیّة للعلم والجهل فی استقرار الولایة.(4)

نقد المؤسس الحائری علی استاذه الخراسانی
اشارة

«فنقول: الولایة إمّا نفس جواز التصرّف أو مساوق معه، ولا یمکن أن یؤخذ فی موضوعه العلم بنفسه، فإنّ الشیء لا یمکن أن یتوقّف تحقّقه ووجوده علی العلم به، وهذا واضح. وهکذا الحال فی الوکالة، فإنّه عبارة عن القیام مقام المالک فی نفوذ التصرّف ومالکیّة الأمر. وهذ المعنی لا یمکن أن یتوقّف علی العلم به.

وعلی هذا فأدلّة إثبات الولایة للأب والجد ونفوذ تصرّفات الوکیل بعد کون مفادها جعل نفس الولایة ومالکیّة الأمر والمختاریّة فی ذات الولی والوکیل، لا یعقل إنصرافها إلی حال العلم بالولایة والوکالة کما ادّعاه بعض الأساطین فی حاشیته علی هذا المقام من

ص:81


1- 6 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/38.
2- 1 . حاشیة الخراسانی علی المکاسب /73.
3- 2 . حاشیته علی المکاسب /73.
4- 3 . کما فی العقد النضید 3/456.

مکاسب شیخنا المرتضی.

نعم لو فرضنا وجود الدلیل علی أنّ تصرّف الولی والوکیل فی حال الشک فی الولایة والوکالة أو العلم بالخلاف غیر نافذ، لکُنّا ملجئین إلی حمل أدلّة إثبات الولایة الواقعیّة والوکالة کذلک علی مرتبة شأنیّتهما، فیقال: إنّ العلم بتلک المرتبة مولّد للمرتبة الفعلیّة، ولکن بعد عدم هذا الدلیل وانحصار الأمر فی أدلّة واقع الوکالة والولایة لا یمکن دعوی انصرافها مع ظهورها فی المعنی الذی هو عین جواز التصرّف أو یساوقه إلی حالة العلم. ودعوی ظهورها من الأوّل فی الثانیة خلاف الواقع.

وأمّا الفرق بین هذین العنوانین وعنوان المالکیّة حیث نقول: بأنّ نفوذ تصرّف المالک موقوف علی علمه بعنوان مالکیّته هو أنّ المالکیّة أمر وراء السلطنة ونفوذ التصرّف، ولهذا المحجور مالک مع عدم نفوذ تصرّفه، فیمکن أخذ العلم بهذا العنوان فی موضوع الأثر المترتّب علیه، فیقال: المالک إذا علم بأنّه مالک فطیب نفسه مؤثّر، ولکن لا یمکن أن یقال: المختار إذا علم بأنّه مختار یکون مختارا کما لایمکن فی عنوان المالک أیضا أن یقال: إنّ المالک إن علم بأنّ طیب نفسه مؤثّر فطیب نفسه مؤثّر.

وعلی هذا فلابدّ أن یقال فی الفرع المذکور - أعنی: بیع الولی والوکیل مع علمهما بأنّ هذا المال مال لشخصهما فی الواقع ولیّا أمره، غایة الامر لا یعلمان بالولایة والوکالة - أنّ البیع صحیح نافذ بلا حاجة إلی إجازة منهما بعد العلم»(1).

اعتراض علی نقد المؤسس الحائری

یرد علیه: أوّلاً: الولایة هنا هی السلطنة للولیّ علی التصرف فی أموال المولّی علیه. والمحقّق الخراسانی لا یقیدها بعلم الولی بکونه ولیّا حتّی یرد علیه ما أورده المؤسس الحائری من النقود.

بل الخراسانی یری إنصراف أدلة الولایة عمّن یعتقد بأنّه لا ولایة له کما یظهر ذلک بالتأمل فی کلامه: «... اعتقاد أنّه غیر ولیّ وغیر جائز التصرف».

ص:82


1- 1 . کتاب البیع 1/382 و 381 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی قدس سره .

ولکن المؤسس الحائری حمل کلامه بانصراف أدلتها إلی مَنْ عَلِمَ بثبوت الولایة فی حقّه، ثمّ اسْتَشْکَلَ علیه بالنقود.

وأنت تری بأنّ منصرَف الأدلة بینهما مُتَعِدّدةٌ فالنقود لا تجری فی حقّ الخراسانی.

وثانیا: قال المؤسس الحائری رحمه الله : «الولایة إمّا نفس جواز التصرف أو مساوق معه»، ولکن الولایة لیست جواز التصرف ولم تکن مساوق معه، بل هی مَنْشَأٌ لجواز التصرف، لأنّها من الحیثیّات الاعتباریة التی یترتّب علیها جواز التصرف تکلیفا أو وضعا فی مال المولّی علیه، وبالتالی یعد جواز التصرف من أحکام الولایة لا نفسها أو ما یساوقها.(1)

الصورة الثالثة: لو باع عن المالک فانکشف کونه مالکا
اشارة

قال المحقّق فی هبة الشرائع: «مسائل: الاُولی: لو وهب فأقبض ثمّ باع من آخر، فإن کان الموهوب له رحما لم یصحّ البیع، وکذا إن کان أجنبیّا وقد عُوِّضَ، أمّا لو کان

أجنبیّا ولم یُعَوِّض قیل: یبطل لأنّه باع ما لایملک، وقیل: یصحّ لأنّ له الرجوع، والأوّل: الأشبه. ولو کانت الهبة فاسدة صحّ البیع علی الأقوال. وکذا القول فیمن باع مال مورِّثه وهو یعتقد بقاءَهُ وکذا إذا أوصی برقبةٍ مُعْتَقِهِ وظهر فساد عتقه»(2).

وقال العلاّمة فی متاجر القواعد: «ولو باع مال أبیه بظن الحیاة وأنّه فضولیٌّ فبان میِّتا - حینئذ - وأنّ المبیع ملکه فالوجه الصحة»(3).

وقال فی عطایا الإرشاد: «ولو باع [الواهب] بعد الإقباض للأجنبی صحّ علی رأی ولو کانت فاسدة صحّ إجماعا، وکذا لو باع مال مورِّثه معتقدا بقاءه...»(4).

وقال فی هبة القواعد: «وإذا باع الواهب بعد الإقباض بطل مع لزوم الهبة، وصحّ لامعه علی رأی، ولو کانت فاسدة صحّ الإجماعا. ولو باع مال مورِّثه معتقدا بقاءه أو

ص:83


1- 2 . راجع العقد النضید 3/458 و 457.
2- 1 . الشرائع 2/181.
3- 2 . قواعد الأحکام 2/19.
4- 3 . إرشاد الأذهان 1/450.

أوصی بمَنْ اعتقه وظهر بطلان عتقه فکذلک»(1). [أی صحّ إجماعا].

أقول: ظهر من هبتی الإرشاد والقواعد أنّ القول بالصحة إجماعیٌّ.

وقال فی تذکرة الفقهاء: «لو باع بظن الحیاة وأنّه فضولی فبان موته وأنّه مالک صحّ البیع - وهو أصحّ قولی الشافعی - لأنّه بیع صدر من أهله وفی محلّه.

وأظعفهما: البطلان، لأنّه کالغائب عن مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبیع لغیره.

وله آخر: أنّه موقوف علی تیقّن الحیاة أو الموت»(2).

وقال فی النهایة: «ولو باع مال أبیه بظن أنّه حیٌّ وهو فضولی، فبان أنّه کان میِّتا حینئذ - وأنّ المبیع ملک للعاقد، فالأقوی الصحة لصدوره من المالک... ویحتمل البطلان لأنّه وإن کان العقد منجزا فی الصورة إلاّ أنّه فی المعنی معلَّق وتقدیره إن مات مورِّثی فقد بعتک ولأنّه کالعابث عند مباشرة العقد لاعتقاده أنَّ المبیع لغیره»(3).

وقال ولده فخرالمحقّقین فی توضیح کلام والده فی متاجر القواعد: «المراد بالصحة هنا اللزوم، ووجه الصحة: أنّه تصرَّفٌ من أهله فی محلِّه.

ویحتمل: وقوفه علی إجازته لأنّه لم یقصد البیع اللازم بل الموقوف علی إجازة

متجددة من الأب أو من یقوم مقامه، ولما اعتبر القصد فی أصل البیع ففی أحواله أولی.

ویحتمل: البطلان لأنّه إنّما قصد نقل الملک عن الأب لا عنه، ولأنّه وإن کان منجزا فی الصورة فهو فی المعنی معلَّقٌ، والتقدیر إن مات مورِّثی فقد بعتک ولأنّه کالعابث عند مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبیع لغیره»(4).

وقال فی المفتاح: «قلت: یرید بالأحوال اللزوم وعدمه»(5).

ص:84


1- 4 . قواعد الأحکام 2/409.
2- 5 . تذکرة الفقهاء 10/17.
3- 6 . نهایة الإحکام 2/476.
4- 1 . إیضاح الفوائد 1/420.
5- 2 . مفتاح الکرامة 12/628.

ونقل الشهید(1) عن ابن المتوِّج توقّفه علی الإجازة لأنّ نظر البائع فیما یتعلَّق به مغایر لما یتعلَّق بغیره.

وتبعه الشهید(2) فی ذکر احتمال البطلان ومن أنّه لو قیل بالبطلان أمکن.

وقال الشهید: «المراد بالصحة اللزوم من غیر توقّف علی أمر آخر»(3).

وقال المحقّق الثانی معلَّقا علی قول العلاّمة فی القواعد: «قیل: قوله: «وأنّه فضولی» مستغنی عنه. قلنا: بل أراد به الإشعار بمنشأ الوجه الضعیف، أعنی: أنّ العقود تابعة للقصود.

قوله: «فالوجه الصحة»، أراد الصحة من غیر توقف علی شی ء آخر، أعنی: اللزوم، وینبغی أن یکون ذلک موقوفا علی إجازته وهو الأصح، لأنّه لم یقصد إلی البیع الناقل للملک الآن بل مع إجازة المالک، إلاّ أن یقال: قصده إلی أصل البیع کاف ومثله: مالو باعه فضولیا ثمَّ تبیّن شراء وکیله إیّاه»(4).

وقال الشهید الثانی فی ذیل قول المحقّق فی الشرائع: «بمعنی أنّه یحکم بصحة البیع علی تقدیر ظهور موت المورِّث حال البیع، وأنّ البائع باع ما هو ملکه لحصول الشرط المعتبر فی اللزوم وهو صدور البیع عن مالکٍ لأمره.

ویشکل بما مرّ من عدم قصده إلی البیع اللازم، بل إنّما قصد بیع مال غیره وأقدم علی عقد الفضولی فینبغی أن یعتبر رضاه به بعد ظهور الحال، خصوصا مع ادعائه عدم القصد إلی البیع علی تقدیر کونه ملکه. ولعلّ هذا أقوی لدلالة القرائن علیه، فلا أقلّ من

جعله احتمالاً مساویّا للقصد إلی البیع مطلقا فلا یبقی وثوق بالقصد المعتبر فی لزوم البیع...»(5).

ص:85


1- 3 . کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/628.
2- 4 . القواعد والفوائد 2/238، ذیل قاعدة /238.
3- 5 . الحاشیة النجاریة /222، ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/627.
4- 6 . جامع المقاصد 4/76.
5- 1 . المسالک 6/51.
الأقوال
اشارة

أقول: فالأقوال إلی هنا تکونُ ثلاثةً.

الأوّل: الصحة مطلقا کما علیه المحقّق فی الشرائع والعلاّمة فی متاجر القواعد

الأوّل: الصحة مطلقا کما علیه المحقّق فی الشرائع والعلاّمة فی متاجر القواعد ویلوح منه فی عطایا الإرشاد وهبة القواعد أنّها محلّ إجماع، وفی التذکرة أنّها أصح قولی الشافعی ورأها الأقوی فی النهایة.

الثانی: الصحة مع صدور الإجازة المتأخرة من المالک العاقد

الثانی: الصحة مع صدور الإجازة المتأخرة من المالک العاقد کما هو أَحَدُ محتملات فخرالمحقّقین من دون اختیار ومذکور فی کلام والده فی التذکرة والنهایة وهو مختار ابن المتوِّج کما نقل عنه الشهید، واختیار المحقّق و الشهید الثانیین ویراه الشیخ الأعظم(1) الأقوی.

الثالث: البطلان

الثالث: البطلان کما هو أضعف قولی الشافعی وَأَحَدُ محتملات فخرالمحقّقین وممکن فی کلام الشهید.

وهنا قول رابع لصاحب الجواهر
اشارة

وهنا قول رابع لصاحب الجواهر قال: «... والمتّجه فیه: الوقوف علی الإجازة - کما سمعته من الکرکی - أو إثبات الخیار، إلاّ أنّی لم أجد مَنْ احتمله»(2).

أقول: إنّی وجدتُ مَنْ احتمله واختاره وهو جدنا الشیخ محمّدتقی قدس سره صاحب هدایة المسترشدین حیث یقول: «أنّه لو باع شیئا علی وجه الفضولی ثمّ تبیّن أنّه ملکه کما لو باع مال مورِّثه بظنِّ أنّه حیٌّ وأنّه فضول ثمّ تبیّن موته وانتقال المال إلیه حین العقد فهل یحکم بصحته ولزومه لوقوعه من أهله فی محلّه.

أو یحکم بثبوت الخیار له لعدم إقدامه علی التملیک النافذ بل المتزلزل الموقوف علی إجازة المالک، فالحکم بالتزامه به ضرر علیه.

أو أنّه بمنزلة الفضولی الواقع من غیر المالک فیتوقّف علی إجازته، فإن ردّه کشف عن فساده من أصله وإن أجاز صحّ لإقدامه علیه کذلک.

أو أنّه باطل من أصله لعدم قصده وقوع البیع عن نفسه فلا یقع البیع عنه قهرا.

ص:86


1- 2 . المکاسب 3/462.
2- 3 . الجواهر 23/482 (22/300).

وجوهٌ کأنّ أظهرها الثانی وأضعفها الوجهان الأخیران»(1).

وهکذا ذهب إلی هذا القول عدیل(2) الجد - الشیخ اسداللّه التستری رحمه الله حیث یقول: «وهل جواز فسخه للعقد من باب الخیار أو لتوقّفه علی الإجازة؟ وجهان. والأوّل لا یخلومن قوة لأنّه مقتضی قاعدة نفی الضرر ولأنّه بناءً علی صحة العقد لو سلّم المال إلی المشتری وسلّطه علیه، ثمّ انکشف کونه ملکه جاز للمشتری حینئذ أن یتصرف فیه ولا یضمن شیئا أصلا...»(3).

کما ذکر هذا الأخیر الشیخ الأعظم فی مکاسبه(4).

مستند الأقوال
الأوّل: الصحة

ومستندها وجوه:

أ: الإجماع المُدَّعی فی هِبَتَیْ إرشاد الأذهان وقواعد الأحکام لِخِرِّیْتِ صِناعَةِ الفقه وهو العلاّمة الحلّی یدل علی الصحة.

وفیه: أوّلاً: قد عرفت الخلاف فی المسألة إلی أربعة أقوال.

وثانیا: علی فرض وجوده یکون مدرکیّا لابدّ من ملاحظة الأدلة.

ب: ما صدر من المالک العاقد بیع صدر من أَهْلِهِ - وهو المالک - ووقع فی محلّه - وهو ملکه - فیکون تاما صحیحا لازما من دون أن یحتاج إلی الإجازة المستأنفة.

ج: المعاملة الحقیقیة إنّما تتقوّم بالمبادلة بین المالین وأمّا قصد وقوعها لنفسه أو للغیر فهو أمر زائد عن حقیقتها، والبائع بما أنّه قصد المبادلة الحقیقیة للمالکین فقد نوی المعاوضة الحقیقیة، إلاّ أنّه لجهله أو لنسیانه أرجعها إلی الغیر بتخیل أنّه المالک. وهذا الخیال کادّعاء أنّه مالک فی الصورة المتقدمة أمر زائد غیر مقوّم لحقیقة المبادلة فیبقی

ص:87


1- 4 . تبصرة الفقهاء 3/355 و 356، ثامنها.
2- 1 . وهو فی اللّغَةِ سَلِفُهُ وسِلْفُهُ أیْ زَوْجُ أخْتِ امْرَأته.
3- 2 . مقابس الأنوار /137.
4- 3 . المکاسب 3/465.

لغوا»(1).

د: حال البائع العاقد لا یخلو من وجهین: الأوّل: أنّه قصد نقل المال، فقد تحقّق منه البیع الصحیح لتمامیّة أرکانه وشروطه ولا یتوقف صحته علی الإجازة.

الثانی: أنّه لم یقصد نقل المال فالمعاملة باطلة من أساسها ولا تصححها الإجازة.

والوجه فی ذلک: لأنّ قصد انتقال المالین هو أساس المعاملة الحقیقیة فإذا تحقّق حکم بصحة العقد وإلاّ فلا.

ه: الإجازة کما مرّ فی بیع الفضولی تصحّ استناد البیع إلی المالک فقط، ومع صدور البیع من المالک هذا الاستناد حاصل فلا نحتاج إلی الإجازة المستأنفة لأجل استناد البیع إلیه.

الثانی: الصحة مع الإجازة

أ: واستدلّ له فخرالمحقّقین وتبعه المحقّق والشهید الثانیین - کما مرّ منهم - بأنّ البائع - فی مسألتنا - لم یقصد البیع اللازم، بل قصد البیع الموقوف علی الإجازة المستأنفة من مورِّثه - المالک بظنّه - أو من یقوم مقامه، وحیث أنّ البیع وغیره من العقود تعدّ من الاُمور القصدیة ولا یتحقّق بدونه فکذلک فی لزومه أو توقّفه علی الإجازة.

وفیه: قد مرّ فی أدلة الصحة أنّ هذا القصد حتّی لو صدر من العاقد لا اعتبار به والوجه فی ذلک أنّ المعاوضة الحقیقیة تتحقّق بین مبادلة المالین وهذا القصد یکون ملغی فی العرف والشرع والعقل.

ب: یمکن أن یقرر هذا الاستدلال (أ) بوجه آخر وهو: إنَّ البائع لم یقصد الملک من حین المعاملة بل من زمان إجازة المالک، فلو لم یجزها بعد الانکشاف فلا یحصل الملک أبدا.

إنْ قُلْتَ: هذا التقدیر ینافی مذهب المحقّق الثانی فی أنّ الإجازة کاشفة عن الملک من الابتداء، فلو کان قصد البائع هو الملک بعد الإجازة فلا یتحقّق هناک ملک من الابتداء

ص:88


1- 4 . کما یظهر من المحقّق السیّد الخوئی فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/38.

لتکشف الإجازة عنه.

قلت: یمکن أن یکون مراد المحقّق الثانی أنّ الملکیة إنّما تحصل من حین المعاملة فیما إذا استندت المعاملة إلی المالک بالإجازة، فلها دخل فی تحقّق الملک من الابتداء ولولاها لم یتحقّق الملک أصلاً.

وفیه: هذا الدلیل أخص من المدّعی لأنّه لایجری فیما إذا باع شیئا باعتقاد أنّه ملک الغیر وأنّه وکیله فی بیعه من قبل مالکه ثمّ ظهر أنّه ملکه، فإنّه فی هذه الصورة قصد النقل والملک من حین المعاملة لا معلَّقا علی إجازة المالک لاعتقاد أنّه وکیل هذا أوّلاً.

وثانیا: کون البیع متوقّفا علی الإجازة أو غیر متوقّف علیها لیس دخیلاً فی حقیقة

البیع لیعتبر قصده أو یقصد قصد خلافه، وإنّما هو من الاُمور المعتبرة فی صحة البیع إذا وقع البیع علی مال غیره وأمّا إذا وقع البیع علی مال نفس العاقد فلا یعتبر فی صحته إجازته ولعلّ هذا مراد المحقّق الثانی بقوله: «إلاّ أنْ یقال: إنّ قصده إلی أصل البیع کاف(1)»(2).

ج: المُقْدِمُ علی بیع مال غیره یستحیل له أن یتمشّی منه قصد المعاوضة الحقیقیة المنجّزة إلاّ إذا أعتقد أنّه المالک للمال، وحیث أنّه یری أنّ الغیر (مورِّثه) هو المالک فلا یتمشی منه قصد الانتقال المنجّز، وبالتالی هو قَصَدَ الانتقال مع الإجازة المستأنفة فلا یمکن تصحیح البیع إلاّ بها.

وفیه: الاستحالة تکون علی عکس ما ذُکر، لأنّ من المستحیل أن یقصد أمرا خارجا عن اختیاره وإرادته، لأنّ القصد یتعلّق بما یکون تحت قدرته واختیاره وحیث إجازة المالک تکون خارجةً عن قدرة العاقد واختیاره - لأنّ کلَّ شخص یقدر علی فعل نفسه لا فعل غیره - «لا أملک إلاّ نفسی»(3) فمن المستحیل أن یتعلّق بها - أی الإجازة المستأنفة - قصد العاقد. فهو لایتمکن إلاّ من قصد مطلق المعاوضة الحقیقیة لا المعلَّقة

ص:89


1- 1 . جامع المقاصد 4/76.
2- 2 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 2/40 و 41.
3- 3 . سورة المائدة /25.

علی الإجازة المستأنفة.(1)

د: العمومات والإطلاقات تدل علی صحة المعاملات بانضمام قوله صلی الله علیه و آله : لا یحل مال امرئ مسلم إلاّ بطیب نفسه(2) منصرفة إلی بیع کلّ واحد واحد من المالکین بعنوان أنّه مالک، وهذ المعنی مفقود فی المقام لأنّه وإن باع مال نفسه واقعا إلاّ أنّه باعه بعنوان ملک الغیر، فلم تصدر المعاملة منه بعنوان أنّه مالک فلا تصحّ المعاملة منه ولاتستند إلیه بهذا العنوان، بل تحتاج فی استنادها إلیه وصدورها منه بعنوان أنّه مالک إلی الإجازة بعد الالتفات إلی أنّه مالک.(3)

وبعبارة أُخری: لا یکفی فی صحة المعاملات مجرد استناد المعاملة إلی صاحبها ومن یلی أمرها، بل لابدّ من انضمام طیب نفسه وَرِضاهُ بانتقال ماله إلی الغیر بدلالة

حدیث طیب النفس وهو مفقود فی العقد الصادر من الوارث - مثلاً - فی المقام وبالنتیجة العقد یتوقّف علی صدور إجازته - الدلالة علی رضاه - حتّی یصحّ.(4)

وبعبارة ثالثة: «اعتقاد العاقد أنّ المال للغیر وقصده البیع عن المالک بالإضافة إلی البیع لا تکون جهة تقییدیّة لما ذکرنا من أنّ قصد کونه لنفسه أو لغیره خارج عن حقیقة إنشاء البیع، وأمّا بالإضافة إلی رضاه بانتقال المال إلی الطرف بإزاء الثمن جهة تقییدیّه حیث لم یرض بانتقال المال منه إلی الآخر بإزاء الثمن المزبور، بل إنّما رضی بانتقاله إلی الآخر من ناحیة الغیر.

نعم، لو أجاز العاقد البیع بعد التفاته إلی کونه مالک المال یتمّ البیع ویصیر تراضیا معاملیّا له»(5).

وفیه: الاستناد إلی المالک العاقد موجود کما اعترف به المستدِّل فی التقریر الثانی،

ص:90


1- 4 . راجع العقد النضید 3/461.
2- 5 . وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.
3- 6 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 2/39.
4- 1 . راجع العقد النضید 4/462.
5- 2 . إرشاد الطالب 4/67.

وأمّا قصده إلی المعاملة لمورِّثه فهو مُلْغی لأنّ حقیقة المبادلة هی مبادلة المالین ولا عبرة بِالْمالِکَیْنِ، وأمّا اعتبار طیب النفس والرِّضا فهو مضافا إلی ما هو معتبر فی الاستناد محلّ تأمل بل منع، والشاهد علیه بیع المضطر، ولذا قال الجدّ الشیخ جعفر قدس سره : «... وکذا [مردودٌ] القول بتوقفه علی الإجازة، إذ لا حاجة بها بعد المصادفة»(1).

وبالجملة: إجازة المالک العاقد بیع نفسه عجیبٌ فی الغایة وبعیدٌ إلی النهایة.

الثالث: البطلان

وَمُسْتَنَدُهُ وجوهٌ:

أ: استدلّ العلاّمة للبطلان بقوله: «لأنّه کالغائب عن مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبیع لغیره»(2).

وقرّره ولده الفخر بقوله: «لأنّه کالعابث عند مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبیع لغیره»(3).

ونحوه فی نهایة(4) والده.

ومرادهما: أنّ البائع مع فرض اعتقاده بأنّ المال ملک الغیر کیف یصحّ أن یبیعه للمالک مع أنّه أجنبی عن المال، فهو فی الحقیقة کالعابث فی المعاملة هذا.

وفیه: الفضولی یقصد المعاوضة الحقیقیة ولیس غائبا عن المال ولا عابثا بالعقد، فتمّ عقده مع إجازة المالک.

وفی المقام حیث یستند العقد إلی العاقد ومع ظهور کونه مالکا له یَتُمُّ العقد من دون احتیاج إلی الإجازة المستأنفة.

ب: استدلّ للبطلان العلاّمة فی نهایته: «لأنّه وإن کان العقد منجّزا فی الصورة إلاّ أنّه

ص:91


1- 3 . شرح القواعد 2/98.
2- 4 . تذکرة الفقهاء 10/17.
3- 5 . إیضاح الفوائد 1/420.
4- 6 . نهایة الإحکام 2/477.

فی المعنی معلَّق وتقدیره إن مات مورِّثی فقد بعتک...»(1).

وقال ولده الفخر: «ولأنّه وإن کان منجزا فی الصورة فهو فی المعنی معلَّقٌ، والتقدیر إن مات مورِّثی فقد بعتک»(2).

واعترض علیهما الشیخ الأعظم(3) بأنّ هذا الوجه مناقض للوجه الآتی [ج] حیث ذکرا فیه أنّه یبیعه للمالک - أی أبیه - لا لنفسه، فإذا باعه للمالک کیف یعلِّقه علی موته، هذا أوّلاً.

وثانیا: ما معنی أنّه یبیعه للمالک وهو الأب معلَّقا علی موته؟ مع أنّ الکلام فی هذه الصورة إنّما هو فیما إذا باعه للمالک لا لنفسه، ولذا قال المحقّق الخوئی رحمه الله : «هذا الوجه لابدّ وأن یحمل علی سهو القلم لجلالة شأن العلاّمة وولده عن الاستدلال بمثل ذلک فی المقام»(4).

أقول: قد یأتی أنّ الاستدلال الآتی [ج] یقع فی کلام الفخر فقط دون والده العلاّمة فاحتمال سهو القلم لا یجری بالنسبة إلی العلاّمة رحمه الله .

ج: قال الفخر: «لأنّه إنّما قصد نقل الملک عن الأب لا عنه...»(5).

مراده قدس سره : أنّ البائع إنّما قصد البیع لأبیه فیما إذا باع مال أبیه بظن حیاته فبان میّتا، فهو باعه للأب لا لنفسه فلا یقع له بوجه لأنّ العقود تابعة للقصود، ویحکم ببطلانه للعاقد

البائع.

وفیه: العاقد باعه لمالکه وتخیّل أنّ أباهُ هو المالک، لا لخصوصیة فیه، فإذا عرفت أنّ المال ماله فیقع العقد له، لأنّ حقیقة المعاملة هی المبادلة بین المالین کما مرّ. وقصد أنّ البیع یکون لمالکه هو أمر زائد علیها [المبادلة] فیکون لغوا.

ص:92


1- 1 . نهایة الإحکام 2/477.
2- 2 . إیضاح الفوائد 1/420.
3- 3 . المکاسب 3/461.
4- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/39.
5- 5 . إیضاح الفوائد 1/420.
الرابع: الصحة مع الخیار
اشارة

قد مرّ أنّها الأظهر عِنْدَ جدّی الشیخ محمّدتقی(1) قدس سره ، ولا یخلو من قوة عند عدیله الشیخ اسداللّه(2) رحمه الله و أحد احتمالی المتجه فیه عند صاحب الجواهر(3).

واستدلوالها: بأنّ البائع أقدم علی التملیک المتزلزل لا النافذ، لأنّه أقدم علی عقد یحتاج إلی إجازة المالک، لأنّ العاقد البائع یری نفسه فضولیّا، ثمّ بعد ظهور أنّه بنفسه کان مالکا حین العقد إذا حکم بلزوم العقد علیه قد یکون ضرّریا بالنسبة إلیه، فیثبت له الخیار لدفع هذا الضرر.

وبالجملة: قاعدة نفی الضرر تجری فی المقام لدفع الضرر عن البائع العاقد الذی ظهر أنّه بنفسه المالک وتثبت له الخیار فی فسخ عقده.

قد یورد علی هذا الاستدلال اعتراضاتٌ:

الاعتراض الأوّل:

واعترض علیهم الشیخ الأعظم بقوله: «... الضرر المترتّب علی لزوم البیع لیس لأمرٍ راجع إلی العوض والمعوّض وإنّما هو لانتقال الملک عن مالکه من دون علمه ورضاه، إذ لا فرق فی الجهل بانتقال ماله بین أن یجهل أصل الانتقال کما یتّفق فی الفضولی، أو یعلمه ویجهل تعلِّقه بماله [کما فی مسألتنا]. إذ من المعلوم: أنّ هذا الضرر هو المثبت لتوقّف عقد الفضولی علی الإجازة، إذ لایلزم من لزومه بدونها سوی هذا الضرر»(4).

مراده قدس سره : «أنّ المعاملة تارة: تکون محکومة بالصحة فی حدّ نفسها إلاّ أنّ العوضین یستلزمان الضرر علی أحد المتعاملین لنقص فی قیمتهما أو لعیب فی ذاتیهما ولأجل ذلک

یرتفع لزوم المعاملة وتکون خیاریة وجائزة.

ص:93


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/356.
2- 2 . مقابس الأنوار /137.
3- 3 . الجواهر 23/482 (22/300).
4- 4 . المکاسب 3/465.

واُخری: تکون المعاملة فی حدّ نفسها موردا للکلام من حیث الصحة والفساد، لعدم شمول العمومات لها من دون أن یکون هناک ضرر فی شی ءٍ من العوضین بحیث لو حکمنا بصحتها لما کان ذلک موجبا لتضرّر أحدهما من حیث العوض والمعوّض لعدم نقص فی قیمتهما أو فی ذاتیهما، ففی مثل ذلک لو کان هناک ضرر فهو إنّما یکون ناشئا من أصل العقد والمعاملة لا من جهة لزومها فمقتضی القاعدة عدم صحة مثلها إلاّ بالإجازة المتأخرة، لا أنّها صحیحة ویرتفع لزومها، لما عرفت من أنّ لزومها غیر ضرری بحسب الفرض وإنّما الضرر فی أصل المعاملة وصحتها حیث أنّه أمرٌ لم یلتفت إلیه ولم یکن راضیا به ومعه یکون الحکم بوقوع المعاملة من غیر اختیاره ضررا علیه لا محالة فترتفع صحتها بالقاعدة»(1).

فیکون العقد متزلزلاً من حیث الحدوث لا البقاء، فیحتاج إلی الإجازة المستأنفة لا اللزوم وثبوت الخیار.

وبعبارة أُخری: قاعدة لا ضرر ترفع لزوم العقد ولزوم العقد فرع صحته، وإذا لم یصح العقد لعدم صدور الإجازة المستأنفة من البائع العاقد المالک فی مسألتنا لا نحتاج إلی نفی لزومه بقاعدة لا ضرر.

وبفرض جریانها أنّها [أی قاعدة لا ضرر] تنفی صحة العقد وَتُثْبِتُ احتیاجه إلی الإجازة المستأنفة ولا تنفی لزومه وَتُثْبِتُ الخیار.

أقول: یمکن أن یناقش الشیخ الأعظم: بأنّ العقد عند المشایخ الثّلاثة صحیحٌ لاستناده إلی البائع العاقد المالک، فالصحة تامة ولا تحتاج إلی الإجازة المستأنفة، ولکن من المحتمل أن تکون المعاملة بالنسبة إلیه ضرریّا فیرتفع هذا الضرر المحتمل بقاعدة لا ضرر بثبوت الخیار. فاعتراض الشیخ الأعظم لا یرد علیهم لاختلاف المبنی فی الصحة وعدمها بینه وبینهم.

ص:94


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/43.
الاعتراض الثانی:

صحة العقد فی المقام لا تتم لأنّها تتوقف علی جُزْئَیْنِ هما:

أ: استناد البیع إلی المالک.

ب: حصول الرضا وطیب النفس بالانتقال.

وکلاهما مفقودان، لأنّ البائع العاقد یبیع فی مسألتنا لأبیه فلم یستند العقد إلیه، رضاه وطیب نفسه تکون علی بیع مال والده لا بیع ماله نفسه.

فهذا العقد لا یکون صحیحا حتّی یرتفع استمرار صحته بثبوت الخیار بدلیل قاعدة لا ضرر.

أقول: یرد علیه بأنّ استناد البیع إلی المالک العاقد البائع تام لأنّه بنفسه أقدم علی البیع وبعد تمامیة الاستناد، طیب النفس والرضا حاصل لأنّ المعتبر منهما لا یزید علی الاستناد شیئا، ومازاد علی الاستناد لا یعتبر طیب النفس والرِّضا. فهذا الاعتراض مدفوع من أساسه کما یظهر هذا الجواب ممّا مرّ.

الاعتراض الثالث:

قاعدة لا ضرر تنفی ما ینشأ منه الضرر ولا یثبت أمرا مثل الخیار وغیره لأنّ لسانه لسان النفی لا الاثبات کحدیث الرفع.

وما ینشأ منه الضرر فی المقام هو صحة البیع من دون الإجازة المستأنفة فهی تنفی بقاعدة لا ضرر، فلا یمکن إثبات الخیار بها ولا نحتاج إلی إثباته بعد نفی الصحة بالقاعدة کما هو الواضح.

الاعتراض الرابع:

لو ذهبنا إلی صحة العقد وأنّ قاعدة نفی الضرر تَرْفَعُ لزومه - لا صحته -، فَإنَّ ذلکَ یَسْتَلْزَمُ صحة انتقال مال الغیر مع عدم رضاهُ وطیب نفسه ویستلزم منه تخصیص حدیث «لا یحلّ مال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاّ بطیب نفسه»، مع أنّ الأدلة العامة فی المعاملات تقتضی اشتراطها بالرضا وطیب النفس، فمع عدمهما یحکم ببطلانها لا صحتها وعدم لزومها بثبوت الخیار.

ص:95

تنبیهٌ: فی عدم ابتناء هذه الصورة علی القول بالصحة فی بیع الفضولی

لعلّ أوّل من نبّه علی عدم الابتناء هو المحقّق الشیخ اسداللّه التستری رحمه الله حیث یقول: «واعلم أنّ هذه المسألة کبعض المسائل السابقة جاریة علی القول ببطلان الفضولی أیضا»(1).

وأیّده الشیخ الأعظم قدس سره بقوله: «ثمّ إن الحکم بالصحة فی هذه الصورة غیر متوقفة علی القول بصحة عقد الفضولی، بل یجیء علی القول بالبطلان»(2).

ثمّ استدرک علیه بقوله: «إلاّ أنّ یستند فی بطلانه [الفضولی] بما تقدّم من قبح التصرّف فی مال الغیر فیتّجه عنده حینئذ البطلان»(3).

مراده قدس سره : عدم ابتناء هذه الصورة علی القول بالصحة فی بیع الفضولی تام لو کان دلیل البطلان غیر الوجه العقلی - وهو قبح التصرف فی مال الغیر - وأمّا لو کان دلیله هذا الوجه العقلی یوجِّه القول بالبطلان فی هذه الصورة أیضا لأنّ البائع باعتقاده تصرَّف فی مال الغیر بدون إذنه وهو قبیح عقلاً، لأنّ القبح یترتب علی اعتقاد کون المبیع ملک الغیر فإن کان مصادفا للواقع کان عصیانا وإن کان غیر مصادف کان تجرِّیا، ولا فرق فی جریان القبح بین العصیان والتجرِّی.

ولکن یناقش علیه: أوّلاً: بعدم تمامیة المبنی کما مرّ فی بحث بیع الفضولی.

ثانیا: مجرد القبح العقلی لا یستلزم مع الفساد الشرعی مادام لم یستلزم مع هذا القبح العقلی الحکم بالحرمة شرعا، وفی التجری نعلم بأنّ المتجری غیر مرتکب للحرام الشرعی بوجه ومجرد القبح العقلی لا یوجب الحکم الشرعی بالفساد.

هذا تمام الکلام فی الصورة الثالثة والحمد للّه.

الصورة الرابعة: لو باع لنفسه باعتقاد أنّه لغیره فانکشف أنّه له
اشارة

قال الشیخ اسداللّه التستری: «الخامس: أن یبیع أو یشتری لنفسه ثمّ ینکشف کونه

ص:96


1- 1 . مقابس الأنوار /39 من کتاب البیع.
2- 1 . المکاسب 3/465.
3- 2 . المکاسب 3/466.

مالکا للمال وأنّ العقد صادف ملکه. والأقرب صحة البیع وعدم توقفه علی الإجازة ووجهه ما مضی...»(1).

وقال جدی الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة رحمه الله : «ولو اعتقد أنّه لغیره فباعه عن نفسه غصبا، ثمّ تبیّن أنّه ملکه احتمل قویّا لزومه»(2).

وقال الشیخ الأعظم: «والأقوی هنا أیضا الصحة ولو علی القول ببطلان الفضولی والوقوف علی الإجازة بمثل ما مرّ فی الثالثة، وفی عدم الوقوف هنا وجه لا یجری فی

الثالثة، ولذا قوّی اللزوم هنا بعض من قال بالخیار فی الثالثة»(3).

أقول: أنت تری بأنّ العدیلین ذهبا إلی صحة هذا البیع ولزومه ولکن الأقوی عند الشیخ الأعظم الصحة مع الإجازة المستأنفة ولکنّه یری عدم الوقوف علی الإجازة المستأنفة فی هذه الصورة وجه وهو مطابقة ما قُصد لما انکشف، إذ المفروض أنّه قصد البیع لنفسه وانکشف کون المال له بخلاف الصورة الثالثة فإنّ المقصود فیها هو البیع عن المالک والمُنْکَشَف هو کون العاقد هو نفس المالک فهذان - ما قُصد وما کُشِفَ - لیسا مطابقَیْن بل هما متغایران فتحتاج الصورة الثالثة إلی الإجازة دون الصورة الرابعة عند الشیخ الأعظم فی هذا الوجه.(4)

ومراده هنا من «بعض من قال بالخیار فی الثالثة» هما الشیخان العدیلان اسداللّه التستری ومحمّدتقی الرازی النجفی الأصفهانی رحمهماالله کما مرّ مقالتهما.

وقال المحقّق السیّد الخوئی القائل(5) بمقالة الشیخ الأعظم فی الصورة الثالثة - وهی الصحة مع الإجازة المستأنفة - فی هذه الصورة الأخیرة: «ولا اشکال فی صحة البیع حینئذ [أی الصورة الرابعة]، لعدم قصور ذلک عن الصورة المتقدّمة وبیعه للغیر، وإنّما

ص:97


1- 3 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /38.
2- 4 . تبصرة الفقهاء 3/356.
3- 1 . المکاسب 3/466.
4- 2 . راجع هدی الطالب 5/381.
5- 3 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 2/44.

الکلام فی أنه یحتاج إلی الإجازة بعد الالتفات أو لا؟ الظاهر أنه لا حاجة إلی الإجازة بعد الانکشاف، إذ الحاجة للإجازة فیما تقدّم إنّما هی من جهة عدم استناد البیع إلی نفسه لاعتقاده أنّ المال للغیر ولأجل عدم رضاه ببیع ماله، وذکرنا أنّهما یحصلان بالإجازة المتأخّرة، وهذا لا یحتاج إلیه فی المقام، لأنّه باعه لنفسه بدعوی الملکیة العقلائیة کالغاصب ونحوه وإن اعتقد أنه للغیر شرعا، وهذ المقدار من البیع والرضا یکفی فی المعاملات ولا یحتاج فیها إلی العلم بالملکیة الشرعیة، وهذا نظیر معاملات جمیع الخارجین عن شریعة الإسلام فإنّهم إنّما یتعاملون بالملکیة العقلائیة أو الاعتباریة الشخصیة کالیهود ونحوهم بل المسلمین غیر المتدیّنین کما إذا قامر فغُلب وأُخذ منه شیء ثمّ قامر وغلبه وأخذ منه ما غلبه به بعینه فباعه حیث إنّه ملکه شرعا وواقعا إلاّ أنه اعتقد أنه للغیر واقعا وله بالملکیة العقلائیة، ففی مثل ذلک لایحتاج إلی الإجازة بعد الالتفات إلی أنه ملکه واقعا، لعدم اشتراط البیع بالعلم بالملکیة الشرعیة، بل العلم بالملکیة

العقلائیة کافٍ کالمأخوذ بالقمار ونحوه حیث إنّ العقلاء غیر المتدیّنین یعتبرونه مالکا ویقولون إنّه مالک لکذا مقدار من المال مع أنه بأجمعه مأخوذ بالقمار والغصب»(1).

والعجب من المحقّق المروِّج رحمه الله حیث یری أوّلاً وجه الشیخ الأعظم غیر وجیه:

[1] لأنّ طیب النفس حاصل بماله الادّعائی لا بماله الواقعی. ولو علم بأنّه من أمواله الواقعیة دون أمواله المغصوبة فلعلّه لم یکن راضیا ببیعه... لأنّ الرضا ببیع مال الغیر مع البناء علی کونه ماله إدّعاءً وعدوانا لیس رضا حقیقة ببیع ماله الواقعی.

[2] مع ظهور أدلة اعتبار طیب نفس المالک فی حِلِّ ماله لغیره فی کون الطیب والرضا بماله بوصف کونه مالَه لا رضاه بذات المال.

[3] وهو ما یقتضیه العقلُ أیضا بقبح التصرف فی مال الغیر من غیر رضاه.

[4] الأصل - وهو هنا الاستصحاب - یقتضی أیضا عدم جواز التصرف إلاّ برضا مالک المال بالتصرف فی ماله الواقعی بما أنّه ماله، لا مجرد جنس الرضا القائم بذات ماله

ص:98


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/46.

بدون إحراز ملکیّة المال له واقعا... .

ثمّ یری ثانیا بإمکان القول بفساد البیع فی هذه الصورة الرابعة لعدم قصد المعاوضة مع اعتقاد العاقد کون المال لغیره أنّه أخذ العوض عن المشتری مَجّانا وهذا ینافی المعاوضة الحقیقیة المعتبرة فی المعاملات.

ثمَّ فی آخر کلامه أمر بالتأمل.(1)

وجه التعجب أوّلاً: [1] الرِّضا بببیع ماله الإدعائی العقلائی - عند المحقّق السیّد الخوئی - یکفی فی صحة البیع ولا نحتاج إلی الرضا ببیع ماله الواقعی لأنّه أقدم بنفسه علی البیع من دون إکراه وإجبار فالبیع یستند إلیه، وهذا الاستناد یصح البیع من دون الحاجة إلی رضاءِ آخَرَ.

[2] قد مرّ بعدم اعتبار طیب نفس المالک فی حلّ ماله اضافة إلی استناد البیع إلی مالکه وهو هنا حاصل.

[3] علی تمامیة الاستقباح العقلی فی التصرف فی مال الغیر، یجری إذا لم یستند البیع إلی المالک وإمّا بعد استناده فلا یجری هذا القبح العقلی المُدَّعی.

[4] بعد وجود الأدلة اللفظیة علی صحة هذا البیع وهی العمومات والإطلاقات فلا

تصل النوبة إلی جَرَیانِ الأصل العملی هنا وهو الاستصحاب.

وثانیا: المعاوضة الحقیقیة تقع بین المالین - العوضین - لا بین اعتقاد أنّه ماله أو ماله غیره وأنّه أخذ المثمن باعتقاده مجانا، لأنّ الاعتقاد لا یجری فی المعاوضة الحقیقیة، لأنّها تقع بین الثمن والمثمن الخارجیین - لا الاعتقادیین - .

ولعلّه قدس سره بالنظر إلی هذه الوجوه أمر بالتأمل فی آخر کلامه رفع اللّه فی الخلد مقامه.

تتمیم:

یمکن تَصَوُّرُ فروعٍ لَمْ یَذْکُرْها الشیخ الأعظم فی المقام أذکر لک بعضها والباقی موکول إلی فقاهة القاری الفطن:

ص:99


1- 2 . هدی الطالب 5/382 و 381.
الصورة الخامسة:

الصورة الخامسة: «لو باعه علی أنّه ملکه فتبیّن بعد ذلک أنّه لمورِّثه ثمّ تبیّن موته حین العقد فلا إشکال فی الصحة واللزوم»(1) لما مرّ فی الصور الماضیة.

الصورة السادسة:
اشارة

الصورة السادسة: «لو باعه عن المالک باعتقاد الوکالة عنه، ثمّ تبیّن أنّه ملکه ففی الحکم بلزومه وجه قویٌّ ولا یخلو من إشکال»(2).

وجه الاشکال: عدم رضاه بانتقال ماله إلی المشتری، وما اوقعه العاقد لم یقع وما وقع مِنْ بیع مال نفسه لم یقصده.

وقد مرّ جوابنا عن هذین الاشکالین فلا نُعِیْدُ.

صُوِرٌ سِتٌّ: ذکرها

صُوِرٌ سِتٌّ: ذکرها الفقیه الیزدی وهی: «[1] ما إذا باع باعتقاد أنّه للمولّی علیه أو الموکّل فبان أنّه للآخر، [2] أو باعتقاد أنّه لأحدهما فبان کونه لنفسه [3] أو بالعکس، [4 [أو باعتقاد کونه للموکِّل - الذی هو زید - فبان أنّه الآخر، [5] أو باعتقاد أنّه للمولّی علیه المعیَّن فبان أنّه لآخر، [6] أو باعتقاد أنّه المال الکذائی فبان أنّه غیره وهکذا»(3).

ثمّ قال: «والحکم فی الکل الصحة والتوقف علی الإجازة من عدم الرضا بنقل هذا الشی ء وبالعنوان الذی لابدّ من قصده والرضا به...»(4).

أقول: الصورة الاولی المذکورة فی کلامه قدس سره فضولیّةٌ، ولذا لابدّ فیها من إجازة الآخر، ولذا قال الشیخ جعفر رحمه الله : «ولو انعکس الحال فزعم الملک أو الولایة أو الوکالة فبان

خلافها کان فضولیّا»(5).

وصورته الثالثة هی عین الصورة الثانیة للشیخ الأعظم.

وصورته الرابعة هی عین صورته الخامسة من دون تغییر.

وأمّا بقیّة الصور المذکورة فی کلام الفقیه الیزدی قدس سره فحکمها حکم الصورة الرابعة

ص:100


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/356.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/356.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/251.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/251.
5- 1 . شرح القواعد 2/98.

وهو الصحة من دون الاحتیاج إلی الإجازة المستأنفة خلافا لما ذکره والدلیل علیه ما مرّ فی الصورة الرابعة فلا نعید.

ولذا قال الشیخ جعفر، «ومقتضی ذلک سرایة الحکم إلی عقد الولی والوکیل مع جهلهما بملکیتهما فیصحّ نکاح مَنْ زوّجت نفسها فضولاً أو وکالةً بزعم أنّها أمَة فظهرت حرّة، ومن زوّج أمرأة بزعم أنّها حرّة أو أمَة الغیر فظهرت أمته، ومن زوّج أجنبیّة صغیرة فظهرت بنته، إلی غیر ذلک»(1).

هذا تمام الکلام فی الصورة الرابعة وبه تمّ القول فی المُجیز والحمدُ لِلّه الْقَوِیِّ الْعَزِیز.

ص: 101


1- 2 . شرح القواعد 2/98.

ص:102

وَصْلٌ: القول فی المُجاز

اشارة

ص:103

اشارة

ص:104

ویتمّ البحث فیه ضمن أُمورٍ:

الأوّل: اعتبار کون العقد المجاز جامعا للشروط
اشارة

العقد الصادر من الفضول لابدّ أن یکون جامعا لجمیع الشرائط المعتبرة فی العقد سوی رضا المالک أو استناد العقد إلیه، لأنّ فی غیر تلک الصورة یقع فاسدا ولا یمکن أن تکون الإجازة المتأخرة مصححة للعقد الفاسد.

لأنّ الإجازة لیست بأولی من عقد المالک نفسه علی شی ء فلو عقد وکان عقده فاقدا لبعض شرائط الصحة یقع باطلاً، وکذلکِ لیست بأولی من الإذن السابق فلو أذن فی انشاء عقد فاقد لبعض شرائط الصحة یکون باطلاً. هذا بحسب الکبری.

وأمّا بحسب الصغری: «فلا إشکال فی أنّ العقد لابدّ وأن یکون حاویّا للشرائط الراجعة إلی العقد کالماضویة والعربیة والتطابق وغیرها - [علی القول باعتبارها] - فلو کان فاقدا لبعض تلک الشرائط یقع فاسدا.

وأمّا الشرائط المعتبرة فی المتعاقدین: بما هما متعاقدان - لا بما هما مالکان - کالبلوغ والعقل ونحوهما، فلا إشکال فی اعتبارها أیضا، فلو کان المتعاقدان أو أحدهما صبیا أو مجنونا فلا تقع المعاملة بالإجازة المتأخّرة صحیحة، لأنّ عقدهما کلا عقد.

وأمّا الأُمور والشرائط المعتبرة فی العوضین کالمالیة أو الطهارة والطلقیة ونحوها فهی أیضا معتبرة فی العقد الصادر من الفضولی بحیث لو کان العوضان فاقدین لبعض هذه الشروط کما إذا کان أحدهما خمرا أو کانت الأمة أُمّ ولد أو کان فاقدا للمالیة وهکذا، فلا ینبغی الإشکال فی فساد العقد حینئذ وإن انقلب الخمر إلی الخلّ أو مات ولد الأمة أو عرضت المالیة علیه حال الإجازة، وذلک لاعتبار هذه الشروط فی متعلّق البیع والعقد، والإجازة لیست عقدا مستأنفا ولا بیعا ثانیا فلابدّ من اتّصاف العوضین بهذه الشروط

ص:105

حال العقد ولعلّه ظاهر.

وأمّا الشرائط ا لخارجة عن متعلّق البیع والمتعاقدین والعقد وهی الاُمور المعتبرة فی المعاملة خارجا وقد عبّر عنها شیخنا الأنصاری(1) بشرائط تأثیر العقد کاشتراط

القدرة علی التسلیم أو الشرائط المعتبرة فی المالکین وإن لم یکونا عاقدین کالإسلام فی مشتری المصحف والعبد المسلم بناءً علی أنّ الکافر لا یملک شیئا منهما فهی غیر معتبرة فی العقد بوجه، بل القدرة علی التسلیم کما لا تعتبر فی حال العقد کذلک لا تعتبر فی حال الإجازة أیضا، وإنّما تعتبر فی ظرف التسلیم وهو أمر یختلف باختلاف الأغراض، فربما یشترط التسلیم فی ظرف الإجازة واُخری فی غیره من الأزمان کمن باع عشرة أمنان من الحنطة فی ذمّة زید فضولة علی أن یسلّمها بعد ستّة أشهر ثمّ أجازها المالک من دون أن یکون قادرا علی تسلیمها حال الإجازة.

وکذا الإسلام فإنه لا یعتبر حال العقد أبدا، لأنّ الدلیل الدالّ علی اعتباره فی المشتری بعد الإجماع هو قوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(2) بأن یکون اختیار المسلم بید الکافر یفعل فی حقّه ما أراد، ومن الواضح أنّ العقد بمجرده لا یوجب السبیل للکافر علی المسلم أبدا، وإنّما هو یتحقّق بالإجازة، إذ لا یمکنه التصرف فی العبد قبلها، فإذا فرضنا أنّ المشتری الکافر حال العقد أسلم حین الاجازة صحّ العقد والإجازة بلا إشکال. نعم بناء علی الکشف الحقیقی أمکن القول بالفساد لتحقّق الملکیة والسبیل حین العقد.

ثمّ إنّه هل یعتبر الاستمرار فی الشروط المعتبرة حال العقد إلی زمان الإجازة بحیث لو انتفی بعضها بعد العقد وقبل الإجازة بطلت الإجازة، أو لا یعتبر فیه الاستمرار؟

ذکر شیخنا الأنصاری(3) قدس سره بالنسبة إلی شروط العوضین: أنّ الظاهر اعتباره علی القول بالنقل، لعدم تمامیة البیع قبلها، وحین تمامیته بالإجازة لا شرط بحسب الفرض

ص:106


1- 1 . المکاسب 3/467.
2- 1 . سورة النساء /141.
3- 2 . المکاسب 3/468.

فتقع المعاملة باطلة. وکذا یعتبر الاستمرار علی القول بالکشف من جهة أنّ زمان الاستناد إلی المالک إنّما هو زمان الإجازة، ومع فقد بعض الشرائط المعتبرة فی المعاملة لا یکفی إسناد المعاملة الفاقدة لبعض الاُمور المعتبرة فیها إلیه هذا.

والظاهر أنّ الاستمرار إلی حال الإجازة غیر معتبر علی کلا القولین، وذلک لأنّ الکلام فی شرائط البیع لا الملکیة، وقد فرضناه جامعا لشرائط البیع حال العقد والبیع، والإجازة لیست بیعا ولا عقدا مستأنفا، فاعتبارها فی حال الإجازة أیضا یحتاج إلی

دلیل آخر، والوجه فی ذلک ما عرفت من أنّ شرائط البیع غیر شرائط الملکیة کما فی بیع الکلب والمتنجّس ونحوهما حیث إنّهما مع مالیتهما منع الشارع عن بیعهما تعبّدا، إذ لا إشکال فی أنّ الکلب ملک فلذا أوجب الشارع ضمانه علی من أتلفه، وکذا الحال فی المنع عن بیع اُمّ الولد فإنّها ملک ویجب دفع قیمتها لو قتلها أحد ومع ذلک قد منع عن بیعها، فهذه شرائط البیع دون الملک، والمقدار الثابت من أدلّتها اعتبارها حال البیع، والمفروض أنّها کانت متحقّقه حال البیع والعقد، واشتراطها واعتبارها حال الإجازة أیضا یتوقّف علی دلیل، وهذا بخلاف الشرائط المعتبرة فی الملک فإنّها شرط للملک بغضّ النظر عن وقوع البیع کما فی الخمر فإنّها غیر قابلة للملک حتّی لو لم یکن بیع أصلاً. وکلامنا إنّما هو فی شرائط البیع لا شرائط الملک.

فرع: إذا انقلب الخل بعد العقد إلی الخمر ثمّ صار خلاً فهل یصحّ الانتقال أو لا؟ الظاهر أنه لا ینتقل إلی المشتری حینئذ علی القول بالنقل لأنه صورة نوعیة اُخری غیر الصورة التی وقع علیها العقد، وذلک لأنّ الخمریة والخلّیة وإن کانتا من الأوصاف والأحوال عند العرف إلاّ أنّهما بحسب نظر الشارع من الأوصاف النوعیة التی بها تختلف الأشیاء، فإذا صار خمرا ثمّ انقلب إلی الخل فهو قد اتّصف بصفة نوعیة اُخری غیر الصفة الاُولی کما لایخفی، وهذا نظیر ما إذا انقلب عبدٌ إلی الصورة النوعیة الکلبیة بمعجزة ونحوها ثمّ انقلب إلی الصورة النوعیة الانسانیة فإنّه لا إشکال فی تغایره للإنسان الأوّل وکونه غیره حقیقة، وکذلک الحال فی المقام، وعلیه فیقع البیع باطلاً لأنّ متعلّقه تلف والموجود أمر آخر مغایر لما وقع العقد علیه، وأمّا علی القول بالکشف فالبیع صحیح لأنّ

ص:107

التبدّل یکون فی ملک المشتری، هذا تمام الکلام فی الجهة الاُولی»(1).

فذکلة القول فی الأمر الأوّل
اشارة

تبیّن ممّا نقلناه من کلام المحقّق السیّد الخوئی قدس سره بطوله أنّ الشروط المعتبرة فی العقد وما یتعلق به الإجازة تنقسم إلی خمسة أقسام:

الأوّل: الشروط المتعلَّقة بالعقد: کالماضویة والعربیة والتطابق وعدم التعلیق، وأنّه لابدّ من انحصار العقد باللفظ أو أنّه یشمل الفعل؟ والظاهر أَنَّهُ لابدّ من تحقّق هذه الشروط حین الإنشاء فقط دون الإجازة لأنّها لیست بعقدٍ.

الثانی: الشروط المتعلِّقة بالمتعاقدین: کالبلوغ والعقل والاختیار، والظاهر من الدلیل هو اعتبار هذه الشروط حین الإنشاء فقط.

الثالث: الشروط المتعلِّقة بالعوضین: کاشتراط معلومیتهما ومالیتهما وإنّهما ملک طلق لمالکیهما، لابدّ من اعتبارها حین إنشاء العقد دون الإجازة، لأنّها لیست عقدا مستأنفا ولا بیعا ثانیا.

الرابع: الشروط المتعلِّقة بتأثیر العقد: کاشتراط القدرة علی التسلیم، فهذا الشرط لا یعتبر حین العقد ولا حین الإجازة وإنّما اُعتبر فی ظرف التسلیم وعند موعده.

الخامس: الشروط المتعلِّقة بالمالک بما هو مالک: کاشتراط إسلام المشتری فی بیع المصحف والعبد المسلم، فهذا الشرط غیر معتبر عند انشاء عقد الفضولی لأن مجرد العقد لا یوجب السبیل للکافر علی المسلم أو المصحف، وإنّما السبیل یتحقّق بالإجازة لعدم جواز التصرف فی المبیع قبلها. نعم، بناءً علی الکشف الحقیقی یمکن القول بالفساد لتحقّق الملکیّة والسبیل من حین العقد.

وأمّا لزوم استمرار الشروط المعتبرة من حین العقد إلی زمن الإجازة: فینبغی أن یقال: فی القسم الأوّل: لا مجال لتوهم لزوم دوام شروط العقد إلی حین الإجازة لأنّ هذه الشروط تَنْتَهِیْ إلی تحقّق الانشاء وهو أمرٌ متصرم الوجود بمعنی أنّ الإِنشاء یتحقّق بهذه

ص:108


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/(50-47).

الشروط ولا یتوهم دوامها واستمرارها لأجله ولم یتعرض الشیخ الأعظم لِهذا القسم.

وفی القسم الثانی: قال الشیخ الأعظم: «لا ینبغی الإشکال فی عدم اشتراط بقاء المتعاقدین علی شروطهما حتّی علی القول بالنقل. نعم، علی القول بکونها بیعا مستأنفا یقوی الإشتراط»(1).

وفی القسم الثالث: ذهب الشیخ الأعظم(2) رحمه الله إلی اعتبار استمرارها بناءً علی النقل لعدم تمامیة البیع قبلها، وبناءً علی الکشف ذهب إلی أنّ استمرارها غیر بعید بعد احتمال الوجهین.

فهاهنا وافق الشیخُ الاعظمُ صاحبَ الجواهرِ(3) من اعتبار استمرار هذه الشروط بناءً علی الکشف ولکنه خالفه فی الثمرات بین قولی النقل والکشف.(4)

وقد عرفت: عدم وجود الدلیل علی استمرار شروط العوضین عند المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله علی قولی النقل والکشف، للفرق بین شرائط البیع وشرائط الملک، وما هو المعتبَّر عنده هو الأوّل دون الثانی. وشرائط البیع معتبَّر فی حین البیع والعقد دون الإجازة، لأنّ الإجازة لیست ببیع مستأنف ولا دلیل علی اعتبارها حین الإجازة.

وفیه: بناءً علی الکشف یکفی تحقّق شرائط البیع حین العقد علی القاعدة، وأمّا بناءً علی النقل فلابدّ من استمرار تحقّق شرائط البیع إلی حین الإجازة حتّی یَتِمَّ النقل والانتقال هذا بالنسبة إلی القاعدة الأوّلیة.

أمّا التفصیل بین شرائط البیع وشرائط الملک فهو صحیح وإن یمکن النزاع الصغروی فی بعض الموارد التی عدّها قدس سره من شرائط البیع أو الملک.

فیمکن عدّ عدم کون المبیع کلبا أو میتة أو عذرة أو اُمّ ولد أو الطلقیة أو نحوها من شرائط البیع ویمکن عدّ عدم کون المبیع خمرا من شرائط الملک، لأنّ الشارع ألغی

ص:109


1- 1 . المکاسب 3/468.
2- 2 . المکاسب 3/468.
3- 3 . الجواهر 23/471 (22/292).
4- 4 . المکاسب 3/419.

الملکیة بالنسبة إلیه.

وأمّا الفرع الذی ذکره قدس سره : وهو تغییر الصورة النوعیة إلی الصورة النوعیة الاُخری فی مثال الخلّ المتخذ من العنب والخلّ المتخذ من الخمر، أو الانسان الذی نشأ من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة... والانسان المنقلَب من الکلب بالنظر الدقی العقلی الفلسفی فهو تام وأمّا بالنظر العرفی الذی یتبعه الشارع أیضا فتام فی مثال الخلّ لأنّ العرف یری اختلاف القیمة بین الخلَّین، وأمّا بالنسبة إلی مثال الانسان فلا یتم لأنّ العرف یری الوحدة بین الانسانین ولذا لا یحتاج الثانی إلی تجدید عقد زوجته ولاتَنْتَقِلُ أمواله إلی ورثته بل هو مالک لها بعد رجوعه إلی الانسانیة و...، وبالجملة: الحکم فی الفرع یدور مدار العرف وحکمه بالوحدة أو التعدد لا الدقة العقلیة الفلسفیة.

وفی القسم الرابع: قد مرّ عدم اعتباره فی حین العقد ولا حین الإجازة وإنّما اعتبر فی ظرف التسلیم فقط.

وفی القسم الخامس: بناءً علی النقل والکشف الحکمی بأقسامها لابدّ من اعتبارها حین الإجازة وأمّا بناءً علی الکشف الحقیقی فلابدّ من اعتبارها حین العقد إلی حین الإجازة وما بعدها.

تنبیهٌ: فی نقل مقال الجدّ العلاّمة

قال المحقّق التقی صاحب هدایة المسترشدین رحمه الله : «ثانیعشرها: هل یشترط استجماع العقد لشروط الصحة حین وقوعه سوی رضا المالک وإذنه أو أنّه یکتفی بتحقّق الشروط حین الإجازة؟ فلو تعلّق العقد بشیء مجهول للعاقد الفضول وأجازه المالک مع علمه أو باع الآبق وقد استرد فی وقت الإجازة أو باع الکافر مصحفا أو مسلما فأجازه بعد إسلامه، أو یکتفی بحصولها فی أحد الحالین أو بحصولها من حین العقد إلی زمان الإجازة فی الجملة أو یعتبر تحقّقها فی الحالین؟ وجوه.

وظاهر بعض کلماتهم فی الاحتجاج یعطی اعتبار الاستجماع حین(1) العقد، وهو

ص:110


1- 1 . لیس فی نسخة: «الاستجماع حین... الأصل باعتبار».

الّذی یقتضیه الأصل باعتبار حصولها فی الحالین.

وقد یقال: بالإکتفاء بحصولها حین الإجازة علی القول بالنقل فإنّه فی الحقیقة حال انعقاد العقد.

ویمکن أن یقال: بالتفصیل بین الشروط، فیعتبر فی المملوکیّة أن تکون حاصلةً حین العقد، فلو باع ما لم یدخل فی الملک کالمباحات قبل الحیازة والطیر فی الهواء ثمّ أجازها أو صاد الطیر لم تؤثر الإجازة، سیّما علی القول بالکشف، لوکانت حاصلة حین العقد فزالت بعد ذلک کما لو تلفت بعد العقد والقبض قبل الإجازة صح العقد بالإجازة، فیکون التلف من المشتری.

ویحتمل حینئذ اشتراط حصولها حین الإجازة أیضا؛ إذ لولاها لُعدّت الإجازة سفها خارجا عن مقصود العقلاء.

وأمّا القدرة علی التسلیم وإسلام المشتری فی بیع المصحف والمسلم فیکتفی بحصول الشرط عند الإجازة؛ لعدم وضوح دلیل علی الفساد بمجرّد انتفائه حین العقد.

ولا عبرة بالتسلیم الأصیل قبل الإجازة، والمفروض حصول القدرة علیه عند اعتبار التسلیم، وأنه لا سبیل للمشتری علی المبیع إلاّ بعد الإجازة، فلا یفید ما دلّ علی دفع السبیل وقضی به مراعاة الإحترام فساد العقد فی تلک الصورة، فیندرج تحت الأصل.

وأمّا معلومیّة العوضین ففیها وجهان.

ولا یبعد أن یقال فی اشتراط استجماع الشروط حین العقد بما دلّ الدلیل علی

اشتراط العقد به مطلقا.

وأمّا ما کان اعتباره لجهة خارجة کنفی السبیل علی المسلم وملاحظة الإحترام أخذ فیها بمقتضی ذلک الدلیل، فلا یبعد علی الصحیح فی المثالین المفروضین»(1).

هذا تمام الکلام بالنسبة إلی الأمر الأوّل.

ص:111


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/360 و 359.
الثانی: هل یعتبر علم المجیز بالمُجاز تفصیلاً؟
اشارة

ویقع الکلام فی مقامین:

أ: فی اعتبار العلم - تفصیلاً أو إجمالاً - بوقوع العقد فی صحة الإجازة، وعدم اعتبار العلم به مطلقا وکفایة الإجازة حتّی مع احتمال وجود العقد.

ب: فی صحة تعلُّق الإجازة بالمبهم وعدمها.

أمّا المقام أ:
اشارة

فقال الشیخ الأعظم: «هل یشترط فی المجاز کونه معلوما للمجیز بالتفصیل - من تعیین العوضین وتعیین نوع العقد من کونه بیعا أو صلحا فضلاً عن جنسه من کونه نکاحا لجاریته أو بیعا لها - أم یکفی العلم الإجمالی بوقوع عقدٍ قابلٍ للإجازة؟»(1).

أقول: قد مرّ أنّ العقد الفضولی تام من جمیع الجهات إلاّ من جهة استناده إلی المالک التی تمت بالإجازة اللاحقة. ولایشترط فی الإجازة العلم التفصیلی بل یکفی العلم الإجمالی فیها. لأنّ الإجازة بمنزلة الإذن السابق فکما لا یعتبر العلم التفصیلی فی الإذن السابق فکذلک فی الإجازة اللاحقة کما یظهر من جدنا العلاّمة التقی(2) فی عبارته الماضیة(3) سابقا.

مقالة الشیخ الأعظم ونقده:

ولکن الشیخ الأعظم ذَکَرَ وَجْهَیْنِ فی المقام وقال: «وجهان: [1] من کون الإجازة کالإذن السابق فیجوز تعلّقه بغیر المعیّن إلاّ إذا بلغ حدّا [من الإبهام] لا یجوز معه التوکیل. [2] ومن أنّ الإجازة بحسب الحقیقة أحد رکنی العقد لأنّ المعاهدة الحقیقیة إنّما تحصل بین المالکین بعد الإجازة، فیشبه القبول مع عدم تعیین الإیجاب عند القابل»(4).

أقول: قد مرّ آنفا بأنّ الوجه [1] تامُّ عندی. وأمّا الوجه [2] فَمُرادُهُ قدس سره أنّ المالک مع

ص:112


1- 1 . المکاسب 3/468.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/360.
3- 3 . الآراء الفقهیة 5/533.
4- 4 . المکاسب 3/468.

عدم العلم التفصیلی بالعقد تکون إجازته مُعَلَّقَةً.

نحو قوله: إنْ وقع بیع علی نحو کذا علی مالی فقد أجزته وحیث أنّ الإجازة أحد رکنی العقد لحصول المعاهدة الحقیقیة بین المالکین فقط، فالإجازة تکون بحکم العقد و

التعلیق فی العقود مبطلٌ فکذلک فی الإجازة.

والمحقّق النائینی(1) أضاف إلیه بأنّ الإجازة من الایقاعات والایقاع لا یقبل التعلیق.

یرد علیه: لیست الإجازة أحد رکنی العقد بل بها تُنسب العقدُ الذی ثمّ قبلها بالمجیز، فالإجازة لا تعدّ عقدا ولا جزءً له ومتمِّما له، بل بها یَتِمَّ انتساب العقد بالمجیز فقط، والمعاهدة الحقیقیة إنّما تحصل بین المالین لا المالکین وهی متحققة قبل الإجازة وبها تُنسبُ إلی المالک، فالإجازة لا تشبه القبول بأنّه لابدّ فیه من تعیین الإیجاب عند القابل، بل هی تشبه بالإذن السابق فکما یتعلَّق الإذن السابق بأمر غیر معلوم بالتفصیل بل ربّما غیر معلوم بالإجمال فکذلک الإجازة المتأخرة اللاحقة، فظهر بما ذکرنا عدم تمامیة الوجه [2] فی کلام الشیخ الأعظم.

وأمّا حمل کلامه فی تعیین مراده قدس سره إلی قضیة التعلیق فی العقود وأنّ الإجازة بمنزلة العقد والتعلیق فیها باطل کما أنّ التعلیق فی العقود، أیضا فغیر تام لأنّ دلیل بطلان التعلیق فی العقود لیس إلاّ الإجماع ومعقده نفس العقد ولا یشمل الإجازة، فإلحاق الإجازة بالعقود باطل، هذا أوّلاً.

وثانیا: بطلان العقد بالتعلیق یختص بأمرٍ خارج عن العقد وأمّا إذا کان بأمر یقتضیه نفس العقد وإن لم یصرِّح به فی متنه فلا وجه لبطلانه نحو قول البائع: إن کان هذا المال مالی فقد بعتک بکذا، والوجه فی عدم البطلان لأنّ مثل هذا التعلیق موجود فی جمیع العقود.(2)

ص:113


1- 1 . المکاسب والبیع 2/216، منیة الطالب 2/139.
2- 2 . راجع منیة الطالب 2/139، و هدی الطالب 5/394.

وثالثا: علی فرض قبول أنّ الإجازة تشبه العقود من الشیخ الأعظم، لا یجری فیها ما یجری فی العقود من بطلان التعلیق فی العقود لأنّ «مجرد الشباهة لا یوجب الإلحاق فی الحکم»(1) کما هو الواضح.

وبالجملة: الوجه [2] فی کلام الشیخ الأعظم مع ما ذکر من تعیین مراده غیرتامین.

مقالة النائینی ونقده:

ولکن بقی فی المقام ما أفاده المحقّق النائینی: من أنّ الإجازة من الإیقاعات والإیقاع لا یقبل التعلیق یرد علیه ما ذکرته آنفا تحت عنوان ثانیا واعترف هو بنفسه الشریفة علی هذا الردّ حیث قال فی دورته الأخیرة فی المکاسب ما نصه: «إنّ طلاق الزوجة وعتق العبد ونحوهما من الإیقاعات وبیع المالک ماله ونحوه من العقود معلَّق علی زوجیة الزوجة وَرِقِّیَّةِ العبد وکون المال مالاً للمالک، نحو تعلیق کلّ حکم علی موضوعه، فهذا المقدار من التعلیق ممّا لا محیص عنه فی العقود والایقاعات... وإن شئت فقل لا تعلیق فیهما، وإن شئت فقل إنّ هذا التعلیق لا یکون مضرّا ومرجع العبارتین إلی شی ء واحد، وما نحن فیه من هذا القبیل لکونه تعلیقا للإجازة علی وجود العقد الذی تَتَعَلَّقُ به الإجازة نظیر تعلیق البیع علی ملک المبیع والطلاق علی زوجیة الزوجة»(2).

ثمّ العجب منه قدس سره حیث علّل قوله من معلومیة المجاز بالتفصیل وعدم تعلّق الإجازة لأمر مبهم بالغرر وقال: «وذلک للغرر فإنّه لایختص بالبیع وإن ورد النهی عنه فی البیع بالخصوص(3) أیضا، ولکن النهی عنه لیس مختصا بالبیع بل ورد النهی عنه بقول

ص:114


1- 3 . راجع منیة الطالب 2/139.
2- 1 . المکاسب والبیع 2/216.
3- 2 . وسائل الشیعة 17/448، ح3، الباب 40 من أبواب آداب التجارة.

مطلق(1)»(2).

وجه التعجب: نعم، ورد النهی عن الغرر فی غیر البیع وجریانه فی غیره ولکن یکون دلیله أخص من المدعی لأنّ مدعاه بطلان تعلِّق الإجازة بما یکون معلوما بالإجمال ودلیله لزوم الغرر ومن الواضح ربّما یُوجد معلوم بالإجمال الذی لا یکون فیه غررا أصلاً ووجود معلوم بالتفصیل یوجد فیه الغرر.

وعلی فرض ثبوت الغرر، لا یوجب الغرر الفاحش إلاّ الخیار فی جانب المغرور الجاهل لا بطلان المعاملة کما یأتی فی الخیارات.

ثمّ قال فی ردّ مشابهة الإجازة اللاحقة بالإذن السابق ما نصه: «وزان الإجازة الواردة علی الأمر المبهم مثل إجازة ما صدر من الفضولی الذی لا یعلم بکونه بیعا أو غیره، وزان التوکیل فی أحد الأمرین المردد بین البیع وغیره، لا نظیر التوکیل المطلق فی

جمیع أُموره، ولا إشکال فی بطلان الوکالة أیضا إذا کانت متعلَّقة بالمبهم وإنّما هو الصحیح منها هو الوکالة المطلقة ولا یتصور نظیرها فی الإجازة لتعلِّقها إلی المعاملة الشخصیة الخارجیة...»(3).

یرد علیه: عدم تمامیة قیاس الإجازة فی ما یکون معلوما بالإجمال بالتوکیل فی أحد الأمرین المرددین بین البیع وغیره، والوجه فی بطلان التوکیل بهذه الکیفیة هو «عدم وقوع المتعلَّق حین صدور التوکیل وبالتالی یکون الإبهام واقعیّا والتردد حقیقیّا ومن المعلوم أنّ التوکیل فی المردّد الواقعی باطل.

وهذا بخلاف الإجازة حیث أنّ متعلَّقها متحقّق خارجا ویستحیل فیه التردید وبالتالی فإنّه لا تردید فی الأمر الواقع والمتحقّق خارجا، وإنّما التردید فی الصورة العلمیة للمجیز وبینهما فرقٌ.

[وبالجملة]: فالإبهام الذی یلفّ التوکیل إبهام واقعیٌّ ناشٍ عن التردد فی الواقع بخلاف الإبهام فی الإجازة حیث أنّه إبهام من جهة المجیز دون الواقع المعلوم تحقّقه،

ص:115


1- 3 . راجع وسائل الشیعة 17/395، الباب 9 من أبواب آداب التجارة، و 18/31، الباب 17 من أبواب الخیار.
2- 4 . المکاسب والبیع 2/217.
3- 1 . راجع المکاسب والبیع 2/217.

ولذلک لایمکن أن یقاس الإجازة بالتوکیل، ویعدّ قیاسها مع الفارق»(1).

مقالة المحقّق الأصفهانی ونقده:

قال قدس سره : «ربّما یستند فی اشتراط العلم التفصیلی إلی النهی عن الغرر، إمّا لکون الإجازة غرریّة والغرر منهی عنه مطلقا، وإمّا لکون العقد المجاز غرریا من المجیز، وهو منهی عنه، ولو لم یکن الغرر فی الإجازة منهیا عنه.

وتحقیق القول فی ذلک یبتنی علی مقدمة: هی أنّ التوکیل تارة یتعلق بالمبهم المردد، واُخری بالمجهول، وثالثة بتعمیم الوکالة بحیث تسع کلّ ما یؤدی إلیه نظر الوکیل واختیاره.

والأوّل: فی نفسه غیر معقول؛ إذ المردد بما هو لا ثبوت له ذاتا وحقیقةً؛ ماهیةً وهویةً، فالإذن فیه إذن فی أمر غیر معقول، فهو غیر معقول من العاقل غیر الغافل، وعلی فرض المعقولیة فهو فیما نحن فیه مفروض العدم، لأنّ العقد الصادر من الفضول معیّنٌ لا مردّدٌ واقعا، فإجازته إجازة المجهول لا إجازة المردّد.

والثانی: وهو التوکیل فی المجهول، کأنْ یوکله فی البیع بما لایعلم الموکِّل والوکیل

أنّه فضة أو ذهب مثلاً، فمثله غیر نافذ من الموکِّل بالمباشرة فکذا بالتسبیب، ومثله إجازة بیع المجهول بهذا الوجه.

والثالث: ما إذا فوَّض الامر إلی الوکیل وجعله مستقلاً فی العمل بأیّ وجه یختاره، فکما أنّه للموکِّل التصریح ببیع ماله بأدون من ثمن المثل، أو بهبة ماله، ولیس التوکیل غرریا ولا المعاملة غرریة، لا من حیث مباشرة الوکیل ولا من حیث تسبیب الموکِّل، فکذلک له هذا المعنی بالتعمیم، فالمعاملة الصادرة من الوکیل إذا کانت فی نفسها واجدة للشرائط تکون منتسبة إلی الموکل، فهذه المعاملة الصحیحة تسبیبیة من الموکِّل وإنْ جهل الموکِّل بما فعله الوکیل، ومثل هذا التعمیم هنا - مع کون المجاز عقدا خاصا - وإنْ کان معقولاً نظرا إلی أنّه یرضی بأی وجه أوقعه الفضول، بیعا کان أو هبةً بثمن المثل أو بأنقص.

ص:116


1- 2 . العقد النضید 3/490.

إلاّ أنّ الفرق بین التوکیل والإجازة، أنّ الاقدام علی المعاملة عمل الوکیل المستقل فی أمرها، فیعتبر أنْ یکون عقلائیا غیر سفهائی من حیث کونها غرریة خطریة، ولا إقدام علی المعاملة من الموکل کی یعتبر علمه لئلا یلزم الغرر، فلا غرر فی التوکیل، لا من حیث إنّ التوکیل عمل یعتبر أنْ لا یکون غرریا، ولا من حیث إنّ المعاملة المنتسبة إلیه غرریة.

بخلاف الإجازة؛ فإنّ الفضول أجنبی عن المال وعن التصرف فی المال، فلا معنی لغرره وخطره، بل الاقدام علی المعاملة من المجیز، فهو بإجازته مقدِّمٌ علی المعاملة، فهذا العقد الإجازی کعقده المباشری، فلابد من أنْ یکون هذا الاقدام منه عقلائیا غیر سفهائی.

وممّا ذکرنا تبیّن أنّ الإجازة کالإذن والتوکیل، وأنّه لا یختص أحدهما بخصوصیة من حیث غرریّة التوکیل والإجازة وعدمها، بل الفرق من حیث إنّ المعاملة مع الجهل غرریّة من المجیز دون الموکل للوجه المتقدم»(1).

«ویرد علیه أوّلاً: إنّ قوله رحمه الله : «إنّ الفضول أجنبی عن المال و التصرّف فی المال، فلا معنی للغرره وخطره» ممنوعٌ؛ لأنّ الغرر من المعانی والعناوین التعلّقیّة حیث لا یطلق إلاّ مرتبطة بطرفی المعاملة، ومعناه حدوث خصوصیّة فی المعاملة تستوجب جهل طرفی العقد بالمعاملة وخصوصیّاتها، ومن المعلوم أنّ الفضولی بإقدامه - الذی سوف یُجیزهُ المالک لا حقا - یعدّ أحد أطراف العقد، فإذا کانت المعاملة مجهولة عنده، فإنّه لیس فی استطاعة المجیز إجازتها، وبالتالی فإنّ الفضولی لا یعدّ أجنبیّا عن العقد والغرر والأخطار

المترتّبة علیه کما زعمه الأصفهانی.

وثانیا: إنّ قوله رحمه الله أخیرا: «إنّ المعاملة مع الجهل غرریّة من المجیز» ممنوعٌ أیضا، لأنّ الإقدام حقیقة یستحیل أن یتعلّق بالموجود، بل لابدّ من تعلّقه بالمعدوم دائما؛ أی یجب أن یُقْدِم القاصد علی إیجاد معاملة لم تکن موجودة سابقا، أمّا الموجودة فلا یعقل أن یقصده المتعامل، وعلیه فالسؤال المطروح فیما نحن فیه هو أنّه هل وقعت معاملة أم لا؟ فإن أجاب بالنفی، فإنّه یرد علیه بأنّه ما هو متعلّق الإجازة حینئذٍ؟! وإن أجاب

ص:117


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/(263-261).

بالإیجاب، فإنّه یرد علیه بأنّ الإقدام علی الواقع الموجود محالٌ.

والحلّ: هو القول بأنّ مورد الإقدام هی الإجازة دون المعاملة، وبالتالی یَجِبُ أن نلاحظ أنّ ما أقدم علیه المجیز هل یعدّ غرریّا أم(1) لا؟ فإن التزم رحمه الله بغرریّة الإجازة، علیه أن یلتزم بغرریّة الإذن أیضا بالضرورة، لعدم إمکان التخصیص فی الأحکام العقلیّة، فضلاً عن اتّحاد الإذن والإجازة حقیقةً وجوهرا وانحصار اختلافهما بالسبق واللحوق»(2).

والحاصل: فی المقام [أ] یکفی علم الإجمالی للمجیز بالنسبة إلی المجاز لصحة صدور الإجازة منه، ولا یعتبر علمه التفصیلی به خلافا لأحد وجهی الشیخ الأعظم ولما اختاره المحقّقان النائینی والأصفهانی قدس سرهم .

وأمّا المقام ب:
اشارة

هل یصح تعلّق الإجازة بالمبهم أم لا؟ وهل یعتبر علم المجیز بوقوع العقد وعدم کفایة إحتمال وجوده فی صحة الإجازة أم لا؟

فقد قال العلاّمة الجدّ التقی: «وهل یعتبر فیها علمه بوقوع العقد من الفضول أو یجوز إمضاءه لما یحتمل وقوعه أو علی تقدیر وقوعه کما إذا أخبره لوقوع البیع فأجازه من دون أن یتحقّق عنده وقوعه ثمّ علم بالوقوع؟ وجهان. ویقوی الاکتفاء به فی المقام»(3).

ولکن یری الشیخ الأعظم قوة احتمال اعتبار العلم بوقوع العقد «لأنّ الإجازة وإن لم تکن من العقود حتّی یشملها معاقد إجماعهم علی عدم جواز التعلیق فیها، إلاّ أنّها فی معناها ولذا یخاطب المجیز بعدها بالوفاء بالعقد السابق، مع أنّ الوفاء بالعقد السابق لا

یکون إلاّ فی حقّ العاقد، فتأمل»(4).

مراده قدس سره : إنّ الإجازة تکون من الإیقاعات ولا یصح فیها التعلیق لأنّه لو أجاز

ص:118


1- 1 . کذا و «أوْ» أحسن.
2- 2 . العقد النضید 3/492.
3- 3 . راجع تبصرة الفقهاء 3/361.
4- 1 . المکاسب 3/468 و 469.

العقد المحتمل وقوعه تکون إجازته معلَّقه علی وقوع العقد وهو باطل.

ویرد علیه کما مرّ أوّلاً: بعدم تحقّق الإجماع فی عدم تحمّل الإیقاع للتعلیق لأنّ هذه المسألة لم ترد فی کلمات القدماء من الفقهاء.

وثانیا: ما مرّ من المحقّق النائینی(1) من هذا المقدار من التعلیق ممّا لا محیص عنه فی العقود والإیقاعات.

وثالثا: علی فرض تحقّق الإجماع یمکن أن یکون مدرکیّا لاحتمال اعتماد القائل بعدم قابلیة الإیقاع لتحمّل التعلیق علی أنّ الإجازة انشاءٌ وهو لا یتحمّل التعلیق.(2)

وأمّا ما ذکره الشیخ الأعظم

وأمّا ما ذکره الشیخ الأعظم رحمه الله من أنّ الإجازة فی معنی العقد أی فی حکمه وبالتالی فلا یجوز التعلیق فیها لاندراجها فی الأدلة الدالة علی عدم جواز التعلیق فی العقود، والدلیل علی أنّها فی حکم العقد ومعناه أنّه یُعدّ المجیز من طریق الإجازة عاقدا ویجب علیه الوفاء بالعقد مع عدم صدور أرکان العقد من الإیجاب والقبول منه.

فیرد علیه أوّلاً: إن أراد بأنّ الإجازة فی معنی العقد وحکمه أنّ المجیز یعدّ عاقدا بعدها، یکون باطلاً ولعلّه قدس سره أمر بالتأمل فی آخر کلامه.

وثانیا: إن أراد منه أنّ وجوب الوفاء بالعقد یشمل المجیز بعد صدور الإجازة منه، یکون حقّا لامریة فیه ولکن دعوی ترتب بقیّة شروط العقد علی هذا المجیز دون إثباتها خطر القتاد.(3)

فظهر ممّا ذکرنا صحة تعلّق الإجازة بالمبهم ولا یعتبر فیها علم المجیز بوقوع العقد ویکفی احتمال وقوعه فی صحة الإجازة کما قَوّاهُ العلاّمة الجدّ التقی قدس سره والحمد للّه العالم بأحکامه.

ص:119


1- 2 . المکاسب والبیع 2/216.
2- 3 . العقد النضید 3/485.
3- 4 . راجع العقد النضید 3/486.
الثالث: حکم العقود المترتبة علی مال الغیر
اشارة

لو تَرَتَّبَت العقود المتعددة علی مال الغیر أو علی عوضه فهل للمالک أن یجیز أیّ منها شاء أم لا؟

نعم، یجوز للمالک أن یُجِیْزَ أیّا منها شاء مع رعایة مصلحته کما نص علیه جماعة من الفقهاء قدس سرهم .

قال العلاّمة فی القواعد: «وللمالک تَتَبُّع العقود ورعایة مصلحته ومع علم المشتری إشکال»(1).

وقال فی التذکرة: «لو غصب مالاً وتصرَّف فی ثمنه مرّة اُخری کان ذلک موقوفا علی اختیار المالک فی إجازة الجمیع أو أیّها شاء، وفسخ الجمیع أو أیّها شاء وله تتّبع العقود الکثیرة فیراعی مصلحته، وهذا أضعف قولی الشافعی والأصح عنده البطلان»(2).

وقال فی نهایته: «ولو غصب أموالاً وباعها وتصرَّف فی أثمانها مرّة بعد اُخری، فللمالک إجازتها وأخذ الحاصل منها ویتبع العقود الکثیرة بالنقض والإبطال ورعایة مصحلته. ولو کان المشتری عالما بالغصب فإشکال، ینشأ من رجوعه بالثمن وعدمه»(3).

قال فخرالمحقّقین فی ذیل قول والده العلاّمة فی القواعد: «هذه المسئلة مَبْنِیَّةٌ علی المسئلة السابقة ومتفرعة علیها (فعلی بطلان) بیع الفضولی من أصله فبیع الغاصب أوْلی

ص:120


1- 1 . قواعد الأحکام 2/19.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/219.
3- 3 . نهایة الإحکام 2/476.

بالبطلان، وعلی القول بوقوف بیع الفضولی علی إجازة المالک فالأکثر علی أنّه کذلک فی الغاصب مع جهل المشتری إذ الشرط عنده فی اعتبار الصیغة شرعا بالنظر إلی الفاعل کونه مکلفا مختارا رشیدا قاصدا لها ولمعناها وزاد بعضهم عدم مسبوقیتها بنهی المالک لا غیر

ومعنی اعتبارها صلاحیتها للتأثیر بالفعل عند اجتماع الشرائط وإجازة المالک سبب لسببیة الصیغة للتأثیر بالفعل ویزید هنا تتبع المالک العقود الکثیرة بالنقض والابطال ورعایة مصلحته ویبنی علی ذلک إذا ربح الغاصب فی المال المغصوب هل یکون الربح له أو للمالک؟ فنقول: إنْ کان المشتری جاهلا فللمالک تتبع العقود والإبطال ورعایة مصلحته والربح له فی سلسلتی الثمن والمثمن وأمّا إن کان المشتری عالما بالغصب، فعلی قول الأصحاب إنّ المشتری إذا رجع علیه بالسلعة لا یرجع علی الغاصب بالثمن مع وجود عینه فیکون قد ملکه الغاصب مجانا لأنّه بالتسلیم إلی الغاصب لیس للمشتری استعادته من الغاصب بعد أخذ المالک العین المغصوبة بنص الأصحاب فقبله اُولی أنْ لایکون له والمالک قبل الإجازة لایملک الثمن لأنّ الحقّ أنّ الإجازة شرط أو سبب فلو لم یکن للغاصب لکان ملکا بلا مالک وهو محال فیکون قد سبق ملک الغاصب الثمن علی سبب ملک المالک له فإذا نقل الثمن عن ملکه لم یکن للمالک إبطاله ویکون ما یشتری الغاصب بالثمن له وربحه له ولیس للمالک أخذه لأنّه ملک الغاصب، وعلی القول بأنّ إجازة المالک کاشفة فإذا إجازه کان له ویحتمل أنْ یقال لمالک العین حقّ تعلَّق بالثمن فإنَّ له إجازة البیع وأخذ الثمن وحقّه مُقَدَّم علی حقّ الغاصب بدفع المشتری ولأنّ الغاصب یؤخذ بأخس بأخسر - خ ل) أحواله وأشقها علیه والمالک بأجود أحواله. فالتحقیق: أن نقول فی سلسلة المثمن مع علم المشتری الأوّل للمالک أخذ عینه فینفسخ جمیع العقود المترتبة علیها وله إجازة أیّ العقود أراد فإنْ أجاز عقدا صح مابعده وبطل ماقبله وکان له ثمنه إن کان المشتری جاهلاً أو عالما علی أحد الاحتمالین فیبطل جمیع العقود بعده فی سلسلة الثمن والفرق بینه وبین المثمن أنّه إذا أجاز عقدا فقد خرج المثمن عن ملکه إلی ملک المشتری فصحت تصرفاته فیه ودخل الثمن فی ملک المجیز فبطل تصرف غیره فیه، والأصحُّ

ص:121

عندی أنه مع وجود عین الثمن للمشتری العالم أخذه ومع التلف لیس له الرجوع به»(1).

قال الشهید فی الدروس: «ولو ترتّبت العقود علی العین والثمن فللمالک إجازة ما شاء ومهما أجاز عقدا علی المبیع صحّ وما بعده خاصة وفی الثمن ینعکس ولا یقدح فی ذلک علم المشتری بالغصب.

ولو فسخ المالک أخذ العین وزوائدها ومنافعها فإن هلکت رجع علی مَنْ شاءَ

والقرار علی المشتری مع العلم وعلی الغاصب مع الجهل أو دعواه الوکالة.

ویرجع بالثمن مع وجوده علی کلّ حال، وکذا مع تلفه جاهلاً إذا رجع علیه المالک بالقیمة...»(2).

وفی حاشیته علی القواعد ما نصه: «ملحق وُجد بخطّه علی نسخة بعض تلامذته، وعنده بخطّ القارئ: وجهه أنّ التتبّع إنّما یتحقّق مع جهل المشتری بالغصبیّة؛ لیقع العقد شبیها بالصحّة، فیقع الثمن فی ملک البائع، فینتقل منه إلی المالک. أمّا مع علمه لا یقع العقد صحیحا بوجه، فلا یستحقّ البائع الثمن حتّی یستحقّه المالک.

قلت: ووجهه أنّه مع علم المشتری یکون مسلِّطا للبائع الغاصب علی الثمن؛ ولهذا لو تلف لم یکن له علیه الرجوع ولو بقی ففیه الوجهان فلا یدخل فی ملک ربّ العین، فحینئذٍ إذا اشتری به البائع متاعا فقد اشتراه لنفسه، وأتلفه عند الدفع إلی البائع، فیتحقّق ملکه للمبیع، فلا یتصوّر نفوذ الإجازة هنا لصیرورته ملکا فلا یمکن تتبّع الشراء وإن أمکن إجازة البیع مع احتمال عدم نفوذها أیضا؛ لأنّ ما دفعه إلی الغاصب کالمأذون له فی إتلافه، فلا یکون ثمنا فلا تؤثّر الإجازة فی جعله ثمنا فصار الإشکال فی صحة البیع مع الإجازة، وفی التتبع.

وصرّح قُطْبُ الدِّیْنِ البویهی: أنّ الإشکال مع العلم فی التتبّع لأنّه یکون إباحةً للثمن»(3).

ص:122


1- 1 . إیضاح الفوائد 1/418 و 417.
2- 1 . الدروس 3/193.
3- 2 . الحاشیة النجاریة /221.

أقول: إلی هنا ظهر أنّ فخرالمحقّقین أسّس قاعدة فی المقام ورضی بها الشهید وهی: فی العقود المترتبة المتعددة علی المبیع (المثمن) لو أجاز المالک المتوسطة منها، صحت ما بعدها وبطلت ما قبلها.

وأمّا العقود المترتبة المتعددة علی الثمن لو أجاز المالک المتوسطة منها فَهِیَ عکس الأمر، صحت ما قبلها وبطلت ما بعدها.

وقال المحقّق الثانی ردّا علی فخرالمحقّقین والشهید وشرحا لکلام العلاّمة فی القواعد: «بمعنی: أنّ له إجازة أی عقد اختار إجازته فإن أجاز عقدا من العقود المرتبة علی المغصوب - کما لو بیع بسیف ثمّ بدار ثمّ بفرس ثمّ بثوب باعتبار اختلاف الأیدی - صح ذلک العقد وبطل ماقبله من العقود لأنّ صحته بإجازته تقتضی کون المبیع باقیا علی

ملکه، وبقاؤه علی ملکه ینافی صحة شی ءٍ من العقود السابقة علی ذلک العقد، إذ لو صح شی ء منها لخرج المبیع عن ملکه، فلم تؤثر إجازته فیه.

لکن سیأتی - فی أنّ من باع مال غیره فضولاً ثمّ اشتراه - ما یقتضی التردد فی بطلان ما قبله، لأنا إذا حملنا عبارته فیما یأتی علی التردد، کان علی احتمال الصحة، یحتمل الصحة بالإجازة هنا.

وأما ما بعده من العقود فیبنی علی أن إجازة الفضولی کاشفة أو ناقلة، فإن قلنا بالأوّل صح ما بعده، لتبین وقوع تصرّفه فی ملکه، وإن قلنا بالثانی تجیء فیه ثلاثة أوجه:

أحدها: البطلان، لتعذر الإجازة، لانحصارها فی المغصوب منه، وقد خرج عن ملکه.

الثانی: الصحة من غیر توقف علی إجازة التصرف ببیعه.

الثالث: توقفه علی إجازته، وسیأتی مثل هذا فیما بعد.

ولو ترتبت العقود علی ثمن المغصوب، کما لو بیع السیف بقوس، ثمّ القوس بدابَّة، ثمّ الدابَّة یبعیر، ثمّ البعیر بدراهم، فإنّ الحکم ینعکس لو أجاز واحدا منها، فإنّ ماقبله یصح، ویقف ما بعده علی الإجازة کالفضولی، إلاّ إذا قلنا الإجازة کاشفة، کما لو أجاز بیع الدابة بالبعیر، فإنّ إجازته إنّما یعتدّ بها شرعا أن لو کان مالکا للدابة، وإنّما یملکه علی هذا

ص:123

التقدیر إذا ملک السیف، وإنّما یملکه أن لو صحّ بیع السیف به، فیجب الحکم بصحة ذلک، حملاً لکلام المسلم علی الوجه الذی یکون معتدّا به شرعا.

واعلم: أنّ هذا إنّما یستقیم إذا جرت العقود علی العوض الذی هو الثمن، ثمّ علی ثمنه وهکذا، فلو جرت علی الثمن خاصة، کما لو بیع السیف مرارا فأجاز واحدا منها، فانّ ذلک العقد یصح ویبطل ما قبله، إلاّ العقد الذی قوبل فیه المغصوب بالسیف، وفیما بعد ذلک العقد الأوجه الثلاثة السابقة.

وبهذا یظهر أنّ إطلاق کلام الشارح(1) وشیخنا الشهید فی الدروس(2) - بأنّ فی سلسلة المثمن یصح العقد المجاز، وما بعده دون ما قبله، وفی الثمن بالعکس - غیر مستقیم، ویحتاج إلی التنقیح فی مواضع:

الأوّل: بیان حال ما بعده فی سلسلة الثمن، بما ذکرناه.

الثانی: وقوف مابعد المجاز فی سلسلة الثمن علی الإجازة، دون البطلان.

الثالث: أنّ ذلک فی سلسلة مخصوصة فی الثمن کما بیّناه، لا مطلقا»(3).

وقال ثانی الشهیدین فی الروضة: «... وإن ترتّبت العقود علی الثمن أو المثمن أو هما وأجاز الجمیع صح أیضا، وإن أجاز أحدهما فإن کان المثمنَ صح فی المجاز وما بعده من العقود، أو الثمن صح و ما قبله.

والفرق أنّ إجازة المبیع توجب انتقاله عن ملک المالک المجیز إلی المشتری فتصح العقود المتأخرة عنه وتبطل السابقة لعدم الإجازة.

وإجازة الثمن توجب انتقاله إلی ملک المجیز فتبطل التصرفات المتأخرة عنه بحیث لم یجزها وتصح السابقة، لأنّ ملک الثمن المتوسط یتوقّف علی صحة العقود السابقة، وإلاّ لم یکن تملک ذلک الثمن، هذا إذا بیعت الأثمان فی جمیع العقود.

وأمّا لو تعلقت العقود بالثمن الأوّل مرارا کان کالمثمن فی صحة ما أُجیز ومابعده،

ص:124


1- 1 . إیضاح الفوائد 1/418.
2- 2 . الدروس 3/193.
3- 1 . جامع المقاصد 4/(71-69).

وهذا القید وارد علی ما أطلقه الجمیع فی هذه المسألة کما فصلناه أوّلاً.

مثاله: لو باع مال المالک بثوب ثمّ باع الثوب بمائة ثمّ باعه المشتری بمائتین ثمّ باعه مشتریه بثلاثمائة فأجاز المالک العقد الأخیر فإنّه لا یقتضی إجازة ما سبق بل لا یصح سواه، ولو أجاز الوسط صح مابعده کالمثمن.

نعم، لو کان قد باع الثوب بکتاب ثمّ باع الکتاب بسیف ثمّ باع السیف بفرس فإجازة بیع السیف بالفرس تقتضی إجازة ما سبقه من العقود، لأنّه إنّما یملک السیف إذا ملک العوض الذی اشتری به وهو الکتاب، ولا یملک الکتاب إلاّ إذا ملک العوض الذی اشتری به وهو الثوب فههنا یصح ما ذکروه»(1).

وقال فی المسالک: «ثمّ إن اتّحد العقد فالحکم واضح، وإن ترتّبت العقود علی الثمن أو المثمن أو هما وأجاز الجمیع صحّ أیضا. وإن أجاز أحدهما، فإن کان هو المثمن صح فی المُجاز وما بعده من العقود. وإن کان هو الثمن صحّ وما قبله. کذا أطلقه جماعة من الأصحاب.

والفرق بین المقامین أنّ إجازة المبیع توجب انتقاله عن ملک المالک المجیز إلی المشتری، فتصحّ العقود المتأخّرة عنه المترتّبة علی فعل المشتری، وتبطل السابقة لعدم

الإجازة. وإجازة الثمن توجب انتقاله إلی ملک المجیز، فتبطل التصرفات المتأخرة عنه فیه، حیث لم یجزها، وتصح السابقة، لأنّ ملک الثمن المتوسط یتوقف علی صحة العقود السابقة، وإلاّ لم یمکن تملّک ذلک الثمن. مثاله: ما لو کان الفضولی قد باع مال المالک بکتاب مثلاً، ثمّ باع الکتاب بسیف، ثمّ باع السیف بثوب، ثمّ باع الثوب بفرس، فأجاز المالک بیع الثوب بالفرس، فإنّ ملکه حینئذٍ للفرس یتوقف علی تملّک الثوب، وإنّما یملک الثوب إذا ملک العوض الذی اشتری به وهو السیف وإنّما یملک السیف إذا ملک العوض الذی اشتری به وهو الکتاب. فظهر أنّ إجازته للعقد المتأخر یستلزم إجازة العقود السابقة، وإلاّ لم یتمّ، فیحکم بصحة ذلک کلّه، حملاً لفعل المسلم علی الوجه المعتدّ به

ص:125


1- 2 . الروضة البهیة 3/(234-230).

شرعا.

وهذا الحکم صحیح فی هذا المثال ونظائره، إلاّ أنّ مسألة ترتب العقود علی الثمن أعمّ منه. فإنّ من صوره ما لو بیع الثمن - وهو الکتاب فی هذا المثال - مرارا، کما لو باعه ذلک الفضولی بمائة، ثمّ باعه المشتری بمائتین، ثمّ باعه المشتری الثانی بثلاثمائة، فأجاز المالک العقد الأخیر، فإنّه لا یقتضی إجازة ما سبق، بل لا یصحّ سواه، مع أنّه یصدق علیه أنّ العقود ترتبت علی الثمن، ولم یتمّ الحکم بصحة ما قبل المجاز.

وأمّا مسألة سلسلة العقود علی المثمن، فصحة العقود اللاحقة للمُجاز مبنیّة علی أنّ الإجازة کاشفة، لیظهر ملک کل بائع متأخر حین بیعه وان کان فی ثانی الحال، أمّا لو جعلناها ناقلة للملک من حین الإجازة، فالبائع لم یکن مالکا حین بیعه، وانّما ملک بعده بالإجازة، والإجازة کانت لمالک العین ولم یحصل، وعند إجازته للعقد السابق خرج اللاحق عن ملکه فلم یمکنه الإجازة، فتبنی صحة البیع المتأخر حینئذٍ علی من باع فضولیا ثمّ انتقل إلیه الملک، فإنّ فی لزوم البیع حینئذٍ، أو توقفه علی إجازته ثانیا وجهان. وقد ظهر بذلک أنّ اطلاقهم الحکم فی السلستین یحتاج إلی تنقیح»(1).

أقول: اعترض المحقّق الثانی وتبعه الشهید الثانی علی العَلَمَیْنِ - فخرالمحقّقین والشهید - فی اطلاق قاعدتهما:

فی العقود المترتبة المتعددة علی المبیع (المثمن) لو أجاز المالک المتوسطة منها بطلت ما قبلها - وهذا علی اطلاقه صحیح - وأمّا بالنسبة إلی صحة ما بَعْدَها فإنَّهُ لایکون

علی اطلاقه صحیحا، بل هی تصح علی القول بالکشف فقط وأمّا علی القول بالنقل فتأتی ثلاثة احتمالات:

1- البطلان، لأنّ البائعین باعوا ما لیس فی ملک قبل إجازة المالک والبیع لابدّ أن یکون فی ملک.

2- الصحة مع توقفه علی إجازة المالک، لأنّهم باعوا ملک الغیر فیحتاج إلی إجازة

ص:126


1- 1 . مسالک الأفهام 3/158 و 159.

مالکه کما فی الفضولی. أو علی القول بالتوقف علی الإجازة المستأنفة فی مسألة من باع شیئا ثمّ ملکه.

3- الصحة مطلقا - من دون التوقف علی الإجازة - علی القول بالصحة مطلقا فی مسألة من باع شیئا ثمّ ملکه.

وفی العقود المترتبة المتعددة علی الثمن لو أجاز المالک المتوسطة منها صحت ما قبلها وبطلت مابعدها، تام إذا تبدّل الثمن فی کل معاملة إلی شی ءٍ آخر مثل تبدّل الثوب بکتاب، والکتاب بسیف والسیف بفرس وهکذا.

وأمّا لو تعلّقت العقود المتعددة بالثمن الأوّل مرارا نحو تبدّل ثوب المالک بکتاب والکتاب بالمأة ثمّ بمأتین ثمّ بثلاثمأة ثمّ... فی هذا المورد یکون فرض الثمن کالمثمن والمبیع یعنی لو أجاز المالک المتوسطة منها بطلت ما قبلها وصحت ما بعدها علی القول بالکشف مطلقا وعلی القول بالنقل تأتی الاحتمالات الثلاثة الماضیة، هذا نقد ثانی المحققَیْن علی العَلَمین وتبعه ثانی الشهیدین کما مرّ.

قال جدی الشیخ جعفر: «(وللمالک تتّبع العقود ورعایة مصلحته) فیُجیز ما شاء منها. فإن کانت متعاقبة علی عین واحدة ثمنا أو مثمنا أو مختلفا فإجازة العالی تقضی بصحة السافل، لا للإجازة بل لوقوع العقد فی محلِّها بعد خروج العین عن أهلها. هذا علی القول بالکشف.

وعلی النقل تُحتمل وجوه ثلاثة: أحدها: البطلان فی الأسافل، لعدم مصادفتها الملک. وثانیها: القول بالصحّة، نظرا إلی أنّ حدوث الملک بحکم الإجازة. وثالثها: التوقّف علی الإجازة. ولعلّ الأوسط أوسط. وأمّا إجازة السافل فلا تقضی بصحّة العالی، إذ لا ربط بینهما. و(1) المتوسط من العقود: حاشیتاه غیر خارجتین عن القسمین.

وغیر المتعاقبة علی المحلّ الواحد؛ إجازة العالی منها لا تقضی بإجازة السافل، لأنّ العوض صار ملکا للمجیز، فلا ینتقل عنه إلاّ بإجازة اُخری. وإجازة السافل تقضی

ص:127


1- 1 . فی بعض النسخ: (بل) بدل الواو.

بإجازة العالی تبعا، علی نحو حکم المقدّمة، فمع الاکتفاء بمطلق الرضا أو القول بأنّ حکم المقدمّة مستفاد من اللّفظ؛ فلا إشکال.

ومَن أراد استیفاء الأقسام لیتدرّب فی معرفة الأحکام فلیعلم أنّ العقد، والعاقد، والمتعلّق، والجهة کالعوضیّة(1) ومقابلها: إمّا واحد، أو متعدّد، أو مختلف. ثمّ العقود المتعدّدة: إمّا مجتمعة أو مترتّبة، معلومة التاریخ فی الجمیع أو فی البعض أو لا، متوافقة فی الاقتضاء - شطورا، وشروطا، وقیودا - أو مختلفة. ثمّ العاقد: إمّا متحدة أو متعدّدة أو مختلفة، من متحد أو متعدّد أو مختلف، مترتّبة أو دفعیة أو مختلفة، معلومة التاریخ فی الکلّ أو البعض أو لا، متعلّقة بالجمیع أو البعض المتعدّد أو المتحد، شخصیا أو کلّیا أو مردّدا، مع الکشف أو النقل، إلی غیر ذلک من الأقسام. ومَن أعطی النظر حقّه لم یخف علیه شیء من الأحکام.

کلّ ذلک مع عدم المانع. أمّا لو حصل مانع فی بعضها، کبیع مسلم أو قرآن علی کافر؛ لم تؤثّر الإجازة فیه، ولا فی توابعه»(2).

وقال صاحب الجواهر رحمه الله : «وربّما تظهر الثمرة أیضا: فیما لو ترتّبت العقود علی المبیع أو الثمن أو علیهما فضولاً، ولا ریب فی أنّ للمالک تتبّع العقود ورعایة المصلحة له فیجیز ما شاء.

لکن فی الدروس ومحکی الإیضاح أنّه «إذا أجاز عقدا علی المبیع صحّ ومابعده خاصّة وفی الثمن ینعکس». أی یصحّ هو وما قبله خاصّة.

وکأنّ وجهه: أنّ الفضولی لو باع العبد مثلاً بسیف، ثمّ باعه المشتری من الفضولی بدار، ثمّ باعه الثانی بفرس، ثمّ باعه الثالث بثوب، فأجاز المالک منها بیعه بالدار، صحّ هو وبطل السابق قطعا؛ لعدم الإجازة.

وذلک لأنّ إجازته الثانی تقتضی کون المبیع باقیا علی ملکه، وبقاؤه علی ملکه

ص:128


1- 1 . فی بعض النسخ: (کالعوض).
2- 2 . شرح القواعد 2/(88-86).

ینافی صحّة شیء من العقود السابقة علی ذلک العقد؛ إذ لو صحّ شیء منها لخرج المبیع عن ملکه، فلم تؤثّر إجازته فیه.

وأمّا ما بعده من العقود: فلا ریب فی صحّتها بناءً علی الکشف؛ لوقوع التصرّف حینئذٍ فی الملک.

وأمّا علی النقل، فیحتمل: البطلان؛ لتعذّر الإجازة حینئذٍ من المالک. والصحّة بلا إجازة؛ لحصول الملک للبائع الذی قد یتحقّق رضاه ببیعه فضولاً، ولم یبق إلاّ الملک وقد حصل. والصحّة مع الإجازة منه؛ لکون الرضا الأوّل إنّما کان والمال لغیره. ولعلّ الأوّل أقوی.

وأمّا لو ترتّبت علی الثمن: کما لو بیع السیف بقوس، ثمّ القوس بدابّة، ثمّ الدابّة ببعیر، ثمّ البعیر بدراهم، فإنّ الحکم ینعکس لو أجاز واحدا منها، فإنّ ما قبله یصحّ، ویقف ما بعده علی الإجازة؛ لأنّه فضولی.

فلو أجاز فی المثال بیع الدابّة بالبعیر مثلاً استلزم إجازة ما قبله؛ لأنّ إجازته إنّما یعتدّ بها شرعا لو کان مالکا؛ للدابّة، وإنّما یکون مالکا لها حینئذٍ لو ملک ما بذل فی مقابله وهو القوس، وإنّما یملک علی هذا التقدیر إذا ملک السیف، وإنّما یملکه لو صحّ بیع السیف، فیجب الحکم بصحّته؛ حملاً لکلام المسلم علی الوجه الذی یکون معتدّا به شرعا. وهذا کلّه واضح.

نعم، ینبغی أن یکون ذلک فی الثمن(1) لو کانت السلسلة علی ما ذکرناه، أمّا لو جرت العقود علی الثمن خاصّة کما لو بیع السیف مرارا علی حسب ما سمعته فی المثمن، لا علیه ثمّ علی ثمنه... وهکذا، فإنّ المتّجه حینئذٍ فی الفرض المزبور جریان حکم المبیع فیه من صحّة العقد المجاز وما بعده - بناءً علی الکشف، وعلی النقل الوجوه الثلاثة - دون ما قبله، إلاّ العقد الأوّل الذی قوبل فیه المبیع فضولاً، فإنّ دخول الثمن فی الملک متوقّف علی إجازته.

ص:129


1- 1 . فی بعض النسخ: المثمن.

وربّما اُورد(1) المثال المزبور علی إطلاق الفخر والشهید(2). لکن یدفعه: معلومیّة إرادتهما بالترتّب - الذی أثبتا فیه العکس - ما ذکرناه أوّلاً، واکتفائهما بذکر ذلک فی المبیع عن ذکره فی الثمن.

والأمر سهل بعد وضوح الحال، کوضوحه فی غیر الفرض ممّا تتعدّد فیه العقود

مترتّبة وغیر مترتّبة، وفی حکم إجازة ما یجاز منها دفعةً لعدم التنافی کالبیع والإجازة وغیرهما، بل وغیر ذلک ممّا لایخفی حکمه بعد ضبط الأصل من غیر فرق بین النقل والکشف، واللّه أعلم»(3).

وقال المحقّق الخوئی رحمه الله : «قد یقع العقد علی عین مال الغیر واُخری یقع علی عوضه، والإجازة تارة تتعلق بالعقد الواقع علی عین ماله واُخری تتعلق بالعقد الواقع علی عوض ماله، وعلی التقدیرین تارة تتعلق الإجازة بالعقد الأوّل الواقع علی عین ماله واُخری تتعلق بالعقد الآخر الواقع علی عین ماله وثالثة تتعلق بالعقد الوسط الواقع علی عین ماله. وتجری الأقسام الثلاثة فیما إذا کان المجاز العقد الواقع علی عوض ماله لا علی عینه.

(ثمّ) العقد الوسط إذا کان هو المجاز تارة یکون عقدا واقعا علی عین ماله واُخری علی عوضه وکلّ منهما تارة یکون وسطا بین عقدین واقعین علی عین المال بأن یکون طرفاه کذلک، واُخری یکون وسطا بین عقدین واقعین علی عوض ماله، وثالثة یکون مسبوقا بعقد واقع علی عین ماله وملحوقا بعقد واقع علی عوض ماله، ورابعة ینعکس الأمر، فالأقسام ثمانیة، ونتعرض أوّلاً لإجازة العقد الواقع علی عین ماله، ثمّ بعد ذلک نذکر تعلق الإجازة بالعقد الواقع علی عوض ماله بأقسامه، کما إنّا نتعرض صورة تعلُّق الإجازة بالعقد الوسط وما یترتب علیه من حکم العقود، السابقة واللاحقة، وبذلک تتضح صورة تعلق الإجازة بأوّل العقود أو بآخرها، ونقول:

ص:130


1- 2 . کما فی جامع المقاصد: المتاجر / فی المتعاقدین 4/(71-70).
2- 3 . تقدّم نقل کلامهما.
3- 1 . الجواهر 23/(472-470)؛ [22/(292 و 293)].

حکم المسألة - وإنْ کان واضحا - إلاّ أن تصویرها لا یخلو عن إشکال، ونمثل لها بما جعله المصنف مجمعا للکلِّ، فتفرض أنّ عبد المالک بیع بفرس ثمّ بیع بکتاب ثمّ باعه المشتری بدینار، فإلی هناک یکون بیع العبد بکتاب وسطا بین بیعین واقعین علی عین العبد، وهو بیع العبد بفرس وبیعه بدینار، ثمّ باع البائع الفرس بدرهم وباع الثالث الدینار بجاریة، فیکون بیع العبد بکتاب وسطا بین عقدین واقعین علی عوض ماله وهو بیع الفرس بدرهم، وهو السابق علی بیع العبد بکتاب وبیع الدینار بجاریة وهو لاحقٌ علیه، فإذا فرضنا أنّ المالک أجاز البیع الوسط الواقع علی عین ماله - وهو بیع العبد بالکتاب - فالعقود السابقة الواقعة علی عین ماله کبیع العبد بالفرس - تبطل، لأن إجازة غیره ردّ له،

کما أنّ العقود السابقة الواقعة علی عوض ماله کبیع الفرس بدرهم یکون أجنبیا عن المجیز، لأنّه عقد واقع علی مال الغیر، فلابد من إجازة مالکه.

وعلی کلِّ تقدیر العقود السابقة الواقعة علی عین ماله أو علی بدله یکون أجنبیا عن المجیز، وأما العقود اللاحقة فالعقود المتأخرة الواقعة علی عین ماله تصح علی الکشف بلا إشکال، لأنّه بالإجازة یستکشف کونه من المالک وواقعا علی ملکه، وأما علی النقل فیدخل فیمن باع شیئا ثمّ ملک، فإن قلنا بصحته مع الإجازة أو بدونه نلتزم بها فی المقام وإلاّ فلا، وهکذا العقود اللاحقة الواقعة علی عوض ماله کبیع الدینار بجاریة، فإجازة العقد الوسط الواقع علی عین ماله تستلزم فساد العقود السابقة علیه الواقعة علی عین ماله أو علی عوضه، کما یستلزم صحة العقود اللاحقة الواقعة علیه علی الکشف، سواء کانت واقعة علی عین ماله أو علی بدله، وعلی النقل یبتنی صحتها علی صحة «من باع شیئا ثمّ ملک».

ولکن ما ذکرناه إنّما یتم فیما إذا أجاز المالک البیع الواقع علی عین ماله لنفسه فإنّه یستلزم رد العقود السابقة وصحة العقود اللاحقة علیه، وأما إذا أجاز للبائع فهو تستلزم صحة العقد السابق علیه لا فساده کما هو ظاهر، وأما العقد اللاحق علیه فصحته حینئذ مبتنیة علی إجازة المالک للبیع بالعقد السابق کما هو ظاهر.

ولیعلم أنّ المراد من السبق واللحوق فی المقام لیس هو التقدم والتأخر فی الزمان،

ص:131

بل المراد منه التقدم والتأخر الرتبی، فالمراد من العقود اللاحقة ما تتوقف صحتها علی صحته ومن العقود السابقة ما لا تتوقف صحته علی صحته.

هذا کله فیما إذا کان العقد المجاز واقعا علی عین ماله، وأما إذا کان واقعا علی عوض المال فمثاله الجامع لأقسامه الأربعة: ما إذا بیع العبد بفرس، والفرس بدرهم، والدرهم برغیف، والدرهم بحمار، والرغیف بعسل. فبیع الدرهم بالرغیف وسط بین عقدین سابقین أحدهما واقع علی عینه وهو بیع الفرس بدرهم والآخر علی عوضه وهو بیع العبد بفرس، وعقدین لاحقین أحدهما واقع علی عینه وهو بیع الدرهم بحمار والآخر علی عوضه وهو بیع الرغیف بعسل، فهذه البیوع الخمسة تکون جامعا للإمثلة کما هو واضح، فإذا أجاز الوسط - أی بیع الدرهم بالرغیف - فهی مستلزمة لإجازة العقدین السابقین - أعنی بیع العبد بالفرس والفرس بدرهم - لیکون بإجازتهما مالکا للدرهم، وینفذ إجازته فی بیعه بالرغیف وصحة هذه الإجازة بناءً علی الکشف واضح، وأما علی

النقل فصحتها مبتنیة علی عدم اعتبار مالکیة المجیز حین العقد. وأما العقدان اللاحقان علیه فبیع الدرهم بحمار - أعنی الواقع علی عین المال - فهو أیضا یصح بعد ما أجاز الدرهم بالرغیف. وهذا بناءً علی الکشف ظاهر وأما بناء علی النقل فالصحة مبنیة علی صحة بیع من باع شیئا ثمّ ملک وأما بیع الرغیف بعسل أعنی الواقع علی عوض العقد المجاز فیکون صحیحا بعد إجازة بیع الدرهم بالرغیف إن کان المجیز هو البائع، وهو علی الکشف واضح وأمّا علی النقل فیدخل فیمن باع شیئا ثمّ ملک، وان کان البائع أجنبیا فحکمه حکم البیع الواقع علی المعوض ابتداءً کما ذکر المصنف فیحتاج إلی الإجازة.

وبالجملة فإجازة العقد الوسط یوجب صحة العقود السابقه الملزمة لصحته کما یوجب صحة العقود اللاحقة التی یستلزم العقد الوسط صحتها، وهذا هو المیزان لا ما ذکره الشهید فی الدروس، وحکی عن الإیضاح أیضا من أنّ الإجازة إنْ تعلقت بالعقد الواقع علی المبیع صح وما بعده وفی الثمن ینعکس، إذ لا فرق فیما ذکرناه بین ما إذا کان عین مال المالک المجیز أو عوضه مبیعا فی العقد المجاز أو ثمنا، اللهم إلاّ أن یزید بذلک ما قلناه من تعلّق الإجازة بالعقد الواقع علی عین مال المالک، وعبر عنه بالمبیع، أو بالعقد

ص:132

الواقع علی عوضه، وهو مراده بالواقع علی الثمن، وعلی هذا أیضا اطلاق کلامه ممنوع کما ظهر أیضا بما قلناه فساد ما ذکره المصنف فی ترتیب العقود المتعددة علی مال المجیز من أنّها إذا وقعت من أشخاص مُتَعَدِّدِیْنَ کانَتْ(1) إجازة الوسط منها فسخا لما قبلها(2) وإجازة لما بعدها(3)، وإذا وقعت من شخص واحد انعکس الأمر وذلک لما عرفت من أنّ تعدد العاقد ووحدته لا ربط له بذلک أصلاً، إذ یمکن أن یوقع شخص واحد بیوع عدیدة مترتبة علی مال الغیر وعلی عوضه وهکذا العکس، فالمیزان الکلی ما ذکرناه من ان إجازة العقد الوسط یوجب صحة ملزوماته من العقود السابقة ولوازمه من العقود اللاحقة»(4).

أقول: یمکن تصویر ما ذکره المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله بالرسم علی نحو مایلی:

ص:133


1- 1 . وفی المصدر: «متعددة کان».
2- 2 . وفی المصدر: «قبله».
3- 3 . وفی المصدر: «بعده».
4- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/(457-454).
العقود الواقعة علی عین مال المالک

عقود 1 و 3 و 4 وقع علی عین ماله وهو العبد.

عقدین 2 و 5 وقع علی عوض ماله.

لو أجاز المالک عقد 3: تبطل عقد 1 لأنّ إجازة 3 ردّ ل-ِ 1.

وعقد 2: یکون أجنبیا عن المجیز لأنّه عقد واقع علی مال الغیر فلابدّ من إجازة مالکه.

وأمّا عقد 4: فَیَصِحُّ بناءً علی الکشف وبناءً علی النقل یدخل فی مسألة من باع شیئا ثمّ ملکه. وکذا عقد 5.

هذا کلّه إذا أجاز المالک لنفسه أمّا إذا أجاز للبائع فهو یَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ العقد السابق علیه لا فساده کما هو الظاهر، وأمّا العقود اللاحقة علیه فَصِحَّتُها مبنیّةٌ علی إجازة المالک للبیع بالعقد السابق کما هو الظاهر.

ص:134

العقود الواقعة علی عوض مال المالک
اشارة

لو أجاز بیع 100 درهم برغیف أی عقد 3:

صح عقد 1 و 2: بناءً علی الکشف، وبناء علی النقل صحتهما مبنیٌّ علی عدم اعتبار مالکیة المجیز حین العقد.

وصح عقد 4: بناءً علی الکشف، وبناءً علی النقل مبنیٌّ علی صحة بیع مَنْ باع شیئا ثمّ ملکه.

وعقد 5: صحیح إذا کان المجیز هو البائع - وعلی الکشف واضح، وعلی النقل مبنیٌّ علی مسألة من باع شیئا ثمّ ملکه، وإذا کان البائع أجنبیا فصحته یحتاج إلی إجازة مالکه.

فإجازة العقد الوسط یوجب صحة العقود السابقة الملزومة لصحته، کما یوجب صحة العقود اللاحقة التی یستلزم العقد الوسط صحتها.

الإشکال علی تتبع العقود إذا کان المشتری عالما بالغصب
اشارة
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ هنا إشکالاً فی شمول الحکم بجواز تتبّع العقود لصورة علم المشتری بالغصب...»(1).

أقول: مرّ کلام العلاّمة فی إظهار هذا الإشکال فی القواعد: «... ومع علم المشتری إشکال»(2).

وقال فی نهایته فی منشأ هذا الإشکال: «... ولو کان المشتری عالما بالغصب فإشکال، ینشأ من رجوعه بالثمن وعدمه»(3).

وقال فی التذکرة: «لو باع الفضولی أو اشتری مع جهل الآخر فإشکال ینشأ من أنّ الآخر إنّما قصد تملیک العاقد. أمّا مع العلم فالأقوی ما تقدّم [من الوقوف علی إجازة مالکه]. وفی الغاصب مع علم المشتری أشکل إذ لیس له الرجوع بما دفعه إلی الغاصب هنا.

ص:135


1- 1 . المکاسب 3/471.
2- 2 . القواعد 2/19.
3- 3 . نهایة الإحکام 2/476.

... وهل یرجع بما دفعه ممّا حصل له فی مقابلته نفع؟ قولان. ولو کان عالما لم یرجع بما اغترم ولا بالثمن مع علم الغاصب مطلقا عند علمائنا.

والأقوی: أنّ له الرجوع مع بقاء الثمن، لعدم الانتقال بخلاف التالف لأنّه أباحة فیه من غیر عوض»(1).

أقول: یظهر من العلاّمة أنّ عدم جواز الرجوع إلی الثمن إذا کان المشتری عالما بالغصبیة إجماعیٌّ حیث عبر عنه ب- «عند علماءنا»، ولکنّه قدس سره ترک هذا الإجماع وذهب إلی التفصیل بین بقاء الثمن فیجوز رجوعه، وتلفه فلا یجوز، وهذا القول هو الذی اختاره ولده الفخر فی الإیضاح کما مرّ وسیأتی.

وقد مرّ(2) کلام نجله فی توضیح إشکال والده فی الإیضاح فلا نعیده إلاّ ما اختاره فی الختام حیث یقول تبعا لوالده: «... والأصح عندی أنّه مع وجود عین الثمن للمشتری العالم أخذه ومع التلف لیس له الرجوع به»(3).

وقال قطب الدین محمّد بن محمّد البویهی وهو من تلامذة العلاّمة الحلّی فی حاشیته علی القواعد المسماة ب-«الحواشی القطبیة» ما نصه: «أنّ الإشکال مع العلم فی التتبّع لأنّه یکون إباحةً للثمن»(4).

وقد مرّ(5) کلام الشهید فی الحاشیة النجاریة(6) فی وجهه وتوضیحه، وقال الشهید مضافا إلی ما نقلتُهُ عنه سابقا: «الإشکال هنا إنّما هو فی التتبّع لأنّه مع جهل المشتری یکون العقد شبیها بالصحیح، فإذا اشتری بالثمن وأجازه المالک ملک ما اشتری به، بخلاف العالم؛ فإنّه یکون المشتری مسلّطا للغاصب علی الثمن، فلاتنفذ فیه إجازة الغیر بعد تلفه

ص:136


1- 1 . تذکرة الفقهاء 10/18 و 17.
2- 2 . راجع صفحة 120 من هذا المجلد.
3- 3 . إیضاح الفوائد 1/418.
4- 4 . نقل عنه الشهید فی الحاشیة النجاریة /221.
5- 5 . راجع صحفة 122 من هذا المجلد.
6- 6 . الحاشیة النجاریة /221.

بفعل المسلّط بدفعه ثمنا عن مبیعٍ اشتراه، ومن أنّ الثمن عوضٌ عن العین المملوکة، ولم یمنع من نفوذ الملک فیه إلاّ عدم صدوره عن المالک، فإذا أجاز جری مجری الصادر عنه.

واعلم أنّه یلزم من بطلان القول بالتتبّع بطلان إجازة البیع فی المبیع؛ لاستحالة کون المبیع بلا ثمن، فإذا قیل: إنّ الإشکال فی صحّة العقد کان صحیحا أیضا»(1).

وقال المحقّق الثانی فی شرح قول العلاّمة: «(ومع علم المشتری إشکال). أی: له التتبع إذا کان المشتری جاهلاً، لتحقّق المعاوضة حینئذ، أما مع علمه بالغصب ففی الحکم إشکال، ینشأ من ثبوت المعاوضة فی العقد، فلکه تملکه بالإجازة رعایة لمصلحته، ومن انتفائها بحسب الواقع، لأن المدفوع ثمنا یملکه الغاصب، لتسلیطه إیّاه علیه، ولهذا یمتنع استرداده عند الأصحاب وإن بقیت عینه، والمطالبة(2) بعوضه إذا تلف خاصّة عند المصنف، فیمتنع علی مالک العین تملکه.

ویمکن أن یکون ذلک معطوفا علی محذوف دلّ علیه السیاق، وتقدیر العبارة: وکذا الغاصب، أی: وکذا بیع الغاصب موقوف إذا کان المشتری جاهلاً، ومع علمه إشکال، ینشأ مما ذکر، فیکون الإشکال فی کونه موقوفا علی الإجازة، وإن بُعد هذا التقدیر، وأیّما الأمرین قدّرت الاشکال فیه، فمجیئه فی الآخر لازم له.

ویمکن أن یکون الإشکال فیهما معا، وفیه من التکلّف ما لایخفی، والأصح عدم الفرق بین علمه بالغصب وعدمه، لأن المعتمد أنّ للمشتری استعادة الثمن مع بقاء عینه، لعدم خروجه عن ملکه إلی الغاصب، لعدم المقتضی.

وتجویز تصرّفه فیه عند الأصحاب لتسلیطه علیه، لا ینافی کونه عوضا للمبیع بمقتضی عقد البیع، إذ لو وقع التصریح بمثل ذلک فی عوض العقد الفضولی لمن أوقعه فضولاً، لم یکن قادحا فی ثبوت الإجازة للمالک.

ص:137


1- 1 . الحاشیة النجاریة /222.
2- 2 . کلمة (والمطالبة) معطوفة علی جملة (یمتنع)، أی: وتمتنع المطابلة بعوضه. وفی نسخة وردت کلمة (فیمتنع) قبل (والمطالبة) وحذفها المحقّقون لعدم ورودها فی الحجری ولعدم اقتضاء السیاق لها.

فإن قلت: إن جعلت الإجازة کاشفة دلّت بحصولها علی انتقال الثمن إلی ملک المجیز بالعقد، فکیف تؤثر فیه إباحة المشتری له للغاصب بعد العقد، إمّا بتسلیطه إیّاه علیه أو بتصریحه له بالإباحة؟ وسیأتی فی کلام المصنف اختیار کون الإجازة کاشفة.

قلت: لمّا أجمع الأصحاب علی أنه إذا تلف العوض، لیس للمشتری مطالبة المشتری به، وجب إخراج هذا الحکم عن مقتضی الأصل بالإجماع، وإجراء ماعداه علی الأصل.

فان قلت: حقّ المعاوضة مع کون المشتری عالما بأن البائع غاصب أن لا تکون مقصودة، فلا یعتدّ بها أصلاً.

قلت: هذا لا یقدح فی کونها مقصودة، وإلاّ لقدح فی بیع الفضولی إذا علم المشتری بالحال. والحاصل: أن کلّما یقال فی الغاصب، یقال فی الفضولی، والجواب هو الجواب»(1).

وقال الشیخ جعفر رحمه الله : «(ومع علم المشتری) بالغصب ودفع الثمن إلی البائع، أو علم البائع ودفع المثمن إلی المشتری؛ فی الدخول تحت مسألة الفضولی (إشکال) ینشأ:

من احتمال الملک فی الثمن أو المثمن بعد الدفع والإعراض، فلا یکون التصرّف فیه إلاّ من تصرّف الملاّک ولا یدخل فی الفضولی، ولا یکون للإجازة تأثیر(2). ویقوی فی التعلّق(3) بالعین. واحتمال عدمه، لأنّ التسلیط لا یقتضی نقل الملک ما لم یکن ناقل شرعی. وفی الفرق بین البقاء والتلف، وبین القول بالکشف والنقل؛ وجه.

أو من أنّ العقد یستدعی قصدا، ولا قصد من العالم، وقصد المالک قام مقام قصد الفضولی و(4)الغاصب فی البیع، ولیس للمشتری لنفسه مَنْ یقوم مقامه(5) - فلا یختصّ

ص:138


1- 1 . جامع المقاصد 4/72 و 71.
2- 2 . کما فی: إیضاح الفوائد 1/417-418، جامع المقاصد 4/71.
3- 3 . فی بعض النسخ: (ویقوی التعلّق). وفی بعضها: (ویقوی فی المتعلّق).
4- 4 . فی بعض النسخ العطف ب- (أو).
5- 5 . هذا الوجه منتزع من کلام المصنّف، فی: تذکرة الفقهاء 10/16-17، الفرع 8.

بحال دفع الثمن. ویرجع إلی أصل الفضولی والغاصب - ومن أنّ قصد النقل العرفی مجزٍ، کما تقدّم.

أو من أنّه یلزم فی الإجازة ملک المثمن بلا عوض، علی القول بالنقل(1). وهو مبنیٌّ علی الأوّل.

وأمّا الحمل علی إرادة الإضمار ویکون الحاصل: أنّ فضولی الغاصب أو مطلقا، مع علم المشتری وجهله، فیه إشکال، فضعیف»(2).

قال تلمیذه السیّد العاملی رحمه الله بعد نقل کلمات الفقهاء فی المقام: «قلتُ: قد تحصّل أنّ هنا مقامین،

الأوّل: هل للمشتری العالم بالغصب مطالبة الغاصب البائع بالثمن مطلقا سواء بقیت العین أم أتلفها أم لیس له مطلقا أم له مع بقائها خاصّة؟ الثانی: هل بیع الغاصب مع علم المشتری بغصبیّته صحیح فللمالک تتبّع العقود والإجازة أم لیس بصحیح؟ وقد بنی المحقّق الثانی(3) صحّة المقام الثانی علی المقام الأوّل، ونحن نتکلّم فی المقامین علی أنّه قد مضی ماله نفعٌ تامٌّ فی المقام الثانی.

فنقول فی المقام الأوّل: قال فی «التذکرة»(4): لو کان عالما لا یرجع بما اغترم ولا بالثمن مع علم الغصب مطلقا عند علمائنا. وظاهره دعوی الإجماع مع التلف وبدونه. ونحوه ما فی «نهایة الإحکام»(5) حین قال: وأطلق علماؤنا ذلک. وقال فی «المختلف»(6) و «الإیضاح»(7): قال علماؤنا: لیس للمشتری الرجوع علی الغاصب، وأطلقوا القول فی

ص:139


1- 6 . کما فی الحاشیة النجاریة /220 و 221.
2- 7 . شرح القواعد 2/89 و 88.
3- 1 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/71.
4- 2 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/18.
5- 3 . نهایة الإحکام: فی عقد البیع 2/478.
6- 4 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/55.
7- 5 . إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/417.

ذلک. وفی «تلخیص التلخیص» أطلق الأصحاب کافّة، وقد نسب عدم الرجوع مع بقاء العین فی «الإیضاح»(1) أیضا فی مقامٍ آخر تارةً إلی قول الأصحاب وأخری إلی نصّهم. وفی موضعٍ آخر(2) إلی کثیرٍ منهم، ذکر ذلک فی الغصب. وفی «جامع المقاصد»(3) یمتنع استرداده العین عند الأصحاب وإن بقیت العین، وفی موضعٍ آخر من الکتاب المذکور نسبته إلی ظاهر الأصحاب، وفی «الروضة»(4) نسبته إلی ظاهر کلامهم. وفی «المسالک»(5) و«الکفایة»(6) و «الریاض»(7) نسبته إلی المشهور. وفی موضعٍ آخر من

«الروضة»(8) إلی الأکثر.

والتتبّع فی کلام الشیخ(9) ومَن(10) تأخّر عنه یشهد بذلک ما عدا «المختلف»(11) و«التذکرة»(12) و«الکتاب» [القواعد] فیما یأتی و«نهایة الإحکام»(13) و«الإیضاح»(14)

ص:140


1- 6 . إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/417.
2- 7 . إیضاح الفوائد: فی أحکام الغصب 2/194.
3- 8 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/71 و 77.
4- 9 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235.
5- 10 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 4/160.
6- 11 . کفایة الأحکام: فی عقد البیع 1/450.
7- 12 . ریاض المسائل: فی بیع الفضولی 8/228.
8- 1 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235.
9- 2 . المبسوط: فی الغصب 3/71 والنهایة: فی المتاجر /402.
10- 3 . کالمحقّق فی شرائع الإسلام: فی عقد البیع 2/8، والحلّی فی السرائر: فی ضروب المکاسب 2/226 و 225.
11- 4 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع 5/56.
12- 5 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/18.
13- 6 . نهایة الإحکام: فی شروط عقد البیع 2/478.
14- 7 . إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/418.

و«شرح الإرشاد» لفخرالإسلام(1) و«الدروس»(2) و«اللمعة»(3) و«جامع المقاصد»(4) و«المسالک»(5) و«الروضة»(6) و«الکفایة»(7) فإنّ فیها اختیار الرجوع مع وجود العین.

وکأنّ المحقّق فی «الشرائع»(8) والمصنّف فی کتاب الغصب(9) متردّدان کصاحب «مجمع البرهان»(10) وکأنّهم لم یتحقّقوا الإجماع، وظهوره لیس بإجماع، والشهرة وإن علمت لا تغنی غنیً، لکن فی «المسالک»(11) و«الروضة»(12) و«الریاض»(13) أنّ العلاّمة ادّعی الإجماع فی التذکرة علی عدم الرجوع مع التلف، والعبارة الموجودة فی «التذکرة» هی ما قد سمعتها ظاهرة فی دعواه مع التلف وبدونه إلاّ

أن یقال: إنّه لمّا اختار فی الکتاب المذکور العدم مع البقاء فهم منه أنّه لم یتحقّق الإجماع علی الإطلاق، وإلاّ لما صحّ له مخالفته، فیبقی الکلام فی ظهوره والقطع به، وهذه الکلمة لا تفید إلاّ الظهور ولم أجد له فی البیع والغصب عبارة غیرها، ولعلّه ممّا زاغ عنه النظر أو أنّ فیما وجدوه من نسخ الکتاب المذکور قد وجد فیه «أجمع» بعد قوله «علمائنا» لکنّه

ص:141


1- 8 . شرح إرشاد الأذهان للنیلی: فی البیع /46 السطر الأوّل (من کتب مکتبة المرعشی برقم 2474).
2- 9 . الدروس الشرعیة: فی بیع الفضولی 3/193.
3- 10 . اللمعة الدمشقیة: فی عقد البیع /110.
4- 11 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/71.
5- 12 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/161.
6- 13 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235.
7- 14 . کفایة الأحکام: فی عقد البیع وشروطه 1/450.
8- 15 . شرائع الإسلام: فی عقد البیع 2/8.
9- 16 . قواعد الأحکام: فی أحکام الغصب 2/238.
10- 17 . مجمع الفائدة والبرهان: فی المتعاقدین 8/164-165.
11- 18 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/161.
12- 19 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235.
13- 20 . ریاض المسائل: فی البیع وآدابه 8/229.

بالنسبة إلینا اتکال علی الهباء، فتأمّل.

وقد استدلّ فی «التذکرة»(1) و«المختلف»(2) و«جامع المقاصد»(3) و«الروضة»(4) و«المسالک»(5) علی الرجوع بعدم الانتقال مع بقاء العین إلی الغاصب، وزید فی «المختلف»(6) و«الإیضاح»(7) أنّه لا عقد یوجب الانتقال، لأنّ العقد الّذی وقع کان باطلاً، ولمّا لم یکن صاحب «جامع المقاصد» ممّن یقول ببطلان العقد اقتصر علی ما سمعت(8) وزاد فی الأخیرین(9) أنّه إنّما دفعه عوضا عن شیء لم یسلم له.

وفیه: أنّا لا نسلّم عدم الانتقال، لأنّه من الجائز أن یکون قد ملکه الغاصب لإعراض المالک عنه أو یأسه منه کما ذکروه(10) فی مال السفینة إذا انکسرت فی البحر، فتأمّل.

سلّمنا لکن من الجائز أن یکون عدم جواز الرجوع للمشتری عقوبة له حیث دفع ماله معاوضا به علی محرّم، فیکون الغاصب البائع مخاطبا بردّه، فإن بذله أخذه المشتری، وإن امتنع منه بقی للمشتری فی ذمّته وإن لم یجز له مطالبته، کما هو الشأن فیما لو حلف المنکر کاذبا علی عدم استحقاق المال فی ذمّته، لکنّ ذلک فرع قیام الدلیل إلاّ أن یدّعی تحصیل الإجماع من المتقدّمین والشأن فی إثبات ذلک، علی أنّه قد یقال: إنّ الظاهر فی نحو الرشوة وعوض الخمر وسائر المحرّمات أنّ له أن یرجع إلی عوضه مع أنّه دفعه فی

ص:142


1- 1 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/18.
2- 2 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/56.
3- 3 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/77.
4- 4 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235.
5- 5 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/160.
6- 6 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/56.
7- 7 . إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/421.
8- 8 . تقدّم فی مفتاح الکرامة 12/613.
9- 9 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235، ومسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/160.
10- 10 . کما فی السرائر 2/194-195، والمسالک 14/77-76، مجمع الفائدة والبرهان .12/111

محرّم فلیتأمّل، إلاّ أن تقول: إنّ ذلک مع الجهل کما ستسمع(1) فیما إذا اشتری خمرا وخلاًّ.

ویرد علی ما فی «الروضة» و«المسالک» من أنّه إنّما دفعه عوضا عن شیء لم یسلم له، أنّ ذلک لا یتأتّی فی صورة عدم توقّع الإجازة، فتأمّل.

واستدلّ أیضا فی «الروضة»(2) بأنّه کیف یجتمع تحریم تصرّف البائع فیه مع عدم رجوع المشتری به فی حال.

وفیه - مضافا إلی عدم تأتّیه فی صورة عدم توقّع الاجازة کما مرّ -: أنّ الضمیر فی «فیه» إن کان راجعا إلی المثمن حتّی یکون المراد لا یجتمع تحریم تصرّف البائع فی المثمن مع عدم رجوع المشتری فی الثمن فممنوع، لأنّه أوّل المسألة. ومن ثمّ قالوا: إنّ المشتری قد فوّت ماله متعمّدا لعلمه بتحریم تصرّفه فیه ودفع ماله من غیر عوض، وهو یجتمع مع جواز تصرّف البائع فی الثمن عند القائلین بالإباحة، وقد ذهبوا إلی أنّه حینئذٍ لیس أکلاً مال الغیر بالباطل. وإن کان المراد أنّه لا یجتمع تحریم تصرّف البائع فی الثمن مع عدم جواز رجوع المشتری به - وهو الّذی أراده فی «المسالک»(3) - فمسلّم، لکنّ القائلین بالإباحة لا یقولون بهذا التحریم، کیف ومدعاهم جوازه، علی أنّ ذلک آتٍ فی صورة التلف کما قرّره فی «الروضة»(4) فلیتأمّل، وقد أجمع الأصحاب علی أنّه إذا تلف العوض لیس للمشتری مطالبته به کما فی «شرح الإرشاد» لفخرالإسلام(5) و«جامع المقاصد»(6) و«المسالک»(7) ونسبه إلی علمائنا فی «المختلف»(8) وقد سمعت(9) ما فی «التذکرة» و ما

ص:143


1- 1 . یأتی الکلام فیه فی مفتاح الکرامة 12/660-664.
2- 2 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235.
3- 3 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/161.
4- 4 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235.
5- 5 . شرح إرشاد الأذهان: فی البیع /45، س29 (من کتب مکتبة المرعشی برقم 2474) مخطوط.
6- 6 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/72.
7- 7 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/160.
8- 8 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع 5/55.
9- 9 . تقدّم فی 12/617.

فی «المسالک» و«الروضة» و«الریاض» من نسبة دعوی الإجماع علی ذلک إلی التذکرة، ولم یعرف الخلاف إلاّ من المحقّق فی بعض تحقیقاته فی جواب مسائل سئل عنها، فإنّ فی کلامه ما یقتضی الرجوع مطلقا، کذا نقل عنه المحقّق الثانی(1)، فکان کلامه لیس

بتلک المکانة من الظهور أو الصراحة. وفی «اللمعة»(2) و«الروضة»(3) أنّ قول المحقّق غیر بعید إذا کان متوقّعا للإجازة، واحتمله فی «المسالک»(4) وقال: لو لا ادّعاء العلاّمة الإجماع علیه فی التذکرة لکان فی غایة القوّة، وکذا قال فی «الریاض»(5) وتردّد صاحب «الکفایة»(6).

وأمّا المقام الثانی فقد عرفت(7) أنّ الذاهب إلی صحّة البیع مع علم المشتری بالغصبیة إنّما هو الشهید فی «الدروس» والمحقّق الثانی فی «جامع المقاصد» وعرفت(8) مَن استشکل فی البیع أو الإجازة لمکان التلازم کما مرّ، وعرفت(9) أنّ أخبار الباب الواردة من طرقنا ظاهرة الدلالة علی بطلانه، مضافا إلی ما أیّدناه به ممّا سمعته(10) فی أحد وجهی الإشکال.

ص:144


1- 10 . جامع المقاصد: فی المتعاقدین 4/77.
2- 1 . اللمعة الدمشقیة: فی عقد البیع /110.
3- 2 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/235.
4- 3 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/161.
5- 4 . ریاض المسائل: فی البیع وآدابه 8/229.
6- 5 . کفایة الأحکام: فی عقد البیع 1/450.
7- 6 . تقدّم فی 12/613.
8- 7 . تقدّم فی 12/614 وما بعدها.
9- 8 . تقدّم فی 12/597.
10- 9 . تقدّم فی 12/612 وما بعدها.

وقد احتجّ فی «جامع المقاصد»(1) علی الصحّة بأنّ الأصحّ عدم الفرق بین علمه بالغصب وعدمه، لأنّ المعتمد أنّ للمشتری استعادة الثمن مع بقاء عینه، لعدم خروجه عن ملکه إلی الغاصب لعدم المقتضی، وتجویز تصرّفه فیه عند الأصحاب لتسلیطه علیه لا ینافی کونه عوضا بمقتضی عقد البیع، إذ لو وقع التصریح بمثل ذلک فی عوض العقد الفضولی لمن أوقعه فضولاً للم یکن قادحا فی ثبوت الإجازة للمالک.

وفیه: أوّلاً: أنّه اجتهاد فی مقابلة النصّ وقد بناه علی ما عرفت حاله، وثانیا: إمّا أن یکون قد أباح له التصرّف فیه وسلّطه علیه غیر مترقّب لإجازة المالک بل ولا محتمل لها أو یکون متوقّعا لها، فعلی الأوّل کیف لا ینافی کونه عوضا، والفرق حینئذٍ بینه وبین الفضولی واضح، لأنّه فی الفضولی لم یبحه مطلقا بل دفعه متوقّعا لکونه عوضا عن المبیع

فیکون مضمونا علیه بخلاف ما نحن فیه فإنّه سلّطه علیه وأباحه له مع علمه بعدم استحقاقه له، وعلی الثانی فعلی القول الأصحّ بأنّ الإجازة کاشفة تکون قد دلّت حین حصولها علی انتقال الثمن إلی ملک المجیز بالعقد فکیف تؤثّر فیه إباحة المشتری للغاصب بعد العقد تصریحا أو تسلیطا؟ فتجویز تصرّفه فیه عند الأصحاب إنّما هو لکون العقد غیر صحیح کما هو واضح، ولا کذلک الحال فی صورة الجهل، علی أنّ المعاوضة فی صورة العلم بأنّ البائع غاصب لا یعتدّ بها، لأن(2) کانت غیر مقصودة، ولا کذلک الحال فی بیع الفضولی إذا علم المشتری بالحال، لأنّه مترقّب للإجازة متوقّع لکون ما دفعه عوضا عن المبیع، فتأمّل.

ولمّا لم یحقّق صاحب الحدائق(3) کلام القوم فی المقام أطنب فی الکلام وقلّب الاُمور فظنّ أنّ المقام الأوّل مبنیٌّ علی المقام الثانی مع أنّ الأمر بالعکس، وذلک من ضعف التثبت وعدم التروّی وقلّة التدبّر»(4).

ص:145


1- 10 . جامع المقاصد:فی شروط المتعادقین 4/71.
2- 1 . کذا فی المصدر والأصح: لأنَّها.
3- 2 . الحدائق 18/(399-393).
4- 3 . مفتاح الکرامة 12/(621-614).

قال المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله فی المقام الثانی من البحث: «حاصله [أی حاصل الإشکال]: إنّ الغاصب إذا باع شیئا فالمشتری منه إن کان جاهلاً بکونه غاصبا فلا إشکال فی صحته التأهلیة فینفذ بإجازة البائع [المالک] وهکذا الحال فی العقود المتتابعة وأمّا إن کان عالما به ومع ذلک أقدم علی الشراء منه فهو مسلِّط له علی ماله مجانا لعلمه بفساد البیع والشراء، فإذا اشتری البائع بالثمن شیئا لنفسه یملک ما اشتراه من دون أن یضمن شیئا للمشتری الأوّل، لأنّ ماله قد تلف بالدفع إلی البائع أو هو فی حکم التالف، فلا یبقی مجال بعد ذلک لأن یجیز المالک العقد الواقع علی الثمن لنفسه - أی یجیز العقد الثانی - وکیف یجیز عقدا ما لم یقع علی ماله.

وهذا الاشکال مبنی علی ما هو المعروف من أن تسلیط المالک غیره علی ماله خارجا یوجب عدم ضمانه إذا تلف تحت یده أو أتلفه، فکأن التلف حینئذ یکون فی ملکه والتسلیط یکون مملِّکا فی فرض التلف، هذا کله فی إجازة العقد الثانی.

بل یجری الإشکال فی العقد الأوّل أیضا بناءً علی ما ذکره بعضهم من أنّ التسلیط الخارجی یوجب الملکیة أو إباحة التصرف من الأوّل قبل التلف، فإذا اشتری شخص من

الغاصب شیئا مع علمه بکونه غاصبا فقد أذن له فی الإتلاف، ولا معنی حینئذ لجعله ثمنا، فلا مجال لإجازة المالک البیع الأوّل أیضا.

وهذان الإشکالان تعرض للأوّل منهما العلاّمة والقطب ولهما معا الشهید فی حواشیه.

ونقول یردهما: أوّلاً: فساد المبنی، فإنّ مجرد التسلیط الخارجی لا یوجب ارتفاع الضمان الثابت بمقتضی عموم علی الید المثبت للضمان ولیس أحد المملکات، ومن الظاهر أن تسلیط المشتری الغاصب علی الثمن لیس مجانیا وإنّما هو تسلیط بعوض بحسب اعتبار المتبایعین أو العقلاء أیضا ولو لم یکن ممضی شرعا، وقد ذکرنا غیر مرة أنّ عدم الإمضاء الشرعی والفساد بحکم الشارع لا یوجب کون التسلیط مجانیا ولا ینافی الاعتبار المعاملی.

وثانیا: لو سلمنا ذلک فهو إنّما یتم علی النقل دون الکشف، إذ علی الکشف تکشف

ص:146

الإجازة عن خروج الثمن عن ملک المشتری إلی ملک المالک المجیز قبل التسلیط علی مال الغیر، وهو لایوجب الملک ولا إباحة التصرف نعم، علی النقل یجری الإشکال، بل الظاهر عدم جریانه علی النقل أیضا، وذلک لأن التسلیط إنّما یکون مجانیا فی فرض بطلان البیع وعدم لحوق الإجازة، وأما إذا کان البیع صحیحا ولحقه الإجازة فالتسلیط یکون بعوض حتّی فی حکم الشارع - فتأمل.

وأما ما ذکره فخرالمحقّقین فی الإیضاح وجها رابعا لدفع الاشکال من أنّ الثمن فی الفرض یکون متعلَّقا لحقِّ المالک المجیز أیضا، إذا المفروض أنّه جعل ثمنا لماله وإن کان متعلقا لحقِّ الغاصب أیضا إلاّ أنّه یقدم علیه حقُّ المالک، لما ورد من أنّ الغاصب یؤخذ بأشق الأحوال.

ففیه: أوّلاً: لم یرد دلیل علی أنّه یؤخذ بأشق الأحوال بل لا یؤخذ إلاّ بما ثبت فی حقِّه شرعا.

وثانیا: ذکرنا أنّ وقوع العقد علی مال الغیر لا یوجب له حقا، والإجازة إنّما هو حکم شرعی لا حقّ مالکی هذا مضافا إلی أنّه یعتبر فی صحة الإجازة عدم کون موردها متعلَّقا لحقِّ الغیر وإلاّ فلا تنفذ، فالصحیح فی الجواب عن الإشکال ما ذکرناه»(1).

أقول: أمّا المقام الأوّل: هل للمشتری العالم بالغصب مطالبة الغاصب البائع بالثمن؟

فقد عرفت أنّ فیه ثلاثة أقوال:

أ: ما ادَّعی العلاّمة(2) علیه الإجماع وهو عدم الرجوع مطلقا أی فی فرض وجود عین الثمن وتلفه أو إتلافه. وهذا قول المتقدمین علیه کالشیخ(3) وابن ادریس(4)

ص:147


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/460 و 459.
2- 1 . تذکرة الفقهاء 10/18، نهایة الإحکام 2/478.
3- 2 . المبسوط 3/71، النهایة /402.
4- 3 . السرائر 2/226 و 325.

والمحقّق فی الشرائع(1).

ب: الإجماع عند العلاّمة لم یتم ولذا خالفه وذهب إلی جواز مطالبة الغاصب فی فرض بقاء عین الثمن عنده، وتبعه ولده والشهید والکرکی والشهید الثانی والمحقّق السبزواری صاحب الکفایة.

ج: جواز مطالبة الغاصب مطلقا سواء بقیت العین أم تلفت، کما علیه المحقّق فی جواب بعض استفتآته.(2)

والمختار عندی هو ما ذهب إلیه المحقّق أخیرا:

[1] لعدم تمامیة الإجماع وغیره من الأدلة المذکورة فی کلامهم.

[2] ولأنّ ما فعله المشتری العالم بالغصب لیس إلاّ بیعا عرفیّا عند عامة الناس ولیس تملیکا مجانیا ولا إباحة مالکیة ولاتسلیطا لماله للغیر من دون عوض.

[3] وعلی فرض قبول هذه الموارد الثلاثة لا إشکال فی جواز الرجوع فی جمیعهم لجواز الرجوع فی الهبة المجانیة والإباحة المالکیة مع بقاء الثمن واضح. ومع تلفه لعدم تمامیة هذه الموارد عندنا.

[4] لا یجوز للغاصب التصرف فی ما دفعه إلیه المشتری، لأنّه دُفِع إلیه عوضا من العین ولا یتم العقد عند الشارع فیکون ضامنا کما فی المقبوض بالعقد الفاسد. هذا کلّه فی المقام الأوّل.

أما المقام الثانی: هل بیع الغاصب مع علم الْمُشْتَرِیْ بغصبیّته صحیح فللمالک

تتبّع العقود والإجازة أم لیس بصحیح؟

فقد عرفت أنّ فیه قولین:

أ: ما ذهب إلیه المشهور من بطلان العقد.

ص:148


1- 4 . الشرائع 2/8.
2- 5 . المسائل الطبریة، المسألة الرابعة، وهی مطبوعة فی ضمن الرسائل التسع /306 للمحقّق الحلّی بتحقیق الشیخ رضا الأستادی من منشورات مکتبة آیة اللّه المرعشی النجفی رحمه الله .

ب: ما ذهب إلیه الشهید والمحقّق الثانی والسیّد الخوئی وشیخنا الأُستاذ(1) قدس سرهم من صحة العقد وأنّه یجری فیه ما یجری فی غیره من أنّ للمالک تتبع العقود علی عین المال أو ثمنه وإجازة أیٍّ منها شاء.

والمختار عندی ¨ هو القول الأخیر من صحة العقد وجواز تتبع العقود:

[1] لعدم ورود نص فی المقام وما ادعاها فی المفتاح لیست إلاّ ماورد من الروایات فی بطلان الفضولی کما مرّ نقدها.

[2] ما دفعه المشتری العالم بالغصبیة لیست الإباحة المالکیة أو الهبة المجانیة بل دفعه عوضا عن عین مال اشتراه بالعقد العرفی ولا الشرعی.

[3] حیث تمّ أنّ ما دفعه یکون بعنوان الوفاء بالعقد فیصح للمالک إجازة هذا العقد وتملک الثمن الوارد فیه.

[4] لا أری فرقا بین العالم بالغصبیة والجاهل بها والعالم بالفضولیة والجاهل بها والغصب والفضولی لعدم تمامیة أدلة الفرق.

[5] وحیث لم یَکُنْ - هُناک - فَرْقٌ بین هذه الموارد فیجوز للمالک إجازة العقد وتتبع العقود علی عین المال وثمنه ویجری بحث تتبع العقود بعین ما مرّ فی الفضولی والحمد للّه کما هو أهله.

وأمّا القول فی ابْتِناء المقام الثّانی علی المقام الأوّل: فأقول: بناءً علی القول

وأمّا القول فی ابْتِناء المقام الثّانی علی المقام الأوّل: فأقول: بناءً علی القول الأوّل [ أ] فی المقام الأوّل لا یجری فی المقام الثانی إلاّ القول الأوّل [ أ] لعدم وجود المعاوضة والعقد وأمّا بناءً علی قولی الثانی والثالث [ ب و ج] فی المقام الأوّل یمکن أن یجری فی المقام الثانی کلا القولین [ أ و ب]، فالمقام الثانی یبتنی علی المقام الأوّل کما نبّه علیه صاحب مفتاح الکرامة رحمه الله لا عکسه کما ظنّه صاحب الحدائق.

ص: 149


1- 1 . راجع ارشاد الطالب 4/85.

ص: 150

وَصْلٌ: فی أَحْکامِ الرَّدّ

اشاره

ص:151

اشارة

ص: 152

أحکام الردّ

اشارة

هذه الأحکام تجری بعد البناء علی أنّ الردّ هادم للعقد وفسخ له فی الجملة وقد عرفت(1) عدم الدلیل علیه.

والردّ یتحقق بالفعل کما یتحقّق بالقول کما مرّ ذلک فی أصل العقد والإجازة ویقع الکلام فیه فی ضمن جهات:

الجهة الأُولی: الردّ القولی

قال الشیخ الأعظم: «لا یتحقق الردّ قولاً إلاّ بقوله: «فسخت» و «رددت» وشبه ذلک ممّا هو صریح فی الرد، لأصالة بقاء اللزوم من طرف الأصیل وقابلیته من طرف المجیز»(2).

أقول: لا نحتاج إلی صراحة اللفظ فی الردّ بل یکفی الظهور لاعتبار الظواهر عند العقلاء والشرع المقدس.

وقد مرّ عدم تمامیة لزوم وفاء الأصیل بالعقد فلا یمکن استصحابه عند الشک فیه، «وعلی تقدیره [أی لزومه] فاستصحابه لا یثبت إضافة العقد إلی المجیز بإجازته بعد احتمال إلغاء العقد قبلها، فإنّه من إثبات الموضوع باستصحاب حکمه، نظیر استصحاب بقاء وجوب الصلاة وإثبات عدم خروج وقتها...»(3).

نعم، القابلیة من طرف المجیز باقیة حتّی مع الردّ الصریح قبله لما مرّ ولا نحتاج فیه إلی استصحابه لعدم الشک فی وجوده وبقائه.

ص:153


1- 1 . راجع الآراء الفقهیة 5/505.
2- 2 . المکاسب 3/477.
3- 3 . إرشاد الطالب 4/88.
الجهة الثانیة: الردّ الفعلی

قال الشیخ الأعظم: «وکذا یحصل [الردّ] بکلِّ فعلٍ مخرجٍ له عن ملکه بالنقل أو بالإتلاف وشبههما کالعتق والبیع والهبة والتزویج ونحو ذلک، والوجه فی ذلک: أنّ تصرّفه

بعد فرض صحّته مفوّت لمحلِّ الإجازة لفرض خروجه عن ملکه»(1).

أقول: مرّ وقوع العقد بالفعل عندی إلاّ ما خرج بالدلیل فکذلک یمکن وقوع الإجازة والردّ کلیهما بالفعل هذا بالنسبة إلی کبری بحث الردّ الفعلی.

وأمّا صغراه: فقد ذهب الشیخ الأعظم إلی أنّ الرد الفعلی یحصل بکلِّ فعلٍ یکون ذلک الفعل مخرجا للمال عن ملک المالک المجیز، والخروج یمکن أن یکون بالنقل أو الإتلاف والعتق والبیع ونحوها.

ولکن المحقّق النائینی بعد ما قَبِلَ الکبری ناقش فی الصغری وقال: «لا إشکال فیه [فی الرد الفعلی] بحسب الکبری فإنّ الرد من العناوین القابلة لتحقّقها بالفعل ولیس کالنکاح الذی لا یقبل تحقّقه بالفعل فإنّ الفعل فیه من السفاح الذی هو ضدّ النکاح. وإنّما الإشکال فی الصغری فإنّا لا نجد فعلاً یکون مصداقا للردّ بالحمل الشائع الصناعی...»(2).

وتبعه شیخنا الأُستاذ رحمه الله فی ظاهر عبارته.(3)

ولکن یرد علیه: «أنّ الإشارة والکتابة من الأفعال ومع ذلک لا إشکال فی صدق عنوان الردّ علیهما، فإذا سألناه عن أنّک تقبل المعاملة الکذائیة فحرّک رأسه ورفعه فمعناه أنّه یردّها ویصدق علیه الردّ بلا کلام فیترتب علیه أحکامه»(4) وکذا الکتابة. فیتم وجود المصداق الفعلی للردّ وهذا هو صغراه.

وقَبِلَ صاحب العقد النضید(5) هذا البیان.

ص:154


1- 1 . المکاسب 3/477.
2- 2 . منیة الطالب 2/152، ونحوها فی المکاسب والبیع 2/243.
3- 3 . راجع إرشاد الطالب 4/89.
4- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/63.
5- 5 . العقد النضید 3/523.
الجهة الثالثة: هل تُعدِّ التصرفات الناقلة عن الملک ردّا؟
اشارة

التصرفات تنقسم إلی أَرْبَعَةِ أَقْسامٍ یأتی تفصیلها:

وأمّا التصرفات الناقلة فتنقسم إلی قسمین:

الأوّل: التصرفات التی تمنع عن رجوع العین إلی ملکیة مالکها الأوّل

الأوّل: التصرفات التی تمنع عن رجوع العین إلی ملکیة مالکها الأوّل مجددا، کالبیع اللازم والهبة إلی ذی الرحم والهبة المعوّضة.

الثانی: التصرفات التی لا تمنع عن رجوع العین إلی ملکیة مالکها الأوّل
اشارة

الثانی: التصرفات التی لا تمنع عن رجوع العین إلی ملکیة مالکها الأوّل مجددا

فیجوز للمالک الرجوع فی عین ماله حقّا أو حکما نحو: البیع الخیاری أو الْهِبَة لغیر ذی رحم أو بدون عوض.

ومن المعلوم أنّ القسم الثانی لا یعدّ ردا لبیع الفضولی الذی یکون قبله لأنّ المالک بعد رجوع العین إلیه یتمکن من إجازة بیع الفضولی السابق من دون إشکال عندی.

1- وأمّا القسم الأوّل: الذی لا یمکن رجوع العین إلی مالکها بوجهٍ
اشارة

1- وأمّا القسم الأوّل: الذی لا یمکن رجوع العین إلی مالکها بوجهٍ فهل هذه التصرفات تُعَدُّ ردا لا یمکن بعدها لحوق الإجازة؟ أو لا تعدّ؟ أو أنّ هناک تَفْصِیْلاً بناءً علی قولی الکشف والنقل فی الإجازة؟

وجوه بل أقوال.

الأوّل: ذهب المحقّق النائینی وتلمیذه السیّد الخوئی

الأوّل: ذهب المحقّق النائینی(1) وتلمیذه السیّد الخوئی(2) إلی عدم وجود محلّ للإجازة بعد صحة التصرفات الصادرة من المالک.

والوجه فی ذلک: التصرف الصادر من المالک یعدّ تصرفا صادرا من أهله وواقعا فی محلّه ومعه لا یبقی محلّ للإجازة.

وبعبارة اُخری: المالک بعد تصرّفه الناقل یصیر أجنبیّا فإجازته اللاحقة بعد صدور التصرف، تصدر مِمَّنْ لیس له صلة بالمال ویکون أجنبیّا عنه.

الثانی: هذه التصرفات الناقلة تکون باطلة فالإجازة التی تأتی بعدها
اشارة

الثانی: هذه التصرفات الناقلة تکون باطلة فالإجازة التی تأتی بعدها نافذة بناءً

ص:155


1- 1 . منیة الطالب 2/153.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/65.

علی الکشف لا النقل، فیکون القول الثانی هو التفصیل بین قولی الکشف و النقل. ویدلّ علیه:

1- صحیحة أبیعبیدة الحذاء

(1)

بتقریب: إنّ موافقة الحیّ بالنکاح السابق تعدّ إجازة صادرة ممّن لیس له قابلیة المحلّ لصدورها بعد حیلولة الموت وانتفاء موضوع النکاح، فإذا یری الإمام علیه السلام هذا الإجازة اللاحقة کاشفة عن صحة النکاح السبق فهی أولی بأن تکون کاشفة عن صحة عقد الفضولی، فضلاً عن تأثیر الإجازة فی بطلان ملکیة المالک وهی لا تکون أقوی من تأثیر الموت فی بطلان النکاح.

ویرد علیه: أوّلاً: تعمیم الحکم الوارد فی باب الارث إلی أبواب البیع والمعاملات

یکون من القیاس الباطل.

وثانیا: هذه الصحیحة تختص بقضیة معینة ولا مجال لتعمیم حکمها إلی غیرها، فهی غیر مطلقة ولا دلیل علی إلغاء الخصوصیة منها.(2)

2- الوجه العقلی المذکور فی کلام المحقّق الأصفهانی رحمه الله :
اشارة

قال: «وأمّا علی الکشف(3) بنحو الشرط المتأخر المصطلح علیه(4)، فصحة العقدین معا مستحیلة إذ(5) لایمکن أن یکون المال فی زمان العقد الثانی ملکا للمشتری من المالک، وللمشتری من الفضول بإجازة المالک فلابد من رفع الید عن أحدهما، وحیث أنّ المفروض(6) تأثیر العقد من حین صدوره بالإجازة المتأخرة التی هی شرط متأخر

ص:156


1- 3 . وسائل الشیعة 26/219، الباب 11 من أبواب میراث الأزواج.
2- 1 . راجع العقد النضید 3/527.
3- 2 . مراده الکشف الحقیقی الشرطی.
4- 3 . أی الشرط المتأخر یتأثّر فی العقد السابق ولا بأس بهذا التأثّر فی خصوص الاُمور الاعتباریة لا غیرها.
5- 4 . إذ وما بعده تعلیل للاستحالة.
6- 5 . بناءً علی الکشف الحقیقی الشرطی وهو الوجه الأوّل من وجوه الکشف فی مقام الثبوت راجع الآراء الفقهیة 5/402.

یؤثر فی ما قبله، فلا محالة لا یعقل أن تکون الملکیة المتصلة بحال الإجازة شرطا فی تأثیر الإجازة(1) وإلاّ لزم الخلف(2) أو الانقلاب(3).

فالملکیة المتصلة بحال العقد کافیة فی صحة الإجازة من المالک(4)، فمقتضی تأثیر العقد المجاز تامٌ ثبوتا(5) وإثباتا(6)، فلو لم ینفذ البیع الثانی الصادر من المالک کان

علی وفق القاعدة لأنّه بیع وارد علی مال الغیر، ولا ینفذ إلاّ ممّن له البیع(7).

بخلاف ما إذا قلنا بعدم نفوذ العقد المجاز فإنّه(8) تخصیص بلاوجه، فیدور الأمر

ص:157


1- 6 . هذا هو المدعی للمحقّق الاصفهانی رحمه الله بأنّ شرط صحة عقد الفضولی وقوع العقد فی ملک مالکه لا وقوع الإجازة المتأخرة فی ملکه، بل عدم معقولیة وقوع الإجازة فی ملک المالک، لأنّ بناءً علی الکشف الحقیقی ینتقل المال من حین العقد إلی المشتری من العاقد الفضولی فحین الإجازة لا تکون العین فی ملکیة المالک. واستدلّ علیه بدلیلین:
2- 7 . هذا هو دلیله الأوّل: الخلف: أی لو کانت ملکیة المالک إلی حین الإجازة شرطا لصحة الإجازة اللاحقة یسلتزم عدم انتقال المال إلی المشتری من الفضولی من حین العقد وهو خلاف الفرض أی الکشف الحقیقی فخلفٌ.
3- 8 . هذا هو دلیله الثانی: والمراد به هو الکشف الانقلابی الذی یعدّ من أقسام الکشف الحکمی وهو - أی الکشف الانقلابی - عبارة عن بقاء ملک المالک علی العین قبل الإجازة وأمّا بعدها تنقلب الملکیة دفعة واحدة وتصیر العین ملکا للمشتری من حین العقد والإجازة تکشف عن هذا الانقلاب. [راجع بحث وجوه الکشف فی مقام الثبوت فی الآراء الفقهیة 5/405]. والکشف الانقلابی أیضا غیر مفروض کلامنا وهو الکشف الحقیقی بنحو الشرط المتأخر.
4- 9 . ولا نحتاج إلی بقاء ملکیة المالک إلی حین الإجازة، بل یستحیل ذلک بالدلیلین الماضیین.
5- 10 . لما ثبت من الدلیلین أنّ الملکیة إلی حین العقد کافیة ویستحیل بقاء الملکیة إلی حین الإجازة.
6- 11 . لأنّ مع ثبوت مقتضی للعقد یثبت لزوم الوفاء بمقتضی العقد بدلالة الآیة الشریفة «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ». عقد الفضولی تام بعد صدور الإجازة فیجب.
7- 1 . أی لایصح البیع إلاّ من المالک والبیع الثانی بعد صدور الإجازة بناءً علی الکشف الحقیقی یکون بیع مال الغیر فباطلٌ.
8- 2 . أی عدم نفوذ عقد الفضولی وبطلانه ولو بعد صدور إجازة المالک.

بین التخصص(1) والتخصیص بلا وجه(2) أو بوجه دائر(3). لأنّ صحة العقد الثانی متوقفة علی بقاء المال علی ملک البائع حال بیعه وهو متوقف علی عدم صحة العقد المجاز، وهو متوقف علی عدم کون المال ملکا له، مع أنّه لا مخرج لا عن ملکه إلاّ العقد الثانی فیدور.

بخلاف العقد المجاز فإنّه یکفیه الملکیة المتصلة بحال العقد المجاز، والعقد الثانی لا یزیل الملکیة المتصلة بحال العقد المجاز بل یزیل الملک المتصل بحال الإجازة وهو غیر لازم»(4).

المناقشة فی دلیل المحقّق الأصفهانی

ویرد علیه: أوّلاً: یمکن القول باعتبار تداوم ملکیة المالک من حین العقد إلی حین الإجازة فلابدّ من صدور الإجازة منه فی ملکه، ولکن الملکیة اللولائیّة أی لو لا الإجازة لکان مالکا، وهذه الملکیة الخاصة - أی اللولائیة - لا یلزم من الالتزام بها لا

الخُلف ولا الکشف الانقلابی، وهما دلیلا المحقّق الأصفهانی ولا یجریان فی هذه الملکیة

ص:158


1- 3 . أی خروج العقد الثانی من تحت الآیة الشریفة «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» یکون علی وجه التخصص لأنّه من أوّل الأمر لم یدخل تحت الآیة لأنّها أمرٌ إلی المُلاّک والعقد الثانی لم یقع فی ملک المالک، لأنّه وقع فی ملک المشتری من الفضولی فخروجه عن الآیة الشریفة یکون تخصصا.
2- 4 . وأمّا إذا عکسنا الأمر وَأَرَدْنا خروج عقد الفضولی مع صدور الإجازة بناءً علی الکشف من تحت الآیة الشریفة، فَهذا یوجب تخصیصها بلاوجه ودلیل شرعی لأنّه عقد وقع فی ملک مالکه وصدور إجازته فیجب الوفاء به ولم یَرِدْ مُخَصَّصٌ لأجل خروجه من تحت الآیة الشریفة.
3- 5 . أی التخصیص بالوجه الدائر: وهو تقدم العقد الثانی علی عقد الفضولی وتخصیص آیة «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وخروج عقد الفضولی من تحته یکون دوریا لأنّ صحة العقد الثانی متوقفة علی بقاء المال علی ملک البائع حال بیعه، وهذه الصحة متوقفة علی بطلان عقد الفضولی، وعلی هذا خروج عقد الفضولی من تحت الآیة الشریفة متوقف علی صحة العقد الثانی وصحته متوقفة علی بطلان عقد الفضولی والبطلان متوقف علی الخروج من تحت الآیة الشریفة فیکون دوریّا.
4- 6 . حاشیة المکاسب 2/274 و 275.

اللولائیة.

وثانیا: إذا لاحظنا النسبة بین الإجازة والملکیة اللولائیة فلا تخلو من وجوه ثلاثَة:

أ: الإهمال: وهو ممنوع، لاستحالته فی الاُمور الواقعیة وفی نفس الأمر.

ب: الإطلاق: وهو أیضا ممنوع، لأنّه یستلزم أن تکون إجازة الأجنبی مؤثرة فی بیع الفضولی وهو باطل.

ج: التقیید: وهو المطلوب فتکون الإجازة مقیّدة ومشروطة بالملکیة اللولائیة.

فمن باع قبل صدور الإجازة عنه، لا یکون مالکا لو لا الإجازة فلم یتحقّق اشتراط الإجازة وقیدها فإجازته باطلة.

وثالثا: یمکن القول باعتبار الإجازة بناءً علی الکشف فی فرض لم یتعقّبه تصرف من المالک فی ماله، وأمّا إذا صدر من المالک تصرفا فی ماله فالإجازة الصادرة منه بعد ذلک التصرف غیر مؤثرة فی الکشف والبیع الثانی من أعظم مصادیق التصرف ولا یلزم منه الخلف ولا الکشف الانقلابی کما یظهر من المحقّق الخمینی(1) رحمه الله .

وبعبارة اُخری: صحة الإجازة متوقفة علی فساد التصرف من المالک فلو توقّف فساد التصرف منه علی صحة إجازته لکان دورا ظاهرا کما یظهر من المحقّق السیّد الخوئی(2) رحمه الله .

ورابعا: صحة العقد الثانی لم تبن علی الدور المحال الذی ذکره المحقّق الأصفهانی، لما مرّ من ابتناء صحة عقد الفضولی علی صدور الإجازة من المالک اللولائی، والمالک مع فرض قیامه بالبیع الثانی لم یکن مالکا لولائیا فبطلان عقد الفضولی مستندا إلی عدم شرطه ولم یکن مستندا إلی صحة العقد الثانی حتّی یلزم منه الدور المدعی.(3)

وخامسا: ما ذکره قدس سره لو تم - ولم یتم - إنّما یتم علی الکشف الحقیقی الشرطی وقد

ص:159


1- 1 . کتاب البیع 2/433.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/65.
3- 3 . الباقی من النقود یظهر من العقد النضید 3/(534-532).

عرفت(1) أنّ للکشف أقسام متعددة وأنواع متکثرة، فالدلیل أخص من المدعی.

وبالجملة: لا یمکن الالتزام بهذا الدلیل العقلی المذکور فی کلام المحقّق الأصفهانی قدس سره .

3- الوجه العقلی المذکور فی مقالة المحقّق الایروانی رحمه الله

قال: «... إنّ خطاب (أَوْفُوا) إن توجّه إلی المالک لم یبق موقع لتوجّهه إلی إجازته لعقد الفضولی حتّی یلتجأ إلی الجمع بین الخطابین بذلک، ففی کلّیّة [أی جمیع [فروض المنافاة بین الصحیحتین الأمر دائر بین صحة عقد المالک وصحة إجازته فکل منهما فرض صحیحا بطل الآخر، ولکن عقده صحیح علی القول بالنقل لأنّه عقد صدر عن أهله فی محلّه لبقاء ماله علی ملکه فتشمله أدلة صحة تصرفات المالک فلا یبقی موضوع لنفوذ إجازته لخروجها عن کونها إجازة المالک.

وإجازته صحیحة علی القول بالکشف لکشفها عن سبق خطاب (أَوْفُوا) بالنسبة إلی العقد الصادر من الفضولی فیکون النقل حاصلاً حینه فلا یبقی موضوع لصحة عقده لانکشاف کونه عقد غیر المالک.

وبالجملة: سبق خطاب کلّ منهما یوجب خروج الآخر عن موضوع الخطاب وتخصّص الدلیل بالنسبة إلیه...»(2).

ویرد علیه: إنَّهُ لم یقم دلیل علی أنّ خطاب (أَوْفُوا) یتوجّه أوّلاً إلی المالک المجیز - بناءً علی الکشف - بل الصحیح أنّ توجّه الخطاب إلی المالک المجیز مشروط بملکیته اللولائیة فی حین صدور الإجازة منه، وحیث قام بعد عقد الفضولی ببیع ماله مباشرة فخرج المبیع عن ملکیته وإجازته لم تقع فی ملکیته اللولائیة فإجازته باطلة وتمّ البیع المالک. الأصیل، حتّی علی القول بالکشف.

والحاصل: لم تتم الوجوه الثّلاثة التی أقاموها علی التفصیل بین الکشف الحقیقی

ص:160


1- 4 . راجع الآراء الفقهیة 5/402 وما بعدها.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/322.

والنقل.

وأمّا إثبات التفصیل بناءً علی الکشف الانقلابی:

فقد قال المحقّق الأصفهانی فی تقریر إثبات التفصیل: «وأمّا الکشف علی وجه الانقلاب فمبناه علی بقاء المال علی ملک مالکه الأصلی، وإنّما ینقلب بالإجازة، ولا انقلاب حقیقة إلاّ بعد الإجازة، فجمیع تصرفات المالک تصرفات واردة علی ملکه

حقیقة، ونفوذها یمنع عن نفوذ العقد الأوّل بالإجازة ولو بنحو الانقلاب، فإنّ الانقلاب إنّما یعقل إذا لم یکن له مانع، ونفوذ التصرفات المتوسطة بین العقد الأوّل والإجازة مانع، لفرض التمانع بین صحة العقدین، وفرض عدم المزاحم للتصرف المتوسط حال ثبوته حقیقة وواقعا، فیساوق الکشف الانقلابی للنقل فی صحة العقد الثانی دون الأوّل، وحیث إنّ بناء المصنف [الشیخ الأعظم] قدس سره علی الکشف الانقلابی بل نسبه إلی المشهور أیضا، فلذا أطلق فی الکلام من حیث الکشف والنقل.

والتحقیق: أنّ المانع من صحة العقد المجاز مع صحة العقد الثانی أحد أُمور:

إمّا عدم إتصال ملک المجیز بحال الإجازة، لعدم کفایة الملکیة المتصلة بحال العقد هنا، إذ لا یعقل الانقلاب فیها فی الملکیة بین العقد والإجازة.

وإمّا لزوم اجتماع مالکین علی ملک واحد فی زمان العقد الثانی، إذا فرض تصحیح العقدین، حیث إنّ إبطال العقد الثانی بعد فرض وقوعه صحیحا بلا وجه، فلابد من فرض مالکیة المشتریین لمال واحد فی زمان العقد الثانی.

وإمّا لغویة الإجازة إذا أثرت فی صحة العقد الأوّل بنحو الانقلاب إلی زمان العقد الثانی فقط، لئلا یلزم اجتماع الملکین، ولا یصححه الرجوع إلی البدل، لمکان إتلاف المال بالنقل الصحیح، لأنّ الملک الانقلابی متأخر عن الإتلاف بالنقل، فکیف یصح الرجوع إلی البدل لتصح الإجازة وتخرج به عن اللغویة.

وهذه الموانع کلها مدفوعة:

أمّا الأوّل: فلأنّ المصحح للإجازة لیس إلاّ ورود العقد علی ملکه، بحیث یکون حال الانتقال منه إلی غیره ملکا له رعایةً للانتقال منه إلیه، فتارة یکون موقع الانتقال

ص:161

حال العقد کما هو کذلک علی الکشف بأقسامه، واُخری یکون موقعه حال الإجازة کما هو کذلک علی النقل.

نعم بناءً علی الانقلاب لابدَّ من أنْ یفرض للمجیز ملک بعد العقد حتّی ینقلب، فیصیر للمجاز له، وهذا من لوازم الانقلاب لا من مصححات الإجازة، والمفروض هنا أیضا تأخر العقد الثانی عن الأوّل، فبالإجازة ینقلب ملک المجیز قبل العقد الثانی فیصیر من حین العقد الأوّل ملکا للمجاز له.

وأمّا الثانی: فبأنّ لازم تأثیر العقد الأوّل بالإجازة علی نحو الانقلاب صیرورة العین من حین العقد الأوّل ملکا للمجاز له إلی زمان العقد الثانی، لا فیما بعده أیضا، لیلزم

إبطال العقد الثانی بلا وجه، وأمّا قبل العقد الثانی فلا یلزم اجتماع الملکین لما مرّ(1) مرارا من أنّ الانقلاب خلاف الاجتماع.

وأمّا الثالث: فمدفوع بأنّ لازم الانقلاب - عند القائل به - أنّ الاتلاف الوارد قبله من مالکه یوجب الرجوع إلی البدل، لأنّ فرض الانقلاب فی الملک فرض الانقلاب فی لوازمه، فکأنّ الاتلاف بالانقلاب وارد علی الملک المنقلب إلیه، والعقد الصحیح الذی لا یقبل الإبطال کإتلاف الملک المنقلب إلیه من حیث عدم إمکان عود الملک المنقلب إلی إلی مالکه، فیوجب الرجوع إلی البدل، وإنْ کان فی التضمین بالإتلاف بسبب الانقلاب إشکال فهو غیر مخصوص بالمقام»(2).

أقول: ولکن یرد علیه: أوّلاً: کیف التزم قدس سره بأنّ تَصَرُّفَ المالک فی ماله بالبیع الأصیل المباشر یعدّ من تلف مال الغیر حکما ویلزمُهُ دفع البدل إلی المشتری من الفضولی؟!

لأنّ المال إن کان ماله - کما هو کذلک - فتصرّفه فیه یقع بلا إشکال فباع ماله وحین صدور الإجازة منه لم یکن مالکا للمال حتّی بالإجازة اللولائیة فإجازته باطلة وبالتالی

ص:162


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/144، تعلیقة 132.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/276 و 277.

بیع الفضولی محکوم بالبطلان.

وإن لم یکن المال ماله حین عقده الثانی فتصرفه باطل ولم ینتقل المال إلی المشتری منه ویحکم بصحة بیع الفضولی ولم یکن هنا الإتلاف الحکمی ولا الرجوع إلی البدل.

وثانیا: الجمع بین صحة بین المالک نفسه وصحة بیع الفضولی بالإجازة الصادرة من المالک یستلزم اجتماع ملکیتین علی مال واحد وهو محال. کما أنّه یستلزم اجتماع مالکین علی مال واحد علی نحو الاستقلال وهو مستحیل. فلا یمکن الجمع بین الصحتین.

وثالثا: یمکن حلّ ما ذکره بما مرّ من اعتبار ملکیّة المالک حین الإجازة بالملکیّة اللولائیة وحیث باع المالک ماله فحین الإجازة فاقد لهذه الملکیّة اللولائیة فإجازته باطلة وبالتالی بیع الفضولی، ولایتحقّق إتلاف مال الغیر حتّی نحکم بوجوب إرجاع بدله إلی المشتری من الفضولی.

فلا یتم ما ذکره المحقّق الاصفهانی حول إثبات التفصیل بالکشف الانقلابی.

فظهر ممّا ذکرنا عدم وجود الدلیل علی المحتمل الثالث - وهو صحة بیع الفضولی فی المقام - مطلقا - أی بلا فرق بین قولی الکشف والنقل - لاِءَنَّهُ حیث لم یتم التفصیل فی المقام فإطلاقه بطریق اُولی.

هذا تمام الکلام فی التصرفات الناقلة.

2- القسم الثانی: التصرفات غیر الناقلة
اشارة

التی لا توجب نقل العین وهی علی ثلاثة أقسامٍ:

الأوّل: الاستیلاد

إذا استولد المالک جاریته بعد أن باعها الفضولی وصارت أُمَّ وَلَدٍ هل تبطل الإجازة وَتَزُوْلُ قابلیتها عن التأثیر أم لا؟

الظاهر أنّ الاستیلاد من جانب المالک وبعد بیع الفضولی قبل الإجازة، یُخْرِجُها عن قابلیة التأثیر فتقع لغوا، لأنّ من شرائط البیع أن لایکون المبیع أمّ ولدٍ، ومن المعلوم أنّ

ص:163

المبیع لابدّ أن یکون ملکا طِلْقا لمالکه حتّی یقدر علی بیعه واستند البیع إلیه وشملته الإطلاقات لأنّها خطابات للملاّک الذین یقدرون علی البیع، وحیث أنّ الأمة مستولدة حین صدور الإجازة فتقع الإجازة لغوا.

اللهم إلاّ أن یقال: الممنوع هو إنشا البیع علی أُمّ الولد لا إسناد البیع المُنشَأ سابقا بالإجازة اللاحقة.

ویُجاب عنه: بأنّ المبیع حین الإجازة لابدّ وأن یکون ملکا طِلْقا للمالک لو لا الإجازة بتفصیل مرّ.

والمختار هو بطلان الإجازة بعد الاستیلاد وزوال قابلیتها به وحیث لم تترتب فائدة فی هذا الزمن علی هذا البحث لانتفاء موضوعه نکتفی بهذا المقدار والحمد للّه ربّ الأرباب.

الثانی: تزویج الأمةِ

إذا زوّج الفضولی أمة المالک من شَخْصٍ ثمّ زوّجها المالک بنفسه من شخص آخر، صار «التزویج الصادر من المالک عقد صدر من أهله ووقع فی محلّه وبه تصیر الأمة مزوّجة، ومعه لا یبقی مجال للإجازة بوجه لأنّ المزوّجة لا تزوّج والإجازة هی التزویج فی الحقیقة»(1).

نعم، التنافی بین الْبَیْعِ والتزویج مفقود فإذا «باع الفضولی أَمَة المالک من شخص ثمّ زوّجها المالک من شخص آخر ثمّ أجاز البیع الواقع علی الأمة فإنّ کلاً من التزویج والإجازة صحیحان وتنتقل الأمة إلی المشتری مزوّجة»(2).

وللمشتری خیار الفسخ لأنّه اشتراها لاستیفاء منافعها، لا لِمُجَرَّدِ عِتْقِها فقط، والأمة المزوّجة غیر قابلة للاستیفاء بمنافع بُضْعها، فله الخیار فی الفسخ إن شاء والإمضاء کذلک.

ص:164


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/66.
2- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/67.
الثالث: الاستیجار

یُسْتَفادُ من کلام الشیخ الأعظم(1) أنّ إجازة المالک توجب تفویت قابلیة محلّ الإجازة کالاستیلاد والتزویج، لأنّ ملکیة المنافع تابعة لملکیّة الأعیان ومَنْ له ملکیة العین له ملکیة المنافع أیضا، وحیث أنّ عقد الإجازة صدر من مالکه وهو أهله ووقع فی محلّه فلا یبقی محلّ للإجازة، ولأنّ الفضولی باع العین من المشتری ولکن المالک ملّک منافعها للمستأجر وهذان متنافیان لایمکن اجتماعهما.

ولکن یرد علیه: بعدم وجود التنافی بین البیع والإجازة لأنّ مُتَعَلِّقَیْهِما مختلفان فالعین تتعلَّق بالبیع والمنافع تتعلَّق بالإجازة.

نعم، المالک إذا آجر داره ثمّ أجاز بیعها الفضولی، یرجع بیعه إلی بیع عین المسلوبة المنافع إلی مدّة الإجازة ولا تنافی بین البیع هکذا والإجازة.

وللمشتری فسخ بیعه لأنّه اشتری العین لمنافعها ثمّ ظهر أنّها مسلوبة المنافع فله الخیار فی الفسخ والإمضاء، هذا کلّه علی النقل.

وأمّا علی الکشف الحقیقی أو الحکمی بأقسامها فکلاهما صحیحان، والمالک قد فوّت المنافع علی المشتری ویضمنّها بأجرة المثل نحو ما إذا أتلفها بسکناها أو إسکان غیره.

نعم، لو کان الصادر من الفضولی أیضا إجازة فتکون منافیة للإجازة الصادرة عن المالک.(2)

3- القسم الثالث: التصرفات غیر الناقلة

3- القسم الثالث: التصرفات غیر الناقلة التی تودّی إلی ثبوت حقّ للغیر نحو الرهن الصادر من المالک بعد ما عقد الفضولی ثمّ أجاز البیع فیقع الرهن من المالک فی وسط بیع الفضولی وإجازته، فهل هذا الرهن ینافی ذلک البیع والإجازة بحیث لا یبقی معه مجال للإجازة المتأخرة أو لا تنافی بینهما وکلاهما - البیع والرهن - صحیحان؟

ص:165


1- 2 . المکاسب 3/477.
2- 3 . راجع التنقیح فی شرح المکاسب 2/67.

هذه المسألة مُبْتَنِیَةٌ علی مسألة جواز بیع الرهن وعدمه وفیها احتمالان:

الأوّل: الاعتماد علی ما ورد فی النبوی الضعیف أنّه قال صلی الله علیه و آله : الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف فی الرهن.(1)

ولا ریب بأنّ الاجازة والبیع تصرّف من الراهن - الذی هو ممنوعٌ من التصرف - فی الرهن، فتصرفه فیه باطل والرهن یکون موجبا لإلغاء الإجازة المتأخرة.

الثانی: وأمّا إذا طرحنا الروایة النبویّة لضعف سندها وعدم انجباره بعمل الأصحاب فیمکن القول بصحة الرهن والبیع معا، إذ لا یشترط فی الرهن أن یکون من مال الراهن المدیون ویجوز أن یکون ملکا لآخر وقد وضعه عند المرتهن وثیقةً لدینه، فَتَنْتَقِلُ العین إلی المشتری بِوَصْفِ کَوْنِها رهنا.

نعم، للمشتری خیار الفسخ لأنّ انکشاف الرهن فی المال نقص فیه وخلاف لمقتضی طلقیته.

ولکنْ هنا احتمال ثالث: ذهب إلیه المشهور(2) من فقهائنا - رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین - من عدم جواز بیع العین المرهونة توسط الراهن إلاّ بعد الاستئذ ان من المرتهن، کما أنّ المرتهن لا یجوز له بیع العین المرهونة إلاّ فیما إذا بلغ الأجل وطالب المرتهن من الراهن أداء دینه واستنکف عن الأداء فحینئذ یمکن أن یرفع أمره إلی الحاکم الفقیه وهو ولیُّ الممتنع فله أن یجیزه ببیع العین واستیفاء حقّه منها وأداء الباقی منها إلی الراهن.

وبالجملة: لو أجاز المرتهن بیع الراهن صح البیع والرهن معا وإلاّ صح الرهن والبیع یکون باطلاً، لأنّ الإجازة تکون مؤثّرة فی بیع الفضولی إذا صدرت من المالک الذی له أن یتصرّف فی ماله وبالرهن یکون ممنوعا من التصرّف فإجازته المتعقبة للرهن لاغیة وغیر مؤثرة.

ص:166


1- 1 . درر اللآلی 1/368 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13/426، ح6.
2- 2 . کما فی العقد النضید 3/542.

ولهذا القسم من التصرفات فروع اُخَرُ نحو: ثبوت الحقّ للمجنی علیه علی الجانی، أو ثبوت حقّ الغرماء فی مال المُفَلَّس، أو ثبوت حقّ الإرث للزوجة من الأبنیة والدور بناءً علی ما هو المشهور من عدم توریثها من العقار(1) وغیرها وَتَظْهَرُ أحکامها بالتأمل.

4- القسم الرابع: التصرفات التی لا تنافی المعاملة الفضولیة
اشارة

وقد مثّل لها الشیخ الأعظم(2) بمثالین هما:

أ: تعریض المبیع للبیع توسط المالک خلال بیع الفضولی وصدور الإجازة من المالک.

ب: البیع الفاسد بأن یبیع المالک العین بالبیع الفاسد فی الزمان الوسط بین عقد الفضولی وصدور إجازته.

ثمّ قال: «وهذا أیضا علی قسمین: لأنّه إمّا أن یقع حال التفات المالک إلی وقوع العقد من الفضولی علی ماله، وإمّا أن یقع فی حال عدم الالتفات»(3).

ثمّ اختار أَنَّ التعریض للبیع أو العقد الفاسد إذا التفت المالک إلی عقد الفضولی یکون مصداقا للردّ لأنّ معناهما أنّ المالک غیر راض بما أصدره الفضولی فیشمله عموم أنّ الإجازة بعد الردّ لغو.

بخلاف ما إذا لم یلتفت المالک إلی عقد الفضولی لأنّه جاهل به أو لم یلتفت إلیه فلا تکون تعریضه للبیع أو البیع الفاسد ردّا لعقد الفضولی ولا یترتب علیهما أحکام الردّ.(4)

واستدلّ الشیخ الأعظم(5) علی ما أفاده فی حال الالتفات من أنّهما یعدان الردّ باُمور:

الأوّل: إنّ هذا التصرف الصادر منه بنفسه یعدّ ردّا فعلیّا لبیع الفضولی.

ص:167


1- 1 . راجع العقد النضید 3/541.
2- 2 . المکاسب 3/479.
3- 3 . المکاسب 3/479.
4- 4 . المکاسب 3/480.
5- 5 . المکاسب 3/479.

ویرد علیه: الردّ من الاُمور الإنشائیة ومجرد تعریض المتاع للبیع أو العقد الفاسد لا یعدّ ردّا فعلیّا للعقد الفضولی مادام لم نحرز إنشاء الردّ بالفعل.

الثانی: الاستدلال بالإطلاقات الواردة فی نکاح العبد والأمة بغیر إذن مولاهُما(1)

وما ورد فی من زوَّجَتْه أُمّه وهو غائب من قوله علیه السلام : إن شاء قبل وإن شاء ترک.(2)

ثمّ ناقش الشیخ الأعظم فی هذا الاستدلال بقوله: «إلاّ أن یقال: إنّ الإطلاق مسوق لبیان أنّ له الترک فلا تعرّض فیه لکیفیته»(3).

والمناقشة فی محلّها لأنّ ما ورد فی النصوص إنّما هو فی مقام تجویز الردّ للسیّد والابن وأمّا الردّ یتحقّق بماذا؟ فلا نظر فیها إلیه أبدا.

الثالث: قال: «أنّ المانع من صحة الإجازة بعد الردّ القولی موجود فی الرد الفعلی وهو خروج المجیز بعد الردّ عن کونه بمنزلة أحد طرفی العقد»(4).

ویرد علیه: بقبول الکبری الواردة فی کلام الشیخ الأعظم بعدم وجود الفرق بین ردّی القولی والفعلی وأمّا أنّهما - التعریض للبیع والعقد الفاسد - من مصادیق الردّ الفعلی فهو أوّل الکلام، وأشبه شیءٍ بالمصادرة.

الرابع: فحوی الاجماع المدّعی علی أنّ الفسخ فی العقود الخیاریة یحصل بالفعل کالوط ء والبیع والعتق.

والوجه فی الفحوی والاُولویة: أنّ الفسخ رفع للملکیة الثابتة بأسبابها، والردّ دفع عن حصول الملکیة بالعقد الفضولی، والرفع أشکل من الدفع، فإذا ثبت أنّ الفعل یوجب الرفع مثلاً فهو یوجب الدفع بطریق أولی.

وردّ السیّد الخوئی علیه: بعدم وجود الاُولویة والفحوی فی المقام «لأنّ البیع والعتق إنّما یقتضیان الفسخ فی العقد الخیاری من أجل أنّ قصدهما حقیقة لا یتحقّق من

ص:168


1- 6 . وسائل الشیعة 21/114، الباب 24 من أبواب نکاح العبید والإماء.
2- 1 . وسائل الشیعة 20/280، ح3 من الباب 7 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد.
3- 2 . المکاسب 3/479.
4- 3 . المکاسب 3/480.

غیر مالک المال والعبد فإنّ البیع عبارة عن المبادلة بین المالین وهی لاتتحقّق إلاّ بخروج المثمن عن ملک مَنْ دخل فی ملکه الثمن، کما أنّ العتق فکّ ملکیته وهذا لایتحقّق إلاّ بکون المعتَق - بالفتح - ملکا له، فالبیع والعتق یدلاّن بالدلالة الإلتزامیة علی أنّه رجع إلی ملکه وفسخ العقد الجائز، إذ لولاه لما یتحقّق منه قصد شی ء من البیع والعتق حقیقة، وهذا بخلاف الردّ فإنّ الملک ملکه حینئذ ولیس کالفسخ فإنّ الملک فیه للمشتری دون المالک، فتصرّفاته فی ملکه لا یحتاج إلی إرجاع الملکیة السابقة لأنه ملکه فلا یکون فیها دلالة

علی ردّ العقد الفضولی، فلا یمکن قیاس الردّ بالفسخ.

وأمّا الوط ء، فلا دلالة فیه علی الفسخ أبدا، إذ لایتوقّف الوط ء علی الملک کتوقّف قصد البیع والعتق حقیقة علیه بل یتحقّق بدون الملک أیضا لإمکان الزنا فی العالَم، فلعلّه لم یقصد الفسخ بل أراد الزنا، وحمل فعل المسلم علی الصحة إنّما یوجب عدم الحکم بزناه، وأمّا أنه یوجب حمله علی الفسخ فلا، لأنّه لا یثبت الصحة الواقعیة کما لا یخفی. نعم الوط ء فی العدّة الرجعیة بنفسه رجوع وإن قصد به الزنا لأنّها زوجته حقیقة وقصده ذلک لیس بشیء، لأنه نظیر قصد الزنا بزوجته.

فالمتحصّل: أنّ البیع الفاسد أو التعریض للبیع لا یکون ردّا کیف والبیع الصحیح لا یکفی فی الردّ، کما أنّهما لایوجبان سقوط المالک عن قابلیة الإجازة لعدم المنافاة بینهما وبین الاجازة، وهذا بخلاف البیع الصحیح، لأنّ الصحیح منه مؤثّر فی الانتقال فتقع الإجازة لغوا، هذا کلّه فی العقود اللازمة.

بقی الکلام فی مثل الوصیة والوکالة:

بقی الکلام فی مثل الوصیة والوکالة: وأنّه إذا أوصی لزید بماله أو وکّله فی بیع شیء ثمّ باعه بنفسه ببیع فاسد أو عرّضه للبیع فهل هما یوجبان بطلان الوصیة والوکالة أو لا؟

قد عرفت ممّا ذکرناه فی الفسخ بالبیع والعتق أنّ البیع وَنَحْوَهُ من الأفعال لا یوجب الفسخ والردّ فی أمثال المقام ممّا لا یتوقّف قصد البیع فیه حقیقة علی إرجاع الملکیة السابقة لعدم خروجه عن ملکه حتّی یتوقّف علی إرجاعها، فإن کان البیع الواقع علی المال صحیحا فهو مُنافٍ للوصیة والوکالة ومُعدم لموضوعهما لا أنّه فسخ، وأمّا إذا کان

ص:169

فاسدا أو تعریضا للبیع فهو لا یدلّ علی الفسخ کما عرفت ولا ینافیهما لعدم کونه مؤثّرا، فتکون الوصیة والوکالة صحیحتین وباقیتین علی حالهما ولعلّه ظاهرٌ»(1).

أقول: یُمْکِنُ جَرَیانُ ما ذکره المحقّق السیّد الخوئی فی الوط ء فی البیع أو العتق بأنّ المالک باعه فضولة للمشتری من الفضولی أو أعتق العبد لمشتریه کذلک، أعنی البیع والعتق لایلازمان مع الفسخ، فما ذکره السیّد الخوئی فی الوط ء یجری فی البیع والعتق ولکن المهم فی المقام هو قیام الإجماع علی أنّ الفسخ یحصل بهذه الأمور الثلاثة وغیرها من التصرفات المالکیة فی العقود الخیاریة.

فمعقد الإجماع یکون علی تحقّق الفسخ فقط ولایرتبط بالردّ فی العقود الفضولیة. فما ذکره الشیخ الأعظم لایتم.

وبالجملة: التصرفات التی لاتنافی المعاملة الفضولیة لایعدّ ردّا بلا فرق بین حالتی الالتفات بها وعدمه.

وأمّا العقد الجائزة:

وأمّا العقد الجائزة: فلو صدر من المالک فی الوسط بین العقد الفضولی والإجازة عقود جائزة کما لو وهب ماله أو أوصی به ثمّ أجاز العقد الفضولی، الإجازة تامة لأنّ الإجازة الصادرة من المالک تعدّ فسخا لذلک العقد الجائز وتمّ العقد الفضولی خلافا لصاحب العقد النضید (2)- مد ظله - لأنّه یری أنّ ملکیة المالک قد زالت بالعقد الجائز وحتّی لو عادت ملکیته فإنّها تعدّ ملکیة جدیدة.

ویرد علیه: أوّلاً: فی مثل الوصیة ملکیته باقیة لاأقل فی بعض الصور.

وثانیا: لو سلّمنا بأنّ ملکیته بعد الفسخ ملکیّة جدیدة، فللمالک الإجازة بلا فرق بین أنْ تکون ملکیته سابقةً أو لاحقة وجدیدة.

کما مرّ فی البحوث السابقة والحمد للّه.

ص:170


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/71 و 70.
2- 1 . العقد النضید 3/546.

وَصْلٌ: مسائل حول بیع الفضولی

اشارة

ص: 171

ص: 172

المسألة الاولی: حکم المالک مع المشتری لو لم یجز

اشارة

إذا لم یجز المالک فإن کان المبیع فی یده فهو وإلاّ فللمالک انتزاع ماله ممّن المبیع فی یده مع بقاء الْمَبِیْعِ ویرجع بمنافعه المستوفاة علیه، وکذا غیر المستوفاة علی خلاف فی الأخیر کما مرّ فی الرابع من أحکام المقبوض بالعقد الفاسد من هذا الکتاب.(1)

ولو تلف المبیع یرجع المالک إلی من تلف عنده بمثله أو قیمته، وفی القیمة إلی قیمة یوم الأداء کما مرّ فی بحث ضمان القیمی بالقیمة.(2)

ولکن الشیخ الأعظم اختار قیمة یوم التلف کما اختاره فی بحث ضمان القیمی.(3)

ورَدِفَهُ بقوله: «أو بأعلی القیم من زمانٍ وقع فی یده»(4). وقد مرّ(5) استدلال الشیخ الأعظم لهذا الوجه ونقده منّا(6) فلا نعیده.

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «ولو کان قبل ذلک [أی التلف] فی ضمان آخرٍ وفُرض زیادة الیمة عنده ثمّ نقصت عند الأخیر، اختص السابق بالرجوع بالزیاة علیه کما صرّح

ص:173


1- 1 . راجع الآراء الفقهیة 4/395 و 404.
2- 2 . راجع الآراء الفقهیة 4/550.
3- 3 . المکاسب 3/251 وما بعدها.
4- 4 . المکاسب 3/483.
5- 5 . المکاسب 3/254.
6- 6 . راجع الآراء الفقهیة 4/545.

به جماعة فی الأیدی المتعاقبة»(1).

من المصرِّحین هو العلاّمة فی القواعد حیث یقول: «... ولو زادت فی ید الأوّل طولب بالزیادة دون الثانی...»(2).

وقال فی تذکرة الفقهاء: «هذا إذا لم تختلف قیمة العین فی یدهما أو کانت فی ید الثانی أکثر، ولو کانت فی ید الأوّل أکثر لم یکن للمالک مطالبة الثانی بالزیادة، لأنّها تلفت فی ید الأوّل قبل الوصول إلیه، وإنّما یطالب الأوّل بها لا غیر، ویستقرّ ضمانها علیه، فلیس له الرجوع علی الثانی بها، ولو رجع المالک علیه بالأصل والزیادة، کان له الرجوع علی الثانی بالأصل خاصة دون الزیادة»(3).

ووافقه الشهید الثانی فی المسالک(4) والمحقّق السبزواری فی الکفایة(5) والسیّد العاملی فی مفتاح الکرامة(6).

هذا القول مبنیٌّ علی ضمان الغاصب أعلی القیم من حین الغصب إلی حین التلف کما نبّه علیه المحقّق الثانی(7)، وهو خیرة جماعة من الفقهاء کما مرّ(8) وأدلته ونقدها أیضا(9) فلا نعید والحمد للّه المعید للنعم بغیر استحقاقها.

وأمّا الأوصاف
اشارة

فهی علی قسمین:

ص:174


1- 7 . المکاسب 3/483.
2- 8 . قواعد الأحکام 2/224.
3- 1 . تذکرة الفقهاء 2/377، السطر 35 من الطبع الحجری (19/185).
4- 2 . المسالک 12/156.
5- 3 . کفایة الأحکام 2/649.
6- 4 . مفتاح الکرامة 18/97.
7- 5 . جامع المقاصد 6/225.
8- 6 . راجع الآراء الفقهیة 4/511.
9- 7 . راجع الآراء الفقهیة 4/541.

أ: الوصف الذی یوجب الزیادة العینیة فی المال نحو: سمن النعاج.

ب: الوصف الذی یوجب الزیادة الحکمیة فی المال نحو: تعلّم العبد الکتابة أو الخیاطة اللَّتَیْنِ توجبان ارتفاع قیمته.

والأوّل حیثیته تقییدیّة:

والأوّل حیثیته تقییدیّة(1): أی تبذل بإزاءها المال وتقابل مقدار معین من المال بإزاء ذلک الوصف.

والثانی حیثیته تعلیلیّة:

والثانی حیثیته تعلیلیّة(2): أی المال تبذل بإزاء العبد لا الکتابة والخیاطة ولکنّهما

تستوجبان زیادة القیمة.

والفرق بینهما: إذا کانت العین متصفة بالوصف الأوّل فی تعریف البائع لمبیعه ثمّ ظهر بعد فقدانه فإنّ القاعدة تقتضی تخییر المشتری بین الخیار أو أخذ الأرش. وأمّا إذا کانت العین متصفة بالوصف الثانی ثمّ ظهر خلافه فإنّ القاعدة تقتضی ثبوت الخیار فقط لا الأرش.

ثمّ هل یضمن ویغرم المشتری الأوصاف أم لا؟
اشارة

بناءً علی ثبوت أعلی القیم من حین القبض إلی حین التلف أو الأداء، إذا کانت العین فی ید البائع متصفة بصفة کالخیاطة أو الکتابة أو الطباخة أو السمن فزالت العین عند المشتری فلا ینبغی الإشکال فی أنّ المشتری یغرم العین والصفة لأنّه بأخذه العین قد ضمنها بأوصافها.

وأمّا إذا کانت العین باقیة ولکن زالت أوصافها عند المشتری فلابدّ من غرم أوصافها الفائتة عند المشتری.

فرع:

فرعٌ: وإذا حصلت الاُوصاف عند المشتری وزالت عنده أیضا مع زوال عین المال

ص:175


1- 8 . الحیثیة التقییدیة: هی إنّ الحیثیة أو التحیث علی نحو جزء الموضوع نحو الناطق للإنسان، والاختلاف فیها یوجب التکثر فی الموضوع.
2- 9 . الحیثیة التعلیلیة: إذا کان التحیث خارجا عن ذات الموضوع نحو کون الشیء علّة أو معلولاً، لأنّهما یکون خارجا عن الذات وإن کان التحیث والتقیّد به داخلاً بشرط اتخاذهما علی نحو التقیّد لا القید. والاختلاف فیها لایوجب التکثر فی الموضوع.

أو بقاءها فهل یغرم المشتری للمالک العین مع الأوصاف فی الأوّل والأوصاف فقط فی الثانی - أی فی فرض بقاء العین - ؟

نعم، یغرم المشتری فی الفرضین للمالک، لأنّه بأخذه العیصن قد ضمن للمالک ثمنها واوصافها.

فرع آخر:

فرعٌ آخر: ثمّ هل البائع الفضولی یغرم هذه الاوصاف المتجددة الحادثة عند المشتری والتالفة عنده أیضا أم لا؟

ذهب المحقّق السیّد الخوئی(1) إلی عدم غرم البائع الفضولی تلک الاوصاف المتجدة والتالفة عند المشتری لأنّ العین التی کانت تحت ید البائع الفضولی لم تکن فیها هذه الاوصاف فلم یضمنها البائع الفضولی.

ولکن المحقّق النائینی(2) یری غرمه قیاسا بالمنافع بناءً علی ثبوت أعلی القیم من حین القبض إلی حین التلف أو الأداء.

وقد یقال فی الفرق بینهما: بأنّ المنافع تابعة للعین فی الضمان بخلاف الأوصاف.

ولذا قال المحقّق السیّد الخوئی: «ثمّ إذا قلنا بالضمان بأعلی القیم فیکون مبدأ أخذ ذلک بالنسبة إلی کل ضامنٍ زمان دخول العین تحت ضمانه، فیکون البائع الأوّل ضامنا من أوّل وضع یده علیها إلی زمان دفع القیمة حتّی أعلی القیم عند دخولها تحت الأیدی المتأخرة، وهکذا کل شخص یضمن ذلک من زمان وضع الید إلی زمان دفع القیمة، والوجه فی ذلک أنّ بمجرد وضع الید علیها ثبت ضمانها علیه إلی أن یؤدیها إلی مالکها وهذا المعنی مستمر إلی زمان الدفع ومنحلّ إلی ضمانات عدیدة فیؤخذ الأعلی القیم من جمیع تلک الضمانات، وأمّا الأشخاص المتأخرة لایضمنون علی الأعلی القیم قبل الأخذ، فلو کانت العین فی ید البائع الأوّل یحاذی بخمسة وباعها من المشتری وصارت عنده یحاذی بعشرین ثمّ نزلت قیمتها إلی أربعة وباعها من الآخر کذلک، وترقی قیمتها

ص:176


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/73، محاضرات فی الفقه الجعفری 2/467.
2- 2 . منیة الطالب 2/160.

عنده إلی خمسین ثمّ نزلت إلی عشرة فباعها کذلک إلی الآخر، فهذا الشخص الأخیر لا یضمن إلاّ علی العشرة لأنّه لم یأخذ زائدا عن ذلک ولم یدخل غیره تحت یده لیکون ضامنا علیه بمقتضی الید أو السیرة وأمّا السابقین علیه کلّهم یضمنونون بخمسین فإنّها فی عهدتهم من زمان وضع الید إلی حین الخروج من العهدة، ولو کان عند الأوّل بخمسین وعند الثانی بعشرین وعند الثالث بعشرة وعند الرابع بخمسة فلا یضمن بالخمسین إلاّ الأوّل والأخیر بالخمسة والثانی بالعشرین والثالث بعشرة لعین ما عرفت»(1).

ثمّ قال: «... ولکن الظاهر أنّ السابق لایضمن الصفات الحاصلة فی الید التالیة وإنّما الضامن لها لیس إلاّ من حدثت الصفات تحت یدها وذلک فإنّ مقتضی الید أو السیرة لیس إلاّ ضمان البائع الأوّل سواء کان غاصبا أو لا بالعین مع الحیثیات القائمة فیها، فهذه الحیثیة بالنسبة إلی المنافع موجودا فی العین فإنها متصفة بالفعل بحیثیة الانتفاع بها وقابلیة استیفاء المنافع منها بالفعل وهذا بخلاف الأوصاف فإنّ العین وإن کانت لها قابلیة السمن وقابلیة تعلّم الأوصاف الکمالیة ولکن حیثیاتها الفعلیة بحیث لو أراد أن ینفع الضامن من العین بهذه الصفات لا یمکن [لأنّها] غیر موجودة فیها بالفعل فلا یشمل دلیل الید إلاّ لِمَنْ تکون حدوثها عنده فقط دون السابق علیه ودون اللاحق به کما هو واضح»(2).

اعتراض الاستاذ المحقّق بأنّ التفصیل بین المنافع والأوصاف

واعترض علیه الاستاذ المحقّق - مد ظله - بأنّ التفصیل بین المنافع والأوصاف بأنّ الأوّل مضمون علی الید السابقة برغم عجزها عن التصرف والانتفاع لأنّها فی تحت تصرف المشتری الآخر، والثانی غیر مضمون لأنّ الید السابقة لا تتمکن من الانتفاع بها لأنّها غیر موجودة عندها، غیرُ وجیهٍ لأنّ فی کلا الموردین الید السابقة غیر متمکن من التصرف والانتفاع فلابدّ من القول بالضمان فیهما أو عدمه فیهما والتفصیل غیر تام، وحیث ذهب المحقّق الخوئی رحمه الله إلی الضمان فی المنافع فلابدّ له من القول بالضمان فی

ص:177


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/337 و 338.
2- 2 . مصباح الفقاهة 4/339.

الأوصاف من باب قیاس المساواة أو الفحوی أو الأولویة القطعیة.(1)

أقول: قیاس المساواة أو الفحوی أو الأولویة القطعیة بین المنافع والأوصاف ممنوعة لأنّ الید علی العین یدٌ علی منافعها بلا فرق بین المستوفاة منها أو غیرها عرفا ولکن الید علی العین لیست یدا علی الأوصاف التی لم تحدث إلی الان وحدثت فیما بعد عرفا وهذا المقدار من الفرق یکفی فی صحة تفصیل المحقّق الخوئی رحمه الله والذی یسهل الخطب عدم تمامیة القول بثبوت أعلی القیم من حین القبض إلی حین التلف أو حین الأداء کما مرّ فی بحث القیمیات(2)، ونحن نقول بثبوت قیمة یوم الأداء وذمة الضامن مَشْغُوْلَةٌ بالعین التی أخذها من المالک فإذا سمنت عنده أو تعلّمت شیئا وبقی الْوَصْفان والمشتری ضامن للوَصْفَیْن. أمّا إذا زال الْوَصْفانِ فلیس علی المشتری ضمان بالنسبة إلی الوصف الزائل لأنّ العین حین وقعت تحت یده کانت فاقدة للوصف هذا إذا کانت العین موجودة، وأمّا إذا کانت تالفة فلیس علیه إلاّ قیمة العین التی وقعت تحت یده فی الیوم الأوّل ولکن بقیمة یوم الأداء لا قیمة یوم القبض ولا أعلی القیم من یوم القبض إلی یوم التلف أو یوم الأداء، والحمد للّه الذی له البقاء.

ص:178


1- 1 . راجع العقد النضید 3/557.
2- 2 . راجع الآراء الفقهیة 4/509 وما بعدها.

المسألة الثانیة: حکم المشتری مع البائع الفضولی

اشارة

وفیها مقامان من البحث:

أحدهما: ما إذا کان المشتری جاهلاً بالفضولیة أو الغصبیة أَوْناسِیا لهما أو مُشْتَبِها بینهما وبین غیرهما.

ثانیهما: ما إذا کان المشتری عالما بالفضولیة أو الغصبیة أو نحوهما.

وأمّا المقام الأوّل:
اشارة

فقال الشیخ الأعظم: «أنّه [المشتری] یرجع علیه بالثمن إن کان جاهلاً بکونه فضولیا سواء کان باقیّا أو تالفا...»(1).

ففی هذا المقام لا إشکال فی أنّ المشتری یرجع إلی البائع الفضولی بعین ماله إذا کانت موجودة وبقیمتها أو مثلها إذا کانت تالفة لعموم قوله علیه السلام : علی الید ما أخذت حتّی تؤدی.(2)

ولأنّ ید البائع علیها عدوانیة فللمشتری أن یطالبه بردّها أو مثلها أو قیمتها بمقتضی عموم قاعدة الناس مسلطون علی أموالهم.

إن قلت(3): کیف یرجع المشتری إلی البائع الفضولی مع اعتراضه بأنّ المال ملک البائع واشتری منه العین حسب الفرض.

ص:179


1- 1 . المکاسب 3/484.
2- 2 . مستدرک الوسائل 14/8، ح12، الباب 1 من أبواب کتاب الودیعة.
3- 3 . ذکره الشیخ الأعظم بقوله: «لا یقدح فی ذلک اعتراضه بکون البائع مالکا...». المکاسب 3/484.

قلت: هذا الاعتراف یأتی علی صور:

الصورة الاولی: أن یکون هذا الاعتراف مستندا إلی قاعدة الید والمشتری بمقتضی قاعدة الید بنی علی أنّ البائع مالک للعین ولذا اشتراها منه وفی هذه الصورة

یجوز للمشتری الرجوع إلی البائع وأخذ الثمن منه، لأنّ البینة التی أقامها المالک علی أنّ المال لیس ملکا للبائع توجب سقوط قاعدة الید لأنّ البینة حاکمة علی قاعدة الید وتوجب زوال موضوعها لأنّ الشک مأخوذ فی موضوع قاعدة الید والبینة تزیل الشک تعبدا فلا یبقی لها موضوع بعد البینة، فله أن یَرْجِعَ إلی البائع وَیَأْخُذَ الثمن منه.

هذا کلّه فی الصورة الاولی.

وأمّا الصورة الثانیة: فالاعتراف مستند إلی العلم بمالکیة البائع خارجا بحیث یری البینة التی أقامها المالک کاذبة ویدّعی استحقاق البائع للعین ثمّ الثمن، فلا إشکال فی أنّ المشتری مأخوذ علی مقتضی علمه ولا عبرة بالبینة والطریق مع فرض وجود العلم والقطع فلا یجوز للمشتری مطالبة البائع بالثمن لأنّه یراه مالکا للعین ومُسْتَحِقّا لما أخذه من الثمن.

وأمّا الصورة الثالثة: فهی صورة الجهل بالمستند بحیث لا یُعْلَم بأنّ مستند اعترافه هو قاعدة الید أو العلم فهل تلحق بالصورة الاولی من جواز الرجوع إلی البائع أو بالصورة الثانیة من عدمه؟

قال الشیخ الأعظم فی هذه الصورة: «... ولو لم یُعْلَمْ استناد الاعتراف إلی الید أو إلی غیره ففی الأخذ بظاهر الحال من استناده إلی الید أو بظاهر لفظ «الاقرار» من دلالته علی الواقع وجهان»(1).

ولم یرجّح أحد الوجهین علی الآخر، لأنّ المتعارف فی المعاملات بناءها علی قاعدة الید کما ورد فی معتبرة حفص بن غیاث: لو لم یجز هذا لم یتم للمسلمین سوق.(2)

ص:180


1- 1 . المکاسب 3/484.
2- 2 . وسائل الشیعة 27/292، ح2، الباب 25 من أبواب کیفیة الحکم.

فهم یَرَوْنَ ذا الید مالکا وَیُعامِلُوْنَهُ معاملة المالک.

وکذلک الثابت من السیرة العملیة العقلائیة إنّهم یعتبرون المتاع ملکا لبائعه لأنّ ظهور الحال بل المقال مَنْ یتصدّی لبیع المتاع أنّه مالک له ومن یشتری منه یعلم ویقرّ بملکیته فلذا ورد فی الشراء منه فهذا الاقرار مستند إلی العلم والواقع لا علی قاعدة الید.

وعند تعارض المستندان - أی قاعدة الید والعلم - إمّا أن یکون الدلیلان قاصِرَیْنِ فی مرتبة الاقتضاء حتّی یشمل فرض التعارض، وإمّا بعد فرض الشمول یتعارضان ویتساقطان فلا یبقی مستند فی المقام ولذا الشیخ الأعظم یتردّد فیه ولم یرجّح أحدهما

علی الآخر.

مقالة المحقّق الأصفهانی ونقده:

قال قدس سره : «الکلام تارة فی مقام الواقع وجواز الرجوع علی البائع، واُخری فی مقام الرجوع علیه بالترافع عند الحاکم.

أمّا الأوّل: فإمّا أنْ ینکشف عند المشتری کذب البائع وأنّه فضول، وإمّا أنْ یکون عالما بأنّه مالک، فلا إشکال فی جواز الرجوع فی الأوّل، وعدمه فی الثانی واقعا.(1)

وإمّا أنْ لا ینکشف عنده کذبه وصدقه فله - بعد قیام البینة بحسب ظاهر الشرع(2)- الرجوع إلی البائع واقعا(3)، لأنّ البیع باطل بحکم الشارع الذی لم یتبین خلافه، فالثمن

ص:181


1- 1 . لأنّه بعد وقوع العقد صحیحا لا یحق له الرجوع إلی البائع الفضولی واسترجاع ثمنه.
2- 2 . لأنّ البینة لاتکشف عن الواقع وإنّما هی مجرد أمارة ویحتمل مخالفتها للواقع لکنّها حجة ویحق له الرجوع إلی البائع بمقتضاها.
3- 3 . قال فی العقد النضید 3/563: «مراده من «واقعا» هو الواقع فی مقابل حکم القاضی ویقصد به الواقع فی مقابل الترافع الشرعی أمام الحکم، أی یحقّ للمشتری الرجوع فی هذه الصورة إلی البائع واسترجاع الثمن مع غمض العین عن حکم القاضی...». أقول: یردّه ما ورد فی ذیل کلام المحقّق الأصفهانی: «هذا إن کان بطلان المعاملة شرعا مستندا إلی قیام البینة عند الحاکم ببطلان البیع». فالمراد من الواقع لیس ما ذکره الاستاذ المحقّق - مد ظله - ولا یمکن القول بأنّ مستند الحکم یکون ظاهریّا وأمّا الحکم الذی یتولّد منه حکما واقعیا وسبحان من لا یسهو.

باقٍ علی ملک المشتری شرعا، والناس مسلطون علی أموالهم، هذا إنْ کان بطلان المعاملة شرعا مستندا إلی قیام البینة عند الحکم ببطلان البیع.

وإنْ کان لأجل الیمین المردودة من البائع علی المدعی، فغایة ما یستدعی الیمین المردودة کونها میزانا لفصل الخصومة باخذ المبیع وإعطائه للمدعی، لا أنّها طریق شرعی إلی کونه ملکا للمدعی بحکم الحاکم، ولا مزیل فعلاً للملکیة، بل المال باقٍ علی ملک مالکه وإنْ لم یجز له التصرف فیه ظاهرا أو باطنا أیضا، ولذا لو ندم الحالف کذبا وأراد إرجاع المال إلی صاحبه لا حاجة فیه إلی تملیکه إیّاه.

وأمّا کون الیمین المردودة بمنزلة البینة من الحالف، لأنه مدعٍ وظیفته إقامة البینة، أو بمنزلة الإقرار من الرادّ، لأنه کالاعتراف بأنّ القول ما یقوله المدعی بحلفه، فإنّما هو بلحاظ بعض الآثار لا أنّها طریق حقیقة إلی ملکیة العین للحالف.

وأمّا الثانی: وهو الرجوع بالترافع عند الحاکم، فلا مانع من رجوعه إلاّ إقراره

بشرائه منه صحیحا، فیکون اعترافا بمالکیته، وأنّ المدعی کاذب، فإنْ علم باستناده إلی یده فقد ظهر خلافه بأمارة أقوی منها فلا إقرار منه.

وإنْ علم عدم استناده إلیه بأنْ أصرَّ علی کونه مالکا - حتّی بعد قیام البینة - فإقراره مانع عن رجوعه عند الحاکم، فإنّ مقتضاه صحة البیع بنظره، وأنّ المدعی کاذب وهو بالتصرف فیما أخذه غاصب.

وإنْ لم یعلم استناده فی اعترافه إلی الید، فظاهر حال المتعاملین الاستناد فی الاقدام علی الشراء إلی الید، وظاهر قوله «أنّه مالک، وأنّی قد إشتریته منه» - لمکان کشف اللفظ عن الواقع - هو الاستناد إلی غیر الید التی هی إمارة علی الملک، وحیث إنّ ظاهر اللفظ حجة دون ظاهر الحال، فیحمل إقراره علی استناده فیه إلی غیر الید، فیمنع عن رجوعه إلی المشتری عند الحاکم»(1).

أقول: یمکن أن یناقش علیه:

ص:182


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/287 و 288.

أوّلاً: بما مرّ من عدم إمکان الجمع بین قوله: «... فله - بعد قیام البینة بحسب ظاهر الشرع الرجوع إلی البائع واقعا». والحکم الظاهری لا یولد إلاّ حکما ظاهریا لا حکما واقعیا.

ثانیا: عدّ الیمین المردودة فصلاً للخصومة فقط، «لا انّها طریق شرعی إلی کونه ملکا للمدعی بحکم الحاکم ولا مزیل فعلاً للملکیة بل المال باق علی ملک مالکه...».

ولکن یرد علیه: بعدم الفرق بین الیمین المردودة والیمین المنکر والبینة من عدم اثبات الواقع بهنّ، فکلهنَّ من هذه الجهة علی حدّ سواء ولکن یجوز للغیر التعامل معهنّ وشراء هذا المال من صاحبهنَّ أو توریث المال لوارثه، لأنّ التعامل یتوقف علی الملکیة - ولو ظاهرا - وکذلک التوریث.

والشاهد لما ذکرنا ما ورد فی صَحِیْحَةِ ابن أبییعفور عن أبیعبداللّه علیه السلام : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من حلف لکم باللّه علی حق فصدّقوه، الحدیث.(1)

ووجوب التصدیق یستلزم أن تکون الیمین من الاْءَماراتِ التی تکشف عن الحقّ کالبینة، فلا فرق بینهما. وتفصیل المُحَقّقِ الأصفهانی فی غیر محلّه.

ثالثا: ما ورد فی مقالته ب- «انّ ظاهر اللفظ حجة دون ظاهر الحال» لا یتم، لأنّ

ظاهر الحال کظاهر اللفظ یعدّان من الظنون الخاصة وکلاهما حجتان ولو لم یکن ظاهر الحال حجة فکیف تَصِحُّ حجیة الإطلاق المقامی والحالی.

ونعلم بأنّ «مستند حجیتهما السیرة العقلائیة القائمة علی اعتبار ظاهر الحال وحجیته فی موارد عدیدة:

منها: فی تمییز المدّعی عن المنکر فی باب القضاء، وتقدیم قول المنکر لظاهر حاله حیث فسر أصحابنا(2) المدّعی بمَنْ یکون قوله مخالفا للظاهر والمنکر من وافق قوله الظاهر ولو لا حجیة ظاهر الحال لما کان مقدّما.

ص:183


1- 2 . وسائل الشیعة 27/245، ح2، الباب 9 من أبواب کیفیة الحکم.
2- 1 . علی قولٍ.

ومنها: الحکم(1) بمقتضی ظاهر الحال عند اختلاف الزوجین فی الأمتعة حیث حکم الإمام(2) علیه السلام بملکیة الزوجة لها متعمدا فی ذلک علی ظاهر الحال وأنّ العروس تأتی عادة بجهازها معها...»(3).(4)

ص: 184


1- 2 . راجع الاستبصار 3/47.
2- 3 . وسائل الشیعة 26/213، ح1، الباب 8 من أبواب میراث الأزواج صحیحة عبدالرحمن بن الحجاج وفیها: «... أنّ الجهاز والمتاع یُهدی علانیة من بیت المرأة إلی بیت زوجها فهی التی جاءت به، وهذا المدّعی فإن زعم أنّه أحدث فیه شیئا فلیأت علیه البینة».
3- 4 . العقد النضید 3/569.
4- 5 . قال الشهید فی الدروس 2/110 و 111: «لو تداعی الزوجان متاع البیت ففی صحیحة رفاعة [وسائل الشیعة 26/216، ح4] عن الصادق علیه السلام : «له ماللرجال، ولها ما للنساء ویقسّم بینهما ما یصلح لهما» وعلیها الشیخ فی الخلاف [6/352، مسألة 27]. وفی صحیحة عبدالرحمن بن الحجاج [الکافی 13/651، ح1 (7/130)؛ التهذیب 6/297، ح831، وفیه 9/301، ح1078 بسنده عن ابن أبیعمیر] عنه علیه السلام : «هو للمرأة»، وعلیها فی الاستبصار [3/47]. ویمکن حملها علی ما یصلح للنساء توفیقا، وفی المبسوط [8/310] یقسّم بینهما علی الاطلاق، سواء کانت الدار لهما أو لا، وسواء کانت الزوجة باقیة أو لا، وسواء کانت بینهما أو بین الورّاث، والعمل علی الأوّل». فما ذکره الاستاذ المحقّق - مد ظله - یتم علی أحد الأقوال وإحدی الروایتین، راجع الجواهر 40/(494-496). أقول: فی هذه المسألة - تداعی الزَّوْجَیْنِ أو ورثتهما متاع البیت - لو کان فی البین ظاهر حال جهاز المرأة یحکم بأنّ المتاع لها إلاّ مختصات الرجل أخذا بصحیحة ابن الحجاج [وسائل الشیعة 26/213، ح1] ولو لم تکن هذه السیرة وظاهر الحال ما کان من متاع المرأة فلها وما کان من متاع الرجل فله وقسّم مابقی بینهما، أخذا بصحیحة رفاعة [وسائل الشیعة 26/216، ح4[ ومن استولی علی شی ءٍ من المتاع فهو له أخذا بصحیحة یونس بن یعقوب [وسائل الشیعة 26/216، ح3] وبهذا البیان نجمع الروایات المتعارضة الواردة فی المقام والحمد للّه رب العالمین.

والحاصل: ما ذکره المحقّق الأصفهانی من عدم جواز رجوع المشتری إلی البائع الفضولی فی الصورة الثالثة محل تأمل بل منع.

مقالة المحقّق السیّد الخوئی ونقده:

قال رحمه الله : «... الظاهر إلحاقه [أی الصورة الثالثة] بالقسم الأوّل وسقوطه بالبینة وذلک لأنّ مقتضی عموم علی الید أو قاعدته ثبوت الضمان إلاّ فیما إذا علم المالک بعدم الضمان وأنّ المال له، وفی المقام اعترافه به مشکوک فلا یمکن رفع الید فیه عما اقتضاه القاعدة.

وبعبارة اُخری: دلیل البینة بالالتزام دال علی سقوط الاعتراف وجواز الرجوع إلی البائع إلاّ فیما إذا ثبت کون اعترافه عن علم وغیرمستند إلی الید»(1).

وقال: «والدلیل علی ذلک أنّ الحجج الشرعیة لا موجب لرفع الید عنها إلاّ بحجة اُخری فالبینة القائمة علی أنّ المبیع للمدعی دون البائع من الحجج الشرعیة وإنّما نرفع الید عنها هنا بواسطة اقرار المشتری علی أنّ المال للبائع مستندا فی إقراره هذا إلی العلم، فإنّه یؤخذ بإقرار کما عرفت، فلا یثبت له الرجوع إلی البائع بمقتضی البینة القائمة علی أنّ المال للمالک دون البائع لکون إقراره هذا حجة وأمّا فی ما لم یثبت ذلک الإقرار ولا علم لنا فی کونه مستندا إلی العلم الوجدانی لیکون إقراره قابلاً لأخذ مقرِّه به، بل یمکن مستندا إلی الید فلا موجب لرفع الید به عن البینة، وإلاّ یلزم رفع الید عن الحجة بغیرها، ویکفینا الشک فی ذلک أیضا لأنّه لایمکن رفع الید عن الحجة بأمر یحتمل کونه حجة قائمة علی خلافها»(2).

أقول: ویرد علیه: أوّلاً: عند تعارض الأدلة متی کان اقتضاء الحجیة فی أحد الطرفین [الأوّل] تامّا واقتضاء المانعیة فی الثانی مفقودا، بناءً علی قاعدة لزوم رفع الید عن اللاحجة بالحجة یلزم الأخذ بالحجة [الأوّل] ورفع الید عن اللاحجة، وأمّا مع تبدّل النسبة بمعنی عدم تمامیة اقتضاء الحجیة فی الأوّل وقیام ما یحتمل المانعیة فی الثانی فلا

ص:185


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/468، ونحوها فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/75.
2- 2 . مصباح الفقاهة 4/341.

مجال لتقدیم الأوّل أخذا بالقاعدة، بل القاعدة تقتضی عکس ذلک - أی رفع الید عن الأوّل والأخذ بالثانی - لعدم وجود المقتضی فی الأوّل. وما نحن فیه من قبیل تبدیل

النسبة لا من قبیل المورد الأوّل الذی ذکره السیّد الخوئی، هذا بالنسبة إلی الکبری المذکورة فی کلامه.

وثانیا: علی ما ذکرنا من تبدیل النسبة بعد ما أقام المالک البینة علی ملکیة العین، لا ندری بأنّ المشتری فی بیعها یستند إلی قاعدة الید حتّی تحکمها البینةُ أو إلی العلم حتّی لا تجری فی حقّه البینة، فحینئذ لایمکن الأخذ بالبیّنة لأنّها تفقد حجیتها عند معارضتها مع العلم ویجری فی حقّها ما ذکرته من تبدیل النسبة بعد مجیء هذا الاحتمال.

وثالثا: حُجِّیَةُ البینة فی الفرض مَنُوْطَةٌ بانحلال العلم الإجمالی بین المستندین - قاعدة الید أو العلم - ولا دلیل علی الانحلال فی کلامه إلاّ البینة، فکلامه یرجع إلی الدور المصرح الباطل.(1)

ورابعا: الظاهر أنّ الأمر علی عکس ما ذکره هذا المحقّق - کما مرّ - لأنّ «ظهور الاعتراف هو الأخبار عن الواقع ومقتضی دلیل نفوذ الإقرار علی المقر حتّی مع البینة هو طرح البینة فی دلالتها الالتزامیة، لأنّه لا اعتبار للبینة مع الاعتراف کما هو المقرر فی باب القضاء»(2). فما ذکره قدس سره من أنّ «دلیل البینة بالالتزام دال علی سقوط الاعتراف»(3) غیر تام.

وخامسا: حکم الحاکم بأنّ العین للمالک لایلزم أن یکون فی جمیع الموارد بالبینة، بل یمکن أن یکون بالیمین المردودة من البائع «ومعه لا یکون فی البین تلک الدلالة الالتزامیة»(4).

ص:186


1- 1 . الإشکالات الثَّلاثَة للأُستاذ المحقّق - مد ظله - فی العقد النضید 3/561 و 562.
2- 2 . إرشاد الطالب 4/100.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/468.
4- 4 . إرشاد الطالب 4/100.
المختار فی حکم الصورة الثالثة

إنّ هاهنا فَرْضَیْن:

الأوّل: إذا أقام المالک البینة عند المشتری بأنّه هو المالک، لا البائع وأخذ العین منه هل یجوز له أن یرجع إلی البائع لأخذ ثمنه منه؟ الظاهر عدم الجواز مادام المشتری مترددا بین أنّ مستند شرائه قاعدة الید أو العلم بملکیة البائع، لأنّ وجود هذا العلم الاجمالی یمنع عن العمل بالبینة، ولکن إذا انحلّ هذا العلم إلی أحد طرفیه بالتأمل یلحق به حکم هذا

الطرف بالإلحاقه إلی الصورة الاُولی أو الثانیة.

الثانی: إذا ترافع المالک والمشتری عند الحاکم الشرع وأقام المالک البینة وحکم الحاکم بها بأنّه هو المالک فهل یجوز للمشتری الرجوع إلی البائع وأخذ الثمن منه؟ الظاهر هو عدم الجواز مادام علمه الإجمالی بین قاعدة الید أو العلم باق. وکذلک لو حکم بمالکیة المالک بالیمین المردودة بلا فرق.

اللهم إلاّ أن یقال: بأنّ المشتری أعطی البائع الثمن فی معاوضة معاملیة وإذا انتفت هذه المعاملة وأُخِذَ العین منه فهو یرجع إلی البائع ویأخذ ثمنه منه لعدم وجود المثمن فی هذه المعاملة فتکون باطلة ویجوز للمشتری أخذ ثمنه من البائع بلا فرق بین مستند شرائه وبین إقامة البینة عند المشتری أو عند الحاکم واللّه العالم.

أمّا المقام الثانی: إذا کان المشتری عالما بالفضولیة والثمن باقیا
اشارة

ففیه جهات من البحث:

الجهة الاولی: هل البائع یملک الثمن بتسلیط المشتری أو أنّه لا یدخل فی ملکه؟

قال الشیخ الأعظم: «فإن کان الثمن باقیا استردّه وفاقا [للمحقّق(1) و] العلاّمة(2)

ص:187


1- 1 . الرسائل التسع 307، زیادة منّا.
2- 2 . قواعد الأحکام 2/19، تذکرة الفقهاء 10/18، مختلف الشیعة 5/56.

وولده(1) والشهیدین(2) والمحقّق الثانی(3) [والأردبیلی(4) والسبزواری(5)] رحمهم الله إذ لم یحصل منه ما یوجب انتقاله عنه شرعا...»(6).

ثمّ ذهب إلی عدم تملیک البائع الثمن بتسلیط المشتری بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: التسلیط لیس من أحد المملِّکات ولم یحصل هناک سبب آخر للتملیک فلا موجب لصیرورة الثمن ملکا للبائع.

وهذ الوجه تام لأنّ التسلیط یعدّ من موارد أکل المال بالسبب الباطل.

الوجه الثانی: لو کان التسلیط مملِّکا لکان کذلک فی جمیع البیوع الفاسدة مع أنّ التسلیط فیها لم یلتزم أحد بکونه موجبا للتملیک.

واعترض علیه المحقّق الأصفهانی بقوله: «أنّ التسلیط فی غیر ما نحن فیه بعنوان الوفاء بالمعاملة وحیث لا ملک من قبل المعاملة لفرض فسادها کان التسلیط بعدها لغوا، بخلاف التسلیط هنا فإنّه بعنوان الوفاء، فإنّ مقتضی الوفاء بالمعاملة مع المالک تسلیط المالک لا غیره...»(7).

ووافقه السیّد الخوئی وقال: «إنّ قیاس التسلیط فی المقام علی التسلیط فی البیوع الفاسدة قیاس مع الفارق، فإنّ التسلیط فی المقام مع العلم بأنّ الآخذ غاصب وغیر مستحق للمال تسلیط من دون التضمین وأمّا فی البیوع الفاسدة فالإعطاء للمال من جهة أنّه عوض للمبیع فیکون تسلیطا مع الضمان.

ص:188


1- 3 . إیضاح الفوائد 1/418 و 421.
2- 4 . الدروس 3/193؛ اللمعة الدمشقیة /110؛ والمسالک 3/160 و161 و12/224؛ الروضة البهیة 3/234.
3- 5 . جامع المقاصد 4/77.
4- 6 . مجمع الفائدة والبرهان 8/165، زیادة منّا.
5- 7 . کفایة الأحکام 1/450، زیادة منّا.
6- 8 . المکاسب 3/484.
7- 1 . حاشیة المکاسب 2/288.

وبعبارة أُخری: البیع الغرری أو الربوی سبب للملکیة عند العرف وإنّما حکمنا بفسادهما لأجل المنع عنهما شرعا وأمّا فی المقام [فهو] تسلیط مجانیٌ ولیس موجبا للملکیة عند العرف أیضا وکم فرق بینهما کما هو ظاهر، وقد أشار إلی ذلک هو قدس سره بعد أسطر فراجع»(1).

أقول: مراده هذا البیان من الشیخ الأعظم رحمه الله : «بأنّه إنّما سلّطه فی مقابل ملک غیره فلم یُضمّنه فی الحقیقة شیئا من کیسه، فهو یشبه الهبة الفاسدة والبیع بلا ثمن والإجارة بلااُجرة التی قد حکم الشهید(2) وغیر واحد(3) بعدم الضمان فیها»(4).

ولکن قیاس الشیخ الأعظم تام لأنّ التسلیط هنا أیضا فی مقابل العین التی اشتراها من الفضولی فالمعاوضة موجودة والتسلیط لیس بمجانی، فلو کان التسلیط مملِّکا لکان فی جمیع البیوع الفاسدة وهو مردودٌ.

الوجه الثالث: التسلیط لو کان مملِّکا للبائع الفضولی لکانت المعاملة الفضولیة

باطلة لأنّ تملک البائع الثمن یقتضی فوات محلّ إجازة المالک لعدم وجود الثمن فی معاملة المالک حینئذ ویکون بیعه بلا ثمن ثمّ أمر الشیخ الأعظم بالتأمل.(5)

ویرد علیه: لا یتم هذا الوجه لأنّ بناءً علی الکشف، تسلیط المشتری البائع یکون تسلیطا علی مال الغیر لأنّ بالعقد ینتقل الثمن إلی المالک بعد صدور إجازته فلا ینتقل إلی البائع أصلاً.

وأمّا علی القول بالنقل أیضا فَإنَّ التسلیط لم یکن مجانیا لأنّ المعاوضة والمبادلة فی صورة صدور الإجازة من المالک موجودة بین المالین، وفی فرض عدم صدورها من

ص:189


1- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/76.
2- 3 . نقل السیّد العاملی البیع بلا ثمن عنه فی مفتاح الکرامة 4/440 (من الطبعة للاولی) (13/674).
3- 4 . جامع المقاصد 7/120، مسالک الأفهام 5/184.
4- 5 . المکاسب 3/486.
5- 1 . المکاسب 3/485.

المالک أیضا قد مرّ فی الوجه الأوّل بأنّ التسلیط لم یکن مملِّکا للبائع ولعلّ الشیخ الأعظم نَظَرَ إلی هذا البیان فی أمره بالتأمل فی ختام هذا الوجه.

الوجه الرابع: الذی ذکره المحقّق النائینی رحمه الله ویراه صحیحا دون الثلاثة المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم قدس سره وهو: لو فُرض أنّ التسلیط فی المقام یوجب التملیک للبائع وأنّه کالهبة مثلاً إلاّ أنّه لاینبغی الإشکال فی أنّه ملک جائز ولا یزید علی الهبة الجائزة بوجه ولا مانع فیها من الرجوع واسترداد العین أبدا، فللمشتری أن یرجع علی البائع بثمنه لأنّه کالهبة الجائزة بالتسلیط.(1)

ویرد علیه: هذا البیان منه قدس سره إنِّما یتم فی فرض عدم کون الهبة لِذِیْ رحم أو مُعَوّضة أو لم یتصرف الموهوب له أیّ تصرف فی العین کالخیاطة والبیع أو غیرهما من أنحاء التصرف وإلاّ فالهبة تصیر لازمة ولا یمکن للواهب الرجوع فی هبته مع أنّ البحث هنا فی رجوع المشتری إلی البائع مطلقا تصرّف فی الثمن أم لا؟ کان المشتری ذا رحم أم لا؟ فهذا الوجه أخص من المدعی ولا یتم.

والحاصل: إذا کان الثمن باقیا فللمشتری العالم بالفضولیة جواز استرجاعه لأنّه دفعه إلی البائع فی قبال العین والمثمن لا مجانا فمع عدم صدور إجازة المالک یسترجع ثمنه بقاعدتی علی الید والسلطنة.

الجهة الثانیة: هل یجوز أن یتصرف البائع فی الثمن؟

یظهر حکم تصرفه ممّا مرّ فی الجهة الأُولی، إذ بعد ما لم یتحقّق سبب شرعی لانتقال الثمن إلی البائع فلا وجه لتصرفه فیه، وتصرفاته تعدّ عدوانیة ومحکومة بالحرمة

تکلیفا والبطلان وضعا.

الجهة الثالثة: إذا تلف الثمن الذی أخذه البائع فهل یکونُ ضامنا له للمشتری؟
اشارة

فی فرض علم المشتری بالفضولیة أو الغصبیة وتلف الثمن عند البائع فهل البائع ضامِنٌ للمشتری بثمنه أم لا؟

ص:190


1- 2 . منیة الطالب 2/162.

ذهب المشهور إلی عدم ضمان البائع - کما مرّ مصادره فی الجهة الأُولی من البحث - بل ادعی علیه الإجماع(1) وتبعهم الشیخ الأعظم والمحقّقان النائینی(2) والأصفهانی(3).

واستدلّ الشیخ الأعظم(4) علی عدم الضمان بأنّ الدلیل علی الضمان أمران:

الأوّل: قاعدة علی الید ما أخذت حتّی تؤدی المرتکزة عند العقلاء حیث إنّهم یرون أخذ مال الغیر وإثبات الید علیه موجبا لضمانه.

الثانی: قاعدة الإقدام علی الضمان - کما ذکره الشیخ(5) والشهید الثانی(6) - فی المقبوض بالبیع الفاسد.(7)

ولا تجری هاتان القاعدتان فی المقام:

وأمّا قاعدة علی الید: وإنْ کانت الید موجودة إلاّ أنّ القاعدة مخصصة بما ورد فی عدم ضمان من استأمنه المالک علی ماله ودفع ماله إلیه لحفظه نحو موارد الودیعة(8) أو الانتفاع به کما فی موارد العاریة(9) أو استیفاء المنفعة منه کما الإجارة، فحینئذ بطریق الأولویة القطعیة أو الفحوی الموافق لا تجری قاعدة علی الید فی مورد التسلیط وإجازة

ص:191


1- 1 . ادعاه العلاّمة الحلی فی تذکرة الفقهاء 10/18، وتلمیذه وابن اخته السیّد عمیدالدین فی کنزالفوائد 1/378، وولده فخرالمحقّقین فی الإیضاح 1/421، والکرکی فی جامع المقاصد 4/77.
2- 2 . منیة الطالب 2/163.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/293.
4- 4 . المکاسب 3/486 و 487.
5- 5 . المبسوط 3/65 و 68 و 85 و 89، و 2/204.
6- 6 . المسالک 3/154، و 4/154.
7- 7 . راجع ما کتبته حول قاعدة الإقدام فی الآراء الفقهیة 4/331 وما بعدها.
8- 8 . راجع وسائل الشیعة 19/79، الباب 4 من أبواب کتاب الودیعة.
9- 9 . راجع وسائل الشیعة 19/91، الباب 1 من أبواب کتاب العاریة ووسائل الشیعة 19/96، الباب 3 منها.

التصرف فی الثمن، وعلیه فی ما نحن فیه.

وبالجملة: قاعدة علی الید مخصّصة بِالْمَوارِدِ التی یرضی المالک بالید والتصرف فی الشی ء وَیُجیزُ.

وأمّا قاعدة الإقدام: فَهِیَ أیضا لا تجری فی المقام لاِءَنَّ البائع الفضولی لم یقدم علی الضمان وأخذ العین بل سلّطه المشتری علی الثمن مع علمه بفضولیته أو غاصبیته وأنّ المال غیر مستحق له. فالبائع لم یقدم علی التصرف والضمان بل المشتری سلّطه علی ماله من دون تضمین.

أَرْبَعَةُ إشکالات وأجوبتها من الشیخ الأعظم
الأوّل:

الأوّل: قال: «دعوی: أنّه إنّما سلّطه فی مقابل العوض، لا مجانا حتّی یشبه الهبة الفاسدة التی تقدّم عدم الضمان فیها.

مندفعة: بأنّه إنّما سلّطه فی مقابل ملک غیره، فلم یُضمّنه فی الحقیقة شیئا من کیسه، فهو یشبه الهبة الفاسدة(1) والبیع بلا ثمن(2) والإجارة بلا أُجرة(3) التی قد حکم الشهید وغیر واحد(4) بعدم الضمان فیها»(5).

الثانی:

الثانی: قال: «إن قلت: تسلّطه علی الثمن بإزاء مال الغیر لبنائه ولو عدوانا علی کونه ملکا له، ولو لا هذا البناء لم یتحقّق مفهوم المعاوضة - کما تقدّم فی تصحیح بیع الغاصب لنفسه - فهو إنّما سلّطه علی وجه یضمّنه بماله...»(6).

توضیحه: المعاملة الفضولیة لها الصحة التأهلیة بحیث لو ألحقت الإجازة بها

ص:192


1- 1 . راجع جامع المقاصد 4/209، مفتاح الکرامة 13/674، الجواهر 27/247 طبع إسلامیة.
2- 2 . نقله صاحب مفتاح الکرامة 13/674 عن حواشی الشهید ولکنه غیر موجود فی الحاشیة النجاریة له.
3- 3 . راجع جامع المقاصد 7/120؛ المسالک 5/184.
4- 4 . والمراد به المحقّق والشهید الثانیان.
5- 5 . المکاسب 3/486.
6- 6 . المکاسب 3/487.

لصحت بالصحة الفعلیة، فالفضول وإن لم یکن مالکا واقعا ولکنّه مالکا ادعاءً وإلاّ لم تتم الصحة التأهلیة قبل الإجازة والصحة الفعلیة بعدها.

فحینئذ ما یدفعه المشتری إلی البائع الفضولی ثمنا إنّما یدفعه باعتبار هذه الملکیة الإدعائیة وفی مقابل المثمن ویسلّطه أیضا علیه کذلک وهذا هو التضمین وبالنتجیة

تجری قاعدتا علی الید والإقدام کلاهما فی المقام.

وبالجملة: الملازمة بین البیع والتضمین مما لاینکر، لعدم تحقّق البیع من دون تضمین، حتّی إذا کان البیع صوریّا ادعائیا.

ثمّ قال الشیخ فی الإجابة: «قلت: الضمان کون الشی ء فی عهدة الضامن وخسارته علیه، وإذا کان المضمون به ملکا لغیر الضامن واقعا فلا یتحقّق الضمان الحقیقی مع علمهما بذلک...»(1).

مراده بتوضیح منّا: إنّه فصّل بین البیع والتضمین، البیع صدر من البائع الفضولی ادعاءً ومن المشتری أصالة ومع عدم صدور الإجازة من المالک یکون باطلاً وأمّا التضمین وقع علی المالک إن أجاز بیع الفضولی وإلاّ فلا تضمین لا علی المالک ولا علی البائع الفضولی، عدم ثبوته علی الأوّل واضح، وعلی الثانی لأنّ المشتری سلّطه علی ماله من دون تضمین لعلمه بفضولیته وأنّه غیر مالک، فلیس له استرجاع الثمن.

الثالث:

الثالث(2): إذا کان المشتری عالما بالفضولیة ولم یجز المالک لم یتحقّق البیع ولا التضمین لأنّ التضمین فی البیع علی المالک لا غیره، وبهذا الاستدلال ینفی الضمان علی المشتری ولکن هذا البیان یجری فی فرض جهل المشتری بالفضولیة أیضا لاشتراک الفرضین - العلم والجهل - فی الأمرین المذکورین - عدم وقوع البیع والتضمین علی المالک - فلماذا حکم بالضمان فی فرض جهل المشتری کما مرّ عن المشهور ولم یحکم به فی فرض علم المشتری؟! مع کون الاستدلال یجری فی الفرضین معا؟

ص:193


1- 1 . المکاسب 3/488.
2- 2 . المکاسب 3/489 قوله: «وممّا ذکرنا یظهر - أیضا - فساد نقض ما ذکرنا بالبیع مع علم المشتری بالفساد...».

ثمّ أجاب(1) عنه بتوضیح منّا: قیاس الفرضین مع الفارق لأنّ فی فرض الجهل لم یرض المشتری بتصرف البائع فی الثمن من دون تضمین وبیع، وأمّا فی فرض العلم رضا بذلک من دون تضمین لعدم ثبوت بیع شرعا.

بعبارة أُخری: «إنّ دفع المال إلی الغاصب [أو الفضول] لیس إلاّ کدفعه إلی ثالث یعلم عدم کونه مالکا للمبیع وتسلیطه علی إتلافه فی أنّ ردّ المالک لا یوجب الرجوع إلی هذا الثالث»(2).

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «نعم، لو کان فساد العقد لعدم قبول العوض للملک - کالخمر والخنزیر والحرّ - قَوِیَ اطّرادُ ما ذکرنا [من عدم الضمان] فیه [فی فرض علم المشتری بالفضولیة وتلف الثمن] من عدم ضمان عوضها المملوک مع علم المالک بالحال، کما صرح به شیخ مشایخنا فی شرحه علی القواعد»(3).

مراده قدس سره : من شیخ مشایخه هو جدی الشیخ جعفر کاشف الغطاء رحمه الله فی شرحه علی القواعد حیث یقول: «ویقوی تسریة الحکم فی المقامین إلی کلِّ ما دُفع بغیر مقابل، أو بمقابل غیر قابل»(4).

وکما نقل عنه صاحب الجواهر وقال: «بل لا بأس بالتزام مثل ذلک [عدم الضمان[ فی جمیع نظائره ممّا دفع إلیه الثمن بلا مقابل معتدّ به کما صرّح به الاستاذ فی شرحه...»(5).

الرابع:
اشارة

الرابع: إشکال نقضی بعدم وجود الفرق بین المقام والعقود الفاسدة حیث یکون التسلیط فیها موجبا للتضمین دون المقام.

وأجابه بتوضیح منّا: التسلیط فی العقود الفاسدة یتحقّق بعنوان الوفاء بالعقد فلم

ص:194


1- 3 . المکاسب 3/489 قوله: «وجه الفساد...».
2- 4 . المکاسب 3/489.
3- 1 . المکاسب 3/490.
4- 2 . شرح القواعد 2/106.
5- 3 . الجواهر 23/493 (22/307).

یکن تسلیط مجانی فی البین والتضمین موجود بمقتضی العقد ولو کان فاسدا لأنّ ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده کما مرّ ولکن هذا العنوان - أی الوفاء بالعقد - هنا مفقود لأنّ المشتری عالم بالفضولیة أو الغصبیة وبطلان العقد وعدم تحقّق البیع.

هذا هو توضیح ما ذکره الشیخ الأعظم فی المقام.

أمّا القول المختار

فأقول: الظاهر هو الضمان فی فرض تلف الثمن وعلم المشتری بالفضولیة أو الغصبیة کما علیه المحقّق الحلّی فی رسائله(1) ویراه سیّد الریاض(2) فی غایة الْقُوَّة لو لا إجماعُ التذکرة وهو حسن ثمّ أمر بالتأمل، والمحقّق السیّد الخوئی(3) والاستاذان(4) قدس سرهم .

والوجه فی ذلک جریان قاعدة علی الید فی المقام لأنّ معناها هو الاستیلاء علی مال الغیر وإثبات الید علیه یقتضی ردّه إلی مالکه کما علیه سیرةُ العقلاء ویخرج من تحت هذه القاعدة موارد التسلیط المجانی وإلغاء المالک احترام ماله، وما نص علیه فی الشریعة من موارد الاستئمان والعاریة والإجارة، وما نحن فیه لیس من هذه الموارد لأنّ المشتری إنّما یسلّط البائع علی الثمن لبنائه علی المعاوضة والمبادلة والمبایعة بین المالین، ولو کانت المبایعة فی الشریعة باطلة کما فی غیرها من العقود الفاسدة، فالمشتری لم یسلّط البائع مجانا بل فی مقابل المثمن عرفا فیصیر التسلیط تَضْمِیْنِیّا فتجری قاعدة علی الید.

کما أنّها تجری فی جمیع العقود الفاسدة منها: ما یبذله مشتری الخمر والخنزیر والحرّ إلی بائعه من الثمن مع علمه بالحال؛ وما یأخذه المتقامر الغالب من المغلوب ونحوها.

ص:195


1- 4 . الرسائل التسع، المسائل الطبریة، مسألة 4، /306.
2- 5 . ریاض المسائل 8/229.
3- 6 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/80.
4- 7 . شیخنا الاستاذ قدس سره فی إرشاد الطالب 4/106، والاستاذ المحقّق - مد ظله - فی العقد النضید 3/580.

وأمّا ما ذکره الشیخ الأعظم(1) من تشبیه المقام بالهبة الفاسدة والبیع بلا ثمن والإجارة بلا أُجرة، فهو غیر تام لأنّها فی الحقیقة تحلیل وهدیة مجانیة عبّر عنها بعنوان الهبة أو البیع أو الإجارة فیکون بلا تضمین وبلا عوض.

کما إنّ تشبیه(2) المقام بدفع الثمن إلی ثالث - أی غیر المالک والبائع -، أیضا غیر تام، لأنّ دفع الثمن إلی ثالث لابُدَّ أن یکون مجانیا وبلا عوض بخلاف المقام لأنّ دفع الثمن إلی البائع الفضولی یکون عوضا عن المثمن.

لا یقال(3): السیرة العقلائیة فی المقام إمّا مقطوعَةُ العدم أو مشکوکَةُ الوجود وبالتالی لاتجری فی المقام لأنّ وجودها فی فرض علم المشتری بالفضولیة أو الغصبیة وتلف المال عند البائع الفضولی أو الغاصب بإتلاف سماوی أو أرضی - لا بإتلاف الفضولی أو الغاصب - مقطوعة العدم أو مشکوکة الوجود لعدم وجود اهتمام من المشتری بالنسبة إلی المالک أو إجازته.

لاِءنا نقول: عدم اهتمام من المشتری بالنسبة إلی المالک الواقعی أو إجازته لا یمنع

من جریان السیرة العقلائیة، لأنّها تجری فی حقِّ من أثبت یده علی مال غیره إلاّ أن یکون تسلیطا مجانیا من مالک المال وفی المقام لم تثبت مجانیة التسلیط بل ثبت أنّ تسلیط الثمن یکون فی مقابل أخذ المثمن فالتسلیط معاوضیٌّ معاملیٌ تضمینیٌ وتجری السیرة العقلائیة فیه.

ولذا لا یری المحقّق السیّد الخوئی(4) وجها لجمع الشیخ الأعظم(5) فی الجهة الثانیة من البحث حیث ذهب إلی عدم جواز تصرف البائع فی الثمن لعدم انتقاله إلیه وعدم إذن المشتری بالتصرف مع أنّه فی الجهة الثالثة ذهب إلی عدم الضمان، مع وضوح أنّ ما

ص:196


1- 1 . المکاسب 3/486.
2- 2 . المکاسب 3/489.
3- 3 . کما فی العقد النضید 3/579 و 580.
4- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/473؛ التنقیح فی شرح المکاسب 2/81.
5- 2 . المکاسب 3/485.

ذکره فی الجهة الثانیة یقتضی الضمان، لأنّ التسلیط إن کان مجانیا بلا عوض فهو ترخیص فی التصرف فکیف یجتمع مع عدم جواز التصرف؟! وإن لم یکن تسلیطا مجانیا بل کان معاوضی معاملی تضمینی فلا وجه لعدم الضمان!

والحاصل: هذا التفصیل من الشیخ الأعظم غریب عند السیّد الخوئی.

أقول: الظاهر عدم تمامیة هذا الاعتراض علی الشیخ الأعظم، لأنّه قدس سره یری الضمان فی فرض جهل المشتری بالفضولیة والغصبیة، وعدم جواز تصرف البائع فی الثمن حینئذ.

وأمّا فی فرض علم المشتری بها فهو یری عدم الضمان وبالنتیجة یجوز للمشتری التصرف فی الثمن فلا تَهافُتَ فی البین ولاغرابة.

کما یراه کذلک الاستاذ المحقّق(1) - مد ظله - ولکن لم یذکر وجه عدم ورود إشکال السیّد الخوئی رحمه الله علی الشیخ الأعظم.

مقالة الاستاذ المحقّق - مد ظله - فی وجه الضمان

قال: «أمّا الروایة النبویّة(2): فإنّ إطلاقها یشمل کلّ ید عادیة مسیطرة علی المال دون إجازة المالک أو الشارع، وجامعها الید المستولیة بلا حقّ، ولکن الروایة مخصّصة بما إذا أقدم صاحب المال علی هتک احترام ماله وإسقاط حرمته ببذله لغیره، دون أن یضمّنه بشیء، أو أمر غیره بإتلاف ماله، بأن قال له: «ألق متاعی فی البحر ولا ضمان علیک». ففی

هذه الموارد لا ضمان.

أمّا فیما نحن فیه فإنّ المشتری برغم علمه بحقیقة حال البائع، لکنّه لم یسلّطه علی ماله دون تضمین، وإنّما سلّطه علیه فی مقابل المبیع، وبالتالی یکون تسلیطه عوضا عمّا یقبضه منه، وحینئذ مع انکشاف مراد المشتری، فلا یخلو الحال: إمّا أنّه لا مخصّص لعموم الدلیل، أو نشکّ فی التخصیص، وعند ثبوت الأوّل یکون إطلاق الخبر محکّما ودالاًّ علی

ص:197


1- 3 . العقد النضید 3/580.
2- 4 . عوالی اللآلی 1/224، ح106.

ثبوت الضمان. أمّا فی صورة [ثانیة عند] الشکّ فی إطلاق موارد التسلیط وعدمه. فإنّ المورد یعدّ من موارد المردّد بین الأقلّ والأکثر، ویندرج فی صغریات التمسّک بعموم العام مع إجمال المخصّص المنفصل، فیکون المتیقّن من تخصیص [روایة] قاعدة الید، کلّ مورد کان التسلیط فیه بغیر عنوان العوض، أمّا إذا کان بعنوان العوض فالقاعدة تقتضی اعتبار العموم مرجعا والحکم بضمان البائع مطلقا، سواءً علّق المشتری دفعه بلحوق الإجازة وعدمه.

أمّا قول الشیخ رحمه الله بأنّ عموم علی الید: «مخصّص بفحوی ما دلّ علی عدم ضمان من استأمنه المالک، ودفعه إلیه لحفظه کما فی الودیعة، أو الانتفاع به کما فی العاریة، أو استیفاء المنفعة کما فی العین المستأجرة»(1)، فلا یمکن التمسّک به لإثبات [عدم[ الضمان فی المقام.

وهو ممنوعٌ: باعتبار أنّ المال المدفوع إلی المستودع والمستأجر والمرتهن تعتبر أمانة مالکیّة عند هؤلاء، وأیْدِیْهِمْ علیه تکون من باب الاستیمان المالکی، وهو مفقود فی المقام، وبالتالی یبطل استدلال الشیخ بالفحوی، لتوقّفه علی تحقّق الأولویّة القطعیّة العقلیّة أو العقلائیّة الحاصلة فی الموارد الثلاثة، والمفقودة فی المقام، وفی الواقع هناک بینونة محضة بین الاستیمان المالکی، وبین دفع المشتری المال إلی الفضولی، ولذا یصحّ الحکم بالضمان فی المقام ونفیه فی تلک الموارد لتخصیص القاعدة فی الأخیرة دون الاُولی»(2).

أقول: ما ذکره - مد ظله - فی مقام دلالة النبویة تام ویثبت به الضمان. وقد مرّ(3) منّا انجبار ضعف سند النبویة بعمل الأصحاب فراجعه.

نقد مقالة المحقّق الأصفهانی فی الاستدلال علی عدم الضمان

قال بعد بحث طویل فی مقام «التحقیق: إنّ التسلیط سواءً کان وفائیّا أو ابتدائیا

ص:198


1- 1 . المکاسب 3/486.
2- 2 . العقد النضید 3/581 و 580.
3- 3 . الآراء الفقهیة 4/292 وما بعدها.

تسلیطٌ بلا عوض، إذا المفروض علم الشخص بأنّ العاقد غاصبٌ، وأنّ عنوان الوفاء غیر مترتّب علی تسلیطه حقیقة، وقَصْدُ عنوان الوفاء تشریعا لا یوجب خروج التسلیط الغیر المنطبق علیه عنوان الوفاء عن کونه تسلیطا عن رضا، فهو تسلیط عن رضا. غایة الأمر أنّه بنی علی أنّ هذا التسلیط المرضیّ به وفاءً بالعقد تشریعا، فتخلّف الوفاء لا یوجب عدم کونه مرضیّا به، لأنّه مع علمه بتخلّفه أقدم عن اختیاره علی تسلیطه، فلا تضمین له حقیقة، فإقدامه الخارجی غیر معاوضی حقیقة، وإن کان معاوضیا بناءً وتشریعا، ولا تخلّف للرضا علی أی حال.

وکون التسلیط بعد العقد ممّا لابدّ منه عرفا فلا یکشف عن الرضا، مدفوع بأنّ العقد الموجب للتسلیط حیث إنّه صدر عن الرضا فهو یوجب وقوع التسلیط عن رضاه»(1).

أقول: التسلیط وهو الفعل الصادر من المشتری عن قصد واختیار فلا یعقل أن یکون مهملاً، فالتسلیط إمّا مطلق أو مشروط فلا یکون مهملاً.

فحینئذٍ حیث دفع المشتری ماله إلی البائع الفضولی فی ضمن معاوضة فتسلیطه إیّاه یکون بعنوان ثمن البیع والمثمن إمّا شخصیٌّ أو کلّیٌّ فی الذمة وبالتالی المعاوضة موجودة والتضمین موجود فتندرج هذا التسلیط فی صغریات قاعدة علی الید أو خبره.

وبالجملة: ما ذکره قدس سره من أنّ إقدام المشتری فی تسلیط البائع غیر معاوضی حقیقة غیر تام.

تتمةٌ: فروع استثناها الشیخ الأعظم من القول بعدم الضمان

منها: قال: «ثمّ إنّ ما ذکرناه فی وجه عدم الرجوع بالثمن ثبوت الرجوع إذا باع البائع الفضولی غیر بائع لنفسه بل باع عن المالک ودفع المشتری الثمن إلیه لکونه واسطة فی إیصاله إلی المالک فتلف فی یده، إذ لم یسلّطه علیه ولا أذن له فی التصرف فیه، فضلاً عن إتلافه، ولعلّ ظاهر کلماتهم ومعاقد إتفاقهم تختصّ بالغاصب البائع لنفسه، وإن کان

ص:199


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/293.

ظاهر بعضهم(1) ثبوت الحکم فی مطلق الفضولی مع علم المشتری بالفضولیة»(2).

ویرد علیه: «ما ذکره قدس سره من الضمان فی الفرض إن أراد به ضمان الإتلاف فهو خارج عن محلّ الکلام، لأنّ محل الْبحْثِ إنّما هو التلف والضمان بدلیل علی الید، وإن أراد به ضمان الید - کما هو الظاهر - فلم نعرف له وجها، لأنّ المفروض إنّ المشتری استأمنه فی إیصال الثمن إلی المالک، ولا ضمان فی مورد الاستیمان، فکان الصحیح المتعین علی المصنف [الشیخ الأعظم] أن یعکس المطلب، أی یقول بالضمان فی الفرض السابق وبعدمه فی الفرض»(3).

ومنها: أنّ ما ذکره قدس سره «من عدم الضمان إنّما هو فیما إذا سلّطه المشتری علی المال بأن دفعه إلیه بنفسه، وأمّا إذا أخذه البائع بعد المعاملة من دون أن یدفعه إلیه المشتری فلا محالة یحکم فیه بالضمان، إذ البیع بمجرده لیس تسلیطا علی شی ءٍ فما لم یدفعه إلیه المشتری لا یکون فی البین تسلیط»(4). وهذا متین.

وعلّله الشیخ الأعظم بقوله: «یقوی الرجوع لو أخذ البائع الثمن من دون إذن المشتری بل أخذه بناءً علی العقد الواقع بینهما، فإنّه لم یحصل هنا من المشتری تسلیط إلاّ بالعقد والتسلیط العقدی مع فساده غیر مؤثر فی دفع الضمان و یکشف عن ذلک أی فی تصریح غیر واحد منهم(5) بإباحة تصرّف البائع الغاصب فیه [أی فی الثمن المجعول عوضا عن المبیع المغصوب]، مع اتفاقهم ظاهرا علی عدم تأثیر العقد الفاسد فی

ص:200


1- 2 . نحو الفاضل المقداد فی التنقیح الرائع 2/37 والمحقّق الثانی فی جامع المقاصد 4/69، حیث جعلا الغاصب کالفضولی.
2- 3 . المکاسب 3/492.
3- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/475.
4- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/83.
5- 3 . نحو: أصحاب جامع المقاصد 4/71؛ والمسالک 3/160؛ والحدائق 18/396؛ ومفتاح الکرامة 12/618؛ والجواهر 23/491 (22/305).

الإباحة»(1).

أقول: «الاْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ»(2) حیث یقول الشیخ الأعظم قدس سره : «التسلیط العقدی مع فساده غیر مؤثر فی دفع الضمان» وهذا ما أصرنا علیه، وأنکره القوم والشیخ الأعظم رحمهم الله تبعا لهم، وإقرارٌ منه قدس سره بثبوت الضمان ووجهه فی الجهة الثالثة من البحث.

«ومنها: إنّه حکم بالضمان فیما إذا اشترط المشتری علی البائع الضمان، أی الرجوع إلیه بالثمن إذا أخذ منه المبیع صاحبه.

وهذا أیضا ظاهر»(3).

ومنها: «ولو کان الثمن کلّیّا فدفع إلیه المشتری بعض أفراده، فالظاهر عدم الرجوع لأنّه کالثمن المعیّن فی تسلیطه علیه مجانا»(4).

وحیث أنّ الشیخ الأعظم اختار عدم الضمان فی الثمن الشخصی اختار عدمه أیضا فی الثمن الکلّی وتطبیقه علی بعض أفراده توسط المشتری، والحقّ معه فی عدم الفرق لا فی عدم الضمان لأنّ المختار هو الضمان فی الثمنین کما مرّ والحمد للّه العالم علی الأسرار.

ص:201


1- 4 . المکاسب 3/492.
2- 5 . سورة یوسف /51.
3- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/475.
4- 2 . المکاسب 3/492.

المسألة الثالثة: حکم ما یغترمه المشتری للمالک

اشارة

هل یجوز للمشتری الرجوع إلی البائع الفضولی أو الغاصب فی صورة جهله بالفضولیة أو الغصبیة، أم لا یجوز؟ فلیعلم أَنَّ ما یَغْتَرِمُهُ المشتری یقع علی أقسام ثلاثة فیجری البحث حولها:

القسم الأوّل: الغرامة التی لم یحصل نفع للمشتری فی مقابلها
اشارة

نحو: المنافع التی لم یستوفه المشتری أو نفقة العبد أو الحیوان أو المال الذی صرفه المشتری فی عمارة المبیع من بناءٍ وغرسٍ وحفرٍ، أو إعطاء قیمة الولد المنعقد حرّا فی جاریة المالک أو ما دفعه للمالک فی مقابل نقص بعض الصفات أو الأجزاء من المبیع، ففی کلِّ ذلک لابدّ من المشتری دفع الغرامة إلی المالک، فهل یجوز له الرجوع إلی البائع الفضولی أو الغاصب أم لا؟

فی هذا القسم ادُّعِیَ الإجماع فی الرجوع کما قال ابن ادریس: «... وکلّ ما دخل علی أنّه له بغیر عوض، فإن لم یحصل له فی مقابلته نفع وهو قیمة الولد رجع به علی البائع قولاً واحدا»(1).

وقد حکم فخرالمحقّقین برجوع المشتری علی البائع بما اغترمه من نفقةٍ أو عوضٍ عن اُجرةٍ أو نماءٍ ممّا لم یَحْصَلْ له فی مقابلته نفع إجماعا فی شرح الإرشاد(2).

ص:202


1- 1 . السرائر 2/493.
2- 2 . شرح إرشاد الأذهان / مخطوط، نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/631.

وقال السبزواری: «وذکر الأصحاب أنّ ما یغرمه المشتری ممّا لم یحصل له فی مقابلته نفع - کالنفقة والعمارة - فله الرجوع به علی البائع»(1).

وقال جدی الشیخ جعفر رحمه الله : «(و) ب- (ما اغترمه) من مال لم یکن فی مقابلته نفع

(من نفقة أو عوض عن اُجرة) عمل أو منفعة مملوک أو حیوان لم یصل نفعها إلیه، أو مازاد منها علی مقدار النفع (أو نماء) تالف أو متلف من أجنبی - حیث لا یرید الرجوع علیه - أو منه، أو أرش جنایة مملوک أو حیوان أو قیمة شجر أفسده القلع أو اُجرة حفر أو طمّه أو بناء جدار أو شقّ أنهار أو حفر آبار إلی غیر ذلک للإجماع محصّلاً ومنقولاً...»(2).

وقال سیّد الریاض: «(و) المعروف من مذهب الأصحاب: أنّ للمشتری أن یرجع (بما غرمه) للبائع (ممّا لم یحصل له فی مقابلته عوض کقیمة الولد) والنفقة والعمارة ونحو ذلک لمکان التغریر وترتب الضرر به مع عدم جابر له من العوض»(3).

أقول: یظهر من سیّد الریاض إدعاء شبه الإجماع فی المقام.

وقال الفاضل النراقی: «وإن کان المشتری جاهلاً فیرجع إلی البائع بالثمن الذی أعطاه البائع مطلقا... وکذا بسائر ما اغترمه للمالک ممّا لم یحصل له فی مقابلته عوض بلا خلاف یُعرف... وتدلّ علیه بعد ظاهر الإجماع موثقة جمیل(4) بضمیمة الإجماع المرکب...»(5).

واعترض صاحب الجواهر علی صاحب الحدائق(6) فی مخالفته مع القوم فی حکم هذا القسم بقوله: «... وعلی کل حال فما فی الحدائق: من أنّه لا یرجع إلاّ بالثمن

ص:203


1- 3 . کفایة الأحکام 2/655.
2- 1 . شرح القواعد 2/101.
3- 2 . ریاض المسائل 14/46.
4- 3 . وسائل الشیعة 21/205، ح5، الباب 88 من أبواب نکاح العبید والإماء.
5- 4 . مستند الشیعة 14/295.
6- 5 . الحدائق 18/393 و 394.

مخالف للنص والقاعدة والإجماع بقسمیه لما عرفت»(1).

وقال الشیخ الأعظم: «وبالجملة: فالظاهر عدم الخلاف فی المسألة»(2).

وفی کلام المحقّق والشهید الثانیین(3) فی کتاب الضمان: نفی الإشکال عن ضمان البائع الفضولی لدرک ما یحدثه المشتری من أشجار غرسها فی الأرض التی ابتاعها من الفضولی وقَلَعها مالکُ الأرض، فإنّ خسارة قلع تلک الأشجار بعهدة البائع الفضولی.

ثمّ قد استدلّ لرجوع المشتری الجاهل علی البائع الفضولی فی هذا القسم قبل

الإجماع بالأدلة التالیة:

الأوّل: قاعدة الغرور
اشارة

والأصل فیها ما ذکره المحقّق الثانی رحمه الله فی المسألة من قوله: «الأصح الرجوع لعموم: «المغرور یرجع إلی مَنْ غرّه» وقد دخل معه علی أن تکون له هذه المنافع مجّانا بناءً علی أنّ المِلْک له فتغریره فوتها علیه»(4).

وقد مرّ تمسک سیّد الریاض بهذه القاعدة فی قوله: «لمکان التَّغْرِیْر...»(5).

وقال الفاضل النراقی: «... وعموم قوله علیه السلام : «المغرور یرجع علی مَنْ غرّه» نقله المحقّق الشیخ علی فی حاشیته علی الإرشاد وضعفه غیر ضائر لأنّ الشهرة بل الإجماع له جابر، بل هذه قاعدة مسلّمة بین جمیع الفقهاء المتداولة عندهم یستعملونها فی مواضع متعددة کالغصب والتدلیس فی المبیع والزوجة، والجنایات وأمثالها»(6).

أقول: أنت تری أنّ المحقّق الثانی لم یُسْنِدْهُ إلی المعصوم علیه السلام ولکن استفاد الفاضل

ص:204


1- 6 . الجواهر 23/485 (22/302).
2- 7 . المکاسب 3/494.
3- 8 . جامع المقاصد 5/340، المسالک 4/205.
4- 1 . حاشیة الارشاد /338، المطبوع فی المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی وآثاره.
5- 2 . ریاض المسائل 14/46.
6- 3 . مستند الشیعة 14/296.

النراقی من کلامه أنّها روایة موقوفة مرسلة کما هو کذلک فی الجواهر(1) ونهایة الأثیریة(2) ومجمع الطریحی(3) ونحوها فی صحیح مسلم(4) ومسند احمد(5) وسنن البیهقی(6).

وقال الفاضل المراغی: «ما اشتهر بینهم من الخبر المعروف وهو «أنّ المغرور یرجع إلی من غرّه» وإن لم نقف علی ذلک فی کتب الأخبار لکن الظاهر من سیاق کلامهم أنّه مرویّ وحیث أنّ مضمونه مجمع علیه فلا یحتاج إلی ملاحظة سندٍ ونحوه»(7).

وقال الشیخ الأعظم: «للغرور فإنّ البائع مغرِّرٌ للمشتری وموقِعٌ إیّاه فی خطرات الضمان ومتلِف علیه ما یغرمه فهو کشاهد الزور الذی یُرجع إلیه إذا رجع عن شهادته»(8).

وقال المحقّق الخراسانی: «... فظهر أنّه لا مستند لقاعدة الغرور إلاّ الخبر إذا انجبر ولا یبعد جبره بعمل الأصحاب، فإنّهم لا یزالون یتمسّکون بقاعدة الغرور، علی وجه یعلم أنّه لا مستند آخر من قاعدة الغرور(9) لهم ونحوها غیرها، فیحصل الوثوق بمضمونه وهو کاف فی جبره کما ظهر أنّه لا وجه للضمان غیرها، فلابدّ من الاقتصار فی الحکم بالضمان علی مورد صدق أنّه غرّه کما عرفت»(10).

وقال الفقیه السیّد الیزدی: «إعلم أنّ رجوع المغرور علی الغار من القواعد المسلمة بینهم ویمکن دعوی الإجماع علیها، بل فی حاشیة الإرشاد ویمکن دعوی إنجبار ضعفها بالشهرة فإنّ هذه القضیة بهذا اللفظ متدأوّل فی ألسنتهم، ویمکن أن یستدل علی القاعدة

ص:205


1- 4 . الجواهر 37/145 طبع إسلامیة.
2- 5 . النهایة 3/355.
3- 6 . مجمع البحرین 3/423.
4- 7 . صحیح مسلم 3/1153.
5- 8 . مسند احمد 1/116.
6- 9 . سنن البیهقی 7/219 (5/338).
7- 10 . العناوین 2/443.
8- 11 . المکاسب 3/494.
9- 1 . ولکن فی المتن: «الضرر»، صححناه بالسیاق.
10- 2 . حاشیة المکاسب /82.

- مضافا إلی ذلک - بالأخبار المتفرقة فی الأبواب»(1) ثمّ ذکر عدة من الروایات فی هذا الباب، وقال فی آخر کلامه: «وبالجملة: قاعدة الغرور من القواعد المحکمة المجمع علیها ولا فرق علی الظاهر بین کون الغار عالما أو جاهلاً، وما یحتمل أو یقال من عدم صدق الغرور مع جهل الغار کماتری»(2).

وقال المحقّق الأصفهانی: «وأمّا الخبر المنسوب إلی سیّد البشر صلی الله علیه و آله وهو «المغرور یرجع إلی من غرّه» فقد قیل: إنّه مروی وضعفه منجبَرٌ باستناد الأصحاب إلیه کثیرا، إلاّ أنّ أصل روایته غیر معلوم، واستناد الأصحاب إلی قاعدة الغرور معروف مشهور، وأمّا استنادهم إلی الخبر حتّی ینجبر به فهو غیر معلوم، ومجرد مطابقة عملهم لمضمون الخبر غیر موجب لانجباره فتدبّر»(3).

وقال السیّد الخمینی: «والتحقیق: إنّها قاعدة برأسها وعنوانها لا لما نسب إلی النبی صلی الله علیه و آله : المغرور یرجع إلی من غرّه، لعدم ثبوت استناد الأصحاب فی الحکم إلیه وقرب احتمال استنادهم إلی الروایات الآتیة... [أی] قرب احتمال اصطیادها من الأخبار الخاصة...»(4).

والحاصل: لم یثبت کون جملة: «المغرور یرجع إلی مَنْ غرّه» حدیثا وروایة، نعم

هی قاعدة فقهیة اصطیادیة من عدّة من الروایات الواردة فی الأبواب المختلفة(5)، یعمل بها فی ما عمل بها الأصحاب من أبواب البیع والغصب والنکاح والتدلیس فیه والجنایات والشهادات.

ص:206


1- 3 . حاشیة المکاسب 2/286.
2- 4 . حاشیة المکاسب 2/288.
3- 5 . حاشیة المکاسب 2/305.
4- 6 . کتاب البیع 2/450.
5- 1 . لأجلها أُنظر حاشیة المکاسب للفقیه الیزدی 2/288 و 287، وکتاب البیع 2/451 و 450 للسیّد الخمینی.
فلا بأس بذکر بعض النصوص التی تستفاد منها قاعدة الغرور تَتْمِیْما للفائدة:

منها: صحیحة أبیعبیدة الحَذّاء عن أبیجعفر علیه السلام فی رجل تزوَّج امرأةً من ولیِّها فوجد بها عیبا بعد ما دخل بها، قال: فقال: إذا دُلِّسَتِ العفلاءُ والبرصاءُ والمجنونة والمفضاة ومن کان بها زَمانةٌ ظاهرة فإنّها تُرَدُّ علی أهلها من غیر طلاق ویأخذ الزوج المهر من ولیِّها الذی کان دلَّسها، فإن لم یکن ولیُّها علم بشی ءٍ من ذلک فلا شی ء علیه وتردُّ إلی أهلها.

قال: وإن أصاب الزوج شیئا ممّا أخذتْ منه فهو له وإن لم یُصِبْ شیئا فلا شی ء له.

قال: وتَعْتَدُّ منه عِدَّةَ المطلقة إن کان دخل بها وإن لم یکن دخل بها فلا عِدَّة لها ولا مهر لها.(1)

العَفْلاءُ وهی القرناء: أن یکون فی فرجها شئٌ من لحم أو عظم یمنع من وطئها.(2)

والزَّمانَةُ: العاهَةُ والآفَةُ ویُقال للْمُقْعِدَةِ زَمِنَةٌ.

وطبق الإمام علیه السلام القاعدة فی قوله: «ویأخذ الزوج المهر من ولیها الذی کان دلّسها» فالمدلِّس هو الضامن.

ومنها: معتبرة اسماعیل بن جابر قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن رجل نظر إلی امرأة فاعجبتْهُ فسأل عنها، فقیل: هی ابنة فلان، فأتی أباها، فقال: زَوِّجْنی ابنتک، فزوَّجه غیرها فولدتْ منه، فعلم بعدُ أنّها غیرُ ابنته وأنّها أمَةٌ؟

فقال: یَرُدُّ الولیدةَ علی مولاها، والولدُ للرجلِ وعلی الذی زوّجه قیمةُ ثمن الولد یُعطیه موالی الولیدة کما غرّ الرجل وخدعه.(3)

ص:207


1- 2 . الکافی 10/792، ح 14 (5/408)، ونقل فی وسائل الشیعة 21/211، ح1، الباب 2 من أبواب العیوب والتدلیس.
2- 3 . راجع النهایة 3/264 مادة عفل، والنهایة 4/54 مادة قرن، لسان العرب 11/457 مادة عفل، القاموس المحیط 2/1365.
3- 4 . الکافی 10/791، ح13 (5/408) ونقل عنه فی وسائل الشیعة 21/220، ح1، الباب 7 من أبواب العیوب والتدلیس.

والسند معتبر لأنّ محمّد بن سنان عندنا معتبر، واسماعیل بن جابر إن کان الخثعمی فقد وثقه الشیخ فی رجال الباقر علیه السلام بقوله: «الکوفی ثقة ممدوح له اصول رواها عنه صفوان بن یحیی»(1). وذکره فی أصحاب الصادق(2) علیه السلام وفی أصحاب الکاظم علیه السلام من دون توصیف قال: «روی عنهما علیهماالسلام أیضا»(3).

وإن کان الجعفی فقد ذکره النجاشی(4) ولم یذکر فیه قدحا فهو امامی معتبر مع أنّه من المشاهیر ولم یرد فیه قدح فهو معتبر عندنا أیضا.

فحینئذ لا فرق بین أن نقول باتحادهما کما علیه المحقّق السیّد الخوئی(5) أو تعددهما کما علیه شیخنا التستری(6).

وأمّا دلالتها فَواضِحَةٌ لأجل تعلیل الوارد فیها: «کما غرّ الرجل وخدعه» یعطی فی جمیع موارد الغرور بأنّ المغرور یرجع إلی الغار.

ومنها: ما ورد فی خبر رفاعة بن موسی قال: وسألته عن البَرْصَاء؟ فقال: قضی أمیرالمؤمنین علیه السلام فی امرأةٍ زوَّجها ولیُّها وهی بَرْصَاءُ أنّ لها المهر بما استحلَّ من فرجها وأنّ المهر علی الذی زوّجها وإنّما صار المهر علیه لأنّه دلَّسها، ولو أنّ رجلاً تزوّج امرأة وزوّجها رجلٌ لا یعرف دَخِیْلَة أمرها لم یکن علیه شی ءٌ وکان المهر یأخذه منها.(7)

عرفت دَخِیْلَتَهُ: أی باطنته الداخلة، وعرفت دخیلة أمره: أی جمیع أمره.(8)

ص:208


1- 1 . رجال الشیخ /105، رقم 18.
2- 2 . رجال الشیخ /147، رقم 93.
3- 3 . رجال الشیخ /343، رقم 13.
4- 4 . رجال النجاشی /32، رقم 71.
5- 5 . معجم رجال الحدیث 3/116.
6- 6 . قاموس الرجال 2/35.
7- 7 . الکافی 10/788، ح9 (5/407) ونقل عنه فی وسائل الشیعة 21/212، ح2، الباب 2 من أبواب العیوب والتدلیس.
8- 8 . لسان العرب 11/240 مادة دخل.

وأمّا اعتبار سند الروایة فَمَنُوْطٌ باعتبار سهل بن زیاد، وقد یقال: بأنّ الأمر فیه سهل. ودلالتُها واضحة لأنّ الإمام علیه السلام جعل المهر علی الولِّی المُدَلِّس لأنّه دلَّسها وَطَبّقَ قاعدة الغرور فی المقام مع ذکر التعلیل: «لأنّه دلَّسها».

ومنها: صحیحة الحلبی عن أبیعبداللّه علیه السلام - فی حدیث - قال: إنّما یُردّ النکاح من

البرص والجذام والجنون والعفل، قلت: أرأیت إن کان قد دخل بها، کیف یصنع بمهرها؟ قال: المهر لها بما استحلّ من فرجها ویغرم ولیّها الذی أنکحها مثل ما ساق إلیها.(1)

بتقریب: أنّ المراد من إنکاح الولیّ إیّاه أنّه دلّسها للزوج وأخفی عیوبها، فالولیّ یکون مدِّلسا فالمهر علیه.

ومنها: صحیحة داود بن سرحان عن أبیعبداللّه علیه السلام فی الرجل یتزوّج المرأة فیُؤتی بها عمیاء أو برصاء أو عرجاء؟ قال: تُردّ علی ولیّها ویکون لها المهرعلی ولیّها، الحدیث.(2)

بتقریب: أنّ الولیّ هو الذی دلَّسها وأخفی عیبها فیکون مهرها علیه بقرینة غیرها من الروایات.

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبیجعفر علیه السلام قال: فی کتاب علی علیه السلام : من زوّج امرأة فیها عیب دلّسه ولم یبیّن ذلک لزوجها فإنّه یکون لها الصداق بما استحلّ من فرجها ویکون الذی ساق الرجل إلیها علی الذی زوّجها ولم یبیّن.(3)

ومنها: خبر علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال: سألته عن امرأة دلست نفسها لرجل وهی رتقاء؟ قال: یفرّق بینهما ولا مهر لها.

یمکن القول باعتبار سند الرِّوایَةِ إذا قلنا بأنّ عبداللّه بن الحسن بن علی بن جعفر الذی ینقل عن جَدِّهِ علی بن جعفر المعروف بالعُرَیْضیّ کان من المعاریف ولم یرد فیه قدح فهو معتبر.

ص:209


1- 1 . وسائل الشیعة 21/213، ح5.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/213، ح6.
3- 3 . وسائل الشیعة 21/214، ح7.

وتقریب دلالتها: بأنّ المرأة هی بنفسها فعلت التدلیس فلا مهر لها لأنّها المدلِّسة.

ومنها: صحیحة الولید بن صَبِیْحٍ عن أبیعبداللّه علیه السلام فی رجل تزوَّج امرأةً حُرّة، فوجدها أمةً قد دلَّست نفسها له، قال: إنْ کان الّذی زوّجها إیّاه من غیر موالیها، فالنّکاح فاسد.

قلت: فکیف یصنع بالمهر الّذی أخذت منه؟

قال: إنْ وجد ممّا أعطاها شیئا فلیأخذه، وإنْ لم یجد شیئا فلا شی ء له علیها، وإنْ کان زوّجها إیّاه ولیّ لها، ارتجع علی ولیّها بما أخذت منه، ولموالیها علیه عشر ثمنها إنْ

کانت بکرا، وإنْ کانت غیر بکرٍ، فنصف عشر قیمتها بما استحلَّ من فرجها قال: وتعتدّ منه عدّة الأمة.

قلت: فإنْ جاءت بولد؟

قال: أولادها منه أحرار إذا کان النّکاح بغیر إذن الموالی.(1)

بتقریب: جملة «وإن کان زوّجها إیّاه ولیٌّ لها ارتجع علی ولیّها بما أخذت منه» لأنّ الولی حینئذ یکون مدلِّسا فالمهر علیه، فیؤخذ الزوج ما أعطاها منه.

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبیجعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل خطب إلی رجل بنتا له من مهیرة فلمّا کان لیلة دخولها علی زوجها أدخل علیه بنتا له اُخری من أمة؟ قال: تردّ علی ابیها وتردّ إلیه امرأته ویکون مهرها علی أبیها.(2)

یکون مهر الأولی علی أبیها لأنّه هو الغار والزوج مغرور، والشاهد علیه صحیحة الحلبی.(3)

ومنها: مرسلة القاضی نعمان المصری عن علیٍّ علیه السلام أنّه قال: تُرَدُّ المرأةُ من القَرَن والجذام والجنون والبرص، وإن کان دخل بها فعلیه المهر وإن شاء أمسک وإن شاء فارق،

ص:210


1- 1 . الکافی 10/783، ح1 (5/404) ونقل عنه فی وسائل الشیعة 21/185، ح1، الباب 67 من أبواب نکاح العبید والإماء.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/221، ح2، الباب 8 من أبواب العیوب والتدلیس.
3- 3 . وسائل الشیعة 21/221، ح3.

ویرجع بالمهر علی من غرّه بها، وإن کانت هی التی غرّته رجع به علیها، وترک لها أدنی شیء ممّا یستحلّ به الفرج، وإن لم یدخل بها فارقها إن شاء و لا شیء علیه.(1)

القَرَن: لحم أو عظم یکون فی قُبُل المرأة یمنع من وطئها.(2)

بتقریب: حکم أمیرالمؤمنین علیه السلام بأنّ الزوج «یرجع بالمهر علی مَنْ غرّها» ویستفاد منه قاعدة الغرور وکذلک قوله علیه السلام : «وإن کانت هی التی غرّته رجع به علیها»، وأمّا «ترک لها أدنی شیء ممّا یستحلّ به الفرج»، فَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ بواسطة وطی الزوج إیّاها.

ومنها: صحیحة مسمع بن کردین عن أبیعبداللّه علیه السلام فی أربعة شَهِدُوْا علی رجل بالزنا فَرُجم، ثمّ رجع أحدهم، فقال: شککتُ فی شهادتی، قال: علیه الدیة، قال: قلت: فإنّه

قال: شهدت علیه متعمّدا، قال: یُقتل.(3)

المراد بالدیة: ربعها کما یظهر ممّا یَأْتی من الروایتین.

بتقریب: الشاهد الزور غارّ فیغرم الدیة، أو یقتل علی فرض تعمده.

ومنها: صحیحة محمّد بن قیس عن أبیجعفر علیه السلام قال: قضی أمیرالمؤمنین علیه السلام فی رجل شهد علیه رجلان بأنّه سرق، فَقَُطَِعَ یدَُه،حتی إذا کان بعد ذلک جاء الشاهدان برجل آخر، فقالا: هذا السارق ولیس الذی قَُطَِعَْتَْ یدَُه، إنّما شبّهنا ذلک بهذا، فقَُضی علیهما أنّ غرَّمهما نصف الدیة، ولم یجز شهادتهما علی الآخر.(4)

«غرّمهما نصف الدیة»: أی کلّ واحد منهما نصف الدیة.

بالتقریب: الذی مرّ فی سابقها وکذلک ما بعدها.

ومنها: معتبرة السکونی عن جعفر عن أبیه عن علی علیهم السلام فی رجلین شَهِدا علی رجل أنّه سرق فقُطعت یدُه ثمّ رجع أحدهما فقال: شبّه علینا، غرّما دیة الید من أموالهما

ص:211


1- 4 . دعائم الإسلام 2/231، ح865 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 15/46، ح5، الباب 1 من أبواب العیوب والتدلیس.
2- 5 . مجمع البحرین 6/299.
3- 1 . وسائل الشیعة 27/329، ح3، الباب 12 من أبواب کتاب الشهادات.
4- 2 . وسائل الشیعة 27/332، ح1، الباب 14 من أبواب کتاب الشهادات.

خاصة، وقال فی أربعة شهدوا علی رجل أنّهم رأوه مع امرأة یجامعها وهم ینظرون فَرُجِمَ، ثمّ رجع واحد منهم، قال: یغرم ربع الدیة إذا قال: شبّه علیَّ، وإذا رجع اثنان وقالا: شبّه علینا غرما نصف الدیة، وإن رجعوا کلّهم وقالوا: شبّه علینا غرموا الدیة، فإن قالوا: شهدنا بالزور قتلوا جمیعا.(1)

ومنها: صحیحة جمیل عن أبیعبداللّه علیه السلام فی شاهد الزور قال: إن کان الشی ء قائما بعینه رُدّ علی صاحبه، وإن لم یکن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل.(2)

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبیعبداللّه علیه السلام فی شاهد الزور ما توبته؟ قال: یؤدّی من المال الذی شهد علیه بقدر ما ذهب من ماله إن کان النصف أو الثلث إن کان شهد هذا وآخر معه.(3)

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبیجعفر علیه السلام فی رجلین شهدا علی رجل غائب عن امرأته أنّه طلّقها فاعتدّت المرأة وتزوّجت ثمّ إنّ الزوج الغائب قدم فزعم أنّه لم

یطلّقها، وأکذب نفسه أحد الشاهدین، فقال: لا سبیل للأخیر علیها ویؤخذ الصداق من الذی شهد ورجع فیردُّ علی الأخیر ویفرِّق بینهما وتعتدُّ من الأخیر، ولا یقرّبها الأوّل حتّی تنقضی عدّتها.(4)

ومنها: موثقة إبراهیم بن عبدالحمید عن أبیعبداللّه علیه السلام فی شاهدین شهدا علی امرأة بأنّ زوجها طلّقها فتزوّجت ثمّ جاء زوجها فأنکر الطلاق، قال: یضربان الحدّ ویضمنان الصداق للزوج ثمّ تعتدُّ ثمّ ترجع إلی زوجها الأوّل.(5)

وبالجملة: یستفاد من هذه الروایات الأخیرة أنّ شاهد الزور غارٌّ ویضمن الخسارات الواردة علی المشهور علیه ولو لم یتعمّد ومع تعمّده یُقْتَصُ. وهذا هو جریان

ص:212


1- 3 . وسائل الشیعة 27/332، ح2.
2- 4 . وسائل الشیعة 27/327، ح2، الباب 11 من أبواب کتاب الشهادات.
3- 5 . وسائل الشیعة 27/327، ح1، الباب 11 من أبواب کتاب الشهادات.
4- 1 . وسائل الشیعة 27/331، ح3، الباب 13 من أبواب کتاب الشهادات.
5- 2 . وسائل الشیعة 27/330، ح1، الباب 13 من أبواب کتاب الشهادات.

قاعدة الغرور فی شاهد الزور.

ومن هنا یَظْهَرُ ضعف ما ذکره السیّد الخوئی قدس سره من قوله: «إنّ هذه القاعدة علی إطلاقها ممّا لا یمکن الالتزام به، وذلک لأنّ أحدا إذا شوّق آخر إلی شراء شی ءٍ بأنّه ستترقّی وأنّ له مشترین کثیرین فی البلد وبتشویقه ذلک اشتراه المشتری ثمّ انکشف أنّه لا مشتری له فی البلد وَبِتَشْوِیْقهِ ذلک اشتراه المشتری ثمّ انکشف أنّه لا مشتری له فی البلد أصلاً وأنّ قیمته لم تترقّ بوجه، فهل یفتی فقیه بضمان ذلک المشوِّق للمشتری بدعوی أنّه غرّه فی المعاملة...»(1).

والوجه فیه: إنّا نعمل بقاعدة الغرور فی ما یعمل بها الأصحاب کما مرّ، مِنْ عَمَلِ والأصحاب بها فی ما نحن فیه فنعمل بها.

وهکذا لا یتم ما ذکره المحقّق المروج رحمه الله من أنّ قاعدة الغرور تختص بموارد «کان المباشر بمنزلة الآلة، بأنْ یکون الفعلُ صادرا من المباشر بإرادة السبب والمقام لیس کذلک، لأنّ إقدامه علی تعمیر الدار الخربة مثلاً یکون بإرادته واختیاره»(2).

والوجه فی عدم تمامیته: عدم ورود هذا الاختصاص فی کلام الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم بل جمیع الموارد التی ذکروها أو أغلبها لم یکن المباشر فیها بمنزلة الآلة ولم یصدر الفعل من المباشر فیها بإرادة السبب، یظهر ما ذکرته بمراجعة موارد جریان القاعدة

فی کلامهم، نعم، ما ذکره صاحب الجواهر من «إمکان کون بناء قاعدة الغرر علی قوة السبب من المباشر»(3) تام، وهذا الإمکان غیر ما ورد فی کلامه من «أن یکون الفعل صادرا من المباشر بإرادة السبب»(4).

فقاعدة الغرور تجری فی المقام.

ص:213


1- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/87.
2- 4 . هدی الطالب 5/519.
3- 1 . الجواهر 23/485 (22/302).
4- 2 . هدی الطالب 5/519.
الثانی: قاعدة نفی الضرر

(1)

تمسک بها جدی الشیخ جعفر(2) وسیّد الریاض(3) وصاحب الجواهر(4) والشیخ الأعظم(5).

بتقریب: انّ قاعدة نفی الضرر تقتضی ضمان البائع، لأنّ عدم ضمانه لغرامات المشتری ضرر علی المشتری، فعدم الضمان مرفوع بها فیثبت ضمان البائع.

ویرد علیه: أوّلاً: قاعدة لا ضرر لا تجری فی الموارد التی یوجب جریانها فیها ضررا علی الآخرین ویکون إضرارا علی الغیر. وفی ما نحن فیه الحکم برجوع المشتری علی البائع ضرر علی البائع وإضرار فی حقّه.(6)

وثانیا: قاعدة نفی الضرر ترفع الأحکام الشرعیة التی تبلغ إلی حدّ الضرر ولا یثبت بها حُکْمٌ شَرْعِیٌّ وثبوتُ الضمان علی البائع الفضولی أو الغاصب حُکْمٌ شَرْعِیٌّ لاتقدر قاعدة الضمان علی إثباته.

الثالث: السبب أقوی من المباشر

قد یستدل بقول الفقهاء أنّ السبب أقوی من المباشر فی المقام برجوع المشتری إلی البائع الفضولی لأنّ استناد الفعل هنا وهو ثبوت الضمان والغرامة إلی السبب - وهو البائع الفضولی - أقوی من المباشر - وهو المشتری - .

وفیه: نعم، فی موارد أقوائیة السبب من المباشر یحکم بثبوت الضمان علی السبب

نحو: مَنْ حفر بئرا فی وسط الطریق فوقع فیها أحد فی لیلة ظلماء فإنّه یصدق أن یقال إنّه أهْلَکَهُ، ومنه تغریم شاهدی الزور لأنّهما أوجبا قتل المشهود علیه، وکما إذا کان المباشر

ص:214


1- 3 . مرّ منّا روایات قاعدة نفی الضرر بین الفریقین فی الآراء الفقهیة 4/347.
2- 4 . شرح القواعد 2/102.
3- 5 . ریاض المسائل 14/46.
4- 6 . الجواهر 23/485 (22/302).
5- 7 . المکاسب 3/494.
6- 8 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/85.

مسلوب القدرة والشعور والاختیار کما إذا أعطی بندقیة بید صبی أو مجنون وأمره برمی الغافل والنائم، وکما إذا فتح باب قفص فطار الطائر.

وأمّا فیما إذا کان السبب من قبیل المعدّات للفعل الصادر من المباشر لشعوره واختیاره کما إذا شوّقه وحرّکه إلی قتل أحد فقتله باختیاره أو التمس منه شرب خمر فشربه بإرادته ففی أمثال ذلک لا دلیل علی أخذ السبب بالقصاص أو الدیة، وإن کان عاصیا فی الإنبعاث إلی فعل المحرّمات، وما نحن فیه من هذا القبیل لأنّ البائع الفضولی أو الغاصب من أحدّ معدّات أفعال المشتری لا أنّه علّة تامة لها(1)، بحث لا یستند الفعل عرفا إلی البائع بل یستند إلی المشتری فلا تَجْرِیْ قاعدة أقوائیة السبب من المباشر.

الرابع: موثقة جمیل بن دَرّاج

موثقة جمیل بن دراج عن أبیعبداللّه علیه السلام فی الرجل یشتری الجاریة من السوق فیولدها ثمّ یجئ مستحقُّ الجاریة، قال: یأخذ الجاریة المستحقّ ویدفع إلیه المبتاع قیمة الولد ویرجع علی من باعه بثمن الجاریة وقیمة الولد التی أُخذت منه.(2)

بتقریب: هذه الموثقة تدلّ بالظهور اللفظی أو الفحوی علی رجوع المشتری علی البائع الفضولی أو الغاصب لأنّ الولد الحر: إن لم یُعَدَّ نفعا عائدا إلی المشتری کانت دلالة الموثقة علی ضمانة البائع الفضولی بالدلالة اللفظیة، وإن عُدَّ نفعا کانت دلالتها علیه بالفحوی لأنّ المشتری إذا کان مع وصول النفع إلیه مستحقّا للرجوع إلی البائع، کان استحاقه للرجوع إلیه مع عدم وصول النفع إلیه بطریق اولی.

وأضاف الشیخ الأعظم: «مع أنّ فی توصیف قیمة الولد بأنّها «اُخذت منه» نوع إشعار بعلّیّة الحکم فیطّرد فی سائر ما اُخذت منه»(3).

مراده: أنّ الوصف مشعر بِالْعِلِّیّةِ والعِلِّیّةُ تعمم الحکم بالرجوع إلی البائع فی جمیع ما أخذ المالک من المشتری من المنافع التی لم یحصل للمشتری نفع أو حصل.

ص:215


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/85 و 86.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/205، ح5، الباب 88 من أبواب نکاح العبید والإماء.
3- 3 . المکاسب 3/495.

اعترض صاحب الحدائق بأنّ الحکم إذا کان هو رجوع المشتری إلی البائع فلماذا

لم یرد ذلک فی عدّة من الروایات(1) مع أنّ «المقام مقام بیان مع حکمه علیه السلام فی الخبر(2) برجوع المالک علی المشتری بعوض المنافع، فلو کان للمشتری الرجوع بها علی البائع لذکره علیه السلام ، مع ذکره أخیرا أنّ المشتری یرجع بما أنفقه علی المالک لا علی البائع.(3)

وأجاب عنه الشیخ الأعظم بقوله: «وأمّا سکوت عن رجوع المشتری إلی البائع فی بعض الأخبار فهو لعدم کونه مسوِّقا لذلک کروایة زرارة(4)... وروایة زریق(5)...»(6).

ثمّ أجاب عنهما الشیخ الأعظم بعد ذکر الروایتین بأجوبة أربعة:

«[1] أنّا نمنع ورودها [هما] إلاّ فی مقام حکم المشتری مع المالک.

[2] أنّ السکوت فی مقام البیان لا یعارض الدلیل.

[3] مع أنّ روایة زرارة ظاهرها عدم التمکن من الرجوع إلی البائع.

[4] مع أنّ البائع فی قضیة زُرَیق هو القاضی فإن کان قضاؤه صحیحا لم یتوجّه إلیه غرم(7)، لأنّ الحاکم من قبل الشارع لیس غارّا من جهة حکمه علی طبق البینة المأمور بالعمل بها، وإن کان قضاؤه باطلاً - کما هو الظاهر - فالظاهر علم المشتری ببطلان قضاء المخالف وتصرّفه فی اُمور المسلمین فهو عالم بفساد البیع فلا رجوع له»(8).

ص:216


1- 1 . نحو معتبرة زرارة ح2 فی الباب المذکور بناءً علی أنّ ابن أبیعمیر لا یروی ولا یرسل إلاّ عن ثقة وقد مرّ منّا فی أبحاثنا الرجالیة مناقشة هذا المبنی فلا یتم اعتبار الروایة سندا. وصحیحة جمیل عن بعض أصحابنا ح3 فیه، وخبر زرارة ح4 فیه.
2- 2 . مراده معتبرة زُرَیق المرویة فی وسائل الشیعة 17/340، ح1، الباب 3 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 3 . الحدائق 18/394.
4- 4 . وسائل الشیعة 21/204، ح4.
5- 5 . وسائل الشیعة 17/340، ح1.
6- 6 . المکاسب 3/495.
7- 7 . قد حکم صاحب الجواهر فی کتابه 23/488 (22/304) بعدم تغریم القاضی.
8- 8 . المکاسب 3/498 و 497.

واعترض السیّد الخوئی علی الشیخ الأعظم بأنّ: «الولد سواء کان من [المنافع[ المستوفاة أو من غیرها إنّما خرج بالنص وهذا لا یقتضی التعدّی إلی جمیع المنافع المستوفاة أو غیر المستوفاة»(1).

ثمّ اعترض علی استفادته علیّة الحکم من الوصف بقوله: «فهو من غرائب الکلام،

لأنا لو فرضنا أنّ التوصیف صریح فی علّیة الأخذ للحکم لما أمکن التعدّی منه إلی غیره فضلاً عمّا إذا کان مشعرا بذلک والوجه فی ذلک ما سنبیّن فی بحث تعاقب الأیادی عن قریب إن شاء اللّه تعالی من أنّ رجوع کلّ ضامن إلی ضامن آخر إنّما هو فیما إذا أخذ المالک منه المال المضمون علیه، وأمّا قبل أخذه فلا یمکنه الرجوع إلی الآخر أبدا ولو مع العلم بأنه سیأخذ قیمته منه، وفی المقام أیضا إنّما یجوز للمشتری الرجوع إلی البائع فیما إذا أخذ المالک من المشتری قیمة الولد، وأمّا قبله فلا شیء حتّی یرجع به المشتری إلی البائع وهذا هو الوجه فی توصیف الإمام علیه السلام القیمة بکونها ممّا اُخذت منه فلا یمکن منه التعدّی إلی جمیع موارد الأخذ أبدا، بل الأخذ فی هذا المورد یوجب الحکم برجوع المشتری إلی البائع لا مطلقا کما لا یخفی، واستفادة العلّیة من ذلک نظیر استدلال الشافعیة علی عدم الزکاة فی معلوفة الإبل بقوله علیه السلام «فی الغنم السائمة زکاة»(2) فإنّ السوم لیس علّة للزکاة مطلقا بل فی خصوص الغنم کما لا یخفی فهو لا یدلّ علی نفی الحکم عن غیر موارد السوم مطلقا ولعلّه ظاهر، هذا.

مضافا إلی أنّ فی توصیف القیمة بکونها ممّا اُخذت من المشتری فائدة اُخری وهی أنّ قیمة الولد تختلف باختلاف الأماکن والحالات والبلدان، فإذا رجع المالک إلی المشتری بقیمة الولد فلا یجوز للمشتری أن یرجع علی البائع بأعلی القیم المتبادلة للولد، بل إنّما یرجع إلیه بخصوص القیمة التی أخذها المالک من المشتری لا بقیمة اُخری زائدة

ص:217


1- 9 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/89.
2- 1 . ورد مضمونه فی وسائل الشیعة 9/118، الباب 7 من أبواب زکاة الأنعام، ومستدرک الوسائل 7/63، ح1، الباب 6 من أبواب زکاة الأنعام.

علیها کما لا یخفی، هذا»(1).

وتبعه شیخنا الاُستاذ قدس سره فی عدم الدلالة وعدم العلّیة بل یری الأخیر «تقیید القیمة لا توصیفها بأن یکون المتعیّن الرجوع بتلک القیمة لا قیمة الولد یوم الرجوع وقد تقرر فی بحث الاصول أنّه لا دلالة فی التقیید علی علّة الحکم ولا یستفاد منه المفهوم»(2).

ولکن الأُستاذ المحقّق - مد ظله - یری موثقة جمیل تامة فی الدلالة علی ضمان البائع ورجوع المشتری إلیه ولکن لا یری التوصیف مشعرا بالعلّیّة لأنّ ظهوره فی العلیة منوط بثبوت مفهوم الوصف ولم یثبت عنده - مد ظله - فی علم الاُصول مفهوم الوصف.(3)

أقول: ما ذکره الأُستاذ المحقّق - مد ظله - من تمامیة دلالة موثقة جمیل علی ضمان البائع صحیح، موافقةً للشیخ الأعظم، وکذا ما ذکره فی عدم تمامیة إشعار الوصف بالعلیة مخالفة له، فنحن فی دلالة موثقة جمیل تتبع قول الاستاذ المحقّق - مد ظله - فی المقام.

وأمّا رِوایَتا زرارة(4) فلم یرد فیهما رجوع المشتری إلی البائع الفضولی.

وکذلک معتبرة زُرَیق(5) ساکتة عن حکم رجوع المشتری إلی البائع.

وقد مرّ من الشیخ الأعظم(6) ردّا علی صاحب الحدائق(7) أنّ عدم ورود الحکم والسکوت عنه فی بعض الروایات لا ینافی ما ورد فی موثقة جمیل فلابدّ من الأخذ بها.

وبالجملة: حکم رجوع المشتری إلی البائع الفضولی أو الغاصب فی هذا القسم ثابتٌ والحمد للّه.

ص:218


1- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/90.
2- 3 . إرشاد الطالب 4/117.
3- 4 . راجع العقد النضید 3/588.
4- 1 . وسائل الشیعة 21/204، ح 2 و 4.
5- 2 . وسائل الشیعة 17/340، ح1.
6- 3 . المکاسب 3/495.
7- 4 . الحدائق 18/394.
القسم الثانی: الغرامة التی یحصل نفع للمشتری فی مقابلها
اشارة

فهل یرجع المشتری بها إلی البائع الفضولی أو الغاصب أم لا؟ خلاف بین الأصحاب نشأ من نقل الشیخ بأنّ فیها قُوْلَیْنِ واختار تارة بأنّ الأقوی عدم الرجوع واُخری بأنّ الرجوع هو الأقوی.

فقد فقال فی غصب المبسوط فی من غصب ثوبا: «... وأمّا الکلام فی الرجوع، فإن رجع [المالک] علی المشتری نظرت... وإن کان غرم ما دخل علی أنّه له بغیر بدل وقد حصل فی مقابله نفع وهو أُجرة الخدمة، فهل یرجع بذلک علی الغاصب أم لا؟ فیه قولان: أحدهما یرجع لأنّه غرم، والثانی لایرجع وهو الأقوی، لأنّه وإن غرم فقد انتفع بالاستخدام»(1).

وقال فیه أیضا: «إذا غصب طعاما فأطعم رجلاً... فهل یرجع الآکل علی الغاصب أم لا؟ قیل فیه قولان: أحدهما یرجع لأنّه غرّه، والثانی لایرجع لأنّ التلف کان فی یده فاستقرّ الضمان علیه، والأوّل أقوی»(2).

ونقل فخُرالمحقّقین(3) والفاضلُ المقداد(4) هذین القولین عن الشیخ.

ولکنّ القول المنسوب إلی الشیخ هو عدم الرجوع فقط فی کلام العلاّمة(5) والشهید الثانی(6) والمحقّق السبزواری(7) وسیّد الریاض(8) والفاضل النراقی(9).

ص:219


1- 5 . المبسوط 3/71.
2- 6 . المبسوط 3/88.
3- 1 . إیضاح الفوائد 2/191.
4- 2 . التنقیح الرائع 4/75.
5- 3 . مختلف الشیعة 5/56.
6- 4 . المسالک 12/227.
7- 5 . الکفایة 2/655.
8- 6 . ریاض المسائل 14/47.
9- 7 . مستند الشیعة 14/296.

ولمعرفة قائِلِی الْقَوْلَیْنِ وکتبهم أذکر لک کلام السیّد العاملی فی موضعین من مفتاح الکرامة، قال فی متاجره: «وأمّا ما حصل له فی مقابلته نفع ففی المبسوط(1) فی موضع منه والخلاف(2) وظاهر السرائر(3) وصریح غصب کشف الرموز(4) انّه لا یرجع به... .

وفی المبسوط(5) أیضا والشرائع(6) والنافع(7) والإیضاح(8) وشرح الإرشاد(9) لفخرالإسلام والدروس(10) وجامع المقاصد(11) والمسالک(12) والروضة(13) ومجمع البرهان(14) أنّه یرجع به. وبه صرّح فی غصب الدروس(15) أیضا والتنقیح(16)

والمقتصر(17) وجامع المقاصد(18) ولعلّه الظاهر من غصب الشرائع(19) وفی

ص:220


1- 8 . المبسوط 3/71.
2- 9 . الخلاف 3/410، مسألة 23.
3- 10 . السرائر 2/325.
4- 11 . کشف الرموز 2/384.
5- 12 . المبسوط 3/88.
6- 13 . الشرائع 2/8.
7- 14 . مختصر النافع /257.
8- 15 . إیضاح الفوائد 1/420 و 421.
9- 16 . شرح الإرشاد / مخطوطة.
10- 17 . الدروس 3/193.
11- 18 . جامع المقاصد 4/76 و 77.
12- 19 . المسالک 3/160.
13- 20 . الروضة البهیة 3/237 و 238.
14- 21 . مجمع الفائدة والبرهان 8/164.
15- 22 . الدروس 3/115.
16- 23 . التنقیح الرائع 4/75.
17- 1 . المقتصر /344.
18- 2 . جامع المقاصد 6/326.
19- 3 . الشرائع 3/195.

التنقیح(1) أنّ علیه الفتوی.

وقد نسبه فی المختلف(2) إلی بعض علمائنا، وهو قضیة إطلاق الباقین.

وفی التذکرة(3) والإرشاد(4) فیه قولان. ونحوهما ما فی التحریر(5) حیث قال: علی قول. ولا ترجیح فی غصب النافع(6) والتبصرة(7) والمهذّب البارع(8) والمسالک(9) والکفایة(10). وعبارة نهایة الإحکام(11) کعبارة الکتاب [القواعد الأحکام(12)] حرفا فحرفا لکنّه قال فیها بعد ذلک: سواء حصل فی مقابلته نفع کأُجرة الدار والدابة أو لا کقیمة الولد علی إشکال...»(13).

وقال فی غصبه(14): «فالشیخ فی الخلاف والمبسوط فی موضع منه والآبی فی کشف الرموز وشیخنا فی الریاض(15) وظاهر السرائر أنّه لا یرجع للأصل ولأنّه مباشر الإتلاف... .

ص:221


1- 4 . التنقیح الرائع 4/75.
2- 5 . مختلف الشیعة 5/56.
3- 6 . تذکرة الفقهاء 10/18 و 340.
4- 7 . إرشاد الأذهان 1/361.
5- 8 . التحریر 2/277 و 409.
6- 9 . المختصر النافع /257.
7- 10 . تبصرة المتعلِّمین /109.
8- 11 . المهذب البارع 4/255.
9- 12 . المسالک 12/227.
10- 13 . الکفایة 2/655.
11- 14 . نهایة الإحکام 2/478.
12- 15 . قواعد الأحکام 2/19.
13- 16 . مفتاح الکرامة 12/632.
14- 17 . لم أذکر مصادرها لما مرّ آنفا إلاّ ما کانت جدیدة.
15- 18 . ریاض المسائل 14/47.

والشیخ فی المبسوط فی موضع آخر والمحقّق فی تجارة النافع(1) وظاهر تجارة

الشرائع وفخرالإسلام فی الإیضاح وشرح الإرشاد والشهیدان فی الدروس والمسالک والروضة والمحقّق الثانی فی جامع المقاصد والمقدس الأردبیلی والمصنف [العلاّمة] فی تجارة الکتاب [القواعد] والشهید فی غصب الدروس والمقداد وأبوالعباس فی المقتصر والمحقّق الثانی فی جامع المقاصد والمحقّق فی ظاهر الشرائع أنّه یرجع به وفی التنقیح أنّ علیه الفتوی وهو قضیة إطلاق الباقین... .

ولا ترجیح فی غصب النافع والتذکرة(2) والتحریر(3) والتبصرة والمهذب البارع والمسالک والکفایة، ولا فی تجارة التذکرة والتحریر ونهایة الإحکام والإرشاد»(4).

ثمّ بعد نقل الأقوال لابدّ من البحث حول أدلة جواز رجوع المشتری إلی البائع الفضولی أو الغاصب لأنّ الشیخ الأعظم(5) یری جواز الرجوع هو الأقوی.

أدلة القائلین بجواز الرجوع
الأوّل: الإجماع

یَظْهَرُ من کلام العلاّمة فی غصب التذکرة الإجماعُ علی ضمان الغاصب دون الآکل الجاهل بالغصب لقوله فیما إذ قدّم الغاصبُ الطعام إلی الغیر فأکله...: «والثانیة: یستقرّ الضمان علی الغاصب لأنّه غرّه وأطعمه علی أن لا یضمنه، وهو الذی یقتضیه مذهبُنا»(6).

وقد مرّ کلام الفاضل المقداد(7) بأنّ علیه الفتوی.

وقال الفقیه المتتبع العاملی: «فالضمان علی الغاصب بلا خلاف منّا فیما أجد فیما

ص:222


1- 19 . لم أجده فی تجارة مختصر النافع.
2- 1 . تذکرة الفقهاء 19/337، مسألة 1127.
3- 2 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/542.
4- 3 . مفتاح الکرامة 18/(343-341).
5- 4 . المکاسب 3/498.
6- 5 . تذکرة الفقهاء 19/188.
7- 6 . التنقیح الرائع 4/75.

إذا قال: کُلْه فهذا ملکی وطعامی، أو قدّمه إلیه ضیافة حتّی أکله ولم یقل إنّه مالی وطعامی أو لم یذکر شیئا»(1).

وفیه: أوّلاً: قد عرفت الخلاف فی المسألة.

وثانیا: علی فرض تحقّق الإجماع أنّه مدرکیٌّ فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة.

الثانی: قاعدة لا ضرر

بتقریب: انّ المشتری استوفی المنافع علی أنّها ملکه فیصیر مجانا بالنسبة إلیه من دون ضمان لها للغیر، وبعد العلم بالفضولیة أو الغصبیة الحکم بضمان المشتری للمنافع المستوفاة ضرر علیه وقاعدة نفی الضرر تنفیه. «ومجرد رجوع عوضه إلیه لا یدفع الضرر»(2).

ویرد علیه: ما اُوردته آنفا فی القسم الأوّل(3) فلا أُعیده ولعلّ لأجل ورود المناقشات علیها ذکرها الشیخ الأعظم(4) بعنوان التَّأْیِیْدِ لا الدلیل.

الثالث: قاعدة الغرور
اشارة

لا شک بأنّ المشتری المستوفی لمنفعة المبیع هنا مغرورٌ والبائع الفضولی أو الغاصب غارٌّ وقد مرّت(5) تمامیة قاعدة الغرور من حیث الدلیل فیما عمل به الأصحاب ومنها کتابا الغصب والبیع، فتجری القاعدة وتحکم بجواز رجوع المشتری المغرور إلی البائع الفضولی الغارّ.

نقل کلام صاحب الریاض فی الإشکال علی جریان قاعدة الغرور فی المقام

قال سیّد الریاض رحمه الله : «(وفی) جواز (الرجوع) علیه (بما ضمن) وغرمه (من المنافع کعوض الثمرة واُجرة السکنی تردّد) ینشأ: من مباشرته الإتلاف مع حصول نفعه فی

ص:223


1- 7 . مفتاح الکرامة 18/101.
2- 1 . المکاسب 3/499.
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 214.
4- 3 . المکاسب 3/499.
5- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 207.

مقابله، وأولویّة حوالة الضمان علی مباشر الإتلاف.

ومن أنّ الغاصب قد غرّه ولم یشرع علی أن یضمن ذلک فکان الضمان علی الغارّ، کما لو قدّم إلیه طعام الغیر فأکله جاهلاً ورجع المالک علی الآکل، أو غصب طعاما فأطعمه المالک فإنّه یرجع علی الغارّ.

وإلی هذا ذهب الماتن فی کتاب التجارة من الشرائع، والفاضل المقداد فی التنقیح.(1)

وإلی الأوّل ذهب الشیخ فی المبسوط والخلاف، والحلی.(2) وهو أوفق بالأصل، مع عدم معلومیّة صلوح المعارض للمعارضة بناءً علی عدم وضوح دلیل علی ترتّب

الضمان علی الغارّ بمجرّد الغررو وإن لم یلحقه ضرر، کما فیما نحن فیه بمقتضی الفرض؛ لاستیفانه المنفعة فی مقابلة ما غرمه. والإجماع علی هذه الکلیة غیر ثابت بحیث یشمل نحو مفروض المسألة.

نعم ربما یتوجّه الرجوع حیث یتصوّر له الضرر بالغرور، کما إذا اُخذت منه قیمة المنافع أزید ممّا یبذله هو فی مقابلتها من غیر ملکه ونحو ذلک. وکیف کان الأحوط له عدم الرجوع مطلقا»(3).

اعترض الشیخ الأعظم علی سیّد الریاض

اعترض الشیخ الأعظم(4) علی سیّد الریاض

بأنّ قاعِدَتَی الغرور والضرر فی المقام موجودتان:

أمّا قاعدة الغرور فَلإتفاق الفقهاء علی کون المشتری مغرورا فی ما نحن فیه.

وأمّا قاعدة الضرر فلأنّ إتلاف مال الغیر مجانا بسبب تغریر شخص آخر بأن یقول له کُلْ فإنّه لی ثمّ انکشف أنّه للغیر وطلب ذلک الغیر ماله من الآکل وأخذ منه، یوجب عدّ هذا الآکل متضررا.

ص:224


1- 5 . الشرائع 2/8، التنقیح 4/75.
2- 6 . المبسوط 3/71، الخلاف 3/401، مسألة 23؛ والسرائر 2/325.
3- 1 . ریاض المسائل 14/47.
4- 2 . المکاسب 3/499.

فبالنتیجة رجوع المنفعة علی المشتری وَاسْتِیْفاؤُهُ إیّاها لا یمنع من جریان قاعدة الغرور.

اعتراض آخر من صاحب الجواهر علی سیّد الریاض

قال بعد نقل مقاله: «وإن کان ما ذکره لا یخلو من نظر، ضرورة عدم مدخلیة التضمین بقاعدة الغرور فی حصول الضرر وعدمه، بل هو من باب قوة السبب علی غیره ولو مباشرة.

نعم، إنّما المُتَّجِهُ ما ذکرناه من منع تحقّق الغرور الذی یترتب علیه الضمان، إذ المسلَّم منه ما یترتب علیه فعل الغیر علی فعله من حیث المجانیة ابتداءً کالإباحة والهبة والعاریة ونحوها، بخلاف ترتب فعل المشتری هنا علی زعم کونه مالکا الحاصل من وقوع عقد البیع مع البائع، خصوصا مع جهل البائع بالحال کالمشتری، فتأمل»(1).

وقد مرّ(2) قوله رحمه الله فی کتاب التجارة مِن «إمکان کون بناء قاعدة الغرر علی قوّة

السبب من المباشر»(3).

توضیح کلام صاحب الجواهر رحمه الله : قاعدة الغرور لیست مبنیّة علی قاعدة الضرر حتّی یقال أنّه لا ضرر هنا، فلا تجری قاعدة الغرور. بل هی مبنیّة علی قاعدة قوة السبب علی المباشر، والسبب [البائع هنا] أقوی من المباشر [المشتری هنا] فیرجع المشتری علی البائع بما اغترمه للمالک عوضا من منافع المبیع التی استوفاها، لأنّه وإن کان مباشرا علی الاستیفاء لکنّ البائع الذی هو السبب أقوی من المباشر [المشتری] فیرجع المشتری إلی البائع فی ضمان المنافع.(4)

ص:225


1- 3 . الجواهر 37/183.
2- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 213.
3- 1 . الجواهر 23/485 (22/302).
4- 2 . هدی الطالب 5/538.
ردّ من الشیخ الأعظم علی اعتراض صاحب الجواهر علی سیّد الریاض

ردّ علیه أوّلاً(1): أنّ صاحب الریاض لا یدّعی ابتناء قاعدة الغرور علی قاعدة لا ضرر حتّی یقال بعدم جریان الأوّل فی المقام لعدم جریان الثانی لأنّ المشتری بنفسه استوفی المنافع فمن له الغنم له الغرم فهو المشتری بنفسه ضامن لما استوفاه وهذا لیس ضررا علیه، بل یدّعی أنّ إهمال مستند قاعدة الغرور - أی النصوص الخاصة والإجماع - یقتضی الاقتصار علی قدر المتیقن منهما وهو صورة الضرر لعدم دلالتهما صریحا علی ضمان البائع لجمیع ما اغترمه المشتری للمالک حتّی المنافع التی استوفاه المشتری.(2)

وثانیا(3): إنّ قوة السبب علی المباشر بنفسها لاتصلح لأن تکون دلیلاً علی الضمان «إلاّ إذا کان السبب بحیث استند التلف عرفا إلیه کما فی المکرَة»(4)، أو إذا أجّج النارَ فی جهة هبوب الریح العاصف فأطارتها الریحُ إلی أموال الناس فأحرقت النار بعض أموالهم فحینئذ الإحراق وإن کان فعل النار ولکنّه یُستند إلی المؤجِّج الذی هو السبب، أو إذا وُضع الدهنُ الجامدُ فی الشمس فذاب واُریق فإنّ الإذابة والإراقة وإن کانتا فعل الشمس لکنّهما تُستندان إلی الواضع.

«والمتجه فی مثل ذلک عدم الرجوع إلی المباشر أصلاً کما نُسب(5) إلی ظاهر

الأصحاب فی المکرَه لکون المباشر بمنزلة الآلة»(6).

وأمّا فی غیر هذه الموارد استقرار الضمان علی السبب وعدم استقراره علی المباشر فَیحتاج إلی دلیل وَهُوَ مفقود فی المقام.

فلابدّ فی رفع اهمال مستند قاعدة الغرور:

ص:226


1- 3 . المکاسب 3/499.
2- 4 . هدی الطالب 5/538.
3- 5 . المکاسب 3/500.
4- 6 . المکاسب 3/500.
5- 7 . الناسب هو صاحب الجواهر فی کتابه 37/57.
6- 1 . المکاسب 3/500.

[1] إمّا من الرجوع إلی قاعدة لا ضرر.

[2] أو الاجماع المدّعی فی الإیضاح(1) علی تقدیم السبب إذا کان أقوی.

[3] أو بالأخبار الواردة فی الموارد المتفرقة - التی مرّت - وإلغاء الخصوصیة منها.

[4] أو کون الغارّ سببا فی تغریم المغرور فکان کشاهد الزور فی ضمان ما یؤخذ بشهادته.

ثمّ بعد عدّ الوجوه الأربعة قال الشیخ الأعظم ما نصه: «ولا ریب فی ثبوت هذه الوجوه فیما نحن فیه أمّا الأخیر فواضح وأمّا الأوّل فقد عرفته، وأمّا [2] الإجماع و [3[ الأخبار فهما وإن لم یردا فی خصوص المسألة إلاّ أنّ تحقّقهما فی نظائر المسألة کافٍ، فإنّ رجوع آکل طعام الغیر إلی من غرّه بدعوی تملّکه وإباحته له مورد الإجماع ظاهرا(2) ورجوع المحکوم علیه إلی شاهدی الزور مورد الأخبار(3)، ولا یوجد فرق بینهما وبین ما نحن فیه أصلاً»(4).

فما ذکره صاحب الجواهر قدس سره من عدم جریان قاعدة الغرور فی ما نحن فیه غیر تام.

وثالثا: قاعدة الغرور تجری فی المقام کبریً فلا یتم ما ذکره سیّد الریاض(5) وصغریً فلا یتم ما ذکره صاحب الجواهر(6) «حیث عدل فی ردّ مستند المشهور [وهو قاعدة الغرور] عمّا فی الریاض من منع الکبری إلی منع الصغری»(7).

ص: 227


1- 2 . إیضاح الفوائد 2/191.
2- 3 . راجع تذکرة الفقهاء 19/188، ومفتاح الکرامة 18/101.
3- 4 . راجع: وسائل الشیعة 27/329، ح3، 27/332، ح 1 و 2 کما مرّت هذه الروایات الثلاثة وغیرها فی بحث نصوص قاعدة الغرور.
4- 5 . المکاسب 3/500 و 501.
5- 6 . ریاض المسائل 14/47.
6- 7 . الجواهر 37/183.
7- 8 . المکاسب 3/501.

وأمّا جریانها صغریً فی المقام فلأنّ «مفهوم الغرور وإن کان غیر منقّح لعدم وضوح دلیله إلاّ أنّ المتیقن من مفهومه هو إتلاف المغرور مال الغیر لا بعنوان أنّه مال الغیر، بل بعنوان مال نفسه أو بعنوان مَن أباح له الإتلاف فلا یکون [المغرور] قاصدا لإتلاف مال الغیر»(1). «فیشبه المکرَه فی عدم القصد»(2).

وجه الشبه: أنّ المکرَه یکون کالآلة للمکرِه من جهة الإکراه والإجبار فلایستقل فی قصد عنوان التصرف أو إتلاف مال الغیر، وکذلک المغرور فإنّه وإن کان مختارا فی فعله ومستقّلاً فی أصل القصد ولکنّه لجهله بالحال لا یقصد عنوان التصرف أو إتلاف مال الغیر، وإنّما مقصوده التصرف فی مال نفسه وهو المبیع.(3) فهو مغرور وتجری فی تضمینه قاعدة الغرور ویرجع إلی الغارّ الذی هو هنا البائع الفضولی، هذا.

مقال الأعلام الثَّلاثة فی میزان النقد

أمّا ما ذکره سیّد الریاض(4) قدس سره من ابتناء قاعدة الغرور علی قاعدة لا ضرر کما فهمه صاحب الجواهر رحمه الله أو بقاعدة لا ضرر یرفع الإهمال من مستند قاعدة الغرور کما فهمه الشیخ الأعظم رحمه الله فغیر تام، أمّا الأوّل فَلِما مرّ منّا من عدم جریان قاعدة لا ضرر فی المقام للوجهین الماضین(5) فکیف یمکن ابتناء قاعدة الغرور علیها، وأمّا الثانی فالإهمال فی قاعدة الغرور موجود کما ذکره الشیخ الأعظم ولکن کیف یمکن رفعه بقاعدة لا ضرر مع عدم جریانها فی المقام کما مرّ ومع أنّ فی أغلب فروض قاعدة الغرور الضرر موجود فلیس هذه بقدر المتیقن منها کما ادعاه الشیخ الأعظم رحمه الله .

وأمّا ما ذکره صاحب الجواهر قدس سره من أنّ قاعدة الغرور مبنیّةٌ علی قاعدة قوة السبب

ص:228


1- 1 . هدی الطالب 5/549.
2- 2 . المکاسب 3/501.
3- 3 . راجع حاشیة المکاسب للمحقّق الأصفهانی 2/306.
4- 4 . ریاض المسائل 14/47.
5- 5 . راجع هذا المجلد صفحة 214.

علی المباشر فأیضا غیر تام لما مرّ(1) من عدم جریان قاعدة قوة السبب علی المباشر فی المقام فکیف یمکن ابتناء قاعدة الغرور علی قاعدة لا تجری فی المقام؟!

نعم، لو ضمنا ما ذکره صاحب الجواهر فی کتاب الغصب(2) بما ذکره فی کتاب

التجارة(3) وقلنا بأنّ النتیجة تابعة لأخص المقدمات فیرجع کلامه إلی إمکان ابتناء قاعدة الغرور علی قاعدة قوة السبب علی المباشر ومن المعلوم أنّ الإمکان غیر الابتناء فی نفس الأمر، فافهم.

مضافا إلی تضمین الولی المدلِّس المهر فی النکاح الذی دخل بها الزوج کما فی النصوص الماضیة کیف یجمع مع قاعدة قوة السبب علی المباشر؟!

وأمّا ما ذکره الشیخ الأعظم(4) قدس سره من إهمال مستند قاعدة الغرور فتام ولکن لا أدری کیف یتمکن هو رحمه الله من رفع هذا الإهمال بقاعدة لا ضرر التی لا تجری فی موارد قاعدة الغرور أو بالإجماع المنقول الذی لیس بحجة ویحتمل فیه انّه مدرکیٌّ کما مرّ(5)؟!

ولم یذکر قدس سره وجه رفع الإهمال بالوجه الثالث الذی ذکره وهو الأخبار الواردة فی الموارد المختلفة وإلغاء الخصوصیة منها وإذا بلغ النوبة بها فی کلامه انتقل إلی الوجه الرابع والشاهد الزور فکانّه ذکر رفع الإهمال بشاهد الزور مرّتین تارة فی أوّل کلامه بأنّه واضح واُخری فی آخر کلامه من قوله: «رجوع المحکوم علیه إلی شاهدی الزور مورد الأخبار»(6).

ومن المعلوم أنّ ما ذکره من الوجه الثالث والرابع هما بعینهما الروایات الواردة

ص:229


1- 6 . راجع هذا المجلد صفحة 214.
2- 7 . الجواهر 37/183.
3- 1 . الجواهر 23/485 (22/302).
4- 2 . المکاسب 3/499.
5- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 222.
6- 4 . المکاسب 3/501.

حول قاعدة الغرور والنصوص المستفادة منها قاعدة الغرور(1) فکیف یرید الشیخ الأعظم رفع إهمال هذه الروایات بأنفسها؟!

نعم، الإهمال موجود فی روایات قاعدة الغرور ولایمکن إلغاء الخصوصیة منها وَتَسْرِیَتُها إلی جمیع موارد الغرور اللغوی أو العرفی، وقد مرّ(2) منّا بأنّا نرفع هذا الإهمال بعمل الأصحاب ونجری قاعدة الغرور فی ما أجراها أصحابنا - قدس اللّه أسرارهم - فی کتب البیع والغصب والنکاح والشهادات، وفی کل مورد ومسألة تمسک الأصحاب بها، وهذا ما عندنا فی نقد مقال الأعلام الثَّلاثة إجمالاً وحلّ إشکال الإهمال فی مستند قاعدة

الغرور والحمد للّه.

الرابع: موثقة جمیل الماضیة
اشارة

(3)

استدلّ بها جدی الشیخ جعفر رحمه الله وقال: «وفی خبر جمیل دلالة علیه»(4).

وتبعه تلامیذه أصحاب مفتاح الکرامة(5) وکشف الظلام(6) والجواهر(7)، قال فی الأخیر: «وفی شرح الأُستاذ أنّ فی خبر جمیل دلالة علیه».

قال الشیخ الأعظم: «بناءً علی أنّ حریّة الولد منفعة راجعة إلی المشتری وهو الذی ذکره المحقّق احتمالاً فی الشرائع(8) فی باب الغصب بناءً علی تفسیر المسالک(9) وفیه تأمل»(10).

ص:230


1- 5 . مرّت فی هذا المجلد صفحة 207 وما بعدها.
2- 6 . راجع هذا المجلد صفحة 206.
3- 1 . وسائل الشیعة 21/205، ح5، الباب 88 من أبواب نکاح العبید والإماء.
4- 2 . شرح القواعد 2/102.
5- 3 . مفتاح الکرامة 12/634.
6- 4 . کشف الظلام، مخطوط، نقل عنه فی هدی الطالب 5/553.
7- 5 . الجواهر 23/485 (22/301).
8- 6 . الشرائع 3/195.
9- 7 . المسالک 12/228.
10- 8 . المکاسب 3/501.

أقول: تأمّل الشیخ الأعظم فی دلالة موثقة جمیل لأنّه(1) یری الولد نماءً للجاریة ولکنّه لم یستوفه المشتری فلا تدل الموثقة علی القسم الثانی وهو المنافع المستوفاة.

والعجب من المحقّق المُرَوِّجِ(2) رحمه الله تبعا للفاضل المامقانی(3) - فی احتماله الأوّل - حیث احْتَمَلَ رجوع تأمل الشیخ الأعظم تارة إلی ما احْتَمَلَهُ صاحب المسالک(4) واُخری إلی ما احتمله صاحب الجواهر(5) فی قول المحقّق «وفیه احتمال آخر»(6).

ووجه التعجب واضح لانّ الشیخ الأعظم لم یذکر مقالة صاحب الجواهر أصلاً فکیف یمکن رجوع التأمل إلیها ولأنّ المحقّق قال فی غصب الشرائع: «... وما یغترمه

المشتری ممّا لم یحصل له فی مقابلته نفعٌ کالنفقة والعمارة فله الرجوع به علی البائع، ولو اولدها المشتری کان حرّا وغُرم قیمة الولد ویَرْجِعُ بها علی البائع، وقیل فی هذه: له مطالبة أیّهما شاء. لکن لو طالب المشتری رجع علی البائع. ولو طالب البائع لم یرجع علی المشتری وفیه احتمال آخر. وأمّا ما حصل للمشتری فی مقابلته نفع...»(7).

قال الشهید الثانی فی ذکر احتمال آخر: «ویحتمل إلحاق عوض الولد بما حصل له فی مقابلته نفع کالمهر لأنّ نفع حرّیّة الولد یعود إلیه. وهذا هو الاحتمال الذی أشار إلیه فیجری فیه الوجهان إلاّ أنّ الأشهر الأوّل»(8).

وقال صاحب الجواهر فی ذیل احتمال آخر: «ویمکن أن یرید به احتمال عدم

ص:231


1- 9 . راجع المکاسب 3/181.
2- 10 . هدی الطالب 5/555.
3- 11 . غایة الآمال 6/252 طبع النجف الأشرف بتحقیق آیة اللّه الشیخ محمّدامین المامقانی - مدظله -.
4- 12 . المسالک 12/228.
5- 13 . الجواهر 37/182.
6- 14 . الشرائع 3/195.
7- 1 . الشرائع 3/195.
8- 2 . المسالک 12/228.

التخییر بل یتعیّن رجوع المالک ابتداءً علی البائع بناءً علی کونه الغار نحو ما سمعته فیمن قدّم إلی غیره طعام الغیر وأکله، والأمر سهل خصوصا بعد ما عرفت من أنّ الأصح فی تلک التخییر»(1).

أقول: الظاهر أنّ تأمل الشیخ الأعظم(2) کما یمکن أن یرجع إلی احتمال المسالک، یمکن أن یرجع إلی أصل دلالة مُوَثَّقةِ جمیل علی المنافع الْمُسْتَوْفاةِ لأنّه یری الولد نماءً للجاریة لم یستوفه المشتری(3)، ولکنّ قد مرّ(4) منّا صدق المنفعة علیه حقیقةً وَعُرْفا مضافا إلی تعبیر الإمام علیه السلام فی خبر زرارة بأنّه منفعة حیث قال علیه السلام : ... یردّ إلیه جاریته ویعوّضه بما أنتفع.(5) فدلالة موثقة جمیل علی تضمین البائع الفضولی، المنافع المستوفاة مع توسط المشتری تامَّةٌ کما علیه الأعلام الأربعة الْماضُوْن.

ومن هنا ظهر أنّ المشتری یرجع إلی البائع الفضولی أو الغاصب فی المنافع التی استوفاه والدلیل علیه قاعدة الغرور وموثقة جمیل والحمد للّه الجلیل الدلیل.

تنبیه: تفصیل من السیّد الخوئی رحمه الله فی المقام

ممّا ذکرنا من رجوع المشتری إلی البائع الفضولی فی المنافع التی لَمْ یَسْتَوْفِها

والتی استوفاها یظهر عدم تمامیة تفصیل السیّد الخوئی قدس سره وتبعیة شیخنا الأُستاذ(6) رحمه الله له.

قال المحقّق السیّد الخوئی: «المنافع التی یرجع المالک فیها إلی المشتری یمکن أن تکون علی قسمین: لأنّها تارة تکون ممّا استولی علیها البائع أیضا یتبع استیلاؤه علی العین کسکنی الدار مثلاً فإنّ حیثیة السکنی من منافع الدار التابعة لها فی الملکیة والاستیلاء، فلیستولی علیها بالاستیلاء علی عین الدار فإذا فرضنا استیلاء البائع علی

ص:232


1- 3 . الجواهر 37/182.
2- 4 . المکاسب 3/501.
3- 5 . المکاسب 3/181.
4- 6 . راجع الآراء الفقهیة 4/301.
5- 7 . وسائل الشیعة 21/204، ح2.
6- 1 . إرشاد الطالب 4/124 و 125.

الدار أوّلاً ثمّ باعها علی المشتری فقد استولی البائع أیضا علی تلک المنفعة.

واُخری لایکون کذلک ولم تدخل تحت استیلاء البائع أصلاً کالمنافع العینیة التی تجددت للعین بعد دخولها تحت ید المشتری ولم تکن موجودة حین استیلاء البائع علیها کالثمرة واللبن ونحوهما، فإنّ البائع لم یستول علیها ولم یضمنها.

(أما القسم الثانی) فلیس للمالک الرجوع فیه إلی البائع أصلاً، لعدم دخول تلک المنافع تحت یده لیکون ضامنا له کما أنّه لیس بمتلف لها، فإذا رجع بها المالک إلی المشتری لیس له الرجوع إلی البائع لعدم الدلیل علی ما عرفت.

وأما القسم الأوّل فللمالک أن یرجع إلی کلٍّ من البائع والمشتری، لأنّ کلاً منهما ضامن لها، فیقع الکلام فی انه إذا رجع إلی البائع فهل له الرجوع إلی المشتری، أو إذا رجع إلی المشتری فهل للمشتری أن یرجع إلی البائع أو لیس له ذلک؟

فنقول: سیأتی إن شاء اللّه تعالی فی باب تعاقب الأیادی تصویر ضمان أشخاص عدیدة لمال واحد إمّا بنحو الواجب الکفائی وإمّا بنحو اشتغال ذمة الجمیع وسرّ الضمان أنَّ الوجه فی رجوع السابق إلی اللاحق بعد ما رجع إلیه المالک هو أن الغاصب أو مَنْ بحُکْمِهِ یملک المال بقاءً بعد أداء مثله أو قیمته بالسیرة العقلائیة وتسالم الأصحاب، ولذا لو فرضنا أن أحدا أتلف زولیة مِنْ غیره أو تلف تحت یده فأخذ منه المالک قیمته لیس له أن یطالبه بالأجزاء الصغار الباقیة منها، خلافا؛ للمصنف [الشیخ الأعظم] حیث اختار جواز رجوعه إلیه، فمقتضی ذلک جواز رجوع البائع إلی المشتری إن رجع إلیه المالک، إلاّ أنّ فی المقام خصوصیة، وهی أنّه إذا قَدَّمَ أحد طعام نفسه الذی هو ملکه حدوثا واقعا بعنوان أنّه له لیأکله مع اعتقاده أنّه لیس له فأکله وبعد ذلک علم أنّه کان ملکا له واقعا لیس له الرجوع إلی الآکل ببدله، وهذا موافق للسیرة ومورد تسالم الفقهاء أیضا. وأمّا عکسه -

أی إذا قَدَّمَ مال الآکل واقعا إلیه بعنوان أنّه ملْکٌ له لا للآکل کما إذا ذبح شاة الغیر وقَدَّمَها إلیه بعنوان أنّه لا للآکل فأکلها الآکل إذا علم بذلک أن یرجع إلی المقدِّم، وهذا أیضا موافق للسیرة ومورد للتسالم. ولا فرق فی کلا الموردین بین الملک حدوثا وبقاءً.

وعلیه ففیما نحن فیه إذا رجع المالک إلی البائع فَلَیْسَ له الرجوع إلی المشتری،

ص:233

لأنّه مِن قبیل مَنْ قدَّم ملک نفسه حدوثا إلی غیره لیأکله بعنوان أنّه ملکه مع اعتقاده بأنه لیس له، بل لا فرق بینهما إلاّ فی کون المال ملکا له حدوثا فی الفرض وبقاءً فیما نحن فیه، وقد عرفت أنّه لا یوجب فرقا من حیث الضمان وعدمه وأمّا إذا رجع المالک إلی المشتری فله أن یرجع إلی البائع لأنّه قدَّم إلیه مال نفسه بقاءً بعنوان أنّه له فیکون ضامنا له، کما کان ضامنا فی فرض کونه مالاً له حدوثا فالصحیح فی المقام هو التفصیل کما ذکرنا.

وممّا بیّناه ظهر الحال فی المنافع المستوفاة أیضا، فإنّ فی مورد رجوع المشتری إلی البائع فی المنافع غیر المستوفاة یکون الرجوع إلیه فی المستوفاة ثابتا بالأولویة وفی مورد عدم رجوعه إلیه لا یفرّق بین المستوفاة وغیره کما هو ظاهر»(1).

القسم الثالث (أ): الغرامة التی یَغْتَرِمُها المشتری فی قبال العین
اشارة

الغرامة التی یَغْتَرِمُها المشتری للمالک فی مقابل العین کزیادة القیمة علی الثمن إذا رجع المالک بها علی المشتری نحو: لو باع الفضولی ما یقدّم بالعشرین بالعشرة، فتلف المال فی ید المشتری وأخذ المالک القیمة أی العشرین من المشتری فحینئذ المشتری لا یرجع إلی البائع بالعشرة الأُولی التی أعطاها فی الثمن المسمی لأنّها غرامة تقتضیها المعاوضة والمعاملة التی أقدم المشتری علیها ولا تستند إلی البائع الفضولی فلا یتحمّلها، ولکن العشرة الثانیة الزائدة علی الثمن المسمی فهی تنشأ من کذب البائع لأنّه غارٌّ بالنسبة إلیها والمشتری مغرور فیرجع المشتری إلیه هذا هو مختار الشیخ الأعظم(2) ثمّ تعرّض لإشکال ودفعه، قبل ذلک أذکر لک خلاف الأعلام فی المقام.

قال العلاّمة فی غصب القواعد: «ویغرّم [المشتری] قیمة العین إذا تلف ولایرجع»(3).

وقال السیّد العاملی فی ذیله: «أی وإن کان جاهلاً لأنّه إنّما دخل علی کونها

مضمونة فلا غرور بالنسبة إلیها مع جهله. وقال فی جامع المقاصد: «هذا إنّما یستقیم

ص:234


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/(485-483).
2- 2 . المکاسب 3/502.
3- 3 . قواعد الأحکام 2/237.

بالنسبة إلی ما قابل الثمن فلو زادت العین علی الثمن فالأصح رجوعه بالزائد لدخوله علی أنّه فی حکم ما لا عوض له فیتحقّق الغرور»(1).

قلت: وهو خیرة ولده فی شرح الإرشاد(2) والشهیدین(3) وغیرهم(4) فی باب البیع.

وقد استشکل هو [العلاّمة(5)] فیه فی موضع من باب البیع وولده فی الإیضاح(6) وفی التذکرة(7) فی الباب. وقد یلوح أو یظهر منه القول بالرجوع. وجزم فی موضع آخر من باب البیع بالعدم کما هو ظاهره هنا کما بیّنّاه فی باب البیع الفضولی والقسم الرابع من أقسام البیع المحظور من المکاسب وغیرهما»(8).

إشکال فی ضمان البائع بالنسبة إلی الزائد علی الثمن المسمی
اشارة

أصل الإشکال من العلاّمة الحلّی فی بعض کتبه وتبعه ولده فی الإیضاح(9) وأنقل لک کلامه قدس سره حتّی یتبیّن الإشکال.

قال: «إذا تلفت العین المغصوبة عند المشتری، ضمن قیمتها أکثر ما کانت من یوم القبض إلی یوم التلف، ولا یضمن الزیادة التی کانت فی ید الغاصب إن کانت فی یده أکثر قیمةً، ولا یرجع بما یضمنه، عالما کان أو جاهلاً؛ لأنّ الشراء عقد ضمانٍ، وقد شرع فیه علی أن تکون العین من ضمانه وإن کان الشراء صحیحا.

ولقائلٍ أن یقول: إن کان المراد من کونه عقدَ ضمانٍ أنّه إذا تلف المبیع عنده تلف

ص:235


1- 1 . جامع المقاصد 6/320.
2- 2 . شرح الإرشاد، مخطوط.
3- 3 . الدروس 3/193، المسالک 3/161.
4- 4 . کالمحقّق الثانی فی جامع المقاصد 4/71.
5- 5 . إرشاد الاذهان 1/361.
6- 6 . إیضاح الفوائد 2/191.
7- 7 . تذکرة الفقهاء 19/335، مسألة 1125.
8- 8 . مفتاح الکرامة 18/340.
9- 9 . إیضاح الفوائد 2/191.

من ماله، ویستقرّ علیه الثمن، فهذا صحیح، لکن لم یکن شارعا فیه علی أن یضمن القیمة، ومعلومٌ أنّه لو لم یکن المبیع مغصوبا لم یلزمه شیء بالتلف، فکان الغاصب مُغرّرا مُوقعا إیّاه فی خطر الضمان، فلیرجع علیه.

وإن کان المراد غیره، فلِمَ قلتم: إنّ الشراء عقد ضمانٍ علی تفسیرٍ آخَر؟

وربما انساق هذا الإشکال إلی ما حکی عن بعض الشافعیّة: أنّه یرجع من المغروم بمازاد علی قدر الثمن، سواء اشتراه رخیصا فی الابتداء [أم] زادت القیمة بعد الشراء، فإنّه إذا رجع بما زاد علی الثمن واستردّ الثمن لم یلحقه ضرر»(1).

وقد ورد هذا البیان فی کلام ثانی الشهیدین حیث یقول: «ثمّ إن کان عوض العین بقدر الثمن فذلک. وإن کان أزید ففی رجوعه علی الغاصب بالزیادة عن الثمن وجهان، من أن الشراء عقد ضمان وقد شرع فیه علی أن یکون العین من ضمانه وإن کان الشراء صحیحا، ومن دخوله علی أن یکون المجموع فی مقابلة الثمن، وهو یقتضی کون الزائد علیه فی معنی التبرّع به وإعطائه إیّاه بغیر عوض، فإذا أخذ منه عوضه رجع به.

وهذا قویّ. ولا یمنع من ذلک کون البیع عقد ضمان، لأنه إن کان المراد من کونه عقد ضمان أنه إذا تلف المبیع عنده تلف من ماله واستقرّ علیه الثمن فهذا مسلّم، ولکن لم یکن شارعا فیه علی أن یضمن القیمة، ومعلوم أنه لو لم یکن المبیع مغصوبا لم یلزمه شیء بالتلف، غایته أن یکون ما قابل الثمن من المبیع مأخوذا بعوضه والباقی سالم(2) له بغیر عوض، فکان الغاصب مغرّرا موقعا إیّاه فی خطر الضمان فلیرجع علیه. وإن کان المراد غیره فلم قلتم: إن الشراء عقد ضمان مطلقا؟

وحینئذٍ، فإن رجع المالک علی المشتری جاهلاً بعوض المبیع لم یرجع به علی الغاصب البائع إن لم تزد قیمته عن الثمن. وإن رجع به علی الغاصب رجع به علی

المشتری. وإن رجع بالزیادة علی المشتری رجع بها علی الغاصب. وإن رجع بها علی

ص:236


1- 1 . تذکرة الفقهاء 19/335 و 336، مسألة 1125.
2- 2 . فی نسخة: سالما.

الغاصب لم یرجع بها علی المشتری»(1).

أقول: أنت تری بأنّ ما ذکره العلاّمة قدس سره بعنوان «لقائل أن یقول» یراه الشهید الثانی رحمه الله هو الأقوی ونقله صاحب الجواهر - طاب ثراه - بتمامه فی کتابه.(2)

وحاصل الإشکال: إنّ المشتری أقدم علی ضمان العین التالفة بالثمن المسمی ولکن حیث لم یمض الشارع البیع للفضولیة وعدم قبول المالک أو للغصبیة انتقل الضمان من الثمن المسمی إلی ثَمَنِ المِثْل والقیمة السوقیة کما هو شأن کلّ معاملة فاسدة. ومع

اقدام المشتری علی الضمان المعاملی لا تتحقّق قاعدة الغرور فلا یمکن رجوع المشتری إلی البائع بالثمن الزائد علی الثمن المسمی.

وقد أجاب الشیخ الأعظم عن هذا الاشکال بِأَنَّ:

وقد أجاب الشیخ الأعظم(3) عن هذا الاشکال بِأَنَّ:

قبض المشتری فی البیع الفاسد یقتضی انتقال الضمان المعاملی من الثمن المُسَمّی إلی ثمن المثل والقیمة السوقیة والانتقال یتحقّق إذا لم یکن مانع فی البین والمانع موجود هنا وهو إقدام المشتری علی الثمن المسمی فقط دون الزائد علیه وبالنسبة إلی مازاد علیه، المشتری مغرور یرجع إلی البائع الغارّ بمقتضی قاعدة الغرور.

لا یقال: المشتری بنفسه أقدم علی الضمان المعاوضی، فهذا الاقدام یستلزم أنّ قیمة العین التالفة علیه بما فیها الزائد علی الثمن المسمی.

لأنّا نقول: المشتری أقدم علی البیع بالثمن المسمی فقط لأنّه جاهل بالفضولیة أو الغصبیة علی الفرض، فلم یقدم علی ضمان قیمة العین التالفة بما فیها الزائد، فهذا الزائد لم یستقر علیه، بل بقاعدة الغرور یستقر علی البائع الفضولی أو الغاصب.

وبعبارة أُخری: الموجِب للضمان هنا هو جعل المشتری یده علی العین وتلفها فی یده فهو ضامن لقیمتها بالقیمة السوقیة بما فیها الزائد ولکنّه بالنسبة إلی الزائد مغرور فیرجع إلی غارّه البائع.

ص:237


1- 3 . المسالک 12/225.
2- 4 . الجواهر 37/179.
3- 1 . راجع المکاسب 3/503.

مُضافا إلی أنّ جریان قاعدة الغرور هنا اُولی من جریانها فی القسم الثانی وهو المنافع المستوفاة توسط المشتری، إذ مع فرض جریانها فی المنافع المستوفاة فبطریق أُولی تجری هنا حیث لم یصل إلی المشتری فی مقابل الغرامة نفع إلی المشتری. «هذا إذا کانت الزیادة موجودة وقت العقد»(1).

وإذا تجددت الزیادة بعد العقد بحیث ترتفع القیمة السوقیة بعد العقد فالحکم برجوع المشتری بالنسبة إلیها إلی البائع الفضولی والغاصب أُولی من الزیادة الموجودة حتّی العقد لأنّ إقدام المشتری یکون علی الثمن المسمی الذی یساوی الثمن المثل حین العقد فقط ولم یقدم علی الزائد فیکون مغرورا بالنسبة إلیها فیرجع إلی غارّه البائع.

ثمّ لا ینقضی تعجبی من المحقّق السیّد الخوئی قدس سره حیث لا یری قاعدة الغرور تامَّةً ویعمل بالروایات الخاصة من باب النص والتعبد وقال: «ولا یمکن التعدی عنها»(2) أو

قال: «إنّ قاعدة الغرور ممّا لا أساس له»(3)، فکیف یعمل بقاعدة الغرور فی المقام وقال: «والحاصل: إنّ مقتضی القاعدة عدم رجوع المشتری إلی البائع فیما یرجع إلیه المالک مطلقا، لأنّ التلف یکون تحت یده فیکون وَلد الضمان علیه، إلاّ إنّا خرجنا عن ذلک بالسیرة فیما إذا کان فی غیر الثمن المسمی فیما إذا کان البائع غارا للمشتری»(4). فیری البائع غارا للمشتری فیجری قاعدة الغرور.

وأصرح منه کلامه الآخر: «ثمّ لا یخفی أنّ ما ذکرناه سابقا من أنّ المشتری یرجع علی البائع فی موارد الغرور بخلاف البائع فإنّه لا یرجع علی المشتری لأنّه قد غرّه وأتلف المال علیه إنّما هو فیما إذا کانت الغرامة المتوجهة إلی المشتری مستندة إلی إغراء البائع إیّاه وکذبه فی دعوی المالکیة...»(5). وسبحان من لا یسهو.

ص:238


1- 2 . المکاسب 3/503.
2- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/482.
3- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/95.
4- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/487.
5- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/97.
القسم الثالث (ب): ما یغرمه المشتری فی قبال الجزء التالف

یظهر حکم الجزء أو الأجزاء التالفة ممّا ذکرناه وأنّ المالک یسترجع ما بقی من عین ماله وفی الأجزاء التالفة رجع بقیمتها علی المشتری الذی تلفت الأجزاء عنده، والمشتری یرجع إلی البائع الفضولی أو الغاصب فی الزائد من الثمن المسمی الذی یقابلها، لأنّه مغرور و البائع غارّ. هذا کلّه إذا کان الجزء ممّا یقسّط علیه الثمن کما بیع کتابین تلف أحدهما.

وأمّا إذا کان الجزء ممّا لا یقسّط علیه الثمن «فحکمه حکم الوصف، حیث یعدّ المبیع مع تلف ذلک الجزء معیوبا، ویکون فی الوصف قرار الضمان مع الغرور علی البائع [کما یأتی آنفا] لأنّ کلاًّ من البائع والمشتری ضامن للوصف بضمان الید، ویکون غروره موجبا لقراره علی البائع من غیر أن یکون من المشتری إقدامٌ علی ضمان الوصف بمقدار من الثمن کما لا یخفی»(1).

ولذا قال الشیخ الأعظم: «وأمّا ما یغرمه [المشتری] بإزاء أجزائه [أی المبیع[ التالفة فالظاهر أنّ حکمه حکم المجموع فی أنّه [أی المشتری] یرجع فی الزائد علی ما

یقابل ذلک الجزء [أی فی الزائد علی الثمن المسمی]، لا فیما یقابله»(2).

أی ما یقابل الزائد علی الثمن المسمی مع الثمن المسمی = کلّ ثمن الجزء التالف.

القسم الثالث (ج): ما یغرمه المشتری فی قبال تلف الوصف
اشارة

وأمّا الأوصاف التالفة فقد فصّل الشیخ الأعظم(3) رحمه الله بین ما إذا کان الوصف ممّا یقسّط علیه الثمن - کوصف الصحة - یثبت له حکم الجزء التالف فیتدارک الوصف الفائت باسترداد ما قابله من الثمن.

وإن کان الوصف ممّا لایقسّط علیه الثمن رجع المشتری بغرامته إلی البائع، لأنّ المشتری لم یقدم علی ضمان الاُوصاف حتّی لا یرجع بغرامته إلی البائع.

ص:239


1- 4 . إرشاد الطالب 4/129.
2- 1 . المکاسب 3/503.
3- 2 . المکاسب 3/504.

واعترض المحقّق النائینی علی هذا التفصیل وقال: «ولکن الحقّ أنّ الأوصاف مطلقا لا یقسّط علیها الثمن کالشروط، ولا ینافی ذلک ما یقال: إنّ للوصف أو الشرط قسطا من الثمن، لأنّ معناه: أنّ قیمة العین تزداد بالوصف أو الشرط، لا أنّ مقدارا من الثمن فی الإنشاء العقدی یقابل الوصف أو الشرط. وهذا لا ینافی ثبوت الخیار بین الردّ والأرش فی العیب لما سیجیء فی باب العیب: أنّ الأرش ثابت بالتعبد لا من باب أنّ الثمن یقسّط علی الوصف والموصوف، وإلاّ وجب أن یکون الأرش من نفس الثمن»(1).

وأضاف تلمیذه السیّد الخوئی: «ومن أجل ذلک إذا کانت العین معیبة ولم یَعْلَمْ بها المشتری إلی آخر الأبد لا یجب علی البائع دفع قیمة العیب والأرش وإنّما یجب عند المطالبة، والأرش إنّما یثبت بدلیل آخر عند المطالبة کما عرفت»(2).

وتبعهما شیخنا الأُستاذ قدس سره .(3)

حکم ما یغترمه المشتری فیما إذا کان البیع فاسدا من غیر جهة الفضولیة
اشارة

ذهب الشیخ الأعظم(4) إلی أنّ مورد رجوع المشتری إلی البائع بالغرامات هو البیع الذی یکون فساده من ناحیة عدم مالکیة البائع للمبیع من جهة الفضولیة أو الغصبیة، وَمِنْ هاتَیْنِ الْجِهَتَیْنِ یتحقّق الغرور فیرجع المشتری المغرور إلی البائع الغار.

وأمّا إذا کان البیع فاسدا من جهة أُخری کربویة المعاملة أو غرریة البیع أو مجهولیة المبیع ونحوها فلا یرجع المشتری فی الغرامات إلی البائع لعدم تسببها إلی البائع وإلی کذب دعواه فی المالکیة بل الغرامات تسبب عن بطلان المعاملة لتلک الجهة الاُخری وید المشتری العادیة التی لم تنشأ من سبب صحیح شرعی فلا یتم رجوع المشتری إلی البائع.

ولذا قال الشیخ الأعظم: «... فلو فرضنا البائع صادقا فی دعواه لم تزل الغرامة، غایة الأمر کون المغروم له هو البائع علی تقدیر الصدق، والمالک علی تقدیر کذبه،

ص:240


1- 3 . منیة الطالب 2/178.
2- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/97.
3- 5 . إرشاد الطالب 4/130.
4- 6 . المکاسب 3/504.

فحکمه حکم نفس الثمن فی التزام المشتری به علی تقدیری صدق البائع وکذبه»(1).

قاعدة کلّیّة: فی رجوع المشتری إلی البائع الفضول أو الغاصب
اشارة

کلّ ما یغترمه المشتری للمالک، یرجع المشتری به إلی البائع لقاعدة الغرور، ویستقر الضمان علی البائع.

وأمّا فی هذه الموارد فَإنَّهُ إذا رجع المالک إلی البائع لم یرجع البائع إلی المشتری لأنّه مغرور والبائع غار والضمان یستقر علی الغار.

ولذا قال الشیخ الأعظم: «أنّ کل ما یرجع المشتری به علی البائع إذا رُجع علیه، فلا یرجع البائع به علی المشتری إذا رُجع علیه لأنّ المفروض قرار الضمان علی البائع»(2).

وأمّا إذا تلف المبیع فی ید المشتری فقد مرّ أنّه ضمان لقیمته بالثمن المسمی ثمّ إذا رجع المالک إلی البائع وتکون القیمة السوقیة أکثر من الثمن المسمی یأخذ القیمة للسوقیة من المالک والمالک یرجع بالثمن المسمی إلی المشتری لأنّ المبیع فی یده، ولذا قال الشیخ الأعظم: «وأمّا ما لا یرجع المشتری به علی البائع - کمساوی الثمن من القیمة [الثمن المسمی] فیرجع البائع به علی المشتری إذا غرمه للمالک، والوجه فی ذلک حصول التلف فی یده»(3).

إشکال من الشیخ الأعظم علی نفسه

ثمّ أورد علی نفسه(4) بأنّ علّة الضمان وهی الید العدوانیة مشترکة بین البائع

والمشتری ولذا یجوز رجوع المالک إلی أیّهما شاء ولکن «حصول التلف فی ید المشتری لا دلیل علی کونه سببا لرجوع البائع علیه، نعم لو أتلف بفعله رجع، لکونه [إتلاف

ص:241


1- 1 . المکاسب 3/504.
2- 2 . المکاسب 3/504.
3- 3 . المکاسب 3/505.
4- 4 . المکاسب 3/505.

المشتری] سببا لتنجّز الضمان علی السابق»(1). وهو البائع.

وبعبارة أُخری: الإشکال یفرّق بین إتلاف المشتری المبیع وتلفه فی یده، فذهب فی الأوّل إلی أنّ الإتلاف یوجب رجوع البائع فی الثمن المسمی إلی المشتری المتلف والإتلاف سبب لفعلیة الضمان علی البائع، لأنّ المشتری لو لم یتلفه یمکن رجوع العین إلی مالکها ولکن بعد الإتلاف ذمّة البائع مشغولة بالقیمة السوقیة وذمة المشتری بالثمن المسمی کما مرّ.

وأمّا الثانی وهو التلف فی ید المشتری فلا یوجب رجوع البائع إلی المشتری، لأنّه لیس بمتلِفٍ بل العین تلفت فی یده من باب الاتفاق فلا یستقر الضمان علیه لخروجه من قاعدة من أتلف مال الغیر فهو له ضامن لأنّ المشتری حینئذ لیس بمتلفٍ.

ثمّ تعرّض الشیخ الأعظم لحلّ هذا الاشکال إلی بحث مُهِمٍّ ولذا قال: «توضیح ذلک یحتاج إلی الکشف من کیفیة اشتغال ذمّة کلّ من الیدین ببدل التالف وصیرورته فی عهدة کل منهما مع أنّ الشی ء الواحد لا یقبل الاستقرار إلاّ فی ذمّة واحدة وأنّ الموصول فی قوله علیه السلام : «علی الید ما أخذت» شی ء واحد، کیف یکون علی کل واحدة من الأیادی المتعددة؟»(2).

ومن هذه الجهة تعرض لبحث تعاقب الأیدی(3).

ص:242


1- 1 . المکاسب 3/505.
2- 2 . المکاسب 3/505.
3- 3 . أکثر من تُطلق الأیادی علی النِّعم وقد تستعمل قلیلاً جمعا للید وقد تأتی قلیلاً جَمْعُ الجمع. أما جمع الید الذی لا غبار علیه فهو الأیدی.

وَصْلٌ: تعاقب الأیدی

اشارة

ص:243

اشارة

ص: 244

تعاقب الأیدی

اشارة

فی هذا البحث مشکلة مُهِمَّةٌ لابدّ من حلّها، وهی:

المشکلة: کیف یعقل ضمان أشخاص لمال واحد بالاستقلال فی آنٍ واحد
اشارة

المشکلة: کیف یعقل ضمان أشخاص لمال واحد بالاستقلال فی آنٍ واحد بحیث تکون عهدة کلٍّ منهم ظرفا للمال والمال فی ذمة کلٍّ منهم علی نحو التکالیف الاستقلالیة؟ مع إنّا نعلم بأنّ الذمّة والعهدة فی وعاء الاعتبار کالأین الخارجی فکما لا یمکن استقرار شی ءٍ خارجیٍ فی زمان واحد فی المکانین فکذلک لا یمکن استقرار مال واحد لشخص واحد فی ذمّة أشخاص متعددین فی آنٍ واحد.

وهذا هو بعینه الضمان العَرْضی الذی یقول به أکثر العامة فی بحث ضمان الدین عن المدیون لأنّهم یقولون بأنّ الضمان ضمّ ذمّةٍ إلی ذمّة اُخری، خلافا؛ لما یقول به الخاصة وبعض العامة من أنّ الضمان هو نقل الدین عن ذمّة المدیون إلی ذمّة الضامن وهذا هو الضمان الطولی.

ثمّ بعد استحالة عدم إمکان تحقّق الضمان العَرْضی فی مقام الثبوت لابدّ من توجیه ما یدلّ علیه فی مقام الإثبات وحمله علی الضمان الطولی الممکن.

وبعبارة أخری: دلیل الضمان فی الید العادیة هوا لنبوی الشریف: «علی الید ما أخذت حتّی تؤدی»(1) والمراد ب- «ما» الموصولة هو المبیع الشخصی الواحد، ولیس

ص:245


1- 1 . عوالی اللآلی 1/224، ح106، 1/389، ح22، وقد مرّت مصادره فی الآراء الفقهیة 4/292.

للواحد الشخصی إلاّ بدل واحد، فکیف یتعدد هذا الواحد باستقراره فی ذمّم متعددة؟(1)

ثمّ الفقهاء من الأصحاب - رضوان اللّه تعالی علیهم - تعرضوا لحلّ هذا الإشکال بأجوبة متعددة، وقد ذکر الشیخ الأعظم رحمه الله مختاره فی الجواب.

حلّ الشیخ الأعظم عن المشکلة
اشارة

(2)

أجاب عن الإشکال بما حاصله: ضامن أشخاص متعددة لمال واحد معناه اشتغال ذمّة کلّ واحد منهم بالمال علی البدل بحیث لو خرج واحد منهم عن هذا الاشتغال سقط ذمّم الکل، وإن لم یخرج ذمم الکل مشغولة، نظیر الواجب الکفائی فی الأحکام التکلیفیة حیث أنّ المطلوب فیه واحدٌ ولکن المطلوب منه متعددا فکذلک یمکن أن یکون المال واحدا وضمانه متعددا.

وقال الشیخ الأعظم ما نصه: «فنقول: معنی کون العین المأخوذة علی الید: کون عهدتها ودرکها بعد التلف علیه، فإذا فرض أیدٍ متعدّدة یکون العین الواحدة فی عهدة کلٍّ من الأیادی، لکن ثبوت الشیء الواحد فی العهدات المتعدّدة معناه: لزوم خروج کلٍّ منها عن العهدة عند تلفه، وحیث إنّ الواجب هو تدارک التالف الذی یحصل ببدل واحد لا أزید، کان معناه: تسلّط المالک علی مطالبة کلٍّ منهم بالخروج عن العهدة عند تلفه، فهو یملک ما فی ذمّة کلٍّ منهم علی البدل، بمعنی أنّه إذا استوفی أحدها سقط الباقی؛ لخروج الباقی عن کونه تدارکا، لأنّ المُتَدَارَک لا یتدارک.

والوجه فی سقوط حقّه بدفع بعضهم عن الباقی: أنّ مطالبته ما دام لم یصل إلیه المُبْدَل ولا بدله، فأیّها حصل فی یده لم یبقَ له استحقاق بدله، فلو بقی شیء له فی ذمّة واحدة لم یکن بعنوان البدلیّة، والمفروض عدم ثبوته بعنوان آخر.

ویتحقّق ممّا ذکرنا: أنّ المالک إنّما یملک البدل علی سبیل البدلیة، ویستحیل اتّصاف شیء منها بالبدلیّة بعد صیرورة أحدها بدلاً عن التالف واصلاً إلی المالک»(3).

ص:246


1- 2 . راجع المکاسب 3/505.
2- 1 . راجع المکاسب 3/505.
3- 2 . المکاسب 3/(507-505).

ویری الفقیه السیّد الیزدی هذا المقال هو التحقیق فی المسألة إذ قال: «هذا هو التحقیق، ولا اشکال فی تصویره ومعقولیته کما فی التکالیف؛ إذ لا فرق بین الوضع والتکلیف فی ذلک، بل یمکن عکسه أیضا، وهو کون المالک أشخاصا متعددة علی سبیل البدل، مع کون المملوک واحدا، کما فی مالکیة السادة والفقراء للخمس والزکاة، وکما فی مالکیة کلّ واحدٍ من الورثة لحقِّ الخیار الثابت للمورث بناءً علی أحد الأقوال، من أنَّ کلاً منهم مستقل فی مالکیة الخیار، وممّا یناسب المقام حریة أحد العبید إذا أوصی بعتق واحد من عبیده، ولذا یسترج بالقرعة.

وبالجملة: لا مانع من اشتغال ذمم عدیدة لمال واحد علی سبیل البدل»(1).

وتبعهما المحقّق السیّد الخوئی(2) کما یأتی بیانه فی نقد اُستاذه النائینی.

ثمّ تصدی الشیخ الأعظم لتقریب جوابه فی حلّ الإشکال وردّ النقود علیه بذکر عدّة من الأشباه والنظائر من أبواب المعاملات والعبادات :

1- ضمان المال علی مسلک العامة حیث أنّه ضمّ ذمة

1- ضمان المال علی مسلک العامة حیث أنّه ضمّ ذمة إلی ذمّة أُخری عندهم(3)

قال العلاّمة فی ضمان تذکرة الفقهاء: «الضمان عندنا ناقل للمال من ذمّة المضمون عنه إلی ذمّة الضامن، فللمضمون له مطالبة الضامن بالمال ولیس له مطالبة المضمون عنه، عند علمائنا أجمع - وبه قال ابن أبیلیلی وابن شبرمة وداود وأبوثور(4)... وقال عامّة الفقهاء - کالثوری والشافعی وأحمد وأسحاق وأبیعبید وأصحاب الرأی: إنّ المضمون عنه لا یبرأ من المال وللمضمون له مطالبة من شاء من الضامن ومن المضمون عنه...»(5).

ص:247


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/306.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/491، التنقیح فی شرح المکاسب 2/103، مصباح الفقاهة 4/373.
3- 3 . راجع المغنی 5/(83-70)، الشرح الکبیر 5/72، المجموع 14/24، المهذب 2/307، الإشراف علی نکت مسائل الخلاف 2/601، حلیة العلماء 5/58، الحاوی الکبیر 6/436.
4- 4 . تذکرة الفقهاء 14/342.
5- 5 . تذکرة الفقهاء 14/343.

وقال: «لیس للمضمون له مطالبة المضمون عنه بل یطالب الضامن خاصةً عندنا. وقال الشافعی وأبوحنیفة وأحمد وغیرهم: یرجع علی من شاء من الضامن والمضمون عنه.

وقال مالک: إنّه لا یطالب الضامن إلاّ عجزعن تحصیله من الأصیل لغیبته أو إعساره لأنّ الضمان وثیقة فلا یستوفی الحقّ منها إلاّ عند تعذّره کالرهن...»(1).

2- «ضمان عهدة العوضین لکلٍّ من البائع والمشتری عندنا

2- «ضمان عهدة العوضین لکلٍّ من البائع والمشتری عندنا کما فی الإیضاح»(2)

نحو: إذا ضمن شخصٌ للبائع عهدة الثمن عند ظهور کون الثمن لغیر المشتری أو إنکشاف بطلان البیع. أو إذا ضمن للمشتری عن البائع عهدة المبیع إن ظهر کونه للغیر أو إنکشاف بطلان البیع فحینئذ اجتمعت ذمّتان: ذمّة الضامن وذمة البائع أو المشتری مع وحدة المال المضمون به فیجوز للبائع الرجوع إلی المشتری أو الضامن وکذلک یجوز

للمشتری الرجوع إلی البائع أو الضامن، فیجوز اجتماع ذمّتان لمال واحد.(3) هذا توضیح تنظیر الشیخ الأعظم.

وأمّا کلمة «عندنا» الظاهرة فی الإجماع فَهِیَ مفقودة فی کتاب إیضاح الفوائد لفخرالمحقّقین رحمه الله ، نعم هی موجودة فی تذکرة الفقهاء لوالده العلاّمة حیث یقول فی شأن ضمان العهدة: «... وهذا الضمان «عندنا» صحیح إن کان البائع قد قبض الثمن، وإن لم یکن قد قبض لم یصح»(4).

ولعلّ الشیخ الأعظم نقل نسبة هذا الإجماع إلی فخرالمحقّقین عن کلام سیّد مشایخه السیّد المجاهد فی مناهله حیث یقول فی ضمان العهدة: «هل هذا القسم ناقل أیضا أو لا، بل هو ضمُّ ذمّةٍ إلی ذمّةٍ صرّح بالأوّل فی التحریر... وصرّح بالثانی فی الإیضاح والتنقیح وهو ظاهر مجمع الفائدة، بل نبّه الأوّل علی دعوی الاتفاق علیه، قائلاً:

ص:248


1- 6 . تذکرة الفقهاء 14/344، مسألة 525.
2- 7 . المکاسب 3/507.
3- 1 . راجع هدی الطالب 5/573.
4- 2 . تذکرة الفقهاء 14/330.

ضمان العهدة ضمٌّ عندهم»(1).

3- «ضمان الأعیان المضمونة علی ما استقر به فی التذکرة وقّواه فی الإیضاح»

(2)

نحو: إذا ضمن لمستعیر الذهب والفضة أو للمال المغصوب فحینئذ یجتمع ذمّتان بمال واحد ویجوز للمالک المعیر الرجوع إلی کلٍّ من المستعیر أو الضامن، أو للمالک المغصوب منه الرجوع إلی کلٍّ من الغاصب أو الضامن.

قال فی تذکرة الفقهاء: «الأعیان المضمونة کالمغصوب والمستعار مع التضمین أو کونه أحد النقدین والمستام والأمانات إذا خان فیها أو تعدّی فله صورتان:

الأولی: أن یضمن ردّ أعیانها وهو جائز لأنّه ضمان مال مضمون علی المضمون عنه وبه قال أبوحنیفة وأحمد... إذا ثبت هذا فإن ردّها الضامن أو الغاصب بری ء من الضمان. وإن تلفت وتعذّر الردّ فهل علیه قیمتها؟... .

الثانیة: أن یضمن قیمتها لو تلفت. والأقوی عندی الصحة لأنّ ذلک ثابت فی ذمّة الغاصب فصحّ الضمان...»(3).

وقال أیضا: «وفی ضمان الأعیان المضمونة والعهدة إشکال أقربه عندی جواز مطالبة کلّ من الضامن والمضمون عنه بالعین المضمونة(4). أمّا الضامن فللضمان وأمّا المضمون عنه: فلوجود العین فی یده أو تلفها فیه. وفی العهدة إن شاء المشتری طالب البائع وإن شاء طالب الضامن لأنّ القصد هنا بالضمان التوثیق لا غیر...»(5).

ونسبة الأقوئیة إلی الإیضاح غیر تام بل یراه الفخر غیر صحیح لأنّه قال ذکر الإشکال: «والأصح أنّه لایصح»(6).

ص:249


1- 3 . المناهل /139 طبع الحجری، نقل عنه فی هدی الطالب 5/574.
2- 4 . المکاسب 3/507.
3- 5 . تذکرة الفقهاء 14/321، مسألة 511.
4- 1 . فی المصدر: المغصوبة.
5- 2 . تذکرة الفقهاء 14/336، مسألة 520.
6- 3 . إیضاح الفوائد 2/85.
4- «ضمان الاِثْنَیْنِ لواحدٍ

کما اختار ابن حمزة(1) وقد حکی فخرالدین(2) والشهید(3) عن العلاّمة فی درسه أنّه نفی المنع عن ضمان الاِثْنَیْنِ علی وجه الاستقلال، قال: ونظیره فی العبادات: الواجب الکفائی وفی الأموال [ک-(4)] الغاصب من الغاصب»(5).

فی هذا الفرض صورتان: وأقوال وإشکال للتنبیه علی ذلکَ أذکر کلام الفقیه العاملی فی المقام حتّی یظهر الأمر لک، فما ذکره الشیخ الأعظم لایتم إلاّ علی إحدی الصورتین وعلی أحد الأقوال فیها مع وجود إشکال فی المقام.

قال فی مفتاح الکرامة: «ضمان الإثنین إمّا أن یقع علی التعاقب أو دفعة، فإن وقع علی التعاقب فمن رضی المضمون له أوّلاً بضمانه انتقل المال إلی ذمّته وبطل ضمان الآخر، سواء کان هو السابق أو اللاحق کأن یقول: رضیت بضمان زید السابق دون عمرو اللاحق أو بالعکس، أو یقول: رضیت بضمان زید السابق ورضیت بضمان عمرو اللاحق أو بالعکس. وأمّا إذا رضی بضمان کلّ واحدٍ منهما دفعة کأن یقول: رضیت بضمان کلّ واحدٍ منکما انتقل المال إلی ذمّة الأوّل، لأنّه إذا رضی بضمان کلّ واحدٍ منهما فقد رضی بضمان الأوّل فینتقل المال إلیه فلا یصادف ضمان الثانی ولا الرضا به حقّا علی المضمون

عنه فیبطل.

وأمّا إذا وقع ضمان الاثنین دفعةً، فإن وقع رضا المضمون له بضمان کلّ واحدٍ علی التعاقب کأن یقول: رضیت بضمان زید ورضیت بضمان عمرو صحّ ضمان مَن رضی بضمانه أوّلاً، لانتقال المال بالضمان ورضا المالک إلی ذمّته، فلا یصادف الضمان الثانی ذمّة مشغولة فیبطل. وإن وقع الرضا منه دفعةً فهناک ثلاثة أقوال وإشکال:

ص:250


1- 4 . الوسیلة /281.
2- 5 . إیضاح الفوائد 2/89.
3- 6 . نقل عنهما فی مفتاح الکرامة 16/470.
4- 7 . الزیادة من مفتاح الکرامة 16/470.
5- 8 . المکاسب 3/507.

الأوّل: قول أبیعلیّ(1) وهو صحّة الضمان، فیطالب کلّ واحدٍ بِقِسْطِهِ لا بالجمیع، فإن کانا اثنین طالب کلّ واحدٍ منهما بنصف المال، ولو زادوا فبالحصة بعد اعتبار العدد.

وفیه: أنّه خلاف ما أراده الضامنان واقتضاه العقدان فیبطلان، إلاّ أن تقول: الأصل صحّة الضمان ولا أولویة، وانتقال المجموع إلی کلٍّ من الذمّتین ممتنع، فوجب أن نقول: إنّه انتقل إلی کلّ واحدٍ منهما ما یقتضیه التحاصّ، وهو کماتری لا یجمع بین مقتضی العقدین.

الثانی: التخییر فی مطالبة مَن شاء منهما ومطالبتهما معا، ویسمّی ضمان الاشتراک والانفراد معا، وقد جزموا(2) به فی باب الدیات فیما إذا قال: ألقِ متاعک وعلی کلّ واحدٍ منّا ضمانه، أو قال: إنّی وکلاًّ من الرکبان ضامن. وهو قول ابن حمزة فی المقام، قال فی «الوسیلة»(3): وینقسم الضمان قسمین آخرین: ضمان انفراد وضمان اشتراک، فضمان الانفراد ضمان جماعة عن واحد، ویکون للمضمون له الخیار فی مطالبة المال من أیّهم شاء علی الإنفراد وعلی الاجتماع. وضمان الاشتراک بالعکس من ذلک. ولعلّ حجّته التمسّک بصحّة العقدین فإنّها الأصل.

ونقل الفخر(4) والشهید(5) عن المصنّف [العلاّمة] فی درسه المبارک المیمون توجیهه بأنّ مثله واقع فی العبادات کالواجب علی الکفایة وفی الأموال کالغاصب من الغاصب.

ونظر فیه فی «جامع المقاصد»(6) بأنّ العقدین المتنافیین یمتنع التمسّک بصحّتهما.

ص:251


1- 1 . حکاه عنه العلاّمة فی مختلف الشیعة: فی الضمان 5/467.
2- 2 . منهم المحقّق فی شرائع الإسلام: فی الدیات 4/258، والعلاّمة فی قواعد الأحکام، فی الجنایات فی موجب الدیة 3/664، والشهید الثانی فی مسالک الأفهام: فی تزاحم موجبات ضمان النفس 15/387.
3- 3 . الوسیلة: فی الضمان /281.
4- 4 . إیضاح الفوائد: فی أحکام الضمان 2/89.
5- 5 . لم نعثر علیه ولا علی الحاکی عنه.
6- 6 . جامع المقاصد: فی الضمان 5/341.

ووجه التنافی أنّ انتقال المال إلی ذمّة أحدهما یقتضی أن لاینتقل إلی ذمّة الآخر شیء، فیکون ضمانه باطلاً لانتفاء مقتضاه، ولا نعنی بالباطل إلاّ ما لا یترتّب علیه أثره. وهذا یصلح جوابا عمّا ذکره المصنّف [العلاّمة] إذ فی الغاصب من الغاصب لم یثبت المال فی ذمم متعدّدة، وإنّما وجب علی مَن جرت یده علی المغصوب ردّه علی مالکه عملاً بعموم «علی الید ما أخذت حتّی تؤدّی»(1) فإن تعذّر وجب البدل للحیلولة، وهذا لا یتفاوت الحال فیه بقاء العین وتلفها. ومعلوم أنّه مع بقائها لا تکون فی ذمّة أحد، وإنّما الّذی فی الذمّة وجوب الردّ. فظهر أن لیس هناک مالٌ واحدٌ فی ذمم متعدّدة.

ولک أن تقول: إذا تعذّر البدل للحیلولة کان المال الواحد فی ذمم متعدّدة ولهذا أقرّه علیه ولده والشهید، وظاهر الأوّل وصریح الثانی الرضا به. وقد أوردا(2) علیه لزوم اجتماع العلل علی معلولٍ واحد، إذ العلّة فی براءة ذمّة المضمون عنه ضمان کلّ واحد. وأجابا بأنّها معرّفات أی أمارات لیست بأسباب، وبأنّ براءة ذمّته معلولة لعدم علّة الثبوت وهی الأداء به مع عدم الضمان غیره، وانتفاء عدم الکلّی بوجود جزئیّات کثیرة جائز. ومعناه أنّ عدم انتفاء الإنسان بوجود زید وبکر وعمرو وخالد جائز، فتأمّل، إلاّ أن تقول: إنّ هذا(3) خرج عن الأصل فی خصوص هذا الفرد للنصّ والإجماع فیقتصر علیه من دون تعدّ. وبذلک یجاب عن الحال فی السفینة لتطابق الفتاوی ممّن تعرّض له والضرورة.

الثالث: البطلان، للحصر فی الاُمور الثلاثة، وقد بطل اثنان فتعیّن الثالث. وفی «المختلف»(4) أنّه أقوی. وفی «جامع المقاصد»(5) أنّه أصحّ.

وممّا ذکر یعرف وجه الإشکال، فیکون دائرا بین الأقوال الثلاثة، فیکون منشؤه

ص:252


1- 1 . عوالی اللآلی: 1/224، ح106 و /389، ح22.
2- 2 . إیضاح الفوائد: فی أحکام الضمان 2/89، ولم نعثر علی کلام الشهید.
3- 3 . أی الغاصب من الغاصب.
4- 4 . مختلف الشیعة: فی الضمان 5/467.
5- 5 . جامع المقاصد: فی الضمان 5/342.

أصالة الصحّة، ووقوعه من أهله، ومن اتّحاد الحقّ ومن عدم الأولویة»(1).

اعتراض المحقّق النائینی علی جواب الشیخ الأعظم ومختاره فی حلّ الإشکال
اشارة

قال قدس سره : «ولا یخفی ما فیه من الفساد وذلک لعدم صحة تعدد الضمان العرضی ثبوتا

ولا إثباتا.

وفساد ما ذکره قدس سره من النظائر بالمنع عن تلک النظائر إمّا من حیث الصغری وإمّا من حیث الکبری.

أمّا استحالة تعدد الضمناء عرضا ثبوتا: فلأنّ الذمة فی عالم الاعتبار تکون فی حکم أین خارجی یستقر فیه المال إلاّ أنّ الذمّة لمکان اعتباریتها وسیعة تسع کلّ شیءٍ یصح اعتباره فیها ولهذا یقال بأنها بیداء واسعة، فکما أنّه لایعقل قرار مال واحد فی مکانین عرضا بأن یکون قراره فی أحدهما بعین قراره فی الآخر وفی عرضه فکذلک استحالة قراره فی مکانین خارجیین، وهذا علی ما هو التحقیق فی باب الأحکام الوضعیة من قابلیة تعلّق الجعل بها استقلالاً وأنّ الضمان حکم وضعی مجعول مستقل بالجعل لا أنّه منتزع عن الحکم التکلیفی.

نعم، علی القول بالانتزاع عن التکلیف یمکن تکلیف شخصین أو أشخاص بالأداء علی نحو الواجب الکفائی فینتزع منه وضع وهو الضمان علی نحو التصویر الکفائی حسب منشأ انتزاعه لکنّ القول بانتزاع الضمان عن التکلیف فاسد وهو [الشیخ الأعظم] قدس سره أیضا لم یتکلّم فی المقام علی ذاک الفرض.

وبالجملة فعلی ما هو التحقیق فی باب الضمان فلا یتصور تصویر النحو الواجب الکفائی فیه.

وأمّا عدم ما یدل علیه إثباتا: فلما سنوضحه من أنّ أدلة الضمان فی صورة تعدده یدلّ علی الضمان الطولی الذی هو بمکان من الإمکان ثبوتا حسبما نوضحه إن شاء اللّه.

ص:253


1- 6 . مفتاح الکرامة 16/(471-468).

وأمّا فساد مااستشهد به قدس سره تأییدا لما ادعاه ممّا یکون الضمان فیه عرضیا.

أمّا الضمان علی طریقة الجمهور فهو وإن کان ینطبق علی الضمان العرضی. لکنّه فاسد لا نقول به والاستشهاد بأمر فاسد عندنا مضروب عنه لا نقول به أصلاً.

وأمّا ضمان درک المبیع أو الثمن عند ظهور المستحق: فهو لیس من باب الضمان العرضی بأن یکون الثمن مضمونا علی البائع فی عرض ضمانه علی الأجنبی والمبیع مضمونا علی المشتری فی عرض ضمانه علی الأجنبی بل معنی ضمان الأجنبی للثمن أو المثمن هو أنّه لو تلف المضمون أو امتنع المضمون عنه یکون عوضه علی الضامن، ونتیجة هذا أنّه مع تلف المضمون أو امتناع المضمون عنه لایشتغل إلاّ ذمة

الضامن، ومع وجوده وعدم امتناع المضمون عنه لایشتغل إلاّ ذمة المضمون عنه، فلم یجتمع ضمان المضمون عنه مع ضمان الضامن لکی یکونا عرضیین.

نعم غایة ماهناک وجوب إلزام الضامن للمضمون عنه بالردِّ إلی المالک فی صورة وجود العین، لکن أین هذا من الضمان بمعنی استقرار ذمة الضمان بالمال وکون مال المالک فی صندوق ذمّته کما لایخفی.

وأمّا ضمان الأعیان المضمونة: کالغصب والمقبوض بالعقد الفاسد بأن یضمن الضامن للعین المضمونة لا مااستقر فی الذمة علی تقدیر التلف.

ففیه: مع أنّه محل للخلاف، فإنّ المحکی عن جماعة هو المنع عنه، أنّ معنی ضمانه علی الضامن ثبوت بدله علیه عند التلف من المثل أو القیمة، ووجوب إلزام المضمون عنه بأدائه علی تقدیر وجوده، فلیس هو أیضا من باب الضمانین العرضیین. فإنّ المضمون له علی تقدیر وجود العین لا یرجع إلاّ إلی المضمون عنه، ومع تلفه لیس له الرجوع إلاّ إلی الضامن فلا یکون المال مستقرا فی ذمة الضامن مع قراره فی ذمة المضمون عنه.

وأمّا ضمان الاثنین لواحد: علی نحو الاستقلال بحیث یکون کلّ واحد ضامنا لهذا المال الواحد فی عرض ضمان الآخر فهو عین ما هو المدعی فی المقام فلا وجه لجعله شاهدا للمقام. وعلی نحو التشریک لاینتج إلاّ التشریک فی ضمان واحد لا استقلال کلّ واحدٍ بالضمان، نظیر استقراض شخصین عن واحد، حیث أنّه أیضا موجب

ص:254

لتشریکهما فی الدین لا وقوع تمام الدین فی ذمّة کلّ واحدٍ منهما بالاستقلال.

وأمّا التنظیر بالواجبات الکفائیة فی العبادات، ففیه أنّه علی تقدیر تصویره فی المقام یوجب عدم ضمان کلّ واحدٍ منهما لا ضمان أحدهما علی البدل، وذلک لأنّ المعنی المتصوَّر فی الکفائی فی العبادات علی ماحُقِّقَ فی الاُصول هو تقیید إطلاق خطاب کلّ واحد من المکلَّفین بعدم قیام الآخر به. إذ معنی صلِّ فی الواجب المعین العینی هو وجوب الصلاة علی المخاطب سواء صلی شخص آخر أم لا، ومعنی صلِّ علی المیت کفایة هو وجوب الصلاة علی المخاطب فی ظرف عدم صلاة شخص آخر لامطلقا. وهذا المعنی فی باب الضمان، یوجب عدم ضمان کلّ واحد منهما، ضرورة أنّ ضمان کل واحد یوجب عدم ضمان الآخر لأنّ ضمانه (حینئذ) فی ظرف عدم ضمانه وهو مستلزم لعدم ضمان کلّ واحد منهما کما لایخفی.

بالجملة فَشِئٌ من هذه الموارد لا یثبت صحة الضمان المتعدد عرضا والمتحصل

استحالة تعدد ا لضمناء عرضا ثبوتا وعدم الدلیل علیه إثباتا.

بل التحقیق فی مورد تعدد الضمناء هو طولیة الضمان، وبطولیته یتم الأمور المتقدمة، وما سیجئ من عدم جواز رجوع المالک إلی الغار. بل لیس له الرجوع إلاّ إلی المغرور، وعدم جواز رجوع المغرور إلی الغار قبل الاغترام للمالک، وعدم جواز رجوع الداین إلی المدیون بعد ضمان الضامن عن المدیون، بل یتعیّن علیه الرجوع إلی الضامن، کما أنّ الضامن لا رجوع له إلی المضمون عنه إلاّ بعد أداء ماضمنه إلی المضمون له، وجواز رجوع المالک إلی کلّ واحدة من الأیادی المتعاقبة. وجواز رجوع کلّ سابق إلی لاحقه الذی تلف المال عنده علی تقدیر رجوع المالک إلی السابق.

وتوضیح الضمان الطولی: إنّ معنی المعقول من تعدد الضمناء هو أن یکون أحدهما فیما إذا کانا اثنین مثلاً ضامنا للمالک والآخر ضامنا لما ضمنه الآخر ومااستقر فی ذمته.

وبعبارة اُخری: یکون الأوّل مشتغل الذمة بالمالک والثانی بما اشتغل به ذمة الأوّل، فاشتغال ذمة الثانی یکون فی طول اشتغال ذمة الأوّل، وهذا یتصوّر علی قسمین

ص:255

فإنّه إمّا لایصح للمالک أن یرجع إلی الثانی فی عرض رجوعه إلی الأوّل بل لابد له من الرجوع إلی الأوّل ثمّ الأوّل بعد تأدیته لما فی ذمّته یرجع إلی الثانی، وإمّا أن یصح له الرجوع إلی الثانی کما یصح له الرجوع إلی الأوّل.

غایة الأمر أنّه إذا رجع إلی الثانی لایرجع الثانی إلی الأوّل، وإذا رجع إلی الأوّل فالأوّل یرجع إلی الثانی، وهذا الاختلاف ینشأ من سبب الضمان، فإنّ الضمان إمّا عقدی کما فی مورد التماس المدیون ضمان ما فی ذمته، أو یکون بالاتلاف، أو یکون بسبب الأیادی المتعاقبة، وفی الأوّلین أعنی العقد والاتلاف لا رجوع للمالک إلاّ إلی الضامن الأوّل.

أمّا فی العقدی فلأن الضامن الذی یضمن بالتماس المدیون تَشْتَغِلُ ذمّته بِدَیْنِ المالک بالضمان، ویبرء المدیون المضمون عنه عن الداین ومعه فلیس للداین حینئذ أن یرجع إلی المدیون المضمون عنه لبراءة ذمته عن دینه وإنّما المشتغل به هو الضامن.

ثمّ إذا أدی الضامن ما فی ذمته من الدین تشتغل ذمة المضمون عنه بالضامن فللضامن حینئذ الرجوع إلیه بعد ما أدی إلی المضمون له و... .

ثمّ إنّ أسباب الضمان کما عرفت ثلاثة لا رابع لها:

الأوّل: العقد والأمر المعاملی مثل أمر المدیون بثالث بأداء ما علیه من الدین أمرا معاملیا نظیر أمر صاحب المتاع الحمّال بأن یحمل متاعه فإنّه یجب علیه أداء اُجرة الحمل لأمره به، لا أمرا غیر معاملی نظیر التماس الملتمس عن أحد فی حمل متاعه علی نحو التفضل مثل أوامر الفقراء والمساکین.

الثانی: الإتلاف.

والثالث: الید.

فکما یتصور تحقق ضمان واحد بکلِّ من هذه الأسباب الثلاثة یتصور تعدده أیضا.

فالأوّل کما فی أمر المدیون بأداء دینه فأنّه ضامن للمسؤول عنه فالمسؤل عنه هو الضامن الأوّل الذی یضمن عن المدیون بالتماسه والمدیون هو الضامن الثانی الذی

ص:256

یضمن ما یؤدیه المسؤل عنه فالمدیون ضامن لما ضمنه الضامن بالتماسه.

والثانی کما إذا أتلف أحد بتغریر آخر فإنّ المتلِف ضامن للمالک بإتلافه والغارّ ضامن للمتلِف بتغریره إیّاه.

والثالث کما فی تعاقب الأیادی.

ولهذه الأسباب الثلاثة أحکام مشترکة بین الجمیع وأحکام مختصة ببعضها، والأحکام المشترکة بینها أمران:

احدهما: کون الحق فی الجمیع واحدا مع تعدد الضمناء ویکون کلّ لاحق ضامنا لما فی ذمة الضامن السابق علی ما هو معنی الطولیة نظیر تعدد أمکنة شی ء واحد فی عالم العین طولاً مثل کون المصباح فی المشکوة والمشکوة فی البیت فکما أنّ تعدد أمکنة شی ء واحد طولاً بحسب العین أمر معقول کذلک تعددها بحسب عالم الاعتبار معقول وکما أنّ تعدد أمکنته عرضا فی عالم العین غیر معقول بأن یکون فی مکان فی حال کونه فی مکان آخر کذلک تعددها فی عالم الاعتبار غیر معقول بأن یکون فی ذمة فی حال کونه فی ذمة اُخری.

الأمر الثانی: عدم جواز رجوع السابق إلی اللاحق قبل أداء ما فی ذمّته وهذا الأثر مشترک فی الأسباب الثلاثة وإنْ کان المنشاء مختلِفا حیث أنّ فی الضمان العقدی إلتزام العقدی مقتض لعدم جواز رجوع الضامن إلی المضمون عنه إلاّ بمقدار ما یؤدیه بعد الأداء وفی الضمان بالغرور هو دلیل تلک القاعدة أعنی النبوی المعروف المعتضد بالعمل أو

الإجماع المنعقد علی مضمونه وفی ضمان الید هو قاعدة علی الید فالدلیل مختلف فی الموارد الثلاثة ولکن الأثر واحد.

وأمّا الأثر المختص بکل واحد منها:

فالضمان العقدی یختص بأنّه تابع لما التزم به بقدر الالتزام فإنّ التزم الضامن اللاحق بالتعهد بمافی ذمة الضامن السابق یکون موجبا لبراءة الضامن السابق واشتغال ذمة اللاحق کما کان ضمان الضامن السابق عن المدیون موجبا لبراءة المدیون عن الداین واشتغال الضامن بما یکون فی ذمة المدیون وان التزام الضامن الثانی بما فی ذمة المدیون

ص:257

لا بما ضمنه الضامن الأوّل یکون باطلاً حیث أنّه لم یکن فی ذمته شی ء وکان بریئا بسبب ضمان السابق وعلی فرض صحته یکون موجبا لهدم الضمان السابق وبالجملة فهو تابع لکیفیة الالتزام وهذا بخلاف ضمان الید فإنّ اللاحق فیه ضامن لماضمنه السابق علی ما مرّ شرح القول فیه ویشترک ضمان العقدی مع ضمان الاتلاف فی أنّه لا یتصور فیهما الضمناء المتعددون بحیث یرجع المالک إلی کلّ واحدٍ منهم دون ضمان الید، أمّا الضمان العقدی فلأنّ الضمان علی مذهب الخاصة عبارة عن انتقال ذمة إلی أُخری فقبل ضمان الضامن کان الدین فی ذمة المدیون وبعد ضمانه انتقل الدین عن المدیون إلی الضامن وصار المدیون بریئا عن الدین فما اجتمع اشتغال ذمة المدیون مع اشتغال الضامن معا حتّی یکون ضمانهما طولیا أو عرضیا.

وأمّا ضمان الإتلاف فلأنّه لایعقل قیام الإتلاف بشخصین حتّی یکونا معا ضامنین لمال واحد بل الضامن للمالک لیس إلاّ المتلِف محضا وإنّما الغارُّ ضامن للمتلِف لاللمالک فلیس للمالک إلاّ الرجوع إلی المتلف لا الغارُّ وهذا ظاهر.

وأمّا ضمان الید ففیه یتصور تعدد الضمناء بالنسبة إلی المالک فالضامن الثانی کما یکون ضامنا للأوّل بمعنی کون ذمّته مخرجا لما فی ذمة الضامن الأوّل وللأوّل الرجوع إلیه بعد تأدیة ما فی ذمته إلی المالک بمقدار ما أدّی ضامن للمالک أیضا بمعنی انّ للمالک أن یرجع إلیه دون الأوّل إلاّ أنّه إذا رجع المالک إلیه فهو لا یرجع إلی الأوّل وان رجع إلی الأوّل فالأوّل یرجع إلیه ما لم یکن الأوّل غارا له.

هذا تصویر تعدد الضمناء طولاً فی الصور الثَّلاث(1) والآثار المترتبة علی کلِّ

واحدٍ منها ثبوتا.

وأمّا اقامة الدلیل علیه اثبات:

أمّا الضمان العقدی: فالدلیل علی ضمان الأمر بالعمل أو اداء ما علیه من الدین لیس إلاّ ما یدل علی ضمان المستوفی لمال أو عمل محترم بأمر معاملی فنفس ما یدلّ

ص:258


1- 1 . وفی المصدر: «الثلاثة».

علی ضمان المستوفی لعمل محترم أو مال محترم بأمر من المستوفی أمرا معاملیا یدلّ علی ذاک الضمان الطولی أعنی ثبوت عهدته بما یعمله العامل أو یؤدیه الملتمس عنه واستقرار الضمان علیه بفعل الملتمس عنه ما التمس منه من الفعل أو أداء الدین ونحوه فقبل صدور العمل من العامل لا یکون للآمر ضمان إلاّ بنحو القوة بمعنی أنّ للعمامل أنْ یعمل لکی یصیر الآمر ضامنا وبعمل المأمور ما التمس منه یثبت الضمان علی الآمر ویستقر ذمته بما أداه ولا یخفی أنّ ما تصورناه فی عالم الثبوت ینطبق علی ما یستفاد من الدلیل فی مرحلة الإثبات من غیر إشکال.

وأمّا ضمان الاتلاف: فالدلیل علیه هو النبوی المعروف (المغرور یرجع إلی الغارّ) ولو نوقش فی سنده ولو بعد الاعتضاد بالعمل فیتمسک بالاجماع حیث أنّه لاخلاف فی حکم رجوع المغرور إلی الغار وکون الحکم به إجماعیا وحیث أنّ الثابت من الدلیل هو صحة رجوع المغرور بما اغترم ویکون بعنوان التدارک عمّا یغترمه فلا جرم لا یکون رجوعه إلاّ بعد الاغترام وهذا ما ذکرناه من طولیة الضمان أی کون الغارِّ ضامنا لما یغترمه المغرور ویؤدیه إلی المالک بعد الاغترام.

وأمّا ضمان الید: فالدلیل علیه انما هو الحدیث المبارک المعروف «علی الید ما اخذت حتّی تُؤَدِّیَهُ». وتوضیحه علی وجه یوافق مع ما تصورناه ثبوتا من الضمان الطولی أن یقال معنی ضمان العین هو اعتبار قرار المال فی صندوق الذمة نحو قراره فی الصندوق الخارجی ومقتضی دلالة علی الید هو تعلق الذمة بما استقر علی الید بنفس استقراره لا ثبوت ضمانه علیه عند تلفه بحیث یکون لقرار الضمان علی الذمة حالة منتظرة إلی حین التلف إذ هذا شعر محض لا ضرورة فیه، نعم فعلیة الضمان وظرف مطالبة الضامن بالمثل أو القیمة إنّما هو بعد التلف لا أنّ اصل ضمانه یکون بعد التلف لکن العین الخارِجِیَّةَ(1) باستقرار الید علیها لا تثبت فی الذمة إذ هی غیر قابلة لأن تثبت فی الذمة بل الثابت فی

الذمة باعتباره فیها اعتبارا عقلائیا هو ما یناسب قراره فیها نظیر ضرورة لزوم مناسبة

ص:259


1- 1 . فی المصدر: «الخارجی».

المظروف مع ظرفه فالثابت فی الذمة من العین الخارِجِیَّةَ هو الأمر المجرد الذی هو بدل من العین الخارِجِیَّةَ ویکون ثبوته فیها علی نحو البدلیة فمقتضی علی الید ما اخذت بالنسبة إلی الید الأوّل أعنی عموم الموصول هو إثبات العین الخارِجِیَّةَ فی ذمة الضامن علی نحو یناسب ثبوتها فیها فباستقرار المال فی ید الضامن الأوّل یثبت بدله فی ذمته بحکم عموم علی الید ثمّ إذا استقر علی ید الضامن الثانی یکون المال الذی قد استقر بدله فی ذمة الضامن الأوّل مستقرا علی ید الضامن الثانی فبحکم عموم الموصول فی علی الید یثبت فی ذمة الضامن الثانی بمثل ثبوته فی ذمة الضامن الأوّل لکن ثبوته فی ذمة الضامن الثانی لما کان بعد ثبوت بَدَلِهِ فی ذمة الضامن الأوّل فلا جرم یکون هو بما ثبت بدله فی ذمة الأوّل ثابتا فی ذمة الثانی فعموم علی الید یدلّ علی ضمان الأوّل والثانی معا لکن ضمان الأوّل یکون للمال بما هو هو وضمان الثانی یکون للمال بما هو ثابت فی ذمة الضامن الأوّل، والسر فی ذلک هو انّ العموم المذکور ینحل إلی قضایا متعددة بعدة موضوعاتها فکلّ ید عادیة یخصها فرد من الحکم ومقتضی کلّ واحدة من هذه الأحکام هو ثبوت ما علی الید فی ذمة صاحب الید علی نحو استقراره علی الید فان استقر علی الید بماله من المنفعة فیستقر فی الذمة کذلک وإن استقر علی الید بلا بدل فیستقر فی الذمة بلا بدل وإن استقر فی حالة له البدل فیثبت فی الذمة بما له من البدل.

والحاصل: إنّ مقتضی انحلال العموم هو ثبوت ما علی الْیَد فی ذمة صاحب الید بماله من اللون من کونه مع المنفعة أو بلا منفعة ومع البدل أو مع عدمه وحیث انّ استقرار المال علی ید الغاصب الأوّل یکون بلا بدل فیکون ثبوته فی ذمته أیضا کذلک بلا بدل وحیث أنّ قرار الضمان علی الضامن الثانی یکون بعد ثبوت بدله فی ذمة الضامن الأوّل فیکون ثبوته فی ذمة الثانی بما له من البدل ونتیجة هذا صحة رجوع المالک إلی الضامن الثانی کصحة رجوعه إلی الضامن الأوّل لکون الثانی ضامنا للمالک کالأوّل وصحة رجوع الضامن الأوّل إلی الثانی إذا رجع المالک إلیه بعد تأدیة ما فی ذمته إلی المالک بمقدار ما أدّی وعدم صحة رجوع الضامن الثانی إلی الأوّل إذا رجع المالک إلی الثانی فیما إذا لم یکن فی البین غرور.

ص:260

وقد تحصل أنّ الاستدلال بعموم علی الید لإثبات الضمان الطولی بالمعنی المتقدم فی الأیادی المتعاقبة المصحح لمذهب المشهور من صحة رجوع المالک إلی کلّ من تلک

الأیادی وصحة رجوع کلّ سابق إلی لا حقه إذا رجع المالک إلی السابق والمترتب علیه الفروع الآتیة یتم بأمرین: احدهما إنّ ثبوت الضمان لایتوقف علی تلف العین بل هو ثابت مع وجودها أیضا إلاّ أنّ فعلیة الضمان وظرف مطالبة المالک عن الضامن بالمثل أو القیمة هو ظرف التف. وثانیهما إنّ مقتضی انحلال عموم علی الید وتخصص کلّ حکم من تلک الأحکام المنحلة بموضوعه علی ما هو علیه هو ثبوت ضمان العین علی الید فإن کان مع البدل فمع البدل وإن کان بلا بدل فبلا بدل وبعد تمامیة الأمرین نقول قرار العین علی ید الضامن الأوّل یکون بلا بدل فیضمنه الضامن الأوّل بلا بدل وقرارها علی ید الضامن الثانی یکون بعد ثبوت بدلها علی ذمة الضامن الأوّل فیضمنه الضامن الثانی بما له بدل فی ذمة الضامن الأوّل والحاصل إنّ مال المالک إذا استقر علی ید الضامن الثانی بعد قرار بدله فی ذمة الضامن الأوّل یحتمل أنْ یکون قرار ضمانه فی ذمة الضامن الثانی مع قطع النظر عن ثبوت بدله فی ذمة الضامن الأوّل فیکون الضامن الثانی ضامنا للمالک فی عرض ضمان الضامن الأوّل وهذا معنی الضمان العرضی ویحتمل أن یکون ما ثبت بدله فی ذمة الضامن الأوّل ثابتا فی ذمة الضامن الثانی مع ماله من لون ثبوت بدله فی ذمة الأوّل فیکون الضامن الأوّل ضامنا للمالک ماله والضامن الثانی ضامنا للمالک ماله الذی ثبت ضمانه علی الأوّل وهذا معنی الضمان الطولی فیکون ذمة الثانی مخرجا لما فی ذمة الأوّل.

هذا بحسب عالم الثبوت وأمّا بحسب مرحلة الاثبات فالمتعین هو الاحتمال الأخیر وذلک لوجوه الأوّل: استحالة الضمان العرضی مع تعدد الضمناء بالبیان المتقدم حیث أثبتنا استحالة کون مال واحد فی ذمتین عرضا کاستحالة قراره فی مکانین خارجیین. الثانی: انحلال عموم علی الید بأحکام متعددة حسب تعدد موضوعاتها واختصاص کلّ حکم بموضوعه بماله من الخصوصیات وقد تقدم شرحه. الثالث: اطلاق دلیل علی الید فان مقتضی إطلاقه اشتغال ذمّة کلّ ذی ید بما حصل عنده علی ما هو علیه فتجرید المال عن کونه فی ذمة الضامن الأوّل وإثباته فی ذمة الضامن الثانی مجردا عن

ص:261

تقیده بالثبوت فی ذمة الأوّل کما کان ثابتا فی ذمة الأوّل مجردا عن التقید بثبوته فی ذمة اُخری یحتاج إلی مقید لإطلاق دلیل الید مفقود حسب الفرض ومع عدم ما یوجب التقیید یکون المحکم هو الإطلاق. وممّا ذکرنا ظهر الفرق المتقدم إلیه الاشارة بین الضمان الحاصل بسبب الید وبین الضمان الحاصل بسبب العقد أو الغرور حیث أنّ تعدد الضمناء لا یتصور إلاّ فی الأوّل دون ضمان الغرور والعقد وأنّ التعدد فی ضمان الید طولی لا

عرضی وانْطَبَقَ ما تصورناه فی مرحلة الثبوت علی مادلّ علیه الدلیل فی مرحلة الإثبات وبه تم مذهب المشهور واندفع جمیع ما یتصور فی المقام من الإشکالات»(1).

اعتراض السیّد الخوئی علی أُستاذه النائینی
اشارة

قال: «ولکنّه ممّا لا یمکن المساعدة علیه لا بحسب المبنی ولا بحسب البناء.

أمّا فساد ما أفاده بحسب المبنی: فهو من أجل أنّ الوجوب الکفائی عنده قدس سره لیس عبارة عن الوجوب المشروط بعدم امتثال الآخر، بل هو سنخ من الوجوب یغایر الوجوب المشروط وتوضیح ذلک الإجمال: أنّ المولی تارةً یری المصلحة فی خصوص فعل معیّن ویقوم غرضه به علی نحو التعیین، فیتعلّق شوقه به تعیینا لأنّه مقتضی کون الفعل ممّا یقوم به غرضه سیّما علی المسلک المشهور من تبعیة الأحکام للمصالح أو المفاسد فی متعلّقاتها، وهذا یعبّر عنه بالوجوب العینی وهو واضح.

واُخری یری المولی المصلحة فی کلِّ واحدٍ من الفعلین علی نحو یتساویان فی إفادة الغرض، وکلّ واحد من الفعلین یقوم بغرضه ویفی به، وفی مثل ذلک لا وجه لتعلّق شوقه بأحد الفعلین علی التعیین، لأنّه ترجّح بلا مرجّح وهو مستحیل، فلابدّ من أن یتعلّق شوقه بأحدهما علی نحو التخییر کما فی مثل الکفّارات الثلاث ویعبّر عنه بالوجوب التخییری.

ومنه یظهر الحال فی تصویر الوجوب الکفائی وأنه إذ رأی المصلحة فی فعل معیّن من غیر خصوصیة للفاعلین فی تحصیل غرضه کما إذا کان المولی عطشانا فأمر أحد

ص:262


1- 1 . المکاسب والبیع 2/(296-283).

غلمانه العشرة بسقیه ومجیئه بالماء بأن یقول فلیجئ أحدکم بالماء، لایمکن أن یتعلّق شوقه باتیان أحدهم علی نحو التعیین، إذ لاوجه للترجّح من غیر مرجّح، بل یتعلّق شوقه بإتیان أحدهم علی نحو التخییر، فالفرق بین الکفائی والتخییری أنّ فی الکفائی تلغی خصوصیات الفاعلین وفی التخییری تلغی خصوصیات الأفعال.

وکیف کان، فلیس الوجوب الکفائی عنده عبارة عن الوجوب المشروط بعدم امتثال الآخر حتّی یستشکل بذلک فی تصویره فی الضمان. وبناء علی ما ذکرناه لا مانع من تصویره فی المقام، کما یمکن تصویر الوجوب التخییری فیه، فإنّه کما لا مانع من أن تتحقّق فی ضمان أحد الأشخاص لمال معیّن، هذا کلّه بحسب المبنی.

وأمّا فساده بحسب البناء: فلأنّا لو أغمضنا عمّا أشرنا إلیه آنفا وبنینا علی أنّ الوجوب الکفائی عبارة عن الوجوب المشروط بعدم إتیان الآخرین، فلا مانع من تصویر مثله فی الضمان فی الأیادی المتعاقبة، وذلک لأنّ الشرط حینئذ لیس عبارة عن عدم ضمان الآخرین حتّی یقال إنّ مرجع ذلک إلی أنه لا ضمان فی شخص منهما فعلاً، لأنّا إذا قُلْنا بضمان هذا الشخص فذاک غیر ضامن کما أنه إذا قلنا بضمان الثانی فالأوّل لیس بضامن، بل الشرط إنّما هو عدم امتثال الآخر فی التکالیف وعدم أداء الآخر ما فی ذمّته فی الضمان، إذ لو علّقنا الوجوب فی حقّ أحدهما علی عدم الوجوب للآخر منهما، فکما لایعقل ذلک فی الضمان لرجوعه إلی عدم ضمان شخص منهما فعلاً، کذلک لایعقل ذلک فی الواجبات والأحکام التکلیفیة لأنّ مرجعه إلی عدم الوجوب بشیء منهما فعلاً، لأنّا إذا حکمنا بوجوبه علی هذا الشخص فالآخر غیر واجب علیه کما إذا حکمنا بوجوبه علی ذاک الشخص فعلی الأوّل غیر واجب ولایمکن أن یکون الفعل واجبا علیهما معا.

وکیف کان، فالشرط إنّما هو عدم امتثال الآخر للأمر فی الوجوب الکفائی وفی الضمان الکفائی عبارة عن عدم أداء الآخر للبدل، وعلیه فکما یعقل تصویر الکفائی فی الأحکام التکلیفیة کذلک یعقل تصویره فی الضمان، إذ لا مانع من أن یحکم بضمان هذا الشخص لو لم یؤدّ الثانی البدل، ویحکم بضمان ذاک إن لم یؤدّه الأوّل منهما، فیکون ضمانا مشروطا بعدم أداء الآخر، وهو ممّا لا محذور فیه.

ص:263

بل لو فرضنا أنّ شخصین تصرفا فی مال الغیر فی زمان واحد من دون أن یسبق أحدهما الآخر فی وضع یده علیه، لا یمکن فیه الالتزام إلاّ بضمان أحدهما علی نحو التخییر والوجوب الکفائی، إذ الحکم بضمانهما معا غیر صحیح، لأنّ المال الواحد لا معنی أن یکون له بدلان، والحکم بعدم ضمانهما بوجه ممّا لا یمکن التفوّه به فیتعیّن أن نحکم بضمان أحدهما لا علی نحو التعیین، فهذا الشخص محکوم بالضمان مشروطا بعدم أداء الثانی البدل کما أنه محکوم به إن لم یؤدّ بدله الضامن الأوّل.

فالمتحصّل من جمیع ذلک: أنّ ما أفاده شیخنا الأنصاری قدس سره من تصویر الضمان الکفائی فی الأیادی المتعاقبة هو الصحیح، وأنّ مسلک العامّة فی باب الضمان أمر ممکن وغایة ما هناک أنه لم یقم علیه دلیل فی باب الضمان، بخلاف المقام فالالتزام به فی المقام ممّا لا مانع منه، وهذا بخلاف الالتزام به فی باب الضمان لعدم الدلیل علیه هناک، بل الدلیل قائم علی عدمه فی ذلک الباب.

نعم یظهر من بعض کتب العلاّمة(1) قدس سره أنّ مسلک الجماعة أمر غیر معقول، إلاّ أنّک عرفت أنه أمر یمکن غایة الأمر أنّ الدلیل لم یساعده فی باب الضمان...»(2).

مناقشة السیّد الخوئی فی بیان الأُستاذ المحقّق - مدظله -

قال: «یرد علی السیّد الخوئی قدس سره أوّلاً: أنّه بناءً علی تصویر تعلّق التکلیف بالکلّی مع الغص عن صحته وعدمها فی الواجب الکفائی فهو غیر منطبق فی باب الضمان، لأنّ تحقّق ا لضمان مبنیٌّ علی أربعة قواعد وهی: أقوائیة السبب عن المباشر وقاعدة الإتلاف وقاعدة الغرور وقاعدة الید. ومن المعلوم أنّ موضوع الضمان قائم بالشخص، أمّا السبب فقائم بالوجود الشخصی ومن المستحیل قیام السبب بالشخص والمسبَّب بالطبیعی والکلّی لاستلزامه تخلّف السبب عن مسبّبه والحکم عن موضوعه، واعتبار ضمان الإتلاف الصادر عن الشخص کلّیّا یعنی استلزام تعلّق الضمان بالطبیعی عند صدور الفعل

ص:264


1- 1 . راجع التذکرة 2/93، البحث الرابع، النظر الأوّل (14/343).
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/(103-101).

عن الشخص وهو ممنوع. لأنّ المستولی هو الشخص دون الطبیعة ولو سُلّم فإنّ المستولی حصة الطبیعة دون الطبیعة بنفسها، وموضوع الضمان فی قاعدة الید هی الید المستولیة علی العین دون الطبیعة أو حصّتها.

وثانیا: حتّی لو سلّمنا إمکان قیام السبب بالوجود الشخصی والمسبب من خلال الکلّی ونعنی بذلک قیام السبب بالشخص والحکم بالطبیعة فإن مشکلة وهی تعدّد الضمان ووحدة المضمون لاتزال(1) باقیة، کما إنّ الالتزام بأنّ الضمان یتعلّق بالکلّی ویسقط بأداء الفرد عاجزُ عن رفعها، لأنّ أداء الفرد المسقِط لضمان الکلّی فرعُ اشتغال ذمّة الفرد وضمانه، ولولاهما لما سقط ضمان الکلّی، وهکذا یعود الإشکال مرّةً اُخری، حیث أنّ مصادیق الکلّی متعدّدة وکلّ واحدٍ منها یعدّ بأداءه مسقطا للضمان عن بقیّة مصادیق الکلّی، وهکذا تتعدّد الذمم الضامنة مع وحدة المضمون.

وثالثا: إنّ قیاس المقام مع ملکیّة الکلّی، یعدّ قیاسا مع الفارق، فالملکیّة فی الأخیرة قائمة باعتبار المعتبِر، سواءً کان الجاعل المعتبر شارعا أو غیره، فیعتبر العرف الملکیّة لعنوان کلّی کالأوقاف والوصایا العامّة، الموضوعة ویرتّب علیها الأثر کعنوان الإمام وابن السبیل والفقیر، فإنّ المالک فی هذه الموارد عنوان کلّی ذات مصادیق عدیدة،

ولا مانع من ذلک، لأنّ سبب الملکیّة الکلّیة حاصل من خلال جعل الجاعل واعتباره، فمن حقّه الجعل والاعتبار، فقد یکون کلیّا وقد یکون جزئیّا، فإذا کان کلیّا کانت مصادیقه کلّی الأفراد المنطبقة علیها العنوان المجعول، أمّا إذا کان السبب المجعول جزئیّا قائما بالشخص، فحینئذٍ لایعقل فرض المصادیق المجعولة کلیّا برغم جزئیّة السبب کما فی المقام، حیث أنّ عنوان الضمان متعلّقٌ بخصوص ذمّة المستولی علی المال، ولذلک کان الصحیح أن یُقاس المقام بباب الحیازة - حیث أنّ سببها قائمٌ بالشخص وهو الرجل المعیّن الذی یقوم بعملیّة الحیازة - دون الملکیّة الکلّیة.

ورابعا: أمّا تنظیره المقام بباب الواجب الکفائی، وتصویر الضمانات المتعدّدة

ص:265


1- 3 . فی المصدر: «تضلّ».

لمضمون واحد بنحو الوجوبات المتعدّدة فی الواجب الکفائی، بأن یکون ضمان کلّ واحد مشروطا بعدم أداء الآخر لا بعدم الآخر لیستلزم المحال، فممنوعٌ لجهتین:

الجهة الأولی: استلزام القول به فسادا لا یمکن الالتزام به، وهو ما أشار إلیه المحقّق النائینی فی مباحثه الأصولیّة، من أنّه لو اعتبرنا التکلیف بغُسل المیّت متوجّها إلی کلّ فرد بشرط عدم قیام غیره بذلک، فإنّ تالیه الفاسد ترتّب التکلیف علی کلّ فرد عند ترک الجمیع، وصیرورة کلّ فرد موضوعا للوجوب العینی، بعد انقلاب الواجب الکفائی إلی الواجب العینی، وتلافیا لهذا الإشکال اضطرّ المحقّق النائینی إلی الإلتزام بالإرادة المردّدة(1) فی مثل الواجبات الکفائیّة، وبالتالی فلو شرطنا الضمان فی المقام بعدم أداء الآخر، فإنّ لازمه ثبوت الضمان بعدد جمیع الأیادی عند امتناع الجمیع عن الأداء، وهو کرٌّ علی ما فرَّ منه. والعجب أنّ السیّد الخوئی لم یتعرّض لهذا الإشکال والإجابة عنه، بل اعتمد علی هذا المبنی الفاسد فی ردّه علی المحقّق النائینی، وفی اعتقادی أنّ سبب إعراض النائینی وتأکیده علی مبناه المذکور، فراره عن هذه الملازمة الفاسدة.

الجهة الثانیة: حتّی لو سلّمنا الواجب الکفائی حسب تصویر المحقّق النائینی، واعتبرنا جمیع الأیادی ضامنة بشرط عدم الأداء، فهو برغم ذلک غیر کافٍ فی دفع الإشکال، لأنّ الأداء وعدم الأداء فرعی ثبوت الضمان، ومادام لا ضمان لا یعقل تحقّق موضوعی الردّ والأداء.

وبعبارة أُخری: یجب أوّلاً تحقّق الضمان بقاعدة الید، لیأتی بعده للحدیث عن أداء الضامن وعدم أداءه.

ومع ملاحظة هذه المقدّمة، فإنّ اشتراط ضمان کلّ واحدٍ بعدم أداء الآخر، یستلزم الدور الممنوع، لأنّ ضمان کُلِّ فَرْدٍ یتوقّف علی عدم أداء الآخر وبالعکس، فضمان الأوّل متوقّف علی عدم أداء الآخر الذی هو متفرّعٌ بنفسه علی ضمان الأوّل، وهذا دورٌ مع

ص:266


1- 1 . الارادة المرددة تحقّق فی موردین: أ: فی ما إذا کان وجود المتعلّق وجودا قائما بالإرادة المردّدة مع تعیّن المراد کما فی الواجب التخییری. ب: فی ما إذا کان وجود المتعلق وجودا قائما بالإرادة المرددة مع تردّد المراد کما فی الواجب الکفائی.

الواسطة، لتوقّف ضمانه علی عدم ضمان الأوّل، وکذلک الأمر فی الطرف الآخر، وبالتالی فضمان کلّ طرف متفرّع علی ضمان الطرف الآخر، ممّا یستلزم الدور الْمُحال»(1).

حلّ المشکلة فی بیان المحقّق الخراسانی ونقده

قال قدس سره فی حاشیة مکاسبه: «والتحقیق أن یقال: إنّ قضیة «علی الید» لیس إلاّ کون المأخوذ فی تعاقب الأیدی العادیة فی عهدة کلّ واحدة منها عینا، کما إذا کانت وحدها، وهی لیست إلاّ اعتبار خاص عقلائی له منشاء مخصوص وله آثار خاصة، من وجوب ردّ العین عینا لو کانت الید واحدة، وکفائیا لو کانت متعددة، ووجوب التّدارک بالبدل مع تعذّر ردّها، أو تلفها من دون اشتغال الذّمة به أصلاً، لا حال التّمکن من الرّد، کما هو واضح، ولا حال التّعذر، أو التّلف، وذلک لبقاء ضمان العین وعهدتها، لعدم مجیء الغایة، وهی التأدیة، ولذا یجب فی صورة التّعذر، لو تدارک ردّ العین نفسها إذا تمکن منه، وکذا مع التّلف، لو اتّفق علی خلاف العادة، تمکنّه من ردّها، ومعه لاوجه، ولا سبب لاشتغال الذّمة ببدلها، کما لایخفی، کی یلزم اشتغال ذمّة المتعدّد ببدل واحد المستلزم لکون المتعدّد بدلاً عن الواحد، ولایکاد یکون بدل الواحد، إلاّ الواحد، وأمّا کون الواحد فی عهدة المتعدّد، بحیث یجب علی کلِّ واحد کفائیّا، ردّه إلی مالکه، وتخییر المالک فی الرجوع إلی الکلِّ، فهو بمکان من الإمکان، کما هو قضیة (علی الید).

وامّا حدیث جواز رجوع الید السّابقة إلی اللاحقة، لو رجع إلیها المالک، المستلزم لکون قرار ضمان التّالف علی مَنْ تلف عنده، مع المساواة فیما هو سبب الضمان، فهو أیضا من آثار حدوث سبب ضمان ما کان، فی ضمان الآخر، لواحد آخر، وأحکامه عند العرف، ویؤیّده الاعتبار، ولم یردع عنه فی الأخبار؛ فلابدَّ من الاِلْتِزامِ به شرعا، کما هو الحال فی جلّ أحکام الضمان، حیث انّه لاوجه له إلاّ الثّبوت عرفا، وعدم الرّدع عنه

شرعا، وکشف ذلک عن إمضاء الشارع، فیما إذا أطلق دلیل الضّمان، فتدبر جیّدا؛ وقد

ص:267


1- 1 . العقد النضید 4/(48-45).

انقدح بذلک ما فی کلامه من مواضع النظر، کما یشیر إلیه»(1).

ولکن یرد علیه أوّلاً: لیس ضمان الید عقلائیا ولاسیّما مع تعاقب الأیادی علی وجه یفتی به الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - فلابدّ من الرجوع إلی قاعدة الید التعبدیة.

وثانیا: ما ذکرهُ قدس سره لایرفع الإشکال ولاسیّما علی مسلکه فی الواجب الکفائی من أنّه سنخ وجوب متعلَّق بالکلِّ ولو أتی الجمیع به یکون الکلّ ممتثلاً(2) فإنّ تعلّق التکلیف علی کلِّ واحدٍ بأداء البدل عرضا، یلزم منه تعدّد البدل لشی ءٍ واحد. فیرد الإشکال حتّی مع عدم اشتغال الذمم.(3)

وثالثا: ما ذکره قدس سره : من أنّ ذمم الأیادی المتعاقبة جمیعها ضامنة للعین دون البدل مع فرض وجودها ومع تلفها علیهنَّ تدارک العین من المثل أو القیمة والعین واحدة وتدارکها واحد، ولکن یرد علیه: من أنّ هناک تکالیف متعددة علی رغم وحدة العین والتدارک والمضمون والمؤدّی فیعود الإشکال لأنّ مع فرض وحدتها یجب ردّ واحد بتکلیف واحد لا تکالیف متعددة بالردّ.

ورابعا: مع فرض وجود العین لا یمکن فرض ضمانها علی الذمة واشتغال الذمة بها، لأنّه یجب ردّها، ولکن مع فرض تلفها فلابدّ من اشتغال الذمم بتدارکها من المثل والقیمة فیعود إشکال تعدد المضمون والبدل فی مقابل مال واحد.(4)

حلّ المحقّق العراقی ونقده

قال قدس سره فی رسالته المستقلة فی بحث تعاقب الأیدی ما نصه: «ولکن أنت خبیر بأنّ أصل الشُّبْهَة لا موقع لها، فضلاً عمّا التزموا به فی جوابها. وذلک لأنّ الغرض من تعدّد البدل إن کان ما یقوم مقام المبدل فعلاً فهو فی غایة المتانة، ولکن ما علی الأیدی قبل أدائها إلی المالک لا یقوم مقام مبدله إلاّ بعد أدائه المسقط للبقیّة بلا تصوّر تعدّد فی هذا المقام. وإن

ص:268


1- 1 . حاشیة المکاسب /82 و 83.
2- 2 . کفایة الأصول /177.
3- 3 . الإشکالان الأوّلان للسیّد الخمینی رحمه الله فی کتاب البیع 2/480.
4- 4 . الإشکالان الأخیران للأُستاذ المحقّق - مدظله - فی العقد النضید 4/49.

کان المقصود عدم تعدّد ما یصلح للوفاء بغرض المبدل، فإنکاره مساوق إنکار البداهة، إذ إمکان تعدّد الأبدال لشیء واحد بهذا المعنی کالنار علی المنار، ولذا تری لکلّ دواء

ومسهل أبدال متعدّدة، والمفروض أنّ ما علی الأیدی المتعدّدة لیس إلاّ البدل بهذا المعنی لا بالمعنی السابق، کما عرفت.

فإن قلت: ظاهر «علی الید ما أخذت» أنّ نفس العین الشخصیّه علی أیدی متعدّدة لا أبداله، وحینئذٍ یلزم محذور آخر أشدّ من المحذور السابق، وهو أنّه کیف یتصوّر لشیء واحد شخصی وجودات متعدّدة أو أمکنة مختلفة؟

قلت: ما اُفید کذلک لو کان ما علی الأیدی المتعدّدة وجودات حقیقیّة متعدّدة، ولیس کذلک، بل غایة ما فی الباب اعتبار وجودات شخصیّة بتعدّد الأیدی علیها، وتصوّر الوجودات المتعدّدة الاعتباریّة أیضا لشیء واحد فی الوضوح کالشمس فی رابعة النهار. وحینئذٍ فلا قصور فی اعتبار وجود للعین علی کلّ واحدة من الأیدی مستقلاًّ ویقال بأنّ علی کلّ یدٍ وجود شخص «ما أخذت» بالعنایة المزبورة. وبهذه العنایة لا یُحتاج إلی الالتزام بتغییر سیاق العامّ بین من بیده التلف وغیره بجعل الخطاب فی الأوّل وضعیّا وفی غیره تکلیفیّا، ولا إلی الالتزام بوحدة الوجود وتعدّد الإضافة، خصوصا مع أنّ الظاهر من العامّ أنّ ما «علی الید» عین «ما أخذت» لا إضافته بالجملة، فلا قصور فی اعتبار تعدّد وجود «ما أخذت» حسب تعدّد الأیدی بلحاظ تعدّد الأبدال القائمة علیها وبملاحظة أنّ وجود البدل نحو وجودٍ للمبدل، وهذه الجهة هی مصحّح العنایتین فی وجودات العین علی حسب تعدّد الأیدی»(1).

«ویرد علیه: ببطلان قیاسه المذکور، حیث لا مجال لقیاس الاُمور التشریعیّة بالاُمور التکوینیّة، إذ لا مانع فی الأخیرة من جعل أبدال متعدّدة لها برغم وحدة الشیء، وهذا بخلاف الاُمور التشریعیّة، حیث یستحیل أن یتعدّی التشریع عن الملاک، أو أن

ص:269


1- 1 . رسالة فی تعاقب الأیدی /2 و 3، المطبوعة مع قضاء المحقّق العراقی، المطبوعتان فی ضمن کتاب بحوث فی القضاء فی ضمن منشورات جماعة المدرسین بقم المقدسة.

تکون دائرته أضیق من الملاک، وبالتالی إذا لاحظنا ملاک التشریع فی تلف مال الغیر، نجد أنّ الرکیزة والعلّة الأساسیّة التی لأجلها شُرّع بدل المثل فی المثلی والقیمة فی القیمی، هو تدارک فوت العین، وجعل ما یسدّ الخلل الحاصل من فوتها، ومن المعلوم أنّ ذلک لا یتحقّق إلاّ بجعل البدل الفعلی دون الإنشائی، والمفروض وحدة البدل الفعلی، ولذلک یعدّ اعتبار القیم أو الأمثال المتعدّدة وتعلّقهما بذمم مختلفة، برغم وحدة البدل الحقیقی الفعلی أمرا خارجا عن الملاک التشریعی المذکور، فیعود الإشکال مرّةً اُخری، لأنّ الذی فیه

الملاک لیس إلاّ قیمة واحدة أو مِثْل واحد، فیصبح فرض المتعدّد من الذمم المشتغلة بالقیم والأمثال ممنوعا»(1).

جواب المحقّق الإیروانی قدس سره لحلّ الإشکال

قال: «اعلم: أنّ العین فی صورة توارد الأیدی إمّا تکون قائمةً أو تالفةً.

لا إشکال علی الأوّل وأنّ کلّ من جرت یده علیها مکلّف بالأداء ومع حصول الأداء بفعل واحد منهم أو من غیرهم حتّی بمثل إطارة الریح یسقط التکلیف بالأداء.

وأمّا علی الثانی فإمّا أن یکون فی البین غرور أو لا.

لا إشکال علی الأوّل وأنّ قرار الضمان یکون علی الغارّ.

وأمّا علی الثانی فإمّا أن یکون التلف بإتلاف متلف من ذوی الأیدی أو من غیرهم أو لا.

لا إشکال علی الأوّل وأنّ الضمان یکون قراره علی المتلف.

و أمّا علی الثانی فقد حکموا بأنّ قرار الضمان یکون علی من تلفت العین فی یده بعد اشتراک جمیع فی أصل الضمان ولکن مدرک ذلک غیر واضح بل لا وجه لذلک بعد اشتراک الجمیع فی أصل الضمان وسببه وهو الید، بل هناک إشکال آخر یعمّ جمیع صور توارد الأیدی، وهی هذه الصورة منضمة إلی الصور السابقة.

وحاصل الإشکال: هو أنه کیف یعقل ضمان أشخاص متعددّین وإشغال ذممهم

ص:270


1- 1 . العقد النضید 4/50.

ببدل واحد؛ فإنّ اشتغال ذمم متعددّین بالبدل یتصوّر علی وجوه:

الأوّل: ثبوت أبدال متعددّة فی ذمم متعددّة علی أن یکون کلّ ذمّة مشغولة ببدل تامّ.

الثانی: ثبوت بدل واحد فی ذمّة الجمیع علی سبیل التوزیع والتقسیط، فیشتغل کلّ ذمّة بجزء من ذلک البدل، وتشتغل الجمیع بنسبة عددهم أو لا بتلک النسبة.

الثالث: ثبوت بدل واحد معتبر فی ذمّة هذا ثمّ فی ذمّة ذلک وهکذا إلی الآخر.

الرابع: ثبوت بدل واحد علی سبیل البدل فی ذمم أشخاص متعددّین.

فهذه أربع صور، لا إشکال فی معقولیّة الأولیین، إلاّ أنه لایلتزم بهما أحد ولا تساعد علیهما الأدلّة.

وأمّا الثالثة: فهی غیر معقولة، ولازمها أنْ تکون الذمم المتعددّة ذمّة واحدةً، ومثلها فی عدم المعقولیّة الصورة الرابعة، وقیاسها علی الواجب الکفائیّ فیکون هنا الوضع متعلّقا بواحد علی سبیل البدل کما هناک التکلیف متوجّه إلی واحد علی سبیل البدل باطل؛ فإنّ التکلیف أیضا لا یعقل أن یتعلّق بواحد علی البدل، والّذی یعقل هو تکلیف الکلّ، ولکن سقوطه عن البقیّة بإتیان البعض ولو جری مثله فی المقام لزم استحقاق المالک لأبدال متعدّدة لو اجتمع الکلّ علی أداءِ ما فی ذمّتهم، کما یحصل الامتثال بفعل الجمیع لو اتّفق الکلّ علی الامتثال فی الواجب الکفائیّ، لکن ذلک باطل هنا، ولا یلتزم به أحد؛ إذ لا یستحقّ المالک فی جمیع الحالات أزید من بدل واحد.

نعم، یمکن أن یقال باشتغال ذمّة کلّ واحد بدفع ما یسدّ مَسَدَّ العین، وهذا ممّا لا ینطبق علی أزید من بدل واحد، فلو اجتمع الکلّ علی دفع أبدال لم ینطبق عنوان البدل إلاّ علی واحد من تلک الأبدال المدفوعة، ولم یکن للمالک قبض الجمیع بعنوان البدلیّة بل له قبض واحد منها بذلک العنوان، وأیّا منها قبض کان هو البدل وردّ البقیّة إلی أهلها، فحصل الفرق بین المقام وبین الواجب الکفائیّ؛ فإنّ المطلوب من کلّ واحد من المکلّفین هناک هو الطبیعة، وهی تتحصّل فی ضمن أفراد کما تتحصّل فی ضمن واحد بخلاف البدل السادّ مسدّ العین هنا؛ فإنّه لا ینطبق علی أزید من بدل واحد، وذلک الواحد یتعیّن بقبض المالک،

ص:271

کما یتعیّن الحقّ فی کلّ مقام بقبض ذی الحقّ.

والحاصل، أنّ التکلیف بأداء البدل متوجّه إلی الکلّ والذمّة مشغولة من الکلّ، فیجب علی الکلّ تفریغ ذمّته، ولکن الفراغ یحصل بقبض المالک للمال بعنوان البدلیّة، نعم لو قبض الکلّ علی أن یکون واحد منها لا علی التعیین هو البدل أشکل الأمر وحصل الاشتباه والتردّد فی کلّ من الأبدال المدفوعة بین أن یکون مالکه هو أو مالکه هو المالک الأصلیّ، فصار المتحصّل معقولیّة اشتغال ذمم الکلّ علی سبیل التعیین بدفع عنوان البدل، ولکن عنوان البدل عنوان لا ینطبق إلاّ علی بدل واحد، وإذا انطبق علی واحد ارتفع اشتغال الذمّة وارتفع التکلیف، لکن هذا کلّه فی مقام التعقّل.

وأمّا فی مقام الفعلیة ودلالة الأدلّة علیه فدلیل علی الید بناءً علی إفادته للضمان یدلّ علی ضمان الکلّ؛ لاستقلال الکلّ بالید علی العین، وأمّا السقوط بأداء البعض فذلک لیس قصرا فی دلالة الدلیل وتصرّفا فی ظاهره لیحتاج إلی القرینة، بل ذلک من باب ارتفاع الخطاب بارتفاع موضوعه فلا إشکال.

ثمّ، إنّ استفادة الضمان والعهدة من دلیل علی الید موقوف علی أن یکون المراد من الموصول فیه عنوان المال الّذی هو مأخوذ بأخذ العین الشخصیّة، أمّا إذا أرید العین الشخصیّة المأخوذة کان ظاهر الدلیل حینئذٍ مجرّد التکلیف بحفظ العین الشخصیّة المأخوذة حتّی یؤدّیها إلی مالکها، وکان ذلک أجنبیّا عن مسألة الضمان بل عن مسألة ثبوت التلکیف بردّ العین إلاّ علی تقدیر الردّ دون الحفظ، لکن تقدیر الرد والأداء لا یناسب الغایة وقوله: «حتی تؤدّی» فلا جرم یتعیّن تقدیر الحفظ وعدم التعدّی والتفریط فیما أخذت حتّی تؤدّی»(1).

محاولة المحقّق الخمینی قدس سره للإشکال

قال: «إنّ الضمان والغرامة وجبر الخسارة والبدلیة والعوضیة ماهیات لا تقبل التکرار، لا عرضا ولا طولاً فالغرامة لا یعقل أن تتکرّر، بحیث یقع لها مصداقان بصفة

ص:272


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/(346-344).

الغرامة، فإذا کان علیه عشرة فأدّی عشرین، لا یعقل وقوع تمام العشرین بصفة الغرامة.

کما أنّه إذا أدّی العشرة لا یعقل أن تقع العشرة الثانیة غرامة وجبرانا وعوضا وبدلاً، بل فی المثال الأوّل تقع العشرة المشاعة غرامة، وفی الثانی یقع أوّل مصداق غرامة.

فإذا ضمن الإثنان أو الأکثر مال الغیر بضمان الید مثلاً، یقع علی عهدة کلّ المال بعنوان الغرامة، فتشتغل ذمّة کلّ منهما أو منهم بضمان البدل أو ضمان الخسارة، ولازم ذلک - بعد عدم تعقّل التکرار فی الماهیّة - أنّ کلاًّ منهم ضمن ما ضمن الآخر، أی المال بعنوان الغرامة.

کما أنّ لازم ذلک، هو أنّ کلاًّ منهم مکلّف بأداء الغرامة، لکن إذا اغترم أحدهم، سقط باغترامه عنوان الغرامة، والمفروض أنّ ما تعلّق بذمم الباقین، هو المال بعنوان الغرامة والبدلیّة لا غیر، فإذا سقطت البدلیّة والغرامة، ینتفی موضوع الضمان والغرامة.

فالإشکال لیس من ناحیة اشتغال الذمم، بل من ناحیة أنّ اللازم وجوب اغترامات کثیرة لشیء واحد، وقد عُلم أنّ ذلک غیر لازم من اشتغالات الذمم؛ لأنّ کلّ ذمّة مشتغلة - مستقلّة - بعنوان واحد لا یعقل التکرار فیه.

وهذا نظیر کفالة أزید من واحد عن شخص واحد، فإنّ کلاًّ کفیل مستقلاًّ، وعلی عهدة کلّ إحضار المکفول، ولکن عنوان الإحضار أمر غیر قابل للتکرار، ولا یعقل

إحضاران بعد کون المطلوب والمضمون صرف الوجود.

وهذا أمر موافق لاعتبار العقلاء وللأدلّة؛ فإنّ ظاهر «علی الید ما أخذت...»(1) أنّ کلّ أخذ سبب للضمان إذا تلف، فإذا تلف یضمن کلّ آخذ بضمان مستقلّ تعیینا، لکن ماهیّة الضمان تأبی التکرار.

وإن شئت قلت؛ کلّ منهم ضامن لما ضمنه غیره.

وممّا ذکرنا یظهر حال ضمان المهر؛ فإنّ المهر أیضا أمر لا یقبل التکرار، فالزوج

ص:273


1- 1 . مسند أحمد 5/8؛ سنن ابن ماجه 2/802، ح2400؛ سنن البیهقی 6/95؛ عوالی اللآلی 1/224، ح106، و 389، ح22، و 2/345، ح10، و 3/246، ح2، و 251، ح3؛ مستدرک الوسائل 14/7، کتاب الودیعة، الباب1، ح12، و 17/88، کتاب الغصب، الباب 1، ح4.

ضامن لما ضمنه الغارّ، والغارّ کذلک، وإذا أدّی کلّ منهما فی عرض الآخر، لا یقع تمام ما أدّیا مهرا، وهو واضح.

وربّما یقال: إنّ الواحد الذی یعتبر فی محالّ متعدّدة، تارة: یکون واحدا شخصیّا، واُخری: کطبیعیّ البدل واحدا طبیعیّا.

فالأوّل: لا تتبدّل وحدته بفرضها فی محالّ متعدّدة اعتباریّة، بخلاف الثانی، فإنّ طبیعیّ البدل یتحصّص بکلّ ذمّة، ومورد الإشکال هو البدل.

ففرض البدلیّة یقتضی الوحدة، وفرض تعدّد الذمم المقتضی لتعدّد الحصص مناف للبدلیّة.(1)

وفیه: أنّ تعدّد الذمم، لا یوجب تحصّص الطبیعیّ بعد فرض عدم إمکان التکرار فیه، وما یوجب التحصّص هو القیود اللاحقة بالطبیعیّ، لا اعتباره فی الذمم؛ إذ لیس الاعتبار فیها کالوجود الذهنیّ الموجب للتکثّر، ولا برهان علی أنّ الاعتبار - کذلک - مقتض للتحصّص.

بل الواقع علی خلافه؛ لأنّ الماهیّة غیر القابلة للتکرار إذا اعتبرت فی الذمم، تکون ما اعتبرت فی ذمّة عین ما اعتبرت فی الاُخری.

ولعلّ الخلط بین الوجود الذهنیّ والاعتباریّ فی الذمم، موجب للاشتباه، فلا فرق بین الواحد الشخصیّ والنوعیّ فی ذلک أصلاً.

مع أنّ فی الوجود الذهنیّ إذا تعلّق اللحاظ بنفس الماهیّة، أیضا کلاما»(2).

ص: 274


1- 2 . حاشیة المکاسب، للمحقّق الأصفهانی 2/311.
2- 3 . کتاب البیع 2/(475-473).

حکم الأیدی المتعاقبة بعضها بالنسبة إلی بعض

اشارة

قال الشیخ الأعظم: «وأمّا حال بعضهم بالنسبة إلی بعض فلا ریب فی أنّ اللاحق إذا رُجع علیه لا یرجع إلی السابق ما لم یکن السابق موجبا لإیقاعه فی خطر الضمان، کما لا ریب فی أنّ السابق إذا رُجع علیه وکان غارا للاحقه لم یرجع إلیه، إذ لا معنی لرجوعه علیه بما لو دفعه اللاحق ضمنه له، فالمقصود بالکلام ما إذا لم یکن غارّا له...»(1).

أقول: أمّا حکم المسألة فهنا صورتان:

الأولی: اللاحق الدافع للبدل إلی المالک یرجع إلی السابق الغارّ، لرجوع المغرور إلی مَنْ غرّه. ولو دفع السابق الغار فلا یرجع إلی اللاحق المغرور إذ لا معنی لرجوع السابق الغار لللاحق المغرور بما لو دفعه اللاحق ضمن السابق ما دفعه لللاحق.

الثانیة: وهی العمدة أنّ اللاحق الذی تلف المال بیده بتلف سماوی - لا الإتلاف لأنّ حکم المتلِف بقاعدة الإتلاف واضح - إذا دفع بدل المال إلی مالکه لایحقّ له الرجوع إلی السابق ومطالبته بالبدل وأمّا السابق إذا دفع البدل إلی المالک یحق له الرجوع إلی اللاحق تلف المال بیده.

قال المحقّق: «ولو تعاقبت الأیدی الغاصبة علی المغصوب تخیَّرَ المالکُ فی إلزام أیِّهم شاءَ، أو إلزام الجمیع بدلاً واحدا»(2).

ص:275


1- 1 . المکاسب 3/508.
2- 2 . الشرائع 3/185.

وقال العلاّمة: «والأیدی المترتبة علی ید الغاصب أیدی ضمان، فیتخیَّر المالک بین أن یطالب الغاصب عند التلف ومَنْ تترتّب یدُه علی یده... ویستقر الضمان علیه إن تلف عنده فلا یرجع علی الأوّل لو رُجع علیه ویرجع الأوّل علیه لو رُجع علی الأوّل...»(1).

قال العلاّمة فی غصب التذکرة: «کلّ یدِ ترتّبت علی ید الغاصب فهی ید ضمانٍ، حتّی یکون للمالک الخیار فی المطالبة لِمَنْ شاء منهما، فإن شاء طالب الغاصبَ عند التلف، وإن شاء طالب مَنْ ترتّبت یده علی یده.

ولا فرق بین أن یکون الثانی عالما بالغصب أو لم یعلم فی ثبوت الضمان علیه؛ لأنّه أثبت یده علی مال الغیر بغیر إذنه، والجهل لیس مُسْقِطا للضمان.

ثمّ الثانی إن کان عالما بالغصب فهو کالغاصب من الغاصب، للمالک مطالبته بکلّ ما طالب به الغاصب، فإن تلف المغصوب فی یده فاستقرار الضمان علیه، فلو غرّمه المالک لم یرجع علی الغاصب الأوّل بشیءٍ؛ لأنّه ظالم بإمساک مال الغیر فی یده مع علمه بأنّه له، وقد حصل التلف فی یده، ولو غرّم الأوّل رَجَعَ علیه.

هذا إذا لم تختلف قیمة العین فی یدهما أو کانت فی ید الثانی أکثر، ولو کانت فی ید الأوّل أکثر لم یکن للمالک مطالبة الثانی بالزیادة، لأنّها تلفت فی ید الأوّل قبل الوصول إلیه، وإنّما یطالب الأوّل بها لا غیر ویستقرّ ضمانها علیه، فلیس له الرجوع علی الثانی بها، ولو رجع المالک علیه بالأصل والزیادة، کان له الرجوع علی الثانی بالأصل خاصّة دون الزیادة.

وإن جهل الثانی الغصب، فإن کانت الید فی وضعها ید ضمان - کالعاریة مطلقا عند العامّة(2)، وفی صُوَر الضمان عندنا، والمأخوذ بالسوم والشراء صحیحةً وفاسدةً - استقرّ الضمان علی الثانی.

ص:276


1- 3 . قواعد الأحکام 2/224.
2- 1 . العزیز شرح الوجیز 5/408، روضة الطالبین 4/99.

وإن کانت یدّ أمانةٍ - کالودیعة والعاریة فی غیر صُور الضمان، والإجارة والرهن والوکالة - استقرّ الضمان علی الغاصب.

ومذهب أکثر الشافعیّة علی ما قلناه.(1)

ولهم وجهٌ آخَر فیما إذا کانت یدُه یدَ أمانةٍ وکان جاهلاً بالغصب، فإنه لایکون ضامنا، کما أنّه لایستقرّ الضمان علیه.(2)

ولهم وجهٌ آخَر فیما إذا کانت یدُه یدَ أمانةٍ، کالودیعة والإجارة وشبههما، فإنّه یثبت

قرار الضمان فیها وإن کان جاهلاً.(3)

[والقرض(4)] معدود من أیدی الضمان...»(5).

وقال صاحب الجواهر فی شرح قول المحقّق: «(ولو تعاقبت الأیدی الغاصبة علی المغصوب تخیر المالک فی إلزام أیّهم شاء أو إلزام الجمیع) أو البعض (بدلاً واحدا) علی حد سواء أو مختلفا بلا خلاف ولا إشکال، بل یمکن تحصیل الاجماع علیه، بل فی مجمع البرهان دعواه، لأن کلاً منهم غاصب مخاطب بردّ العین أو القیمة لقوله علیه السلام : ««کلُّ مغصوب مردود»(6). علی «علی الید ما أخذت»(7) وقوله تعالی: «فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ»(8) و «جَزاءُ سَیِّئَةٍ»(9) وغیرهما ممّا دلّ علی العقاب بمثل ما عوقب(10) وأن «الْحُرُماتُ قِصاصٌ»(11)

ص:277


1- 2 . العزیز شرح الوجیز 5/408، روضة الطالبین 4/99.
2- 3 . العزیز شرح الوجیز 5/408، روضة الطالبین 4/99.
3- 1 . العزیز شرح الوجیز 5/408، روضة الطالبین 4/99.
4- 2 . بدل ما بین المعقوفین فی النسخ الخطّیّة والحجریّة: «والقبض». وما أثبتناه کما فی العزیز شرح الوجیز 5/409 وروضة الطالبین 4/100.
5- 3 . تذکرة الفقهاء 19/184 و 185.
6- 4 . وسائل الشیعة 9/524، ح4، الباب 1 من أبواب الانفال. وفیه: «الغصب کلّه مردود».
7- 5 . مستدرک الوسائل 17/88، ح4، الباب 1 من کتاب الغصب، وسنن البیهقی 6/95.
8- 6 . سورة البقرة /194.
9- 7 . سورة یونس /27.
10- 8 . سورة النحل /126.
11- 9 . سورة البقرة /194.

ونحوه.

ولا فَرْقَ فی تعاقب أیدیهم بین کونه بصورة الضمان ببیع فاسد ونحوه وعدمه، نعم قرار الضمان علی من تلف المغصوب فی یده منهم، بمعنی أنه لو رجع المالک علی غیره رَجَعَ هو علیه مع فرض عدم زیادة فی العین یختص الأوّل بضمانها بخلاف ما لو رجع علیه نفسه، فانه لا رجوع له علی غیره، لأنّ ذمته المشغولة للمالک بالبدل وإن جاز له إلزام غیره باعتبار الغصب بأداء ما اشتغلت ذمته به، فیملک حینئذ من أدیّ بأدائه ما للمالک فی ذمّته بالمعاوضة الشرعیة القهریة.

وبذلک اتضح الفرق بین من تلف المال فی یده وبین غیره الذی خطابه بالأداء شرعی لا ذمی، إذ لا دلیل علی شغل ذمم متعددة بمال واحد، فیحنئذ یرجع علیه ولا یرجع هو.

کما أنه اتضح لک أیضا جواز مطالبة الکل ببدل واحد علی السواء ومختلفا، لأنه إذا

جاز له مطالبة کلّ منهم بالجمیع فالبعض بطریق أولی، ویرجع حینئذ غیر من تلف المال فی یده علی من تلف المال فی یده بمقدار ما أدّی»(1).

وقال صاحب مفتاح الکرامة فی شرح قول العلاّمة «ویستقر الضمان علیه...»: کما فی التذکرة(2) وجامع المقاصد(3) والمسالک(4) والروضة(5) والکفایة(6) وهو قضیة کلام غیرهم، لأنّه ظالم بإمسالک مال الغیر فی یده مع علمه بأنّه له وقد حصل التلف فی یده فکانا متساویین فی کون کلٍّ منهما غاصبا، وانفراد الثانی بزیادة وهی کون التلف فی یده

ص:278


1- 1 . الجواهر 37/33 و 34.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 19/184.
3- 3 . جامع المقاصد 6/225 و 226.
4- 4 . المسالک 12/156.
5- 5 . الروضة البهیة 7/27.
6- 6 . کفایة الأحکام 2/649.

فیختص ببدله، فلو رُجع علی الأوّل استحق الرجوع علیه دون العکس...»(1).

ثمّ إنّ هنا عویصة:
اشارة

وهی: إنّ دلیل الضمان هنا هو قاعدة علی الید ما أخذت حتّی تؤدی والقاعدة بإطلاقها تشمل کُلَّ مَنْ تم استیلاء یده علی المال، والاستیلاء وجعل الید علی المال مشترک بالنسبة إلی السابق واللاحق، فلماذا یُحکم برجوع السابق إلی اللاحق الذی تلف المال بیده فی تلف سماوی وعدم رجوع هذا اللاحق إلی ذاک السابِق؟!

نعم، لو کان اللاحق متلِفا لم یکن فی البین إشکال لأنّ قاعدة من أتلف مال الغیر فهو له ضامن تشمله، ولکن لیس هنا إتلاف بل تلف سماوی من دون إتلاف.

ولذا تصدی الأصحاب - رضوان اللّه تعالی علیهم - لحلّ هذه العویصة من سالف الزمان نتعرض لبعض حلولهم:

1- جواب صاحب الجواهر رحمه الله
اشارة

مرّت مقالته حیث قال: «... وبذلک اتضح الفرق بین من تلف المال فی یده وبین غیره الذی خطابه بالأداء شرعی لا ذمّی، إذ لا دلیل علی شغل ذمم متعددة بمالٍ واحدٍ، فحینئذٍ یُرْجع علیه ولا یَرْجِعُ هو»(2).

مراده قدس سره : الغاصبون کلّهم مکلفون بردّ العین المغصوبة بقاعدة علی الید ولکن من تلفت العین بیده ذمّته مشغولة بأداء البدل ولذا یستقر الضمان علیه دون غیره.

بعبارة أُخری: غیر من تلف المال بیده مخاطب باخطابِ التکلیفی فقط - وهو تلکیف بالأداء - ولکن من تلف المال بیده مخاطب باخطابِ التکلیفی والوضعی معا فیستقر ضمان المال علیه وحینئذ یُرْجع علیه ولا یَرجع هو.

وبعبارة ثالثة: «أنّ الخطابات المتوجّهة إلی الغاصب الأوّل والثانی أعنی مَنْ تلف عنده المال لیست مِنْ سِنْخٍ واحِدٍ بلْ سِنْخان، فالخطاب المتوجّه إلی الأوّل إنّما هو مجرد

ص:279


1- 7 . مفتاح الکرامة 18/97.
2- 8 . الجواهر 37/34.

خطاب تکلیفی بأداء بدل المال من دون أن تکون ذمّته مشغولة به أبدا، وأمّا الخطاب المتوجّه إلی مَنْ تلف عنده المال وهو الغاصب الثانی مثلاً فهو خطاب وضعی وذمّته مشتغلة بالعوض، فإذا رجع المالک إلی الأوّل فهو یرجع إلی اللاحق لأنّه بأداء البدل یکون مالکا للتالف، ولا مانع من فرض الملکیة فی التالف والمعدوم کما فی الخیار فله أن یرجع إلی قیمته أو بغیرها من لوازم الملکیة، وأمّا إذا رجع المالک إلی اللاحق فهو لایرجع إلی السابق إذ لا اشتغال فی حقّه بشیء وإنّما کان الخطاب تکلیفیا فی حقّه وقد سقط بوصول المالک إلی حقّه، هذا»(1).

مُناقَشة الشیخ الأعظم لصاحب الجواهر
اشاره

ولکن ناقشه الشیخ الأعظم(2) بوجوه خمسة:

الأوّل: مستند الضمان هو قاعدة علی الید وهی مشترکة بین مَنْ تلف المال بیده وغیره فلماذا جعل قدس سره الخطاب الأوّل وضعیا وتکلیفیا معا، والثانی تکلیفیّا فقط؟

بعبارة أُخری: «أنّ مدرک الضمان لیس إلاّ قاعدة الید فی المقام، کما أنّ الخطاب المتوجّه للسابق واللاحق منحصر بها، وعلیه فکیف یکون الخطاب الواحد وهو قاعدة الید یعنی علی الید ما أخذت تکلیفیا بالاضافة إلی السابق ووضعیا بالاضافة إلی اللاحق؟!»(3).

وهذا الإشکال یرجع إلی مقام الإثبات.

الثانی: کیف یمکن تعلیل استقرار الضمان علی مَنْ تلف المال بیده بالفرق بین

الخطاب الوضعی والتکلیفی؟ وهذا الفرق کیف یعلل رجوع الغیر إلی من تلف المال بیده وأنّه لا یرجع إلی غیره؟ مع أنّ الخطاب الوضعی عند الشیخ الأعظم ینتزع عن الخطاب التکلیفی بأداء البدل وهو مشترک بین الجمیع.

بعبارة أُخری: هذا الإشکال «یرجع إلی مقام الثبوت فهو مبنیٌّ علی ما أفاده فی

ص:280


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/108.
2- 2 . راجع المکاسب 3/509 و 510.
3- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/109.

الاستصحاب من أنّ الأحکام الوضعیة منتزعة من الأحکام التکلیفیة، فالضمان حکم وضعی ینتزع عن إیجاب أداء البدل، فما معنی أنّ الحکم فی السابق تکلیفی وفی اللاحق وضعی مع أنّهما متلازمان»(1).

الثالث: تخصیص اشتغال الذمة بخصوص من تلف المال بیده خلافُ ما یعرف من عدم خلاف أحدٍ فی اشتغال ذمّة کلّ واحدٍ من ذوی الأیدی الغاصبة بالمال وأنّه لا یسقط إلاّ بأداء أحدهم أو إبرا المالک.

ثمّ ذکر الشیخ الأعظم(2) أربعة أحکام للدین تنظیرا بإثبات الحکم الوضعی واشتغال ذمّة الأیدی المتعاقبة ردا علی صاحب الجواهر رحمه الله بإثبات الخطاب الوضعی لمن تلف المال عنده فقط والخطاب التکلیفی لغیره وله.

[أ] یجوز إجبار المدیون علی أداء الدین ولو امتنع أجبره الحاکم وإلاّ دفع الحاکم عنه من ماله ویجوز للدائن استیفاء حقّه بنفسه عند تعذر الوصول إلی الحاکم أو معه وهو الذی یُسمی بالتقاص.

[ب] تقدیم الدین علی الوصیة إجماعیٌّ فی الآیة الشریفة(3) فلو أوصی بعض ذوی الأیدی فمات جاز للمالک مطالبة ورثته ببدل العین المضمونة حتّی لو تلفت بید شخص آخر واللازم علی الورثة أداء الدین ثمّ تنفیذ الوصیة وهذا یعنی اشتغال الذمة والحکم الوضعی لا مجرد وجوب الأداء تکلیفا.

[ج] فی بحث الإفلاس، إذا وجد الغریم عین ماله جاز له أخذها حتّی لو لم یکن سواها کما جاز له أن یضرب مع الغرماء بدینه، بأنْ یجعلها بین جمیع الغرماء حتّی یستوفی کل منهم حقّه بنسبة حصته.

وعلیه فلو رجع المالک إلی بعض الأیدی ووجده قد أفلس ولیس عنده إلاّ العین

المضمونة جاز له الضرب مع الغرماء بأن یجعل ما وُجد عند المفلّس مالاً مشترکا بین

ص:281


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/109.
2- 2 . المکاسب 3/510.
3- 3 . سورة النساء /12.

الدُّیّان، فیأخذ کلُّ منهم حصته منه کما جاز له أن یأخذ ماله بعینه.

[د] یجوز للدائن أن یتصالح مع المدیون علی ما فی ذمّته إمّا بعوضٍ أو مجانا، کی تبرأ ذمّة المدیون وکذلک فی المقام یجوز للمالک أن یُصالح مع أحد الغاصبین بعوض أو مجانا.

وجریان هذه الامور کُلَّها فی المقام شاهد علی کون المالک یملک ما فی ذمة الغاصبین وحینئذ لیس حکمهم حکما تکلیفیّا بَحْطا فی غیر من تلف المال بیده بل یجری فی حقّ جمیعهم الْحُکْمانِ: التکلیفیُّ وَالْوَضْعِیُّ معا.

وبعبارة أُخری: «إنّ الضامن السابق لو کان خطابه مجرّد حکم تکلیفی لما أمکن إخراج دینه من ترکته علی تقدیر موته، ولما صحّ أن یصالحه المالک علی ما فی ذمّته مع أنّهما صحیحان ثابتان، لجواز المصالحة علی ما فی ذمّته وإخراجه عن ترکته علی تقدیر موته، فلنا دلیل علی عدم کون الخطاب تکلیفیا فی حقّه، لا أنه مجرد عدم الدلیل، هذا»(1).

وهذا الإشکال أیضا یجری فی مقام الإثبات کالإشکال الأوّل.

الرابع: «تملّک غیر مَن تلف المالُ بیده لما فی ذمّة من تلف المال بیده بمجرد دفع البدل، لا یُعلم له سبب اختیاریٌّ ولا قهریٌّ»(2)، لأنّ الأوّل منتفٍ والثانی لا دلیل علیه ف- «سقوط حقّ المالک عمّن تلف فی یده بمجرد أداء غیره، لعدم تحقّق موضوع التدارک بعد تحقّق التدارک»(3).

وبعبارة أُخری: «إنّ للملکیة أسبابا ولا تحصل بدونها أبدا، فإذا فرضنا العین تلفت وأدّی الضامن الأوّل بدلها فبأی سبب ملک [الضامنُ الأوّلُ] العینَ التالفةَ حینئذ، أفبالبیع أو الهبة أو بشیء آخر، والمفروض انتفاؤها بأجمعها، فلا وجه لانتقال المال إلی

ص:282


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/109.
2- 2 . المکاسب 3/510.
3- 3 . المکاسب 3/510.

ملک مَنْ أدّی عوضه کما لا یخفی، هذا»(1).

الخامس: لازم بیانه عدم رجوع السابق بعد أداء بدل التالف إلاّ إلی خصوص مَن

تلفت العین بیده، لا إلی کلِّ غاصب لاحق، مع أنّ الظاهر جواز رجوع مؤدِّی البدل إلی کلِّ واحدٍ من الغاصبین بعده «نعم، لو کان [المرجوع] غیر مَنْ تلف بیده فهو یرجع إلی أحد لواحقه إلی أن یستقرّ علی من تلف فی یده»(2).

وبعبارة اُخری: «إنّ لازم ما ذکره صاحب الجواهر قدس سره عدم جواز رجوع السابق إلی الثانی فیما إذا کان المال تالفا عند الثالث أو الرابع لأنه أیضا مثله فی عدم اشتغال ذمّته بشیء وخطابه تکلیفی حسب الفرض، بل لابدّ من أن یرجع إلی الضامن الأخیر الذی تلف عنده المال ابتداء مع أنّهم جوّزوا رجوعه إلی الثانی والثانی إلی الثالث وهکذا»(3).

دفاعٌ عن صاحب الجواهر قدس سره

حصیلة إشکال الشیخ الأعظم؛ علی صاحب الجواهر قدس سره هی عدم الدلیل علی اشتغال ذمّم متعدّدة فی بحث تعاقب الأیدی بحیث یُری بأنّ صاحب الجواهر یذهب إلی اشتغال ذمم متعددة فی بحث تعاقب الإیدی فی مغصوب واحد، مع أنّ صاحب الجواهر لا یقول به فی کتاب الضمان، بل ذهب إلی إنّه یجب رفع الید عن ظهور الأدلة التی تدلّ علی تعدد الضمان - علی القول بوجودها - والقول بوحدة الضمان مراعاةً للإجماع القائم عند الإمامیة بردّ القول بضمان الجمیع عرضا وکذلک بطلان القول بعدم الضمان مطلقا، فلا یبقی إلاّ القول بضمان ذمّة من تلف المال عنده واستقرار الضمان علیه وبهذا البیان یدفع الوجه الأوّل من مناقشات الشیخ الأعظم.

قال صاحب الجواهر فی بدایة کتاب الضمان من جواهره: «(الضمان) الذی هو عندنا علی ما اعترف به غیر واحد منّا(4) مشتق من «الضمن» لأنّه ینقل ما کان فی ذمّته

ص:283


1- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/110.
2- 1 . المکاسب 3/510.
3- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/110.
4- 3 . کالعلاّمة فی تذکرة الفقهاء 14/279، والشهید الثانی فی المسالک 4/171، والسیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 16/343 و 344.

من المال، ویجعله فی ضمن ذمّة أُخری، أو لأنّ ذمّة الضامن تتضمن الحقّ، فالنون فیه أصلیة.

خلافا لماعن أکثر العامة(1) من أنه غیر ناقل، وإنّما یفید اشتراک الذمّتین، فاشتقاقه من «الضمّ»، والنون فیه زائدة، لأنّه حینئذٍ ضمّ ذمة إلی ذمّة، فیتخیّر المضمون له فی

المطالبة.

وفیه ما لایخفی: من منافاة وجود النون فی جمیع تصاریفه، إلاّ بدعوی اشتقاق ما فیه النون من الخالی عنها، وهو کما تری.

ومن صعوبة تحقّقه فی نحو ضمان النفس، وظهور قوله علیه السلام «الزعیم غارم»(2) فی اختصاص الغرم به، ولغیر ذلک ممّا هو فی مذهب الخصم، بعد الغضّ عن عدم تصوّر شغل ذمّتین فصاعدا بمال واحد، وقد بیّنّا أنّ المشغول به فی تعاقب الأیدی علی المغصوب ذمّة واحدة، وهو مَنْ تلف فی یده المال مثلاً، وإن جاز له الرجوع علی کلّ واحد، وإلاّ فهو منافٍ للمقطوع به من مذهبنا.

وأما الثمرات علی القولین فهی واضحة: منها صحّة الدور فیه علی مذهبنا - کأن یضمن الأصیل ضامنه أو ضامن ضامنه، دون مذهبهم.

والتسلسل - کأن یضمن أجنبیّ الضامن... وهکذا - لتحقّق الشرائط عندنا، فیرجع حینئذٍ کلّ ضامن - مع الإذن - بما أدّاه علی الذی ضمن عنه، لا علی الأصیل، وفی الأوّل یسقط الضمان، ویرجع الحقّ کماکان»(3).

وأیضا یظهر من هذا البیان دفع الوجه الثانی من وجوه مناقشات الشیخ الأعظم من ذمیّة الخطاب بالنسبة إلی جمیع الأیدی، لأنّ صاحب الجواهر یری أنّ الالتزام

ص:284


1- 4 . راجع المغنی 5/70 لابن القدامة.
2- 1 . عوالی اللآلی 2/257، ح3؛ ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13/435، ح2، الباب 1 من أبواب کتاب الضمان.
3- 2 . الجواهر 27/227 و 228 (26/113).

بذمیّة الخطاب بالنسبة إلی الجمیع ینشأ من أنّ الضمان مشتقٌّ من ضمّ ذمة إلی ذمّة والنون فیه زائدة وهو مردود عندنا بضرورة المذهب، فحینئذ ینحصر الخطاب الذمی بمَنْ تلف المال بیده.(1)

ویمکن أن یناقش فی الوجه الثانی من وجوه مناقشاته أیضا بأنّ الْحُکْمَیْنِ «التکلیفی والوضعی سنخان من الحکم وأحدهما غیر منتزع مِن(2) الآخر، ویشهد لذلک أنه لا خلاف ظاهرا فی أنّ وجوب نفقة الوالدین الفقیرین علی الولد إذا کان غنیا إنّما هو مجرد حکم تکلیفی ولا یضمنها لو نسیها أو عصی ولم یؤدّ نفقتهما، وهذا بخلاف وجوب

نفقة الزوجة فإنّه حکم تکلیفی. مضافا إلی أنه یضمنها فیما لو نسی أو عصی ولم یؤدّها إلیها، فیضمن لها نفقة الاُسبوع أو الشهر أو السنة، وکیف کان فهما سنخان متغایران»(3).

ویمکن أن یقول فی دفع الوجه الرابع بأنّ الملکیة القهریة موجودة والدلیل علی ذلک أمران:

«أحدهما: أنه إذا أتلف أحد مال الغیر وکان لتالفه قیمة زهیدة أو کان متعلّقا لحقّ، والأوّل کما إذا ذبح فرس الغیر علی وجه شرعی فإنّ لحمه وجلده حینئذ ممّا له قیمة وإن کانت زهیدة لا محالة. والثانی ما إذا ذبحه علی وجه جعله میتة فإنّ المیتة یمکن أن ینتفع بها فی کلِّ ما لایشترط فیه الطهارة ومتعلّقة لحقّ الاختصاص، وفی أمثال ذلک لایمکن للمالک أن یأخذ تالف العین وباقیها ویطالب المتلف بباقی قیمتها لأنّ العرف یرون المال قد تلف وما بقی منه أمر آخر لا ربط له بالمالک کأجزاء السیارة المنکسرة مثلاً، وإذا أخذ قیمتها من المتلف أو مثلها فلایمکنه أخذ ما بقی من العین أبدا، لأنّ العرف یرون ذلک انتقالاً قهریا کالصلح، فباقی العین ینتقل إلی من أدّی الضمان فیما إذا کانت له قیمة، أو کان ذلک متعلّقا لحقّ من الحقوق.

وثانیهما: أنّ الْمالَ فیما إذا کان فی حکم التلف ولم یکن تالفا حقیقة کما إذا ضاع

ص:285


1- 3 . راجع العقد النضید 4/64.
2- 4 . فی المصدر: «عن».
3- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/109.

فی بَرٍّ أو وقع فی بحر أو سرقه سارق مجهول یتعذّر الوصول إلیه عادةً ففی هذه الموارد هل یحکم بلحوق المال الموجود فی البر أو البحر أو فی ید السارق بالمباحات الأصلیة بحیث یتملّکه السارق بحیازته ولا یجب علیه ردّه، وهذا ممّا لا یمکن التفوّه به، أو یحکم بأنه ملک لمالکه الأوّل مع أنه أخذ مثله أو قیمته من المتلف، فلا محالة یحکم بانتقاله إلی ملک المتلف بدفع عوضه وبدله، فالوجه فی الانتقال والملکیة هو المصالحة القهریة الواقعة بین مالک المال ومتلفه، وکیف کان فینتقل المال إلی الضامن الذی أدّی بدله»(1).

ویدفع الوجه الخامس بعدم الالتزام بهذا اللازم عند صاحب الجواهر.

وبما ذکرناه یُدْفَعُ أَرْبَعٌ من مناقشات الشیخ الأعظم لصاحب الجواهر ولکن الاشکال الثالث وهو النقوض یکون بلا جواب.

نعم، یمکن أن یُناقَشَ علی صاحِبُ الجواهر رحمه الله : بأنّ ما قام علیه إجماعُ الإمامیّةِ من نفی تعدّد الضمان عرضا یختص بباب الدیون والضمان العقدی وأمّا الضمان المستند

علی قاعدة الید فلیس فیه إجماع من الإمامیة بنفی تعدد الضمان فیه والشاهد علی ذلک حکمهم بصحة ضمان الدرک کما مرّ فتعید العویصة.

2/ أ - حلّ الشیخ الأعظم للعویصة
اشارة

قال قدس سره : «فنقول: إنّ الوجه فی رجوعه هو أنّ السابق اشتغلت ذمّته بالبدل قبل اللاحق، فإذا حصل المال فی ید اللاحق فقد ضمن شیئا له بدلّ، فهذا الضمان یرجع إلی ضمان واحد من البدل والمبدل علی سبیل البدل؛ إذ لا یُعقل ضمان المبدل معیّنا من دون البدل، وإلاّ خرج بدله عن کونه بدلاً، فما یدفعه الثانی فإنّما هو تدارک لما استقرّ تدارکه فی ذمّة الأوّل، بخلاف ما یدفعه الأوّل؛ فإنّه تدارک نفس العین معیّنا؛ إذ لم یحدث له تدارک آخر بعدُ، فإنْ أدّاه إلی المالک سقط تدارک الأوّل له. ولا یجوز دفعه إلی الأوّل قبل دفع الأوّل إلی المالک؛ لأنّه من باب الغرامة والتدارک، فلا اشتغال للذمّة قبل حصول التدارک، ولیس من قبیل العوض لما فی ذمّة الأوّل.

ص:286


1- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/111 و 110.

فحال الأوّل مع الثانی کحال الضامن مع المضمون عنه فی أنّه لایستحقّ الدفع إلیه إلاّ بعد الأداء.

والحاصل: أنّ من تلف المال فی یده ضامن لأحد الشخصین علی البدل من المالک ومن سبقه فی الید، فیشتغل ذمّته إمّا بتدارک العین، وإمّا بتدارک ما تُدارکها، وهذا اشتغال شخص واحد بشیئین لشخصین علی البدل، کما کان فی الأیدی المتعاقبة اشتغال ذمّة أشخاص علی البدل بشیء واحد لشخص واحد»(1).

حصیلة ما ذکره الشیخ الأعظم رحمه الله : «الفرق بین الضامن الأوّل وغیره، من حیث أنّ الضامن الأوّل بوضع یده علی مال الغیر ینتقل إلی ذمّته العین بالقاء الخصوصیات الشخصیة، فهو یضمن مجرد العین الملغی عنها الخصوصیات وأما الضامن الثانی إذا استولی علی العین فقد استولی علی العین المضمونة بکونها ذات(2) بدل، وهذا بخلاف الضامن الأوّل فإنّه لم یتول إلاّ علی العین المجردة عن هذا العنوان، فلم یضمن سوی نفس العین، وأما الضامن الثانی فهو استولی علی العین المعنونة بکونها ذات بدل ثابت فی ذمة الضامن الأوّل، فهو یضمن الجامع بین العین والبدل - أی أحد الأمرین - نظیر الواجب التخییری، وهذا هو مراده بقوله قدس سره «فقد ضمن شیئا له بدل» فهذا الضمان یرجع إلی ضمان

واحد من البدل والمبدل علی سبیل البدل.

وبالجملة: فاذا رجع المالک إلی الأوّل سقط أحد طرفی التخییر - أعنی اشتغال ذمة اللاحق بالعین للمالک - إذ لا معنی لضمان اللاحق له بعد وصول ماله إلیه فیتعین الطرف الآخر - أعنی اشتغال ذمته بالبدل للسابق - فله الرجوع إلیه، غایته بعد ما رجع إلیه المالک ودفعه إلیه لا قبله. وهذا هو الفرق بین الضامن الأوّل وغیره».(3)

وبعبارة اُخری: «أنّ الغاصب الأوّل أو من فی حکم الغاصب أی بائع مال الغیر مثلاً بالبیع الفاسد بعد أخذه من الغیر کذلک إنّما هو ضامن للعین نفسها فالغاصب الثانی

ص:287


1- 1 . المکاسب 3/508.
2- 2 . فی المصدر: «ذا».
3- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/492.

ومَنْ فی حکمه انّما هو ضامن للعین وبدلها، أمّا العین فلمالکها وأمّا البدل فللضامن الأوّل وهذا بخلاف الضامن الأوّل فإنّ فی زمان کون العین تحت یده لم تتلف لیضمن العین بما لها بدلٌ بل کان ضمانه منحصرا بالعین وحدها، وأمّا الضامن الثانی حیث أنّ العین قد تلفت عنده فیکون ضمانه بها بما له البدل وهذا الضمان بالبدل ضمان لما استقر تدارکه فی ذمة الأوّل، فالضامن الثانی ضامن لأحد الامرین إمّا العین أو البدل علی نحو البدلیة بنحو الضمان العوض، والحاصل أنّ من تلف المال فی یده ضامن لأحد الشخصین علی البدل من المالک ومَنْ سبقه فی الید فتکون ذمته مشغولة بشیئین علی سبیل البدلیة اما تدارک نفس العین أو تدارک بدلها فحال الأوّل مع الثانی کحال الضامن مع المضمون عنه فإنّ الضامن لشخص عن دین بأمره انّما یرجع إلی المضمون عنه مع أداء دین الدائن وإلاّ فلا یستحق بذلک فإذا رجع المغصوب منه إلی الأوّل فأخذ منه تدارک العین فیرجع هو إلی الثانی فیاخذ منه تدارک ما استقر فی ذمته لضمان الثانی علی ذلک.

وبالجملة: إنَّ ظهورَ کلامِ الشَّیْخِ رحمه الله فی الغاصب الثانی انّما انه ضامن لتدارک العین للمالک وبدلها لتدارک ما فی ذمة الغاصب الأوّل للأوّل وعلی هذا فیندفع اشکال عدم صحة رجوع السابق إلی اللاحق فی صورة عدم الغرور إذ السابق یطالب من اللاحق ما استقر فی ذمته فیرجع إلیه فی ذلک وهذا بخلاف ما إذا رجع المالک إلی الثانی فانه لا یرجع إلی اللاحق فی غیر صورة الغرور لعدم اشتغال ذمته للثانی کاشتغال ذمة الثانی للأوّل.

فما لم یرجع المالک إلی الأوّل لیس له ان یرجع إلی الثانی لانّ الأوّل لم یتدارک العین للمالک حتّی یرجع إلی الثانی فی البدل الذی حصل به التدارک وانّما له الرجوع إلیه

بعد ما رجع المالک إلی الأوّل»(1).

أقول فی توضیح مقالة الشیخ الأعظم:

أقول فی توضیح مقالة الشیخ الأعظم: مستند الضمان فی بحث تعاقب الأیدی قاعدة «علی الید ما أخذت» وهی مشترکة بین الجمیع وهم کلّ من استولی علی مالِ الغیر.

ص:288


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/376 و 377.

ولکن شمولها بالنسبة إلی السابق واللاحق مختلف والوجه فی ذلک الید الأولی [السابقة] علی مال الغیر لم تکن مسؤولَةً إلاّ فی مقابل مالک المال ولکن الید الثانیة [اللاحق] مسؤولَةً فی مقابل المالک والسابق، وهکذا الحال فی الأیدی اللاحقة فإنّ لکلّ یدٍ لاحقة مسئولیة زائدة علی الید السابقة علیها.

فالید السابقة تکون ضامنة للمال أمام المالک مادامت عینه موجودة وعند تلفها تکون ضامنة لبدل المبدل الذی لم یتعلّق به ضمان آخر، فإذا خرجت العین من یده وانتقلت إلی الید الثانیة فإنّها تتّصف بخصوصیّة زائدة وهی أنّها موردٌ لضمان الید الأُولی وهکذا یحصل الاختلاف بین الیدین، حیث أنّ الید الاُولی استقرّت علی العین الغیر المضمونة، أمّا الید الثانیة فإنّها استقرّت علی العین المضمونة فتکون ضامنا للمالک وللسابق علی نحو الواجب التخییری.

ثمّ إنّ مقتضی قاعدة الضمان أنّ علی صاحب الید السابقة إمّا ردّ العین مع خصوصیاتها إلی المالک أو ردّ ما یعدّ بدلها وأمّا صاحب الید اللاحقة ضامن لبدل العین المضمونة عند الید السابقة ولکن الید السابقة ضامنة لبدل العین الغیر المضمونة.

ثمّ لا یخلو حال الضامنین [اللاحق والسابق] أمّا أنَّهُما متحدان فی الحکم أو مختلفان، والاتحاد ممنوع إذ لایعقل شمول قاعدة علی الید للعین الغیر المضمونة وللعین المضمونة بالسویة فلابدّ من اختلافهما وحینئذ لو قصد اللاحق فراغ ذمّته فلابدّ أن یقوم بدفع بدل العین لأنّ المفروض أنها تلفت فی یده وهو مخیّر بین أن یدفعها إلی المالک أو السابق الدافع للبدل، فإنّ دفعها إلی المالک فقد دفع ما علی ذمّته وما علی ذمّة سابقه من خلال هذا الدفع فقد أدّی واجبه التخییری ولیس لللاحق الدافع الرجوع إلی سابقةِ، أمّا لو دفع السابقُ البدلَ بقیت ذمّة اللاحق مشغولة بواجبه التخییری من دفع البدل إلی اللاحق ولذلک یجوز للسابق مطالبة اللاحق بالبدل وهذه هی العلّة فی استقرار الضمان علی ید

مَنْ تلف المال فی یده ورجوع غیرها من الأیدی إلیه فی فرض إقدامهنّ بردّ بدل العین إلی

ص:289

المالک ولا یجوز للسابق الذی تلف المال فی یده الرجوع إلی غیره.(1)

اعتراض الفقیه السیّد الیزدی علی حلّ الشیخ الأعظم

قال: «إذ یرد علیه: أوّلاً: أنّ السابق أیضا یصدق علیه أنّه ضامن شیئا له بدل، لأنّه وإن کان حین الحصول فی یده لم یکن له بدل، لأنّ ضمان اللاحق لم یتحقّق فی ذلک الحین، بل المفروض أنّه یحدث بعد ذلک فیتحقّق البدل للعین بعد حدوث ضمان السابق، إلاّ أنَّ استقرار الضمان بالنسبة إلی الکلِّ إنَّما هو بعد التلف، فحینئذٍ یصدق أنَّ کلاًّ منهم ضامن لما له بدل؛ لأنَّ المناط لیس حال حدوث سبب الضمان، بل حال فعلیته، بمعنی اشتغال الذمة فعلاً بالعوض، وهو إنَّما یکون بعد التلف، ولذا لو زاد زیادة عینیة فی الأیدی المتأخر یکون السابق ضامنا لتلک الزیادة أیضا، مع أنَّه لم یحدث الضمان فی یده إلاّ ناقصا، بل وکذا بالنسبة إلی زیادة القیمة بناءً علی القول بأعلی القیم.

وبالجملة: حین التلف الذی هو زمان الانتقال إلی القیمة یَصْدُقُ بالنسبة إلی الکلِّ أنَّه ضامن لما له بدل، أبدال.

وثانیا: أنَّ ضمان العین التی لها بدل - أی عوض فی ذمة آخر - لا یقتضی ما ذکره من ضمان واحد من البدل والمبدل، کیف؟ والبدل لم یتحقّق فیه سبب الضمان؛ إذ لم یثبت تحت ید الضامن، ولا أتلفه، ولا غیر ذلک، فلا وجه لکونه مضمونا.

ودعوی کونه من توابع العین کما تری؛ إذ لیس هذا من شؤون العین کالمنافع والنماءات المتجددة؛ حیث إنّها مقبوضة بتبعیة قبض العین، بخلاف التدراک الثابت فی ذمة السابق فانَّه لیس مقبوضا للاحق أصلاً، فلا وجه لضمانه له، وهذا واضح جدا.

وثالثا: لو سلّمنا ذلک کان مقتضاه ضمانه لمالکه، وهو مالک العین، لا لمن علیه البدل، فانَّ البدل الذی فی ذمة السابق إنَّما هو لمالک العین، فبدله وهو ما فی ذمة اللاحق أیضا یکون للمالک، وهو من له البدل، ولا وجه لکونه لمن علیه البدل، وهو الضامن السابق، وهذا أیضا واضح.

ص:290


1- 1 . راجع العقد النضید 4/54 و 55.

ورابعا: أنَّ لازم ما ذکره أن یکون فی مسألة ضمان الإثنین لواحد بناءً علی صحته للضامن الأوّل الرجوع علی الضامن الثانی إذا رفع العوض إلی المضمون له، فانَّ الثانی قد

ضمن ماله بدل فی ذمة الضامن الأوّل، مع أنّه لیس له ذلک، بل إنَّما یرجع إلی المضمون عنه لو ضمن باذنه، ولو کان متبرعا فلا یرجع علی أحد، وأیضا فی ضمان العهدة وضمان الأعیان المضمونة إذا قلنا بجواز الرجوع إلی کلِّ من الضامن والمضمون عنه کما استظهره المصنّف منهم یلزم جواز رجوع المضمون عنه إلی الضامن إذا فرض رجوع المالک علیه، ولا یمکن الالتزام به.

وجه اللزوم أنَّ الضامن إنَّما ضِمَنَ شیئا له بدل فی ذمة المضمون عنه، وأیضا بناءً علی مذهب العامة من کون الضمان ضمّ ذمّة، إلی أخری یلزم جواز رجوع المضمون عنه إلی الضامن إذا رجع المالک علیه؛ لأنّه یصدق علی الضامن أنّه ضمن شیئا له بدل، لکن فیما إذا کان المال المضمون ثابتا فی ذمّته من باب الغرامة، بأن یکون متلفا أو غاصبا أو نحوهما فضمن عنه الضامن، ولا یمکن الالتزام به.

وخامسا: إذا فرضنا أنَّ العین بعد ما صارت فی ید اللاحق رجعت إلی السابق فتلفت فی یده فالظاهر أنّه لا یجوز للسابق حینئذٍ إذا رجع المالک علیه أن یرجع إلی اللاحق، بل الأمر بالعکس؛ لأنَّ من تلف فی یده هو السابق بالفرض، ولازم بیان المصنّف قدس سره أن یکون له الرجوع علیه؛ لأنَّه یصدق أنَّه - أی اللاحق - ضمن شیئا له بدل، بخلاف السابق.

ودعوی: أنَّه بعد العود إلیه یکون اللاحق سابقا، والسابق لا حقا؛ فَیَصْدُقُ علی السابق الذی صار لاحقا أنَّه أیضا ضمن شیئا له بدل.

مدفوعة: بأن الضمان إنَّما حدث باثبات یده الاُولی، وفی ذلک الحین لم یکن له بدل، وبعد العود إلیه لایحدث ضمان آخر، مثلاً إذا غصب عینا وضمن، فاعطاه غیره أو أخذ منه قهرا، ثمّ ردّه ذلک الغیر إلیه لا یحدث ضمان آخر لأجل هذه الید الثانیة، بل الضمان الحادث أوّلاً باقٍ، وقرار الضمان حینئذٍ علی الغاصب الأوّل إذا تلف المال فی یده بعد العود إلیه، ولازم بیان المصنّف قدس سره أن یکون القرار علی الغاصب الثانی، مع أنَّه لم یتلف

ص:291

فی یده، فتدبّر.

وسادسا: أنَّ ما ذکره من أنّه لا یعقل ضمان البدل معینا من دون البدل، وإلاّ خرج البدل عن کونه بدلاً، فیه أنّا نقول إنَّه لا یعقل ضمان البدل من دون وجود سبب الضمان فیه حسب ما بیّنا.

وسابعا: أنَّ لازم ما ذکره جواز رجوع السابق إلی اللاحق قبل دفع البدل أیضا.

وما ذکره من أنّه نظیر باب الضمان؛ حیث إنَّه لا یرجع الضامن إلی المضمون عنه إلاّ بعد الدفع إذا کان الضمان باقیا بإذنه.

فیه: أنَّ مقتضی القاعدة فی ذلک الباب أیضا جواز الرجوع؛ لأنَّ ذمة المضمون عنه قد برءت بمجرد الضمان عنه باذنه، فاللازم جواز مطالبته قبل الدفع أیضا، إلاّ أنَّه خرج عن القاعدة للنص الخاص، وهو فی المقام غیر موجود، فعدم القول به فی المقام مع أنّه لازم الوجه المذکور یکشف عن عدم تمامیة الوجه، فتدبّر»(1).

أقول: یمکن الجواب عن بعض اعتراضات الفقیه السیّد الیزدی رحمه الله علی الشیخ الأعظم قدس سره ولکن ثلاثة منها لا یمکن الجواب عنها وهی:

الاعتراض الثالث وهو: إنّ الضامن الثانی [السابق] علی تقدیر أنّه ضامن لأحد الأمرین علی سبیل البدلیة فهو إنّما یضمنه للمالک لا للغیر [لِلْلاحِق] لأنّ البدل فی ذمّة الضامن الأوّل [اللاحق] ملک للمالک، فبدله الثابت فی ذمّة الثانی [السابق] أیضا یکون للمالک، فلماذا یحکم بضمانه للضامن الأوّل [اللاحق] بالبدل(2)؟!

والاعتراض الخامس وهو: إذا فُرض رجوع العین إلی الضامن السابق وتلفه فی یده لازم ذلک جواز رجوع الضامن السابق إلی اللاحق أیضا، مع أنّ الأمر بالعکس.

إن قلت: رجوع المال إلی الضامن السابق یستلزم کون السابق لاحقا واللاحق سابقا، فیکون السابق ضامنا لما له بدل.

ص:292


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/(313-310).
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/1 06، الأوّل.

قلت: الیَدُ الثانیة لللاحق لاتوجب الضمان، بل الموجب للضمان هو یده الاُولی وهو باق بعد ولم یرتفع.(1)

والاعتراض السابع وهو: لازم مقالة الشیخ الأعظم جواز رجوع الضامن الأوّل [السابق] إلی اللاحق قبل دفعه البدل إلی المالک مع أنّه غیر تام لأنّه لیس للسابق الرجوع إلی اللاحق إلاّ بعد دفع البدل.(2)

2/ ب - مقالة المحقّق النائینی فی الدفاع عن الشیخ الأعظم
اشارة

ردّ المحقّق النائینی فهم الفقیه السیّد الیزدی من جواب الشیخ الأعظم قدس سرهم وذهب

إلی توجیه آخر فی مراد الشیخ الأعظم حتّی لا یرد علیه هذه الاعتراضات السبعة وقال: «... إنّ ذمّة اللاحق مشغولة بما یجب خروجه عن ذمّة السابق، أی ذمّته مخرج لما یضمنه الأوّل، فما یؤدّیه الأوّل یؤخذ من الثانی، لاشتغال ذمّته للمالک بما له بدل أی عهدة فی الأوّل، فإذا رجع المالک إلیه فهو لایرجع إلی السابق لعدم کونه مغرورا منه بالفرض، وأمّا لو رجع المالک إلی السابق فهو یرجع إلی الثانی، لأنّه ضمن شیئا له بدل فی ذمّة السابق، والبدل یجب أن یخرج من الثانی، وهذا هو المراد من البدل فی کلام المصنّف، أی: ما فی ذمّة الأوّل فی ذمّة الثانی، فیضمن الأوّل ما یضمنه الثانی، فقد ضمن اللاحق شیئا له بدل أی عهدة، کما أشار إلیه بقوله قدس سره : «فما یدفعه الثانی فإنّما هو تدارک لما استقرّ تدارکه فی ذمّة الأوّل»(3).

ولیس المراد من البدل أصل المال نظیر المنافع حتّی یقال: إنّ الثانی وإن ضمن ما له بدل إلاّ أنّ الأوّل کذلک أیضا؛ لأنّ کلّ ما یضمن للمال فی السلسلة الطولیّة من المنافع وعلوّ القیمة والبدل ثابت علی السابق أیضا، فیصدق أنّ السابق أیضا ضامن لماله بدل، إلی آخر الإیرادات السبعة المذکورة فی حاشیة(4) السیّد الطباطبائی قدس سره .

ص:293


1- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/495، ثانیها.
2- 4 . راجع مصباح الفقاهة 4/378، الثانی.
3- 1 . المکاسب 3/508.
4- 2 . حاشیة المکاسب 2/(313-310).

وبالجملة: غرض المصنّف: أنّ اللاحق ضامن للمالک وللسابق؛ لأنّ ذمّته مخرج لما یؤخذ من السابق، فهو یضمن علی البدل، إمّا نفس العین بما أنّها فی ذمّة السابق، وإمّا ما یؤخذ من السابق. فلا یرد علیه أنّ کلاًّ منهما ضامن للبدل؛ وذلک لأنّ الأوّل لیس ضامنا للثانی فَکَیْفَ یکون کلّ منهما ضامنین للبدل؟

وبالجملة: بعد ما عرفت من أنّ ورود المال من ید السابق إلی ید اللاحق یقتضی أن یکون اللاحق مشغول الذمّة بما یؤخذ من الأوّل فمقتضاه أن یکون اللاحق ضامنا للسابق دون العکس.

وحیث إنّ المحشّی قدس سره حمل البدل علی المثل أو القیمة - الّذی یکون کلّ یدٍ مشغولةً له مشروطا بالتلف - أورد ثانیا بِقُوْلِهِ: «إنّ ضمان العین الّتی لها بدل - أی عوض - فی ذمّة الآخر لا یقتضی ما ذکره من ضمانٍ واحدٍ من البدل والمبدل، کیف والبدل لم یتحقّق فیه سبب الضمان؟ إذ لم یثبت تحت ید الضامن، ولا أتلفه، ولا غیر ذلک، فلا وجه لکونه مضمونا. ودعوی: کونه من توابع العین کما تری...»(1) إلی آخره.

وأنت خبیر بأنّ غرض المصنّف: إثبات الضمان الطولیّ، وبیان عدم اجتماع الضمانین عرضا، وأنّ ید اللاحق لیست کید السابق ضامنا للمال مجرّدا عن خصوصیّة کونه فی ذمّة غیره.

وتوضیح ذلک - مضافا إلی امتناع اجتماع الضمانین عرضا ولو بنحو تقیید الإطلاق والواجب الکفائیّ؛ لما عرفت أنّ التقیید إنّما یصحّ فی التکلیف دون الوضع، ومضافا إلی ما قیل: وإن کان خلاف المختار أنّه لو لم یکن للمال خصوصیّة عند وضع السابق یده علیه وحدثت عند اللاحق فیضمنها اللاحق دون السابق، وهذا یقتضی الاختلاف فی کیفیّة الضمان -: أنّ مقتضی عموم «علی الید» وانحلالیّته بالنسبة إلی کلّ یدٍ کما هو شأن کلّ عامٍّ اُصولیٍّ فی القضایا الحقیقیّة أن تکون ید السابق مشغولةً بالمال مجرّدا عن خصوصیّة کونه فی ذمّة أحد. وأمّا ید اللاحق فلایمکن أن تکون مشغولةً

ص:294


1- 3 . حاشیة المکاسب للسیّد الطباطبائی 2/311.

بالمال مجرّدا؛ لأنّ المفروض أنّ المال وصل إلی اللاحق بعد اشتغال ذمّة السابق به، فشمول «علی الید» بالنسبة إلی السابق کشمول دلیل حجّیّة الخبر للخبر بلا واسطةٍ بالنسبة إلینا، وشموله بالنسبة إلی اللاحق کشمول دلیل الحجّیّة للخبر مع الواسطة، فإنّه کما یثبت موضوع بتوسّط شمول فردٍ من الحکم لفردٍ من الموضوع ولا مانع من شمول فردٍ آخر من الحکم الانحلالیّ لهذا الموضوع المتولّد فکذا یثبت خصوصیّة للمال واعتبار عقلائیّ له بتوسّط شمول «علی الید» للید الاُولی، فإذا عمّ فرد من الحکم الید الثانیة مع الخصوصیّة الّتی نشأت من قبل شمول «علی الید» للید الاُولی فمقتضاه: أن لا تکون الید اللاحقة ضامنةً للمال مجرّدا عن الخصوصیّة کضمان الید السابقة، بل هی تضمن العین للمالک بخصوصیّة کونها فی ذمّة الاُولی. وهذه الخصوصیّة اعتبار عقلائیّ لا یمکن أن تجرّد الید اللاحقة عنها إلاّ بدلیلٍ خارجیّ، وإلاّ فمقتضی عموم «علی الید ما أخذت» وانحلالیّة القضیّة ثبوت هذه الخصوصیّة فی ذمّة الثانی، وهذا عین الضمان الطولیّ»(1).

حاصل کلام المحقّق النائینی: «إنّ هذه الاعتراضات السبعة مبتنیة علی ما فهمه من ظاهر کلام الشیخ [الأعظم] قدس سره من أنّ المراد بالبدل هو بدل العین الثابت فی ذمّة الضامن، إلاّ أنّ الأمر لیس کذلک، بل المراد من البدل فی کلماته قدس سره إنّما هو بدل ما یضمنه الضامن الأوّل، وتوضیحه: أنه قدس سره لمّا رأی أنّ المال لایضمن بضمانین عرضیّین فلایمکن

أن یقال إنّ السابق واللاحق کلاهما ضامنان للمال فی عرض واحد، فجعل الضمان طولیا فی المقام بأن یکون السابق ضامنا للمالک واللاحق ضامنا للضامن السابق نظیر الضمانات الاختیاریة کما إذا أمر مدیون أحدا بالضمان لیضمن له عند الدائن فضمنه ذلک الشخص فقد سقط الضمان عن المدیون وانتقل إلی الضامن، إلاّ أنّ المدیون یضمن للضامن ما دفعه إلی الدائن، فإن دفعه إلیه فیضمنه بمقداره وإلاّ فإن لم یدفع إلیه شیئا فلا وجه لضمان المدیون له بشیء، وفی المقام أیضا إن دفع السابق ما ضمنه للمالک فیضمن اللاحق له ما دفعه إلی المالک، وإن لم یؤدّ إلیه شیئا فلا وجه لضمانه کما هو واضح فالمراد

ص:295


1- 1 . منیة الطالب 2/(189-187).

بالبدل فی کلامه قدس سره بدل ما یضمنه السابق للمالک ولعلّه ظاهر، هذا»(1).

مناقشة السیّد الخوئی لِتَوْجِیْهِ النائینی

وناقش السیّد الخوئی کلام استاذه وقال: «إنّ ما أفاده - وان کان ممکنا ثبوتا ومعقولاً - إلاّ انه لا دلیل علیه إثباتا، فإنّ دلیل الضمان فی تعاقب الأیادی منحصر فی الید، ونسبته إلی السابق واللاحق واحدة، ولا وجه لکون السابق ضامنا للاحق واللاحق ضامنا لما ضمنه السابق، بل مقتضی القاعدة ضمان کلّ منهما للمالک، وإنّما التزمنا به فی الضمان العقدی للدلیل وهو مفقود فی المقام.

هذا مضافا إلی أنّ لازم ذلک أن لا یجوز للمالک الرجوع إلی الضامن اللاحق، لأنه لیس ضامنا للمالک وإنّما هو ضامن للضامن السابق علی الفرض، کما فی الضمان العقدی فی باب الدین والذمّم، وهذا مما لا یمکن الإلتزام به فی المقام، فالظاهر أنّ مراد المصنف هو الذی فهمه السیّد [الیزدی] وأورد علیه قوله قدس سره »(2).

2/ ج - توجیه کلام الاشیخ الأعظم قدس سره فی بیان السیّد الخمینی
اشارة

قال: «یمکن إرجاع کلام الشیخ الاعظم قدس سره إلی دعوی إطلاق دلیل الید بالنسبة إلی الضامن، فأراد تصحیح ضمان الأیادی المتعاقبة - بنحو ما هو المعروف - بواسطة الإطلاق فی دلیل الید بنحو ما ذکرناه.

فقوله: «السابق اشتغلت ذمّته بالبدل قبل اللاحق»(3)، لیس المراد منه الاشتغال بالبدل حال وجود العین، بل المرد الاشتغال بالأمر التعلیقیّ، أی ضمان المبدل إذا تلف،

ضرورة عدم اجتماع البدل والمبدل، فعبّر عن الضمان ب- «الاشتغال بالبدل».

وقوله: «فإذا حصل المال فی ید اللاحق، فقد ضمن شیئا له بدل»(4)، یراد منه أنّه ضمن شیئا مضمونا.

ص:296


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/107.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/494.
3- 3 . المکاسب 3/508.
4- 1 . نفس المصدر.

وقوله: «فهذا الضمان یرجع إلی ضمان واحد من البدل والمبدل علی سبیل البدل»(1).

یراد به أنّه إذا حصل المال فی ید الثانی، ضمن المبدل للمالک بالمعنی التعلیقیّ؛ أی علیه درکه إذا تلف بمقتضی دلیل الید، وضمن البدل؛ أی ضمان الید الأولی للضامن بمعنی تعلیقیّ أیضا، أی إذا تدارک فعلیه ضمان التدارک، وذلک أیضا بدلیل الید وإطلاقه.

وبعبارة أُخری: إذا وضع الثانی یده علی العین، حصلت قضیّتان تعلیقیّتان:

الاُولی: «إذا تلفت فعلیک جبرها للمالک؛ لوقوع یدک علی ماله».

والثانیة: «إذا تدارک الضامن الأوّل، فعلیک ضمان التدارک؛ لوقوع العین التی ضمنها فی یدک من یده، أو بعد وقوعها فی یده».

وإذا تلفت العین خرجت القضیّة الاُولی من التعلیقیّة إلی التنجیزیّة، وتبقی الثانیة علی تعلیقیّتها إلی أن یؤدّی الدرک.

وقوله بعد ذلک: «والحاصل أنّ من تلف المال فی یده ضامن لأحد الشخصین علی البدل من المالک ومن سبقه فی الید... إلی قوله: وهذا اشتغال شخص واحد بشیئین لشخصین علی البدل»(2)، یؤکّد ما ذکرناه؛ من أنّ الاستناد إلی دلیل الید فی الضمان للمالک، وهو واضح، وفی الضمان للضامن بتلقّیه المال منه.

فلو فرض إطلاق لدلیل الید یشمل الأمرین، ویکون حاصله: «علی الید ما أخذت من المالک بوسط أو بلا وسط، وعلیها ما أخذت من الضامن بوسط وبلاوسط» فیکون المالک والضامن کلاهما مضمونا لهما، لکان لازمه العرفیّ هو ما ذکره القوم فی ضمان الأیادی المتعاقبة.

وعلیه لا یرد إشکال علی الشیخ قدس سره ، لا ما أورده المحقّق الخراسانی(3) قدس سره ، ولا ما

ص:297


1- 2 . نفس المصدر.
2- 3 . المکاسب 3/509.
3- 4 . حاشیة المکاسب، المحقّق الخراسانی /84.

أورده السیّد الطباطبائی(1) قدس سره ، ولا غیرهما.(2)

نعم، یرد علیه إشکال واحد، وهو عدم الإطلاق لدلیل الید.

ودعوی الإطلاق أمر یمکن صدوره من الشیخ الأعظم قدس سره ، دون ما احتمله المحقّقون ممّا یرد علیه ما أوردوه، بل وزائد علیه ممّا لا داعی لذکره.

وعلی ما احتملناه، تکون الغایة فی دلیل الید غایة لأمرین:

أحدهما: الضمان بالنسبة إلی المالک، فأداء المأخوذ إلیه غایة لرفعه، وبه یرتفع موضوع الضمانات الآخر.

وثانیهما: ضمان الضامن، غایته رجوعه إلی الغاصب السابق، فبإرجاع المال إلیه یرتفع ضمانه لدرکه وإن فعل حراما، ولیس دلیل الید متعرّضا للزوم أداء المال إلی صاحبه، بل مفاده بیان الضمان وغایته.

والإنصاف: أنّ ما ذکرناه فی توجیه کلامه وإن کان مخالفا فی الجملة لظاهره، لکنّه أولی ممّا ذکروه ممّا لا ینبغی صدوره من مثله، فتدبّر جیّدا»(3).

نقد توجیه السیّد الخمینی رحمه الله

یناقش علی هذا التوجیه والتفسیر بوجوه:

الأوّل: هذا التوجیه مخالف لظاهر کلام الشیخ الأعظم کما اعترف صاحبه وقال فی آخر کلامه: «إنّ ما ذکرناه فی توجیه کلامه وإن کان مخالفا فی الجملة لظاهره»(4).

الثانی: دلیل علی الید لیس له إطلاقٌ حتّی یتمسّک به فی المقام ویبنی علیه ما بناه صاحب هذا التوجیه کما قاله نفسه: «نعم، یرد علیه إشکال واحد وهو عدم الإطلاق لدلیل الید»(5).

ص:298


1- 1 . حاشیة المکاسب ،السیّد الیزدی 2/(313-310).
2- 2 . حاشیة المکاسب، المحقّق الإیروانی 2/348.
3- 3 . کتاب البیع 2/(490-488).
4- 4 . کتاب البیع 2/490.
5- 5 . کتاب البیع 2/490.

الثالث: لم یرتفع ضمان الغاصب الثانی [اللاحق] إذا أدّی الخسارة والبدل إلی الغاصب الأوّل [السابق] عند الباحثین فی تعاقب الأیدی ولکن السیّد الخمینی رحمه الله یقول: «فبإرجاع المال إلیه یرتفع ضمانه لدرکه وإن فعل حراما»(1).

الرابع: دلیل علی الید غایته إرجاع المال أو بدله إلی مالکه والغایة محذوف لوضوحها فما ذکره من أنّ «لیس دلیل الید متعرّضا للزوم أداء المال إلی صاحبه بل مفاده بیان الضمان وغایته» غیر تام.

3- محاولة للشیخ الرشتی لحلّ العویصة
اشارة

طرح المحقّق الشیخ المیرزا حبیب اللّه الرشتی قدس سره حلاًّ للعویصة وهو: «معنی قوله علیه السلام : «علی الید» علی ما یقتضیه کلمة «علی» مع ملاحظة وقوعها حیّز العین لا الفعل فإنّه یفید حکما تکلیفیا متعلّقا به، کما فی قول الآخر «علیک فعل کذا» هو العهدة بما دخل تحت الید ومعنی العهد به الالتزام به بإیصال عینه إلی صاحبه أو إیصال بدله إلی کیس من خرج عن کیسه تلک العین.

وحاصله: أن تکون خسارة تلک العین علیه، بحیث لو حدث فیه عیب أو نقص أو تلف أو نحو ذلک ممّا یوجب الخسارة، کان علیه جبران ذلک... فلننبّه علی أُمورٍ:

الأوّل: أنّ المال الواحد یستحیل أن یکون له غرامتان من باب قاعدة الضمان، لأنّ بدل الشیء ما یساویه من جمیع الجهات، التی منها التعدّد والاتّحاد، وإلاّ لخرج عن کونه بدلاً، من غیر فرق بین أن یکون الغارم شخصا واحدا أو متعدّدا، فکما لایعقل أن یغرم شخص واحد بمال واحد غرامتین، فکذلک لا یعقل أن یغرم شخصان کلّ منهما بغرامة مستقلّة. نعم لا استحالة فی تعلّق غرامة واحدة علی ذمم متعدّدة، علی وجهٍ لا یرجع إلی التزام کلّ منهما ببدل مستقلّ غیر ما التزم به الآخر... .

والحاصل: أنّ المراد بضمان الجمیع عند تعاقب الأیادی، أنّ خسارة المال المأخوذ التی لایتصوّر فیها التعدّد، علی قیاس عدم تصوّره فی نفس ذلک المال تتعلّق

ص:299


1- 6 . کتاب البیع 2/490.

علی رقابهم جمیعا، لا أنّ کلّ واحد علیه خسارة اُخری غیر خسارة الآخر، فهم بأجمعهم ضامنون للبدل، لا أنّ کلّ واحدٍ ضامن لبدل... فوحدة المضمون یقتضی رفع الضمان بمجرّد تحقّق أداء البدل فی الخارج، وإن کان الضامن متعدّدا.

الثانی: أنّ مرجع الضمان إلی انتقال الخسارة المشار إلیها من المضمون له إلی الضامن... فمعنی انتقال الخسارة من المالک إلی الضامن، أنّه لولاه لفاتت الخسارة من کیسه... فإذا فرضنا أنّ خسارة تلفه علی الضامن، وأنّه یجب علیه دفع البدل إلی المالک،

فلا ریب فی ملک المالک للبدل ملکا متزلزلاً مراعیً بالتلف والرجوع.

الثالث: أنّ الضمانة کما یمکن أن تکون للمالک، کذلک یمکن أن تکون لغیره ممّن فی عهدته خسارة المضمون، فلو کان المضمون له غیر المالک، بأن یترتّب ضمانٌ علی ضمان کما فیما نحن فیه مِنْ مسألة تعاقب الأیادی، انتقل الضمان من الأوّل إلی الثانی أیضا، من غیر براءة ذمّة الأوّل عن الضمان، ومعنی الانتقال حینئذٍ أنّ الضامن الأوّل لو خسر للمالک رجع إلی الثانی من غیر أن یکون الضمانة الثانیة لخصوص الضامن الأوّل، بل له وللمالک کلیهما، فللمالک سلطنة مطالبة الغرامة عن الثانی أیضا کالأوّل... والدلیل علی ذلک عموم قوله علیه السلام : «علی الید» فالید الثانیة علیها أیضا ما أخذت، یعنی علیها خسارة ما أخذت وغرامته وحیث کانت الخسارة قبل تحقق الضمانة الثانیة علی الضامن الأوّل، فیکون هو أیضا مضمونا له کالمالک...»(1).

یمکن أنْ یُناقَشَ حَلُّ الشَّیْخ الرشتی

باُمورٍ: الأوّل: کیف جمع قدس سره بین الملکیة المتزلزلة وبین الملکیة الْمُراعاة، - أی الشأنیة - لأنّهما یُعَدّان مُتَنافِیَیْنِ لأنّ الملکیة إذا وجدت ولو متزلزلة کیف یمکن فرض تعلیق وجودها واعتبارها مُراعاةً بالتلف أو الرجوع؟! وإذا کانت الملکیة مُراعاةً بالتلف والرجوع أو کانت شأنیة فکیف یمکن فرض وجودها وتزلزلها؟!(2)

ص:300


1- 1 . کتاب الغصب /(124-120) للمحقّق الرشتی.
2- 2 . العقد النضید 4/69.

الثانی: ثمّ فرض الملکیة المتزلزلة للعین المغصوبة للغاصب أو الضامن یعد من أنیاب الأغوال. نعم، علی فرض وجودها لایبعد حکم العرف بالمعاوضة القهریة.

وأمّا فرض الملکیة الْمُراعاة أو الشأنیة بحیث إذا تلفت العین تصیر ملکا لضامنه ویصیر بدله ملکا لصاحب العین وإن کان فی بقعة الإمکان ولکن لاتفید المعاوضة القهریة التی کان قدس سره بصدد توضیحها.(1)

الثالث: ما ذکره قدس سره من انتقال الضمان من ذمّة الضامن الأوّل إلی ذمّة الضامن الثانی صحیح ثبوتا وإثباتا بمعنی أنّه ممکن وواقع لکنّه فی باب الضمان العقدی کما مرّ ولکن بخلاف ما نحن فیه لأنّه لا دلیل علی ضمان ذمّة الضامن الثانی أمام المالک وأمام الضامن الأوّل معا، فلا مجال للحکم باشتغال ذمّة الضامن الثانی وضمانه أمام الضامن الأوّل

بحیث یحقّ الضامن الأوّل الرجوع إلی الضامن الثانی والمطالبة منه وبحیث لو أدی الضامن الثانی إلی الضامن الأوّل فقد برئت ذمّته.(2)

4- جواب المحقّق الخراسانی عن العویصة
اشارة

قال قدس سره : «والتحقیق أن یقال: إنّ قضیة «علی الید» لیس إلاّ کون المأخوذ فی تعاقب الأیدی العادیة فی عهدة کلّ واحدة منها عینا - کما إذا کانت وحدها - وهی لیست إلاّ اعتبار خاص عقلائی له منشاء مخصوص وله آثار خاصة، من وجوب ردّ العین عینا لو کانت الید واحدة، وکفائیا لو کانت متعددة، ووجوب التدارک بالبدل مع تعذّر ردّها أو تلفها من دون اشتغال الذّمة به أصلاً، لا حال التّمکن من الرّد، کما هو واضح، ولا حال التّعذر، أو التّلف، وذلک لبقاء ضمان العین وعهدتها، لعدم مجیء الغایة، وهی التأدیة، ولذا یجب فی صورة التّعذر، لو تدارک ردّ العین نفسها إذا تمکّن منه، وکذا مع التّلف لو اتّفق علی خلاف العادة تمکنّه من ردّها، ومعه لا وجه ولا سبب لإشتغال الذّمة ببدلها، کما لا یخفی، کی یلزم اشتغال ذمّة المتعدّد ببدل واحد المستلزم لکون المتعدّد بدلاً عن الواحد،

ص:301


1- 3 . کتاب البیع 2/485.
2- 1 . العقد النضید 4/72.

ولا یکاد یکون بدل الواحد، إلاّ الواحد، وامّا کون الواحد فی عهدة المتعدّد، بحیث یجب علی کلِّ واحد کفائیّا، ردّه إلی مالکه، وتخییر المالک فی الرجوع إلی الکلِّ، فهو بمکان من الإمکان، کما هو قضیة «علی الید».

وأمّا حدیث جواز رجوع الید السّابقة إلی اللآحقة، لو رجع إلیها المالک، المستلزم لکون قرار ضمان التّالف علی مَنْ تلف عنده، مع المساواة فیما هو سبب الضمان، فهو أیضا من آثار حدوث سبب ضمان ما کان، فی ضمان الآخر، لواحد آخر، وأحکامه عند العرف، ویؤیّده الاعتبار، ولم یُرْدَعْ عنه فی الأخبار؛ فلابد من الالتزام به شرعا، کما هو الحال فی جلّ أحکام الضمان، حیث أنّه لا وجه له إلاّ الثّبوت عرفا، وعدم الرّدع عنه شرعا، وکَشَفَ ذلک عن إمضاء الشارع، فیما إذا أطلق دلیل الضّمان، فتدبر جیّدا»(1).

واستشکل علی حلّ الشیخ الأعظم قدس سره بقوله: «فیه ما عرفت، إنّ اشتغال الذّمة لو کان، لکان بعد تلف العین، واللآحق إنّما ضمنها قبل تلفها، فلم یحصل له إلاّ سبب ضمان نَفْسِ الْعَیْنِ عینا، ولم یحدث بعد سبب ضمان آخر لها ولبدلها علی البدل، وثبوته [الضمان] علی السّابق معلّقا علی تلفها، حین ضمان اللاحق لها، لا یوجب ضمانه

[اللاحق] مطلقا له [السابق] ولمبدله علی البدل، لعدم ثبوته علی السّابق فی زمانه، هذا مع أنّ اشتغال ذمّة السّابق بالبدل فعلاً، لایقتضی أن یکون مجرّد حدوث سبب ضمان العین اللاحق عینا، موجبا لضمان واحد من العین والبدل علی البدل، ولا محذور أصلاً فی خروجه، لولاه عن البدلیّة، بحسب حکم ضمان العین علی اللاحق، بل لا محیص عنه، لاختصاص السبّب بضمانها، وانّما المحذور، خروجه عنها مطلقا، ولو بحسب ما علی السّابق، وهو غیر لازم، کما لا یخفی.

نعم لو کان هناک دلیل علیها، کذلک الحکم بالضمان علی البدل، إلاّ انّه لا للزوم الخلف لولاه، کما ذکره، بل للدلیل، فافهم. وقد عرفت انّ الوجه فی ذلک، ضمان ما کان فی ضمان الآخر وعهدته، وقضیّته مثل هذا الضّمان، بحسب الاعتبار، وعند اهل العرف، هو

ص:302


1- 2 . حاشیة المکاسب /82 و 83.

رجوع السّابق إلی اللاحق، لو رجع إلیه المالک»(1).

الاعتراض علی جواب المحقّق الخراسانی

نعم، الاطلاقات الشرعیة الواردة فی باب المعاملات محمولة علی السِّیَرِ العُرْفِیَّةِ العقلائیة عند فقد ما یردع عنها، فکبری جوابه لا إشکال علیها، وإنّما الاعتراض فی الصغری التی ادَّعاها من جریان سیرة العرفیة والعقلائیة علی قرار الضمان علی مَنْ تلفت العین عنده وأنّ کل سابق یرجع إلی لاحقه إلی استقرار الضمان علی من تلفت العین عنده وهذه الدعوی أوّل الکلام ولم تَثْبُتْ عندنا هذه السیرة العرفیة وإن شککت فالعُرْفُ ببابک!(2) واللّه العالم.

ولذا قال السیّد الخمینی رحمه الله : «إنّ أصل الضمان الید بما ذکره الفقهاء لیس عرفیّا عقلائیا، فضلاً عن أحکام تعاقب الأیادی»(3).

5- محاولة الفقیه السیّد الیزدی رحمه الله لحلِّ العویصة
اشارة

قال: «یمکن توجیه رجوع السابقین إلی اللاحقین بوجه آخر أحسن من توجیهی المصنّف [الشیخ الأعظم] و [صاحب] الجواهر، وهو أن یقال: إنَّ الوجه فی أنَّه إذا أدّی العوض إلی المالک فقد ملک العین التالفة بالمعاوضة القهریة، فیقوم مقام المالک فی جواز الرجوع إلی الأیدی المتأخرة إلی أن یستقر الضمان علی من تلف فی یده.

والفرق بین هذا وما ذکره صاحب الجواهر فی موضعین:

أحدهما: أنَّه یقول إنَّ العوض لیس إلاّ فی ذمّة من تلف فی یده، وخطاب غیره بالأداء تکلیفی لا ذمی، وهذا التوجیه لیس مبنیا علی ذلک، بل یتم مع الإلتزام بشغل ذمة الجمیع أیضا.

والثانی: أنَّه یقول بالمعاوضة القهریة بین البدل المدفوع من أحد السابقین وبین ما فی ذمة الأخیر، وهو مَنْ تلف فی یده، وعلی هذا التوجیه المعاوضة القهریة إنَّما هی بین

ص:303


1- 1 . حاشیة المکاسب /84.
2- 2 . راجع العقد النضید 4/66.
3- 3 . الکتاب البیع 2/501.

البدل والعین التالفة، بمعنی أنَّها تعتبر ملکا لدافع البدل، فیکون هو بمنزلة المالک لتلک العین، فله مطالبة عوضها ممن أثبت یده علیها أو أتلفها.

وتوضیح هذا المطلب ببیان مقدمات:

الأولی: لا إشکال فی أنَّ المالک إذا صالح(1) العین التالفة التی اعتبر وجودها فی ذمّة ذوی الأیدی مع غیرهم، أو مع أحدهم یقوم ذلک المصالح معه مقامه فی جواز مطالبة مَنْ شاء منهم، وکذا إذا حسب علی أحدهم خمسا أو زکاة أو صدقة أو نحو ذلک فإنَّه حینئذٍ یقوم مقام المالک فی المطالبة.

الثانیة: أنَّ مقتضی القاعدة دخول الْمُعَوَّض فی ملک من خرج عنه العوض.

الثالثة: أنَّ فی باب الغرامات العوض المدفوع یکون عوضا لنفس العین التالفة، ولازمه اعتبار کون العین ملکا للدافع؛ إذ لا فَرْقَ بین المعاوضة بعنوانها وبین إعطاء العوض، فانَّ ما ذکرنا إنَّما کان مقتضی العوضیة، فلو کان للعین التالفة اعتبار عقلائی یکون للدافع، ولذا قلنا فی بدل الحیلولة إنَّ مقتضی أخذ البدل إذا کان بدلاً عن نفس العین - لا عن الحیلولة کما هو الظاهر - دخول العین فی ملک الضامن، غایته أنَّ ملکه متزلزل، وأیضا إذا غرقتْ العین فی البحر فأعطی عوضها تَکُوْنُ العین للدافع، فإذا ترتب علی وجودها تحت الماء أثر کان له، وإذا کان کذلک ففی المقام إذا دفع أحد السابقین بدل العین التالفة، وصارت کأنّها مال تالف له یکون مثل المالک فی جواز الرجوع إلی من بعده.

ودعوی: أنَّه لا معنی لاِعتبار العین التالفة بعد تلفها ملکا لأحد.

مدفوعة: بما هو المسلّم بینهم فی باب الخیار مِن جواز فسخ المعاملة بعد تلف العین، فیرجع إلی المثل أو القیمة، مع أنَّ الفسخ إنَّما یؤثر من حینه، فلیس إلاّ اعتبار کون

العین التالفة ملکا لمالکه الأوّل، فیرجع إلی بدلها، فلا مانع من هذا الاعتبار إذا ترتب علیه أثر کما فی الضمان أیضا.

نعم، یبقی شیء: وهو أنَّ لازم هذا التوجیه جواز رجوعه إلی السابقین أیضا؛ لأنَّ

ص:304


1- 1 . هکذا فی الأصل.

المفروض أنَّه قام مقام المالک.

ویمکن أن یقال: إنَّ الوجه فی عدم جواز رجوعه إلیهم لأنَّه السبب فی ضَمانِهِمْ، بمعنی استقرار العوض فی ذمتهم، فمن هذه الجهة یحصل الفرق بینه وبین المالک، هذا.

والتحقیق: ما أشرنا إلیه سابقا من أنَّه لا فرق بین الإتلاف والتلف وإثبات الید فی صدق سببیة الضمان، وأنَّ الوجه فی جواز رجوع السابق إلی اللاحق أنَّه السبب فی ضمانه، بمعنی استقرار العوض فی ذمته، کیف؟ وإلاّ أمکنه أن یدفع نفس العین إلی المالک لیخرج من تبعة الضمان، فکما اعترف القائل بأنَّ الرجوع علی المتلف موافق للقاعدة من جهة تسبیبه للضمان، فکذا نقول بالنسبة إلی من أثبت الید وإن لم یکن متلفا، ولا فرق فی ضمان السبب بین کونه عالما أو جاهلاً، فحال اللاحقین بالنسبة إلی السابقین کحال الغارِّ بالنسبة إلی المغرور، حیث قلنا إنَّ الوجه فی رجوعه علی غاره کونه سببا فی استقرار العوض فی ذمته، فانَّ اللاحق أیضا کذلک سبب لاستقرار العوض فی ذمة السابقین من جهة حیلولته بینهم وبین العین التی کان لهم أن یردوها إلی المالک؛ لئلاّ یستقر العوض فی ذمّتهم، ولا حاجة إلی الالتزام بالمعاوضة القهریة ولا غیرها، هکذا ینبغی تحقیق الحال، والمستعان باللّه المتعال»(1).

ردودٌ علی محاولة الفقیه السیّد الیزدی

یمکن أن یردّ علی مقدمته الاولی: أوّلاً: إنّ اعتبار المعدوم ملکا یحتاج إلی دلیل محکم فی الشَّرْعِ وهو فی المقام مفقود بل هو أمر خارج عن بناء العقلاء ولا دلیل علی اعتباره، بل الدلیل علی خلافه.

وثانیا: علی فرض ثبوت الخیار بعد التلف عُرْفا أو شَرْعا، لا یلزم من هذا الفرض اعتبار المعدوم ملکا، لأنّ الفسخ لیس عقدا جدیدا بل حلّ له ولازمه رجوع العین إلی مالکها ومع تلفها یجوز له الرجوع إلی مثلها أو قیمتها من غیر اعتبار العدم ملکا لطرف العقد ثمّ للمالک.

ص:305


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/(317-315).

وثالثا: «جواز مصالحة المالک علی العین التالفة موقوف علی مالکیته لها، واعتبار ملکیة المعدوم بما هو معدوم محالٌ، لأنّ المعدوم - کذلک - لا یدرک ولا یشار إلیه، فلابدّ من اعتباره موجودا واعتبار وجودهِ الذهنی لایفید بل لابدّ من اعتبار الوجود الخارجی... ولازم ذلک التعبد بوجود العین فی الخارج مملوکة لمالکها، إن کان الشارع هو الملاحِظ [أو المتعبِّد]... وهذا التعبد الشرعی تعبّد بسقوط الضمان إن کان بنحو الإطلاق فإنّه تعبد حینئذ بعدم تلف العین.

وإن کان التعبد من حیث أثر خاص [وهو الضمان]... لا یعقل... [لِ-]أنَّ [ه] مترتب علی تلفها [لا التعبد بوجودها]...»(1).

ویمکن أن یرد علی مقدمته الثانیة: بأنّ مقتضی قاعدة دخول المعوض فی ملک من خرج عنه العوض مسلَّم فی باب المعاملات، دون باب الغرامات والشاهد علیه باب الدیات وملکیة الْعُضْوِ المُبان لمن قُطع منه.

ویمکن أن یرد علی مقدمته الثالثة: من «أنّ باب الغرامات والضمانات عند العقلاء غیر باب المعاوضات، فمن أتلف مال الغیر ألزمه العرف بالغرامة من غیر اعتبار التالف ملکا له. ولو عبّر إحیانا ب- «البدل» و«العوض» لیس معناه المعاوضة وقعت بحکم العرف - قهرا علی الطرفین - بین المعدوم والموجود. بل باب الغرامات باب جبر الخسارة ولا یخطر ببال أحد من العرف المعاوضة والمبادلة. کما لایخطر ببالهم أنّ الخسارة جبر عوض موجب لکون التالف المعدوم ملکا للغارم، أو أنّ المعدوم حال عدمه ملک لصاحبه... هذا حال العرف. وأمّا الضمان فی الشرع فلیس أمرا مغایرا لما فی العرف والدلیل علیه أنّ الأدلة الواردة فی باب الضمانات لم تتعرّض لکیفیة الضمان، بل أوکلها الشارع الأقدس إلی العرف، وإنّما حکم بالضمان فی الموارد الکثیرة من غیر استشمام اعتبار المعاوضة بین التالف والغرامة»(2). هذا أوّلاً.

ص:306


1- 1 . کتاب البیع 2/497 و 496 للسیّد الخمینی رحمه الله .
2- 2 . کتاب البیع 2/483.

وثانیا: «إنّ ما ذکره مخالف لمبناه فی ضمان الید، من أنّ نفس العین تقع علی العهدة وهی باقیة إلی زمان الأداء وحصول الغایة(1)، فإنّ لازمه أن یکون أداء المثل أو

القیمة نحو أداء للعین حتّی یسقط الضمان بحصول غایته.

فعلی هذا: لا یکون أداء المثل أو القیمة عوضا من التالف، بل أداء للعین وبه تحصل غایة ا لضمان.

والعوضیة إنّما تناسب مذهب المشهور فی باب ضمان الید کما تناسب ضمان الإتلاف... ولازم مذهبه عدم العوضیة فحینئذ مع تسلیم جمیع المقدمات لا تنتج مارامه»(2).

وبما ذکرنا یظهر الرد علی ما جعله التحقیق فی المقام: لأنّ «مذهبه فی باب ضمان الید أنّ نفس العین علی العهدة ولا تتبدّل إلی المثل أو القیمة بالتلف والإتلاف فهی باقیة علیها إلی زمان الأداء ولو بمثلها أو قیمتها، فإنّهما أیضا نحو أداء عند تعذّر العین، فلا وجه حینئذ لما ذکره من سببیّة اللاحق لاستقرار الضمان أو العوض علی العهدة کما هو واضح... فعلیه لا یصحّ رجوع السابق إلی اللاحق متلفا، فإن الإتلاف - کالتلف - غیر دخیل فی الضمان واستقراره» هذا أوّلاً.

وثانیا: «مقایسة المقام بباب الغرور فغیر مرضیة لأنّ قاعدة الغرور قاعدة برأسها... ولها دلیل برأسه غیر مربوط بباب التسبیب... والغارّ کثیرا ما لا یکون سببا للضمان، کما إذا أتلف المغرور المال، فإنّه متلف وعلی المتلف الضمان وإن کان له الرجوع إلی الغار»(3).

أقول: هذه الرودود کلّها للسیّد الخمینی ولنا فی بعضها نظر ظهر ممّا مرّ أو یظهر ممّا یأتی فلیست کلها مقبولة عندی.

ص:307


1- 3 . حاشیة المکاسب 1/96، السطر 27، و 99، السطر 25 من طبع الحجری (1/469 و 482 من الطبعة الحدیثة عام 1423).
2- 1 . کتاب البیع 2/498.
3- 2 . کتاب البیع 2/500.
6- حلّ السیّد الخوئی للعویصة
اشارة

قال: «نبنی علی أنّ الخطاب بالإضافة إلی کلِّ مِنْ السابق واللاحق وضعی، وکلٌ منهما أو منهم ضامن لبدل المال غایته علی نحو الواجب الکفائی، بأن یکون البدل ثابتا علی ذمّة کلّ من الضامنین علی البدل لا عینا فإنّه مستحیل، لأن المبدل الواحد لا یعقل أن یکون له أبدال عدیدة بعنوان البدلیة، وکما یمکن أن یکون الطلب واحدا والمتعلق متعددا کذلک یمکن أن یکون الضمان واحدا والضامن متعددا، وإذا ثبت ذلک فنکتفی بالمقدمة الثانیة ونقول: إذا أدی أحدهم البدل إلی المالک یملک التالف بقاءً بالمعاوضة

القهریة، کما علیه السیرة العقلائیة ویشهد لها أمران:

أحدهما: ما إذا فرضنا ان أحدا أتلف مال الغیر حقیقة - کما إذا غصب فرس الغیر فقتله أو ذبحه - فأدی إلی مالکه المثل أو القیمة لیس للمالک أنْ یطالبه بمیتة ذلک الفرس، بل یکون متعلّق حقّ الدافع ولیس للمالک مزاحمته فی ذلک.

ثانیهما: ما إذا فرضنا أن أحدا غصب مال غیره وغصبه منه شخص ثانی وألقاه فی البحر مثلاً بحیث صار بحکم التالف ثمّ رجع المالک إلی الغاصب الأوّل فأخذ منه البدل یکون ما فی البحر ملکا له لا للمالک ویجوز له تصرفه فیه، فإذا فرضنا أنّ الغاصب الثانی أخرجه من البحر لابد من ارجاعه إلی الغاصب الأوّل الذی دفع البدل إلی المالک لا إلی المالک الأوّل، فالسیرة قائمة علی تحقّق المعاوضة فی أمثال ذلک، والمقام من هذا القبیل، فإذا ثبت ذلک یتم المقصود من رجوع السابق إلی اللاحق دون العکس.

والحاصل أنّه لا إشکال فی ضمان کلّ من ذوی الأیادی فی تعاقبها للمالک غایته علی البدل بنحو الوجوب الکفائی، فإذا رجع المالک إلی أحدهم فأخذ منه البدل صار بأدائه مالکا للمبدل بقاءً، ولا مانع من اعتبار ملکیة التالف فیما إذا لم یکن لغوا وترتب علیه الأثر، ویدلّ علی هذه المعاوضة أمران:

أحدهما: انه إذا تلف مالُ الغیر عند شخص أو أتلفه فأدی مثله أو قیمته إلی المالک لا تکون اجزاؤه الباقیة ملکا للمالک، سواء کانت تسوی بقیمة زهیدة أو لم تکن لها قیمة أصلاً، بل یکون بنظر العقلاء ملکا لمن أدی العوض ولیس للمالک مزاحمته فیها.

ص:308

ثانیهما: انه إذا تلف المال عرفا لا حقیقة - کما إذا کان فصا فألقی فی البحر - فرجع المالک إلی من ألقاه وأخذ بدله منه کان المال ملکا لمن أدی البدل، ولذا لو فرضنا أن أحدا فتح باب قفص الطیر فطار فأدی قیمته إلی المالک ثمّ قتله شخص آخر فی الهواء ببندقة ونحوها کان ضامنا لمن أدی بدله لا للمالک، والسیرة العقلائیة قائمة علی ذلک ولم یردع عنها، فیعرف من ذلک أنّ من أدی البدل فی موارد الضمان یکون هو المالک للمبدل.

وببیان أوضح: انه لا إشکال فی أن وجود کلّ من الفعلین فی الواجب التخییری مباین لوجود الفعل الآخر، وإن کان الطلب متعلقا بالجامع بینهما، فالامتثال انّما یحصل بخصوص الفعل المأتی به لا بالجامع، کما أنّ الثواب أیضا یترتب علی الفعل الخاص لا علی الجامع، وکذا فی الواجب الکفائی، فإنّ التکلیف وإن کان متعلقا بطبیعی المکلف إلاّ أنّ وجود کلّ مکلف مباین مع وجود الآخر، فإذا امتثل التکلیف أحدهم یکون هو المثاب

بخصوصه دون الطبیعی وان کان هناک أثر آخر یترتب علیه دون غیره، کما إذا فرضنا ورد فی الدلیل ان من صلّی علی الجنازة تقبل شهادته، فقبول الشهادة یترتب علی من صلّی دون غیره من المکلّفین، وهذا جار فی باب الضمان أیضا فانه وان کان متعلقا بالجامع إلاّ ان الأثر المرتب علی الضمان - وهو ملکیة المبدل عند دفع البدل - یترتب علی خصوص من خرج عن الضمان بأداء البدل دون غیره، فاذا أدی أحدهم البدل إلی المالک هو یکون مالکا للمبدل بقاءً دون طبیعی الضامن ویکون نازلاً منزلته، فله الرجوع إلی من تلف المال فی یده ومن کان بینه وبینه ممن وقعت أیدیهم علی التالف.

ثمّ بعد ثبوت ذلک وکون من أدی البدل مالکا للمبدل بقاءً فهو بمنزلة المالک، فلماذا لا یجوز له الرجوع إلاّ إلی اللاحق دون السابق کما کان للمالک الرجوع إلیه أیضا بمقتضی «علی الید»، وهو أیضا یقتضی رجوع المالک بقاء إلی کلٍّ منهما»(1).

مناقشات علی حلّ السیّد الخوئی
اشارة

قد یظهر بعض المناقشات ممّا مرّ ومنها:

ص:309


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/(499-497).

أوّلاً: اعتبار التالف ملکا بما هو تالف ومعدوم یحتاج إلی دلیل مفقود فی المقام.

وثانیا: یمکن لأحد أن یناقش فی وجود السیرة العقلائیة علی ثبوت المعاوضة القهریة بین البدل والعین التالفة.

وثالثا: نفس وجود المعاوضة القهریة غیر معلوم عند العقلاء وإنّما ذکرها بعض المتأخرین ولعلّ احتمالها قد نشأ من تعبیر الأصحاب قدس سرهم الغرامة بالبدل حیث لایعقل کون المعدوم - بما هو معدوم - ملکا لصاحبه أو ملکا لغارمه.(1)

ورابعا: «أنّ قیاسه التلف الحکمی بالتلف الحقیقی ممنوعٌ، فما ذکره من قیام السیرة العقلائیة علی أنّ الضامن الدافع للعوض إلی المالک، یعدّ مالکا لبقایا التالف من الرضاض والکسور، مختصُّ بالتلف الحکمی، والبحث فی المقام عن التلف الحقیقی، ولم تثبت فیه السیرة المدّعاة فی التلف الحکمی، بل نفس الشکّ فی تحقّق السیرة وعدمه کافٍ فی نفیها، وبالتالی فقیاس التلف الحقیقی بالحکمی قیاسٌ مع الفارق.

وخامسا: أنّ الاعتبار لا قیمة له إلاّ إذا کان ذا أثر، کما فی المقام،فإنّ اعتبار ملکیّة التالف للید الاُولی لا أثر له إلاّ الضمان، بمعنی أنّه یترتّب علی ملْکیّة الضامن الأوّل

للتالف حقّه فی مطالبة الذمّة اللاّحقة المتلفة بعوض المدفوع إلی المالک، ومن المعلوم أنّ اعتبار الملکیّة لأجل ترتّب الضمان مستلزمٌ للدور الباطل.

وسادسا: کما إنّ الید السابقة ضامنة أمام المالک، کذلک الید اللاّحقة ضامنة له عند استیلاءه بقاعدة الید، ولیس هناک زیادة استیلاء لأحدهما علی الآخر لیستوجب تقدّمه فی الضمان علی الآخر، نعم حصل هناک تلف فی ظرف استیلاء الید اللاّحقة، فدفع السابق بدله، وفی ظرف التلف لم تکن للسابق یدٌ علی المال لیستلزم یده ودفعه البدل الملکیة علی المال، فقوله: «فلم یبق إلاّ أن یکون للضامن بعد إعطاء عوضه»(2) ممنوعٌ»(3).

ص:310


1- 2 . الثلاثة الاُولی للسیّد الخمینی فی ردوده علی الفقیه الیزدی.
2- 1 . مصباح الفقاهة 4/385.
3- 2 . العقد النضید 4/74.
جواب المناقشات علی حلّ السیّد الخوئی

یمکن أن یجاب عن المناقشات:

وعن الأوّل: اعتبار الملکیة للتالف أو المعدوم بما هو تالف أو معدوم ممکن ولا یحتاج إلی أزید من الاعتبار والأمر فیه سهلٌ، نعم یحتاج إلی وجود الثمرة وهی موجودة، والدلیل علی الاعتبار نفس هذه السیرة العقلائیة.

وعن الثانی: السیرة العقلائیة موجودة علی المعاوضة القهریة ویمکن امتحانها فی الموارد المختلفة عند عامة الناس.

وعن الثالث: المعاوضة القهریة موجودة والشاهد علیها ما مرّ فی بحث الکشف الحکمی وإجازة المالک، من «إمکان کون الشیء فی زمان ملکا لواحد، وفی ذلک الزمان بعینه ملکا لآخر مع تعدد زمان الاعتبار، وعلیه فقبل دفع الضامن الأوّل البدل یعتبر التالف ملکا للمالک فی زمان طُرُوْءِ التلف علیه، وبعد دفعه البدل یعتبر ذلک التالف فی ذلک الآن ملکا للضامن، والمصحح لذلک الاعتبار ترتب الأثر علیه من ملک الضامن بقایا التالف ورجوعه إلی الضامن الثانی.

ویشهد لذلک ملاحظة فسخ البائع البیع بالخیار المشروط له مع تلف المبیع فی ید المشتری، فإنّه قبل الفسخ یکون المبیع زمان طریان التلف علیه ملک المشتری وبعد الفسخ یعتبر ذلک المبیع فی ذلک الآن ملک البائع، ولذا یرجع إلیه ببدله کما لا یخفی»(1).

وعن الرابع: مساواة التلف الحکمی والتلف الحقیقی بالنسبة إلی هذه المعاوضة القهریة ودلالة السیرة العقلائیة علیها والشاهد علی المساواة أنّ ما ذکره علی المعاوضة کلاهما تلف حکمی، ولکن ما ذکره علی جریان السیرة العقلائیة أحدهما تلف حقیقی وهو الأوّل وثانیهما تلف حکمی، وحیث أنّ السیرة العقلائیة قائمة علی التلفین فحکمهما بالنسبة إلی المعاوضة القهریة واحد. ولیس قیاسهما معا مع فارق.

وعن الخامس: أمر الإعتبار سهل وبید المعتبِر ولا یتم إلاّ إذا کان فی البین ثمرة

ص:311


1- 3 . إرشاد الطالب 4/141 و 142.

وإلاّ کان لغوا، والثمرة هنا ترتب ضمان اللاحقین لِمَنْ أدی البدل إلی المالک، ولم یکن فی البین دورٌ، یعتبر المعتبِر اعتبار ملکیة التالف للمؤدی ثمّ یترتب علی هذا الاعتبار ضمان اللاحقین بالنسبة إلیه، فأین الدور الذی ادعاه فی العقد النضید؟!

وعن السادس: بعد قبول ملکیة التالف للمؤدِّی، یثبت ضمان اللاحقین له وثبوت استقرار الضمان علی مَنْ تلف المال عنده لأنّه غیر قادر إلی أداء العین، فلا وجه لإشکال تساوی الأیدی الضامنة.

وبما أجبنا عن المناقشات علی حلّ السیّد الخوئی قدس سره ترتفع العویصة وللّه الحمد.

ونحن نوافق فتوی المشهور فی بحث تعاقب الأیدی من رجوع کلِّ سابق إلی لاحقه دون العکس واستقرار الضمان علی من تلفت العین فی یده واللّه العالم.

و«هذا کلّه إذا تلف المبیع فی ید المشتری»(1).

ص: 312


1- 1 . المکاسب 3/511.

حکم بقاء العین عند بعض الأیدی المتعاقبة

اشارة

قال الشیخ الأعظم قدس سره : «وقد عرفت الحکم أیضا فی صورة بقاء العین وأنّه یرجع المالک بها علی مَنْ فی یده أو من جرت یده علیها»(1).

أقول: مراده من قوله: «قد عرفت»، قوله فی أوّل المسالة الأولی من المسائل المتفرقة: «لو لم یجز المالک فإن کان المبیع فی یده فهو وإلاّ فله انتزاعه ممّن وجده فی یده مع بقائه...»(2). وهذا إذا أمکن انتزاع العین ممّن هی فی یده.

وإن لم یمکن انتزاع العین ممّن هی فی یده قال الشیخ الاعظم قدس سره : «فإن لم یمکن انتزاعها ممّن هی فی یده غرم للمالک بدل الحیلولة، وللمالک استرداده فیردّ بدل الحیلولة»(3).

أقول: قد مرّ فی مباحث بدل الحیلولة(4) عدم تمامیة أدلتها وقلنا هناک: «حیث لا تتمّ الأدلة لإثباتها فلا یمکننا موافقة المشهور من فقهائنا - قدس اللّه أسرارهم - من حکمهم بها، و فی موارد الضیاع و السرقة و الغرق و الإباق إن یصدق التلف عرفا یحکم بأدلة الضمان بضمان المال للمالک بالمثل أو القیمة من جانب الضامن.

و إذا لم یصدق التلف عرفا فلیس للمالک المطالبة ببدل ماله، نعم له اُجرة ماله بدلاً

ص:313


1- 1 . المکاسب 3/511.
2- 2 . المکاسب 3/483.
3- 3 . المکاسب 3/511.
4- 4 . الآراء الفقهیة 4/567 وما بعدها.

من منافعه الفائتة له.

و فی فرض التلف و أداء الضمان وقع المبادلة القهریة، فینتقل المال إلی المالک و العین التالفة إلی الضامن، بحیث لو وجدت إحیانا کانت له»(1).

فحینئذ - أی حین لایمکن انتزاع العین ممّن هی فی یده غرم للمالک بالبدل إن یصدق التلف علیه عرفا وإلاّ لابدّ للمالک من الصبر والظفر علی عین ماله وله الاُجرة بدلاً من منافعه الفائتة له.

قال الشیخ الأعظم: «وللمالک استرداده فیردّ بدل الحیلولة»(2).

أقول: ظهر بما ذکرنا أنّ أخذ المالک بدل ماله وقعت المبادلة القهریة بین العین والبدل وصار المالک مالکا للبدل والضامن المؤدی للبدل مالکا للعین، بحیث لو وجدت إحیانا کانت له. فلا تتم مقالة الشیخ الأعظم إلاّ علی القول ببدل الحیلولة.

وقال الشیخ الأعظم: «ولایرتفع سلطنة المالک علی مطالبة الأوّل بمجرّد تمکّنه من الاسترداد من الثانی»(3).

أقول: والوجه فی ذلک قاعدة علی الید وشمولها لهما ولکلّ من جعل یده علی المال ولذا قال قدس سره فی بقیة کلامه: «لأنّ عهدتها علی الأوّل فیجب علیه تحصیلها وإن بذل ما بذل»(4). کما یمکن له أن یأخذها من الثانی فیبرأ ذمة الأوّل والثانی بالنسبة إلی العین.

ثمّ بقی هنا فروع:
الأوّل: مؤونة ردّ العین علی مَنْ؟

قاعدة علی الید تقتضی أنّها علی الضامن لأنّ الرد علیه فمؤونته أیضا علیه.

ولذا قال الشیخ الأعظم هاهنا: «فیجب علیه تحصیلها وإن بذل ما بذل»(5).

ص:314


1- 5 . الآراء الفقهیة 4/582.
2- 1 . المکاسب 3/511.
3- 2 . المکاسب 3/511.
4- 3 . المکاسب 3/511.
5- 4 . المکاسب 3/511.

أی أنّ المؤونة قلیلة کانت أو کثیرة علی الضامن أو متعارفة کانت أو غیرها علیه.

ولکنّه قدس سره ذهب فی أحکام المقبوض بالعقد الفاسد بأنّ مؤونة الرد علی القابض الضامن ولکنّها إذا کانت متعارفة عادیة وأمّا إذا کانت غیرها - أی الکثیرة - فلا، لأنّ أدلة نفی الضرر تنفیها.(1)

أقول: قد مرّ(2) هذا الفرع فی ذلک البحث واخترنا هناک بأن المؤونة القلیلة أو

العادیة المتعارفة کانت علیه وأمّا غیرها فلا لجریان قاعدة نفی الضرر.

لأنّ المؤونة إذا بلغت إلی حدّ الاجحاف والضرر العرفی - الذی یعده العرف ضررا ومن علیه متضررا - فلا یبعد شمول قاعدة نفی الضرر لها.

اللهم إلاّ أن یقال: بأنّ الغاصب یؤخذ بأشق الأحوال، وقد مرّ منّا عدم تمامیة هذا الکلام فی الأبحاث الماضیة.

وبالجملة: مؤونة ردّ العین علی الضامن إذا کانت قلیلة أو متعارفة عادیة وإلاّ فلا.

الثانی: لو توقف استرجاع المالک لماله علی مؤونة فعلی مَنْ؟

قال الشیخ الأعظم: «لیس للمالک أخذ مؤونة الاسترداد لیباشر بنفسه»(3).

مراده: إنّ الردّ علی الضامن ومؤونته أیضا علیه حتّی إذا کان متوقفا علی بعض المقدمات المستلزمة لبذل الأموال وصرف المؤونة، ولکن لیس من تلک المقدمات بذل الأُجرة للمالک حتّی یُباشِرَ بنفسه الاسترداد وبالتالی فلیس للمالک مُطالَبَةُ الضّامِنِ بِها.

وقد ناقشه الاستاذ المحقّق - مدظله - وقال: «وفیه: إذا توقّف ردّ المال إلی المالک أو إخراجه من محلّ معیّن وإیصاله إلیه، علی القیام بأعمال معیّنة، یستلزم صرف مبالغ مالیّة، فإنّ من حقّ المالک، وذلک بمقتضی إطلاق دلیل «لا یحلّ لأحدٍ...» أن یمنع الغاصب عن التلاعب بالمال والتصرّف فیه، إلاّ بالطریقة التی یراها مناسبة مع طبیعة بضاعته المغصوبة، وهکذا فیما نحن فیه، فإنّه حینما توقّف استرداد ماله من الید العادیة

ص:315


1- 5 . راجع المکاسب 3/199، الثانی.
2- 6 . راجع الآراء الفقهیة 4/389.
3- 1 . المکاسب 3/511.

علی القیام بأعمال معیّنة تستلزم بذل الاُجرة، فإنّ من حقّه أن یطالب بها الغاصب، وإلزامه بذلک، ومنعه عن ردّ ماله إلیه بطریقة اُخری قد لا تحتاج إلی الاُجرة المذکورة، وذلک بمقتضی إطلاق دلیل منع التصرّف إلاّ بإذنه»(1).

الثالث: إذا کان المالک یقدر علی استرداد ماله فقط

ویحتاج إلی مؤونة أو یرید أخذ الأُجرة بذلک هل علی الضامن دفعها؟

فی المسألة صور ثلاث أشار إلیها الشیخ الأعظم من دون اختیار وترجیح.

قال: «ولو لم یقدر علی استردادها إلاّ المالک، وطلب من الأوّل عوضا عن الاسترداد، فهل یجب علیه بذل العوض، أو ینزّل منزلة التعذّر فیغرم بدل الحیلولة، أو یفرّق بین الاُجرة المتعارفة للاسترداد وبین الزائد علیها ممّا یعدّ إجحافا علی الغاصب

الأوّل؟ وجوه»(2).

أقول: أمّا الصورة الأولی: وهی بذل المؤونة والاُجرة والعوض مطلقا ولو کانت کثیرة وغیر متعارفة وغیر عادیة فلا، ومرّ فی الفرع السابق بأنّ أدلة نفی الضرر تنفیها ولا توجیه له حتّی وإن کان الضامن غاصبا.

وأمّا الصورة الثانیة: وهی الانتقال إلی بدل الحیلولة فممنوع، لأنّ المال الموجود الذی یمکن الوصول إلیه لایلحق بالمال الذی فی حکم التالف ولایمکن الوصول إلیه عادة.

وأمّا الصورة الثالثة: وهی التفصیل بین طلب الاُجرة المتعارفة وبین الزائد علیها فتام بدلالة سیرة العقلاء وقضیة الجمع بین وجوب ردّ مال الغیر وحرمة الاستیلاء علیه والتصرف فیه إلاّ بإذن مالکه.

وبالجملة: یحکم بدفع الاُجرة المتعارفة للمالک لاسترداد ماله. واللّه العالم.

وبعبارة أُخری: «ثمّ إنّ المالک هل یمکنه منع الغیر عن نقل ماله أو إخراجه ولا

ص:316


1- 2 . العقد النضید 4/77.
2- 1 . المکاسب 3/511.

یجوز للغاصب أن یعطی الاُجرة لغیر المالک ویأمره باخراج مال المالک فیما إذا لم یرض المالک بذلک وأراد أن یخرجه بنفسه لتملیک اُجرة الاخراج، أو أنه لایجوز للمالک ذلک أبدا ویجوز للغاصب أن یدفع الاُجرة إلی غیر المالک ویأمره بالاخراج؟

الظاهر أنّ المالک متمکّن من منع غیره عن التصرف فی ماله بالنقل والاخراج فیکون تصرف الغیر فیه حراما لعموم «الناس مسلّطون علی أموالهم»(1) وعدم ورود تخصیص علیه فی المقام فیخرجه المالک بنفسه ویتملّک الاُجرة، نعم لو ادّعی الزیادة یجری فیه ما سبق من عدم وجوب دفع الزائد علی الغاصب بوجه، فهناک مسائل ثلاث:

الاُولی: أنّ المالک مثل غیره فی أنه إذا نقل ماله بنفسه أو أخرجه عن البحر ونحوه یستحقّ الاُجرة لا محالة.

الثانیة: أنّ المالک له أن یمنع غیره من التصرف فی ماله بالاخراج والنقل ویتمکّن من أن یباشره بنفسه ویستحقّ به الاُجرة؟

الثالثة: أنه لایجوز للمالک مطالبة الزائد عن اُجرة المثل فی صورة الانحصار وغیرها»(2).

الرابع: إذا تغیّرت العین

قال الشیخ الأعظم: «هذا کلّه مع عدم تغیّر العین، وأمّا إذا تغیّرت فیجی ء صور کثیرة لا یناسب المقام التعرّض لها...»(3).

أقول: إذا تغیّرت العین - مع فرض بقائها - نحو الثوب إذا وَقَعَتْ علیه الخیاطة، أو العصیر العنبی إذا غلی ولم یذهب ثلثاه أو ذهب، أو اللحم أو القمح أو الرز أو غیرها من المواد الغذائیة إذا طبخ وصار طعاما، وفی جمیع الأمثلة ومثلها إذا تغیّرت قیمته بعد التغیّر فهل یرجع المالک علی البائع الفضولی أو المشتری منه الذی حدث التغیّر بیده؟

وهل الثابت علیه قیمتها یوم وقوعها تحت ید البائع الفضولی أم المشتری أو قیمتها

ص:317


1- 2 . عوالی اللآلی 3/208، ح49، بحارالأنوار 2/272.
2- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/115.
3- 1 . المکاسب 3/511.

یوم التغییر أو قیمتها یوم الأداء؟

وهل یجوز للمالک أخذ العین المملوکة مع أخذ الغرامة من الضامن أم لا؟ ولابدّ له من أخذ البدل فقط؟ فروع ومسائل یبحث عنها فی کتاب الغصب ولذا قال الشیخ الأعظم: «وإن کان کثیر ممّا ذکرنا أیضا ممّا لا یناسب ذکره إلاّ فی باب الغصب، إلاّ أنّ الاهتمام بها دعانی إلی ذکرها فی هذا المقام بأدنی مناسبة اغتناما للفرصة»(1).

ص:318


1- 2 . المکاسب 3/511.

تکمیلٌ: فیه مسألة الإبراء

اشارة

إذا أبرأ المالک ذمّة أحد من الضامنین فهل یبرأ هو فقط أو یبرأ الجمیع؟ وهل یجوز لمن أبرأه المالک أن یرجع إلی لاحقه أم لا؟

قال الفقیه السیّد الیزدی رحمه الله : «أمّا لو أبرأ ذمّة واحد منهم فهل یبرأ الجمیع، ولیس له بعد ذلک الرجوع إلیهم أو لا؟ فیجوز أن یبرأ بعضهم ویأخذ من أحد الباقین؟ وجهان: أقواهما أنّ مقتضی إبرأ واحد براءة الجمیع، وذلک لأنّ المفروض وجود بدل واحد فی ذمّة الجمیع، فإذا أبرأ واحد منهم فکأنَّه أخذ منه ذلک البدل، فلیس له بعد ذلک شیء، وإن صرّح ببراءته مع إرادة الأخذ من الباقین یعد من التناقض، فلا یحصل إبراء ذلک الواحد أیضا، ولیس الحال فی المقام کالواجب الکفائی إذا أسقط التکلیف من أحدهم؛ حیث إنَّ الوجوب یبقی علی الباقین؛ وذلک لأنَّه إخراج له عن التکلیف، لا إسقاط المکلف به، بخلاف المقام فانَّه إن أراد إخراج ذلک الواحد عن الضمان وعن سببیة یده فلیس له ذلک؛ إذ لیس أمر السببیة بیده، فلیس له علیه إلاّ ذلک البدل، فإذا جعله فی حِلٍّ منه فکأنَّه أخذه منه، ومعه لا معنی لمطالبة الباقین.

وهل لهذا الواحد أن یرجع علی لاحقه؟ وجهان، أقواهما العدم؛ لأنَّ الوجه فی رجوعه إنَّما کان سببیته لضرره، وأخذ الغرامة منه، والمفروض أنَّه لم یؤخذ منه شیء، والفرق بینه وبین الهبة والمصالحة ونحوهما واضح، فتدبّر»(1).

ص:319


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/317 و 318.

وتبعه المحقّق السیّد الخوئی(1) قدس سره .

مقالة المحقّق الخمینی حول الإبراء

قال رحمه الله : «لا یبعد الاختلاف بحسب المبانی فی باب ضمان الید، فمن قال: بأنّ نفس

العین علی الذمة وهی باقیة إلی زمان الأدا ولو بالمثل أو القیمة ولا فرق فی الضمان حال وجودها وتلفها(2)، فلابدّ إمّا من الالتزام بأنّ الإبراء بمنزلة الاستیفاء، فمعه تحصل غایة الضمان التی هی الأداء؛ فإنّ الإبراء أیضا نحو استیفاء.

فعلیه یلزمه القول: بأنّه مع وجود العین أیضا یکون الإبراء استیفاءً للمأخوذ، ولازمه خروج العین الموجودة عن ملک مالکها؛ لعدم تعدّد المال له، والمفروض وصول ماله الذی أخذ منه، وهذا ممّا لا أظنّ التزام أحدٍ به.

ولو قیل: لو فرض قصور دلیل الید عن ذلک، فلا قصور لغیره، کقوله علیه السلام : «الغصب کلّه مردود»(3).

یقال: إذا فرض حصول الغایة لدلیل الید، یقع التعارض بینه وبین ماذکر، وهو حاکم علیه، فتدبّر.

وحیث لا یمکن الالتزام بذلک، ولا یسع القائل التفصیل بین زمان وجود العین وغیره، بعد وحدة الدلیل، ووحدة المضمون، وعدم تغیّره حال الوجود والتلف، فلا یمکن أن یقال: إنّه فی زمان الوجود لیس الإبراء استیفاءً، بخلاف حال التلف.

فلابدّ له من الالتزام بأنّ إبراء ذمّة أحدهم، لا یلازم براءة الآخرین، کما أنّه فی حال وجود العین، لا یکون إبراء أحدهم إبراءً للآخرین.

والتفصیل: بین من کانت العین موجودة بیده وغیره؛ بأنّ الاستیفاء لا یؤثّر بالنسبة إلیه دون غیره، کما تری.

ص:320


1- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/113 و 114، ومحاضرات فی الفقه الجعفری 2/500.
2- 1 . حاشیة المکاسب، السیّد الیزدی 1/96، السطر 27 من طبع الحجری، (1/469).
3- 2 . الکافی 1/542، ح4، تهذیب الأحکام 4/130، ح2، وسائل الشیعة 9/524، کتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 1، ح4.

نعم، علی المذهب المعروف فی باب ضمان الید(1)، یصحّ التفصیل بین حال الوجود وحال التلف، والالتزام بأنّ إبراء ذمّة حال الوجود لا یلازم إبراء غیرها؛ لأنّه فی حال الوجود لیس علی الآخذ مثل أو قیمة، وإنّما علیه معنی تعلیقیّ «وهو أنّه لو تلف علیک».

وهذا المعنی التعلیقیّ نحو ضمان مسبّب عن الأخذ والاستیلاء، فکلّ من الأیادی

ضامنة بهذا المعنی، ومعنی إبرائه هو الإبراء عن الضمان، لا الاستیفاء للمضمون، وذلک واضح، فإذا أبرأ أحدهم یرجع ذلک إلی أنّه إذا تلف لم یکن علیک، وهو لا ینافی بقاء ضمانات اُخر.

وأمّا بعد التَّلَفِ، فحیث یکون المثل أو القیمة علی عهدتهم، ولیس للمضمون له إلاّ مال واحد علی ما عرفت،(2) فإبراء أحدهم ملازم لبراءة غیره، فلابدّ من البحث علی هذا المبنی.

فنقول: التحقیق أنّه کلّما کان إبراء الضمان مستلزما لإبراء البدل والعوض أو عینه، لا یعقل بقاء ضمان غیره، لا لأجل استیفاء حقّه، أو کون الإبراء بمنزلة الأخذ.

بل لما عرفت سابقا؛ من أنّ عنوان «البدل» و «العوض» و «جبر الخسارة» ونحوها، من العناوین التی لاتقبل التکرار،(3) ومعلوم أنّ «علی الید...» إنّما یوجب اشتغال الذمم بعنوان «الضمان» و «جبر الخسارة» ومثل هذا غیر قابل للتکَرار.

فحینئذٍ لو أبرأ أحد مَنْ فی السلسلة مِنْ البدل أو العوض، فلایعقل بقاء البدل علی ذمّة غیره، ولیست الذمّم مشغولة بغیر ذلک، فلازمه رفع الاشتغال من جمیع الذمّم، سواء کان الإبراء بمنزلة الأخذ والاستیفاء أم لا.

وأمّا إذا لم یستلزم ابراؤه إبراءَ غیره، کما لو أبرأه حال وجود العین فلا یبرأ غیره،

ص:321


1- 3 . الخلاف 1/674، السطر 13، حاشیة المکاسب، السیّد الیزدی 1/96، السطر 25 من طبع الحجری (1/469).
2- 1 . تقدّم فی کتاب البیع 2/476.
3- 2 . تقدّم فی کتاب البیع 2/475.

لما عرفت من أنّ الضمانات کثیرة، ولیس ضمان أحدهم عین ضمان الباقین ولا مستلزما - وجودا وعدما - له، فلصاحب المال إبراء أحدهم دون غیره فتدبّر جیّدا»(1).

تفصیل المحقّق الرشتی فی مسألة الإبراء ونقده

ذهب المحقّق الرشتی(2) رحمه الله إلی براءة المتقدم من المبری ء عنه وبقاء المتأخر منه علی شغل ذمّته، أمّا الأوّل فیدّعی أنّ من لوازم اشتغال ذمّته - بحکم قاعدة الضمان - رجوعه إلی مَنْ تأخّر، فإذا أبرأ المتأخر فقد أبرأه عمّا علیه سواء کان ابتداءً أو بواسطة الرجوع إلی مَنْ یرجع إلیه.

وأمّا الثانی فالمتأخر باق علی شغل ذمّته لأنّ الإبراء لیس کأداء المبدل وقبضه، بل

للمالک حقوق کثیرة وللضمان تعلّقات عدیدة، فإسقاط أحدها لا یلازم إسقاط غیره.

وَاعْتَرَض علیه السیّد الخمینی رحمه الله بقوله: «فَفِیْهِ: مضافا إلی ما عرفت من عدم الفرق بین الإبراء والاستیفاء وأخذ البدل، بعد کون الإبراء إسقاطا للمضمون الذی لایعقل فیه التکرار والتعدد، أنّه علی فرض التعلّقات العدیدة والغضّ عمّا ذکرناه، أنّ ما أفاده علی هذا المبنی غیر تامّ؛ لأنّ أساس ضمان الآخذ للمالک فی الأیادی المتعاقبة، غیر أساس ضمانه للغاصب السابق.

فموضوع الضمان للمالک هو أخذ ماله، من غیر دخالة شیء آخر فیه، کما هو ظاهر دلیل الید، فضمان غیره وعدم ضمانه غیر دخیل فیه، وأساس ضمان الغاصب المتأخّر للمتقدّم، لیس أخذ مال المالک بلا إشکال، بل أمر آخر، وهو أخذ وصف «المضمونیّة» کما عرفت،(3) وهو تمام الموضوع لضمان الإیادی المتأخّرة بالنسبة إلی الأیادی المتقدّمة.

فلا دخالة لهذا الوصف(4) فی ضمانهم للمالک، کما لا دخالة للمِلْک فی ضمانهم للأیادی المتقدّمة، وإن کان أخذ الوصف لایمکن إلاّ بأخذ العین.

ص:322


1- 3 . الکتاب البیع 2/(507-504).
2- 4 . کتاب الغصب /126 من طبع الحجری، السطر 5.
3- 1 . تقدّم فی کتاب البیع 2/501.
4- 2 . أی وصف المضمونیة.

فحینئذٍ إذا أبرأ المالک أحد مَنْ فی السلسلة، فإنّما أبرأه عن ضمانه، لا عن ضمان غیره؛ إذ لیس له إبراؤه إلاّ من حقّه، فإذا رجع إلی من سبق الذی أبرأه، فله الرجوع إلیه وإن أبرأه المالک؛ لأنّ رجوعه لأجل ضمانه للوصف مع عدم حصول غایته.

فالقول: بعدم جواز الرجوع إلیه مع الغضّ عمّا ذکرناه، غیر مرضیّ.

ولو سلّم عدم جواز رجوعه إلیه، فلا نسلّم عدم جواز رجوع المالک إلی من تقدّمه؛ لمنع اللزوم المذکور.

ألا تری: أنّه لو أبرأ الغاصب الأوّل مثلاً أحد مَنْ فی السلسلة عن ضمانه، فلا إشکال فی عدم جواز رجوعه إلیه لو رجع إلیه المالک، مع أنّ لازم ما ذکره هو براءة ذمّته من المالک أیضا، وهو واضح الفساد، ولا أظنّ التزامه به، فیستکشف منه عدم اللزوم.

مضافا إلی أنّ ما ذکره: من أنّ اشتغال ذمّة المتقدّم من لوازمه - بحکم القاعدة - رجوعه إلی من تأخّر من الأیادی، بعد إطلاح العبارة؛ ضرورة عدم إرادة نفس الرجوع، بل المراد جوازه.

إن کان المراد أنّ اشتغال المتقدّم لازمه بقول مطلق جواز ذلک، فهو ممتنع؛ للزوم

تأثیر الید المتقدّمة فی تحقّق الید المتأخرّة عنها، وتحقّق حکمها؛ قضاءً لعدم انفکاک اللازم عن ملزومه.

وإن کان المراد أنّ اشتغال المتقدّم لازمه ذلک بعد تحقّق المتأخّر وترتّب حکمه علیه.

فیرد علیه: مضافا إلی لزوم التفکیک فی دلیل الید؛ بأن یکون تمام الموضوع فی مَوْرِدِ الید فقط، وفی موردٍ الید مع قید آخر، فإنّ الید من الغاصب الأوّل تمام الموضوع إذا لم تتعقّبها ید اُخری، ومع تعقّبها تکون هی مع قید آخر موضوعة، وهو الید التی یصحّ رجوعها إلی المتأخّر، وهو کما تری.

أنّ اللزوم لمّا لم یکن عقلیّا وهو واضح، لابدّ أن یکون بجعل شرعیّ، ولیس فی المقام شیء سوی دلیل الید، فیلزم من ذلک أن یکون دلیل الید متکفّلاً لجعل الضمان للید الاُولی والثانیة، حتّی یترتّب علیهما جواز الرجوع، ثمّ جعل اللازم لاشتغال ذمّة المتقدّم،

ص:323

وهو مستحیل من دلیل واحد وجعل فارد.

هذا مع أنّه لو کانت استفادة الضمان من دلیل الید، کافیةً فی اللزوم المذکور، فلقائل أن یدّعی اللزوم بالنسبة إلی الأیادی المتأخّرة؛ بأن یقول: إنّ اشتغال ذمّة المتأخّر، من لوازمه جواز رجوع المتقدّم إلیه، فإذا برئ المتقدّم سقط جواز الرجوع؛ فإنّه موقوف علی رجوع المالک إلیه، وأخذه منه، وبعد الإبراء لیس للمالک ذلک، فلا یصحّ الرجوع إلی المتأخّر.

وممّا ذکرناه یظهر الکلام لو أراد بما ذکره أنّ اشتغال ذمّة المتأخّر من لوازم اشتغال المتقدّم فیرد علیه ما ذکرناه حرفا بحرفٍ.

والإنصاف: أنّ ما ذکره غیر مرضیّ لا بحسب المبنی ولا بحسب البناء»(1).

المختار فی مسألة الإبراء

إذا أبرأ المالک ذمّة واحد من الضامنین بقاعدة علی الید نحو إبراء أحد مَنْ فی وسط سلسلتهم لایبرأ الجمیع خلافا للمحقّقین الیزدی والخوئی ولایبرأ الجمیع فی فرض تلف العین وعدمه فی فرض وجود العین خلافا للمحقّق الخمینی ولا یبرأ المتقدم من المبرئ عنه وبقاء المتأخر منه علی شغل ذمّته خلافا للمحقّق الرشتی، بل یبرأ مَنْ أبرأه

المالک فقط من دون الفرق فی بقاء اشتغال الذمة بین المتقدم منه أو المتأخر وبلا فرق بین تلف العین ووجوده والوجه فی ذلک:

اخترنا فی بحث الضمان بأنّ نفس العین تکون متعلَّقة بتکلیف وجوب الأداء مادامت هی باقیة وبعد تلفها تنتقل علی ذمّه الضامن إلی زمن الأداء وحینه(2) تنتقل إلی المثل أو القیمة ولذا اخترناه فی بحث ضمان القیمی قیمة یوم الأداء فعلی ما ذکرنا لا فرق بین فرضی وجود العین وتلفها.

ثمّ فلیعلم: بأنّ الإبراء لَیْسَ بمنزلة الاستیفاء لوضوح الفرق بینهما وَلِما مرّ من

ص:324


1- 1 . کتاب البیع 2/(510-507).
2- 1 . أی حین التلف.

المحقّق الخمینی من الفرق بینهما من عدم إمکان القول بالتنزیل مع وجود العین وإذا رُدّ التنزیل فی فرض وجود العین رُدّ فی فرض تلفها لاِتِّحادِ الدلیل والمضمون والضمان.

فحینئذٍ - أی حین لم یثبت بأنّ الإبراء بمنزلة الاستیفاء - فلا یجری علی الإبراء عناوین البدل أو العوض أو جبران الخسارة ونحوها من العناوین التی لاتقبل التکرار ولوضوح الفرق بینه وبین هذه العناوین، لأنّ المالک فی الإبراء لم یأخذ شیئا حتّی یصدق علیه استیفاء حقّه أو أخذ بدل ماله أو عوضه أو جُبِرَتْ خسارته، فعلی ما ذکرناه یجوز له إبراءُ بَعْضِ الضامنین دون بعضهم، لأنّ الإبراء یقبل التکرار بالنسبة إلی الأفراد المختلفة.

نعم، للمالک حق الرجوع علی کل مِنْ الذین جعلوا أیْدِیَهُمْ علی ماله وأخذ عین ماله أو بدله منهم بدلاً واحدا، فله أن یعفو بعضهم أو أحدهم من هذا الحق وأخذ العین أو البدل من غیرهم، لاِءنَّهُ کما مرّ فی بحثها(1) قابل للإسقاط وهذا منها.

فیجوز للمالک إسْقاطُ حقّه بالنسبة إلی واحد من الضامنین أو أکثر من الواحد ولا یسری هذا الاسقاط إلی غیره أو غیرهم ویجوز له مطالبة غیره أو غیرهم بالمال عینه أو بدله.

ومن المعلوم أنَّهُ لا یقوم المبرئ عنه مقام المالک مِنْ رجوعه إلی لاحقیه وأخذ الغرامة منهم لأنّ لم یؤد شیئا إلی المالک بل أخذ منه الحلّ فقط. هذا ما یخطر ببال هذا القاصر - عامله اللّه بفضله وعفوه - واللّه العالم وبه تم الکلام فی بحث تعاقب الأیدی.

ص: 325


1- 2 . راجع الآراء الفقهیة 4/17.

ص: 326

وَصْلٌ: تتمة مسائل حول بیع الفضولی

اشارة

ص: 327

ص: 328

المسألة الرابعة: بیع الفضولی مال نفسه مع مال غیره

أقوال الفقهاء حول المسألة

قال الشیخ فی النهایة: «إن باع ما یملک وما لا یملک فی صفقة واحدة مضی البیع فیما یملک وکان فیما لا یملکُ موقوفا [علی إجازة مالکه] ما بیّنّاه»(1).

وقال فی المبسوط: «إذا باع شیئین صفقة واحدة أحدهما ینفذ فیه بیعه والآخر لاینفذ فیه بطل فیما لا ینفذ وصحّ فیما ینفذ سواء کان أحدهما مالاً والآخر غیر مال ولا فی حکم المال مثل أن باع خلاّ وخمرا أو حرّا وعبدا أو شاة وخنزیرا أو کان أحدهما ماله والآخر مال الغیر أو باع عبده وعبدا موقوفا أو أمّ ولده مع بقاء ولدها، الباب واحد، ومعنی تفریق الصفقة أنّه إذا بطل فی أحدهما لم یبطل فی الآخر، وقولهم: لا یفرق أی إذا بطل فی أحدهما بطل فی الآخر، وإذا قلنا علی ما قلنا بتفریق الصفقة یقسّط الثمن علی أجزائهما ککرّین من طعام وصاعین من دهن أو کان الّذی بطل فیه البیع مشاعا مثل أن باعه دارا نصفها له ونصفها لغیره ولا فصل بین أن یکون ممّا یدخله العوض أو لا یدخله»(2).

وقال فی الخلاف: «إذا باع شیئین صفقة واحدة، أحدهما ینفذ فیه البیع والآخر لا ینفذ فیه البیع، بطل فیما لاینفذ البیع فیه، وصحّ فیما ینفذ فیه، سواء کان أحدهما مالاً والآخر لیس بمال ولا فی حکم المال، مثل أن باع خلاً وخمرا، أو حرا وعبدا، أو شاة

ص:329


1- 1 . النهایة /385.
2- 2 . المبسوط 2/144 و 145.

وخنزیرا.

وما یکون أحدهما مالاً والآخر فی حکم المال، مثل أن باع أمته وأمُ ولده، أو عبده وعبدا موقوفا، أو کان أحدهما ماله والآخر مالاً لکنه ملک الغیر، الباب واحد.

وقال الشافعی، یبطل فیما لاینفذ فیه البیع قولاً واحدا، وهل یبطل فی الآخر؟ علی

قولین: أصحهما عندهم أن البیع یصحّ فی أحدهما.(1)

وقال أبوحنیفة: إن کان أحدهما مالاً والآخر لیس بمال ولا فی حکم المال، بطل فی المال. وإن کان أحدهما مالاً له والآخر لغیره، نفذ فی ماله وکان فی مال الغیر موقوفا.(2)

وقال مالک وداود: یبطل فیهما.(3)

دلیلنا: قوله تعالی: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(4) وهذا بیع فیما یصحّ أن ینفذ بیعه، فوجب أن یکون صحیحا، فمن أبطله فعلیه الدلالة، وعلیه إجماع الفرقة، ولا یختلفون فیه»(5).

وقال السیّد ابن زُهْرَةَ فی الغُنْیة: «... وقد دخل فیما أصّلنا نفوذ بیع ما یصحّ بیعه إذا بیع معه فی صفقة واحدة ما لا یجوز بیعه، لأنّه مملوک یصحّ بیعه منفردا بلا خلاف، فمن أبطله فی هذه الصورة فعلیه الدلیل ویدلّ علی ذلک بعد إجماع الطائفة ظاهر قوله تعالی «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(6)»(7).

ص:330


1- 1 . المجموع 9/381 و 388، والوجیز 1/140، وفتح العزیز 8/233 و 237، والمغنی لابن قدامة 4/316، والشرح الکبیر 4/43.
2- 2 . اللباب 1/247، وشرح فتح القدیر 5/(225-226)، وشرح العنایة علی الهدایة فی هامش شرح فتح القدیر 5/225، والمجموع 9/388، وفتح العزیز 8/237، والمغنی لابن قدامة 4/316 وتبیین الحقائق 4/60، والشرح الکبیر 4/44.
3- 3 . المجموع 9/388، والمغنی لابن قدامة 4/316، والمحلّی 9/16، والشرح الکبیر 4/43.
4- 4 . سورة البقرة /275.
5- 5 . الخلاف 3/144، مسألة 232.
6- 6 . سورة البقرة /275.
7- 7 . غنیة النزوع /209.

وقال بعد اوراق أیضا: «وقد قدّمنا أنّ من جمع فی صفقةٍ واحدةٍ بین شیئین یصحّ بیع أحدهما دون الآخر نفذ البیع فیما یصحّ فیه، فإذا ثبت ذلک فالمشتری بالخیار بین أن یردّ الجمیع أو یمسک ما یصحّ فیه البیع بما یخصّه من الثمن الذین یتقسّط علیه، لأنّ جمیع الثمن إنّما کان فی مقابلتهما ویتقسّط علیهما معا، فإذا بطل بیع أحدهما سقط من الثمن بحسابه ومن أوجب الجمیع فعلیه الدلیل ولا خیار للبائع علی المشتری فی ذلک،لانّ البیع قد ثبت من جهته فمن جوّز له الخیار فعلیه الدلیل»(1).

وقال ابن إدریسَ فی السرائر: «وإذا باع ما یملک وما لا یملک فی صفقة واحدة

وعقد واحد مضی البیع فیما یملک وکان فیما لایملک باطلاً حسب ما قدّمناه واخترناه وکذلک إذا باع ما یجوز بیعه من جملة ما یملک وما لا یجوز بیعه من المحرّمات مضی البیع فیما یصح بیعه وبطل فیما لایصح البیع فیه.

مثال الأوّل، باع ملکه وملک غیره بثمن واحد، فی عقد واحد، ومثال الثانی، باع شاة مملوکة له، وخنزیرا، وهو مسلم، فی عقد واحد بثمن واحد، فإن البیع فی المملوک صحیح، والبیع فی غیر المملوک، وفی غیرا لمحلل للمسلم تملکه باطل.

فإذا تقرر هذا، فالمشتری بالخیار بین أن یردّ الصفقة جمیعها، أو یمسک ما یصح فیه البیع، بما یخصّه من الثمن الذی یتقسط علیه، مثاله باع شاة وخنزیرا بثلاثة دنانیر، فإنّ الثمن یتقسط علی قدر قیمة الشاة، وقیمة الخنزیر عند مستحلیه، فیقال: کم قیمة الشاة؟ فیقال: قیراطان، ویقال: کم قیمة الخنزیر؟ فیقال: قیراط، فیرجع بثلث الثمن، وهو دینار، وبالعکس من ذلک، أن یقال: قیمة الشاة قیراط، وقیمة الخنزیر عند مستحلیه قیراطان، فیرجع المشتری بثلثی الثمن، وهو دیناران.

وکذلک فی ملکه وملک الغیر، إذا باعهما معا فی عقدٍ واحد، بثمن واحد، فبحساب ما صوّرناه، لا یختلف الحکم فی ذلک، فالإعتبار بالقیم، ویرجع فی الأثمان بحسب

ص:331


1- 8 . غنیة النزوع /230.

القیمتین»(1).

أقول: حکم ابن ادریس ببطلان البیع فی ما لا یملک لأنّه یقول ببطلان الفضولی.

قال المحقّق الشرائع: «وکذا لو باع ما یملک وما لا یملک مضی بیعه فیما یملک وکان فیما لا یملک موقوفا علی الإجازة ویُقَسَّط الثمن بأن یقوَّما جمیعا ثمّ یُقَوَّم أحدُهما ویرجع إلی البائع بحصَّته من الثمن إذا لم یُجزْ المالک. ولو أراد المشتری ردّ الجمیع کان له ذلک»(2).

وقال العلاّمة فی القواعد: «ولو باع ملکه وملک غیره صفقةً صحّ فیما یملک ووقف الآخر علی إجازة المالک فإن أجاز نفذ البیع وقسّط الثمن علیهما بنسبة المالَیْنِ بأن یقوَّما جمیعا ثمّ یقوَّم أحدهما. هذا إذا کان من ذوات القیم وإن کان من ذوات الأمثال قُسِّط علی الأجزاء سواء اتحدت العین أو تکثّرت ولو فسخ تخیّر المشتری فی فسخ المملوک والإمضاء فیرجع من الثمن بقسط غیره»(3).

وقال فی تذکرة الفقهاء: «إذا جمع بین الشیئین، فإمّا أن یجمع بینهما فی عقدٍ واحد أو فی عقدین، فالأوّل إمّا أن یقع التفریق فی الابتداء أو فی الانتهاء.

والأوّل إن جمع بین شیئین یمتنع الجمع بینهما من حیث هو جمع، فالعقد باطل قطعا فی الجمیع، کما لو جمع أُخْتَیْنِ فی النکاح.

وإن لم یکن کذلک، فإمّا أن یجمع بین شیئین کلّ واحد قابل لما أورده علیه من العقد، أو لا یکون کذلک، فالأوّل کما لو جمع بین عینین فی البیع، صحّ العقد علیهما.

ثمّ إن کانا من جنسین - کعبدٍ وثوب - أو من جنسٍ واحد لکن قیمتهما مختلفة - کعبدین - یوزّع الثمن علیهما باعتبار القیمة.

وإن کانا من جنسٍ واحد واتّفقت قیمتهما - کَقَفِیْزَیْ حِنْطَةٍ(4) واحدة - یوزّع

ص:332


1- 1 . السرائر 2/275 و 276.
2- 2 . الشرائع 2/9.
3- 3 . القواعد 2/19 و 20.
4- 1 . فی الطبعة الحجریّة: «کقفزین من حنطة».

علیهما باعتبار الأُجزاء.

وإن کان الثانی، فإمّا أن لا یکون واحد منهما قابلاً لذلک العقد - کما لو باع خمرا ومیتةً - فهو باطل قطعا، وإمّا أن یکون أحدهما قابلاً.

فالذی هو غیر قابل ضربان:

أحدهما: أن یکون متقوّما، کما لو باع عبده وعبد غیره صفقةً واحدة، صحّ البیع، ووقف البیع فی عبد غیره، فإن أجازه الغیر، وإلاّ بطل.

والثانی: أن لا یکون متقوّما، فإمّا أن یتأتّی تقدیر التقویم فیه من غیر فرض تغییر فی الخلقة، کما لو باع عبدا وحُرّا، فإنّ الحُرّ غیر متقوّم، لکن یمکن تقدیر القیمة فیه بفرض العبودیّة من غیر تغیّر فی الخلقة، ویصحّ البیع فی العبد. وإمّا أن لایتأتّی تقدیر التقویم فیه من غیر فرض تغیّر فی الخلقة، کما لو باع خَلاًّ وخمرا، أو مذکّاةً ومیتةً، أو شاةً وخنزیرا، فإنّه یصحّ البیع فی الخَلّ والمذکّاة والشاة.

إذا عرفت هذا، فنقول: إذا باع عبده وعبد غیره صفقةً واحدة، صحّ البیع فی عبده، ولا یقع البیع باطلاً فیه، ویقف العقد فی عبد الغیر، فإن أجاز البیع فیه، لزم. وإن فسخ، بطل، ویتخیّر المشتری حینئذٍ بین فسخ البیع فی الجمیع وبین أخذ عبده بقسطه من الثمن، ذهب إلیه علماؤنا - وهو أحد قولی الشافعی، وبه قال مالک وأبوحنیفة(1) - لأنّ کلّ واحد منهما

لو انفرد بالعقد، ثبت له حکمه، فإذا جمع بینهما، وجب أن یثبت لکلٍّ منهما حکم الإنفراد، لأنّ العلّة لهذا الحکم هو الماهیّة، وهی باقیة حالة الجمع، فثبت مقتضاها، کما لو باع شقصا مشفوعا وعبدا، ثبتت الشفعة فی الشقص دون العبد، کما لو انفرد.

ولأنّ الصفقة اشتملت علی صحیح وفاسد، فانعقد الصحیح(2) فی الصحیح وقصر

ص:333


1- 2 . المهذّب - للشیرازی 1/276، المجموع 9/381، التهذیب - للبغوی 3/495، حلیة العلماء 4/(138-140)، العزیز شرح الوجیز 4/139 و 141، روضة الطالبین 3/88، المغنی 4/315، الشرح الکبیر 4/43.
2- 1 . فی نسختین من الکتاب والطبعة الحجریّة. والطبعة الحدیثة: «التصحیح»، وفی الطبعة المحقّقة المطبوعة سنة 1375 ه فی النجف الأشرف «الصحیح». وهو الصحیح لذا جعلته فی المتن.

الفاسد علی الفاسد، کما إذا شهد عدل وفاسق، لا یقضی بردّ الشهادتین ولا بقبولهما، بل تلک مقبولة وهذه مردودة. ولو أخبر بصدق وکذب فی خبرٍ واحد، لا یقضی بصدقهما ولا بکذبهما»(1).

وقال فی مختلف للشیعة: «لو ضمّ ما یملک إلی ما لا یملک وباعهما فی عقد واحد نفذ البیع فی المملوک، إلاّ أن یختار المشتری الفسخ، ولو فسخ مالک الآخر البیع فی ما یخصّه کان فی غیر المملوک موقوفا علی رضی المالک، فإن أجازه نفذ البیع وإلاّ بطل...»(2).

قال الشهید فی الدروس: «ولو ضمّه [أی ضمّ بیع ما لایملک] إلی المملوک صحّ فیه، ووقف فی الآخر»(3).

قال المحقّق الثانی فی جامع المقاصد ذیل عبارة القواعد الماضیة: «قوله: (صح فیما یملک، ووقف الآخر علی إجازة المالک) أی: صح البیع فیما یملک، أی: لزم لوجود شرط اللزوم، وهو: کونه مالکا، فدلّ علی أنه أراد بالصحة: الّلزوم.

وإن قیل: کیف یکون الوقوف للآخر علی الاجازة، والموقوف إنّما هو للعقد أو لأثره؟ قلنا: تقدیر العبارة: وقف العقد فی الآخر، بدلیل ماقبله. فإن قیل: کیف یکون العقد الواحد لازما موقوفا؟ قلنا: بالإضافة إلی شیئین لا محذور.

قوله: (وقسط الثمن علیهما بنسبة المالین، بأن یقوّما...) إنما اعتبر تقویمهما ثمّ تقویم أحدهما، لتعرف نسبة قیمة کلّ منهما إلی مجموع القیمتین، فیعرف ثمن کلّ منهما

من مجموع الثمن، وإنّما لم یقسط علی العینین، لامکان زیادة الثمن علی القیمتین أو نقصانه عنهما، وعدم مساواة کلّ من القیمتین للأخری.

وفی عبارته حذف، تقدیره: ثمّ یقوّم أحدهما، وتُنسب قیمته إلی مجموع القیمتین، ویؤخذ له بتلک النسبة من مجموع الثمن.

ص:334


1- 2 . تذکرة الفقهاء 12/5 و 6 و 7.
2- 3 . مختلف الشیعة 5/55.
3- 4 . الدروس 3/192.

فرع: لو کان کَمِصْراعَیْ بابٍ أو زَوْجَیْ خُفٍّ، وجب أن یُقَوَّما معا، منفردا کلّ منهما عن الآخر، ثمّ ینسب قیمة أحدهما إلی مجموع القیمتین، لأنّه إنّما یقوّم المال باعتباره، وکلّ منهما إنّما یملک أحد الزوجین، فلا یستحق مایزید من القیمة باجتماعهما، بخلاف أحکام الغصب.

قوله: «وإن کان من ذوات الأمثال قُسِّطَ علی الأجزاء) وذلک لعدم الاحتیاج إلی اعتبار القیمة، لثبوت التساوی فی المثلی بین أجزائه، وسیأتی فی الغصب إن شاء اللّه تعالی تحقیق الفرق بین المثلی والقیمی.

قوله: (سواء اتّحدت العین أو تکثّرت) أی: سواء اتّحدت أو تکثرت فی کلّ من المثلی والقیمی، فالأقسام أربعة: اتّحدت فی القیمی کالعبد المشترک، تکثّرت فیه کالعبد مع الجاریة، اتّحدت فی المثلی کقفیز من برّ، تکثرت فیه کقفیزین، لکن هذا علی إطلاقه لا یستقیم، بل یجب أن یقید بما إذا تساوت الأوصاف التی لها دخل فی زیادة القیمة ونقصانها، أمّا إذا تفاوتت کجید الحنطة مع ردیئها أو مع الشعیر مثلاً، فإن المرجع حینئذٍ إلی القیمة، وإلاّ لزم استواء الحنطة والشعیر فی الثمن، وهو معلوم البطلان، فإنّ متساوی الأجزاء إنّما قسّط الثمن علی أجزائه لتساویها فی القیمة، لعدم الاختلاف بینها المؤثر فی اختلاف القیمة، والموضع المذکور بخلاف ذلک.

قوله: (ولو فسخ تخیر المشتری فی فسخ المملوک والإمضاء) ینبغی تقییده بما إذا کان جاهلاً فی الحال، وإلاّ فلا فسخ له.

سؤال: التراضی إنّما وقع علی مجموع المبیع بما صحّ بالاضافة فإذا فسخ الغیر فی ملکه ارتفع التراضی، فیلزم بطلان العقد؟

جوابه: لما وقع التراضی علی المجموع صح العقد، فاذا طرأ علیه البطلان بالاضافة إلی بعض المبیع لم یلزم بطلان الآخر، لعدم الدلالة، ولأن الرضی قد حصل ضمنا، فتکفی الصحة، ولا یلزم من البطلان فی الآخر ارتفاع الرّضی الذی کان قد حصل، ولا بطلان

ص:335

حکمه»(1).

قال المحقّق الأردبیلی فی توضیح قول العلاّمة «ولو باع المملوک له ولغیره، فإن أجاز المالک صح»: «أی لو ضم مال غیره إلی مال نفسه وباعهما صفقة، فإن کان بإذنه فهو صحیح ویقسّط المسمی، وإن لم یکن بإذنه، فإن أجاز فکذلک إن قلنا بصحة الفضولی وإلاّ بطل فی مال الغیر فقط، ویقسّط الثمن لتمییز ثمن ماله.

ویحتمل البطلان رأسا، فإنّه إنّما حصل التراضی والعقد علی المجموع وقد بطل، وما حصل علی البعض التراضی والعقد، إذ حصوله فی الکلِّ لایستلزم حصوله فی الجزء.

والمشهور إنّه إنّما یبطل فی المال الغیر فقط، فإنّ العقد علی الکلِّ بمنزلة عقود متعددة علی الأجزاء، ولهذا لو خرج بعض ماله مستحقا لا یبطل إلاّ فیه، ونحو ذلک کثیرة.

نعم، لما لم یکن ذلک صریحا وکان تبعیض الصفقة عیبا، یکون للمشتری الخیار إن جهل بالحال، وإلاّ فلا.

وفیه تأمل معلوم ممّا تقدّم، ولأنّ البائع أیضا ما رضی إلاّ علی الوجه الخاص، فکیف تُلزمه علی غیر ذلک الوجه.

ویحتمل ثبوت الخیار له أیضا إذا ادعی الجهل، أو ظن قبول مالکه العقد الفضولی، أو أدعی فیه الإذن ونحو ذلک.

وکذا الکلام فیما لو ضمّ الخنزیر أو الخمر، إلاّ أنّه یثمن عند مستحلیه، بأن یقوم عدلان عارفان مسلمان جدیدا منّا أنّه یسوّی عند مستحلیه کذا وکذا. ویمکن الاکتفاء بمَنْ یثق منهم علی تقدیر العجز وحصول العلم أو الظن القریب، ویقوّم الحرّ، بفرضه رِقا.

ولو کان المشتری عالما لاخیار له فی الکلّ، وهو ظاهر، لأنّه أقدم علی ذلک مع العلم، فکأنّه اشتری الجزء الذی هو ملک البائع بثمنه.

وقیل: طریق التقویم أن یقوّما جمیعا، ثمّ یقوّم أحدهما وینسب قیمته إلی قیمة

ص:336


1- 1 . جامع المقاصد 4/78 و 79.

الکلّ وأخذه هذه النسبة من المسمی لهذا المقوّم ویبقی الباقی للآخر، وهو ظاهر»(1).

وقال جدی الشیخ جعفر فی شرح القواعد: «(ولو باع) أو نقل بأیّ ناقل کان (ملکه) المتسلّط علیه (وملک غیره) أو ملکه الذی سلطانه لغیره (صفقةً؛ صحّ(2) فیما

یملک) ممّا سلطانه علیه - ما لم یتولّد من عدم الإجازة مانع شرعی، کلزوم ربا، أو بیع آبق من دون ضمیمة، وصرف من دون إقباض، ونحو ذلک(3) - للإجماع محصّلاً ومنقولاً(4)، ولعدم المانع، لأنّ الأسباب الشرعیة کالعقلیة مؤثّرة(5) فی القابل دون غیره. والأوّل إلی الجهالة غیر ضارّ مع حصول العلم بالأصالة.(6) وتبعیة العقود للقصود منطبقة علی البعض المقصود(7)، کما سیجیء تحقیقه، مع شهادة العمومات به(8) (ووقف) اللّزوم فیه، والصحّة

ص:337


1- 1 . مجمع الفائدة والبرهان 8/162 و 163.
2- 2 . قال المحقّق الکرکی، فی: جامع المقاصد 4/78: «أی: صحّ البیع فیما یملک. أی: لزم، لوجود شرط اللّزوم، وهو کونه مالکا، فدلّ علی أنّه أراد بالصحّة اللزوم».
3- 1 . وأخذ بهذا التقیید وذکر الأمثلة الشیخ النجفی، فی: جواهر الکلام: 22/309. وحکاه الشیخ الأنصاری، فی: المکاسب 3/515.
4- 2 . فی: غنیة النزوع، قسم الفروع، /209، ریاض المسائل 8/229.
5- 3 . فی بعض النسخ: (تؤثّر).
6- 4 . ردّ علی بعض الشافعیّة فی تعلیلهم البطلان ب-: «أنّ الثمن المسمّی یتوزّع علیهما باعتبار القیمة، ولا یُدری حصّة کلّ واحد منهما عند العقد، فیکون الثمن مجهولاً، وصار کما لو قال: بعتک عبدی هذا بما یقابله من الألف إذا وزّع علیه وعلی عبد فلان، فإنّه لا یصحّ». حکاه عنهم العلاّمة، فی تذکرة الفقهاء 12/8.
7- 5 . کأنّه ردّ علی المقدّس الأردبیلی، فی: مجمع الفائدة والبرهان 8/162، حیث احتمال البطلان رأسا.
8- 6 . لذا استدلّ السیّد ابن زهرة: فی: غنیة النزوع، قسم الفروع، /209، علی الصحّة بقوله تعالی «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» (سورة البقرة /275). هذا وقد استدلّ العلاّمة، فی تذکرة الفقهاء 12/7، والمحدّث البحرانی فی الحدائق الناضرة 18/400، والسیّد الطباطبائی فی ریاض المسائل 8/229، علی الصحّة بالنصّ الخاص الوارد فی المقام، المروی فی وسائل الشیعة، کتاب التجارة، الباب 2 من أبواب عقد البیع وشروطه، 17/339، ح1.

فی (الآخر؛ علی إجازة المالک) أو المتسلّط، لما دلّ علی الفضولی، ولنسبته من بعض أصحابنا(1) هنا إلی علمائنا. (فإنْ أجاز، نفذ البیع) ولزم علی القول بالکشف، إذ لیس مجرّد التوقّف عیبا. وعلی النقل یقوی الخیار، سیّما مع طول الفصل بین العقد والإجازة.

(وقُسّط الثمن علیهما بنسبة المالَین، بأنْ یُقوّما جمیعا) بقیمة وقت البیع علی القول بالکشف (ثمّ یُقوّم أحدهما) منفردا - حیث لا یکون للهیئة الاجتماعیة مدخلیة - فیؤخذ من الثمن بنحو التقویم مع التوافق. ومع اختلاف الثمن والتقویم؛ تُلحظ نسبتهما إلی القیمة، فیؤخذ من الثمن بتلک النسبة.

ومع اعتبار الهیئة الاجتماعیة من جانب واحد یُقوّمان معا، ویؤخذ المنضمّ بنسبته والمنفرد بنسبته من الثمن.

ومع اعتبارها من الجانبین: فإنْ تساویا واتحدا فی النسبة، قُسّم الثمن بینهما. وإنْ

اختلفا فی القیمة وتساویا من جهة الانضمام، اُخذت قیمة الانفراد مع إضافة نصف ما زاد بالاجتماع. وإن اتحدا فی قیمة الانفراد واختلفا فی جهة الانضمام، لُو حظ انفراد کلّ مع ما یلحقه من جهة الاجتماع. ومع الاختلاف فیهما، تُلحظ قیمة کلّ مع ما یُنسب إلیه من جهة الاجتماع، ثمّ یُؤخذ من الثمن بتلک النسبة. ولو زادت قیمة أحدهما بالاجتماع ونقصت قیمة الآخر، لُوحظ الزائد مع زیادته والناقص مع نقصه. ولو جُعل الثمن بینهما قبل العقد علی حال، ثمّ جاءت صفقة العقد، عُمِل علی مقتضاها، وعلی القول بالنقل یعتبر التقویم حینه. وحیث لاتدخل الهیئة حین مُضیّ العقد یلزم التبعیض المسلّط علی الخیار فی المقامین.

ویجری الکلام فی عقد الفضولی عن مالکین مع إجازتهما فی قسمة الثمن بینهما، ومع إجازة أحدهما فیما یستحقّه منه، وفی کلّ متلَف مضمون علی المتلِف، عینا کان أو منفعة.

ص:338


1- 7 . وهو العلاّمة، فی تذکرة الفقهاء 10/(18-19)، و 12/6، 23-24.

ولو کان للاجتماع قیمة فی وقت دون آخر، بُنی(1) الضمان وعدمه علی ما تقدّم.

وما ذُکر مبنی علی ملاحظة صفة الاجتماع لمالکَین مختلفَین، علی ما علیه جماعة(2)، وهو الأقوی. وأنکر بعضهم ذلک(3)، مستندا إلی أنّ صفة الاجتماع لیست مملوکة لأحدهما، لأنّهما مُلِکا منفردَین، وصفة الاجتماع عارضة، جاءَت من الغیب، ولم تدخل تحت ید أحدهما. وفرّق بعضٌ(4) بین الإمضاء وعدمه لتلف وشبهه(5)، فاعتبر الهیئة فی الأوّل دون الثانی. ویلزم علی قولهم أنْ لا یحلّ بیع شیئَین منضمَّین من مالکَین مع مدخلیة الهیئة.

و(هذا) البحث إنّما یتمشّی فیما (إذا کان) المُثَمَّنُ (من ذوات القیم) ولا إشاعة فیه، أو کانت مع تعدّده.

(وإنْ کان) مشاعا أو متحدا أو متعدّدا متماثلاً (من ذوات الأمثال) وقد سبق بیانها (قُسّط) الثمن (علی الأجزاء)(6) بحسبها، لإمکان التوزیع فیها علی النسبة، فلا یحتاج إلی التقویم.(7) فلو کان المثمن قفیز حنطة قُسّط الثمن علی مقدار السهام منها بعد ملاحظة

ص:339


1- 1 . فی إحدی النسخ: (بنیت مسألة) بدل (بُنی).
2- 2 . فهو مقتضی إطلاق عبارة الشیخ الطوسی، فی المبسوط 2/145، وابن ادریس فی السرائر 2/276، والمحقّق الحلّی فی شرائع الإسلام 2/15، والعلاّمة ههنا، والشهید الأوّل فی الدروس 3/196، واللّمعة الدمشقیة /105.
3- 3 . کالمحقّق الکرکی فی جامع المقاصد 4/78، والشهید الثانی فی مسالک الافهام 3/162، والسیّد الطباطبائی فی ریاض المسائل 8/231.
4- 4 . وهو السبزواری فی کفایة الفقه 1/451.
5- 5 . فی بعض النسخ: (والفسخ) بدل (وعدمه لتلف وشبهه).
6- 1 . قال الشهید الثانی فی فوائد القواعد /534: «لیس علی إطلاقه، فإنّ تکثیر العین من ذوات الأمثال یتناول مختلف الأجناس ومنفعتها مع اختلاف الأوصاف، کالحنطة والشعیر وردیء، الحنطة وجیّدها، وفی هذین لا یصحّ التقسیط علی الأجزاء، بل علی القیمة کالقیمی».
7- 2 . کما ذکره المحقّق الکرکی فی جامع المقاصد 4/78.

النسبة بینها وبین الثمن(1).

ویجری مثله فی القیمی القابل للتوزیع، کأرض وثوب ونحوه، ولعلّه راجع إلی الأوّل.

ولو اجتمع قیمی ومثلی، أُعطی(2) حُکْمَ الْقِیْمِیّ.

وتعدّد القیمیات والمثلیات واتحادها فی الثمن، لا یُثمر شیئا (سواء اتحدت العین أو تکثّرت).

ومتی رجع المثلی إلی القیمی جاءَه حکم القیمی. وتکثیر الأقسام بإنهائها إلی ستة أو أکثر(3)، لا حاجة إلیه.

ومع تعذّر المثلی، یرجع إلی حکم القیمی أو یبقی علی حاله.

ولو فسخ لم یبطل البیع(4)، لعدم المانع من مُضِیّهِ فی بعضٍ وانفساخه فی آخر، کما فی الثمن والمثمن إذا ظهرا معیبین أو ناقصین، ولأنّ الأسباب الشرعیة کالعقلیة إذا تعلّقت بمتعدّد قابل وغیر قابل أثّرت فی القابل دون غیره، ولأنّ العقد علی اتحاده بمنزلة عقود فلا فرق بین تعدّده الصوری وخلافه، ولتحقّق الوفاء بمقتضی العقد فی المقدار الممکن، مضافا إلی أنّه لا یسقط المیسور بالمعسور، وما لا یُدْرَک کلّه لا یُتْرک کلّه، وللإجماع المنقول(5) المؤیّد بموافقة نقل الشهرة(6)، ولِما دلّ من الروایات علیه(7).

ص:340


1- 3 . فی بعض النسخ: (فیها). وفی بعضها: (بینه وبینها) بدل (بینها وبین الثمن).
2- 4 . أی: المجتمع. وفی بعض النسخ: (أعطیا).
3- 5 . إشارة إلی ما فعله الشهید الأوّل فی الحاشیة النجاریة /223 وحکاه عنه السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 12/651.
4- 6 . إشارة إلی ما احتمله المقدّس الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان 8/162.
5- 7 . فی غنیة النزوع، قسم الفروع، /209، تذکرة الفقهاء 10/(18-19)، و 12/6 و 23-24، ریاض المسائل 8/229.
6- 8 . فی مجمع الفائدة والبرهان 8/162.
7- 9 . وسائل الشیعة، کتاب التجارة، الباب 2 من أبواب عقد البیع وشروطه، 17/339، ح1.

والاستناد فی البطلان إلی أنّ العقود تتبع القصود وما وقع هنا لم یُقصَد وما قُصِد لم یقع(1)، والی لزوم الغرر والجهالة(2) لأنّ القدر المستحقّ حقیقة مجهول فیکون من بیع الغرر، وأنّ الأصل عدم صحّة العقد فیما لم یقم برهان علی صحّته، وأنّه کزواج الاُختین أو الاُمّ والبنت وبیع الدرهم بالدرهمین(3)، وأنّ صیغة العقد واحدة فلا تتبعّض(4)، وأنّ الکلّ والبعض مختلفا الجنس فیکون کبیع الذهب فیظهر نحاسا؛ مردود بأنّ القصد یعمّ الضمنی، وإلاّ لزم بطلان أکثر المعاملات، إذ قلّما یخلو شیء منها من دخول غیر المقصود فی متعلّقه، مع أنّ القصد قد تحقّق قبل الإجازة ولو لا ذلک لم تثمر الإجازة. وبأنّ الغرر إنّما یترتّب علیه الضرر لو قارن الإقدام ولا التفات إلی الغایة بلا کلام، والأصل مقلوب، والعمومات کافیة فی إثبات المطلوب، والقیاس علی الاُختین والاُمّ والبنت والدرهم بالدرهمین مردود بأنّ المانع فیها هو الترجیح بلا مرجّح المستلزم(5) للترجّح بلا مرجح(6) المنبعث عن تعارض الصحّتین، وأنّ التبعیض فی المتعلَّق لا یقتضی تبعیض العقد المتعلَّق(7)، وبأنّ الحِکَمیات لا تدخل فی الشرعیات.

(ولو فسخ تخیّر المشتری) الجاهل(8) (فی فسخ المملوک) لتبعّض الصفقة علیه، ولزوم الضرر لذلک بالنسبة إلیه، بخلاف البائع لأنّه جاء من قِبَله. ولا یبعد ثبوته له مع جهله، أو دعواه الإذن لإثبات عذره، کما احتمله بعضهم(9). والأقوی خلافه. (و) فی

ص:341


1- 1 . کما فی مجمع الفائدة والبرهان 8/162.
2- 2 . کما قاله بعض الشافعیة. حکاه عنهم العلاّمة فی تذکرة الفقهاء 12/8.
3- 3 . کما قاله بعض الشافعیة. حکاه عنهم العلاّمة فی تذکرة الفقهاء 12/(7-8).
4- 4 . کما قاله بعض الشافعیة. حکاه عنهم العلاّمة فی تذکرة الفقهاء 12/(7-8).
5- 5 . فی بعض النسخ: (المقتضی) بدل (المستلزم).
6- 6 . قوله: (المستلزم [المقتضی] للترجّح بلا مرجّح) لم ترد فی بعض النسخ.
7- 7 . کلمة: (المتعلَّق) لم ترد فی بعض النسخ.
8- 8 . ق-یّده بالجاهل تبعا للمحقّق الکرکی فی جامع المقاصد 4/79، وللشهید الثانی فی فوائد القواعد /534.
9- 9 . وهو المقدّس الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان 8/(162-163).

(الإمضاء) ولا یجب علیه حینئذٍ سوی قسطه المقابل له (فیرجع من الثمن بقسط غیره). ویجری فی التقسیط علی نحو ما سبق بیانه»(1).

وقال سیّد الریاض: «(ولو باع ما یملک وما لم یملک کعبده وعبد غیره) صفقة و (فی عقد واحد صحّ)(2) البیع ولزم (فی عبده) خاصّة (وقف) فی (الآخر علی الإجازة) علی المختار فی الثانی، ولا خلاف فی الأوّل، بل ظاهرهم الإجماع علیه، وصرّح به فی الغنیة(3)؛ للصحیح: فی رجل باع قطاع أرضین... وعرّف حدود القریة الأربعة... وإنّما له فی هذه القریة قطاع أرضین... وعرّف حدود القریة الأربعة... وإنّما له فی هذه القریة قطاع أرضین، فهل یصلح للمشتری ذلک وإنّما له بعض هذه القریة وقد أقرّ له بکلّها؟ فوّقع علیه السلام : «لا یجوز بیع ما لا یملک، وقد وجب الشراء من البائع علی ما یملک»(4).

مضافا إلی أنّ البائع مأمور بالوفاء بالعقد فی ماله، وعدم إجازة المالک بعد ذلک لا یرفع الأمر المستقرّ فی ذمّته قبل ظهوره، فاحتمال بعض من تأخّر البطلان رأسا(5)، لیس فی محلّه.

وأمّا توهّم إیجاب تبعّض الصفقة الخیار له [للبائع]، فمع أنّه لایوجب البطلان لیس فی محلّه؛ لاِءقْدامِهِ علی ضرره، نعم إن جهل أمکن ثبوت الخیار له [للبائع].

ثمّ إنّه إن أَجاز [المالک] صحّ البیع ولا خیار، وإن ردّ تخیّر المشتری - مع جهله بکون بعض المبیع غیر مملوک للبائع - بین الفسخ وإمضائه؛ لتبعیض الصفقة، أو الشرکة الموجبین للضرر، المنفی آیة وروایة.

ص:342


1- 10 . شرح القواعد 2/(121-114).
2- 1 . فی المطبوع: ولو جمع بین ما یملک وما لا یملک فی عقد واحد کعبدة وعبد غیره صحّ.
3- 2 . الغنیة (الجوامع الفقهیة) /585 (209 من الطبعة الحدیثة).
4- 3 . الکافی 7/402، ح4، الفقیه 3/153، ح674، التهذیب 7/150، ح667، الوسائل 17/339، أبواب عقد البیع وشروطه الباب 2، 17/339، ح1، صحیحة محمّد بن الحسن الصفار.
5- 4 . مجمع الفائدة 8/162.

ولیس فی النصّ ما یخالفه کما تُوِهِّمَ(1) وإن تضمّن لفظ الوجوب؛ لإضافته إلی البائع، ولا کلام فیه کما مرّ، ولکنّه غیر الوجوب من المشتری، فقد یجامع ثبوت الخیار له الوجوب من البائع، کما فی کثیر من المواضع.

فإن فسخ رجع کلّ مال إلی مالکه، وإن رضی صحّ البیع فی المملوک للبائع بحصّته من الثمن. ویعلم مقدارها بتقویمهما جمیعا ثمّ تقویم أحدهما منفردا ثمّ نسبة قیمته إلی

قمیة المجموع، فیخصّه من الثمن مثل تلک النسبة.

فإذا قُوّما جمیعا بعشرین وأحدهما بعشرة صحّ فی المملوک بنصف الثمن کائنا ما کان زائدا أم ناقصا، فلو کان الثمن فی المثال ستّة اُخذ لأحدهما منها نصفها ثلاثة، هذا فی جهة النقیصة، ویعلم المثال فی جهة الزیادة بزیادة الثمن علی العشرین ولو بواحدة، وإنَّما اُخذ بنسبة القیمة ولم یخصّه من الثمن قدر ما قُوّم، لاحتمال زیادتها عنه ونقصانها، فربّما جمع فی بعض الصور بین الثمن والمثمن علی ذلک التقدیر، کما لو کان قد اشتری المجموع فی المثال بعشرة.

ثمّ إنّه إنّما یعتبر قیمتهما مُجْتَمِعَیْنِ إذا لم یکن لاجتماعهما مدخل فی زیادة قیمة کلّ واحد کفرض العبارة. أمّا لو استلزم ذلک کمصراعی باب لم قوّما کلّ منهما منفردا وینسب قیمة أحدهما إلی مجموع القیمتین ویؤخذ من الثمن بتلک النسبة، دون أن ینسب إلی قیمتهما مجتمعین. فلو کان قیمتهما کذلک اثنی عشر ومنفردین تسعة والثمن ستّة وقیمة أحدهما ثلاثة یؤخذ لکلّ منهما من الثمن بقدر نسبة قیمتهما إلی التسعة وهو الثلث اثنان، ولا یؤخذ بقدر نسبة قیمتهما إلی الاثنی عشر وهو الربع واحد ونصف، کذا قیل.(2)

وربما یستشکل مع جهل المشتری بالحال وبذله الثمن فی مقابلة المجموع من حیث المجموع، فالأخذ بالنسبة إلی المجموع قیمتهما منفردین ظلم علی المشتری وحیف علیه.(3)

ص:343


1- 5 . اُنظر الحدائق 18/400.
2- 1 . الروضة 3/239، المسالک 3/162، الحدائق 18/402.
3- 2 . اُنظر الروضة 3/240، المسالک 3/163.

وهو حسن، إلاّ أنّه منقوض بالظلم علی البائع لو اُخذ بالنسبة إلی مجموع قیمتهما مُجْتَمِعَیْنِ، مع عدم تَقْصیرِهِ وإتلافه شیئا علی المشتری، وإنّما أراد له شیئا لم یسلم له، فإلحاقه بالغاصب حینئذٍ فی ضمان الصفقة لیس فی محلّه مع براءة ذمّته عنه، والمسألة لا تخلو عن ریبة وإن کان الأوّل لا یخلو عن قوة»(1).

وقال صاحب مفتاح الکرامة فی ذیل ما مرّ من قول العلاّمة فی القواعد: «أمّا صحته فیما یملک فقد نصّ علیه فی «النهایة»(2) و «المبسوط»(3) وما تأخّر عنهما.(4) وفی

«الغنیة»(5) الإجماع علیه. وفی «الریاض»(6) أنّ ظاهرهم الإجماع.

وأمّا وقوف الآخر علی إجازة المالک فقد نصّ علیه فی «النهایة»(7) و «الوسیلة»(8) و «الشرائع»(9) و «النافع»(10) وکتب المصنّف [العلاّمة(11)]

ص:344


1- 3 . ریاض المسائل 8/(232-229).
2- 4 . النهایة، الشرط فی العقود، /385.
3- 5 . المبسوط، أحکام تفریق الصفقة من البیوع، 2/144.
4- 6 . منهم العلاّمة فی مختلف الشیعة، فی عقد البیع، 5/55، والمحقّق الثانی فی جامع المقاصد، فی شروط المتعاقدین، 4/78، والمحقّق فی شرائع الإسلام، فی عقد البیع وشروطه 2/15.
5- 1 . غنیة النزوع، فی البیع، /209.
6- 2 . ریاض المسائل، فی شروط المتعاقدین، 8/(126-127).
7- 3 . النهایة، الشرط فی العقود /385.
8- 4 . الوسیلة، فی بیان بیع تبعّض الصفقة، /247.
9- 5 . شرائع الإسلام، فی عقد البیع، 2/9.
10- 6 . المختصر النافع، فی البیع وآدابه، /118.
11- 7 . تذکرة الفقهاء، فی أحکام تبعّض الصفقة 12/6، ومختلف الشیعة، فی عقد البیع وشرائطه 5/55، ونهایة الإحکام، فی الملک، 2/478، وإرشاد الأذهان، فی أرکان التجارة، 1/360، وتبصرة المتعلّمین، فی عقد البیع، /88، وتحریر الأحکام، فی البیع، 2/277.

و«الشهیدین»(1) والمحقّق الثانی(2) وغیرها(3). وفی «التذکرة»(4) نسبته إلی علمائنا.

وأمّا أنّه إن أجاز المالک صحّ فیها وإلاّ بطل فی مال الغیر خاصّة فهو المشهور کما فی «مجمع البرهان»(5) وفی «التذکرة»(6) نسبته إلی علمائنا(7).

وفی «المبسوط» و «السرائر» و «الغنیة» أنّه إذا باع ملکه وملک غیره صحّ فی ملکه وبطل فی ملک الغیر أجاز أو لم یجز بناءا منهم علی عدم صحّة عقد الفضولی کما تقدّم.(8) وهو قضیّة کلام «الخلاف».

واحتمل فی «مجمع البرهان»(9) علی تقدیر صحّة الفضولی إن لم یجز المالک

بطلان البیع رأسا (أنّه إن لم یجز المالک بطل البیع رأسا - خ ل)، لأنّه إنّما حصل التراضی والعقد علی المجموع، وحصوله فی الکلّ لا یستلزم حصوله فی الجزء.

وخبر الصفّار(10) یسقط هذا الاعتبار، قال فیه علیه السلام : «وقد وجب الشراء علی البائع علی ما یملک» مضافا إلی أنّ البائع مأمور بالوفاء بالعقد فی ماله والعقد صحیح فی نفسه لکنّه غیر لازم کالفضولی، وعدم إجازة المالک بعد ذلک لا ترفع ذلک - أی الأمر المستقرّ قبل ظهوره - وأنّ العقد بمنزلة عقود متعدّدة، ولهذا لو خرج بعض ماله مستحقّا لا یبطل إلا

ص:345


1- 8 . الدروس الشرعیة، فی البیع، 3/(192-193)، واللمعة الدمشقیة، فی البیع، /110، وغایة المراد، فی المتعاقدین، 2/21، ومسالک الأفهام، فی شروط المتعاقدین 3/161، والروضة البهیة، فی شرطو المتعاقدین 3/(238-239).
2- 9 . جامع المقاصد، فی شروط المتعاقدین، 4/78.
3- 10 . کریاض المسائل، فی شرائط المتعاقدین، 8/126.
4- 11 . تذکرة الفقهاء، فی تبعّض الصفقة 12/6.
5- 12 . مجمع الفائدة والبرهان، فی المتعاقدین 8/162.
6- 13 . تذکرة الفقهاء، فی تبعّض الصفقة، 12/6.
7- 14 . کذا فی المصدر.
8- 15 . تقدّم فی مفتاح الکرامة 12/(593-595).
9- 16 . مجمع الفائدة والبرهان، فی المتعاقدین، 8/162.
10- 1 . وسائل الشیعة، الباب 2 من أبواب عقد البیع وشروطه، 17/339، ح1.

فیه.

وهذا الاحتمال أعنی بطلان البیع من رأس - قول الشافعی(1)، قال: لأنّ اللفظة الواحدة لا یتأتّی تبعیضها فأمّا أن یغلب الصحیح علی الفاسد أو بالعکس، والثانی أولی، لأنّ تصحیح العقد فی الفاسد ممتنع وإبطاله فی الصحیح غیر ممتنع، ولأنّه لو باع درهما بدرهمین أو تزوّج باُختین حکم بالفساد، وأنّ الثمن المسمّی یتوزّع علیهما ولا یدری حصّة کلّ واحدٍ منهما عند العقد فیکون الثمن مجهولاً، وصار کما یقال بعتک عبدی هذا بما یقابله من الألف إذا وزّعت علیه وعلی عبد فلان فإنّه لا یصحّ.

والجواب إنّ إجماعنا منعقد وأخبارنا(2) ناطقة بالصحّة، واللفظة الواحدة کثیرا ما تتبّعض کما إذا قال جاء زید وعمرو صادقا فی أحدهما کاذبا فی الآخر، ونحوه ما إذا شهد عدل وفاسق واحد الدرهمین کإحدی الاُختین لیس بأولی بالفساد من الآخر، ولهذا أفسدنا العقد فیهما، ولا کذلک صورة النزاع کما هو ظاهر، والثمن لیس مجهولاً، لأنّه جعل الجمیع فی مقابلة الجمیع، فسقوط بعضه لا یجعله مجهولاً کأرش العیب وکما إذا خرج بعض ماله مستحقّا.

وقد تحصّل من هذا أنّه لا مانع من أن یکون هذا العقد الواحد قبل الإجازة لازما موقوفا، فلا إیراد علی عبارة المصنّف بوجهٍ. ومراده وغیره بالصحّة اللزوم، لوجود شرطه وهو کونه ملکا.

ولیعلم أنّه لابدّ من التقسیط عند الجمیع، لأنّ القائل بالبطلان فیما لا یملک لابدّ له

من التقسیط، وکذا القائل بتوقّفه علی الإجازة علی تقدیر حصولها وعدمه.

وقد اختلفت عباراتهم فی تقسیط الثمن إذا کان من ذوات القیم. ففی «المبسوط»(3) وکذا «الوسیلة»(4) یأخذه بما یتقسّط علیه من الثمن یعنی یأخذ المملوک

ص:346


1- 2 . المجموع، فی البیع، 9/379.
2- 3 . وسائل الشیعة، الباب 2 من أبواب عقد البیع وشروطه، 17/339، ح1.
3- 1 . المبسوط، فی أحکام تفریق الصفقة، 2/145.
4- 2 . الوسیلة، فی بیان بیع تبعّض الصفقة، /247.

بقسطه. ونحوه ما فی «التذکرة»(1) و«التحریر»(2) و «الدروس»(3) حیث قیل فی الأوّلین یأخذه بقسطه من الثمن، وفی الأخیر یقسّط الثمن علیهما. وفی «السرائر» یمسک ما یصحّ فیه البیع بما یخصّه من الثمن الّذی یتقسّط علیه، کما إذا کان ثمنهما ثلاثة دنانیز وقیل: إنّ قیمة المملوک قیراط وقیمة غیره قیراطان، فیرجع المشتری بثلثی الثمن(4)، انتهی ما أردنا نقله من کلامه، فلیتأمّل فیه.

وعبارة «نهایة الإحکام»(5) و «اللمعة»(6) کعبارة الکتاب. وفی «جامع المقاصد»(7) أنّ فی عبارة الکتاب حذفا تقدیره: ثمّ یقوّم أحدهما وتنسب قیمته إلی مجموع القیمتین ویؤخذ له بتلک النسبة من مجموع الثمن.

وفی «الإرشاد»(8) ویقسّط المسمّی علی القیمتین. وقال فی «تعلیقه»(9): وطریق تقسیط المسمّی علی القیمتین: أن یقوّم المبیعان معا ثمّ یقوّم أحدهما علی انفراده وتُنسب قیمته إلی مجموع القیمتین. قلت(10): لعلّ الأولی أن یقول: إلی قیمة المجموع. قال: وینظر تلک النسبة فیؤخذ بها من الثمن...(11) وإنّما وجب التقسیط کذلک دون التقسیط علی العینین لإمکان تفاوتهما فیتعذّر التقسیط من دون اعتبار [القیمة(12)] وإنّما وجب

ص:347


1- 3 . تذکرة الفقهاء، فی أحکام تبعّض الصفقة، 12/6.
2- 4 . تحریر الأحکام، فی عقد البیع وشروطه، 2/278.
3- 5 . الدروس الشرعیة، فی البیع 3/196.
4- 6 . السرائر، فی العقود، 2/276.
5- 7 . نهایة الإحکام، فی بیع ملکه وملک غیره صفقة، 2/478.
6- 8 . اللمعة الدمشقیة، فی عقد البیع، /110.
7- 9 . جامع المقاصد، فی شروط المتعاقدین، 4/78.
8- 10 . إرشاد الأذهان، فی أرکان البیع، 1/360.
9- 11 . حاشیة إرشاد الأذهان، فی البیع، /338، من المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی وآثاره.
10- 12 . من کلام السیّد العاملی.
11- 13 . حذف من کلام الکرکی سطرین.
12- 14 . کذا فی حاشیة إرشاد الأذهان /338.

تقویمهما ثمّ تقویم أحدهما لجواز أن یکون الثمن أزید من القیمة أو أنقص منها، فلو(1) اعتبرت قیمة واحدة بقی الفاضل من الثمن بإزاء الباقی وهو أقلّ من القیمة بکثیر فی صورة الزیادة وبالعکس فی صورة النقصان. ونحوه ما فی «جامع المقاصد»...»(2).

وقال فی الجواهر: «(وکذا) ظهر لک الحال: فیما (لو باع ما یملک وما لایملک) بعقد واحد وثمن کذلک؛ ضرورة کون حکمه أنّه (مضی بیعه فیما یملک، وکان فیما لایملک موقوفا علی الإجازة(3)) بناءً علی ما سمعته من صحّة الفضولی، وباطلاً علی القول الآخر.

وعلی کلّ حال، فلا خلاف(4) فی صحّة بیعه ونفوذه فیما یملک إذا لم یتولّد من عدم الإجازة مانع شرعی؛ کلزوم ربا، وبیع آبق من دون ضمیمة... ونحو ذلک، بل ظاهرهم الإجماع علیه کما اعترف به فی الریاض(5)، بل عن الغنیة دعواه علیه صریحا(6)، کالاُستاذ فی شرحه(7).

لإطلاق الأدلّة وعمومها السالِمَیْنِ عن المعارض، خصوصا بعد ملاحظة ما یظهر من النصّ والفتوی من کون الأسباب الشرعیّة کالعقلیّة تؤثّر فی القابل دون غیره.

وما سمعته من خبر الصفّار(8) من وجوب الشراء علی البائع فیما یملک، فهو حینئذٍ بمنزلة عقود متعدّدة؛ ولذا لو ظهر بعض المبیع مستحقّا لم تبطل إلاّ فیه.

فما عن الأردبیلی: من احتمال بطلان العقد رأسا علی تقدیر صحّة الفضولی وعدم اجازة المالک؛ لأنّه إنّما حصل التراضی والعقد علی المجموع، وحصوله لایستلزم حصوله

ص:348


1- 1 . فی حاشیة الإرشاد: «ولو».
2- 2 . مفتاح الکرامة 12/(644-641).
3- 3 . «علی الإجازة» جعلت بین معقوفتین فی نسختی الشرائع والمسالک.
4- 4 . کما فی الریاض: (انظر الهامش الآتی).
5- 5 . ریاض المسائل: التجارة، شرائط بیع، 8/229.
6- 6 . غنیة النزوع: البیع، المقدّمة، /209.
7- 7 . شرح القواعد: المتاجر، فی المتعاقدین، 2/114.
8- 8 . وسائل الشیعة 17/339، ح1.

فی الجزء.(1)

واضح الفساد، بل کأنّه اجتهاد فی مقابلة النصّ، ولم نعرفه لأحد من أصحابنا.

نعم، هو للشافعی محتجّا علیه: بأنّ اللفظة الواحدة لایتأتّی تبعیضها، فإمّا أن یغلب الصحیح علی الفاسد أو بالعکس، والثانی أولی؛ لأنّ تصحیح العقد فی الفاسد ممتنع

وإبطاله فی الصحیح غیر ممتنع، ولأنّه لو باع درهما بدرهمین أو تزوّج باُختین حکم بالفساد، ولأنّ الثمن المسمّی یتوزّع علیهما، ولا یدری حصّة کلّ واحد منهما عند العقد، فیکون الثمن مجهولاً وصار کما یقال: «بعتک عبدی هذا بما یقابله من الألف» إذا وزّعت علیه وعلی عبد فلانٍ، فإنّه لا یصحّ.(2)

وفیه: - مع أنّه مُنافٍ لما عرفت - منع عدم تبعیض متعلّق اللفظة الواحدة فی الخبر والإنشاء.

ووضوح الفرق بین المقام وبین بیع الدرهم بالدرهمین والتزوّج بالأُخْتَیْنِ، ولو بعدم ترجیح تعلّق العقد بأحدهما علی الآخر.

ودلیل الجهالة إنّما یسلّم منه ما إذا کانت فی الثمن الذی قد وقع مقابلاً فی العقد، وأمّا بعد فرض معلومیّته فلا یقدح الجهل بالتقسیط؛ لإطلاق الأدلّة الذی لا ریب فی شموله لما کان مجهولاً من هذه الجهة، معلوما من الحیثیّة الاُخری.

وبعبارة أُخری: إنّ الإطلاق شامل لنحو هذه المعلومیّة بخلاف ما ضربه مثلاً.

وما ذکره المقدّس الأردبیلی إنّما یقتضی الخیار مع الجهل لا البطلان؛ ضرورة عدم کونه أعظم من تخلّف الوصف، وتبعیّة العقود للقصود منطبقة علی البعض المقصود ولو فی ضمن الکلّ.

ومن هنا ترک الاستفصال فی خبر الصفّار وحکم فیه بالصحّة فیما یملک، بل لعلّه مع ظهور مدخلیّة الاجتماع فی موضوعه الذی هو «قطاع أرضین» المختلفة غالبا لأنّها

ص:349


1- 9 . مجمع الفائدة والبرهان: المتاجر، فی المتعاقدین، 8/162.
2- 1 . العزیز فی شرح الوجیز 4/140.

قطع متجاورات، ولو فرض دخول الوصف فی موضوع البیع - علی وجهٍ یکون تخلّفه کتخلّف جنس المبیع - کان خروجا عن محلّ البحث.

فلا ریب فی الصحّة، من غیر فرق بین کون المالین لواحد أو متعدّد، وبین تساویهما فی القیمة واختلافهما، ولا بین کون المشتری متّحدا أو متعدّدا، علی الإشاعة فی المبیع أو علی تخصیص کلّ واحد من العبدین بأحدهما ولکن علی الإشاعة فی الثمن، فیتقسّط حینئذٍ علی قیمتهما علی حسب ما تعرف إن شاء اللّه.

فما عن الخلاف: من البطلان فی بیع المالکین عبدیهما المختصّ کلّ واحد منهما بواحد، مع التساوی فی القیمة أو اختلافها.(1)

والمبسوط: من البطلان أیضا لکن مع الاختلاف فی القیمة(2)، والبطلان أیضا لو باع العبدین من اثنین بثمن واحد لم یعلم ما یخصّ کلاًّ منهما لتعدّد الصفقة.(3)

واضح الضعف؛ ضرورة اتّحادها فی الجمیع والاکتفاء بمعلومیّة الثمن فیها وإن جهل التقسیط؛ لعدم ما یدلّ علی اشتراط أزید من هذه المعلومیّة التی یرتفع معها الغرر والجهالة عرفا.

(و) حینئذٍ ففی مفروض المتن: أجاز الغیر أو لم یجز (یقسّط الثمن) علی المبیع؛ حتّی یأخذ کلّ من المالکین نصیبه علی فرض الإجازة، أو لیأخذ البائع ما یخصّه منه ویرجع الباقی إلی المشتری علی فرض عدمها.

وکیفیّة ذلک فیما إذا لم یکن المبیع مثلیّا أو ما فی حکمه ممّا یعلم منه تبعیّة نسبة الثمن إلیه لتساوی أجزائه وأوصافه مثلاً علی وجهٍ لا تختلف القیمة معها: (بأن یقوّما جمیعا ثمّ یقوّم أحدهما) منفردا - کما فی القواعد(4) واللمعة(5) ومحکیّ النهایة(6)، بل

ص:350


1- 2 . الخلاف: الشرکة، مسأله 13، 3/335.
2- 1 . المبسوط: کتاب الشرکة، 2/341.
3- 2 . المصدر السابق، وینظر أیضا: المبسوط: البیع، الخراج بالضمان، 2/66.
4- 3 . قواعد الأحکام: المتاجر، فی المتعاقدین، 2/19.
5- 4 . اللمعة الدمشقیّة: المتاجر، الفصل الثانی، /110.
6- 5 . نهایة الإحکام: البیع، فی المعقود علیه، 2/478.

نسب(1) إلی الأصحاب - ثمّ ینسب إلی قیمة المجموع.

(و) حینئذٍ (یرجع) المشتری (علی البائع) القابض للثمن (بحصّته من الثمن إذا لم یجز المالک) علی حسب تلک النسبة التی بها انکشف مقدار ما یخصّه من الثمن؛ ضرورة أنّه لو قوّم منفردا من دون ملاحظة النسبة المزبورة واُخذت قیمته من الثمن أمکن حینئذٍ فی بعض الأحوال استیعابها له، بل زیادتها علیه، فیبقی الآخر حینئذٍ بلا مقابلة شیء من الثمن کما هو واضح.

وإلیه یرجع ما فی المبسوط(2) وکذا الوسیلة(3): یأخذه - المملوک - بما یتقسّط علیه من الثمن؛ أی: یأخذه بقسطه من الثمن، کما عبّر به فی التذکرة(4) والتحریر(5).

وکذا ما فی الدروس: یقسّط الثمن علیهما.(6)

وما فی السرائر أیضا: «یمسک ما یصحّ فیه البیع بما یخصّه من الثمن الذی یتقسّط علیه، کما إذا کان ثمنهما ثلاثة دنانیر... وقیل: إنّ قیمة المملوک قیراط وقیمة غیره قیراطان، فیرجع المشتری بثلثی الثمن»(7).

وهو عین ما ذکرناه؛ ضرورة کون النسبة بما فرضه ذلک.

فمراد الجمیع حینئذٍ واحد، وهو أنّه إذا کان المبیع من ذوات القیم - التی هی غالبا مختلفة زیادةً ونقصا - لابدّ فی معرفة تقسیط الثمن علیها من ملاحظة قیمتها التی هی

ص:351


1- 6 . کما فی إیضاح النافع (للقطیفی) علی ما فی مفتاح الکرامة: المتاجر، فی المتعاقدین، 12/645.
2- 7 . المبسوط: البیوع، تفریق الصفقة، 2/85.
3- 8 . عبارته «فإذا تبعّضت الصفقة کان المبتاع بالخیار... وبین الرضا ببیع ما صحّ واسترداد الثمن بقدر ما خرج مستحقّا». الوسیلة: البیع، بیع تبعّض الصفقة، /247.
4- 9 . تذکرة الفقهاء: البیع، تفریق الصفقة، 12/6 و 10 و 11.
5- 10 . تحریر الأحکام: المتاجر، عقد البیع وشروطه، 2/(277-278).
6- 1 . الدروس الشرعیّة: البیع، درس 238، 3/196.
7- 2 . السرائر 2/276.

متساویة الأجزاء وبدل العین وقائمة مقامها، ومعرفة النسبة منها فیوزّع الثمن علیها، وهو معنی ما فی الإرشاد من أنّه «یقسّط المسمّی علی القیمتین»(1)؛ وذلک لتعذّر معرفته بملاحظة العینین»(2).

أدلة صحة هذا البیع
1- الإجماع

قد مرّ فی کلمات القوم ادعاء الإجماع کما قاله الشیخ(3) وابن زهرة(4) والعلاّمة(5) وجدی الشیخ جعفر(6) وسیّد الریاض(7) وصاحبا المفتاح(8) الجواهر(9).

وعن الأردبیلی أنّه هو المشهور(10) وکما أنّه هو الحق المشهور بین أصحابنا عند الفاضل النراقی(11).

وفیه: إجماع القوم وإن کان موجودا ومحقَّقا ولکنّه إجْماعٌ مَدْرَکِیٌّ - کما اعترف به الاستاذ المحقّق - مدظله - -(12) فلا یغنی ولا یسمن من جوع.

ص:352


1- 3 . إرشاد الأذهان: المتاجر، فی المتعاقدین، 1/360.
2- 4 . الجواهر 23/(503-497) [22/(312-309)].
3- 5 . الخلاف 3/145.
4- 6 . غنیة النزوع /209.
5- 7 . تذکرة الفقهاء 12/6، قال: «ذهب فیه علماؤنا».
6- 8 . شرح القواعد 2/114.
7- 9 . ریاض المسائل 8/229.
8- 10 . مفتاح الکرامة 12/643.
9- 11 . الجواهر 23/498 (22/309).
10- 12 . مجمع الفائدة والبرهان 8/162.
11- 13 . مستند الشیعة 14/297.
12- 1 . العقد النضید 4/107.
2- الإطلاقات والعُمُوْمات

نحو قوله تعالی: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(2) و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(3) لأنّ هذه المعاملة بیعٌ وعقدٌ وتجارةٌ فیشمله اطلاق أو عموم الآیات الشریفة.

3- انحلال العقد

یمکن انحلال العقد الواحد إلی عقود متعددة بحسب متعلّقه کما یمکن انحلال اللفظة الواحدة وتبعضها فی الإخبار والإنشاء. فحینئذ ینحل العقد إلی عقدین، عقد فی مال البائع وعقد فی مال الغیر والعقد الأوّل صحیح ونافذ والثانی یحتاج إلی إجازة مالکه.

4- صحیحة الصفار

صحیحة الصفار أنّه کتب إلی أبیمحمّد الحسن بن علی العسکری علیه السلام فی رجل باع قطاع أرضین فیحضره الخروج إلی مکّة والقریة علی مراحل من منزله، ولم یکن له من المقام ما یأتی بحدود أرضه، وعرف حدود القریة الأربعة، فقال للشهود: أشهدوا أنّی قد بعت فلانا - یعنی المشتری - جمیع القریة التی حدّ منها کذا، والثانی والثالث والرابع وإنّما له بعض هذه القریة قطاع أرضین، فهل یصلح للمشتری ذلک وإنّما له بعض هذه القریة وقد أقر له بکلّها؟ فوقع علیه السلام : لایجوز بیع ما لیس یملک، وقد وجب الشراء من البائع علی ما یملک.(4)

وهذه الصحیحة نص فی المقام حیث کتب الإمام علیه السلام : «قد وجب الشراء من البائع علی ما یملک». وهذا یعنی انحلال العقد إلی عقدین کما مرّ.

ویمکن استفادة الخیار منها لأنّه علیه السلام اوجب البیع علی البائع لا علی المشتری فله الخیار.

ص:353


1- 2 . سورة البقرة /275.
2- 3 . سورة المائدة /1.
3- 4 . سورة النساء /29.
4- 5 . وسائل الشیعة 17/339، ح1، الباب 2 من أبواب عقد البیع وشروطه.

وقال السیّد العاملی: «وخبر الصفار یسقط هذا الاعتبار»(1). أی احتمال بطلان البیع رأسا.

ویری صاحب الجواهر هذا الاحتمال: «واضح الفساد بل کأنّه اجتهاد فی مقابلة النص ولم نعرفه لأحد من أصحابنا»(2).

ویری الشیخ الأعظم هذه الصحیحة «النص»(3) فی المقام.

أدلة البطلان
1- التراضی والتعاقد إنّما وقع علی المجموع

قال الشیخ الأعظم: «إنّ التراضی والتعاقد إنّما وقع علی المجموع الذی لم یمضه الشارع قطعا، فالحکم بالإمضاء فی البعض مع عدم کونه مقصودا إلاّ فی ضمن المرکب یحتاج إلی دلیل آخر غیر مادلّ علی حکم العقد والشروط والتجارة عن تراضٍ، ولذا حکموا بفساد العقد بفساد شرطه، وقد نبّه علیه فی جامع المقاصد(4) فی باب فساد الشرط»(5).

وبالجملة: شرط صحة التجارة هو التراضی والتعاقد علیها وکلاهما مفقودان فی المقام لأنّهما وقعا علی المجموع بما هو المجموع لا علی البعض.

ویمکن أن یقال: إنّ ما قُصد إنّما هو بیع المجموع وهو لم یقع فی الخارج، وما وقع فی الخارج ویحکم بصحته هو بیع البعض وهو لم یقصد، فما قُصد لم یقع وما وقع لم یقصد فالبیع یکون باطلاً من رأسه وأساسه.

وفیه: التراضی والتعاقد کما وقع علی المجموع کذلک وقع علی بعضه، ولأنّ قصد بیع ذات مال البائع نفسه موجود فی ضمن قصد بیع المجموع من مال نفسه ومال غیره

ص:354


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/642.
2- 2 . الجواهر 23/498 (22/310).
3- 3 . المکاسب 3/514.
4- 4 . جامع المقاصد 4/431.
5- 5 . المکاسب 3/531.

فالتراضی والتعاقد علی البعض موجود فی ضمن المجموع.

نعم، البائع لم یقصد استقلال بیع مال نفسه، ولا دلیل علی اعتبار قصد الاستقلال، والإطلاقات والعمومات تنفیان قصد الاستقلال.

والحاصل: بیع البعض مقصود کما أنّ بیع المجموع مقصود، والمقصود واقع فی الخارج کما حکم الشارع بصحته فی صحیحة الصفار الماضیة.

2- الإنشاء بسیط فلا ینحل إلی التعدد

بتقریب: بساطة الإنشاء من الواضحات لأنّها من الأُمور الاعتباریة، وإذا کان بسیطا فَلا ینحل إلی الصحیح والفاسد، لأنّه لیس مُرَکَّبا ولیس ذاتَ أجزاءٍ حتّی ینحل بعدد أجزائه.

وفیه: نعم، الإنشاء بسیط وواحد صورة لکنّه بحسب المتعلَّق متعددا فینحلّ الإنشاء إلی إنشاءات متعددة وللانحلال أمثلة کثیرة:

نحو: بیعی الصرف والسَّلَم فإنّهما ینحلاّن ویصحّان فی المقبوض فی مجلس العقد ویفسدان فی غیر المقبوض.

ونحو: بیع الوکیل أموال موکِّلیه بعقدٍ واحدٍ فإنّ بیعها بإنشاءٍ واحد ینحلّ إلی بیوعٍ متعددة بعدد تلک الأموال.

ونحو: الوصیة بأزید من الثلث فإنّها تنحلّ إلی وصیتین، إحداهما تتعلَّق بالثلث وتصحّ والاُخری بأزید من الثلث وتقف صحتها علی إمضاء الورثة.(1)

والحاصل: السیرة العقلائیة تدلّ علی الانحلال وإطلاق أدلة البیع تنفی اعتبار الاستقلال والانفراد فی صحة بیع مال الأصیل.

3- جهالة الثمن توجب بطلان البیع

انحلال العقد یوجب جهالة الثمن بإزاء ما یملکه البائع، وهو یوجب بطلان البیع، لأنّ البائع لا یعلم بما یتقسط علی ماله من الثمن حین البیع فی القیمی وفی المثلی إذا لم

ص:355


1- 1 . راجع هدی الطالب 5/602.

یکن مقدار ماله معلوما له تفصیلاً، وَهذِهِ الجهالة تُوْجِبُ بطلان البیع.

وفیه: أوّلاً: الجهالَةُ مفقودة بعد ما سنبیّنه من محاسبة مقدار الثمن وکیفیته.

وثانیا: ما یوجب بطلان البیع إنّما هو الغرر(1) ولا غرر فی المقام بعد إمکان محاسبة مقدار الثمن.

کیفیة تقسیط الثمن

اشارة

علی أیّ حالٍ من إجازة المالک وعدمها لابدّ من تقسیط الثمن إمّا لتعیین سهم

المالک مع إجازته أو لما یرجع إلی المشتری مع عدمها.

وأمّا کیفیته: أن یقوّم کُلٌّ من المالَیْنِ أو الأموال منفردا بالقیمة السوقیة ثمّ یؤخذ نسبة قیمتهما أو قیمتها إلی مجموع القیمتین أو القیم. ثمّ یحاسب النسبة مع الثمن المسمی مثلاً لو کان أحدهما خمسة آلاف دینار والآخر عشرة آلاف دینار تَصِیْرُ النسبة 31 و 32 من مجموع الثمن المسمی.

هذا بالنسبة إلی غالب الموارد صحیح.

أمّا إذا کان للهیئة الاجتماعیة دخل فی زیادة القیمة بالنسبة إلی حال الانفراد کجزئین من کتاب واحد أو مصراعی الباب أو کان لها دخل فی نقیصة القیمة بالنسبة إلی حال الانفراد نحو بیع الأمة الشابة مع ولیدته الرضیعة أو المجوهرات الغالیة فی فرض تعددها أو الآثار التاریخیة کذلک کصورة تبسّم الجکوند [ژکوند] للدوانیچی أو أُسطوانة منشور کوروش الکبیر السلطان الهخامنشی الإیرانی أو کان لها دخل فی زیادة قیمة أحدهما أمّا بالنسبة إلی الآخر توجب نقص قیمته فهذه ثلاثة أقسام.

ثمّ فی کلِّ قسم تارة توجب زیادة قیمتهما أو نقیصتها بالتساوی أو بالاختلاف فَتَصِیْرُ الأقسام ستة.

ثمّ فی هذه الصور الست ثلاثة طرق لأجل محاسبة تقسیط الثمن:

الطریق الأوّل وهو طریق مشهور الأصحاب قدس سرهم:

إنّ کلاًّ من المالین یقوّم منفردا

ص:356


1- 2 . کما فی محاضرات فی الفقه الجعفری 2/503.

بالقیمة السوقیة - لا منضما إلی غیره - فیؤخذ لکل واحد منهما جزءٌ من الثمن المسمی یکون نسبة ذلک الجزء إلیه کنسبة قیمة کلّ منهما إلی مجموع القیمتین.

نحو: لو باع کتابین أَحَدُهُما لنفسه والآخر لغیره وقیمة کل منهما منفردا ألْفا دِیْنارٍ ولکن قیمتهما مُجْتَمِعَیْنِ عشرة آلاف وباعهما بالعشرین. فَتَصِیْرُ قیمة کتاب البائع أربعة آلاف ویرجع الباقی - أی ستة عشر الف دینار - إلی المشتری.

وأنت تری بأنّ البائع لم یقدم علی بیع کتابه بهذا المقدار بل أقدم علی بیعه فی مقابل عشرة آلاف وهذا التقسیط یکون ضررا علیه. فقاعدة لا ضرر یرتفع لزوم البیع لأجل دفع الضرر عنه فیکون له خیار الفسخ.

وتکون المحاسبة هکذا لو کانت الهَیْئَة الاجتماعیة توجب تنقیص القیمة إلاّ أن یکون علی المشتری وله خیار تبعض الصفقة وبنفس هذا الخیار یمکن دفع ضرره.

الطریق الثانی: وهو المنسوب إلی سلطان العلماء

الطریق الثانی: وهو المنسوب إلی سلطان العلماء(1): قال ما نصه: «وإبقاء الباقی

للبائع ظلم أیضا علی المشتری، وإعطاء للبائع زائدا علی حقه. کما أنّ ردّ الثمن بقدر نسبة أحدهما إلی قیمتهما مجتمعین ظلم علی ما ذکره الشارح المحقّق - یعنی الشهید الثانی - إلاّ أنّ الثانی أظلم. فالصواب أن یقوّما مجتمعین، ویقوّم ما للبائع منفردا، ویبقی من الثمن فی ید البائع بقدر نسبة قیمة ماله منفردا إلی قیمتهما مجتمعین، وتتمة الثمن تردّ إلی المشتری، وحینئذٍ لا ظلم لأحدٍ أصلاً»(2).

مراده: أن یُقَوَّما مجتمعین بالقیمة السوقیة ثمّ یقوّم ما للبائع منفردا، فیؤخذ النسبة بینه وبین الثمن المسمی وتردّ الباقی إلی المشتری.

نحو: لو کانَتْ قیمة کلّ من الکتابین منفردا ألفین ومُجْتَمِعَیْن أربعة بحیث تکونُ قیمتهما السوقیة مُجْتَمِعَیْنِ ثمانیة فَتُؤْخَذُ النسبة بین الکتاب الواحد منفردا ومجتمعین فَتَصِیْرُ النسبة الربع. ثمّ تُؤْخَذُ هذه النسبة من الثمن المسمی فلو کانت عشرین فیقابل

ص:357


1- 1 . مرّت ترجمته فی الآراء الفقهیة 4/554.
2- 1 . حاشیة سلطان العلماء /65، و حکاه المحقّق الخوانساری فی حاشیته عن سلطان العلماء/359، وهامش الروضة البهیة 1/316 (طبعة عبدالرحیم)، هدی الطالب 5/621.

الکتاب الواحِد ربعه فیکون خمسة.

أقول: هذا الطریق وإن کان ضرره علی البائع أقل من الطریق المشهور ولکن مع ذلک البائع یکون متضررا کما فی الطریق المشهور.

وقد نَسَبَ الإشْکَوَرِیُّ(1) هذا الطریق إلی الشیخ المیرزا محمّد الأصفهانی(2) الشهیر ب- «الدیلماج»(3) فی حواشیه علی الروضة(4) ولکنّی لم أجدها.

الطریق الثالث: ما ذکره الفقیه السیّد الیزدی رحمه الله قال:

«إنّ الأولی فی کیفیة التقسیط أنْ یقوّم کلّ منهما منفردا، لکن بملاحظة حال الانضمام، لا فی حال الانفراد، ثمّ یؤخذ لکلِّ واحد جزء من الثمن نسبة إلیه کنسبة قیمته إلی مجموع القیمتین؛ إذ لو قوّم کل منهما منفردا لا فی حال الانضمام یلزم الضرر علی أحدهما فی صور الاختلاف، مثلاً إذا کان أحدهما یزید قیمته بالانضمام، والآخر تنقص قیمته به یلزم علی طریقة المصنّف قدس سره - فیما إذ قوّم أحدهما منفردا باثنین، ومنضما بأربعة، والآخر منفردا بأربعة، ومنضما

باثنین - أن یکون لمالک الأوّل ثلث الثمن وللمالک الثانی ثلثاه، مع أنَّ قیمة مال الأوّل فی حال الانضمام ضعف قیمة مال الثانی فی تلک الحال، فینبغی أنْ یکون للأوّل الثلثان، وللثانی الثلث، وهکذا فی سائر صور الاختلاف، وأما علی ما ذکرنا فلا یلزم نقص فی مورد من الموارد»(5).

مراده: قیمة کلّ من المالین فی حال الانضمام مع غیره لا منفردا ثمّ تُؤْخَذُ النسبة بینه وبین القیمة السوقیة - الثمن المثل - ثمّ تُؤْخَذُ النسبة من الثمن المسمی، فمثلاً لو کان قیمة کلّ منهما مجتمعین خسمة الآف وتصیر القیمة السوقیة - الثمن المثل - عشرة آلاف وکان الثمن المسمی عشرین ألْفا فَتَصِیْرُ قیمة کلّ منهما عشرة آلاف.

ص:358


1- 2 . بغیة الطالب 1/446.
2- 3 . ذکره العلاّمة الطهرانی فی طبقات أعلام الشیعة، القرن الحادیعشر /517.
3- 4 . لفظٌ ترکیٌ، بالفارسیة یعادل: ترجمان، مترجم، سخن گذار.
4- 5 . ذکرها العلاّمة الطهرانی فی الذریعة 6/96، رقم 513.
5- 1 . حاشیة المکاسب 2/328.

وبهذا البیان یُدْفَعُ الضرر عن البائع ولکن یتوجه الضرر علی المشتری لأنّه اشتری کتابا واحدا بقیمة الانضمام ولکن له خیار تبعض الصفقة وبه یمکن له أن یدفع الضررعن نفسه.

أقول: أنت تری بأنّ الطریقین الاْءَوَّلَیْنِ لایدفعان الضرر عن البائع والثالث یتوجه الضرر علی المشتری، فالأصح عندی الطریق المشهور مع رفع لزوم البیع بقاعدة لا ضرر للبائع بحیث لایتضرر من هذا التقسیط، فله الخیار لفسخ بیعه فی فرض ترتب الضرر علیه.

هذا کلّه فی تقسیط الثمن فی القیمیات.

وأمّا تقسیط الثمن فی المثلیات
اشارة

فقال الشیخ الأعظم: «أمّا المبیع المثلی: فإن کانت الحصّة مشاعة قُسّط الثمن علی نفس المبیع، فیقابل کلٌّ من حصّتی البائع والأجنبیّ بما یخصّه، وإن کانت حصّة کلّ منهما معیّنة کان الحکم کما فی القیمی: من ملاحظة قیمتی الحصّتین وتقسیط الثمن علی المجموع، فافهم»(1).

مراده قدس سره : وجود صُوْرَتَیْنِ فی المبیع المثلی:

الصورة الاولی:

أن یکون المبیع مشترکا بینهما بنحو الإشاعة فحینئذ یقسّط الثمن بینهما علی حصتهما من النصف أو الثلث أو الخمس أو غیر ذلک.

الصورة الثانیة:

تکون حصة کلّ واحد منهما مُعَیّنةً بمعنی تَشَخُّصِها وإفرازِها کما

لو کان هناک أکیاس من الحنطة مع تعیّن ما یملک کل منهما فباعها أحد المالکین بعشرة الآف دینار فردّ غیر البائع بیع حصته فیجری حکم القیمی بما مرّ.

واعترض علیه المحقّق النائینی بقوله: «ولایخفی إنّ شیئا من الضابطین لا ینضبط علی الوجه الکلّی:

أمّا الأوّل: فلانتقاضه بما إذا کان لإحدی الحصتین فی حال الاجتماع قیمة أکثر

ص:359


1- 2 . المکاسب 3/520.

من قیمتها فی حال الإنفراد کما إذا کان مَنٌّ من الحنطة فی حال الاجتماع مع تسعة امنان أعلی قیمة لأجل صیرورته مرغوبا إلیه فی ضمن العشرة ولکنّه منفردا لا یرغب إلیه بما یرغب إلیه فی حال الاجتماع فتقسیط الثمن حینئذٍ علی نفس المبیع لیقابل کلّ من الحصتین بما یخصه لایفید فی تعیین قیمة حصة الأجنبی کما لا یخفی.

وأمّا الثانی: فلانتقاضه بما إذا کانت الحصتان المفروزتان کلّ من صبرة واحدة فلا یکفی حینئذٍ قیمة کلّ واحدة ونسبة قیمته إلی مجموع القیمتین والأخذ من الثمن بتلک النسبة بل لابدّ من أن یقابل کلّ من الحصتین بما یخصه من الثمن کالمثلی فلا یکون موافقا مع القیمی فی الحکم ولعلّه إلی المناقشتین أمر بالفهم»(1).

وتبعه السیّد الخوئی وقال: «ولکنّا لم نفهم ما أراده [الشیخ الأعظم] قدس سره من هذا الکلام، فإنّ ما ذکره من ملاحظة القیمتین فی صورة الافراز، إن کان من جهة اختلاف الحصتین فی القیمة من حیث الجودة والرداءة فهو متین إلاّ أنه لا یظهر من عبارته. وإن کان من جهة اختلاف قیم الأشیاء باختلاف مقدارها قلّة وکثرة فهو لایختص بفرض الافراز بل یجری فی فرض الاشاعة أیضا فإنّ کمیّة من الطعام إذا بیعت بقیمة فنصف تلک الکمّیة قد تباع بأقل من نصف القیمة أو أکثر حسسب اختلاف الرغبات. فالصحیح أنّ المثلی حکمه حکم القیمی مطلقا»(2).

وتبعهما المحقّق المروج وقال فی ذیل أمره بالتفهم: «ولعلّه إشارة إلی منع إطلاق ما أفاده فی الصورتین:

أما الصورة الأولی: فلاختصاص کلامه بما إذا لم یکن لإحدی الحصتین حال الاجتماع قیمةٌ أکثرُ من قیمتها حالَ الإنفراد، لفرض إختلاف الرغبات، فربّما کانت الرغبة فی شراء تسعة أمنان من الحنطة - منضمةً إلی منٍّ آخر - أزید من شراء التسعة مستقلةً.

وربّما ینعکس الأمر، فیکون وصف الاجتماع مؤثرا فی إنخفاض القیمة.

ص:360


1- 1 . المکاسب والبیع 2/312.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/121.

فما أفاده قدس سره من تقسیط الثمن علی نفس المبیع لمجردّ کونه مثلیّا لا یخلو من شیء.

وأمّا الصورة الثانیة: فلإنتقاض کلامه بما إذا کانت الحصّتان المفروزتان متساویتین من جمیع الجهات الدخیلة فی التموُّل، إذ یتعیّن حینئذٍ مقابلة کلّ حصة بما یخصّها من الثمن کالمثلی، ولا وجه لإجراء حکم القیمی علیه.

نعم، یحتمل کون مفروض کلامه إختلاف الحصتین المفروزتین بالجودة والرداءة، بأن کانت إحْداهُما حنطةً جیِّدةً، والأُخری ردیئة، إذ یتعیّن إجراءُ حکم القیمی علیهما.

لکن یشکل هذا الاِحتمال بإمکانه فی صورة الإشاعة أیضا، فلا وجه لاختصاصه بالصورة الثانیة»(1).

أقول: والتحقیق جریان حکم القیمی فی المِثْلِیّاتِ أیضا کما صَرَّحَ به السیّدُ الخوئی رحمه الله .(2)

هذا تمام الکلام فی المسألة الرابعة، والحمدُ للّهِ الَّذِیْ بِنِعْمَتِه تَتُمُّ الْصّالِحات.

ص: 361


1- 1 . هدی الطالب 5/625.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/122.

المسألة الخامسة: لو باع من له نصف الدار، النصف

اشارة

قال الشیخ الأعظم: «لو باع من له نصف الدار نصف ملک الدار، فَإنْ علم أنّه أراد نصفه أو نصف الغیر عمل به، وإلاّ فإن علم أنّه لم یقصد بقوله: «بعتک نصف الدار» إلاّ مفهوم هذا اللفظ، ففیه احتمالان: حمله علی نصفه المملوک له، وحمله علی النصف المشاع بینه وبین الأجنبیّ».(1)

أقول: من المعلوم أنّ مقدار النصف والدار فی کلامه ورد من باب المثال وإلاّ لا فرق بین النصف وسائر الکسور کما لا فرق بین الدار وغیرها من الأموال غیر المنقولات والمنقولات. ثمّ إنّ هاهنا ثلاث صور:

الصورة الأُولی:

باع النصف المفروز من حصته المملوکة فیدخل بیعه فی بیع ما یَمْلِک.

الصورة الثانیة:

باع النصف الآخر المفروز من حصة شریکه فیدخل بیعه فی بیع الفضولی.

الصورة الثّالِثَة:
اشارة

لم یحرز قصد البائع تفصیلاً أنّه باع حصته خاصة أو حصة شریکه أو باع النصف علی نحو الإشاعة بحیث باع ربع ماله مع ربع مال شریکه وبناءً علی الاحتمال الأخیر فیدخل بیعه فی بیع ما یَمْلِک وما لا یَمْلِک.

وبعبارة أُخری: «تارة یظهر بالقرائن الداخلیة أنّ المراد بالنصف هو نصفه المختصّ به أو نصف الغیر أو النصف من نصفه والنصف من نصف الآخر وهکذا، وهذا ممّا لا کلام لنا فیه.

وأُخری: یرید البائع مفهوم نصف الدار عرفا من دون قصد شیء من خصوص نصفه أو نصف الآخر، فهل یؤخذ بظاهر هذا الکلام ویکون حجّة علی تعیین المبیع واقعا

ص:362


1- 1 . المکاسب 3/521.

من النصف المملوک أو المملوک للغیر وهکذا، ولا ینبغی الإشکال فی أنّ الظهور فی مقام الإثبات حجّة علی تعیین المراد فی مقام الثبوت، وحینئذ فیقع الکلام فی أنّ نصف الدار ظاهر فی أیّ نصف من النصفین؟

وثالثة: نعلم أنه أراد واحدا من النصفین بخصوصه أو النصف من کلِّ نصف إلاّ أنه لا قرینة علی تعیین أحد هذه الاحتمالات فلا یُعرف مراده الواقعی، وفی هذه الصورة أیضا یؤخذ بظاهر النصف، لأنّ الظهور فی مقام الإثبات حجّة علی تعیین المراد الواقعی، وهذا القسم أیضا داخل فی محل الکلام فلا وجه لحصره بالصورة الثانیة کما فی کلام شیخنا الأنصاری(1) قدس سره »(2).

ولکن ذهب الشیخ الأعظم إلی أنّه تارة یُعلم مراد البائع من النصف تفصیلاً من أنّه أراد نصفه أو نصف غیره أو النصف المشاع فیعمل به، وإن لم یُعلم التفصیل من النصف ففیه احتمالان:

الأوّل: حمل النصف علی نصف البائع المملوک له وهو الصورة الأولی فی مقالنا.

الثانی: حمله علی النصف المشاع بینه وبین غیره. وهو الاحتمال الثالث فی الصورة الثالثة فی مقالنا.

وَمَنْشَأُ الاحتمال الأوّل عند الشیخ الأعظم(3) أمران:

1- الظهور المقامی لکلمة النصف فی ما یختص بالبائع لا المختص بالشریک ولا المشاع بینهما وذلک لاقتضاء مقام التصرف المعاملی کون المتصرِّف سلطانا علی ما یتصرف فیه بالملکیة ولأنّ السیرة العقلائیة تدلّ علی إعتبار ملکیة فی البائع. فبهذه القرینة انصرف اطلاق لفظ «النصف» إلی النصف المختص بالبائع.

2- الإنشاء هو إیجاد المُنْشَأ فی عالم الاعتبار بالقول أو الفعل. وظهور إسناد الإنشاء إلی البائع هو إضافة البیع إلی نفسه ووقوعه فی ماله المختص. لا مال غیره ولا

ص:363


1- 1 . المکاسب 3/521.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/122.
3- 3 . المکاسب 3/521.

المال المشاع بینه وبین غیره لأنّ الأخیرین یحتاجان إلی مؤونة زائدة علی قصد الإنشاء وهی إمّا قصد وقوع البیع للغیر - إذا وقع فضولیا عن الغیر - أو قصد وقوعه لنفسه إذا وقع فرض مال الغیر مال نفسه کما فی البیع الغاصب أو الصورة الثالثة من صور بیع الفضولی وهی أن یبیع مال الغیر لنفسه.

وأمّا منشأ الاحتمال الثانی عند الشیخ الأعظم(1): ظهور کلمة النصف فی الحصة

المشاعة من مجموع النصفین أی ربع مال البائع وربع مال شریکه.

فحیث یجری الاحتمالان فیصیر لفظ النصف مجملاً فی جهة تعارض ظهوره فی المشاع مع ظهور التصرف والانشاء فی نصیبه المختص به ولا ترجیح لأحد الاحتمالین فتعیین مقصود البائع من النصف مشکل.(2)

اعتراض الشیخ الأعظم علی فخرالمحقّقین
اشارة

قال والده العلاّمة فی القواعد: «ولو باع مالک النصف النصف انصرف إلی نصیبه ویحتمل الإشاعة فیقف فی نصف نصیب الآخر علی الإجازة»(3).

وقال فی نهایته: «ولو کان مالکا لنصف العین، فباع النصف مطلقا انصرف إلی نصیبه صرفا للعقد إلی الصحة. ویحتمل الإشاعة کالإقرار ولأنّه حقیقة اللفظ، فیقف فی نصف نصیب الآخر علی الإجازة...»(4).

وقال ولده الفخر فی ذیل کلامه والده فی القواعد: «لأنّ الأصل فی البیع اللزوم ولهذا یحکم به عند الإطلاق وعدم العلم بالموانع، وإنّما یختلف عنه لعارض معروف ولم یوجد، ولأنّه لو قال: بعتُک غانما وهو اسم مشترک بین عبده وعبد غیره حُمل علی عبده إجماعا فکذا فی المُتَواطِی ء وهو الأقوی عندی. ووجه الإشاعة: أنّ المبیع صالح لملکه وملک غیره ولهذا یقبل التقیید لکلِّ منهما ولفظ النصف إذا أُطلق یُحمل علی الإشاعة، ولم

ص:364


1- 4 . المکاسب 3/521.
2- 1 . هدی الطالب 6/12.
3- 2 . قواعد الأحکام 2/20.
4- 3 . نهایة الإحکام 2/479.

یجعل الشارع صحة التصرف قرینة فی المجازات والمشترکات...»(1).

واعترض علیه الشیخ الأعظم(2) بأنّ قیاس بیع النصف عَلی بیع غانم فی مثاله مع الفارق إذ المعارض فی مثال الفخر مفقود ولکن فی بیع النصف المعارض موجود وهو ظهور لفظ «النصف» علی الإشاعة وهو النصف المشاع.

بتوضیح منّا: إنّ اشتراک لفظ غانِم بین عبد البائع وعبد غیره یوجب إجمال لفظ غانم ابتداءً ولکِنْ فی المقام إطلاقان یرفعان هذا الإجمال وهما: ظهور التصرف فی ملکیة المتصرَّف فیه للمتصرِّف وظهور الإنشاء فی إنشاء البیع لنفس البائع لا لغیره ولیس فی

البین معارض.

ولکن فی بیع النصف یوجد معارض لهذین الإطلاقَیْنِ وهو ظهور لفظ النصف فی الإشاعة ولیس لفظ النصف مجملاً بین النصف المشاع والحصة المختصة بالبائع، کما مرّ فقیاس الفخر یکون مع الفارق.

ویمکن أن یُدافَعَ عن فخرالمحقّقین: أوّلاً: لیس للفظ النصف ظُهُوْرٌ فی الإشاعة بمعنی المُشاع بین الحصتین وإنّما هو ظاهر فی المُشاع فی مقابل النصف المعیّن، کما قیل(3)، وعلیه یکون مثل بیع غانم فی مثال الفخر مجملاً ویرفع الإجمال بقرینتی مقام التصرف وظهور الانشاء.

وثانِیا: لو فُرض ظهور لفظ النصف فی الإشاعة بمعنی المُشاع بین الحُصَّتَیْنِ، کما یمکن رفع إجمال لفظ النصف بالقرینتین کذلک یمکن نفی هذا الظهور بهما واختصاص لفظ النصف بحصة البائع نفسه.

فقیاس الفخر تام ولا یردّ علیه.

محاولة المحقّق النائینی لحلِّ إجمال الشیخ الأعظم
اشارة

قال: «ومما ذکرناه من تحقیق المقام تظهر المناقشة فیما أفاده المصنف [الشیخ

ص:365


1- 4 . إیضاح الفوائد 1/421.
2- 5 . المکاسب 3/522.
3- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/125، وَسَتَأْتی المناقشة فیه فی نقد محاولة السیّد الخوئی فانتظر.

الأعظم] فی الکتاب من وجوه:

منها: قوله: «إنّ المعارض لظهور النصف فی المُشاع هو انصراف لفظ المبیع إلی مال البائع فی مقام التصرف أو ظهور التملیک فی الأصالة»، ووجه المناقشة فیه: هو ما عرفت من أنّه لیس للفظ النصف ظهور فی المُشاع أو انصراف إلیه حتّی یعارض مع ظهور شیء آخر فی النصف المختص بل حمله علی الإشاعة فیما یحمل علیه ناش عن عدم المعین ومع وجود معین فی البین أی معین کان ینعدم وجه الحمل علی الاشاعة وعلی هذا فلا ینتهی الأمر إلی معارضته بشیء أصلاً.

ومنها: التردید فی معارضه بین انصراف اللفظ إلی مال البائع فی مقام التصرف أو ظهور التملیک فی الأصالة حیث قد عرفت أنّ منشأ الحمل علی النصف المختص بالبائع هو انتفاء الأمرین المتقدمین وانصراف اللفظ فی مقام التصرف إلی مال البائع لا ظهور التمیک فی الأصالة.

ومنها: إنّه لا معنی محصل لظهور التملیک فی الأصالة کما لا یخفی.

ومنها: قوله: بأن ظهور النصف فی المُشاع ظهور المقید وهو وارد علی ظهور المطلق» إذ قد عرفت انتفاء الظهور فی النصف المُشاع حتّی یکون ظهورا فی المقید مع أنّه علی تقدیر الظهور أیضا لا یکون ظهور المتعلّق من باب ظهور المقیّد لعدم تعیّن المطلق للقرینیة بل لابدّ من تقدیم أقوی الظهورین لو کان وإلاّ فالحکم هو الإجمال.

وقد تحصل مما ذکرناه أنّ الحمل علی الإشاعة بین الحصتین إنّما هو فیما إذا لم یکن معیِّن فی البین موجب لتعیّن إرادة إحدی الحصتین وإلاّ فالمتعین هو الحمل علی ما قام علیه المعیِّن، ففی بیع نصف الدار الموجب لتعیّن حصة البائع نفسه موجود وهو صدور البیع عنه مع صلاحیة حصة نفسه لأنْ یکون مبیعا نظیر بیع الکلّی فی الذمة فإنّه لا یحتاج إلی اسناده إلی ذمّته بل عدم اسناده إلی ذمة غیره کاف فی اسناده إلی نفسه، وکذا المقام فانّ صلاحیة حصة نفسه لأن یکون مبیعا مع عدم اسناده إلی غیره کاف فی صحة اسناده إلیه فالمعیِّن فی المقام هو ظهور الفعل والفاعل والمتعلّق جمیعا فی کون المبیع حصة نفسه الحاکم علی ظهور النصف فی نفسه فی الحصة المشاعة بین الشریکین.

ص:366

وهذا بخلاف ما لو باع الأجنبی فضولیا نصف الدار التی هی مشترکة بین إثنین فإنّه لا معیِّن لصرف المبیع حینئذٍ إلی حصة أحدهما معینا فیکون المبیع نصف الدار منهما مشاعا ومن کلٍّ منهما نصف نصیبه وهو الربع من الدار»(1).

نقد محاولة المحقّق النائینی

یرد علیه أوّلاً: لم یکن بین الظهورات ظُهُوْرٌ یسمّی بالظهور الحاصل من عدم المعیِّن، لأنّ الظهورات الواردة فی الإنشاءات إمّا وضعی أو انصرافی أو إطلاقی، ولیس هُناکَ قِسْمٌ رابِعٌ، فلابدّ أن یدخل هذا الظهورُ الاِدِّعائِیُّ فی أحد الظهورات المتقدمة، فلا محالة یدخل فی الظهور الإطلاقی.

وثانیا: لا معنی للظهور التعلیقی فی مقابل الظهور التنجیزی، لأنّ الظهور إمّا موجود وإمّا مفقود، فلیس فی الْبَیْن ظُهُوْرٌ تَعلِیْقیٌ کما ادَّعاه. عَطَّرَ اللّهُ مَثْواه.

وثالثا: ثمّ علی فرض تقیید أحد الظهورین علی الآخر، ظهور التصرف فی مال المتصرِّف یکون اطلاقا فعلیا وظهور النصف فی النصف المشاع یکون اطلاقا لفظیا، فلابدّ

من تخصیص الاطلاق الفعلی بالاطلاق اللفظی لأنّ الفعل لیس له اللسان، لا عکسه الذی فعله المحقّق النائینی.

مُحاولة المحقّق الإیروانی لحلِّ إجمال الشیخ الأعظم
اشارة

قال: «وبالجملة: لاریب فی ظهور الکسر من النصف والثلث والربع فی الکسر المشاع فی ما أضیف إلیه ذلک الکسر، فإذا وقع فی حیّز البیع أو غیره من النواقل وکان ما أضیف إلیه کلاًّ ملکا للبائع انتقل منه مقدار ذلک الکسر مشاعا بمعنی أنّه یزول علقته من الجمیع إلی ما عدا ذلک الکسر ویشارکه المشتری فی العین شرکةً إشاعیّةً بمقدار ذلک الکسر.

أمّا لو کان مالکا مقدارا ممّا أضیف إلیه ذلک الکسر یوازی ذلک الکسر أو ینقص فلا تخلو الحال إمّا أن یعلم أنّه أراد نقل علقته أو نقل علقة الغیر أو نقل مقدار من علقته

ص:367


1- 1 . المکاسب والبیع 2/317 و 318.

ومقدار من علقة الغیر فلا إشکال فی اتّباع قصده، أو لا یعلم ذلک سواء علم أنّه لم یزد فی القصد علی قصد مفهوم ما أطلقه من اللفظ أم علم أنّه أراد مضافا إلی ذلک نقل علقةً خاصّة لم یعلم أنّه علقته أو علقة شریکه أو بالتبعیض أو جهل ولم یعلم تحقّق القصد علی ما یزید علی مفهوم اللفظ وعدم تحقّقه، والحکم فی الجمیع واحد وهو الحکم بانتقال علقة البائع إلی المشتری وقیام المشتری مقامه فی الشرکة الإشاعیّة مع الشریک.

وذلک أنّه إذا باع وهو مالک توجّه إلیه خطاب «أَوْفُوا» وانتزع منه الوضع ووجب علیه الخروج عن العهدة؛ لأنّ العقد عقده بالإضافة الأوّلیّة، وإنّما یصیر عقدا للغیر بالقصد إلی نقل مال الغیر وإزالة علقته والفرض أن لیس مثل هذا القصد متحقّقا أو لا یعلم به.

فأمّا فی ما لیس هذا القصد متحقّقا فلا إشکال، وأمّا فی ما لم یعلم واحتمل تحقّق هذا القصد فلأنّ منصرف اللفظ وظاهره أنّه مقصود لنفسه وقصد به إزالة علقته وملکه، ولذا ادّعی فخرالدین فی بیع الغانم المشترک بین عبده وعبد غیره الإجماع علی حمله علی عبد نفسه.

ومن ذلک ظهر ما ینبغی أن یجعل مَطْرَحا للبحث فی المقام وأنّ النصف هو النصف المُشاع فی جمیع الصور، ونصفه المملوک لیس شیئا ممتازا وراء النصف المشاع فی مجموع الدار، وأمّا النصف المشاع بینه وبین ما یستحقّه شریکه فممّا لم نتصوّر حتّی نتصوّره حتّی نحمل علیه لفظه أو لا نحمل.

وأمّا احتمال إرادة النصف الکلّی فی المعیّن المختلف فی الأثر مع الأوّل فذلک ممّا

لا یضرّ فی ما هو المبحوث عنه فعلاً؛ فإنّ العقد محکوم بأنّه عقده والخطاب خطابه إلی أن یتحقّق کون العقد عقد شریکه بتحقّق قصده إلی نقل مال شریکه فیکون بیع الکلّیّ الّذی یملک هو فردا منه وبیع الکسر المشاع فی حکم واحد، وعلی کلِّ حالٍ یجب دفع ما ملکه وفاءً عن العقد»(1).

ص:368


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/355 و 356.
نقد محاولة المحقّق الإیروانی

ویرد علیه: اثبات الموضوع المتقدم ذاتا بالحکم المتأخر رتبة محالٌ، وهذه الاستحالة من ملازمات کلامه قدس سره ، لأنّ متعلَّق خطاب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) لیس مطلق العقد، بل العقد المضاف إلی البائع وتعیین عقد البائع المتقدّم ذاتا وزمانا ورتبةً لأنّه موضوع، بما هو متأخر عنه رتبةً وزمانا وهو حکم وجوب الوفاء مستحیل، فلا یعقل أن یدلّ ویعیّن «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» متعلَّق البیع الصادر قبل توجّه هذا الخطاب إلیه وبیّن بأنّه - متعلّق البیع - هو النصف المختص، فلا یتم ما ذکره قدس سره .

محاولة المحقّق السیّد الخوئی
اشارة

قال قدس سره : «وتوضیح ذلک أنّ لفظ النصف لم یوضع فی اللغة للنصف المُشاع بل لمطلق النصف من الشیء ولا أنّه منصرف إلی النصف المشاع عند إطلاقه وعلیه فلا وجه لدعوی اختصاصه بالنصف المشاع فیکون الغرض منه فی المقام هو الکلّی.

وتوهم انّ البائع لم یقصد خصوصیة ملکه فلا یمکن الحمل علیه کما فی حاشیة السیّد(2).

فاسد فإنّ النصف مع قطع النظر عن قصد خصوصیة الملک کلّی یحتمل أن یکون النصف الذی یختص بنفسه أو بشریکه أو النصف المشترک بین البائع والشریک وحینئذ فیکون ظهور کلامه فی کون المراد من النصف نصف نفسه فیکون مثل بیع الغانم فیرتفع الإجمال بواسطه ظهور الکلام فی بیع نصفه المختص.

وذلک فإنّه وإن صح بیع مال الغیر فضولة ولکن مُقْتَضی کونه مال الغیر یمنع عن شمول «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» للبائع وانّما یشمل المالک المجیزَ حین إجازته وفی المقام بعد منع کون النصف ظاهرا فی النصف المشاع لا وضعا ولا انصرافا لا دافع لشمول دلیل

الوفاء بالعقد علی عقد البائع فإذا کان هو المخاطب بالوفاء بالعقد فیکون المبیع هو النصف

ص:369


1- 2 . سورة المائدة /1.
2- 3 . حاشیة المکاسب 2/330، للفقیه الیزدی.

المختص کما أنّ الامر کذلک فی بیع غانم المشترک بین عبده وعبد الغیر فکما أنّه، لا موجب لدفع ظهور بیع غانم عن غانم نفسه فکذلک فی المقام لکون النصف هنا أیضا مشترکا بین نصفه المختص أو المشاع أو نصف الشریک فکأنّ ظهور البیع فی بیع غانم فی بیع نفسه یرفع الإجمال فکذلک فی المقام بلا زیادة ونقیصة، فکما أنّ البائع فی بیع غانم مخاطب بدلیل الوفاء بالعقد وهکذا هنا أیضا فافهم.

وعلی هذا فیصح ما ذهب إلیه المشهور من کون الکلام ظاهرا فی النصف المختص دون المشاع أو حصة الشریک»(1).

نقد محاولة السیّد الخوئی

یرد علیه ما أُوردتُهُ علی المحققَیْن النائینی والإیروانی لأنّ محاولته مأخوذة من محاولتهما، مضافا إلی ورود نقضین علیه وهما:

الأوّل: إنّه قدس سره اعترف فی «مسألة الإقرار بأنّ نصف الدار لزید مع کونها مشترکة بالإشاعة بین المقرّ وشخص آخر حیث أنّ الإقرار إخبار عن الواقع فیکون إقراره بنصف الدار للغیر إخبارا عن واقع نصف الدار - لا فی نصفه المختص - فهو مشترک بین المقرّ وشریکه الآخر...»(2).

فاعترف قدس سره بأنّ ظهور لفظ النصف یکون فی الکسر المُشاع، وأمّا الفرق بین هذا الظهور فی الإخبار والانشاء - کما فَرَّقَ بینهما السیّد الخوئی رحمه الله - غیر تام، لأنّ متعلّق الانشاء لیس مفهوم لفظ النصف الذی یعدّه أمرا کلیّا، بل متعلَّق الإنشاء أیضا حقیقة نصف الدار مثلاً وواقعه الخارجی لا مفهومه، لأنّ المعاملات لا تَتَعَلَّقُ بالمفاهیم بل بالمصادیق والحقائق والواقعیات الخارجیة. فلا فرق بین الإقرار والإنشاء فی هذا المجال، فیکون الاِعْترافُ بظهور بالنصف فی الإشاعة، نقضا علیه فی المقام.

الثانی: اعترف هو قدس سره والمشهور فی مسألة الخمس بقوله تعالی: «وَاعْلَمُوا أَنَّما

ص:370


1- 1 . مصباح الفقاهة 4/407 و 406.
2- 2 . مصباح الفقاهة 4/407.

غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ»(1) علی أنّ الخمس یتعلّق بالأموال علی نحو الإشاعة فی العینیة والشرکة فیها. والوجه فیه ظهور کلمة الخمس فی الآیة الشریفة علی الإشاعة

والکسور کلّها علی نهج واحد ومنها النصف فیکون ظاهرا فی الإشاعة.

قال فی تقریر خمسه: «... وأمّا فی باب الخمس فالأدلة بین ما هو ظاهر فی الإشاعة والشرکة الحقیقیّة وبین ما لاینافی ذلک، فمثل قوله تعالی: «فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ» ظاهر فی أنّ المتعلَّق خمس المغنم نفسه علی نحوٍ یکون الخمس المشاع للمستحقّ والأربعة أخماس الباقیة للمالک نظیر قولک: بعتُ أو وهبتُ خمس الدار الذی هو ظاهر فی الکسر المشاع بلا إشکال.

وهکذا قوله علیه السلام فی موثقة سماعة: «ما أفاد الناس من قلیل أو کثیر ففیه الخمس»(2) فإن الکسر المشاع جزءٌ من المرکب المشتمل علیه...»(3).

ولذا ذهب تلمیذه الأُستاذ المحقّق(4) - مدظله - إلی عدم إمکان الجمع بین عدم ظهور لفظ «النصف» فی الإشاعة مع ما أفتی به فی مسألة الخمس من أنّه یتعلّق بالأموال علی الإشاعة.

مضافا إلی أنّه لو تمّ ما ذکره هنا فی المقام یلزم منه اتحاد کیفیة تعلّق الزکاة بالأموال مع کیفیة تعلّق الخمس بها مع أنّه قدس سره یفصل بینهما ویلتزم بأنّ کیفیة تعلّق الزکاة بالأموال تکون علی نحو الکلّی فی المعیّن أو الشرکة فی المالیة(5)، لا علی نحو الإشاعة فی العینیة والشرکة فیها.

وبهذین النقضین لابد له قدس سره أن یلتزم بظهور کلمة النصف فی الإشاعة فی المقام فیتعارض مع ظهور التصرف ویعود اجمال الانشاء. والحمد للّه.

ص:371


1- 3 . سورة الأنفال /41.
2- 1 . وسائل الشیعة 9/503، ح6، الباب 8 من أبواب ما یجب فیه الخمس.
3- 2 . المستند فی شرح العروة الوثقی 25/293 من طبع موسوعة الإمام الخوئی رحمه الله .
4- 3 . العقد النضید 4/128.
5- 4 . المستند فی شرح العروة الوثقی 25/293 من طبع موسوعة الإمام الخوئی رحمه الله .
المسألة فی منظور الفقیه السیّد الیزدی رحمه الله
اشارة

قال قدس سره : «لا بأس بالاشارة إلی ما یقتضیه التحقیق عندی علی وجه الإجمال:

اعلم أنَّ التکلّم فی هذه المسألة فی مقامین:

أحدهما: فیما إذا عُلِم کون مراد البائع من النصف شیئا معینا من نصفه المختص أو المُشاع فی الحصتین، ولم یعلم التعیین، فیکون الغرض تشخیص مراده.

الثانی: فیما إذا علم أنَّه لم یقصد إلاّ مفهوم النصف من غیر نظر إلی کونه من ماله أو

من الحصتین، بأنْ علم عدم إلتفاته إلی شیء وراء مفهوم اللفظ.

والظاهر أنَّ محل کلام من تعرّض للمسألة من الفقهاء المقام الأوّل، لکن المصنّف [الشیخ الأعظم] قدس سره وصاحب الجواهر حملا محل کلامهم علی المقام الثانی، وهو بعید فی الغایة؛ إذ علیه لا یبقی محل للتمسک بظهور المقام أو غیره فی مقابل ظهور النصف فی الإشاعة؛ إذ الرجوع إلی الظهورات إنَّما هو لتشخیص المرادات، والمفروض أنَّ المتکلم لم یقصد خصوصیة ملکه أو ملک غیره، وإنّما قصد مفهوم النصف الذی مقتضاه لیس إلاّ الاشاعة.

ودعوی: أنَّ بناءهم علی العمل بالظهورات النوعیة ولو مع العلم بعدم التفات المتکلِّم إلی الخصوصیات کما یظهر من مراجعة کلماتهم فی باب الوقف والوصیة والحلف والنذر ونحوها؛ حیث إنَّهم یقولون إنَّ الظاهر من اللفظ الفلانی کذا وکذا، أو ینَصرف إلی کذا أو لا، فتراهم یقولون لو حلف أنْ لا یدخل الدار هل ینصرف إلی کذا أو لا، مع أنَّ الْمَفْرُوْضَ أنَّ المتکلِّم لم یتوجه ذهنه إلیه أبدا.(1)

مدفوعة: بأنَّ المفروض فی تلک الفروع القصد إلی مفهوم اللفظ، فیکون قصدا إجمالیا إلی جمیع ما یندرج فیه من الخصوصیات، وهذا بخلاف المقام فانَّ المفروض أنّه لم یقصد خصوصیة ملکه أو الحصة المشاعة فی الملکین، فکیف یمکن الحمل علی الأوّل مع عدم قصده؟! ومن المعلوم أنَّ مقتضی التعلیق علی مفهوم النصف - من غیر

ص:372


1- 1 . کذا جاء فی کلامه قدس سره . وَهذا مَوْضِعُ (قَطّ) لا مَوْضِعُ (أَبَدا) والمقامُ لا یسع البسط.

لحاظ الخصوصیة - الإشاعة.

وأما دعوی: وجوب العمل بهذا الظهور تعبدا من جهة أنَّه أوجد العقد، فیجب علیه العمل به؛ لعموم وجوب الوفاء.

ففیه: ما سیأتی من أنَّه إنَّما یجب الوفاء علی من له العقد، لا علی مَنْ عقد، ومن له العقد فی الفرض هو وشریکه بعد عدم قصد الخصوصیة.

وکیف کان فأمّا المقام الأوّل: فانْ کان مع فرض عدم معلومیة توارد الإیجاب والقبول علی شیء واحد، بأنْ لم یعلم کون قصد المشتری موافقا لقصد البائع فالظاهر البطلان، فإذا قال «بعتک نصف الدار» ولم یعلم المشتری أنَّ قصده خصوص نصفه أو نصف الدار علی سبیل الإشاعة بین الحصَّتَیْنِ، فلا یرد قبوله علی ما ورد علیه الإیجاب.

وبعبارة أخری: لابدَّ من تعیین أحد الأمرین قبل البیع، ومع عدمه یبطل لمکان عدم التعیین عندهما.

إلاّ أنَّ یقال: إذا فرض معلومیة کون قصد المشتری إلی خصوص حصة البائع، والمفروض أنَّ ظهور المقام یقتضی کون مراد البائع أیضا ذلک فیکونان واردین علی محل واحد، وکان الشک فی تعیین ذلک بأنْ اختلفا فیه بعد اتِفّاقِهِما علی کون الصادر منهما هو البیع الصحیح فهنا یصح الرجوع إلی الظهورات فی تشخیص ما وقع علیه العقد بحسب إرادتهما.

والظاهر أنَّ محل کلام من تعرّض للمسألة هو ذلک حسبما عرفت، والمعروف بینهم ترجیح ظهور المقام فی حصته المختصة علی ظهور النصف فی الاشاعة، بل فی الجواهر أنَّه صرّح به جمیع من تعرّض لذلک، قال: «بل عن غصب جامع المقاصد(1) والمسالک(2) إرسال المسلمات، بل عن الثانی منهما نسبته إلی الأصحاب، ولا ینافی ذلک احتمال الإشاعة فی النصیبین فی جملة من الکتب، ضرورة عدم منافاة للظاهر»(3) انتهی.

ص:373


1- 1 . جامع المقاصد 6/341.
2- 2 . مسالک الافهام 12/252.
3- 3 . جواهر الکلام 22/316.

وهو قدس سره وإنْ جعل - کما عرفت - محل کلامهم فی المقام الثانی، لکنّک عرفت ما فیه، بل ینبغی القطع بأنَّ مرادهم هذا المقام، أعنی ما علم کون مقصدهما شیئا مخصوصا ولم یعلم التعیین.

وعلی أیِّ حالٍ فالتحقیق: هو ترجیح ظهور مقام البیع فی إرادته حصته المختصة فی مقابل الإشاعة بینه وبین الأجنبی، وکذا إذا کان وکیلاً أو ولیا فی النصف الآخر أیضا فانَّه یحمل علی خصوص ماله، لا المشاع بینه وبین الموکل، وکذا إذا لم یکن مالکا أصلاً، وإنَّما کان وکیلاً أو ولیّا فی النصف، فإنّه یحمل علی هذه الحصة، لا المشاع بین الشریکین، وذلک لأقوائیة هذا الظهور من النصف فی الإشاعة.

بل التحقیق: أنّه لامنافاة بینهما أصلاً، لأنّ الأوّل حکم علی الثانی، لأنّ ظهور النصف فی الإشاعة یقتضی الإشاعة فی الحصتین مع عدم ظهور یقتضی الاختصاص فی ظهور العام مقتضٍ له، فالإشاعة فی الإشاعة من جهة الإطلاق، ومع ظهور التقیید من المقام یجب الحمل علیه کما فی سائر المُطْلَقات إذا کان هنا قرینة علی انصرافها إلی بعض

الافراد.

ودعوی: أنَّ مرجع الشک إلی أنَّه هل قصد الخصوصیة أم لا، والأصل عدمه.

مدفوعة: بأنَّ الظهور المفروض رافع للشک، فمعه لا وجه للرجوع إلی الأصل»(1).

إلی أن قال: «أما المقام الثانی: فالحقّ فیه هو الحکم بالإشاعة؛ وذلک لما عرفت من عدم المعارض لظهور النصف فی الإشاعة؛ لأنَّ المفروض هو العلم بأنَّه لم یقصد إلاّ مفهوم النصف، وأنَّه لم یلتفت إلی کونه من ماله المختص أو المشترک بینه وبین غیره، والظهورات إنّما یرجع إلیها لتعیین المراد الواقعی المجهول لدینا، ومع العلم بعدم کون مراده نصفه المختص لا ظهور یرجع إلیه ویکون معارضا.

ألا تری أنَّه لا إشکال فی عدم الحمل علی خصوص حصته فیما لو باع نصف الدار

ص:374


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/(330-332).

مع اعتقاد [عدم(1)] کونه مالکا أصلاً فبان کونه مالکا له، ومن المعلوم عدم الفرق بینه وبین المقام؛ إذ لایتفاوت الحال فی عدم الظهور بین أنْ یکون جاهلاً بکونه مالکا، وبین ما لو کان عالما وفرض عدم التفاته إلی ماله ومال غیره، بأنْ یکون قصده مجرد تملیک نصف الدار من حیث إنّه دار معین، وهذا واضح جدا، هذا.

وأما الحمل علی حصته المختصة تعبدا من حیث إنَّه ملّک کلیا ملک مصداقه، کما لو باع کلیا سلفا حسبما بیّنه المصنّفف [الشیخ الأعظم] قدس سره أخیرا.

ففیه: ما سیأتی من منع کونه کلیا أوّلاً، ومنع کون مقتضاه ذلک ثانیا، فانَّ أمر الکلی بیده، فله أنَّ یعینه فی فرد آخر غیر حصته المختصة، غایته أنَّه یجب علیه إرضاء مالک النصف الآخر وإجازته، مع أنَّ المدّعی تعیّنه فی حصته من أوّل الأمر، مع أنَّ وجوب الوفاء کما عرفت إنَّما هو بالنسبة إلی مَنْ له العقد، لا علی مَنْ عقد؛ ولذا لا یجب علی الفضولی ارضاء المالک.

فظهر مما بیّنا أن المتعین هو الإشاعة، فانَّ تعلیق البیع علی النصف المضاف إلی الدار التی هی عین خارجیة یقتضی تعلقه بکلِّ جزء علی سبیل الإشاعة، من غیر نظر إلی أنَّه مال هذا أو ذاک، ولیس له مالک، ولازم هذا اشاعته فی الحصتین کما فی الإقرار من غیر تفاوت، هذا»(2).

نقد المقام الأوّل من منظور الفقیه الیزدی

أمّا نقد مقامه الأوّل: فیشتمل علی دَلِیْلَیْنِ:

الأوّل: ما قاله: «... والمعروف بینهم ترجیح ظهور المقام فی حصته المختصة علی ظهور النصف فی الإشاعة...»(3).

والثانی: قوله: «بل التحقیق... - إلی قوله - بعض الأفراد»(4).

ص:375


1- 2 . زیادة یقتضیها السیاق.
2- 3 . حاشیة المکاسب 2/334.
3- 1 . حاشیة المکاسب 2/331.
4- 2 . حاشیة المکاسب 2/332.

«أمّا الدلیل الأوّل فیرد علیه أوّلاً: بأنّنا لم نجد فی کلامه ما یمکن عدِّه مستندا لترجیح أحد الظهورین علی الآخر، وعلیه فکلامه مجرّد دعوی بلا دلیل، إلاّ أن نعتمد علی ما التزم به السیّد رحمه الله فی مواضع اُخری من أنّ الترجیح باعتبار الظهور المقامی.

وثانیا: لو سلّمنا الوجه المذکور، فإنّ ظهور النصف فی الإشاعة لا یخلو إمّا أنّه ظهور وضعی أو انصرافی، وفی کلّ الأحوال یندرج فی الظهورات اللّفظیّة، ویقابله ظهور التصرّف، حیث یعدّ ظهوره ظهورا مقامیّا، ومع لفظیّة الأوّل ومقامیّة الثانی فإنّه لا وجه لتقدیم الأخیر علی الأوّل، بل إمّا الأوّل أقوی منه أو أنّهما یتساویان علی أقلّ تقدیر، وفی کلّ الأحوال فإنّ دعوی ترجیح ظهور المقام فی الحصّة المختصّة علی الإشاعة ممنوعة.

أمّا الدلیل الثانی: فالبحث فیه عن جهتین الکبری والصغری:

الاُولی: فی البحث عمّا یعدّ ملاکا لتقدیم المقیّد علی المطلق.

الثانیة: فی البحث عن أنّ المقام هل یعدّ من صغریات الإطلاق والتقیید وعدمه.

أمّا کبرویّا: فإنّ لزوم تقدیم المقیّد علی المطلق، یعدّ من القواعد الثابتة فی باب الإطلاق والتقیید اللّفظیّین، ومن المعلوم أنّ المقیّد اللّفظی قد یکون متّصلاً بالمطلق فیمنع عن ظهور الإطلاق رأسا، وقد یکون منفصلاً فیمنع عن انعقاد حجّیته للمطلق والإطلاق، وملاک المانعیّة فی فرض الانفصال والاتّصال منحصر فی أحد أمرین:

الأمر الأوّل: إنّ دلالة کلّ واحدٍ منهما علی متعلّقه لا یخلو:

إمّا أنّ دلالة المقیّد علی الحصّة تکون بالنصّ، ودلالة الإطلاق علی المطلق تکون بالظهور، ولا شکّ فی أنّ کلّ نصّ مقدّم علی الظاهر.

أو تکون بالأظهریّة والظاهریّة، بمعنی أنّ نسبة المقیّد إلی الإطلاق تکون أظهر من نسبة المطلق إلیه، ولا شکّ أنّ الأظهر مقدّم علی الظاهر.

الأمر الثانی: أنّ القاعدة عند الاستدلال بالدلیل تَقْتَضِیْ التمسّک بأصالة الظهور فیه، وفیما نحن فیه فإنّ جَرَیانها تقتضی حکومة أصالة الظهور فی المقیّد علی أصالة الظهور فی المطلق، لأنّ جریان أصالة

ص:376

الظهور فی المطلق تعلیقیّ منذ البدایة، حیث یتوقّف دلالة المطلق علی متعلّقه بعدم قیام القرینة المانعة عنها، وهذا بخلاف جریان أصالة الظهور فی المقیّد، فإنّه غیر معلّق بشیء بل فعلی تنجیزی.

أمّا صغرویّا: فإنّ دعوی کون المقام من صغریات القاعدة المذکورة ممنوعة، فضلاً عن أنّ قیاس المقام بباب المطلق والمقیّد قیاس مع الفارق، وبالتالی فالملاکان المذکوران فیالکبری غیر جاریان فی المقام.

أمّا الملاک الأوّل: فَلاِءَنَّ القاعدة المذکورة جاریةٌ فی الإنشاءات اللفظیّة، وما نحن فیه مرکّبٌ من اللّفظ والفعل، فکلمة «النصف» لفظ یدلّ علی النِّصْفِ المُشاعِ بالدلالة الإطلاقیّة الوضعیّة، - کما اعترف به السیّد -، أمّا فعل التصرّف فإنّ ظهوره فی الاختصاص بالحصّة المملوکة للمتصرّف لیس بوضعی، وبالتالی لاتکون النسبة بینهما نسبة تقتضی إعمال القواعد المذکورة فی الکبری من تقدیم النصّ علی الظاهر أو الأظهر علی الظاهر.

أمّا الملاک الثانی: وهو تقدیم أحدهما علی الآخر بملاک التعلیق والتنجیز، فهو أیضا ممنوع فی المقام، لکونه مفقودا فیهما، فکما أنّ ظهور النصف فی الإشاعة معلّق منذ البدایة علی عدم قیام قرینة دالّة علی عدم الإشاعة، کذلک ظهور التصّرف الفعلی فی الحصّة المملوکة معلّق منذ البدایة علی عدم قیام قرینة دالّة علی الإشاعة. وبالتالی فهما متساویان من هذه الجهة، ولیس فی أحدهما ما یمیّزه عن الآخر.

وبعبارة أُخری: إنّ النسبة الحاصلة فیما نحن فیه لیس إلاّ التزاحم بین ظهور الفعل وظهور متعلّقه، وأمّا فی باب المطلق والمقیّد فإنّ بینهما تَزاحُما فی ظهورهما، ولیس هناک جامع بین البایین یقتضی قیاس أحدهما بالآخر، ومن ثمّ تطبیق القواعد المعمولة فی أحدهما علی الآخر، بل یجب أن نلاحظ ظهور الفعل أو المتعلّق وقوّة أحدهما لکی یقدّم علی الآخر»(1).

نقد المقام الثانی من منظور الفقیه السیّد الیزدی
اشارة

«وفیه: لو کان البائع قاصدا من خلال إنشاءه بیع مفهوم النصف أو الثلث وغیرهما

من الکسور المشاعة، لصحّ ما قاله السیّد رحمه الله ، ولکن لا شکّ أنّ البائع لم یقصد ذلک، بل

ص:377


1- 1 . العقد النضید 4/(131-133).

قصد إنشاء معاملة حقیقیّة واقعیّة تکون الصیغة المذکورة حاکیة عنها، فإذا أصبح الأمر الواقعی هو المقصود، فإنّ إرادة البائع أیضا تکون متعلّقة بما وراء المفهوم من الواقع، وحینئذٍ تصبح الظهورات کاشفة عنه، فیکشف ظهور التصرّف عن إرادة خصوص الحصّة المملوکة، کما یکشف ظهور کلمة «النصف» عن الإشاعة، ویتعارضان ویعود الإشکال مرّةً اُخری»(1).

تنبیهٌ: حول حقیقة الملکیّة المشاعة
اشارة

ینبغی استعراض کلمات الأعلام وَآراؤُهُمْ حول حقیقة الملکیّة المشاعة، فِیْها أقوال عدیدة وآراء مختلفة:

القول الأوّل: قیل: إنّ الملکیّةَ المُشاعَةَ ملکیّةً واقعها معیّن وظاهرها مبهم.

وفیه: أوّلاً: أنّ البحث عن حقیقة الکسر المشاع، سواءً تحقّقت الملکیّة أو لم تتحقّق.

وثانیا: لو سُلِّمَ ذلک، فإنّ الملکیّة المُشاعة تعنی الشرکة الظاهریّة، فکلّ شریک مالک لحصّة من العین لکن علی نحو الإشاعة.

القول الثانی: أنّ حقیقة الکسر المُشاع عبارة عن الکلیّات المختلفة فی العین، فالنصف کلّیٌ قابل للانطباق علی حصّتین، والثلث کلّی قابل للانطباق علی ثلاث حصص، وهکذا الأمر فی بقیّة الکسور.

وفیه: أنّ اعتبار الْکَسْرِ المشاع کلیّا مختلفا أعیانه الخارجیّة ممنوع، لأنّ الفقهاء صنّفوا الکسر المشاع حکما وموضوعا فی مقابل الکلّی فی المعیّن، فیعدّ الکسر المشاع من أصناف الکلّی فی المعیّن، کالثلث أو الربع من مال معیّن إذا لوحظ کلیّا کالصّاع من الصُّبرة.

القول الثالث: قیل: إنّ حقیقة الکسر المُشاع هو الجزئی الموجود فی الخارج لکن علی نحو الإشاعة، وهو مختارُ جماعةٍ من المحقّقین، ومرادهم أنّه متی فرض نسبة فی

ص:378


1- 1 . العقد النصید 4/134.

مال معیّن مشترک، تکون النسبة المفروضة مشترکة فی حصص جمیع الشرکاء، وکذلک الحال فیما لو کانت النسبة المفروضة بحیث لا یمکن تقسیم المعیّن الخارجی بنسبتها،

فحینئذٍ یفرض مالکیّة جمیع الشرکاء فیه بنحو الإشاعة والاشتراک:

ویرد علیه أوّلاً: ما سبق أن ذکرناه من أنّ البحث فی المقام یدور حول حقیقة الکسر المشاع، مع الغضّ عن وجود الملکیّة وعدمه.

وثانیا: یستحیل تصوّر الجمیع بین الوجود الخارجی والإشاعة، لأنّ الوجود الخارجی مساوق مع التعیّن والتمیّز، والإشاعة تقابلهما، وبالتالی لم یمکن تصوّر الوجود الخارجی لکن علی نحو الإشاعة والسریان.

القول الرابع: قیل: إنّ حقیقة الکسر المشاع الملکیّة الضعیفة، ویقابله المفروز الذی تعدّ ملکیّته قویّة.

وفیه: أوّلاً: ما سبق ذکره بالنسبة إلی الأقوال السابقة، من إمکان تصوّر الکسر المشاع فی جمیع الأحوال سواء تعلّق الملک بها أم لم یتعلّق، کما فی المباحات، حیث یمکن فرض الکسر المشاع فیها برغم عدم تعلّق سبب من أسباب الملکیّة بها، وعدم إمکان تصوّر الملکیة القویّة والضعیفة فیها.

وثانیا: لا مجال لفرض القوّة والضعف أو الشدّة والخفّة فی الأمور الاعتباریة.

القول الخامس: ما قیل: من أنّ الکسر المُشاع متقوّمٌ بالمملوک الواحد مع مُلاَّکٍ متعدّدین.

وفیه: فضلاً عمّا ذکرنا من أنّ البحث فی المقام عن حقیقة الکسر المُشاع سواء وجد مالک أم لو یوجد، فإنّه لا یمکن تعقّل وحدة المملوک وتعدّد الملاّک، لأنّ الملکیة لیس إلاّ إضافة بین المالک والمملوک، ومع تعدّد المالک تزول وحدة المملوک»(1).

القول السادس: وهو للسیّد الخمینی رحمه الله یقول: «والتحقیق أنّ الکسر المشاع اعتبار عقلائی فی نفس الموضوعات الخارجیة کاعتبار الملکیة والرقیة والحریة

ص:379


1- 1 . العقد النضید 4/136 و 137.

ونحوها، حیث یعتبرها العقلاء فی الموجودات الخارجیة، فمع اعتبارها فیها تصدق علیها بالحمل الشائع تلک العناوین... فالإشاعة والإفراز أمران اعتباریان فی نفس الخارج نحو اعتبار الملک والحقّ... فالکسر المشاع هو الجزء الخارجی المعتبَر بنحو اللاتعیّن واللا إفراز...»(1).

«ویرد علیه: أنّه بالرغم من أنّ الملکیّة أمرٌ اعتباریّ، إلاّ أنّ متعلّقها أمرٌ واقعی

ولیس باعتباری، فملکیّة زید للدار وزوجیّته لهند اعتباری، لکن الدار وهند بنفسهما أمران واقعیّان ولیسا اعْتِبارِیَّیْنِ، وهکذا الحال فی جمیع الاُمور الاعتباریّة کالولایة والقضاء وغیرهما، وهذا بخلاف الکسر المشاع، فإنّه لا مجال لعدّه من الاُمور الاعتباریّة، لعدم إمکان تملیک الأمر الاعتباری، ولا شکّ أنّ الکسر المشاع أمرٌ قابل للتملیک حیث یملک کلّ واحد من الشرکاء کسرا مشاعا من المال المشترک، فملکیّتهما له دلیلٌ علی عدم اعتباریّة»(2).

مختار الاستاذ المحقّق - مدظله -

قال - مدظله -: «وخلاصة الکلام: ثبت من خلال ما استعرضناه بطلان الأقوال والاحتمالات الستّة فی توجیه الکسر المشاع ومخالفتها مع القواعد العامّة، ومن المعلوم أنّ تعارض الآراء وتعدّدها وتضاربها دلیلٌ علی صعوبة المسألة، بالتالی یقتضی المقام أن نذکر ما نراه صحیحا فی توجیهه.

فنقول: أوّلاً: لا شکّ أنّ الحقائق العقلیّة وما ینتج منها وما یترتّب علیها تتفاوت وتختلف مع الحقائق العرفیّة العقلائیّة، فعلی سبیل الفرض هناک فرق فی دائرة الموجود بین رؤیة العقل والعرف، فقد یری العرف شیئا موجودا حقیقةً لکن یراه العقل غیر موجود، وهذه الحقیقة لا یمکن إنکارها حتّی بناءً علی الرؤیة الفلسفیّة - وإن کان ینبغی الإجتناب عن التعرّض إلی المصطلحات الفَلْسَفِیَّةِ فی المباحث الاُصولیّة - فقولنا: «زیدٌ

ص:380


1- 2 . کتاب البیع 2/563 و 564.
2- 1 . العقد النضید 4/141.

موجود» بناءً علی أصالة الوجود، یعدّ باطلاً بالدقّة العقلیّة وواقعا مجازیّا بالفهم العرفی، فکما أنّ «زیدٌ أسدٌ» باطل عند أهل الفنّ مطلقا - کالملاّ صدرا والسبزواری وأتباعهما من القائلین بأصالة الوجود - کذلک باطلٌ قولنا: «السماء موجودةٌ» أو «الأرض موجودة» و «زید موجود»، لأنّ الوجود موجود بالحقیقة العقلیّة، ویجب إسناد واقع الوجود إلی أطواره وکیفیّته، لا إلی ما هو خارج عنهما. ویمکن أن نقرّب اختلاف رؤیتهما إلی الأُمور بحکمهما فی قضیّة الماء والبخار، فالعرف یری أنّهما مختلفان حقیقةً وجوهرا، وأمّا بالرؤیة الدقیقة العقلیّة فهما متّحدان حقیقةً، وینحصر اختلافهما فی الانبساط والانقباض لیس إلاّ، فالعرف یری اختلافهما جوهریّا والعقل یراه عَرَضیا.

وثانیا: بناءً علی المقدّمة المذکورة، فإنّه یمکن عدّ المقام من صغریاتها، لأنّ

العرف یری الکسر المُشاع أمرا واقعیّا وحقیقیّا غیر اعتباری، خلافا لما علیه العقل حیث لا یراه إلاّ حقیقه موهومة غیر واقعیّة، ونتیجة لهذه الرؤیة المختلفة، نجد أنّ العرف یری وجود الکسر المُشاع من الثلث والربع والنصف فی المال المشترک وجودا حقیقیّا فعلیّا، برغم حکم العقل بعدم وجوده وبطلان فرضه.

والحقّ عندنا: أنّ الکَسْرَ المُشاعَ أمرٌ موجود حقیقةً لا اعتبارا، لکن بوجود عرفی لا عقلی، وهکذا تندفع جمیع ما اُورد علی الکسر المشاع من الإشکالات وما قد یرد علیه، وحسب اعتقادی فإنّ الالتزام بما ذکرناه من المقدّمة والنتیجة والإذعان بهما وتطبیق معطیاتهما، یفتح لنا آفاقا واسعة فی أبواب الفقه المختلفة یترتب علیها نتائج خطیرة وآثار هامة فی عملیّة استنباط الأحکام الشرعیة»(1).

المسألة فی منظور المحقّق الإصفهانی
اشارة

قال: «إنّ تحقیق الحال یقتضی رسم أُمور:

منها: أنّ الکسر المشاع - کالنصف مثلاً - ماذا؟ وما معنی إشاعته وسریانه؟ فإنّ الجزئی الحقیقی الخارجی لا سریان له، فما معنی القسمة الساریة فی الکلّ؟ وسریان

ص:381


1- 1 . العقد النضید 4/(141-143).

الطبیعی فی أفراده یوجب أنْ یکون المشاع کلیا، فبماذا یفترق عن الکلّی فی المعین، مع أنّهما متقابلان ولکلِّ منهما أحکام خاصة؟

ومن الواضح أنّ کون الشیء منقسما إلی قسمتین متساویتین فی نفسه لا یتقوّم بکونه مملوکا لشخصین، حتّی یتوهم أنّ معنی الکسر المشاع کون الواحد طرفا لاضافة واحدة قائمة بشخصین، أو أنّ الملکیة قبل الافراز لها نحو من الضعف فیُعَبَّر عنه بالکسر المشاع بحسب تفاوت مراتب الملکیة قوةً وضعفا، فإنّ الشیء له نصفان بنحو الإشاعة سواء کان مملوکا أم لا، فضلاً عن لزوم کونه مملوکا للمتعدد بحسب درجات الکسر من النصف والثلث والربع.

والتحقیق: أنّ الشیء القابل للقسمة فی نفسه موجود واحد، ومن حیث القبول للانقسام یکون وجوده بالفعل وجود الأقسام بالقوة، فالأقسام موجودات خارجیة لکنّها قبل الإفراز وجودها علی حد الأُمور الانتزاعیة التی نحو وجودها وجود مناشئ انتزاعها، فالمنشأ موجود بالفعل والأمر الانتزاعی موجود بالقوة بنحو وجود المقبول بوجود القابل،

فهو خارجی بخارجیة مَنْشَئِهِ وجزئی حقیقی بجزئیة مَنْشَئِهِ، وحیث إنّ تلک القسمة المتساویة(1) لقسمة أُخری متساویة النسبة إلی تمام أجزاء ذلک الموجود بالفعل، فلذا یقال إنّها مُشاعة وساریة فی الکلّ.

ومنه یتضح أنّ المُشاعَ لیس کلیّا فی نفسه، وأنّه یفترق عن الکلّی فی المعین بجزئیته دون الکلّی فی المعین، کما یفترق الکلّی فی المعین عن غیره بانحصار أفراده فی المعین دون مطلق الکلّی، وسیأتی(2) إنْ شاء اللّه تعالی - فی مسألة بیع صاع من الصبرة - تحقیق حال الکلّی فی المعین.

وممّا ذکرنا فی المراد من الکسر المُشاع یتضح بالتأمل کون الإفراز والقسمة الفعلیة تمییز الحصص؛ لا أنّها مبادلة، وذلک لأنّ النصف المشاع المملوک لکلّ من

ص:382


1- 1 . هکذا فی الأصل والاصح (المساویة).
2- 2 . کتاب المکاسب 196 سطر 22، کما سوف یأتی الکلام علیها فی الجزء الثالث من حاشیته علی المکاسب.

المالکین لا تعیّن له إلاّ هذا التعیّن وکونه نصفا فی قبال الثلث والربع، وحیث إنّه قابل لانحاء التعیّنات المتبادلة بالفرض والتقدیر فالقسمة موجبة لتعیّن ذاک الأمر اللامتعین من حیث هذه التعینات.

وحیث إنّ المملوک لکلّ منهما نفس ذلک الکسر المشاع، وأنّ نسبة ملک الکلّ إلیهما بلحاظ ملک الکسر المنقسم إلیه وإلی معادله الکل(1)، فلذا لایتحقق مبادلة بین المملوک لهذا والمملوک لذاک، بتوهم أنّه یخرج من ملک هذا مقدارٌ ویدخل فی ملک الآخر وبالعکس بسبب الإفراز والقسمة، بل المملوک هو الکسر والقسمة معینة للکسر خارجا؛ من دون خروج ولا دخول أصلاً»(2).

توضیح مراد المحقّق الإصفهانی

مراده: «أنّ الوجودات المتصورة علی قسمین:

1- الموجود الذی ما بإزائه فی الخارج.

2- الموجود الفاقد لما یوازیه فی الخارج، لکن یملک منشأ الانتزاع فی الخارج.

أمّا القسم الثانی: کعنوانی الأب والابن، حیث لیس لهما وجودان بل وجود واحد،

ولکن هذا الوجود الواحد یتعدّد بوجود ما یعدّ منشأ انتزاعه أی الأب والابن، وهکذا الأمر فی عنوانی السقف والفوقیّة، فإنّهما موجودان بوجود واحد، ویتعدّدان للسبب المذکور، فکما أنّ وجود الفوقیّة یکون بعین وجود الفوق، کذلک الجزئیّة تکون موجودة بعین وجود الجزء، ولایقبل أن یکون وجود جزئیّته بوجود شیء آخر، وهکذا الحال فی جمیع الکسور المشاعة، فهی موجودة بوجود منشأ انتزاعها، فیتّحد ویتعدّد باتّحادٍ منشأه وتعدّده.

وهذا بخلاف القسم الأوّل حیث یعدّ من قبیل وجود المقبول بوجود القابل، کالنطفة التی فیها قابلیّة العَلَقة، وهی موجودة بوجود النطفة، فالنسبة بینهما نسبة القابل

ص:383


1- 3 . حق العبارة أن یقول: «بلحاظ ملک الکسر المنقسم الکلّ إلیه وإلی معادله» وإلاّ لزم الفصل بین اسم المفعول ونائب فاعله بالفصل الطویل.
2- 4 . حاشیة المکاسب 2/341 و 342.

«النطفة» والمقبول «العلقة»، وهکذا الحال فی جمیع موارد الإمکان الاستعدادی، حیث یکون کلّ أمر بالفعل حاملاً للآخر بالقوّة، فهو موجود بالفعل وحاملٌ وقابلٌ ومستعدٌّ لشیء آخر بالقوّة.

فإذا ثبتت هذه المقدّمة یتّضح لنا حال الکسور المُشاعة فی الاُمور المتّحدة، فإنّ الدار والبستان وغیرهما یمکن فرض انقسامها إلی النصف أو الثلث أو الربع، لأنّه مع قابلیّة تحمّل المحلّ لهذه الکسور، یکون المقبول الربع والثلث والنصف. وبدلیل أنّ کلّ مقبول موجودٌ بوجود القابل، فإنّ جمیع الکسور المشاعة تکون موجودة، ولکن بوجود المقبول مع وجود القابل، بمثل ما قلناه فی وجود العلقة بشرط وجود النطفة، وبهذا الاسلوب یمکن دفع ما أُثیر من الإشکال حول الکسور المشاعة، فبعدما ثبت برهانا وجود الانقسامات بالقوّة فی الأشیاء الخارجیّة، وأنّ وجود القوّة تکون فی مرتبة الوجود، وأنّ وحدتها وتعدّدها تابعة لوحدة القابل وتعدّده، یتبیّن الحال فی الکسر المشاع، فهو موجودٌ جزئیّ لا کلّی لکن وجودا بالقوّة وقائما بالفعل، کما هو الحال فی النسبة القائمة بین النطفة والعلقة.

وما قیل: - کما قاله بعض الأعاظم(1)- من بطلان قیاس الکسر المشاع بالأمر الانتزاعی، لأنّ الأخیر یعدّ حقیقة موجودة بالفعل لکن بوجود منشأ انتزاعه، فالفوقیّة موجودة بالفعل بوجود السقف الموجود بوجود حقیقی خارجی، وهذا بخلاف الکسر المشاع الذی لا یمکن فرض وجوده الخارجی بالفعل.

فمدفوعُ: لأنّ المحقّق الأصفهانی لم یجعلهما فی رتبة واحدة، ولم یعتبر الکسر المشاع من الاُمور الانتزاعیّة حقیقةً، وإنّما نزّله منزلة الاُمور الانتزاعیّة فی المنشأ، ویشهد له صریح کلامه حیث یقول: «وجودها علی حدّ الاُمور الانتزاعیّة التی نحو وجودها وجود مناشئ انتزاعها»(2).(3)

ص:384


1- 1 . الظاهر أنّه السیّد الخمینی فی کتاب البیع 2/562.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/342.
3- 2 . العقد النضید 4/(138-140).
نقد منظور المحقّق الإصفهانی

«لکن یرد علی المحقّق الأصفهانی: أنّ لازم فرض کسر المُشاع قوّةً مرتبط وجودها بوجود مَنْشَئِها، وعدم وجوده الفعلی.

وبعبارة اُخری: ما یفرض کونه موجودا بالقوّة یکون معدوما بالفعل بالضرورة، فالنطفة موجودة بالفعل وفیها القوّة لأن تصبح علقة، لکن العلقة معدومة بالفعل بالضرورة برغم وجود النطفة، والوجود یسند إلی القوّة لا إلی ذاتها، ولولاه للزم امتلاک مُلاّک المال المشترک للشیء المعدوم، لما ثبت من انعدام الکسر المشاع فعلاً، ممّا یقتضی امتلاکهم لما هو معدومٌ بالفعل. نعم، لا مانع من ملکیّة المعدوم عقلاً - کبیع ثمرة الشجرة فی هذه السنة والتی تلیها وکذلک فی بیع السَّلف - کما لا مانع عقلاً من أن یکون المعدوم مالکا بالفعل کما فی الوقف علی البطون اللاّحقة، حیث أنّ المملوک موجود برغم انعدام المالک.

فإذن لو فرضنا الکسر المشاع فی مرتبة القوّة دون الفعل، لزم منه عدم وجوده الفعلی، وترتّب علیه ما لا یمکن الالتزام به، وهو عدم ملکیّة المُلاّک للنسب المشاعة المملوکة لهم، ومن المعلوم أنّ العین الموجودة لا مالک لها سوی هؤلاء الشرکاء المشترکین فیها بحسب نسبهم المملوکة، فإذا اعتبرناهم مالکین للکسر المشاع المعدوم فعلاً والموجودة، فإنّ ذلک یعنی عدم ملکیّتهم لأجزاء هذه العین، ویلزم منه أنّ ما هو موجودٌ بالفعل لا مالک له، وما هو بالقوّة له المالک، وهو باطلٌ بالضرورة»(1). هذا أوّلاً.

وثانیا: «أنّ ما ذکره فی الوجه الأوّل من الاستناد إلی أصالة الصحّة، وحمل التصرّف علی الصحیح، ومن ثمّ الحکم بأنّ متعلّق البیع هو ا لنصف المختصّ ممنوعٌ، لما ثبت من أنّ مستند أصالة الصحّة غیر المردوعة هی السیرة العقلائیّة - فضلاً عن الأخبار کقوله علیه السلام : «هو حین العمل أذکر منه حین یشکّ» - حیث یحکمون بالصحّة فی موارد

الشکّ فی صحّة العمل الصادر من العامل وفساده من جهة تضمّنه للشروط وفقده الموانع وعدمه، واستنادا إلی هذه الحالة فإنّ أصالة الصحّة تجری فی مقامین:

ص:385


1- 3 . العقد النضید 4/140 و 141.

أ: فیما یقوم به الفاعل من أعماله الشخصیّة: ویُسمّی الأصل فی هذا المقام بقاعدة الفراغ.

ب: فیما یقوم به الغیر من الأعمال ونشکّ فی صحّتها، فتجری فیها أصالة الصحّة وتدلّ علی صحّتها، والمتیقّن من جریانها عند تردّد العمل بین الصحیح والباطل، وأمّا إذا کان العمل مردّدا بین الصحیح الفعلی والصحیح الشأنی فإنّه لم تثبت سیرة عقلائیّة علی لزوم حمل العمل علی الصحیح الفعلی، وما نحن فیه یعدّ من مصادیق الأخیرة، لأنّ قیامه ببیع نصف الدار إذا عدَّ بیعا مشاعا وتصرّفا فی مال الغیر، فإنّه یندرج فی العقد الفضولی، وقد التزم المحقّق الأصفهانی بعدم بطلان العقد الفضولی ولغویّة إنشاءه، وإنّما یمکن تصحیحه من خلال الإجازة اللاّحقة، ممّا یعنی صحّته الشأنیّة، فإذن العقد الصادر مردّد بین الصحیح الفعلی والشأنی، وأصالة الصحّة تجری فی خصوص الفعل المردّد بین الصحّة والفساد، دون الصحّة الفعلیّة والشأنیّة.

وثالثا: أنّ ما ذکره فی الوجه الثانی من غلبة التصرّفات الصادرة وقوعها فی الحصص المملوکة، ممنوعٌ، لأنّ الغلبة عاجزة عن إثبات الظهور لفظا أو مقاما، کما لا مجال للتمسّک بما یقال: إنّ الشیء یلحق بالأعمّ الأغلب، لأنّ غایة ما یثبته هذه المقولة هی الظنّ الذی لا یُغنی من الحقّ شیئا، فإذن لا یمکننا أن نتمسّک بالغلبة الظنّیة فی الألفاظ أو الأعمال وجعلها مناطا لإثبات الظهور فیهما»(1).

مختار الاستاذ المحقّق - مدظله - فی المسألة

قال: «أوّلاً: ثبت من خلال ما ذکرناه وما أجبنا به عن الأقوال الستّة المذکورة حول الکسر المشاع، أنّ جمیع الأموال تتضمّن کسورا مشاعةً. وأنّها لا تعدّ اُمورا اعتباریّة، بل هی اُمور واقعیّة عرفیّة لا عقلیّة، ویکفی للدلالة علی صحّة هذه النظریة مراجعة سریعة لما ورد فی کتاب الإرث من الآیات والروایات، وکذلک فی کتابی الزکاة والخمس، فإنّ

ص:386


1- 1 . العقد النضید 4/145 و 146.

جمیعها شاهدٌ علی صحّة ما ذکرناه، فقوله تعالی: «وَلاِءَبَوَیْهِ لِکُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ»(1) یفید أنّه بمجرّد الموت تنقسم ترکة المیّت التی کانت واحدة موحّدة إلی کسورٍ مشاعة من

النصف والربع والثلث، وکذلک السدس للأبوین، ومن المعلوم أنّ هذه الکسور لا یمکن اعتبارها اُمورا وهمیّة فرضیّة، بل حقائق خارجیّة واقعیّة؛ لأنّ الوارث یرث مالاً حقیقیّا لا متخیّلاً فرضیّا، فالأب حین موت ولده یعدّ مالکا لسدس أمواله، یملکه ملکیّة حقیقیّة وواقعیّة لا فرضیّة وهمیّة، وکذلک الحال فی الزکاة وبالخصوص فی زکاة الغلاّة من العُشر ونصفه، وأیضا فی الخمس وما ورد من شرکة الفقراء فی أموال الأغنیاء بمقدار ما یستحقّونه منها:فإنّ هذه وغیرها دالّة علی أنّ الکسر المشاع حقیقةً عرفیّة، ولها واقع خارجی ملموس، لا یمکن نکرانها أو فرضها أمرا متخیّلاً موهوما أو اعتباریّا علی أقلّ تقدیر کما ظنّه البعض.

ثانیا: أنّ هناک قاعدة عقلائیّة جاریة وساریة عندهم، وهی أنّه إذا صدر إنشاء معاملی ممّن یملک مالاً یمکن أن یتعلّق الإنشاء بذاک المال وبغیره فإنّ العقلاء یسندون الإنشاء إلی ما یمکن إضافته إلیه وهو أمواله المملوکة، فإذا(2) أقدم البائع علی بیع کلّی وباع سلفا طنّا من الحنطة فی الذمّة، فبالرغم من أنّ متعلّق البیع فیه القابلیّة للإضافة إلی ذمّة البائع وذمّة غیر البائع، إلاّ أنّ السیرة قائمة علی إسناد بیعه إلی ذمّته دون ذمّة غیره، لحاجة إسناده إلی الغیر لمؤونة زائدة، فإسناد المعاملة إلیه مبنیّ علی هذه السیرة العقلائیّة الثابتة دون أصالة الصحّة أو الغلبة کما ادّعاهما المحقّق الأصفهانی، واللّه العالم»(3).

ص: 387


1- 2 . سورة النساء /11.
2- 1 . کذا فی المصدر ولکن الأحسن: «فإن».
3- 2 . العقد النضید 4/146 و 147.

ثمّ هاهنا فروع لابدّ من الإشارة إلیها:

الفرع الأوّل:
اشارة

لو کان البائع وکیلاً أو ولیّا عن مالک النصف الآخر إذا باع مالک نصف الدار نصفَها مع کونه وکیلاً أو ولیّا عن مالک النصف الآخر فی بیع حصته فحینئذ هل المبیع یحمل علی النصف البائع المختص به أو النصف المشاع بینه وبین موکله أو المولّی علیه؟ یأتی وجهان ماضیان من ظهور التصرف فی مال نفسه یقتضی أنّ المبیع ماله المختص به، وظهور کلمة النصف فی الإشاعة یَقْتَضِی أنّ المبیع هو المالُ المُشاعُ بین الوکیل والموکل أو الولی والمُوَلّی علیه.

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّه لو کان البائع وکیلاً فی بیع النصف أو ولیّا عن مالکه، فهل هو کالأجنبی؟ وجهان، مبنیّان علی أنّ المعارض لظهور النصف فی المشاع هو انصراف لفظ «المبیع» إلی مال البائع فی مقام التصرّف، أو ظهور التملیک فی الأصالة. الأقوی هو الأوّل؛ لأنّ ظهور التملیک فی الأصالة من باب الإطلاق، وظهور النصف فی المشاع وإن کان کذلک أیضا، إلاّ أنّ ظهور المقیِّد وارد علی ظهور المُطلَق»(1).

مراده قدس سره : إنّ المعارض لظهور کلمة النصف فی المُشاع إن کان هو ظهور التصرف فی التصرف فیما یجوز له التصرف فیه فلا معارضة فی المقام، لأنّ المفروض أنّ البائع جائز التصرف فی کلِّ واحد من النصفین فلابدّ من حمل النصف علی الإشاعة من دون معارض.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المعارض لظهور کلمة النصف فی المُشاع إنّما هو ظهور الإنشاء فی البیع لنفسه - لا لغیره - فالمعارضة موجودة فی مسألتنا.

ثمّ یری الشیخ الأعظم تقدیم ظهور کلمة النصف فی الإشاعة علی ظهور الانشاء فی البیع لنفسه، والوجه فی ذلک:

أنّ ظهور النصف فی الإشاعة ظهور القید وهو النصف لأنّه مفعول «بعتُ» والمفعول من قیود الفعل. وظهور القید وإن کان بالإطلاق کظهور الإنشاء بالأصالة، لکنّه مقدَّم علی

ص:388


1- 1 . المکاسب 3/522.

اطلاق المطلق وهو البیع لأنّه من تقدیم ظهور القید - وهو النصف - علی ظهور المطلق وهو ظهور الانشاء بالإصالة والبیع والتملیک لنفسه.

وبالجملة: قد ثبت فی علم الاصول بأنّ ظهور القید مقدّم علی ظهور المطلق

ووارد علیه وبالتالی یسقط ظهور الانشاء فی الأصالة ویبقی ظهور النصف فی المُشاعِ بِلا معارض.

تقریر شیخنا الاستاذ عن مقالة الشیخ الأعظم
اشارة

قال قدس سره : «ثمّ إذا کان البائع المزبور وکیلاً عن شریکه أو ولیّا علیه فهل یکون الحکم کما فی صورة کونه أجنبیا أم لا؟ الصحیح أن یقال: إذا کان المعارض لظهور النصف فی الإشاعة بین الحصتین فی الصورة السابقة هو ظهور النصف بقرینة مقام التصرف فی النصف المختص للبائع - کما هو الأظهر - فلا معارضة فی صورتی الوکالة والولایة، بل یؤخذ بظهور النصف فی الإشاعة بین الحصتین؛ لأنّ الموجب لظهور النصف فی خصوص حصة البائع عدم نفوذ تصرفه فی غیر تلک الحصة، ومع الوکالة أو الولایة یکون تصرفه نافذا فی حصته وحصة شریکه علی السواء.

وعلی ذلک فمع عدم تعیین إحدی الحصتین بخصوصها - کما هو المفروض - یحمل المبیع علی الإشاعة بینهما.

وأما ظهور البیع فی کونه بالأصالة، فهذا لایعارض ظهور النصف فی الإشاعة بین الحصتین، بل ظهور النصف یکون حاکما علی ظهور البیع فی الأصالة، فإن ظهور البیع فی الأصالة من قبیل الظهور الإطلاقی للفعل وبمقدمات الحکمة؛ ولذا لو قیّد البیع بکونه عن الغیر أو للغیر فلا یکون له ظهور فی الأَصالة. وظهور النصف فی الإشاعة بین الحُصَّتَیْنِ أیضا ظهور إطلاقی ولا یکون له ظهور فی الإشاعة فیما إذا قیّد ذلک النصف بسهمه أو سهم شریکه، إلاّ أنّ الظهور المتعلَّق ولو کان إطلاقیا یکون حاکما علی ظهور الفعل، حیث إن المتعلَّق بالإضافة إلی الفعل من قبیل المقیّد بالإضافة إلی المطلق.

وبهذا یظهر أنه لو لم یکن فی الصورة الأُولی ظهور النصف وانصرافه إلی حصة البائع بقرینة مقام التصرف لکان ظهور البیع فی الأصالة محکوما بظهور النصف فی

ص:389

الإشاعة بین الحصتین.

والحاصل: أنّ مع عدم وکالة البائع أو ولایته لایحمل النصف علی إشاعَةِ الحصتین، بل یکون إنشاء البیع مجملاً بالإضافة إلی بعض المبیع، بخلاف صورتی الوکالة والولایة فإنّه یحمل فیهما النصف علی الإشاعة، وإلیه یشیر قوله رحمه الله : «فالأقوی فیهما الاشتراک»(1)»(2).

أقول: إنّما نقلتُ تقریره احتراما له قدس سره وأداءً لبعض حقوقه رحمه الله .

اعتراض المحقّق الخراسانی علی الشیخ الأعظم
اشارة

ذهب المحقّق الخراسانی إلی أنّ البائع فی هذا الفرض باع ماله المختص به دون المُشاع بینه وبین وکیله أو المولّی علیه علی خلاف مختار الشیخ الأعظم وقال: «فإن کان المعارض، هو الأوّل، ففیه الاحتمالان، کالاجنبیّ، وان هو الثانی، فلا یکون إلاّ احتمال واحد، لعدم صلاحیّته للمعارضة، وذلک لتبعیّة ظهور الفعل، لظهور ما یتقیّد به من متعلّقاته، ولکنّه علی خلاف ما أفاده، فی بیان معنی «لا تنقض» فی باب الاستصحاب، کما أشرنا إلیه، من تبعیّة المتعلّق فی الظّهور، وفی العموم والخصوص، لظهور الفعل المتعلَّق به، والصواب اختلافهما فی التّبعیة، بحسب اختلاف المقامات، فلابدّ فی کلّ مقام من ملاحظة الخصوصیّات، والحکم بها لأحدهما، مع التّرجیح، والجزم بظهور الجملة بحسب متفاهم العرف فیه، والتوقف مع عدمه والبناء علی إجماله»(3).

توضیح مراده: إنّ ما تحقّق من خلال الإنشاء هو فعل البیع ومتعلَّقه نصف الدار وحکم الشیخ الأعظم بتقدیم ظهور کلمة النصف فی الإشاعة والوجه فی ذلک من تقدیم ظهور المتعلَّق علی ظهور الفعل، وهذا الاختیار هنا مخالف لما اختاره الشیخ الأعظم من تقدیم ظهور الفعل علی ظهور المتعلَّق فی باب الاستصحاب وعند الشکّ فی المقتضی، باعتبار أنّه التزم أنّ قوله علیه السلام : «لا تنقض الیقین بالشکّ» یتضمّن فعلاً وهو النقض، ومتعلَّقا

ص:390


1- 1 . المکاسب 3/523.
2- 2 . إرشاد الطالب 4/(156-158).
3- 1 . حاشیة المکاسب /87.

وهما الیقین والشکّ، والمتعلَّقان مطلقان یشملان الشکّ فی المقتضی والشکّ فی الرافع، أمّا الفعلُ - وهو لا تنقض - بنفسه فَیُوْجِبُ اختصاص الاستصحاب بالشکّ فی الرافع، بمعنی أنَّ «لا تنقض» یجری فیما لو کان المقتضی موجودا بالفعل ونشکّ فی قیام الرافع، لعدم صحّة إطلاق النقض إلاّ عند إرادة نقض الشیء الثابت المبرم، ولهذه العلّة یجب أن نقیّد إطلاق الشکّ فی المتعلَّق وحصره بخصوص الشکّ فی الرافع دون المقتضی، وهذه النتیجة تعنی تقدیم ظهور الفعل علی ظهور المتعلَّق، وهو ما خالفه الشیخ الأعظم رحمه الله فی المقام، فقدّم ظهور المتعلَّق علی الفعل مخالفا بذلک مَبْناهُ.(1)

نقد اعتراض المحقّق الخراسانی

ویمکن أن یناقش علیه: «برغم قوّة هذا الإشکال لکنّه ممنوعٌ، لأنّ المعارضة الحاصلة فی المقام إنّما هی بین الإطلاقین، وهما إطلاق الإنشاء وإطلاق الإشاعة، ولذلک قام بتقدیم إطلاق المتعلَّق علی الفعل بحسب القواعد، وأمّا فی باب الاستصحاب فإنّ ظهور فعل «لا تنقض» ظهورٌ وضعی ولیس بإطلاقی، ویقابله ظهور المتعلَّق الإطلاقی، والقاعدة أیضا تقتضی فی هذه الصورة تقدیم الظهور الوضعی علی الظهور الإطلاقی أعنی إطلاق الفعل علی إطلاق المتعلَّق، فالبابان مختلفان وحکم المحقّق الخراسانی بوحدتهما فعلاً ومتعلّقا ممنوعٌ»(2).

هذا النقد یجری بناءً علی تقدیم ظهور الوضعی علی الظهور الاطلاقی کما علیه المشهور، إمّا بناءً علی تَکافُئِهِما فلا یتم النقد ویصیر إشکال المحقّق الخراسانی تاما.

اعتراض الشیخ الأعظم علی نفسه المستفاد من کلام الشهید الثانی
اشارة

(3)

حاصله: لا یمکن القول بتقدیم ظهور کلمة «النصف» فی المشاع تحکیما لظهور المقیّد علی المطلق لوجود المانع فی المقام وهو ظهور حال المتکلِّم فی إرادة ما یُتَلَفَّظُ به وهو بیع المختص به، وظاهر حال المتکلِّم عدم إرادة بیع نصف حصة شریکه، لأنّ الشهید

ص:391


1- 2 . راجع العقد النضید 4/149.
2- 1 . راجع العقد النضید 4/149.
3- 2 . راجع المکاسب 3/522 قوله قدس سره : «وما ذکره الشهید الثانی من عدم قصد الفضولی...».

الثانی ذاهبٌ إلی أنّ الفضولی قاصد إلی اللفظ الصادر منه فقط «ولایتحقق منه قصد مدلوله - أعنی نقل الملک والتسلیط علی التصرف وغیرهما من أحکام العقد - لأنّ ذلک من وظائف المالک...»(1).

فعلی ما ذهب إلیه الشهید الثانی ینعقد ظهوران متکافئان: الأوّل: ظهور حال المنشِئ فی الانشاء لنفسه وإرادة بیع نصفه المختص به، والآخر ظهور کلمة النصف فی الإشاعة.

ولکن الأخیر یتوقف علی الفضولیة - وهی متوقفه علی عدم قصد المدلول - علی مذهب ثانی الشهیدین ولکن الأوّل لا یتوقف علی شیءٍ فیتعیّن الأخذ بالظهور الأوّل وإرادة البیع لنفسه.

إجابة الشیخ الأعظم عن الاعتراض:

قال: «... إلاّ أنّه مختصّ بالفضولی، لأنّ القصد الحقیقی موجود فی الوکیل والولی فالأقوی فیهما الاشتراک فی البیع تحکیما

لظاهر النصف...»(2).

أقول: ظاهر الشیخ الأعظم تسلیمه للاعتراض ولکنّه یری اختصاصه بالفرض السابق - أی الأجنبی الفضولی - لا هذا الفرض - أی الوکالة والولایة - ولکن قد مرّ منّا فی بحث بیع المکرَه(3) عدم تمامیة هذه المقالة المنسوبة إلی الشهیدین(4) وقلنا بأنّ المکرَه یقصد اللفظ والمعنی لأنّه یستعمل اللفظ فی معناه حتّی أنّه قصد الانشاء والأثر المترتب علی العقد إلاّ أنّ قصده یکون عن کُرْهٍ ومن دون اختیار فلیس له طیب النفس والرضا المعتبر فی العقود فلا یقع ولایتم، فراجع ما حررناه هناک.

ص:392


1- 3 . المسالک 3/156.
2- 1 . المکاسب 3/523.
3- 2 . رجع الآراء الفقهیة 5/(116-112).
4- 3 . الدروس الشرعیة 3/192.
عدول الشیخ الأعظم رحمه الله عن مقالته فی هذا الفرع الأوّل

قال: «إلاّ أن یمنع ظهور «النصف» إلاّ فی النصف المشاع فی المجموع»(1).

مراده: إنّ کلمة «النصف» کلّیٌّ له مصادیق ثلاثة:

تارة یراد به المُشاع فی مجموع الدار وهو قابل الانطباق علی:

1- حصة البائع خاصة.

2- وحصة شریکه خاصة.

3- وأُخری: یراد به المرکب من الحصتین بمعنی أنّ المبیع ربع من حصة المالک وربع من حصة شریکه.

والاحتمال الثالث هو مَبْنی مقالة الشیخ الأعظم رحمه الله فی ما تقدّم.

ولکن الآن یقول: بمنع ظهور کلمة «النصف» فی الاحتمال الثالث، بل الظاهر أنّ المراد بالنصف هو النصف المشاع فی المجموع القابل للانطباق علی واحدة من حصتی المالک أو شریکه بتمامهما.

ثمّ قال: «وأمّا ملاحظة حقّی المالکین وإرادة الإشاعة فی الکلِّ من حیث أنّه مجموعهما فغیر معلومة بل معلوم العدم بالفرض»(2).

هذه الجملة اعتراض من الشیخ الأعظم علی نفسه وجوابه کأنّه یقول بتوضیح منّا:

إن قلت: إنّ کلمة «النصف» وإن کانت کذلک إلاّ أنّه یترجح إرادة الاحتمال الثالث من جهة أنّ البائع لا حظ حقّ المالکین فقصد بیع النصف المُشاعِ من الحُصَّتَیْنِ لا بیع تمام حصته ولا بیع تمام حصة شریکه. فلا یتم فی ظهورها فی النصف المشاع فی المجموع أی الحصتان الخاصتان.

قلت: هذا الترجیح وَإنْ کان ممکنا فی نفسه ولکنّه خلاف فرض فرعنا لأنّ محلّ

ص:393


1- 4 . المکاسب 3/523.
2- 5 . المکاسب 3/523.

الکلام هو ما لو باع «النصف» قاصدا لمفهوم کلمة «النصف» من دون إحراز قصده لحصته أو حصة شریکه أو المرکب من الحصتین، فالحکم بکون المراد من کلمة «النصف» هو الاحتمال الآخیر فقط قضاءً لحقّ المالکین یتوقّف علی مؤونة زائدة فی مقامی الثبوت والإثبات:

وأمّا مَقامُ الثبوت: فلتوقفه علی ملاحظة «النصف» المضاف إلی حصتی البائع وشریکه لیکون المبیع ربع الدار من حصة البائع وربعها من حصة شریکه.

وأمّا مَقامُ الاثبات: «فلتوقفه علی أن یکون إطلاق کلمة «النصف» مقتضیا لاضافته إلیهما معا لیقع البیع لهما وهذا الاقتضاء ممنوع، لأنّ مفاد الإطلاق عدم إضافة النصف إلی کلٍّ منهما بالخصوص وهذا لایستلزم إضافته إلیهما معا، فعدم التقیید بما یدلّ علی أحدهما لا یکون دالاً علی التقیید بهما»(1).

ومن المعلوم أنّ الشیخ الأعظم فی کلامه یستبین فقدان مقتضی الثبوتی فقط ومعه لا حاجة إلی بیان فقدان مقتضی الإثباتی ولکن قد بیّنتُ لک کِلَی الْمَقامَیْنِ.

ثمّ: تمّم الشیخ الأعظم کلامه بهذا المقال: «ومن المعلوم: أنّ النصف المشاع بالمعنی المذکور یصدق علی نصفه المختصّ، فقد ملّک کلیّا یملک مصداقه، فهو کما لو باع کلّیا سلفا، مع کونه مأذونا فی بیع ذلک من غیره أیضا، لکنّه لم یقصد إلاّ مدلول اللفظ من غیر ملاحظة وقوعه عنه أو عن غیره، فإنّ الظاهر وقوعه لنفسه؛ لأنّه عقد علی ما یملکه، فصرفه إلی الغیر من دون صارف لا وجه له»(2).

أقول: إذا رجع الشیخ الأعظم رحمه الله عن مقالته فحکم الفرع عندی واضح وهو رجوع

المبیع إلی النصف المختص ببائعه، والحمد للّه.

الفرع الثانی:

هبة المرأة نصف صداقها مُشاعا قبل الطلاق

الغرض من ذکر هذا الفرع هو بیان نظیر للفرع الأوّل وهو حمل کلمة «النصف»

ص:394


1- 1 . هدی الطالب 6/23.
2- 2 . المکاسب 3/523.

علی النصف المشاع المختص للزوجة دون المشاع بین الحصتین، وهو تَأْیِیْدٌ لوجه رجوع الشیخ الأعظم عن مقالته.

قال المحقّق فی المسألة العاشرة من مسائل أحکام المَهْر: «لو وَهَبَتْهُ نصفَ مهرها مُشاعا ثمّ طلَّقها قبلَ الدخولِ فله الباقی ولم یرجع علیها بشیءٍ، سواءٌ کان المهر دینا أو عینا صرفا للهبة إلی حقّها منه»(1).

بعبارة أُخری: لو أصدق الزوج زوجته عینا أو دینا، فَوَهَبَتْ الزوجة نصفها المشاع لشخص ثمّ طلّقها الزوج قبل الدخول، استحق الزوجُ بالطلاق النصف الباقی، لا نصفه [أی نصف النصف] وقیمة النصف الموهوب، فالنصف فی الفرض یُحمل علی النصف المختص بها المشاع بین حصتها وبین ما یکون لزوجها بعد الطلاق.(2)

وتبعه جماعة من أعلام الطائفة وبعضهم یذکر فی المقام احتمالاً آخَرَ أو احتمالین ومن المعلوم تنظیر الشیخ الأعظم إنّما یتم فی الاحتمال الأوّل دون الثانی والأخیر. والآن أذکر کلماتهم حتّی یتبیّن لک الأمر:

ویستأنس من کلام العلاّمة فی الإرشاد حیث قال: «ولو طُلّق بعد البیع أو الرهن أو التدبیر أو التلف وإن لم یکن مِنْ قِبَلها - رجع بنصف مثله فی المثلی وبنصف القیمة فی غیره... ولو تلف البعض فله نصف الباقی ونصف بدل التالف...»(3).

أقول: الاستیناس یظهر من اطلاق قوله قدس سره : «رجع بنصف مثله فی المثلی وبنصف القیمة فی غیره» وهو یشمل الاحتمال الأوّل المؤیِّد للشیخ الأعظم.

ولکن فی القواعد ذکره بعنوان أحد احتمالی المسألة وقال: «لو وهبته النصف ثمّ طلّقها احتمل رجوعه بالنصف الباقی وبنصفه وقیمة الربع»(4).

وتبعه ابن أُخته وتلمیذه السیّد عمیدالدین فی ذکر الاحتمال الثانی فی

ص:395


1- 1 . الشرائع 2/274.
2- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/515.
3- 3 . إرشاد الأذهان 2/17.
4- 4 . القواعد 3/86.

کنزالفوائد(1).

قد یقال(2): باستفادة الاحتمال الثانی من کلام الشیخ الطوسی فی المبسوط لأنّه قال: «إذا أصدقها صداقا ثمَّ وهبته منه، ثمّ طلّقها قبل الدخول، فانّه یرجع علیها بنصفه، ثمّ لا یخلو من أحد أمرین إمّا أن یکون عینا أو دینا. فإنْ کان عینا کالعبد والثوب فوهبته له، ثمّ طلّقها قبل القبض فهل یرجع علیها بنصف الصّداق أم لا؟ قیل: فیه قولان: أحدهما لا یرجع بشی ء، والثانی یرجع علیها بالنّصف، وهو الصّحیح عندنا، سواء وهبت له قبل القبض أو بعد أن أقبضه، الباب واحد وفیه خلاف.

وإن کان دینا نظرت فإن کان دفعه إلیها فقبضته ثمّ وهبته له مثل أن کانت دراهم فأقبضها ثمَّ وهبتها منه ثمَّ طلّقها فعلی القولین، لأنّها قد قبضت صداقها وتعیّن بالقبض فلا فصل بین أن یتعیّن بالعقد وبین أن یتعیّن بالقبض، وأمّا إن کان دینا فأبرأته منه ثمّ طلّقها قبل الدخول فهل یرجع علیها بنصفه أم لا؟ یبنی علی القولین: إذا کان عینا فوهبته.

فاذا قلنا لا یرجع علیها بشیء إذا کان عینا فوهبته فههنا مثله، وإذا قلنا یرجع علیها بالنّصف إذا کان عینا فوهبته له فهل یرجع هیهنا؟ فیه قولان: أحدهما یرجع لأنّه عاد إلیه بغیر الوجه الّذی یعود إلیه به حین الطّلاق کالعین سواء والثانی لایرجع بشیء هیهنا والأوّل أقوی»(3).

وقال ولده الفخر: «فیه احتمالان: (أ): إنّ له النصف الباقی لأنّه استحق نصف العین بالطلاق وقد وجده فیأخذه وتنحصر هبتها فی نصیبها ولأنّه کلّما ثبت استحقاق العین وانتقل منها إلی بدلها فی الأداء فالانتقال بالتراضی أو انتفاء العین أو وجود مانع والکلّ هنا منتف فثبت الرجوع فی النصف (ب): الرجوع إلی نصف النصف الموجود وبدل النصف الموهوب لاِءَنّ الهبة وردت علی مطلق النصف فیشیع فیه، وفیه نظر لأدائه إلی تبعیض حقّه وهو ضرر علیه فیلزم ثبوت احتمال آخر وهو تخیره بین أخذ النصف الموجود وبین

ص:396


1- 1 . کنز الفوائد 2/509.
2- 2 . والقائل المستظهر من کلام الشیخ الطوسی هو الفاضل الأصفهانی فی کشف اللثام 7/473.
3- 3 . المبسوط 4/308.

التشطیر المذکور والأصح عندی الأوّل ولا یحتمل تخیرها لاِءَنَّ الإتلاف منها مباشرة فیجب علیها، وهذا الفرع انّما هو فیما إذا کان الصداق عینا أمّا إذا کان فی الذمة بریءٌ من الکلِّ وجها واحدا ولهذا أورد المصنف فی الدین بلفظ الإبراء وفی العین بلفظ الهبة»(1).

أقول: أنت تری بأنّ فخرالمحقّقین هو أوّل من ردّ الاحتمال الثانی وتنظّر فیه وأبدع احتمالاً ثالثا فی المقام ونفی وجود الاِحْتِمال الرابع واختار الاحتمال الأوّل صراحة ویظهر من کلامه علو رتبته العلمیة رحمة اللّه علیه.

وقال الشهید: «ولو وَهَبَتْهُ نصف مهرها مشاعا قبل الدخول فله الباقی، ولو کان معینا فله نصف الباقی ونصف ما وهبته مثلاً أو قیمة»(2).

وقال ثانیه فی شرح هذه العبارة: «(السابعة: لو وهبته نصف مهرها مشاعا قبل الدخول فله الباقی) لأنّه بقدر حقّه فینحصر فیه ولأنّه لا ینتقل مستحق العین إلی بدلها إلاّ بالتراضی أو تعذر الرجوع لمانع أو تلف والکلُّ منتَفٍ.

ویحتمل الرجوع إلی نصف النصف الموجود بدل نصف الموهوب، لأنّ الهبة وردت علی مطلق النصف فیشیع فیکون حقّه فی الباقی والتالف فیرجع بنصفه وببدل الذاهب، ویکون هذا هو المانع وهو أحد الثلاثة المسوغة للانتقال إلی البدل.

وردَّ بأنّه یؤدی إلی الضرر بتبعیض حقّه فیلزم ثبوت احتمال آخر وهو تخییره بین أخذ النصف الموجود وبین التشطیر المذکور (ولو کان) الموهوب (معینا فله نصف الباقی ونصف ما وهبته مِثْلاً، أو قیمة)، لأنّ حقّه مشاع فی جمیع العین وقد ذهب نصفها معینا فیرجع إلی بدله، بخلاف الموهوب علی الإشاعة. ونبّه بقوله: وهبته علی أنّ المهر عین، فلو کان دینا وأبرأتْهُ من نصفه بری ء من الکلِّ وجها واحدا»(3).

أقول: الشهید الثانی فی هذه العبارة ینظر إلی کلام الفخر کاملاً وربّما ینقل عین عبارته کما هو الواضح.

ص:397


1- 4 . إیضاح الفوائد 3/233.
2- 1 . اللمعة الدمشقیة /197.
3- 2 . الروضة البهیة 5/367 و 368.

وقال فی المسالک: «وجه استحقاقه الباقی أنّه استحقّ النصف بالطلاق وقد وجده فیأخذه، وتنحصر هبتها فی نصیبها. ولأنّ اللّه تعالی جعل لها نصف ما فرض، وذلک یقتضی استحقاقه فی العین ما لم یجدها تالفة أو یمنع مانع منها، وهما منتفیان هنا، فلا وجه للانتقال إلی البدل.

وفی المسألة وجه بأنّ له نصف الباقی - وهو الربع - مع ربع بدل الجملة، لأنّ الهبة وردت علی مطلق النصف فیشیع، وینزّل هذا النصف منزلة التالف، فلم یبق من الذی

فرض سوی نصفه، فیأخذ نصفه کما هو مقتضی الشرکة وبدل الفائت کما لو فات الجمیع.

وفیه ما مرّ، فإن الانتقال إلی البدل مشروط بتعذّر العین، وهو منتفٍ.

ووجه ثالث بتخییره بین أخذ نصف بدل الجملة وترک الباقی، وبین أخذ نصف الباقی - وهو الربع - مع ربع بدل الجملة. لإفضاء الثانی إلی تبعّض حقّه، وهوضرر علیه فیجبر بتخییره. هذا إذا کان المهر عینا. أمّا لو کان دینا فلیس فیه إلاّ الوجه الذی ذکره المصنف.

واحترز بقوله: «مُشاعا» عمّا لو وهبته نصفا معیّنا،فإنّ له نصف الباقی ونصف بدل ما وهبته وجها واحدا، لأنّ حقّه بالطلاق مشاع فی جمیع العین، وقد ذهب منها جزء معیّن فینتقل إلی بدل ما یستحقّه منه، بخلاف ما لو کان مشاعا، فإنّ حقّه فی الأوّل مشاع وفی الثانی کذلک فلا ترجیح، ویتّجه استحقاقه حینئذٍ الجمیع کما ذکر»(1).

وقال المحقّق السبزواری: «ولو وهبت نصفها مشاعا ثمّ طلّقها قبل الدخول فالأقرب أنّ له الباقی ولم یرجع علیها بشیءٍ من البدل، وفی المسألة وجهان آخران:

أحدهما: أنّ له نصف الباقی وهو الربع مع ربع بدل الجملة.

وثانیهما: تخییره بین أخذ نصف بدل الجملة وترک الباقی وبین أخذ نصف الباقی وهو الربع مع ربع بدل الجملة.

ص:398


1- 1 . المسالک 8/255.

ولو کان المهر دینا فلیس فیه إلاّ الوجه الأوّل»(1).

أقول: اختار السبزواری الاحتمال الأوّل لأنّه وصفه ب- «الأقرب».

وقال الفاضل الإصفهانی: «(الثامن: لو وهبته النصف ثمّ طلّقها، احتمل رجوعه بالنصف الباقی) بعینه کما اختاره المحقّق.(2) وهو الوجه، لأنّه استحقّ النصف بالطلاق، وهو موجود، فلا جهة للعدول عنه إلی البدل فیأخذه وَتَنْصَرِفُ الهبة إلی نصیبها وهو النصف الآخر.

(و) احتمل رجوعه (بنصفه) أی نصف النصف الباقی بعینه (وقیمة الربع) بناءً علی شیوع نصفیهما فی تمام العین وشیوع النصف الموهوب أیضا، فتتعلّق الهبة بنصفی النصیبین، فالنصف الباقی بمنزلة ما تلف نصفه وبقی النصف.

ویظهر من المبسوط(3) احتمال الرجوع بنصف الباقی خاصّة، لأنّه لمّا تعلّقت الهبة بالنصف المُشاع فقد تعلّقت بنصفی النصیبین، فإنّما یملک من نصیبها النصف وهو الربع، واستعجل نصف نصیب نفسه، وإنّما بقی له النصف الآخر من نصیبه وهو الربع. ویحتمل التخییر بین بذل تمام النصف الباقی وعین نصفه مع بدل نصفه الآخر دَفْعا للضرر بتبعّض الصفقة»(4).

أقول: الفاضل الأصفهانی هو أوّل من استظهر من عبارة الشیخ فی المبسوط الاحتمال الثانی مع أنّه اختار الاحتمال الأوّل.

وقال سیّد الریاض: «ولو وهبته النصف مشاعا، ثمّ طلّقها قبل الدخول، فله الباقی؛ صرفا للهبة إلی حقّها منه، کما لو وهبته لغیره فإنّهما سواء، کما فی الصحیح المتقدّم»(5).

ص:399


1- 2 . الکفایة 2/231.
2- 3 . شرائع الإسلام 2/330.
3- 1 . المبسوط 4/310.
4- 2 . کشف اللثام 7/472 و 473.
5- 3 . وسائل الشیعة 21/301، ح1.

وفیه قول بالرجوع بنصفه وقیمة الربع(1)؛ بناءً علی شیوع نصفیهما فی تمام العین، وشیوع النصف الموهوب أیضا، فتتعلّق الهبة بنصفی النصیبین، فالنصف الباقی بمنزلة التالف نصفه، وبقی نصفه.

وعن المبسوط: احتمال الرجوع بنصف الباقی خاصّة(2)؛ لأنّه لمّا تعلّقت الهبة بالنصف المشاع فقد تعلّقت بنصفی النصیبین، فإنّما ملک من نصیبها النصف - وهو الربع - واستعجل نصف نصیب نفسه، وإنّما بقی له النصف الآخر من نصیبه، وهو الربع».(3)

وقال صاحب الجواهر: «(ولو وهبته نصف مهرها مُشاعا، ثمّ طلّقها قبل الدخول، فله الباقی ولم یرجع علیها بشیء سواء کان المهر دینا أو عینا) بناءً علی کفایة لفظ الهبة فی الإبراء (صرفا ل-) ما وقع منها من (الهبة إلی حقّها منه) بمعنی: أنّه بالطلاق قبل الدخول یتمحّض النصف الباقی للزوج؛ لأنّه مصداق «نِصْفُ ما فَرَضْتُمْ»(4)، فلا یرجع إلی المثل أو القیمة؛ لعدم تعذّره.

لکن فی القواعد(5) والمسالک(6): احتمال الرجوع بنصف الباقی بعینه وقیمة الآخر

من الموهوب؛ لشیوع نصفیهما فی تمام العین، وشیوع النصف الموهوب أیضا، فتعلّق الهبة بنصفی النصیبین، فالنصف الباقی بمنزلة ما تلف نصفه وبقی النصف.

بل قیل: «إنّه یظهر من المبسوط احتمال الرجوع بنصف الباقی خاصّة؛ لأنّه لمّا تعلّقت الهبة بالنصف المشاع فقد تعلّقت بنصفی النصیبین، فإنّما ملک من نصیبها النصف وهو الربع، واستعجل نصف نصیب نفسه، وإنّما بقی له النصف الآخر من نصیبه وهو

ص:400


1- 4 . حکاه فی التنقیح الرائع 3/239، والمسالک 8/255.
2- 5 . حکاه عنه فی کشف اللثام 7/473، وانظر المبسوط 4/308.
3- 6 . ریاض المسائل 12/54.
4- 7 . سورة البقرة /237.
5- 8 . قواعد الأحکام: النکاح، تنصیف المهر 3/86.
6- 9 . مسالک الأفهام: النکاح، أحکام المهور 8/255.

الربع»(1).

وربّما احتمل أیضا: التخییر بین بذل تمام النصف الباقی وعین نصفه مع بذل نصفه الآخر؛ دفعا لضرر تبعّض الصفقة.

إلاّ أنّ الجمیع کما تری: ضرورة عدم تأتّیها مع فرض بقاء النصف المشاع الذی هو مصداق «نِصْفُ ما فَرَضْتُمْ». نعم، لو کان النصف الموهوب معیّنا لا مُشاعا اتّجه ذلک، کما هو واضح.

وکذا لو خالعته علی النصف؛ فإنّه إن قیّدته بالنصف الذی یبقی لها بعد الطلاق فلا کلام، وإن أطلقت انصرف إلی ما تملکه بعد الطلاق.

وعلی کلّ حال، إذا تمّ الخلع ملک الزوج تمام المهر، بل ربّما فرّق بینه وبین الهبة: بأنّه بذل علی الطلاق المنصّف للمهر، فهو تملیک بعد الطلاق.

وللشافعیّة - کما قیل - وجه بالشیوع فی نصفی النصیبین، ولا ریب فی ضعفه، واللّه العالم»(2).

وقال الشیخ الأعظم: «ولعلّه لما ذکرنا ذکر جماعة - کالفاضلین(3) والشهیدین(4) وغیرهم(5)-: أنّه لو أصدق المرأة عینا، فوهبت نصفها المشاع قبل الطلاق، استحقّ الزوج بالطلاق النصف الباقی، لا نصف الباقی وقیمة نصف الموهوب وإن ذکروا ذلک احتمالاً(6)،

ص: 401


1- 1 . کشف اللثام: النکاح، تنصیف المهر 7/473.
2- 2 . الجواهر 32/(185-183)، (31/(103 و 104)).
3- 3 . الشرائع 2/274، المسألة العاشرة، والإرشاد الأذهان 2/17، نعم ذکره فی القواعد 3/86 علی أحد الاحتمالین.
4- 4 . اللمعة الدمشقیة /197، والروضة البهیة 5/367، والمسالک 8/255.
5- 5 . مثل فخرالمحقّقین فی الإیضاح 3/233، والمحقّق السبزواری فی الکفایة 2/231، والسیّد الطباطبائی فی الریاض 12/54.
6- 6 . ذکره العلاّمة فی القواعد 3/86، والشهید الثانی فی المسالک 8/255، والروضة البهیّة 5/368.

ولیس إلاّ من جهة صدق «النصف» علی الباقی، فیدخل فی قوله تعالی: «فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ»(1)وإن کان یمکن توجیه هذا الحکم منهم: بأنّه لمّا کان الربع الباقی للمرأة من الموجود مِثلاً للربع التالف من الزوج، ومساویا؛ له من جمیع الجهات، بل لا تغایر بینهما إلاّ بالاعتبار، فلا وجه لاعتبار القیمة، نظیر ما لو دفع المقترض نفس العین المقترضة مع کونها قیمیّة.

لکنّ الظاهر أنّهم لم یریدوا هذا الوجه، وإنّما علّلوا استحقاقه للنصف الباقی ببقاء مقدار حقّه، فلا یخلو عن منافاةٍ لهذا المقام»(2).

وقال السیّد الخوئی: «وأمّا الطلاق فهو نظیر ما نحن فیه، فإنّ الزوج بطلاقه قبل الدخول یملک نصف صداق المرأة بملکیّة جدیدة، کما فی البیع والشراء، غایته من دون رضا الزوجة، فإذا فرضنا أنّها قد أخرجت نصفه عن ملکها بمصالحة أو شراء ونحوه انتقل النصف الباقی إلی الزوج لا محالة»(3).

وقال السیّد المُرَوِّجُ: «لا یخفی أنّ الوجوه المحتملة ثبوتا فی النصف الذی یستحقه الزوج بالطلاق قبل الدخول ثلاثة:

أحدها: النصف الباقی بناءً علی الإشاعة فی العین لا فی الحصتین، فإنّ النصف المشاع فی العین ینطبق علی النصف الباقی. فهذا النصف نفس حقّه کما أفتی به الفقهاء، لا نصف حقّه، ونصفه الآخر - وهو ربع العین - بدل حقّه الفائت بالهبة کما هو مقتضی الإشاعة بین الحصتین.

ثانیها: النصف من الباقی والتالف، وهو الذی حکاه المصنف قدس سره إحتمالاً عن جماعة.

ثالثها: النصف بنحو الکلّی فی المعیّن، وهو یتعین بالمقدار الباقی، لا أنّه مقدار حقّه، بل هو نفس حقّه، بناءً علی الکلِّی فی المعیّن، وعلی الإشاعة فی العین، لا الإشاعة

ص:402


1- 1 . سورة البقرة /237.
2- 2 . المکاسب 3/523 و 524.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 2/516.

بین الحصتین. وقد تقدم آنفا أنّ الظاهر فی مقام الإثبات هو الإ

شاعة فی العین کما هو

ظاهر فتوی جماعة کالفاضلین والشهیدین وغیرهم قدس سرهم مع الغض عن تعلیلهم لها ببقاء مقدار حقّه، إذ مع النظر إلیه یحتمل کلّ من الإشاعة بین الحصتین والکلّی فی المعین.

إذ علی الأوّل [الإشاعة بین الحصتین] لمّا کان الربع التالف بالهبة مثل الربع الباقی فی جمیع الجهات ذهبوا إلی تعیُّن النصف الباقی، معلِّلین ذلک ببقاء مقدار حقّه، لا ببقاء نفس حقّه.

وعلی الثانی [الکلّی فی المعین] یتعیّن حقُّه بالمقدار الباقی قهرا، کما فی سائر موارد الکلّی فی المعیّن مع تلف ما عدا المقدار الذی اُنشِأ علیه العقد کصاع من الصبرة إذا تلفت الصیعان إلاّ واحدا. وهو المناسب للتعلیل ببقاء مقدار حقّه.

والفرق بینه وبین المُشاع بین الحصتین هو: أنّ النصف الباقی مُتَعَیِّنٌ فی حقیّته للزوج بناءً علی الکلّی فی المعیّن. بخلاف الإشاعة بَیْنَ الحصّتین، فإنّه لایتعیّن حقّ الزوج فی النصف الباقی بناءً علی هذا المبنی، إذ یجوز للزوجة دفع قیمة الربع التالف بالهبة، ولایتعیّن علیها دفع نفس الربع الباقی، وإن کان أقرب إلی التالف من جمیع الجهات.

وبالجملة: یدور حکمهم باستحقاق الزوج للنصف الباقی - مع تعلیله ببقاء مقدار حقّه - بین ابتنائه علی الإشاعة بین الحصتین والکلّی فی المُعَیَّن. وعلی التقدیرین یتحقق التنافی بین حکمهم فی بیع نصف الدار بکون المبیع حصة البائع، وبین حکمهم بکون حصة الزوج النصف الباقی، لکونه بمقدار حقّه».(1)

أقول: یظهر من مقال السیّد المروج أنّه بناءً علی الاحتمال الأوّل - أی الإشاعة فی العین - یَتِمُّ تنظیر الشیخ الأعظم رحمه الله وعلی الاحتمالین الآخیرین - أی الإشاعة فی الحصتین والکلی فی المعیّن - حیث إنّ الباقی یکون بمقدار حقّ الزوج لا عینه لم یتم تنظیر الشیخ الأعظم ویکون الفرع منافیّا لما ذکره کما أقرّ قدس سره به.

ص:403


1- 1 . هدی الطالب 6/30 و 31.

هذا تمام الکلام فی هذا الفرع والحمد للّه.

الفرع الثالث:

الإقرارُ بالنصف فی الشرکة

یذکر الشیخ الأعظم(1) هذا الفرع بجهة المنافاة مع مقالته الأخیرة من موافقته المشهور فی المسألة الأصلی - وهو لو باع مالک النصف نصف الدار - حیث ذهبوا إلی أنّ

المالک باع نصفه المختص به، ولکنهم حکموا فی هذا الفرع بأنّ المراد بصلح النصف هو النصف المُشاع وأمّا الفرع:

قال المحقّق: «ولو ادَّعی اثنان دارا فی ید ثالثٍ بسببٍ موجب لِلشَِّرْکَة(2) کالمیراث فصدَّق المدَّعی علیه أحدهما وصالحه علی ذلک النصف بعوضٍ فإن کان بإذن صاحبه صحَّ الصلحُ فی النصف أجمع وکان العوض بینهما، وإن کان بغیر إذنه صحّ فی حقّه وهو الربع وبطل فی حصة الشریک وهو الربع الآخر»(3).

وقال العلاّمة: «لو صالح المتشبِّث المصدِّق لأحد المُدَّعِیَیْنِ بسبب یوجب التشریک کالإرث علی شیءٍ شارکه الآخر إن کان بإذنه وإلاّ صحّ فی الربع ولا شرکة، ولو تغایر السبب صحّ الصلح فی حصّته أجمع ولا شرکة»(4).

وقال المتتبع العاملی فی شرح قول العلاّمة فی القواعد: «کما فی المبسوط(5) والشرائع(6) والتذکرة(7) والتحریر(8) والإرشاد(9) وشرحه لولده وجامع المقاصد(10)

ص:404


1- 2 . المکاسب 3/524 قوله قدس سره : «ونظیره فی ظهور المنافاة لما هنا...».
2- 1 . بکسر الشین وفتحها.
3- 2 . الشرائع 2/100.
4- 3 . القواعد 2/176.
5- 4 . المبسوط 2/293.
6- 5 . الشرائع 2/100.
7- 6 . تذکرة الفقهاء 16/96، مسألة 1092.
8- 7 . تحریر الأحکام الشرعیة 3/15.
9- 8 . إرشاد الاذهان 1/404.
10- 9 . جامع المقاصد 5/433.

والمسالک(1) ومجمع البرهان(2) والکفایة(3): وفی الأخیر أنّه المشهور. وکأنّه أشار بذلک إلی ما ستسمعه عن المسالک(4) وإلاّ فلا خلاف فی ذلک... وحاصل ما أراد المصنف [العلاّمة فی القواعد] والجماعة: أنّ المُدَّعَیِیْنِ اتّفقا علی کون سبب ملکهما مقتضیا لِلشَِّرْکة، فإقرار المتشبّث لأحدهما مقتضٍ لتشارکهما فیما أقرّ به وإن لم یصدّقهما علی السبب الّذی ادّعیا به، لأنّهما متّفقان علی أنّ البعض کالکلّ یستوی ملکهما فیه: فیمتنع استحقاق المقرّ له النصف دون الآخر، کما أنّ الفائت یکون ذاهبا علیهما. فاشتراکهما فی

المقرّ به ثبت من جهة اعترافهما بما یوجب الشرکة لا من جهة الإقرار، فلا یؤثّر فیه تخصیص المقرّ أحدهما بالملک.

وحینئذٍ فإذا صالح المقرّ له المتشبّث علی النصف المقرّ به، فإن کان الصلح بإذن شریکه أو إجازته بعده صحّ فی جمیعه بجمیع العوض، وإلاّ ففی ربع المقرّ له بنصف ما صولح علیه، ویبطل فی ربع شریکه»(5). هذا.

ولکن نقل الشیخ الأعظم(6) عن سیّد مشایخه - وهو السیّد محمّد المجاهد فی کتابه المناهل(7) - اختیار اختصاص النصف المصالح علیه بالمقرّ له وهو المصالح فیصیر هذا الفرع موافقا لما اختاره الشیخ الأعظم لا منافیّا له.

وللشهید الثانی تفصیل فی المقام وبعد توضیح مقال المشهور فی المسالک قال: «وفیه بحثٌ، لأنّ هذا لایتمّ إلاّ علی القول بتنزیل البیع والصلح علی الإشاعة کالإقرار، وهم لا یقولون به، بل یحملون إطلاقه علی ملک البائع والمصالح، حتّی لو باع ابتداءً مالک

ص:405


1- 10 . المسالک 4/271.
2- 11 . مجمع الفائدة والبرهان 9/347.
3- 12 . الکفایة 1/612.
4- 13 . المسالک 4/271 و 272.
5- 1 . مفتاح الکرامة 17/127 و 126.
6- 2 . المکاسب 3/525.
7- 3 . المناهل /358.

النصف نصف العین مطلقا إنصرف إلی نصیبه. ووجّهوه: بأنّ اللفظ من حیث هو وإن تساوت نسبته إلی النصفین إلاّ أنّه من خارج قد ترجَّح انصرافه إلی النصف المملوک للبائع، نظرا إلی أن إطلاق البیع إنّما یحمل علی المتعارف فی الاستعمال، وهو البیع الذی یترتّب علیه انتقال الملک بفعل المتعاقدین، ولایجری ذلک إلاّ فی المملوک، بخلاف الإقرار فإنّه إخبار عن ملک الغیر بشیءٍ، فیستوی فیه ما هو ملکه وملک غیره، وحینئذٍ فاللازم هنا أن ینصرف الصلح إلی نصیب المقرِّ له خاصّةً، فیصحّ فی جمیع الحصّة بجمیع العوض، وتبقی المنازعة بین الآخر والمتشبّث.

هذا إن وقع الصلح علی النصف مطلقا، أو النصف الذی هو ملک المقرِّ له، أمّا لو وقع علی النصف الذی أقرَّ به المتشبّث توجّه قول الجماعة، لأنّ الإقرار منزّل علی الإشاعة، والصلح وقع علی المقرِّ به، فیکون تابعا له فیها، وعلی هذا ینبغی حمل کلامهم، لئلاّ ینافی ما ذکروه من القاعدة التی ذکرناها.

وهذا توجیهٌ حسنٌ لم ینّبهوا علیه، وإنّما ذکر الشهید رحمه الله فی بعض تحقیقاته احتمال انصراف الصلح إلی حصّة المقرِّ له من غیر مشارکة الآخر مطلقا، وتبعه علیه الشیخ

علی(1) رحمه الله »(2).

ولذا قال الشیخ الأعظم عن هذا التفصیل ما نصه: «وفصّل فی المسالک بین ما لو وقع الصلح علی نصفه أو مطلق النصف، وبین ما إذا وقع علی النصف الذی أقرّ به ذو الید، فاختار مذهب المشهور فی الثالث؛ لأنّ الإقرار منزّل علی الإشاعة، وحکم بالاختصاص فی الأوّلین؛ لاختصاص النصف وضعا فی الأوّل وانصرافا فی الثانی إلی النصف المختصّ»(3).

واعترض المحقّق الأردبیلی علی الشهید الثانی فی تفصیله وقال: «وفیه بحث أمّا أوّلاً: فلأنّ قول الجماعة ذلک إنّما هو فی مالٍ مُشَخَّصٍ من غیر نزاع للبائع والمصالح،

ص:406


1- 1 . جامع المقاصد 5/434.
2- 2 . المسالک 4/271 و 272.
3- 3 . المکاسب 3/525.

وفیما نحن فیه لیس کذلک لوجود النزاع وعدم ثبوت نصفٍ خالصٍ له، بل إنّما ثبت له بحسب الشرع الربع، لأنّ الفرض أنّ جمیع ما ثبت له مشترک بینه وبین شریکه بحسب نفس الأمر، وحکم الشرع ظاهرا بإقرارهما، والظاهر أنّه لانزاع فی أن المقرّ به مشترک بینهما، ویفهم من کلامه أیضا فما صالح إلاّ علی ربعه وربع شریکه إذ لیس نصف المصالح علیه إلاّ ذلک، ولایمکن له مصالحة النصف المخصوص به لما مرّ، ولما سیجیء وهو ظاهر.

وأمّا ثانیا: فإنّه علی تقدیر تسلیم ذلک، هنا قرینة صریحة دالّة علی أنّه ما اصطلح إلاّ علی النصف الذی أقرّ له المتشبّث، وما قصد المتشبّث والمقرّ له إلاّ ذلک فینصرف إلیه وإن کان مطلقا أو مقیّدا بکونه الذی له (لأنّه الذی له - خ) بحسب الظاهر ورضی المقرّ له بالصلح علیه.

وأمّا ثالثا: فلأنّه لایحتاج هنا إلی بحث وتوجیه، فإنّ کلامهم ظاهر، بل صریح فی أنّ المصالح علیه إنّما هو النصف المقرّ به، إذ لم یصالح المقرّ إلاّ علیه وما ثبت بحسب ظاهر الشرع للشریک المصالح إلاّ ذلک.

أمّا لو صرّح بأنّه إنّما صالح علی نصفه الذی له فی نفس الأمر غیر المُشاع والمقر به، فإنْ کان المقرّ عالما ورضی به یلزمه الإقرار بثلاثة أرباع العین، الربع للشریک، والنصف للمصالح.

وهذا بعید، إذ هو منکر للنصف الآخر ویقول: أنْ لیس للآخر فیه شیء أصلاً، ولهذا ما توجّه الأصحاب إلی هذا الاحتمال وحکموا مطلقا بما مرّ فالحکم کما قالوه رحمهم الله ، سواء قال: صالحتک علی النصف المقرّ به، أو نصفی، أو أطلق، وینصرفان إلی الأوّل، لما مرّ إلاّ أن یصرّح، وحینئذٍ لم یقع الصلح لعدم رضا الطرف الآخر وهو المقرّ، فتأمل.

ومنه علم أنه لو قال: أنّی قصدت مالی من غیر إشاعة لا یسمع، فإنّ للمقرّ أن یقول: إنّی ما اشتریت إلاّ ما أقررت به، وهذا مسموع منه.

وعلم أیضا ان احتمال الشهید الذی تبعه فیه الشیخ علیّ لیس بجیّد، بل المشهور هو الظاهر.

ص:407

والعجب أنّ المتأخرین خصوصا الشیخَ علیّا(1) قلیلاً ما یخرجون عنه مع ضعف دلیله وقوّة دلیل خلافه ویخرجون فی مثل هذه المواضع، فکأنّ غرضهم مجرّد إبداء الاحتمال لا الفتوی به، وینبغی مراجعة کلامهم، وعلی تقدیر الفتوی فالظاهر أنّه فی المطلق أو «نصفی» لا الآخر»(2).

ولخّص الشیخ الأعظم اعتراضه بقوله: «بأنّ هذا لیس تفصیلاً بل مورد کلام المشهور هو الثالث لفرضهم المصالحة علی ذلک النصف المقرّ به»(3).

ثمّ قال فی ختام مقاله: «وعلی کلِّ حال، فلا إشکال فی أنّ لفظ «النصف» المقرّ به إذا وقع فی کلام المالک للنصف المشاع مجرّدا عن حالٍ أو مقالٍ یقتضی صرفه إلی نصفه، یحمل علی المشاع فی نصیبه ونصیب شریکه»(4).

أقول: أنت تری أنّ ثانی الشهیدین تبعا للشهید الأوّل والمحقّق الکرکی حلّ المُنافاة بین بابَیِ البیع والصلح وأقام القاعدة التی بُنِیَ علیها الحمل علی النصف البائع أو المصالح وذهب إلی أنّ الإشاعة سرت إلی هذا الفرع المذکور فی کلام الفقهاء لأجل وجود الإقرار، لأنّ الإقرار یحمل علی الإشاعة بظاهرها، فإذا الذی أقرّ به ذو الید المتشبت هو الذی صالح علیه فیأتی الإشاعة من باب الإقرار فیه، لا من جهة الصلح فلا تنافی بین البابین وهذا البیان تامٌّ والحمد للّه.

الفرع الرابع:
اشارة

حمل أقرار الشریکین علی أنّ ثلث العین لفلانٍ علی ثلث المشاع

قال الشیخ الأعظم: «لو أقرّ أحد الرجلین الشریکین الثابت ید کلٍّ منهما علی نصف العین، بأنّ ثلث العین لفلان، حمل علی الثلث المشاع فی النصیبین»(5).

هذا البیان یجری فی صورة تصدیق الشریک إقرارَ شریکِه فیقسم المال ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ

ص:408


1- 1 . ولکن فی المصدر: «علیّ».
2- 2 . مجمع الفائدة والبرهان 9/349 و 350.
3- 3 . المکاسب 3/525.
4- 4 . المکاسب 3/525.
5- 1 . المکاسب 3/525.

لکلِّ واحد منهم ثلثه.

وأمّا فی فرض تکذیب الشریک إقرار شریکه فلا یجری التثلیث فی نصف الشریک المنکر ولکن یجری فی حقّ المقرِّ فینتقل ثلث ماله إلی المقرّ له وهذا نصف الثلث - أی السدس - فیبقی نصف ثلث الآخر - أی السدس الآخر - وهذا الأخیر بقاعدة کتاب الشرکة فی أنّ ما حصل حصل للشریکین وما توی [أی تلف وهلک] توی علیهما، تلف علیهما فهما - أی المقرّ والمقرّ له - فیه شریکان فیتلف نصف السدس من مال المقرِّ ونصفه من مال المقرّ له، فیصیر مال المقرِّ بینه وبین المقرّ له بالتنصیف.

مثلاً إذا فرضنا أنّ العین لها اثْناعَشَرَ سهما فی فرض تصدیق الشریک یصیر العین بینهم أثلاثا ولکلِّ منهم أربعة أسهم.

وفی فرض تکذیبه ینتقل نصف الثلث - أی السدس - من المقرِّ إلی المقرّ له أی السهمان، وأمّا السدس الآخر فقد توی وتلف علیهما بالسویة فیذهب سهم منه من مال المقرّ له، وسهم منه من مال المقرّ ینتقل إلی المقرّ له فحینئذ لکلِّ من المقرِّ والمقرِّ له ثلاثة أسهم وللشریک المکذِّب ستة أسهم. فنصیب المقرِّ ینصف بینه وبین المقرّ له.

ثمّ تعرض الشیخ الأعظم(1) بدعوی تنظیر هذا الفرع بمسألة إقرار بعض الورثة بوارث آخر فیدفع إلی المقرّ له نصف الثلث - أی السدس - فقط لا أزید منه وهو الربع.

بتقریب: الإشاعة فی النصیبین تقتضی جعل سهم المقرّ له فی جمیع العین علی نحو الإشاعة وتنزیل المقرّ به علی ما فی ید کلّ منهما وحیث أنّ أحد الشریکین ینفی شرکته فلا یبقی له إلاّ نصف الثلث وهو السدس فی سهم المقرِّ ولا یحصل علی نصف الثلث الآخر - وهو السدس - فی مال المکذِّب لأنّ أقرار الشریک لا یسمع فی ما فی ید الغیر.

ثمّ دفعها(2) بأنّ المقرِّ أقرّ بثلث العین للغیر لا السدس الموجود فی یده والسدس

ص:409


1- 2 . المکاسب 3/526 قوله قدس سره : «ودعوی: ...».
2- 3 . المکاسب 3/526 قوله قدس سره : «مدفوعة: ...».

الموجود فی ید شریکه لورود الإشاعة فی مسألتنا وعدم وجود الإفراز والتمیّز فحینئذ بالنسبة إلی المقرّ والمقرّ له فی ما توی یجری قاعدة الشرکة بأنّ ما توی بینهما بالسویة فلابدّ أن یعطی المقرّ إلی المقر له نصف ما فی یده وهو ربع العین فتنظیر مسألتنا بإقرار بعض الورثة بوارث آخر غیر تام ومع الفارق.

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «... إلاّ أنّه لمّا لم یجبر المکذّب علی دفع شیء ممّا فی یده فقد تلف سدس مشاع یوزّع علی المقرّ والمقرّ له، فلا معنی لحسابه علی المقرّ له وحده، إلاّ علی احتمالٍ ضعیف، وهو تعلّق الغصب بالمشاع وصحّة تقسیم الغاصب مع الشریک، فیتمحّض ما یأخذه الغاصب للمغصوب منه وما یأخذه الشریک لنفسه، لکنّه احتمال مضعّف فی محلّه وإن قال به أو مال إلیه بعض - علی ما حکی - للحرج أو السیرة»(1).

ویأتی تضعیف آخر من الشیخ الأعظم للمیراث وعدم إعمال قاعدة الشرکة فیه فی الفرع الخامس فانتظر.

فتعرض الشیخ الأعظم لمسألتین أُخْرَیَیْنِ
اشارة

فتعرض الشیخ الأعظم لمسألتین أُخْرَیَیْنِ وبنی دفعها علیهما مع أنّه فی غنی عنهما. لأنّ قضیة التوارث غیر قضیة الشَِّرکة الإختیاری وبنیهما فرق واضح وبون بعید.

المسألة الأولی:

هل یعتبر فی غصب المال کونه مفروزا مقسوما أو یمکن غصب المال المشترک المشاع بین عدّة من المالکین؟

ذهب الأکثر(2) إلی إمکان غصب المال المشترک المشاع وقال فی الجواهر: «لا نجد فیه خلافا محقِّقا»(3).

قال الشیخ فی کتاب الشرکة من المبسوط: «غصب المشاع یصحّ کما یصحّ غصب المقسوم وذلک أن یأخذ عبدا بین شریکین ویمنع أحد الشریکین من استخدامه ولا یمنع الآخر فیکون قد غصب حصّة الّذی منعه منه، وکذلک إذا کان شریکان فی دار فدخل غاصب إلیها فأخرج أحدهما وقعد مع شریکه فیکون غاصبا لحصّة الشریک الّذی

ص:410


1- 1 . المکاسب 3/526.
2- 2 . کما قاله الشهید الثانی فی المسالک 12/152.
3- 3 . الجواهر 38/30 (37/23).

أخرجه.

فإذا ثبت هذا وحصل المال المشترک فی ید الغاصب وأحد الشریکین ثمّ إنّهما باعا

ذلک المال [و] مضی البیع فی نصیب الشریک البائع ولایمضی بیع الغاصب کما یقول فی تفریق الصفقة.

وکذلک إذا غصب أحد الشریکین من الآخر فباع الجمیع بطل فی نصیب شریکه ولا یبطل فی نصیبه»(1).

وقال فی غصبه: «... ولو انهجم(2) [الغاصب] علی دار غیره ولم یکن صاحبها فیها، کان غاصبا ضامنا، وإن کان صاحبها فیها ضمن نصفها، ولا یملک شیئا منها، لأنّ ید صاحبها لم تَزُلْ عنها»(3).

أقول: الظاهر إنّ هذا الفرع لا إشکال فیه من امکان غصب المال المشترک المشاع بل یقع کثیرا ما فی الخارج ولذا قال الفاضل المامقانی: «اعلم إنّ امکان تعلق الغصب بالمشاع وتحققه فی الخارج مما لا إشکال فیه، فلو کان الدار أو القریة أو نحوهما من العقار والأعیان مشترکة بین زید وعَمْرٍوْ علی سبیل الإشاعة فعمد الظالم إلی حصة زید المُشاع من دون قصد منه إلی حصة عَمْرٍوْ من أجل المودة بینهما أو غیر ذلک من الدواعی وَأَخَذَ یستوفی غَلَّة القریة ونحوها من دون توجیه التصرف إلی خصوص جزء معین من بین أجزائها تحقق غصب الحصة المُشاعة، بل قد یتحقّق غصبها بمجرد الاستیلاء عرفا کما لو فرض أنّه لم یدخل القریة ولا الدار بنفسه وإنّما منع المالک للحصة وأمر أتباعه بالتصرف فیها واستیفاء منافعها، وبما ذکرناه من تعلّق الغصب بالمشاع صرح جماعة»(4). ثمّ ذکر کلمات عدّة من أعلام الطائفة فی المقام فراجعها إن شئت.

ص:411


1- 1 . المسبوط 2/355.
2- 2 . کذا فی المصدر والصَّوابُ: «هَجَمَ».
3- 3 . المبسوط 3/73.
4- 4 . غایة الآمال 6/285.

فلا یتم قوله قدس سره : «إلاّ علی احْتِمالٍ ضَعِیْفٍ وهو تعلّق الغصب بالمشاع»(1). إلاّ أنّ الاحتمال راجع إلی الفرع الآتی.

ولذا قال الفقیه السَّیِّدُ الیزدی فی توضیح کلام الشیخ الأعظم ما نصه: «لا إشکال فی أصل تعلّق الغصب بالمُشاع فی الجملة، وإنَّما الإشکال فی اختصاص الغصب بحصة المغصوب منه، بیان ذلک أنَّ غصب المشاع یتصور علی صُوَر:

إحداها: أنْ یسکن الغاصب مع المالک فی الدار مثلاً علی وجه یکون کلّ منهما متصرفا فیها علی وجه الشرکة، کما فی الشریکین المالکین.

الثانیة: أنْ یشترک غاصبان فی التصرف فی الدار علی وجه یکون کلّ منهما ذو ید علیها.

الثالثة: أنْ تکون دار بین شریکین ساکنین، فأخرج الغاصب أحدهما وقام مقامه علی وجه یکون غرضه متعلقا بغصب حصته.

أمّا الصورة الأولی: فلا ینبغی الاشکال فی ضمان الغاصب للعین والمنفعة بالنسبة إلی النصف، نعم ناقش فیه المحقّق فی الشرائع قال: «فإذا مکن الدار مالکها لم یضمن، وقال الشیخ یضمن النصف وفیه تردد، مَنْشَؤُهُ عدم الاستقلال من دون المالک، وهو فی عین محلّه، نعم لو کان الغاصب بحیث لم یقاوم المالک تمَّ ما ذکره»(2).

لکنّه لیس مراده ذلک؛ لأنَّه ذکره بعد ذلک وحکم فیه بعدم الضمان، وحیث إنَّ المفروض صدق الید والاستقلال کما فی سائر موارد الاشتراک فی التصرف فلا ینبغی التأمل فی ضمانه لنصف العین، بل یحتمل ضمانه للتمام إذا فرض استقلال کلّ منهما لو لا الآخر، فانَّه یصدق أنَّ العین فی یده کما أنَّها فی ید المالک، إلاّ أنَّ ید المالک لا أثر لها، وکذا بالنسبة إلی جمیع المنافع إلاّ ما استوفاه المالک.

وأما الصورة الثانیة: فیضمن کلّ منهما النصف المشاع عینا ومنفعة، ویجری

ص:412


1- 5 . المکاسب 3/526.
2- 1 . شرائع الاسلام 4/761.

الاحتمال الذی ذکرنا، ولازمه جواز رجوع المالک علی أیّهما شاء کما فی الأیدی المتعاقبة، إلاّ إذا لم یکن أحدهما مستقلاً لو لا الآخر، بل کان هناک ید واحدة علی الکلِّ بالشرکة، فانَّه حینئذٍ یتعیّن ضمان کلّ منهما للنصف.

وأما الثالثة: فلا إشکال فی ضمان الغاصب أیضا للنصف المُشاع، إلاّ أنَّ الکلام فی أنَّه هل یتعیّن کون ما بیده حصة للمغصوب منه، بأنْ لا یکون علی الآخر متصرفا فی حصته وحصة شریکه، فیکون کلّ منهما ضامنا للربع بالنسبة إلی المغصوب منه، والغاصب ضامنا للربع الآخر أیضا، وعلی الاِحتمال الذی ذکرنا یکون للمغصوب منه الرجوع علی الغاصب بتمام حقّه، وعلی الآخر بنصفه، بل بتمامه أیضا، وله الرجوع علی الغاصب أیضا بتمام حقّه.

التحقیق: هو الوجه الثانی؛ إذ تصرّف الشریک الغیر المغصوب منه فی المال المشترک لابدَّ أنْ یکون بإذن صاحبه، ولیس(1) فیکون ضامنا من جهة إثبات یده وَتَصَرُّفهِ فی العین المشترکة، کما لو کان هو الغاصب، هذا.

ولکن حکی الوجه الأوّل عن الشیخ فی المبسوط(2) والفاضل فی التحریر(3)...»(4).

أقول: هذه المسألة مُبْتَنِیَةٌ علی المسألة الثانیة بحیث إن قلنا فیها علی ما قاله خالنا الشیخ حسن تم قول المشهور هنا وإلاّ لم یتم وصار الحقّ مع الشیخ الأعظم والفقیه السیّدِ الیزدی بأنّ الغصب یتعلّق بالمُشاع فی الصورة الثالثة من کلام الفقیه السیّد الیزدی رحمه الله . واللّه العالم.

المسألة الثانیة:

هل تقسیم الغاصب والشریک العین المغصوبة من دون مراجعة المغصوب منه أو الحاکم الشرعی یصح بحیث یَکُوْنُ نافذا فی حقِّ الشریک أم لا؟

ذهب خالُنا الشیخ حسن ابن الشیخ جعفر کاشف الغطاء إلی النفوذ لأنّه قال:

ص:413


1- 1 . هکذا فی الأصل، والظاهر ان المراد: «ولیس مأذونا له فیکون ضامنا».
2- 2 . المبسوط 2/355.
3- 3 . التحریر 1/274 من الطبعة الحجریة.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/347 و 348.

«ولو أراد غاصب غصب حصة الشریک فقط فلا یبعد جواز مقاصة الشریک الآخر مع الغاصب ولا رجوع للمغصوب منه علی ما بید شریکه وإن کان غائبا»(1).

وقال الفاضل المامقانی: «وحکی بعض مشایخنا أنّه سمع منه شفاها أنْ لا یبعد فی کلام الفقیه فتوی هذه»(2).

وحکاه عنه صاحب الجواهر فی کتاب الشرکة وردّ علیه: «لکنّه کما تری وقد تقدّم(3) لنا بحث فی ذلک»(4).

وحیث ضعّف صاحب الجواهر هذا الاحتمال قال الشیخ الأعظم: «لکنّه احتمال مضعّف فی محلّه وإن قال به أو مال إلیه بَعْضٌ - علی ما حُکِیَ - للحرج أو السیرة»(5).

وقال الفاضل المامقانی: «لم نجد من تعرّض لهذا الحکم سوی صاحب الجواهر وصاحب أنوار الفقاهة ولا مفتیا بالجواز سوی الأخیر منهما ومن حکی عنه صاحب الجواهر، نعم قوّاه بعض من تأخر استنادا إلی تحقق السیرة فیما بین الناس من جهة شیوع غصب الأموال المشترکة خصوصا فی الوصایا والأثلاث المُوْصی بها، فإنّهما کثیرا ما تؤخذ بغیر حقّ، ومع ذلک لا تتحرز الورثة من أخذ مقدار حصتهم. هذا ولکنّک خبیر بما فی الاستناد إلی مثل هذا المستند الذی یتّجه المنع علیه موضوعا وحکما فافهم»(6).

وأمّا مستند خالنا فَهُوَ قاعدة نفی الحرج والسیرة بتقریب:

1- أنَّهُ کثیرا ما نری غصب الغاصبین للأَمْلاکِ الْمُشاعَةِ وحینئذ یکونُ مَنْعُ الشریک من التصرف فی حصته حَرَجا علیه وهذا المنع بقاعدة لا حرج مرفوع عنه فیجوز التقسیم

ص:414


1- 5 . أنوار الفقاهة/ مخطوطة ونقل عنها فی غایة الآمال 6/289 (صفحة 411 من الطبع الحجری).
2- 6 . غایة الآمال 6/290.
3- 7 . الجواهر 23/328 (22/202).
4- 8 . الجواهر 27/623 (26/315).
5- 9 . المکاسب 3/527.
6- 1 . غایة الآمال 6/290.

مع الغاصب ویستقل الشریک بالحصة المفروزة له.

ویرد علیه: قاعدة نفی الحرج ینفی حرمة التقسیم مع الغاصب تکلیفا ولکن لا تَثْبُتُ صِحَّةُ التقسیم معه وضعا بحیث لا یحتاج إلی مراجعة شریکه.

2- السیرة المستمرة المُدَّعاة التی تکشف عن إمضاء عمل العرف بواسطة المعصومین علیهم السلام .

ویرد علیه: أَنّهُ لم یحرز هذه السیرة واستمرارها بل یحتمل(1) الردع عنها بفتوی أکثر الفقهاء بل هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَیْهِ کما حُکِی.

ولکن یمکن الاِستناد له قدس سره بالسیرة العقلائیة، لأنّ العقلاء إذا مارس أحدهم - من دون الشرکاء - مع الغاصب وَتَمکَّنَ مِنِ اخْتِلاس سهامه منه لا یعطیه إلی شرکائه، بل یقول لهم بأنّه نصیبی وسهامی وأنتم تذهبون وتمارسون مع الغاصب حتّی تأخذوا نصیبکم وسهامکم. هذه السیرة جاریة ولم یردع عنها الشارع فهی ممضاة فی الشریعة المقدسة.

ومع الإقرار بصحة التقسیم مع الغاصب یظهر بوضوح کیفیّة غصب المال المُشاع - أی المسألة الاولی - والحمد للّه.

ثمّ ذکر الشیخ الأعظم(2) وجها آخَرَ لکون السدس الذی عند المنکر یُحسب

علی المقرّ له وَحْدَهُ، دون المقرِّ.

وحاصله: الغاصب المنکر الذی لا یدفع حقّ المقرّ له إلیه قد غصب ماله بانیّا علی أنّه من المقرّ له دون المقرّ، لأنّ المفروض دفع المقرّ ما بیده من حقّ المقرّ له وأمّا المنکر یغصب حق المقرّ له لأنّه ذو الید والید أمارة ملکیة عند الشارع فهو ک- «أنّما أذن له فی أخذ ما یأخذه علی أنّه من مال المقرّ له، فالشارع إنّما حسب السدس فی ید المنکر علی المقرّ له فلا یحسب منه علی المقرّ شیء»(3).

ص:415


1- 2 . کما فی هدی الطالب 6/49.
2- 3 . المکاسب 3/527 قوله قدس سره : «نعم یمکن أن یقال...».
3- 1 . المکاسب 3/527.

ثمّ ذَکَرَ توهما ودفعه(1): أمّا التوهم: فإذا أخذ الغاصب جزءً معینا من مال المشترک یحسب علی کلا الشریکین مثلاً لا علی واحد منهما، وفی المقام أیضا السدس المغصوب یحسب علی الشریکین المقرِّ والمقرّ له.

وأمّا دفعه: فإنّ الغاصب فی المقام أخذ السدس بإذن الشارع مع اعتبار أمارة الملکیة وهی الید بخلاف ما ذکره المتوهم فإنّ الغاصب فیه أخذ من دون إذن من الشارع.

ثمّ أیّد(2) التوهم بمسألة الإقرار بالنسب حیث إنّ الأصحاب - علی ما نسبه إلیهم فی الإیضاح(3) - قالوا: «إنّ أحد الأخوین إذا أقرّ بثالث، دفع إلیه الزائد عمّا یستحقّه باعتقاده، وهو الثلث، ولا یدفع إلیه نصف ما فی یده؛ نظرا إلی أنّه أقرّ بتساویهما فی مال المورّث، فکلّ ما حصل کان لهما، وکلّ ما توی کان کذلک»(4).

ثمّ ردّه(5) بأنّ مسألة الاقرار بالنسب غیر مسألة الاقرار بالشرکة، فی الأوّل - النسب - الحکم هو تحویل مازاد عن حصة المقرّ إلی المقرّ له ویأتی توضیحه فی الفرع الآتی - وأمّا فی الثانی - الشرکة - الحکم هو ورود الربح والخسارة بنحو الإشاعة علی الشرکاء بنسبة حِصَصهم.

الفرع الخامس: الإقرار بالنسب

غَرَضُ الشیخ الأعظم(6) من ذکر هذا الفرع تضعیف ما مرّ من الإشکال فی الشَِّرْکَةِ

من الإقرار بالنسب وأنّ المشهور من القدماء وإن ذهبوا إلی ما مرّ ولکن «صرح جماعة ممّن تأخر عنهم بمخالفته»(7).

ص:416


1- 2 . المکاسب 3/527 قوله قدس سره : «ولیس هذا کأخذ...».
2- 3 . المکاسب 3/527 قوله قدس سره : «والحاصل: أنّ أخذ...».
3- 4 . إیضاح الفوائد 2/468.
4- 5 . المکاسب 3/527.
5- 6 . المکاسب 3/528 قوله قدس سره : «ولکن لا یخفی ضعف هذا الاحتمال...».
6- 7 . المکاسب 3/528.
7- 1 . المکاسب 3/528.

قال الکلینی فی باب الإقرار بوارث آخر: «قال الفضل بن شاذان: ... وإن ترک ابنین فادّعی أحدهما أخا وأنکر الآخر، فإنّه یردّ هذا المقرُّ علی الذی ادَّعاهُ ثلث ما فی یدیه»(1).

تابعه المشهور من الفقهاء فی کتبهم «کما فی السرائر(2) والشرائع(3) والتذکرة(4) والتحریر(5) والتلخیص(6) [والقواعد(7)] وغیرها(8)، بل فی الخلاف(9) والتذکرة(10) وظاهر السرائر(11) والإیضاح(12) وجامع المقاصد(13) الإجماع علیه...»(14).

وفی الجواهر: «بلا خلاف أجده فیه، بل عن بعضهم(15) نسبته إلی نصّ الأصحاب»(16).

ومستند المشهور عدة من الروایات:

ص:417


1- 2 . الکافی 13/750 (7/167).
2- 3 . السرائر 3/308 و 310.
3- 4 . الشرائع 3/157.
4- 5 . تذکرة الفقهاء 15/455 و 456.
5- 6 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/432.
6- 7 . تلخیص المرام /165.
7- 8 . القواعد 2/441.
8- 9 . جامع المقاصد 9/356.
9- 10 . الخلاف 3/379، مسألة 29.
10- 11 . تذکرة الفقهاء 15/455 و 456.
11- 12 . السرائر 3/308 و 310.
12- 13 . إیضاح الفوائد 2/468.
13- 14 . جامع المقاصد 9/356.
14- 15 . مفتاح الکرامة 22/683.
15- 16 . إیضاح الفوائد 2/468.
16- 17 . الجواهر 36/313 (35/184).

منها: خبر أبیالبَخْتَرِی وَهْبِ بن وهب، عن جعفر بن محمّد، عن أبیه علیهماالسلام قال: قضی علی علیه السلام فی رجل مات وترک ورثة فأقرّ أحد الورثة بدین علی أبیه أنّه یلزم ذلک فی حصّته بقدر ما ورث، ولا یکون ذلک فی ماله کلّه، وإن أقرّ اثنان من الورثة وکانا عدلین

اُجیز ذلک علی الورثة، وإن لم یکونا عدلین أُلزما فی حصتهما بقدر ما ورثا، وکذلک إن أقرّ بعض الورثة بأخ أو اُخت إنّما یلزمه فی حصّته.(1)

ومنها: بالإسناد قال: قال علی علیه السلام : من أقرّ لأخیه فهو شریک فی المال ولا یثبت نسبه، فإن أقرّ اثنان فکذلک إلاّ أن یکونا عدلین فیثبت نسبه ویضرب فی المیراث معهم.(2)

والروایتان کما تری ضَعِیْفَتانِ بأبیالبَخْتَرِیّ وَهْبِ بْنِ وَهْبٍ وکان قاضیا عامِیّا کذّابا إلاّ أنّ له عن جعفر بن محمّد علیه السلام أحادیث کلّها یوثق بها کما قاله ابن الغضائری(3). مضافا إلی جبران ضعفهما بعمل المشهور، فالمسألة واضحة المدرک عندنا.

ویمکن التمسک بروایة صحیحة الإسناد بعد ثبوت اشترک حکم الاقرار بالدَّیْنِ والوارث وهی صحیحة اسحاق بن عمار عن أبیعبداللّه علیه السلام فی رجل مات فأقرّ بعض ورثته لرجل بدین، قال: یلزم ذلک فی حصّته.(4)

وأمّا تصریح جماعة ممّن تأخر بمخالفة هذا الفرع لِلْقاعِدَةِ الماضیة فی الشَِّرْکَةِ من أنّ ما حصل حصل للشرکاء وما توی توی علیهم واحتمال جریانها فی هذا لفرع کما عن المحقّق الثانی(5) ولعلّه تبعا للعلاّمة فی عتق التحریر(6) وتابعهما ثانی الشهیدین فی

ص:418


1- 1 . وسائل الشیعة 19/325، ح5، الباب 26 من أبواب کتاب الوصایا.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/326، ح6.
3- 3 . رجال ابن الغضائری /100، رقم 151، ولکن فی المطبوعة «لا یوثق بها»، وفی مجمع الرجال 6/198 کما ضبطناه وهو الصحیح.
4- 4 . وسائل الشیعة 19/324، ح3.
5- 5 . جامع المقاصد 9/356.
6- 6 . تحریر الأحکام الشرعیة 4/196.

المسالک(1) وسبطه فی نهایة المرام(2)، وقواه المحقّق السبزواری فی الکفایة(3)، وسیّد الریاض قال: أنّه «لا یخلو عن قوة»(4). کما فی المفتاح(5). وتابعهم السیّد الخوئی(6) رحمه الله .

فالمخالفة لا یُعْتَنی بِها بعد وضوح مستند المشهور وتمامیته واللّه العالم.

ص:419


1- 7 . المسالک 11/131.
2- 8 . نهایة المرام، کتاب الاقرار، مخطوط. نقل عنه صاحب مفتاح الکرامة 22/687.
3- 9 . الکفایة 2/510.
4- 10 . ریاض المسائل 13/161؛ والشرح الصغیر 3/46 له أیضا.
5- 11 . مفتاح الکرامة 22/687.
6- 12 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/128.

المسألة السادسة: بیع ما یملکه المسلم وما لا یملکه

اشارة

ذکر الشیخُ الأعظمُ هذه المسألةَ اسْتِطْرادا لأنّها خارِجَةٌ عَنْ مسائل بیع الفضولی.

وعدم تمَلُّکِ المُسْلم له تارةً یکون لعدم قابلیته ذاتا للملک کالحُر، أو لم یکن مالاً کالخنافس، أو یعدّ مالاً عُرْفا - لا شرعا - کالخمر والخنزیر، وأُخری لم یکن قابلاً للملک لعارض - لا ذاتا - کالوقف أو الحبس.

قال الشیخ الأعظم: «لو باع ما یقبل التملّک وما لا یقبله - کالخمر والخنزیر - صفقةً بثمنٍ واحدٍ، صحّ فی المملوک عندنا، کما فی جامع المقاصد، وإجماعا، کما عن الغنیة»(1).

أقولُ: ورد الإجماع فی کلام المحقّق الثانی أیضا: «إلاّ أن یقال: ذلک خرج بالإجماع»(2).

وقال قبله جَدُّنا الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة: «لو باع ما یملکه المسلم وما لا یملکه سواء کان ممّا لا یملک مطلقا أو لم یکن قابلاً لملک المسلم کالحرّ والخمر والخنزیر صحّ البیع فیما یملکه وبطل فیما لا یملک، علی المعروف بین الأصحاب»(3).

والسیّد العاملی(4) فی ذیل قول العلاّمة فی القواعد: «ولو ضمّ إلی المملوک حرّا أو خمرا أو خنزیرا صحّ فی المملوک وبطل فی الباقی»(5) قال: «کما فی التذکرة(6) ونهایة الإحکام(7) والإرشاد(8) والدروس(9) واللمعة(10) والروضة(11) ومجمع البرهان(12)

ص:420


1- 1 . المکاسب 3/531.
2- 2 . جامع المقاصد 4/82.
3- 3 . تبصرة الفقهاء 3/375.
4- 4 . معطوف علی جدنا.
5- 5 . القاعدة 2/20.
6- 6 . تذکرة الفقهاء: فی أحکام تبعّض الصفقة 12/10 و 11.
7- 7 . نهایة الإحکام: فی المعقود علیه 2/479.
8- 8 . إرشاد الأذهان: فی المتعاقدین 1/360.
9- 9 . الدروس الشرعیة: فی البیع 3/196.
10- 10 . اللمعقة الدمشقیة: فی البیع /110.
11- 11 . الروضة البهیة: فی المتعاقدین 3/240.
12- 12 . مجمع الفائدة والبرهان: فی المتعاقدین 8/163.

وغیرها(1). وقد نصّ علی صحّته فی المملوک وبطلانه فی غیره فی المبسوط(2) والوسیلة(3) والغنیة(4) والسرائر(5) والشرائع(6) والنافع(7) والتحریر(8)»(9).

القول الأول: صحة البیع فی ما یملک و فساده فی ما لا یملک
أدلة صحة هذا البیع
1- صحیحة الصفّار

أنّه کتب إلی أبیمحمّد الحسن بن علی العسکری علیه السلام فی رجل باع قطاع أرضین فیحضره الخروج إلی مکّة والقریة علی مراحل من منزله، ولم یکن له من المقام ما یأتی بحدود أرضه، وعرف حدود القریة الأربعة، فقال للشهود: أشهدوا أنّی قد بعت فلانا - یعنی المشتری - جمیع القریة التی حدّ منها کذا، والثانی والثالث والرابع وإنّما له فی هذه القریة قطاع أرضین، فهل یصلح للمشتری ذلک وإنّما له بعض هذه القریة وقد أَقَرَّ له بکلّها؟ فوقع علیه السلام : لا یجوز بیع ما لیس یملک، وقد وجب الشراء من البائع علی ما یملک.(10)

ص:421


1- 1 . کریاض المسائل: فی شروط المتعاقدین 8/129.
2- 2 . المبسوط: فی أحکام تفریق الصفقة 2/(144-145).
3- 3 . الوسیلة: فی بیان بیع تبعّض الصفقة /247.
4- 4 . غنیة النزوع: فی البیع /230.
5- 5 . السرائر: فی البیوع 2/(275-276).
6- 6 . شرائع الإسلام: فی عقد البیع وشروطه 2/9.
7- 7 . المختصر النافع: فی البیع وآدابه /119.
8- 8 . تحریر الأحکام: فی المتعاقدین 2/278.
9- 9 . مفتاح الکرامة 12/660 و 661.
10- 10 . وسائل الشیعة 17/339، ح1، الباب 2 من أبواب عقد البیع وشروطه.

بتقریب: إطلاق ما رقمه علیه السلام : «ما لیس یملک» یشمل ما لا یکون قابلاً للملک فتجری الصحیحة فی هذه المسألة.

وقد اُورد علی هذا الاستدلال بأنّ:

الإطلاق فیها منصرف إلی بیع ماله مع ماله غیره لا مع ما لا یقبل التملک فهو دلیل للمسألة الثالثة الماضیة.

وذکر الشیخ الأعظم هذا الإیراد بقوله: «ودعوی: انصرافه إلی صورة کون بعض القریة المذکورة فیها مال الغیر، ممنوعة»(1).

ووجه المنع فی کلامه: أوّلاً: یمکن قِراءَةُ «لا یجوز بیع ما لیس یُمْلِکَ بصیغة

المبنی للمفعول (المجهول) فحینئذ دلالتها علی هذه المسألة تکون أظهر وَتَرْتَفِعُ دعوی الانصراف.

وثانیا: حیث نعلم بوجود الوقف فی کثیر من الأراضی وإطلاق صحیحة الصفار یشمل فرض الوقف فی قوله «لا یجوز بیع ما لیس یملک» والوقوف تدخل فی ما لم یکن قابلاً للملک - ولو عارضا - .

وغلبة وجود الملک علی الوقف لا یصلح لتقیید الإطلاق.

ویمکن أن یناقش الاطلاق بعد قِراءَةِ صیغة یَمْلِکُ المبنی للفاعل (المعلوم) بأنّها ظاهرة فی مال الغیر الذی لا یملکه البائع فلا إطلاق فیها.

ولکن قال المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله بعد ذهابه إلی أنّ الصحیحة ظاهرة فی بیع ما یَملک وما لا یَملک [المسألة الثالثة الماضیة] قال: «وهو أمر آخر غیر بیع ما یُملک وما لا یُملک إلاّ أنّ قوله علیه السلام یجوز فیما یملک ولا یجوز فیما لا یملک یقتضی صحة تقسیم الانشاء الواحد إلی أمرین ویتعدّی منه إلی المقام بتنقیح المناط وکیف کان فالبیع بالإضافة إلی ما یُملک صحیح هذا»(2).

ص:422


1- 11 . المکاسب 3/531.
2- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/132.
2- الأدلة العامة
اشارة

ثمّ بعد جریان إطلاق صحیحة الصفار فی المقام وإثبات الصغری فلا مانع من التَّمَسُکِ بالأدلة العامة وهی قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) وقوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(2) وقوله تعالی: «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(3) وغیرها.

وأنت تری أَنَّ هذا الدلیل لم یستقل، ویحتاج إلی صحیحة الصفار فی إثبات الصغری لأنّ ما لم یتحقق مصداق العقد والبیع والتجارة فیه لاتجری الأدلة العامةُ فیه ومع جریان الصحیحة لا نحتاج إلی الأدلة العامة إلاّ لِلتَّأْیِیْدِ.

ولکن یمکن أن یقال: بأنّا نحرز الصغری بالوجدان - لا بجریان الصحیحة - لأنّ البائع باع ما یقبل التملّک وما لا یقبله بالوجدان وعقد علیهما کذلک وتاجر بهما عن تراضٍ أیضا فلا مانع من التمسک بالأدلة العامة ولابدّ من ورود نهیٍ فی المقام لاستفادة

البطلان منه و ورد النهی بالنسبة إلی بیع ما لا یَملک فی قول النبی صلی الله علیه و آله : لا بیع إلاّ فی ما یَمْلک.(4) وأمّا بیع ما یُملک فَهُوَ باقٍ تحت العمومات والإطلاقات.

والذی ذکرناه جاء موافقا لنظر الشیخ الأعظم قدس سره حیث قال: «بل لا مانع من جریان قاعدة الصحة بل اللزوم فی العقود»(5).

موانع صحة بیع ما یُملک وما لا یُملک
الأوّل: البیع واحد

أنّ العقد الواقع واحد ومع وحدته لا یمکن الحکم بالصحة والفساد معا لأنّه إنشاء واحد وعقد فارد فإمّا أن یحکم بالصحة فی الجمیع أو الفساد کذلک، فالحکم بالصحة فی ما یُملک وبالفساد فی ما لا یُملک مستحیل لأنّ الصفقة واحدة وعدم إمکان التبعّض فیها.

ص:423


1- 2 . سورة المائدة /1.
2- 3 . سورة البقرة /275.
3- 4 . سورة النساء /29.
4- 1 . راجع مصادر الروایة فی الآراء الفقهیة 5/268.
5- 2 . المکاسب 3/531.

ویرد علیه: إذا بنینا إلی انحلال العقد الواحد إلی عقود متعددة حتّی إذا کان الإنشاء واحد والصفقة واحدة فلا بأس من تبعیض الصفقة والحکم بالصحة فی ما یُملک وبالفساد فی ما لا یُملک.

الثانی: قصد المجموع

قصد المتبایعان مجموع ما یُملک وما لا یُملک فی مقابل مجموع الثمن، والعقود تابعة للقصود، والحکم بالصحة فی خصوص ما یُملک خرق للقاعدة.

وبعبارة اُخری: ما قصدا لم یقع وهو بیع المجموع فی مقابل المجموع وما لم یقصدا وقع وهو بیع ما یُملک فقط فی مقابل قسطه من الثمن.

ویرد علیه: قصد المتبایعان بیع کلّ واحد ممّا یُملک وما لا یُملک فهنا قصدان أو القصد الواحد الذی ینحل إلی قصدین لأنّ متعلَّق القصد الواحد کان بنحو تعدد المطلوب، غایة الأمر وقع البیع علی ما یُملک بشرط انضمام ما لا یُملک، والحکم بالصحة فی ما یُملک یستلزم تخلف الشرط دون خرق قاعدة العقود تابعة للقصود.

وبالجملة: بعد انحلال العقد یرتفع المانع.

الثالث: جهالة الثمن

الجهالة فی الثمن أو المثمن توجب بطلان البیع وفی المقام حیث أنّ الحکم بالصحة فی ما یُملک یستلزم جهالة مقدار الثمن الذی فی مقابله فلابد من الحکم بفساد العقد.

ونقل العلاّمة فی التذکرة(1) عن الشافعی(2) هذا المانع فی وجه بطلان المعاملة.

ویرد علیه: الجهالة التی تستلزم بطلان المعاملة، هی التی تؤدّی إلی الغرر لأنّ النبی صلی الله علیه و آله نهی عن بیع الغرر والجهالة فی المقام لیست بتلک المثابة فلا تستلزم البطلان.

لا سیّما إذا تعیّن مقدار الثمن الذی وقع فی مقابل ما یُملک بالطریقة التی تأتی لاحِقا فلا جهالة فی البین أصلاً.

ص:424


1- 1 . تذکرة الفقهاء 12/11.
2- 2 . روضة الطالبین 3/89؛ العزیز فی شرح الوجیز 4/140؛ المجموع 9/381.

إن قلت: الإجماع قائم علی أنّ جهالة الثمن أو المثمن توجب بطلان المعاملة والجهالة هنا تجری فیأتی الحکم بالبطلان.

قلت: الإجماع دلیل لُبِّیٌّ یجب الاقتصار علی القدر المتیقن منه عند الشک فی جریانه والمتیقن من دلالته علی البطلان هی الجهالة التی تسری إلی الثمن أو المثمن من ناحیة غیر الشارع، وأمّا إذا کانت الجهالة مستندة إلیه فلا یجری الإجماع فی المقام.

الرابع: فسادُ الجزء مفسدٌ لکلِّ العقد

القدماء قائلون بأنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد لأنّ المعاملة هی الالتزام المقیّد بالشرط، فإذا حکم الشارع بفساد الشرط یفسد العقد أیضا لأنّ العقد المجرد عن ذلک الشرط لم یقع فی الخارج حتّی تجری فی حقّه الإطلاقات والعمومات فحینئذ العقد المشروط بالشرط الفاسد یفسد، ثمّ یتعدّون من ذلک إلی فساد الجزء أیضا ویقولون بأنّ الجزء الفاسد یفسد المعاملة لأنّ مرجع فساد الجزء إلی فساد الشرط، لأنّه یرجع إلی اشتراط انضمام الجزء الفاسد فیوجب فساد العقد. فحکم الشرط والجزء واحد.

ویرد علیه: أوّلاً: یذهب المتأخرون إلی أنّ الشرط الفاسد لیس مفسدا للعقد، فقیاس الجزء علیه لا یوجب فساد العقد.

وثانیا: النص والإجماع فی هذا البیع قائمان علی صحته وهذا یکفی فی الفرق بین الجزء الفاسد والشرط الفاسد کما علیه الشیخ الأعظم(1).

وثالثا: فساد الشرط إنّما یوجب فساد العقد - علی القول به - «لأجل وحدة المطلوب وإدعاء أنّ الثمن یقع بإزاء المبیع المشروط بالشرط کالعبد بشرط الکتابة ومع فساد الشرط أو تخلفه لا یکون ذات المبیع ممّا وقع بإزائه الثمن، وهذا بخلاف المقام فإنّ

الثمن لا یقع بتمامه بإزاء المملوک علی کلِّ حال، بل إنّما وقع المملوک بإزاء بعض من الثمن وهو ما یخصه علی تقدیر التوزیع وهذا المقدار من الثمن الذی وقع بإزاء المملوک لا یختلف بانضمام الغیر المملوک وعدمه ففساد البیع بالنسبة إلی غیر المملوک لا یوجب

ص:425


1- 3 . المکاسب 3/532.

الاختلاف فی ناحیة المملوک لا من حیث المبیع ولا من حیث ثمنه فیبطل قیاس فساد الجزء بفساد الشرط»(1).

والحاصل: بعد تمامیة إطلاق صحیحة الصفّار وجریان الأدلة العامة فی المقام ودفع الموانع الأربعة فلابدّ من القول بأنّ ما ذهب إلیه المشهور - من صحة البیع فی ما یُملک وفساده فی ما لا یُملک - هو المختار، وهذا هو القول الأوّل فی المقام.

القول الثانی: التفصیل بین صورتی علم المشتری وجهله بعدم المملوکیة
اشارة

والحکم بالبطلان فی فرض علم المشتری، وبالصحة فی فرض جهله، نَفی عنه العلاّمة البعد من الصواب فی تذکرة الفقهاء حیث یقول: «لو کان المشتری جاهلاً بأنّ المضموم ملک الغیر أو حُرٌّ أو مکاتَب أو اُمّ ولد ثمّ ظهر له، فقد قلنا: إنّ البیع یصحّ فیما هو ملکه، ویبطل فی الآخر إن لم یُجز المالک، ویکون للمشتری الخیار بین الفسخ والإمضاء فیما یصحّ بیعه بقسطه من الثمن؛ لأنّه لم یسلم له المعقود علیه، فکان له الفسخ. ولو کان عالما، صحّ البیع أیضا ولا خیار له.

وقطع الشافعی بالبطلان فیما إذا کان عالما، کما لو قال: بعتک عبدی بما یخصّه من الألف إذا وزّع علیه وعلی عبد فلان، ولیس کذلک لو کان المضموم إلی العبد مکاتبا أو اُمَّ ولد؛ لأنّ المکاتب واُمّ الولد یتقوّمان بالإتلاف، بخلاف الحُرّ المضموم إلی العبد.(2)

ولیس بعیدا عندی من الصواب البطلانُ فیما إذا علم المشتری حُرّیّة الآخر أو کونه ممّا لا ینتقل إلیه بالبیع، کالمکاتَب واُمّ الولد، والصحّة فیما إذا کان المضموم ملک الغیر»(3).

وقال الشهید بعد نقل مقال العلاّمة مختصرا: «... لأنّه فی قوة بعتک عبدی بما یخصّه من الألف أو یوزّع علیه وعلی هذه الأُمور وهو مجهول وأخذ من عینه»(4).

وقال سیّد المفتاح فی توضیح عبارة الشهید: «... هو مقیّد بجهل المشتری بعین

ص:426


1- 1 . المکاسب والبیع 2/323؛ وراجع منیة الطالب 2/219.
2- 2 . العزیز شرح الوجیز 4/140؛ روضة الطالبین 3/89؛ المجموع 9/381.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 12/11، مسألة 553.
4- 4 . الحاشیة النجاریة /224.

المبیع أو حکمه وإلاّ لکان البذل بإزاء المملوک ضرورة أنّ القصد إلی الممتنع کلا قصد...»(1).

وأشار المحقّق الکرکی إلی قول الشهید فی تعلیقه علی تقسیط الثمن: «یلزم القائلین فی الأوّل - أعنی: مشتری المغصوب العالم بالغصب - بعدم الرجوع فی الثمن عدم الرجوع هنا، وهو مدخول، إلاّ أن یقال: ذلک خرج بالإجماع، وإطلاق المصنف التقسیط یقتضی الفرق بینه وبین ما هناک، وفی بعض الحواشی المنسوبة إلی شیخنا الشهید طرد الحکم هنا، وهو بعید»(2).

أقول: أنت تری أنّ المحقّق الکرکی رَأی قول الشهید بعیدا.

وتبعهما - أی تبع العلاّمة والشهید - الشهید الثانی وقال: «بقی فی المسألة إشکال من وجهین:

أحدهما: أنّ المشتری لهذین الشیئین إن کان جاهلاً بما لا یملک توجّه ما ذکر، لقصده إلی شرائهما، فإذا لم یتم له الأمران وزّع الثمن. أمّا إذا کان عالما بفساد البیع فیما لا یملک أشکل صحة البیع مع جهله بما یوجبه التقسیط، لإفضائه إلی الجهل بثمن المبیع حال البیع، لأنّه فی قوة بعتک العبد بما یخصّه من الألف إذا وزّعت علیه وعلی شیء آخر، وهو باطل.

وقد نبّه علی ذلک العلاّمة فی التذکرة، وقال: إنّ البطلان حینئذٍ لیس ببعید من الصواب.(3)

والثانی: أنّ هذا الحکم - أعنی التوزیع - إنّما یتم أیضا قبل إقباض المشتری الثمن، أو بعده مع جهله بالفساد. أمّا مع علمه فیشکل التقسیط لیرجع بقسطه، لتسلیطه البائع علیه واباحته له، فیکون کما لو دفعه إلی بائع مال غیره، کالغاصب. وقد تقدم أنّ الأصحاب لا یجیزون الرجوع بالثمن، إمّا مطلقا أو مع تلفه، فینبغی هنا مثله. إلاّ أن یقال:

ص:427


1- 1 . مفتاح الکرامة 12/661.
2- 2 . جامع المقاصد 4/82.
3- 3 . التذکرة 12/11.

ذلک خرج بالإجماع، وإلاّ فالدلیل قائم علی خلافه، فیقتصر فیه علی مورده. وهو حسن إن تمّ»(1).

واختصر قوله فی الروضة وقال: «... وأمّا مع علمه بفساد البیع فیشکل صحته لإفضائه إلی الجهل بثمن المبیع حال البیع، لأنّه فی قوة بعتُک العبدَ بما یخصه من الألف إذا وُزِّعت علیه وعلی شیء آخر لا یعلم مقداره الآن، أمّا مع جهله فقصده إلی شراء المجموع، ومعرفة مقدار ثمنه کاف، وإن لم یعلم مقدار ما یخصّ کلّ جزء.

ویمکن جریان الإشکال فی البائع مع علمه بذلک، ولا بعد فی بطلانه من طرف أحدهما دون الآخر، هذا إذا لم یکن المشتری قد دفع الثمن، أو کانت عینه باقیة؛ أو کان جاهلاً، وإلاّ جاء فیه مع علمه بالفساد ما تقدم فی الفضولی بالنسبة إلی الرجوع بالثمن»(2).

وقال السیّد العاملی: «وقد قیّد ذلک بجهل المشتری فی «حواشی الشهید» وکذا فی «کشف الرموز»(3) و«التنقیح»(4) وقد یظهر ذلک من الباقین أو یلوح منهم ما عدا المصنّف فی «التذکرة» وستسمع کلامه. وعبارة «الإرشاد»(5) محتملة للأمرین، ولعلّها فیما نحن فیه أظهر»(6).

أقول: القائلون بهذا القول جماعة من الأصحاب ولعلّ أوّلهم العلاّمة وتبعه الشهیدان والفاضلون الآبی والمقداد والنراقی، قال الأخیر فی المستند: «ثمّ المتّجه فی محلّ النزاع: الفساد فی صورتی علم البائع أو المشتری؛ لما ذکر»(7).

ص:428


1- 4 . المسالک 3/163 و 164.
2- 1 . الروضة البهیة 3/240 و 241.
3- 2 . کشف الرموز: فی البیع وآدابه 1/446.
4- 3 . التنقیح الرائع: فی البیع وآدابه 2/27.
5- 4 . إرشاد الأذهان: فی المتعاقدین 1/360.
6- 5 . مفتاح الکرامة 12/661.
7- 6 . مستند الشیعة 14/301.

وقال الجدّ الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة قدس سره : «وربّما یزاد الإشکال فی المقام تارةً بأنّ البیع المذکور منهیّ عنه للنهی عن الأمور المتضمنة إلی ما یملکه من الحرّ والخمر والخنزیر مثلاً، والمفروض اتحاد البیع المتعلّق بها، وهو قاضٍ بالفساد لتعلّقه بذات المعاملة حسبما فرض.

وأخری بأنّه مع علم البائع أو المشتری بالحال یکون قد باع أو اشتری المجهول مع جهله بما یوجبه التقسیط؛ إذ هو فی قوة أن یبیعه بما یخصّه من الثمن علی تقدیر توزیعه علیه وعلی شیء آخر لا یعلم مقداره. ولذا مال فی التذکرة إلی الفساد حینئذ مع علم

المشتری بالحال، وقال: إنّ البطلان حینئذ لیس ببعید من الصواب.

ویدفع الأوّل أنّ النهیالمذکور إنّما یقضی بالفساد من الجهة الّتی تعلّق به لذات المعاملة ولا ربط له بالشیء الّذی یجوز بیعه؛ إذ تعلّق النهی به حینئذ إنّما یکون تبعا للآخر، فلا قاضی بفساد العقد من تلک الجهة، لا مانع من تبعّض مقتضی العقد حسبما مرّ.

والثانی أنّ المعتبر من العلم بالعوضین ما کان بالنسبة إلی جمیع ما تعلّق به علیه العقد دون ما یصحّ العقد بالنسبة إلیه وإن علم فساده حین العقد بالنسبة إلی البعض حسبما أشرنا إلیه فی المسألة المتقدمة»(1).

أدلة هذا التفصیل
الدلیل الأوّل:

إذا کان المشتری عالما بعدم کون بعض المبیع ممّا لا یُملک، یفقد أحد شروط صحة البیع وهو العلم بمقدار الثمن فی مقابل الجزء المملوک من المبیع فیصیر البیع غرریّا فیحکم ببطلانه.

ویردّ علیه: الجهل بمقدار الثمن الذی یوجب الغرر المفسد للبیع وهو الجهل بتمام الثمن، وأمّا لو کان الجهل بالنسبة إلی المقدار الذی یقابل ما یُملک فلا یکون ذلک غرریّا، مضافا إلی أنّ الجهل هنا یأتی من جانب حکم الشارع بالنسبة إلی بطلان ما لا یُملک. کما مرّ فی الجواب عن المانع الثالث آنفا.

ص:429


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/375 و 376.
الدلیل الثانی:

هذا البیع منهی عنه للنهی عن بیع ما لا یُملک والبیع واحد فقط ویتعلَّق به النهی فیدلّ علی فساده لتعلُّقه بذات البیع.

ویرد علیه: قد مرّ قضیة الانحلال فی البیع الواحد، والنهی المذکور إنّما یدلّ علی الفساد من الجهة التی تعلّق بها - لا لذات المعاملة - ففساد العقد بالنسبة إلی الجهة التی لا یتعلّق بها النهی بلا وجه بعد الانحلال کما مرّ هذا الجواب من جدّنا التقی(1) قدس سره .

وتبعه صاحب الجواهر وقال: «والنهی إنّما یفید الفساد من الجهة التی تعلّق بها لا مطلقا وفساد العقد بالنسبة إلی بعض متعلقاته - بمعنی عدم ترتّب الأثر علیها - لا ینافی صحته بالنسبة إلی البعض الآخر فیترتّب علیه الأثر»(2).

الدلیل الثالث:

فی صورة علم المشتری بعدم مملوکیة جزء المبیع یقع تمام الثمن فی مقابل المملوک لأنّ فی هذا الفرض قَصَدَ المشتریُ الممتنعَ فحینئذ قصده یکون لغوا وکلا قصد، ولأنّ المشتری سلّط البائع علی الثمن فی مقابل ما یُملکه.

وفی صورة جهل المشتری تکون المعاملة صحیحة بالنسبة إلی ما یُملک.

ویرد علیه: أوّلاً: انتقال تمام الثمن إلی البائع فی فرض علم المشتری غیر بطلان البیع وبینهما بون بعید، الدلیل یثبت انتقال تمام الثمن إلی البائع والمدعی هو بطلان البیع والفرق بینهما واضح. ولذا قال الشیخ الأعظم: «مع أنّه لو تمّ ما ذُکر لا قتضی صرف مجموع الثمن إلی المملوک لا البطلان»(3).

وثانیا: علم المشتری بعدم مملوکیّة ما لا یُملک - فی فرض وجوده - لا ینافی مع قصد النقل ولا یکون قصده کلا قصد ولا یکون ممتنعا، لأنّ علمه هذا بإنّ بعض المبیع ممّا لا یُملک شرعا یجمع مع قصد نقله إلیه عرفا وحقیقة عنده ولذا قال الشیخ الأعظم: «فإنّ هذا العلم غیر مناف لقصد النقل حقیقة»(4).

ص:430


1- 2 . تبصرة الفقهاء 3/375.
2- 3 . الجواهر 23/514 (22/320).
3- 1 . المکاسب 3/532.
4- 2 . المکاسب 3/532.
القول الثالث: وهو مختار الاستاذ المحقّق - مدظله -

ذهب - مدظله - إلی أنّ فتوی المشهور - أصحاب القول الأوّل - مبنیّ علی انحلال الصفقة ثمّ قال: ملاک الانحلال وعدمه أو الوحدة والتعدد هو وحدة الإبراز والاعتبار وتعددهما فقط «فإذا تمّت الصفقة من خلال إنشاء واحد وإبراز فارد، فلا مجال حینئذٍ للحکم بانحلالها وتعدّدها، وما قاله بعض المحقّقین من أنّ وزان المقام وزان العام الانحلالی ممنوعٌ وقیاس مع الفارق، لأنّ الحکم بانحلال قوله «أکرم کلّ عالم» إلی إکرامات متعدّدة برغم وحدة الإنشاء والإبراز، فإنّه مبنیٌّ لما یستفاد من ذات الدلیل، حیث یدلّ علی تضمّنه للموضوعات المستقلّة التی یحتوی کلّ واحدٍ منهما علی وجوب الإطاعة وحرمة المعصیة المستقلّة عن الآخر، فبالضرورة لابدّ من انحلال الدلیل، وهذا بخلاف المقام، فإنّ المتحقّق لیس إلاّ بیع واحد وإنشاء فارد وإن تضمّن أمرین مختلفین فی الماهیّة والحقیقیة، وبالتالی یکون الحکم بانحلال الصفقة الواحدة المنشأة بإنشاء واحد حکما بلا دلیل. ولهذا السبب یُشکل الحکم بصحّة المعاملة بمقتضی القاعدة، بل القاعدة تقتضی التفصیل بحسب قصد المتعاملین:

فتارةٌ: یتعلّق قصد المُنشئ بیعهما معا بشرط الانضمام، بأن یقصد أن یکون المبیع

کلّ واحد من المتاعین، لکن بشرط أن یکون أحدهما منضمّا إلی الآخر، فتصحّ المعاملة حینئذٍ مع ثبوت الخیار.

واُخری: یتعلّق قصد المُنشئ بذات البیع مقیّدا بالإنضمام، فتکون المعاملة باطلة.

وبالجملة: فإنّ هذه المسألة تضمّ ثلاث صور:

الصورة الاُولی: تارةً نحرز أنّ البائع قصد بإنشاءه بیع ما یُملک وما لا یُملک علی نحو وحدة المطلوب، فتکون المعاملة باطلة.

الصورة الثانیة: واُخری نحرز أنّ البائع قصد بإنشاءه ذات البیع، واعتبر ضمّ أحدهما إلی الآخر کمالاً مضافا إلی أصل المعاملة، فالحکم حنیئذٍ هو صحّة العقد فی خصوص ما یُملک.

الصورة الثالثة: عند الشکّ فی قصده، فالقاعدة تقتضی جریان الأصل، لکنّه أصلٌ

ص:431

غیر نافع فی المقام لمعارضته مع أصل آخر، وذلک لقیام العلم الإجمالی بأنّه إمّا باع مقیّدا أو مشروطا، وأصالة عدم کلّ واحد منهما معارضٌ مع الآخر، وعند تعارضهما یتساقطان، ویصل الدور إلی الشکّ فی تحقّق النقل من خلال هذه الصفقة وعدمه، ممّا یقتضی جریان استصحاب عدم النقل والانتقال، فتکون النتیجة عدم سببیّة المعاملة المذکورة. وهو مختارنا فی المقام»(1).

ثمّ قال: «القول الثالث هو ما التزمنا به فی المقام من التفصیل بین قصد المبیع بنحو وحدة المطلوب، ممّا یوجب بطلان العقد مطلقا حتّی بالنسبة إلی ما یُملک، وبین قصد البیع بنحو تعدّد المطلوب، حیث یصحّ بالنسبة إلی المملوک مع ثبوت خیار الشرط، ومع الشکّ فیهما فالحکم هو البطلان»(2).

أقول: ما ذکره الاستاذ المحقّق - مدظله - بالنسبة إلی الاحتمال المدرسی والعلمی تام لا یمکنا مناقشته ولکن الذی یسهّل الخطب أنّ المعاملات تحمل علی العرفیة منها والعرف لا یروون الفرق بین شرطیة الانضمام وقیدیته، وکذلک لا یروون الفرق بین وحدة المطلوب وتعدده، ولا یفهمون أنّ أنضمام أحدهما إلی الآخر - ما یُملک إلی ما لا یُملک - علی نحو الکمال الذی یضاف إلی أصل المعاملة أو أنّه علی وجه التقیید، فحینئذ العرف بنظره جمع بین المالین - عنده - فی المعاملة الواحدة والشارع الأقدس أمضی البیع

بالنسبة إلی أحدهما - ما یُملک - دون الآخر - ما لا یُملک - کما علیه المشهور وقد مضی مستندهم وتمامیته، فالمختار عندنا هو فتوی المشهور فی المقام من دون أیّ تفصیل، سواء کان التفصیل بین جهل المشتری وعلمه - القول الثانی - أو بین وحدة المطلوب وتعدده - القول الثالث - والحمد للّه العالم بأحکامه.

کیفیة تقسیط الثمن
اشارة

قد مرّت کیفیة تقسیط الثمن فی المسألة الثالثة وأنّ فیها ثلاث طرق والمختار

ص:432


1- 1 . العقد النضید 4/(152-150).
2- 2 . العقد النضید 4/158.

عندنا هو الطریق المشهور بأن یقوّم کل من الخلّ والخمر أو الشاة والخنزیر أو العبد والحر منفردا ثمّ یؤخذ نسبة قیمتهما إلی مجموع القیمتین، ثمّ یحاسب النسبة مع الثمن المسمی، مثلاً لو کانت قیمة الخلّ ألف دینار وقیمة الخمر تسعة آلاف یکون مجموعهما عشرة آلاف، فلو باعهما بخمسة آلاف تکون قیمة الخل خمسمأة دینار وقیمة الخمر خمسأة وأربعة آلاف دینار. أعنی نسبة 101 و 109 من الثمن المسمی.

ولذا قال الشیخ الأعظم: «من أنّ العبرة بتقویم کلّ منهما منفردا ونسبة قیمة المملوک إلی مجموع القیمتین»(1).

هذا کلّه إذا کان ما لا یُملک فیه اقتضاء المالیة عرفا کالخمر والخنزیر أو کذلک ولکنّه مقترن عرفا بالمانع کالحرّ فإنّه بنظر العرف مالٌ لکن الحریة مانعة عن مالیته فعلاً.

وأمّا إذا کان ممّا لیس فیه اقتضاء المالیة عرفا کالخنافس والدیدان والجُعل ونحوها، فالظاهر بطلان المعاملة لأجل الجهل بمقدار ثمن ما یُملک حین المعاملة.(2)

«وعلة البطلان: هی جهالة الثمن، حیث أنّ جزءً من الثمن واقع فی مقابل شیء لا مالیة له عرفا أو شرعا، وبالتالی یعدّ ما یبذل فی مقابل المملوک مجهولاً ممّا یستلزم بطلان المعاملة»(3).

أقول: اللهم إلاّ أن یقال: بتصحیح المعاملة بالمصالحة بین الطرفین أو الرجوع إلی الأقل من القیم لأنّ الأصل بقاء مازاد منه علی ملک صاحبه وقال الجد رحمه الله : «لا یبعد البناء علی الأخیر»(4)، لکنّه قدس سره ذهب إلی بطلان فی هذا الفرض وقال: «لو کان ما لا یُملک ممّا لا

قیمة له فی العادة أصلاً کما لو باعه بعض الکثافات مع ما یملکه أو باعه الشمس أو القمر مع شیء مملوک أو باعه شخصا من الجن أو الملائکة مع عبد له و نحو ذلک، فالظاهر فساد البیع؛ إذ لا یتعیّن شیء من الثمن بإزاء المملوک، و لا یمکن جعل الجمیع بإزائه؛ إذ هو غیر

ص:433


1- 1 . المکاسب 3/533.
2- 2 . کما علیه السیّد الخوئی فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/134.
3- 3 . العقد النضید 4/159.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/377.

ما یقتضیه العقد ولم یقع العقد علیه»(1).

«ولو کان للانضمام مدخلیة فی تفاوت القیمة جری فیه أیضا ما مرّ»(2) فی المسألة الثالثة فلا نعید.

طریق معرفة قیمة غیر المملوک

قال العلاّمة الجدّ الشیخ محمّدتقی صاحب الهدایة: «ثمّ إنّهم ذکروا هنا فی تقویم غیر المملوک أنّه یقوم الحرّ علی الوصف الّذی هو علیه لو کان رقّا، ویرجع فی الخمر والخنزیر إلی قیمتهما عند مستحلّیهما، فیستعلم قیمتهما عندهم بما یثبت به القیمة فی غیر هذا المقام من شهادة عدلین مطّلعین علی قیمته عندهم أو أخبار جماعة یعلم عادةً عدم تواطئهم علی الکذب أو بأخبار بعضهم إذا انضمّ إلیه من القرائن ما یفید العلم بصدقه»(3).

أقول: قال سیّد الریاض: «... لاشتراط عدالة المقوّم کما قالوه»(4) اعتبار العدالة فی¨ المقوِّم مشکلٌ مطلقا وفی المقام أشکل فلا بأس بالخبرویة وإحراز عدم کذبه ولو بالقرائن العادیة والعرفیة وبما ذکرنا ظهر وجه الإشکال فی کلام ثانی الشهیدین حیث یقول: «وأمّا الخمر والخنزیر فیرجع فیهما إلی قیمتهما عند مستحلّیهما، لا بمعنی قبول قولهم فی القیمة، لاشتراط عدالة المقوّم، بل یمکن فرضه فی تقویم عدلین قد أسلما عن کفر یشتمل علی استحلالهما، أو مطّلعین علی قیمتهما عندهم، لکثرة المخالطة لهم وعدم احتشامهم فیهما. ولو قیل بقبول إخبار جماعة منهم کثیرة یؤمن اجتماعهم علی الکذب، ویحصل بقولهم الظن الغالب المقارب للعلم، أمکن»(5).

مضافا إلی أنّ دون الوصول إلی «عدلین قد أسلما عن کفر یشتمل علی استحلالهما

ص:434


1- 1 . تبصرة الفقهاء 3/378؛ ثانیها.
2- 2 . تبصرة الفقهاء 3/376.
3- 3 . تبصرة الفقهاء 3/376.
4- 4 . ریاض المسائل 8/232.
5- 5 . المسالک 3/163.

أو مطّلعین علی قیمتهما عندهم لکثرة المخالطة لهم»(1) خرط للقتاد.

وثالثة: اعتبار «الظن الغالب المقارب للعلم»(2) فی الموضوعات الصرفة، والتقویم منها محلّ منع وإشکال(3)، اللهم لو قال الشهید الثانی رحمه الله به فی جمیعها، مع ما فیه.

ورابعة: «الرجوع فی قیمة الخمر والخنزیر إلی مستحلیه إنّما یتم إذا لم یکن مقوّما عند فساق المسلمین، أمّا إذا کان مقوّما عندهم جاریا فی معاملاتهم کما هو الحال فی الخمر فی بعض البلدان فلا حاجة إلی الرجوع إلیهم، بل لا وجه إذا اختلفت قیمته عندهم لما یقوم به عند الکفّار.

وکون ذلک ممّا لا قیمة له فی الشریعة لایقضی بانتفاء القیمة العرفیة، فإنّ المعاملات إنّما تجری علی مجری العادات. وکأنّ کلامهم فی المقام محمول علی الغالب، وإلاّ فالمتّجه حینئذ الرجوع إلی قیمته عندهم؛ لابتناء العقد حینئذ علی ذلک، فلا حاجة إلی الرجوع إلی غیرهم، بل لا وجه له مع اختلاف قیمته عندهم لما عندنا»(4).

وخامسة: «ما ذکروه من تقویم الحرّ عبدا متّجه إذا بیع علی أنّه رق فتبیّن حرّا، وأمّا لو بیع علی أنّه حرّ لم یتجه فرض کونه رقّا... لأنْ یفرض فی تقویمه ما لیس فیه.

إلاّ أن یقال: إنّ التقویم مبنیّ علی ذلک، إذ لا قیمة للحرّ فلولا فرضه رقّا لم یقوم فی العادة»(5).

وسادسة: قال الفاضل النراقی فی المستند: «ولا یخفی أن تقویم الخمر والخنزیر عند مستحلّیهما إنّما هو عند علم المتبایعین بکونه خمرا أو خنزیرا، أمّا مع ظنّ کونهما خلاًّ أو شاة فیقوّم مثله لو کان شاةً أو خلاًّ علی ما هو من الأوصاف، ویقع الإشکال فیما لم

ص:435


1- 1 . المسالک 3/163.
2- 2 . المسالک 3/163.
3- 3 . کما یظهر من العلاّمة الجدّ فی تبصرة الفقهاء 3/376.
4- 4 . تبصرة الفقهاء 3/378.
5- 5 . تبصرة الفقهاء 3/377.

یکن اتّحاد الأوصاف»(1).

وکذلک قال العلاّمة الجدّ رحمه الله : «إنّ ما ذکر من تقویم الخمر والخنزیر عند مستحلّیه إنّما یتمّ إذا بیع علی أنّه خمر أو خنزیر، وأمّا لو بیع الخمر علی أنه خلّ مثلاً أو الخنزیر علی أنّه شاة أو بقر فالظاهر تقویم الخمر خلاًّ والخنزیر شاة أو بقرا؛ إذ الثمن إنّما بذل علی ذلک،

فلا وجه لتقویمه خمرا أو خنزیرا.

والظاهر أنّ المفروض فی کلام الأصحاب هو الأوّل، ولذا اعتبروا القیمة علی ما ذکروه»(2).

وتعرض الشیخ الأعظم لهذا الاشکال وقال: «ویشکل تقویم الخمر والخنزیر بقیمتهما إذا باع الخنزیر بعنوان أنّها شاة، والخمر بعنوان أنّها خلّ فبان الخلاف بل جزم بعضٌ هنا بوجوب تقویهما قیمة الخلّ والشاة کالحرّ»(3).

إلی هنا تمّ البحث حول مسائل بیع الفضولی وما یلحق بها وبه تمّ الجزء الثالث من قسم البیع من کتابنا «الآراء الفقهیة» فی ذکری لیلة استشهاد الإمام محمّد بن علی بن الحسین باقرالعلوم - سلام اللّه علیهم أجمعین - السابع من ذی الحجة الحرام سنة 1434 علی ید مُؤَلِّفِهِ العبد هادی النجفی ببلدة إصفهان صانها اللّه تعالی عن الحدثان.

والحمد للّه أوّلاً وآخرا وظاهرا وباطنا وصلی اللّه علی سیّدنا محمّد وآله الأئمة الهداة الطیبین الطاهرین المعصومین لا سیّما خاتمهم الإمام المنتظر الحجة الثانیعشر المهدی - عجل اللّه تعالی فرجه - .

ص: 436


1- 6 . مستند الشیعة 14/300.
2- 1 . تبصرة الفقهاء 3/378.
3- 2 . المکاسب 3/534.

المجلد 7

اشارة

سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -

عنوان و نام پدیدآور : االآراء الفقهیه: قسم البیع/ تالیف هادی النجفی.

مشخصات نشر : تهران: شب افروز، 1393.

مشخصات ظاهری : 448 ص.: نمونه.

شابک : 978-600-92902-8-4

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه: به صورت زیرنویس.

موضوع : معاملات اموال شخصی و منقول (فقه)

موضوع : معاملات (فقه)

رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ36 1393

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : 3555378

ص: 1

اشارة

ص: 2

تقریظ شیخ المراجع

آیة اللّه العظمی الشیخ لطف اللّه الصافی الکلبایکانی - مدظله العالی -

ص: 3

تاریخُ إنهاء الْجُزْءِ السّابِعِ من کِتاب «الآراء الفقهیة» لِمُنَضِّدِ عُقُودِهِ وَمُنْشِیهِ، وَمُحَرِّرِ مُتُوْنِهِ وَحَواشِیهِ، سَماحةِ آیةِ اللّه ِ الفقیهِ المحقِّقِ الشیخِ هادی النجفیِّ - دامَ ظلُّهُ - من نظم فضیلة العلاّمة القدیر المحقّق الحجة الشاعر المُفْلِق السیّد عبدالستار الحسنی البغدادی - دام ظله - :

الحمدُ لِلّهِ الذی جَعَلَ الآراءَ الفِقْهِیَّةَ مِضْمارا لِتَحریرِ ثِمارِ مَدارِکِ الأحکام، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ علی خِیَرَتِهِ مِنْ خلقهِ محمّدٍ وَآلِهِ ساداتِ الاْءنام.

وبعدُ: فَقَد أَطْلَعَنی مُتَفَضِّلاً مولانا سَماحةُ آیةِ اللّه ِ، الفقیهِ المُحَقّقِ والمجتهد(1)

ص: 4


1- 1 . أجازه کلٌّ من الفقهاء الأعلام التالیة أسماؤهم بالاجتهاد المطلق وهم: 1. والده العلاّمة آیة اللّه الشیخ مهدی غیاث الدّین النجفی قدس سره (1355-1422) ثلاثة من تلامیذ المؤسس آیة اللّه العظمی الشیخ عبدالکریم الحائری الیزدی قدس سره وهم: 2. آیة اللّه العظمی الحاج آقا الشیخ رضا المدنی الکاشانی (1321-1412) 3. آیة اللّه المعظم السیّد مصطفی الصفائی الخوانساری (1321-1413) 4. آیة اللّه المحقّق الحاج الشیخ محمّدباقر الکَمَرِئیّ (ح 1321-1416) واثنان من فقهاء أصفهان الخریجان من النجف الأشرف وهما: 5. المرجع الدینی آیة اللّه العظمی الشیخ محمّدتقی المجلسی (1348- معاصر) 6. شیخ العلماء بمدینة أصفهان آیة اللّه الشیخ مجتبی البهشتی (ح 1335- معاصر) وهذا غیر التقاریظ الکثیرة علی هذا الکتاب المصرحة فیها باجتهاد مؤلّفه المنشورة علی موقعه الإلکترونی ALNAJAFI.IR. وکما وصفه المرجع الدینی الکبیر آیة اللّه العظمی الشیخ بشیر النجفی - دام ظله - أحد کبار مراجع النجف الأشرف ب- «صفوة المجتهدین وحامل رایة الفقهاء المصطفین آیة اللّه الشیخ هادی النجفی - دام عزّه -».

النحریر سلیلِ الْفُقَهاءِ الاْءَعاظم، وَالْبُحُوْرِ الْخضارم، العلاّمَةِ النَّیْقَد الْمِسْبَارِ، الأستاذِ الشیخ هادی آل أبی المجد النَّجَفیّ - دام ظِلُّهُ - علی الْجُزْءِ السابع مِنْ مَوْسُوْعَتهِ(1) النّفیسةِ الْمُتْرَعَةِ بِجَواهِر الْفَوائِدِ الْفَرائِد الْمَوْسُوْمَة بِ- (الآراء الفِقْهِیَّة)، فَأَلْفَیْتُهُ حاویا لاِءُمّاتِ(2) الْمَطالب الّتی خاضَ سَماحَتُهُ غِمارَها، کَما فَرَعَ(3) مِنَ الآراء السَّدیدةِ أَبْکارَها، وَسارَ فی مَهْیَعٍ لاحِبِ الْمَعالِمِ وَضّاحِ الصُّوی، مُوْفِیا بِالتَّتَبُّعِ - فیما هُوَ بِسَبِیْلهِ - علی الْغایَة، وَمَنْ کُتِبَ لَهُ التَّوْفیقُ - من المُحَصِّلِیْن - بِالاِطِّلاعِ عَلی هذا الْعِلْقِ الثَّمِیْن، شَهِدَ لِمُحَرِّرِ فُصُوْلِهِ، وَمُلْحِق فُرُوْعِهِ بِأُصُوْلهِ أنَّهُ فی مَجالِ (استنباط الأحکام) وَالصِّیالِ فی مُعْتَرَکِ (النَّقْضِ وَالاْءِبْرامِ): «لَقَوِیٌّ أَمِیْنٌ»(4).

وَقَدْ رَقَمْتُ هذِهِ الطّروسَ علی نَحْوِ الاِبْتِسارِ وَ الإیجازِ؛ لِضَعْفِ الحالِ وَاخْتِلالِ الْمِزاج، مُسْتَمیحا الْعُذْرَ مِنْ سَماحةِ شیخِنا الجلیلِ فی عَدَمِ إِیفاءِ الْبَیانِ حَقَّهُ لِما أَلْمَعْتُ إِلَیْهِ آنِفا، وَبِحَسبی أنْ یکونَ مَاثِلُ شُعُورِی شافِعا لِشاخِصِ قُصُوْرِی.

والسَّلامُ مِسْکُ الخِتام.

ص: 5


1- 1 . استعملتُ عِبارةَ (الموسوعة) مُجاراةً لأسالیب المُتَأَخِّرِین مَعَ أَنَّ التحقیقَ اللُّغَوِیَّ یأْباها فیما اصْطَلَحَ عَلَیْهِ الْعَصْرِیُّوْن.
2- 2 . قال بعض أئمّةِ اللُّغة: إِنَّ الاْءُمَّهاتِ للنّاس، وَالاْءُمّات لِغَیْرِهم وقد یُستعمل (الأُمّات) فی النّاس أیضا.
3- 3 . فَرَعَ: افْتَضَّ، والکلامُ مَبْنِیٌّ علی الاِسْتِعارَةِ المَکْنِیَّةِ.
4- 4 . سورة النمل /39.

وَزْنُ الأَبیاتِ مِنَ (الکامل)

قَدْ أَتْحَفَ الْفُقَهاءَ (هادِیْنا) إِلی نَهْجِ الْهُدی الْمُتأَلِّقِ الْوَضّاءِ

إذْ زَفَّ مِنْ سِفْرِ الْبُحُوثِ الْمُحْتَوِیْ لُبَّ الْفَقاهَةِ سابعَ الاْءَجزاءِ

أَعْظِمْ بِمِضْمارٍ لَهُ بِمَسائِلِ اسْ تِدْلالهِ أَوْفی عَلی النُّظَراءِ

حَیْثُ اغْتَدی لِذَوِیْ التَّتَبُّعِ مَنْجَما جَلَّتْ (مَکاسِبُهُ) عَنِ الاْءِطْراءِ

فِیْهِ قَدِ انْبَجَسَتْ عُیُوْنُ مَعارِفٍ بِمَعِیْنِها الْمُتَدَفِّقِ الْمِعْطاءِ

وَبِمَدِّها الْفِکْرُ الاْءَصِیْلُ قَدِ ارْتَوی رَِیّا، وَأَثْری أَیَّما إِثْراءِ

بِأَبِیْ عَلِیٍّ أَسْفَرَتْ صَفَحاتُهُ بِفَرائِدِ التَّحْقِیْقِ مِثْلَ ذُکاءِ(1)

وَتَبَلَّجَتْ بالنُّوْرِ فی إِشْراقِها أَحْکامُ شِرْعَةِ أَحْمَدَ الْغَرّاءِ

هُوَ عَیْلَمٌ(2) جَمَعَ الْجَواهِرَ وَازْدَهَتْ فِیْهِ (حدائِقُ) (رَوْضَةٍ) غَنّاءِ

أَقْصی الْعَنا قَدْ زالَ مُذْ أَرَّخْتُهُ: «سِفْرٌ أَضاءَ بِأَمْیَزِ الاْآراءِ»

(-1) (340) + (803) + (60) + (34)

1436=1-1437ه.ق

العبد الآبق الأقلُّ عَبدالستار عَفا عَنْهُ الملیکُ الغَفّار

ص: 6


1- 1 . ذُکاء بضم الذال المعجمة: من أسماء الشمس.
2- 2 . العَیْلَم بتقدیم الیاء علی اللام: من أسماء البحر.

فَصْلٌ: الولایات

اشارة

ص: 7

البحث حول الولایات ینعقد فی ثلاثة أجزاء:

1- ولایة الأب والجدّ

2- ولایة الفقیه

3- ولایة عدول المؤمنین

وکلّها تکون بجعل الشارع الأقدس بحیث لو لم یَجْعَلْها لا یجوز لهم التصرف فی مال الغیر وأُموره، فلنبحث حول هذه الأجزاء بالاستقلال وعلیه تعالی الاِتِّکال، والهدِایَةُ إلی إصابَةِ شاکِلَة الصَّوابِ فی جمیع الأحوال.

ص: 8

تمهیداتٌ:

الأوّل: الإنسان تارة یتصرف فی ماله مباشرة، وأُخری یتصرف فی مال غیره

الأوّل: الإنسان تارة یتصرف فی ماله مباشرة، وأُخری یتصرف فی مال غیره والتصرف فی مال الغیر ینقسم إلی أقسام:

أ: یتصرف فی مال غیره بإذن مالکه من قبل التصرف وهذا یسمّی الوکالة ونحوها.

ب: یتصرف فی مال غیره بإجازة مالکه اللاحقة من بعد التصرف وهذا یسمّی الفضولی

ج: یتصرف فی مال غیره من دون الإذن السابق أو الإجازة اللاحقة بل من باب الولایة التی جعلها الشارع له فی هذا المال. وهذا الأخیر هو بحثنا الحاضر أعنی الولایات.

الثانی: الولایة فی اللغة

قال الخلیل بن أحمد الفراهِیْدِیُّ: «ولی: الولایة: مصدرُ المُوالاة، والولایة مصدر الوالی، والولاء: مصدر المَوْلَی.

والمَوالی: بنو العمّ... والمَوالی من أهل بیتِ النّبیّ صلی الله علیه و آله مَنْ یحرم علیه الصّدقة.

والمَوْلَی: المُعْتِق والحلیف والولیّ.

والولیّ: ولیّ النِّعم. والموالاة: اتّخاذُ المولی، والموالاة، أیضا: أن یَولیَ بینَ رَمْیَتَیْن أو فعلین فی الأشیاء کلها. وتقول: أصبته بثلاثة أسهم ولاءَ و[تقول] علی الولاء أی:

ص: 9

الشّیء بَعْدَ الشَّیء»(1).

وقال ابن فارس: «(ولی) الواو واللام والیاء: أصلٌ صحیح یدلُّ علی قرب. من ذلک الوَلْیُ: القرْب. یقال: تَبَاعَدَ بعد وَلْی، أی قُرْبٍ. وجَلَسَ ممّا یَلِینی، أی یُقارِبُنی. والوَلِیُّ: المَطَر یجیءُ بعد الوَسْمیّ، سمِّی بذلک لأنَّه یلی الوسمِیّ(2).

ومن الباب المَوْلی: المُعْتِقُ والمُعْتَق: والصَّاحب، والحلیف، وابن العَمّ، والنَّاصر، والجار؛ کلُّ هؤلاء من الوَلْیِ وهو القُرْب. وکلُّ مَن ولِیَ أمرَ آخرَ فهو ولیُّه. وفلانٌ أولی بکذا، [أی أحری به وأجدر. فأمَّا قولهم فی الشتم: أولی لکَ فحدّثنی علی بن عمر قال: سمعت ثعلبا(3)] یقول: أولی تهدُّد ووعید... والباب کلّه راجع إلی القرب»(4).

وقال الزمخشری: «و ل ی - وَلِیَهُ وَلْیا: دنا منه، وأولیتُه إیّاه: أدنیته. وکُلْ ممّا یلیک، وجلستُ ممّا یلیه. وسقط الولیُّ وهو المطر الذی یلی الوسمیّ.

وقد وُلِیَتِ الأرضُ، وهی مَوْلِیَّةٌ. ووَلیَ الأمرَ وتولاّهُ، وهو وَلِیُّه ومولاه، وهو ولیّ الیتیم وولیّ القتیل وهم أولیاؤه. ووَلِیَ وِلایة. وهو والی البلد وهم ولاته. ورحم اللّه تعالی وُلاةَ العدل.

واستولی علیه. وهذا مولایَ: ابن عمّی، وهم مَوالیُّ. ومَولای: سیّدی وعبدی. ومَولّیً بیِّن الولایة: ناصر. وهو أولَی به. ووالاه موالاة ووالی بین الشیئین، وهما علی الولاء. وتقول العرب: والِ غنمک من غنمی أی اعزلها ومیّزها، وإذا کانت الغنم ضأنا ومِعزًی، قیل: والِها»(5).

وقال ابن الأثیر: «(ولا) فی أسماء اللّه تعالی «الوَلِیّ» هو النَّاصر. وقیل: المُتوَلّی لأمور العَالَم والخَلائِق القائِمُ بها.

ص: 10


1- 1 . کتاب العین /1068.
2- 2 . الوسْمیُّ: مَطَرُ أوّلِ الربیع. راجع لسان العرب 12/636.
3- 3 . التکملة من المجمل.
4- 4 . معجم مقاییس اللغة 6/141 و 142.
5- 5 . أساس البلاغة /509.

ومن أسمائه - عزّ وجلّ - «الوالیِ» وهو مَالِک الأشیاء جَمِیعها، المُتَصَرِّفُ فیه. وکأنّ الوِلایَة تُشْعِرُ بالتَّدْبِیر والقُدْرة والفِعْل، وما لم یَجْتَمِعْ ذلک فیها لم یَنْطَلِقْ عَلیه اسْمُ الوالیِ.(1)

... وقد تکرر ذکر «المَوْلَی» فی الحدیث، وهو اسْمٌ یَقع علی جَماعةٍ کَثِیرَة، فهو الرَّبُّ، والمَالکُ، والسَّیِّد، المُنْعِم، والمُعْتِقُ، والنَّاصِر، والمُحِبّ، والتَّابِع، والجارُ، وابنُ العَمّ، والحَلِیفُ، والعَقِید، والصِّهْر، والعَبْد، والمُعْتَقُ والمُنْعَم عَلَیه. وأکْثرها قد جاءت فی الحدیث، فَیُضافِ کُلّ واحِدٍ إلی ما یَقْتَضِیه الحدیثُ الوَارِدُ فیه. وکُلُّ مَن وَلِیَ أمْرا أو قام به فَهُو مَوْلاَهُ وَوَلِیُّه. وقد تَخْتَلِف مَصادرُ هذه الأسْماء. فالوَلایَةُ بالفَتْح، فی النَّسَب والنُّصْرة والمُعْتِق. والوِلاَیة بالکسْر، فی الإمَارة. والوَلاَءُ، المُعْتَق والمُوَالاَةُ مِن وَالَی القَوْمَ.

ومنه الحدیث «مَن کُنْتُ مَوْلاه فَعَلِیٌّ مَوْلاَه» یُحْمَل(2) علی أکْثر الأسْماء المَذْکورة.

قال الشَّافِعی - رضی اللّه عنه - : یَعْنی بذَلِک وَلاَء الإسْلام، کقوله تعالی: «ذلِکَ بِأَنَّ اللّهَ مَوْلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَأَنَّ الْکافِرِینَ لا مَوْلی لَهُمْ»(3).

وقول عمر لعَلیّ «أصْبَحْتَ مَوْلَی کُلِّ مُؤْمِن» أی ولِیَّ کُلِّ مُؤْمن.

وقیل: سبَب ذلک أنَّ أُسامةَ قال لِعَلِیِّ: لَسْتَ مَوْلایَ، إِنَّما مَوْلای رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال صلی الله علیه و آله : «مَنْ کُنْتُ مَوْلاهُ فعَلیٌّ مَوْلاه»(4).

أقول: وهذا باطِلٌ لا مَقِیْلَ له مِن الصِحَّة. والصحیحُ أنَّ ذلک بأمْرٍ مِن اللّه تعالی و «المولی» مُشْتَرَکٌ مَعْنَوِیٌّ ولَیْسَ مُشْتَرَکا لَفظِیّا علی التحقیق.

وقد اعترف أبوالثناء الآلوسی (ت 1270ق) مع مکابرتِه حتّی فی البدیهیّات أنّ

ص: 11


1- 1 . النهایة فی غریب الحدیث والأثر 5/227.
2- 2 . فی الهروی: «قال أبوالعباس: أی من أحبّنی وتولاّنی فلْیَتَولَّهْ. وقال ابن الأعرابی: الوَلِیّ: التابع الُمحِبّ».
3- 3 . سورة محمّد /11.
4- 4 . النهایة فی غریب الحدیث والأثر 5/228.

«المولی» یأتی بمعنی «الأوْلی» قال فی «روح المعانی»: ««مولاهم»(1): أی مالکهم الذی یلی أمورهم علی الإطلاق»(2).

وقال الراغب: «ولی: الوَلاَء والتَّوالی أنْ یحْصُلَ شَیْئَانِ فَصاعِدا حُصُولاً لیس بَینهما ما لیسَ منهما، وَیُسْتَعارُ ذلک للقُرْبِ من حیثُ المکانُ ومن حیثُ النِّسْبةُ ومن حیثُ الدِّینُ ومن حیْثُ الصَّداقةُ والنُّصرةُ والاعتِقادُ، والوِلایةُ النُّصرةُ، والوَلایةُ تولیِّ الاْءمرِ، وقیلَ الوِلایةُ والوَلایةُ نحوُ الدِّلالةِ والدَّلالةِ، وحقیقتُهُ تَولِّی الأمرْ.

وَالوَلِیُّ والموْلَی یُسْتعملان فی ذلک کلُّ واحِدٍ منهما یقالُ فی معنی الفَاعِل أی المُوالی، وفی معنی المَفعولِ أی المُوالَی، یقالُ للمُؤْمنِ هو وَلِیُّ اللّه ِ - عزَّ وجلَّ - ولم یَرِدْ موْلاهُ، وقد یقالُ: اللّه ُ تعالی وَلِیُّ المُؤْمِنینَ وَمَوْلاهُمْ»(3).

وقال الفیومی: «الوَلْیُ: مِثْلُ فَلْسِ الْقُرْبُ وَفِی الْفِعْلِ لُغَتَانِ أَکْثَرُهُمَا (وَلِیَه) (یَلِیهِ) بَکَسْرَتَیْنِ والثَّانِیَةُ مِنْ بَابِ وَعَدَ وَهِیَ قَلِیلَةُ الاسْتِعْمَالِ وَجَلَسْتُ مِمَّا (یَلِیهِ) أیْ یُقَارِبُهُ وَقِیلَ (الْوَلْیُ) حُصُولُ الثَّانِی بَعْدَ الاْءَوَلِ مِنْ غَیْرِ فَصْلٍ وَ (وَلِیتُ) الأمْرَ (أَلِیهِ) بِکَسْرَتَیْنِ (وِلاَیَةً) بِالکَسْرِ (تَوَلَّیْتُهُ) و (وَلِیتُ) البَلَدَ وَعَلَیْهِ و (وَلِیتُ) عَلَی الصَّبیِّ والمَرْأَةِ فَالْفَاعِلُ (والٍ) والْجَمْعُ (وُلاَةٌ) والصَّبِیَّ والْمَرْأَةُ (مَوْلِیٌّ) عَلَیْهِ وَالاْءَصْلُ عَلَی مَفْعُولٍ و (الْوَلاَیَةُ) بِالْفَتْحِ والْکَسْرِ النُّصرَةُ وَ (اسْتَوْلَی) عَلَیْهِ غَلَبَ عَلَیْهِ وتَمَکَّنَ مِنْهُ و (الْمَوْلَی) النَّاصِرُ و (الْمُوَالاَة) و (المَوْلَی) ابْنُ الْعَمِّ و (الْمَوْلَی) العَصَبَةُ و (الْمَوْلَی) النَّاصِرُ و (الْمَوْلَی) الحَلِیفُ وَهُوَ الَّذِی یُقَالُ لَهُ (مَوْلَیَ المُوَالاَة) و (المَوْلَی) الْمُعْتِقُ وَهُوَ (مَوْلَی النِّعْمةِ) و (المَوْلَی) الْعَتِیقُ وَهُمْ (مَوَالی) بَنی هاشِمٍ أَیْ عُتَقَاؤُهُمْ و (الْوَلاَءُ) النُّصْرَةُ لکِنَّهُ خُصَّ فی الشَّرْعِ (بِوَلاَء) الْعِتْقِ و (وَلَّیْتُهُ) (تَوْلِیَةً) جَعَلْتُهُ وَالِیا وَمِنْهُ بَیْعُ (التَّوْلِیَةِ) و (وَالاَهُ) (مُوَالاَةً) و (وِلاَءً) مِنْ بَابِ قَاتَلَ تَابَعَه و (تَوَالَتِ) الاْءَخْبَارُ تَتَابَعَتْ و (الْوَلِیُّ) فَعِیلٌ بِمَعْنَی فَاعِلٍ مِنْ (وَلِیَهُ) إذَا قَامَ بِهِ وَمِنْهُ «اللّه ُ وَلِیُّ

ص: 12


1- 1 . سورة الأنعام /62.
2- 2 . روح المعانی 7/230 من الطبعة الحدیثة و 7/177 من الطبعة القدیمة.
3- 3 . المفردات /570.

الّذِینَ آمنُوا» والْجَمْعُ (أَوْلِیَاءُ)»(1).

وقال ابن منظور: «ولی: ... ابن سیّده: وَلیَ الشیءَ ووَلیَ علیهِ وِلایةً ووَلایةً، وقیل: الوِلایة الحُطة کالإمارة، والوَلایةُ المصدر. ابن السکیت: الوِلایة، بالکسر، السلطان، والوَلایةُ والوِلایة النُّصرة. ویقال: هم علیَّ وَِلایةٌ أَی مجتمعون فی النُّصرة. وقال سیبویه: الوَلایة، بالفتح، المصدر، والوِلایة، بالکسر، الاسم مثل الإمارة والنِّقابة، لأَنّه اسم لما توَلَّیته وقُمْت به فإذا أَرادوا المصدر فتحوا.

... وقال الزّجّاج: یقرأُ وَلایتِهِم ووِلایَتِهم، بفتح الواو وکسرها، فمن فتح جعلها من النصرة والنسب، قال: والوِلایةُ التی بمنزلة الإمارة مکسورة لیفصل بین المعنیین، وقد یجوز کسر الولایة لأَن فی تولی بعض القوم بعضا جنسا من الصِّناعة والعمل، وکل ما کان من جنس الصِّناعة نحو القِصارة والخِیاطة فهی مکسورة. قال: والوِلایةُ علی الإیمان واجبة، المؤمنون بعضُهم أَولیاء بعض، وَلیٌّ بیِّن الوَلایة وَوالٍ بیِّن الوِلایة.

... وروی ابن سَلاّم عن یونس قال: المَوْلی له مواضع فی کلام العرب: منها المَوْلی فی الدِّین وهو الوَلِیُّ وذلک قوله تعالی: ذلک بأَنَّ اللّه َ مَوْلی الذین آمنوا وأنَّ الکافرین لا مَوْلی لهم؛ أَی لا وَلِیَّ لهم، ومنه قول سیّدنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله : مَنْ کُنتُ مَؤلاه فعلیٌّ مَؤلاه أَی مَن کنتُ وَلِیَّه.

... وروی أَنَ النبی صلی الله علیه و آله ، قال: مَن تَوَلاَّنی فلْیَتَوَلَّ عَلِیّا؛ معناه من نَصَرَنی فلیَنْصُرْه... وقوله صلی الله علیه و آله : اللهم والِ مَن والاه أَی أَحْبِبْ مَنْ أَحَبَّه وانْصُرْ من نصره»(2).

وقال الطریحی: «قوله: «اَوْلَی النَّاسِ بِإبْراهیم» یعنی أحقّهم به وأقربهم منه من الولی وهو القرب... والولایة أیضا النّصرة وبالکسر الأمارة مصدر ولیّت ویقال: هما لغتان بمعنی الدُولة... وفیه بُنی الإسلام علی خمس منها الولایةٌ الوَلایة بالفتح محبّة أهل البیت علیهم السلام واتباعهم فی الدّین وامتثال أوامرهم ونواهیهم والتّاسیّ بهم فی الأعمال

ص: 13


1- 1 . المصباح المنیر /672.
2- 2 . لسان العرب 15/407 و 408 و 409.

والأخلاق وأمّا معرفة حقّهم واعتقاد الأمامة فیهم فذلک من اُصول الدّین لا من الفروع العملیّة والوَلیّ من أسمائه تعالی وهو الناصر ینصر عباده المؤمنین، وقیل: المتولیّ لأمُور العالم والخلایق القائم بها وأصل الکلمة من الولی وهو القرب»(1).

الثالث: الولایة فی مصطلحها الفقهی

الوِلایة - بکسر الواو - فی المصطلح الفقهی عبارة عن السلطة علی الغیر أو تنفیذ القول علی الغیر أو، التصرف فی الأنفس أو الأموال أو کلاهما بحکم العقل أو الشرع بالإصالة أو بالعرض.

والمراد بالولایة الأصلیة هی الولایة المجعولة العقلیة أو الشرعیة لشخص خاص نحو ولایة الأب والجدّ، والمراد بالولایة العرضیة هی الولایة التی تنتقل من شخص إلی آخر نحو ولایة الوصی والقیم من جانب الأب أو الجدّ.(2)

الرابع: مقتضی الأصل فی الولایة

الأصل الأوّلی عدم ولایة أحد علی أحد وعدم نفوذ حکمه فیه، فإنّ الناس خُلقوا أحرارا وهم بحسب الخِلْقة والفِطْرة مسلّطون علی أنفسهم وأموالهم. فالتصرف فی شؤونهم وأموالهم یکون مخالفا لهذا الأصل الأوّلی.

وفی رسالة أمیرالمؤمنین علیه السلام لنجله الإمام الحسن علیه السلام ورد: «لا تکن عبد غیرک وقد جعلک اللّه حرّا»(3).

ولذاقال الشیخ الأعظم: «مقتضی الأصل عدم ثبوت الولایة لأحد»(4).

الخامس: قبل الورود فی البحث لابدّ من نقل مقال المحقّق النائینی ونقده:
اشارة

ص: 14


1- 1 . مجمع البحرین /97 و 98 من الطبعة الحجریة.
2- 2 . راجع فی هذا المجال: بلغة الفقیه 3/210، التنقیح فی شرح المکاسب 2/156، الحاکمیة فی الإسلام /174.
3- 3 . نهج البلاغة، الکتاب 31.
4- 4 . المکاسب 3/546.
مقالة المحقّق النائینی ونقده
اشارة

قال قدس سره فی دورته الأُولی: «هذه المسألة من فروع مسألة شروط المتعاقدین، حیث قال: ومن شروطهما: أن یکونا مالکین، أو المأذونین من المالک أو الشارع، فالمأذون من المالک هو الوکیل، والمأذون من الشارع هو من له الولایة علی التصرّف فی مال الغیر، والولایة علی أقسام:

قسم منها ذاتیّ، ویعبّر عنه بالإجباریّ، وهو ولایة الأب والجدّ علی [الصغیر و[ الیتیم وماله، وثبوتها لهما فی الجملة ضروریّ یطّلع علیه المتتبّع فی الأبواب المتفرّقة.

ففی باب الوصیّة: ینفذ إذن الوالد فی المضاربة بمال ولده الصغیر بحیث لا ضمان علی المأذون.

وفی باب الحجر: ولیّ الطفل قبل البلوغ والمتصرّف فی ماله هو الأب والجدّ.

وفی باب النکاح: ینفذ عقد الأب والجدّ علی الصغیر.

وقسم منها مجعول بجعلٍ شرعیٍّ تعبّدیٍّ: کولایة الحاکم.

وقسم منها مجعول بجعلٍ خَلْقیٍّ: کولایة القیّم من قبل الأب والجدّ بعد موتهما علی الصغیر»(1).

ویرد علیه: الولایة الذاتیة مختصة بذات ذی الجلال والإکرام ولا تکون إلاّ له

ویرد علیه(2): الولایة الذاتیة مختصة بذات ذی الجلال والإکرام ولا تکون إلاّ له تعالی ومنحصرة بذاته سبحانه، وأمّا ولایة الأب والجدّ فمجعولة بجعل شرعی ولکن موضوعها ذاتیٌّ لأنّ الاُبوّة والبنوّة ذاتیتان تکوینیتان وغیر مَجْعُولَتَیْنِ. ولا فرق بین الولایات الثَّلاثِ فی أنّها مجعولة بجعل شرعی من قبل الشارع الأقدس.

ولعلّ المحقّق النائینی رحمه الله التفت إلی هذا الإشکال وعدل عن مقالته وقال فی دورته الثانیة من بحث البیع: «... إنّ الاولیاء المتصرفین فی الأُمور الراجعة إلی القاصرین طوائف مترتبة لا یجوز للمتأخر منهم التصرف مع وجود المتقدم الأُولی الأب والجدّ ولا إشکال

ص: 15


1- 1 . منیة الطالب 2/225 و 226.
2- 2 . المورد هو الاستاذ المحقّق - مد ظله - فی العقد النضید 4/162.

فی ولایتهما علی الصبی والمجنون فی الجملة وأنّ ولایتهما تکون بجعل إلهی فیکون کلُّ واحد منهما ولیّا إجباریا من قبل الشارع»(1).

أقول: لعل مراد النّائینیّ من الذاتی لیس فی مقابل غیر الذاتی فی باب الإیساغوجی بل مراده من الذاتی هو الإجباری أی اللزومی کما فسّره کذلک.

یمکن أن نَسْتَنْتِجَ من هذا التمهید أمورا:

أ: الأصل الأوّلی عدم ثبوت ولایة أحدٍ علی أحد، فبالنتیجة الولایة تحتاج إلی دلیل قطعی حتّی تثبت.

ب: الولایات کلّها بجعل شرعی إلاّ ولایة اللّه تعالی فإنّها ذاتیّة لأنّه - عزّ وجلّ - خالق للکون والخالق والربّ هو الولی.

ج: الولایات بعضها فی طول بعض مثلاً مع وجود الأب أو الجدّ لا تثبت للفقیه الولایة علی أموال الأیتام والقُصَّر. ومع وجود الفقیه لا تثبت الولایة لعدول المؤمنین.

ص: 16


1- 1 . المکاسب والبیع 2/330.

الأوّل: ولایة الأب والجدّ

اشارة

استدلّ الشیخ الأعظم(1) فی إثبات ولایة الأب والجدّ بأدلة ثلاثة:

الدلیل الأوّل: الإجماع

الوارد فی کلمات القوم نحو الشیخ فی وکالة الخلاف(2) والمبسوط(3)، وحُکی(4) من منتهی المطلب(5) للعلاّمة، والأردبیلی فی مجمع الفائدة(6) وسیّدی الریاض(7) والمفتاح(8).

وفیه: ثبوت الإجماع حتّی المُحَصَّل منه فی المقام مسلَّمٌ بل المسألة من ضروریات الفقه(9) ولکن احتمال المدرکیتة یسقطه عن الاعتبار، لإمکان استناد المجمعین إلی الروایات الواردة فی المقام.

الدلیل الثانی: الروایات المستفیضة
اشارة

فی الأبواب المختلفة من الفقه نحو:

باب أنّ من اتّجر بمال الطفل وکان ولیّا له استحب له تزکیته... .(10)

ص: 17


1- 1 . المکاسب 3/535.
2- 2 . الخلاف 2/381.
3- 3 . المبسوط 3/346.
4- 4 . الحاکی هو المحقّق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان 8/165.
5- 5 . منتهی المطلب 8/26.
6- 6 . مجمع الفائدة والبرهان 8/157.
7- 7 . ریاض المسائل 8/220.
8- 8 . مفتاح الکرامة 12/670.
9- 9 . کما فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/136.
10- 10 . وسائل الشیعة 9/87، الباب 2 من أبواب من تجب علیه الزکاة.

باب حکم الأخذ من مال الولد والأب.(1)

باب جواز تقویم الأب جاریة البنت والإبن الصغیرین ووطئها بالملک إذا لم یکن وطأها الإبن.(2)

باب جواز بیع الولی کالأب والجدّ للأب مال الیتیم وجواریه مع المصلحة وإن لم یوص إلیه وجواز شراء منه.(3)

باب ثبوت الحجر عن التصرف فی المال علی الصغیر والمجنون والسفیه حتّی تزول عنهم الموانع.(4)

باب أنّ من أذن لوصیّه فی المضاربة بمال ولده الصغار من غیر ضمان جاز له ذلک ولم یضمن.(5)

باب ثبوت الولایة للأب والجدّ للأب خاصة مع وجود الأب لا غیرهما علی البنت غیر البالغة الرشیدة وکذا الصبی.(6)

باب ثبوت الولایة للجدّ للأب فی حیاة الأب خاصة علی الصغیرة فإن زوّجاها صح عقد السابق وإن اقْتَرنا صحَّ عقد الجدّ.(7)

باب أنّه لا یجوز للرجل أن یطأ جاریة ولده إلاّ أن یتملکها أو یحللها له مالکها مع عدم وط ء الولد لَها، وأنّه یجوز أن یقوم أمة ولده الصغیر ویشتریها ویطأها.(8)

ص: 18


1- 1 . وسائل الشیعة 17/262، الباب 78 من أبواب ما یکتسب به.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/267، الباب 79 من أبواب ما یکتسب به.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/361، الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.
4- 4 . وسائل الشیعة 18/409، الباب 1 من أبواب کتاب الحجر.
5- 5 . وسائل الشیعة 19/427، الباب 92 من أبواب کتاب الوصایا.
6- 6 . وسائل الشیعة 20/275، الباب 6 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد.
7- 7 . وسائل الشیعة 20/289، الباب 11 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد.
8- 8 . وسائل الشیعة 21/140، الباب 40 من أبواب نکاح العبید والإماء.
مناقشة المحقّق الإیروانی فی دلالة الروایات المستفیضة ونقدها

قال قدس سره : «إلاّ أنّ الأخبار المذکورة لیس عنوانهانفوذ معاملات الأب فی حقّ ابنه، وإنّما عنوانها جواز استیلاء الأب علی مال ابنه وأکله منه وتصرّفه فیه استقالاً تصرّفَ الملاّک فی أملاکهم، لا التصرّف فیه لأجل ابنه بعنوان الولایة علیه، بل مورد کثیر من الأخبار هو تصرّف الأب فی مال ولده البالغ ومساقها مساق آیة لا جناح علیکم: «أَنْ تَأْکُلُوا مِنْ بُیُوتِکُمْ أَوْ بُیُوتِ آبائِکُمْ أَوْ بُیُوتِ أُمَّهاتِکُمْ»(1) إلی آخر الآیة.

وفی بعض تلک الأخبار التعلیل بقول رسول اللّه صلی الله علیه و آله لرجل: «أنت ومالک لأبیک»(2)، وفی جملة من الأخبار تقیید جواز الأکل بصورة الاضطرار والحاجة، وقد حملت هذه الأخبار علی الأخذ بمقدار النفقة الواجبة علی الولد، وفی روایة ابن سنان(3) المنع عن الأخذ إذا کان الولد ینفق علیه بأحسن النفقة فتکون هذه الروایة شاهدة علی الحمل المذکور.

وعلی کلّ حال الأخبار أجنبیّة عمّا هو المدّعی فی المقام، والتمسّک بفحواها للمقام موقوف علی العمل بإطلاقها فی موردها وعدم حملها علی ما ذکرناه من المحمل»(4).

أقول: یرد علیه: أوّلاً: بأنّ الروایات الواردة فی المقام لا تختص بما ذکره المحقّق الإیروانی فقط؛ لأنّ وجود هذا المحمل فی هاتین الروایتین وارد ولکن قد ذکرنا لک تسعة أبواب من الروایات فی المقام ومحمله لا تجری فیها.(5)

وثانیا: ولایة الأب والجدّ تکون أمرا عرفیّا طبیعیّا حاصِلاً فی جمیع المِلَلِ(6)

ص: 19


1- 1 . سورة النور /61.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/262، ح1، صحیحة محمّد بن مسلم.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/263، ح3، صحیحة أو حسنة عبداللّه بن سنان.
4- 4 . حاشة المکاسب 2/362.
5- 5 . راجع العقد النضید 4/164.
6- 6 . کما علیه الفقیه الشریعتمداری فی تقریر أبحاثه 4/15.

والنِّحَلِ بل السیرة العقلائیة قائمة علیها کما سیأتی لاحِقا، فما ورد من الروایات المستفیضة الدالة علیها یستفاد منها إمضاء الشارع فقط دون التأسیس ولذا لم ترد آیة أو روایة مستقلة دالة علیها علی نحو التنصیص والتصریح والاستقلال لعدم الحاجة إلی تأسیسها وإثباتها شرعا.

الدلیل الثالث: فحوی سلطنتهما علی بُضْعِ البنت فی باب النکاح

(1)

بتقریب: إنّ بضع البنت أهمّ من أموالها فإذا ثبتت للأب والجدّ الولایةُ علی بضعها ونکاحها فبالأولویة القطعیة تثبت لهما الولایة علی أموالها.

لا یقال: ناقش الشیخ الأعظم فی الاستدلال علی صحة بیع الفضولی بفحوی الروایات الدالة علی صحة نکاح الفضولی کما مرّت مناقشته فی هذا الکتاب(2)، وقال: «امضاء العقود المالیة یستلزم إمضاء النکاح دون العکس»(3). فهذه المناقشة بعینها تجری فی المقام، وفحوی سلطنتهما علی بضع البنت لا تثبت ولایتهما علی أموالها.

لأنّا نقول: أوّلاً: مرّ جوابنا عن مناقشة الشیخ الأعظم قدس سره فراجع ما حررناه هناک.(4) فالمناقشة مردودة عندنا حتّی بالنسبة إلی بیع الفضولی.

ثانیا: إنّ الشارع إذا جعل الولایة للأب والجدّ فی تزویج البنت، وهذا التزویج هو تصرف وتسلیط علی أهمّ شؤونها و ربّما یَطُوْلُ أمدا بعیدا أو مادامَت الحیاة، فبطریق أولی یجعل الشارع الولایة لهما فی التصرف والتسلیط علی أموالها التی لیست بهذه الاْءَهَمِیَّةِ ولم تکن مادامَت الحیاة أو أمدا بعیدا. «وهذه الأولویة ملحوظة فی مقام الجعل والتسبیب لا فی مقام العمل بعد وقوعه کما فی الأولویة فی باب الفضولی»(5).

وثالثا: المناقشة تجری «فیما إذا تحقّق فی الخارج نکاح فضولی وبیع فضولی أو

ص: 20


1- 1 . المکاسب 3/535.
2- 2 . الآراء الفقهیة 5/205.
3- 3 . المکاسب 3/358.
4- 4 . الأراء الفقهیة 5/206 وما بعدها.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/137.

فرض تحقّقهما، فالحکم بصحّة الأوّل لا یدلّ بالفحوی علی الحکم بصحّة الثانی، وأمّا جعل الولایة للأب والجدّ علی إیجاد نکاح البنت وإنشائه ابتداءً، فهو یستلزم ولایته علی التصرّف فی أموالها بالأولویّة بلا إشکال، فلا یقاس أحد المقامین بالآخر»(1).

الدلیل الرابع: السیرة العقلائیة
اشارة

السیرة القطعیة العقلائیة جاریة فی الأزمنة والأمکنة والأعصار والأمصار علی اختلاف مِلَلِهِم ونحلهم علی جواز تصرفات الأب والجدّ فی أموال أولادهما وثبوت الولایة لهما علیها ولم یثبت ردع شرعی عنها بل ورد إمْضاؤُها فی الشریعة المقدسة بالروایات المستفیضة الواردة فی الأبواب التسعة الماضیة.

بتقریب آخر: «عملُ العرف وطبعُ النّاسِ فی جوازِ ولایتهما عَلی الطّفل حیث انّهما یُسلّطانِ عَلی الطّفل بالطّبعِ ویتصرّفانِ فی ماله أیضا بالطّبع ولذا لا تختصّ هذِهِ المسألة بالإسلامِ بل کانت حاصلةً فی جمیعِ المللِ والنّحلِ.

وحیث کانت المسألة أمرا عرفیّا طبیعیا حاصلة فی جمیعِ الملل، لیس لأصل المسألة دلیلٌ مستقیمٌ فلم ترد روایةٌ أو آیةٌ دالّةٌ علی ولایةِ الأب والجدٌّ مستقیما لعدم الحاجة إلی إثباتها. نَعم: وردت روایاتٌ فی الأبواب المختلفة یُستفادُ منها إمضاءُ الشّارع وِلایةَ الأب والجدّ»(2).

وهذا الدلیل غیر مذکور فی کلام الشیخ الأعظم ولکنّه قطب رَحی الولایة لهما ولذا ذکرتُهُ بتقریبین والحمدللّه.

ثمّ إنّ هنا مسائل لابدّ من البحث حولها:
المسألة الأولی: عدم اعتبار العدالة فی ولایتهما
اشارة

ذهب المشهور(3) من أصحابنا - قدس اللّه أسرارهم - إلی عدم اعتبار العدالة فی

ص: 21


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/8.
2- 2 . تقریر أبحاث الفقیه الشریعتمداری 4/15.
3- 3 . المکاسب 3/535.

ولایة الأب والجدّ ولکن خالفهم ابن حمزة فی الوسیلة(1) وفخرالمحقّقین فی الإیضاح.(2)

واستدلّ الشیخ الأعظم علی ما ذهب إلیه المشهور من عدم اعتبار العدالة بأدلة ثلاثة.

الدلیل الأوّل: الإجماع

الإجماع المدّعی فی کلام العلاّمة حیث یقول: «الفسق لا یسلب ولایة النکاح عند علمائنا أجمع، فللفاسق أن یزوِّج ابنته الصالحة البالغة بإذنها والصغیرة والمجنونة مطلقا وبه قال مالک وأبوحنیفة والشافعی فی أحد القولین وأحمد فی إحدی الروایتین»(3).

مضافا إلی إنّ الإجماع إذا کان موجودا فی ولایة الأب الفاسق أو الجدّ کذلک علی بضع البنت فبطریق الأولویة یکون موجودا فی ولایتهما وإنْ کانا فاسقَیْن علی أموالها وإذا کان موجودا فی الأموال کان موجودا فی غیرها لعدم القول بالفصل.

ویرد علیه: أوّلاً: بأنّ هذا الإجماع منقول ولا یمکن تحصیله لعدم عنوان المسألة فی کتب الأصحاب قدیما.

وثانیا: یمکن أن یکون الإجماع مدرکیّا بحیث یستفاد من الأدلة التی تاتی فی المقام واحتمال المدرکیة یسقطه عن الاعتبار.

وثالثا: قد عرفت وجود المخالف فی المسألة وهما ابن حمزة وفخر المحققین ومع وجود المخالف کیف ینعقد الإجماع؟

الدلیل الثانی: الإطلاقات

الإطلاقات الواردة فی الأبواب التسعة من الروایات المستفیضة التی مرّت الإشارة إلی محلّها لعدم التفصیل فیها بین کون الأب أو الجدّ أو الولی المتصرِّف عادلاً أو فاسقا ولو کانت العدالة معتبرة فلابدّ من التنبیه علیها لا أَقَلَّ فی إحدی الروایات حالَ کَوْنِها کلّها خالیة عن هذا التقیید.

ص: 22


1- 1 . الوسیلة /279 و 373.
2- 2 . إیضاح الفوائد 2/628.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 23/321، مسألة 180؛ نقل عنه فی مفتاح الکرامة 16/81.

أذکر لک نموذجا منها:

معتبرة أبی الربیع - خُلَید بن أوفی الشامی - قال: سُئل أبو عبداللّه علیه السلام عن الرجل یکون فی یدیه مال لأخ له یتیم وهو وصیّه، أیصلح له أن یَعْمَلَ به؟ قال: نعم، کما یعمل بمال غیره والربح بینهما، قال: قلت: فهل علیه ضمان؟ قال: لا، إذا کان ناظرا له.(1)

وحسنة محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه سُئل عن رجل أوصی إلی رجل بولده وبمال لهم وأذن له عند الوصیة أن یعمل بالمال، وأن یکون الربح بینه وبینهم، فقال: لا بأس به من أجل أنّ أباهم قد أذن له فی ذلک وهو حیٌّ.(2)

وصحیحة أبی الصباح الکنانی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الرجل یکون لبعض وُلده جاریةً ووُلده صغارٌ، هل یصلح أن یطأها؟ فقال: یقوّمها قیمة عدل ثمّ یأخذها ویکون لوُلده علیه ثمنها.(3)

وصحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع قال: سألت أباالحسن علیه السلام عن الصبیة یزوّجها أبوها ثمّ یموت وهی صغیرة فتکبر قبل أن یدخل بها زوجها، یجوز علیها التزویج أو الأمر إلیها؟ قال: یجوز علیها تزویج أبیها.(4)

وصحیحة علی بن رئاب قال: سألت أباالحسن موسی علیه السلام عن رجل بینی وبینه قرابة مات وترک أولادا صغارا، وترک ممالیک له غلمانا وجواری ولم یوص، فماتری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها اُمّ ولد؟ وماتری فی بیعهم؟ فقال: إن کان لهم ولیّ یقوم بأمرهم باع علیهم ونظر لهم کان مأجورا فیهم، قلت: فما تری فی من یشتری منهم الجاریة فیتّخذها اُمّ ولد؟ قال: لا بأس إذا باع علیهم القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم، ولیس لهم أن یرجعوا عمّا صنع القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم.(5)

ص:23


1- 1 . وسائل الشیعة، 9/89، ح6، الباب 2 من أبواب من تجب علیه الزکاة.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/427، ح1، الباب 92 من أبواب کتاب الوصایا.
3- 3 . وسائل الشیعة 21/140، ح1، الباب 40 من أبواب نکاح العبید والأماء.
4- 4 . وسائل الشیعة 20/275، ح1، الباب 6 من أبواب عقد النکاح واولیاء العقد.
5- 5 . وسائل الشیعة 19/421، ح1، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا؛ وسائل الشیعة 17/361، ح1، الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.

وأنت تری أَنَّ هذه النَّماذِجَ الخمسة من الروایات کلّها مطلقات ومثلها غیرها، فهذا الإطلاق یدلّ علی عدم اعتبار العدالة فی ولایة الأب والجدّ والولی ولم یرد مخصص فی المقام إلاّ أنّ هذا الاطلاق مُقابَلٌ بالمعارض کما سیأتی.(1)

لایقال: «لا یجوز التمسک بإطلاق الأدلة لأنّه لم یرد لنا دلیل صیغ إطلاقه لذلک لما قلنا أنّه لم یرد فی المسألة دلیل مستقیم [أی منصوص]. نعم، وردت فی المسائل المتفرعة والمتفرقة لهذه المسألة روایات یستفاد منها أنّ أصل الولایة فی الجملة محَرزا»(2).

لأنّا نقول: «عمل العرف وطبع النّاس» «فی جمیع الملل والنحل» عند هذا القائل وسیرة العقلاء عندنا لا یفرّقون فی ولایة الأب والجدّ بین کونهما عادلَیْن أو فاسقَیْن ولو کانت العدالة فیهما معتبرة عند الشارع لابدّ من التنبیه علیها فی الروایات الواردة فی إمضاء هذه السیرة مع أنها کلّها مطلقات بالنسبة إلی هذا التقیید والشرطیة ولم ینبّه علیها الشارع فی شیءٍ منها فالإطلاق جار ویستفاد منها عدم اعتبار العدالة فی ولایتهما.

الدلیل الثالث: الأصل

التمسک بالأصل وارد فی المقام فی کلمات جمع مِن أعلام الطائفة کالمحققین الأردبیلی(3) والسبزواری(4) والسیّد المجاهد(5) وصاحبی الجواهر(6) والمکاسب(7).

الأصل الوارد فی کلماتهم یمکن أن یفسّر بالأصل اللفظی والأصل العملی.

ص:24


1- 6 . فی عنوان الأصل اللفظی من بحث: الأصل یقتضی عدم ولایة الأب والجدّ الفاسقین.
2- 1 . تقریر أبحاث الفقیه الشریعتمداری 4/18.
3- 2 . مجمع الفائدة والبرهان 9/233.
4- 3 . الکفایة 1/589.
5- 4 . المناهل /105.
6- 5 . الجواهر 27/201 (26/102).
7- 6 . المکاسب 3/535.

وأمّا الأصل اللفظی: فهو إطلاق الأدلة الاجتهادیة والروایات الماضیات، وهو علی قسمین:

الأوّل: هو الآیات الثلاث الواردة فی الوفاء بالعقد(1) وحلیة البیع(2) وتجارة عن تراض(3). وإطلاقها یَنْفِیْ العدالة فی ولایة الأب والجدّ کما احتمله السیّد المجاهد.(4)

الثانی: وهو إطلاق الروایات الماضیات فی الأبواب التسعة یدل علی نفی اعتبار

العدالة فیهما.

وعلی هذا المعنی الأخیر یکون عطف «الاطلاقات» علی «الأصل» تفسیریا فی کلام الشیخ الأعظم(5).

وأمّا الأصل العملی: الذی یظهر من الشیخ الأعظم أنّه یقصده لأنّ ظاهرَ العطفِ المغایرةُ فلا یخلو من الأصلین:

أ: أصل البراءة

والمراد به جریان أصالة البراءة عن تقیید ولایتهما بالعدالة.

ولکن یذهب کثیر من المحققین إلی عدم جریان أصل البراءة فی المعاملات کالمحقّق السیّد الخوئی حیث یقول: «المراد بالأصل فی المقام لیس هو البراءة قطعا إذ لا کلام لنا فی ثبوت تکلیف حتّی تنفیه بالبراءة، وإنّما الکلام فی اشتراط العدالة وعدمه، فالمورد خارج من موارد جریان البراءة»(6).

یذهب قلیلهم إلی جریان أصل البراءة فی المعاملات لنفی قیودها وشروطها

ص:25


1- 7 . قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» سورة المائدة /1.
2- 8 . قوله تعالی: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» سورة البقرة /275.
3- 9 . قوله تعالی: «إلاَّ أَنْ تَکُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» سورة النساء /29.
4- 10 . المناهل /105.
5- 1 . المکاسب 3/535.
6- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/138؛ وراجع مصباح الفقاهة 5/13 طبعة منشورات الوجدانی.

المشکوکة ومنهم المحقّق المیرزا علی الإیروانی(1) المتوفی سنة 1354ق بانّ الشک فی صحة المعاملة وفسادها مسبّبة عن الشک فی قیدیة القید وسببیة السبب، ومع جریان أصل البراءة فی السبب والقیدیة یزول الشک فی المسبب والقید وتصیر المعاملة صحیحة من دون القید.

وفی المقام بعد أن نشک فی قیدیة العدالة لولایة الأب والجدّ ومعاملتهما یجری أصل البراءة وتنفی القیدیة، فتکون ولایتهما غیر مقیدة بالعدالة فیصح بیع الأب أو الجدّ الفاسقَیْن.

أقول: بنظرنا القاصر لا یجری أصل البراءة فی الاْءحْکامِ الوضعیة فی المعاملات لوجوه:

الأوّل: الحکم الوضعی فی باب البیع هو المبادلة والنقل والانتقال ولیس فیه کلفة

علی المکلَّف بحسب طبعه حتّی یرفعه حدیث الرفع وأدلة البراءة النقلیة، بل قد یرغب فیه المکلَّف ویقدم علیه بنفسه کما لا یخفی.

الثانی: الحکم الوضعی فی المعاملات غیر ثابت للمکلَّف بخصوصه وغیر وارد علیه، فإنّ المبادلة سواء کانت أمرا انتزاعیا عن حکم تکلیفی أم کانت حکما وضعیا، لا تختص بمکلَّف، بل موضوعها المالان وتبادلاتهما لیس موضوعها المکلَّف، بل هی واردة علی الفعل والمخاطَب بها جمیع المکلفین من العالِمین والجاهلین.

إن قلت: فکیف وقع تطبیق حدیث الرفع علی الطلاق المکرَه فی الروایات(2)؟ وهل هذا إلاّ جریانه فی الأحکام الوضعیة؟

قلت: قد مرّ منّا «إذا کان الفعل موضوعا لحکم آخر ویکون فی ثبوت ذلک الحکم

ص:26


1- 3 . نهایة النهایة فی شرح الکفایة 2/91 ولکن عدل عنه فی کتابه «الأصول فی علم الأصول» 2/298 وقال: «فلا یرفع الحدیث [حدیث الرفع] الأحکام غیر الالزامیة ولا الأحکام الوضعیة».
2- 1 . وسائل الشیعة 23/226، ح12، الباب 12 من أبواب کتاب الأیمان صحیحة صفوان بن یحیی وأحمد بن محمّد بن أبینصر البزنطی عن أبیالحسن علیه السلام .

ثقلاً یرفعه الحدیث بفقرتی «ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه فلا یترتب ذلک الحکم الوضعی نحو الإکراه فی البیع أو الطلاق أو العتق(1) بخلاف فقرة «لایعلمون» لأنّها تَرْفع التکلیف فقط لا الوضع فنحن نذهب إلی التفصیل بین فقرات حدیث الرفع فی شموله للأحکام الوضعیة، وفقرة الاضطرار والاستکراه تشملها وأمّا ما لایعلمون فلا، وتوضیحه یطلب من بحث الاُصول»(2).

الثالث: إنّ الحکم الوضعی الواقعی غیر قابل للوضع الظاهری لا بجعل الاحتیاط ولا بغیره. فإذا لم یکن قابلاً للوضع الظاهری فلا یکون قابلاً للرفع الظاهری أیضا، هذا إذا کان مؤدی حدیث الرفع هو الرفع الظاهری.

أمّا بِناءً علی کون مؤداه هو الحلیة الظاهریة فلا یتوهم أحد فی ارتفاع الأحکام الوضعیة بها، إذا لم یتوهم أحد بتکفل أصالة الحلّیّة لرفع الحکم الوضعی [وهو البطلان[ فتدبّر.(3)

الرابع: علی فرض جریان أصل البراءة فی تقیید الولایة بالعدالة ونفی القیدیة والشرطیة بها، لا یترتب علیها الحکم بصحة المعاملة ونفوذها، لأنّهما - الصحة والنفوذ -

«لا یعدّان من الآثار الشرعیّة لجریان الأصل، بل یعدّان من اللّوازم العقلیّة لأصل البراءة، وبالتالی فإنّ الصحّة والنفوذ لیسا من نتائج جریان الأصل بذاته، بل من لوازمه العقلیّة، وقد ثبت فی مباحث الاُصول أنّ الحجّة فی الاُصول الجاریة فی الشکّ السببی والمسبّبی کون المسبّب أثرا شرعیّا یثبته الأصل بذاته لا بلوازمه العقلیّة. بمعنی أنّه حینما نشکّ فی صحّة عقد الأب الفاسق، ینبغی للأصل الجاری حینئذٍ إثبات صحّة البیع، أمّا البراءة الشرعیّة من شرطیّة عدالة الأب فهی لیست بنفسها مثبتة للصحّة، وإنّما هی من لوازمها العقلیّة، ولا یعدّ من مصادیق ترتّب الحکم علی الموضوع، بل من مصادیق ترتّب اللاّزم

ص:27


1- 2 . راجع دروسٌ فی مسائل علم الأصول 4/258 لشیخنا الاُستاذ قدس سره .
2- 3 . الآراء الفقهیة 5/112.
3- 4 . راجع فی هذا المجال منتقی الأصول 4/407 و 406 من تقریرات السیّد الروحانی قدس سره .

العقلی علی الملزوم العقلی، وقد ثبت عدم اعتباره»(1).

وبعبارة أُخری: علی فرض جریان أصل البراءة فی المقام لا یثبت أنّ الولایة ثابتة لهما علی نحو الإطلاق إلاّ بنحو الأصل المثبت واللازم العقلی الذی لم یقل أحدٌ باعتباره فی الأُصول العملیة.

وبالجملة: لا یمکن أن یکون مراد الشیخ الأعظم قدس سره من الأصل العملی فی المقام هو أصالة البراءة.

ب: الاستصحاب

أن یکون مراده قدس سره من الأصل العملی هو استصحاب عدم اشتراط العدالة فی ولایتهما ویمکن تقریره بوجهین:

الوجه الأوّل: الاستصحاب النعتی

الاستصحاب النعتی الذی کان بمفاد لیس الناقصة فی عدم اشتراط ولایتهما بالعدالة فی الشریعة المقدسة.

ویرد علیه: إنَّ هذا الاستصحاب یتوقف علی وجود الموضوع المتصف بالعدم فی زمان سابق لکی یستصحب ذاک العدم الواقع وصفا للموضوع، فیناقش فیه بأنّ الولایة متی ثبتت لهما فی الشریعة المقدسة من دون اشتراط العدالة فیها حتّی یُستصحب ویُقال: إنّهما کما کانت ولم یشترط العدالة فیها فعلاً.

وبعبارة أوْضَح: لیس لنا العلم بالحالة السابقة وهی إثبات الولایة من دون العدالة فی الزمان السابق فی الشریعة حتّی نستصحبها الآن.

الوجه الثانی: استصحاب العدم الأزلی

جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی بمفاد لیس التامة أو استصحاب العدم المحمولی بتقریب: أنّه قبل نزول الشریعة المقدسة لم تکن هناک ولایة مقیدة بالعدالة، فتکون الولایة مسبوقة بعدم إتصافها بالعدالة أزلاً، فالآن وبعد تنزیل الشریعة یُستصحب

ص:28


1- 1 . العقد النضید 4/168.

ذاک العدم الأزلی قبلها ویُحکم بعدم اعتبار العدالة فی ولایتهما.

وبعبارة اُخری: إنّ ولایة الأب والجدّ وهکذا اشتراطها بالعدالة کانتا غیر موجودتان فی الشریعة المقدسة، ثمّ علمنا بوجود الولایة وثبوتها وشککنا فی تحقّق اشتراط العدالة معها فالأصل عدم تحقّق اشتراط العدالة مع الولایة.

ویرد علیه: أوّلاً: الاستدلال لابدّ بأن یتم علی جمیع المبانی ونعلم بأنّ استصحاب العدم الأزلی محلّ خلاف بین أعلام الطائفة فبعضهم یثبته وبعضهم ینفیه، والشیخ الأعظم(1) من النافین فلا یمکن أن یکون مراده هذا استصحاب العدم الأزلی، وتبعه المحقّقون النائینی(2) والبروجردی(3) والخمینی(4).

ونحن من المثبتین مع المحقّق الخراسانی(5) والسیّدین الحکیم(6) والخوئی(7) - قدس اللّه أسرارهم - .

وثانیا: علی فرض جریان استصحاب العدم الأزلی فی نفی اشتراط الولایة بالعدالة لایثبت إطلاقها وأنّ الولایة لهما ثابتةٌ علی نحو الإطلاق إلاّ بنحو الأصل المثبت لأنّ صحة ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن یعدّ لازما عقلیا لاستصحاب عدم اشتراط ولایتهما بالعدالة، ومن المعلوم عدم حجیة لوازم الأصول العملیة والأصل المثبت.

وثالثا: وجود المعارض بالنسبة إلی هذا الاستصحاب، وبین استصحاب عدم ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن أزلاً، فیثبت الأوّل الولایة وینفیها الثانی فبالمعارضة یسقط الاستصحابان.

ص:29


1- 1 . فرائد الاصول 3/210 وما بعدها.
2- 2 . أجود التقریرات 2/328؛ فوائد الاصول 2/530 و 4/445.
3- 3 . نهایة الاصول /335.
4- 4 . تهذیب الأصول 1/491؛ رسالة الاستصحاب /160 المطبوعة ضمن الرسائل له قدس سره .
5- 5 . کفایة الاصول /223 طبعة آل بیت علیهم السلام .
6- 6 . مستمسک العروة الوثقی 1/113 الطبعة الثانیة بالغری الشریف.
7- 7 . مصباح الاصول 3/160؛ المحاضرات 4/360.

ورابعا: استصحاب عدم اشتراط الولایة بالعدالة أزلاً معارض باستصحاب عدم لحاظ اطلاق ولایتهما، لأنّهما - التقیید والاطلاق - أمران متضادان یحتاج کلّ منهما من لحاظه واستصحاب عدم أحدهما معارض باستصحاب عدم الآخر فیتعارضان.

فهذا استصحاب العدم الأزلی یبتلی بالمعارض من طریقین ووجهین فلا یجری فی المقام.

ولذا قال السیّد الخوئی: «لا أصل لِهذا الأصل»(1).

الأصل یقتضی عدم ولایة الأَبِ والجدِّ الفاسِقَیْنِ

أقول(2): ولکن یمکن تقریر الأصل بمایلی إذا تصل النوبة إلی جریان الأصل یقتضی عدم ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن، لأنّ المراد به إمّا الأصل اللفظی أو الأصل العملی.

وأمّا الأصل اللفظی: فیمکن أن یستدل له بتوقیع المروی بسند معتبر وفیه: فلا یحلّ لأحد أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه.(3)

وهذه الفقرة من التوقیع الشریف بإطلاقها تَدُلُّ علی ممنوعیة التصرف فی أموال الغیر بلا فرق بین الصغار والکبار وبلا فرق بین الحرمة التکلیفی والوضعی، وَالْقَدر المتیقن من رفع هذه الممنوعیة هو تصرّف الأب والجدّ العادلَیْن وأمّا الْفاسِقانِ عند الشک فی جواز تصرفهما فیبقیان فی اطلاق الحرمة والممنوعیة. فالأصل اللفظی یقتضی اشتراط الولایة منهما بالعدالة.

وأمّا الأصل العملی: فینقسم علی قِسْمَیْنِ:

أ: الأصل العملی الحکمی: وهو فی المقام استصحاب بقاء أموال طرفی المعاملة علی ما هو علیها قبلها، وعدم تحقّق النقل والانتقال وبقاء ملکیة الصغیر علی أمواله بعد تصرّف الأب والجدّ الفاسقَیْن.

ص:30


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/139.
2- 2 . هذه المقالة مأخوذة من الاستاذ المحقّق - مدظله - فی العقد النضید 4/173 و 174.
3- 3 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال.

ب: الأصل العملی الموضوعی وهو بناءً علی جریانه یجری نوعین:

1- استصحاب عدم الجعل: أی عدم جعل الولایة للأب والجدّ الفاسقَیْن، لأنّ الولایة الشرعیة تنحلّ بعدد الأولیاء وبالنسبة إلی عدولهم فلا شک فی ثبوتها وبالنسبة إلی

فسّاقهم مقتضی استصحاب عدم الجعل عدمها.

ولکن المحقّق النائینی(1) یمنع عن جریان استصحاب عدم الجعل لکونه مثبتا ولکن نحن نقول بجریانه، فالحکم بجریان هذا الاستصحاب مبنائی.

2- استصحاب عدم المجعول: لأنّ الولایة من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم وبعد ثبوتها شرعا نشّک فی أنّها مجعولة للأب والجدّ الفاسقَیْن أم لا؟ فنستصحب عدم تحقّق مجعولیة للولایة لهما بِوَصْفِهِما فاسِقَیْنِ.

الدلیل الرابع: سیرة العقلاء
اشارة

لم یذکرها الشیخ الأعظم وهی العمدة فی المقام کما هی کذلک فی أصل ثبوت ولایتهما، وأنّ العقلاء لایفرّقون فی ثبوت الولایة للأب والجدّ بین کونهما فاسِقَیْنِ أو عادِلَیْنِ.

کما اعترف بذلک الشیخ الأردکانی المتوفی عام 1375ش إذ قال: «إنّ مقتضی السیرة وارتکاز العقلاء أیضا عدم اعتبار العدالة حیث أنّهما یقتضیان ثبوت الولایة لهما حتّی مع فسقهما، نعم الأقوی عدم ثبوتها مع کفرهما إذا کان المولی علیه مسلما...»(2).

نعم، یمکن أن یقال: بأنّهم یقدّمون الأب علی الجدّ ومع فقدهما یَرَوْنَ الجدّ الأُمّیّ هو الولی أو بنته أی أُمّ الصغیر، وسوف نبحث لاحقا عن هذه السیرة العقلائیة فانتظر.

فذلکة القول فی عدم اعتبار العدالة فی ولایة الأب والجدّ

الدلیل الثانی وهو والإطلاقات الواردة فی الأبواب التسعة من الروایات لو لم تُقابَلْ بالمعارض والدلیل الرابع - وقد مرّ آنفا من سِیْرَةِ العقلاء - یدّلان علی عدم اشتراط

ص:31


1- 1 . فوائد الاصول 2/533 و 536.
2- 2 . غنیة الطالب 3/173، طبعة بیروت عام 1403، مؤسسة الوفاء. بتصحیح الشیخ غلامرضا مولانا البروجردی.

ولایتهما بالعدالة والحمد للّه العدل.

ادعاء تقیید المطلقات والسیرة العقلائیة

قد ادُّعِیَ تقیید الدلیلین بالمقیِّد العقلی والشرعی ولذا تردد العلاّمة فی وصایا القواعد(1) وذهب ولده الفخر إلی اشتراط العدالة فی وصایا الإیضاح(2) وقبلهما ابن

حمزة(3) ذهب إلی اشتراطها أیضا.

وأمّا المقیِّد العقلی

فقال الفخر: «والأصح عندی أنّه لا ولایة له [أی للأب] مادام فاسقا لأنّها ولایة علی من لا یدفع عن نفسه ولا یعرب عن حاله ویستحیل من حکمة الصانع أن یجعل الفاسق أمینا یقبل إقراراته وإخباراته علی غیره مع نص القرآن علی خلافه، فإن عاد عادت ولایته»(4).

فالدلیل العقلی: هو استحالة أن یَجْعَلَ الحکیمُ الفاسقَ علی الولایة، لأنّ الفاسق لا یکون أمینا.

أقول: هذه الکبری تامة ولا یمکننی المناقشة فیها إلاّ أنّها لیس لها صغری فی المقام، لأنّ الأب أو الجدّ مهما کانا فاسقَیْن وفاجرَیْن ولکن عواطفهما بالنسبة إلی أولادهما تمنعان من إساءة تصرفهما فی أموالهم.

فحینئذ تشریع الولایة لهما مع لحاظ هذه العواطف الکامنة فی نَفْسَیْهِما لایتنافی مع حکمة الحکیم علی الإطلاق.

وأشار إلی ما حررتُهُ المحقّق الثانی فی مقالته هذا: «والفرق بینه وبین الأجنبی قائم لأنّ شفقته المرکوزة فی الجِبِلَّةِ تمنعه من تضییع مصلحة أولاده»(5).

ص:32


1- 3 . قواعد الأحکام 2/564.
2- 4 . إیضاح الفوائد 2/628.
3- 1 . الوسیلة /373 فی أحکام الوصیة.
4- 2 . إیضاح الفوائد 2/628.
5- 3 . جامع المقاصد 11/276.

وبعبارة اُخری: لا مانع من جعل الولایة للأب والجدّ الفاسقَیْن «إذا رأی الحکیم فی ولایة الأب مصلحة ولأجلها جعل له الولایة والسلطنة، وهذه المصلحة هی رأفة الأب علی ولده وإن کان فی أعلی مراتب الفسق، إذ سائر الناس لیسوا بأرأف به من أبیه وجدّه ولو کانوا فی أعلی مراتب العدالة، وهذه الرأفة هی التی توجب حفظ مال الصبی.

وبالجملة: أنّ المصلحة النوعیة وهی الشفقة علی الولد بمقتضی الطبیعة البشریة توجب جعل الولایة لهما، وعلی تقدیر کونهما متلفین لأموال الولد فللحاکم عزلهما کما هو واضح»(1).

ثمّ: قد یُتصور حالات ثَلاثٌ للأب أو الجدّ الفاسقَیْن بالنسبة إلی تصرفاته فی مال

الطفل الصغیر فی محضر الحاکم الشرع الجامع لشرائط الإفتاء المبسوط یده فی التصرف والحکم.

أ: یثبت لِحاکِمِ الشرع سوء تصرف الأب والجدّ الفاسِقَیْنِ فی أموال الصغیر فعلی الحاکم منهما عن التصرف فی الأموال وحَجْرُهُما عنها.

ب: لم یثبت له سوء تصرفاتهما فحینئذ لاشک فی ثبوت الولایة ونفوذ تصرفاتهما. وعند الشک فی تَصَرُّفاتِهِما وحینئذٍ تجری أصالة الصحة فیها ویُسْتَفادُ منها نفوذها وتمامیتها.

ج: تصرفاتهما محلّ ریب وشک للحاکم بحیث لایمکن جریان أصالة الصحة مع وجود هذا الارتیاب فعلی الحاکم أن یجتهد فی استظهار حالهما فإن ظهر فسقهما حجرهما، وإن ثبت استقامتهما أقامهما علی ولایتهما، وفی فرض بقاء الریب یجعل علیهما ناظرا أمینا حتّی یُشْرِفَ علی تصرفاتهما.

وقد یظهر بعض ما ذکرناه من مقالة المحقّق الثانی حیث یقول: «ومن حیث أنّ الفاسق لا یرکن إلیه ولیس أهلاً للاستئمان. وربما لم توجد الشفقة المانعة عن تضییع مصلحة الطفل فی بعض الأفراد، فإن الناس متفاوتون، وأسباب الفسق

ص:33


1- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/141.

والذی یقتضیه النظر أن ولایته ثابتة بمقتضی النص والإجماع، واشتراط العدالة فیه لا دلیل علیه. والمحذور مندفع بأن الحاکم متی ظهر عنده بقرائن الأحوال اختلال حال الطفل إذا کان للأب علیه ولایة عزله ومنعه من التصرف فی ماله واثبات الید علیه، وإن ظهر خلافه فولایته ثابتة. وإن لم یعلم حاله استعلم بالاجتهاد، وتتبْع سلوکه وشواهد أحواله»(1).

وأمّا الدلیل الشرعی

فقد مرّ من الفخر قوله: «مع نص القرآن علی خلافه»(2). ولکنّه قدس سره لم یذکر آیة من القرآن الکریم فی کلامه.

وقال المحقّق الثانی: «إنّ الوصیة تتضمن الرکون قطعا والفاسق ظالم فلا یجوز الرکون إلیه لقوله تعالی: «وَلا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا»(3).(4)

وقال الشیخ الأعظم: «وفی دلالة الآیة [الرکون] نظر»(5). ولکنّه لم یشر إلی وجه النظر فیها.

ولکن مناسبة الحکم والموضوع تَقْتَضی أنّ مراد الفخر من القرآن هو آیة الْنَّبَأ(6) لا آیة الرکون، وعلی أیّ حال نبحث عن الآیتین فی المقام.

أ: وأمّا آیة الرکون
اشارة

فهی قوله تعالی: «وَلا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ وَما لَکُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِیاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ»(7).

ص:34


1- 1 . جامع المقاصد 11/276.
2- 2 . إیضاح الفوائد 2/628.
3- 3 . سورة هود /113.
4- 4 . جامع المقاصد 11/275.
5- 1 . المکاسب 3/536.
6- 2 . سورة الحجرات /6.
7- 3 . سورة هود /113.

بتقریب: أَنَّ کلّ فاسقٍ ظالِمٌ بالضرورة والآیة الشریفة تنهی عن الرکون إلیه وبالتالی تسلیم مال الصغیر إلی الفاسق یَعدّ رکونا إلی الظالم وهو مَنْهِیٌّ عنه فی الآیة الشریفة.

وبعبارة أُخری: «تسلیم المال إلیه [الی الأب الفاسق] والمعاملة معه بعنوان أنّه ولی الطفل رکون إلیه وهو منهی عنه»(1).

وبتقریب آخر: الآیة الشریفة تنهی عن الرکون إلی الظالم وإعطاء الولایة للفاسق الذی یعدّ ظالما لا یجتمع مع هذا النهی لعدم معقولیة النهی عن الرکون إلیهم ثمّ إعطاء الولایة لهم، «وهذا مسافة الخلف بین القول والعمل».

وبعبارة أُخری: «جعل الولایة للظالم رکون إلیه والرکون إلیه محرّم فإذا کان محرّما فهو قبیح ولایعقل صدور القبیح من الحکیم جلّ وعلا»(2).

وأنت تری بأنّ الاستدلال بالآیة الشریفة متوقف علی الأمرین:

الأوّل: الفاسق ظالمٌ والمراد بالظلم فی الآیة الشریفة مطلق الفسق.

الثانی: جعل الولایة للفاسق الذی یعدّ ظالما نوع من الرکون إلیه وهو منهی عنه.

وکلا الأمرین قابل للمناقشة، نبحث أوّلاً من أجوبة الأعلام حول الاستدلال بآیة الرکون وردودها ثمّ نبحث بعد ذلک من الجواب المختار حوله.

وأمّا أجوبة الأعلام
اشارة
1- فمقالة المحقّق الخراسانی

قال رحمه الله : «یمکن أن یقال: إنّ ولایة الأب والجدّ الفاسقین لیست من باب الرکون إلی الظالم، بل لما عرفت من أنّه من قبیل تسلیط المالک علی ملکه، فإنّ الطفل وماله مالاً لأبیه، فافهم»(3).

لأنّ الخراسانی یعتقد أنَّ: «للوالد مرتبة من الاختصاص ونحو من الاضافة إلی مال

ص:35


1- 4 . حاشیة المکاسب 2/371 للمحقّق الأصفهانی.
2- 5 . کتاب البیع 2/599 للسیّد الخمینی رحمه الله .
3- 1 . حاشیة المکاسب /90.

الولد ونفسه یقتضی جواز أکله من ماله بقدر الحاجة أو مطلقا...»(1).

وعلی مبناه قدس سره هذه الولایة خارجَةٌ عن مدلول آیة الرکون تخصّصا.

ولکن یمکن أن یناقش فی مبناه من أنّ الولد وماله لیس ملکا للوالد فلا یکون تسلیطه علی مال الصغیر من قبیل تسلیط المالک علی ملکه فلا یخرج عن مدلول آیة الرکون تخصصا.

وإذا ثبت عدم الملکیة تثبت الولایة وهی رکون إلی الظالم.

2- إجابة المحقّق الهَمَدانی قدس سره

قال: «وأمّا آیة الرکون، فالنّظر فی دلالتها ظاهرٌ، لأنّ الرکّون إلی الظّالم امّا مجرّد المیل إلیه، فلا ربط له بالمقام. وأمّا الاعتماد وتفویض الأمر إلیه، وجعله أمینا، فهذا تکلیفٌ تحریمیٌّ متعلّق بالعباد، ولا یدلّ علی أنّ الشارع لا یجعل الأمر بید الفاسق، بل یدلّ علی عدم جواز إیکال المکلّفین الأمر بیده، فیدلّ علی عدم جواز نصب الحاکم قیّما ظالما، لا أنّ الشّارع لا ینصبُ الفاسق.

اللّهم إلاّ أن یقال، إنّا نعلم من النّهی کونه مشتملاً علی مفسدة، فلا یصدرُ من اللّه تعالی.

وفیه: أنّ فی النّصب قد یکون مصلحةً راجحةً - کما فی ما نحن فیه - واضرارُ بعضٍ فی بعض المقامات غَیرُ مقتضٍ لحرمان الأیتام کلّیةً عن الإنتفاعات، کما لا یخفی»(2).

وتبعه السیّد الحکیم رحمه الله وقال: «مع أنّ الآیة لا تشمل فعل الشارع، فانّ النهی والأمر لا یشمل الناهی والآمر، والاشتراک فی المفسدة غیر ظاهر، لإمکان الاختلاف ولو لوجود المزاحم کما هو ظاهر، وقبول الأخبار والإقرار وإن کان من فعل المکلّف لکنّه أمر آخر

خارج عن مفهوم الولایة بلحاظ نفوذ التصرف وترتّب الأثر علیه»(3).

وتبعهما السیّد الخمینی وذهب إلی أنّ قیاس فعل الباری بأفعال المکلفین یکون

ص:36


1- 2 . حاشیة المکاسب /91.
2- 3 . حاشیة المکاسب /278 للحاج آقا رضا الهمدانی.
3- 1 . نهج الفقاهة /484.

مع الفارق جدّا.(1)

وتبعهم شیخنا الاستاذ قدس سره حیث یذکر هذه الإجابة ولم یرد علیها، قال: «قد یورد علی الاستدلال بالآیة بوجه آخر، وهو أنّ الکلام فی المقام فی الولایة الشرعیة للأب والجدّ الفاسقین بالإضافة إلی مال الطفل، وهذه الولایة علی تقدیر ثبوتها لهما رکون من الشارع إلیهما لا من العباد لیدخل فی المنهی عنه فی الآیة.

لایقال: إذا کان الرکون إلی الفاسق من العباد قبیحا وذا مفسدة یکون من الشارع أیضا کذلک، خصوصا بملاحظة قوله سبحانه: «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ»(2).

فإنّه یقال: لا منافاة بین قبح فعل من العباد وعدم قبحه من اللّه سبحانه، ألا تری قتل العباد وإتلاف أموالهم أمر قبیح ومحرّم، مع أنّ اللّه سبحانه یتوفّی الأنفس حین موتها، وینزل البلاء من الزلازل والطوفان علی قوم ویدمّرهم علی بکرة أبیهم... إلی غیر ذلک.

وقوله سبحانه: «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ»(3) خطاب موجّه إلی العباد ولا یعم اللّه سبحانه»(4).

أقول: یمکن أن یناقش فی هذه الإجابة بأنّ ظاهر آیة الرکون دال علی أنّ الرکون إلی الظالم یؤدّی إلی غضب الربّ وهو ممّا یستحق فاعله النار بدلالة «فَتَمَسَّکُمُ النّارُ» ولایعقل أن ینهی اللّه تعالی عن عمل ویَعِدُ فاعله النار، ثمّ یَعْمَلُ اللّه تعالی بهذا الفعل و «إذا لم یرض برکون العباد إلی الظالم فهو تعالی أولی بعدم الرکون إلیه»(5). أعنی أنّ النهی عن الرکون إلی الظالم لازمه العقلی عدم رکون الآمر إلیه.

نعم، قیاس فعله تعالی بفعلنا مع الفارق لأنّ «أفعاله تعالی موافقة لصلاح النظام الکلّی التکوینیّ، لا النظام التشریعیّ المحدود، کما أنّ جعله التشریعیّ لابدّ وأن یوافق

ص:37


1- 2 . کتاب البیع 2/600.
2- 3 . سورة الصف /2.
3- 4 . سورة الصف /2.
4- 5 . إرشاد الطالب 4/180.
5- 6 . حاشیة المکاسب /90 للخراسانی.

صلاح نظام التشریع العامّ، وهما ممّا لا تحیط به العقول المحدودة»(1).

«وبتعبیر آخر: أنه قد یستقل العقل بقبح فعل مطلقا أو بخصوص الحکیم، کالظلم وإغراء الناس بالجهل ومثله لا یصدر عن اللّه سبحانه، وقد لایستقل، کما فی بعض الأفعال التی منع الشرع العباد عنها، وفی مثله لا طریق لنا إلی إحراز المفسدة فیما إذا صدر عن الشارع»(2).

فیحنئذ یبعد «الاستدلال بآیة «وَلا تَرْکَنُوا»(3) من باب «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ»(4) علی أنّ اللّه تعالی أیضا لا یرکن إلی الظالم»(5).

وجه البعد کما مرّ من الاستاذ رحمه الله عدم المنافاة بین قبح فعل العباد وعدم قبحه من اللّه تعالی، وعدم قیاس فعله تعالی مع أفعالنا، والخطاب موجّه إلی العباد ولا یعم اللّه تعالی.

فهذه الإجابة یمکن أن نأخذ بها فی الاستدلال بآیة الرکون.

ولعلّ أوّل من تعرّض لهذه الإجابة هو الفقیه المامقانی حیث یقول: «وجه النظر: إنّ الکلام إنّما هو فی أنّه هل جعل الشارع للفاسق منهما ولایة أم لا؟ ولیس الکلام فی أنّه یجوز للمولّی علیه أن یفوض أمره إلی الأب والجدّ الفاسقین حتّی یتوجّه إلیه النهی، والآیة إنّما تفید النهی عن الرکون إلی الظالم وهو حکم تکلیفی لا یصح توجیهه إلی الصغیر»(6).

أقول: لا بأس بقبول هذه الإجابة.

ص:38


1- 7 . کتاب البیع 2/600.
2- 1 . إرشاد الطالب 4/180.
3- 2 . سورة هود /113.
4- 3 . سورة الصف /2.
5- 4 . حاشیة المکاسب 2/364 للمحقّق الإیروانی.
6- 5 . غایة الآمال 6/301.
3- جواب المحقّق الإیروانی

قال: «فإنّ نفوذ تصرفات الأب الفاسق عقدا وإیقاعا فی مال ابنه لیس رکونا إلی الظالم وإلاّ کانت المعاملة مع الفاسق بالبیع والشراء رکونا إلیه وکانت فاسدة»(1).

وتبعه المحقّق الإصفهانی وقال: «أوّلاً: أنّ اتخاذ الفاسق أمینا بالتوکیل أو بالتودِّیع أو بالوصایة لیس رکونا إلی الظالم، ولذا لا شبهة فی الأوّلین والثالث مختلف فیه.

وثانیا: أنّ المعاملة مع الولی الفاسق لیس مِنْ اتخاذه أمینا، بل من حیث إنّه أمین من قبله تعالی یعامل معه، بل یجب تسلیم المال إلیه، والمعاملة مع الظالم لیس رکونا إلیه واعتمادا علیه»(2).

وقال السیّد الحکیم: «... کما یظهر من ملاحظة موارد الاستیمان المالکی من الوکیل والودعی وعامل المضاربة وغیرهم من الاُمناء»(3).

واعترض علیهم الاستاذ المحقّق - مدظله - ب- «أنّ الرکون من مادّة رَکَنَ کما فی قوله تعالی: «آوِی إِلی رُکْنٍ شَدِیدٍ»(4) ومفهومه لغة هو الاعتماد والسکون والمیل، وأمّا الولایة فتعنی تفویض الأمر إلی الولی وجعله صاحبا للاختیار والسلطنة والقدرة علی التصرف فیما یشاء، وهذه الاُمور تعدّ من أظهر مصادیق الرکون»(5).

ویمکن أن یناقش علیه - مدظله - بأنّا لم نجعل الولایة للولی الفاسق بل جعلها اللّه تعالی وبعد جعل الولایة له نحن ندخل فی المعاملة معه والمعاملة مع الفاسق لیست رکونا إلیه، لاسیّما إذا کان نقدا أو نسیئة بحیث نأخذ منه الشیء ونؤدی ثمنه فی ما بعد، فما ذکره - مدظله - غیر تام.

ص:39


1- 6 . حاشیة المکاسب 2/363 للإیروانی.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/371 للأصفهانی.
3- 2 . نهج الفقاهة /484.
4- 3 . سورة هود /80.
5- 4 . العقد النضید 4/181.
4- النسبة بین الفاسق والظالم ما هی؟

هل تساوت النسبة بینهما؟ ذهب المحقّق الإصفهانی إلی أنّ النسبة بینهما عام وخاص مطلق وقال: «إنّ الظالم أخص من الفاسق عرفا، ولا یلتفت إلی أنّ الفاسق ظالم لنفسه فتدبر»(1).

وتبعه السیّد الخمینی رحمه الله وقال: «مضافا إلی أنّ الظالم - عرفا - هو الذی ظلم غیره، والفاسق لیس ظالما عرفا»(2).

وفی العقد النضید نسب إلی بعض الأعلام ب- «انّ النسبة بینهما عموم من وجه، فقد یکون الرجل ظالما ولکنّه لیس بفاسق، حیث یجتنب المحرمات(3)، وقد یکون فاسقا

غیر ظالم، وقد یجتمع فیه الفسق والظلم، وبالتالی فالدلیل أعمّ من المدّعی»(4).

واعترض علیه وقال: «وفیه: بالرغم من أنّ إطلاق صفة الظالم فی العرف یختصّ بمن یظلم غیره ولا یشمل من یظلم نفسه، إلاّ أنّه لا اعتبار به، للإطلاقات الکثیرة من الآیات والأخبار الشاملة لمن ظلم نفسه، کقوله تعالی: «سُبْحانَکَ إِنِّی کُنْتُ مِنَ الظّالِمِینَ»(5) الحاکیة عن لسان یونس علیه السلام ، مع أنّه لم یکن ظالما إلاّ علی نفسه، وکذلک الحال فی بقیّة الآیات التی اطلقت فیها صفة الظالم علی مَنْ ظلم نفسه، کقوله تعالی: «رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی»(6) وقوله تعالی: «ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»(7)، وبالتالی فصفة الظالم المستعملة فی القرآن، عنوان عامٌ یشمل الظالم نفسه وغیره، وکلّ فاسقٌ لا شکّ أنّه یعدّ

ص:40


1- 5 . حاشیة المکاسب 2/371 وثالثا.
2- 6 . کتاب البیع 2/602.
3- 7 . وفی المصدر: «عن سائر المحرمات» وما ضبطناه الأولی.
4- 1 . العقد النضید 4/180.
5- 2 . سورة الأنبیاء /87.
6- 3 . سورة النمل /44.
7- 4 . سورة آل عمران /117.

ظالما لنفسه»(1).

أقول: لم یرد اعتراض الاستاذ المحقّق - مدظله - عندی کما سأذکره لک فانتظر.

5- جواب السیّد الخوئی

قال: «المراد [من الآیة الشریفة] عدم الرکون إلی الظالم فیما یرجع إلی أُمور الدین والآخرة دون غیره، مثلاً إذا أخبر الظالم عن حرمة شیء أو نبوّة أحد فلا یمکن الرکون إلی قوله لاستلزامه النار فی الآخرة لعدم مطابقة قوله الواقع، وأمّا توکیل الظالم فی بیع ماله أو أمر آخر فهو لیس رکونا إلیه علی نحو یوجب مسّ النار کما فی الآیة المبارکة، وتوکیل الظالم لیس من المحرّمات الشرعیة قطعا، مضافا إلی أنّ جعله ولیّا لیس رکونا إلی الظالم بعد ما صار أمینا بالولایة»(2).

وتبعه فی العقد النضید(3).

أقول: تخصیص الرکون بالأُمور الدینیة والأُخرویة بقرینة(4) ما ورد فی الآیة الشریفة من قوله تعالی: «فَتَمَسَّکُمُ النّارُ» لیس بِوَجْهٍ وَجِیْهٍ؛ لأنّ فی فعل کثیر من الذنوب والآثام وعد اللّه العقاب والنار، والایعاد بها لا یوجب تخصیصها بالأُمور الأُخرویة والدینیة.

6- جواب المختار

قد مرّ فی بحث معونة الظالمین(5) الاستدلال بهذه الآیة الشریفة وکلمات اللغویین حول معنی الرکون قلتُ هناک: «الرکون فی اللغة: المیل والسکون والاعتماد والإطمئنان، ومن الواضح أنّ الرکون یحصل غالبا إلی أرباب الحکم والقدرة والسلطة والثروة بحیث یمکن أنْ یعتمد علیهم عند أعین الناس الذین یعلمون ظاهرا من الدنیا وهم عن الآخرة

ص:41


1- 5 . العقد النضید 4/180.
2- 6 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/140، ونحوها فی محاضرات فی الفقه الجعفری 3/10.
3- 7 . العقد النضید 4/182.
4- 8 . کما ذکره فی المحاضرات 3/10.
5- 1 . الآراء الفقهیة 3/113.

غافلون»(1).

والآن أُضِیْفُ أنَّهُ: یمکن أنّ یکون المراد من «الَّذِینَ ظَلَمُوا» ولاة الجور وأئمته(2) فیخرج الفاسق الظالم لنفسه بل یخرج الظالم لغیره ما لم یدخل فیهم.

والشاهد علی ما ذکرنا: أنّ الرکون إلیهم یُعدّ من الکبائر الذی وعد اللّه علیه النار.

والشاهد الآخر علی ما ذکرناه لم یلزم تخصیص الأکثر المستهجن إذا یشمل الظالم کلّ فاسق.

والشاهد الثالث ما ورد من الروایات(3) فی ذیلها نحو خبر سهل بن زیاد(4) ومرسلة العیاشی(5) فراجعهما.

وعلی ما ذکرنا حتّی لو قلنا بأنّ کلّ فاسق ظالم وبأنّ ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن تَدْخُلُ فی عنوان الرکون لم یتم الاستدلال بالآیة الشریفة لإثبات العدالة فی ولایتهما والحمد للّه.

ب: وأمّا آیة النَّبَأ
اشارة

فهی قوله تعالی: «إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ»(6).

وهذه الآیة بمناسبة الحکم والموضوع هی المرادة فی استدلال الفخر بالنص القرآنی کما مرّ.

بتقریب: إنّ هناک ملازمة بین جعل الولایة وبین حجیة إخبار الولی الفاسق بالنسبة إلی المولّی علیه وأمواله، والآیة الشریفة تنفی حجیة خبر الفاسق، وبالتالی لابدّ من اعتبار

ص:42


1- 2 . الآراء الفقهیة 3/114.
2- 3 . کما یراه السیّد الخمینی دعوی ممکنة ظاهرة فراجع مقالته فی کتاب البیع 2/600.
3- 4 . راجع فی هذا المجال: البرهان فی تفسیر القرآن 3/137 طبعة مؤسسة بعثت.
4- 5 . الکافی 9/628، ح12 (5/108).
5- 6 . تفسیر العیاشی 2/324، ح72.
6- 7 . سورة الحجرات /6.

العدالة فی ولایة الأب والجدّ. ولکن هناک إجابات عن الاستدلال بهذه الآیة الشریفة أذکر لک بعضها:

1- إجابة المحقّق الخراسانی

یستفاد من مقالته حول آیة الرکون(1) جوابٌ بالنسبة إلی آیة النبأ أیضا وإلاّ لمْ یصرح هو بجواب حول الاستدلال بآیة النبأ وهو: الأخبار الدالة علی «أنت ومالک لابیک» یدلّ علی أنّ أموال الولد ملک للإب، وآیة النبأ تنفی ثبوت ولایة الفاسق علی أموال الغیر ولکن لا تنفی ولایته علی أمواله المتعلّقة به ومنها أموال اُولاده الصغار فالآیة لا تدلّ علی نفی ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن.

وتبعه المحقّق الإصفهانی فی آخر کلامه حیث یقول: «... بملاحظة أنّه وماله لأبیه فهو کالولایة والسلطنة علی نفسه وماله عادلاً کان أو فاسقا فتدبر»(2).

ویرد علیه: ما اوردناه علیه هناک من عدم تمامیة هذا المبنی.(3)

2- جواب المحقّق الأصفهانی

قال قدس سره : «إنّ عدم قبول قول الفاسق من حیث هو غیر مُنافٍ لقبول إقراراته وإخباراته من حیث ولایته ووکالته ونحوهما حیث إنّه من ملک شیئا ملک الإقرار به ونحوه، خصوصا بعد الاتفاق علی ولایة الفاسق أبا کان أو جدّا علی تزویج الصغیر والصغیرة...»(4).

وتبعه الاستاذ المحقّق - مدظله - وذهب إلی أنّ مدلول قاعدة «من ملک شیئا ملک الإقرار به» یفید حجیة خبر الولی الفاسق فتکون القاعدة مخصّصة لإطلاق آیة النبأ ومتقدمة علیها»(5).

ص:43


1- 1 . حاشیة المکاسب /90.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/372.
3- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 36.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/371.
5- 5 . العقد النضید 4/185.

واعترض السیّد الخمینی علی هذا الجواب بأنّ آیة النبأ «کافلة لحکم فعلیّ، له إطلاق - علی فرض الدلالة - فتعارض دلیل اعتبار قول الأولیاء.

کما أنّ «من ملک شیئا ملک الاقرار به» لو کان مفاد روایة أو معقد إجماع - یکشف عن الحکم علی هذا العنوان - لکان مفاده معارضا للآیة الکریمة بالعموم من وجه فلابدّ من الأخذ بها ورفض إطلاق الروایة أو معقد الإجماع»(1).

وأجاب الاستاذ المحقّق - مدظله - عن هذا الاعتراض بقوله: «إنّ النسبة بین مدلولی القاعدة والآیة هی العموم من وجه، فالقاعدة تفید حجّیة إقرار المالک فیما ملکه، سواءً کان عادلاً أو فاسقا، والآیة تنفی حجّیة إقرار الفاسق مطلقا سواء ملک أم لم یملک، وتتعارضان فی مورد الاجتماع، وبالرغم من معارضة القاعدة للکتاب، لکنّها مقدَّمة علیه لخصوصیّة تستلزم تقدّمها وهی أنّ المعارضة لو استلزمت لغویة أحد العنوانین المتعارضین، أصبح العنوان المذکور نصّا وما یقابله ظاهرا، والقاعدة تقتضی تقدیم النصّ علی الظاهر، وما نحن فیه یعدّ مصداقا للخصوصیّة المذکورة، لأنّه لو حصرنا موضوع قاعدة «مَنْ ملک» بالعادل سقط عنوان «من ملک» عن التأثیر، وأصبح لغوا وانحصر الأثر بخصوص خبر العادل ممّا یستلزم سقوط القاعدة، وهذه الخصوصیّة هی التی تقلب الموازین، وتجعل المعارض نصّا وما یقابله ظاهرا، فیقدّم علیه بمقتضی قاعدة تقدیم النصّ علی الظاهر، وفیما نحن فیه تتقدّم القاعدة علی الآیة الشریفة وتخصّصها»(2).

أقول: قال الشیخ الأعظم بالنسبة إلی قاعدة «من ملک»: «ولکن الإنصاف أنّ القضیة المذکورة فی الجملة إجماعیة بمعنی أنّه ما من أحد من الأصحاب ممّن وصل إلینا کلامهم إلاّ وقد عمل بهذه القضیة فی بعض الموارد بحیث نعلم أنْ لامستند له سواها، فإنّ من ذکرنا خلافهم إنّما خالفوا فی بعض موارد القاعدة ولکنّهم عملوا بها فی مورد آخر»(3).

وبناءً علی مقالة الشیخ الأعظم لابدّ من الأخذ بجواب الاستاذ المحقّق - مد ظله -

ص:44


1- 1 . کتاب البیع 2/603.
2- 2 . العقد النضید 4/185 و 186.
3- 3 . الطهارة 2/450؛ رسائل فقهیة /194.

عن اعتراض السیّد الخمینی رحمهم الله لأنّ النسبة بین إطلاق آیة النبأ وإطلاق أدلة ولایة الأب والجدّ عموم من وجه ومحل الاجتماع ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن ویمکن القول

بترجیح أدلة الولایة - لما ذکره الاستاذ مدظله - لأنّه لو قلنا بترجیح إطلاق الآیة لم یبق تحت أدلة الولایة إلاّ الفرد النادر ولکن لو قلنا بترجیح اطلاق أدلة الولایة یبق تحت إطلاق الآیة الکثیر لأنّ نبأ الفاسق غیر الولی کثیر ولکن الأب والجدّ العادِلَیْنِ أقلّ من القلیل.

3- إجابة المحقّق السیّد الخوئی

قال: «إنّما تدلّ [آیة النبأ] علی عدم قبول إخبار الفاسق عن الغیر فیما یترتّب علیه الآثار بلحاظ قوله تعالی «فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ»(1) وأمّا إذا أخبر عن شؤون نفسه من دون أن یترتّب علیه أثر علی الغیر کما إذا قال: إنّ ثوبی ملک فلان أو نجس أفلا یجوز قبوله بدعوی أنه فاسق، فإنه لابدّ من قبوله بما أنّه ذو الید لا بما أنّه فاسق، وفی المقام أیضا نقبل إخبارات الأب الفاسق بما أنه ولی لا بما أنه فاسق. وبعبارة اُخری: الآیة المبارکة بقرینة ذیلها إنّما تدلّ علی عدم اعتبار خبر الفاسق بصفة أنّه فاسق لا علی نحو الاطلاق کعنوان أنّه مالک أو ذو ید أو ولیّ، فکما نقبل إقرار الفاسق بما أنّه مالک للمال فکذا نقبل إخباره عن أموال الطفل بما أنّه ولیّه بعد ثبوت ولایته، فالاستدلال بهذه الآیة ممّا لا مورد له»(2).

أقول: یمکن أن تُناقَشَ هذه الإجابة أوّلاً: إنّما تتم الإجابة لو اعتبرنا ذیل آیة النبأ علّة للحکم وأمّا إذا اعتبرناه حکمة کما هو الصحیح، والشاهد علیه شأن نزولها فی قضیة بنی المصطلق والولید.

وثانیا: ثمّ علی فَرْضِ تمامیة مقالة السیّد الخوئی رحمه الله وکون الإصابة والندامة علة للحکم یمکن فی بعض الموارد - علی نحو الموجبة الجزئیة - ترتبهما فی ما إذا أخبر

ص:45


1- 1 . هود /113.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/140 و 141.

الفاسق عن شؤون نفسه أو بما أنّه مالکٌ أو ذو یدٍ أو ولیٌّ فیأتی حکم عدم اعتبار قول الفاسق حینئذ ومثاله واضح نحو: إخباره بشراء أرض أو نکاح بنت یریدهما المخبر إلیه.

4- الجواب المختار

لا یمکن تخصیص أدلة الولایة بآیة النبأ لوجوه:

أوّلاً: علی فرض تعارض إطلاقی أدلة الولایة وآیة النبأ وتقدیم جانب إطلاق الآیة الشریفة یثبت اعتبار الوثاقة فی الولی دون العدالة وبینهما برزخ لا یبغیان.

وثانیا: آیة النبأ لا تنفی ولایة مطلق الفاسق بل تقیّدها علی فرض إصابة قوم بجهالة ثمّ حصول الندامة علیها وفی أیِّ مورد لم تکن هذه الإصابة والندامة فلا بأس بإعمال ولایة الولی الفاسق فالدلیل أخص من المدعی.

وثالثا: أدلة الولایة تثبت الولایة للأب والجدّ الفاسقَیْن وآیة النبأ تسقط حجیة خبر الولی الفاسق قبل التبیّن فَمَوْرَدا الاْءطلاقَیْنِ مُخْتَلِفانِ لأنّه یمکن القول باعتبار ولایة الأب الفاسق وعدم قبول إخباراته قبل التبیّن.

فلا یمکن الأخذ بإطلاق آیة النبأ وتقیید أدلة الولایة بها.

والحاصل: الدلیل الشرعی لتخصیص أدلة الولایة من القرآن الکریم لم یثبت ولم یتم الاستدلال بآیتی الرکون والنبأ فولایة الأب والجدّ لم تقیّد بالعدالة والحمدللّه.

المسألة الثانیة: هل تشترط المصلحة أو عدم المفسدة فی جواز تصرفاتهما
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «وهل تشترط فی تصرفهما المصلحة أو یکفی عدم المفسدة أم لا یعتبر شیءٌ؟ وجوه»(1).

الوجوه والأقوال فی المسألة
اشارة

ذهب العلاّمة فی القواعد إلی اشتراط المصلحة فی تصرفات الولی وقال: «وإنّما یصحّ بیع مَنْ له الولایة مع المصلحة للمولّی علیه»(2).

ص:46


1- 1 . المکاسب 3/536.
2- 2 . القواعد 2/21.

وقال فی التذکرة: «الضابط فی تصرف المتولّی لأموال الیتامی والمجانین اعتبار الغبطة، وکون التصرّف علی وجه النظر والمصلحة، فللولیّ أن یتّجر بمال الیتیم، ویضارب به ویدفعه إلی مَنْ یضارب له به، ویجعل له نصیبا من الربح، ویستحبّ له ذلک، سواء کان الولیّ أبا أو جدّا له أو وصیّا أو حاکما أو أمینَ حاکمٍ، وبه قال علیّ علیه السلام وعمر وعائشة والضحّاک.(1)

ولا نعلم فهی خلافا إلاّ ما روی عن الحسن البصری کراهة ذلک؛ لأنّ خزنه أحفظ وأبعد له من التلف.(2)

والأصحّ ما ذکرناه»(3).

وقال السیّد العاملی بعد نقل کلامه: «وظاهره أنّه ممّا لا خلاف فیه بین المسلمین وأنّه لا فرق فی ذلک بین الأب والجدّ والوصی والحاکم وأمینه»(4).

وقال أستاذه جدی الشیخ جعفر فی شرح کلام العلاّمة فی القواعد: «بحسب الدنیا مع تعلّق الغرض بها والآخرة کذلک، وظاهرهم الإجماع علی ذلک وفی العقل والنقل من الکتاب والسنة ما یدلّ علی ذلک»(5).

وقال السیّد العاملی فی ذیل عبارة قواعد العلاّمة أیضا: «هذا الحکم إجماعیٌ علی الظاهر وقد نسبه المصنف [العلاّمة] إلی الأصحاب... وأقرّه علی ذلک القطب والشهید»(6).

أقول: مراده من کلام العلاّمة ما مرّ منه فی تذکرة الفقهاء(7) آنفا ومراده من تقریر القطب والشهید، هذه العبارة فی الحاشیة النجاریة للشهید علی القواعد: «قطب الدین

ص:47


1- 3 . المغنی 4/317؛ الشرح الکبیر 4/564.
2- 4 . المغنی 4/317؛ الشرح الکبیر 4/564.
3- 1 . تذکرة الفقهاء 14/245، مسألة 443.
4- 2 . مفتاح الکرامة 16/90.
5- 3 . شرح القواعد 2/145.
6- 4 . مفتاح الکرامة 12/681.
7- 5 . تذکرة الفقهاء 14/245.

البویهی - نقلاً عنه - : لو باع الولّی بدون ثمن المثل لِمَ لا ینزَّل منزلة الإتلاف، لأنّا قائلون بجواز إقراض ماله وهو یستلزم جواز إتلافه؟ وتوقّف زاعما أنّه لایقدر علی مخالفة الأصحاب»(1).

ولکن قال فی الجواهر: «وإن کان فیه ما فیه، خصوصا بالنسبة إلی الأبوین فإنّ النصوص واضحة الدلالة فی جواز الاقتراض لهما والمعاملة وتقویم الجاریة... ونحو ذلک من غیر اعتبارها، ولذلک اکتفی الأُستاذ فی شرحه فیهما بعدم المفسدة بل قال: «وکذا مطلق الاولیاء فی الاقتراض مع الملاءة»(2).(3)

أقول: ذهبت جماعةٌ من الأصحاب إلی اشتراط المصلحة فی تصرفات الولی نحو: شیخ الطائفة(4) وابن إدریس(5) والمحقّق(6) والعلاّمة(7) والشهید(8) والمحقّق الثانی(9)

والشهید الثانی(10) والأردبیلی(11) والسیّد العاملی(12) والفاضل المراغی(13). وهذا هو القول الأوّل فی المقام.

ص:48


1- 6 . الحاشیة النجاریة /224 و 225.
2- 7 . شرح القواعد 2/146.
3- 8 . الجواهر 23/533 (22/332).
4- 9 . المبسوط 2/200.
5- 10 . السرائر 1/441.
6- 11 . شرائع الإسلام 2/78 و 79.
7- 12 . قواعد الأحکام 2/21؛ تذکرة الفقهاء 14/245.
8- 13 . الدروس 3/318.
9- 14 . جامع المقاصد 4/87.
10- 1 . المسالک 3/166 و 4/35.
11- 2 . مجمع الفائدة والبرهان 4/14.
12- 3 . مفتاح الکرامة 16/90، 15/343 و 12/681.
13- 4 . العناوین 2/559.

واحتمل الشهید عدم اشتراط المصلحة فی قواعده(1) بَیْدَ أنَّهُ لم یَخْتَرْهُ ولکن نُسب(2) إلیه عدم اشتراطها فی الولی الاجباری - وهو الأب والجدّ - . واختاره جدی الشیخ جعفر وقال: «وأمّا فیهما - أی الأب والجدّ - فالشرط عدم المفسدة(3) وکذا مطلق الاُولیاء فی الاقتراض مع الملاءَة والاقتصار علی ما ذکره الفقهاء وتنزیل الروایات أوفق فی النظر وأسلم من الخطر»(4).

فاختار الشیخ جعفر اشتراط عدم وجود المفسدة فی تصرفات مطلق الولی ولکن احتاط فی آخر کلامه بوجود المصلحة.

وتبعه ولده الشیخ حسن وقال: «ویجب فی ولایة الحاکم مراعاة المصلحة والغبطة؛ اقتصارا علی مورد الیقین، بخلاف ولایة الأب والجدّ، فیکفی فیهما عدم المفسدة»(5).

وتبعهما المحقّق القمی(6) وصاحب الجواهر(7) والشیخ الأعظم(8). فهذا هو القول الثانی فی المقام.

وهاهنا وجه ثالث - لم أجد قائلاً به - وهو عدم اشتراط ولایتهما بالشرطین - وجود المصلحة أو عدم وجود المفسدة - ولهما الولایة المطلقة علی مال الصغیر، لأنّ

ص:49


1- 5 . القواعد والفوائد 1/352، قاعدة 133.
2- 6 . العناوین 2/560.
3- 7 . واختار فی کشف الغطاء 1/210 اشتراط عدم المفسدة فی ولایتهما فقط وقال: «ولولایة الإجبار - کولایة الأب والجدّ - ما لیس لغیرها فلا یعتبر فیها سوی عدم الفساد...».
4- 8 . شرح القواعد 2/146.
5- 9 . أنوار الفقاهة 8/58، نقل عنه فی هدی الطالب 6/101.
6- 10 . جامع الشتات 1/192 و 193 من الطبعة الحجریة.
7- 11 . الجواهر 23/533 (22/332) و 29/627 (28/297).
8- 12 . المکاسب 3/540.

المال مالهما التنزیلی - کما علیه المحقّق الخراسانی(1) فی ما مرّ(2)- وکما قیل بها فی تصرف المولی فی مال مملوکه لسلطنته علیه. فهذا الأخیر وجه ولیس بقول.

هذا کلّه فی الوجوه والأقوال فی المسألة.

1- أدلة اشتراط ولایة الولی بوجود المصلحة
أ. الکتاب
اشارة

قوله تعالی: «لا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(3).

بتقریب: نهی اللّه سبحانه فی الآیة الشریفة عن التصرف فی مال الیتیم إلاّ علی وجه یکون التصرف أحسن بحال الیتیم، والتصرف الأحسن لا یتم إلاّ بوجود المصلحة فیه. فالآیة الشریفة تدلّ علی اشتراط المصلحة فی التصرف فی مال الیتیم مطلقا - أی بلا فرق بین الجدّ وغیره - .

ولذا قال صاحب الحدائق: «وفیها [أی فی الآیة] إشارة إلی ما صرح به الأصحاب من اشتراط المصلحة والغبطة للیتیم فی التصرف فی ماله»(4).

ویقرّ الشیخ جعفر(5) بدلالة الآیة الشریفة کما مرّ کلامه.(6)

وقال الشیخ الأعظم: «فإنّ إطلاقه یشمل الجدّ ویتمّ فی الأب بعدم الفصل»(7).

أقول: والوجه فی تمامیة الاستدلال فی الأب بعدم الفصل، لعدم صدق الیتم مع وجود الأب فی لُغَةِ العرب لأنّهم یرون أنَّ «الیُتْمَ انقطاعُ الصبی عن أبیه قبل بلوغه»(8).

ص:50


1- 1 . حاشیة المکاسب /90 و 91.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 35.
3- 3 . سورة الأنعام /152؛ سورة الإسراء /34.
4- 4 . الحدائق 18/422.
5- 5 . شرح القواعد 2/145.
6- 6 . راجع هذا المجلد صفحة 47.
7- 7 . المکاسب 3/538.
8- 8 . المفردات /550 للراغب؛ ولسان العرب 12/645 لابن منصور.

ویمکن أن یناقش فی الاستدلال بهذه الآیة الشریفة لاشتراط المصلحة بأنّ

«القرب» یحتمل مَعانِیَ أربعة وکذلک لفظ «أحسن» أیضا یُحْتَمَلُ فیه مَعانٍ أَرْبَعَةٌ:

وأمّا معانی القرب

فالأوّل: مطلق التقلیب والتحریک حتّی من مکان إلی آخر فلا یشمل مثل إبقائه علی حال أو عند أحد.

الثانی: وضع الید علیه بعد أن کان بعیدا عنه ومجتنبا، فالمعنی: فتجنّبوا عنه ولاتقربوه إلاّ إذا کان القرب أحسن، فلا یشمل حکم ما بعد الوضع.

الثالث: ما یعدّ تصرفا عرفا - کالاقتراض والبیع والإجارة وما أشبه ذلک - فلا یدلّ علی تحریم إبقائه بحاله تحت یده إذا کان التصرف فیه أحسن منه إلاّ بتنقیح المناط.

الرابع: مطلق الأمر الاختیاری المتعلَّق بمال الیتیم، أعم من الفعل والترک والمعنی: لاتختاروا فی مال الیتیم فعلاً أو ترکا إلاّ ما کان أحسن من غیره، فیدلّ علی حرمة الإبقاء فی الفرض المذکور لأنّ إبقاءه قربٌ له بما لیس أحسن»(1). هذه هی محتملات القرب عند الشیخ الأعظم واختار(2) هو الاحتمال الثالث.

توضیح معانی «القرب» فی کلام الشیخ الأعظم والمناقشة فیها

«الاحتمال الأوّل: أن یکون المراد من «القرب» مطلق النقل والانتقالات، فإذن الآیة تمنع عن مطلق النقل والانتقالات المتصوّرة فی الأموال، سواءً الاعتباریّة منها أو الخارجیّة کالأکل، وعلیه فلو قصد أحدٌ أن یتقرّب إلی هذه الأموال - اعتبارا أو خارجیّا - لابدّ له أن یتصرّف فیها باللتی هی أحسن، لکن لا مانع فیما إذا قصد الاحتفاظ بهذه الأموال وعدم التصرّف فیها، وإن کان التصرّف یعدّ الأحسن والأولی بالنسبة للمال.

وبعبارة أُخری: أنّ الآیة الشریفة لا تُلزم الولیّ بالتصرّف، وإنّما یُلزمه بالتصرّف الأحسن فیما لو قصد التصرّف.

ص:51


1- 1 . المکاسب 3/574 و 575.
2- 2 . المکاسب 3/575.

الاحتمال الثانی: ما یستفاد من ظاهر الآیة من أنّ متعلّق النهی فیها هو وضع الید، فیکون المراد من «القرب» الاستیلاء علی المال ووضع الید علیه، فالآیة تدلّ علی أنّه ینبغی أن یکون الاستیلاء بأحسن ما یکون. وأمّا الأحکام التی تترتّب علی وضع الید فإنّ الآیة لم تَتَعرّضْ لها.

الاحتمال الثالث: أن یکون المراد من «القرب» وجوب أن یکون ما یقوم به الولی

فی ما یتعلّق بهذه الأموال من التقلّبات الخارجیة أو مجرد الاستیلاء، بل مطلق المعاملات الاعتباریة الواقعة علی هذه الأموال.

الاحتمال الرابع: أن یکون المراد من «القرب» وجوب أن یکون ما یقوم به الولی فی ما یتعلّق بهذه الأموال من التقلّبات سواءً الوجودیّة منها أو العدمیّة، وسواءً کانت فعلاً أو ترکا بالّتی هی أحسن.

والفارق بین هذا الاحتمال وما سبقه، سَعَةُ دائرة الاحتمال الأخیر، بحیث یشمل حتّی الأُمور العدمیّة، خلافا لسائر الاحتمالات، ولذلک فلو کان ترک التصرّف هو الأحسن، لزمه ذلک کما هو الحال فیما لو کان التصرّف أحسن.

هذا، وقد اختار الشیخ الاحتمال الثالث دون غَیْرِهِ من الاحتمالات، فینبغی أن نبحث عن السبب فی اختیاره المذکور من خلال ملاحظة الاحتمالات الأربعة، وموافقتها مع القواعد العامّة:

أمّا الاحتمال الرابع: فهو بعیدٌ عن مفهوم «القرب»، لأنّه أمرٌ وجودیّ ولا مجال لتطبیق الأمر الوجودی علی الأمر العدمی عقلاً وعرفا، فالآیة تنهی عن التقرّب إلی مال الیتیم، ومجرّد ترک التصرّف وعدم التقرّب لا یعدّان تقرّبا إلیه.

أمّا الاحتمال الثانی: فهو أیضا ساقط لاتّفاق جمیع الفقهاء علی التمسّک بهذه الآیة والاستدلال بها علی عدم جواز التصرّف فی مال الیتیم الذی لا ولیّ له، فإذا انحصرت دلالة الآیة بخصوص وضع الید، دون التعرّض لحکم التصرّفات اللاّحقة علی الوضع، لبطل الاستشهاد بها علی بطلان التصرّف إلاّ بالتی هی أحسن.

أمّا الاحتمال الأوّل: فهو أیضا باطلٌ.

ص:52

وبالتالی فغایة ما یمکن أن یُقال فی توجیه اختیار الشیخ، هو أنّ متعلّق النهی فی الآیة تارةً ذاتٌ مطلقة وأُخری ذات متعنونة بعنوان، وعلی الثانی یجب ملاحظة الخصوصیّة المأخوذة فی تعلّق النهی، فإنّ الآیة تنهی عن القرب، ومتعلّق متعلّق الحکم هو المال المعدود من العناوین الاعتباریة، ولذلک یقتضی أن یختصٌ النهی بالتصرّفات الاعتباریّة دون غیرها»(1).

ولکن یمکن أن یناقش علیه ب- «أنّ النهی إذا توجّه إلی العناوین الاعتباریة یوجب

توسعة النهی لا تضییقه، دون ما إذا توجّه إلی العناوین والجهات الذاتیّة التی توجب الاختصاص والتضییق، کالنهی المتوجّه إلی ذات مالٍ کالثوب، فإنّ النهی عن التقرّب إلی الثوب یعنی النهی عن خصوص لبسه، أمّا النهی المتوجّه إلی العناوین الاعتباریّة معمّمٌ وشاملٌ لجمیع التصرّفات، ولذلک نجد أنّ الفقهاء حکموا فی قوله علیه السلام : «لا یجوز لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره إلاّ بطیبة نفسه» بشموله لعموم التصرّفات، سواءً الخارجیّة منها أو الاعتباریّة، لأنّ المال عنوان ویوجب تعمیم الحکم الوارد علیه، وبالتالی فینبغی أن یکون اختیارنا من بین الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل دون الثالث، لأنّ الظاهر من النهی عن التقرّب النهی عن العنوان الذی یوجب تعمیم الحکم إلی التصرّفات الاعتباریّة والخارجیّة».(2)

وأمّا معانی لفظ «الأحسن»

فقال الشیخ الأعظم: «فیحتمل أن یراد به ظاهره من التفضیل، ویحتمل أ یراد به الحسن. وعلی الأوّل، فیحتمل التصرّف الأحسن من ترکه - کما یظهر من بعض - ویحتمل أن یراد به ظاهره وهو الأحسن مطلقا من ترکه ومن غیره من التصرّفات. وعلی الثانی، فیحتمل أن یراد ما فیه مصلحة، ویحتمل أن یراد به ما لا مفسدة فیه، علی ما قیل: من أنّ أحد معانی الحسن ما لا حرج فی فعله»(3).

ص:53


1- 1 . العقد النضید 4/(297-299).
2- 1 . العقد النضید 4/299.
3- 2 . المکاسب 3/575.

ثمّ اختار(1) قدس سره من بین الاحتمالات الاحتمال الثانی وهو التفضیل المطلق.

توضیح معانی «الأحسن» فی کلام الشیخ الأعظم والمناقشة فیها

الاحتمال الأوّل: إرادة معنی التفضیل من دلالة الهیئة علیه بحیث یکون التصرف أحسن من ترکه نحو: أن یکون بیع مال الیتیم أحسن من ترکه. کما علیه الأردبیلی(2) وصاحب الجواهر(3).

الاحتمال الثانی: إرادة معنی التفضیل بحیث یکون التصرف أحسن من ترکه ومن غیره من التصرفات کما یظهر اختیاره من الفاضل النراقی(4).

الاحتمال الثالث: إرادة معنی الحسن بحیث یکون التصرف فیه مصلحة للیتیم وإن کان هناک ما هو أصلح منه، کما إذا باع الولی مال الیتیم بثمن رابح مع إمکان بیعه بثمنٍ أزید منه.

الاحتمال الرابع: إرادة معنی الحسن بحیث یکون التصرف لامفسدة فیه لمال الیتیم، وحمل کلمة الأحسن علی معنی الحَسَن وهو علی معنی عدم وجود المفسدة کما یظهر هذا المعنی من بعض العامة علی ما نقل الشهید الثانی عنهم من قولهم: «... أو أنّ ما نهی الشارع عنه فهو قبیح، وإن لم ینهَ عنه فهو حَسَنٌ، سواء أمر به کالواجب والمندوب، أم لا کالمباح»(5).

أقول: إرادة معنی «الأحسن» منسلخا عن التفضیل وهو «الحَسَن»، وإن وردت فی کلام النحاة: أنّ اسم التفضیل قد یأتی عاریا من معنی التفضیل فیتضمَّن معنی اسم الفاعل نحو قوله تعالی: «رَبُّکُمْ أَعْلَمُ بِکُمْ»(6) أو معنی الصفة المُشَبَّهة نحو قوله تعالی:

ص:54


1- 3 . المکاسب 3/575.
2- 4 . زبدة البیان /394.
3- 5 . الجواهر 26/317 (25/161).
4- 6 . عوائد الأیام /561.
5- 1 . تمهید القواعد /41 القاعدة، نقله الإسنوی فی التمهید /62.
6- 2 . سورة الإسراء /54.

«وَهُوَ الَّذِی یَبْدَوءُا الْخَلْقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَیْهِ»(1) کما قاله نجم الأئمة الرضی: «... واعلم أنّه یجوز استعمال أفعل... مجردا عن معنی التفضیل مؤوّلاً بِاسْمِ الفاعل والصفة المشبهة قیاسا عند المبرّد وسماعا عند غیره وهو الأصح... وتقول: الأحسن والأفضل بمعنی الحَسَن والفاضل»(2).

لکنّه إسقاط لِلْهَیْئَةِ ودلالتها من دون وجه فلا یمکن الأخذ بالاحتمالین الأخیرین. مضافا إلی المناقشة فی حمل کلمة «الأحسن» علی معنی عدم وجود المفسدة فی الاحتمال الأخیر.

وأمّا الاحتمال الثانی الذی اختاره الشیخ الأعظم فلم یلتزم الفقهاء بلزوم أن یکون التصرف أحسن من جمیع الأمور ولم یفتوا بذلک.(3)

فیبقی لنا الاحتمال الأوّل من الأخذ بدلالة هَیْئَة أفعل بحیث یکون التصرف أحسن من ترکه فقط لا أحسن من ترکه ومن جمیع التصرفات غیره.

ما هو مدلول نهی «لا تَقْرَبُوا»؟
اشارة

لابدّ من البحث حول مدلول النهی الوارد فی الآیة الشریفة فی المقامین:

المقام الأوّل: ما تَقْتَضِیْهِ الآیة الشریفة

هل النهی فیها تکلیفیٌّ مَحْضٌ أو إرشادٌ إلی بطلان التصرفات فیکون وَضْعِیّا مَحْضا أو کلاهما؟

یظهر من الشیخ الأعظم(4) أنّه إرشادی ووضعی ویدلّ علی بطلان التصرفات الاعتباریة إذا لم تکن علی وجه الأحسن.

ویرد علیه: أوّلاً: التصرفات التی یمکن أن تتعلّق بمال الصغیر اثنان:

الأوّل: التصرفات الخارجیة کوضع الید علیه أو أکله أو شربه ونحوها.

ص:55


1- 3 . سورة الروم /27.
2- 4 . شرح الکافیة 3/459.
3- 5 . کما یظهر من الاستاذ المحقّق فی العقد النضید 4/300.
4- 1 . المکاسب 3/575، قوله: «... فلا یدلّ علی تحریم ابقائه...».

الثانی: التصرفات الاعتباریة کالبیع والإجارة ونحوهما.

والدلیل علی انحصار تعلُّق النهی بالقسم الثانی مفقود.

وثانیا: مجرد التصرفات الاعتباریة لا تکونُ محرّمة للقطع بأنّ مجرد التصرف التسبیبی فی مال الیتیم لایعدّ من المحرمات الشرعیة نحو البیع الفضولی ما لم یتعقب بالقبض والإقباض.

وذهب المحقّق السیّد الخوئی إلی أنّ النهی الوارد فی الآیة الشریفة تکلیفی محض، قال قدس سره : «بل معنی القرب هو الإتیان إلی الشیء خارجا والاستیلاء [علیه] فتارةً ینسب إلی الأفعال کقوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ»(1) والاُخری إلی الأعیان کقوله تعالی: «ولا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ»(2) فالمعنی هنا واللّه العالم أنّه لا یجوز الاستیلاء علی مال الیتیم وتملّکه إلاّ بوجه یکون حسنا ومصلحةً وعلیه فیکون النهی متمحِّضا للتکلیفی لعدم ارتباط الآیة بالمعاملات بوجه لیکون النهی إرشادا إلی الفساد کما ذکرنا مرارا من کون النهی فی باب المعاملات إرشاد إلی الفساد.

وبالجملة: إنّ الآیة خارجة عن المعاملات ولیست لها تماس بها لکی یباحث فی فسادها وعدمها، بل هی مسوقة للنهی عن أکل ماله والاستیلاء علیه فهی نظیر «علی الید ما أخذت حتّی تؤدی».

ثمّ إنّه لا یفرق فی ذلک بین کون الاستیلاء حدوثا أو بقاءً فلو کان مال زید الصغیر ودیعةً عند عمرو فإلی سنةٍ أحرزه، ثمّ استولی علیه وتملَّکه وتصرف فیه تصرف المُلاّک فتشمله الآیة أیضا إذا النهیُ منحلٌ إلی نواهی عدیدة علی نحو العموم الاستغراقی»(3).

ویرد علیه: أوّلاً: لا یدلّ دلیلٌ علی تخصیص النهی بالتکلیفی المحض، وتخصیص کلمة «القرب» بخصوص أکل مال الیتیم أیضا کذلک.

ص:56


1- 2 . سورة الأنعام /151.
2- 3 . سورة الأنعام /152.
3- 1 . مصباح الفقاهة 5/77 و 78.

وثانیا: الآیة الشریفة وردت فی کتاب اللّه مَرَّتَیْنِ: فی سورتی الأنعام(1) والإسراء(2) وفیهما کانت مغیاة ب- «حَتّی یَبْلُغَ أَشُدَّهُ»(3)، ولا معنی للأخذ بهذه الغایة إذا کان النهی تکلیفیّا مَحْضا فیصیر معنی الآیة لا یجوز أکل مال الیتیم قبل بلوغه وأمّا بعده فیجوز لأنّ الحرمة مغیاة به. ومن المعلوم عدم تمامیة هذا المعنی.

ولکن الصحیح عندنا أنّ النهی الوارد فی الآیة الشریفة تعبیرٌ کنائیٌ یشمل التصرفات الخارجیة والاعتباریة معا فیدلّ علی النهی التکلیفی المولوی بالنسبة إلی الأوّل وعلی النهی الإرشادی الوضعی بالنسبة إلی الثانی ولایدلّ دلیل علی اختصاصه بأحدهما، فالنهی تکلیفی ووضعی معا.

المقام الثانی: موانع ظهور الآیة الشریفة مِنْ حیثُ الاقتضاء الدّلالیّ
اشارة

إلی هنا فی المقام الأوّل من البحث ثبتت تمامیة اقتضاء الآیة الشریفة للدلالة علی نهی الأولیاء من التصرفات الخارجیة والاعتباریة المتعلقة بأموال الأیتام إلاّ بالتی هی أحسن أی مراعاة المصلحة فیها.

ثمّ یقع البحث فی المقام الثانی حول مانع ظهور هذا الاقتضاء الدلالی فی الآیة الشریفة فقد یقال: بوجود مانع یمنع عن هذا الظهور وهو المانع:

المانع
اشارة

النهی الوارد فی الآیة الشریفة لابدّ أن یحمل علی النهی المولوی التکلیفی فقط لوجهین:

الأوّل:

الأصل الأوّلی فی النواهی هی الحرمة التکلیفیة والمولویة علی جمیع

المبانی فی مدلول صیغة النهی.

الثانی:

قرائن عدیدة تدلّ علی أنّ النهی الوارد فی الآیة الشریفة تکلیفیٌ ومولویٌ محض:

ص:57


1- 2 . سورة الأنعام /152.
2- 3 . سورة الإسراء /34.
3- 4 . سورة الإسراء /34.

منها: السیاق الوارد قبلها، لأنّها وقعت بعد قوله تعالی: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّکُمْ عَلَیْکُمْ...»(1).

ومنها: النواهی الواردة قبلها کلّها تکلیفیّة مَحْضَةٌ نحو قوله تعالی: «أَلاّ تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئا... وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ... وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ... وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ...»(2).

وفی مقابلة هذَیْنِ الْوَجْهَیْنِ، وجه آخر علی حمل النهی علی الوضع والإرشاد دون التکلیف والمولویة، وهو:

الوجه الآخر: استدلال الفقهاء بهذه الآیة الشریفة علی بطلان المعاملات علی أموال الیتامی من دون مراعاة مصلحتهم ممّا یقتضی حمله علی الحرمة الوضعیة فقط.

وبالجملة: إذا أخذنا المعنی الأوّل من معانی القرب - کما أخذنا - فَإِنَّ النَّهْیَ الْوارِدَ فی الآیة الشّریفةِ یَدُلُّ علی مطلق التصرفات الخارجیة والاعتباریة، ولکن نعلم بأنّ التصرفات الخارجیة لا یمکن تعلّق النهی الوضعی بها وکذلک التصرفات الاعتباریة لا یمکن تعلّق النهی التکلیفی بها، فلا یمکن الاستدلال بالنهی الوارد فی الآیة الشریفة أصلاً ولا یتحقّقُ الظُّهُورُ.

إجابة المحقّق الاصفهانی

قال قدس سره : «ولا مناص عن هذا المحذور إلاّ بالإلتزام بأحد أمرین: إمّا حمل النهی علی الحرمة المولویة فی جمیع التصرفات؛ بارادة التصرفات المعاملیة المستتبعة للقبض والإقباض، لا بما هی عقود وتصرفات تسبیبیة فقط.

وإمّا حمل النهی فی الملزوم علی المولویة فی غیر المعاملات، وعلی الارشادیة فیها، ولا مانع من حمل النهی عن العام بداعی المولویة فی بعض أفراده؛ وبداعی الإرشادیة فی بعض أفراده الاُخر کما حقّق فی محلّه»(3).

ص:58


1- 1 . سورة الأنعام /151.
2- 2 . سورة الأنعام /151.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/423.

بیان مراده: «لا شکّ أنّ المجعول لو کان واحدا غیر قابل للانحلال، فلا مجال لاتّصافه بالمولویّة والوضعیّة، دون ما إذا کان واحدا قابلاً للانحلال والتعدّد، والنهی المجعول فی الآیة الشریفة مندرج فی القسم الأخیر فهو صورة واحدٌ ولکنّه متعدّدٌ لبّا، وبالتالی لا مانع من دلالته علی الحرمة التکلیفیّة بالنسبة إلی التصرّفات الخارجیّة، وعلی الحرمة الوضعیّة فی التصرّفات الاعتباریّة، وبذلک یندفع الإشکال»(1).

وبعبارة أُخری: یجوز استعمال لفظ واحد له معنی واحد فی الإرشاد والتکلیف معا بدواعی متفاوتة وأغراض متباینة نحو قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا»(2) حیث أن تحلیل البیع یدلّ علی أنّ الشارع الأقدس لا یسدّ طریق البیع وأنّه منفتحٌ فی التکلیف والوضع، وکذلک تحریم الربا یدلّ علی أنّه سدّ طریقه وأنّه مسدودٌ فی التکلیف والوضع وهذا هو الجواب المختار عندنا.

وأمّا فی ما نحن بِصَدَدِهِ: «فإنّ الشارع قد استعمل هیئة «لا تَقْرَبُوا» فی معنی واحد وهی النسبة الزجریّة، لکن بما أنّها قابلة للإنحلال بحسب الدواعی المختلفة، لذلک تتعدّد بتعدّد الدواعی، فتدلّ علی الحرمة التکلیفیّة فی التصرّفات الخارجیّة، وعلی الحکم الوضعی والإرشاد إلی الفساد فی التصرّفات الاعتباریّة، وبذلک یندفع ما قیل من عدم إمکان اجتماع الحکمین المتباینین فی متعلّق النهی»(3).

جواب الاستاذ المحقّق - مدظله -

«إنّ من الواضح أنّ إطلاق عنوان التصرّف علی التصرّفات الاعتباریّة التی لا تستتبعها القبض والإقباض، یعدّ إطلاقا مسامحیّا اعتباریّا، بمعنی أنّ إنشاء البیع أو الصلح وغیرهما من التصرّفات الاعتباریّة لا یعدّ تصرّفا حقیقیّا عرفیّا، إلاّ بعد ترتّب الآثار الخارجیّة من النقل والانتقال علیها ومع عدم ترتّبهما لا مجال لإطلاق التصرّف علیها إلاّ مسامحة، والآیة الشریفة تنهی عن جمیع أشکال التقرّب إلی مال الیتیم، بحیث تعمّ جمیع

ص:59


1- 1 . العقد النضید 4/307.
2- 2 . سورة البقرة /275.
3- 3 . العقد النضید 4/309.

التصرّفات الخارجیّة المتعقّبة بالقبض والإقباض، وبالتالی فالآیة مولویّة وبعیدة عن أن تکون إرشادیّة.

نعم، اتّفقت کلمة الأصحاب - ومنهم المحقّق الأصفهانی(1)- علی أنّ النهی

المولوی إذا تعلّق بالتصرّف المستتبع للقبض والإقباض فإنّه یفید حرمتهما وفسادهما، إذا النهی المتعلّق بآثار البیع یعدّ کاشفا قطعیّا عن فساد البیع، وقد أثبتنا ذلک خلال البحث عن قوله صلی الله علیه و آله : «إنّ اللّه إذا حرّم شیئا حرّم ثمنه»(2) من أنّ الشارع إذا حرّم شیئا فإنّ مدلوله المطابقی هی الحرمة التکلیفیّة، ولکن من خلال مدلوله الإلتزامی - الذی یعدّ حکما وضعیّا - یرشد إلی فساده أیضا، فیکون وزانه وزان قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(3) من أنّ الأمر بالوفاء حکم تکلیفی ولیس إرشادا إلی اللّزوم، لکن هذا الحکم التکلیفی یستتبعه حکم وضعی وهو الحکم بالصحّة، وکذلک الأمر فی المقام، فإنّ النهی التکلیفی المتعلّق بالتصرّف المستتبع للقبض والإقباض یلازمه حکم وضعی دالّ علی الفساد.

وخلاصة الکلام: ثبت أنّ النهی المذکور فی الآیة الشریفة مولوی ولیس بإرشادی وإن یستتبعه»(4).

المناقشة فی جواب الاستاذ - مدظله -

ویمکن أن یرد علیه: أوّلاً: التصرف الاعتباری حتّی إذا لم یستتبعه القبض والإقباض یعدّ تصرفا عرفیّا حقیقیا، مثلاً: إذا اشترا شیئا ودفع ثمنه وجعله عند البائع ودیعة هل یعدّ هذا تصرفا عند العرف أم لا؟ ومن الواضح أنّه تصرف فَتَکُوْنُ التصرفات الاعتباریة من مَصادِیْقِ التصرف عرفا وحقیقةً.

نعم، إذا أجْری صیغة المعاملة أو وقّعها ولم یدفع الثمن ولم یأخذ المثمن یعدّ باطلاً عند الفقهاء لأنّه بیع الکالی بالکالی.

ص:60


1- 4 . حاشیة المکاسب 2/423، کما مرّ عبارته قدس سره .
2- 1 . تأتی مصادرها.
3- 2 . سورة المائدة /1.
4- 3 . العقد النضید 4/311.

لا یقال: الآن وفی العصر الحاضر کلّ البیوع المهمة تکون هکذا وقّعوا السند المعاملی وبعد مدّة یأخذ العین وبعد مدّة أُخری یعطی الثمن کما فی المعاملات الدارجة بین الدول أو المعاملات علی شَبَکاتِ الإنترنت أو المعاملات المهمة ذات الأبْعادِ المُتَعَدِّدَةِ والمتکثرة.

لأنا نقول: الاجماع قائم عند الفقهاء بأنّ بیع الکالی بالکالی

باطل، فلابدّ أن نجعل هذا السند المعاملی المُوَقَّعِ مقدمة للمعاملة وخریطة لها وَإیْعادٌ بها من الجانبین، وأنّ البیع

والمعاملة یتحقق بعد وصول أحد المالین إلی الطرف الآخر بلا فرق بین الثمن أو المثمن فحینئذ یلزم البیع والمعاملة والعقد، وللتفصیل محلّ آخر.

وثانیا: یمکن أن نأخذ بالشق الثانی فی مقالة المحقّق الأصفهانی الماضیة حیث قال: «... وإمّا حمل النهی فی الملزوم علی المولویة فی غیر المعاملات وعلی الإرشادیة فیها...»(1). وهذا هو مختارنا کما مرّ(2) فی ذیل عنوان «إجابة المحقّق الأصفهانی» آنفا.

وثالثا: قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب(3) بأنّ النبوی المشهور: «إنّ اللّه إذا حرّم شیئا حرّم ثمنه» روایة عامیة مع ورود کلمة «أکل» فی أکثر روایاتهم(4) وأنّ عمومها متروک عند الفریقین لأنّ کثیرا من الأشیاء یحرم أکله ولا یحرم بیعه، فلا ینتج من هذه الروایة العامیة قاعدة کلّیّة فی المعاملات.

ورابعا: وأمّا قولُهُ تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(5) فَیَدُلُّ بِإطْلاقِهِ علی وجوب الوفاء بالعقود والعهود الاجتماعیة والاقتصادیة ومنها: المعاملات والبیوع والتجارات، ولا یمکن القول بوجوب الوفاء بها إلاّ بعد صحتها وتمامیتها، فالآیة الشریفة یُسْتَفادُ منها شیئان: 1- صحة المعاملات والبیوع والتجارات والعقود والعهود. 2- وجوب الالتزام

ص:61


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/423.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 58.
3- 3 . راجع الآراء الفقهیة 1/34.
4- 4 . کما فی سنن أبیداود 2/251؛ مسند أحمد 1/247 و 293؛ وسنن البیهقی 6/13.
5- 5 . سورة المائدة /1.

ولزوم الوفاء والإیفاء بها کما مرّ فی أوّل الکتاب.(1)

وبالجملة: لایمکن الالتزام بهذا الجواب المأخوذ من الشق الأوّل من مقالة المحقّق الاصفهانی.(2)

ما المراد من الموصول فی الآیة الشریفة؟

اختلفوا فی أنّ المراد «بالتی» أیّ شیءٍ؟ وفیها ثلاثة محتملات:

1- أنّ المراد بها «النیّة» فیکون معنی الآیة الشریفة: لا تقربوا مال الیتیم إلاّ بالنیّة الحسنة. والباء فیها زائدة.

2- أنّ المراد بها «الکیفیة» فیصیر معنی الآیة الشریفة: لا تقربوا مال الیتیم إلاّ

بالکیفیة الحسنة فیکون المراد بها أحسن الوجوه المتصورة، وهو مختار الاستاذ المحقّق(3) - مدظله - .

3- أنّ المراد بها «الطریقة» فیفید معنی الآیة الشریفة: «لا تقربوا مال الیتیم إلاّ بالطریقة التی هی أحسن. والباء تکون للسببیة. «ولیس هو وصفا للقرب کما توهم وإلاّ کان الصحیح أن یقال «إلاّ بالذی هو أحسن»(4) وهذا مختار السیّد الخوئی.(5)

وقال: «وذکر بعض المفسرین أنّ المراد به النیة وبعضهم أنّ المراد به الکیفیة أی کیفیة القرب. ولا شاهد علی شیءٍ منهما. والظاهر فی النظر أنّ المراد به الطرق، أی لاتقربوا إلاّ بالطرق الشرعیة دون غیرها»(6).

ویمکن أن یناقش الاحتمال الأوّل وهو النیة بمایلی:

أوّلاً: زیادة حَرْفِ «الباء» خلاف الأصل الأوّلی.

ص:62


1- 6 . راجع الآراء الفقهیة 1/14.
2- 7 . حاشیة المکاسب 2/423.
3- 1 . العقد النضید 4/312.
4- 2 . مصباح الفقاهة 5/78.
5- 3 . مصباح الفقاهة 5/78.
6- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/63.

وثانیا: لایفید صرف النیة الحسنة بل لابدّ أنّ تکون التصرفات علی طبق المصالح الواقعیة للیتیم ولا تصححها النیة الحسنة إذا لم تطابق المصالح الواقعیة فی الخارج.

ویمکن أن یناقش الاحتمال الثانی وهو الکیفیة:

أوّلاً: الحکم بلزوم مراعاة الکیفیة الحسنة فی جمیع التصرفات الواقعة علی أموال الأیتام یقتضی لازما فاسدا، لا یمکن الالتزام به من فقیه، وهو الامتناع عن التصرف فی ما لو تساوت المصالح، ولم یقدر الولی عن تحصیل الکیفیة الأحسن منها.

وثانیا: اختصاص جواز التصرف تکلیفا ووضعا بأحسن الکیفیات وحصره بها، یوجب العُسر والحرج للولی بحیث لا یجوز له أیّ تصرف حتّی یُحْرِزَ أنّه أحسن التصرفات فلابدّ له من إیقاف تصرفاته حتّی یُحْرِزَ أنّه أحسن، وإحرازُهُ فی غایة الصعوبة بل علی شُرف الاستحالة الخارجیة - لا العقلیة - فلا یمکن الأخذ بهذا الاحتمال أیضا.

فیبقی لنا الاحتمال الثالث وهو الطریقة الشرعیة کما هو مختار المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله .

وإذا کان المراد بالموصول هو الطریقة الشرعیة فالآیة الشریفة لاتستفاد منها

مراعاة المصلحة فی التصرفات الواردة علی أموال الیتامی، بل هی فی مقام بیان عدم جواز التقرب إلیها إلاّ بالطریقةِ الشرعیة التی هی أحسن وأمّا الطریقة الشرعیة ما هی؟ فهی ساکتة بالنسبة إلیها فلابدّ من مراجعة غیرها من الأدلة فی تعیینها.

نعم، یمکن الاستدلال فی اعتبار المصلحة فی تصرفات الولی بقوله تعالی: «یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُکُمْ وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»(1).

لاسیّما بقرینة الروایات الواردة فی ذیلها اللآتی سوف یأتی بعضها فی ما بعد.

ولکن مع ذلک کلّه، ظهور الآیة الشریفة فی اعتبار المصلحة فی تصرفات الأولیاء فی أموال الأیتام ممّا لا یکاد یخفی لاسیّما بقرینة الروایات الواردة فی ذیلها ولإنّها إذا

ص:63


1- 1 . سورة البقرة /220.

عُرضت علی أهل اللِسانِ العربیّ السابِرِینَ لمقاصد اللغة یقبلون دلالتها علی اعتبار المصلحة بلا ریب وکذلک العرف، والعرف ببابک.

الاشکالات علی دلالة الآیة الشریفة علی اعتبار المصلحة فی تصرفات الأب والجدّ
اشارة

وهنَّ خمسة:

الإشکال الأوّل

وهو إشکال عام یجری بالنسبة إلی غیر الأب والجدّ أیضا بتقریب: ظاهر الآیة الشریفة یفید لزوم مراعاة الأحسن والأصلح بالنسبة إلی التصرفات فی أموال الأیتام ولکنّه کما مرّ لایمکن الأخذ بالتی هی أحسن علی الإطلاق وبمعناه الحقیقی بضرورة الفقه فینحصر أنّ المراد من الأحسن هو التصرف الحَسَن ویندرج فیه ما لا مفسدة فیه.

ویجاب عنه: أوّلاً: بضرورة الفقه نرفع الید عن مراعاة الأحسن الحقیقی وعلی الإطلاق ولکن لماذا نرفع الید عن مراعاة الأحسن الإضافی والمقدور والممکن عند التصرف فی أموال الأیتام؟!

وثانیا: علی فرض أنّ المراد بالأحسن یعنی الحسن وعلی فرض أن نرفع الید عن معنی التفضیل ولکن بأیّ دلیل دخل فی المعنی الحسن ما لیس فیه المفسدة؟ لأنّ الحسن والمصلحة معناه المنفعة ولکن، عدم المفسدة یفرض ما تساوی طرفاه بالنسبة إلی النفع

والضرر وهما شیئان مختلفان.

لا یقال: «قیام القرینة القرآنیة علی أنّه لیس المراد من هذه الصیغة حقیقتها، بل المراد منها الأحسن فی مقابل الفاقد للحُسن، کما فی قوله تعالی فی سورة الإسراء: «وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِیمِ ذلِکَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلاً»(1) حیث استعملت صیغة أفعل التفضیل فی مقابل ما لیس فیه الحسن، إذ لایعقل أن یشتمل غیر القسطاس المستقیم علی الحُسن، وبالتالی فالمستعمل فی الآیة أفعل التفصیل وهو ما وصف به سبحانه القسطاس المستقیم، لکن أراد من الأحسن الحَسَن، وهکذا الأمر فی المقام، فبالرغم من

ص:64


1- 1 . سورة الإسراء /35.

وَصْفِ(1) التقرّب اللاّزم إلی مال الیتیم بالأحسن، لکن یُراد منه الحَسَن ولیس الأحسن، ونظائر هذه الإطلاقات کثیرة فی الآیات القرآنیة حیث تطلق صیغة أفعل التفضیل ویُراد منها دونه، کما فی قوله: «ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(2)، وکثرة الاستعمال تفید استقرار ظهور الأحسن فی الحَسَن فی ما نحن فیه، ولا أقلّ أنّها تکون سببا لإجمال المراد فی ما زاد علی اشتراط أصل المصلحة، ومقتضی الدلیل لزوم الاقتصار علی المتیقّن وهو أصل المصلحة. وهکذا ثبت من خلال القرینة الداخلیة والخارجیّة أنّ الأحسن المذکورة فی الآیة لا تدلّ علی معنی زائد علی أصل المصلحة»(3).

لأنّا نقول: فی کلِّ مورد قامت القرینة علی عدم إمکان الأخذ بالمعنی الحقیقی لصیغة أفعل التفضیل نرفع الید عنه ولکن فی مورد عدم قیام القرینة فلا، وحتّی بالنسبة إلی الآیتین یمکن الأخذ بمعناه الحقیقی لأنّ الوزن بالقسطاس خیر من ترک التوزین والوزن بالقسطاس المستقیم خیر من الوزن بالقسطاس غیر المستقیم فیکون الوزن بالقسطاس المستقیم أحسن بالنسبة إلی غیره، وکذلک جدال مخالفی المذهب لها أفراد متعددة ومصادیق متکثرة لابدّ أن یکون بنحو الأحسن وعلی أتقن الاستدلال وأفضل البیان وأجمل الشکل، وکذلک التصرفات فی مال الأیتام لها صور مختلفة لابدّ أن یختار الولی أحسنها وأصلحا وأنفعها له، نعم بضرورة الفقه نرفع الید عن الأحسن الحقیقی

والمطلق کما مرّ.

الإشکال الثانی

لو سَلّمنا دلالة الآیة الشریفة علی رعایة الأحسن والأصلح ولکنّها مخصصة

ص:65


1- 2 . فی المصدر: توصیف، والتوصیف خطأٌ فاحشٌ شائعٌ وإنْ ورد فی کلام الأعاظم.
2- 3 . سورة النحل /125.
3- 4 . العقد النضید 4/202 و 203.

بإطلاقات الروایات(1) الواردة حول ولایة الجدّ الدالة علی عدم اشتراطها بالمصلحة بل کفایة عدم المفسدة فیها، قال الشیخ الأعظم: «وأمّا الآیة الشریفة فلو سلّم دلالتها، فهی مخصّصة بما دلّ علی ولایة الجدّ وسلطنته، الظاهرة فی أنّ له أن یتصرّف فی مال طفله بما لیس فیه مفسدة له»(2).

وبعبارة اُخری: اطلاق هذه الروایات یقیّد اطلاق الآیة الشریفة بالنسبة إلی تصرفات الجدّ فقط.

ویجاب عنه: لابدّ فی تصرفات الجدّ أیضا من ملاحظة المصلحة وهی مشروطة بها ولا تکفی فیها عدم المفسدة حتّی بالنسبة إلی ولایته علی بُضع الیتیمة، فما یُستفید من إطلاق الروایات غیر تام لأنّ الروایات المشار إلیها راجعة إلی اُولویة الجدّ علی الأب لا عدم اعتبار المصلحة فی تصرفات الجدّ.

وعلی فرض تمامیة ما یُسْتَفادُ من إطلاقها وکفایة عدم المفسدة فهو معارض مع اطلاق الآیة الشریفة فیقدّم إطلاق الآیة علیها بالحکومة علی مبنی السیّد الخوئی(3) قدس سره وتلمیذه الاستاذ المحقّق(4) - مدظله - .

وعلی فرض التعارض: یتعارضان ویتساقطان فیُرْجَعُ إلی العام الذی فوقهما وهو قوله علیه السلام : «فلا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر إذنه»(5). والمتیقن الذی یخرج من هذا العموم هو التصرفات المقرونة بالمصلحة وأمّا غیرها فَهِیَ باقِیَةٌ علی عدم الحلیة.

ص:66


1- 1 . مرّت الاشارة إلی محلّها فی الدلیل الثانی من أدلة ولایة الأب والجدّ راجع صفحة 17 من هذا المجلد وهکذا راجع صحیحة محمّد بن مسلم فی وسائل الشیعة 20/289، ح1؛ وموثقة عبید بن زرارة، ح2؛ وخبره، ح5 [20/290] وخبر علی بن جعفر أو معتبرته عندنا، ح8 [20/291].
2- 2 . المکاسب 3/541.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/19؛ التنقیح فی شرح المکاسب 2/149.
4- 4 . العقد النضید 4/205.
5- 5 . وسائل الشیعة 17/248، ح1.

وعلی فرض فقدان العام الفوق یُرجع إلی الأصل العملی وهو عدم جعل الولایة فی ما إذا کان التصرف فاقدا للمصلحة. أو أصالة عدم نفوذ التصرف الفاقد للمصلحة أو أنّ الأصل الأوّلی فی المعاملات هو الفساد، وفی التصرف فی مال الغیر هو الحرمة.

الاشکال الثالث

لابدّ فی اعتبار المصلحة فی تصرفات الجدّ فقط، دون الأب لاستناده إلی عدم القول بالفصل وهو قاصر عن اعتبار المصلحة فی تصرفات الأب، لوجود القول بالفصل، قال الشیخ الأعظم: «مع أنّه لو سلّمنا عدم التخصیص، وجب الاقتصار علیه فی حکم الجدّ، دون الأب. ودعوی عدم القول بالفصل ممنوعة؛ فقد حکی عن بعض متأخّری المتأخّرین القول بالفصل بینهما فی الاقتراض مع عدم الیسر»(1).

أقول: مراده من «بعض متأخری المتأخرین» هو المحقّق الثانی صاحب جامع المقاصد حیث ذهب إلی جواز اقتراض الأب من مال ولده والاِءتِّجاربِهِ وعدم ضمانه وإن کان مُعْسِرا، دون غیره حتّی الجدّ، لأنّه فی ذیل قول العلاّمة فی القواعد: «ولو ضمن [الولی] واتّجر لنفسه وکان ملیّا ملک الربح واستحب له الزکاة»(2)، قال: «یستثنی من ذلک الأب وإن کان معسرا»(3).

ویکفی فی دفع الإجماع المرکب وجود القول بالفصل بین تصرف الأب والجدّ، فلا یتم اعتبار المصلحة فی تصرفات الأب خاصة.

ویجاب عنه: أوّلاً: بأنّه لیس فی خصوص تصرفات الأب دلیل لکی نستکشف منه الحکم، بل مجموعة من الأدلة تدلّ علی ولایة الاُولیاء وعمدتها الإجماع وضرورة الفقه، وهما دلیلان لبیّان یجب الاقتصار علی الْقَدر المتیقن وهوفی موارد وجود المصلحة والمنفعة فی التصرفات. بل قد مرّ أنّ شأن الولایة وموردهافرض وجود المصلحة.

ص:67


1- 1 . المکاسب 3/541 و 542.
2- 2 . قواعد الأحکام 1/329.
3- 3 . جامع المقاصد 3/5.

وثانیا: إذا تمت دلالة الآیة الشریفة وظهورها علی اعتبار المصلحة فی تصرفات الولی، فلا یتردّد أحد فی شمول هذا المدلول بالنسبة إلی الأب أیضا، وإن کان اللفظ قاصِرا عن أدائها.

وثالثا: الإجماع المرکب هو علی خلاف قول المحقّق الثانی لأنّ القائلین باعتبار المصلحة مطلقا یَرَوْنَ الأب والجدّ داخِلَیْنِ فی أدلة اعتبار المصلحة، والقائلین بعدم اعتبارها فی حقّهما یَرَوْنَهُما معا خارِجَیْنِ من أدلة اعتبار المصلحة وأنّها مخصصة بهما، ولا یفرِّق أحدٌ بین الأب والجدّ فتفصیل المحقّق الثانی لا وَجْهَ لَهُ.

ورابعا: علی فرض تعارض الأدلة فی الأب وتساقطها یکون المرجع الأصول اللفظیة والعملیة الماضیة فی الجواب عن الإشکال الثانی وهو المنع عن التصرف من دون المصلحة والمنفعة.

الاشکال الرابع

وهو ادِّعاءُ انصراف الآیة الشریفة عن الأب والجدّ وأنّ المخاطَب فیها غیرهما، فهی تدلّ علی اشتراط التصرفات بمراعاة المصالح فی ولایة غیرهما.

ویجاب عنه بِأَنَّ: «دَعْوی الاِنْصِرافِ عنها ممنوعة، وعهدة إثباتها علی مدّعیها، لأنّ الانصراف متقوّمٌ بقیام السبب الدال علیه وهو مفقود فی المقام، بل إنّ إطلاق الخطاب فی قوله تعالی: «لا تَقْرَبُوا» یشمل کلّ مخاطَب یصلح أن یکون مخاطَبا له، ومع عدم وجود القرینة الصارفة، یکون الخطاب شاملاً للأب والجدّ فضلاً عن غیرهما، کما هو الحال فی غیرها من الآیات الناهیة کقوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنی»(1) وأضرابها»(2).

الاشکال الخامس

«إنّ هناک شکوکا حول صدق عنوان الیتیم علی من فقد أباه دون جدّه، وبالتالی یکون الجدّ أجنبیّا عن خطاب الآیة الشریفة، وتشمل الأغیار عداهما.

ص:68


1- 1 . سورة الإسراء /32.
2- 2 . العقد النضید 4/201.

وفیه: أنّ الحاکم فی معرفة المراد من هذه الخطابات هو العُرْفُ، ثمَّ أهل اللّغه، وقد اتّفقت کلمتهم فی تفسیر الیتیم بمن هو فاقدٌ لأبیه، سواءً کان له جدٌّ حیّ أم لم یکن، فیشمل خطاب الآیة الجدّ وغیره، هذا وقد ذهب بعض الأعلام إلی صدق الیتیم علی من فقد أُمّه دون أبیه، وهذه الدعوی لو ثبتت استلزم اندراج الأب والجدّ کِلَیْهما فی من توجّه إلیهم الخطاب من دون الحاجة إلی الاستعانة بدلیل عدم الفصل، ولکنّها دعوی ممنوعة، لأنّ الثابت أنّ الفارق بین الإنسان والحیوان فی الیتم وعدمه، هو فقد الأب فی الأوّل والاُمّ فی الثانی»(1).

فذلکة القول فی دلالة الآیة الشریفة

آیة «لا تَقْرَبُوا» تدلّ علی اعتبار مراعاة المصلحة فی تصرفات الاُولیاء بلا فرق بین التصرفات الاعتباریة والتصرفات الخارجیة وبلا فرق بین الأب والجدّ وغیرهما، نعم بضرورة الفقه لا تدلّ علی مراعاة الأصلح والأنفع کما مرّ، وأمّا دلالتها علی مراعاة الأصلح والأنفع النسبی والغالبی والممکن فلا ینکر، واللّه العالم.

وهذا تمام الکلام حول الآیة الشریفة ودلالتها علی اعتبار المصلحة والحمد للّه.

ب: السنة
اشارة

تدلّ علی اعتبار المصلحة بعض الروایات:

منها: معتبرة عبداللّه بن یحیی الکاهلی قال: قیل لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّا ندخل علی أخ لنا فی بیت أیتام ومعه خادم لهم فنقعد علی بساطهم ونشرب من مائهم ویخدمنا خادمهم، وربما طعمنافیه الطعام من عند صاحبنا وفیه من طعامهم، فماتری فی ذلک؟ فقال: إن کان فی دخولکم علیهم منفعة لهم فلا بأس، وإن کان فیه ضرر فلا، وقال علیه السلام : «بَلِ الاْءِنْسانُ عَلی نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ»(2) فأنتم لا یخفی علیکم وقد قال اللّه - عزّ وجلّ - «وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»(3).(4)

ص:69


1- 3 . العقد النضید 4/203 و 204.
2- 1 . سورة القیامة /14.
3- 2 . سورة البقرة /220.
4- 3 . وسائل الشیعة 17/248، ح1، الباب 71 من أبواب ما یکتسب به.

بتقریب: إنّ المعتبرة باعتبار منطوق فقرة «إن کان فی دخولکم علیهم منفعة لهم فلا بأس» یدلّ علی اعتبار المصلحة فی تصرفات الولی.

التنافی المزعوم

وقد زعم بعض معاصری(1) الشیخ الأعظم وجود التنافی بین صدرها وذیلها فلا یمکن الأخذ بها.

وأمّا التنافی: فالمعتبرة «تتضمن قضیّتین شرطیّتین الاُولی قوله: «إن کان فی دخولهم علیهم منفعة لهم فلا بأس»، والثانیة قوله: «وإن کان فیه ضرر فلا»، وهما متضمّنتان لمنطوقین ومفهومین، أمّا منطوقهما فلا تنافی بینهما ولا تضادّ، إنّما التنافی بین

المفهومین لأنّ التصرّف فی مال الیتیم علی ثلاثة أنحاء: ما فیه المنفعة، وما فیه المضرّة، وما لیس فیه المنفعة والمضرّة، ویتحقّق تعارض المفهومین فی القسم الثالث من التصرّف، حیث یُفِیْدُ مفهوم القضیّة الشرطیّة الاُولی أَنَّ ما لا منفعة فیه ففیه بأس، والقضیّة الثانیة تفید أنّه إذا لم یکن التصرّف ضرریّا فلا بأس به، وهکذا یتعارضان ولا مجال للجمع الدلالی بینهما، لأنّ الأُولی تنفی الجواز والثانیة تثبت، فیتساقطان بتعارضهما وینبغی الرجوع إلی أصل آخر، وهی لیست البراءة بل عموم قوله علیه السلام »(2). فلا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر بأذنه(3)، فتکون النتیجة هی الحرمة فی محل الاجتماع، ووجود التنافی بین الصدور الذیل ثابت، فالأخذ بالمعتبرة والحکم بدلالتها علی وجود المصلحة فی تصرفات الولی مشکل.

ولکن ذهب الشیخ الأعظم إلی أنّ المراد بالجملة الأولی لیس شیئا غیر الضرر بقرینة مورد المعتبرة وما جاء فی الجملة الثانیة هو تفسیر للجملة الأولی وبالتالی فلا

ص:70


1- 4 . قال الإشکوری فی بُغیة الطالب 2/107: «المُورد هو صاحب الجواهر»، أقول: لم أجده فی الجواهر کما صرح به المحقّق المروج فی هدی الطالب 6/263.
2- 1 . العقد النضید 4/314.
3- 2 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال، التوقیع المروی بسند صحیح.

منافاة بین صدرها وذیلها وقال: «بناءً علی أنّ المراد من منفعة الدخول ما یوازی عوض ما یتصرّفون من مال الیتیم عند دخولهم، فیکون المراد بالضرر فی الذیل: أن لایصل إلی الأیتام ما یوازی ذلک، فلا تنافی بین الصدر والذیل علی ما زعمه بعض المعاصرین: من أنّ الصدر دالّ علی إناطة الجواز بالنفع، والذیل دالّ علی إناطة الحرمة بالضرر، فیتعارضان فی مورد یکون التصرّف غیر نافع ولا مضرّ. وهذا منه مبنیّ علی أنّ المراد بمنفعة الدخول النفع الملحوظ بعد وصول ما بإزاء مال الیتیم إلیه، بمعنی أن تکون المنفعة فی معاوضة ما یتصرّف من مال الیتیم بما یتوصّل إلیهم من ماله، کأن یشرب ماءً فیعطی فلسا بإزائه، وهکذا... وأنت خبیر بأنّه لا ظهور للروایة حتّی یحصل التنافی»(1).

ویرد علیه: أنَّ التنافی بین الجملتین موجود لأنّ الجملة الاُولی تدل علی أنّ مناط الجواز هی المنفعة والجملة الثانیة تدلّ علی أن مناط عدم الجواز هو الضرر ففی فرض التساوی إمّا أَنْ تَجْرِیا فتتنافیان وإمّا لا تجریان فلا یستفاد حکم الصورة التساوی من المعتبرة ولعلّ عدم الجریان أظهر.

جواب المیرزا النائینی عن التنافی

لم یرض النائینی بجواب الشیخ الأعظم وذهب إلی أنّ المراد بالمنفعة فی الصدر هی المنفعة المتعارفة فیکون لمفهومها وفی مقابلها صورتان: الصورة الاولی: وجود الضرر، والصورة الثانیة: فرض التساوی وعدم المنفعة والضرر معا، فصرح فی الذیل بالصورة الاُولی فقط، وقال: «لو لم یکن الدخول صلاحا لهم سواء کان ضرریا أو لا - ففیه البأس، وذکر أحد فردی المفهوم لخصوصیة موجبة لذکره فی الشرطیة الثانیة لا یوجب أن تکون الشرطیة الاُولی ساکتةً عمّا لم یکن فیه صلاح وفساد، لأنّ ظاهر الشرط فی الثانی أنّ المدار علی الأوّل، فهو تابع للأوّل، مع أنّه لو کان کذلک فمقتضی الأصل - وهو عدم ولایة أحدٍ علی مال غیره - هو اعتبار الصلاح فلا تعارض بین الصَّدْرِ والذیل»(2).

ص:71


1- 3 . المکاسب 3/577 و 578.
2- 1 . منیة الطالب 2/244 و 243.

مراده: الصورة الثانیة وهی أنَّ فرض التساوی فی المعاملات نادر ولم تذکرها المعتبرة لندرتها ولکن إطلاق الصدر یشملها ویحکم علیها بالحرمة ولکن لیس للذیل إطلاق حتّی یشملها.

إجابة السیّد الخوئی عن التنافی

قال: «أن الروایة أجنبیّة عما نحن فیه؛ لأنّها واردة فی التصرّفات الخارجیّة، أی حکم الاستیلاء علی مال الیتیم تکلیفا، وهو خارج عن محلّ الکلام. ومن الظاهر أنّه لو اعتبر فی التصرّف فی مال الیتیم رجوع نفع مصطلح إلی الیتیم لم یقدم أحد علی التصرّف فی مالهم ولا علی الدخول علیهم ولا علی الجلوس فی بساطهم وهکذا، فلا یمکن حفظ کیان الیتیم»(1).

قد یقال: «بل المراد من الضرر فی الذیل أن لایوصل إلی الأیتام ما یوازی المصروف من مالهم لأنّ مورد السؤال هو خدمة خادمهم للوارد فی مدّة قصیرة وأکل شیء من طعامهم وأمثال ذلک من الأشیاء التی لا تقع بإزائها الثمن عادة فلو دخل علیهم واستفاد منهم هذه الأشیاء الیسیرة وأوصل بإزاء ذلک خیرا إلیهم فقد نفعهم یکون دخوله علیهم من القرب والتصرّف بما هو أحسن وإلاّ یکون دخوله ضررا علیهم وعلیه فلا تنافی بین الصدر والذیل حتّی یحتاج إلی التوجیه الذی ارتکبه [الشیخ الأعظم]»(2).

أقول: بهذه الإحابات ینفی التنافی المدعی والحمد للّه.

ومنها: خبر علی بن المغیرة قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إن لی ابنة أخ یتیمة فربما أُهدی لها الشیء فآکل منه ثمّ أطعمها بعد ذلک الشیء من مالی فأقول: یا رب هذا بذا فقال علیه السلام : لا بأس.(3)

والروایة ضعیفة سندا لأنّ ذُبْیان بن حکیم الأودی أو الأزدی، وعلی بن المغیرة مجهولان مهملان لیس لهما توثیق.

ص:72


1- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/67.
2- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/67. تعلیقة آیة اللّه الشهید الشیخ الأحمدی علی المحاضرات.
3- 1 . وسائل الشیعة 17/249، ح2.

قد یقال: ترک الاستفصال فی الروایة بین مساواة المال المدفوع إلیها مع المأکول أو قلّته أو کثرته والحکم فی الجمیع ب- «لا بأس» یدلّ علی عدم اعتبار المصلحة والمنفعة للیتیم.

وفیه: الروایة لیس لها إطلاق، لأنّ العلاقة العاطفیة بین العم وبنت الأخ الیتیمة تقتضی کون المال المدفوع إلیها أکثر من المأکول بکثیر عادةً، فالروایة لا تشمل حکم التساوی والقلّة.

ولکن العمدة فیها ما ذکره السیّد الخوئی فی المعتبرة من أنّها وردت فی مورد خاص وهو الأکل والشرب والتصرف الخارجی والحکم التکلیفی فقط.

ومنها: موثقة أو صحیحة ابن مسکان عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لما نزلت «إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوالَ الْیَتامی ظُلْما إِنَّما یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نارا وَسَیَصْلَوْنَ سَعِیرا»(1) أخرج کلُّ من کان عنده یتیم، وسألوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی إخراجهم فأنزل اللّه: «وَیَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُکُمْ وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»(2).(3)

بتقریب: أَنَّ الآیة الثانیة تدلّ علی مراعاة الإصلاح فی أموال الیتامی دون الأصلح أو الأحسن الْواقِعِیَّیْنِ، فتدل علی مراعاة المصلحة فی أموالهم بالتصرفات الخارجیة والاعتباریة.

والشاهد علی ما ذکرنا مرسلة عبداللّه بن الحجاج عن أبی الحسن موسی علیه السلام قال: قلت له: یکون للیتیم عندی الشیء وهو فی حجری أنفق علیه منه، وربّما أصیب ممّا

یکون له من الطعام، وما یکون منّی إلیه أکثر، قال: لا بأس بذلک.(4)

وهذه المرسلة تدل علی مراعاة المصلحة فی أموالهم لأن السائل یقول: «وما

ص:73


1- 2 . سورة النساء /10.
2- 3 . سورة البقرة /220.
3- 4 . وسائل الشیعة 17/255، ح5، الباب 73 من أبواب ما یکتسب به.
4- 1 . وسائل الشیعة 17/255، ح4.

یکون منّی إلیه أکثر».

ونحوها مرسلة علیّ عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سألته عن قول اللّه فی الیتامی: «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُکُمْ»(1) قال: یکون لهم التمر واللبن، ویکون لک مثله علی قدر ما یکفیک ویکفیهم، ولا یخفی علی اللّه المفسد من المصلح.(2)

ومنها: صحیحة عبداللّه بن سنان عن أبی عبداللّه علیه السلام فی قول اللّه - عزّ وجلّ - : «فَلْیَأْکُلْ بِالْمَعْرُوفِ»(3) قال: المعروف هو القوت، وإنّما عنی الوصی أو القیم فی أموالهم وما یصلحهم.(4)

ومنها: صحیحة أبی الصباح الکنانی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی قول اللّه - عزّوجلّ - : «وَمَنْ کانَ فَقِیرا فَلْیَأْکُلْ بِالْمَعْرُوفِ»(5) فقال: ذلک رجل یحبس نفسه عن المعیشة فلا بأس أن یأکل بالمعروف إذا کان یصلح لهم أموالهم، فإن کان المال قلیلاً فلا یأکل منه شیئا... الحدیث.(6)

ومنها: صحیحة ابن رئاب قال: سألت أباالحسن موسی علیه السلام عن رجل بینی وبینه قرابة مات وترک أولادا صغارا، وترک ممالیک غلمانا وجواری ولم یوص، فماتری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها أُم ولد؟ وماتری فی بیعهم؟ قال: فقال: إن کان لهم ولیّ یقوم بأمرهم باع علیهم ونظر لهم وکان مأجورا فیهم، قلت: فماتری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها أُم ولد؟ فقال: لا بأس بذلک إذا باع علیهم القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم، فلیس لهم أن یرجعوا فیما صنع القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم.(7)

ص:74


1- 2 . سورة البقرة /220.
2- 3 . وسائل الشیعة 17/255، ح3.
3- 4 . سورة النساء /6.
4- 5 . وسائل الشیعة 17/250، ح1، الباب 72 من أبواب ما یکتسب به.
5- 6 . سورة النساء /6.
6- 7 . وسائل الشیعة 17/251، ح3.
7- 8 . وسائل الشیعة 17/361، ح1، الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.

بتقریب: أنها تنص فی اعتبار المصلحة بفقرتی: «الناظر فیما یصلحهم» المکررة،

وعنوان الولی القیم عام یشمل کل من یتولّی اُمور الأیتام من الجدّ أو غیرهم.

ج: الإجماع

المصرح به فی کلام العلاّمة فی التذکرة(1) والشهید فی الحاشیة النجاریة(2) حاکیا عن قطب الدین البویهی، والشیخ جعفر فی شرح القواعد(3) والسیّد العاملی فی مفتاح الکرامة(4) بالنسبة إلی اعتبار المصلحة فی تصرفات الولی. بل فی کلام ابن ادریس: «هذا الذی تقتضیه اُصول المذهب»(5).

وفیه: قد مرّ(6) فی بحث الوجوه والأقوال فی المسألة قولٌ بعدم اشتراط المصلحة وکفایة عدم وجود المفسدة فی تصرفات الولی وذِکْرُ الْقائِلِیْنِ به. فلیس فی البین إجماع.

نعم، یمکن أن یقال: بأنّ قدماء الأصحاب قائلون باعتبار المصلحة فی تصرفات الولی کما صرح به الفاضل الأصفهانی فی شرحه علی الروضة: «أنّ المتقدمین عمّموا الحکم باعتبار المصلحة من غیر استثناء»(7).

وثانیا: هذا الإجماع - علی فرض تَمامِیَّتِهِ ولم یتم - مدرکیٌ أو لاأقل من احتمال کونه مدرکیّا فلا یغنی ولا یسمن من جوع.

د: العقل

العقل حاکم ومستقل بأنّ جعل الولایة للأیتام لیس إلاّ لأجل حفظ منافع الصغار وحقوقهم وأموالهم، فلابدّ أن یقیّد به الحکم الشرعی بجعل الولایة.

ص:75


1- 1 . تذکرة الفقهاء 14/245.
2- 2 . الحاشیة النجاریة /225.
3- 3 . شرح القواعد 2/145.
4- 4 . مفتاح الکرامة 12/681؛ و 16/90.
5- 5 . السرائر 1/441.
6- 6 . هذا المجلد صفحة 48.
7- 7 . المناهج السویة فی شرح الروضة البهیة / مخطوطة، نقل عنه فی المکاسب 3/540.

ومضافا إلی أنّ سیرة العقلاء قائمة علی مراعاة مصالحهم ومنافعهم ولم یَنْهَ الشارِعُ المقدس عنه فلابدّ أن یکون معتبرا عنده.

بل یمکن أن یقال: فی جمیع أنواع الولایات یکون مقتضی جعلها مراعاة مصلحة المولّی علیه وهذه الاقتضاء قضیة ارتکازیة ثابتة عند العقلاء وعلیه سیرتهم، لأنّهم «حین ما یجتمعون وینتخبون مِن بینهم مَنْ یکون حاکما وسلطانا علی مجموعة من

الناس، وإنّما یفعلون ذلک لأجل أن یکون الحاکم المنصوب راعیّا لمصالح عامة الناس لا مصلحة نفسه أو فئة معینة وبالتالی فطبیعة الولایة بنفسها تقتضی رعایة مصلحة المولّی علیه»(1).

ولعل إلی ما ذکرنا أشار شیخ الطائفة فی قوله: «من یلی أمر الصغیر والمجنون خمسة: الأب والجدّ ووصیّ الأب أو الجدّ والإمام أو من یأمره الإمام.

فأمّا الأب والجدّ فإن تصرّفهما مخالف لتصرّف غیرهما فیکون لکلّ واحد منهما أن یشتری لنفسه من ابنه الصغیر من نفسه فیکون موجبا قابلاً قابضا مقبضا، ویجوز تصرّفهما مع الأجانب، ولا یجوز لغیرهما إلاّ مع الأجانب فأمّا فی حقّ نفسه فلا یجوز.

فإذا ثبت ذلک فکلّ هؤلاء الخمسة لا یصحّ تصرّفهم إلاّ علی وجه الاحتیاط، والحظّ للصغیر المولّی علیه لأنّهم إنّما نصبوا لذلک فإذا تصرّف علی وجه لا حظّ له فیه کان باطلاً لأنّه خالف ما نصب له»(2).

وبالجملة: الأدلة الشرعیة بالنسبة إلی جعل الولایة حتّی لو کان لها إطلاق - ولم یکن - تقید بحکم العقل المستقل والسیرة العقلائیة وإرتکازاتهم بمراعاة المصلحة للمولّی علیه وعدم نفوذ الولایة من دونها، والحمد للّه الذی خلق العقل وجعله حجة باطنة وأفضل شیءٍ عُبد به.

ص:76


1- 1 . العقد النضید 4/199.
2- 2 . المبسوط 2/200.
تنبیهات
الاولی: المراد من الجد

هل المراد من الجدّ الذی له الولایة هو خصوص الجدّ الأدنی - أی أَبُوْ الأب - أم هو مطلق الجدّ وإن علا فیشمل أبا الجَدِّ وَجَدَّ الجَدِّ؟

تنّظر صاحب الجواهر فی إطلاق الجدّ وقال: «وکیف کان ففی تعدّی الحکم إلی أب الجدّ وجدّ الجدّ وإن علا مع الأب نظر»(1).

وتبعه المحقّق الأصفهانی ویری اختصاص الجدّ بالأدنی وقال: «... مع قطع النظر عن انصراف الجدّ إلی الأدنی لا ظهور لجملة منها (من الروایات) فی غیر الجدّ الأدنی... فإنّ ظاهر هذه الأخبار کون موردها الجدّ الأدنی. نعم بعضها الآخر بعنوان الأب والجدّ،

لکنه یمکن دعوی الانصراف وعدم الإطلاق للأعلی بملاحظة الأخبار الأولی فتدبر»(2).

ولکن الشیخ الأعظم یری أنّ المراد بالجدّ عام فیشمل أبا الجدّ وجدّ الجدّ وهکذا وإن علا قال: «ثمّ لا خلاف ظاهرا - کما ادّعی - فی أنّ الجدّ وإن علا یشارک الأب فی الحکم، ویدلّ علیه ما دلّ علی أنّ الشخص وماله - الذی منه مال ابنه - لأبیه، وما دلّ علی أنّ الولد ووالده لجدّه»(3).

وتبعه السیّد الخوئی وقال: «والظاهر ثبوتها (أی الولایة) له (أی للجد الأعلی) لأنّ بعض الأخبار وإن کانت مختصة بالجدّ الأدنی إلاّ أن بعضها مطلقة یعمّ الجدود ولا وجه لدعوی انصرافها من الجدّ إلی الجدّ الأدنی»(4).

لتنقیح البحث لابدّ من مراجعة روایات الباب وهنّ علی طائفتین:

الطائفة الاولی: ما یختص بالجدّ الأدنی

منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال: إذا زوّج الرجل ابنة ابنه فهو

ص:77


1- 3 . الجواهر 27/202 (26/102).
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/376.
3- 2 . المکاسب 3/542.
4- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/22؛ ونحوها فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/151.

جائز علی ابنه، ولابنه أیضا أن یزوّجها، فقلت: فإن هوی أبوها رجلاً وجدّها رجلاً فقال: الجدّ أولی بنکاحها.(1)

ومنها: موثقة الفضل بن عبدالملک عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إنّ الجدّ إذا زوّج ابنة ابنه وکان أبوها حیّا وکان الجدّ مرضیّا جاز، قلنا: فإن هوی أبو الجاریة هوی، وهوی الجدّ هوی وهما سواء فی العدل والرضی، قال: أحبّ إلیّ أن ترضی بقول الجدّ.(2)

ومنها: معتبرة عبید بن زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إذا زوّج الرجل ابنة ابنه فهو جائز علی ابنه، قال: ولابنه أیضا أن یزوّجها، فإن هوی أبوها رجلاً وجدّها رجلاً فالجدّ أولی بنکاحها، الحدیث.(3)

الطائفة الثانیة: مطلقات أو معلّلات

فتشمل الجدّ وإن علا بإطلاقها أو بالتعلیل الوارد فیها:

منها: موثقة عبید بن زرارة قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الجاریة یرید أبوها أن

یزوّجها من رجل ویرید جدّها أن یزوّجها من رجل آخر فقال: الجدّ أولی بذلک ما لم یکن مضارّا، إن لم یکن الأب زوّجها قبله، ویجوز علیها تزویج الأب والجدّ.(4)

وبإطلاقها تشمل الجدّ الأدنی والأعلی. اللهم إلاّ أن یقال: «إنّ السؤال لم یکن»(5) مطلقا منذ البدایة لینعقد الجواب مطلقا، بل کان مقیدا بالأدنی ویتبعه الجواب.

ویمکن أن یجاب عنه: بأنّ الجواب یکون مطلقا ولو لم یکن السؤال کذلک والقاعدة تقتضی لزوم الأخذ بإطلاق الجواب.

ومنها: صحیحة هشام بن سالم ومحمّد بن حکیم عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: إذا زوّج

ص:78


1- 4 . وسائل الشیعة 20/289، ح1، الباب 11 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد.
2- 5 . وسائل الشیعة 20/290، ح4.
3- 6 . وسائل الشیعة 20/291، ح7.
4- 1 . وسائل الشیعة 20/289، ح2.
5- 2 . العقد النضید 4/211.

الأب والجدّ کان التزویج للأوّل، فإن کانا جمیعا فی حال واحدة فالجدّ أولی.(1)

إطلاقها ظاهر.

ومنها: خبر علی بن جعفر - عند القوم - وحسنته عندنا عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل أتاه رجلان یخطبان ابنته فهوی أن یزوّج أحدهما وهوی أبوه الآخر، أیّهما أحقّ أن ینکح؟ قال: الذی هوی الجدّ (أحقّ بالجاریة) لأنّها وأباها للجدّ.(2)

لیست الروایة مطلقة ولکنها معلّلة، والتعلیل الوارد فیها یشمل الجدّ وهو قوله علیه السلام : «لأنّها وأباها للجدّ».

وسندها صحیح لاِءنَّ عَلِیَّ بن جعفرٍ العُرَیْضی رَواها فی کِتابِه ولصاحب الوسائل سند صحیح إلی کتاب علی بن جعفر فبهذا السند تکون صحیحة.

وبالجملة: إطلاق بعض الروایات وتعلیل بعضها الآخر یدلاّن علی أنّ المراد بالجدّ مطلق ویشمل الجدّ وإن علا، نعم آیة أُولی الأرحام وهی قوله تعالی: «وَأُولُوا الاْءَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ»(3) أجنبیّة عن الدلالة لأنّها واردة فی المواریث والفرائض.

والحاصل: نحن مع الشیخ الأعظم والسیّد الخوئی وشیخنا الاستاذ(4) رحمه الله والاستاذ

المحقّق(5) - مدظله - بأنّ المراد من الجدّ مطلق الجدّ وإن علا، واللّه العالم.

الثانیة: هل ولایة الجدّ - فی تزویج حفیدته - مختصة بحال حیاة الأب؟

أو أنّهاثابتة مطلقا - فی حال حیاة الأب ومماته - ؟ قولان: الثانی - وهو ثبوت

ص:79


1- 3 . وسائل الشیعة 20/289، ح3.
2- 4 . وسائل الشیعة 20/291، ح8.
3- 5 . سورة الأنفال /75.
4- 6 . إرشاد الطالب 4/192.
5- 1 . العقد النضید 4/212.

ولایته مطلقا - هو المشهور. بین المتأخرین، ونُسب الأوّل إلی المشهور بین القدماء(1). کما هو مختار الصدوق(2) والشیخ(3) وأَبْناءِ الجنید(4) والبراج(5) وزهرة(6) وأبی الصلاح(7) وسلاّر(8). ومال إلیه من المتأخرین الفاضل الأصفهانی(9).

مستند القول الأوّل وهو اختصاص ولایة الجدّ بحیاة الأب

لیس إلاّ ما مرّ من قوله علیه السلام فی موثقة الفضل بن عبدالملک: «إنّ الجدّ إذا زوّج ابنة ابنه وکان أبوها حیّا وکان الجدّ مرضیّا جاز»(10).

بتقریبین: الأوّل: مفهوم الشرط: المأخوذ فی کلام الإمام علیه السلام شرطان: 1- حیاة الأب، 2- کون الجدّ مرضیا، فإذا کانا مَوْجُوْدَیْنِ معا تثبت الولایة للجدّ، وإذا فقد أحدهما - حیاة الأب أو کون الجدّ غیر مرضی فی اعتقاده وأفعاله أی غیر عادل - فولایته تنتفی بمفهوم القضیة الشرطیة.

وهذا التقریب ورد فی کلام صاحب الجواهر حیث یقول: «أنّها [أی دلالتها] من مفهوم الشرط - لإرادة بیان الجواز فی هذا الحال فضلاً عن حال موت الأب، ردّا علی من اعتبر موت الأب فی ثبوت ولایة الجدّ من العامة»(11).

ویرد علیه: بأنّ ما ورد فی الموثقة من قبیل مفهوم الوصف لا مفهوم الشرط - کما

ص:80


1- 2 . کما فی حاشیة المکاسب 2/377 للمحقّق الاصفهانی.
2- 3 . الهدایة /260.
3- 4 . النهایة 2/311 و 312.
4- 5 . راجع المختلف 7/100.
5- 6 . المهذب 2/195.
6- 7 . غنیة النزوع /342.
7- 8 . الکافی فی الفقه /292.
8- 9 . المراسم /148.
9- 10 . کشف اللثام 7/59 و 60.
10- 11 . وسائل الشیعة 20/290، ح4.
11- 12 . الجواهر 30/304 (29/171).

علیه بعض ویراه المحقّق الأصفهانی(1) هو الحق - فلا یتم هذا التقریب «لأنّ الشرطیة هنا لتحقیق الموضوع لا لتعلیق الحکم»(2). مضافا إلی إعراض المشهور عن اعتبار العدالة فی ولایة الأب والجدّ.

الثانی: مفهوم الوصف: الوارد فی قوله علیه السلام : «وکان أبوها حیّا» مفهوم هذا الوصف یدلّ علی انتفاء ولایة الجدّ إذا لم یکن أبوها حیّا.

ویرد علیه: ما اُورده المحقّق الأصفهانی بقوله: «أنّ الوصف إنّما یکون له مفهوم إذا لم یکن لإیراده فی الکلام فائدة وهی هنا دفع توهم ولایة الجدّ بعد فقد الأب کما عن بعض العامة(3)»(4).

ولذا قال السیّد الخوئی: «لیس لهذه الجملة مفهوم، لأنّ العامّة علی الظاهر متّفقون علی عدم ثبوت الولایة للجدّ مع وجود الأب - للآیة الشریفة - ومن المحتمل أنّ الإمام علیه السلام أراد من هذا القید الإشارة إلی ذلک، أی ثبوت الولایة للجدّ ولو مع وجود الأب، فالمراد حتّی إذا کان حیّا. وهذا وإن کان تأویلاً للروایة، إلاّ أنّه قریب جدّا بعد اتّفاق العامّة علی ما ذکرناه، فلیس للقضیّة مفهوم من هذه الجهة»(5).

وأمّا سند الروایة: فَسَیَأْتی الإشکال فی السند مِنْ قِبَلِ جعفر بن سماعة وأنّه هَلْ هُوَ جعفر بن محمّد بن سماعة الذی وثقه النجاشی(6) وصرّح بوقفه أو غیره؟

ص:81


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/377.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/377.
3- 3 . العامة متفقون علی عدم ثبوت الولایة للجدّ مع وجود الأب - علی الظاهر - کما ورد فی الحاوی الکبیر 9/91؛ ومغنی المحتاج 3/149؛ الاُمّ 5/13؛ المجموع 16/147 و 154؛ المغنی 7/346، والفقه علی المذاهب الأربعة 2/354؛ و 4/26.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/377.
5- 5 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/24.
6- 6 . رجال النجاشی /117، رقم 305.

ذهب ابن داود(1) إلی أنّ جعفر بن سماعة غیر حفید سماعة وضعّفه وتبعه المامقانی(2)، ولکن المجلسی مع أنّه یری وحدتهما فی وجیزته(3) اختار ضعف سند

الروایة فی مرآة العقول(4) مدعیّا أنّ فی رجاله بعض الواقفیة.

وذهب إلی اتحادهما العلاّمة فی خلاصته(5) حیث لم یعنون غیر جعفر بن محمّد بن سماعة، والقهبائی فی مجمع الرجال(6)، والشیخ عبدالنبی الجزائری فی حاوی الأقوال(7)، والتفرشی فی نقد الرجال(8) المیرزا الاسترآبادی فی منهج المقال(9) وأبوعلی الحائری فی منتهی المقال(10) والسیّد الخوئی فی معجم رجال الحدیث(11).

ونحن مع الاتحاد لأنّ الانتساب إلی الجِدّ شائعٌ وفساد مذهب الروای لم یضرّ باعتبار الروایة إذا کان ثقة وَصَدُوْقا فی مقالته فتم سند الروایة عندنا وهی موثقة الإسناد کما مرّ.

وبالجملة: سند الروایة تامٌّ ولکن دلالتها لم تتم فلا یتم القول بأنّ ولایة الجدّ مختصة بحال حیاة الأب واللّه العالم.

ص:82


1- 7 . رجال ابن داود /385.
2- 8 . تنقیح المقال 15/156، رقم 3881.
3- 9 . الوجیزة فی الرجال /44، رقم 365، قال: جعفر بن سماعة ثقة غیر امامی هو ابن محمّد بن سماعة، وقیل: ضعیف غیره.
4- 1 . مرآة العقول 20/133.
5- 2 . ترتیب خلاصة الأقوال /124، رقم 22.
6- 3 . مجمع الرجال 2/28.
7- 4 . حاوی الأقوال /199، رقم 1051.
8- 5 . نقد الرجال /69، رقم 32 (1/344، رقم 969).
9- 6 . منهج المقال 3/201، رقم 1049: قال: «والحقّ أنّه جعفر بن محمّد بن سماعة...».
10- 7 . منتهی المقال 2/247، رقم 553.
11- 8 . معجم رجال الحدیث 2/377.

مقالة الاستاذ المحقّق - مدظله - ونقده

ولکن مع ذلک کلّه قال فی العقد النضید: «... لا سبیل للاطمئنان إلی اتّحاد جعفر ابن سماعة مع جعفر بن محمّد بن سماعة، بل الدلیل علی خلافه، ولو سلّمنا اتّحادهما فإنّ ذلک غیر مفید فی المقام، ولا ینفعنا فی الاعتماد علی هذه الروایة لاعتقادنا بعدم حجیّتها، وإن نلتزم بوثاقة جعفر بن محمّد، وذلک لإعراض مشهور الفقهاء عن العمل بها - خلافا لما ادّعاه العلاّمة فی التذکرة من الإجماع علی العمل بها، بل إنّ مضمونها تخالف فتوی المشهور من جهتین: اشتراط العدالة فی الجدّ، واشتراط ولایته بحیاة الأب، وبالتالی فمن یلتزم بسقوط الروایة بإعراض الشمهور عنها - کما هو الحقّ الذی نلتزم به - علیه أن یحکم بسقوط هذه الروایة عن الحجیّة»(1).

أقول: الأُستاذ المحقّق - مدظله - متحد معنا فی نتیجة الاستدلال دون طریقه

ولکن یرد علیه: أوّلاً: الاطمئنان حاصل لنا فی اتحاد جعفر بن سماعة وجعفر بن محمّد بن سماعة لما مرّ من أنّ الانتساب إلی الجدّ شائع.

وثانیا: إعراض الأصحاب ثابت بالنسبة إلی الفقرة الثانیة وهی قوله علیه السلام : «وکان الجدّ مرضیّا» الدالة علی اعتبار العدالة فی ولایة الجدّ. وأمّا بالنسبة إلی الفقرة الاُولی وهیقوله علیه السلام : «وکان أبوها حیّا» کیف یثبت اعراض الأصحاب مع ذهاب مشهور القدماء إلیه کما مرّ ومیل کاشف اللثام إلیه.

وثالثا: ردّ العلاّمة اعراض الأصحاب عن الروایة حیث ادعی الإجماع علی العمل بها کما نقله الاستاذ المحقّق - مدظله - ومع ادعاء هذا الاجماع کیف یثبت إعراض الأصحاب عنها.

ص:83


1- 9 . العقد النضید 4/221.

وأمّا مستند القول الثانی: وهو ثبوت ولایة الجدّ مطلقا - أی بلا فرق بین حال حیاة الأب ومماته فَهُوَ - :

أ- الإطلاقات

الماضیة فی ولایة الجدّ الواردة فی تزویج حفیدته الشاملة لحالتی حیاة الأب ومماته.

ولذا قال صاحب الجواهر: «مضافا إلی إطلاقه (إطلاق موثّق عبید(1)) جواز تزویج کلّ منهما علیها»(2).

ب: التعلیل

الوارد فی صحیحة علی بن جعفر: «لأنّها وأباها للجدّ»(3)، یقتضی ثبوت الولایة للجدّ مطلقا فی حال حیاة أبیها ومماته.

ج: أقوائیة

ولایة الجدّ من ولایة الأب کما صرح بها بعض الروایات الماضیة «ولذا یقدم الجدّ علی الأب مع المزاحمة، فیبعد جدّا اشتراط ولایته ببقاء حیاة الأب فتدبر»(4).

وقال صاحب الجواهر بعد موثق عبید(5): «الدالّ علی قوّة ولایة الجدّ من ولایة

الأب فلا یؤثر فیها موت الأضعف کالعکس، بل هو أولی...»(6).

د: استصحاب

ولایة الجدّ فی حال حیاة الأب بعد مماته ولذا قال فی الجواهر: «وللاستصحاب

ص:84


1- 1 . وسائل الشیعة 20/289، ح2.
2- 2 . الجواهر 30/305 (29/172).
3- 3 . وسائل الشیعة 20/291، ح8.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/377 للمحقّق الأصفهانی.
5- 5 . وسائل الشیعة 20/289، ح2.
6- 1 . الجواهر 30/305 (29/172).

فی بعض الأفراد»(1).

وقد ناقشه الاستاذ المحقّق(2) - مدظله - بأنّ جریان الاستصحاب مشروط باتحاد قضیتی المتیقنة والمشکوکة وفی ما نحن فیه نشک فی اتحادهما فی الموضوع لاحتمال أن تکون حیاة الأب قیدا أو شرطا لولایة الجدّ. وهی مفقودة فی القضیة المشکوکة.

الثالثة: مع فقدان الأب هل تختص الولایة بالجدّ أم یُشارِکُهُ أبوه وجدّه؟

قال السیّد المجاهد: «وهل الأجداد فی مرتبة واحدة، فکلّهم اولیاء بالاستقلال أو لا؟ بل الأقرب إلی الأب یمنع الأبعد، صرّح بالثانی فی جامع المقاصد(3) والمسالک(4) والکفایة. ویظهر الأوّل من إطلاق الشرائع والنافع والتبصرة والإرشاد والتحریر والقواعد والتذکرة والدروس واللمعة وکنز العرفان والروضة والریاض»(5).

وقال الشیخ الأعظم: «لو فُقد الأب وبقی الجدّ، فهل أبوه أو جدّه یقوم مقامه فی المشارکة أو یخصّ هو بالولایة؟ قولان»(6).

أقول: مرادهم من هذا الفرع التنبیه علی أنّ ولایة الأجداد هل هی ثابتة لجمیع طبقاتهم وإن علوا فی عرض واحد، أم هی طولیة فلا تثبت لاِءبی الجَدّ إلاّ بعد فقد الجدّ ولا تثبت لجدّ الجدّ إلاّ بعد فقد أبی الجَدّ وهکذا لا تثبت للأعلی إلاّ بعد فقد الأدنی؟ فیه قولان، قد مرّ القائلون بهما فی کلام السیّد المجاهد.

دلیل طولیة ولایة الأجداد

قوله تعالی: «أُولُوا الاْءَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ»(7)

ص:85


1- 2 . الجواهر 30/304 (29/171).
2- 3 . کما فی العقد النضید 4/223.
3- 4 . جامع المقاصد 5/187.
4- 5 . المسالک 7/171.
5- 6 . المناهل /105.
6- 7 . المکاسب 3/542.
7- 8 . سورة الأنفال /75؛ سورة الأحزاب /6.

بتقریب: الآیة الشریفة بالنسبة إلی الولایة کالمیراث تدلّ علی وجود الطبقات والترتیب، فمادام الجدّ کان حیّا لم تثبت ولایة بالنسبة إلی أبی الجَدّ، لأنّه - الجدّ - کان أولی وأقرب بالمولّی علیه من أبی الجدّ. فَوِلایَةُ أبی الجدِّ متوقفة علی فقد الجدّ وهکذا فقد الأدنی حتّی تصل النوبة إلی الأعلی، لأنّ الآیة الشریفة جعلت الأولویة بالنسبة إلی أولی الأرحام ومنها اُولویة الولایة.

بعبارة أُخری: الآیة الشریفة تثبت وجود الولایة الطولیة بحسب طبقات الولاة کماتثبت المیراث بحسب طبقات الإرث. ومع وجود الجدّ الأدنی لم تصل النوبة إلی الجدّ الأعلی فی الولایة وأنّ الأقرب یمنع ولایة الأبعد بالنسبة إلی المولّی علیه.

ویرد علیه: أوّلاً: الآیة الشریفة مختصة بباب الإرث، وعلی فرض عدم اختصاصها یمکن الاستدلال بها فی مسألة تغسیل المیت وتجهیزه کما فعله صاحب الجواهر(1).

وأمّا دلالتها علی باب الولایات فلا تتم، وعلی فرض جریانها فی الولایات تثبت بها ولایة أولی الأرحام حصرا وتنفی بها ولایة الأجانب دون استفادة الطولیة أو العرضیة منها، فتدبر.

وثانیا: علی فرض تمامیة دلالتها علی طولیة ولایة أُولی الأرحام یستلزم تخصیص الأکثر المستهجن، لأنّ الولایة فی طبقات الأرث منحصرة بالأب والجدّ الأبی فقط، وهذه یستلزم خروج کثیر من الأفراد والطبقات بحیث یصیر التخصیص مستهجنا.

وثالثا: علی فرض تمامیة دلالتها یلزم عدم ثبوت الولایة للجدّ فی حیاة الأب - کما علیه العامة - مع أنّه قد مرّ ثبوتها فی حیاته ومماته ومن هذا التخصیص یظهر أنّ أدلة الولایة حاکمة علی هذه الدلالة.

وبالجملة: هذه الآیة الشریفة أجنبیة مِن الدِّلالة علی مَنْ له الولایة وثبوتها وطولیتها أو عرضیتها وطبقاتها وترتیبها، واللّه سبحانه هو العالم.

ص:86


1- 1 . راجع الجواهر 4/57 من طبعة جماعة المدرسین.

فظهر مما ذکرنا عدم وجود الطولیة بالنسبة إلی ولایة الأب والجدّ بحیث ولایة الأب تکونُ مقدمة علی ولایة الجدّ بل أنّهما فی عرض واحد فلا یتم ما ذکره العلاّمة رحمه الله فی وصایا التذکرة من قوله: «ولایة الأب مقدّمة علی ولایة الجدّ»(1).

الرابعة: المراد من الأب والجدّ النسبیین

«إنّ الظاهر اختصاص الولایة بالأب والجدّ النسبیین دون الرضاعیین، لأنّهما - علی فرض صدق الأب والجدّ علیهما حقیقةً - تنصرف الأدلة عنهما، ولم نقف علی تعرض أحدٍ للحوق الرضاعیین بالنسبیین. ودلیل تنزیل الرضاع منزلة النسب ناظر إلی الأوصاف والأحکام الظاهرة. وعلی فرض الشک فی شمول دلیل الولایة لهما فمقتضی الأصل عدمها.

وأمّا ولایة الأب والجدّ علی مَن وُلِد منهما بالزنا، فالظاهر ثبوتها لهما، لصدق الأب والجدّ علیهما حقیقةً بالنسبة إلی هذا الولد. وهذه المعانی الحقیقیّةُ العرفیة موضوعات للأحکام الشرعیة.

وأولی بثبوت الولایة للأب والجدّ ما إذا کان تولد الولد منهما علی الوجه المحرّم غیر الزنا، کالتولد من وطی محرّمٍ بالعرض کالوطی فی حال الحیض والإحرام والصوم، أو من تلقیح ماء أجنبی فی جوف المرأة [علی القول بحرمته] فإنّ الولد فی جمیع هذه الصور لصاحب الماء، ومقتضی موضوعیة المعانی العرفیة للأحکام الشرعیة ثبوت الولایة وغیرها من الأحکام الشرعیة للأب والجدّ إلاّ ما خرج کالإرث، فإنّ الزنا مانع عنه»(2).

ص:87


1- 2 . تذکرة الفقهاء 22/22 (2/510 من الطبعة الحجریة).
2- 1 . هدی الطالب 6/124.

الثانی: ولایة الفقیه

اشارة

قبل الإیْغالِ(1) فی البحث لابدّ من التذکیر بِأُمُوْرٍ:

الأوّل: البحث العلمی المحض لا السیاسی

نبحث عن ولایة الفقیه بحثا کلیّا علمیّا فقهیّا بحتا ولا نبحث عنه بحثا مصداقیا سیاسیا اجتماعیا. فلابدّ من لحاظ هذا الأمر فی طیّ البحث.

الثانی: تاریخ هذا البحث بالاجمال

تَرْجِعُ أَصالة هذا البحث إلی أکثر من ألف سنة حیث ذهب الشیخ المفید رحمه الله المُتَوَفّی سنة 413 إلی أنّ إقامة الحدود محوّل إلی «سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللّه - تعالی - وَهُمْ أئِمَّةُ الهُدی من آل محمّد علیهم السلام ومن نصبوه لذلک من الاُمراء والحکّام وقد فوّضوا النظر فیه إلی فقهاء شیعتهم»(2).

وتبعه تلمیذه شیخ الطائفة الطوسی(3) والحلبی(4) وسلاّر(5) والعلاّمة(6) والشهید(7)

ص:88


1- 1 . کلّ داخلٍ فی شیء دخولَ مستعجلٍ فقد أوْغَل فیه. [ترتیب جمهرة اللغة 3/602.]
2- 2 . المقنعة /810.
3- 3 . النهایة /300.
4- 4 . الکافی فی الفقه /172 و 423.
5- 5 . المراسم /263.
6- 6 . القواعد 1/525.
7- 7 . الدروس 2/47.

والکرکی(1) والشهید الثانی(2).

وحاصل کلام الفقهاء فی هذه المصادر وغیرها ترسیم حکومة شرعیة، الحاکم فیها هو الإمام المعصوم علیه السلام ومع الابتلاء بغیبته - عجل اللّه تعالی فرجه وظهوره - الفقیه هو الذی یقوم مقامه فی بعض الاُمور لا کلّها نحو إقامة الحدود وأخذ الحقوق والإفتاء للنّاس والقضاء بینهم وسدّ الثغور وتبلیغ الشریعة والدفاع عنها وإقامتها وحفظ بیضة الإسلام وحفظ المذهب الحقّ الإمامی الاِءثْنَیْ عَشَرِیّ وغیرها.

وهذه الحکومة الشرعیة عندهم غیر الحکومة التی أقامها الظلمةُ الغالبون علی الحکم والسلطة فی کلِّ عصر ومصر.

ففی کل عصر عندهم حکومتان وحاکمان، الحکومة الظاهریة الظالمة المتغلبة علی الحکم وحاکمها أمیر أو ملک أو رئیس، والحکومة الواقعیة الشرعیة العادلة وحاکمها فی عصر الظهور الإمام المعصوم علیه السلام وفی عصر غیبته علیه السلام الفقیه الجامع لشرائط الإفتاء.

نعم، فی عصر الظهور إذا تصدی للحکومة الظاهریة غیر الإمام علیه السلام فهو غاصب لحقّه وحکومته تکون غاصبة ظالمة باطلة غیر مشروعة.

وأمّا فی عصر الغیبة فالحکومة الشرعیة الواقعیة للفقیه وأمّا الحکومة المتصدیة المتغلبة علی الأمر فلا تکون غاصبة ظالمة غیر مشروعة إذا أستجاز فی تصرفاته من فقیه عصره کما فعله الصفویون واستجازوا من فقهاء عصرهم وشیوخ إسلامهم نحو الکرکی وبهاءالدین محمّد العاملی والشیخ محمّدباقر المجلسی والسبزواری قدس سرهم وغیرهم.

أو فتحعلی شاه القاجاری حیث استجاز فی حرب الروس من فقیه عصره جدّی الشیخ جعفر کاشف الغطاء رحمه الله وأمّا إذا تصدی للأمر من دون الاستجازة فتصرفاته باطلة غیر مشروعة، وأمّا کونها عادلة أو ظالمة، مفیدة بحال النّاس أو مضرّة بحیاتهم فَهِیَ مشروطةٌ بأعمالها الواقعیة وکیفیة مواجهتها معهم ومنافعهم ومعیشتهم وحرّیّاتهم.

ص:89


1- 8 . رسائل المحقّق الکرکی 1/142.
2- 9 . المسالک 1/476.

فَرُبَّ حُکُوْمَةٍ مجازة من الفقیه تکون عوائدها ومنافعها للنّاس کثیرة نحو حکومة بعض ملوک الصفویة وربّما علی عکسها نحو حکومة بعض ملوک القاجاریة الجبّانیین کما فی حرب الروس والاتفاق معهم باتفاقیتی گلستان وترکمن چای.

وَرُبَّ حُکُوْمَةٍ غیر مجازة من الفقیه تخدم رعیتها وشعوبها نحو حکومة آل بویه والصفاریین وَالزَّنْدِیّیْنَ.

وَرُبَّ حُکُوْمَةٍ غیر مجازة من الفقیه لم تخدم شعوبها بل أخذت منهم حرّیّاتهم وسلّطت علیهم وحبستهم وأخذت أموالهم وسَعَتْ فی تخریب البلاد وظلم العباد ولیست همّهم إلاّ کونهم علی السلطة والحکم والقدرة کأکثر سلاسل الملوک والحکام.

وبالجملة: یتصوّر الفقهاء فی عصر الغیبة حُکُوْمَتَیْنِ فی عرض واحد: الحکومة الشرعیة وحاکمها الفقیه العادل والحکومة المتغلبة المسلَّطة وحاکمها علی أیّ حالٍ ظالم وجائر، وهو إمّا مأذون من الحکومة الشرعیة أو غیر مأذون، وهذا الاستیذان یحصل له جواز تصرفاته فی بیت مال المسلمین وفی البلاد والعباد جوازا شرعیّا دینیّا. ولکن لا یصیّره عادلاً مراعیّا لحقوق النّاس وساعیّا لحفظ البلاد والعباد ومنافعهم بل هذا الأمر الأخیر منوط بأعمال الحاکم وکیفیة حکمه وسیرته العملیة مع رعایاه وشعبه.

ینظر الفقهاء إلی الحکومة الشرعیة علی هذا النحو حتّی بَزَغَ نجم السیّد الإمام الخمینی رحمه الله وَرأی بأنّ الحکومة الشرعیة فی عصر الغیبة تمکّنت من أن تقوم بدلاً من الحکومة المتغلبة علی الحکم وَجازَ للفقیه أن یجلس علی کرسی الحکومة الظاهریة وأن یتصدی للحکم بنفسه ویُبَدِلَها بها، وَیُطَبِّقَ الحکومة الشرعیة علی الحکومة الظاهریة.

وهذا التطبیق بین الحکومتین من إبداعاته وتأسیساته وَلِکَوْنه هُوَ مُؤَسّس هذِهِ النَّظریّة، والفقهاء قبله یرُون الفارق بینهما.(1)

فَوَقَعَتْ هنا مغالطة واضحة وهی أنّ وِلایَةَ الفقیه بمعنی الحکومة الشرعیة یقول بها

ص:90


1- 1 . راجع فی هذا المجال إلی أوّل بحث ولایة الفقیه فی کتابه البیع 2/67: ضرورة الحکومة الإسلامیة.

الفقهاء علی مدی قرون، ولکن تطبیقها علی الحکومة الظاهریة وجعلها نظریة للحکم فهو من إبداعات الإمام الخمینی رحمه الله .

وأمّا وضوحها: فالمخالفون لهذا التطبیق والنظریة السیاسیة فی الحکم ینکرون أصل ولایة الفقیه حال کون ثبوتها فی الجملة من ضروریات الفقه الشیعی، والموافقون له یأتون بأقوال الفقهاء علی مدی القرون والأعصار تَأْیِیْدا للتطبیق والنظریة السیاسیة، ویغفلون من أنّ هذه النظریة السیاسیة والتطبیق هُوَ من أبکار أفکاره ومن تأسیساته فی عالم الحکم والسیاسیة.

نعم، یَصِحُّ أن یقال: بأنّ هذه الفکرة والنظریة لها أصول وَجُذُوْرٌ علی مدی قرون وأعصار وأمّا إنکار إبداعها وتأسیسها مِنْ قِبَلِ السیّد الإمام الخمینیّ رحمه الله فَظُلْمٌ لَهُ وَلاِءفْکارِه

وآرائه وأنظاره العلمیة والفقهیة والسیاسیة وإنکار لضروری قَبِلَهُ العالَم بأسره وهو أنّ هذه النظریة السیاسیة سُجلتْ باسم السیّد الخمینی رحمه الله وأنّه أسس حکومة فی إیران العزیزة بعد الثورة الإسلامیة علی أساس هذه النظریة وهی الجُمهوریة الإسلامیة وتصدّی لقیادتها عشر سنین وإلی آخر حیاته المبارکة - قدس اللّه سره - .

ص:91

الثالث: تحریر محل النزاع

ظهر ممّا ذکرنا فی تاریخ هذا البحث، أنّا نبحث عن ولایة الفقیه بحثا علمیّا فقهیّا کما بحثها الفقهاء العظام مدی القرون والأعصار، ولا نبحث عنها بأنّها نظریة للحکم فی عالم السیاسة التی أسسها الإمام الخمینی رحمه الله ، وبین البحثین موضوعا وحکما وأدلة ونظریة وتطبیقا فُروقٌ واضحة لا ینکرها إلاّ المکابر.

فالبحث الفقهی یأتی بالتفصیل إن شاء اللّه تعالی، والبحث السیاسی خارج عن موضوع کتابنا الفقهی فلا نتعرض له، وله محل آخر وبحوث اُخر وَلَهُ عُلَماءُ آخَرون وأدلة أُخری ومناقشات أُخری وممیّزات أُخری، ومباحثه باعتقادی أکثر أن تکون إلآهِیَّةً سَماوِیَّةً تکون شَعْبِیَّةً أَرْضِیَّةً، وأکثر مِنْ أَنْ تَکونَ نَظَریَّةً تکونُ عَمَلِیَّةً وأکثر أن تلاحظ فیها حقوق الوالی لابدّ أن تلاحظ فیها حقوق الرعیة والشعب. وأکثر أن تلاحظ فیها رُؤْی لابدّ أن تلاحظ فیها فوائد ومنافع ترجع إلی البلاد والعباد لأنّ الحکومة من شئون الحکمة العملیة لا النظریة، والعلّة المحدثة لها حفظ البلاد والعباد ومنافعهم وتنظیم أُمورهم ومعایشهم ودفع المظالم عنهم فهی تکون العلّة المبقیة لها مع تذکار مقالة أمیرالمؤمنین علیه السلام بأنّ: «مَنْ ظَلَمَ عبادَ اللّه ِ کان اللّه ُ خَصْمَهُ دونَ عبادِهِ... ولیس شیءٌ أدعی إلی تغییرِ نعمةِ اللّه ِ وتعجیلِ نقمتِهِ مِنْ اقامةٍ علی ظلمٍ فإنّ اللّه سمیعٌ دعوةَ المُضْطهدینَ وهو للظالمینَ بالمرصادِ»(1).

وأختم هذه الشقشقة بکتاب اللّه تعالی حیث یقول عزّ من قائل: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَدا رابِیا وَمِمّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النّارِ ابْتِغاءَ حِلْیَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ کَذلِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما یَنْفَعُ النّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الاْءَرْضِ کَذلِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الاْءَمْثالَ»(2).

ص:92


1- 1 . نهج البلاغة، الکتاب 53. وهو عهده إلی الأشتر النخعی المروی بسند صحیح کما مرّ. وقد شَرَحَهُ جَماعة من الأعلام، منهم: العالم القانونیّ الشهیر الأستاذ توفیقٌ الفَکِیْکیُّ البغدادیّ وعنوانُ شرحه «الراعی والرعیة» وَقدّمَ له فی طبعته الأولی العلاّمة السیّد هبة الدین الحسینی الشهرستانی قدس سره .
2- 2 . سورة الرعد /17.
الرابع: من هو الفقیه؟

قد مرّ فی أوّل هذا المجلد معنی الولایة فی اللغة(1) والاِصطلاحُ(2) فلابدّ حینئذ مِنْ بَیانِ أنّ المراد بالفقیه مَنْ هو؟ حتّی یتبیّن مصطلح «ولایة الفقیه».

فلذا أقول: الفقه فی اللغة هو إدراک الشیء والعلم به وکلّ علمٍ بشیءٍ فهو فقه أو العلم فی الدین.

قال الخلیل: الفِقْهُ: العِلْم فی الدّین. یُقالُ: فَقُهَ الرّجل یَفْقُهُ فِقْها فهو فَقیهٌ.

وفَقِهَ یَفْقَهُ فِقْها إذا فَهِمَ. وأفقهتُه: بَیَّنْتُ لهُ. والتَّفَقُّهُ: تَعَلُّمُ الفِقْهِ»(3).

وقال ابن فارس: «فقه: الفاء والقاف والهاء أصلٌ واحد صحیح، یدلُّ علی إدراکِ الشَّیء والعِلْمِ به. تقول: فَقِهْتُ الحدیث أفْقَهُه. وکلُّ عِلْمٍ بشیء فهو فِقْه. یقولون: لا یَفْقَه ولا یَنْقَه. ثمّ اختُصَّ بذلک علمُ الشّریعة(4)، فقیل لکلِّ عالم بالحلال والحرام: فقیه. وأَفْقَهْتُک الشَّیء، إذا بَیّنتْهُ لک»(5).

وقال الزمخشری: «ف ق ه: افْقَهْ عنی ما أقول لک، وقال أعرابیّ لعیسی بن عمر: شهدت علیک بالفقه أی بالفهم والفطنة، وفی الحدیث «من أراد اللّه به خیرا فقّهه فی الدین» وفقّهتُ فلانا کذا وأفقهته إیّاه: فهّمته ففقهه وتفقّهه»(6).

وقال الفیومی: «الفِقْهُ: فَهم الشَّیء قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَکُلُّ عِلْمٍ لِشَیء فَهُوَ فَقْهٌ و (الْفِقْهُ)

ص:93


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 9.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 14.
3- 3 . کتاب العین /751.
4- 4 . قالُوْا: وإنَّما اخْتَصّ بهِ لِشَرَفِهِ وفی ذلکَ یقول الشاعرُ القدیم مِنَ (الوافر): إذا ما اعْتَزَّ ذُوْ عِلْمٍ بِعِلْمٍ فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَوْلی بِاعْتَزارِ فَکَمْ طِیْبٍ یَفُوْحُ وَلا کَمِسْکٍ وَکَمْ طَیْرٍ یَطیرُ ولا کَبازِ ومِنْ دُرَّة السیّد بحرالعلوم: وَإنَّ عِلْمَ الْفِقْهِ فی الْعُلُومِ کَالْقَمَرِ السّاطِعِ فی النّجُوْمِ
5- 5 . معجم مقاییس اللغة 4/442.
6- 6 . أساس البلاغة /346.

عَلَی لِسَانِ حَمَلةِ الشَّرْعِ عِلْمٌ خَاصٌّ. و (فَقِهَ فَقَها) مِنْ بَابِ تَعِبَ إذا عَلِمَ و (فَقُهَ) بالضَّمِّ مِثْلُهُ وَقِیلَ بِالضَّمِّ إذا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِیَّةً قَالَ أَبُو زَیْدٍ رَجُلٌ (فَقُِهٌ) بِضَمِّ الْقَافِ وَکَسْرِهَا وَامْرَأَةٌ (فَقُهَةٌ) بالضَّمِّ وَیَتَعَدَّی بِالاْءَلِفِ فَیُقَالُ (أَفْقَهْتُکَ) الشَّیءَ وَهُوَ (یَتَفَقَّهُ) فی الْعِلْمِ مِثْلُ یَتَعَلَّمُ»(1).

ولکن الفقه فی الاِصطلاح «هو العلم بالأحکام الشرعیة العملیة المکتسب من أدلتها التفصیلیة»(2) أو «العلم بالأحکام الشرعیة الفرعیة عن أدلتها التفصیلیة»(3) أو «اسم للعلم بالمسائل التی لا یکون ثبوتها عن صاحب الشریعة من الضروریات عند الأُمّة، سواء کان ثبوتها عنه ضروریّا عند ذلک العالم أو لا»(4) أو العلم التفصیلی بالأحکام الشرعیة من الأدلة الأربعة: الکتاب، السنة، الاجماع، العقل. هذا هو تعریف الفقه فی مصطلح الفقهاء.

ولکن ثبوت الحقیقة الشرعیة بالنسبة إلی مصطلح الفقه «غیر معلوم حتّی یتعیّن حمل اطلاق الکتاب والأخبار علیه، بل واستعماله فی خصوص المعنی المصطلح غیر معلوم أیضا، نعم قد یستظهر إطلاقه علیه من بعض الروایات. ثمّ إنّه بعد انتشار علم الفقه وتدوینه فی الکتب فی عصر الصادقَیْن(5) علیهماالسلام لا یبعد القول بحصول النقل فی الجملة»(6).

وعلی ما ذکرنا لا یمکن حمل لغة الفقه فی القرآن الکریم والروایات النبویة والعلویة علی المصطلح الفقهی، نعم بعد عصر الصادقین علیه السلام وتدوین علم الفقه لا یبعد ادعاء النقل فی معنی الفقه من معانیه اللغویة إلی مصطلح الفقهاء.

ص:94


1- 7 . المصباح المنیر /479.
2- 1 . التعریفات /138 للسیّد الشریف الجرجانی.
3- 2 . معالم الدین /26 طبعة جماعة المدرسین بقم.
4- 3 . هدایة المسترشدین 1/67.
5- 4 . الصادِقانِ هُما الإمامان المعصومانِ محمّدٌ بن علی الباقر وَنَجله جَعْفَر بن محمّد الصادقُ علیهماالسلام . وَقد جاء هذا التعبیرُ مِنْ باب (التغلیب).
6- 5 . هدایة المسترشدین 1/54.

والفقیه: هو العالم بعلم الفقه اجتهادا فی جمیع سَبْعَةٍ وخمسین بابا من الأبواب الفقهیة بحیث یکونُ عنده الاجتهاد الفعلی فی الجمیع أو لاأقل فی معظمها.

فلا یطلق علی العالِم بالفقه تقلیدا أو علی المتجزی الذی یقدر علی استنباط بعض المسائل السهلة أو علی المجتهد المطلق الذی لیس عنده استنباط فِعْلِیٌّ فی جمیع الأبواب الفقهیة أو معظمها وأُمّهاتها.

کما لا یطلق علی من عنده العلم التفصیلی الاِجتهادی بالْفِقْهِ الأَکبر وهو العقائد الحقّة لمذهب الإمامیة الاِثنی عشریة - أی علم الکلام - أو غیرها من العلوم الإسلامیة فی شتی أنواعها ومختلَف أقسامها من الأدبیة والتاریخیة والکلامیة والفلسفیة والعرفانیة

وأجلها شأنا وهی التفسیریة. وإن کانت الأخیرة تحتاج إلی جمیع العلوم الإسلامیة ولذا عبرنا عنها بأجل العلوم الإسلامیة.

وإن کان الفقیه یحتاج إلی جمیع هذه العلوم ولکن علی قدر احتیاجه لا علی نحو التخصّص فی الجمیع بحیث یطلق علیه عناوین الأدیب والمورخ والمتکلّم والفیلسوف والعارف والمفسر.

نعم، الفقیه لابدّ أن یکون مجتهدا مطلقا فی علمی الرجال والأُصول - أی أُصول الفقه - لأنّهما من المقدمات القریبة لِلإجْتِهاد فإذا کان فی العلمین مقلِّدا یکون فی فقهه أیضا مقلِّدا ولیس بمجتهد حقیقة، والتفصیل یطلب من بحث الاجتهاد والتقلید فی علمی الفقه وأُصوله.

والحاصل: الفقیه: هو الذی عنده الآراء الاِجتهادیة مِن الأدلة التفصیلیة فی جمیع أبواب الفقه أو معظمها.

وبعبارة أُخری: المجتهد المطلق الذی عنده آرائه فی معظم الأبواب الفقهیة.

ولذا فسّر الشیخ الأعظم قدس سره : «الحاکم والمراد منه: الفقیه الجامع لشرائط الفتوی»(1).

ص:95


1- 1 . المکاسب 3/545.
الخامس: ولایات الرسول صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین علیهم السلام
اشارة

قد مرّ فی أوّل هذا المجلد(1) ذاتیة ولایة اللّه تعالی وأنّ الولایة الذاتیة منحصرة بذاته سبحانه وقد جعلها اللّه لنبیّه الخاتم صلی الله علیه و آله واُوصیائه الأئمة المعصومین علیهم السلام ویمکن استفادتها من الأدلة الأربعة:

أ: الکتاب

یدلّ علی ولایة رسول اللّه علیه السلام قوله تعالی: «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(2). وقوله تعالی: «وَما کانَ لِمُوءْمِنٍ وَلا مُوءْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ یَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِینا»(3). وقوله تعالی: «فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ»(4). بناءً علی رجوع الضمیر فی «أَمْرِهِ» إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله کما قال الطوسی(5) والطبرسی واللفظ للثانی: «حذّرهم سبحانه وتعالی عن مخالفة نبیه صلی الله علیه و آله »(6).

وفی روایة فرات الکوفی عن أبیجعفر علیه السلام قال: نزلت فی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وجری مثلها من النبی فی الأوصیاء فی طاعتهم.(7) فتدلّ علی ولایتهم أیضا.

وقوله تعالی: «فَلا وَرَبِّکَ لا یُوءْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلِیما»(8).

ویدلّ علی ولایته صلی الله علیه و آله وولایة اُوصیائه المعصومین علیهم السلام قَوْلُهُ تَعالی: «یا أَیُّهَا

ص:96


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 15.
2- 2 . سورة الأحزاب /6.
3- 3 . سورة الأحزاب /36.
4- 4 . سورة النور /63.
5- 5 . التبیان 7/466.
6- 6 . مجمع البیان 7/249.
7- 7 . تفسیر فرات الکوفی /289، ح392.
8- 8 . سورة النساء /65.

الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُوءْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الاْآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلاً»(1).

والآیة من مختصاتهم علیهم السلام کما ورد فی الروایات.(2)

وقوله تعالی: «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُوءْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ»(3).

ولأجل الروایات الواردة فی ذیلها راجع العوالم.(4)

وقوله تعالی: «أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْناهُمْ مُلْکا عَظِیما»(5).

بضمیمة ما ورد من الروایات(6) فی ذیل الآیة الشریفة.

وقوله تعالی: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعا وَلا تَفَرَّقُوا»(7).

بضمیمة ما ورد من الروایات(8) وتطبیق حبل اللّه علی أمیرالمؤمنین علیه السلام .

وقوله تعالی: «یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْکافِرِینَ»(9).

ص:97


1- 9 . سورة النساء /59.
2- 10 . العوالم 15/2/573؛ غایة المرام 1/350.
3- 1 . سورة المائدة /55.
4- 2 . العوالم 15/2/413.
5- 3 . سورة النساء /54.
6- 4 . راجع غایة المرام 1/356 والبرهان فی تفسیر القرآن 2/92 ونورالثقلین 2/75 وأجودالبیان فی تفسیر القرآن 5/ ذیل الآیة الشریفة للمؤلِّف.
7- 5 . سورة آل عمران /103.
8- 6 . راجع غایة المرام 1/324 والعوالم القسم الثانی 15/127 وأجود البیان فی تفسیر القرآن 4/40 للمؤلِّف.
9- 7 . سورة المائدة /67.

بضمیمة خطبة الغدیر(1) ونزول:

قوله تعالی: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الاْءِسْلامَ دِینا»(2).

وقوله تعالی: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرا»(3).

بضمیمة الروایات.(4)

وقوله تعالی: «فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَکُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَکُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ»(5).

بضمیمة الروایات.(6)

قوله تعالی: «وَمِنَ النّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَوءُفٌ بِالْعِبادِ»(7).

بضمیمة ما ورد فی ذیلها من الروایات.(8)

وقوله تعالی: «مِنَ الْمُوءْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی

ص:98


1- 8 . راجع الغدیر 1/(11-9).
2- 9 . سورة المائدة /3.
3- 10 . سورة الأحزاب /33.
4- 11 . العوالم 15/2/316؛ غایة المرام 1/363.
5- 1 . سورة آل عمران /61 ولدلالتها ورد مناقشات الآلوسی راجع تفسیری أجودالبیان فی تفسیر القرآن 3/346.
6- 2 . العوالم 15/2/289؛ غایة المرام 1/380.
7- 3 . سورة البقرة /207.
8- 4 . تفسیر الثعلبی 2/126؛ المستدرک علی الصحیحین 3/132؛ اُسد الغابة 4/25؛ خصائص الوحی المبین /92 لابن بطریق؛ والعوالم 15/2/206؛ غایة المرام 1/431؛ وتفسیری أجودالبیان فی تفسیر القرآن 2/ ذیل الآیة الشریفة.

نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً»(1).

لدلالتها راجع کتابی: «ولایت و امامت»(2).

وقوله تعالی: «قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی»(3).

بضمیمة الروایات(4) ومقالة العلاّمة الحلّی رحمه الله : «ووجوب المودة یستلزم وجوب الطاعة»(5).

وقوله تعالی: «وَیُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِینا وَیَتِیما وَأَسِیراً * إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَلا شُکُورا»(6).

ولدلالتها راجع الروایات(7) و کتاب «زین الفتی فی تفسیر سورة هل أتی»(8).

وقوله تعالی: «فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ»(9).

بضمیمة الروایات(10) ومقالة الفضل بن روزبهان الأصفهانی السنی المتعصب حیث یقول: «ونعلم أنّ التوسل بأصحاب العباء من أعظم الوسائل وأقرب الذرائع»(11).

وقوله تعالی: «وَیَقُولُ الَّذِینَ کَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ کَفی بِاللّهِ شَهِیدا بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ»(12).

ص:99


1- 5 . سورة الأحزاب /23.
2- 6 . ولایت و امامت /97 باللغة الفارسیة، المطبوع عام 1370ش بقم المقدسة.
3- 7 . سورة الشوری /23.
4- 8 . راجع العوالم 15/2/529؛ غایة المرام 1/392.
5- 9 . نهج الحق /175.
6- 10 . سورة الانسان 9-8.
7- 11 . العوالم 15/2/381.
8- 12 . للحافظ العاصمی.
9- 1 . سورة البقرة /37.
10- 2 . غایة المرام 2/8.
11- 3 . نقله عنه فی دلائل الصدق 2/136 من الطبعة القدیمة؛ 4/412 من طبعة آل البیت.
12- 4 . سورة الرعد /43.

ودلالتها مذکورة فی کتابی: «ولایت و امامت»(1).

وقوله تعالی: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْوءُلُونَ»(2).

بضمیمة الروایات(3) ومقالة ابن حجر(4) فی ذیلها: «أی عن ولایة علی علیه السلام وأهل البیت»(5).

وقوله تعالی: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ»(6).

بضمیمة ما ورد من العامة(7) فی ذیلها.

وقوله تعالی: «وَإِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماما قالَ وَمِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ»(8).

وقوله تعالی: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(9).

وقوله تعالی: «وَإِنَّکَ لَتَدْعُوهُمْ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ»(10).

لدلالتها راجع إلی کتابی.(11)

ص:100


1- 5 . ولایت و امامت /116.
2- 6 . سورة الصافات /24.
3- 7 . العوالم 15/2/472.
4- 8 . الْهَیْتَمِیّ (بالتّاء لا بالثاء) وهو غیر ابن حَجَر العسقلانی وکلاهما من فقهاء الشافعیّة.
5- 9 . الصواعق المحرقة /89.
6- 10 . سورة الرعد /7.
7- 11 . راجع تفسیر الطبری 13/72؛ مستدرک الصحیحین 3/129؛ کنزالعمال 1/251 و6/157؛ الدر المنثور 4/45؛ التفسیر الکبیر 19/14 للفخر الرازی؛ تاریخ مدینة دمشق، ترجمة الإمام علی بن أبیالطالب 2/416 و 417؛ نور الأبصار /90؛ کفایة الطالب /232؛ شواهد التنزیل 1/294 و 296؛ نظم درر السمطین /90؛ والعوالم 15/2/77.
8- 12 . سورة البقرة /124.
9- 13 . سورتی النحل /43 و الأنبیاء /7.
10- 1 . سورة المؤمنون /73.
11- 2 . سه مقاله در اصل امامت /42.

وقوله تعالی: «أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدی فَما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ»(1).

کما عدّ فی تفسیر القمی(2) مصداق «أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ...» محمّد وآل محمّد من بعده.

وفی الکافی(3) أنّهم الأنبیاء والأئمة علمهم فوق علم أهل زمانهم.

وفی تفسیر العیاشی(4) إنّه علی علیه السلام .

وفی تفسیر القمی(5) «أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدی » من خالف أهل بیته [أی أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله ] من بعده.

وقوله تعالی: «وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْیَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُکَ مِنْهُ یَصِدُّونَ»(6).

نقل الحافظان الأصفهانیان أبونعیم(7) وابن مردویة(8) عن أمیرالمؤمنین علیه السلام : فیّ نزلت هذه الآیة. وراجع أیضا کتابی غایة المرام(9) والعوالم(10).

نختم الآیات الکریمة الواردة فی شأن ولایة المعصومین علیهم السلام بهذا البیان: «روی أحمد بن حنبل عن ابن عبّاس أنّه قال: ما فی القرآن آیة فیها «الَّذِینَ آمَنُوا» إلاّ وعلیٌّ رأسها وقائدها وشریفها وأمیرها. وقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله فی القرآن، وما ذُکِرَ

ص:101


1- 3 . سورة یونس /35.
2- 4 . تفسیر القمی 1/312.
3- 5 . الکافی 1/500، ح1 (1/202، ح1).
4- 6 . تفسیر العیاشی 2/277، ح18.
5- 7 . تفسیر القمی 1/312.
6- 8 . سورة الزخرف /57.
7- 9 . نزول القرآن فی علی علیه السلام / مخطوط و نقل عنه ابن بطریق فی خصائص الوحی المبین /169، ح125 و 126.
8- 10 . ما نزل من القرآن فی علی علیه السلام /319.
9- 11 . غایة المرام 2/41 طبع مؤسسة البعثة.
10- 12 . عوالم العلوم، القسم الثانی من 15/161 فی أکثر من خمسة عشر صفحة.

علیٌّ إلاّ بخیر»(1) (2).

وفی تفسیر العیاشی عن أبی الجارود، قال: سَمِعتُ أباجعفر علیه السلام یقول: نزل القرآن علی أربعة أرباع: رُبع فینا، ورُبع فی عدوِّنا، ورُبع فی فرائضٍ وأحکام، ورُبع سُنن وأمثال، ولنا کرائم القرآن.(3)

ب: السنة الشریفة
اشارة

ذکر الشیخ الأعظم خَمْسَ روایاتٍ فی المقام:

1- صحیحة أیوب بن عطیة الحذاء قال: سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: أنا أولی بکلّ مؤمن من نفسه، ومن ترک مالاً فللوارث، ومن ترک دینا أو ضیاعا فإلیَّ وعلیَّ.(4)

2- الحدیث المتواتر بین الفریقین فی یوم الغدیر ومجمله قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

«الحمدللّه، [نحمده]، ونستعینه، ونؤمن به، ونتوکّل علیه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سیّئات أعمالنا، الذی لا هادی لمن أضلّ، ولا مُضلّ لمن هدی، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنَّ محمّدا عبده ورسوله.

أمّا بعدُ: أیُّها النّاس قد نبّأنی اللطیف الخبیر: أنّه لم یُعمَّر نبیٌّ إلاّ مثلَ نصفِ عمر الذی قبلَه. وإنّی أُوشِک أن أُدعی فأُجیب، وإنّی مسؤول، وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟».

قالوا: نشهدُ أنّک قد بلّغتَ ونصحتَ وجهدتَ، فجزاکَ اللّه خیرا.

ص:102


1- 13 . فضائل الصحابة 2/654، ح1114؛ واُنظر ترجمة الإمام علیّ علیه السلام لابن عساکر 2/430، 938 وحکاه عنه فی الصواعق المحرقة /76؛ ومختصر کنزالعمال فی هامش مسند أحمد 5/31، 38؛ وتاریخ الخلفاء /171؛ ومناقب الإمام أمیرالمؤمنین لابن سلیمان 1/146، ح81 بتفاوت؛ وینابیع المودّة 1/377؛ والمناقب للخوارزمی /266، ح249؛ وحلیة الأولیاء 1/64؛ وشواهد التنزیل 1/49 ذیل ح50؛ وحکی فی نهج الحقّ /209 عن مسند أحمد.
2- 14 . کشف الغطاء 1/82.
3- 1 . تفسیر العیاشی 1/84، ح1.
4- 2 . وسائل الشیعة 26/251، ح14، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجریرة والإمامة.

قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، وأنَّ محمّدا عبدهُ ورسوله، وأنَّ جنّته حقّ وناره حقّ، وأنَّ الموت حقّ، وأنَّ الساعة آتیة لا ریبَ فیها وأنَّ اللّه یبعثُ من فی القبور؟».

قالوا: بلی نشهد بذلک. قال: أللّهمّ اشهد، ثمّ قال: أیّها النّاس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم.

قال: «فإنّی فَرَط(1) علی الحوض، وأنتم واردون علیَّ الحوض، وإنَّ عَرْضه ما بین صنعاءَ(2) وبُصری(3)، فیه أقداح عدد النجوم من فضّة، فانظروا کیف تخلِفونی فی الثقَلَینِ».

فنادی منادٍ: وما الثقَلان یا رسول اللّه؟

قال: «الثقَل الأکبر کتاب اللّه طرفٌ بید اللّه - عزّوجلّ - وطرفٌ بأیدیکم، فتمسّکوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتی، وإنَّ اللطیف الخبیر نبّأنی أنّهما لن یتفرّقا حتّی یردا علیّ الحوض، فسألت ذلک لهما ربّی، فلال تَقدَّموهما فتهلکوا، ولا تقصروا عنهما فتهلکوا».

ثمّ أخذ بید علیّ فرفعها حتّی رُؤی بیاض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: «أیّها النّاس من أولی النّاس بالمؤمنین من أنفسهم؟».

قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

قال: «إنَّ اللّه مولای، وأنا مولی المؤمنین، وأنا أولی بهم من أنفسهم فمن کنت مولاه فعلیّ مولاه، یقولها ثلاثَ مرّات - وفی لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرّات - ثمّ قال: أللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحِبَّ من أحبّه، وأبغِضْ من أبغضه وانصُرْ من نصره، واخذُلْ من خذله، وأَدرِ الحقَّ معه حیث دار، ألا فلیبلّغ الشاهدُ الغائب».

ثمّ لم یتفرّقوا حتّی نزل أمین وحی اللّه بقوله: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی» الآیة.

فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «اللّه أکبر علی إکمال الدین، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتی، والولایة لعلیٍّ من بعدی».

ص:103


1- 3 . الفَرَط: المتقدم قومه إلی الماء، ویستوی فیه الواحد والجمع.
2- 4 . صنعاء: عاصمة الیمن الیوم.
3- 5 . بُصری: قَصَبة کورة حوران من أعمال دمشق.

ثمّ طَفِق القوم یهنِّئون أمیرالمؤمنین - صلوات اللّه علیه - وممّن هنّأه - فی مُقدّم الصحابة - الشیخان: أبوبکر وعمر کلٌّ یقول: بَخٍ بخٍ لک یا ابن أبیطالب أصبحتَ وأمسیتَ مولایَ ومولی کلّ مؤمن ومؤمنة.

وقال ابن عبّاس: وجبت - واللّه ِ - فی أعناق القوم.

فقال حسّان: ائذنْ لی یا رسول اللّه أن أقول فی علیٍّ أبیاتا تسمعهُنّ.

فقال: «قُلْ علی برکة اللّه».

فقام حسّان، فقال: یا معشر مشیخة قریش أتبعها قولی بشهادةٍ من رسول اللّه فی الولایة ماضیة، ثمّ قال:

یُنادیهِمُ یومَ الغدیرِ نبیُّهمْ بخُمٍّ فأسمِعْ بالرسولِ مُنادِیا»(1)

وقال السیّد هاشم البحرانی رحمه الله بعد أن نقل حدیث الغدیر من التاسع والثمانین من مصادر العامة: «خبر غدیر خُمّ قد بلَغ حدَّ التَواتُر من طریق العامّة والخاصّة، حتّی إنّ محمّد بن جریر الطَبَری صاحب (التاریخ) أخرَج خبَر غَدیر خُمّ وطرُقَه من خمسةٍ وسَبعین طَریقا، وأفرَد له کتابا سمّاه (کتاب الولایة)(2) وهذا الرجل عامّی المَذْهَب.

وذکر أبوالعبّاس أحمد بن محمّد بن سعید بن عُقْدَة [الحافظ الکوفیّ الزیدیّ مَذْهَبا] خبَر یوم الغَدیر، وأفرَد له کتابا، وطُرقه من مائة وخمسة طُرق. وهذا قد تَجاوز حدّ التَواتُر، فلا یوجد خبَر قَطّ(3) نُقِل من طُرقٍ بقَدر هذه الطُّرق، فیجب أن یکونَ أصلاً متَّبعا وطریقا مَهْیعا، والدلیل علی ما ذکَرناه - لم یوجد خبر له طرق کخَبر غَدیر خُمّ - ما حکاه

ص:104


1- 1 . الغدیر 1/(36-34) من الطبعة الحدیثة.
2- 1 . ذکره یاقوت فی معجم الاُدباء 18/(80-84)؛ والحافظ الذهبی فی تذکرة الحفاظ 2/713؛ وابن بطریق فی العمدة /111؛ والشیخ الطوسی فی الفهرست /150، رقم 640؛ وابن حجر فی تهذیب التهذیب 7/339؛ وابن طاوُس فی الطرائف 1/142؛ وابن شهرآشوب فی معالم العلماء /106، رقم 715؛ وغیرها، راجع أهل البیت فی المکتبة العربیة /661.
3- 2 . کذا وَرَد فی کلام السیّد البحرانی والصواب: فلا یوجد خَبَرٌ أبَدا؛ لأنّ (قَطّ) إنما تأتی مَعَ نفی الماضی لا مع الفعل المُضارع.

السیّد العلاّمة علیّ بن موسی بن طاوُس، ومحمّد بن علیّ بن شهرآشوب، ذکرا عن شهرآشوب، قال: سَمِعتُ أباالمَعالی الجُوَینیّ [الفقیه الشافِعِیّ] یتعجّب ویقول: شاهَدتُ مجلّدا ببغداد فی یَدی صَحّاف فیه روایات غَدیر خُمّ، مکتوبا علیه: المجلدة الثامنة والعشرون من طُرق قوله: «مَن کنتُ مَولاه فعلیٌّ مَولاه» ویَتلوه فی المجلدة التاسعة والعشرین...(1).

حکایة لطیفة:

ذکر ابن أبی الحدید فی شرح نهج البلاغة قال: حدّثنی یحیی بن سعید بن علیّ الحَنْبَلی المعروف بابن عالیة مِن ساکنی قَطُفْتَا(2) بالجانب الغربیّ من بغداد وأحد الشهود المعدّلین بها، قال: کنتُ حاضرا عند الفَخر إسماعیل ابن علیّ الحَنْبَلیّ الفقیه المَعروف بغُلام ابن المَنِّیّ، وکان الفَخر إسماعیل هذا مقدّم الحنابلة ببغداد فی الفقه والخِلاف، ویشتغل بشیءٍ فی علم المَنْطِق، وکان حُلْوَ العبارةِ، وقد رأیتُه أنا وحضَرتُ

عنده، وسمِعتُ کلامَه، وتوفّی سنة عشر وستّمائة.

قال ابن عالیة: ونحن عنده نتحدّث إذ دخَل شخصٌ من الحَنابلة، قد کان له دَینٌ علی بعض أهلِ الکوفة، فانحَدر إلیه یُطالِبه به، واتفق أن حضَرت زیارة یوم الغَدیر والحَنْبَلیّ المَذکور فی الکوفة، وهذه الزیارة هی الیوم الثامن عشر من ذی الحِجّة، ویجتَمع بمَشهد أمیرالمؤمنین علیه السلام من الخَلائق جموعٌ عظیمة تَتَجاوز حدّ الإحصاء.

قال ابن عالیة: فجعل الشیخ الفَخْر یسأل ذلک الشخص: [ما فعلت]؟ ما رأیتَ؟ هل وصَل مالُک إلیک؟ هل بقی لک منه بقیّة عند غریمک؟ وذلک الشخص یُجاوبه حتّی قال [له]: یا سیّدی، لو شاهَدت یومَ الزّیارةِ یوم الغَدیرِ وما یجری عند قبر علیّ بن أبیطالب من الفضائح والأقوالِ الشنیعة وسبّ الصّحابة جِهارا بأصواتٍ مرتفعةٍ من غیر مراقبة ولا خیفة؟

ص:105


1- 3 . الصراط المستقیم 1/12.
2- 4 . قَطُفْتَا: إحدی محالّ الجانب الغربی من بغداد، بینها وبین دجلة أقلّ من مِیل وهی مُجاورة لمقبرة الشیخ معروفٍ الکرخیّ وَلَها ذِکْرٌ فی کتاب «اثبات الوصیّة» للمسعودی فی أنّ أمیرالمؤمنین علیّا علیه السلام مَرّ بها عند حربَهِ للخوارج.

فقال إسماعیل: أیّ ذنبٍ لهم، واللّه ما جَرّأهم علی ذلک، ولا فتَح لهم هذا الباب إلاّ صاحب هذا القَبر. فقال ذلک الشخص: ومن هو صاحب القبر؟ قال: علیّ ابن أبیطالب. قال: یا سیّدی، هو الذی سنَّ لهم ذلک وعلّمهم إیّاه وطرَقهم إلیه؟ قال: نعم - واللّه - قال: یا سیّدی، فإن کان مُحِقّا فما لنا نتولّی فُلانا وفلانا؟ وإن کان مُبطِلاً فما لنا نتولاّه، ینبَغی أن نَبرأ [إما] منه أو منهما.

قال ابن عالیة: فقام إسماعیل مُسرِعا فلَبِس نعلیه، وقال: لعن اللّه إسماعیلَ الفاعل بن الفاعل(1)، إن کان یعرف جواب هذه المسألة، ودخَل دارَ حَرَمهِ، وقُمنا نحن وانصرَفنا(2)»(3).

3- مقبولة عمر بن حنظلة.(4)

4- معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم.(5)

5- التوقیع المروی بسند حسنٍ.(6)

ووجه تمسّکه بهذه الثلاثة الأخیرة(7) هو البرهان الإنّی لإثبات ولایتهم علیهم السلام لأنّ

فاقد الشیء لا یکون معطیا له بَداهَةً وحیث أنّهم جعلوا الحکومة والولایة للفقیه فهم اُولی بها ومصدرها ولذا قال الشیخ الأعظم: «حیث علّل فیها حکومة الفقیه وتسلّطه علی النّاس بأنّی قد جعلته کذلک وأنّه حجتی علیکم»(8).

ص:106


1- 1 . (بن الفاعل) لیس فی المصدر.
2- 2 . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9/307.
3- 3 . غایة المرام 1/(165-163).
4- 4 . وسائل الشیعة 27/136، ح1، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
5- 5 . وسائل الشیعة 27/139، ح6.
6- 6 . وسائل الشیعة 27/140، ح9.
7- 7 . ویأتی البحث حولها مفصلاً فانتظر.
8- 1 . المکاسب 3/547.

وأضفت إلی ما ذکره:

6- الحدیث المتواتر بین الأُمّة الإسلامیة المسمّی بالثَّقَلَیْنِ(1) وهو ما رواه مسلم فی صحیحه بسنده عن «یزید بن حیان قالَ: انطلقت أنا وحصین بن سبرة وعمر بن مسلم إلی زید بن أرقم فلمّا جلسنا إلیه قال له حصین: لقد لقیتَ یازید خیرا کثیرا رأیتَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسمعت حدیثه وغزوت معه وصلّیت خلفه لقد لقیت یازید خیرا کثیرا، حدِّثنا یازید ما سمعت من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قال: یابن أخی واللّه لقد کبرت سنّی وقدم عهدی ونسیت بعض الّذی کنت أعِی من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فما حدّثتکم فاقبلوا ومالا فلا تکلّفونی.

ثمّ قال: قام رسول اللّه صلی الله علیه و آله یوما فینا خطیبا بماء یدعی خُمّا بین مکّة والمدینة فحمد اللّه واثنی علیه ووعظ وذکر، ثمّ قال: أمّا بعد ألاّ أیّها النّاس فانّما أنا بشر یوشک أن یأتی رسول ربّی فاجیب وأنا تارک فیکم ثَقَلَیْن أوّلهما کتاب اللّه فیه الهدی والنّور فخذوا بکتاب اللّه واستمسکوا به فحثّ علی کتاب اللّه ورغّب فیه، ثمّ قال: وأهل بیتی اذکّرکم اللّه فی أهل بیتی اذکّرکم اللّه فی أهل بیتی اذکّرکم اللّه فی أهل بیتی، فقال له حصین: ومَنْ أهل بیته یازید؟ ألیس نسائه من أهل بیته؟ قال: نسائه من أهل بیته ولکن أهل بیته من حُرِمَ الصّدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علیّ وآل عقیل وآل جعفر وآل عبّاس، قال: کلّ هؤلاء حرم الصّدقة؟ قال: نعم»(2).

والترمذی فی صحیحه بسنده «عن جابر بن عبداللّه قال: رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حجّته یوم عرفة وهو علی ناقته القصوی یخطب فسمعته یقول: یا أیّها النّاس انّی قد ترکت فیکم ما إن أخذتم به لن تضلّوا کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی»(3).

قال آیة اللّه الحاج آقا حسین الطبَّاطبائیُّ البروجردی قدس سره فی شأن حدیث

الثَّقَلَیْن: «الحدیث المعروف بحدیث الثَّقَلَیْنِ المجمع علیه بین الفریقین فانّه قد رواه عن

ص:107


1- 2 . الثَّقَل محرکة: متاع المسافر وحسْمه والجمع أثقال وکلّ شیءٍ خطیر نفیس مصون، له قدر ووزن ثَقَلٌ عند العرب. تاج العروس 14/85.
2- 3 . صحیح مسلم 2/325، طبع مصر سنة 1327، 15/179بشرح الإمام النووی.
3- 4 . صحیح الترمذی 2/308.

النّبیّ صلی الله علیه و آله أربع وثلاثون من الصّحابة والصّحابیات وأخرجه مضافا إلی علماء الإمامیّة ومحدّثیهم أکثر من الثّمانین والمأة من أکابر أهل السّنّة ومشاهیر علمائهم ومحدّثیهم فی جوامعهم وصحاحهم وسننهم بأسانید صحیحة»(1). ثمّ بحث عن مصادره فی کتب العامة وعن دلالته علی وجوب التمسک بالکتاب والعترة الطاهرة فی قریب من تسعین صفحة فراجع جامع أحادیث الشیعة(2).

وقال فی وجه تسمیة الکتاب والعترة بالثقلین: «وما قیل فی وجه تسمیة الکتاب العزیز والعترة الطّیبة بالثَّقَلَین أو یمکن أن یقال أُمور:

الأوّل: کون کلّ واحد من الکتاب والعترة معدنا للعلوم العلّیة والحقائق الدّینیّة ومنبعا للأسرار النّفیسة والأحکام الإلهیّة.

والثّانی: ثقالة التّمسّک بهما والعمل بما یتلقّی عنهما ورعایة حقوقهما علی النّاس لانّهما یأمران بالعبودیّة والإخلاص للّه تعالی ومخالفة الهوی والعدل والاحسان وینهیان عن الفحشاء والمنکر وعن متابعة النّفس والشّیطان وعن الظّلم والعدوان ومعلوم أنّ تباعة الحقّ والإخلاص ومخالفة الهوی وترک الفحشاء أثقل الأشیاء وأمرّها.

الثّالث والرّابع: ثقالتهما علی نفوس کارهیهما وثقل عمل مَنْ تمسّک بهما.

الخامس: علوّ قدرهما ووعظم شأنهما کما صرّح به کثیر من الأعاظم.

السادس: عمارة الدّین بهما کما تعمر الدّنیا بالإنس والجنّ.

السّابع: کون کلّ منهما مصونا عن الخطأ والخطل وعن السّهو والزّلل وطهارتهما عن الدّنس والرّجس وعن الباطل والکذب ویؤیّده بعض فقرات الحدیث ویناسبه المعنی اللّغویّ لانّ الثّقل فی اللّغة کما تقدّم الشّیء النّفیس المصون.

الثّامن: بقاء الکتاب والعترة للتّمسّک والاهتداء فی کلّ زمن إلی قیام السّاعة وصونهما عن الضّیاع والزّوال فی جمیع الأعصار إلی یوم القیامة کما هو شأن کلّ مصون

ص:108


1- 1 . جامع أحادیث الشیعة 1/46.
2- 2 . جامع أحادیث الشیعة 1/(132-46).

ثقیل ولازم کلّ نفیس خطیر فإنّ الذّکر نزّله اللّه وهو له حافظ وجعل أهل الذّکر قرینه وهو لهم ناصر.

التّاسع: اعتماد النّبیّ صلی الله علیه و آله ورکونه إلیهما فی بقاء آثاره فإنّ دینه باق ببقائهما لأنّ

الکتاب معجزته الباقیة والعترة معادن أسراره العلّیّة فیکونان ثقلیه وناصریه»(1).

7- حدیث إنذار العشیرة: المروی فی ذیل قوله تعالی: «وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الاْءَقْرَبِینَ»(2)، قال الطبری فی تاریخه المسمّی ب- «تاریخ الاُمم والملوک» بسنده «عن عبداللّه بن عباس عن علیّ بن أبیطالب علیه السلام قال: لما نزَلت هذه الآیة «وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الاْءَقْرَبِینَ» علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله دعانی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال لی یا علیّ، إنّ اللّه أمرنی أن أنذر عشیرتی الأقرَبین، فَضِفْتُ بذلِک ذَرْعا، وعَلِمتُ أنّی مَتی أُنادِهم بهذا الأمر، أرَ منهم ما أکرَه، فصَمَتُّ حتّی جاءنی جَبْرَئیل علیه السلام ، فقال: یا محمّد، إنّک إن لم تفعَل ما اُمِرَت به، یُعذّبک ربّک. فاصنَع لنا صاعا من طعام واجعَل علیه رِجْلَ شاةٍ واملأ لنا عُسّا من لبَن، ثمّ اجمَع بنی عبدالمطّلب حتّی اُکلِّمَهم واُبلِّغَهم ما اُمِرتُ به، ففعَلتُ ما أمرنی به، ثمّ دعَوتُهم وهو یومئذٍ أربَعون رجُلاً، یَزیدون رجلاً أو یَنقُصون رجلاً، فیهم أعمامُه: أبوطالب، وحمزة، والعَبّاس، وأبولَهَب.

فلمّا اجتَمعوا إلیه دعا بالطّعام الذی صنَعتُ لهم، فجِئتُ به. فلمّا وضَعتُه تناوَل رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله بَضْعَةً من اللَّحْم، فشَقْها بأسنانه، ثمّ ألقاها فی نواحی الصَّحْفَة. ثمّ قال: کُلوا بسم اللّه، فأکلوا حتّی مَالَهُم بشیءٍ من حاجةٍ، وأیم اللّه الذی نفسُ علیٍّ بیَدِه إن کانَ الرَجُل الواحد منهم لیأکُل ما قدَّمتُه لجَمیعهِم. ثمّ قال: اسقِ القَومَ یا علیّ، فجئْتُهم بذلک العُسّ فشَرِبوا منه حتّی روَوا جمیعا، وأیم اللّه إن کان الرجلُ منهم لیَشْرَب مِثلَه.

فلمّا أراد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یکلِّمهم؛ بَدَرهُ أبولَهَب إلی الکلام، فقال: لَشَدَّ ما سحَرکُم صاحِبکُم! فتفرّق القومُ ولم یتکلّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال من الغَد: یا علیّ، إنّ هذا الرجل قد

ص:109


1- 1 . جامع أحادیث الشیعة 1/(85-79) وراجع تعلیل تَسْمِیَتِهِما بالثَّقلین کتاب الصواعق المحرقة لابن حَجَرِ الهیتمی المکیّ (ت 974ه أو 973ه).
2- 2 . سورة الشعراء /214.

سبَقنی إلی ما سَمِعت مِن القَول، فتفرّق القومُ قبل أن اُکلِّمهم، فعد لنا الیوم إلی مثل ما صنَعْتَ بالأمس، فأکلوا حتّی مالهم بشیءٍ من حاجةٍ. ثمّ قال: اسقِهم، فجئتهُم بذلک العُسّ فشَرِبوا منه جمیعا حتّی رَوَوا.

ثمّ تکلّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال: یا بَنی عبدالمُطَّلِب، إنّی واللّه ما أعلَمُ أنّ شابّا فی العرَب جاء قَومَه بأفضَل ممّا جِئتُکم به. إنّی جِئتُکم بخیر الدنیا والآخِرة، وقد أمرنی اللّه أن أدعُوَکم إلیه، فأیّکُم یُؤازِرُنی علی هذا الأمر علی أن یکون أخی ووصیّی وخلیفَتی فیکم؟

فأحجَم القومُ عنها جمیعا، وقلت أنا - وإنّی لأحْدَثُهم سِنّا، وأرمَصُهم عَیْنا، وأعظَمُهم بَطْنا، وأحمَشُهم ساقا - قلت: أنا یا رسول اللّه، أکونُ وزیرُک علیه. فأعاد القولَ، فأمَسکوا، وأعَدْتُ ما قلتُ. فأخَذ برقَبَتی، ثمّ قال لهم: هذا أخی ووصیّی وخلیفتی فیکم، فاسَمعوا له وأطیعوا. فقام القومُ یضحَکون ویقولون لأبیطالب: قد أمَرک أن تسمَع لابنِک وتُطیع»(1).

هذه الروایة مرویة فی مختلف کتب العامة نحو مسند أحمد(2) وفضائل الصحابة(3) له أیضا وتفسیر الطبری(4) وتفسیر الثعلبی(5) وکنزالعمال للمتقی الهندی(6) وشرح نهج البلاغة لابن أبیالحدید(7). وأنّه نقل عن أبیجعفر الإسکافی المتوفی سنة 240 من مشایخ المعتزلة البغدادیین قال فی هذه الروایة: «قد روی فی الخبر الصحیح»(8).

وقد بحث فی دلالة هذه الروایة أعلام الإمامیة - أعلی اللّه کلمتهم - فی کتبهم نحو:

ص:110


1- 1 . تاریخ الطبری 2/216 و 217.
2- 2 . مسند أحمد 1/111.
3- 3 . فضائل الصحابة 2/650، ح 1108.
4- 4 . تفسیر الطبری 19/74 (19/140 من الطبعة الحدیثة).
5- 5 . الکشف والبیان 7/182.
6- 6 . کنزالعمال 6/397.
7- 7 . شرح نهج البلاغة 13/210.
8- 8 . شرح نهج البلاغة 13/244.

أصحاب دلائل الصدق(1) والغدیر(2) والمراجعات(3) وفضائل الخمسة(4).

8- حدیث المنزلة: المروی فی الصحیحین وغیرهما من مصادر العامة، ففی صحیح البخاری بسنده عن إبراهیم بن سعد عن أبیه قال: قال النبی صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام : أما ترضی أن تکون منّی بمنزلة هارون من موسی.(5)

وفی البخاری أیضا بسنده عن مُصْعَب بن سعد عن أبیه أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله خرج إلی تبوک واستخلف علیّا علیه السلام فقال: أتُخَلّفنی فی الصبیان والنساء؟ قال: ألا ترضی أن تکون منّی بمنزلة هارون من موسی إلاّ أنّه لیس نبیّ بعدی.(6)

وفی صحیح مسلم بإسناده عن سعید بن المسیب، عن عامر بن سَعْد بن أبیوَقّاص، عن أبیه، قال: قال رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله لعلیّ: أنتَ منّی بمَنزِلة هارونَ مِن موسی إلاّ أنّه لا نبیّ بَعدی.

قال سعید: فأحبَبتُ أن اُشافِهَ بها سَعْدا، فلقیتُ سعدا فحدّثتُه ما حدّثنی به عامر، فقال: أنا سمِعتُه، فقلت: أنت؟ فوضَع إصبَعَیْهِ علی اُذُنَیهِ وقال: نعم، وإلاّ فاستکَّتا»(7).

ومسلم بإسناده عن شُعبة، عن الحکم، عن مُصْعَب بن سعد بن أبیوقاص، عن سَعْد [بن] أبیوقّاص، قال: خلّف رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیّ بن أبیطالب فی غَزاةِ تَبوک؛ فقال: یا رسول اللّه، تُخلّفنی فی النِّساء والصِّبْیان! فقال: أما تَرضی أن تکونَ مِنّی بمَنزِلة هارونَ مِن موسی غیر أنّه لا نبیّ بعدی؟(8)

ص:111


1- 9 . دلائل الصدق 2/359 [(6/623) من الطبعة الحدیثة)].
2- 10 . الغدیر 1/(289-278)، [3/(408-393) من الطبعة الحدیثة].
3- 11 . المراجعات /303.
4- 12 . فضائل الخمسة 1/(384-380).
5- 13 . صحیح البخاری 4/208 (5/89، ح202).
6- 14 . صحیح البخاری 5/129 (6/18، ح 408).
7- 1 . صحیح مسلم 4/1870، ح30.
8- 2 . صحیح مسلم 4/1870، ح31.

ذکر السیّد البحرانی مأة حدیث من مصادر العامة بالنسبة إلی حدیث المنزلة فراجع کتابه غایة المرام.(1)

قال معلّم الأُمّة الشیخ المفید فی دلالة هذا الحدیث: «فتضمّن هذا القول من رسول اللّه صلی الله علیه و آله نصَّه علیه بالإمامة، وإبانته عن الکافّة بالخلافة، ودلّ به علی فضلٍ لم یَشْرَکه فیه سواه، وأوجَب له به علیه السلام جمیعَ منازل هارون من موسی، إلاّ ما خصّه العُرْف من الاُخوّة واستثناه هو علیه السلام من النبوّة.

ألا تری أنّه - علیه وآله السلام - جَعَل له کافّةَ منازل هارون من موسی، إلاّ المستثنی منها لفظا أو عقلاً. وقد علم کلُّ من تأمَّلَ معانِیَ القرآن، وتصفّح الروایات والاْءخبار، أنّ هارون علیه السلام کان أخا موسی لأبیه واُمّهِ وشریکَه فی أمره، ووزیرَه علی نبوّته وتبلیغِه رسالات ربّه، وأنّ اللّه تعالی شَدَّ به أزرَه، وأنّه کان خلیفتَه علی قومه، وکان له من الإمامة علیهم وفَرْضِ الطاعةِ کإمامته وفَرْضِ طاعته، وأنّه کان أحبَّ قومه إلیه وأفضلَهم لدیه.

قال اللّه - عزّوجلّ - حاکیا عن موسی علیه السلام : «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِی صَدْرِی * وَیَسِّرْ لِی أَمْرِی * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِی * یَفْقَهُوا قَوْلِی * وَاجْعَلْ لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی * هارُونَ أَخِی * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِی * وَأَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی»(2) فأجاب اللّه تعالی مسألتَه وأعطاه سُؤْلَهُ فی

ذلک واُمنِیَّتَه، حیث یقول: «وَقالَ مُوسی لاِءَخِیهِ هارُونَ اخْلُفْنِی فِی قَوْمِی وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِیلَ الْمُفْسِدِینَ»(3).

فلما جَعَل النبیُ صلی الله علیه و آله علیّا علیه السلام منه بمنزلة هارون من موسی، أوجَب له بذلک جمیعَ ما عَدَدناه، إلاّ ما خصَّه العُرْفُ من الأُخُوّة واستثناه من النُبوَّة لفظا.

وهذه فضیلةٍ لم یشرَک فیها أحدٌ من الخلق أمیرَالمؤمنین علیه السلام ولا ساواه فی معناها ولا قاربه فیها علی حال، ولو عَلِم اللّه تعالی أنَّ بنبیّه علیه السلام فی هذه الغَزاة حاجةً إلی الحرب

ص:112


1- 3 . غایة المرام 1/(222-175).
2- 4 . سورة طه /25-32.
3- 1 . سورة الأعراف /142.

والاْءنصار، لَما أَذِنَ له فی تخلیفِ أمیرالمؤمنین علیه السلام عنه حَسَب ما قدّمناه، بل عَلِم أَنّ المصلحةَ فی استخلافه، وأنَّ إقامته فی دار هِجرته مُقامه أفضلُ الاْءعمال، فدبَّر الخلقَ والدین بما قضاه فی ذلک وأمضاه، علی ما بیّناه وشرحناه»(1).

9- تبلیغ سورة البراءة: تواترت الروایات بین الفریقین بإرجاع أبیبکر من تبلیغها وإرسال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام بها والواقعة حدثت عام التاسع من الهجرة النبویة وهی علی ما فی مصادر العامة(2): «إنّ النبیَّ صلی الله علیه و آله بعث أبابکر ببراءة إلی أهل مکة: لا یحج العام مشرک ولا یطوف بالبیت عریان ولا یدخل الجنة إلاّ نفس مسلمة ومن کان بینه وبین رسول اللّه مدّة فأجله إلی مدّته واللّه بریء من المشرکین ورسوله، قال: فسار بها ثلاثا، ثمّ قال لعلیٍّ: الحقه، فردَّ علیَّ أبابکر وبلغها أنت، قال: ففعل فلما قدم علی النبی أبوبکر بکی وقال: یا رسول اللّه أحدث فیَّ شیء؟ قال: لا ولکن أمرت أنْ لا یبلغها إلاّ أنا أو رجل منّی»(3).

وقد ذکر نصوص الروایات العامیات السیّد هاشم البحرانی فی غایة المرام(4).

والعلاّمة الأمینی قدس سره بعد أن عدّ أکثر من سبعین شخصا من العامة فی القرون المتمادیة رووها قال وفی الاستدلال بها: «وفی القصة إیعاز إلی أنّ من لا یستصلحه

الوحی المبین لتبلیغ عدّة آیات من الکتاب کیف یأتمنه علی التعلیم بالدین کلّه، وتبلیغ الأحکام والمصالح کلّها»(5).

بل کیف یأتمنه علی إمامة الاُمّة والخلافة بعد الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وبدلاً منه؟!!

ص:113


1- 2 . الارشاد 1/(158-156).
2- 3 . مسند أحمد 1/150 و 151؛ فضائل الصحابة 2/562، ح946 و 2/640، ح 1088؛ صحیح البخاری 1/165، ح35 و 6/124، ح177؛ تفسیر الطبری 10/76 من الطبعة الحدیثة (10/46)؛ والمناقب /165 للخوارزمی.
3- 4 . ولایت و امامت /176 للمؤلِّف.
4- 5 . غایة المرام 2/(92-85).
5- 1 . الغدیر 7/(350-338)ا [6/(495-476) من الطبعة الحدیثة].

«فَما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ»(1).

10- حدیث الرأیة: فی واقعة الخیبر عام السابع الهجری فی فتح أحدی قلاعه المسماة ب- «القموص» أو «الناعم» حیث أرسل النبی صلی الله علیه و آله أبابکر فی الیوم الأوّل مع الجیش المسلمین فرجع من دون فتح ثمّ فی الیوم الثانی أرسل صلی الله علیه و آله عمر فرجع من دون ظفر وفی الیوم الثالث أرسل صلی الله علیه و آله أحدا من الأنصار فرجع هکذا ثمّ قال محمّد بن عمر الواقدی المتوفی سنة 207 فی کتابه المغازی ما نصه: «... فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لأعطینَّ الرأیة غدا رجلاً یحبّه اللّه ُ ورسولُهُ یفتح اللّه علی یدیه، لیس بِفَرّار، أبشر یا محمّد بن مسلمة غدا إن شاء اللّه یقتل قاتل أخیک وتولی عادیة الیهود فلما أصبح أرسل إلی علی بن أبیطالب علیه السلام وهو أرمد فقال: ما أبصر سهلاً ولا جبلاً. قال: فذهب إلیه، فقال: افتح عینیک. ففتحهما، فتفل فیهما. قال علی علیه السلام : مارمدت حتّی الساعة. ثمّ دفع إلیه اللواء ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر فکان أوّل من خرج إلیهم الحارث أخو مرحب فی عادیته فانکشف المسلمون وثبت علی علیه السلام فاضطربا ضربات فقتله علی علیه السلام ورجع أصحاب الحارث إلی الحصن فدخلوه واغلقوه علیهم فرجع المسلمون إلی موضعهم وخرج مرحب وهو یقول:

قد علمت خیبر أنّی مَرْحَبُ شاکی السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ

أضرب أحیانا وحینا أضرب

فحمل علی علیه السلام فقطره علی الباب وفتح الباب وکان للحصن بابان»(2).

وقد نقل البخاری الحدیث فی مواضع متعددة من صحیحه(3) منها: بسنده «عن سَلَمة بن الأکوع، قال: کان علیّ علیه السلام [قد] تخلّف عن النبیّ صلی الله علیه و آله فی خیبر، وکان به رَمَدٌ،

ص:114


1- 2 . سورة یونس /35.
2- 3 . المغازی 2/654.
3- 4 . فراجع صحیح البخاری 4/133، ح 178 و 5/87، ح197 و 5/279، ح230 و 231 (4/20).

فقال: أنا أتخلّف عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ! فخرج علیّ فلحق بالنبیّ صلی الله علیه و آله ، فلمّا کان مساء اللیلة التی فتحها [اللّه] فی صباحها، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لاُعطینّ الرایة - أو لیأخُذنّ الرایة - غدا رجلاً یُحبّه اللّه ورسوله - أو قال: یُحبّ اللّه ورسوله - یفتح اللّه علیه، فإذا نحن بعلی بن أبیطالب وما نرجوه، فقال: هذا علیّ بن أبیطالب، فأعطاه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ففتح اللّه علیه»(1).

وأمّا دلالته: هل یصلح للإمامة العظمی والخلافة الکبری بدلاً مِن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله مَنْ یحبُّ اللّه َ ورسولَه، ویحبّه اللّه ُ ورسولُه ویفتح اللّه علی یدیه ولیس بفرّار أو مَنْ فَرَّ مِنْ العدوّ ورجع خائبا مکسورا مأیوسا من دون فتح ولا ظفر؟! فَالْعَقْلُ حاکم وحکمه واضح.

«تِلْکَ عَشَرَةٌ کامِلَةٌ» من السنة الشریفة وهذا غیض من فیض وقطرة من بحارها الواردة فی شأن مولانا ومقتدانا وسیّدنا ووصیّ نبیّنا وخلیفته من دون فصل بعده صلی الله علیه و آله أسداللّه وأسد رسوله أمیرالمؤمنین علی بن أبیطالب علیه السلام ولتفصیلها فراجع إلی الکتب المفصلة فی هذا الباب والحمد للّه علی «أوّل النعم»(2).

ج: الإجماع

قال الشیخ الأعظم: «وأمّا الإجماع فغیر خفیّ»(3).

أقول: الإجماع من المسلمین بطوائفهم المتعددة وعقائدهم المختلفة وآراءهم المتشتّة ثابت علی ولایة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأنّه أولی من المؤمنین بأنفسهم.

والإجماع من الطائفة المحقّة الشیعة الإمامیة الاِثنی عشریة ثابت علی ولایة أمیرالمؤمنین علیّ بن أبیطالب وأحد عشر من اُولاده المعصومین علیهم السلام .

ص:115


1- 1 . صحیح البخاری 5/88، ح 198 (4/12).
2- 2 . ورد فی صحیحة الفضیل عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: من وجد برد حبّنا فی کبده فلیحمد اللّه علی أوّل النعم، قال: قلت: جعلت فداک، ما أوّل النعم؟ قال: طیب الولادة. [وسائل الشیعة 9/547، ح10].
3- 3 . المکاسب 3/548.

والإجماع من الفِرَق الشیعیة المتعددة ثابت علی ولایة أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام وإن اختلفوا فی مابعده علیه السلام کالزیدیة والإسماعیلیة والفطحیة والواقفة وغیرهم.

وکذا الأمر بالنسبة إلی تفضیل أمیرالمؤمنین علیه السلام علی غیره من أصحاب رسول

اللّه صلی الله علیه و آله وافقنا - الشیعة بالمعنی العام - جماعة من العامة الذاهبین إلی مذهب الاعتزال فی عقیدتهم کما نقل عنهم ابن أبیالحدید المعتزلی فی أوّلِ شرحه علی نهج البلاغة واختاره حیث یقول: «وقال البغدادیون قاطبة ؛ قدماؤهم ومتأخروهم، کأبیسهل بِشْر بن المعتمر، وأبیموسی عیسی بن صبیح، وأبیعبداللّه جعفر بن مبشّر، وأبیجعفر الإسکافی، وأبیالحسین الخیاط، وأبیالقاسم عبداللّه بن محمود البلْخِیّ وتلامذته: إنّ علیّا علیه السلام أفضلُ من أبیبکر.

وإلی هذا المذهب ذهب من البصریین أبوعلیّ محمّد بن عبدالوهاب الجُبّائیّ أخیرا، وکان من قبلُ من المتوقّفین، کان یمیل إلی التفضیل ولا یصرّح به، وإذا صنّف ذهب إلی الوقف فی مصنّفاته. وقال فی کثیر من تصانیفه: إن صحّ خبرُ الطّائر فعلیٌّ أفضل.

ثمّ إن قاضیَ القضاة(1) رحمه الله ذکر فی شرح «المقالات» لأبیالقاسم البلخیّ أنّ أباعلیّ رحمه الله ما مات حتّی قال بتفضیل علیّ علیه السلام ؛ وقال: إنّه نقل ذلک عنه سماعا، ولم یوجد فی شیء من مصنّفاته. وقال أیضا: إن أباعلیّ رحمه الله یوم مات استدنَی ابنه أباهاشم إلیه، - وکان قد ضَعُف عن رفع الصوت - فألقی إلیه أشیاء، من جملتها القولُ بتفضیل علیّ علیه السلام .

وممن ذهب من البصریین إلی تفضیله علیه السلام الشیخ أبوعبداللّه الحسین بن علیّ البصریّ - رضی اللّه عنه - ، کان متحققا بتفضیله، ومبالغا فی ذلک، وصنّف فیه کتابا مفردا.

وممن ذهب من البصریین قاضی القضاة أبوالحسن عبدالجبار بن أحمد رحمه الله ذکر ابن مَتّویه عنه فی کتاب الکفایة فی علم الکلام أنه کان من المتوقفین بین علیّ علیه السلام وأبی بکر، ثمّ قطع علی تفضیل علیّ علیه السلام بکامل المنزلة.

ومن البصریین الذاهبین إلی تفضیله علیه السلام أبومحمّد الحسن بن مَتّویه صاحب

ص:116


1- 1 . هُوَ أحْمَد بن عبدالجبّار الهمذانیّ المعتزلیّ.

«التذکرة» نصّ فی کتاب «الکفایة» علی تفضیله علیه السلام علی أبیبکر؛ واحتجّ لذلک، وأطال فی الاحتجاج.

فهذان المذهبان کما عرفت.

وذهب کثیر من الشیوخ رحمهم الله إلی التوقف فیهما؛ وهو قول أبیحذیفة واصل بن عطاء، وأبیالهُذَیْل محمّد بن الهُذَیْل العلاّف؛ من المتقدمین. وهما - وإن ذهبا إلی التوقّف بینه علیه السلام وبین أبیبکر وعمر- قاطعان علی تفضیله علی عثمان... .

وأما نحن فنذهب إلی ما یذهب إلیه شیوخنا البغدادیون؛ من تفضیله علیه السلام . وقد ذکرنا فی کتبنا الکلامیة ما معنی الأفضل؛ وهل المراد به الأکثر ثوابا أو الأجمعُ لمزایا الفضل والخلال الحمیدة، وبیّنا أنّه علیه السلام أفضلُ علی التفسیرین معا»(1).

وفی هذا المجال علیک بمراجعة رسالة تفضیل بنیهاشم ورسالة تفضیل علی علیه السلام کلاهما بقلم أبیعثمان عمرو بن بحر الجاحظ المعروف المُتَوَفی سنة 255ق - وکان عثمانیا مروانیا -(2)، وَهُما مَذْکُوْرانِ فی أوّل کتاب کشف الغُمَّةِ فی معرفة الأئمة(3) لعلی بن عیسی الإربلی المتوفی سنة 692، وقال الجاحظ فی الرسالة الثانیة: «... فثبت بما ذکرناه من إجماع الفریقین ودلالة الکتاب والسنة أنّ علیّا أفضل(4)... وبقی أمیرالمؤمنین علی ابن أبیطالب - صلوات اللّه علیه - فیکون أحقّ بالإمامة لما أجمعت علیه الاُمّة ولدلالة الکتاب والسنة علیه»(5).

ثمّ لا ینقضی تعجّبی عن اعتراض المحقّق المُروِّج رحمه الله علی الاستدلال بالإجماع - بعد اعتراضه بأنّه من الضروریات - فی المقام حیث یقول: «لکن لا مسرح للاستدلال

ص:117


1- 1 . شرح نهج البلاغة 1/(9-7).
2- 2 . علی ما قاله الإربلی فی کشف الغمة 1/85.
3- 3 . کشف الغمة 1/(85-66)، طبع المجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام عام 1426.
4- 4 . کشف الغمة 1/82.
5- 5 . کشف الغمة 1/85.

بالإجماع هنا، لعدم کونه دلیلاً مستقلاً حینئذ»(1).

د: العقل القطعی
اشارة

قسّم الشیخ الأعظم الدلیل العقلی إلی قسمین:

1- الدلیل العقلی المستقل

(2)

قال: «فالمستقل منه [أی من الدلیل العقلی] حکمه بوجوب شکر المنعم بعد معرفة أنّهم اُولیاء النعم»(3).

مراده قدس سره : إنّهم علیهم السلام وَسائطُ للفیض الإلهی فهم اُولیاء النعم والعقل یستقل بوجوب

شکر المنعم، ولا یتُّم هذا الشکر إلاّ بإطاعتهم والتسلیم لهم وقبول ولایتهم علیهم السلام .

ویرد علیه: أوّلاً: ما یترتب علی ترک حُکْمِ العقل المستقل بلزوم شکر المنعم ومخالفته هو الذَّم أو قطع الإحسان من المحسن والمنعم وکلاهما أجنبیان عن العقاب، وما هو المهم هنا من إثبات لزوم متابعتهم ونفوذ تصرفاتهم.

وثانیا: وجوب شکر المنعم لا یثبت وجوب معرفة المنعم، لأنّ شکره لا یتوقف علی معرفته. فمع عدم معرفتهم کیف یمکن الحکم بلزوم متابعة المجهول ونفوذ تصرفاته.

نعم، یُمْکِنُ إثبات وجوب معرفة المنعم باحتمال العقاب وظنّ الضرر علی فرض ترکها، ودفع الضرر المحتمل الذی یمکن أی یکون عقابا لازم عقلاً ویترتب علی مخالفته الضرر بمعنی العقاب، ولکن هذا البیان لا یجری فی وجوب الطاعة ولزوم المتابعة ونفوذ التصرفات، لأنّ مع الشک فی هذه الأُمور تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان. فلا یتم هذا الاستدلال.

اللهم إلاّ أن یقال: شکر المنعم یعنی الخضوع التام للمنعم فی جمیع الأمور فلا بأس

ص:118


1- 6 . هدی الطالب 6/135.
2- 7 . الدلیل العقلی المستقل: هو الدلیل الذی صغراه وکبراه ومفادهما من العقل ولا یحتاج إلی ضمّ مقدمة خارجیة، بل هو [العقل] یَتَکَفَّلُ لإثبات النتیجة بنفسه کحکم العقل بوجود التحسین والتقبیح الْعَقْلِیَّیْنِ.
3- 8 . المکاسب 3/548.

بشموله فی وجوب الطاعة ولزوم المتابعة ونفوذ التصرفات، ولکن دون إثبات وجوب هذا الشکر خَرْطٌ للقتاد.

2- الدلیل العقلی غیر المستقل

(1)

قال الشیخ الأعظم: «والغیر المستقلّ حکمه بأنّ الاُبوّة إذا اقتضت وجوب طاعة الأب علی الإبن فی الجملة، کانت الإمامة مقتضیة لوجوب طاعة الإمام علی الرعیّة بطریق أولی؛ لأنّ الحقّ هنا أعظم بمراتب، فتأمّل»(2).

مراده قدس سره : حکم العقل الذی یتوقف علی مقدمة شرعیة - وهی ولایة الأب ووجوب طاعته شرعا - ، بالاُولویة بعد ثبوت هذه المقدمة الشرعیة بحکم العقل بالاولویة القطعیة بولایة الإمام المعصوم علیه السلام ولزوم طاعته.

قال المحقّق الاصفهانی: «إنّ الاُبوة لیست إلاّ حیثیة مقدمیة الأب إعدادا لتکوین الولد، فإذا کانت مقتضیة لوجوب إطاعته فی أوامره الشخصیة شرعا کانت المقدمیة فی مجاری الفیض ووسائط التکوین أقوی، فتجب إطاعتهم علیهم السلام بنحو أولی.

وهذا التقریب أولی ممّا ذکره قدس سره من کون حقّ الإمام علیه السلام علی الرعیة أعظم، فإنّ حیثیة الإمامة والرعیة حیثیة التربیة الروحانیة باخراجهم من ظلمة الجهل إلی نور العلم، فهو ملاک آخر غیر ملاک الأُبوة والمقدمیة للتکوین»(3).

ویرد علیه: أوّلاً: لم تتم المقدمة الشرعیة وهی ولایة الأب ووجوب طاعته، بل تمّت حرمة إیذاء الوالدین الذی ینتهی إلی عقوقهما کما علیه شیخنا الاستاذ رحمه الله (4).

وثانیا: علی فرض وجوب إطاعة الوالد فمن المعلوم أنّ إطاعته فی جمیع المراتب لیست واجبة مثلاً إذا أمره بتملیک أمواله له لا یجب ذلک علی الولد قطعا «فکیف یمکن

ص:119


1- 1 . الدلیل العقلی غیر المستقل: هو الدلیل الذی فی ترتب النتیجة علیه نحتاج إلی ضمّ مقدمة خارجیة غیر الأحکام العقلیة نحو مباحث الاستلزامات العقلیة.
2- 2 . المکاسب 3/548.
3- 1 . حاشیة المکاسب 2/383 للمحقّق الاصفهانی.
4- 2 . إرشاد الطالب 4/202.

التعدی منه إلی وجوب إطاعة الأئمة علیهم السلام مطلقا، إذ لم یثبت وجوب الإطاعة فی حق الأب مطلقا وفی جمیع المراتب حتّی یمکن التعدّی منه إلی وجوبها فی الأئمة علیهم السلام مطلقا»(1).

وثالثا: «المناط فی وجوب إطاعة الأب غیر معلوم، ولیس المدرک فی وجوب إطاعته عبارة عن کونه موجبا لحیاة الولد حتّی نتعدّی منه إلی وجوب إطاعة الأئمّة علیهم السلام وإلاّ للزم وجوب إطاعة من أنقذ أحدا من الغرق أو المرض لأنّه أوجب حیاته ومع ذلک لا یجب علیه إطاعته بوجه، ویحتمل أن یکون المناط هو تربیة الولد فعلاً وهی مفقودة فی الأئمّة علیهم السلام ».

ورابعا: قال المحقّق الاصفهانی فی نقد مقالته: «فاقتضاء حقٍّ لوجوب الإطاعة لا یلازم اقتضاء حقٍّ آخر لوجوب الإطاعة شرعا بالمساواة فضلاً عن الاُولویة، وإذا لو حظ حیثیة التربیة؛ وأنّ تربیة الروح أعظم من تربیة الجسم، فلازمه وجوب إطاعة کل متعلِّم لمعلِّمه شرعا مع أنّه لیس کذلک فتدبر»(2).

فلا یتم استدلال الشیخ الأعظم بالعقل القطعی ولعلّه قدس سره أمرنا بالتأمل فیه.

ولکن یمکن الاستدلال بحکم العقل القطعی غیر المستقل بمایلی:

الخلافة عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله والإمامة العظمی والولایة الکبری مقام رفیع لا یمکن عقلاً أن تصل إلی کلّ عامی جاهل بالأحکام الشرعیة بحیث یکون کل النّاس أفقه

منه حتّی المخدرات فی البیوت، ویحکم بغیر ما أنزل اللّه فی فدک وغیر فدک ویمیت السنة ویحیی البدعة وقال بالنسبة إلی بِدَعِهِ: «نعم البدعة هذه»(3)، ومَنْ لیس له الفضائل من التقوی والعلم والجهاد والإیمان، ولم تصل إلی الکافر الفاسق الغادر الکذّاب، مع فرض وجود فرد یُنسب إلیه کل الفضائل وهو مولانا ومقتدانا وإمامنا أمیرالمؤمنین علی بن أبیطالب - علیه صلوات المصلین - والعقل حاکم بالحکم القطعی بینهم فی ما أقوله.

ص:120


1- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/160.
2- 4 . حاشیة المکاسب 2/383.
3- 1 . کما فی صحیح البخاری 3/58 بالنسبة إلی صلاة التراویح، موطأ مالک 1/114، ح3.

والشاهد علی أنّه ربّ الفضائل وتنسب إلیه علیه السلام مقالة ابن أبیالحدید المعتزلی فی أوّل شرحه علی نهج البلاغة حیث یقول: «وما أقولُ فی رجل أقَرّ له اعداؤه وخصومه بالفضل، ولم یمکنهم جَحْدُ مناقبه، ولا کتمانُ فضائله، فقد علمتَ أنه استولی بنو أمیةَ علی سلطان الإسلام فی شرق الأرضِ وغربها، واجتهدوا بکلّ حیلة فی إطفاء نوره، والتحریضِ علیه، ووضع المعایب والمثالب له، ولعنوه علی جمیع المنابر، وتوعّدوا مادِحِیه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من روایة حدیث یتضمّن له فضیلة، أو یرفع له ذکرا، حتّی حظَروا أنْ یسمّی أحد باسمه؛ فما زاده ذلک إلاّ رفعةً وسُمُوّا؛ وکان کالمسک کلّما سُتِر انتشر عَرْفه، وکلّما کُتِم تَضوَّع نَشْرُه؛ وکالشمس لا تُسْتَر بالراح، وکضوْء النهار إن حُجِبت عنه عین واحدة، أدرکته عیون کثیرة!

وما أقول فی رجل تُعْزَی إلیه کلُّ فضیلة، وتنتهی إلیه کل فِرْقة، وتتجاذبه کلُّ طائفة، فهو رئیس الفضائل ویَنبوعها، وأبو عُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلِّی حَلْبتِها، کلُّ مَنْ بزغ فیها بعده فمنه أخذ، وله اقتفی، وعلی مثاله احتذی.

وقد عرفت أنّ أشرفَ العلوم هو العلم الإلهیّ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فکان هو أشرفَ العلوم. ومن کلامه علیه السلام اقتُبِس، وعنه نُقِل، وإلیه انتهی؛ ومنه ابتدأ، فإنّ المعتزلة(1) - الذین هم أهلُ التوحید والعدْل، وأرباب النظر، ومنهم تعلَّم النّاس هذا الفن - تلامذتُه وأصحابه؛ لأنّ کبیرَهم واصل بنُ عطاء تلمیذُ أبیهاشم عبداللّه بن محمّد بن الحنفیة(2)، وأبوهاشم تلمیذ أبیه، وأبوه تلمیذه علیه السلام . وأما الأشعریة فإنّهم ینتمون إلی أبیالحسن علی بن [إسماعیل بن] أبیبشر الأشعریّ، وهو

تلمیذ أبی علیّ الجُبائیّ، وأبو علیّ أحد مشایخ المعتزلة؛ فالأشعریة ینتهون بأخَرَةٍ إلی أستاذ المعتزلة ومعلّمهم، وهو علی بن أبیطالب علیه السلام .

وأما الإمامیة والزیدیة فانتماؤهم إلیه ظاهر.

ص:121


1- 2 . أنظر أمالی المرتضی 1/148 وما بعدها؛ فی کلام المؤلف عن سند المعتزلة إلی علیّ علیه السلام .
2- 3 . هو إمام الْکَیْسانِیَّةِ؛ وعنه انتقلت البیعة إلی بنی العباس. (تنقیح المقال 2/212 من الطبعة الحجریة).

ومن العلوم: علم الفقه؛ وهو علیه السلام أصله وأساسه، وکلّ فقیه فی الإسلام فهو عیال علیه، ومستفید من فقهه؛ أما أصحابُ أبیحنیفة کأبییوسف ومحمّد وغیرهما، فأخذوا عن أبیحنیفة، وأما الشافعیّ فقرأ علی محمّد بن الحسن، فیرجع فقهه أیضا إلی أبیحنیفة، وأما أحمد بن حنبل، فقرأ علی الشافعی فیرجع فقهه أیضا إلی أبیحنیفة؛ وأبوحنیفة قرأ علی جعفر بن محمّد علیه السلام ، وقرأ جعفر علی أبیه علیه السلام ، وینتهی الأمر إلی علیّ علیه السلام . وأما مالک بن أنس، فقرأ علی ربیعة الرأی، وقرأ ربیعة علی عِکْرمة، وقرأ عکرمة علی عبداللّه بن عباس، وقرأ عبداللّه بن عباس علی علیّ بن أبیطالب؛ وإن شئت رددتَ إلیه فقهَ الشافعیّ بقراءته علی مالک کان لک ذلک؛ فهؤلاء الفقهاء الأربعة.

وأما فقه الشیعة: فرجوعه إلیه ظاهر...

ومن العلوم: علم تفسیر القرآن، وعنه أُخِذَ، ومنه فُرّع. وإذا رجعتَ إلی کتب التفسیر علمتَ صحة ذلک؛ لأنّ أکثره عنه وعن عبداللّه بن عباس، وقد علم الناس حالَ ابن عباس فی ملازمته له، وانقطاعه إلیه، وأنّه تلمیذُه وخرّیجه. وقیل له: أین علمک من علم ابن عمک؟ فقال: کنِسْبة قطرة من المطر إلی البحر المحیط.

ومن العلوم: علمُ الطریقة والحقیقة، وأحوال التصوّف؛ وقد عرفتَ أن أربابَ هذا الفنّ فی جمیع بلاد الإسلام؛ إلیه ینتهون، وعنده یقفون؛ وقد صرّح بذلک الشِّبْلیّ، والْجُنید، وسَرِیّ(1)، وأبویزید البِسْطامیّ، وأبومحفوظ معروف الکرخیّ؛ وغیرهم. ویکفیک دَلالة علی ذلک الخِرْقة(2) التی هی شعارهم إلی الیوم، وکونهم یُسنِدونها بإسناد متصل إلیه علیه السلام .

ص:122


1- 1 . هو سری بن المُغَلِّس السَّقَطی؛ خال الجنید وأستاذه، وصاحب معروف الکرخی؛ وأوّل من تکلم ببغداد فی لسان التوحید وحقائق الأحوال. مات سنة 251 [وقبره قائمٌ إلی الیوم فی المقبرة الشُّونِیزیة المعروفةِ بمقبرة الجُنید فی الجانب الغربیّ من بغداد]. (طبقات الصوفیة للسلمی /48).
2- 2 . فصل السهروردی فی الباب الثانیعشر من کتابه عوارف المعارف (4/191 وما بعدها - علی هامش الإحیاء) الکلام فی شرح خرفة المشایخ الصوفیة ولبسها. [ومن مأثور قول العلاّمة المُفَسِّر الشهیر أبی الثناء السیّد محمود الآلوسیّ البغدادی الشافعیّ ثمّ الحنفیّ (ت 1270ه) قولُهُ فی «غرائب الاغتراب»: «فَلَبِسْتُ الْخِرْقَةَ وَإنْ کان فی سَنَدِها خُرُوْق»].

ومن العلوم: علم النحو والعربیة؛ وقد علم النّاس کافة أنّه هو الذی ابتدعه وأنشأه، وأمْلَی علی أبیالأسود الدؤلیّ جوامعَه وأصوله، من جملتها: الکلام کلّه ثلاثة أشیاء: اسم وفعل وحرف. ومن جملتها: تقسیم الکلمة إلی معرفة ونکرة، وتقسیم وجوه الإعراب إلی الرفع والنصب والجر والجزم(1)، وهذا یکاد یُلحق بالمعجزات؛ لأن القوة البشریة لا تفِی بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.

وإن رجعت إلی الخصائص الخُلقیة والفضائل النفسانیة والدینیة وجدتَه ابن جَلاها وطَلاّع ثنایاها(2).

وأما الشجاعة: فإنه أنسَی النّاسَ فیها ذکر مَنْ کان قبله، ومحا اسم من یأتی بعده، ومقاماتُه فی الحرب مشهورة یُضرب بها الأمثال إلی یوم القیامة؛ وهو الشجاع الذی ما فرّ قطّ، ولا ارتاع من کتَیبة، ولا بارز أحدا إلاّ قتله؛ ولا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الأولی إلی ثانیة؛ وفی الحدیث: «کَانَتْ ضَرَباته وترا»؛ ولما دعا معاویةَ إلی المبارزة لیستریح النّاس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفک، فقال معاویةُ: ما غششتنی منذ نصحتنی إلاّ الیوم! أتأمرنی بمبارزة أبیالحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرِق! أراک طمعت فی إمارة الشام بعدی! وکانت العرب تفتخر بوقوفها فی الحرب فی مقابلته، فأما قتلاه فافتخارُ رهطِهم بأنّه علیه السلام قتَلهم أظهر وأکثر، قالت أخت عمرو ابن عبدوَدّ ترثیه:

ص:123


1- 1 . معجم الأدباء 14/(42-50).
2- 2 . اقتباس من قول سحیم بن وثیل الریاحی: أنا ابُنُ جَلاَ وَطَلاَّعُ الثَّنَایا مَتَی أضَع الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِی وابن جلا، أی الواضح الأمر؛ وطلاع الثنایا: کنایة عن السمو إلی معالی الأمور، والثنایا فی الأصل: جمع ثنیة؛ وهی الطریق فی الجبل. وانظر اللسان 18/165.

لو کان قاتلُ عمرٍ وغیر قَاتِلِهِ بکیتُه أَبَدا ما دُمْتُ فی الأبدِ(1)

لکنَّ قاتِلَهُ مَنْ لا نظیر له وکان یُدْعَی أبوه بَیْضةَ الْبَلَدِ(2)

وانتبه یوما معاویة، فرأی عبداللّه بن الزبیر جالسا تحت رجلیه علی سریره، فقعد،

فقال له عبداللّه یداعبه: یا أمیرَالمؤمنین، لو شئت أن أفْتِکَ بک لفعلت، فقال: لقد شَجُعت بعدنا یا أبابکر، قال: وما الذی تنکره من شجاعتی وقد وقفتُ فی الصفّ إزاءَ علیّ بن أبیطالب! قال: لا جَرَم! إنه قتلک وأیاک بیسری یدیه، وبقیتِ الیمنی فارغةً، یطلب مَنْ یقتله بها.

وجملة الأمر أن کلَّ شجاع فی الدنیا إلیه ینتهی، وباسمه ینادی فی مشارق الأرض ومغاربها.

وأما القوّة والأیّد(3): فبه یُضرب المثل فیهما؛ قال ابن قتیبة فی «المعارف»(4): مَا صَارعَ أحدا قطّ إلاّ صرَعه. وهو الذی قلَع بابَ خَیْبَر، واجتمع علیه عُصبة من النّاس لیقلِبوه فلم یقلبوه؛ وهو الذی اقتلع هُبَلَ من أعلی الکعبة، وکان عظیما جدا، وألقاه(5) إلی الأرض. وهو الذی اقتلع الصخرة العظیمة فی أیام خلافته علیه السلام بیده بعد عَجْز الجیش کله عنها، وأنبط(6) الماء من تحتها.

وأمّا السخاء والجود: فحاله فیه ظاهرة؛ وکان یصوم ویَطْوِی ویؤثر بزاده؛ وفیه

ص:124


1- 3 . من أبیات ذکرها صاحب اللسان 8/395؛ وروایته: لَوْ کانَ قاتلَ عَمْرٍو غَیْر قاتله بکیتُه ما أقامَ الرّوحُ فی جَسَدِی لکِنّ قاتِلَهُ مَنْ لا یعابُ بِهِ وَکانَ یُدْعَی قدیما بیضة البلَدِ
2- 4 . بیضة البلد، یرید أبیطالب؛ أی أنه فرد لیس مثله فی الشرف کالبیضة التی هی تریکة وحدها، لیس معها غیرها؛ کذا فسر فی اللسان.
3- 1 . معناه: القُوّة أیضا.
4- 2 . المعارف /90.
5- 3 . فی نسخة: «فألقاه».
6- 4 . فی نسخة: «فأنبط».

أنزل: «وَیُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِینا وَیَتِیما وَأَسِیرا * إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَلا شُکُورا»(1). وروی المفسرون أنه لم یکن یملک إلاّ أربعة دراهم؛ فتصدّق بدرهم لیلاً، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرّا، وبدرهم علانیة؛ فأنزل فیه: «الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّیْلِ وَالنَّهارِ سِرّا وَعَلانِیَةً»(2)

وروی عنه أنّه کان یَسقِی بیده لنخْلِ قوم من یهود المدینة، حتّی مَجَلَت(3) یَده، ویتصدق بالأجْرة، ویشدُّ علی بطنه حجَرا.

وقال الشعبیّ وقد ذکره علیه السلام : کان أسخَی النّاس؛ کان علی الخُلُق الذی یحبّه اللّه: السخاء والجود، ما قال: «لا» لسائل قطّ.

وقال عدوّه ومُبْغضِه الذی یجتهد فی وَصْمِه معاویة بن أبیسفیان لِمَحْفَن(4) بن أبیمحْفَن الضبیّ لما قال له: جئتک مِنْ عند أبخل النّاس، فقال: ویحک! کیف تقول إنّه أبخل النّاس، لو مَلَک بیتا من تِبْر وبیتا من تِبْن، لأنفد تِبْره قبل تِبْنَه.

وهو الذی کان یکنُس بیوت الأموال ویصلّی فیها، وهو الذی قال: یا صفراء، ویا بیضاء، غرّی غیری. وهو الذی لم یخلِّفْ میراثا، وکانت الدنیا کلّها بیده إلاّ ما کان من الشام.

وأما الحلم والصفح: فکان أحلمَ النّاس عن ذَنْب، وأصفحَهم عن مسیء؛ وقد ظهر صحّة ما قلناه یومَ الجمل؛ حیث ظفِر بمرْوان بن الحکم - وکان أعدی النّاس له، وأشدهم بغضا - فصفح عنه.

وکان عبداللّه بن الزّبیر یشتِمه علی رؤس الأشهاد، وخطب یوم البصرة فقال: قد

ص:125


1- 5 . سورة الإنسان /9 و 10.
2- 6 . سورة البقرة /274.
3- 7 . مجلت یده، أی ثخن جلده وتعجر وظهر فیه ما یشبه البثر من العمل بالأشیاء الصلبة الخشنة؛ ومنه حدیث فاطمة، أنّها شکت إلی علیّ مجل یدیها من الطحن. النهایة لابن الأثیر 4/80.
4- 1 . کذا ضبطه الذهبی بالقلم فی المشتبه /464.

أتاکم الوَغَد(1) اللئیم علیّ بن أبیطالب - وکان علیّ علیه السلام یقول: ما زال الزبیر رجلاً مِنّا أهلَ البیت حتّی شبّ عبداللّه - فظفر به یوم الجمل، فأخذه أسیرا، فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرَینَّک؛ لم یزده علی ذلک.

وظفِر بسعید بن العاص بعد وقعة الجمل بمکّة، وکان له عدوّا، فأعرض عنه ولم یقلْ له شیئا.

وقد علمتم ما کان من عائشة فی أمره، فلما ظفِر بها أکرمها، وبعث معها إلی المدینة عشرین امرأة من نساء عبدالقیس عمّمهنّ بالعمائم، وقلّدهنّ بالسیوف، فلما کانت ببعض الطریق ذکرتْه بما لا یجوز أن یُذکر به، وتأفّفت وقالت: هَتَک ستری برجاله وجنده الذین وکَلَهم بی، فلما وصلت المدینة ألقی النساء عمائمهنّ، وقلن لها: إنّما نحن نسوة.

وحاربه أهل البصرة، وضربُوا وجهه ووجوه أولاده بالسیوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفِر بهم رفع السیف عنهم، ونادَی منادیه فی أقطار العسکر: ألاَ لایُتبَع(2) مُولٍّ، ولا یُجهَزُ علی جَرِیح، ولا یُقتل مستأسر، ومن ألقی سلاحه فهو آمن، ومن تحیّز إلی عسکر الإمام فهو آمن. ولم یأخذ أثقالَهم، ولا سبیَ ذراریَّهم، ولا غَنِم شیئا من أموالهم، ولو شاء أن یفعل کلّ ذلک لفعل، ولکنّه أبی إلاّ الصفح والعفو وتقیّل سنةَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یوم فتح

مکة، فإنّه عفا والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تُنْسَ.

ولما ملک عسکر معاویة علیه الماء، وأحاطوا بشریعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش کما قتلوا عثمان عطشا، سألهم علیّ علیه السلام وأصحابه أن یشرعوا(3) لهم شربَ الماء، فقالوا: لا واللّه، ولا قطرة حتّی تموت ظمأ کما مات ابن عفان؛ فلما رأی علیه السلام أنه الموتُ لامحالَة تقدم بأصحابه، وحمل علی عساکر معاویة حَمَلاَتٍ کثیفة، حتّی أزالهم عن مراکزهم بعد قتل ذَریع، سقطت منه الرؤس والأیدی، وملکوا علیهم الماء، وصار أصحاب معاویة فی الفلاة، ولا ماء لهم، فقال له أصحابه وشیعته: امنعهم الماء

ص:126


1- 2 . فی نسخة: «الوغب»؛ وهما بمعنی.
2- 3 . فی نسخة: «ألا یتبع مول».
3- 1 . کذا فی نسخة، وفی نسخة: «یسوغوا».

یا أمیرالمؤمنین، کما منعوک، ولا تَسقِهم منه قطرة، واقتلهم بسیوف العطش، وخذهم قبضا بالأیدی فلا حاجة لک إلی الحرب، فقال: لا واللّه لا أکافئهم بمثل فعلهم، أَفْسِحوا لهم عن بعض الشریعة، ففی حدّ السیف ما یغنی عن ذلک. فهذه إن نَسَبْتَها إلی الحلم والصفح فناهیک بها جمالاً وحسنا، وإن نسبتَها إلی الدّین والورع فأخلِقْ بمثلها أن تصدر عن مثله علیه السلام !

وأمّا الجهاد فی سبیل اللّه: فمعلوم عند صدیقه وعدوّه أنّه سیّد المجاهدین، وهل الجهاد لأحد من النّاس إلاّ له! وقد عرفتَ أنّ أعظمَ غزاة غزاها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأشدّها نکایة فی المشرکین بدر الکبری؛ قتل فیها سبعون من المشرکین، قتل علیٌّ نصفَهم، وقتل المسلمون والملائکة النصف الآخر. وإذا رجعتَ إلی مغازی محمّد بن عمر الواقدی وتاریخ الأشراف لیحیی بن جابر البلاذُری وغیرها علمتَ صحة ذلک، دعْ مَنْ قتله فی غیرها کأحُد والخندق وغیرهما؛ وهذا الفصل لا معنی للإطناب فیه؛ لأنّه من المعلومات الضروریة، کالعِلْم بوجود مکّة ومصر ونحوهما.

وأمّا الفصاحةُ: فهو علیه السلام إمام الفصحاء، وسیّد البلغاء؛ وفی(1) کلامه قیل: دون کلام الخالق، وفوق کلام المخلوقین. ومنه تعلّم النّاس الخطابة والکِتابة، قال عبدالحمید بن یحیی: حفظتُ سبعین خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثمّ فاضت. وقال ابن نُباتة(2): حفظت من الخطابة کنزا لا یزیده الإنفاق إلاّ سعة وکثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علیّ بن أبیطالب.

ولما قال مِحْفَن بن أبیمِحْفَن لمعاویة: جئتُک من عند أعْیَا النّاس، قال له: ویحک! کیف یکون أعیا النّاس! فو اللّه ما سنّ الفصاحة لقریش غیره... .

وأمّا سجاحة الأخلاق، وبِشْر الوجه، وطلاقة المحیَّا، والتبسّم: فهو المضروبُ به المثل فیه حتّی عابه بذلک أعداؤه؛ قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دُعابة شدیدة. وقال

ص:127


1- 2 . فی نسخة: «وعن کلامه».
2- 3 . هو عبدالرحیم بن محمّد بن محمّد بن إسماعیل الفارقی الجذامی.

علیّ علیه السلام فی ذاک: عجبا لابن النابغة! یزعم لأهل الشام أن فیّ دعابة، وأنّی امرؤ تِلْعابة، وأعافِس وأمارس(1)! وعمرو بن العاص إنّما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم علی استخلافه: للّه أبوک لو لا دُعابة فیک! إلاّ أنّ عمر اقتصر علیها، وعمرو زاد فیها وسمّجها.

قال صعصعة بن صوحان وغیره من شیعته وأصحابه: کان فینا کأحدنا، لِینَ جانب، وشدة تواضع، وسهولة قیاد، وکنّا نهابه مهابة الأسیر المربوط للسیّاف الواقف علی رأسه.

وقال معاویة لقیس بن سعد: رحِم اللّه أباحسن؛ فلقد کان هشّا بشّا، ذا فُکاهة، قال قیس: نعم، کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یمزَحُ ویبتسم إلی أصحابه، وأراک تُسرّ حَسْوا فی ارتِغاء(2)، وتعیبه بذلک! أما واللّه لقد کان مع تلک الفکاهة والطلاقة أهیَبَ من ذی لِبدَتَیْن قد مسّه الطَّوی، تلک هیبة التّقوی، ولیس کما یهابک طَغامُ أهل الشام!

وقد بقیَ هذا الخُلُق متوارَثا متناقَلاً فی محبِّیه وأولیائه إلی الآن، کما بقیَ الجفاء والخشونة والوعورة فی الجانب الآخر، ومَنْ له أدنی معرفة بأخلاق النّاس وعوائدهم یعرف ذلک.

وأمّا الزهد فی الدنیا: فهو سیّد الزهاد، وبدَل الأبدال، والیه تشدُّ الرحال، وعنده تنُفْفَضُ الأحلاس؛ ما شِبعَ من طعام قطّ. وکان أخشنَ النّاس مأکلاً وملبسا؛ قال عبداللّه ابن أبیرافع: دخلت إلیه یوم عید، فقدّم جِرابا مختوما، فوجدنا فیه خبزَ شعیر یابسا مرضوضا، فقُدّم فأکل، فقلت: یا أمیرالمؤمنین، فکیف تختِمه؟ قال: خفت هذین الولدین أن یلُتّاه بسمن أوزیت.

وکان ثوبه مرقوعا بجلد تارة، ولیف أخری، ونعلاه من لیف. وکان یلبَس

ص: 128


1- 1 . التلعابة؛ بفتح التاء وکسرها: الکثیر اللعب والمرح. والمعافسة: الملاعبة أیضا. والممارسة: ملاعبة النساء. والخبر أورده ابن الأثیر فی النهایة 1/117 و 3/59 و 110، و 4/59 و 89.
2- 2 . فی المثل: «هو یسر حسوا فی ارتغاء»؛ یضرب لمن یظهر أمرا وهو یرید غیره. (السان العرب 19/46).

الکِرباسَ(1) الغلیظ، فإذا وجود کمه طویلاً بشَفرة؛ ولم یخِطْه، فکان لا یزال متساقطا علی ذراعیه حتّی یبقی سدیً لا لحمة له. وکان یأتدم إذا ائتدم بخلّ أو بملح؛ فإن ترقّی عن ذلک فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلک فبقلیل من ألبان الإبل؛ ولا یأکل اللحم إلاّ قلیلاً، ویقول: لا تجعلوا بطونَکم مقابر الحیوان. وکان مع ذلک أشدّ النّاس قوةً وأعظمهم أیْدا، لا یُنقِض(2) الجوع قُوّته، ولا یُخَوِّن(3) الإقلالُ مُنّته. وهو الذی طلّق الدنیا وکانت الأموال تُجبی إلیه من جمیع بلاد الإسلام إلاّ من الشام، فکان یفرّقها ویمزّقها، ثمّ یقول:

هذا جنایَ وخیاره فیهْ إذْ کلّ جانٍ یدُه إلی فیهْ(4)

وأمّا العبادة: فکان أعبدَ النّاس وأکثرَهم صلاة وصوما؛ ومنه تعلّم النّاس صلاة اللیل، وملازمة الأوراد وقیام النافلة؛ وما ظنّک برجل یبلغ من محافظته علی وِرده أن یُبْسَطُ له نِطَعٌ بین الصفّین لیلة الهرِیر، فیصلّی علیه وِرْدَه، والسهام تقع بین یدیه وتمرّ علی صماخیهِ یمینا وشمالاً، فلا یرتاع لذلک، ولا یقوم حتّی یفرُغ من وظیفته! وما ظنّک برجل کانت جبهته کثَفِنَة البعیر لطول سجوده.

وأنت إذا تأمّلت دعواتِه ومناجاتِه، ووقفتَ علی ما فیها من تعظیم اللّه سبحانه وإجلاله، وما یتضمّنه من الخضوع لهیبته، والخشوع لعزّته والاستخذاء له، عرفتَ ما ینطوِی علیه من الإخلاص، وفهمت من أیّ قلبٍ خرجتْ، وعلی أیّْ لسان جرت!

وقیل لعلی بن الحسین علیه السلام - وکان الغایةَ فی العبادة: أین عبادتک من عبادة جَدّک؟ قال: عبادتی عند عبادة جدّی کعبادة جدّی عند عبادة رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

ص:129


1- 1 . الکرباس بالکسر: ثوب من القطن الأبیض، معرب.
2- 2 . فی نسخة: «ینقص».
3- 3 . یخون: ینقص؛ وفی نسخة: «یخور».
4- 4 . البیت أنشده عمرو بن عَدِیٍّ حینما کان غلاما، وکان یخرج مع الخدم یجتنون الملک (جذیمة الأبرش) الکمأة؛ فکانوا إذا وجدوا کمأة خیارا أکلوها وأتوا بالباقی إلی الملک؛ وکان عمرو لا یأکل منه، ویأتی به کما هو، وینشد البیت. وانظر: القاموس 3/(259-260)؛ وحدیث علی ورد مفصلاً فی حلیة الأولیاء 1/81.

وأمّا قراءته القرآن واشتغاله به: فهو المنظور إلیه فی هذا الباب؛ اتفق الکلّ علی أنّه کان یحفظ القرآن علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ولم یکن غیره یحفظه، ثمّ هو أوّلُ مَنْ جَمَعه؛ نقلوا کلّهم أنّه تأخّر عن بیعة أبیبکر؛ فأهل الحدِیث لا یقولون ما تقوله الشیعة من أنه تأخّر مخالفة للبیعة؛ بل یقولون: تشاغل بجمع القرآن؛ فهذا یدلّ علی أنّه أوّلُ مَنْ جمع

القرآن؛ لأنّه لو کان مجموعا فی حیاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لما احتاجَ إلی أن یتشاغل(1) بجمعه بعد وفاته صلی الله علیه و آله . وإذا رجعتَ إلی کتب القراءات وجدت أئمة القراء کلهم یرجعون إلیه؛ کأبیعمرو بن العلاء وعاصم بن أبیالنَّجود وغیرهما؛ لأنّهم یرجعون إلی أبیعبدالرحمن السُّلَمِیِّ القارئ، وأبوعبدالرحمن کان تلمیذه، وعنه أخذ القرآن؛ فقد صار هذا الفن من الفنون التی تنتهی إلیه أیضا، مثل کثیر مما سبق.

وأمّا الرأیُ والتدبیر: فکان من أسَدِّ النّاس رأیا، وأصحِّهم تدبیرا؛ وهو الذی أشار علی عمر بن الخطاب لما عزم علی أنْ یتوجّه بنفسه إلی حرب الروم والفرْس بما أشار. وهو الذی أشار علی عثمان بأمور کان صلاحه فیها، ولو قبلها لم یحدُث علیه ما حدث. وإنّما قال أعداؤه: لا رأیَ له؛ لأنّه کان متقیِّدا بالشریعة لا یری خلافَها، ولا یعمل بما یقتضی الدِّینُ تحریمه. وقد قال علیه السلام : لو لا الدین والتّقی لکنتُ أدهی العرب. وغیره من الخلفاء کان یعمل بمقتضی ما یستصلِحُه ویستوقفه؛ سواء أ کان مطابقا للشرع أم لم یکن. ولا ریب أنّ مَنْ یعمل بما یؤدی إلیه اجتهاده، ولا یقف مع ضوابط وقیود یمتنع لأجلها ممّا یری الصلاح فیه، تکون أحواله الدنیویة إلی الانتظام أقرب، ومَنْ کان بخلاف ذلک تکون أحواله الدنیویة إلی الانتثار أقرب.

وأما السیاسةُ: فإنه کان شدیدَ السیاسة، خشِنا فی ذات اللّه، لم یراقب ابنَ عمّه فی عمل کان ولاّه إیاه، ولا راقب أخاه عَقِیلاً فی کلام جَبَهه به. وأحرق قوما بالنار، ونقض دار مَصْقَلة بن هُبَیرة ودار جریر بن عبداللّه البَجَلِیّ، وقطع جماعةً وصلب آخرین.

ومن جملة سیاسته فی حروبه أیامُ خلافته بالجمل وصِفّین والنهروان، وفی أقلّ

ص:130


1- 1 . نسخة: «تشاغل».

القلیل منها مقْنَع، فإنّ کلَّ سائس فی الدنیا لم یبلغ وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مِمّا فعل علیه السلام فی هذه الحروب بیدِه وأعوانه.

فهذه هی خصائص البَشَر ومزایاهم قد أوضحنا أنّه فیها الإمام المتّبع فعلُه، والرئیس المقتفَی أثره.

وما أقول فی رجلٍ تحبّه أهلُ الذّمة علی تکذیبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة علی معاندتهم لأهل الملّة، وتصوِّرُ ملوک الفرنج والروم صورتَه فی بِیَعها وبیوت عباداتها، حاملاً سیفَه، مشمرا لحربه، وتصوِّر ملوکُ الترک والدّیْلم صورته علی أسیافها! کان علی

سیفِ عَضُد الدولة بن بُوَیْه وسیف أبیه رکن الدولة صورتُه، وکان علی سیف إلب أرسلان وابنه مَلکشاه صورته؛ کأنهم یتفاءلون به النصر والظفر.

وما أقولُ فی رجل أحبّ کلُّ واحدٍ أن یتکثّر به، وودّ کلُّ أحدٍ أن یتجمّل ویتحسّن بالانتساب إلیه؛ حتّی الفتوّة التی أحسن ما قیل فی حدّها: ألاّ تستحسنَ من نفسک ما تستقبحه من غیرک، فإنّ أربابها نسبوا أنفسهم إلیه، وصنّفوا فی ذلک کتبا، وجعلوا لذلک إسنادا أنهوْه إلیه، وقصروه علیه، وسَمَّوْه سیّدَ الفتیان، وعضّدوا مذهبهم إلیه بالبیت المشهور المرویّ، أنه سُمِع من السماء یوم أحُد:

لا سیفَ إلاّ ذوالفَقَا ر ولا فَتیً إلاّ علیّ

وما أقول فی رجل أبوه أبوطالب سیّد البطْحاء، وشیخ قریش، ورئیس مکة، قالوا: قلّ أنْ یسوَّد فقیر، وساد أبوطالب وهو فقیر لاَ مال له، وَکانت قریش تسمیّه الشیخ.

وفی حدیث عفیف الکندیّ، لما رأی(1) النبیّ صلی الله علیه و آله یصلِّی فی مبدأ الدعوة، ومعه غلام وامرأة، قال: فقلت للعباس: أیّ شیء هذا؟ قال: هذا ابن أخی، یزعم أنّه رسولٌ من اللّه إلی النّاس، ولم یتّبعه علی قوله إلاّ هذا الغلام - وهو ابن أخی أیضا - وهذه الامرأة، وهی زوجته. قال: فقلتُ: ما الذی تقولونه أنتم؟ قال: ننتظر ما یفعل الشیخ - یعنی أباطالب. وأبوطالب هو الذی کَفَل رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله صغیرا، وحماه وحاطه کبیرا، ومنعه من مشرکی

ص:131


1- 1 . الخبر فی أسد الغابة 3/414 مع اختلاف فی الروایة.

قریش، ولقِیَ لأجله عنتا عظیما، وقاسی بلاء شدیدا، وصبرَ علی نصره والقیام بأمره. وجاء فی الخبر أنّه لما توفی أبوطالب أوحِی إلیه علیه السلام وقیل له: اخرج منها، فقد مات ناصرک.

وله مع شرف هذه الأبوّة أنّ ابن عمه محمّد سیدُ الأولین والآخرین، وأخاه جعفر ذوالجناحین، الذی قال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أشبَهْتَ خَلْقی وخُلقی» فمر یحجل فرحا. وزوجته سیّدة نساء العالمین، وابنیه سیّدا شباب أهل الجنة؛ فآباؤه آباء رسول اللّه، وأمهاته أمهات رسول اللّه، وهو مسوط بلحمه ودمه، لم یفارقه منذ خلق اللّه آدم، إلی أن مات عبدالمطلب بین الأخوین عبداللّه وأبیطالب، وأمّهما واحدة، فکان منهما سیّدَا النّاس؛ هذا الأوّل وهذا التالی، وهذا المنذر وهذا الهادی!.

وما أقول فی رجل سَبَق النّاس إلی الهدی، وآمن باللّه وعبدَه، وکلّ من فی الأرض

یعبد الحجر، ویجحد الخالق؛ لم یسِقْه أحد إلی التوحید إلاّ السابق إلی کلِّ خیر، محمّد صلی الله علیه و آله .

ذهب أکثر أهلِ الحدیث إلی أنّه علیه السلام أوّل النّاس اتباعا لرسول اللّه صلی الله علیه و آله إیمانا به، ولم یخالف فی ذلک إلاّ الأقلّون. وقد قال هو علیه السلام : أنا الصدّیق الأکبر، وأنا الفاروق الأوّل، أسلمت قبل إسلام النّاس، وصلّیت قبل صلاتهم. ومن وقف علی کتب أصحاب الحدیث تحقّق ذلک وعلمه واضحا. والیه ذهب الواقدی، وابن جریر الطبری، وهو القول الذی رجّحه ونصره صاحب کتاب «الاستیعاب»(1).

ولأنّا إنما نذکر فی مقدمة هذا الکتاب جملةً من فضائله عَنّت بالعَرض لا بالقصد؛ وجب أن نختصر ونقتصر، فلو أردنا شرحَ مناقبه وخصائصه لاحتجْنا إلی کتاب مفرد

ص:132


1- 1 . الاستیعاب لابن عبدالبر النمری القرطبی 2/457.

یماثل حَجْم هذا بل یزید علیه، وباللّه التوفیق(1)»(2).

أقول: وهذا غیض من فیض واعتراف من عالمٍ سنیٍ معتزلیٍ مُنْصِفٍ بالنسبة إلی أمیرالمؤمنین علیه السلام ، فیه کفایة «إِنَّ فِی ذلِکَ لَذِکْری لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَی السَّمْعَ وَهُوَ شَهِیدٌ»(3).

وأختم هذا المقال بما رواه أبوالقاسم علی بن محمّد بن علی الخزّاز القمی الرازی من أعلام القرن الرابع قال: «أخبرنا القاضی أبو الفرج المعافا بن زکریّا البغدادی(4)، قال:

حدَّثنا أبو سلمان أحمد بن أبی هراسة، قال: حدَّثنا إبراهیم بن إسحاق النهاوندی، عن عبداللّه بن حمّاد الأنصاری، قال: حدَّثنا إسماعیل بن أبی اُویس، عن أبیه، عن عبدالحمید الأعرج، عن عطاء، قال: دخلنا علی عبداللّه بن عبّاس وهو علیل بالطائف، فی العلّة الّتی

ص:133


1- 2 . وانظر ترجمته وأخباره أیضا فی: أسد الغابة 4/(16-40)؛ والاستیعاب 2/(256-274)؛ والإصابة 4/(269-271)؛ وإنباه الرواة 1/(10-12)؛ وتاریخ الإسلام للذهبی 2/(191-207)؛ وتاریخ بغداد 1/(133-138)؛ وتاریخ أبیالفدا 1/(181-182)؛ وتاریخ الطبری 6/(88-91)؛ وتاریخ ابن کثیر 7/(332-361) و 8/(1-13)؛ وتذکرة الحفاظ 1/(10-13)؛ وتهذیب الأسماء واللغات 1/(344-349)؛ وتهذیب التهذیب 7/(334-339)؛ وحلیة الأولیاء 1/(61-87)؛ والریاض النضرة 2/(153-249)؛ وشذرات الذهب 1/(49-51)؛ وصفة الصفوة 1/(119-144)؛ وطبقات ابن سعد 6/6؛ وطبقات القراء لابن الجزری 1/(546-547)؛ ومروج الذهب 2/(45-50)؛ والمعارف /(88-92)؛ ومعجم الأدباء 14/(41-50)؛ ومعجم الشعراء /(279-280)؛ ومقاتل الطالبین /(24-45)؛والنجوم الزهرة 1/(119-120).
2- 3 . شرح نهج البلاغة 1/(30-16).
3- 4 . سورة ق /37.
4- 5 . المعافی بن زکریّا المعروف بابن طراز، عامی المذهب ترجم له الخطیب وابن خلکان والذهبی، وذکروا أنه کان فقیها مأمونا فی روایته. وقال الخطیب: أعلم النّاس فی وقته بالفقه. یروی عن البغوی والمحاملی. أنظر: تاریخ بغداد 13/230؛ وفیات الأعیان 5/221؛ سیر أعلام النبلاء 16/544.

توفّی فیها، ونحن زهاء ثلاثین رجلاً من شیوخ الطائف وقد ضعف، فسلَّمنا علیه وجلسنا.

فقال لی: یا عطاء، مَنْ القوم؟ قلت: یا سیّدی هم شیوخ هذا البلد، منهم: عبداللّه بن سلمة بن حضرمی الطائفی وعمارة بن أبی الأجلح، وثابت بن مالک، فمازلت أعدّ له واحدا بعد واحد، ثمّ تقدَّموا إلیه فقالوا: یابن عمّ رسول اللّه، إنّک رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وسمعت منه ما سمعت، فأخبرنا عن اختلاف هذه الأمّة، فقوم قد قدَّموا علیا علی غیره، وقوم جعلوه بعد ثلاثة.

قال: فتنفَّس ابن عباس وقال: سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: علی مع الحقّ، والحقّ مع علی، وهو الإمام والخلیفة من بعدی، فمن تمسّک به فاز ونجی، ومن تخلّف عنه ضلَّ وغوی، یلی تکفینی وغسلی ویقضی دینی، وأبو سبطیّ الحسن والحسین، ومن صلب الحسین تخرج الأئمّة التسعة، ومنّا مهدیّ هذه الاُمّة.

فقال له عبداللّه بن سلمة الحضرمی: یابن عمّ رسول اللّه فهلاّ کنت تعرّفنا قبل هذا؟ فقال: قد واللّه أدّیت ما سمعت، ونصحت لکم، ولکن لا تحبّون الناصحین.

ثمّ قال: اتّقوا اللّه عباد اللّه، تقیّة من اعتبر تمهیدا، واتقی فی وجل، وکمش(1) فی مهل، ورغب فی طلب، ورهب فی هرب، واعملوا لآخرتکم قبل حلول آجالکم، وتمسّکوا بالعروة الوثقی من عترة نبیّکم، فإنّی سمعته صلی الله علیه و آله یقول: من تمسّک بعترتی من بعدی کان من الفائزین.

ثمّ بکی بکاءا شدیدا، فقال له القوم: أتبکی ومکانک من رسول اللّه صلی الله علیه و آله مکانک؟ فقال لی: یا عطاء، إنّما أبکی لخصلتین: هول المطلع، وفراق الأحبّة.

ثمّ تفرَّق القوم عنه، فقال لی: یا عطاء، خذبیدی واحملنی إلی صحن الدار،

(فأخذناه بیده أنا وسعید، وحملناه إلی صحن الدار)، ثمّ رفع یدیه إلی السماء وقال: اللهمّ إنّی أتقرّب إلیک بمحمّد وآل محمّد، اللهمّ إنّی اتقرّب إلیک بولایة الشیخ علی بن أبی

ص:134


1- 1 . وکمش: شمَّر وجدَّ، ویقال: رجل کمش، أی عزوم ماض سریع فی أموره. انظر: النهایة فی غریب الحدیث 4/200؛ لسان العرب 6/343.

طالب. فما زال یکرّرها حتّی وقع إلی الأرض، فصبرنا علیه ساعة، ثمّ أقمناه فإذا هو میّت رحمه الله »(1).

وإذا ثبتت الولایة فی حقّ أمیرالمؤمنین علیه السلام فهی ثابتة فی شأن رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالطریق الاُولویة وفی شأن أولاده المعصومین علیهم السلام بالقیاس المساواة فی الإمامیة، والحمدللّه ربّ العالمین.

وبما ذکرنا ظهر ثبوت الولایة لهم علیهم السلام بالدلیل العقلی القطعی فلا یتم ما ذکره السیّد الخوئی قدس سره من: «أنّ الولایة بهذا المعنی إنّما ثبتت بالآیات والأخبار لا بالوجهین العقلیین أبدا»(2).

اللهم إلاّ أن یکون مراده قدس سره عدم تمامیة دلیلی الشیخ الأعظم کما مرّ منّا أیضا. والحمد للّه علی الولایة.

ص: 135


1- 1 . کفایة الأثر فی النصوص علی الأئمّة الاثنی عشر /75، ح5.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/160.
السادس: أقسام ولایة النبی صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین علیهم السلام
اشارة

تنقسم ولایتهم علیهم السلام علی أقسام متعددة منها:

1- الولایة التکوینیة

وهی الولایة علی عالَم الکون والتکوین والوجود والموجودات بحیث إرادتهم وأوامرهم تنفذ فی عالَم الوجود، وعالَم الکون مسخرٌّ لهم ومشیتهم تجری فی عالَم الوجود وطاعتهم واجبة علی الموجودات فی عالم التکوین ولکن کلّ ذلک بحول من اللّه وقوته وبإذنه وإرادته ومشیته تبارک و تعالی. لا علی نحو الاستقلال بحیث انّهم بأنفسهم وبالاستقلال من اللّه تعالی یفعلون هذه الاُمور، بل یفعلون بترخیص وإذن وإرادة وحول وقوة من اللّه تبارک وتعالی ویستمدّون فی جمیع آناتهم من الربّ الجلیل.

فهم علیهم السلام أُمراء الوجود والکون، جعلهم اللّه تعالی وأعطاهم هذه الإمارة، ولکن لیس لهم بالاستقلال شییء.

ومن هذا التعریف یظهر ضعف مقالات بعض ممّن عاصرناه من تعریفها ب- «السلطة علی عالم الوجود»(1)، لأنّ هذه السلطة نتیجة الولایة التکوینیة لا تعریفها.

ومن إثبات هذه الولایة «لبعض الاُولیاء الکرام أیضا مرتبة من الولایة التکوینیة»(2) «إذ... وکرامات الاُولیاء نحو تصرف منهم فی عالم التکوین»(3).

الولایة التکوینیة وإن کانت مقولة بالتشکیک، لکنّها لا تثبت لغیر المعصومین علیهم السلام وما صدر من بعض علی نحو: السحر والشعوذة وتسخیر الْقُوی المرئیة أو غیر المرئیة مثل الجن والشیاطین أو تأثیر بعض الأذکار والأدعیة أو النوم المغناطیسی أو الهیبنوتیزم أو التلِ باتی أو الحس السادس وأمثال ذلک فلیست من الولایة التکوینیة بشیءٍ.

ص:136


1- 1 . کما فی کتاب: الحاکمیة فی الإسلام /162 لشیخنا آیة اللّه السیّد محمّدمهدی الموسوی الخلخالی - مدظله - .
2- 2 . دراساتٌ فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الاسلامیة 1/74.
3- 3 . دراساتٌ فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الاسلامیة 1/75.

وعلی أیّ حالٍ فکلُّ تصرف فی عالم التکوین لیس من الولایة التکوینیة بحیث تطلق علی آخذ الکتاب من الرَّف وکاتب القرطاس بالقلم(1) وأنّها لیست ب- «ثابتةٍ(2) لکلِّ

أحد من النّاس بل لکلِّ موجود من الموجودات... وما یُحکی عن بعض العارفین... من الکرامات والاُمور الغریبة یشیر إلی مرتبتهم الخاصة فی هذا القسم من الولایة»(3)، فلا تتم هذه المقالة عندنا، لأنّها ثابتة للمعصومین علیهم السلام فقط.

ووافقنا علی أنّها مختصة بهم علیهم السلام لکونهم مظاهر أسمائه تعالی، بعض مشایخنا - مدظله - حیث یقول: «وهذه المرتبة من الولایة مختصة بهم وکانت من مقتضیات ذواتهم النوریة ونفوسهم القدسیة التی لا یبلغ إلی دون مرتبتها مبلغ ولذلک لیست قابلة للإعطاء إلی غیرهم...»(4).

تنبیهٌ

الولایة التکوینیة فی حقّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین علیهم السلام ثابتة بالإجماع والبتّ والقطع ولکن لن ینسب إلیهم خلق العالَم وربوبیّته وتقسیم الأرزاق بین الخلائق والإحیاء والإماتة، لأنّ الخالق والربّ والرازق والمحیی والممیت هو اللّه تعالی وإنّهم علیهم السلام قد نفوا هذه الاُمور عن ساحتهم فقال الرضا علیه السلام فی دعائه: «اللّهمّ إنّی أبرأ إلیک من الحول والقوّة، فلا حول ولا قوّة إلاّ بک.

اللّهمّ إنّی أبرأ إلیک من الّذین ادّعوا لنا ما لیس لنا بحقّ.

اللّهمّ إنّی أبرأ إلیک من الّذین قالوا فینا ما لم نقله فی أنفسنا.

اللّهمّ لک الخلق ومنک الرزق، و «إِیّاکَ نَعْبُدُ وَإِیّاکَ نَسْتَعِینُ»(5).

ص:137


1- 4 . فقه الولایة والحکومة الاسلامیة 1/25.
2- 5 . وفی المصدر: ثابت.
3- 1 . فقه الولایة والحکومة الاسلامیة 1/39 و 40.
4- 2 . ولایة الاُولیاء /65 و 66، تألیف شیخنا آیة اللّه الشیخ المیرزا محمّدتقی المجلسی الإصفهانی - مدظله - .
5- 3 . سورة الفاتحة /5.

اللّهمّ أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلین وآبائنا الآخرین.

اللّهمّ لا تلیق الربوبیّة إلاّ بک، ولا تصلح الإلهیّة إلاّ لک، فالعن النصاری الّذین صغّروا عظمتک، والعن المضاهئین لقولهم من بریّتک.

اللّهمّ إنّا عبیدک وأبناء عبیدک، لا نملک لأنفسنا نفعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حیاة ولا نشورا.

اللّهمّ من زعم أنّنا أرباب فنحن إلیک منه براء، ومن زعم أنّ إلینا الخلق وعلینا

الرزق فنحن منه براء کبراءة عیسی علیه السلام من النصاری.

اللّهمّ إنّا لم ندعهم إلی ما یزعمون، فلا تؤاخذنا بما یقولون واغفر لنا ما یدّعون.

ولا تذر علی الأرض منهم دیّارا «إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ وَلا یَلِدُوا إِلاّ فاجِراً کَفّارا»(1).

ورُوی عن زُرارة أنّه قال: قلت للصادق علیه السلام : إنَّ رجلاً من ولد عبداللّه بن سبأ یقول بالتفویض.

قال علیه السلام : «وما التفویض؟».

قلت: یقول: إنّ - عزّوجلّ - خلق محمّدا وعلیّا - صلوات اللّه علیهما - ثمّ فوّض إلیهما، فخلقا ورزقا، وأحییا وأماتا.

فقال علیه السلام : «کذب عدوّ اللّه، إذا انصرفت، إلیه فاقرأ علیه الآیة التی فی سورة الرعد «أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَکاءَ خَلَقُوا کَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَیْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ»(2). فانصرفت إلی الرجل فأخبرته فکأنّما ألقمته حجرا، أو قال: فکأنّما خرس»(3).

وعن الرضا علیه السلام أنّه قال فی حدیث: ومن قال إنّ اللّه فوّض أمر الخلق والرزق إلی

ص:138


1- 1 . سورة نوح /27.
2- 2 . سورة الرعد /16.
3- 3 . الاعتقادات/(323-320) للشیخ الصدوق رحمه الله .

حججه فقد قال بالتفویض... والقائل بالتفویض مشرک، الحدیث.(1)

وروی الراوندی بإسناده عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لا ترفعونی فوق حقّی فإنّ اللّه تعالی إتخذی عبدا قبل أن یَتَّخِذَنی نبیّا.(2)

وفی صحیحة أبی الصَّلْتِ عبدالسلام بن صالحٍ الْهَرَوِیّ قال: جئتُ إلی باب الدار التی حبس فیها الرضا علیه السلام بسرخس وقد قید علیه السلام ، فاستاذنت علیه السجان، فقال: لا سبیل لک إلیه علیه السلام ؛ قلت: ولم؟ قال: لأنّه ربّما صلّی فی یومه ولیلته ألف رکعة وإنّما ینفتل من صلوته ساعة فی صدر النهار وقبل الزوال وعند اصفرار الشمس فهو فی هذه الاوقات قاعد فی مصلاه ویناجی ربّه، قال: فقلت له: فاطلب لی منه فی هذه الاوقات إذنا علیه،

فاستاذن لی، فدخلت علیه وهو قاعد فی مصلاه متفکرا؛ قال أبوالصلت: فقلت له: یابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما شیء یحکیه عنکم النّاس؟ قال: وما هو؟ قلت: یقولون إنّکم تدّعون إنّ النّاس لکم عبید، فقال: اللّهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغیب والشهادة أنت شاهد بأنّی لم أقل ذلک قطّ ولا سمعت أحدا من آبائی علیهم السلام قاله قطّ وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأُمّة وأنّ هذه منها، ثمّ أقبل علیَّ، فقال لی: یا عبدالسلام إذا کان النّاس کلّهم عبیدنا علی ما حکوه عنّا فممّن نبیعهم؟ قلت: یابن رسول اللّه صدقت، ثمّ قال: یا عبدالسلام أمنکر أنت لما أوجب اللّه تعالی لنا من الولایة کما ینکره غیرک؟ قلت: معاذ اللّه، بل أنا مقرٌّ بولایتکم»(3).

وفی خبر الحسن بن الجهم عن الرضا علیه السلام فی حدیث:... فمن ادعی للأنبیاء ربوبیة وادعی للأئمة ربوبیة أو نبوة أو لغیر الأئمة إمامة فنحن منه براء فی الدنیا والآخرة، الحدیث.(4)

وفی صحیحة محمّد بن أبیحمزة عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: جاء رجل إلی

ص:139


1- 4 . عیون أخبار الرضا علیه السلام 1/124، ح17.
2- 5 . نوادر الراوندی /125، ح143 ونقل عنه فی بحارالأنوار 25/265، ح5.
3- 1 . عیون الأخبار الرضا علیه السلام 2/183، ح6.
4- 2 . عیون الأخبار الرضا علیه السلام 2/201، ح1.

رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال: السلام علیک یا ربّی، فقال: مالک لعنک اللّه! ربی وربّک اللّه، أما واللّه لکنت ما علمت لجبانا فی الحرب لئیما فی السلم.(1)

وفی حسنة سَدِیر قال: قلت لأبیعبداللّه علیه السلام : إنَّ قوما یزعمون أنَّکم آلهة یتلون علینا بذلک قرآنا: «یا أَیُّهَا الرُّسُلُ کُلُوا مِنَ الطَّیِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّی بِما تَعْمَلُونَ عَلِیمٌ»(2)، قال: یا سدیر سمعی وبصری وشعری وبشری ولحمی ودمی من هؤلاء براء، برء اللّه منهم ورسوله، ما هؤلاء علی دینی ودین آبائی، واللّه لا یجمعنی وإیّاهم یوم القیمة إلاّ وهو علیهم ساخط، قال: قلت: فما أنتم جعلت فداک؟ قال: خّزان علم اللّه وتراجمة وحی اللّه ونحن قوم معصومون أمر اللّه بطاعتنا ونهی عن معصیتنا نحن الحجَّة البالغة علی من دون السماء وفوق الأرض.

قال الحسین بن اشکیب: وسمعت من أبیطالب عن سدیر إن شاء اللّه.(3)

وفی خبر خالد الجّوان قال: کنت أنا والمفضَّل بن عمرو ناس من أصحابنا بالمدینة، وقد تکلّمنا فی الربوبیَّة، قال، فقلنا: مرّوا إلی باب أبیعبداللّه علیه السلام حتّی نسأله، قال، فقمنا بالباب، قال، فخرج إلینا وهو یقول: «بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ»(4).

قال الکشّی: إسحق وعبداللّه و خالد من أهل الارتفاع(5).(6)

وفی خبر صالح بن سهل قال: کنت أقول فی أبیعبداللّه علیه السلام بالربوبیَّة، فدخلت علیه فلمَّا نظر الیّ قال: یا صالح انّا واللّه عبید مخلوقون لنا رب نعبده وان لم نعبده عذّبنا.(7)

ص:140


1- 3 . اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی /299، ح534.
2- 4 . سورة المؤمنین /51.
3- 5 . اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی /306، ح551.
4- 1 . سورة الأنبیاء /26 و 27.
5- 2 . الارتفاع: الغُلُوُّ أو قریبُ منه.
6- 3 . اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی /326، ح591.
7- 4 . اختیار معرفة الرجال معروف برجال الکشی /341، ح632.

وقد ذکر العلاّمة المجلسی رحمه الله أکثر من تسعین روایة عنهم علیهم السلام فی باب نفی الغلو فی النبی والأئمة - صلوات اللّه علیه وعلیهم - فراجع بحار أنواره(1).

وأمّا ما ورد «فی نهج البلاغة من قول أمیرالمؤمنین علیه السلام : فإنّا صنائع ربنا والنّاس بعد صنائع لنا(2)، فلا یراد به الخلقة، بل الهدایة والتربیة، ولذا ذکر النّاس فقط لا جمیع الخلق ومنه قولهم: المرأة صنیعة الرجل أی مرباته»(3).

وقد یقال: بأنّ اللّه تعالی یخلق ویرزق ویحیی ویمیت «مقارنا لإرادتهم ودعائهم وسؤالهم من اللّه تبارک وتعالی وذلک لکرامتهم عند اللّه وزیادة قربهم منه وإظهار فضلهم ورفعة مقامهم بین عباده لکی یصدّقوهم وینقادوا لهم ویهتدوا بهداهم ویقتدوا بهم کما قد ذکره أهل المعرفة فهذا لیس بشرک بلا ارتیاب»(4).

ولکن العلاّمة المجلسی قدس سره ینفی هذه المقالة کما یأتی.

ولذا قال العلاّمة المجلسی قدس سره فی آخر باب نفی الغلو: «وأمّا التفویض فیطلق علی معان...: أحدهما أن یقال: إنّهم یفعلون جمیع ذلک بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقیقة، وهذا کفر صریح دلّت علی استحالته الأدلّة العقلیّة والنقلیّة، ولا یستریب عاقل

فی کفر من قال به.

وثانیهما: أنّ اللّه تعالی یفعل ذلک مقارنا لإرادتهم کشقّ القمر وإحیاء الموتی وقلب العصا حیّة وغیر ذلک من المعجزات، فإنّ جمیع ذلک إنّما تحصل بقدرته تعالی مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم، فلا یأبی العقل عن أن یکون اللّه تعالی خلقهم وأکملهم وألهمهم ما یصلح فی نظام العالم، ثمّ خلق کلّ شیء مقارنا لإرادتهم و مشیّتهم.

وهذا وإن کان العقل لا یعارضه کفاحا لکن الأخبار السالفة تمنع من القول به فیما عدا المعجزات ظاهرا بل صراحا، مع أنّ القول به قول بما لا یعلم إذ لم یرد ذلک فی

ص:141


1- 5 . بحارالأنوار 25/(350-261) [11/(218-168)].
2- 6 . نهج البلاغة، الکتاب 28.
3- 7 . دراساتٌ فی ولایة الفقیه 1/76.
4- 8 . ولایة الأولیاء /69.

الأخبار المعتبرة فیما نعلم.

وما ورد من الأخبار الدّالّة علی ذلک کخطبة البیان وَأَمْثالِها فلم یوجد إلاّ فی کتب الغلاة وأشباهم، مع أنّه یحتمل أن یکون المراد کونهم علّة غائیّة لإیجاد جمیع المکوّنات، وأنّه تعالی جعلهم مطاعین فی الأرضین والسماوات، ویطیعهم بإذن اللّه تعالی کلّ شیء حتّی الجمادات، وأنّهم إذا شاؤا أمرا لا یردّ اللّه مشیّتهم، ولکنّهم لا یشاؤن إلاّ أن یشاء اللّه.

وأمّا ما ورد من الأخبار فی نزول الملائکة والرّوح لکلّ أمر إلیهم وأنّه لا ینزل ملک من السماء لأمر إلاّ بدأبهم فلیس ذلک لمدخلیّتهم فی ذلک، ولا الاستشارة بهم، بل له الخلق والأمر تعالی شأنه، ولیس ذلک إلاّ لتشریفهم وإکرامهم وإظهار رفعة مقامهم»(1).

وقد ذکر السیّد الخوئی فی معانی التفویض: «ثالثها: تفویض أمر الخلق وما یتبعه من الشؤون إلی بعض عباده»(2). ثمّ قال فی شأنه: «وأمّا الثالث: فهو أیضا مخالف لضرورة العقل والدین فإنّه تعالی هو الخالق والرازق، وأنّ له السلطنة التامة والغناء المطلق وأنّ جمیع مخلوقاته تحت سلطنته وقدرته، لایستقلّ أحدٌ منهم فی فعله، والآیات القرآنیة فی حصر الخلق والرزق وغیرهما من شؤون المخلوقات فی کونها للّه تعالی وحده کثیر لا حاجة إلی ذکرها فی المقام»(3).

أدلتها:

وأمّا من الکتاب فعدّة من الآیات نحو قوله تعالی نقلاً عن عیسی بن مریم علیهماالسلام :

«أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْرا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الاْءَکْمَهَ وَالاْءَبْرَصَ وَأُحْیِ الْمَوْتی بِإِذْنِ اللّهِ»(4).

وما قاله تعالی فی شأن سلیمان النبی علیه السلام : «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّیحَ تَجْرِی بِأَمْرِهِ رُخاءً

ص:142


1- 1 . بحارالأنوار 25/347 و 348.
2- 2 . رسالة الأمر بین الأمرین /76، المطبوعة فی المجلّد التاسع والأربعین من موسوعة الإمام الخوئی قدس سره .
3- 3 . رسالة الأمر بین الأمرین /77.
4- 1 . سورة آل عمران /49.

حَیْثُ أَصابَ»(1).

وقوله تعالی: «یا نارُ کُونِی بَرْدا وَسَلاما عَلی إِبْراهِیمَ»(2).

وقوله تعالی: «وَآتَیْنا ثَمُودَ النّاقَةَ»(3).

وقوله تعالی فی شأن داود النبی علیه السلام : «وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِیدَ»(4).

وقوله تعالی: «قالَ أَلْقِها یا مُوسی * فَأَلْقاها فَإِذا هِیَ حَیَّةٌ تَسْعی * قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِیدُها سِیرَتَهَا الاْءُولی»(5).

وقوله تعالی خطابا لإبراهیم علیه السلام : «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّیْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَیْکَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلی کُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءا ثُمَّ ادْعُهُنَّ یَأْتِینَکَ سَعْیا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ»(6).

وقوله تعالی حکایة عن موسی علیه السلام : «فَأَلْقی عَصاهُ فَإِذا هِیَ ثُعْبانٌ مُبِینٌ * وَنَزَعَ یَدَهُ فَإِذا هِیَ بَیْضاءُ لِلنّاظِرِینَ»(7).

وقوله تعالی: «وَکُلَّ شَیْءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ»(8).

بضمیمة ما ورد فی ذیله من حدیث الصدوق بسنده عن أبیالجارود عن أبیجعفر علیه السلام عن أبیه، عن جدّه صلی الله علیه و آله قال: لمّا اُنزلت هذه الآیة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله «وَکُلَّ شَیْءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ»(9) قام أبوبکر وعمر من مجلسهما فقالا: یا رسول اللّه هو التوراة؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجیل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا. قال: فأقبل

ص:143


1- 2 . سورة ص /36.
2- 3 . سورة الأنبیاء /69.
3- 4 . سورة الاسراء /59.
4- 5 . سورة سبأ /10.
5- 6 . سورة طه /(21-19).
6- 7 . سورة البقرة /260.
7- 8 . سورة الأعراف /107 و 108.
8- 9 . سورة یس /12.
9- 10 . سورة یس /12.

أمیرالمؤمنین علیٌّ علیه السلام فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : هو هذا، إنّه الإمام الّذی أحصی اللّه تبارک

وتعالی فیه علم کلّ شیء.(1)

وقوله تعالی:«وَلَوْ أَنَّ قُرْآنا سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاْءَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی»(2).

بضمیمة ما ورد فی ذیله من روایة الکلینی بسنده عن أبیالحسن الأوّل علیه السلام ، قال: قلتُ له: جُعِلْتُ فِدَاکَ، أخبرنی عن النّبی صلی الله علیه و آله وَرِثَ النَّبِیِّینَ کُلَّهُمْ؟ قالَ: «نَعَمْ».

قلتُ: مِنْ لَدُنْ آدَمَ حتَّی انْتَهی إلی نَفْسِهِ؟ قال: «ما بَعَثَ اللّه ُ نَبِیّا إلاّ وَمُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله أَعْلَمُ مِنْهُ».

قال: قلتُ: إنَّ عیسی بن مریمَ کانَ یُحْیِی الْمَوْتی بِإِذْنِ اللّه ِ، قال: «صَدَقْتَ»، وسُلَیْمانَ بنَ داودَ کان یَفْهَمُ مَنْطِقَ الطَّیْرِ، وکانَ رسولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله یَقْدِرُ علی هذه المنازلِ؟

قال: فقال: «إنَّ سلیمانَ بن داودَ قالَ للهدهدِ حینَ فَقَدَهُ وشکَّ فی أمرهِ: «فَقالَ ما لِیَ لا أَرَی الْهُدْهُدَ أَمْ کانَ مِنَ الْغائِبِینَ»(3) حینَ فَقَدَهُ، فغضِبَ علیه، فقال: «لاَءُعَذِّبَنَّهُ عَذابا شَدِیدا أَوْ لاَءَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِّی بِسُلْطانٍ مُبِینٍ»(4) وإنَّما غَضِبَ لأنّه کان یدُلُّهُ علی الماءِ، فهذا - وهو طائرٌ - قد أُعطیَ ما لم یعطَ سلیمان، وقد کانت الرّیح والنّمل والإنسُ والجنُّ والشَّیاطینُ الْمَرَدَةٌ له طائعینَ، ولم یکن یعرفُ الماءَ تحت الهواء، وکان الطّیرُ یعرفهُ، وإنَّ اللّه یقول فی کتابِه: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنا سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاْءَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی»(5). وقد وَرِثنا نحن هذا القرآنَ الّذی فیه ما تسیّر به الجبال، وتقطَّعُ به البلدانُ، وتُحْیا به الموتی، ونحن نعرفُ الماءَ تحت الهواء، وإنَّ فی کتاب اللّه لآیاتٍ ما یرادُ بها أمرٌ إلاّ أنْ یأذن اللّه ُ به مع ما قد یأذن اللّه ممّا کتبه الماضون، جعله اللّه لنا فی أُمِّ الکتاب؛ إنَّ اللّه َ

ص:144


1- 1 . معانی الأخبار /95، ح1.
2- 2 . سورة الرعد /31.
3- 3 . سورة النمل /20.
4- 4 . سورة النمل /21.
5- 5 . سورة الرعد /31.

یقولُ: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِی السَّماءِ وَالاْءَرْضِ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ»(1) ثمّ قال: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا»(2) فنحنُ الّذین اصطفانا اللّه - عزّوجلّ - ، وأورثنا هذا الّذی فیه تبیانُ کلِّ شیءٍ».(3)

«تِلْکَ عَشَرَةٌ کامِلَةٌ» من الآیات الشریفة تدلّ علی الولایة التکوینیة فی شأن الأنبیاء السلف وإذا ثبتت فی حقّهم ثبتت بالطریق الأولی فی شأن محمّد وآل محمّد علیهم السلام .

وأمّا من السنة فکثیر من الروایات تدل علی ولایتهم التکوینیة:

منها: صحیحة عبدالصمد بن بشیر عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: کان مع عیسی بن مریم علیه السلام ستّة أحرف، وکان مع آدم علیه السلام خسمة وعشرون حرفا، وکان مع نوح ثمانیة، وجمع ذلک کلّه لرسول اللّه صلی الله علیه و آله إنّ اسم اللّه ثلاثة وسبعون حرفا، وحجب عنه واحدا.(4)

ومنها: صحیحة أبیبصیر عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: کان سلیمان عنده اسم اللّه الأکبر الّذی إذا سئل به أعطی، وإذا دعی به أجاب، ولو کان الیوم لاحتاج إلینا.(5)

ومنها: صحیحة أبیبصیر قال: دخلت علی أبیعبداللّه علیه السلام أو أبیجعفر علیه السلام فقلت: أنتم ورثة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ قال: نعم.

قلت: فرسول اللّه صلی الله علیه و آله وارث الأنبیاء، علم کلّ ما علموا؟ فقال لی: نعم، فقلت: أنتم تقدرون علی أن تحیوا الموتی، وتبرئوا الأکمه والأبرص؟

فقال لی: نعم، بإذن اللّه، ثمّ قال: ادن منّی یا أبا محمّد، فمسح [یده] علی عینی ووجهی فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبیوت وکلّ شیء فی الدار.

قال: [فقال:] أتحبّ أن تکون هکذا ولک ما للناس، وعلیک ما علیهم یوم القیامة، أو تعود کما کنت ولک الجنّة خالصا؟ قلت: أعود کما کنت.

ص:145


1- 6 . سورة النمل /75.
2- 7 . سورة فاطر /32.
3- 8 . الکافی 1/560، ح7 (1/226).
4- 1 . بصائر الدرجات 1/375، ح4، تحقیق مؤسسة الإمام المهدی «عج»، قم.
5- 2 . بصائر الدرجات 1/378، ح2.

قال: فمسح علی عینی، فعدت کما کنت.

قال علیّ [بن الحکم]: فحدّثت به ابن أبیعمیر، فقال: أشهد أنّ هذا حقّ کما أنّ النهار حقّ.(1)

ومنها: صحیحة عبداللّه بن المغیرة قال: مرّ العبد الصالح علیه السلام بامرأة بمنی وهی تبکی، وصبیانها حولها یبکون، وقد ماتت بقرة لها، فدنا منها، ثمّ قال لها: ما یبکیک یا أمة اللّه؟

قالت: یا عبداللّه، إنّ لی صبیانا أیتاما وکانت لی بقرة، معیشتی ومعیشة صبیانی

کان منها، فقد ماتت وبقیت منقطعة بی وبولدی ولا حیلة لنا، فقال لها: یا أمة اللّه، هل لک أن اُحییها لک؟ قال: فأُلهمت أن قالت نعم یا عبداللّه، قال: فتنحّی ناحیة فصلّی رکعتین، ثمّ رفع یدیه وحرّک شفتیه، ثمّ قام فمرَّ بالبقرة فنخسها نخسا، أو ضربها برجله فاستوت علی الأرض قائمة، فلمّا نظرت المرأة إلی البقرة قد قامت، صاحت: عیسی بن مریم وربّ الکعبة، قال: فخالط النّاس وصار بینهم ومضی بینهم - صلوات اللّه علیه وعلی آبائه الطاهرین - .(2)

ومنها: صحیحة أبیحمزة الثمالی قال: قلت لأبیعبداللّه علیه السلام : تبقی الأرض بغیر إمام؟

قال: لو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت.(3)

ونحوها فی الکافی بسند صحیح.(4)

ومنها: صحیحة علی بن جعفر: عن أبی الحسن موسی علیه السلام ، قال: «قال أبوعبداللّه علیه السلام : إنَّ اللّه - عزّوجلّ - خلقنا فأحسن خلقنا، وصوَّرنا فأحسن صُوَرَنا، وجعلنا خزّانهُ فی سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشّجرة، وبعبادتنا عُبِدَ اللّه - عزوّوجلّ - ، ولولانا ما

ص:146


1- 3 . بصائر الدرجات 1/480، ح1.
2- 1 . بصائر الدرجات 1/486، ح2.
3- 2 . بصائر الدرجات 2/869، ح2.
4- 3 . الکافی 1/437، ح10 (1/179).

عُبِدَ اللّه».(1)

ومنها: معتبرة المفضل بن عمر: عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «ما جاء به علیٌّ آخذ به، وما نهی عنه أنتهی عنه، جری له من الفضل مثل ما جری لمحمّدٍ صلی الله علیه و آله ، ولمحمّدٍ صلی الله علیه و آله الفضل علی جمیع مَنْ خلق اللهُ - عزّوجلّ -، المتعقِّب علیه فی شیءٍ من أحکامه کالمتعقِّب علی اللّه وعلی رسوله، والرّادُّ علیه فی صغیرةٍ أو کبیرةٍ علی حدِّ الشّرکِ باللّه؛ کان أمیرالمؤمنین علیه السلام باب اللّه الّذی لا یُؤْتی إلاّ منه، وسبیله الّذی مَنْ سلک بغیره هلک، وکذلک یجری لأئمة الهدی واحدا بعد واحدٍ، جعلهم اللّه أرکان الأرض أن تمید بأهلها، وحجَّته البالغةَ علی مَنْ فوق الأرض ومَنْ تحت الثّری.

وکان أمیرالمؤمنین - صلوات اللّه علیه - کثیرا ما یقول: أنا قسیم اللّه بین الجنّة والنّار، وأنا الفاروق الأکبر، وأنا صاحب العصا والمِیسَم، ولقد أقرَّتْ لی جمیعُ الملائکة

والرّوح والرّسل بمثل ما أقرُّوا به لمحمّدٍ صلی الله علیه و آله ، ولقد حُمِلْتُ علی مثل حَمُولَتِهِ وهی حمولةُ الرَّبِّ، وإنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یُدْعی فَیُکْسی وأُدْعی فأُکسی، ویُسْتَنْطَقُ وأُسْتَنْطَقُ، فَأَنْطِقُ علی حدِّ منطقه، ولقد أُعْطِیتُ خصالاً ما سبقنی إلیها أحدٌ قبلی: عُلِّمتُ المنایا والبلایا والأنساب وفصل الخِطاب، فلم یَفُتْنِی ما سَبَقَنِی، ولم یَعْزُبْ عَنِّی ما غاب عنِّی، أُبَشِّرُ بإذنِ اللّه، وأُؤَدِّی عنهُ، کُلُّ ذلک من اللّه، مَکَّنَنِی فیه بِعِلْمِهِ».(2)

ومنها: صحیحة برید العجلی: عن أبیجعفرٍ علیه السلام فی قول اللّه تبارک وتعالی: «فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْناهُمْ مُلْکا عَظِیما» قال: «جعل منهم الرّسل والأنبیاء والأئمة، فکیف یُقِرُّون فی آل إبراهیم علیه السلام ، ویُنْکِرُونَهُ فی آل محمّدٍ؟!».

قال: قلت: «وَآتَیْناهُمْ مُلْکا عَظِیما»؟ قال: «الملک العظیم أنْ جعل فیهم أئمةً مَنْ أطاعَهُمْ أطاعَ اللّه َ؛ ومَنْ عَصَاهُمْ عَصَی اللّه َ؛ فهو المُلْکُ العَظِیمُ».(3)

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم: عن أبیجعفر علیه السلام فی قول اللّه - عزّوجلّ -: «إِنَّ

ص:147


1- 4 . الکافی 1/476، ح6 (1/193).
2- 1 . الکافی 1/482، ح1 (1/196).
3- 2 . الکافی 1/511، ح5 (1/206).

فِی ذلِکَ لاَآیاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِینَ»(1) قال: هم الأئمّة علیهم السلام ؛ قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : اتَّقوا فراسة المؤمن فإنّه ینظر بنور اللّه - عزّوجلّ - فی قول اللّه تعالی: «إِنَّ فِی ذلِکَ لاَآیاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِینَ».(2)

ومنها: صحیحة ضُرَیْسِ الکُنَاسی قال: کنتُ عند أبیعبداللّه علیه السلام وعندهُ أبوبصیرٍ، فقال أبوعبداللّه علیه السلام : «إنَّ داود وَرِثَ علمَ الأنبیاءِ، وإنَّ سلیمانَ وَرِثَ داودَ، وإنَّ محمّدا صلی الله علیه و آله وَرِثَ سلیمانَ، وإنّا وَرِثْنَا محمّدا صلی الله علیه و آله ، وإنَّ عندنا صحف إبراهیم وألواح موسی».

فقال أبوبصیرٍ: إنَّ هذا لهو العلم.

فقال: «یا أبا محمّدٍ، لیس هذا هو العلمَ، إنَّما العِلْمُ ما یَحْدُثُ باللّیلِ والنّهارِ یوما بیومٍ، وساعةً بساعةٍ».(3)

«تِلْکَ عَشَرَةٌ کامِلَةٌ» من الروایات الصحیحة فإن شئت أکثر فراجع بصائر الدرجات لمحمّد بن حسن الصفار وکتاب الحجة فی کافی الکلینی - أعلی اللّه مقامهما - .

وأمّا الإجماع: علی ولایتهم علیهم السلام التکوینیة فقد مرّ(4) منّا فی التنبیه الماضی أنّه ثابت عند الشیعة الإمامیة بلا إشکال.

وأمّا الدلیل العقلی: علی ولایتهم التکوینیة أیضا فثابت لأنّهم علیهم السلام وسائط فیض الواجب وحلقة الوصل بین القدیم والحادث وبهم فتح اللّه وبهم یختم وبهم یُنزِّل الغیث وبهم یُمْسِکُ السماء أن تقع علی الأرض إلاّ بإذنه وبهم یُنَفِّسُ الهَّمُّ ویکشف الضرّ وعندهم ما نزلت به رُسُلُهُ وهبطت به ملائکته، وهذا مجمل الکلام فی الولایة التکوینیة والتفصیل یطلب من علم الکلام واللّه العالم.

ص:148


1- 3 . سورة الحجر /75.
2- 4 . الکافی 1/541، ح3 (1/218).
3- 5 . الکافی 1/559، ح4 (1/225).
4- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 137.
2- الولایة التشریعیة

وهی عبارة أُخری عن السلطة التشریعیة بمعنی أنّ أمر الدین فوّض من جانب الشارع الأقدس إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین علیهم السلام بعده فی بعض الموارد لا کلّها علی نحو الموجبة الجزئیة کما یأتی أمثلتها، یدل علیها:

أ: من الکتاب

قوله تعالی: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ بِما أَراکَ اللّهُ»(1)

وقوله - عزّوجلّ - : «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2).

وقوله - عزّوجلّ - : «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ»(3).

وقوله تعالی لسلیمان بن داود: «هذا عَطاوءُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ»(4).

وقوله تعالی: «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(5).

وقوله - عزّوجلّ - : «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُوءْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ»(6).

ص:149


1- 1 . سورة النساء /105.
2- 2 . سورة الحشر /7.
3- 3 . سورة النساء /80.
4- 4 . سورة ص /39.
5- 5 . سورة الأحزاب /6.
6- 6 . سورة المائدة /55.

ب: ومن السنة

عدّة من الروایات المعتبرة.

منها: صحیحة أبیاُسامة، عن أبیجعفر علیه السلام قال: إنّ اللّه خلق محمّدا صلی الله علیه و آله عبدا فأدّبه حتّی إذا بلغ أربعین سنة أوحی إلیه، وفوّض إلیه الأشیاء فقال:

«وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1).(2)

ومنها: موثقة زرارة، أنّه سمع أبا عبداللّه وأباجعفر علیهماالسلام یقولان:

إنّ اللّه فوّض إلی نبیّه صلی الله علیه و آله أمر خلقه لینظر کیف طاعتهم، ثمّ تلا هذه الآیة:

«وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».(3)

ومنها: معتبرة حمران قال: سألت أباجعفر علیه السلام عن أشیاء من الصلاة والدیات والفرائض وأشیاء من أشباه هذا، فقال: إنّ اللّه فوّض إلی نبیّه صلی الله علیه و آله .(4)

ومنها: صحیحة زرارة، عن أبیجعفر علیه السلام قال: وضع رسول اللّه صلی الله علیه و آله دیة العین ودیة النفس و[دیة] الأنف، وحرّم النبیذ وکلّ مسکر.

فقال له رجل: فوضع هذا رسول صلی الله علیه و آله من غیر أن یکون جاء فیه شیء؟

قال: نعم، لیعلم من یطع الرسول ممّن یعصیه.(5)

ومنها: صحیحة أبیإسحاق النحوی - وهو ثعلبة بن میمون - قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: إنّ اللّه أدّب نبیّه علی محبّته، فقال:

«إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ» ثمّ فوّض إلیه، فقال: «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» وقال: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ».

ص:150


1- 1 . سورة الحشر /7.
2- 2 . بصائر الدرجات 2/685، ح1.
3- 3 . بصائر الدرجات 2/686، ح2.
4- 4 . بصائر الدرجات 2/688، ح8.
5- 5 . بصائر الدرجات 2/690، ح13.

ثمّ قال: إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله فوّض إلی علیّ بن أبیطالب علیه السلام وائتمنه.(1)

ومنها: صحیحة فضیل بن یسار قال: سمعتُ أباعبداللّه علیه السلام یقول لبعض أصحاب قیسٍ الماصر: «إنَّ اللّه - عزّوجلّ - أدّب نبیّه، فأحسن أدبه، فلمّا أکمل له الأدب، قال: «إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ»، ثمّ فوّض إلیه أمر الدِّین والأُمَّةِ لِیَسُوسَ عبادَهُ، فقال - عزّوجلّ -: «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، وإنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان مسدَّدا مُوَفَّقا، مؤیَّدا بروح القدس، لا یَزِلُّ ولا یُخْطِئُ فی شیءٍ ممّا یَسُوسُ به الخَلْقَ، فَتَأدَّبَ بآدابِ اللّه ِ.

ثمّ إنَّ اللّه - عزّوجلّ - فرض الصّلاة رکعتین رکعتین عشر رکعاتٍ، فأضاف رسول

اللّه صلی الله علیه و آله إلی الرَّکعتین رکعتین، وإلی المغرب رکعةً، فصارت عَدِیلَ الفریضة، لا یجوز ترکهنَّ إلاّ فی السَّفر، وأفرد الرّکعة فی المغرب فترکها قائمةً فی السّفر والحضر، فأجاز اللّه له ذلک کلّه، فصارت القریضة سبع عشرة رکعةً.

ثمّ سنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله النّوافل أربعا وثلاثین رکعةً مِثْلَیِ الفریضة، فأجاز اللّه - عزّوجلّ - له ذلک، والفریضة والنّافلة إحدی وخمسون رکعةً، منها رکعتان بعد العتمة جالسا تعدّان برکعةٍ مکان الوتر.

وفرض اللّه فی السّنة صوم شهر رمضان. وسنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله صوم شعبان وثلاثة أیّام فی کلِّ شهرٍ مِثْلَیِ الفریضة، فأجاز اللّه - عزّوجلّ - له ذلک.

وحرّم اللّه - عزّوجلّ - الخمر بعینها، وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله المسکر من کلِّ شرابٍ، فأجاز اللّه له ذلک.

وعاف رسول اللّه صلی الله علیه و آله أشیاء وکرَّهها، لم ینه عنها نهی حرامٍ، إنّما نهی عنها نهیَ إعافةٍ وکراهةٍ، ثمّ رخّص فیها، فصار الأخذ بِرُخَصِهِ واجبا علی العباد کوجوب ما یأخذون بنهیه وعزائمه، ولم یُرَخِّصْ لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیما نهاهم عنه نهی حرامٍ، ولا فیما أمَرَ به أمْرَ فرضٍ لازمٍ، فکثیر المسکر من الأشربة نهاهم عنه نهیَ حرامٍ، لم یُرَخِّصْ

ص:151


1- 6 . بصائر الدرجات 2/696، ح7.

فیه لأحدٍ، ولم یُرَخِّصْ رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله لأحدٍ تقصیر الرّکعتین اللَّتین ضمَّهُما إلی ما فرض اللّه - عزّوجلّ - ، بل ألزمهم ذلک إلزاما واجبا، لم یُرَخِّصْ لأحدٍ فی شیءٍ من ذلک إلاّ للمسافر، ولیس لأحدٍ أن یُرَخِّصْ ما لم یُرَخِّصْهُ رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله ، فوافق أمرُ رسولِ اللّه ِ صلی الله علیه و آله أمرَ اللّه ِ - عزّوجلّ - ، ونَهْیُهُ نهیَ اللّه ِ - عزّوجلّ - ، ووَجَبَ علی العباد التَّسلیمُ له کالتَّسلیمِ للّه تبارک وتعالی.(1)

ومنها: معتبرة إسحاق بن عمار عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «إنَّ اللّه - تبارک وتعالی - أدّب نبیَّه صلی الله علیه و آله ، فلمّا انْتهی به إلی ما أراد، قال له: «إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ»، ففوَّض إلیه دِینَهُ، فقال: «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» وإنَّ اللّه - عزّوجلّ - فرض الفرائض، ولم یَقْسِمْ للجدِّ شیئا، وإنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أطعمه السّدس، فأجاز اللّه - جلّ ذکره - له ذلک؛ وذلک قول اللّه - عزّوجلّ -: «هذا عَطاوءُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ»(2)».(3)

ومنها: معتبرة عبداللّه بن سنان قال: قال أبوعبداللّه علیه السلام : «لا واللّه ِ، ما فَوَّضَ اللّه ُ إلی أحدٍ من خلقه إلاّ إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإلی الأئمة علیهم السلام ، قال اللّه - عزّوجلّ -: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ بِما أَراکَ اللّهُ»(4)، وهی جاریةٌ فی الأوصیاء علیهم السلام ».(5)

و من طریق العامة ما رواه الترمذی فی سننه فی فضائل علیّ بن أبیطالب علیه السلام من أنّ جیشا رجع إلی المدینة وکان یرأسهم الإمام علی بن أبیطالب علیه السلام وقد کان معهم أسری وأعجبت واحدة منهنّ الإمام علیه السلام فأخذها لنفسه وواقعها وقد ساء ذلک عند الجماعة، والظاهر أنّهم هم الثلاثة، وبنوا علی أن یخبروا النبی صلی الله علیه و آله ، فلمّا وصل الجیش إلی المدینة - وکانت العادة أن یزوروا النبی صلی الله علیه و آله بلامة حربهم ثمّ یرجعوا إلی دورهم وینزعوا

ص:152


1- 1 . الکافی 1/662، ح4 (1/266).
2- 2 . سورة ص /39.
3- 3 . الکافی 1/665، ح6 (1/267).
4- 1 . سورة النساء /105.
5- 2 . الکافی 1/666، ح8 (1/268).

لامتهم - وقد حضر واحد منهم النبی صلی الله علیه و آله وهو لابس لامته وأخبر النبی صلی الله علیه و آله بالحال فسکت النبی صلی الله علیه و آله ثمّ جاءه الثانی وأخبره بالخبر وسکت النبی صلی الله علیه و آله أیضا حتّی جاءه ثالثهم فأخبره بالحال وعند ذلک غضب صلی الله علیه و آله وقال: ماذا تریدون من علی بن أبیطالب، أفلست أولی بکم من أنفسکم؟ قالوا نعم، وقال: وهو یعنی علی بن أبیطالب خلیفتی وقائم مقامی من بعدی.(1)

ومن طریقهم ما رواه أبوالمؤید موفق بن أحمد الخوارزمی الحَنَفِیّ، بإسناده عن جابر، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ اللّه تعالی لمّا خلَق السماوات والأرضَ دَعاهُنَّ فأجَبْنَهُ، فعَرض علیهنّ نُبوّتی وولایة علیّ بن أبیطالب فقَبِلَتاهُما، ثمّ خَلَق الخَلْقَ وفوَّض إلینا أمرَ الدِّین، فالسعید مَن سَعِد بنا، والشَّقیُّ من شَقِیَ بنا، نحن المُحَلِّلون لحَلالِه والمحَرِّمونَ لحَرامهِ.(2)

والروایات فی هذا المجال کثیرة فإن شئت راجع بصائر الدرجات 2/685 باب التفویض إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و 2/693 باب فی أنّ ما فوّض إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقد فوّض إلی الأئمة علیهم السلام ، والکافی 1/660 (1/265) باب التفویض إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإلی الأئمة فی أمر الدین، وبحارالأنوار 25/328 (11/205) فصل فی بیان التفویض ومعانیه.

وقال العلاّمة المجلسی فی آخره: «الثانی: [من معانی التفویض] التفویض فی أمر الدین، وهذا أیضا یحتمل وجهین:

أحدهما: أن یکون اللّه تعالی فوّض إلی النبیّ والأئمة علیهم السلام عموما أن یحلّوا ماشاؤا ویحرّموا ماشاؤا من غیر وحی وإلهام أو یغیّروا ما أوحی إلیهم بآرائهم وهذا باطل لا یقول به عاقل، فإنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کان ینتظر الوحی أیّاما کثیرة لجواب سائل ولا یجیبه من عنده، وقد قال تعالی: «وَما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی»(3).

وثانیهما: أنّه تعالی لمّا أکمل نبیّه صلی الله علیه و آله بحیث لم یکن یختار من الأمور شیئا إلاّ ما

ص:153


1- 3 . سنن الترمذی 5/632، ح3712 ونقل عنه فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/161.
2- 4 . المناقب /80 للخوارزمی ونقل عنه فی غایة المرام 2/137.
3- 1 . سورة النجم /3 و 4.

یوافق الحقّ والصواب ولا یحلّ بباله ما یخالف مشیّته تعالی فی کلّ باب فوّض إلیه تعیین بعض الاُمور کالزیادة فی الصلاة وتعیین النوافل فی الصلاة والصوم وطعمة الجدّ وغیر ذلک ممّا مضی وسیأتی إظهارا لشرفه وکرامته عنده، ولم یکن أصل التعیین إلاّ بالوحی، ولم یکن الاختیار إلاّ بالهام، ثمّ کان یؤکّد ما اختاره صلی الله علیه و آله بالوحی، ولا فساد فی ذلک عقلاً وقد دلّت النصوص المستفیضة علیه ممّا تقدّم فی هذا الباب وفی أبواب فضائل نبیّنا صلی الله علیه و آله من المجلّد السّادس.

ولعلّ الصدوق رحمه الله أیضا إنّما نفی المعنی الأوّل حیث قال فی الفقیه: «وقد فوّض اللّه - عزّوجلّ - إلی نبیّه صلی الله علیه و آله أمر دینه ولم یفوّض إلیه تعدّی حدوده»(1). وأیضا هو رحمه الله قد روی کثیرا من أخبار التفویض فی کتبه ولم یتعرّض لتأویلها»(2).

ومن مصادیق هذه الولایة التشریعیة ما فعله أمیرالمؤمنین علیه السلام من وضع الزکاة فی أیام خلافته الظاهریة علی الخیل وَالْبَراذِیْن لاحتیاج دولته إلی الاْءَمْوالِ کما مرّ فی آخر مباحث المکاسب المحرمة.(3)

ومن مصادیقها ماورد فی صحیحة علی بن مهزیار قال: کتب إلیه أبوجعفر علیه السلام - وقرأت أنا کتابه إلیه فی طریق مکّة - قال: إنّ الذی أوجبت فی سنتی هذه، وهذه سنة عشرین ومائتین، فقط لمعنی من المعانی، أکره تفسیر المعنی کلّه خوفا من الانتشار، وساُفسّر لک بعضه إن شاء اللّه، إنّ موالیّ - أسأل اللّه صلاحهم - أو بعضهم قصّروا فیما یجب

علیهم، فعلمت ذلک فأحببت أن اُطهّرهم واُزکّیهم بما فعلت فی عامی هذا من أمر الخمس (فی عامی هذا)، قال اللّه تعالی: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ وَاللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ * أَ لَمْ یَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَیَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُوءْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلی عالِمِ الْغَیْبِ وَالشَّهادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ

ص:154


1- 2 . الفقیه 1/41 ذیل ح82، باب صفة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله .
2- 3 . بحارالأنوار 25/348 (11/217).
3- 4 . راجع الآراء الفقهیة 3/476.

تَعْمَلُونَ»(1) ولم اُوجب ذلک علیهم فی کلّ عام، ولا اُوجب علیهم إلاّ الزکاة التی فرضها اللّه علیهم، وإنّما أوجبت علیهم الخمس فی سنتی هذه فی الذهب والفضّة التی قد حال علیهما الحول، ولم اُوجب ذلک علیهم فی متاع ولا آنیة ولا دواب ولا خدم ولا ربح ربحه فی تجارة ولا ضیعة إلاّ ضیعة ساُفسّر لک أمرها، تخفیفا منّی عن موالیّ، ومَنّا منّی علیهم لما یغتال السلطان من أموالهم ولما ینوبهم فی ذاتهم، فأمّا الغنائم والفوائد فهی واجبة علیهم فی کلِّ عام، الحدیث.(2)

وأمّا تفسیر الولایة التشریعیة ب- «کون الأئمة علیهم السلام نافذی التصرّف فی الأموال وَالاْءَنْفُسِ شَرْعا، فهی أیضا ثابتة بلا ریب لقوله تعالی «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(3) وقوله تعالی: «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ» وقوله صلی الله علیه و آله فی یوم الغدیر: «ألست أولی بکم من أنفسکم؟ قالوا بلی. قال: من کنت مولاه فهذا علی مولاه» وغیر ذلک ممّا دلّ علی ثبوت الولایة لهم فی الأموال والأنفس، فللإمام علیه السلام أن یبیع دار زید أو یطلّق زوجته أو یزوّجها من أحد وهکذا من دون اعتبار رضا المالک أو الزوج»(4).

فعجیبٌ کما مرّ تعریفها ثمّ أعقبه هذا القائل بقوله: «لا یقال: إنّهم بناءً علی ذلک یتمکّنون من التصرف فی أعراض المسلمین.

فإنه یقال: إنّ تصرّفاتهم إنّما تنفذ فیما إذا کانت بالأسباب المقرّرة شرعا لا بغیرها نظیر تصرّف نفس المالک فی ملکه، مثلاً لهم أن یبیعوا دار أحد أو یطلّقوا زوجته ثمّ بعد انقضاء عدّتها یزوّجها الأمام علیه السلام من نفسه مثلاً، لا أنّهم یتصرّفون فی زوجة الغیر من دون طلاق أو زواج، فتعالوا عن ذلک علوّا کبیرا»(5).

ص: 155


1- 1 . سورة التوبة /105-103.
2- 2 . وسائل الشیعة 9/501، ح5، الباب 8 من أبواب ما یجب فیه الخمس.
3- 3 . سورة الأحزاب /6.
4- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/160؛ ونحوها فی محاضرات فی الفقه الجعفری 3/29.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/161 و 162؛ ونحوها فی محاضرات فی الفقه الجعفری 3/30.
3- الولایة علی تبلیغ الأحکام الشرعیة

وهی عبارة عن وجوب طاعتهم علیهم السلام فی ما یرجع إلی تبلیغ الأحکام الشرعیة وبیان المقررات الإلهیة.

هذه الولایة ثابتة فی حقِّهم علیهم السلام بلا إشکال ولا تحتاج إلی اقامة البرهان وتکون من القضایا التی قیاساتها معها لأنّ وجوب إطاعتهم علیهم السلام فی ما یرجع إلی أحکام الدین من لوازم النبوة والإمامة ولولاه لمّا کان معنی لنبوة النبی أو إمامة الولی علیهماالسلام .

وبعبارة أُخری: «وجوب إطاعتهم فیما یرجع إلی تبلیغ الأحکام، فهو من لوازم التصدیق بنبوّتهم أو إمامتهم، إذ بعد التصدیق بالنبوّة أو الإمامة، یکون ما أخبر به بما أنّه نبیٌّ أو إمام إخبارا عن اللّه سبحانه، وإطاعته جلّ شأنه واجبة، فالقول بعدم وجوب إطاعتهم فی ذلک مساوق لإنکار نبوّتهم وإمامتهم. وهذا ظاهر غیر محتاج إلی البحث والاستدلال»(1).

ثمّ فلیعلم أنّ التبلیغ له جانبان: «أحدهما: علاقة التبلیغ بالنبی نفسه (المبلِّغ) کوظیفة إلهیة کبری یجب علیه القیام بها، وذلک بإیصال الأحکام إلی النّاس، وهذا هو حقّ طبیعی لا یحتاج إلی جعل منصب علی نحو الابتداء والاستقلال مضافا إلی مقام النبوة التی هی بمعنی رابطة الوحی.

والجانب الآخر هو علاقة التبلیغ بالنّاس بِمَعْنی أن علی النّاس أن یقبلوا بکلام

ص:156


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/26.

النبی، وهذا الجانب هو ولایة التبلیغ التی یعتبر النّاس کلام المبلِّغ بمقتضاها حجة»(1).

قد أُشیر إلی جعل کلا الجانبین فی قوله تعالی: «آتانِیَ الْکِتابَ وَجَعَلَنِی نَبِیّا»(2).

وقوله تعالی: «إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماما»(3).

وقد أُشیر إلی جعل الجانب الأوّل فی قوله تعالی: «وَما عَلَی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِینُ»(4).

وقوله - عزّوجلّ - : «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظا إِنْ عَلَیْکَ إِلاَّ الْبَلاغُ»(5)

ص: 157


1- 2 . الحاکمیة فی الإسلام /186.
2- 3 . سورة مریم /30.
3- 1 . سورة البقرة /124.
4- 2 . سورة النور /54.
5- 3 . سورة الشوری /48.
4- الولایة الحکومیة أو الشخصیة

الرسول صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام إذا أسس حکومة وقبل ریاستها وصدارتها، فأوامره الحکومیة مطاعة ویجب علی النّاس إطاعته فی هذه الأوامر لأنّهم ساسة العباد والحکّام علی البلاد، وکذلک إذا لم یتصدی للحکومة ولکن صدر منه علیه السلام أوامر شخصیة فلابدّ للنّاس من إطاعته علیه السلام فی هذه الأوامر تکریما لمقام القیادة والزعامة.

والدلیل علیه من الکتاب: قوله تعالی «أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(1).

بتقریب: ظهور عطف إطاعة الرسول صلی الله علیه و آله علی إطاعة اللّه سبحانه یوجب التغایر بینهما مضافا إلی تکرار فعل الأمر قبلهما، یثبت أنّ إطاعة الرسول فی الآیة الشریفة لم یقصد منها إطاعة الرسول بما أنّه رسول من اللّه تعالی وإلاّ یدخل إطاعته فی إطاعة اللّه، فیصیر إطاعة الرسول صلی الله علیه و آله فی أوامر الحکومیة أو الشخصیة واجبا ولذا عطف علی الرسول، اولی الأمر وهم أَوْصِیاؤُهُ المَعْصُوْمُوْنَ علیهم السلام کما مرّ.

وقوله تعالی: «وَما کانَ لِمُوءْمِنٍ وَلا مُوءْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ»(2).

بتقریب: أنَّ أوامر الرسول صلی الله علیه و آله داخِلَةٌ فی قضائه وعطف قضاء اللّه تعالی علی

ص:158


1- 1 . سورة النساء /59.
2- 2 . سورة الأحزاب /36.

الرسول صلی الله علیه و آله ، یظهر فی مغایرتهما، وقد نهی اللّه سبحانه عن الاختیار بعد قضاءهما وأمرهما، فکأنّ المؤمن یکون مسلوب الاختیار بعد أمرهما، والمراد بأمر الرسول صلی الله علیه و آله هنا أوامره الحکومیة أو الشخصیة لعین ما مرّ فی الآیة السابقة.

وقوله تعالی: «إِنِّی لَکُمْ رَسُولٌ أَمِینٌ * فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَطِیعُونِ»(1).

وقوله تعالی: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ»(2).

وقوله تعالی: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلّی فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظا»(3).

والدلیل علیه من السنة: عدّة من الروایات الصحاح

منها: ما ورد فی الزیارة الجامعة(4) عن الإمام الهادی علیه السلام : من أطاعتکم فقد أطاع اللّه ومن عصاکم فقد عَصی اللّه.(5)

ومنها: صحیحة زرارة عن أبیجعفر علیه السلام قال: ذروةُ الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشیاء ورضا الرّحمن - تبارک وتعالی - الطّاعة للإمام بعد معرفته. ثمّ قال: إنّ اللّه - تبارک وتعالی - یقول: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلّی فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظا».(6)

ومنها: صحیحة أبیالصباح الکنانی قال: قال أبوعبداللّه علیه السلام : نحن قومٍ فرض اللّه - عزّوجلّ - طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال، ونحن الرّاسخون فی العلم، ونحن

ص:159


1- 3 . سورة الشعراء /125 و 126.
2- 1 . سورة النساء /64.
3- 2 . سورة النساء /80.
4- 3 . قد ذهبنا إلی اعتبار سندها فی ما انتشر منّا علی موقعنا الإلکترونی alnajafi.ir.
5- 4 . الفقیه 2/609، ح3213.
6- 5 . الکافی 1/455، ح1 (1/185).

المحسودون الذین قال اللّه: «أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1).(2)

ومنها: صحیحة الحسین بن أبیالعلاء قال: ذکرت لأبیعبداللّه علیه السلام قولنا فی الأوصیاء: إنّ طاعتهم مفترضةٌ، قال: فقال: نعم، هم الّذین قال اللّه - عزّوجلّ - : «أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(3) وهم الّذین قال اللّه - عزّوجلّ - : «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا»(4).(5)

ومنها: صحیحة معمَّر بن خلاد قال: سأل رجلٌ فارسیٌّ أباالحسن علیه السلام ، فقال: طاعتک مفترضةٌ؟ فقال: نعم. قال: مثل طاعة علیِّ بن أبیطالبٍ علیه السلام ؟ فقال: نعم.(6)

ومنها: خبر محمّد بن زید الطبری قال: کنت قائما علی رأس الرّضا علیه السلام بخراسان - وعنده عدّةٌ من بنیهاشمٍ وفیهم إسحاق بن موسی بن عیسی العبّاسی - فقال: یا إسحاق، بلغنی أنّ النّاس یقولون إنّا نزعم أنّ النّاس عبیدٌ لنا، لا وقرابتی من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما قلته قطّ، ولا سمعته من أحدٍ من آبائی قاله، ولا بلغنی عن أحدٍ من آبائی قاله، ولکنّی أقول: النّاس عبیدٌ لنا فی الطّاعة، موالٍ لنا فی الدّین، فلیبلّغ الشّاهد الغائب.(7)

فی هذا المجال راجع باب فرض طاعة الأئمة علیهم السلام فی الکافی 1/455 (1/185).

ص: 160


1- 6 . سورة النساء /54.
2- 7 . الکافی 1/457، ح6 (1/186).
3- 8 . سورة النساء /59.
4- 9 . سورة المائدة /55.
5- 10 . الکافی 1/458، ح7 (1/187).
6- 1 . الکافی 1/458، ح8 (1/187).
7- 2 . الکافی 1/459 ح10 (1/187).
5- الولایة علی الأموال والأنفس

بمعنی نفوذ تصرفات الرسول صلی الله علیه و آله واوصیائه المعصومین علیهم السلام فی الأنفس والأموال شَرْعا من دون اعتبار رضا الشخص أو المالک، مثلاً: یجوز للإمام علیه السلام أن یزوّج بنت زید لعمرو من دون إذن زید أو یطلّق زوجته أو یبیع داره ونحوه.

أذکر لک نموذجا آخَرَ: «إذا رغبت امرأة فی أن تزوج نفسها برجل، ورأی النبی أن تتزوج برجل آخر لمصلحة عَلِمَها، وزوَّجها بمن یراه، قُدِّم فعلُه ورأیُه. ورُجِح حقّه حتّی إنّه إذا تَمّ العقدان فی وقتٍ واحدٍ، صحَّ عقدُ الرسول وتزویجُه، وبطلَ عقدُها وتزویجُها نفسها للرجل الآخر»(1).

ویدلّ علی ثبوت هذه الولایة من الکتاب:

قوله تعالی: «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(2).

وقوله تعالی: «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُوءْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ»(3).

ومن السنة: قوله صلی الله علیه و آله فی خبر متواتر یوم الغدیر: ألستُ اُولی بکم من أنفسکم؟ قالوا: بلی، قال: من کنت مولاه فهذا علی مولاه.(4)

ص:161


1- 1 . الحاکمیة فی الإسلام /230.
2- 2 . سورة الأحزاب /6.
3- 3 . سورة المائدة /55.
4- 4 . مرّت مصادره.

وخبر سفیان بن عُیَیْنَة الهِلالیِّ مَوْلاهُمْ (من العامّة): عن أبیعبداللّه علیه السلام : أنَّ النَّبیّ صلی الله علیه و آله قال: أنا أولی بکلِّ مؤمنٍ من نفسه، وعلیٌّ أولی به من بعدی، الحدیث.(1)

وصحیحة أیوب بن عطیة الحَذّاء قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: أنا أولی بکلِّ مؤمن من نفسه، ومن ترک مالاً فللوارث، ومن ترک دینا أو ضیاعا فإلیَّ وعلیَّ.(2)

وما ورد من الروایات من أنّ الأئمة علیهم السلام بمنزلة نفس النبی صلی الله علیه و آله فی جمیع الشؤون إلاّ النبوة.

ثمّ فلیعلم بأنّ هذه الولایة من المعصوم علیه السلام مقیدة بالطرق المشروعة ووجود المصلحة وعدم وجود الإضرار علی نفس الغیر.(3)

«لا یقال: إنّهم بناءً علی ذلک یتمکّنون من التصرف فی أعراض المسلمین.

فإنه یقال: إنّ تصرّفاتهم إنّما تنفذ فیما إذا کانت بالأسباب المقرّرة شرعا لا بغیرها نظیر تصرّف نفس المالک فی ملکه، مثلاً لهم أن یبیعوا دار أحد أو یطلّقوا زوجته ثمّ بعد انقضاء عدّتها یزوّجها الإمام علیه السلام من نفسه مثلاً، لا أنّهم یتصرّفون فی زوجة الغیر من دون طلاق أو زواج، فتعالوا عن ذلک علوا کبیرا... نعم، سیرة الأئمّة علیهم السلام لم تجر علی التصرف فی أموال المسلمین أو أنفسهم، بل کانوا یشترون شیئا من مالکه بإجازته ولا یتصرفون فی أموالهم بدون إذنهم، إلاّ أنّ ذلک یحتمل أن یکون من باب التقیة أو لأجل ما یرونه من المصالح، وکیف کان فهی لا تدلّ علی عدم ولایتهم کما هو ظاهر، هذا کلّه فی الولایة بمعنی نفوذ تصرّفاتهم فی الأموال و الأنفس»(4).

ص:162


1- 5 . الکافی 2/346، ح6 (1/406).
2- 1 . وسائل الشیعة 26/251، ح14، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجریرة والإمامة.
3- 2 . لأجل تفصیل هذه القیود راجع الحاکمیة فی الإسلام /230 و 231.
4- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/161 و 162.
6- ولایة القضاء وإجراء الحدود

ولایة القضاء: هی السلطة القضائیة وولایة الحکم الشرعی قال الشهید فی تعریفها: «ولایة شرعیة علی الحکم والمصالح العامة من قبل الإمام علیه السلام »(1).

والقضاء: هو «ولایة الحکم شرعا لمن له أهلیة الفتوی بجزئیات القوانین الشرعیة علی أشخاص معیّنین من البریّة بإثبات الحقوق استیفائها وللمستحقّ کما فی المسالک(2) والتنقیح(3) وکشف اللثام(4) وغیرها(5)»(6).

قال فی الجواهر: «وبالجملة: هی من مناصب محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام الذین هم ولاة الأمر والمستنبطون»(7). وقال: «... ومن ذلک کلّه ظهر لک: أنّ القضاء الذی هو من توابع النبوة والإمامة والرئاسة العامة فی الدین والدنیا غیر محتاج ثبوته إلی دلیل...»(8).

وولایة إجراء الحدود: هی «السلطة علی إجراء الحدود الشرعیة والتعزیرات بمعنی معاقبة المجرمین والعصاة بعد محاکمتهم وثبوت تخلفهم وجرمهم»(9).

ثمّ هاتان الولایتان أوّلاً وبالذات تختصان بالمعصومین علیهم السلام وثانیا وَبِالْعَرَضِ فُوَّضَتْ مِنْ قِبَلِهِم إلی الفقهاء الذین لهم شرائط الإفتاء کما مرّ فی بحوثنا فی فقه القضاء مفصلاً.

والدلیل علیهما بعد ما مرّ من کلام صاحب الجواهر حیث قال: «غیر محتاج ثبوته

ص:163


1- 1 . الدروس 2/65.
2- 2 . المسالک 13/325.
3- 3 . التنقیح الرائع 4/230.
4- 4 . کشف اللثام 10/5.
5- 5 . کإیضاح الفوائد 4/293 والمهذب البارع 4/451.
6- 6 . الجواهر 41/7 (40/8).
7- 7 . الجواهر 41/8 (40/9).
8- 8 . الجواهر 41/11 (40/11).
9- 9 . الحاکمیة فی الإسلام /203.

إلی دلیل»: من الکتاب عدّة من لآیات نحو:

قوله تعالی: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ بِما أَراکَ اللّهُ»(1).

وقوله تعالی: «یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الاْءَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوی»(2).

وقوله تعالی: «وَإِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ»(3).

وقوله تعالی: «فَلا وَرَبِّکَ لا یُوءْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلِیما»(4).

وقوله تعالی: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُوءَدُّوا الاْءَماناتِ إِلی أَهْلِها وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ»(5).

وقوله تعالی: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَالرَّسُولِ»(6).

وقوله تعالی: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الاْءَرْضِ فَسادا أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الاْءَرْضِ ذلِکَ لَهُمْ خِزْیٌ فِی الدُّنْیا وَلَهُمْ فِی الاْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِیمٌ»(7).

وقوله تعالی: «السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما جَزاءً بِما کَسَبا نَکالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ»(8).

وقوله تعالی: «الزّانِیَةُ وَالزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْکُمْ

ص:164


1- 10 . سورة النساء /105.
2- 11 . سورة ص /26.
3- 1 . سورة المائدة /42.
4- 2 . سورة النساء /65.
5- 3 . سورة النساء /58.
6- 4 . سورة النساء /59.
7- 5 . سورة المائدة /33.
8- 6 . سورة المائدة /38.

بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ تُوءْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الاْآخِرِ وَلْیَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُوءْمِنِینَ»(1).

وقوله تعالی: «وَالَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِینَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَدا وَأُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ»(2).

ومن السنة: عدة من الروایات:

منها: صحیحة سلیمان بن خالد عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: اتّقوا الحکومة، فإنَّ الحکومة إنّما هی للإمام العالم بالقضاء، العادل فی المسلمین لنبیِّ، أو وصیّ نبیٍّ.(3)

ومنها: موثقة إسحاق بن عمار أو معتبرته عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: قال أمیرالمؤمنین علیه السلام لشریح: یا شریح! قد جلست مجلسا لا یجلسه إلاّ نبیّ أو وصیّ نبیّ، أو شقیّ.(4)

ومنها: معتبرة أبیخدیجة قال: بعثنی أبوعبداللّه علیه السلام إلی أصحابنا، فقال: قل لهم، إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومة، أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء، أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بینکم رجلاً، قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنِّی قد جعلته علیکم قاضیا، وإیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضا إلی السلطان الجائر.(5)

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبیعبداللّه علیه السلام فی حدیث: ینظران من کان منکم ممّن قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکما، فإنّی قد جعلته علیکم حاکما، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه، فإنّما استخفَّ بحکم اللّه، وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ علی اللّه، وهو علی حدّ الشرک باللّه. الحدیث.(6)

ص:165


1- 7 . سورة النور /2.
2- 8 . سورة النور /4.
3- 9 . وسائل الشیعة 27/17، ح3، الباب 3 من أبواب صفات القاضی.
4- 1 . وسائل الشیعة 27/17، ح2.
5- 2 . وسائل الشیعة 27/139، ح6، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
6- 3 . وسائل الشیعة 27/136، ح1، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.

ومنها: موثقة حفص بن غیاث، قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام من یقیم الحدود؟ السلطان؟ أو القاضی؟ فقال: إقامة الحدود إلی من إلیه الحکم.(1)

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبیجعفر علیه السلام قال: قلت له: رجل جنی إلیَّ أعفو عنه؟ أو أرفعه إلی السلطان؟ قال: هو حقّک إن عفوت عنه فحسن، وإن رفعته إلی الإمام فانّما طلبت حقّک، وکیف لک بالإمام.(2)

ومنها: موثقة سماعة بن مهران، عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: من أخذ سارقا فعفا عنه فذلک له، فإذا رفع إلی الإمام قطعه، فإنْ قال الّذی سرق له: أنا أهبه له لم یدعه إلی الإمام حتّی یقطعه إذا رفعه إلیه، وإنّما الهبة قبل أن یرفع الإمام، وذلک قول اللّه - عزّوجلّ - «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ»(3) فإذا انتهی الحدّ إلی الإمام، فلیس لأحد أن یترکه.(4)

ومنها: صحیحة الفضیل، قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: من أقرَّ علی نفسه عند

الإمام بحقّ من حدود اللّه مرّة واحدة، حرّا کان أو عبدا، أو حرّة کانت أو أمة، فعلی الإمام أن یقیم الحدّ علیه للّذی أقرَّ به علی نفسه کائنا من کان إلاّ الزانی المحصن، فإنّه لا یرجمه حتّی یشهد علیه أربعة شهداء، فإذا شهدوا ضربه الحدّ مائة جلدة، ثمّ یرجمه، قال: وقال أبوعبداللّه علیه السلام : ومَنْ أقرَّ علی نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود اللّه فی حقوق المسلمین فلیس علی الإمام أن یقیم علیه الحدّ الّذی أقرَّ به عنده حتّی یحضر صاحب الحقّ أو ولیّه فیطالبه بحقّه.

قال: فقال له بعض أصحابنا: یا أباعبداللّه فما هذه الحدود الّتی إذا أقرَّ بها عند الإمام مرّة واحدة علی نفسه اُقیم علیه الحدّ فیها؟

فقال: إذا أقرَّ علی نفسه عند الإمام بسرقة قطعه، فهذا من حقوق اللّه، وإذا أقرَّ علی نفسه أنّه شرب خمرا حدّه، فهذا من حقوق اللّه، وإذا أقرَّ علی نفسه بالزنا وهو غیر محصن

ص:166


1- 4 . وسائل الشیعة 28/49، ح1، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود.
2- 5 . وسائل الشیعة 28/38، ح1، الباب 17 من أبواب مقدمات الحدود.
3- 6 . سورة التوبة /112.
4- 7 . وسائل الشیعة 28/39، ح3.

فهذا من حقوق اللّه، قال: وأمّا حقوق المسلمین فإذا أقرَّ علی نفسه عند الإمام بفریة لم یحدّه حتّی یحصر صاحب الفریة أو ولیّه، وإذا أقرَّ بقتل رجل لم یقتله حتّی یحضر أولیاء المقتول، فیطالبوا بدم صاحبهم.(1)

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبیجعفر علیه السلام قال: مَنْ شهر السلاح فی مصر من الأمصار فعقر اقتصّ منه ونفی من تلک البلد، و من شهر السلاح فی مصر من الأمصار وضرب وعقر وأخذ المال ولم یقتل فهو محارب، فجزاؤه جزاء المحارب، وأمره إلی الإمام إن شاء قتله وصلبه، وإن شاء قطع یده ورجله، قال: وإن ضرب وقتل وأخذ المال فعلی الإمام أن یقطع یده الیمنی بالسرقة ثمّ یدفعه إلی أولیاء المقتول فیتبعونه بالمال ثمّ یقتلونه.

قال: فقال له أبوعبیدة: أرأیت إنْ عفا عنه أولیاء المقتول؟ قال: فقال أبوجعفر علیه السلام : إن عفوا عنه کان علی الإمام أن یقتله لأنّه قد حارب وقتل وسرق.

قال: فقال أبوعبیدة: أرأیت إن أراد أولیاء المقتول أن یأخذوا منه الدیة ویدعونه، ألهم ذلک؟ قال: لا، علیه القتل.(2)

ومنها: صحیحة جمیل بن درّاج، قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن قول اللّه - عزّوجلّ -: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الاْءَرْضِ فَسادا أَنْ

یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ»(3) إلی آخر الآیة، أیُّ شیءٍ علیه مِنْ هذه الحدود الّتی سمّی اللّه - عزّوجلّ -؟ قال: ذلک إلی الإمام إن شاء قطع وإن شاء نفی، وإن شاء صلب، وإن شاء قتل، قلت: النفی إلی أین؟ قال: من مصر إلی مصر آخر، وقال: إنَّ علیّا علیه السلام نفی رجلین من الکوفة إلی البصرة.(4)

ص: 167


1- 1 . وسائل الشیعة 28/56، ح1، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود.
2- 2 . وسائل الشیعة 28/307، ح1، الباب 1 من أبواب حد المحارب.
3- 1 . سورة المائدة /33.
4- 2 . وسائل الشیعة 28/308، ح3.
7- ولایة الإذن والنَّظارة علی المصالح العامة

قال الشیخ الأعظم قدس سره : «الولایة تتصوّر علی وجهین:

الأوّل: استقلال الولی بالتصرّف مع قطع النظر عن کون تصرّف غیره منوطا بإذنه أو غیر منوطٍ به، ومرجع هذا إلی کون نظره سببا فی جواز تصرّفه.

الثانی: عدم استقلال غیره بالتصرّف، وکون تصرّف الغیر منوطا بإذنه وإن لم یکن هو مستقلاً بالتصرّف، ومرجع هذا إلی کون نظره شرطا فی جواز تصرّف غیره. وبین موارد الوجهین عموم من وجه.

ثمّ إذنه المعتبر فی تصرّف الغیر:

إمّا أن یکون علی وجه الاستنابة، کوکیل الحاکم.

وإمّا أن یکون علی وجه التفویض والتولیة، کمتولّی الأوقات من قِبَل الحاکم.

وإمّا أن یکون علی وجه الرضا کإذن الحاکم لغیره فی الصلاة علی میّتٍ لا ولیّ له».(1)

ثمّ قال بعد ورقة: «وأمّا بالمعنی الثانی - أعنی اشتراط تصرّف الغیر بإذنهم - فهو وإن کان مخالفا للأصل، إلاّ أنّه قد ورد أخبار خاصّة بوجوب الرجوع إلیهم، وعدم جواز الاستقلال لغیرهم بالنسبة إلی المصالح المطلوبة للشارع الغیر المأخوذة علی شخص معیّن من الرعیّة، کالحدود والتعزیرات، والتصرّف فی أموال القاصرین، وإلزام النّاس

ص:168


1- 1 . المکاسب 3/546.

بالخروج عن الحقوق، ونحو ذلک.

ویکفی فی ذلک ما دلّ علی أنّهم أُولو الأمر وولاته؛ فإنّ الظاهر من هذا العنوان عرفا: من یجب الرجوع إلیه فی الاُمور العامّة التی لم تحمل فی الشرع علی شخص

خاصّ»(1).

أقول: ولایة الإذن والنظارة هی لزوم الاستیذان منهم علیهم السلام وجریان الأعمال والأُمور تحت نظارتهم العالیة وإشرافهم التّامّ، والوجه فی ذلک هو التحفظ علی النظام والإبقاء علی الملّة والشریعة وریاستها، نحو: ما مرّ من الشیخ الأعظم قدس سره أمثال صرف أو تصرف بعض الأموال العامة أو المشترکات أو بیت المال والحقوق الشرعیة أو الأموال الخاصة أو حتّی بعض الواجبات الکفائیة.

والأموال العامة مثل التصرف فی الأنفال.

والمشترکات کالماء والنار والکلاء.

وبیت المال والحقوق الشرعیة نحو التصرف فی سهم الإمام علیه السلام من الخمس أو المجهول المالک من الأموال ونحوها.

والأموال الخاصة مثل تقاص الدائن من أموال المدین، أو بیع مال الغائب أو الممتنع وإنفاقه علی مَنْ یجب نفقته علیه.

والواجبات الکفائیة: نحو بعض مراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وکتجهیز المیت الذی لا ولیّ خاص له ومثل الصلاة علیه.

مضافا ما ذکرنا یمکن التمثیل لِمَصادِیْقِ هذه الولایة فی الأبواب الفقهیة بما یلی:

1- وجوب دفع مابقی من الزکاة فی ید ابن السبیل - بعد وصوله إلی بلده - إلی الفقیه.

2- وجوب دفع الزکاة ابتداءً أو بعد الطلب إلیه.

3- تخیّره بین أخذ خمس أرض الذمی.

ص:169


1- 1 . المکاسب 3/548.

4- ولایته علی مال الإمام علیه السلام ومیراث مَنْ لا وارث له.

5- توقّف إخراج الوَدَعی الحقوق علی إذنه.

6- ولایَتُهُ علی إجراء الحدود علی إشکال یسند إلی ابنی زُهْرَةَ وإدریس.

7- أداء دین الممتنع من ماله.

8- توقّف حلف الغریم علی إذنه.

9- القبض فی الوقف علی الجهات العامّة.

10- نظارته لذلک.

11- توقّف التَّقاصِّ من مال الغائب علی إذنه.

12- ومن الحاضر فی وجه کما قیل.

13- بیع الوقف حیث یجوز ولا ولیّ له.

14- قبض الثمن إذا امتنع البائع.

15- وقبضه من قِبَل کلّ ممتنع عن قبول القبض وقبض حقّه.

16- الدین المأیوس عنه صاحبه.

17- وبیع الرهن المتسارع إلیه الفساد بإذنه.

18- وتولیة إجارة الرهن لو امتنعا.

19- وتعیین عدل یقبض الرهن لو لم یرضیا.

20- وتعیین ما یباع به الرهن مع تعدّدالنقد.

21- باب الحجر علی المفلّس.

22- أو السفیه فی قولٍ.

23- وولایته علی الذی حدث جنونه أو سفهه بعد بلوغه مع وجود أبیه أو جدّه أو الوصی عنهما علی المشهور.

24- وقبض ودیعة الغائب لو احتج إلی الأخذ.

25- إجباره الوصیّین علی الاجتماع أو الاستبدال بهما.

26- ضمّ المُعین إلی الوصیّ العاجز.

ص:170

27- عزل الخائن علی القول بعدم انعزاله بنفسه.

28- إقامة الوصیّ فیمن لا وصیّ له.

29- أو مات وصیّه.

30- أو کان وانعزل.

31- وفی تزویج المجنون.

32- والسفیهة البالغة.

33- فرض المهر لمفوّضة البضع.

34- وضرب أجل العنّین.

35- وبعث الحکمین من أهل الزوجین.

36- وإجبار الممتنع علی أداء النفقة.

37- طلاق زوجة المفقود.

38- وإجبار المُظاهر علی أحد الأمرین.

39- وإجبار المولی کذلک.

40- واحتیاج إنفاق الملتقط علی اللقیط إلی إذنه.

وغیر ذلک ممّا یطّلع علیه المتتبّع، وقد جمع الموارد الفاضل المراغی قدس سره فی عناوینه(1).

أدلتها

1- تدل علیها الإطلاقات الواردة فی لزوم طاعة الأئمة(2) علیهم السلام وأنّهم ولاة الأمر(3) وأنّهم أهل الذکر الذین أمر اللّه الخلق بسؤالهم.(4)

قد مرّ بعضها فی الأبحاث السابقة فلا نعیدها.

ص:171


1- 1 . العناوین 2/562.
2- 2 . الکافی 1/455 (1/185) باب فرض طاعة الأئمة علیهم السلام .
3- 3 . الکافی 1/509 (1/205) باب أنّ الأئمة ولاة الأمر و... .
4- 4 . الکافی 1/522 (1/210) باب أنّ أهل الذکر الذین أمر اللّه الخلق بسؤالهم هم الأئمة علیهم السلام .

2- الأدلة الماضیة آنفا فی ذیل عنوان ولایة القضاء وإجراء الحدود تدلّ علی أنّ لهم ولایة الإذن والنظارة فی المصالح العامة.

3- معتبرة طلحة بن زید عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: إذا حضر الإمام الجنازة فهو أحقّ النّاس بالصلاة علیها.(1)

وعن علی علیه السلام أنّه قال: إذا حضر السلطان الجنازة فهو أحقّ بالصلاة علیها من ولیها.(2)

ونحوها فی الجعفریات(3).

4- مرسلة القاضی نعمان المصری عن علی علیه السلام : لا یصلح الحکم ولا الحدود ولا الجمعة إلاّ بإمام.(4)

وروی نحوها فی الجعفریات(5).

اعتراض السیّد الخوئی علی الشیخ الأعظم

ذهب الشیخ الأعظم(6) إلی أنّ اشتراط إجازتهم فی صحة التصرفات علی خلاف الأصل، وهو یقتضی عدم الاشتراط.

واعترض السیّد الخوئی قدس سره علیه وقال: «ولا یخفی أنّ مقتضی الأصل یختلف باختلاف الموارد، فمقتضاه فی بعض الموارد عدم الاشتراط وفی بعضها الآخر هو الاشتراط وتوضیحه: أنّه إن کان هناک إطلاق یقتضی صحة ذلک التصرف علی نحو الإطلاق من دون حاجة إلی إجازة الأئمّة علیهم السلام کما فی صلاة المیّت فإنّه دلّ الدلیل علی صحتها ووجوبها علی المسلمین ولم یق-یّدها بإجازة الإمام علیه السلام لأنّ الدلیل إنّما دلّ علی

ص:172


1- 5 . وسائل الشیعة 3/114، ح3، الباب 23 من أبواب صلاة الجنازة.
2- 6 . دعائم الإسلام 1/235 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 2/279، ح5.
3- 7 . الجعفریات /209 و 210 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 2/279، ح2 و 3.
4- 8 . دعائم الإسلام 1/182.
5- 1 . الجعفریات /22.
6- 2 . المکاسب 3/458.

أنّ السلطان أولی بالصلاة من غیره وأمّا أنّها مق-یّدة بإجازته فلا، ففی مثله نتمسّک بذاک الدلیل فی رفع قیدیة إجازة الإمام علیه السلام .

کما أنّه إن کان لدلیل ذلک التصرف دلالة یقتضی عدم صحّة التصرف بدون إجازة الإمام علیه السلام کما فی التصرف فی أموال النّاس بالبیع ونحوه أو فی أنفسهم بالقصاص والتعزیر ونحوهما، فإنّ الثابت من ذلک جوازهما مع إجازة الإمام، وأمّا بدونها فإطلاق ما دلّ علی حرمة الإیذاء وعدم جواز التصرف فی أموال النّاس من دون رضاهم یقتضی حرمتهما فنتمسّک بذلک الدلیل.

وأمّا إذا لم یکن هناک دلیل علی أحدهما ووصلت النوبة إلی الأصل العملی فإن کان الشک راجعا إلی تقیید وجوب التصرف أو العمل بإجازة الإمام علیه السلام کصلاة الجمعة مثلاً حیث علمنا بصحّتها ووجوبها مع إجازة الإمام علیه السلام وشککنا فی وجوبها بدون إذنه علیه السلام فهو شک فی التکلیف نرجع فیه إلی البراءة وبها نثبت عدم الوجوب بلا إذن الإمام علیه السلام ومرجعه إلی اشتراط الوجوب بالإذن والإجازة.

وإن کان الشکّ راجعا إلی تقیید صحة العمل بالإجازة بعد الفراغ عن ثبوت أصل الوجوب فنرجع فی التقیید إلی البراءة ونرفعه بها، ومرجع ذلک إلی أنّ العمل صحیح من دون حاجة إلی إجازة الإمام علیه السلام »(1).

ص: 173


1- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/162 و 163.
8- ولایة الإمامة

وهی ولایة الحکومة بمعنی حقّ الزعامة السیاسة والاجتماعیة وقیادة الدولة الاسلامیة بانضمام القیادة الدینیة المعنویة الروحیة والمرجعیة الدینیة ونتیجتها حجیة أقواله وأفعاله.

بعبارة أُخری: إنّ هاهنا ولایتین: الأوّلی: ولایة الحکومة والزعامة والریاسة وهی القیادة السیاسیة ورئاسة البلاد وتسمّی ولایة الأمر.

والثانیة: القیادة والمرجعیة الدینیة والروحیة.

فإذا جُمعتا فی شخص واحد یسمّی إماما وتسمّی ولاءه ولایة الإمامة.

فهاهنا أشخاص ثلاث وولایات ثلاثة:

1- ولی الأمر وهو القائد السیاسی ورئیس البلاد وولایته ولایة الأمر.

2- المرجع الدینی والقائد الروحی والمعنوی وولایته ولایة الدینیة والمعنویة.

3- الإمام وهو الذی جمع بین القیادة السیاسیة والمرجعیة الدینیة وولایته ولایة الإمامة.

فالإمام هو القائد الدینی والروحی والمعنوی والسیاسی وولایته أَعَمُّ من ولایة الأمر والولایة الدینیة وقد جمع بین الولایتین فی ولایته التی تسمّی بولایة الإمامة.

فالنسبة بین ولاء الإمامة وولایتی الأمر والدینیة عام وخاص مطلق.

والنسبة بین ولایة الأمر وَالولایة الدینیة عام وخاص من وجه، إذ قد یکون الشخص رئیسا للبلاد والقائد السیاسی ولیس له القیادة والمرجعیة الدینیة وقد یکون

ص:174

عکسه یعنی أنّه قائد روحی ومرجع دینیّ ولیس له القیادة السیاسیة وریاسة البلاد. فانسبة بینهما عموم من وجه.

وقد تجمع المرجعیة الدینیة والقیادة السیاسیة فی شخص واحد فهو الإمام وَتُسَمّی ولایَتُهُ ولایة الإمامة.

وولایة الإمامة من مناصب الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین الإثنی عشر علیهم السلام .

والشاهد علی ما ذکرنا تعریف الإمامة فی کتب متکلّمی الأصحاب بأنّها ریاسة عامة فی أُمور الدین والدنیا، بالأوّل أشاروا إلی المرجعیة الدینیة وبالثانی إلی القیادة السیاسیة أذکر لک تعریفین:

قال مَیْثم(1) بن علی البحرانی المتوفی عام 699ه . ق فی کتابه قواعد المرام فی علم الکلام فی تعریف الإمامة: «هی رئاسة عامة فی اُمور الدین والدنیا بالأصالة»(2).

وقال العلاّمة الحلّی المتوفی عام 726: «الإمامة: ریاسة عامة فی أُمور الدین والدنیا لشخص من الأشخاص»(3).

الدلیل علی ولایة الإمامة

قد مرّت فی البحوث السالفة ما یدلّ علی هذه الولایة من الآیات والروایات فلا نعیدها.

وأُنبّه هنا علی أنّ آیة اللّه الحاج آقا حسین البروجردی رحمه الله المتوفی سنة 1380ق قد أثبتَ فی مقدمة کتاب جامع أحادیث الشیعة(4) المرجعیة الدینیة لأئمة أهل البیت علیهم السلام علی جمیع الفرق الإسلامیة وعلی کافّة المسلمین، فراجع ما حرره هناک واستظهر أُمورا

ص:175


1- 1 . ذَکَرَ بعضُ المحقّقین فی علم الرجال: أنَّ کُلَّ مِیْثمٍ بکسر المِیْم إلاّ مَیْثَم بْنَ عَلِیٍّ البَحرانیّ هذا فَهُوَ بِفَتْحِها.
2- 2 . قواعد المرام فی علم الکلام /174.
3- 3 . منهاج الصلاح فی اختصار المصباح /528.
4- 4 . جامع أحادیث الشیعة 1/(45-25).

خمسة:

«الأوّل: انّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یترک الامّة بعده سدی مهملة بلا إمام هادٍ وبیان شافٍ بل عیّن لهم أئمّة هداة دعاة سادة قادة حفاظا وبیّن لهم المعارف الإلهیّة والفرائض الدّینیّة والسّنن والآداب والحلال والحرام والحِکم والآثار وجمیع ما یحتاج إلیه النّاس إلی یوم القیامة حتّی ارش الخدش ولم یأذن صلی الله علیه و آله لأحد أن یحکم أو یفتی بالرّأی والنّظر والقیاس

لعدم کون موضوع من الموضوعات أو أمر من الاُمور خالیا عن الحکم الثّابت له من قبل اللّه الحکیم العلیم بل أملی صلی الله علیه و آله جمیع الشّرائع والأحکام علی الإمام علیّ بن أبیطالب علیه السلام وأمره بکتابته وحفظه وردّه إلی الأئمة من ولده علیهم السلام فکتبه علیه السلام بخطّه وادّاه إلی أهله.

والثّانی: انّه صلی الله علیه و آله أملی هذا العلم علی علیّ بن أبیطالب علیه السلام فقط ولم یطّلع علیه فی عصره صلی الله علیه و آله غیره أحد، وأُوصی إلیه أن یکون هذا الکتاب بعده عند الأئمّة الأحد عشر فیجب علی الأُمّة کلّهم أن یأخذوا علم الحلال والحرام وجمیع ما یحتاجون إلیه فی أمر دینهم بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله من علیّ بن أبیطالب والأئمّة من ولده علیهم السلام فإنّهم موضع سرّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وخزّان علمه وحفّاظ دینه.

والثّالث: إنّ الکتاب کان موجودا عند الأئمّة علیهم السلام وأراه الإمامان أبوجعفر محمّد بن علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبیطالب وابنه أبوعبداللّه جعفر ابن محمّد الصّادق علیهم السلام جماعة من أصحابهما الإمامیّة وغیرهم من الجمهور لحصول الاطمینان أو الاحتجاج علی ما کانا یتفرّدان به من الفتاوی عن سائر الفقهاء ویقسمان باللّه أنّه إملاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وخطّ علی بن أبیطالب علیه السلام .

والرّابع: کون الکتاب معروفا عند الخاصّة والعامّة فی عهد الإمامین علیهماالسلام لانّهما کثیرا ما یقولان فی جواب استفتاآت الجمهور کغیاث بن إبراهیم وطلحة بن زید والسّکونی وسفیان بن عیینة والحکم بن عتیبة ویحیی بن سعید وأمثالهم: إنّ فی کتاب علیّ علیه السلام کذا، وکذا فی جواب مسائل الأصحاب کزرارة ومحمّد بن مسلم وعبداللّه بن سنان وأبیحمزة وابن بکیر وعنبسة بن بجاد العابد ونظائرهم.

والخامس: إنّ ما عند الأئمّة علیهم السلام من علم الحلال والحرام والشّرائع والأحکام نزل

ص:176

به جبرئیل علیه السلام واخذوه من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فتحرم علی الأمّة مخالفتهم فی الحکم والفتوی اعتمادا علی الرّأی والقیاس والاجتهاد ویجب علیهم الأخذ بأحادیثهم وفتاویهم وردّ ما یَرِدُ عن مخالفیهم لأنّ ما عندهم أوثق ممّا عند غیرهم، ومعلوم أنّ ما ورد فی کون أحادیث الأئمّة الأثنی عشر وعلومهم علیهم السلام عن النّبی صلی الله علیه و آله من طرق العامّة والخاصّة قد تجاوزت حدّ التّواتر بل لایسعها المجلّد الضّخْم ولسنا بصدد استقصائها فی هذا الکتاب وانّما نذکر أیضا بعضها فی المقام للتّنبیه والتّذکار وإلاّ فإثباته لا یحتاج إلی الذّکر والبیان»(1).

وقد ثَبَتَتْ فی البحوث السالفة خلافتهم علیهم السلام بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله بلافصل وهذه لیست إلاّ القیادة السیاسیة والزعامة الدنیویة.

وحیث ثبتَ کلا القیادتین والزعامتین والریاستین والمرجعیتین فقد ثَبَتَتْ ولایة الإمامة والحمد للّه.

ص: 177


1- 1 . جامع أحادیث الشیعة 1/36 و 37.
السابع: مناصب الفقیه
اشارة

للفقیه الجامع للشرائط عدّة مناصب:

1- الإفتاء

یجوز للفقیه الإفتاء فی ما یحتاج إلیه العامیُّ فی عمله جوازا تکلیفیا ووضعیّا بمعنی نفوذه علی مقلّدیه ومن یجب علیه الرجوع إلیه، لأنّ الجواز التکلیفی لا یشترط فیه الشرائط. بل الإفتاء علیه واجب ولو بالاحتیاط.

والمراد بالعامی هو من لم یبلغ رتبة الاجتهاد وإن کان له حظٌّ من العلم.

ومورد الإفتاء: المسائل الفرعیة وهی القضایا المتکفلة للأحکام الخمسة التکلیفیة التی تتعلق بأفعال المکلفین أو الأحکام الوضعیة المجعولة لمضوعاتها.

وهکذا مورد الإفتاء: الموضوعات المستنبطة، الشرعیة منها کالصلاة والصوم والکرّ والسفر والرضاع، والعرفیة کالغناء والآنیة حیث یرجع فیها إلی الفقیه من جهة سعتها وضیقها بالإضافة إلی الحکم المترتب علیها.

والمفتی والمستفتی والإفتاء کانوا موجودین من عصر الأئمة علیهم السلام وهم یقرّرونَها بل یرشدونها کما یظهر من کلمات الأصحاب قدس سرهم :

قال الشریف المرتضی رحمه الله : «أنّه لا خلاف بین الأُمّة قدیما وحدیثا فی وجوب رجوع العامیّ إلی المفتی، وأنّه یلزمه قبول قوله، لأنّه غیر متمکّنٍ من العلم بأحکام الحوادث، ومن خالف فی ذلک کان خارقا للإجماع»(1).

وقال الشیخ الطوسی رحمه الله : «أنّی وَجدتُ عامّة الطّائفة مِنْ عَهد أمیرالمؤمنین علیه السلام إلی زَماننا هذا یَرجعون إلی عُلمائها، وَیَستفتونهم فی الأحکام والعبادات، ویُفتونهم العُلماءُ فیها، ویُسوّغون لهم العَمَل بما یفتونهم به، وما سَمِعنا أحدا منهم قال لمُسْتَفتٍ: لا یجوزُ لک الاستفتاء ولا العَملُ به، بل یَنبَغی أن تَنظُرَ کما نَظَرتُ وتَعْلَم کما عَلِمتُ، ولا أنکرَ علیه العمل بما یُفتُونهم، وقد کان منهم الخَلقُ العَظیم عاصَروا الأئمة علیهم السلام ، ولم یُحْکَ عَنْ واحد

ص:178


1- 1 . الذریعة إلی اُصول الشریعة 2/796.

ٍ مِن الأئِمة النّکیرَ علی أحدٍ مِنْ هؤلاء ولا إیجاب القول بخلافه، بل کانوا یُصّوبونَهم فی ذلک، فَمَن خالفه فی ذلک کانَ مُخالفا لما هو المعلوم خلافه»(1).

وقال المحقّق الحلی رحمه الله : «اتفاق علماء الأعصار علی الإذن للعوام فی العمل بفتوی العلماء من غیر تناکر، وقد ثبت أنّ إجماع أهل کلِّ عصرٍ حجة»(2).

وقال العلاّمة: «الحق أنّه یجوز للعامی أن یقلد فی فروع الشرع خلافا لمعتزلة بغداد وجوزه الجبائی فی مسائل الاجتهاد دون غیرها.

لنا: قوله تعالی: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ» أوجب التعلیم علی بعض الفرقة فجاز لغیرهم التقلید، ولأن الحادثة إذا نزلت بالعامی فإن لم یکن مکلَّفا فیها بشیء فهو باطل بالإجماع، وإن کان مکلَّفا بالاستدلال، فإن کان بالبرائة الأصلیة فهو باطل بالإجماع، وإن کان بغیرها فإن لزمه ذلک حین استکمل عقله فهو باطل بالإجماع، وإن کان حین حدوث الحادثة لزم تکلیف ما لا یطاق»(3).

وقال الشهید: «یجب التفقة... ووجوبه کفایة... وعلیه أکثر الإمامیة، وخالف فیه بعض قدمائهم(4) وفقهاء حلب(5) - رحمة اللّه علیهم - فاوجبوا علی العوام الاستدلال، واکتفوا فیه: بمعرفة الاجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلی الوقائع، أو النصوص الظاهرة، أو أن الأصل فی المنافع الإباحة وفی المضار الحرمة، مع فقد نص قاطع فی متنه ودلالته والنصوص محصورة.

ویدفعه: إجماع السلف والخلف علی الاستفتاء من غیر نکیر ولا تعرض لدلیل بوجه من الوجوه، وما ذکروه لا یخرج عن التقلید عند التحقیق، وخصوصا عند من اعتبر

ص:179


1- 2 . عدّة الاُصول 2/730.
2- 1 . معارج الاُصول /197.
3- 2 . تهذیب الوصول إلی علم الاُصول /291.
4- 3 . کالسیّد المرتضی فی جوابات المسائل الرسیة الأولی، راجع الرسائل الشریف المرتضی 2/320.
5- 4 . کابن زهرة الحلبی فی الغنیة 2/414.

حجیة خبر الواحد، فان فی البحث عنه عرضا عریضا»(1).

ولذا قال الشیخ الأعظم بعد ذکر أدلة جواز التقلید: «ولکن العمدة من هذه الأدلة: الإجماع والسنة»(2).

ولکن قال هنا: «ولا إشکال ولا خلاف فی ثبوت هذا المنصب للفقیه إلاّ ممّن لا

یری جواز التقلید للعامی»(3).

والمستثنی فی کلامه هم القائلون بحرمة التقلید من فقهاء حلب والمحدِّثین.

فمن الأوّل ابن زهرة قال: «فصل: لا یجوز للمستفتی تقلید المفتی، لأنّ التقلید قبیح، ولانّ الطائفة مجمعة علی أنّه لا یجوز العمل إلاّ بعلم.

ولیس لأحد أن یقول: قیام الدلیل - وهو إجماع الطائفة علی وجوب رجوع العامی إلی المفتی، والعمل بقوله مع جواز الخطأ علیه - یؤمّنه من الاقدام علی قبیح، ویقتضی إسناد عمله إلی علم.

لأنّا لا نسلّم إجماعها علی العمل بقوله مع جواز الخطاء علیه، وهو موضع الخلاف، بل إنّما أمروا برجوع العامی إلی المفتی فقط، فأمّا لیعمل بقوله تقلیدا فلا.

فإن قیل: فما الفائدة فی رجوعه إلیه إذا لم یجز له العمل بقوله؟

قلنا: الفائدة فی ذلک أن یصیر له بفتیاه وفتیا غیره من علماء الإمامیة سبیلٌ إلی العلم بإجماعهم، فیعمل بالحکم علی یقین»(4).

ومن الثانی الشیخ الحر العاملی قال بعد نقل روایة الاحتجاج فی مذمّة تقلید الیهود علمائهم والفرق بین تقلیدهم وتقلید عوام الشیعة للفقهاء: «التقلید المرخص فیه هنا إنّما هو قبول الروایة لا قبول الرأی والاجتهاد والظن وهذا واضح وذلک لا خلاف

ص:180


1- 5 . ذکری الشیعة 1/41.
2- 6 . رسالة الاجتهاد والتقلید /48.
3- 1 . المکاسب 3/545.
4- 2 . غنیة النزوع 2/414.

فیه...»(1).

واستفاد فی کتابه الآخر من الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم: «... عدم جواز التقلید مطلقا، ولیس له أیضا مخصِّص صریح یعتدُّ به...»(2).

أقول: أنتَ تری فی نقل کلمات فقهاء حلب والمحدثین أنّهم لا ینکرون منصب الإفتاء للفقیه بل هم ینکرون تقلید العامی له بوجوه غیر مرضی والفرق بینهما واضح فحینئذ لا یتم استثناء الشیخ الأعظم قدس سره لأنّ من لا یری جواز تقلید العامی للفقیه، یقرّ منصب الإفتاء للفقیه ولکن یری أنّ عمل العامی علی فتیاه منوط بالعلم عند فقهاء حلب وبذکر مستند الروایة عند المحدثین وسبحان من لا یسهو.

والتفصیل یطلب من بحث الاجتهاد والتقلید فی أوّل الفقه وآخر الاُصول والحمدللّه الأوّل والآخر.

2- القضاء

قد مرّ(3) تعریف ولایة القضاء وأقول فی تعریف القضاء: «هو فصل الخصومة بین المتخاصمین والحکم بثبوت دعوی المدعی أو بعدم حقّ له علی المدعی علیه»(4).

ولکن یمکن أن یقال بأنّ فصل الخصومة وإنهائها هو من ثمرات القضاء ویکون من آثار الحکومة لا نفسها.

ولذا یمکن أن یقال فی تعریف القضاء: «هو إنشاء الحکم الجزئی لحصول الموضوع أو المتعلّق لکلیة المجعول فی الشریعة بمفاد القضیة الحقیقیة، أو الحکم بعدم الحصول فیما إذا وقعت الخصومة والمنازعة فی حصول أحدهما بین شخصین أو أشخاص، أو تعیین الحکم فی واقعة خارجیّة بتطبیق الکبری المقررة فی الشرع علی تلک

ص:181


1- 3 . وسائل الشیعة 27/132 ذیل ح20 من الباب 10 من أبواب صفات القاضی.
2- 4 . الفوائد الطوسیة /324، الفائدة 75.
3- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 163.
4- 2 . مبانی تکملة المنهاج 1/5، المجلد 41 من موسوعة الإمام الخوئی قدس سره .

الواقعة فیما إذا وقعت المخاصمة فی حکم تلک الواقعة، إمّا لجهل المتخاصمین بتلک الکبری الکلیة المجعولة: فی الشرع أو اختلافهم فی تلک الکبری.

وقد یطلق الحکم علی ما ذکر وعلی مطلق الحکم بحصول الموضوع فیما إذا وقعت الشبهة فیه بین النّاس من غیر مخاصمة کالحکم برؤیة الهلال، کما یطلق أیضا علی تعیین الوظیفة الفعلیة علی النّاس فی مورد أو موارد لرعایة المصلحة العامة الموجبة له، ویعبّر عن هذا القسم بالحکم الابتدائی»(1).

والفرق بین القضاء والإفتاء: «أنّ الفتوی: عبارة عن بیان الأحکام الکلّیّة من دون نظر إلی تطبیقها علی مواردها، وهی - أی الفتوی - لا تکون حجّة إلاّ علی من یجب علیه تقلید المفتی بها، والعبرة فی التطبیق إنّما هی بنظره دون نظر المفتی.

وأمّا القضاء: فهو الحکم بالقضایا الشخصیّة التی هی مورد الترافع والتشاجر، فیحکم القاضی بأنّ المال الفلانی لزید، أو أنّ المرأة الفلانیّة زوجة فلان، وما شاکل ذلک، وهو نافذ علی کلّ أحد حتّی إذا کان أحد المتخاصمین أو کلاهما مجتهدا.

نعم، قد یکون منشأ الترافع الاختلاف فی الفتوی، کما إذا تنازع الورثة فی الأراضی، فادّعت الزوجة ذات الولد الإرث منها، وادّعی الباقی حرمانها فتحا کما لدی القاضی، فإنّ حکمه یکون نافذا علیهما وإن کان مخالفا لفتوی من یرجع إلیه المحکوم علیه»(2).

ثمّ فلیعلم أنّ القضاء منصب وولایة قد جعلها اللّه للرسول صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام کما مرّ(3) وجعلها الأئمة علیهم السلام للفقهاء العدول من الشیعة الإمامیة وتدلّ علی هذا الجعل عدّة من الروایات:

منها: معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم الجمّال قال: قال أبوعبداللّه جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضا إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل

ص:182


1- 3 . تنقیح مبانی الأحکام، القضاء والشهادات /6 لشیخنا الاستاذ آیة اللّه التبریزی قدس سره .
2- 1 . مبانی تکملة المنهاج 1/5، المجلد 41 من موسوعة الإمام الخوئی قدس سره .
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 163.

منکم، یعلم شیئا من قضایانا، فاجعلوه بینکم، فإنّی قد جعلته قاضیا، فتحاکموا إلیه.(1)

ومنها: معتبرة أُخری له قال: بعثنی أبوعبداللّه علیه السلام إلی أصحابنا، فقال: قل لهم: إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومة، أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء، أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بینکم رجلاً، قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنِّی قد جعلته علیکم قاضیا، وإیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضا إلی السلطان الجائر.(2)

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبیعبداللّه علیه السلام ... قال: ینظران من کان منکم ممّن قد ر وی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکما، فإنّی قد جعلته علیکم حاکما، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه، فإنّما استخفَّ بحکم اللّه، وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ علی اللّه، وهو علی حدّ الشرک باللّه. الحدیث.(3)

ومنها: ما ورد فی العهد الأشتر النخعی بسند معتبر عن أمیرالمؤمنین علیه السلام : ... واختر للحکم بین النّاس أفضل رعتیک فی نفسک ممّن لاتضیق به الأُمور، والعهد.(4)

ومنها: التوقیع المروی بسند حسن عن صاحب الزمان «عج»: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة اللّه، وأمّا محمّد بن

عثمان العمری - رضی اللّه عنه - ، وعن أبیه من قبل، فإنّه ثقتی، وکتابه کتابی.(5)

والقدر المتیقن من الحوادث الواقعة هی الحکومة والقضاء، والتفصیل یطلب من بحوثنا فی کتاب القضاء.

3- الولایة
اشارة

وهی ولایة التصرف فی الأموال والأنفس وهی «المقصود بالتفصیل هنا»(6) فی

ص:183


1- 3 . وسائل الشیعة 27/13، ح5، الباب 1 من أبواب صفات القاضی.
2- 4 . وسائل الشیعة 27/139، ح6، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
3- 5 . وسائل الشیعة 27/136، ح1.
4- 6 . وسائل الشیعة 27/223، ح9، الباب 8 من أبواب صفات القاضی.
5- 1 . وسائل الشیعة 27/140، ح9.
6- 2 . المکاسب 3/546.

بحث ولایة الفقیه.

وهی فی الجملة ممّا لا ینکر ویعدّ من المسلمات والضروریات فی الفقه: قال المحقّق الثانی: «اتفق أصحابنا علی أنّ الفقیه العادل الإمامی الجامع لشرائط الفتوی - المعبّر عنه بالمجتهد فی الأحکام الشرعیة - نائب من قبل أئمة الهدی علیهم السلام فی حال الغیبة فی جمیع ما للنیابة فیه مدخل، وربّما استثنی الأصحاب القتل والحدود»(1).

قال صاحب الجواهر: «ولکن ظاهر الأصحاب - عملاً وفتویً فی سائر الأبواب - عمومها [أی عموم ولایة الحاکم] بل لعلّه من المسلمات أو الضروریات عندهم، بل صرّح غیر واحد منهم...»(2).

وقال: «وبثبوت النیابة لهم فی کثیر من المواضع علی وجهٍ یظهر منه عدم الفرق بین مناصب الإمام أجمع، بل یمکن دعوی المفروغیّة منه بین الأصحاب، فإنّ کتبهم مملوءة بالرجوع إلی الحاکم - المراد به نائب الغیبة - ... وبأنّ الضرورة قاضیة بذلک فی قبض الحقوق العامّة والولایات ونحوها، بعد تشدیدهم فی النهی عن الرجوع إلی قضاة الجور وعلمائهم وحکّامهم، وبعد علمهم بکثرة شیعتهم فی جمیع الأطراف وطول الزمان.

وبغیر ذلک ممّا یظهر بأدنی تأمّل فی النصوص وملاحظتهم حال الشیعة - وخصوصا علمائهم - فی زمن الغیبة، وکفی بالتوقیع الذی جاء للمفید من الناحیة المقدّسة وما اشتمل علیه من التبجیل والتعظیم، بل لو لا عموم الولایة لبقی کثیر من

الاُمور المتعلّقة بشیعتهم معطّلة.

فمن الغریب: وسوسة بعض النّاس فی ذلک، بل کأنّه ما ذاق من طعم الفقه شیئا، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمرا، ولا تأمّل المراد من قولهم: «إنّی جعلته علیکم حاکما وقاضیا وحجّةً وخلیفةً» ونحو ذلک، ممّا یظهر منه: إرادة نظم زمان الغیبة لشیعتهم فی کثیر

ص:184


1- 3 . رسالة فی صلاة الجمعة، المطبوعة فی ضمن المجلد الرابع من آثار المحقّق الکرکی /17؛ ونقل عنه فی الجواهر 22/676 (21/396).
2- 4 . الجواهر 16/557 (16/178)، کتاب الخمس.

من الاُمور الراجعة إلیهم؛ ولذا جزم فیما سمعته من المراسم(1) بتفویضهم علیهم السلام لهم فی ذلک.

نعم، لم یأذنوا لهم فی زمن الغیبة ببعض الأُمور التی یعلمون عدم حاجتهم إلیها؛ کجهاد الدعوة المحتاج إلی سلطان وجیوش واُمراء ونحو ذلک ممّا یعلمون قصور الید فیها عن ذلک ونحوه، وإلاّ لظهرت دولة الحقّ کما أومأ إلیه الصادق علیه السلام بقوله: «لو أنّ لی عدد هذه الشویهات - وکانت أربعین - لخرجت»(2).

وبالجملة: فالمسألة من الواضحات التی لا تحتاج إلی أدلّة»(3).

مراتب ولایة الفقیه

مراتبها تتصوّر علی الثَّلاث:

الأُولی: کون الفقیه ولیّا فی ما یُحرز من الدلیل الشرعی لابدّیة وجوده فی الخارج أو مطلق محبوبیته ومطلوبیته، سواء کان راجعا إلی الشخص کحفظ مال الصغیر والسفیه والغائب، أو إلی النوع کالاُمور التی یقطع برضا الشارع لها أو لابدّیتها من بناء المدارس والمساجد والقناطر والمستشفیات وفتح الطرق العامة وأمثالها إذا کانت مورد حاجة النّاس.

وهذه المرتبة هی القدر المتیقن من ولایة الفقیه ولم یناقش فیه أحد.

الثانیة: کون الفقیه نائبا عن الإمام علیه السلام ، فله ما للإمام علیه السلام من ولایة الأمر والتدخل فی السیاسات الراجعة إلی النظام والبلدان ولو لم یقطع برضا الشارع له ومطلوبیته أو لم یصل إلی حدّ اللزوم واللابدّیّة.

وهذه المرتبة محلّ نقاش وإیراد واعتراض.

الثالثة: کون الفقیه ولیّا علی النّاس بما یکون الإمام علیه السلام والرسول صلی الله علیه و آله فی ولایتهم

ص:185


1- 1 . المراسم /261.
2- 2 . روی الکلینی نحوها فی روضة الکافی 8/26، ح5.
3- 3 . الجواهر 22/(678-676) [21/396 و 397].

علی الأموال والأنفس کما مَرّ(1) فی أقسام ولایتهم، وبمعنی اولویته بالمؤمنین من أنفسهم. وهذه المرتبة «غیر ثابتة للفقیه مسلّما من جهة انحصار الأدلة الواردة فی الاُولویة بالنسبة إلی خصوص النبی صلی الله علیه و آله وعترته الطاهرة من الأئمة الإثنیعشر علیهم السلام »(2).

نعم، «نُسب ذلک إلی بعض فقهائنا»(3) نحو: الشیخ محسن خَنْفَر النجفی(4) قدس سره المُتوفی سنة 1270ه . ق من معاصری صاحب الجواهر وبینهما مداعبة یذکرها السیّد الخوئی وقال: «وقد حکی عن بعض معاصری صاحب الجواهر أنّه کان بانیا علی ولایة الفقیه علی نحو ولایة الإمام وهی الولایة العامّة، وقد اعترض علیه صاحب الجواهر فی مجلس فقال: زوجتک طالق فأجابه المعاصر بأنی لو کنت أعتقد اجتهادک لاجتنبت عن زوجتی إلاّ أنّ اجتهادک محل کلام عندی، وکان له مقام علمی شامخ».(5)

وکما یحکیها آیة اللّه الشیخ علی آل کاشف الغطاء قدس سره المتوفی سنة 1411ق هکذا: «فقد نقل لی بعض الأفاضل الثقاة أنه وقع النزاع فی الولایة العامة بین المرحوم المحقّق صاحب الجواهر، وبین المرحوم المحقّق الشیخ محسن خنفر المذکور، فی ثبوت الولایة العامة للمجتهد، وقد أخذ الشیخ محسن خنفر یقیم الأدلة علیها فالتفت الشیخ محمّدحسن رحمه الله وقال: إن کان الأمر کما یزعم الشیخ محسن فزوجته طالق، فأجابه المرحوم الشیخ محسن الإشکال فی الصغری»(6).

ص:186


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 161.
2- 2 . کتاب القضاء /46 لآیة اللّه المرحوم السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره المتوفی عام 1405ق.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/32.
4- 4 . أنت تجد ترجمته فی تکملة أمل الآمل 4/299، رقم 1804 والکرام البررة 3/297، رقم 445؛ وأعیان الشیعة 9/47؛ وتکملة نجوم السماء 1/108؛ الطلیعة من شعراء الشیعة 2/173، رقم 241؛ معارف الرجال 2/175، رقم 295؛ الفوائد الرضویة /374؛ ماضی النجف وحاضرها 2/259؛ مصفی المقال /388؛ معجم رجال الفکر والأدب فی النجف 2/530؛ معجم المؤلِّفین 8/183؛ مکارم الآثار 6/1985، رقم 1216.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/164.
6- 6 . النور الساطع فی الفقه النافع 1/386.

ونحو السیّد عبدالحسین الموسوی اللاری المتوفی سنة 1342ه . ق حیث یقول: «وعلی ذلک لم یَبْقَ إجمالٌ ولا إشکالٌ فی أنّ السلطنةَ المطلقةَ الثابتة لِلأئمّة علیهم السلام مِن قِبَلِ النبیِّ صلی الله علیه و آله بتنصیصِهِ علی خلافتهم عنه ثابتةٌ لِلفقیهِ مِن قِبَلِ الأئمّة علیهم السلام بتنصیصهم علی خلافته عنهم أیضا إلاّ فیما کان مِن خصائص الأئمّة علیهم السلام ؛ فإنّها خارجةٌ عن إطلاقِ خلافةِ

الفقیهِ عنهم، کما أنّ خصائص النبیّ صلی الله علیه و آله أیضا خارجةٌ عن إطلاقِ خلافةِ الأئمّة عنه»(1).

والحاصل: المرتبة الاُولی ثابتة من دون المناقشة والمرتبة الثالثة غیر ثابتة لم یقل بها إلاّ الشاذ فیقع الکلام فی أدلة المرتبة الثانیة وهی نیابة الفقیه عن الإمام المعصوم علیه السلام .

وهذا أوان الشروع فی بحث أدلة ولایة الفقیه فنقول:

ص: 187


1- 1 . رسالة فی ولایة الفقیه /17، المطبوعة فی ضمن رسائل سیّد لاری، المجلّد الثالث.
أدلة النیابة
مقدمات ثلاثة
اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ من تقدیم: مقدمات:

المقدمة الاولی: إنّ الأحکام الثابتة للإمام علیه السلام علی ثلاثة أقسام:

«تارة: تکون من خواص الإمام علیه السلام بحیث یتکفل دلیلها لزوم قیام الإمام علیه السلام بها بنفسه، فلا یجوز له فیه الاستنابة حتّی فی حال حضوره.

وأُخری: تکون من خواص زمان الحضور بحیث یؤخذ فی موضوعها حضور الإمام علیه السلام .

وثالثة: لا تکون کذلک بل یعتبر فیها إذن الإمام علیه السلام .

فدلیل النیابة لو تم، فهو إنّما یتکفل ثبوت النحو الثالث من الأحکام للفقیه، دون النحوین الأوّلین إذ الأوّل لا یقبل النیابة حتّی فی حیاة أو حضور الإمام علیه السلام فلا یشرع لغیره. والثانی مقید بحال الحضور، فهو غیر مشروع فی زمن الغیبة أصلاً.

فدلیل النیابة إنّما یتکفل ثبوت نیابة الفقیه فی العمل المشروع الذی یقبل النیابة دون غیره فتدبر»(1).

المقدمة الثانیة: ما هو ضابط الموارد التی یعتبر فیها إذن الإمام؟

من المعلوم أنّ عمل الإمام علیه السلام لا یکون ضابطا «لأنّه کما یحتمل أنْ یکون لأجل

ص:189


1- 1 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /297.

توقف صحة التصرف علی إذنه کذلک یحتمل أنْ یکون لأَجل امامته ونفوذ تصرفه المطلق حتّی فی الموارد التی یعلم بعدم نفوذ تصرف الفقیه فیها، کموارد النحو الأوّل.

وأقرب ما یمکن ان یُدَّعی فی تحدید الضابط هو: کونه کلّ ما کان من الأُمور العامة التی یرجع فیها إلی الرئیس عرفا بحیث تکون عن وظائفه وکلمته فیها هی النافذة، کحفظ أموال الیتیم وأموال المجانین ونحو ذلک.

فیقع الکلام فی أنّ إذْن الفقیه وتصرفه نافذ فی هذه الموارد أولا؟ وهذا الضابط وإن لم یرفع اللبس فی بعض الموارد لکنّه أقرب ما یکون أن یقال فی الضابط»(1).

المقدمة الثالثة: اشتراط ولایة الفقیه بمشروعیة الفعل فی حدّ نفسه

المقدمة الثالثة: اشتراط ولایة الفقیه بمشروعیة الفعل فی حدّ نفسه ووجود المصلحة وعدم وجود الإضرار علی نفس الغیر کما أخذناها فی ولایة النبی صلی الله علیه و آله وأُوصیائه المعصومین علیهم السلام علی الأموال والأنفس.(2)

وبعبارة أُخری: «إنّ موضوع البحث ما کان الفعل سائغا ومشروعا فی نفسه، غایة الأمر أن یکون مشروعا بإذن الفقیه بمقتضی الدلیل، وأمّا الفعل الذی یکون فی نفسه محرما وغیر مشروع وانّما تحتمل مشروعیته بالإذن، فدلیل الولایة لا یتکفل مشروعیته.

وبعبارة [ثالثة]: أنّ دلیل الولایة لو تم فإنّما یدلّ علی نفوذ إذن الفقیه فیما هو مشروع فی نفسه ومع قطع النظر عن الإذن، کالطلاق والتصدق بمجهول المالک، دون ما لم یکن مشروعا فی نفسه وأنّما یحتمل مشروعیته بالإذن»(3).

کما صرح بهذه المقدمة الأخیرة المحقّق الاصفهانی قدس سره .(4)

ص: 189


1- 1 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /293.
2- 2 . بحث الولایة علی الأموال والأنفس من أقسام ولایة الرسول صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام راجع صفحة 161 من هذا المجلد.
3- 3 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /294.
4- 4 . راجع حاشیته علی المکاسب 2/387.
1- إثبات ولایة الفقیه بالروایات
اشارة

یمکن أن یستدل للنیابة بعدّة من الروایات:

1/1- منها: خبر أبی البختری

1/1- منها: خبر أبی البختری عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: إنّ العلماءَ وَرَثَةُ الأنبیاءِ، وذاک أنّ الأنبیاء لم یُورِثُوا درهما ولا دینارا، وإنّما أوْرَثُوا أحادیث من أحادیثهم، فمن أخذ بشیءٍ منها، فقد أخذ حظّا وافرا، فانظروا علمکم هذا عمّن تأْخذونه؟ فإنّ فینا - أهل البیت - فی کلِّ خلفٍ عدولاً یَنْفُونَ عنه تحریف الغالین وانْتِحَالَ المبطلین وتأویلَ الجاهلین.(1)

ونحوها: صحیحة عبداللّه بن میمون القداح عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من سلک طریقا یَطْلُبُ فیه عِلْما، سَلَکَ اللّه ُ به طریقا إلی الجنّة، وإنَّ الملائکةَ لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رضا به، وإنّه لیستغفرُ لطالب العلم مَنْ فی السّماء ومَنْ فی الأرض حتّی الحوت فی البحر، وفضل العالم علی العابد کفضل القمر علی سائر النّجوم لیلة البدر، وإنَّ العلماءَ وَرَثَةُ الأنبیاءِ؛ إنّ الأنبیاءَ لم یُوَرِّثُوا دینارا ولا درهما، ولکن وَرَّثوا العلم، فمن أخذ منه، أخذ بحظٍّ وافرٍ.(2)

بتقریب: أنّ الوارث یثبت له جمیع ما کان ثابتا لمورِّثه ومنها: الولایة.

أو ینتقل ما للمورّث من الأشیاء إلی الورثة ومن ذلک الولایة المطلقة فهی تنتقل إلی الوارث وَهُم الفقهاء.

ص:190


1- 1 . الکافی 1/76، ح2 (1/32)، ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/78، ح2، الباب 8 من أبواب صفات القاضی.
2- 2 . الکافی 1/82، ح1 (1/34)؛ الفقیه 4/384، ح5834.

وقال السیّد الخمینی رحمه الله فی تقریب الاستدلال: «ثمّ إنّ مقتضی کون الفقهاء ورثة الأنبیاء - ومنهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وسائر المرسلین الذین لهم الولایة العامّة علی الخلق - انتقال کلّ ما کان لهم إلیهم، إلاّ ما ثبت أنّه غیر ممکن الانتقال، ولا شبهة فی أنّ الولایة

قابلة للانتقال، کالسلطنة التی کانت عند أهل الجور موروثة خلفا عن سلف.

وقد مرّ: أنّه لیس المراد بالولایة هی الولایة الکلّیة الإلهیّة، التی دارت علی لسان العرفاء، وبعض أهل الفلسفة، بل المراد هی الولایة الجعلیّة الاعتباریّة، کالسلطنة العرفیّة وسائر المناصب العقلائیّة، کالخلافة التی جعلها اللّه تعالی لداود علیه السلام ، وفرّع علیها الحکم بالحقّ بین النّاس، وکنصب رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیّا علیه السلام بأمر اللّه تعالی خلیفة وولیّا علی الاُمّة.

ومن الضروریّ أنّ هذه أمر قابل للانتقال والتوریث، ویشهد له ما فی نهج البلاغة: «أری تراثی نهبا».

فعلیه تکون الولایة - أی کونه «أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» فیما یرجع إلی الحکومة والأمارة - منتقلة إلی الفقهاء»(1).

الروایة الاُولی ضعیفة الإسناد بِوَهْبِ بْنِ وَهْبٍ أبیالبَخْتَرِیّ کما اعترف بها السیّد الخمینی(2) قدس سره .

ولکن الثانیة صحیحة الإسناد کما مرّت.

ویردعلیه: أوّلاً: ما ینتقل إلی الوارث من المورِّث هو ترکته من الأموال وأمّا الصفات النفسانیة کالعلم والتقوی والشجاعة والعدالة فلا تنتقل، وکذا الولایة المجعولة فی حقِّ أحد بعد موته لا تنتقل إلی الورثة، أفلا تری إذا مات الرسول صلی الله علیه و آله أو الإمام لا ینتقل مقام النبوة أو الإمامة إلی ورثته الخاصة علی نحو العموم.

وثانیا: وذیل خبر أبیالبختری قرینة علی أنّ الوراثة هی فی العلم خاصة وأحادیثهم ونشر أحکامهم وحفظها وتبلیغها، کما صرح فیه: «الأنبیاء لم یورثوا درهما

ص:191


1- 1 . کتاب البیع 2/646.
2- 2 . کتاب البیع 2/646.

ولا دینارا وإنّما اورثوا أحادیث من أحادیثهم...».

وثالثا: یمکن أن یکون المراد من العلماءهم الأئمة علیهم السلام خاصة بقرینة ذیل الروایة: «فإنّ فینا أهل البیت فی کلِّ خلف عدولاً...»، وکما ورد فی صحیحة جمیل عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: سمعته یقول: یغدو النّاس علی ثلاثة أصنافٍ: عالمٍ، ومتعلِّمٍ، وغُثَاءٍ، فنحن العلماء، وشیعتنا المتعلِّمون، وسائر النّاس غُثَاءٌ.(1)

ورابعا: ما ورد فی الروایة: «فمن أخذ بشیء منها فقد أخذ حظّا وافرا فانظروا علمکم هذا عمّن تأخذونه؟» لیس أمرا متوجها إلی العلماء(2) بل یکون أمرا متوجها إلی المتعلِّمین من الاُمّة فی عصر الظهور. وإلاّ العالم إذا کان عالما یعلم من أین یأخذ علمه وإلاّ لم یکن عالما.

وخامسا: ذیل خبر أبیالبختری وبدایة صحیحة القدّاح یدلاّن علی أنّهما واردتان فی بیان فضل العلماء ومقاماتهم، ومناسبة الحکم والموضوع تؤید هذه الدلالة.

ص: 192


1- 3 . الکافی 1/82، ح4 (1/34)، ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/68، ح18، الباب 7 من أبواب صفات القاضی.
2- 1 . کما فی کتاب البیع 2/647.
2/1- ومنها: معتبرة السکونی

2/1- ومنها: معتبرة السکونی عن أبیعبداللّه علیه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ یَدْخُلُوا فِی الدُّنْیَا، قِیلَ: یَا رَسُولَ اللّه ِ، وَمَا دُخُولُهُمْ فِی الدُّنْیَا؟ قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ، فَإذَا فَعَلُوا ذلِکَ، فَاحْذَرُوهُمْ عَلی دِینِکُمْ.(1)

رواها السیّد فضل اللّه الراوندی فی نوادره(2) بسند وصفه النوری(3) بالمعتبر.

بتقریب: أَنَّ الْمُعْتَبَرَةَ تُفِیْدُ أنَّ الفُقَهاء اُمناءٌ لرسل اللّه علیهم السلام «فی جمیع الشؤون المتعلّقة برسالته، وأوضحها زعامة الاُمّة، وبسط العدالة الاجتماعیّة، وما لها من المقدّمات والأسباب واللوازم.

فأمین الرسول أمین فی جمیع شؤونه، ولیس شأن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ذکر الأحکام فقط، حتّی یکون الفقیه أمینا فیه، بل المهمّ إجراء الأحکام، والأمانة فیها أن یجریها علی ما هی علیه»(4).

ویرد علیه: أوّلاً: ظاهر المعتبرة أنّ الفقهاء أُمناء لرسل اللّه علیهم السلام فی تبلیغ أحکامهم، لأنّها مستودعة عندهم لیوصلوها إلی الجهّال لأنّ الرسل کانوا اُمناء علی وحی اللّه تعالی وأحکامه، من دون النظر إلی جعل الولایة.

ثانیا: المراد بالأمین یعنی الذی لا یخون فی الودیعة المجعولة عنده من الأحکام أو غیرها، أمّا ثبوت الولایة له فهو خارج عن مدلول اللفظ.

ثالثا: الولایة لم تکن من أظهر خواص المشابهة بین الرسل والفقهاء حتّی یثبت بها ظهور لکلمة «الأمانة» وبعد اثبات الظهور ثبتت ولایتهم.

ورابعا: بعد عدم إثبات الظهور لکلمة «الأمانة»، تصیر مجملة فلا تفید فی اثبات الولایة.

ص:193


1- 1 . الکافی 1/114، ح5، (1/46).
2- 2 . النوادر /156، ح226.
3- 3 . مستدرک الوسائل 17/320، ح29، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
4- 4 . کتاب البیع 2/634.

وخامسا: «ربما یمکن دعوی ظهوره فی بیان مرتبة فضلهم»(1) فلا تثبت بها الولایة.

ص: 194


1- 5 . کتاب القضاء /48 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره .
3/1- ومنها: مرسلة ابن أبیشعبة الحرّانی

3/1- ومنها: مرسلة ابن أبیشعبة الحرّانی عن سیّد الشهداء علیه السلام عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال فی حدیث: مجاری الاُمور والأحکام علی أیدی العلماء باللّه، الاُمناء علی حلاله وحرامه.(1)

بتقریب: أنّ هذا الکلام «صادر لضرب دستور کلّی للعلماء قاطبة فی کلّ عصر ومصر؛ للحثّ علی القیام بالأمر بالمعروف، والنهی عن المنکر فی مقابل الظلمة، وتعییرهم علی ترکهما؛ طمعا فی الظلمة، أو خوفا منهم»(2).

أقول: هذا التقریب لم یتم، لأنّ کل من وجب علیه القیام فی مقابل الظلمة للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لا تثبت له الولایة، لأنّ وجوب القیام شیء وثبوت الولایة شیء آخر. فلذا لابدّ من بیان تقریب آخر وهو:

بتقریب آخر: ظاهر المرسلة «التشریع، أی فلتکن مجاری الأُمور والأحکام بید العلماء.

وبتعبیر آخر: الأحکام غیر الأُمور، وکون الثانی عطفا تفسیریا للأوّل خلاف الظاهر، فیکون مقتضی الحدیث أنّ الولایة وحق التصدی للاُمور والأحکام بید العلماء»(3).

ویرد علیه: أوّلاً: الروایة مرسلة.

وثانیا: المراد بالعالم باللّه لیس إلاّ خُصُوْص الأئمة المعصومین علیهم السلام کما یراه المحقّق الخراسانی وقال: «هو خصوص الأئمة، کما یَشْهَدُ به سائر فقراته الّتی سیقت فی مقام توبیخ النّاس علی تفرقّهم عنهم علیهم السلام ، حیث انه صار سببا لغصب الخلافة وزوالها عن أیدی من کانت مجاری الاُمور بأیدیهم»(4).

وکما قال أیضا فی کتاب قضائه: «إنّ الظاهر إرادة الأئمّة علیهم السلام من العلماء سیّما بعد

ص:195


1- 1 . تحف العقول /238.
2- 2 . کتاب البیع 2/651.
3- 3 . إرشاد الطالب 4/213.
4- 4 . حاشیة المکاسب /94.

ملاحظة قول أبیعبداللّه علیه السلام فی خبر یونس: «یغدو النّاس علی ثلاثة أصناف عالم ومتعلّم وغثاء، فنحن العلماء وشیعتنا المتعلّمون وسائر النّاس غثاء»(1) فتأمّل. ویشهد لما ذکرنا

ما قیل من أنّ سائر فقرات الروایة إنّما سیقت فی مقام توبیخ النّاس علی تفرقهم عنهم علیهم السلام حیث إنّه صار سببا لنصب الخلافة وزوالها عن أیدی من کانت مجاری الاُمور بأیدیهم، وهذا الخبر مرویّ مرسلاً فی تحف العقول ولم یحضرنی الآن فراجع»(2).

وقال ثالثةً فی تقریر بحوثه فی القضاء: «إنّ هذه الصفة إنّما هی للأئمة علیهم السلام کما یؤیّده تفسیره فی بعض الأخبار: «نحن العلماء»(3) وکما أطلق فی بعضها أیضا علی الفقیه «المتعلّم(4)»(5)... ثمّ علی فرض ثبوت الولایة المطلقة بمثل قوله: «مجاری الأمور بید العلماء» للفقیه، فلا یلزم منه تخصیص الأکثر کی یوهن دلیله لأجله کما توهّم، إذ ولایة الأئمّة علیهم السلام إنّما هی فی غیر ما یکون من قبیل الأحکام والمسبّبات الشرعیّة، کالملکیّة والزوجیّة بأن یجوز له التصرّف بلا إذن ممّنْ له الولایة. وولایتهم علی النّاس فی ما لَهم الاختیار فیه - من الأفعال العادیة والمتعارفة - وإن کانت ثابتة ولکنّه لا یثبت للفقیه لا للتخصیص بل وللتخصّص، وقصور أدلّته عن شمول مثل ذلک فإنّ مثل قوله: «مجاری الأمور بید العلماء» لا یدلّ علی وجوب امتثال الفقیه فی أوامره العادیة کما کان فی الأئمة علیهم السلام کذلک. وأدلّ دلیل علی ولایة الفقیه هو هذا کما لا یخفی. وحینئذٍ لا یلزم تخصیص الأکثر فیها کما لا یخفی لو أخرج بعد ذلک عنها شیء»(6).

ص:197


1- 5 . وسائل الشیعة 27/18، ح5، الباب 3 من أبواب صفات القاضی.
2- 1 . کتاب القضاء /31 للمحقّق الآخوند الخراسانی قدس سره .
3- 2 . بصائر الدرجات /9-8؛ وسائل الشیعة 18/46 من الطبعة الإسلامیة.
4- 3 . الکافی 1/(32-33)؛ عوالی الئالی 1/358، 2/241؛ وسائل الشیعة 18/46.
5- 4 . تقریرات السیّد القوچانی لدروس فقه الآخوند الخراسانی، کتاب القضاء، /232، المطبوعة فی ضمن مجموعة الرسائل الفقهیّة لآیة اللّه السیّد محمّدحسن آقا النجفی القوچانی قدس سره ، طهران، 1386.
6- 5 . تقریرات السیّد القوچانی لدروس فقه الآخوند الخراسانی، کتاب القضاء، /233.

وقال المحقّق الأصفهانی: «وسیاقها یدل علی أنّها فی خصوص الأئمة علیهم السلام ، والظاهر أنّه کذلک، فإنّ المذکور فیها هم العلماء باللّه لا العلماء بأحکام اللّه، ولعل المراد أنّهم علیهم السلام بسبب وساطتهم للفیوضات التکوینیة التشریعیة تکون مجاری الأُمور کلها حقیقة بیدهم علیهم السلام لا جعلاً، فهی دلیل الولایة الباطنیة لهم کولایته تعالی؛ لا الولایة الظاهریة التی هی من المناصب المجعولة»(1).

أقول: کلامه الأوّل من اختصاص العلماء باللّه بالأئمة علیهم السلام متین أمّا أنّ المرسلة

تختص بالولایة الباطنیة محلّ منع وإشکال سیّما بعد مرور جمیعها وأنّ سیّد الشهداء علیه السلام ذکرها فی مقابلة یزید ومعاویة سلطنتهما ولم یعتقد أحد حتّی من العامة العمیاء أنّ لهما الولایة الباطنیة، فالمرسلة لو دلّت علی الولایة تثبت الولایة الظاهریة والسلطنة والحکومة والخلافة علی النّاس وهو المجعول فی یوم الغدیر لأمیرالمؤمنین علیِّ علیه السلام .

وثالثا: «الظاهر أنّ «مجاری» جمع مجری اسم مکان، لا مصدر میمیّ، یعنی محالّ جریان الأُمور والأحکام، والمراد منها: المصالح والمفاسد والمدارک الناشئة والجاریة منها الأحکام جریان الماء من المنبع، ومن المعلوم أنّها بیدهم علیهم السلام بمعنی أنّها لا یعرفها غیرهم أصلاً، نعم لو کانت العبارة أنّ الأُمور بید العلماء، أو مجاری الأُمور ید العلماء، لکان ظاهرا فی العموم، ولیست کذلک»(2).

ورابعا: «لو کان المراد من الحدیث ما ذکر لکان الحدیث: الاُمور والأحکام بید العلماء؛ إذ لا حاجة إلی إضافة المجاری؛ لیحتاج فی معناها إلی التکلّف، بل ظاهر الحدیث بملاحظة ما قبله وبعده بأن اُمور اللّه ومناصبة التی وقعت بأیدی غیر أهلها مجاریها بید العلماء. بمعنی أنهم لو أظهروا الحق ولم یتفرقوا عنه ولم یختلفوا فی السنة بعد البینة لکانت جاریة فی مجراها، وکان المتصدی لها أهلها المقرر لها فی السنة»(3).

وخامسا: علی فرض أنّ المراد بالعالم باللّه هو الفقیه ذیل الحدیث «الاُمناء علی

ص:197


1- 6 . حاشیة المکاسب 2/388.
2- 1 . هدایة الطالب 3/252.
3- 2 . إرشاد الطالب 4/213.

حلاله وحرامه» یختص دائرة أمانته بتبیین الحلال والحرام وإظهار الأحکام الشرعیة.

وسادسا: ویمکن یرد هذا الاستدلال «من جهة عدم کونه علیه السلام فی مقام بیان المجاری...، بل یدل علی سلوک المجاری المعینة لرتق أمور النّاس وفتقها بید العلماء، لا أن تعیین المجری أیضا بیدهم.

فحینئذ کلّ ما ثبت من الشرع أو العرف کونه مجری لرفع حوائج النّاس، فسلوکه بید العلماء. والمفروض أنّه لم یثبت من الشرع ولا من العرف کون الأولویة علی الأنفس من المجاری: أما بحسب الشرع فلاختصاص الأدلة بغیرهم، وأما بحسب العرف فهو أیضا کذلک مع احتمال کونها من خصائصهم»(1).

أقول: والعجب من آیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره حیث أخرج(2) من بحث

ولایة الفقیه ولایته علی الأموال والأنفس بالقطع والیقین ثمّ یستشکل علی المرسلة بخروج الولایة علی الأموال والأنفس منها، مع أنّ المستدلّ بها هنا یستفاد لثبوت المرتبة الثانیة من ولایة الفقیة التی مرّت(3) أنّ البحث یقع فیها وسبحان من لا یَسْهُوْ.

ص: 198


1- 3 . کتاب القضاء /48 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره .
2- 4 . راجع کتاب القضاء /46.
3- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 185.
4/1- ومنها: قوله صلی الله علیه و آله : علماء أُمّتی کأنبیاء بنیإسرائیل.

(1)

وقوله صلی الله علیه و آله : منزلة الفقیه فی هذا الوقت کمنزلة الأنبیاء فی بنیإسرائیل.(2)

وعن أبیهریرة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث: ... فإنّی أفتخر یوم القیامة بعلماء اُمّتی فأقول علماء اُمّتی کسائر الأنبیاء قبلی، الحدیث.(3)

بتقریب: تشبیه العلماء بالأنبیاء عموما وبأنبیاء بنیإسرائیل خصوصا یدلّ علی أنّ له منصب الولایة العامة کما کانت لموسی - علی نبیّنا وآله وعلیه السلام - وکثیر من الأنبیاء نحو داود وسلیمان علیهم السلام علی بنیإسرائیل.

وبعبارةٍ أُخری: الروایات تدلّ علی «أنّ أمر الأُمة بید العلماء کما أنّ أمر الأُمم السالفة کان بید الأنبیاء فلهم التصدی للمصالح النوعیة الدینیة والدنیویة ولیسوا کسائر أفراد الأُمة الذین لم تثبت فیهم تلک الفضیلة وإنْ لم یثبت بذلک لهم کلّ ما ثبت للنبی صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام من وجوب الاطاعة وسائر شئون الرسالة کالولایة علی الأموال والأنفس کیف وهم الأفضلون والمفضلون علی سائر النّاس بعد النبی والأئمة کما ورد فی الآثار الواردة فی شأنهم»(4).

ویرد علیه: أوّلاً: الروایات کلّها مرسلات وبعضها عامیات.

وثانیا: قال المحقّق الخراسانی: «أمّا المنزلة، فالمتّیقن منها أنّها فی تبلیغ الأحکام بین الأنام، مع عدم ثبوت الولایة المطلقة لأنبیاء بنیإسرائیل، فتأمّل»(5).

وقال أیضا فی کتاب قضائه: «لأنّ المتیقّن فیه أنّ التنزیل إنّما هو فی تبلیغ الأحکام بین الأنام لا فی جمیع وظائفهم وأُمور الراجعة إلیهم، مع أنّ الولایة المطلقة

ص:199


1- 1 . عوالی اللآلی 4/77.
2- 2 . الفقه الرضوی /238.
3- 3 . جامع الأخبار /111.
4- 4 . ولایة الاُولیاء /77.
5- 5 . حاشیة المکاسب /94.

لجمیع أنبیاء بنیإسرائیل غیر ثابتة»(1).

وقال ثالثةً فی تقریر بحوثه فی القضاء: «فالمراد منه الأئمّة علیهم السلام کما فسرّ بقوله: «نحن العلماء». ولو سلّم فلا یدلّ علی ذلک أنّ التشبیه إنّما هو من جهة التبلیغ وتبیین الأحکام، ولأنّه الخصیصة الواضحة للأنبیاء، فهو وجه الشبه لا غیر. وأمّا أفضلیّتهم

فلأفضلیّة الشریعة أو لمشقّتهم فی تحصیله بخلاف الأنبیاء فتأمّل»(2).

وثالثا: «إنّ کونهم کأنبیاء بنیإسرائیل لیس دلیلاً علی اثبات الولایة العامة لهم إلاّ بتخیل عموم التشبیه ولکنّه مدفوع بأنّ المتیقن من التنزیل فیها أنّه بلحاظ تبلیغ الأحکام بین الأنام کما یناسبه جدا التشبیه بأنبیاء بنیإسرائیل لا بنفس النبی صلی الله علیه و آله إذ لم یثبت لهم الولایة المطلقه حتّی علی التصرف فی الأموال والأنفس، فلعلّ وظیفتهم کانت مجرد تبلیغ الأحکام إلی الأنام أو الحکم بینهم وإجراء الحدود والسیاسات فلا یجدی التشبیه مع هذا الاحتمال فی إثبات المطلوب»(3).

ورابعا: بفرض ثبوت الولایة «لأنبیاء بنیإسرائیل لم یعلم کونهم بماهم الأنبیاء ولاة علی النّاس، بل الظاهر المستفاد من الرجوع إلی سیرتهم عدم تصدی أکثرهم إلاّ لتبلیغ أحکام موسی - علی نبیّنا وآله وعلیه السلام - نعم، کان بعضهم ملوکا ووالیا وسلطانا کداود وسلیمان متصدیا لوظائف الولاة لکن لا بماهم أنبیاء بل بما هم ملوک»(4).

وخامسا: یمکن أن یکون «وجه الشبه هو الفضیلة والزلفی عند اللّه تعالی لا فی الشئون والمناصب الدنیویة والتصرف فی الأموال والأنفس»(5).

وسادسا: هذه المرسلات یمکن أن تکون فی «بیان فضیلة العلماء ومقامهم عند

ص:200


1- 6 . کتاب القضاء /31.
2- 1 . تقریرات السیّد القوچانی لدروس فقه الآخوند الخراسانی، کتاب القضاء، /233، المطبوعة فی ضمن مجموعة الرسائل الفقهیّة لآیة اللّه السیّد محمّدحسن آقا النجفی القوچانی قدس سره .
3- 2 . ولایة الاُولیاء /76.
4- 3 . ولایة الاُلیاء /76.
5- 4 . ولایة الاُولیاء /76.

اللّه لا تشریع الولایة الثابتة للأنبیاء والعلماء، مع أنّ ثبوت الولایة - کما تقدم - لکلِّ واحد من أنبیاء بنیإسرائیل غیر ظاهر»(1).

وبعبارة جامعة: قال السیّد الخوئی فی الروایتین الأُْوْلَیَیْنِ: «التنزیل والتشبیه لابدّ و(2)أن یکون فی أظهر الآثار والخواص وأظهرها فی أنبیاء بنیإسرائیل أمران:

أحدهما وجوب إطاعتهم فی الأحکام ولزوم قبول قولهم فی تبلیغها، وإنّما شبّههم بأنبیاء بنیإسرائیل من أجل أنّ أنبیاءهم کانوا مختلفین فی النبوّة فبعضهم کان نبی بلدته وآخر کان نبیّ محلّته أو قریته وثالث کان نبی أقربائه بل کان نبی داره، وکانت إطاعتهم

لازمة فی تبلیغ الأحکام والعلماء أیضا مختلفون فبعضهم عالم بلده وآخر عالم محلّته أو قریته وهکذا، فتجب إطاعتهم فی تبلیغ الأحکام بمقتضی هذا الحدیث.

وثانیهما: رفعة محلّهم وعظمة منزلتهم عند اللّه وکأنّه أراد فی الحدیث بیان أنّ علماء اُمّتی لا یقصرون فی عظمة المنزلة عن أنبیاء بنی إسرائیل إذا عملوا بعلمهم والسرّ فی ذلک أنّ تلمیذ مدرسة تارة یکون أرقی منزلة من معلّم بالمدرسة النازلة کبعض تلامذة المدرسة الثانویة بالإضافة إلی معلّم المدرسة الإبتدائیة أو تلامذة المدرسة العالیة فی الطبّ بالاضافة إلی دکتور المحلّ وهکذا من جهة عظمة المدرسة وأهمیّتها، والمدرسة المحمّدیة صلی الله علیه و آله کذلک بالإضافة إلی أنبیاء بنیإسرائیل الذین کانوا مدرّسین لاُمّتهم معالم الإسلام، فیکون تلامذة تلک المدرسة العالیة أشرف مقاما وأعظم منزلة من معلّمی بنیإسرائیل إذا عملوا بوظائفهم فإنّ نیابة الإمام علیه السلام من أهم المقامات ولا أقل من تساویهم معهم فی الشرف هذا کلّه مع أنّ ثبوت الولایة بهذا المعنی فی أنبیاء بنیإسرائیل أوّل الکلام فکیف بمن یقوم مقامهم وینزّل منزلتهم. فالحدیث لا دلالة له علی الولایة المطلقة بوجه بل إنّما ورد فی بیان فضیلتهم وعلوّ مقامه ولعلّه ظاهر»(3).

ص: 201


1- 5 . إرشاد الطالب 4/213.
2- 6 . کذا فی المصدر والصواب «لابُدَّ أَنْ یکونَ» بحذف الواو؛ إذْ لا مَوْضِع لها.
3- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/167.
5/1- ومنها: مرسلة الکراجکی

5/1- ومنها: مرسلة الکراجکی المتوفی سنة 449 ه . ق عن الصادق جعفر بن محمّد علیهماالسلام أنّه قال: الملوکُ حکّام النّاس والعلماءُ حکّام علی الملوک.(1)

ورواها الآمدی فی غرره مرسلاً عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: العلماء حکّام(2) علی النّاس.(3)

بتقریب: أنَّ «وجه الاستدلال إمّا بأنّ الملوک حکّام عرفیة وأنّ العلماء حکّام، حقیقیّة، من قبل الشّارع.

فیجب علی الحکّام العرفیة، متابعة الحکّام الحقیقیّة وهذا معنی ولایة الحکّام الحقیقیّة علی النّاس وبأنّ معنی حکومة السّلاطین، کون حکومتهم، یقتضی حکومة العلماء، بمعنی أنّهم مجرون لأحکام العلماء، فإذا کانوا فی سبیل حکومة العلماء، فهم حاکمون علی النّاس، فی إجراء أحکام العلماء، فعلی کلِّ حالٍ یثبت ولایة العلماء»(4).

وبعبارة اُخری: إنّ «حکومة الملوک والسلاطین علی النّاس هی الزعامة لهم والد خالة فی اُمورهم العامة من باب السلطنة والولایة کما ورد «أنّ السلطان ولیُّ مَنْ لاولیَّ له»(5) فکذلک العلماء لهم الزعامة والولایة علی جمیع النّاس حتّی علی اُمرائهم فیجب علیهم الإطاعة لأمر علمائهم والتبعیة لأفعالهم والسماع لرأیهم والوقوف علی حکمهم وفی الحقیقه الأُمراءُ والحکّام بمنزلة القوی المجریة لآراءِ العلماءِ وحکمِ الفقهاءِ فعلیهم أنّ ینفذوا حکمهم ویجروا أمرهم فالأمر أمرهم والحکم حکمهم والمتبع هو رأیهم والملوک والاُمراء کالأیادی لهم لإنجاح مقاصدهم وکالعُمّال والرعیة الساعین تحت

ص:202


1- 1 . کنز الفوائد 2/33 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/316، ح17.
2- 2 . قال النوری: وفی نسخة: حکماء. ویری السیّد الخمینی خطأ هذه النسخة راجع کتاب البیع 2/651.
3- 3 . غررالحکم 1/20، ح559 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/321، ح33.
4- 4 . الدلالة إلی من له الولایة /58 لشیخنا آیة اللّه الشیخ الحاج آقا علی الصافی الگلپایگانی قدس سره .
5- 5 . تأتی مصادرها والبحث حولها فانتظر.

رایتهم»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: أَنَّ الرِّوایَتَیْنِ مُرْسَلَتان.

وثانیا: إثبات حکومة الملوک علی النّاس ینفی إطلاق حکومة العلماء کما لا یخفی وَلِذا لَمْ یَذْکُرِ السیّدُ الخُمِیْنیُّ رحمه الله مُرْسَلَةَ الکَراجَکیّ.

وثالثا: «غایة ما یستفاد من الروایة [الکراجکیة] هو حکومة العلماء علیهم، من باب أنّه لابدّ من رجوع السّلاطین إلیهم، فی فهم الأحکام أو فی القضاء وأمّا حکومتهم علیهم، بأنّهم اُولی من السّلاطین، فیما تحت یدهم، بحیث انّه کان للعلماء، منعهم وإعطائهم، حتّی فیما یبیح لهم، فغیر معلوم»(2).

ص: 203


1- 6 . ولایة الاولیاء /77.
2- 1 . الدلالة إلی من له الولایة /59.
6/1- ومنها: مرسلة الرضی

6/1- ومنها: مرسلة الرضی عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: إنّ أوْلَی النّاسِ بالأنبیاء أعْلَمُهُم بما جَاؤُوا به، ثمّ تلا علیه السلام : «إِنَّ أَوْلَی النّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِیُّ وَالَّذِینَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِیُّ الْمُوءْمِنِینَ»(1).(2)

بتقریب: إذا ثبتت اُولویة العلماء بالأنبیاء علیهم السلام لأنّهم أعلم النّاس بما جاؤوا به ثبتت ولایتهم، لأنّها - الولایة - لا تنتقل إلی أُناس کانوا بعیدین عن الأنبیاء ولم تکن بینهم وبین الأنبیاء صلة.

ویرد علیه: أوّلاً: أنَّ الروایة مرسلة.

وثانیا: «لا دلالة فی کون اُولی النّاس بالأنبیاء أعلمهم علی الولایة، مع أنّ الظاهر إنّ المراد، أُولی النّاس بالخلافة منهم، ولذا خصصّه بأعلم النّاس ولا فی إطلاق الخلافة علیهم، ولا فی جعلهم حاکما، ولا قاضیا، لعدم إطلاق فی الخلافة، ولعلّها فی تبلیغ الأحکام الّتی هی من شئون الرّسالة»(3).

وثالثا: «إنّ الأظهر من الأعلمیّة: الأعلمیّة المطلقة وبالقیاس إلی جمیع من عداه ولو فی خصوص عصره، لا الأعلمیّة فی الجملة ولو بالنسبة إلی شخص واحد، فیختصّ بأوصیائهم؛ إذ لیس فی العلماء من یکون أعلم من جمیع أهل زمانه؛ ضرورة وجود الإمام فی کلّ عصر، فیکون المراد من أولویة الأعلم بالأنبیاء؛ أولویته بالخلافة منهم»(4).

وبعبارة أُخری: «أنّ الظاهر منه ردع المخالفین فی مسألة الخلافة. ولو سلّم، فلا إشکال فی أنّ أعلم النّاس - فعلاً - هو ولیّ اللّه الأعظم الحجة ابن الحسن - عجل اللّه فرجه الشریف -»(5).

وبعبارة ثالثة: هذا التعبیر [الاولویة] «لا یخلو من إجمال فی المراد بالاُولویة مع

ص:204


1- 1 . سورة آل عمران /68.
2- 2 . نهج البلاغة، الحکمة 96.
3- 3 . حاشیة المکاسب /94، للمحقّق الخراسانی.
4- 4 . هدایة الطالب 3/254.
5- 5 . کتاب القضاء /48 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره .

أنّ موضوعه الأعلم المطلق لا مطلق العام وحینئذ یمکن أن یکون المراد اُولی النّاس بالخلافة منهم ولذا خَصَّصَهُ بأعلم النّاس کما لا یخفی»(1).

ورابعا: «إنّ اُولویة العلماء بالأنبیاء إنّما هی بکونهم أقرب إلیهم یوم القیامة من

حیث المنزلة والمقام وهی لا تقتضی الولایة علی التصرف فی الأموال والأنفس أبدا»(2).

وخامسا: علی فرض اقتضاءها الولایة لا یثبت بالاُلویة إطلاق الولایة کما لا یخفی.

وسادسا: یمکن أن یکون «معنی اُولویة العلماء بالأنبیاء اُولویتهم فی الأسرار وإعانة الأنبیاء فی إجراء مقاصدهم وإنفاذ القوانین التی بعثوا لأجلها وذلک أجنبی عن مسئلة ولایة التصرف فی الأموال والأنفس مضافا إلی أنّ الاُولویة والأجدریة والألیقیة أعم من إعطاء المنصب فعلاً بمعنی أنّه لو بنی علی إعطاء المنصب لأحدٍ فهم اُولی بالإعطاء من غیرهم مع أنّ أعلم النّاس کلاً بما جاءوا به هم الأئمة والاُوصیاء فلا یشمل کلّ عالمٍ بشیءٍ ممّا جاءوا به»(3).

وسابعا: «أنّ الاستدلال بذلک موقوف علی کون الکبری لذلک: أنّ کلّ مَنْ کان کذلک فله کلّ ما کان للأنبیاء، وهو ممنوع؛ إذ غایة ما یستفاد منه أنّ کلّ مَنْ کان کذلک فهو أفضل مِنْ غیره، فیکون من جملة ما دلّ علی فضیلة العالم»(4).

وثامنا: رواها ورّام فی مجموعته(5): إنّ أُولی النّاس بالأنبیاء أعملهم الخ، بتقدیم المیم علی اللام لا أعلمهم، وقال العلاّمة المجلسی بعد نقل الروایة من نهج البلاغة: «بیان: فی بعض النسخ أعملهم وهو أظهر»(6)، وقال أیضا: «فی أکثر النسخ أعلمهم والأصوب

ص:205


1- 6 . ولایة الاولیاء /78.
2- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/168.
3- 2 . ولایة الاولیاء /77.
4- 3 . هدایة الطالب 3/254.
5- 4 . تنبیه الخواطر ونزهة النواظر /32.
6- 5 . بحارالأنوار 1/183، ذیل ح79.

أعملهم کما یدلّ علیه التتمة...»(1) ومع ثبوت هذه النسخة تَکُوْنُ الروایةُ أجنبیةً عن محل الکلام بالمرّة کما تنبّه علیه المحقّق الشهیدی(2) رحمه الله .

ص:206


1- 6 . بحارالأنوار 68/189، ذیل ح55.
2- 7 . هدایة الطالب 3/254.
7/1- ومنها: ما روی الصدوق بالأسانید الثلاثة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه

قال: اللهم ارحم خلفائی ثلاث مرّات، قیل له: ومَنْ خلفاؤک؟ قال: الذین یأتون من بعدی ویروون أحادیثی وسنتی فیُعلّمونها النّاس من بعدی.(1)

وعن معانی الأخبار(2) بسند رابع.

وعن الأمالی(3)بسند خامس وفی آخره: «ثمّ یُعلّمونها اُمّتی».

ورواها فی الفقیه(4) مرسلاً آخره: «یروون حدیثی وسنتی».

بتقریب: قال السیّد الخمینی: «فهی روایة معتمدة لکثرة طرقها... وکیف کان: معنی خلافة رسول اللّه صلی الله علیه و آله أمر معهود من أوّل الإسلام، لیس فیه إبهام، والخلافة لو لم تکن ظاهرة فی الولایة والحکومة، فلا أقلّ من أنّها القدر المتیقّن منها، وقوله صلی الله علیه و آله «الذین یأتون من بعدی» معرّف للخلفاء، لا محدّد لمعناها، وهو واضح.

مع أنّ الخلافة لنقل الروایة والسنّة لا معنی لها؛ لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یکن راویا لروایاته، حتّی یکون الخلیفة قائما مقامه فی ذلک.

فیظهر من الروایة أنّ للعلماء جمیع ما له صلی الله علیه و آله ، إلاّ أن یدلّ دلیل علی إخراجه فیتّبع»(5).

وبعبارة أُخری: «فإنّ الظاهر من الذین یروون حدیثی وسنتی هو من کان راویا للسنة الواقعیة وأهلاً للإرشاد والتعلیم بتبیینها وتبلیغها أعنی الفقهاء لا مطلق الراوی وإن لم یکن مبیّنا للسنة الواقعیة کأبیهریرة وعایشة ولا أهلاً للإرشاد والتعلیم بل یکون کمجرد ضبط الصوت، لما فی ذیل الروایة من قوله «فیعلِّمونها النّاس»، فتدلّ الروایة حینئذ علی أنَّ مَنْ کان شأنه الروایة والتعلیم والإرشاد وهو الفقیه العالم بالسنة هو الخلیفة

ص:207


1- 1 . عیون أخبار الرضا علیه السلام 2/37، ح94.
2- 2 . معانی الأخبار /374، ح1.
3- 3 . أمالی الصدوق، المجلس الرابع والثلاثون ح 4/247، رقم 266.
4- 4 . الفقیه 4/420، ح5919.
5- 5 . کتاب البیع 2/628.

للرسول، وحیث أنّ الخلیفة یطلق عرفا علی مَنْ یقوم مقام ذیالخلیفة فیقتضی إطلاقها کونه قائما مقامه فی جمیع ماله من المناصب إلاّ ما خرج بالدلیل»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: أنَّ «هذه الروایة وإن کانت علی نقل «العیون» و «معانی

الأخبار» مسندة، إلاّ أنّ فی سندها ضعف؛ لأنّ سند العیون هو إسناد إسباغ الوضوء وسند «معانی الأخبار» فیه عیسی بن عبداللّه العلوی عن أبیه، مع أنه لم یعلم أنّ الیعقوبی هو داود بن علی الهاشمی والمنقولات فی المستدرک(2) مرسلات.

ودعوی أنّ هذه الروایة لکثرة طرقها لا تخرج عن بعض المراسیل التی یعمل بها الأصحاب کمراسیل ابن أبیعمیر، لا یمکن المساعدة علیها أوّلاً، فإن المراسیل لا یعمل بها حتّی مراسیل ابن أبیعمیر، وثانیا علی تقدیر العمل بمراسیل ابن أبیعمیر فهو لشهادة الشیخ وغیره بأنه لا یرسل إلاّ عن ثقة»(3).

وثانیا: قال المحقّق الخراسانی: «لا مجال للتمسّک بإطلاق الخلیفة علیهم، إذ المتیقّن منه بل الظاهر کونهم خلیفة فی تبلیغ الأحکام وانتشارها بین الأنام. ویؤیّد ذلک تفسیر النبیّ صلی الله علیه و آله خلفاءه الّذین ترحّم علیهم ثلاثا بعد السؤال عنهم بالّذین یروون حدیثه ولیعلّمون النّاس الأحکام من بعده»(4).

وثالثا: «الخلافة قد بُیّن فی نفس الحدیث وهو نقل السنة»(5).

ورابعا: «یحتمل قریبا أن یکون المراد من «الخلفاء» الأئمة المعصومین علیهم السلام فإنّهم خلفاء الرسول صلی الله علیه و آله وأمّا الفقهاء فهم خلفاء خلفائه، کما یشهد لذلک قوله صلی الله علیه و آله «یأتون

ص:208


1- 6 . ولایة الاُولیاء /78.
2- 1 . المستدرک 17/287، الباب 8 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 10؛ و17/300، ح48؛ و 17/301، ح52 ؛ والمجموع الرائق للسیّد هبة اللّه - نقلاً عن «الأربعین» لقطب الراوندی - /178.
3- 2 . ارشاد الطالب 4/207.
4- 3 . کتاب القضاء /32.
5- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/36.

بعدی» فتأمّل»(1).

وخامسا: «إنّ النبی صلی الله علیه و آله وإن کان له منصب الزعامة الدینیة، بمعنی بیان أحکام الشرع، ومنصب الزعامة الدنیویة، بمعنی کونه زعیما للمسلمین بالمعنی المتقدّم إلاّ أنّ هذه الرّوایة وأمثالها ناظرة إلی الخلافة، أی مرتبة من الزّعامة الدینیة، بمعنی نشر الأحکام وإبلاغها للنّاس، ویشهد لذلک ما فی ذیلها من قوله: «یرون أحادیثی وسنتی ویعلّمونها للنّاس من بعدی»، وأجر التّعلیم.

ودعوی کون ذلک من بابِ المُعَرِّفِ للولیّ، حیث إنّ المعروف والمتیقن من معنی

الخلافة هی الزعامة الدنیویة لا یمکن المساعدة علیها، فإنّه قد عطف فی بعض النقل علی الاُمة أصحابه، ومن الظاهر أنه لم یکن لأصحابه ولایة علی المؤمنین بالمعنی المزبور؛ لیکون العلماء من غیرهم خلفاء بالمعنی المزبور»(2).

وسادسا: «ولکنَّ الإنصاف أنّه لا یبعد القول بالفرق بین قوله صلی الله علیه و آله فی مقام الدعاء: «اللهم ارحم خلفائی» وقوله فی مقام تعیین الخلیفة «هذا خلیفتی» فإنّ الأوّل فی مقام الإنشاء والدعاء لخلفائه دون تعیین الخلیفة، وهذا بخلاف الثانی فإنّه فی مقام الإخبار عمّن هو خلیفته فیمکن الأخذ بإطلاقه والقول بأنّه خلیفته فی جمیع الجهات دون الأوّل إذ الخلافة، مقول بالتشکیک فالخلیفة فی جمیع ما یرجع إلی الشخص له مرتبة من الخلافة، والخلیفة فی بعض الجهات له مرتبة اُخری، والإضافة تفید العموم فی حقِّ کلِّ مَنْ هو خلیفته فی جهة أو فی جهات.

وقوله: «الذین یأتون من بعدی ویروون حدیثی». یشمل الأئمة الذین هم خلفائه فی کلِّ الجهات والعلماء والرواة الذین لا یعلم حدّ خلافتهم فلعلّ خلافتهم مختصة بنشر الأحکام وإبلاغها کما یناسبه لفظ «یروون حدیثی» أو هو مع فصل الخصومات، ولا دلالة لهذه العبارة علی تعیین مرتبة الخلافة.

ص:209


1- 5 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/36.
2- 1 . ارشاد الطالب 4/207.

ولو فرض کون الأوّل کالثانی فی الإطلاق فی نفسه، ولم نقل بأنّ ظاهره الاستخلاف فی روایة الحدیث والسنة ولکن لا ریب فی احتفافه بما یصلح للقرینیة أعنی قوله بعد ذلک: «الذین یأتون بعدی ویروون حدیثی وسنتی». وهی تمنع عن انعقاد الظهور الإطلاقی فی الخلافة لجمیع الجهات حیث یحتمل جدا أنّهم خلیفته فیما هو من أظهر خواص الرسالة من تبلیغ الأحکام وبیانها للناس.

هذا مع أنّه لو أُرید من الروایة أنّ مطلق الراوی للحدیث والسنة کان خلیفته بقول مطلق فی جمیع الجهات لکان منافیا لمادلّ علی حصر خلفائه فی اثْنَیْ عَشَرَ. اللهم إلاّ ان یقال بالخروج عن إطلاقها فی بعض الجهات بالنسبة إلی غیرهم، وتبقی دالة مثل تلک الأدلة علی الخلافة فی جمیع الجهات بالإضافة إلیهم، وبالجملة فالروایة لا تخلو من إجمال وشبهة فیشکل الاستدلال بها علی الولایة العامة للفقیه فتدبر»(1).

ص: 210


1- 2 . ولایة الاُولیاء /79.
8/1- ومنها: خبر علی بن أبِیحَمْزَةَ

قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَی بْنَ جَعْفَرٍ علیه السلام یَقُولُ: «إذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ، بَکَتْ عَلَیْهِ الْمَلاَئِکَةٌ وَبِقَاعُ الاْءَرْضِ، الَّتِی کَانَ یَعْبُدُ اللّه َ عَلَیْهَا، وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ، الَّتِی کَانَ یُصْعَدُ فِیهَا بِأَعْمَالِهِ، وَثُلِمَ فِی الاْءِسْلاَمِ ثُلْمَةٌ لاَ یَسُدُّهَا شَیْءٌ؛ لاِءَنَّ الْمُؤْمِنِینَ الْفُقَهَاءَ حُصُونُ الاْءِسْلاَمِ کَحِصْنِ سُورِ الْمَدِینَةِ لَهَا.(1)

رواها الصدوق(2) بسنده الصحیح عن علی بن رئاب عن موسی بن جعفر علیه السلام ولکن من دون کلمة «الفقهاء»، ولکن مع ضمّ قاعدة أنّ الأصل عدم الزیادة، تثبت کلمة «الفقهاء» وصحح السند. فلا نحتاج فی الاعتماد علی سندها إلی مقالة السیّد الخمینی(3).

بتقریب: «إنّ فی الإسلام نظاما وحکومة بجمیع شؤونها، لا یبقی شکّ فی أنّ الفقیه لا یکون حصنا للإسلام - کسور البلد له - إلاّ بأن یکون حافظا لجمیع الشؤون؛ من بسط العدالة، وإجراء الحدود، وسدّ الثغور، وأخذ الأخاریج والضرائب، وصرفها فی مصالح المسلمین، ونصب الولاة فی الأصقاع، وإلاّ فصرف الأحکام لیس بإسلام.

بل یمکن أن یقال: الإسلام هو الحکومة بشؤونها، والأحکام قوانین الإسلام، وهی شأن من شؤونها، بل الأحکام مطلوبات، بالعرض، وأُمور آلیّة لإجرائها وبسط العدالة.

فکون الفقیه حصنا للإسلام کحصن سور المدینة لها، لا معنی له إلاّ کونه والیا، له نحو ما لرسول اللّه وللأئمّة - صلوات اللّه علیهم أجمعین - من الولایة علی جمیع الأُمور السَّلْطانیّة.

وعن أمیرالمؤمنین علیه السلام : «الجنود بإذن اللّه حصون الرعیّة...» إلی أن قال: «ولیس تقوم الرعیّة إلاّ بهم»(4).

فکما لا تقوم الرعیّة إلاّ بالجنود، فکذلک لا یقوم الإسلام إلاّ بالفقهاء الذین هم حصون الإسلام، وقیام الإسلام هو إجراء جمیع أحکامه، ولا یمکن إلاّ بالوالی الذی هو

ص: 211


1- 1 . الکافی 1/91، ح3 (1/38).
2- 2 . علل الشرائع /462، ح2.
3- 3 . کتاب البیع 2/631.
4- 4 . نهج البلاغة عبده /606.

حصن»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: التعبیر ب- «حصون» وارد فی معتبرة إسماعیل بن جابر عَنْ

أَبِیعَبْدِاللّه ِ علیه السلام ، قَالَ: «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ، والاْءَتْقِیَاءُ حُصُونٌ، وَالاْءَوْصِیَاءُ سَادَةٌ.(2)

وَفِی رِوَایَةٍ أُخْری: الْعُلَمَاءُ مَنَارٌ، وَالاْءَتْقِیَاءُ حُصُونٌ، وَالاْءَوْصِیَاءُ سَادَةٌ»(3).

فما یقول المستدلّ بالنسبة إلی الأتقیاء أتثبت لهم الولایة؟!

وثانیا: «کون الفقهاء حصونا للإسلام فمقتضاه کونهم رادعین عن التحریف والتأویل فی أحکام الشرع، فإن الإسلام فی نفسه عبارة عن الأحکام والقوانین المجعولة من الشرع، والریاسة العامة وثبوت الولایة کولایة الرسول صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام لا یستفاد منها بوجه کما لا یخفی»(4).

وثالثا: الروایة «لا تشمل الولایة لأنّ المستفاد منها أنّ حفظ الإسلام والمسلمین بسبب إجراء الأحکام الشرعیة بینهم وإنفاذ القوانین التی بعث الأنبیاء لأجلها بید الفقهاء کما أنّ سور البلدة یدفع عن أهلها غوایل الأعادی والطغاة ویمنع عنهم هجوم الخصوم والعصاة والحصن بکسر الحاء والسور حایط المدینة والإضافة بیانیة والمقصود أنّ الفقهاء حصون الإسلام کما أنّ سور المدینة حصن لها»(5).

ورابعا: لو فُرض تمّ ما ذکره المستدِّل وَقَبِلْنا أنّ «الإسلام هو الحکومة بشؤونها..و والأحکام مطلوبات بالعرض واُمور آلیة لإجرائها وبسط العدالة... فکون الفقیه حصنا... لا معنی له إلاّ کونه والیا» ولکن من أین استفاد رحمه الله أنّ للفقیه «ما لرسول اللّه والأئمة - صلوات اللّه علیهم أجمعین - من الولایة».

وخامسا: إنّ هاهنا ثلاث کلمات «الفقهاءُ حصونُ الإسلامِ» فمن أین یُستفاد إطلاق ولایة الفقیه من هذه الکلمات الثلاثة؟!

ص: 212


1- 5 . کتاب البیع 2/632.
2- 1 . الکافی 1/78، ح5 (1/33).
3- 2 . الکافی 1/78، ح6 (1/33).
4- 3 . إرشاد الطالب 4/209.
5- 4 . الإرشاد إلی ولایة الفقیه /42.
9/1- ومنها: صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع

قال: مات رجل من أصحابنا ولم یوص فرفع أمره إلی قاضی الکوفة فصیر عبدالحمید القیم بماله، وکان الرجل خلّف ورثة صغارا ومتاعا وجواری، فباع عبدالحمید المتاع، فلما أراد بیع الجواری ضعف قلبه عن بیعهنَّ إذ لم یکن المیت صیّر إلیه وصیته، وکان قیامه فیها بأمر القاضی لأنهنَّ فروج.

قال: فذکرت ذلک لأبیجعفر علیه السلام وقلت له: یموت الرجل من أصحابنا، ولا یوصی إلی أحد، ویخلف جواری فیقیم القاضی رجلاً منّا فیبیعهنَّ، أو قال: یقوم بذلک رجل منّا فیضعف قلبه لأنهنَّ فروج، فماتری فی ذلک؟ قال: فقال: إذا کان القیم به مثلک، ومثل عبدالحمید فلا بأس.(1)

بتقریب: أنَّ الصحیحة «صریحة فی ثبوت الولایة لأمثال ابن بزیع وعبدالحمید، وجواز التصرّف له فی أموال الصغار ونظائره. والمراد من المثل، لیس المثلیّة فی الإسلام والإیمان وإن کان ظاهرا، بل المقصود أنّه لو کان المتصدّی لأُمور الصغار مثل عبدالحمید فی الجهة المقتضیة لثبوت الولایة له، وهو المقام العلمی والفقهی، وکونه راویا وعالما بأمور الصغار والأحکام و عادلاً فلا بأس فیه. فهی إمّا ظاهرة فی ولایة الفقیه والحاکم للشرع، أو هو القدر المتیقّن من المثل والمضمون.

ودعوی أنّ الروایة إنّما تدلّ علی إذن الإمام لمحمّد بن إسماعیل وعبدالحمید فی ذلک التصرّف ونحوه، وهو لا یستلزم ولایة غیرهما من العلماء والفقهاء، وجواز التصدّی لهم، إذا لم یکونوا مأذونین من قبله، مدفوعة؛ إذ الظاهر من الروایة والمتبادر منها، أنّ الإمام علیه السلام فی مقام بیان الحکم الواقعی المجعول لأمثالهما کما یشعر بذلک قول الروای «فما تری فی ذلک»؛ لوضوح أنّ السؤال إنّما وقع عن الحکم الشرعی، والرأی الثابت فی نفس الأمر، وقوله علیه السلام : «فلا بأس» جواب عنه، وراجع إلیه أیضا، لا أنّه أجاز فعله، وأمضی ما مضی، وأذن فیما سیأتی.

والحاصل: أنّ المستفاد من الروایة، أنّ دخالة أمثال عبدالحمید وابن بزیع - من العلماء فی أُمُوْرِ الصغار - ممّا لا یحتاج إلی إذن القاضی وتعیینه ونصبه. بل جواز ذلک،

ص: 213


1- 1 . وسائل الشیعة 17/363، ح2، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.

وثبوت الولایة لهم أمر شرعی وحکم الهی.

ثمّ إنّه بناءً علی ظهور الروایة فی ولایة العالم الفقیه فقط - کما هو غیر بَعِیْدٍ - یقید به إطلاق ما یدلّ من النصوص علی جواز التصرّف والتصدّی لکلّ شخص من

المؤمنین(1)، أو یحمل علی صورة عدم التمکّن من الوصول إلی الفقیه، وإن کان دعوی الإطلاق غیر خالیة من الإشکال»(2).

وبعبارة أُخری: «وجه الاستدلال بهذه الروایة هو تصحیح الإمام علیه السلام وامضائه عمل محمّد بن إسماعیل بن بزیع وعبدالحمید، ووجه تصحیحه علیه السلام إمّا من باب کونهما فقیهین أو کونهما عدلین وعلی کلّ حالٍ یستفاد من الروایة ولایة الفقیه فی الجملة، إمّا بالمنطوق من باب کونهما فقیهین أو بالاولویة بناء علی کونهما عدلین، لأنّه بعد ثبوت الولایة لعدول المؤمنین من هذه الروایة تثبت للفقیه بطریق الأُولی، لأنَّ ولایة العدول من المؤمنین تکون فی طول ولایة الفقیه.

إن قلت: حیث یکون زمان حضور امام علیه السلام والأمر إلیه علیه السلام ، أرجع أمر الصغار فی مورد السؤال به وبعبدالحمید، فهذا جعل ولایة خاصة لهما فی زمان حضوره علیه السلام ، وهذا غیر مربوط بما نحن فیه.

قلت: هذا مناف لقوله علیه السلام «إذا کان القیم به مثلک أو مثل عبدالحمید» الظاهر فی جعل الولایة لهما ولغیرهما، إمّا من باب کونهم فقهاء أو عدول»(3).

أقول: الروایة من حیث السند تامة ولکن من حیث الدلالة یمکن حملها علی ولایة عدول المؤمنین لأنّ عبدالحمید هو ابن سالم العطار، «روی عن أبی الحسن

ص: 214


1- 1 . راجع: الکافی 7/66 باب من مات علی غیر وصیة وله وارث صغیر فیباع علیه والتهذیب 9/232 باب الزیارات، ح20؛ وسائل الشیعة 19/421، کتاب الوصایا باب 88. ح1 و 2 و 3.
2- 2 . الهدایة إلی من له الولایة /805 و 806، المطبوعة فی ضمن رسائل فی ولایة الفقیه.
3- 3 . الدلالة إلی من له الولایة /66.

موسی علیه السلام وکان ثقة من أصحابنا الکوفیین»(1) ولکن لا تثبت له الفقاهة لاسیّما مع أنّه لا ینقل عنه المشایخ الثلاثة فی الکتب الأربعة حتّی روایة واحدة فکیف یمکننا الحکم بأنّه فقیه؟!

وتمکن المناقشة فی هذا البیان بأنّ أباجعفر الثانی - وهو الجواد - علیه السلام قال: «إذا کان القیم به مثلک ومثل عبدالحمید فلا بأس». وتمثیل عبدالحمید بابن بزیع الذی وصفه النجاشی ب- «کثیر العمل» و «کان من رجال أبیالحسن موسی علیه السلام وأدرک أباجعفر الثانی علیه السلام » و «کان علی بن النعمان وصَّی بکتبه له» و «سمع من منصور بن یونس وحماد

بن عیسی ویونس بن عبدالرحمن وهذه الطبقة کلّها» و «ثقة ثقة عین» وفی حسنة الحسین بن خالد الصیرفی قال: کنّا عند الرضا علیه السلام ونحن جماعة، فذکر محمّد بن إسماعیل بن بزیع فقال: وددت أن فیکم مثله.(2)

وحیث ظهر لک فقاهة ابن بزیع فتمثیل عبدالحمید بن سالِمٍ یُعْلِمُنا بأنّه أیضا فقیهٌ. فتستفاد ولایة الفقیه من الصحیحة بلا إشکال.

نعم، موردها فی القیمومیة علی مال الإیتام، وقد مرّ منّا(3) فی أوّل البحث عدم النقاش فیها وأمّا التعدی منها إلی الصورة الثانیة من صور ولایة الفقیه التی یکون البحث فیها محلّ تأمل بل منع.

ویأتی(4) بعض الاعتراضات علی دلالتها وجوابها ومدی ما یستفاد منها فی بحث ولایة عدول المؤمنین فانتظر.

ص: 215


1- 4 . کذا ذکره النجاشی /339، رقم 906 فی ترجمة ابنه محمّد بن عبدالحمید.
2- 1 . رجال النجاشی /330، رقم 893.
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 185.
4- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 347.
10/1- ومنها: صحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری

قال: سألت الرضا علیه السلام عن رجل مات بغیر وصیة وترک أولادا ذکرانا وغلمانا صغارا، وترک جواری وممالیک هل یستقیم أن تباع الجواری؟ قال: نعم.

وعن الرجل یموت بغیر وصیة وله ولد صغار وکبار أیحلّ شراء شیء من خدمه ومتاعه من غیر أن یتولّی القاضی بیع ذلک، فإن تولاّه قاض قد تراضوا به ولم یستعمله الخلیفة أیطیب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا کان الأکابر من ولده معه فی البیع فلا بأس إذا رضی الورثة بالبیع، وقام عدل فی ذلک.(1)

بتقریب: أنَّ هذه الصحیحة «وإن کانت هی تدلّ علی صحّة تصرّفات العادل وقیامه، بأُمور الصغار مطلقا لکن بناءً علی ظهور ما تقدّم من ابن بزیع فی اختصاص الجواز والقیام بالفقیه، یقیّد به إطلاقها، أو تحمل علی صورة فقد الفقیه، أو عدم التمکّن من الوصول إلیه، إذا قلنا: أنّ اختصاص الولایة بالفقیه من باب القدر المتیقّن من الروایة، لا لظهورها فیه»(2).

وبِعِبَارةٍ أُخری: «حاصل وجه استدلال بالروایة علی ولایة الفقیه، أنّ هذه الروایة وإن وردت، فی ولایة عدول المؤمنین، لکن بعد تقیید إطلاقها، بالروایة السّابقة، یعنی روایة محمّد بن إسماعیل بن بزیع، الدّالة علی ولایة الفقیه، تکون نتیجة الرّوایتین، ولایة الفقیه، ثمّ مع عدم الوصول به، تصل النّوبة بولایة العدول»(3).

وبعبارة ثالثة: «المراد من العادل المذکور فیها، لیس مطلق العادل ولو لم یکن عالما فقیها، ومن المحتمل قریبا أن یکون المراد منه هو العالم الفقیه المتولّی لأُمور الصغار فی سائر الموارد، بقرینة سؤال الراوی وقوله: «فإن تولاّه قاض قد تراضوا به ولم یستخلفه الخلیفة» فیشعر أنّ فرض السؤال ومورده تولیة الذی کان هو من أهل الرأی والقضاوة، إلاّ أنّه لم یستعمله الخلیفة. وبتعبیر آخر لم یکن رسمیّا وقانونیّا منصوبا من قبل السلطان

ص: 216


1- 1 . وسائل الشیعة 17/362، ح1.
2- 2 . الهدایة إلی من له الولایة /807.
3- 3 . الدلالة إلی من له الولایة /67.

والخلیفة»(1).

أقول: ویرد علیها: أوّلاً: عدم إمْکانِ التَّعَدِّی من القیومیة علی أموال الأیتام

- وهی الصورة الاُولی من صور ولایة الفقیه - إلی الصورة الثانیة التی تکونُ هی مَحَلّ النفی والإثبات.

وثانیا: هذه الصحیحة تدلّ علی اعتبار ولایة عدول المؤمنین کما یأتی فی بحثها(2) فانتظر.

ص: 217


1- 4 . الهدایة إلی من له الولایة /807.
2- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 361.
11/1- ومنها: معتبرة أبیخدیجة

قال: بعثنی أبوعبداللّه علیه السلام إلی أصحابنا، فقال: قل لهم: إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومة، أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء، أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بینکم رجلاً، قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنِّی قد جعلته علیکم قاضیا، وإیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضا إلی السلطان الجائر.(1)

ومنها: معتبرته الأُخری قال: قال أبوعبداللّه علیه السلام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضا إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم، یعلم شیئا من قضایانا، فاجعلوه بینکم، فإنّی قد جعلته قاضیا، فتحاکموا إلیه.(2)

بتقریب:نهی الإمام علیه السلام الشیعة عن مراجعة قضاة الجور المنصوبین من قِبَلِ الظلمة وأمرهم بمراجعة الفقهاء العظام، وجعل علیه السلام الفقیه قاضیا بینهم، ومن المعلوم أنّ قضاة الجور مضافا إلی تَصَدِّیْهِم لفصل الخصومات والدعاوی یشتغلون ببعض أُمور العامة نحو: جعل القیم للقُصَّر والغُیَّب والتصرف فی أموالهم وأخذ الحقّ من المماطل وحبسه وبیع ماله والحکم بثبوت الهلال وجعل المتولی للاُوقاف العامة أو الخاصة التی لیس لها متولٍ خاص أو کان وانقرض وإجراء الحدود الشرعیة ونحوها، فی جمیع هذه الموارد الإمام علیه السلام جعل الفقیه بدیلاً عن قضاة الجور وهذا یعنی ولایته.

ویرد علیه: نعم، هاتان المعتبرتان تدلاّن علی ثبوت منصب القضاء ولذا قال المحقّق النائینی: «فاختصاصهما بالقضاء واضح»(3) بمعناها العام للفقیه، ولیس فیها بحث، لأنّ هذه الموارد کلّها یدخل فی الصورة الاُولی من تقسیم صور ولایة الفقیه التی لا کلام فیها، وإنّما الکلام فی الصورة الثانیة، والمعتبرتان أجنبیتان عنها ولم تقدرا ثبوتها، واللّه العالم.

ولذا قال خالنا الشیخ حسن ابن الشیخ جعفر کاشف الغطاء: «ولایة الحاکم عامّة لکلّ ما للإمام علیه السلام ولایةٌ فیه؛ لقوله علیه السلام : «حجّتی علیکم» وقوله علیه السلام : «فاجعلوه

ص: 218


1- 1 . وسائل الشیعة 27/139، ح6، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
2- 2 . وسائل الشیعة 27/13، ح5، الباب 1 من أبواب صفات القاضی.
3- 3 . منیة الطالب 2/235.

حاکما» حیث فهم الفقهاء منه أنّه بعمنی الولیّ المتصرّف، لا مجرّد أنّه یحکم فی القضاء، ولأنّ الضرورة قاضیة بمثل هذا المنصب، ولانّ النائب فی القضاء الذی هو أعظم کیف لا ینوب فیما هو أقلّ، ویتولّی المنصوب الخاصّ لجمیع ذلک فالعامّ مثله، ولما ورد فی جملةٍ

من الأخبار من الإذن فی ولایة الأیتام لجملةٍ من أصحابهم.(1)

وکذا الحاکم الشرعی وکیل عن الصاحب علیه السلام فیما یعود إلیه من أنفاله وأمواله، وقبضه قبضه؛ لمکان الضرورة والإجماع وظواهر أخبار النیابة والولایة، ولعموم «ما عَلَی الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ»(2).

بل لو فقد الحاکم الشرعی قامت عدول المؤمنین مقامه فی الولایات وفیما یرجع إلی الحاکم وفیما یختصّ بالإمام علیه السلام ؛ لمکان الضرورة ولعموم أدلّة الإحسان وعموم «وَالْمُوءْمِنُونَ وَالْمُوءْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ»(3).

بل قد یقال: إنّه مع الاضطرار ینوب العدل العارف بالحکم الشرعی عن الإمام فی الحکم والفصل بین المتنازعین؛ لمکان الضرورة القاضیة بلزوم قطع الخصومات ورفع المنازعات.

وبالجملة، فروایة أبی خدیجة: «فاجعلوه قاضیا فإنّی قد جعلته قاضیا» یُفهم منها التسریة إلی کلّ ما یدخل تحت نصب القاضی ذلک الیوم، والمعلوم ذلک الیوم أنّ مَنْ نُصب قاضیا رجعت إلیه جمیع الأُمور العامّة فیما نصب فیه من البلدان، بل ربما یدّعی أنّ مجرّد غیبة الإمام علیه السلام وارتفاع سلطنته قاضٍ بمقتضی اللطف بتولّی جمیع ما یعود إلی العالم بأحکامه، وإلاّ لزم الهرج والمرج وتعطیل الحقوق وضیاع الأموال وتشتّت الأُمور العامّة، وکما قضت الضرورة بالأخذ بالظنّ بعد انسداد باب العلم وقضت بجواز الاجتهاد والتقلید قضت بتفویض الأمُور إلی العالم بالأحکام الشرعیّة الفرعیّة.

ص: 219


1- 1 . راجع وسائل الشیعة 17/363، ح2، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
2- 2 . سورة التوبة /91.
3- 3 . سورة التوبة /71.

نعم، ما دام موجودا لا یرجع إلی غیره؛ اقصارا فی الضرورة علی قدرها»(1).

وقال شیخنا فی الروایة فی إرشاده: «فغایة ما تدلّ علیه المشهورة أنّ الشارع نصب الفقیه قاضیا بحیث ینفذ حکمه فی المرافعات وبه یتحقّق الفصل فی الخصومات ویتم أمر المرافعات وبعض الأُمور الأُخر مثل ما ذکر، ولا دلالة لها علی الولایة بالمعنی الذی هو محل الکلام بمعنی أنّ مجرد إعطاء منصب القضاء للفقیه فی مورد فصل الخصومة لا یقتضی ولایة التصرف فی الأُمور العامة فضلاً عن أن یکون له الولایة المطلقة

بالتصرف فی النفوس والأموال»(2).

ص: 220


1- 4 . أنوار الفقاهة 9/275 و 276.
2- 1 . الإرشاد إلی ولایة الفقیه /55.
12/1- ومنها: ما رُوی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: السلطان ولیٌّ من لا ولیَّ له.

(1)

وقد وصفها الشیخُ الأعظم ب- : «قد اشتهر فی الألسن وَتَداوَلَ فی بعض الکتب(2)»(3).

واستفاد صاحبُ الجواهر(4) منها عموم ولایة الحاکم.

وقیّدها السیّد الخمینی(5) بالسلطان العادل.

بتقریب: أنَّ السلطان العادل وهو الفقیه «ولیُّ مَنْ مِن شأنه أن یکون له ولیّ بحسب شخصه أو صنفه أو نوعه أو جنسه، فیشمل الصغیر الذی مات أبوه، والمجنون بعد البلوغ، والغائب، والممتنع، والمریض، والمغمی علیه، والمیّت الذی لا ولیّ له، وقاطبة المسلمین إذا کان لهم مِلک، کالمفتوح عنوة، والموقوف علیهم فی الأوقات العامّة، ونحو ذلک.

لکن یستفاد منه ما لم یمکن یستفاد من التوقیع [الآتی]، وهو الإذن فی فعل کلّ مصلحة لهم، فَتَثْبُتْ به مشروعیّة ما لم یثبت مشروعیّته بالتوقیع المتقدّم، فیجوز له القیام بجمیع مصالح الطوائف المذکورین.

نعم، لیس له فعل شیء لا تعود مصلحته إلیهم، وإن کان ظاهر «الولیّ» یوهم ذلک؛ إذ بعد ما ذکرنا: من أنّ المراد ب- «من لا ولیّ له» مَن مِن شأنه أن یکون له ولیّ،یراد به کونه ممّن ینبغی أن یکون له من یقوم بمصالحه، لا بمعنی: أنّه ینبغی أن یکون علیه ولیٌّ، له علیه ولایة الإجبار، بحیث یکون تصرّفه ماضیا علیه.

والحاصل: أنّ الولیّالمنفیّ هو الولیّ للشخص لا علیه، فیکون المراد بالولیّ

ص: 221


1- 1 . مسند أحمد 1/250؛ سنن الترمذی 2/281، ح1108؛ سنن الدارمی 2/137؛ سنن ابن ماجه 1/605، ح1879؛ سنن أبیداود 2/229، ح2083؛ السنن الکبری للبیهقی 7/106 و 124 و 138؛ کنزالعمال 16/309، ح 44643 و 44644؛ مجمع الزوائد 4/285.
2- 2 . کما فی المسالک 7/147؛ وعوائد الأیام /563؛ والجواهر 30/336 (29/188).
3- 3 . المکاسب 3/558.
4- 4 . الجواهر 30/336 (29/188).
5- 5 . کتاب البیع 2/653.

المثبت، ذلک أیضا، فمحصّله: إنّ اللّه جعل الولیّ الذی یحتاج إلیه الشخص وینبغی أن یکون له، هو السلطان، فافهم»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: إنَّ الروایة عامیة، وقال صاحب الحدائق: «وهذا الخبر لم نقف

علیه فی أخبارنا، والظاهر أنّه عامیٌّ، ومع تسلیمه فالحکم مختص بالإمام، إذ المتبادر من السلطان هو إمام الأصل کما لا یخفی»(2).

وقد یقال فی شأنها: «وفیه: أنّه لم یعرف له سند ولم یوجد فی روایات أصحابنا بل قیل أنّها من مجعولات العامة لوجوب طاعة السلطان مع أنّ فی دلالتها علی المطلوب ما لا یخفی»(3).

وثانیا: قال الشیخ الأعظم: «وهذا أیضا - بعد الانجبار سندا أو مضمونا(4) - یحتاج إلی أدلّة عموم النیابة، وقد عرفت ما یصلح أن یکون دلیلاً علیه(5)، وأنّه لا یخلو عن وهن فی دلالته، مع قطع النظر عن السند، کما اعترف به جمال المحقّقین فی باب الخمس بعد الاعتراف بأنّ المعروف بین الأصحاب کون الفقهاء نوّاب الإمام علیه السلام ،(6) ویظهر من المحقّق الثانی أیضا - فی رسالته الموسومة ب- «قاطع اللجاج»(7) فی مسألة جواز أخذ الفقیه اُجرة أراضی الأنفال من المخالفین کما یکون ذلک للإمام علیه السلام إذا ظهر - الشکّ(8) فی عموم

ص: 222


1- 6 . المکاسب 3/559 و 560.
2- 1 . الحدائق 23/239.
3- 2 . ولایة الاولیاء /89.
4- 3 . قال الشهیدی قدس سره : منشأ التردید هو الشکّ فی أنّ المتداول فی الألسنة متن الروایة ونقلت باللفظ، أو مضمونها ونقلت بالمعنی (هدایة الطالب 3/265).
5- 4 . راجع المکاسب 3/(551-553).
6- 5 . حاشیة الروضة /320، ذیل عبارة: أو إلی نوابّه وهم الفقهاء.
7- 6 . کذا فی النسخ، والمعروف تسمیتها ب- «قاطعة اللجاج».
8- 7 . کذا فی بعض النسخ، وفی سائر النسخ: للشکّ.

النیابة(1)، وهو فی محلّه»(2).

وثالثا: لا تدلّ «علی مرجعیة السلطان فی الاُمور العامّة، فإنّه لو لم نقل بما قیل: من ورودها بالنسبة إلی المیّت الّذی لا ولیّ له، بل قلنا بولایته علی کلِّ من لا ولیّ له حتّی الموقوف علیهم فی الأوقات العامّة فضلاً عن مثل الصبیّ والمجنون والغائب، إلاّ أنّه حیث إنّ ظاهرها ولایة السلطان علی من یحتاج إلی الولیّ فتختصّ بالاُمور الحسبیّة، فلا تدلّ علی ولایته علی إقامة الجمعة، وإجراء الحدود، وأخذ الزکاة جبرا، ونظم البلاد، وما یرجع إلی الأُمور العامّة»(3).

ورابعا: «الظاهر من السلطان هو الإمام علیه السلام دون الفقیه بدعوی أنّ «اللاّم» فیه عوض عن المضاف إلیه وهو اللّه تعالی، فیختصّ به علیه السلام ، فیحتاج إسراء الحکم إلی الفقیه إلی عموم النیابة لا مطلق من تسلّط علی النّاس ولو بخصوص الحقّ؛ کی یعمّ الفقیه بنفسه لو کان تسلّط علیهم، فتدبّر»(4).

ص: 223


1- 8 . قاطعة اللجاج فی تحقیق حلّ الخراج (رسائل المحقّق الکرکی) 1/257.
2- 9 . المکاسب 3/558 و 559.
3- 10 . منیة الطالب 2/236.
4- 1 . هدایة الطالب 3/265.
13/1- ومنها: التوقیع المروی بسند حسنٍ عن إسحاق بن یعقوب

قال: سألت محمّد بن عثمان العمری أن یوصل لی کتابا، قد سألت فیه عن مسائل أشکلت علیّ، فورد التوقیع بخطّ مولانا صاحب الزمان علیه السلام : أمّا ما سألت عنه أرشدک اللّه وثبّتک - إلی أن قال - : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة اللّه، وأمّا محمّد ابن عثمان العمری - رضی اللّه عنه - ، وعن أبیه من قبل، فإنّه ثقتی، وکتابه کتابی.(1)

قد وصفه الشیخ محمّدطه نجف المتوفی سنة 1323 بأنّه مقطوع به أو کالمقطوع.(2)

قال صاحب الجواهر: «ضرورة کون المراد منه: أنّهم حجّتی علیکم فی جمیع ما أنا فیه حجّة اللّه علیکم إلاّ ما خرج»(3).

قال الشیخ الأعظم فی تقریب الاستدلال به: «فإن المراد ب- «الحوادث» ظاهرا: مطلق الاُمور التی لابدّ من الرجوع فیها عرفا أو عقلاً أو شرعا إلی الرئیس، مثل النظر فی أموال القاصرین لغیبةٍ أو موتٍ أو صغرٍ أو سَفَهٍ.

وأمّا تخصیصها بخصوص المسائل الشرعیّة، فبعید من وجوه:

منها: إنّ الظاهر إیْکالُ(4) نفس الحادثة إلیه لیباشر أمرها مباشرةً أو استنابةً، لا الرجوع فی حکمها إلیه.

ومنها: التعلیل بکونهم «حجّتی علیکم وأنا حجّة اللّه»؛ فإنّه إنّما یناسب الاُمور التی یکون المرجع فیها هو الرأی والنظر، فکان هذا منصب ولاة الإمام علیه السلام من قِبَل نفسه، لا أنّه واجب من قِبَل اللّه سبحانه علی الفقیه بعد غیبة الإمام علیه السلام ، وإلاّ کان المناسب أن یقول: «إنّهم حُجج اللّه علیکم» کما وصفهم فی مقام آخر ب- «أنّهم اُمناء اللّه علی الحلال والحرام».

ومنها: أنّ وجوب الرجوع فی المسائل الشرعیة إلی العلماء - الذی هو من

ص: 224


1- 1 . وسائل الشیعة 27/140، ح9، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
2- 2 . کما نقل عنه آیة اللّه الشیخ علی کاشف الغطاء فی کتابه: النور الساطع فی الفقه النافع 1/371.
3- 3 . الجواهر 41/22 (40/18).
4- 4 . وفی المصدر: وکول.

بدیهیّات الإسلام من السلف إلی الخلف - ممّا لم یکن یخفی علی مثل إسحاق بن یعقوب، حتّی یکتبه فی عداد مسائل أشکلت علیه، بخلاف وجوب الرجوع فی المصالح العامّة إلی رأی أحدٍ ونظره؛ فإنّه یحتمل أن یکون الإمام علیه السلام قد وکّله فی غیبته إلی شخص أو

أشخاص من ثقاته فی ذلک الزمان.

والحاصل: إنّ الظاهر أنّ لفظ «الحوادث» لیس مختصّا بما اشتبه حکمه ولا بالمنازعات.

ثمّ إنّ النسبة بین مثل هذا التوقیع وبین العمومات الظاهرة فی إذن الشارع فی کلّ معروف لکلّ أحد، مثل قوله علیه السلام : «کلّ معروف صدقة»، وقوله علیه السلام : «عون الضعیف من أفضل الصدقة» - وأمثال ذلک - وإن کانت عموما من وجه، إلاّ أنّ الظاهر حکومة هذا التوقیع علیها وکونها بمنزلة المفسّر الدالّ علی وجوب الرجوع إلی الإمام علیه السلام أو نائبه فی الاُمور العامّة التی یفهم عرفا دخولها تحت «الحوادث الواقعة»، وتحت عنوان «الأمر» فی قوله: «أُولِی الاْءَمْرِ»(1).

وعلی تسلیم التنزّل عن ذلک، فالمرجع بعد تعارض العمومین إلی أصالة عدم مشروعیّة ذلک المعروف مع عدم وقوعه عن رأی ولیّ الأمر.

هذا، لکن المسألة لا تخلو عن إشکال، وإن کان الحکم به مشهوریا»(2).

وقال المحقّق الاصفهانی فی تقریبه: «أنّ عموم الحوادث لکونها جمعا محلی باللام یقتضی أنْ یکون الفقیه مرجعا فی کل حادثة یرجع فیها الرعیة إلی رئیسهم، سواء تعلّق بالسیاسات أو بالشرعیات، دون خصوص الشبهات الحکمیة والمسائل الشرعیة بإرادة الفروع المتجددة من الحوادث الواقعة، واستشهد المنصف قدس سره للعموم بوجوه:

أحدها: أنّ الظاهر الرجوع فی نفس تلک الحوادث إلی الفقیه لا فی حکمها، فیرجع فی بیع مال الیتیم إلیه لا فی حکمه وهکذا.

ص: 225


1- 1 . الوارد فی قوله تعالی، «أَطِیعُوا اللّهَ»، سورة النساء /59.
2- 2 . المکاسب 3/(557-555).

وثانیها: أنّ مقتضی إضافة حجیة الفقیه إلی نفسه المقدسة أنّه منصوب بالنیابة من قبله، فهو نائب عن الإمام فیما هو وظیفته علیه السلام من التصرفات، لا فیما یتعلّق بحکم اللّه تعالی فإنّه حجة من اللّه تعالی علی حکمه، کما وصف فی مقام آخر بأنّهم أمناء اللّه علی حلاله وحرامه.

وثالثها: أنّ الرجوع فی حکم الحوادث الواقعة إلی العالم به أمر یعد من بدیهیات الاسلام، ولم یکن یخفی علی مثل إسحاق بن یعقوب حتّی یکتبه فی عداد المسائل التی أشکلت علیه»(1).

وقال السیّد الخمینی رحمه الله فی تقریبه: «وأمّا دلالته: فتارة من ناحیة قوله علیه السلام : «أمّا الحوادث الواقعة...» إلی آخره.

وتقریبها: أنّ الظاهر أنّه لیس المراد بها أحکامها، بل نفس الحوادث، مضافا إلی أنّ الرجوع فی الأحکام إلی الفقهاء من أصحابهم علیهم السلام ، کان فی عصر الغیبة من الواضحات عند الشیعة، فیبعد السؤال عنه.

والمظنون أنّ السؤال کان بهذا العنوان، فأراد السائل الاستفسار عن تکلیفه أو تکلیف الأُمّة فی الحوادث الواقعة لهم، ومن البعید أن یعدّ السائل عدّة حوادث فی السؤال، ویجیب علیه السلام : بأنّ الحوادث کذا، مشیرا إلی ما ذکره.

وکیف کان: لا إشکال فی أنّه یظهر منه أنّ بعض الحوادث التی لا تکون من قبیل بیان الأحکام، یکون المرجع فیها الفقهاء.

وأُخری من ناحیة التعلیل: «بأنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة اللّه».

وتقریبها: بأنّ کون المعصوم حجّة اللّه، لیس معناه أنّه مبیّن الأحکام فقط؛ فإنّ زرارة ومحمّد بن مسلم وأشباههما أیضا أقوالهم حجّة، ولیس لأحد ردّهم وترک العمل بروایاتهم، وهذا واضح.

بل المراد بکونه وکون آبائه الطّاهِرِیْنَ علیهم السلام حجج اللّه علی العباد، أنّ اللّه تعالی

ص: 226


1- 3 . حاشیة المکاسب 2/388.

یحتجّ بوجودهم وسیرتهم وأعمالهم وأقوالهم، علی العباد فی جمیع شؤونهم، ومنها العدل فی جمیع شؤون الحکومة.

فأمیرالمؤمنین علیه السلام حجّة علی الأُمراء وخلفاء الْجَوْرِ، وقطع اللّه تعالی بسیرته عذرهم فی التعدّی عن الحدود، والتجاوز والتفریط فی بیت مال المسلمین، والتخلّف عن الأحکام، فهو حجّة علی العباد بجمیع شؤونه.

وکذا سائر الحجج، ولا سیّما ولیّ الأمر الذی یبسط العدل فی العباد، ویملأ الأرض قسطا وعدلاً، ویحکم فیهم بحکومة عادلة إلهیّة.

وأنّهم حجج اللّه علی العباد أیضا؛ بمعنی أنّه لو رجعوا إلی غیرهم فی الاُمور الشرعیّة والأحکام الإلهیّة - من تدبیر اُمور المسلمین، وتمشیة سیاستهم، وما یتعلّق بالحکومة الإسلامیّة - لا عذر لهم فی ذلک مع وجودهم.

نعم، لو غلبت سلاطین الجور، وسلبت القدرة عنهم علیهم السلام ، لکان عذرا عقلیّا مع کونهم أولیاء الاُمور من قبل اللّه تعالی.

فهم حجج اللّه علی العباد، والفقهاء حجج الإمام علیه السلام ، فکلّ ما له لهم؛ بواسطة جعلهم حجّة علی العباد، ولا إشکال فی دلالته لو لا ضعفه.

مضافا إلی أنّ الواضح من مذهب الشیعة، أنّ کون الإمام حجّة اللّه تعالی، عبارة اُخری عن منصبه الإلهیّ، وولایته علی الاُمّة بجمیع شؤون الولایة، لا کونه مرجعا فی الأحکام فقط، وعلیه فیستفاد من قوله علیه السلام : «فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة اللّه» أنّ المراد أنّ ما هو لی من قبل اللّه تعالی، لهم من قبلی.

ومعلوم أنّ هذا یرجع إلی جَعْلٍ إلهیّ له علیه السلام ، وجَعْلٍ مِنْ قِبَلِهِ للفقهاء، فلابدّ للإخراج من هذه الکلّیة من دلیل مخرج فیتّبع»(1).

ویری آیةُ اللّه الشیخ علی کاشف الغطاء الفقهاءَ ولاة الأمر فی هذا العصر(2) وقال:

ص: 227


1- 1 . کتاب البیع 2/(637-635).
2- 2 . النور الساطع فی الفقه النافع 1/356.

«أنّ الحجة یجب اتباعها فیکون العالم واجب الإتباع، وهذا یقتضی أن تکون له الولایة، وحذف المتعلق یقتضی العموم لکلّ ما کانت للإمام علیه السلام الولایة علیه.

وقد أورد علی الاستدلال به بأن الحجة معناها ما یحتج به علی النّاس حتّی لا یبقی عذر لهم فی التقصیر فی امتثال التکالیف بدعوی عدم العلم بها والإطلاع علیها، وأین ذلک من الولایة. ولکن الإنصاف أن إطلاق الحجة علی الشخص ظاهر فیما ذکرناه، لا فیما ذکره المورد. نعم، لو أطلقت الحجة علی القول کان ظاهرها ما ذکره»(1).

وقال الشهید السیّد محمّدباقر الصدر: «النیابة العامة للمجتهد المطلق العادل الکفوء عن الإمام وفقا لقول امام العصر علیه السلام «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا فإنّهم حجتی علیکم وأنا حجة اللّه» فإنّ هذا النص یدلّ علی أنّهم المرجع فی کل الحوادث الواقعیة بالقدر الذی یتصل بضمان تطبیق الشریعة علی الحیاة لأَن الرجوع إلیهم بما هم رواة أحادیثهم وحملة الشریعة یعطیهم الولایة بمعنی القیمومة علی تطبیق الشریعة وحقّ الاشراف الکامل من هذه الزاویة»(2).

واعترض المحقّق الخراسانی علی تقریب الشیخ الأعظم بقوله: «ولا فی إرجاع الحوادث الواقعة إلیهم، فی التوقیع الشریف، لاحتمال معهودّیة الحوادث، وإشارة إلی خصوص ما ذکره فی السؤال، وقوّة أنْ یکون المراد، إرجاع حکم الحوادث الواقعة، والفروع المتجدّدة الّتی لیس منها بخصوصها أثر فی الأخبار، ولا لجعلهم حجة من قبله، فإنّ الحجیّة من قبله غیر مستلزم للولایة المطلقة، لعدم ملازمة عقلاً، ولا عرفا بین الحجیّة والولایة، وإنْ عُلِمَ ولایةُ حجة اللّه - عجل اللّه فرجه -، کما عرفت، فتأمل جیّدا»(3).

وقال أیضا فی کتاب قضائه: «و «أمّا الحوادث الواقعة...» ظاهر فی العهد والمعهود غیر معلوم، فیحتمل أن یکون السؤال عن الأحکام الّتی تصیر محلّ الحاجة والابتلاء فتکون الحوادث کنایة عنها، أو کان المراد الرجوع فی أحکام الحوادث الواقعة إلیهم لو

ص: 228


1- 3 . النور الساطع فی الفقه النافع 1/371.
2- 4 . یقود الحیاة /24 (/16 من الطبعة الاُولی).
3- 1 . حاشیة المکاسب /94.

کان المسؤول عنه غیرها. ولا دلالة للتعلیل علی ذلک بعد احتمال أن یکون المراد أنّهم الحجّة من قبله فی تبلیغ الأحکام کی لا یکون للنّاس علیه الحجّة کما أنّه حجّة اللّه علی کافّة الخلق فتکون للّه الحجّة البالغة»(1).

وقال ثالثةً فی تقریر أبحاثه فی القضاء: «فالاستدلال علیها بصدره - حیث إنّه أرجع إلی الرواة فی نفس الحوادث - مشکل، لظهور أنّ الإرجاع إنّما هو فی حکمها الشرعی المستنبط عن الکلیّات الملقاة إلیه من الأئمة وکذا ذیله، فإنّ الحجّة یقال علی جهة التبلیغ. فالعلماء حجج الأئمّة من حیث تبلیغهم الأحکام. فبهم یحتجّون الأئمّة علی النّاس کما أنّ اللّه یحتجّ علی النّاس بوجود الإمام من حیث تبلیغه أحکامه. فحیث الاحتجاج هو لحیثیّة التبلیغ»(2).

وتبعه المحقّق الشهیدی وقال: «وکیف کان، فقد مرّ الإشکال فی دلالته علی المطلب بأنّه من المحتمل قویّا أن یکون اللاّم فی «الحوادث» للعهد علی الحوادث التی سأل إسحاق عن حکمها، فإفادته للعموم تتبع إرادة العموم منه فی السؤال، وهی غیر معلومة؛ إذ لیست عبارة السؤال بأیدینا، فلعلّها مختصّة ببعض الحوادث بأن کان السؤال

عن حوادث مخصوصة قد تعرّض لها فی السؤال.

وبالجملة: یحتمل أن یکون المراد هو الأمر بتعلّم الأحکام من الفقیه، کما یؤیّده - بل یدلّ علیه - أنّه المنساق إلی الأذهان من عنوان الحدیث برواة الحدیث وختمه بأنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة اللّه تعالی؛ إذ الظاهر من ذلک أنّ قیامهم مقامه - علیه السلام وروحی له الفداء - إنّما هو فی الحجّیة وتوسّطهم بینه علیه السلام وبین من انقطع عن درک فیض حضوره علیه السلام ، کما أنّه علیه السلام واسطة بینهم وبین اللّه تعالی، ومن الظاهر أنّ توسّطه علیه السلام بین اللّه وبینهم إنّما هو فی بیان الأحکام ونشر الحلال والحرام، فلیکن توسّطهم بینه علیه السلام وبین

ص: 229


1- 2 . کتاب القضاء /32.
2- 3 . تقریرات السیّد القوچانی لدروس فقه الآخوند الخراسانی، کتاب القضاء، /232، المطبوعة فی ضمن مجموعة الرسائل الفقهیّة لآیة اللّه السیّد محمّدحسن آقا النجفی القوچانی قدس سره ، تهران، 1386.

النّاس أیضا فی ذلک.

قوله: «منها: إنّ الظاهر»(1).

أقول: فیه: إنّه إنّما یتمّ لو کان التعبیر بقوله: فارجعوها، من باب الإفعال لا بما فی المتن من المجرّد، فإنّ الظاهر منه الرّجوع فی حکمها کما لا یخفی، فتأمّل.

قوله: «ومنها: أنّ وجوب الرّجوع»(2).

أقول: فیه: إنّ إسحاق بن یعقوب لم یذکر فی کتب الرجال بوثاقة ولا فقه ولا جلالة، فلا بعد فی خفاء ما ذکر علیه کما خفی علیه حرمة الفقاع إلی زمان الغیبة، وکذلک خفی علیه قتل سیّد الشهداء علیه السلام وأنّ بنی أُمیّة - لعنهم اللّه - قد قتلوه حقیقة لا أنّه شبّه لهم، حیث إنّه سأل الحجّة علیه السلام عن ذلک کما یعلم من جوابه علیه السلام فی التوقیع»(3).

ولکن المحقّق الأصفهانی ردّ تقریب الشیخ الأعظم بقوله: «والجواب: أنّ الجمع المحلّی باللام إنّما یفید العموم حیث لا عهد، ولم یعلم أنّ المسؤل عنه أی شیء عبّر عنه بالحوادث الواقعة فکیف یؤخذ فیها بالعموم، ویحتمل إرادة الفروع المتجددة، کما یحتمل إرادة الحوادث التی هی علائم الظهور، وأنّها ما هی؛ فارجع إلی ما ورد فی الأخبار علی لسان رواة الأخبار.

وأمّا الشواهد فالأوّل منها مدفوع: بأنّ اللازم سکوت الخبر عن الرجوع إلی الرواة فی المسائل الشرعیة، لأنّه رجوع إلیهم فی حکم الوقائع لا فی نفسها، مع أنّ الخبر من الأدلة التی یستدل بها علی حجیة الخبر وحجیة الفتوی؛ فلابدّ من الحمل علی معنی جامع

فیسقط عن الشهادة بعد الخدشة فی العموم.

والثانی منها مدفوع: بأنّ النّبی والإمام علیهماالسلام یبلغان عن اللّه تعالی، فهما حجتان للّه تعالی علی عباده علی حکمه تعالی، والراوی - بما هو رواٍ - لا یخبر إلاّ عن الإمام علیه السلام ؛ فهو حجة له علیه السلام علی من سمعه من الراوی، فبهذه المناسبة أضاف حجیته إلی اللّه تعالی؛

ص: 230


1- 1 . المکاسب 3/555.
2- 2 . المکاسب 3/556.
3- 3 . هدایة الطالب 3/261.

وحجیة الرواة إلی نفسه المقدسة، مضافا إلی أنّ مفاد الحجیة صحة الاحتجاج بالشخص أو بالشیء فی مقام المؤاخذة علی مخالفة ما قامت علیه الحجة، فیناسب قیام الدلیل علی حکم شرعی سواء کان الحجة إخبار الراوی أو رأی المجتهد ونظره.

وأمّا مطلق النظر کنظر الفقیه فی بیع مال الیتیم فلا معنی لاتصافه بالحجیة، فإنّ البیع الواقع عن مصلحة بنظره صحیح نافذ؛ لا أنّه حجة له أو لغیره علی أحدٍ، فما فی طی کلامه قدس سره - من أنّه یناسب الاُمور التی یکون المرجع فیها هو الرأی والنظر - وإن کان صحیحا فی الجملة؛ إلاّ أنّه لا دخل له بکلِّ رأیٍ ونظرٍ کما لا یخفی علی أهل النظر فتبصّر.

والثالث منها مدفوع: بوقوع مثل ذلک عن من هو أجلّ من إسحاق بن یعقوب بمراتب، فهذا أحمد بن إسحاق المعدود من الوکلاء والسفراء والأبواب فقد سأل أباالحسن الهادی علیه السلام وقال: «مَنْ أُعامل وعمّن آخذ وقول مَنْ أقبل؟ فقال علیه السلام : العمری ثقتی فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی، وما قال لک عنّی فعنّی یقول؛ فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقة المأمون»(1).

وبالجملة: بمثل هذا ونحوه صار وجوب الرجوع إلی الرواة الثقات من بدیهیات الإسلام، وحیث وقع السؤال من إسحاق بن یعقوب فی زمان الغیبة کلّیّة، فلذا أجاب بالرجوع إلی رواة الأحادیث دون شخص خاص من الثقات فتدبر»(2).

وقد لخّص المحقّق السیّد الخوئی تقریب الشیخ الأعظم واستشکل علیه بقوله: «وقد ادعی المصنّف [الشیخ الأعظم] ظهور «الحوادث» فی مطلق الاُمور التی لابدّ فیها من الرجوع إلی الرئیس شرعا أو عرفا، فلابدّ فی جمیعها من الرجوع إلی الفقیه والاستیذان منه، ولیس المراد بالرجوع إلیه فیها بیان حکمها.

وأقام علی ذلک شواهد ثلاثَةً:

أحدها: إرجاع نفس الحادثة إلی رواة الأحادیث کما هو ظاهر الروایة، لا حکمها.

ص: 231


1- 1 . وسائل الشیعة 27/138، ح4، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، معتبرة أحمد بن إسحاق.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/389 و 390.

ثانیها: التعلیل بقوله قدس سره «فإنّهم حجّتی علیکم» إذ لو کان المراد بالرجوع إلیهم الرجوع إلیهم فی بیان المسائل الشرعیّة الواجب علیهم من اللّه سبحانه، لکان الأنسب التعلیل بکونهم حجّة اللّه سبحانه، لأنّه یجب علیهم من اللّه سبحانه، فالتعلیل یناسب الولایة التی تکون منصوبة للإمام علیه السلام من اللّه، والإمام علیه السلام یجعلها لمن ینصبه والیا، فیکون والیا من قبل الإمام لا من اللّه تعالی، کما فی الولاة المنصوبین فی زمان حضورهم علیهم السلام .

ثالثها: أنّ الرجوع إلی الفقهاء لمعرفة الأحکام الشرعیّة - الذی کان أمرا بدیهیّا فی الإسلام - لم یکن یشکل علی مثل «إسحاق بن یعقوب» حتّی یعدّه فی عداد ما اُشکلت علیه من المسائل، فلابدّ وأن یکون المراد السؤال عمّن یرجع إلیه فی الاُمور العامّة ویعتبر إذنه فیها، فإنّه یمکن أن یکون مجهولاً عنده، لاحتمال أن یکله علیه السلام إلی شخص خاص.

وفی جمیعها نظر:

أمّا الوجه الأوّل، ففیه: أن ظاهر الرجوع فی الحادثة الرجوع فی حکمها، فلو کانت العبارة هکذا «فارجعوها إلی رواة حدیثنا» لکان ظاهرا فیما ذکره، إلاّ أنّه لیس کذلک، وإنّما أمر بالرجوع فی الحادثة إلیهم، فهو نظیر أن یقال: «ارجع فی الأمر الکذائی إلی فلان» أی شاوره فیه، لا أن یتصرّف فیه.

وأمّا الوجه الثانی، ففیه: أنّ التعلیل تامٌّ ولو کان المراد الرجوع إلیهم فی الفتوی؛ وذلک لأنّ الفقیه وإن کان ینقل الحکم الإلهی، إلاّ أنّه ینقله بواسطة الإمام علیه السلام ، فصحّ أن یقال: إنّه حجة الإمام، بمعنی أنّه علیه السلام یحتجّ بأقواله علی العوام یوم القیامة، کما ورد فی بعض الأخبار: «أنّ النبی یوم القیامة یسأل عن تبلیغ الأحکام، والنبی صلی الله علیه و آله یسأل الإمام علیه السلام ، والإمام یسأل الفقهاء، فإذا أثبتوا أنّهم بلّغوا تمّت به الحجّة علی العوام».

وأمّا الوجه الثالث، ففیه: أنّ المعهود فی زمان الحضور - کما هو معلوم - الرجوع إلی الإمام علیه السلام فیما یقع من الحوادث بلا واسطة أو معها، وفی عصر الغیبة الصغری کان الرجوع إلی النوّاب، فلا یبعد أن یشکل علی بعض الأکابر من یرجع إلیه فی الحوادث الواقعة التی تحدث جدیدا ولم یبیّن حکمها من الکتاب والسنّة، مثل الولد الذی جعلت نطفته فی الرحم بالتقلیح، فبمن یلحق الولد؟ ومثل ما لو صلّی أحد فی بلد ثمّ سافر بالطائرة إلی بلد

ص: 232

آخر ووصل إلیه قبل دخول وقت تلک الصلاة، فهل یجب علیه التکرار أم لا؟ فَمَنْ المرجع فی هذه الحوادث؟ فیشکل علیه ذلک، فیسأل الإمام»(1).

وردّ المحقّق الأردکانی مقالة الشیخ الأعظم بقوله: «والمصنف رحمه الله [الشیخ الأعظم] أفاد فی تقریب دلالة التوقیع علی اثبات ولایة الفقیه علی الوجه الثانی وجوها أربعة لا تخلو عن مناقشة:

الأوّل: وهو ظهور الحوادث فیما یلزم الرجوع فیه من الوقایع إلی الإمام علیه السلام حضوره من دون فرق بین الأحکام وغیرها من إجراء الحدود والنظر فی أموال السفهاء والمجانین والصغار والغائبین إلی غیر ذلک من الاُمور التی یقوم بها الإمام علیه السلام .

وفیه: إنّ السؤال غیر معلوم، فیحتمل أنْ یکون المراد بالحوادث الوقایع المخصوصة المتضمن لها السؤال، والجمع المحلیَّ باللام وإن کان مفیدا للعموم حیث لا عهد إلاّ أنّه مع احتمال العهد ممنوع.

الثانی: وهو أنّ التعلیل بقوله علیه السلام «فإنّهم حجتی علیکم وأنا حجة اللّه علیهم» یدلُّ علی أنّ ما کان لهم من قبل اللّه تعالی ویقبل التفویض فهو لرواة الأحادیث الذین هم الفقهاء.

وفیه: أنّ الحجَّة لغة وعرفا یطلق علی ما یحتج به کما یقال القطع حجة، ونحوه الظن فإطلاق الحجة علیهم انّما هو بملاحظة کونهم وسائط فی إیصال الأحکام إلی العباد فیحتج بهم علیهم.

وقد ورد «إنّ اللّه یسأل یوم القیامة عن العبد هلاَّ عملت؟ فیجیب: ما علمت، فیقال هلاَّ تعلَّمت؟»(2) فلا یستفاد من التوقیع أزید من کون وظیفتهم تبلیغ الأحکام.

لکن قد یقال أنّ لفظ الحجة وإنْ کان بحسب اللغة والعرف یطلق علی المعنی المذکور، إلاّ أنّ دعوی استعماله فی لسان المتشرِّعة فی المعنی المخصوص قریبة کما فی

ص: 233


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/(40-38).
2- 1 . ورد نحوها فی معتبرة مسعدة بن زیاد المرویة فی أمالی الطوسی، المجلس الأوّل ح10/9.

لفظ الإمام، فإنّه لغة عبارة عمّن یقتدی به، إلاّ إنّه إذا اطلق بلا قرینة یحمل علی غیر هذا المعنی، وهو ولی العصر علیه السلام عند الشیعة وعند العامة علی واحد من الأئمة الأربعة، فلفظ الحجة عند استعماله بلا قرینة یطلق علی الحجة الخاصة، فیستفاد من التوقیع تفویض المنصب إلی الرواة ویشهد لذلک قوله علیه السلام وأنا حجة اللّه علیهم.

نعم، إنّما الإشکال فی مقدار الأمر المفوَّض مِنْ أنّه هل هو جمیع المناصب الثابتة له القابلة للتفویض أو بعضها والقدر المتیقن منها هو الإفتاء والقضاوة.

الثالث: إنّ الإمام علیه السلام أرجع نفس الحوادث إلی رواة الأحادیث، فهی ظاهرة فی الاُمور العامة لا أحکامها، حتّی یدَّعی ظهورها فی تبلیغها.

وفیه: أنّ التقدیر لازم علی کلِّ حال، إذ لا معنی لإیکال نفس الحادثة إلیهم، لأنّه تحصیل للحاصل، فالمراد إمّا ارجاع حکمها إلیهم أو ارجاع الشأن اللازم فیها فلا منافاة بین إرادة الحوادث المجهولة الحکم من الحوادث وبین وکول نفسها إلیهم.

الرابع: إنّ مثل إسحاق بن یعقوب لا یخفی علیه وجوب الرجوع فی المسائل الشرعیة إلی الفقهاء، لأنّه من البدیهیات فی الإسلام بخلاف الرجوع إلیهم فی الاُمور العامة، إذا یحتمل أنْ یکون الإمام قد جعله لشخص خاص أو اشخاص من ثقاته فی ذلک الزمان فیرید معرفته فوقّع الإمام - روحی له الفداء - بأنّ المُراجع فی هذه الاُمور الرواة.

وفیه: أوّلاً: أنّ جلالة قدر مثل إسحاق غیر مناف لسؤاله عن ذلک، لوقوع مثله عن جماعة منهم علی بن المسیَّب الهمدانی وعبدالعزیز بن المهتدی، فإنّهما سألا الرضا علیه السلام عمّن یاخذا معالم دینهما؟ قال الأوّل منهما: «شقتی بعیدة ولست أصلُ إلیک فی کلِّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی؟ فقال علیه السلام من زکریا بن آدم القمی»(1) وقال الثانی: «إنّی لا ألقاک فی کلّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی فقال علیه السلام خذ عن یونس بن عبدالرحمن»(2) بل صدر ذلک عن أحمد بن إسحاق مع أنّه اجلَّ من إسحاق بن یعقوب بمراتب إذ هو معدود من

ص: 234


1- 1 . رجال الکشی /366؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/146، ح27 ضعیفة.
2- 2 . رجال الکشی /306؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/148، ح34 حسنة.

السفراء والوکلاء فقد سئل أباالحسن الهادی علیه السلام قال: مَنْ اُعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال علیه السلام : العمری ثقتی فما ادَّی إلیک عنّی یؤدّی، وما قال لک فعنی یقول فاسمع له واطع فإنّه الثقة المأمون»(1).

وثانیا: إنّه لم یعلم أنْ یکون سؤاله عن تعیین تکلیف المسلمین فی الغیبة الکبری حتّی یقال أنّ الجواب ظاهر فی عموم الوقایع، بل یحتمل سؤاله عن حال المسلمین فی الغیبة الصغری لکونه بتوسط محمّد بن عثمان العمری الذی کان سفیرا من قبله، کما یظهر لک بالرجوع إلی ذیل التوقیع، قال علیه السلام : «وأمّا محمّد بن عثمان العمری فرضی اللّه عنه وعن أبیه من قبل فإنّه ثقتی وکتابه کتابی»(2)، فلعل إسحاق بن یعقوب کان سؤاله عن المرجع

فی المسائل المتجدِّدة فی ذلک العصر، لا عن المرجع فی الاُمور العامة»(3).

وناقش السیّد الروحانی رحمه الله فی دلالة التوقیع بقوله: «وقد نوقش فی دلالة هذه الروایة علی ولایة الفقیه بأن قوله علیه السلام : «وأما الحوادث الواقعة»، وإن کان جمعا محلّی بالألف واللام لکن دلالته علی العموم انّما هی بالإطلاق وعدم القرینة، وسیاق الحدیث ظاهر فی أنّه جواب عن سؤال موضوعه الحوادث ولم یعلم أنّ المسؤل عنه حوادث خاصة معینة شخصیة خارجیة أو أنّه مطلق الحوادث التی قد تقع، وهو إنّما یفید لو کان السؤال عن الثانی ولکنّه لا یعلم، فلا یدلّ الأمر بالإرجاع إلی الفقیه فی الحوادث علی الرجوع إلیه فی مطلق الحوادث، إذ من المعلوم أنّ المراد بالحوادث فی الشرط الحوادث الواقعة مورد السؤال ولم یعلم أنّها مطلق الحوادث. فلا إطلاق للکلام فتدبر.

وأما ما ذکره من القرائن علی دلالة الحدیث، فهو قابل للمناقشة.

أما ظهور التعبیر ب- «فیها» فی الإرجاع فی نفس الحوادث لا فی أحکامها، فهو غیر مسلم لأنّ الظاهر من الرجوع فی القضیة إلی شخص هو الرجوع فیها لحلِّ الإشکال فیها، فقد تکون جهة الإشکال هی الحکم وقد تکون غیره کالتصرف ونفوذه ونحوه. فقوله علیه السلام :

ص: 235


1- 3 . الکافی 1/329؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/138، ح4 صحیحة.
2- 4 . وسائل الشیعة 27/140، ح9.
3- 1 . غنیة الطالب 3/(190-187).

«ارجعوا فیها» لا یظهر فی عدم الرجوع فی الحکم وإنّما الرجوع فی نفس الأمر، إذ الرجوع فی المسألة المشکوک حکمها یقال عنه رجوع فی المسألة، نعم لو عبر بإرجاعها إلی الرواة لا الرجوع فیها، لتم ما ذکر کما لا یخفی. فلاحظ.

ویؤید ما ذکرنا استدلال الأعلام بالروایة علی حجیة قول الفقیه فی مقام الفتوی، فإنّه لایتلاءم مع ما ذکره الشیخ قدس سره من عدم کون المنظور جهة بیان الحکم أصلاً.

وأما التعلیل بأنّهم حجتی وأنا حجة اللّه، فظهوره فیما ذکر ممنوع، إذ یمکن أن یکون النظر إلی مقام بیان الحکم الشرعی حیث أنّه موکول إلی الإمام علیه السلام ولذلک کان حجة اللّه علینا، وقد جعل الإمام علیه السلام الواسطة لتبلیغ الأحکام الفقهاء، فهم حججه علی النّاس وبالنسبة إلی اللّه - عزّوجلّ - حیث أنّه یکون بذلک معذورا.

بل التعلیل المذکور ظاهر فی کون النظر إلی مقام حجیة رأیه فی الحکم الشرعی، وذلک لأنّ معنی الحجیة المنجزیة والمعذریة، أو ما یلازمهما. ومن المعلوم أنّ المنجزیة والمعذریة إنّما تتصور فی الحکم الشرعی، أمّا فی صحة التصرفات ونفوذها فلا معنی

لکون رأی الفقیه منجزا، إذ لا موضوع یقبل التنجیز والتعذیر، لأنّهما بلحاظ العقاب والمؤاخذة وذلک أنّما یثبت فی مورد الحکم. فلاحظ.

وأمّا ظهور صحة الرجوع إلی الفقیه فی المسائل الشرعیة بحیث یکون من البدیهیات، فهو لایفیده شیئا فیما إدعاه، وذلک لأنّ ظهوره وبداهته انّما کان بواسطة مثل هذه النصوص والروایات بحیث لو لاها لکان ممّا یقبل التشکیک ولم تعلم بداهته فی تلک العصور وإن ثبتت الآن.

وجلالة قدره لا تمنع من سؤاله کیف وقد سأل من هو أجل قدرا منه عن وثاقة العمری وابنه وجواز أخذ معالم الدین عنهما.

مضافا إلی أن إسحاق بن یعقوب مجهول الحال کما قیل.

والعجب من الشیخ قدس سره أنّه یدعی بداهة جواز الرجوع إلی الفقهاء فی المسائل الشرعیة مع أنّه یناقش فی مبحث التقلید فی أدلة جواز التقلید کلّها بحیث تصل النوبة إلی تحکیم دلیل الانسداد وإعماله.

ص: 236

هذا کلّه مضافا إلی ضعف الروایة سندا.

ثمّ ان الشیخ قدس سره بعد أن استدل بهذا الحدیث ذکر أنه قد یدعی معارضة هذا الحدیث ومثل هذا العموم بما جاء من العمومات الظاهرة فی إذن الشارع فی کلِّ معروفٍ مثل: «کلُّ معروفٍ صدقة» و: «عون الضعیف من أفضل الصدقة»، فإنّها ظاهرة فی الإذن والترغیب فی عمل المعروف.

والنسبة بینهما العموم من وجه، لأنّهما یجتمعان فی حفظ مال الیتیم فانّه معروف وعون الضعیف، کما أنّه مما یحتاج إلی الإذن بمقتضی الأدلة الاولیة. ویفترقان فی مثل الحدود، فإنّها غیر معروف ومثل إعطاء الفقیر درهما فإنّها لا تتوقف علی إذن الإمام علیه السلام .

ومع کون النسبة بینهما هی العموم من وجه یحصل التعارض بینهما فی مورد الاجتماع، إذ العمومات دالة علی عدم جواز العمل بدون إذن الفقیه. وهذه الأدلة تدلّ علی جوازه لأنّه معروف، ومقتضی القواعد هو التساقط. فلا دلیل حینئذ علی لزوم الرجوع إلی الفقیه فیها.

ولکن التحقیق أنّ العمومات الدالة علی وجوب الرجوع إلی الفقیه لو تمت لکانت واردة علی هذه الأدلة، لأنّ أدلة الجواز قد أُخذ فی موضوعها عنوان المعروف، فإذا دل الدلیل علی أنّ حفظ مال الیتیم لا یجوز إلاّ بإذن الفقیه کان حفظه بغیر إذنه محرما وهو

یقتضی أن لا یکون معروفا، إذ الحرام لیس بمعروف، فهذه العمومات تکون رافعة لموضوع هذه الأدلة تعبدا وهو معنی الورود.

وهکذا بالنسبة إلی دلیل عون الضعیف، فإنّه مع دلالة الدلیل علی عدم جواز التصرف فی مال الیتیم أو المجنون إلاّ باذن الفقیه وعدم نفوذ التصرفات لا یکون المتعامل بماله والإتجار عوضا له لعدم نفوذ المعاملات والتصرفات، وقد عبر الشیخ علیه السلام عن ذلک بالحکومة ولکن الصحیح التعبیر بالورود.

هذا، مع انه لو تمت المعارضة والتساقط فاللازم الرجوع إلی الأصل، وقد عرفت

ص: 237

أنّه فی المعاملات یقتضی لزوم الرجوع إلی الفقیه لأَصالة عدم ترتب الأثر بدون إذنه»(1).

وقام شیخنا المجلسی بعد ذکر نقوده علی الشیخ الأعظم فی دفع المناقشات بقوله: «هذا وقد یناقش فی هذه الوجوه بما لایخفی أمّا الأوّل: فلأنَّ السؤال غیر معلوم فلعلَّ المراد من الحوادث هی الحوادث المعهودة بین الإمام علیه السلام والسائل وعلی فرض عمومها فالمتیقن منها هی الأمور التی تقع مورد الابتلاء من الموضوعات الکلیة التی لم یکن حکمها معلوما من الکتاب والسنة.

وأما الثانی: فلأَنَّ أدنی المناسبة بین نفس الحوادث وحکمها کاف للسؤال عن حکمها فیکون الفقیه هو المرجع فی الأحکام لا فی نفس الحوادث.

وأما الثالث: فلأَنَّ الحجة یناسبٍ المبلغیة فی الأحکام والرسالة علی الأنام أیضا کما فی قوله عز من قائل: «قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ»(2) وقوله: «تِلْکَ حُجَّتُنا آتَیْناها إِبْراهِیمَ»(3) ونحو ذلک ممّا ورد بمعنی البرهان الذی یحتج به علی الطرف، وبهذا المعنی أیضا ورد قوله علیه السلام : «أنّ الأرض لا تخلو من حجة» لأنّ به یتم الحجة و «یَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَیَحْیی مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ»(4)، ولذا وصفهم برواة الأحادیث الذین شأنهم التبلیغ.

وبالجملة: فالحجة لا تکون إلاّ فی تبلیغ أمر فیختص مدلولها فی المقام بتبلیغ الأحکام الشرعیة ولا یشمل التصرفات الشخصیة فی الأموال والأنفس، أو تصدی المصالح العامة من الحکومة وفصل الخصومة أو إجراء الحدود، فإنّ کلّ ذلک أجنبی عن

مفهوم الحجیة التی هی من الاحتجاج، فان اللّه تعالی یحتج علی العباد ببعث الأنبیاء والأنبیاء بنصب الخلفاء، والخلفاء باستنابة الفقهاء فی تبلیغ الأوامر والنواهی، والتصرفات لیس من محل الاحتجاج، فالتوقیع الشریف أجنبی عن المدعی، ولا یصلح للاستدلال به علی نیابة الفقیه فی الأُمور المزبورة ویختص مدلوله بالفتوی.

ص: 238


1- 1 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /(305-302).
2- 2 . سورة الأنعام /144.
3- 3 . سورة الأنعام /83.
4- 4 . سورة الأنفال /42.

وأما الرابع: فکون إسحاق من أجِلاّء العلماء لا ینافی سؤاله من أمر جلّی ولذا یسئل مثل زرارة ومحمّد بن مسلم من الإمام ما لا یخفی علی أحد هذا مع أنّ سؤاله لا یکون ظاهرا فی تکلیف المسلمین فی الغیبة الکبری حتّی یکون الجواب ظاهرا فی عموم الوقائع بل یسئل عن حالهم فی الغیبة الصغری، فإنّ العمری الذی بتوسطه سئل إسحاق عن حکم الوقائع عن الإمام علیه السلام هو محمّد بن عثمان العمری کما یظهر من قوله فی ذیل الخبر، «وأما محمّد بن عثمان العمری فرضی اللّه عنه وعن أبیه من قبل فإنّه ثقتی وکتابه کتابی» وهو کان سفیرا من قبله علیه السلام فلعله یسئل بتوسطه عن المرجع فی الفروع المتجددة فی ذاک العصر لاعن المرجع فی الأُمور العامة.

أقول: ویمکن دفع النقاش عن ذلک بأنّه وإن یمکن کون اللام فی الحوادث للعهد وکون المراد بها هی الحوادث المعهودة، ولکن الظاهر أنّ المعهود هو مدخول اللام وهی الحوادث لا غیرها، وظاهر الرجوع فیها إلی رواة الحدیث هو إیْکالُ(1) نفس الحادثة إلیهم لا الرجوع فی حکمها إذ لو کان المراد هو الرجوع فیه لتعین التعبیر بقوله فارجعوا فی حکمها إلی رواة الحدیث لا التعبیر بقوله فارجعوا فیها إلیهم، اللهم إلاّ ان یقال أنّه لا منافاة بین التعبیر به وارادة الرجوع فی الحکم.

وجه عدم المنافاة أنّه لابدّ من ارتکاب التقدیر علی کلِّ حالٍ إذ الحادثة الواقعة لا معنی لإیکال نفسها إلی الغیر لأنّه تحصیل الحاصل فالمراد إمّا إیکال حکمها أو إیکال الشأن اللازم فیها إلیه وتعیّن الثانی غیر ظاهر.

وبالجملة: فالتوقیع الشریف لا یخلو من إجمال فی المراد وأنّ الرجوع إلیه هل هو فی حکم الحوادث لیدلّ علی حجیة الفتوی أو حسمها لیدلّ علی نفوذ القضاء أو رفع إشکالها وإجمالها أو إصلاحها لیشمل غیرهما.

هذا وقد یقال: إنّ کیفیة السؤال وإنْ کانت غیر مذکورة إلاّ أنّها تظهر من الجواب

وتعلم منه إذ المراد من الحوادث لیس کل ما یحدث ویقع فی الخارج کالأکل والشرب

ص: 239


1- 1 . وفی المصدر: وکول.

والنوم ونحوها بل الأُمور التی تقع فی المجتمع الإنسانی وتحتاج إلی مصلحٍ ومتصدٍ لها ومُقْدِمٍ فیها کالقتل والسرقة وغیرهما من الأعمال المنافیة لنظم الاجتماع وأمنه التی تحتاج الرعیة فیها إلی مرجع وزعیم ومصلح ومقتدر فتعم الروایة لإیکال مطلق الشأن اللازم فیها إلیه.

ولکن الانصاف هو إجمال التوقیع واحتمال کون المراد من الحوادث المسئول عنها هی الموضوعات الحادثة والأُمور المستحدثة المجهول حکمها والرجوع فیها إلی رواة الأحادیث لمعرفة حکمها کما قد یؤیده التعلیل بقوله «فإنّهم حجتی علیکم وأنا حجة اللّه» بالتقریب المتقدم فلاحظ.

ولا ینافی ذلک ما یقال: من أنّ الرجوع إلی العلماء فی معرفة الأحکام من البدیهیات التی لا تخفی علی مثل إسحاق فکیف یمکن أن یکتبه فی مسائل أشکلت علیه.

إذ فیه مضافا إلی ما سبق أنّه یکفی فی السؤال احتمال الإرجاع إلی صنف خاص من العلماء، ولذا صدر السؤال عن ذلک من جماعة کعبدالعزیز بن المهتدی سألت الرضا علیه السلام فقلت: إنّی لا ألقاک فی کلِّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی فقال علیه السلام : خُذْ من عن یونس بن عبدالرحمن(1)، وکعلی بن المسیب الهمدانی حیث قال الرضا علیه السلام : شقتی بعیدة ولستُ أصل إلیک فی کلِّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی قال علیه السلام : من زکریا بن آدم القمی(2) ونحوهما غیرهما.

کما لا ینافی ذلک أیضا التعلیل بقوله علیه السلام : فإنّهم حجتی علیکم، فإنّه یناسب الأُمور الراجعة إلیه علیه السلام التی هی من منصبه، ولو کان المراد الرجوع فی الحکم کان المناسب التعبیر بقوله علیه السلام فإنّهم حجة اللّه تعالی.

وجه عدم المنافاة أنّه یکفی مصححا للتعبیر المذکور کونه واسطة فی الارجاع

ص: 240


1- 1 . وسائل الشیعة 27/148، ح34، حسنة.
2- 2 . وسائل الشیعة 27/146، ح27، ضعیفة.

المذکور، بل التعبیر بالحجة یناسب التکلیف جدا، إذ الحجة ما یکون قاطعا للعذر ومصححا للعقاب، وذلک إنّما یکون فی التکلیف فإنّه المستتبع له کما لا یخفی، فالتعلیل من هذه الجهة علی الخلاف أدل وحینئذ فلا یبقی مجال للرکون إلی التوقیع الرفیع فی

إثبات الولایة فی الأُمور العامة للفقیه فضلاً عن صلاحیته لإثبات الولایة العامة فلاحظ وتدبر»(1).

وبما ذکرنا من مناقشات الأعلام لم یتم الاستدلال بالتوقیع الشریف فی المقام.

ص: 241


1- 1 . ولایة الاولیاء /(83-80).
14/1- ومنها: مقبوله عمر بن حنظله

قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللّه ِ علیه السلام عَنْ رَجُلَیْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَیْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِی دَیْنٍ أَوْ مِیرَاثٍ، فَتَحَاکَمَا إِلَی السُّلْطَانِ وَإِلَی الْقُضَاةِ، أَیَحِلُّ ذلِکَ؟

قَالَ: «مَنْ تَحَاکَمَ إِلَیْهِمْ فِی حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، فَإِنَّمَا تَحَاکَمَ إِلَی الطَّاغُوتِ، وَمَا یَحْکُمُ لَهُ فَإِنَّمَا یَأْخُذُ سُحْتا وَإِنْ کَانَ حَقّا ثَابِتا لَهُ؛ لاِءَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُکْمِ الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللّه ُ أَنْ یُکْفَرَ بِهِ، قَالَ اللّه ُ تَعَالی: «یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ»(1)».

قُلْتُ: فَکَیْفَ یَصْنَعَانِ؟

قَالَ: «یَنْظُرَانِ إِلی مَنْ کَانَ مِنْکُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوی حَدِیثَنَا، وَنَظَرَ فِی حَلاَلِنَا وَحَرَامِنَا، وَعَرَفَ أَحْکَامَنَا، فَلْیَرْضَوْا بِهِ حَکَما؛ فَإِنِّی قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَیْکُمْ حَاکِما، فَإِذَا حَکَمَ بِحُکْمِنَا فَلَمْ یَقْبَلْهُ مِنْهُ، فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُکْمِ اللّه ِ وَعَلَیْنَا رَدَّ، وَالرَّادُّ عَلَیْنَا الرَّادُّ عَلَی اللّه ِ وَهُوَ عَلی حَدِّ الشِّرْکِ بِاللّه ِ».

قُلْتُ: فَإِنْ کَانَ کُلُّ رَجُلٍ اخْتَارَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا، فَرَضِیَا أَنْ یَکُونَا النَّاظِرَیْنِ فِی حَقِّهِمَا، وَاخْتَلَفَا فِیمَا حَکَمَا، وَکِلاَهُمَا اخْتَلَفَِ فِی حَدِیثِکُمْ؟

قَالَ: «الْحُکْمُ مَا حَکَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِی الْحَدِیثِ وَأَوْرَعُهُمَا، وَلاَ یَلْتَفِتْ إِلی مَا یَحْکُمُ بِهِ الاْآخَرُ».

قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّهُمَا عَدْلاَنِ مَرْضِیَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا،لاَ یُفَضَّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلی صَاحِبِهِ؟

قَالَ: فَقَالَ: «یُنْظَرُ إِلی مَا کَانَ مِنْ رِوَایَتِهِمْ عَنَّا فِی ذلِکَ الَّذِی حَکَمَا بِهِ الْمُجْمَعَ عَلَیْهِ مِنْ أَصْحَابِکَ، فَیُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُکْمِنَا، وَیُتْرَکُ الشَّاذُّ الَّذی لَیْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِکَ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَیْهِ لاَ رَیْبَ فِیهِ. وَإِنَّمَا الاْءُمُورُ ثَلاَثَةٌ: أَمْرٌ بَیِّنٌ رُشْدُهُ فَیُتَّبَعُ، وَأَمْرٌ بَیِّنٌ غَیُّهُ فَیُجْتَنَبُ، وَأَمْرٌ مُشْکِلٌ یُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَی اللّه ِ وَإِلی رَسُولِهِ؛ قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : حَلاَلٌ بَیِّنٌ، وَحَرَامٌ بَیِّنٌ، وَشُبُهَاتٌ بَیْنَ ذلِکَ، فَمَنْ تَرَکَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَکَبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَلَکَ مِنْ حَیْثُ لاَ یَعْلَمُ».

قُلْتُ: فَإِنْ کَانَ الْخَبَرَانِ عَنْکُمْ مَشْهُورَیْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْکُمْ؟

قَالَ: «یُنْظَرُ، فَمَا وَافَقَ حُکْمُهُ حُکْم الْکِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَالَفَ الْعَامَّةَ، فَیُؤْخَذُ بِهِ، وَیُتْرَکُ مَا

ص: 242


1- 1 . سورة النساء /60.

خَالَفَ حُکْمُهُ حُکْمَ الْکِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَافَقَ الْعَامَّةَ».

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاکَ، أَرَأَیْتَ، إِنْ کَانَ الْفَقِیهَانِ عَرَفَا حُکْمَهُ مِنَ الْکِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَوَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَیْنِ مُوَافِقا لِلْعَامَّةِ، وَالاْآخَرَ مُخَالِفا لَهُمْ، بِأَیِّ الْخَبَرَیْنِ یُؤْخَذُ؟

قَالَ: «مَا خَالَفَ الْعَامَّةَ، فَفِیهِ الرَّشَادُ».

فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاکَ، فَإِنْ وَافَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِیعا؟

قَالَ: «یُنْظَرُ إِلی مَا هُمْ إِلَیْهِ أَمْیَلُ حُکَّامُهُمْ وَقُضَاتُهُمْ، فَیُتْرَکُ، وَیُؤْخَذُ بِالاْآخَرِ».

قُلْتُ: فَإِنْ وَافَقَ حُکَّامُهُمُ الْخَبَرَیْنِ جَمِیعا؟

قَالَ: «إِذَا کَانَ ذلِکَ، فَأَرْجِهْ حَتّی تَلْقی إِمَامَکَ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَیْرٌ مِنَ الاِقْتِحَامِ فِی الْهَلَکَاتِ».(1)

الروایة من حیث السند لو لم تکن معتبرة فلا أقل من أن تکون مقبولة فالسند لا بأس به.

ویراها صاحب الجواهر(2) نصب نائب الغیبة وقال: «ویمکن بناء ذلک - بل لعلّه الظاهر - علی إرادة النصب العامّ فی کلّ شیء علی وجهٍ یکون له ما للإمام علیه السلام کما هو مقتضی قوله علیه السلام : «فإنّی جعلته حاکما» أی ولیّا متصرّفا فی القضاء وغیره من الولایات ونحوها»(3).

قال الشیخ الأعظم قدس سره : «أمّا وجوب الرجوع إلی الفقیه فی الاُمور المذکورة، فیدلّ علیه مضافا إلی ما یستفاد من جعله حاکما، کما فی مقبولة ابن حنظلة، الظاهرة فی کونه کسائر الحکّام المنصوبة فی زمان النبیّ صلی الله علیه و آله والصحابة فی إلزام النّاس بإرجاع الاُمور

ص: 243


1- 1 . الکافی 1/167، ح10 (1/68)؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/136، ح1، الباب 11 من أبواب صفات القاضی؛ و 27/106، ح1، الباب 9 من أبواب صفات القاضی؛ کما ذکرها فی وسائل الشیعة 27/13، ح4، الباب 1 من أبواب صفات القاضی؛ ووسائل الشیعة 1/34، ح12، الباب 2 من أبواب مقدمات العبادات.
2- 2 . الجواهر 41/20 (40/17).
3- 3 . الجواهر 41/21 (40/18).

المذکورة إلیه، والانتهاء فیها إلی نظره، بل المتبادر عرفا من نصب السلطان حاکما وجوب الرجوع فی الاُمور العامّة المطلوبة للسلطان إلیه»(1).

وقال المحقّق العراقی فی مسألة عدم جواز تفویض القضاء إلی المقلِّد: «... نعم، بعد الفراغ عن إثبات قابلیّة المحلّ یبقی الکلام فی صلاحیّة الفقیه لمثل هذا التفویض. وعلیه فیمکن أیضا منعه، لأنّه بعد ما لم یکن من الاُمور الحسبیّة الّتی عُلم من الشارع مطلوبیّة وجوده موقوف علی ثبوت الولایة العامّة وأنّ ما للإمام لهم. وهو أیضا فی غایة الإشکال،

لأنّ عمدة ما یصلح لإثباته هو عموم «وأمّا الحوادث الواقعة» وعموم «مجاری الاُمور بید العلماء باللّه» وإلاّ فعمومات الوراثة والخلافة وأمثال ذلک یمکن حملها علی مقام تبلیغ الأحکام وبیان الحلال والحرام.

ولایخفی أنّ الأوّل منهما منزّل علی اُمور معهودة فی المسؤول المشکوک کون المورد منها، خصوصا مع توصیف الحادثه بالواقعة، فإنّه لابدّ من حمله علی وقوعه حقیقة أو ما لابدّ من وقوعه. وعلی التقدیرین لیس ما نحن فیه من مصادیقه، لعدم إحراز مطلوبیّة وقوع التفویض من الشارع کما هو ظاهر. وأمّا الأخیر فهو من حیث «المجاری» وإن کان عامّا ولکن الکلام فی شمول «العلماء باللّه» لغیر الإمام علیه السلام .

نعم، بناءً علی العموم لا بأس باستفادة مرجعیّة الفقیه فی الاُمور العامّة النوعیّة. کما أنّه ربما یُستکشف ذلک من صرف الإمام من التحاکم إلیهم وإرجاعهم إلی فقهاء الشیعة، إذ من مثله ربما یستفاد کون الفقیه حاکما فی قبال حُکّامهم وأنّ له من الشأن ما لهم من الولایة علی الاُمور النوعیّة السیاسیّة الّتی کانوا مرجعا فیها، بل والولایة علی الحکم فی رؤیة الهلال والتصرّف فی أموال الغُیَّب والقُصَّر وحبس الغریم، بل وإحضار المدّعی علیه فی مجلس القضاء وإلزامه بالجواب وأمثاله، نظرا إلی أنّ هذه کلّها من شؤونهم»(2).

وقال فی توضیح تقریب العراقی، تلمیذه آیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی رحمهماالله : «نعم،

ص: 244


1- 4 . المکاسب 3/554.
2- 1 . کتاب القضاء /12 و 13 للمحقّق العراقی.

قد یقرَّر وجه التمسک لا من جهة إطلاق لفظ «الحاکم» کما هو ظاهر کلام شیخنا الأنصاری قدس سره ، بل من جهة فحوی الروایة، وقد ذهب إلیه شیخنا الشیخ العراقی قدس سره فی نفوذ حکمه، وتبعه بعض الأعاظم من تلامذته، بحیث عمّما نفوذه من هذه الجهة حتّی فی حکمه فی ثبوت الهلال. وبیان الفحوی: هو أنّ النّاس لما جعلوا بینهم قضاةً وحکاما یرجعون إلیهم فی مطلق أمورهم من القضاوة وغیرها من الأُمور المذکورة، والإمام علیه السلام فی هذه الروایه لم یردعهم عن أصل هذا المطلب وکبراه وأنّه لابدّ أن یکون بین النّاس من یتکفل لهذه الأُمور، وإنّما ردعهم من جهة تعین المصداق، وخَطّأهم بالنسبة إلی من یجعلونه مصداقا للکبری المذکورة وما هو المرتکز فی الأذهان. هذا غایة البیان لوجه الدلالة، وإلی هذا التقریر ذهب المحقّق العراقی قدس سره .

ولا یرد علیه: أنه لیس من المعلوم کون هذه الأُمور من شؤون القضاة فی ذلک

العصر، حتّی یکون الردع عن الرجوع إلیهم إثباتها للفقیه بعد تعین المصداق، بل کان فی تلک الأزمنة قضاة وولاة وکانت لکلِّ منهم وظائف.

لوضوح أن المنهیّ عنه لیس هو الرجوع إلی خصوص القاضی - علی فرض عدم کون شأن القاضی التصرف فی غیر القضاء - بل النهی عن الرجوع إلی الحاکم بمعناه الأعم، حیث أنّ المرافعات أیضا کانت ترجع إلی الخلفاء، بل الصریح فی صدر الروایة، المراجعة إلی السلطان أو القاضی»(1).

فقال المحقّق النائینی رحمه الله فی دلالتها: «نعم، لا بأس بالتمسّک بمقبولة عمر بن حنظلة، فإنّ صدرها ظاهر فی ذلک، حیث إنّ السائل جعل القاضی مقابلاً للسلطان، والإمام علیه السلام قرّره علی ذلک، فقال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن رجلین من أصحابنا تنازعا فی دَینٍ أو میراثٍ فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة، أیحلّ ذلک؟ ... إلی آخره.

بل یدلّ علیه ذیلها أیضا، حیث قال علیه السلام : «ینظر إلی من کان منکم قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکما، فإنّی قد جعلته علیکم

ص: 245


1- 1 . کتاب القضاء /50 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی.

حاکما» فإنّ الحکومة ظاهرة فی الولایة العامّة، فإنّ الحاکم هو الّذی یحکم بین النّاس بالسیف والسوط، ولیس ذلک شأن القاضی»(1).

وقال السیّد الخمینی رحمه الله : «وأمّا الدلالة؛ فلأجل تمسّک الإمام علیه السلام بالآیة الشریفة، فلابدّ من النظر إلیها، ومقدار دلالتها، حتّی یتبیّن الحال.

قال تعالی: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُوءَدُّوا الاْءَماناتِ إِلی أَهْلِها وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ»(2).

لا شبهة فی شمول الحکم للقضاء الذی هو شأن القاضی، والحکم من الولاة والامراء، وفی «المجمع»: أمر اللّه الولاة والحکّام أن یحکموا بالعدل والنّصفة.

ونظیره قوله تعالی: «یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الاْءَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ»(3).

ثمّ قال تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ

مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَالرَّسُولِ...»(4).

کما لا شبهه أیضا(5) فی أنّ مطلق المنازعات داخلة فیه - سواء کانت فی الاختلاف فی ثبوت شیء ولا ثبوته، أو التنازع الحاصل فی سلب حقّ معلوم من شخص أو أشخاص، أو التنازع الحاصل بین طائفتین المنجرّ إلی قتل وغیره - التی کان المرجع بحسب النوع فیها هو الوالی لا القاضی، ولا سیّما بملاحظة ذکره عقیب وجوب إطاعة الرسول وأُولی الأمر؛ إطاعتهما بما هی إطاعتهما، هی الائتمار بأوامرهم المربوطة بالوالی.

ولیس المراد بها إطاعتهما فی الأحکام الإلهیّة؛ ضرورة أنّ إطاعة الأوامر الإلهیّة

ص: 246


1- 2 . منیة الطالب 2/236.
2- 3 . سورة النساء /58.
3- 4 . سورة ص /26.
4- 1 . سورة النساء /59.
5- 2 . (کما) وافیةٌ ومُغْنیة عن ذِکْرِ (أیضا) لأنَّها فی مَعْناها فذِکْرُ (أیضا) بعد (کما) حَشْوٌ ولا عبرة بالخَطَأ الشائع.

إطاعة للّه، لا إطاعة لهما، فلو صلّی قاصدا إطاعة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، أو الإمام علیه السلام ، بطلت صلاته.

نعم، إطاعة أوامرهم السلطانیّة إطاعة للّه أیضا؛ لأمره تعالی بإطاعتهم.

ثمّ قال تعالی: «أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ یَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِکَ یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ...»(1) إلی آخره.

وهذه الآیة أیضا مفادها أعمّ من التحاکم إلی القضاة وإلی الولاة، لو لم نقل: بأنّ «الطاغوت» عبارة عن خصوص السلاطین والأُمراء؛ لأنّ الطغیان والمبالغة فیه مناسب لهم لا للقضاة، ولو اطلق علی القضاة یکون لضرب من التأویل، أو بتبع السلاطین الذین هم الأصل فی الطغیان، ویظهر من المقبولة التعمیم بالنسبة إلیهما.

ثمّ إنّ قوله: «منازعة فی دین أو میراث»، لا شبهة فی شموله للمنازعات التی تقع بین النّاس فیما یرجع فیه إلی القضاة، کدعوی أنّ فلانا مدیون مع إنکاره، ودعوی أنّه وارث ونحو ذلک، وفیما یرجع فیه إلی الولاة والأُمراء، کالتنازع الحاصل بینهما لأجل عدم أداء دینه، أو إرثه بعد معلومیّته.

وهذا النحو من المنازعات مرجعها الأُمراء، فإذا قتل ظالم شخصا من طائفة، ووقع النزاع بین الطائفتین، لا مرجع لرفعه إلاّ الولاة.

ومعلوم أنّ قوله: «فی دین أو میراث» من باب المثال، والمقصود استفادة التکلیف

فی مطلق المنازعات، والاستفسار عن المرجع فیها، ولهذا أکّد الکلام لرفع الإبهام بقوله: «فتحاکما إلی السلطان، أو إلی القضاة»، ومن الواضح عدم تدخّل الخلفاء فی ذلک العصر - بل مطلقا - فی المرافعات التی ترجع إلی القضاة، وکذلک العکس.

فقوله علیه السلام : «من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت» انطباقه علی الولاة أوضح، بل لولا القرائن لکان الظاهر منه خصوص الولاة.

وکیف کان: لا إشکال فی دخول الطغاة من الولاة فیه، ولا سیّما مع مناسبات

ص: 247


1- 3 . سورة النساء /60.

الحکم والموضوع، ومع استشهاده بالآیة التی هی ظاهرة فیهم فی نفسها.

بل لولا ذلک یمکن أیضا أن یقال بالتعمیم؛ للمناسبات المغروسة فی الأذهان، فیکون قوله بعد ذلک: «فکیف یصنعان؟» استفسارا عن المرجع فی البابین، واختصاصه بأحدهما - ولا سیّما بالقضاة - فی غایة البعد، لو لم نقل: بأنّه مقطوع الخلاف.

وقوله علیه السلام : «فلیرضوا به حکما» تعیین للحاکم فی التنازع، فلیس لصاحب الحق الرجوع إلی ولاة الجور، ولا إلی القضاة.

ولو تُوُهِّمَ من قوله علیه السلام : «فلیرضوا» اختصاصه بمورد تعیین الحکم، فلا شبهة فی عدم إرادة خصوصه، بل ذُکر من باب المثال، وإلاّ فالرجوع إلی القضاة - الذی هو المراد جزما - لا یعتبر فیه الرضا من الطرفین.

فاتضح من جمیع ذلک: أنّه یستفاد من قوله علیه السلام : «فإنّی قد جعلته حاکما» أنّه علیه السلام قد جعل الفقیه حاکما فیما هو من شؤون القضاء، وما هو من شؤون الولایة.

فالفقیه ولیّ الأمر فی البابین، وحاکم فی القسمین، ولا سیّما مع عدوله علیه السلام عن قوله: «قاضیا» إلی قوله: «حاکما» فإنّ الأوامر أحکام، فأوامر اللّه ونواهیه أحکام اللّه تعالی.

بل لا یبعد أن یکون القضاء أعمّ من قضاء القاضی، وأمر الوالی وحکمه، قال تعالی: «وَما کانَ لِمُوءْمِنٍ وَلا مُوءْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(1) وکیف کان لاینبغی الإشکال فی التعمیم»(2).

ثمّ تعرض لحلّ الشبهتین وقال: «قد تنقدح شبهة فی بعض الأذهان: بأنّ عبداللّه علیه السلام فی أیّام إمامته، إذا نصب للإمارة أو القضاء شخصا أو أشخاصا، کان أمده إلی زمان إمامته،

وبعد وفاته وانتقال الإمامة إلی مَنْ بعده یبطل النصب وینعزل الولاة والقضاة.

وفیها ما لا یخفی؛ فإنّه مع الغضّ عن أنّ مقتضی المذهب أنّ الإمام إمام حیّا ومیّتا

ص: 248


1- 1 . سورة الأحزاب /36.
2- 2 . کتاب البیع 2/(642-639)

وقائما وقاعدا، أنّ النصب لمنصب - سواء کان نصب الولاة، أو القضاة، أو نصب المتولّی للوقف، أو القیّم علی السفهاء والصغار - لایبطل بموت الناصب.

فمن الضروریّ فی طریقة العقلاء، أنّه مع تغییر السلطان أو هیئة الدولة ونحوهما، لا ینعزل الولاة والقضاة وغیرهم من المنصوبین من قبلهم، ولا یحتاجون إلی نصب جدید.

نعم، للرئیس الجدید عزل من نصبه السابق وتغییره، ومع عدمه تبقی المناصب علی حالها.

وفی المقام: لا یعقل هدم الأئمة اللاحقین علیهم السلام نصب الإمام أبیعبداللّه علیه السلام ؛ لأنّه یرجع إمّا إلی نصب غیر الفقهاء العدول، وإرجاع الأمر إلیهم، فمع صلاحیة الفقهاء العدول - کما یکشف عنها نصب أبیعبداللّه علیه السلام إیّاهم - لا یعقل ترجیح غیرهم المرجوح بالنسبة إلیهم علیهم، ولو کان عدلاً إمامیّا.

وقد تقدّم: أنّه کالضروریّ لزوم کون الوالی عالما بالقوانین، والجاهل لا یصلح لهذا المنصب، ولا لمنصب القضاء.

أو إلی إرجاعهم إلی ولاة الجور وقضاته، وهو ظاهر الفساد، کالإهمال لهذا الأمر الضروریّ الذی تحتاج إلیه الأُمم، ولا یعقل بقاء عیشهم إلاّ بذلک، فمن نصبه الإمام علیه السلام منصوب إلی زمان ظهور ولیّ الأمر علیه السلام .

مضافا إلی أنّ من الضروریّ فی الفقه أنّ نصبه باق، ولا زال تمسّک الفقهاء بمقبولة عمر بن حنظلة لإثبات منصب القضاء للفقهاء، کما أنّ من فهم منها الأعمّ استدلّ بها لذلک، وهذا واضح.

وهنا شبهة اُخری، وهی أنّ الإمام علیه السلام وإن کان خلیفة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وولیّ الأمر، وله نصب الولاة والقضاة، لکن لم تکن یده مبسوطة، بل کان فی سیطرة خلفاء الجور، فلا أثر لجعل منصب الولایة لأشخاص لا یمکن لهم القیام بأمرها، وأمّا نصب القضاة فله أثر فی الجملة.

وفیها: أنّه مع وجود أثر فی الجملة فی جعل الولایة أیضا کما لا یخفی - فإنّ جعل

ص: 249

المرجع للشیعة یوجب رجوعهم إلیه ولو سرّا فی کثیر من الاُمور، کما نشاهد بالضرورة -

أنّ لهذا الجعل سرّا سیاسّا عمیقا، وهو طرح حکومة عادلة إلهیّة، وتهیئة بعض أسبابها، حتّی لا یتحیّر المفکّرون لو وفّقهم اللّه لتشکیل حکومة إلهیّة.

بل هو زائدا علی الطرح بعثهم إلی ذلک، کما هو واضح.

ولقد تصدّی بعض المفکّرین لطرح حکومة وتخطیطها فی السجن؛ برجاء تحقّقها فی الآتی، ووفّق بعضهم لذلک حتّی فی عصرنا.(1)

فالرسول صلی الله علیه و آله عیّن خلفاء بخصوصهم، وهو الأئمة الأطهار - صلوات اللّه علیهم - ، وفی نصبهم وتعیینهم مصالح، منها: تحقّق أُمّة عظیمة بلغت فی الحال - بحمد اللّه - عددا کثیرا جدّا.

بل الغالب فی العظماء من الأنبیاء وغیرهم الشروع فی الطرح أو العمل من الصفر تقریبا، فهذا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قد قام بالرسالة ولم یؤمن به فی أوّل تبلیغه إلاّ طفل صغیر السنّ عظیم الشأن، وامرأة جلیلة.

ولکن قام بأعباء الرسالة ونشر الدعوة عن عزم راسخ، وإرادة قویّة، وقوّة قدسیّة، غیر آیس من حصول مقصده، وجاهد وتحمّل المشاقّ طیلة حیاته، حتّی بلغ الأمر إلی أن نشر الإسلام فی العالم، وبلغت عدّة المسلمین - فی الحال - قریبة من سبعمائة ملیونا، وستزید إن شاء اللّه «وَاللّهُ غالِبٌ عَلی أَمْرِهِ».

وأبوعبداللّه علیه السلام قد أسّس بهذا الجعل أساسا قویما للأُمّة وللمذهب؛ بحیث لو نشر هذا الطرح والتأسیس فی مجتمع التشیّع، وأبلغه الفقهاء والمفکّرون إلی النّاس - ولا سیّما إلی المجامع العلمیّة وذوی الأفکار الراقیة - لصار ذلک موجبا لانتباه الاُمّة والتفاتهم إلیه، وخصوصا طبقة الشبّان، فلعلّه یصیر موجبا لقیام شخص أو أشخاص بتأسیس حکومة إسلامیّة عادلة، تقطع أیادی الأجانب من بلاد المسلمین.

واللازم علی العلماء الأعلام والمبلّغین أیّدهم اللّه تعالی أن یقوموا بهذا الأمر

ص: 250


1- 1 . قد مثّل فی مجلس بحثه بجواهر لعل نهرو فی الهند وأحمد سوکارنو فی الأندونزیا.

الحیویّ، ویزیلوا الیأس من قلوبهم وقلوب الطلاّب والمحصّلین وسائر النّاس، فإنّه مبدأ الخمود والقعود عن الوصول إلی الحقّ»(1).

وقال الفقیه السیّدُ الگلپایگانی قدس سره : «یستفاد منها أنّ المرجع فی القضایا الواقعة بین المسلمین - ممّا لا یخلو منه زمان ولا مکان ویبتلی به الرعیّة وأکثر الإُمّة - هو العالم

بأحکامه تعالی والناظر فی حلاله وحرامه، وأنّ التمرّد عن أمره والتخلّف عن رأیه، وعدم الاعتناء بشأنه کالشرک باللّه والردّ علیه. فالعالم هو الذی ینفذ فی تلک القضایا أمره ویتّبع رأیه ونظره»(2).

وقال آیة اللّه السیّد محمّدمهدی الموسوی الخلخالی - مدظله - فی تقریب الاستدلال: «علی أیّة حال لقد اعتبر أکثر الفقهاء هذا الحدیث خاصّا بباب القضاء، ولا یُستفاد منه إلاّ ولایة القضاء؛ لأن السؤال والجواب الواردین فی ذلک الحدیث راجعان إلی القاضی المخالف والموافق الذی قال الإمام علیه السلام فی مورده: «ینظران من کان منکم» (أی من الشیعة) أی انتخِبُوا قاضیا شیعیا.

المقبولة والولایة علی شؤون القضاء: للقضاة المنصوبین من جانب الحکومات الإسلامیة فی الأزمنة الغابرة والحاضرة نوعان من الصلاحیات والاختیارات (الولایات) التی هی لائقة بمقام القاضی وشأنه، مثل ولایة نصب القیّم علی الأطفال الصغار، وعلی المجانین، والولایة علی حفظ أموالهم، ورعایتها وأمثال ذلک، فهل یمکن إثبات هذا المقدار من الولایات لقاضی الشیعة (الفقیه الجامع للشرائط) بواسطة هذا الحدیث أو لا؟

لقد حَصَرَ بعضُ العلماء مفادَ هذا الحدیث بولایة القضاء، ونَفَوا أیَّ نوع آخر من الولایات الجزئیة المذکورة من مفهوم هذا الحدیث.

ولکنّ التفکیکَ بین ولایة القضاء، والولایة علی شؤونها وإنْ کان ممکنا، ولکن حیث إنّ نصبَ قضاة الشیعة کان بهدف الاستغناء عن قضاة العامة، فإن الإنصاف یقضی

ص: 251


1- 2 . کتاب البیع 2/(645-642).
2- 1 . الهدایة إلی من له الولایة /802، المطبوعة فی ضمن رسائل فی ولایة الفقیه.

بأن یکون قضاة الشیعة یتمتعون بجمیع الولایات المذکورة، حتّی یتحقق الاستغناءُ الکاملُ وإلاّ بقی الشیعة حیاری فی الموارد المذکورة لا یعلمون إلی من یرجعون لیعیَّن - مثلاً - قیّمٌ لاِءیتامهم، وهذه الولایة وإن أمکن إثباتها عن طریق ولایة الحسبة أیضا ولکن یجب الاعتراف والقبول بدلالة المقبولة، بالدلالة الالتزامیة أیضا.

المقبُولة والولایة علی التصرف فی الأُمور الاجتماعیة: هل یدل الحدیث المذکور علی ولایة القضاء وشؤونها؟ وهل یدل أیضا علی ولایة التصرف فی الأُمور الاجتماعیة أو السیاسیة والتنفیذیة أم لا؟

إن شمول المقبولَة بالنسبة إلی الموارد المذکورة یرتبط بثبوت الإطلاق فی ذلک

الحدیث والذی یمکن بیانه کما یأتی:

أ: مصطَلَح المنازعة الذی ورد فی السؤال المذکور یعم المنازَعة فی الحق والباطل بلحاظ الشبهة الحکمیة، أو الشبهة الموضوعیة، والنزاع فی استنقاذ الحق القطعیّ المعلوم، بل ویشمل أیضا النزاعات، والاختلافات الواقعة فی آراء المجتمع ووجهات نظرهم التی هی أیضا نوع من أنواع النزاع، حیث إنّ الأوّل بحاجة إلی الفتوی، والثانی بحاجة إلی القضاء، والثالث بحاجة إلی السلطة التنفیذیة، والرابع بحاجة إلی الحکومة، یعنی ولایة الأمر، علی أن الصور الثلاث برمتها یمکن تصوُّرها فی مورد السؤال عن «الدَّین» و «المیراث»؛ لأنّه ربما یکون النزاع والتخاصم فی أصل وارثیة أحد أو مدینیته وعدم معرفة الحکم الشرعی فی هذه الحالة تارة؛ وربما یکون من جهة الاختلاف فی الأداء وعدم الأداء للدین، أو تسلم المیراث وعدم تسلمه تارة أُخری ؛ کما أنه یمکن أن یکون النزاع والتخاصم بسبب تسدید الدین الثابت أو المیراث القطعی والذی لا یحتاج استیفاؤه إلی الفتوی والقضاء لعدم وجود اختلاف فی أصل ثبوت الحق، بل المقام بحاجة إلی وجود قوةٍ تنفیذیةٍ وسلطةٍ مجریةٍ تأخذ الحق من الغاصب وتُسلّمه إلی صاحبه الحقیقی.

ویمکن أن نعتبر أن یکون فرض «التحاکم إلی السلطان وإلی القضاة» فی الحدیث إشارة إلی کلا النوعین من النزاع (أی النزاع فی الحق والباطل، والنزاع فی أخذ الحق المعلوم) وعدم أخذه؛ لأنّ السُلطان یتمتع بسلطة تنفیذیة، والقاضی لا یملک إلاّ السلطة القضائیة،

ص: 252

وجعل هذین أحدهما فی مقابل الآخر فی السؤال المطروح فی الحدیث الحاضر دلیل علی التنوع فی النزاعات التی یجب الرجوع فیها إلیهم، ومن المعلوم أن وجود السلطة التنفیذیة بدون الحکومة غیر ممکن، والسلطة الحاکمة یحقّ لها التدخل فی الأُمور الاجتماعیة.

ب: الدلیل الآخر علی التعمیم عبارة عن کون لفظة الحاکم فی قوله علیه السلام : «فإنّی قد جَعَلتُه علیکم حاکما» تعم القاضی والوالی، یعنی أن الحاکم هو الذی یمتلک منصبَی القضاء والتنفیذ؛ لأن منصب القاضی کان منفصلاً عن منصب الوالی فی الحکومات الإسلامیة الماضیة، إذ کان القاضی یمتلک السلطة القضائیة، والوالی یمتلک السلطة التنفیذیة، وقد أعطی الإمام علیه السلام هذین المنصبین کلیهما إلی الفقیه تحت عنوان «الحاکم» وعلی هذا تکون بین الحاکم وکل من الوالی والقاضی نسبة العموم المطلق؛ والحاکم - فی تعبیر الحدیث - یشمل سمة القضاء وولایة الأمر والقیام بحفظ النظام، والأعمال التنفیذیة

أیضا.

والشاهد علی هذا التعمیم المذکور فی السؤال المطروح فی الحدیث حول الرجوع والتحاکم إلی السلطان والقاضی.

سؤال: ألیسَ هذا التعمیم لغوا لأنّ فقهاء الشیعة کانوا یفقدون فی عصر صدور هذا الحدیث الشریف کل سلطةُ تنفیذیة فی ظلِّ الحکومات التی کانوا یعاصرونها، ولم یکن فی إمکانهم أن یفعَلوا ما أشار إلیه الحدیث؛ لأن السلطات التنفیذیة کانت برمتها فی قبضة القوی والأطراف المخالفة لأهل البیت علیهم السلام ؟

الجواب: إن الأحکام الشرعیة تُشرَّع دائما فی قالب وصورة القوانین الکلیة العامة، ولا یُلاحَظ فیها زمن خاص، فیُفتَرض فیها أن تأخذ مجراها إلی التطبیق العملی کلما سنحت الفرص، وواتت الظروف، وعلی هذا الأساس لا مانع من أن یکون الإمام علیه السلام قد فوّض سمة الحکومة إلی الفقهاء وإن لم یمکن ممارسة هذه الحکومة فی فترة خاصة من الزمن ولکنها تتحقق فی الظرف المؤاتی.

ولکن المشکلة هی فی تعمیم لفظة المنازعة - فی الحدیث المذکور - بالنسبة

ص: 253

لموارد سلب الحق القطعیّ یعنی أن صدق المنازعة خاص بموارد الاختلاف فی الحق والباطل.

أما فی مورد الامتناع عن أداء الحق القطعی ورد الغصب الحقیقی فلا یصدق علیه عنوان النزاع والتحاکم بل یصدق فقط فی ما إذا کان هناک تظلّم وتَشَکٍّ من الظالم؛ لأن المفروض هنا عدم وجود مُدَّع ومنکر، بل امتناعٌ عن أداء الدَّین أو المیراث القطعی، ولا یحضر فی المقام الظالمُ والمظلومُ عند الحاکم بعنوان التحاکم (أی طرح النزاع والمطالبة بإجراء العدالة) لیقال فتحاکما إلی السلطان (وإلی القاضی)، بل هنا غاصِبٌ یجب أن یُستحضَر ویُجلَب ویؤخَذَ منه الحق، ویعطی إلی صاحبه.

وعلی هذا الأساس فإنّ مورد السؤال فی هذا الحدیث هو خصوص الاختلاف فی الحقّ والباطل من جهة الحکم الشرعی الکلّی، أو التشخیص الجزئی، وربما مارس السلطانُ القضاءَ أحیانا کما کان أمیرالمؤمنین علیه السلام نفسه یتولی القضاء ویمارسه مع الاحتفاظ بسمة ولایة الأمر والحاکمیة علی البلاد الإسلامیة، وکذلک کان صغار الولاة أیضا.

ولکن مع کلِّ هذا یجب أن نقبل بتعمیم لفظ «الحاکم» لغیر موارد الخصومة مثل

إصدار الأوامر فی القضایا الاجتماعیة والتنفیذیة والزام المتخلفین، وحکم الحاکم فی قضیة الهلال وجمیع الموضوعات غیر القضائیة کذلک؛ لأن لفظة «الحکم» لیست خاصة بموارد الخصومات، ولهذا السبب تُطلَق کلمة الحکم علی الأوامر والنواهی الشرعیة إلزامیةً وغیر إلزامیة، ویُعَبَّر عنها ب- «الأحکام الخمسة»، وکذا تُسْتَعمل کلمة «الحکم» فی آیات القرآن الکریم، فیما هو أعم من موارد الخصومة مثل قوله تعالی: «فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَکَ مِنَ الْحَقِّ»(1).

والحکم فی هذه الآیة هو الأعم من الأمر والقضاء. وکذا فی قوله تعالی: «إِنَّ اللّهَ

ص: 254


1- 1 . سورة المائدة /48.

یَحْکُمُ ما یُرِیدُ»(1). ولهذا السبب یشمل حکم الحاکم الموضوعات غیر القضائیة مثل الحکم بثبوت الهلال، أیضا وإن کان هناک کلام فی حجیته.

والحاصل أن مورد السؤال فی المقبولة وإن کان خصوص الموارد القضائیة ولکن جواب الإمام علیه السلام أعمّ، ولهذا یمکن اعتبار مفاد المقبولة أعم من ولایة القضاء وولایة الحکم والحکومة. «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما»»(2).

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی تقریب الاستدلال بالمقبولة.

ولکن جماعة من الأصحاب لم یقبلوا هذا التقریب واختصوا المقبولة بباب القضاء ورفع الخصومات والمنازعات وناقشوا فی التقاریب:

فمنهم: المولی صالح المازندرانی (م 1081) قال: «الحاکم وهو القاضی»(3).

ومنهم: المولی رفیع الدین محمّد بن حیدر النائینی رحمه الله الشهیر بالمیرزا رفیعا (م 1082) قال: «قوله علیه السلام : «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما» أی قد صیّرته حاکما علیکم، أو قد وصفته بکونه حاکما علیکم، وحکمت بذلک، وسمّیته بالحاکم.

یقال: جعل فلان زیدا أعلمَ النّاس: إذا وصفه بذلک وحکم به. ومنه قوله تعالی: «وَجَعَلُوا الْمَلائِکَةَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثا»(4) أی وصفوهم بذلک، وحکموا بکونهم إناثا.

وعلی الأوّل یکون حکومة المجتهد بنصبه علیه السلام لها، فلا یثبت له حکومة بدون النصب ما لم یدلّ دلیل آخَرُ.

وعلی الثانی یکون المجتهد متّصفا بالحکومة، ویکون قوله علیه السلام مبیّنا لاتّصافه بها.

والثانی أولی؛ لوجوه:

منها: أنّه لم یکونوا علیهم السلام فی تلک الأعصار ینصبون الحکّام.

ص: 255


1- 2 . سورة المائدة /1.
2- 3 . الحاکمیة فی الإسلام /(614-609).
3- 4 . شرح اصول الکافی 1/337.
4- 5 . سورة الزخرف /19.

ومنها: أنّهم لو نصبوا لأعلموا النّاس بنصب الفقیه للحکومة ابتداءً ولکان هذا من المعلوم عند الإمامیّة، ولو کان لنُقل، وإذ لم ینقل علم أنّه لم یکن.

ومنها: أنّه لم یُعهد نصب غیرالمعیّن.

ومنها: أنّ الضرورة ماسّة بحکومة الفقیه: أمّا عند الغیبة، فظاهر، وأمّا مع ظهور الحجّة، فلعدم إمکان رجوع الکلّ فی کلّ الأحکام إلی الحجّة لا بوسط وحکومته بمعنی کونه جائز الحکم بعد ما تحاکما إلیه نافذَ الحکم حینئذٍ، وظهور الحجّة وغیبتُه سواء فی ذلک، ویکون حکومة اُخری لشخصٍ بخصوصه بنصب الحجّة عند ظهوره وتمکّنه.

ولو حمل علی الأوّل فإمّا أن یُحمل علی نصبه علیه السلام للفقیه فی عصره وفی الأعصار بعده، أو علی نصبه فی عصره.

وعلی الأوّل فیکون الفقیه منصوبا ما لم ینعزل بعزله، أو بعزل مَن یقوم مقامه.

وعلی الثانی ینقضی أیّام نصبه بانقضاء أیّامه علیه السلام حیث یکون الحکم لغیره بعده.

ویحتمل الحکم بنصبه بعده ما لم ینعزل؛ لاتّحاد طریقتهم علیهم السلام واستحسان اللاحق ما حسّنه السابق منهم، وکون المتأخّر خلیفةً للمتقدّم؛ فما لم یظهر منه خلاف ما جاء من المتقدّم حُکم بإبقائه له.

والظاهر من الحاکم القاضی - وهو الذی یحکم فی الوقائع الخاصّة ویُنفذ الحکم کالحَکَم - لا المفتی، وهو المبیّن للحکم الشرعی عموما»(1).

ومنهم: العلاّمة المجلسی رحمه الله قال: «قوله علیه السلام «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما»، اُستدلَّ به علی أنّه نائب للإمام فی کلّ أمر إلاّ ما أخرجه الدلیل ولا یخلو من إشکال، بل الظاهر أنّه رخّص له فی الحکم فیما رفع إلیه، لا أنّه یمکنه جبر النّاس علی الترافع إلیه أیضا، نعم یجب علی النّاس الترافع إلیه والرضا بحکمه»(2).

ومنهم: صاحب الحدائق قال: «غایة ما تدلّ [المقبولة] علیه الترافع إلیه فی

ص: 256


1- 1 . الحاشیة علی اصول الکافی /(226-224) ونقل عنه المجلسی فی مرآة العقول 1/223 تحت عنوان: «قال بعض الأفاضل»، وقال فی آخره: «ولا یخفی متانته ویمکن المناقشة فی کثیر منها».
2- 2 . بحارالأنوار 2/222 (1/349)؛ مرآة العقول 1/223.

الحکم والفتوی، وأنّه منصوب من قبلهم علیهم السلام لذلک لا بالنسبة إلی الولایة علی مال یتیم أو نکاح بالغ غیر رشید، أو من تجدد له الجنون أو السفه بعد البلوغ أو نحو ذلک، فإنّه لا أثر لشیء من ذلک فی الأخبار وإنّما ذلک فی کلامهم»(1).

ومنهم: الفاضل المراغی قال فی شأن مقبولة ابن حنظلة وروایة أبیخدیجة الماضیة: «وهذه الأخبار أیضا لا تقتضی الولایة إلاّ فی الفتوی والقضاء، ولا تدلّ علی کونه ولیّا مطلقا له التصرف کیف شاء، نعم تدلاّن علی اعتبار حکمهم وفتواهم کما استدلّ بهما الأصحاب، مع ما فیهما من البحث والإشکال»(2).

ومنهم: المحقّق الخراسانی رحمه الله قال: «ظهور کونهم حاکما وقاضیا فی خصوص رفع الخصومة کما یشهد ملاحظة المقبولة والمشهورة»(3).

ومنهم: قال المحقّق الأیروانی: «المقبولة والمشهورة صریحتان فی الحکومة فلا وجه للتمسّک بها علی عموم النیابة»(4).

ومنهم: المحقّق الاصفهانی فی تقریب الاستدلال بالمقبولة وأنّها لا تعمّ السیاسات وحفظ البلاد والعباد ونظامها قال: «إمّا بتقریب: أنّ المراد بالحاکم ما هو المتعارف من نصب السلطان للحاکم الذین یتصدون الأُمور العامة المتعلقة بالرعیة، وإمّا بأنْ یراد منه القاضی نظرا إلی کونه مورد السؤال، والتحاکم هو الترافع إلی القاضی، وقوله علیه السلام : «فإذا حکم بحکمنا» أی قضی إلی غیر ذلک من الشواهد، لا الحاکم بمعنی الوالی والرئیس، إلاّ أنّ جملة من الامور المحتاج إلیها - من حفظ مال الغائب والقاصرین وتولی اُمورهم بنصب القیّم لهم - من لوازم المنصوب قاضیا؛ وإنْ کان أجنبیا عن حیثیة القضاوة، کما هو المرسوم فی الحکومات الإسلامیة من کون التصدی لأمثال هذه الامور

ص: 257


1- 1 . الحدائق 23/239.
2- 2 . العناوین 2/570.
3- 3 . حاشیة المکاسب /94 و 70.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/374.

من شؤون القاضی، فجعله قاضیا - کما ورد التعبیر به فی روایة اُخری(1) - یستلزم الولایة علی هذه اللوازم.

نعم هذا المعنی أخص من الحاکم بالمعنی الأوّل، فإنّ الحاکم بالمعنی الأوّل مرجع جمیع الامور المهمة المرتبطة بحفظ البلاد والعباد وتدبیر شؤونهم، بخلاف المعنی الثانی فإنّه أجنبی عن جملة من تلک الامور کما یظهر بالمراجعة إلی شؤون القضاة، فإنّها لا تتجاوز دائرة الشرعیات ولا تعم السیاسات»(2).

ومنهم: المحقّق الشهیدی قال: «ویتجه الخدشة فی الاستدلال بهما [المقبولة والمشهورة] علی ولایة الفقیه بأنّ المتیقّن من أمثالهما بعد ملاحظة صدرها نصبه علیه السلام الفقیه لخصوص القضاء وقطع التخاصم؛ اللّهم إلاّ أن یدّعی أنّ جمیع أنحاء الولایات داخلة فی مفهوم الحاکم القاضی، فإعطاء منصب القضاوة للفقیه فی مورد فصل الخصوصمات یوجب إعطاء جمیع أنحاء الولایة له، إلاّ أنّه مشکل جدا سیّما فی لفظ القاضی؛ لأنّه [القضاء] - علی ما حقّقناه فی جامع الدلالات فی القضاء والشهادات - لیس کما یظهر من القوم من کونه من المشترک اللفظی، بل هو موضوع لمعنی جامع لشتات جمیع ما قیل بوضعه له من المعانی، وهو إنهاء الأمر وإیصاله إلی غایته، وأنّ إطلاقه علی من له ولایة فصل الخصومة إنّما هو بلحاظ إنهائه الخصومة وختمه، وأنّ تعریفه فی کلمات جماعة بالولایة الشرعیة علی الحکم وعلی المصالح العامة ممّا لا داعی إلیه، بل ینافیه قولهم بوجوب القضاء کفایة أو عینا علی اختلاف الحالات؛ لأنّ الولایة لیست من قبیل الأفعال، فلا یتّصف بالوجوب وغیره من الأحکام.

وکذلک الکلام فی لفظ «الحاکم» فإنّه من الحکم، وهو - کما بیّناه فی کتابنا المذکور - عبارة عن إخراج متعلّقه عن التردّد والاحتمال، ومن الواضح أنّ هذین المفهومین لم یؤخذ فیهما نحو من أنحاء الولایة فضلاً عن جمیعها، فتدبّر جیّدا.

ص: 258


1- 5 . وسائل الشیعة، الباب 1 من أبواب صفات القاضی، ح1.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/387 و 388.

أو یدّعی أنّ الولایة وإن لم تدخل فی مفهومها إلاّ أنّ بعض الولایات - کولایة الحکم فی غیر مورد التخاصم کما فی الهلال، والولایة علی القصّر والأوقاف - من شؤون القاضی ومن له الحکم فی الخصومات، ویکشف عن ذلک ثبوت هذه الولایات لقضاة الجور بزعمهم الفاسد وتصدیّهم له، وأنّها من شؤون القضاة عندهم، کما لعلّه یفصح عن ذلک خبر محمّد بن إسماعیل: «قد مات رجل من أصحابنا ولم یوصِ، فرفع أمره إلی قاضی الکوفة، فصیّر عبدالحمید القیّم بماله...»(1)، الخبر، حیث إنّه یدلّ علی أنّ نصب

القیّم علی مال الیتیم شغل القاضی، فإذا نصب الإمام الفقیه قاضیا یثبت له جمیع شؤون القضاوة التی منها ما ذکر، وکون مورد أدلّة النصب هو التنازع لا ینافی ذلک؛ إذ مجرّد ذلک لا یوجب رفع الید عن ظهور جعله قاضیا فی ذلک.

ویؤیّده أنّ الإمام علیه السلام فی مقام ردع الشیعة عن التحاکم إلیهم وجعل راوی أحادیثهم والعارف بأحکامهم قاضیا فی مقابلهم، وقضیّة المقابلة أن یکون مثل القاضی المنصوب من قبل سلطان الجور فی جمیع ماله من الشؤون والوظائف، مع أنّ الحکمة فی النصب إنّما هو رفع احتیاج الشیعة إلی قضاة الجور، ولا یحصل ذلک إلاّ بما ذکر.

والحاصل: أنّ کلّ ما کان من شؤون قضاة الجور، فهو ثابت للفقیه فی زمان الغیبة، والظاهر أنّ الولایات الثلاث المذکورة وظیفة قاضی الجور کما هو المشاهد فی عصرنا فتکون للفقیه أیضا، وأمّا سائر الولایات والمناصب، فالمرجع فی تعیین أنّها من وظائف قضاتهم حتّی یکون لقضاتنا أیضا أم لا، هو الرجوع إلیهم وتتبّع السیر والتواریخ.

ویمکن الخدشة فی هذه الدعوی بأنّها وإن کانت من شؤون القاضی عند العامّة بلا کلام فیه، إلاّ أن الکلام فی وجه ذلک.

فإن کان من جهة دخولها فی مفهومه، ففیه: أنّ مرجعه إلی الدعوی الأُولی وقد مرّ الکلام فیه.

وإن کان من جهة کونها من لوازم مفهوم القضاء وإنهاء أمر الخصومة عقلاً أو عادة،

ص: 259


1- 2 . وسائل الشیعة 17/363، ح2.

ففیه: منع واضح للقطع بعدم الملازمة بینهما کذلک.

وإن کان من جهة جعل الجاعل وإعطائه هذه الولایات لمن جعل له ولایة القضاء، ففیه: أنّه أمر ممکن إلاّ أنّه لابدّ فی الحکم بوقوعه فی الشرع من دلیل یدلّ علیه، وهو منتفٍ؛ ضرورة أنّ دلیل نصب القاضی لا یدلّ إلاّ علی إعطاء منصب القضاء، وقد مرّ أنّه لا ملازمة بینه وبین سائر المناصب والولایات کی یدلّ علیه بالالتزام، ومجرّد ثبوت شؤون أُخر لمن له القضاوة بواسطة جعل سلاطینهم لا یوجب ثبوتها لقاضی الإمام علیه السلام بواسطة جعله، والمقابلة بین الأمرین إنّما تقتضی المساواة بینهما فیما کانت المقابلة فیه لا مطلقا، وهو فی المقام فی أحد المتقابلین أعنی قاضی الجور جهة القضاوة خاصّة لا هی بتمام شؤونها، ولا أقلّ من الشک، وهو کافٍ.

ومن هنا ظهر الحال فی مسألة الحکمة؛ فإنّها رفع الاحتیاج إلیهم فی جهة القضاء فقط؛ لعدم احتیاجهم إلیهم فی سائر الجهات مثل الولایات الثلاث المتقدّم ذکرها؛ لثبوتها لکلّ واحد من عدول المؤمنین.

فقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا هنا وفی الحواشی المتقدّمة أنّه لا دلیل علی ولایة الفقیه علی الوجه الأوّل(1) فی شیء إلاّ القضاء، فتدبّر»(2).

ومنهم: آیة اللّه السیّد محسن الحکیم رحمه الله قال: «وأمّا الحاکم فی المقبولة فالظاهر منه من له وظیفة الحکم، امّا بمعنی الحکم بین النّاس فیختصّ بفصل الخصومة، أو مطلقا فیشمل الفتوی کما یناسبه العدول عن التعبیر بالحکم إلی التعبیر بالحاکم، حیث قال علیه السلام : «فلیرضوا به حکما، فإنّی قد جعلته علیکم حاکما»، مضافا إلی ما یأتی مثله فی المشهورة، ولیس له ظهور بمعنی السلطان أو الأمیر کی یکون له ولایة التصرف فی الأُمور العامّة، فضلاً عن أن یکون بمعنی من له الولایة المطلقة بالتصرف فی النفوس والأموال.

ودعوی أنّ إطلاق الحکم الّذی جُعل من وظائفه یقتضی ذلک، فانّ قولنا: زید له

ص: 260


1- 1 . «أعنی استقلاله فی التصرف» المکاسب 3/551.
2- 2 . هدایة الطالب 3/(257-255).

الحکم، مثل قولنا: زید له الأمر، ظاهر فی نفوذ جمیع تصرّفاته التشریعیة والتکوینیة، مدفوعة بأنّ ذلک المعنی یأباه قوله علیه السلام : «فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه - الخ»، فإنّه ظاهر فی الحکم المتعلّق بفعل المکلّف، فلاحظ»(1).

ومنهم: المحقّق الشیخ أبوالحسن الشعرانی قال فی تعلیقاته علی الوافی: «الظاهر من جعل رجل حاکما تفویض جمیع مناصب القاضی لا مناصب الإمام إلیه إلاّ أن مورده التراضی والتحکیم وکما یحتمل تقیید اطلاق الحکومة بالتراضی کذلک یمکن حمل قید التراضی علی الغالب، إذ لما لم یکن الفقهاء فی عصر الأئمة متمکنین من اجبار المدعی علیه وإنفاذ الحکم قهرا علیه لم یذکر فی الحدیث إلاّ مورد التراضی.

ومثل هذا لا یدلّ علی تقیید المطلق أعنی «قد جعلته حاکما» مثل ما ورد أن الاستطاعة هی الزاد والراحلة والتقیید بالراحلة وهی الدّابة لا یوجب تقیید اطلاق من استطاع إلیه سبیلاً فتحصل الاستطاعة بغیر الدّابة أیضا فقوله «قد جعلته علیکم حاکما» مطلق یشمل جمیع وظائف القضاة ولا یقید بالمورد المذکور فی الروایة نعم هذه دلالة

ضعیفة وتتم هنا بالاجماع ودلیل العقل. إذ لا یستقیم أمر النّاس زمان الغیبة إلاّ بقاض ینفذ حکمه ولو مع عدم تراضی المتحاکمین فلابدَّ إمّا أن یترک الترافع مطلقا. ویترک الصغار والمجانین والسفهاء بلا قیم ویهمل أمورهم وإمّا أن یرجع فیها إلی العلماء العدول أو إلی العوام الفساق فهذا هو دلیل ولایة الفقیه ویجعل ماسوی ذلک من الأحادیث به تام الدلالة»(2).

ومنهم: آیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قال فی نقد تقریب استاذه العراقی: «هذا ولکن الإنصاف أنه لا یتمّ هذا الاستدلال، وإنّما عیّن الإمام علیه السلام فی هذه الروایة مرجعا للقضاوة فقط، وإن کان شأن الحاکم والقاضی فی السابق مطلق التصرفات، حیث أن الروایة من جهة المراجعة إلیهم فی سائر الأمور والردع والإمضاء ساکتة.

ص: 261


1- 3 . نهج الفقاهة /494.
2- 1 . الوافی 1/287.

لا یقال: إذا لم یثبت منه علیه السلام ردع عن المعنی المرتکز فی الأذهان، وکون الشخص المذکور مما لابدّ من وجوده، فیکفی ذلک - أی عدم الردع - فی إثبات المطلب.

فإنّه یقال: لو کان إرتکاز هذا المطلب مسلّما فی الأذهان فبمقدمات عدم الردع یتم المطلب ولا یرتبط بالروایة أصلاً، مع أنه لا یلزم من تعیین الحاکم بمعنی القاضی وعدم دلالته علی ثبوت مطلق الشؤون الثابتة للقاضی أو للحاکم بالمعنی الأعم للفقیه. ردع عما کان مرتکزا عند النّاس، ومنهم الراوی مع معرفته بالإمام علیه السلام وأنه بنفسه الشریفة یکون حقه السلطنة العامة، وأنّ الأمور لابدّ أن ترجع إلیه کمراجعة النّاس إلی السلطان الجائر.

نعم، لو کان الإرتکاز المذکور مسلّما وکان المفروض زمان عدم حضور الأمام علیه السلام ، کان عدم الردع عنه دلیلاً علی المطلب، ولکن المفروض خلافه. فلِمَ لا یمکن أن تکون هذه الأمور مما لابدّ أن ترجع إلی ذاته المقدّسة علیه السلام کما کان مرتکزا فی الأذهان عموما وخصوصا فی نفس الراوی؟ وإنّما هو علیه السلام عَیّن أشخاصا بین النّاس لخصوص القضاوة، کما أنّ حال سلاطین الجور کان کذلک. ولعمری هذه الطریقة أشدّ ارتکازا عمّا إدعاه شیخنا العراقی قدس سره وأقرب إلی عدم الردع بعد کون أصحاب الأئمة علیهم السلام متلبّسین بطریقة المخالفین وخلفائهم، وکونهم عارفین بشؤون الأئمة»(1).

ومنهم: الفقیه الشریعتمداری قال: «وأمّا استدلاله؛ بمقبولة عمر بن حنظلة، فیرد

أنّ القرینتین المنقولتین عن الشّیخ رحمه الله غیر تامّتین من جهة المورد، ومن جهة استعمال کلمة الحکومة. أمّا عدم مناسبتها فلانّ المستفاد من صدرها وذیلها أنّها فی مقام نصب القاضی والحاکم فی مورد الإختلاف، والتّنازع فی دین أو میراث؛ وفی هذا المورد صرّح الإمام علیه السلام أنّه لا یجوز التّرافع إلی الطّاغوت وسلطان الجور، بل یجب الرّجوع إلی قاضی الشّیعة، حیث قال علیه السلام : «فلیرضوا به حکما، وانّی قد جعلته علیکم حاکما».

فبناء علیه الاستظهار من کلمة الحاکم المعنی الأعمّ من دون ملاحظة قرائن

ص: 262


1- 2 . کتاب القضاء /51.

المقام، ومناسبة المورد. ومن دون ملاحظة الرّبط العلّی بین هاتین الجملتین - جملة: «فلیرضوا به حکما»، و جملة: «انّی قد جعلته علیکم حاکما» - لا یصحّ خصوصا بملاحظة ما ورد فی باب القضاء من أنّ الحکومة استعملت فی هذا الباب فی معنی القضاء، فلم یعلم کون المراد من الحاکم المعنی المصطلح الیوم من کون معناه صاحب الاختیار، حتّی أنّه لم یعلم أنّ المراد من الحکم فی قوله تعالی: «یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الاْءَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ»(1) المعنی الاعمّ من القضاء، بل یمکن أن یکون راجعا إلی قضاء داود فی مورد الاختلاف والتّنازع»(2)... «بالجملة؛ صدرُ الروایة وذیلُها، یُستفادُ منه أنّ المراد، نصبُ القاضِی ونصبُ الحاکم فی موردِ الاختلافِ.

وبعبارةٍ اُخری هاتین الجملتین کان بینهما ربطٌ علِیٌّ وهکذا الجملتان: جملة: «فَلْیَرضُوا به حکما» وجملة: «وَإنّی قد جَعَلتُه حاکما»؛ فالرّبط بینهما، ربطٌ علیٌّ وأنَّ طریقَ إجراء مورد الاختلاف، الحکمُ اِللّهیُ المَلَکُوتیّ، یعطینا أنّ موردَ النّظر، إنّما هو مسألةُ القضاوَةِ لا الأعمُّ منها؛ فَالاستظهارُ من کلمة الحاکم بالمعنی الاعمِّ من دونِ قَرائنِ المقام ومن دون الرّابطة العِلِّیَّةِ وشَأْنِ نُزولِ القضیّة، لا یصحّ خُصوصا بملاحظة ما وَرَدَ فی باب القضاء من أنّ الحاکم، اِستَعمل فی هذا الباب بمعنی القَضاء فلم یعلم کون المراد من الحاکم بالمعنی المصطلح الیومِ من کون معناه، صاحِبَ الاختیار حتّی انّه لم یعلم أنّ المراد من قوله تعالی: «یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الاْءَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ»، راجعةٌ إلی قَضاءِ داود علیه السلام الّذی هو خلیفةٌ فی مواردِ الاختلاف لا المعنی الاعمّ من القضاء فَدعوی الشّیخ رحمه الله ظُهورَ المعنی لکلمة الحاکم، انّما المعنی العَجَمِیُّ لا فی مورد استعمالِ العربِ والأئمة علیهم السلام »(3).

ومنهم: المحقّق السیّد الخوئی قال فی نقد تقریب استاذه النائینی: «وفیه: أنّ المرسوم فی تلک الأزمنة هو جعل الوالی والقاضی دون الحاکم والقاضی، لأنّ الحاکم

ص: 263


1- 1 . سورة ص /26.
2- 2 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/70.
3- 3 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/91.

مرادف للقاضی کما هو ظاهر وإنّما المغایر له الوالی وهو عبارة عمّن یتولّی الاُمور، ولم یقل إنّی جعلته علیکم والیا وإلاّ لتّمت الدلالة علی المدّعی بأوضح وجه، ومن الغریب أنه قدس سره أیّد مدّعاه بما ورد فی صدر الحدیث من التقابل بین السلطان و القاضی وهو یدلّ علی تغایر الحاکم والقاضی. ولا یخفی ما فیه بعد ما ذکرناه من أنّ الحاکم بمعنی القاضی ویقابله الوالی والسلطان، ویشهد لما ذکرناه أمران:

الأوّل: قوله علیه السلام بعد تلک الجملة: «فإذا حکم بحکمنا» فإنّه لا یراد منه إلاّ القضاء.

الثانی: أنّ الحدیث إنّما ورد فی المرافعة والمناسب لها هو القضاء دون الولایة کما لا یخفی»(1).

ومنهم: آیة اللّه الاستاذ المنتظری قدس سره قال فی نقد تقریب استاذه الإمام الخمینی رحمه الله : «ولکن مع ذلک کلّه یمکن أن یناقش فی الاستدلال بالمقبولة علی نصب الفقیه والیا بوجوه:

الأوّل: ما ذکرناه فی الفصل السابق من الإشکال فی النصب العامّ ثبوتا بشقوقه الخمسة، فراجع. وإذا فرض عدم الإمکان ثبوتا لم تصل النوبة إلی مقام الإثبات. ولو فرض وجود ظاهر یدلّ علیه وجب تأویله بأن یحمل علی بیان الصلاحیة لا الفعلیة، وإنّما تتحقّق الفعلیة بالرضا والانتخاب ولذا قال: «فلیرضوا به حکما». وانّما أمر بذلک ردعا عن انتخاب الجائر أو انتخاب غیر من ذکره من الفقیه الواجد للشرائط، فتأمل.

الثانی: أنّ الولایة بالنصب کانت ثابتة عندنا للإمام الصادق علیه السلام بنفسه، وبعده أیضا للأئمة من ولده، فما معنی نصب الفقهاء ولاة بالفعل مع وجوده وظهوره؟ ولو قیل بعدم السلطة له بالفعل، قلنا إنّ الفقیه المنصوب من قبله أیضا کذلک.

والسائل سأل عن المرجع للمحاکمات فی عصر الإمام الصادق علیه السلام ، فلا مجال لاِءَنْ یُقالَ إنّ النصب منه علیه السلام کان لعصر الغیبة فإن السؤال علی هذا یبقی بلا جواب ویصیر المقام من قبیل استثناء المورد وهو قبیح.

ص: 264


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/169.

نعم، یعقل نصب القاضی للمخاصمات الواقعة بین الشیعة لعصر الإمام الصادق علیه السلام

أیضا بعد عدم جواز الرجوع إلی قضاة الجور.

ومورد السؤال أیضا التخاصم، کما إنّ مورد نزول الآیة المستشهد بها أیضا کان هو النزاع والتخاصم، کما مرّ.

والمجعول فی خبر أبیخدیجة بنقلیه أیضا هو منصب القضاء.

والمرجع للأُمور الحسبیّة وولایة الغیّب والقصّر والممتنع أیضا کان هم القضاة، کما هو المتعارف فی عصرنا أیضا. وقد ذکر الماوردی [الشافِعیّ] وأبویَعْلی [الحنبلیّ] أن نظر القاضی یشتمل علی عشرة أحکام أحدها فصل الخصومات، فراجع.

وذکر السلطان فی المقبولة ومشهورة أبیخدیجة أیضا کان من جهة أن المرجع للقضاء فی الأمور المهمة المعتنی بها کان هو شخص السلطان، مضافا إلی أن التنفیذ والإجراء أیضا کان بقدرته وقوّته، ولولاه لم یتمکّن القضاة من تنفیذ أحکامهم.

اللهم إلاّ أن یجاب عن هذا الإشکال بأنّه لیس المقصود الاستدلال بالمقبولة لجعل الولایة الکبری للفقیه، بل الإمارة والعمل من قبل الإمام المعصوم، کما فی العمّال المنصوبین من قبل الخلفاء. نظیر مالک الأشتر من قبل أمیرالمؤمنین علیه السلام .

فَیَصِحُّ نصب الفقهاء لذلک فی عصر الحضور وعصر الغیبة معا غایة الأمر کون تصرّفاتهم فی زمن عدم بسط الید محدودة، فتأمّل.

الثالث: إنّ الظاهر أنّ الإمام الصادق علیه السلام لم یکن بصدد الثورة ضد السلطة الحاکمة فی عصره لکی ینصب والیا فی قبالها، لعدم مساعدة الظروف علی ذلک. بل کان بصدد رفع مشکلة الشیعة فی عصره فی باب المخاصمات. کیف؟ ولم یعهد تدخّله علیه السلام بنفسه فی المسائل الولائیة المرتبطة بالولاة مع کونه حقّا له عندنا، فکیف ینصب لذلک الفقهاء فی عصره؟

وکون النصب لعصر الغیبة دون عصره مساوق للإعراض عن جواب السؤال ولاستثناء المورد وهو قبیح، کما مرّ.

اللّهم إلاّ أن یقال: إنّ القضاء کما مرّ لیس منجازا عن الولایة الکبری، بل هو من

ص: 265

شؤون الوالی. فالإمام علیه السلام جعل الولایة الکبری للفقیه لعصره ولما بعده غایة الأمر أنّ هذا الجعل بالنسبة إلی عصره کان منشئا للأثر بالنسبة إلی خصوص القضاء والأمور الحسبیة فقط، ولعلّه فی الأعصار المتأخرة یفید بالنسبة إلی جمیع الآثار کما تراه فی عصرنا حیث تهیأ الجوّ لإقامة دولة إسلامیة فی إیران.

ویکفی فی الابتلاء بموضوعٍ، الابتلاء ببعض شؤونه.

ویؤیّد ذلک أنّه علیه السلام بعد ما أرجع المتخاصمین إلی من وجد الصفات المذکورة وأمر برضاهما به حکما قال: «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما». إذ الظاهر من هذا التعبیر أنّ الذیل بمنزلة التعلیل لما سبقه، وقد مرّ أن لفظة «علیکم» قرینة علی إرادة الولایة وإلاّ کان الأنسب أن یقول: «بینکم». فیکون المراد: «إنّی جعلت الفقیه والیا علیکم»، فهو بجهة ولایته المشروعة یصحّ منه القضاء فیجب أن یرضوا به حکما.

وإنّما قال ذلک مع أنّ قضاء الوالی وَقُضاتهِ نافذ ولا یشترط فیه رضا الطرفین، لأنّ الوالی المتسلّط وقضاته تکون لِحُکْمِهِمْ ضمانة إجرائیة وأمّاالوالی الذی نصبه الإمام الصادق علیه السلام فهو نظیر نفس الإمام لم تکن ضمانة إجرائیة لحکمه إلاّ إیمان الشخص ورضاه، ولأجل ذلک أیضا عبّر بلفظ «الحکم»، الظاهر فی قاضی التحکیم المنتخب برضا الطرفین.

وبالجملة، فالذیل کبری کلیّة ذکرت علّة للحکم، فیجب الأخذ بعمومها.

الرابع: أنّ الحکومة ومشتقّاتها قد غلب استعمالها فی الکتاب والسنة فی خصوص القضاء، کقوله تعالی: «وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ»(1)، وقوله: «وَتُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ لِتَأْکُلُوا فَرِیقا مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالاْءِثْمِ»(2).

وفی حدیث ابن فضال نقلاً عن خَطّ أبیالحسن الثانی علیه السلام فی تفسیر الآیة: «الحکام: القضاة».(3)

ص: 266


1- 1 . سورة النساء /58.
2- 2 . سورة البقرة /188.
3- 3 . وسائل الشیعة 18/5، ح9، الباب 1 من أبواب صفات القاضی (27/15، ح9) موثقة.

وقد مرّ فی خبر سلیمان بن خالد عن الإمام الصادق علیه السلام : «اتّقوا الحکومة، فإنّ الحکومة إنّما للإمام العالم بالقضاء»(1). وقد مرّ أوائل هذا الفصل فی تفسیر الآیات الثلاث بعض کلمات أهل اللغة وموارد الاستعمال للحکم والحاکم والحکّام، فراجع.

بل یمکن أن یقال: إن إطلاق الحاکم والحکّام علی الوالی والولاة کقوله علیه السلام : «فصاروا ملوکا حکّاما، وأئمة أعلاما»(2)، وقوله: «وجعلوهم حکّاما علی رقاب

النّاس»(3)، قوله علیه السلام : «الملوک حکّام علی النّاس، والعلماء حکّام علی الملوک(4)»(5)، ونحو ذلک من موارد الاستعمال أیضا کان بملاحظة أنّ القضاء وفصل الخصومات کان من أهمّ شؤون الولاة. والقضاة أیضا إنّما کانوا یتصدّون لذلک بنصبهم وبالنیابة عنهم.

وبالجملة، لیس إطلاق الحاکم علی الوالی بالاشتراک اللفظی، أو بأن ینخلع اللفظ عن معنی القضاء ویستعمل فی الوالی مجازا. بل من جهة أنّ الوالی قاض حقیقة وأن القضاء من أهمّ شؤونه ولا تتمّ الولایة إلاّ به.

فیکون قوله: «حاکما» فی المقبولة مساوقا لقوله: «قاضیا» فی خبر أبیخدیجة بنقلیه.

والتعلیل کان بملاحظة أنّ القضاء لم یکن إلاّ لنبیّ أو وصی نبیّ کما فی خبر سلیمان بن خالد وغیره، ولا یکون مشروعا إلاّ بإجازة الوصیّ ونصبه. ومورد السؤال أیضا المنازعات. فالإمام الصادق علیه السلام أرجع المتنازعین من الشیعة إلی الفقیه وأمر بوجوب الرضا به حَکَما من جهة أنّه علیه السلام بولایته المطلقة الثابتة عندنا جعله قاضیا، فصار قضاؤه بذلک مشروعا فلم یجز التخلّف عنه. وقد مرّ آنفا وجه الأمر بالرضا والتعبیر

ص: 267


1- 4 . وسائل الشیعة 18/7، ح3، الباب 3 من أبواب صفات القاضی، (27/17، ح3) صحیحة.
2- 5 . نهج البلاغة، فیض /802؛ عبده 2/177؛ لح 296، الخطبة 192.
3- 1 . نهج البلاغة، فیض /666، عبده 2/215، لح /326، الخطبة 210.
4- 2 . أَخَذَ هذا المعنی بعضُ الشُّعَراء فَقالَ من (الکامل): إِنَّ الأَْکابِرَ یَحْکُمُونَ عَلی الْوَری وَعلی الاْءَکابِرِ یَحْکُمُ الْعُلَماءُ
5- 3 . بحارالأنوار 1/183، کتاب العلم، الباب 1 من أبواب العلم وآدابه، الحدیث 92.

بالحکم.

ولیس ذکر السلطان فی المقبولة وخبر أبیخدیجة دلیلاً علی إرادة الأعمّ من القضاء بعد کون السؤال عن تکلیف المتنازعین.

وإنّماذکر السلطان من جهة أن الرجوع إلی القاضی المنصوب من قبل السلطان نحو رجوع إلی السلطان، ولأنّه ربّما کان السلطان بنفسه یتصدّی للقضاء فی الأمور المهمّة.

والتنازع سواء کان لادعاء طرف وإنکار آخر أو کان لاستنکاف أحد عن أداء دینه بعد معلومیّته کان مرجعه القضاة، وکذلک جمیع الأمور الحسبیة کما هو المتعارف فی أعصارنا أیضا. کما قد یشهد بذلک خبر إسماعیل بن سعد عن الرضا علیه السلام : «وعن الرجل یصحب الرجل فی سفر فیحدث به حدث الموت ولا یدرک الوصیة کیف یصنع بمتاعه وله أولاد صغار وکبار، أیجوز أن یدفع متاعه ودوابّه إلی ولده الأکابر أو إلی القاضی، وإن کان

فی بلدة لیس فیها قاض کیف یصنع؟»(1).

إذ یظهر بذلک أنّ مرجع أمر الصغار کان هو القاضی. وقد مرّ الإشارة إلی کلام الماوردی وأبییعلی وأنّهما جعلاً تکلیف القاضی أوسع من فصل الخصومات.

وعلی هذا فما ذکره الأستاذ الإمام - مدظله - فی بیان المقبولة من تقسیم التنازع إلی قسمین وإرادة استفادة جعل الولایة الکبری من هذا الطریق قابل للخدشة جدّا، فتأمّل.

وقد تحصّل ممّا ذکرناه بطوله أنّ المقبولة، وکذا خبر أبیخدیجة بنقلیه کلیهما فی مقام نصب القاضی للشیعة الإمامیة لرفع مشاکلهم فی الأُمور التی کانت ترتبط بالقضاة بعد ما حرّم علیهم الرجوع إلی قضاة الجور. فلا یصحّ الاستدلال بهما لإثبات الولایة المطلقة بالنصب.

فإن قلت: التعبیر بالطاغوت والاستشهاد بالآیة الشریفة لا یناسبان إرادة خصوص القضاء.

ص: 268


1- 1 . وسائل الشیعة 13/475، ح3، الباب 88 من أحکام الوصایا (19/422) صحیحة.

قلت: الرجوع إلی قضاة الجور والاعتناء بهم وبحکمهم کان فی الحقیقة رجوعا إلی السَّلاطِیْنِ. فإنّ القضاة کانوا من أذنابهم ومنصوبین من قبلهم، وقوّتهم کانت بقوّتهم. ألا تری أنّ من رجع إلی أحد العمّال فی دولة واعتنی به بما أنّه عامل هذه الدولة یَصْدُقُ علیه أنّه اعتنی بهذه الدولة وأمضی مشروعیتها. ومورد نزول الآیة أیضا کان هو القضاء، کما مرّ.

فَإنْ قُلْتَ: استعمال حرف الاستعلاء فی قوله: «علیکم» یناسب الولایة المطلقة، لما مرّ من أنّ المناسب للقضاء أن یقال: «بینکم».

قلت: لیس استعمال حرف الاستعلاء فی القضاء غلطا، إذ فی القضاء أیضا یوجد نحو استیلاء واستعلاء. فإنّ القاضی المنصوب من قبل السلطان له علوّ وقدرة بقدر من نصبه. والقاضی المنصوب من قبل الإمام الصادق علیه السلام أیضا له نحو قدرة معنویة لوجوب العمل بحکمه والتسلیم له، فیصحّ استعمال حرف الاستعلاء علی أیّ تقدیر.

الخامس: إنّ الظاهر کون المخاطب فی «منکم» و «علیکم» خصوص الشیعة الإمامیّة الاثنی عشریة، کما یشهد بذلک کلمة: «أصحابنا» فی کلام السائل. والشیعة فی

عصر الإمام الصادق علیه السلام کانوا قلیلین جدّا مسهّلکین بین سائر المسلمین، فلم یمکن تحقّق دولة وحکومة لهم. فیعلم بذلک أنّ الإمام علیه السلام لم یکن بصدد نصب الوالی، بل کان غرضه رفع مشکلة الشیعة فی منازعاتهم فأرجعهم إلی تعیین قاضی التحکیم بأن یختاروا رجلاً منهم ویرضوا به حکَما. ولو کان بصدد نصب الوالی لکان المناسب نصبه علی جمیع الأمّة لا علی الشیعة فقط.

اللّهم إلاّ أن یقال، کما مرّ فی کلام الأستاد - مدظله - : إنّ نظر الإمام الصادق علیه السلام لم یکن مقصورا علی عصره فقط، بل کان بصدد طرح حکومة عادلة إلاهیة وبیان شرائطها ومواصفاتها حتّی لا یتحیّر المفکّرون لو وفّقهم اللّه - تعالی - لإقامة دولة حقّة ولوفی الأعصار الآتیة. ویکفی فی صحة هذا الجعل بنحو یشمل عصره أیضا ترتّب بعض الآثار فی عصره، أعنی الأمور المرتبطة بالقضاة من القضاء والأمور الحسبیّة ونحوها، فتدبّر.

السادس: سلّمنا أنّ الحکم بمشتقّاته بحسب الوضع والمفهوم یعمّ القضاء وغیره

ص: 269

مما یشتمل علی البتّ والفصل ولکن لمّا کانت المقبولة سؤالاً وجوابا متعرضة لمسألة المنازعة فی الأموال والقضاء فیها، فالقضاء هو القدر المتیقن من الکلام، ولا دلیل علی إرادة الأعمّ.

والتمسک بالإطلاق إنّما یجری فی الموضوعات لافی المحمولات.

فلو قیل: «النار حارة» بلا ذکر قید نحکم بکون الموضوع طبیعة النار بإطلاقها فتشمل جمیع الأفراد، ولا نحکم بکون المحمول جمیع مراتب الحرارة وأفرادها. ولو قال المولی: «أکرم عالما» نجری فیه مقدّمات الحکمة فنقول: کان المولی فی مقام البیان وجعل الموضوع لحکمه طبیعة العالم فیثبت الإطلاق، ونتیجته کفایة أیّ عالم کان.

وأما إذا قال: «زید عالم» فلا یجری الإطلاق فی المحمول، ولا نحکم بکونه عالما بکل ما یحتمل کونه عالما به.

فکذلک إذا قال: «الفقیه حاکم أو خلیفتی أو حجتی أو وارثی أو أمینی أو نحو ذلک» لا یثبت به إلاّ الحاکمیة أو الخلافة أو نحوهما بالإجمال بلا عموم وشمول.

نعم، لو لم یوجد فی البین قدر متیقّن وکان المولی فی مقام بیان الوظیفة والتکلیف حکمنا بالإطلاق وإلاّ صار الجعل لغوا. وأمّا مع وجود القدر المتیقّن فلا لغویّة ولا إطلاق. هذا.

ولکن یمکن أن یقال: إنّا لا نری فرقا بین الموضوعات وبین المحمولات. إذ لو کان

المولی فی مقام الإهمال والإجمال فلا إطلاق أصلاً. وإن کان فی مقام البیان فإن لم یوجد قدر متیقّن ثبت الإطلاق فی کلیهما. وإن وجد القدر المتیقّن فی البین فإن قلنا بأنّ وجوده مضرّ بالإطلاق لافی الموضوع ولافی المحمول، وإن لم یکن مضرّا به ثبت الإطلاق فی کلیهما. فافرق بینهما بلا وجه.

والحقّ أنّه لو کانت هنا قرینة لفظیة متّصلة أو لبّیّة بحیث کانت کاللفظیّة المتّصلة منعت هذه من انعقاد الإطلاق قهرا.

وأمّا صرف وجود القدر المتیقّن بعد إعمال الدقّة فلا یصلح مانعا من انعقاد الإطلاق ولا حجّة لرفع الید منه من غیر فرق بین الموضوع وغیره.

ص: 270

فلو قال المولی: «جئنی برجل راکبا» وکان فی مقام البیان من کلّ جهة فکما تجری مقدّمات الحکمة فی الرجل ویثبت فیه الإطلاق ونتیجته التخییر والعموم البدلی بالنسبة إلی کلّ رجل فکذلک تجری من المجیء به وفی الرکوب أیضا، فلا یتعیّن نحو خاصّ من المجیء أو الرکوب بل یتخیّر المکلف بین أنواع کلّ منهما.

ولو قال: «أکرم عالما» فکما تجری مقدّمات الحکمة فی الموضوع ونتیجته کفایة أیّ عالم کان فکذلک تجری فی متعلّق الحکم أعنی الإکرام ونتیجته کفایة أی نوع من الإکرام.

وفی مقام الإنشاء قد یجعل المتعلق للحکم محمولاً فی القضیة فیقال مثلاً: «زید مکرم» ویراد وجوب إکرامه فلو کان فی مقام البیان یثبت الإطلاق فی المحمول بلا إشکال.

نعم، الإطلاق ربّما ینتج العموم الاستغراقی وربّما ینتج العموم البدلی، وهذا بحسب اختلاف الموارد، کما لا یخفی.

هذا مضافا إلی أنّ قوله: «جعلته علیکم حاکما» یصیر مفاده أنّ «حاکمیّة الفقیه مجعولة» فتصیر الحاکمیّة موضوعا للجعل، اللّهم إلاّ أن یقال هذا خلط بین الموضوع المصطلح فی علم الأصول والموضوع المصطلح فی علم النحو، والحاکمیّة بحسب المفاد محمول علی الفقیه وإن جعلت فی القضیة موضوعا.

وقد تلخّص ممّا ذکرناه هنا أنّ الحکم بالإطلاق مع تحقّق مقدّماته لا یفرق فیه بین الموضوع وبین غیره، وأنّ کون القضاء هو القدر المتیقّن من لفظ الحاکم فی المقبولة لا یوجب حمله علی خصوص القضاء، وکون المورد خصوص المنازعة أیضا لا یوجب

الاختصاص فإنّ المورد لا یخصّص بعد کون الجواب عامّا. فالإشکال السادس مدفوع وباطل من أساسه.

السابع: أنّ لفظ الحَکَم فی المقبولة ظاهر فی قاضی التحکیم، أی المحکَم من قبل المتخاصمین، فیکون المراد بالحاکم أیضا ذلک لِتَتَلاءَمَ الجملتان.

وعلی هذا فلیس فی المقبولة نصب لا للوالی ولا للقاضی. ولیس لفظ: «الجعل»

ص: 271

هنا بمعنی الإنشاء والإیجاد، بل بمعنی القول والتعریف. فیصیر محصَل کلام الإمام علیه السلام أنّی أقول لکم وأرشدکم أنّ الرجل الکذائی صالح لأن تختاروه وترضوا به حکما بینکم.

قال فی لسان العرب فی معانی الجعل:

«جعل الطین خزفا والقبیح حسنا: صیّره إیّاه. وجعل البصرة بغداد: ظنها إیاه... وقوله: «وَجَعَلُوا الْمَلائِکَةَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثا»(1)، قال الزجّاج: الجعل هیهنا بمعنی القول والحکم علی الشیء. کما تقول: قد جعلت زیدا أعلم النّاس، أی قد وصفته بذلک وحکمت به»(2).

أقول: یظهر من الأخبار المستفیضة أنّ القضاء لا یجوز ولا ینفذ إلاّ من النّبیّ أو الوصیّ، ففی خبر إسحاق بن عمار، عن أبیعبداللّه علیه السلام قال أمیرالمؤمنین علیه السلام لِشُرَیْحٍ: «یا شُرَیْحُ، قد جلست مجلسا لا یجلسه (ما جلسه خ. ل) إلاّ نبیّ أو وصیّ نبیّ أو شقیّ»(3). وفی خبر سلیمان بن خالد عنه علیه السلام ، قال: «اتقوا الحکومة، فإن الحکومة إنّما هی للإمام العالم بالقضاء، العادل فی المسلمین لنبیّ (کتبیّ خ. ل) أو وصیّ نبیّ»(4).

وعلی هذا فلأحد أن یقول إنّ الإمام الصادق علیه السلام قد صار بصدد نصب الفقیه قاضیا لیصحّ وینفذ قضاؤه، وفی الحقیقة یصیر وصیّا للوصیّ، وأوصی للمتخاصمین من الشیعة أن یختاروه ویرضوا به حکما فی قبال قضاة الجور. وقد مرّ أن اعتبار الرضا لعلّه یکون من جهة أنّه لیس لقضاء هذا القاضی لعدم سلطته ضمانة إجرائیة سوی رضا الطرفین وإیمانهما، وبهذه الملاحظة أیضا عبّر عنه بالحکم. فیصیر مفاد کلام الإمام علیه السلام أنّه یحرم علیکم الرجوع إلی قضاة الجور، ویجب علیکم تحکیم رجل منکم وجد الصفات

المذکورة، ویجب الرضا بقضائه لأنّی جعلته قاضیا أو والیا فصار قضاؤه مشروعا نافذا بذلک.

ص: 272


1- 1 . سورة الزخرف /19.
2- 2 . لسان العرب 11/111.
3- 3 . وسائل الشیعة 18/7، ح2، الباب 3 من أبواب صفات القاضی، (27/17) موثقة.
4- 4 . وسائل الشیعة 18/7، ح3، الباب 3 من أبواب صفات القاضی، (27/17) صحیحة.

وبالجملة، الظاهر من الجملة تحقّق النصب، کما هو الظاهر من مشهورة أبیخدیجة أیضا. وجعل الجعل فی الحدیث بمعنی القول خلاف الظاهر جدّا. وما ذکرناه فی الفصل السابق من الخدشة ثبوتا فی نصب الوالی بنحو العموم لا یجری فی نصب القاضی، فإنّ عمل القاضی محدود فیمکن تعدد القضاة بتعدّد الفقهاء، وکلّ منهم یعمل بتکلیفه فی ظرف خاصّ ومنطقة محدودة، وهذا بخلاف الولایة بالمفهوم الوسیع الشامل لجمیع أعمال الولاة.

والحاصل أنّه لا یترتب کثیر إشکال علی جعل الإمام الصادق علیه السلام جمیع الفقهاء فی عصره والأعصار المتأخرة قضاة ینفذ قضاؤهم.

وأما جعل الجمیع ولاة نافذی الکلمة فی جمیع ما یرجع إلی الولاة من الأمور فهو الذی یوجب الاختلاف والهَرْج وَالْمَرْج(1)، کما مرّ.

وقد طال الکلام فی البحث فی المقبولة، وتحصّل لک إمکان الخدشة فی الاستدلال بها لنصب الفقهاء ولاة بالفعل»(2).

ومنهم: قال المحقّق الأردکانی ردّا علی النائینی: «وفیه: انّ الحاکم فی لسان العرب والروایات یطلق علی القاضی، وقد ورد فی تفسیر آیة «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما فَابْعَثُوا حَکَما مِنْ أَهْلِهِ وَحَکَماً مِنْ أَهْلِها»(3) أنّ الحَکَم هو القاضی وفی تفسیر قوله «وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ»(4) الحکام القضاة علی ما فی المکاتبة(5)، فالمراد من الحاکم فی المقبولة من له وظیفة الحکم بین النّاس فیختص بالقضاء وفصل الخصومه»(6).

ص: 273


1- 1 . بسکون الرّاء فیهما لا بِفَتْحِها کما شاع خَطَأً.
2- 2 . دراسات فی ولایة الفقیه 1/(455-445).
3- 3 . سورة النساء /35.
4- 4 . سورة البقرة /188.
5- 5 . وسائل الشیعة 27/15، ح9 موثقة ابن فضال.
6- 6 . غنیة الطالب 3/190.

ومنهم: آیة اللّه السیّد محمّد الروحانی رحمه الله قال فی تقریب الشیخ الأعظم ونقده: «وقد قرب الشیخ قدس سره دلالتها علی المدعی بأحد الوجهین:

الأوّل: أن الظاهر من جعله حاکما وقاضیا إسناد ما کان یسند للقضاة فی ذلک الحین والوقت له، وقد کان القاضی فی ذلک الوقت یتولی الامور العامة ویعهد إلیه بها. فیثبت للفقیه ذلک لأنّ الظاهر أن نصبه قاضیا علی غرار قضاة ذلک العصر.

الثانی: أن الظاهر عرفا من نصب الإمام علیه السلام الحاکم إسناد الامور العامة له وجعل السلطنة له دون غیره، فتکون الحکومة والسلطنة للفقیه بمقتضی الحدیث.

والانصاف أن یقال: أنّ الحاکم یطلق ویراد منه:

تارة: من له السلطنة والنفوذ والولایة، بحیث یکون له نصب القاضی ونحوه.

واخری: یراد منه القاضی ومن له الحکومة فی الخصومات وفصلها.

ولا یخفی أنّ المراد من لفظ الحاکم فی الحدیث لیس هو المعنی الأوّل، إذ هو لا یتناسب مع عصور الأئمة وعدم ولایتهم ونفوذ جعلهم الولی علی النّاس، مع أنه علیه السلام فی مقام جعل الفقیه حاکما لترتب أثر عملی علیه ولیس هو فی مقام بیان رتبة الفقیه لا أکثر، فیستبعد ارادة الوالی والسلطان من لفظ الحاکم لعدم ترتب أی أثر عملی علی ذلک، کما لا یخفی.

مضافا إلی ظهور ترتب الحکم المذکور علی کل من یجمع الشرائط المذکورة وهو لا یتناسب مع ارادة السلطان، إذ مقتضی السلطنة والولایة التفرد بها ووحدانیة القائم بشؤونها لا تعدده.

وعلیه، فیتعین کون المراد المعنی الثانی وهو القاضی. ومعه لا تکون الروایة دالة علی المدعی.

فإنّ ما ذکر من ظهور جعل القاضی ترتیب أحکام القاضی الثابتة له عرفا، انما یمکن أن یدعی لو کان الإمام علیه السلام قد عین شخصا معینا للقضاء وأرسله إلی بلد خاص ولم یبین وظیفته، فإنّه یمکن أن یقال بأنّ وظیفته ما هو وظیفة القاضی عرفا.

وأما فیما نحن فیه، فلا یتم ما ذکر، إذ الظاهر من مورد الروایة وانه للمتخاصمین

ص: 274

المختلفین فی اختیار الحاکم وجعل الإمام علیه السلام الحاکم هو الفقیه، کون الفقیه حاکما ونافذ القول فی مقام فصل الخصومات دون غیرها من الآثار، إذ لم تکن جهة القضاء وآثارها ملحوظة بنحو الکلیة والموضوعیة. وانما الملحوظ جعل الفقیه هو الخاصم للنزاع.

وبعبارة اخری: جعل الفقیه حاکما بلحاظ قضیة شخصیة، ولیس هم حکم ابتدائی لشخص معین أو لکل فقیه کی یدعی ما ذکر من ظهور ترتب جمیع آثار القاضی عرفا

علیه ومنها الولایة علی الامور العامة.

وبالجملة: فالروایة غیر دالة علی المدعی، مضافا إلی ضعف سندها بعمر بن حنظلة واعتماد المشهور علیها غیر جابر، فتدبر»(1).

ومنهم: شیخنا الاستاذ قدس سره قال: «فإنّه لا یستفاد منه إلاّ ثبوت منصب القضاء والحکم للفقیه»(2).

ومنهم: الاستاذ المحقّق - مدظله - قال فی شأن المقبولة: «فإنّ دعوی کونها فی مقام جعل الولایة والحکومة مطلقا ممنوعة، بل هی واردة فی جعل الحکومة فی المنازعات الحاصلة فی قضایا الدین والمیراث، فغایة ما تفیدها المقبولة الولایة فی إصدار الحکم لیس إلاّ، والشاهد علی ذلک وحدة اللسان بین هذه المقبولة والروایة المشهورة التی تقول: «فإنّی قد جعلته علیکم قاضیا»»(3).

ومنهم: آیة اللّه السیّد یوسف المدنی رحمه الله قال: «فالظاهر من لفظ الحاکم فیها من له وظیفة الحکم، إمّا بمعنی الحکم بین النّاس فیختص بباب القضاء أو مطلقا فیشمل الفتوی أیضا کما یناسبه علی ما تعرض له بعض الأعلام العدول عن التعبیر بالحکم إلی التعبیر بالحاکم حیث قال علیه السلام «فلیرضوا به حکما فأنّی قد جعلته علیکم حاکما» إلی ما یأتی مثله فی المشهورة الآتیة ولیس له ظهور بمعنی السلطان أو الأمیر کی یکون له ولایة التصرف فی الاُمور العامة فضلاً عن أن یکون بمعنی من له الولایة المطلقة بالتصرف فی

ص: 275


1- 1 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /(300-298).
2- 2 . إرشاد الطالب 4/212.
3- 3 . العقد النضید 4/286.

النفوس والأموال.

هذا مع أنّها وردت فی الشبهات الحکمیة دون الموضوعیّة لأنّ کلا منهما قد اعتمد فی حکمه علی روایة من روایاتهم کما هو المصرح به فی متنها والحال أنّ البحث فی المقام فی الثانی دون الأوّل فالروایة علی تقدیر تمامیتها من جمیع الجهات دلالةً وسندا أجنبیة عن محل الکلام.

والحاصل إنّ الروایة لا تدلّ إلاّ علی ثبوت الولایة لفقهاء الشیعة فی المواضع الثلاثة القضاء والفتوی والحکومة فی الجملة فلیس لها الدلالة علی الولایة بالمعنی المبحوث عنه فی المقام»(1).

ومنهم: آیة اللّه السیّد علی السیستانی - مدظله - قال: «ونحن نقول: لو کان الطاغوت کما قیل عبارة عن السلاطین والاُمراء، یمکن أن یکون لما ذهبوا إلیه من أن المراد من الحاکم هو السلطنة وجه، ولکن الطاغوت لیس عبارة عن السلاطین والأُمراء، فإنّ العرب فی الجاهلیة لم یکن لهم نظام قضائی، وکانوا یتحاکمون إلی شیخ العشیرة والقبیلة إذا حدث نزاع فی العشیرة، وکانوا یتحاکمون إلی الکهنة والأصنام بنحو الإستقسام بالأزلام وأمثال ذلک إذا کان النزاع بین عشیرة وعشیرة، أضف إلی ذلک أنّ الآیة المبارکة مدنیّة باتفاق المفسرین، وسبب نزول الآیة المبارکة هو أنّ بعض المنافقین أرادوا رفع النزاع مع بعض الیهود علی نحو التحاکم فی الجاهلیة فنزلت الآیة الشریفة، ومن الواضح أنّ الکاهن وغیره من الذین کان یُرجع إلیهم فی المنازعات ولم تکن لهم القوة التنفیذیة، وفی مفردات الراغب: «والطاغوت عبارة عن کل مُتَعد، وکل معبود من دون اللّه - الی أن یقول - «یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ» فعبارةٌ عن کل متعد، ولِما تقدم سُمّی الساحر والکاهن والمارد من الجن والصارف عن طریق الخیر طاغوتا»(2). وقال الطبرسی: «إنّ المراد بالطاغوت فی الآیة کعب بن أشرف، وقیل غیره - الی أنْ

ص: 276


1- 4 . الإرشاد إلی ولایة الفقیه 50 و 51.
2- 1 . مفردات الراغب، مادة (طغی).

یقول - : وروی أصحابنا عن السیّدین الباقر والصادق علیهماالسلام أنّ المعنی به کل من یتحاکم إلیه ممن یحکم بغیر الحق»(1).

فلیس الطاغوت عبارة عن السلاطین والاُمراء کما قیل؛ إذ لم یکن فی زمن النبی صلی الله علیه و آله فی جزیرة العرب سلطان وأمیر حتّی یقال بأنه القدر المتیقن من الطاغوت، بل القدر المتیقن منه من یحکم بالجور أو ما ینسب إلیه الحکم کالأصنام، مضافا إلی أنّه لم یکن للطاغوت قوة تنفیذیة.

وذکر البعض تمهیدا لمعرفة الروایة أنّ السلطان غیر القضاة، والتحاکم فی تلک الأزمنة کان علی نحوین تحاکم إلی السلطان وتحاکم إلی القضاة، والتحاکم إلی السلطان کان فی المظالم الواضحة وفی موارد وضوح الحق، والتحاکم إلی القضاة کان فی الأمور المختلف فیها، واستنتج من ذلک أنّ وظیفة الولاة ووظیفة القضاة مجعولة للفقیه، حیث قال: کما لا شبهة أیضا فی أن مطلق المنازعات داخلة فیه - سواء کانت فی الاختلاف فی

ثبوت شیء ولا ثبوته، أو التنازع الحاصل فی سلب حق معلوم من شخص أو أشخاص، أو التنازع الحاصل بین طائفتین المنجز إلی قتل وغیره - الذی کان المرجع بحسب النوع فیها هو الوالی لا القاضی.(2)

وهذا الذی ذکره أیضا غیر تام، لأنّ السلطان کان یُطلق علی الوالی ورئیس الشرطة والمحافظ ونفس الخلیفة، وذکر السلطان فی قبال القاضی فی الروایة لأحد أمرین، إمّا من جهة اتّحاد الوالی والقاضی فی بعض البلدان، کما فی کتاب نظام الحکم، فیکون الوالی مجمع العنوانین فیصح التعبیر بأنّه یتحاکم إلی السلطان أو إلی القضاة، وإما من جهة دیوان المظالم الذی شکّله بعض الاُمویّین وکان هو المرجع فی المنازعات التی بین الاُمراء أو بین بعض الرعایا مع الاُمراء أو القضاة، وکان یتصدی لهذا القضاء نفس الخلیفة، وفی قباله القضاء بین الرعایا إذا حدثت بینهم منازعة.

ص: 277


1- 2 . مجمع البیان، تفسیر الآیة 60 من سورة النساء.
2- 1 . کتاب البیع للسیّد الخمینی قدس سره 2/639.

إذا فإنّ ما ذُکر من أنّ السلطان فی قبال القضاة: «فیتحاکمان إلی السلطان أو إلی القضاة» دلیل علی أن ما للسلطان وللقضاة للفقیه أیضا، وأنّ التحاکم إلی السلطان کان فی مظالم الواضحة، والتحاکم إلی القضاة کان فی صورة عدم وضوح الحق.

ویمکن الجواب عنه بما یلی:

إنّ المستدِل لم یُقِمْ شاهدا علی ما یدّعیه من التحاکم إلی السلطان فیما إذا کان الحقّ واضحا، والتحاکم إلی القضاة فیما إذا لم یکن الحق واضحا، بل یمکن القول بأنّه لا شاهد له من التاریخ والروایات، بل غیر موافق مع الشواهد، إذ ذُکر فی باب القضاء بأنّ المدعی علیه قد یُقرّ وقد یُنکر، ففی صورة الإقرار یکون الحق واضحا ولکن مع ذلک فهو داخلٌ فی التحاکم، وکذا بُحث فی القضاء بأنّه هل یعمل القاضی بعلمه أو لا؟ فعلی القول بجواز عمل القاضی بعلمه یکون الحق واضحا، ومع ذلک فهو داخل فی القضاء، نعم قد شُکّل دیوان المظالم فی عهد عبدالملک بن مروان وکانَتْ رئاسة الدیوان مع الخلیفة، ثمّ من بعده عمر بن عبدالعزیز، ثمّ فی زمن العباسیین کان دیوان المظالم دائرا، وقد ذَکر جمعٌ شرحَ هذا الدیوان، منهم: جرجی زیدان، وقبله [أبوبکرٍ(1)] ابن العربی فی کتابه آیات الأحکام، وملخّص ما یقوله ابن العربی: هو أنّ التنازع إمّا یکون بین الضعیفین فیقوّی القاضی أحدهما علی الآخر، وإمّا إذا کان التنازع بین قوی وضعیف أو بین قویین

- والمراد من القوة أن یکون أحد المتنازعین أو کلیهما ذا منصب حکومی أو من أقرباء السلطان - فبما أنّ سلطة القاضی کانت بین الرعایا ولم تکن لها سعة، لم یکن القاضی متمکنا من فصل الخصومة إذا کان النزاع بین قویّین أو قویّ وضعیف، فلذا شُکّل دیوان المظالم ورئاسة هذا الدیوان کانت للخلیفة، وفی صدر الإسلام کانت رئاسة جمیع الأمور للنبی صلی الله علیه و آله ، وهکذا بعض خلفائه، ثمّ بعد ذلک لکثرة المشاغل وسعة دائرة البلاد الاسلامیة، حُوّل القضاء إلی شخص والخلافة إلی شخص آخر وهکذا، وهذا هو الحال فی سائر البلدان، فقد یکون البلد یقتضی تعیین شخصین: أحدهما للولایة، والآخر للقضاء، وقد لا

ص: 278


1- 2 . أبوبکر هذا هو غیر محییالدین ابن عربی الصوفی الشهیر صاحب «الفتوحات المکیّة».

یکون البلد مقتضیا لتعیین أکثر من واحد، فیعیّن شخصٌ واحد للقضاء والولایة، والتردید فی الروایة ناظر إلی هذه الحیثیة، والمراد بالسلطان فی الروایة، من له السلطة لا نفس الخلیفة، کما فی روایة «أیّما مؤمن قدّم مؤمنا فی خصومة إلی قاض، أو سلطان جائر فقضی علیه بغیر حکم اللّه فقد شرکه فی الإثمّ»(1) والمراد بالسلطان هو الوالی، والشاهد علی ذلک صحیحة عبداللّه بن سنان «عن أبیعبداللّه علیه السلام : إذا تقدّمْتَ مع خصم إلی وال، أو إلی قاض فکن عن یمینه»(2).

والخلاصة فإنّ الوالی قد یکون قاضیا فیما إذا لم یکن هناک قاضٍ مُعَیَّنٌ أو لقلة الأشغال. وکیفما کان، لم یکن دیوان المظالم من جهة المظالم الواضحة کما قیل، وعلی فرض التسلیم لا یکون مرجع قوله علیه السلام «فإنّی قد جعلته حاکما»(3) إلاّ إلی فصل الخصومة، وأمّا إدارة شؤون المملکة بالتصرف فی الأمور العامة، فهو أمر لا یُستفاد من الروایة، إذ لیس معنی جعل البدیل فی حیثیة فصل الخصومة، کونه بدیلاً عنه فی سائر الشؤون أیضا.

ثمّ قال المستدِل: «فاتضح من جمیع ذلک أنّه یُستفاد من قوله علیه السلام «فإنّی قد جعلته حاکما» أنّه علیه السلام قد جعل الفقیه حاکما فیما هو من شؤون القضاء وما هو من شؤون الولایة، فالفقیه ولی الأمر فی البابین، وحاکم فی القسمین، سیّما مع عدوله علیه السلام عن قوله: «قاضیا» إلی قوله: «حاکما»، فإنّ الأوامر أحکام وأوامر اللّه ونواهیه أحکام اللّه تعالی، بل لا یبعد أن یکون القضاء أعمّ من القضاء...»(4)، فتری أنّه یدّعی بأنّ عدول الإمام من قاضٍ إلی حاکم

شاهد علی نصب الفقیه والیا وقاضیا، والحال أنّ الحاکم لم یأت بمعنی الوالی، ونحن تتبّعنا کثیرا فی ذلک ولم نر فی کلمات المتقدّمین أن یذکر الحاکم بمعنی الوالی

، نعم ذُکر ذلک فی ألسنة متأخری المتأخّرین، والحاکم فی اللغة هو القاضی وقد یطلق علی من ینفّذ حکم القاضی، وکما قلنا فإنّ الحاکم لم یُستعمل فی کتب اللغة وغیرها بمعنی الوالی

ص: 279


1- 1 . الکافی 7/411.
2- 2 . وسائل الشیعة 27/218.
3- 3 . تفدم تخریجها.
4- 4 . کتاب البیع للسیّد الخمینی قدس سره 2/479.

والسلطان، وکانوا یعبّرون عن الوالی بالعامل، فلذا نری فی نهج البلاغة وغیره من الکتب، یقال: «ومن کتاب له علیه السلام إلی عامله أو إلی عمّاله»(1)، أو یعبّر بالوالی، ولم یُعبّر فی الکتب عن الوالی بالحاکم، نعم فی کتاب المنجد وفی دائرة المعارف الإسلامیة ذُکر بهذا المعنی: «حکم یحکم حکما وحکومة فی البلاد: تولّی إدارة شؤونها فهو حاکم»، وهذا المعنی معنیً مستحدث ومن مصطلحات المتأخرین(2)، ولعل هذا مأخوذ من العثمانیین أو الإیرانیین حیث کانوا یطلقون الحکومة علی مَن یتولّی إدارة شؤون البلاد، فیُقال: الحکومة العثمانیة، ونحن کما أشرنا، تتبعنا کثیرا فی الآیات والروایات وکتب العامة والخاصة لنری أنّ الحاکم هل استعمل بمعنی الوالی والسلطان أو لا؟ ولم نر فی کلمات المتقدمین استعمال هذا اللفظ بهذا المعنی، فلیس فی الروایة عدول حتّی یقال: لا سیّما مع عدوله علیه السلام . مضافا إلی صدر الروایة وذیلها لا تدل إلاّ علی جعله قاضیا، حیث إنّ موضوع السؤال عن المنازعة فی دَیْن أو میراث، وبعد ما نهی الإمام علیه السلام من مراجعة السلطان أو القضاة، یسأل الراوی: کییف یصنعان، فأمر الإمام علیه السلام أن ینظرا أو انظر إلی من روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکما، ولا ریب فی أنّ الحکم بمعنی القاضی: «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما»»(3).

ومنهم: آیة اللّه الشیخ محمّدتقی المجلسی الإصفهانی - مدظله - قال: «... ولکن الإنصاف أنّ المقبولة لیست ظاهرة فی المُدعی لإطلاق الحاکم علی القاضی فی غیر واحد من الأخبار کما یظهر عن الوسائل فی کتاب القضاء وکفی فی ذلک تفسیر الآیة المبارکة «وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ»(4) بما فی المکاتبة،

ص: 280


1- 1 . انظر: نهج البلاغة 3/18، کتاب 18.
2- 2 . ومن الواضح مثل کتاب «المنجد» وکتاب «المعجم الوسیط» من المعجمات المتأخرّة لا یُحْتَجُّ بِها علی لُغَة العرب الأصیل. [المؤلِّف]
3- 3 . الاجتهاد والتقلید والاحتیاط /(110-105)، تقریر بحوث آیة اللّه السیستانی - دام ظمله - بقلم العلاّمة الحجة السیّد محمّدعلی الربانی - دامت برکاته - .
4- 4 . سورة البقرة /188.

فإنّه علیه السلام کتب بخطه «الحکام القضاة»(1)، بل قیل أنّ معنی لفظ الحاکم هو القاضی ومجرد کون المتعارف فی ذلک الزمان ارجاع الاُمور العامة إلی نظر الحاکم لا یقتضی ظهور لفظ الحاکم فی ذلک، ولا قرینة علی أنّ المراد جعله حاکما یرجع إلیه فی تلک الاُمور کحکام ذلک العصر، فالمتیقن حینئذ هو الرجوع إلی الفقیه فی الفتوی وفصل الخصومة ولو بتوابعه، ومن جملتها التصدی للاُمور الحسبیة.

اللهم إلاّ أن یقال بقیام قوله علیه السلام : «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما» فی مقام العلة لما قبله وحیث أضاف جعل الحکومة له إلی نفسه الشریف یظهر منه أنّه جعل له ما کان لنفسه الشریف من الحکومة فیثبت به ذلک له مطلقا إلاّ ما خرج بالدلیل فلاحظ وتدبر»(2).

ومنهم: آیة اللّه السیّد محمّدسعید الحکیم - مدظله - قال: «لکنّه یشکل بأنّ الحکام المنصوبین من قبل النبی صلی الله علیه و آله ومن قام مقامه الذین یرجع إلیهم فی الأمور العامة لیس إلاّ ولاة الأقطار والأمصار، ولا قرینة علی حمل الحاکم فی المقبولة علیهم بعد أن کان من موارد استعماله الشایعة هو القاضی فی الخصومة التی هی مورد الحدیث، حتّی أنه قد یظهر من بعض اللغوین اختصاصه به، ولو لأنّه المنصرف منه.

ولا سیّما بعد عدم شیوع التعبیر فی تلک العصور عن الولاة فی الأقطار والبلدان بالحکام، بل بالولاة والعمال. وعدم تعارف تولیهم للقضاء بین النّاس وفصل خصوماتهم، لأن المهم فیهم الکفاءة الإداریة، دون الفقه والقضاء، بل الشایع نصبهم أو نصب السلطان والخلیفة قضاة یختصون بهذه المهمة.

مضافا إلی معتبر أبیخدیجة: «بعثنی أبوعبداللّه علیه السلام إلی أصحابنا، وقال: قل لهم: إیاکم إذا وقعت بینکم خصومة أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء أن تتحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بینکم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنی قد جعلته علیکم قاضیا. وإیاکم أن یخاصم بعضکم بعضا إلی السلطان الجائر»(3)، ونحوه معتبره

ص: 281


1- 1 . وسائل الشیعة 27/15، ح9 موثقة ابن فضال.
2- 2 . ولایة الاولیاء /84 و 85.
3- 3 . وسائل الشیعة 27/139، ح6، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.

الآخر(1).

فإن جعل القاضی وإن لم ینافِ جعل الحاکم بمعنی الوالی، إلاّ أن التعلیل بهما معا لوجوب الترافع لا یخلو عن حزازة، لأن العلة أحدهما. بل من القریب جدا تأخر حدیث أبیخدیجة عن حدیث عمر بن حنظلة، ومن البعید جدا مع سبق سعة الجعل الاقتصار علی بیان الجعل الضیق.

ومن هنا یقرب کون معتبری أبیخدیجة قرینة علی أن المراد بالحاکم فی حدیث ابن حنظلة هو القاضی دون الوالی لو فرض تردد الحاکم فیه بین المعنیین.

وبذلک یظهر أنه لا مجال لحمل الحاکم فی الحدیث علی الوالی بقرینة العدول عن التعبیر بالحکَم للتعبیر بالحاکم. إذ هو فرع ثبوت المعنی المذکور للحاکم، وحسن إرادته فی المقام، وعدم القرینة الصارفة عنه، والجمیع لا یخلو عن إشکال أو منع، کما یظهر مما سبق.

علی أن العدول قد یکون لِنکنة بیانیة، وتجنبا للتکرار. أو لأجل التعدیة ب- «علی» الظاهرة فی نحو من القهر والسیطرة للحاکم فی مقام القضاء وفصل الخصومة وبنحو یستتبع وجوب القبول والطاعة.

بل من القریب الاختلاف بینهما بنحو من الاعتبار، فإطلاق الحکم علی القاضی بلحاظ الرجوع إلیه للنظر فی الخصومة والحکم فیها. وإطلاق الحاکم علیه بلحاظ أن له الحکم والفصل فیها، وإن لم یتیسر لنا العثور فی اللغة علی أصل للفرق المذکور.

ومثله دعوی: أن حمل الحاکم علی القاضی فی المقبولة لا یناسب سوق الجملة لتعلیل الأمر بتحکیمه، لظهوره فی التعلیل بالکبری التی هی الأعم من الحکم المعلل، المناسب لکون الحاکم أوسع سلطنة من الحکم.

لاندفاعها بأنّه یکفی فی کبرویة التعلیل کونه مشیرا إلی کبری نفوذ جعلهم علیهم السلام ، فکأنه قال: فلیرضوا به حکما، فإنی قد جعلته علیکم حاکما، وکل ما جعلته یجب العمل

ص: 282


1- 4 . وسائل الشیعة 27/13، ح5، الباب 1 من أبواب صفات القاضی.

علیه، نظیر قول القائل: إذا أردت التصرف فی أموالی فراجع ولدی الأکبر، لأنی قد وکلته.

وفائدة ذلک إما التنبیه علی أن منصب القضاء مختص بهم علیهم السلام بالأصل وتابع لهم، وأن ثبوته للفقیه بتوسط جعله من قبلهم له، ولیس ثابتا له بالأصل، کالإفتاء، أو للتنبیه علی أن إرجاعه علیه السلام فی القضاء للفقیه لا ینافی ما تضمنته النصوص(1) من اختصاص

المنصب بهم علیهم السلام ، لأن المنصوب من قبلهم علیهم السلام بمنزلتهم.

هذا ویظهر من بعض الأعاظم قدس سره أن المراد بالحاکم فی المقبولة لیس هو القاضی، ولا الولاة المنصوبین من قبل السلطان، لیجری ما سبق، بل السلطان نفسه، لأن الحاکم هو الذی یحکم بین النّاس بالسیف والسوط، ولیس ذلک شأن القاضی، ولأن السائل قد جعل القاضی مقابلاً للسلطان، فقال: «فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة». وعلی ذلک یکون المجعول هو السلطنة العامة الثابتة للنبی صلی الله علیه و آله والإمام، وما یناسبها من الولایة العامة علی القضاء وغیره من شؤون السلطنة والحکم.

وأما ما ذکره سیّدنا المصنف قدس سره [السیّد محسن الحکیم] من أن هذا المعنی یأباه قوله علیه السلام : «فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه...» لظهوره فی الحکم المتعلق بفعل المکلف. ففیه: أن السلطان بالمعنی المذکور حیث کان له القضاء ففرض أدائه لوظیفته فیه لا ینافی جعل السلطنة بنحو العموم له.

فالعمدة فی دفع ما ذکره بعض الأعاظم قدس سره أنه بعد إطلاق الحاکم علی القاضی لغة - کما سبق - فاللازم الاقتصار علیه، ولو لأنه المتیقن من المجعول لیناسب المورد. ولا سیّما بلحاظ معتبری أبیخدیجة المتقدمین، وعدم شیوع إطلاق الحاکم بالمعنی المذکور، بل یعبر عنه بالخلیفة والوالی والسلطان، کما عبر عنه فی السؤال.

بل لم یتضح صحة إطلاقه عرفا علی من له السلطنة والحکم، وإنما یطلق علی من له الحکم فعلاً، لأنه یملک السیف والسوط، ومن الظاهر عدم إرادة ذلک، لأنه أمر تکوینی تابع لعلته الخارجیة، ولیس أمرا اعتباریا قابلاً للجعل.

ص: 283


1- 1 . وسائل الشیعة 27/17، ح2 و 3، الباب 3 من أبواب صفات القاضی.

ومثله ما قد یدعی من أن المراد بالحاکم مطلق من له الحکم، مع عدم اختصاص الحکم بالقضاء فی فصل الخصومات، بل یطلق علیه وعلی الأحکام الشرعیة التکلیفیة والوضعیة والسلطنة علیهم، والحکم المراد بقول اللّه تعالی: «إِنَّ اللّهَ یَحْکُمُ ما یُرِیدُ»(1)، وقوله سبحانه: «إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ یَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَیْرُ الْفاصِلِینَ»(2)، وقوله عزّ من قائل:«ما کانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُوءْتِیَهُ اللّهُ الْکِتابَ وَالْحُکْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنّاسِ کُونُوا عِبادا لِی مِنْ دُونِ اللّهِ»(3)... إلی غیر ذلک.

وکأنه إلی هذا یرجع ما ذکره النراقی فی محکی عوائد الأیام. قال: «لیس المراد بالحکم خصوص ما یکون بعد الترافع، لأعمیته لغة وعرفا. وعدم ثبوت الحقیقة الشرعیة فیه».

لکنه یشکل بأن المعنی المذکور بهذه السعة لو فرض رجوعه لقدر جامع واحد لیس من شأنه أن یجعل لأحد اعتبارا، بل بعض أفراده ثابت للإنسان بلا حاجة للجعل، کالحکم فی القضایا التکوینیة والتشریعیة بحق، کقیام زید وجلوس عمرو وحرمة المیتة ووجوب الصلاة، وبعضها ثابت له شرعا بالأصل، کالحکم والإدارة لشؤون عائلته وممالیکه وأمواله ونحوها، وبعضها ثابت له شرعا بتوسط جعل غیر الإمام علیه السلام ، کالحکم فی أمر الأوقاف التی یجعله الواقف ولیا علیها، والأیتام الذین یوصی بهم إلیه أبوهم، وبعضه مما یمتنع جعله له، کالحکم بالأحکام الشرعیة التکلیفیة والوضعیة تشریعا، وسائر موارد الإدارة والحکم بغیر الحق، وبعضها قابل للجعل من قبل الإمام علیه السلام ، کمناصب القضاء، والولایة الخاصة، والعامة التی تبتنی علیها السلطنة العامة.

ومن الظاهر أن المراد فی المقام هو خصوص ما یقبل الجعل من الإمام علیه السلام ، وهو مردد بدوا بین المناصب الثلاثة المذکورة، وحیث لا جامع عرفی بینها تعین الاقتصار علی أحدها، والمتعین الأوّل، لأنه المتیقن أو الظاهر من أجل ما سبق.

ص: 284


1- 1 . سورة المائدة /1.
2- 2 . سورة الأنعام /57.
3- 3 . سورة آل عمران /79.

هذا مضافا إلی أن المقبولة لو کانت بصدد بیان الولایة العامة للفقیه، لزم ثبوتها للفقهاء فی عهد ظهور الأئمة علیهم السلام وما ألحق به وهو عهد الغیبة الصغری، ولو کان البناء علی ذلک لظهر العمل علیه فی هذه المدة الطویلة التی تقارب مائتی عام ولو بصورة محددة لا تنافی التقیة، أو تنافیها تسامحا، کما تسامح کثیر من الشیعة فی أمر التقیة غفلة أو بمقتضی اندفاعاتهم العاطفیة، ولکثر السؤال عن فروع ذلک، لوضوح أنه بطبعه یقتضی التسابق والتشاح وظهور المشاکل بنحو أکثر بکثیر من اقتصار ثبوت ولایة القضاء لهم، لأن التصدی للقضاء إنما یکون بعد الترافع من قبل الخصمین ورضاهما بشخص القاضی، بخلاف إعمال الولایة، فإنه لا یتوقف علی شیء، بل للولی المبادرة لذلک. وذلک وحده کاف فی الکشف عن عدم إرادة جعل الولایة فی المقبولة»(1).

ومنهم: آیة اللّه الشیخ ناصر مکارم الشیرازی - مدظله - قال: «... والانصاف ان

قوله «بینهما منازعة فی دین أو میراث» وقوله «من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل» وقوله «ما یحکم له فانما یأخذه سحتا» وکذا الاستدلال بالآیة الشریفة (بما عرفت من شأن نزولها) وما ورد فی ذیلها من اختلافهما فی الحکم الذی هو کالصریح فی الاختلاف فی القضاء لا الولایة، فهذه قرائنُ خَمْسة(2) قویة ظاهرة فی ان المراد من الحکم فیها هو القضاء، وأظهر منها ما ورد فی ذیل الروایة من إعمال المرجحات بین مأخذ الحکمین الذی بمعنی المستند للفتوی أو القضاء فإنّه لا معنی لکون الحکم فیه بمعنی الولایة، فهذه شواهد قویة علی کونها بصدد بیان منصب القضاء والفتوی لا غیر.

وعلی کلّ حالٍ، الانصاف أنّ ملاحظة صدر الروایة وذیلها تنادی بأعلی صوتها علی أنّها بصدد بیان تعیین القضاة العدول.

نعم یمکن أن یکون الذیل ناظرا إلی مرجع الفتوی أو القضاء فی الشبهات الحکمیة، فإنّ مراجعة القضاة لا یختص بالشبهات الموضوعیة، لاسیّما مع ما عرفت من

ص: 285


1- 1 . مصباح المنهاج، کتاب التجارة، 2/(424-420).
2- 1 . کما فی المصدر، والصحیح: خَمْسٌ.

أنّ المتعارف فی تلک الأزمنة وحدة القاضی والمفتی فی کثیر من الأحیان، ولذا استدل بها جمع کثیر علی قبول منصب القضاء الفقهاء»(1).

أقول: فظهر ممّا ذکره الأعلام اختصاصها بالقضاء، نعم یمکن التعدی إلی تصرفات القضاة العامة فی تلک العصور بقرینة المقابلة واختتم البحث حول الروایات بمقالات:

صاحب الحدائق حیث یقول: «إنّی لم أقف بعد التتبع للأخبار علی شیءٍ من هذه العمومات والإطلاقات [المتضّمنة لثبوت ولایة الحاکم] لا فی النکاح ولا فی المال، وإن کان ذلک مشهورا فی کلامهم ومسلَّما بینهم ومتداولاً علی رؤوس أقلامهم... وبالجملة فإنّ عدّ الحاکم الشرعی فی جملة الأولیاء کما ذکروا وإن کان مسلّما بینهم ومتّفقا علیه عندهم، إلاّ أنّه خالٍ عن الدلیل من الأخبار، نعم یمکن تخصیص ذلک بالإمام علیه السلام من حیث الولایة العامّة، وأنّه أولی بالنّاس من أنفسهم»(2).

والشیخ الأعظم قدس سره حیث یقول: «وبالجملة: فإقامة الدلیل علی وجوب طاعة الفقیه کالإمام علیه السلام - إلاّ ما خرج بالدلیل - دونه خرط القتاد!»(3).

والمحقّق الآخوند الخراسانی یقول فی کتاب قضائه: «وبالجملة: لا مجال للتأمّل فی عدم دلالة هذه الأخبار علی الولایة المطلقة للفقیه واللّه العالم»(4).

ولذا قال المحقّقان النائینی(5) والأصفهانی(6) بالنسبة إلی دلیل هذا البحث: «فیه

ص: 286


1- 2 . أنوار الفقاهة، کتاب البیع، 1/498.
2- 3 . الحدائق 23/238 و 239.
3- 4 . المکاسب 3/553.
4- 1 . کتاب القضاء /32.
5- 2 . قاله المحقّق النائینی فی رسالته المخطوطة: «وسیلة النجاة فی صلاة الجمعة» ونقل عنه آیة اللّه السیّد علی السیستانی فی تقریر أبحاثه فی الإجتهاد والتقلید والاحتیاط /122 بقلم العلاّمة الحجة السیّد محمّدعلی الربانی.
6- 3 . المصدر الأخیر.

تزلزل عظیم».

ولذا قال الاستاذ المحقّق - مدظله - : «وخلاصة الکلام: ثبت أنّه لیس لنا نصٌّ واضح وصریح یمکن من خلاله إثبات ولایة الفقیه، کما مرّ تفصیل ذلک فی البحث عن ولایة الفقیه، حیث أثبتنا أنّ جمیع النصوص المستشهد بها إمّا ساقطة من جهة السند، أو من جهة الدلالة، أو کلیهما.

ولو سلّمنا دلالتها علی ولایة الفقیه، فهی غیر مفیدة لإثبات ما یدّعیه مَنِ استدلّ بها علی الولایة المطلقة للفقیه، لعلمنا بأنّ هذه الولایة المجعولة إنّما هی لأجل تمشیة الاُمور التی لا یرضی الشارع بتعطیلها وترکها، کرعایة أموال الیتامی والصغار، وإدارة الموقوفات، والأموال العامّة وغیرها من الاُمور الحسبیّة المناطة إدارتها بالفقهاء الثِّقاتِ العدول، وبالتالی فإنّ حِکمة جعل الولایة وأساسها محفوفة بما یفید أنّ الغرض منه عدم تعطیل الأُمور المشهورة بالاُمور الحسبیّة، فإنّ ذات الغرض المحفوف بجعل هذه الولایة، یقتضی إقامته والتصدّی له، فلا إطلاق فیها حتّی یجعل فیها الشارع أسباب التسابق والتنافس»(1).

ص: 287


1- 4 . العقد النضید 4/287.
2- إثبات ولایة الفقیه بالدلیل العقلی

قال المحقّق النائینی ما نصه بالفارسیة: «دویم: آن که از جمله قطعیات مذهب ما طائفه امامیه این است که در این عصر غیبت - علی مغیبه السلام - ، آن چه از ولایات نوعیه را که عدم رضاء شارع مقدس به اهمال آن حتّی - در این زمینه - معلوم باشد وظائف حسبیه نامیده و نیابت فقهاء عصر غیبت را در آن قدر متیقن و ثابت دانستیم حتّی با عدم ثبوت نیابت عامه در جمیع مناصب، و چون عدم رضاء شارع مقدس به اختلال نظام و ذهاب بیضه اسلام بلکه اهمیت وظائف راجعه به حفظ و نظم ممالک اسلامیه از تمام امور و حسبیه ازاوضح قطعیات است، لهذا ثبوت نیابت فقهاء و نواب عام عصر غیبت در اقامه وظائف مذکوره از قطعیات مذهب خواهد بود»(1).

وهذا تعریب مقالته: «من مسلّمات مذهبنا نحن الإمامیة أن الولایات النوعیة التی یُعْلَم عدم رضا الشارع المقدس بإهمالها حتّی فی هذا الصعید فی عصر الغیبة - علی مغیّبه السلام - تسمی: الحسبیة، ونیابة فقهاء عصر الغیبة فیها هو القدر المتیقن والثابت عندنا حتّی مع عدم ثبوت النیابة العامة فی جمیع المناصب، وحیث إنّ عدم رضاء الشارع المقدس باختلال النظام، وذهاب بیضة الإسلام بل أهمیة الوظائف الراجعة إلی حفظ نظام البلاد الإسلامیة من تمام الأُمور الحسبیة من أوضح القطعیات لذلک یکون ثبوت نیابة الفقهاء، والنواب العامّین فی عصر الغیبة فی إقامة الوظائف المذکورة من ضروریات

ص: 288


1- 1 . تنبیه الاُمّة وتنزیه الملّة /46.

المذهب، وقطعیاته»(1).

وقال المحقّق الاصفهانی: «ربّما یُستدلّ لعموم ولایة الفقیه بالمعنی الثانی بوجه عقلی، ومحصله: أنّ ما ثبت للإمام علیه السلام من حیث ریاسته الکبری - وهی الامور التی یرجع

فیها المرئوسون من کلّ ملّة ونحلة إلی رئیسهم إتفاقا للنظام - فهی ثابتة للفقیه، إذ فرض هذا الموضوع فرض نصب الرئیس؛ لئلا یلزم الخلف من إیکال أمره إلی آحاد النّاس، فیدور الأمر فی الرئیس المنصوب بین أنْ یکون هو الفقیه أو شخص خاص آخر، والأخیر باطل قطعا فتعیّن الأوّل.

وفیه: أنّ الامور التی یرجع فیها إلی الفقیه لیست دائما اُمورا سیاسیة یحتاج إلی الرئیس؛ کبیع مال الیتیم وحفظ مال الغائب ونحوه، لوضوح قیام العدل مقام الفقیه عند تعذّره مع عدم لزوم المحذور، بل ربّما یکون ولایة الفقیه فی بعض هذه الامور مترتبة علی ولایة غیره، کولایته علی الصغیر المرتبة علی ولایة الأب والجدّ ونحوها.

مضافا إلی أنّ بعض تلک الأُمور التی لابدّ فیها من الرئیس، فإیکال أمرها إلیه من حیث إنّ نظره مکمل لنقص غیره، ومثل هذا الأمر یتوقف علی نظر من کان له بصیرة تامة به فوق أنظار العامة، والفقیه بما هو فقیه أهل النظر فی مرحلة الاستنباط دون الامور المتعلقة بتنظیم البلاد وحفظ الثغور وتدبیر شؤون الدفاع والجهاد وأمثال ذلک، فلا معنی لإیکال هذه الاُمور إلی الفقیه بما هو فقیه، وإنّما فَوَّض أمرها إلی الإمام علیه السلام لأنّه عندنا أعلم النّاس بجمیع السیاسات والأحکام، فلا یقاس بغیره ممّن لیس کذلک، فالإنصاف أنّ هذا الوجه أیضا غیر تام فی إثبات هذا المرام»(2).

وقال المحقّق آیة اللّه البروجردی رحمه الله : «إنّ إثبات ولایة الفقیه وبیان الضابطة الکلیة لما یکون من شؤون الفقیه ومن حدود ولایته یتوقف علی تقدیم أُمور:

الأوّل: إنّ فی الاجتماع أمورا لا تکون من وظائف الأفراد ولا ترتبط بهم، بل

ص: 289


1- 2 . الحاکمیة فی الإسلام /549.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/390.

تکون من الأمور العامّة الاجتماعیة التی یتوقف علیها حفظ نظام الاجتماع، مثل القضاء وولایة الغُیَّب والقُصَّر وبیان مصرف اللقطة والمجهول المالک وحفظ الانتظامات الداخلیة وسدّ الثغور والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء ونحو ذلک ممّا یرتبط بسیاسة المدن. فلیست هذه الأمور ممّا یتصداها کلّ أحد، بل تکون من وظائف قیِّم الاجتماع ومَنْ بیده أزمة الأمور الاجتماعیة وعلیه أعباء الریاسة والخلافة.

الثانی: لا یبقی شک لمن تتبع قوانین الإسلام وضوابطه فی أنّه دین سیاسی اجتماعی، ولیست أحکامه مقصورة علی العبادیات المحضة المشروعة لتکمیل الأفراد

وتأمین سعادة الآخرة، بل یکون أکثر أحکامه مربوطة بسیاسة المدن وتنظیم الاجتماع وتأمین سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحسنیین ومرتبطة بالنشأتین، وذلک کأحکام المعاملات والسیاسات من الحدود والقصاص والدیات والأحکام القضائیة المشروعة لفصل الخصومات والأحکام الکثیرة الواردة لتأمین المالیات التی یتوقف علیها حفظ دولة الإسلام کالأخماس والزکوات ونحوهما. ولأجل ذلک اتفق الخاصة والعامّة علی أنّه یلزم فی محیط الإسلام وجود سائس وزعیم یدبّر أمور المسلمین، بل هو من ضروریات الإسلام وإن اختلفوا فی شرائطه وخصوصیاته وأن تعیینه من قبل رسول اللّه صلی الله علیه و آله أو بالانتخاب العمومی.

الثالث: لا یخفی أنّ سیاسة المدن وتأمین الجهات الاجتماعیة فی دین الإسلام لم تکن منحازة عن الجهات الروحانیة والشؤون المربوطة بتبلیغ الأحکام وإرشاد المسلمین، بل کانت السیاسة فیه من الصدر الأوّل مختلطة بالدیانة ومن شؤونها، فکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله بنفسه یدبّر أمور المسلمین ویسوسهم ویرجع إلیه فصل الخصومات وینصب الحکّام للولایات ویطلب منهم الأخماس والزکوات ونحوهما من المالیات، وهکذا کان سیرة الخلفاء بعده من الراشدین وغیرهم، حتّی أمیرالمؤمنین علیه السلام ، فإنّه بعد ما تصدی للخلافة الظاهریة کان یقوم بأمور المسلمین وینصب الحکّام والقضاة للولایات. وکانوا فی بادئ الأمر یعملون بوظائف السیاسة فی مراکز الإرشاد والهدایة کالمساجد، فکان إمام المسجد بنفسه أمیرا لهم، وبعد ذلک أیضا کانوا یبنون المسجد الجامع قرب دار

ص: 290

الإمارة، وکان الخلفاء والأمراء بأنفسهم یقیمون الجمعات والأعیاد بل ویدبّرون أمر الحج أیضا، حیث إنّ العباداتِ الثلاثَ مع کونها عباداتٍ قد احتوت علی فوائد سیاسیة لا یوجد نظیرها فی غیرها، کما لا یخفی علی من تدبّر. وهذا النحو من الخلط بین الجهات الروحیة والفوائد السیاسیة من خصائص دین الإسلام وامتیازاته.

الرابع: قد تلخّص مما ذکرناه:

1- أنّ لنا حوائج اجتماعیة تکون من وظائف سائس الاجتماع وقائده.

2- وأنّ الدیانة المقدسة الإسلامیة أیضا لم یهمل هذه الأمور بل اهتم بها أشدّ الاهتمام وشرَّعت بلحاظها أحکاما کثیرة وفوَّضت إجراءها إلی سائس المسلمین.

3- وأنّ سائس المسلمین فی الصدر الأوّل لم یکن إلاّ نفس النبی صلی الله علیه و آله ثمّ الخلفاء بعده.

وحینئذ فنقول: إنّه لمّا کان من معتقداتنا معاشر الشیعة الإمامیة أن خلافة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وزعامة المسلمین من حقوق الأئمة الاِثْنَی عشر - علیهم صلوات اللّه - وأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یهمل أمر الخلافة بل عیَّن لها من بعده علیّا علیه السلام ثمّ انتقلت منه إلی أولاده، عترة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وکان تقمّص الباقین وتصدیهم لها غصبا لحقوقهم، فلا محالة کان المرجع الحق لتلک الأمور الاجتماعیة التی یبتلی بها جمیع المسلمین هو الأئمة الاثناعشر علیهم السلام وکانت من وظائفهم الخاصّة مع القدرة علیها.

فهذا أمر یعتقده جمیع الشیعة الإمامیة، ولا محالة کان مرکوزا فی أذهان أصحاب الأئمة علیهم السلام أیضا. فکان أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم من فقهاء أصحاب الأئمة وملازمیهم لا یرون المرجع لهذه الأمور والمتصدی لها عن حق إلاّ الأئمة أو من نصبوهم لها، ولذلک کانوا یراجعون إلیهم فیما یتفق لهم مهما أمکن کما یعلم ذلک بمراجعة أحوالهم.

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: إنّه لمّا کانَتْ هذه الأمور والحوائج الاجتماعیة مما یبتلی بها الجمیع مدّة عمرهم غالبا ولم یکن الشیعة فی عصر الأئمة متمکنین من الرجوع إلیهم علیهم السلام فی جمیع الحالات - کما یشهد بذلک مضافا إلی تفرقهم فی البلدان عدم کون الأئمة مبسوطی الید بحیث یُرْجَعُ إلیهم فی کلّ وقت لأیِّ حاجة اتفقت - فلا محالة

ص: 291

یحصل لنا القطع بأن أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم وغیرهما من خواصّ الأئمة سألوهم عمّن یرجع إلیه فی مثل تلک الأمور إذا لم یتمکنوا منهم علیهم السلام ، ولا سیّما مع علمهم علیهم السلام بعدم تمکن أغلب الشیعة من الرجوع إلیهم بل عدم تمکّن الجمیع فی عصر غیبتهم التی کانوا یخبرون عنها غالبا ویهیئون شیعتهم لها. وهل لأحد أن یحتمل أنّهم علیهم السلام نهوا شیعتهم عن الرجوع إلی الطواغیت وقضاة الجور ومع ذلک أهملوا لهم هذه الأمور ولم یعینوا من یرجع إلیه الشیعة فی فصل الخصومات والتصرف فی أموال الغُیَّب والقُصَّر والدفاع عن حوزة الإسلام ونحو ذلک من الأمور المهمة التی لا یرضی الشارع بإهمالها؟

وکیف کان فنحن نقطع بأنّ أصحاب الأئمة علیهم السلام سألوهم عمّن یرجع إلیه الشیعة فی تلک الأمور مع عدم التمکّن منهم علیهم السلام وأنّ الأئمة علیهم السلام أیضا أجابوهم بذلک ونصبوا للشیعة مع عدم التمکن منهم علیهم السلام أشخاصا یتمکنون منهم إذا احتاجوا، غایة الأمر سقوط تلک الأسئلة والأجوبة من الجوامع التی بأیدینا ولم یصل إلینا إلاّ ما رواه عمر بن حنظلة وأبوخدیجة.

وإذا ثبت بهذا البیان النصب من قبلهم علیهم السلام وأنّهم لم یهملوا هذه الأُمور المهمة التی

لا یرضی الشارع بإهمالها - ولا سیّما مع إحاطتهم بحوائج شیعتهم فی عصر الغیبة - فلا محالة یتعیّن الفقیه لذلک، إذ لم یقل أحد بنصب غیره. فالأمر یدور بین عدم النصب وبین نصب الفقیه العادل، وإذا ثبت بطلان الأوّل بما ذکرناه صار نصب الفقیه مقطوعا به، ویصیر مقبولة ابن حنظلة أیضا من شواهد ذلک.

وإن شئت ترتیب ذلک علی النظم القیاسی فصورته هکذا: إمّا أنه لم ینصب الأئمّةُ علیهم السلام أحدا لهذه الأمور العامّة البلوی وإمّا أن نصبوا الفقیه لها، لکن الأوّل باطل فثبت الثانی. فهذا قیاس استثنائی مؤلّف من قضیة منفصلة حقیقیة وحملیة دلّت علی رفع المقدم، فینتج وضع التالی، وهو المطلوب.

وبما ذکرناه یظهر أن مراده علیه السلام بقوله فی المقبولة: «حاکما» هو الذی یرجع إلیه فی جمیع الأمور العامّة الاجتماعیة التی لا تکون من وظایف الأفراد ولا یرضی الشارع أیضا بإهمالها - ولو فی عصر الغیبة وعدم التمکن من الأئمة علیهم السلام - ومنها القضاء وفصل

ص: 292

الخصومات. ولم یرد به خصوص القاضی، ولو سلِّم فنقول: إن المُتَرائی من بعض الأخبار أنه کان شغل القضاء ملازما عرفا لتصدی سائر الأُمور العامّة البلوی کما فی خبر إسماعیل ابن سعد عن الرضا علیه السلام : «وعن الرجل یموت بغیر وصیة وله ورثة صغار وکبار، أیحلّ شراء خدمه ومتاعه من غیر أن یتولّی القاضی بیع ذلک؟»(1).

وبالجملة کون الفقیه العادل منصوبا من قبل الأئمة علیهم السلام لمثل تلک الأُمور العامّة المهمة التی یبتلی بها العامّة ممّا لا إشکال فیه إجمالاً بعد ما بیّناه، ولا نحتاج فی إثباته إلی مقبولة ابن حنظلة، غایة الأمر کونها أیضا من الشواهد، فتدبّر»(2).

وقال آیة اللّه السیّد محمود الطالقانی رحمه الله فی تعالیقه علی کتاب «تنبیه الاُمّة وتنزیه الملّة» للمحقّق النائینی: «2- ما شیعه معتقدیم که مجتهد جامع الشرایط از امام علیه السلام نیابت دارد، قدر مسلم این نیابت در امور حسبیه است (مانند ولایت بر صغار و مجانین و تصرف در اموال بی صاحب و اوقاف مجهول التولیه و صرف آن در موارد خود و از این قبیل) و چون حفظ نظم و حقوق عمومی از اکمل و اوضح موارد امور حسبیه است پس نیابت علماء در این موارد مسلم و وجوب اقامه این وظائف حتمی است»(3).

وقال المحقّق الخمینی رحمه الله : «ثمّ إنّ الاُمور الحسبیّة - وهی التی علم بعدم رضا الشارع الأقدس بإهمالها - إن علم أنّ لها متصدّیا خاصّا أو عامّا فلا کلام.

وإن ثبت أنّها کانت منوطة بنظر الإمام علیه السلام ، فهی ثابتة للفقیه بأدلّة الولایة.

ومع الغضّ عنها، لو احتمل أنّ إجراءها لابدّ وأن یکون بنظر شخص کالفقیه العادل، أو الشخص العادل، أو الثقة، فاللازم الأخذ بالمتیقّن، وهو الفقیه العادل الثقة، وإن تردّد بین المتباینین لابدّ وأن تجری بنظرهما.

ولا یخفی: أنّ حفظ الاسلام، وسدّ ثغور المسلمین، وحفظ شبّانهم من الانحراف عن الإسلام، ومنع التبلیغ المضادّ للإسلام ونحوها، من أوضح الحسبیّات، ولا یمکن

ص: 293


1- 1 . راجع التهذیب 9/239، ح20، کتاب الوصایا، باب الزیادات.
2- 2 . البدر الزاهر /(79-73).
3- 3 . حکومت از نظر اسلام، ذیل صفحة 51.

الوصول إلیها إلاّ بتشکیل حکومة عادلة إسلامیّة.

فمع الغضّ عن أدلّة الولایة، لا شکّ فی أنّ الفقهاء العدول هم القدر المتیقّن، فلابدّ من دخالة نظرهم، ولزوم کون الحکومة بإذنهم، ومع فقدهم أو عجزهم عن القیام بها، یجب ذلک علی المسلمین العدول، ولابدّ من استئذانهم الفقیه لو کان.

ثمّ إنّ ما ذکرنا: من أنّ الحکومة للفقهاء العدول، قد ینقدح فی الأذهان الإشکال فیه: بأنّهم عاجزون عن تمشیة الأُمور السیاسیّة والعسکریّة وغیرها.

لکن لا وقع لذلک بعد ما نری أنّ التدبیر والإدارة فی کلّ دولة بتشریک مساعی عدد کبیر من المتخصّصین وأرباب البصیرة، والسلاطین ورؤساء الجُمهوریّات من العهود البعیدة إلی زماننا - إلاّ ما شذّ منهم - لم یکونوا عالمین بفنون السیاسة والقیادة للجیش، بل الاُمور جرت علی أیدی المتخصّصین فی کلّ فنّ.

لکن لو کان من یترأّس الحکومة شخصا عادلاً، فلا محالة ینتخب الوزراء والعمّال العدول، أو صحیحی العمل، فیقلّ الظلم والفساد والتعدّی فی بیت مال المسلمین، وفی أعراضهم ونفوسهم.

کما أنّه فی زمان ولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام لم یجرِ جمیع الاُمور بیده الشریفة، بل کان له ولاة وقضاة ورؤساء للجیش ونحوهم، والآن تری أنّ تمشیة الاُمور السیاسیّة أو العسکریّة وتنظیم البلاد وحفظ الثغور کلّ موکولة إلی شخص أو أشخاص ذوی الصلاحیة بنظرهم»(1).

وقال فی دروسه ما نصه بالفارسیة: «ولایت فقیه از موضوعاتی است که تصور آنها موجب تصدیق می شود و چندان به برهان احتیاج ندارد. به این معنی که هرکس عقاید واحکام اسلام را حتّی اجمالاً دریافته باشد چون به ولایت فقیه برسد و آن را به تصور آورد بی درنگ تصدیق خواهد کرد و آن را ضروری و بدیهی خواهد شناخت. این که امروز به ولایت فقیه چندان توجهی نمی شود و احتیاج به استدلال پیدا کرده، علتش

ص: 294


1- 1 . کتاب البیع 2/665 و 666.

اوضاع اجتماعی مسلمانان عموما و حوزه های علمیه خصوصا می باشد. اوضاع اجتماعی ما مسلمانان و وضع حوزه های علمیه ریشه تاریخی دارد که به آن اشاره می کنم...»(1).

وقال الفقیه الکلبایکانی رحمه الله : «وبالجملة لا یبعد استفادة الولایة للفقیه الجامع للشرائط فیما یرتبط بالأُمور العامّة، وحفظ المجتمع والأُمة، وسیاسة الرعیّة والملّة؛ لوضوح أنّ الاجتماع ونظمه لا ینتظم إلاّ بسلسلة من القوانین المجعولة لهم والجاریة فیهم والحاکمة علیهم، حتّی أُوقف کلّ من النّاس علی حدٍّ محدود وحقّ مربوط، ولا یتعدّی بعض علی بعضٍ، ولا یأکل القوی الضعیف، ویقام الاعوجاج، ویرتفع اللجاج، کما فی المروی عن العلل عن الرضا علیه السلام [ما مضمونه أنّه] قال: «کیف یمکن إحالة الجهّال والفسّاق وتخلیة سبیلهم إلی ما هو المقرّر لهم فی الشرع من حرمة ووجوب ولا یکون فیه أمر آخر مربوط بالرئاسة والسیاسة؟!»(2).

فعلی هذا، تارة یقال: یؤخذ بإطلاق الأدلّة العامّة - مثل: العلماء ورثة الأنبیاء أو أمناء اللّه وخلفاء الرسول - ویحکم بأنّ کلّ ما کان للنبی والأئمّة علیهم السلام من المناصب فهو ثابت للفقهاء إلاّ ما أخرجه الدلیل، کوجوب الإطاعة فی الأُمور المتعلّقة بشخصهم، والجهاد للدعوة إلی الإسلام، وصلاة الجمعة علی ما یظهر من روایات المسألة. فکلّ مورد قام الدلیل علی اعتبار الإذن الخاصّ من الإمام فیه، أو أنّه ممّا لا یجوز الإقدام علیه لغیر الإمام، نقتصر علیه ونأخذ به.

فعلیه خروج فردٍ من الولایة یحتاج إلی دلیل خاصّ، ولولاه یکفی الدلیل العامّ فی ثبوتها لهم.

وأُخری یقال: إنّ استفادة الولایة المطلقة للفقهاء، وأنّ لهم ما کانت للأئمّة إلاّ ما

أخرجه الدلیل، وإن کان لا یصحّ من الأدلّة العامّة، إلاّ أنّه یصحّ التمسّک بها والاستدلال

ص: 295


1- 1 . حکومت اسلامی /6.
2- 2 . راجع: علل الشرائع /253.

علیها لإثبات الولایة لهم فی الأُمور العامّة المتعلّقة لحفظ الرعیّة، ونظم أمرهم، وصونهم عن التجاوز، وإیقافهم علی حدّ محدود، ومنعهم عن طلب ما لا یستحقّون، وعونهم علی أخذ ما یستحقّون، کما نفینا البُعد عنه فیما تقدّم.

فعلیه یحکم بثبوت الولایة للفقیه، فیما یرتبط بسیاسة الاجتماع وإدارة المجتمع، إلاّ ما أخرجه الدلیل مثل الجهاد للدعوة إلی الإسلام؛ لاختصاصه بالنبی والإمام أو المأذون الخاصّ منه علیه السلام .

وأمّا الجهاد للدفاع عن الإسلام وحوزة المسلمین، إذا خیف علیه من تهاجم الکفّار وحملة الأشرار، فللفقیه أیضا أن یحکم بنفر عدّةٍ وتخلّف قومٍ، أو یحکم بکیفیّة مخصوصة وطرق خاصّة من الدفاع»(1).

وقال المحقّق الروحانی فی تقریب الاِسْتِدْلال ونقده: «وقد یستدل علی الفقیه بوجه عقلی: بیانه: أنه من المعلوم وجود أمور لابدّ من ان تناط بشخص معین واحد یکون هو المدیر لشؤنها والنافذ القول فیها، للزوم اختلال النظام بدون ذلک، کأمر الحدود والتعزیرات وحفظ أموال الیتامی والمجانین ونحو ذلک، فیتعین اناطتها بالفقیه وتوقفها علی إذنه، إذ المقام یکون من قبیل دوران الأمر بین التعیین والتخییر. فإنّه إمّا أن تکون واقعا منوطة بخصوص الفقیه أو بکل أحد، إمّا اناطتها بغیر الفقیه بخصوصه فهو معلوم العدم. وعلیه فبدون الرجوع إلی الفقیه یشک فی مشروعیتها وجوازها، فلابدّ من الرجوع إلیه.

وهذا الاستدلال ممنوع، أوّلاً: بانه أخص من المدعی، إذ هناک من الامور التی لا یعلم بلزوم اناطتها لشخص واحد لعدم اختلال النظام بدون الاناطة، کالصلاة علی المیت أو التصدق بمجهول المالک ونحوهما، فلوتم الدلیل المذکور فهو لا یشمل مثل هذه الصور لعدم تمامیة ملاکه فیها.

وثانیا: بانه لا یقتضی الرجوع إلی الفقیه ولا یعنیه، لان الملاک فی الرجوع إلی

ص: 296


1- 1 . الهدایة إلی من له الولایة/(813-811) المطبوعة فی ضمن رسائل فی ولایة الفقیه.

شخص معین هو لزوم اختلال النظام بدونه. فالرجوع إلی شخصٍ لحفظ النظام.

وذلک یقتضی لزوم الرجوع إلی شخص عارف فی المصالح العقلائیة ومطلع علی

جهات التصرفات وخصوصیاتها وعادل فی دینه لکی لا یخرج عن الحدود الشرعیة سواء کان هذا فقیها مجتهدا أو لیس بفقیه بل کان مقلدا.

ولا یلزم الرجوع إلی الفقیه، لحصول حفظ النظام بغیره بل لو سلم تعیین الفقیه فلابدّ من اشتماله علی جهة المعرفة وحسن التدبیر والتصرف، دون مطلق الفقیه. إذ من الفقهاء من لا یعرف ادارة شؤن نفسه فضلاً عن شؤن غیره، فإنّ العلم بالفقه أجنبی عن الإدراک العرفی والمعرفة الاجتماعیة.

وبالجملة، فمادام لزوم الرجوع إلی شخص بجهة حفظ النظام فالمدار علی العارف والعالم فی الامور العرفیة لا الفقیة، إذ لا ملازمة بین الفقه والمعرفة الاجتماعیة، فلا یحفظ النظام بولایة مطلق الفقیه»(1).

وقال شیخنا الاستاذ قدس سره : «إن قلت: کیف یصح القول بأن النّبی صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام لم یتعرضوا للزعامة فی زمان الغیبة وأن یترکوا المؤمنین حیاری، مع أنّ الدین الإسلامی متکفل لأحکام غیر العبادات والمعاملات من السیاسات التی یکون الغرض منها تنظیم الاُمور الاجتماعیة للمسلمین، وبسط العدالة الإسلامیة فی بقاع الأرض؟

فإنه یقال: عدم استفادة الولایة العامة للفقهاء من الروایات المتقدمة لا یوجب ذلک، حیث یمکن أن یکون عدم التعرض للوظیفة فی ذلک الزمان لعدم حاجة النّاس فی عصرهم علیهم السلام إلی بیانه، وأنه کان أنسب لرعایة التقیة التی کانوا یعیشون حالها وإیکال الأمر وتشخیص الوظیفة إلی فقهاء، زمان الغیبة، حیث یتمکنون ببرکة القواعد الشرعیة والخطابات العامة علی کیفیة تنظیم الاُمور الاجتماعیة وتعیین الوظیفة فیها.

وعلی ذلک فینبغی الکلام فی موضعین:

الأوّل: ما إذا تصدی أمر المسلمین من لیس أهلاً له، کما فی غالب بلاد المسلمین

ص: 297


1- 1 . المرتقی إلی الفِقه الأرقی، کتاب الخمس /307 و 308.

فی عصرنا الحاضر.

الثانی: ما إذا أراد التصدی لأُمور المسلمین من یکون صالحا للتصدی لتنظیم اُمورهم ورعایة مصالحهم.

وأما الموضع الأوّل، فما لا ینبغی الریب فیه أنّ الشارع لا یرضی بتصدی الظالم الفاسق لأُمور المسلمین، لا سیّما إذا کان ذلک الظالم آلة بید الکفار فی تضعیف الإسلام

وأهل الإیمان، وترویج الفسق والفجور لیلحق المسلمین ولو تدریجا برکب الکفار فی رسومهم وعاداتهم، وهدم ما أتعب النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام والصالحین والشهداء من المسلمین فی تشیید أرکان الدین وتطبیق أحکامه علی نظم بلادهم.

والحاصل: نهی الشارع عن الرکون إلی الظالم والأمر بالاعتصام بحبل اللّه والأمر بالکفر بالطّاغَوْتِ وأولیاء الشیطان والأخذ بولایة اللّه سبحانه ورسوله وتمکین النّاس من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وغیر ذلک، شاهد صدق بأنّ علی المسلمین قطع أیدی الظَّلَمَةِ عن المؤمنین وبلادهم مع التمکن مِنْهُ، حیث إنه لو أمکن ذلک بالمقدمات الغیر المحرمة فی نفسها فهو. وأما إذا توقف ذلک علی ارتکاب محرم فی نفسه فلابدّ من ملاحظة الأهمیة بین المتزاحمین، ولا ریب فی أنّ الظالم المزبور إذا کان بصدد هدم الحوزة الإسلامیة وإذلال المؤمنین وترویج الکفر وتسلیط الکفار علی المسلمین وبلادهم، یکون علی المسلمین أخذ القدرة من یده وإیکالها إلی الصالح، فإنّه أهم ولو مع توقفه علی بعض المحرمات بعنوانه الأولی، حتّی القتال مع العلم بالظفر والاطمینان بأخذ القدرة من یده، کلّ ذلک تحفظا علی الحوزة الإسلامیة ودفاعا عن المسلمین وأعراضهم وبلادهم من دنس الکفر والضلال والفساد. هذا کلّه بحسب الکبری.

وأما بحسب الصغری فإن أحرز فقیه حال الظالم وأنه بصدد إذلال المسلمین وتسلیط الکفار علیهم وعلی بلادهم والصدمة علی أعراضهم وأموالهم وحکم بحکم علی طبق إحرازه، فنفوذ حکمه وإن کان مبنیا علی نفوذ الحکم الابتدائی للفقیه العادل، إلاّ أنه إذا اعتقد النّاس به وحصل لهم الجزم بصحة إحرازه ولو مع القرائن یثبت الحکم المتقدم.

ولا یخفی أنّ ما ورد فی بعض الأخبار من الأمر بِلُزُوْمِ البیت والصبر إلی خروج

ص: 298

السفیانی وغیره من المعاملات لخروج القائم - عجل اللّه تعالی فرجه الشریف - لا ینافی ما ذکرنا، فإن المراد من تلک الروایات أمر النّاس بعدم الاستجابة لمن یدعو من أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله الخلافة لنفسه، وأن الائمة علیهم السلام لا یتصدون لأمر الخلافة والوصایة للنبی صلی الله علیه و آله إلی ذلک الزمان، ومن یدعو النّاس إلی الخروج إنّما یرید الخروج لنفسه لا للإمام علیه السلام ، وأن لخروجه وقتا محدودا لابد من انتظاره. وأما قضیة الدفاع عن الحوزة الإسلامیة فی زمان الغیبة والتصدی للأُمور العامة للمسلمین تحفظا علی أعراضهم وأموالهم، وتمکین النّاس من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وإسقاط الفسقة والفجرة عن القدرة وإیکالها علی من هو صالح للتصدی لها حسبة من غیر أن یدعی المتصدی الوصایة والخلافة لنفسه،

فلیس فیها نظر إلی ذلک، فلاحظها.

ویزید وضوحا کون تلک الروایات غیر ناظرة إلی صورة الهجوم علی الحوزة الإسلامیة معتبرة یونس عن أبیالحسن الرضا علیه السلام قال: «قلت له: جعلت فداک، إن رجلاً من موالیک بلغه أنّ رجلاً یعطی سیفا وقوسا فی سبیل اللّه فأتاه فأخذهما منه، ثمّ لقیه أصحابه فأخبروه أنّ السبیل مع هؤلاء لا یجوز وأمروه بردّهما؟ فقال: فلیفعل. قال: قد طلب الرجل فلم یجده وقیل له: قد قضی الرجل، قال فلیرابط ولا یقاتل، قلت: مثل قزوین والدیلم وعسقلان وما أشبه هذه الثغور، فقال: نعم. قال: فإن جاء العدو إلی الموضع الذی هو فیه مرابط کیف یصنع؟ قال: یقاتل عن بیضة الإسلام. قال له: یجاهد؟ قال: لا، إلاّ أن یخاف علی دار المسلمین. فقال: أرایتک لو أنّ الروم دخلوا علی المسلمین لم ینبغ لهم أن یمنعوهم، قال: یرابط ولا یقاتل، وإن خاف علی بیضة الإسلام والمسلمین قاتل فیکون قتاله لنفسه ولیس للسلطان. قال: قلت: فإن جاء العدو إلی الموضع الذی هو فیه مرابط کیف یصنع؟ قال: یقاتل عن بیضة الإسلام لا عن هؤلاء؛ لأن فی دروس الإسلام دروس دین محمّد صلی الله علیه و آله »(1) وظاهرها - کما تری - عدم البأس بالقتال مع من یکون

ص: 299


1- 1 . الکافی 9/393، ح2 (5/21)؛ وسائل الشیعة 15/30، ح2، الباب 6 من أبواب جهاد العدو وما یناسبه.

استیلاؤه علی المسلمین وبلاده موجبا لضعف الإسلام وانهدام معالمه، بلا فرق بین زمان الحضور والغیبة کما لا یخفی.

الموضع الثانی: فنقول: لا ینبغی الریب فی أَنَّ تهیئة الأمن من المؤمنین بحیث تکون بلادهم علی أمن من کید الأشرار والکفار من أهم مصالحهم، والمعلوم وجوب المحافظة علیها وإنّ ذلک مطلوب للشارع، فإن تصدی شخص صالح لذلک بحیث یعلم بِرِضا الشارع بتصدیه، کما إذا کان فقیها عادلاً بصیرا أو شخصا صالحا کذلک مأذونا من الفقیه العادل، فلا یجوز للغیر تضعیفه والتصدی لإسقاطه عن القدرة، حیث إنّ تضعیفه إضرارا للمؤمنین ونقض للغرض المطلوب للشارع، بل یجب علی الآخرین مساعدته وتمکینه فی تحصیل مهمته، ومن المساعدة علیه التبرع فی الجیش الذی یمهده لحفظ الثغور والدخول فی القوی التی اُوکل إلیهم حفظ الأمن الداخل المأخوذ علی عاتق النّاس حسبة. ویشبه المقام ما إذا وضع فقیه عادل یده علی مال الیتیم أو علی مال الوقف الذی لا متولّی له، فإنّه لا یجوز للغیر ممانعته وتهیئة المقدمة لوضع یده علیها، غایة الأمر أنّ

وجه عدم الجواز فی الثانی حرمة التصرف فی تلک الأموال وفی الأوّل؛ لکونه تضعیفا لحوزة المسلمین، وإخلالاً لأمر انتظام بلادهم وأمنهم کما لا یخفی.

ثمّ إنه إذا توقف تأمین نظام البلاد علی تحصیل المال کالزکاة، حیث یجوز صرفها علی تحصیل الأمن ونظام البلاد، وجب إیصالها إلیه مع احتیاجه ومطالبته بها، بل لو طالب المال تبرعا فی صورة احتیاجه وجب علی النّاس الاستجابة، کلّ ذلک تمکینا للمتصدی من المال اللازم لتهیئة أمن البلاد وتأمین الحوائج العامة التی تصدی لتأمینها، کما أنّ للمتصدی تحصیل المال بإخراج المعادن من الأراضی المباحة ووضع الید علی الغابات ونحوها. وتکون کلّ هذه الأموال ملکا للحکومة الاسلامیة، نظیر ملک المال للعناوین ولا تدخل فی ملک شخص المتصدی، غایة الأمر یکون للمتصدی الولایة فی التصرف فی تلک الأموال؛ لیصرفها فی الموارد التی یتوقف علیها نظام البلاد وتأمین حوائج أهلها.

ص: 300

ولا یبعد(1) أیضا أن یقال بوجوب إطاعة المتصدی المزبور فی الاُمور الراجعة إلی الجهات التی أشرنا إلیها، أخذا بقوله سبحانه: «أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(2) وما ورد فی تفسیره من أنّ المراد باُولی الأمر الأئمة علیهم السلام لا ینافی ذلک، حیث إن ذلک لنفی ولایة ولاة الجور، وأنّهم علیهم السلام هم اُولو الأمر لا المشار إلیهم.

ولا یخفی أنّ کلّ تصرّف لا یخرج عن حدود التحفظ علی حوزة الإسلام والمسلمین نافذ للتصدی لاُمور المسلمین، فیما إذا کان مقتضی الأدلة الأولیة جوازه، کهیئة مراکز الثقافة لنشر العلوم وبسط الرفاه الاجتماعی، وأن کلّ تصرف یکون مقتضی

الأدلة عدم جوازه، کالتصرف فی بعض أموال آحاد النّاس وأخذه قهرا علیهم وأمثال ذلک، فلا یدخل فی ولایة المتصدی حتّی فیما إذا اعتقد المتصدی أو وکلاؤه جوازه لبعض الوجوه، إلاّ فیما أشرنا إلیه سابقا، کما یجوز لسائر الفقهاء التصدی لبعض الاُمور الحسبیة، فیما إذا لم یکن التصدی لها مزاحمةً وتضعیفا لمرکز المتصدی للزعامة، کنصب القیم للیتیم والتصدی لتجهیز میت لا ولیّ له ونحو ذلک، واللّه سبحانه هم العالم»(3).

وقال بعض الاساتیذ رحمه الله : «إنّ النظام والحکومة أمر ضروری للبشر، وأنّ حیاتهم فی

ص: 301


1- 1 . قد عدل عن هذا الرأی شیخنا الاستاذ قدس سره فی أجوبة استفتائاته وذهب إلی اختصاص الآیة بالأئمة المعصومین علیهم السلام وقال: «إنّ الأمر الوارد فی اتباع الفقهاء والعلماء والأخذ بحدیث الثقات من الرواة أمر إرشادی لحجّیة قولهم کما قرّر فی علم الأُصول، فلابدّ من تقییده عقلاً بصورة عدم العلم بمخالفته للواقع، فإنّ جعل شیء طریقا للواقع إنّما هو فی فرض احتمال مطابقته للواقع. وأمّا الأمر المذکور فی الآیة فهو أمر مولوی نفسی، وحیث إنّه لا یعقل إطلاق الأمر وشموله لصورة أمر النبی وأُولی الأمر علیهم السلام بما فیه مخالفة لأمر اللّه تعالی، فلا محالة یکون مقتضی الإطلاق فی الأمر بإطاعة النبی صلی الله علیه و آله وأُولی الأمر هو عصمة الشخص المطاع مطلقا، فیکون المراد بأُولی الأمر المعصومین علیهم السلام . ویؤکّده قرن الأمر بطاعتهم بالأمر بطاعة اللّه ورسوله، واللّه الهادی إلی سواء السبیل» [الأنوار الإلهیة فی المسائل العقائدیة /101].
2- 2 . سورة النساء /59.
3- 1 . إرشاد الطالب 4/(220-215).

جمیع مراحلها وأدوارها حتّی فی العصور الحجریة وفی الغابات لم تخل من قانون وحکومة ما، فإنّ الإنسان مدنی بالطبع ولا تتم حیاته ومعیشته إلاّ فی ظلّ الاجتماع والتعاون والمبادلات، وله شهوات وغرائز ومیول مختلفة من حبّ الذات والمال والجاه والحریة المطلقة فی جمیع ما یریده ویهواه، ولا محالة یقع التزاحم والصراع والتضارب بین الأفکار والأهواء فلابدَّ له من قوانین ومقررات، ومن قوة وقدرة نافذة محدّدة منفذة للمقررات حافظة للنظام ومانعة من التعدّی والتکالب وحافظة للثغور والأطراف. ولا نعنی بالحکومة والولایة إلاّ هذه. بل الحیوانات أیضا تحتاج إلی نحو من هذا النظم والقدرة، کمانشاهد ذلک فی أنواع النمل والنحل ونحوهما.

ولو فرض محالاً أو نادرا تحقّق الرشد الأخلاقی والثقافة الکاملة فی جمیع أفراد البشر والتناصف والإیثار بینهم، فالاحتیاج إلی نظام یدبر أمورهم الاجتماعیة یؤمّن حاجاتهم من جلب الأرزاق وتأمین الأمور الصحیّة والتعلیم والتربیة والمواصلات والمخابرات وإیجاد الطرق والشوارع وسائر المؤسّسات الرفاهیة وجبایة الضرائب لتأمینها ممّا لا یقبل الإنکار. ولا یختص هذا بمصر دون مصر أو عصر دون عصر أو ظرف دون ظرف.

فما عن أبیبکر الأصم من عدم الاحتیاج إلی الحکومة إذا تناصفت الأمة ولم تتظالم، وما عن مارکس من عدم الاحتیاج إلیها بعد تحقّق الکمون المترقی للبشر وارتفاع الاختلاف الطبقی بینهم واضح الفساد... .

وکیف کان فالإمامة بالمعنی الأعم ضرورة للبشر فی جمیع الأعصار، وبقاء الأمة ببقاء الإمامة. فلا یجوز للشارع الحکیم اللطیف بالأمة الإسلامیة إهمال هذه المهمة وعدم

تعیین وظیفة المسلمین بالنسبة إلی أصلها وشرائطها وحدودها حتّی بالنسبة إلی عصر الغیبة، لعدم تفاوت الأزمنة فی ذلک... .

فإذا فرض أن الإسلام لم یهمل [حتّی] مثل أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة فکیف یهمل ما فیه نظام أمر الأمّة بعد النبی صلی الله علیه و آله أو فی عصر الغیبة؟

إنّ قیّم قریة صغیرة إذا أراد أن یسافر سفرا موقّتا فهو بطبعه ووجدانه یعیّن مرجعا

ص: 302

للأمور یرجع إلیه فی غیابه، فهل کان النبی صلی الله علیه و آله وهو عقل الکل أقل التفاتا وحرصا علی حفظ الإسلام الذی صرف فیه طاقاته وطاقات المسلمین مدی عمره الشریف؟! ...

وبالجملة، الحکومة والإمامة وحفظ النظام ضرورة للبشر فی جمیع الأعصار. فلا یُظَنّ بالشارع الحکیم إهمالها وعدم التعرض لها ولحدودها وشروطها. وما ذکرناه إلی هنا یکفی لإثبات المطلوب، فلیجعل الأخبار والأدلة الآتیة مؤیدات أو موّکدات فلا یضرّنا ضعف بعضها من جهة السند، فتدبر»(1).

وقال آیة اللّه الحاج آقا علی الصافی الکلبایکانی قدس سره : «وأمّا حکم العقل، فهو أن یقال، بعد ما یکون کل من النّاس، بحسب غرائزهم الحیوانیة، مایلاً إلی الشّهوات، وانجاح آمالهم وإن کان هذا فی حقوق الغیر والتجاوز فی حدود الآخرین، مضافا إلی أنّ مدنیّتهم، تقتضی نظاما رابطا بین أفرادهم، حتّی یصیروا متحدّا فی هذا النّظام ولولا رادع فی ما بینهم، یردعهم عمّا لیس حقّهم وحفظهم فی حدودهم، وإلاّ انجرّ أمرهم إلی السفال والزّوال فلابدّ من سائس وقیّم بینهم، مع قانون، یعملون علی طبق هذا القانون، مع هذا القیّم لانّ صرف القانون، لا یکفی لحفظ نظامهم، مع ما هم علیه، من الأهواء والسلطة علی نوعهم:

فإذا کان هذا حکم العقل، نقول بانّ هذا السّائس لابدّ من أن یکون، مِنْ قبل اللّه تعالی، کما بیّن فی مقام لزوم بعث الرّسل والإمام أو مِنْ قبل النّبی أو مِنْ قبل الإمام وهو الفقیه؛

ویدل علیه ما تلونا علیک، من الأخبار الدّالة علی ولایة الفقیه، فما حکم به العقل حکم به الشرع أیضا؛

مضافا إلی أنّه لو لم یکن نص علی ولایة الفقیه، لابدّ بعد حکم العقل، بما قلنا من

لزوم وجود السائس والقیّم من أنّ المتیقن، هو الفقیه، لأنّه العارف بموازین الاسلامیة وسیر العباد، إلی سلوک مسلک الدّین، لا غیر الفقیه وهذا دلیل مستقل علی ولایة

ص: 303


1- 1 . دراسات فی ولایة الفقیه 1/(171-167).

الفقیه»(1).

وقال الفیلسوف الکبیر العلاّمة الشیخ محمّدتقی الجعفری رحمه الله فی شرحه علی نهج البلاغة ما نصه بالفارسیة: «حکومت و سیستم مدیریت جامعه در هر شکل عالی هم که باشد ناشی از مشاهدات و فعالیت ها و تجارب معمولی طبیعی است و هیچ گونه جنبه فوق طبیعی ندارد و حتّی نیازی به دریافت ها و تفکرات عقلانی والا ندارد، باید مورد تجدید نظر قرار بگیرد، زیرا موجودیت انسان یک حقیقت طبیعی محض نیست، بلکه دارای طبیعت ربانی نیز می باشد که بشر با قطع نظر از آن، محکوم به زیستن در تاریخ طبیعی حیوانی دارای ابعاد متنوع تر می باشد. از اینجا است که می توان گفت: آن گروه از زمامداران و حکّام جوامع که با امکان شکوفا ساختن هر دو بعد طبیعی و ربانی مردم، آنان را تنها با بعد طبیعی محض اداره کرده اند، قطعا مرتکب خطا شده اند. خلاصه اینکه ما حتما باید در ماهیت و طبیعت بشر، «آنچنان که هست» هر دو بعد موجودیت او را در نظر بگیریم و استعداد و طبیعت الهی را از قلمرو «آنچنان که هست» حذف نکنیم و این گناه نابخشودنی را که بشر را در همان طبیعت حیوانی او خلاصه می کند، مرتکب نشویم.

اینکه به افلاطون نسبت داده شده است: مُتْ بِالاْءِرادَةِ تَحیْی بِالْطَّبِیعَةِ (غرایز حیوانی خود را با اراده مهار کن تا با طبیعت حقیقی [ربانی] جان خود، جاودان بمانی.) اشاره به همین حقیقت است که طبعیت الهی و فوق طبیعی آدمی نیز، طبیعت یا ماهیت اصلی او محسوب می گردد.

از مجموع مطالب فوق به یک نتیجه بسیار بااهمیت می رسیم و این است که آن سخن جاودانی امیرالمؤمنین علیه السلام که می فرماید: لابُدَّ لِلنّاسِ مِنْ أَمیرٍ بَرٍّ أو فاجرٍ (برای مردم زمامداری لازم است خواه نیکوکار و خواه بدکار) [خطبه 40] نباید چنین تفسیر شود که حکومت صالح و ناصالح برای مدیریت حیات اجتماعی مردم به طور مطلق

ص: 304


1- 1 . الدلالة إلی من له الولایة /70.

مساوی است، بلکه عقلای جامعه همان گونه که دین الهی دستور می دهد باید نهایت

تلاش را برای به وجود آوردن حکومت صالحان انجام بدهند و این یک تکلیف قطعی و جهانی و عقل عملی و دینی است که گمان نمی رود حتّی یک فرد خردمند که از ماهیت و ارزش های حیات انسان ها، و هدف اصلی آن مطلع باشد، آن را انکار کند یا نادیده بگیرد.

البته در صورتی که دسترسی به حکومت صالحان امکان پذیر نباشد، و با هیچ سعی و تلاشی امکان چنان حکومتی وجود نداشته باشد، به مقتضای اصل اساسی ضرورت ادامه حیات فردی و اجتماعی حاکم غیرصالح نیز به جهت اضطرار، ضرورت پیدا می کند و اگر عدم صلاحیت حاکم در حدی باشد که زندگی انسان های جامعه به جهت احساس اهانت و ذلت شدید به پوچی برسد، در این صورت، قیام برای نصب حاکم صالح و براندازی ناصالح، تکلیف به تلاش و کوشش شدیدتر می گردد. این حکم بدیهی عقل نظری و عقل عملی است»(1).(2)

ص: 305


1- 1 . ترجمه و تفسیر نهج البلاغة 25/180 و 181.
2- 2 . قد تمّ تصحیح هذه الاوراق علی یدّ مؤلِّفها فی الحرم الرضوی - سلام اللّه علی صاحبه - فی اللیلة الجمعة السادس من شهر ذی القعدة الحرام سنة 1436 والحمد للّه علی کلّ النعمة.
3- إثبات ولایة الفقیه بأنّ الحکومة جوهرة الإسلام

الحکومة والسلطة والقدرة وحفظ النظام الاِجْتماعی للبشر من ذاتیات الإسلام وأرکانه وأجزائه الرَّئیسة ونسیجه الثانی وجوهرته الواقعی. وقال الإمام الخمینی رحمه الله : «من نظر إجمالاً إلی أحکام الإسلام، وبسطها فی جمیع شؤون المجتمع؛ من العبادیّات التی هی وظائف بین العباد وخالقهم، کالصلاة والحجّ، وإن کانت فیهما أیضا جهات اجتماعیّة وسیاسیّة مربوطة بالحیاة والمعیشة الدنیویّة، وقد غفل عنها المسلمون، ولا سیّما مثل ما فی الاجتماع فی الحجّ فی مهبط الوحی ومرکز ظهور الإسلام.

ومع الأسف، قد أغفلوا برکات هذا الاجتماع الذی سهّل تحقّقه لهم الشارع الأقدس بوجه لا یتحقّق لسائر الدول والملل إلاّ مع جهاد عظیم، ومصارف خطیرة.

ولو کان لهم رشد سیاسیّ واجتماعیّ، أمکن لهم حلّ الکثیر من المسائل المبتلی بها؛ بتبادل الأفکار، والتفاهم والتفکیر فی حاجاتهم السیاسیّة والاجتماعیّة.

وَمَن [سَبَرَ] القوانینَ الاقتصادیّةَ والحقوقیّةَ والاجتماعیّة والسیاسیّة، لرأی أنّ الإسلام لیس عبارة عن الأحکام العبادیّة والأخلاقیّة فحسب، کما زعم کثیر من شبّان المسلمین بل وشیوخهم؛ وذلک للتبلیغات المشؤومة المسمومة المستمرّة من الأجانب وعمّالهم فی بلاد المسلمین طیلة التاریخ؛ لأجل إسقاط الإسلام والمنتسبین إلیه عن أعین الشبّان وطلاّب العلوم الحدیثة، وإیجاد الافتراق والتباغض بین المسلمین قدیمهم وحدیثهم.

وقد وقفوا فی ذلک إلی حدّ لا یتیسّر لنا رفع هذه المزعمة والتهمة بسهولة، وفی أوقات غیر طویلة.

فعلی المسلمین - وفی طلیعتهم الروحانیّون وطلاّب العلوم الدینیّة - القیام بوجه تبلیغات أعداء الإسلام بأیّة وسیلة ممکنة، حتّی یظهر أنّ الإسلام قام لتأسیس حکومة

ص: 306

عادلة، فیها قوانین مربوطة بالمالیّات وبیت المال، وأخذها من جمیع الطبقات علی نهج عادل.

وقوانین مربوطة بالجزائیّات قصاصا وحدّا ودیةً؛ بوجه لو عمل بها لقلّت

الجنایات لو لم تنقطع، وانقطعت بذلک المفاسد المترتّبة علیها، کالتی تترتّب علی استعمال المسکرات من الجنایات والفواحش إلی ما شاء اللّه تعالی(1)، وما تترتّب علی الفواحش «ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ».

وقوانین مربوطة بالقضاء والحقوق علی نهج عادل وسهل، من غیر إتلاف الوقت والمال، کما هو المشاهد فی المحاکم الفعلیّة.

وقوانین مربوطة بالجهاد والدفاع والمعاهدات بین دولة الإسلام وغیرها.

فالإسلام أسّس حکومة لا علی نهج الاستبداد المحکّم فیه رأی الفرد ومیوله النفسانیّة فی المجتمع، ولا علی نهج المشروطة أو الجمهوریّة المؤسّسة علی القوانین البشریّة، التی تفرض تحکیم آراء جماعة من البشر علی المجتمع.

بل حکومة تستوحی وتستمدّ فی جمیع مجالاتها من القانون الإلهیّ، ولیس لأحد من الولاة الاستبداد برأیه، بل جمیع ما یجری فی الحکومة وشؤونها ولوازمها لابدّ وأن یکون علی طبق القانون الإلهیّ، حتّی الإطاعة لولاة الأمر.

نعم، للوالی أن یعمل فی الموضوعات علی طبق الصلاح للمسلمین، أو لأهل حوزته، ولیس ذلک استبدادا بالرأی، بل هو علی طبق الصلاح، فرأیه تبع للصلاح کعمله.

وبعد ما عرفت ذلک نقول: إنّ الأحکام الإلهیّة - سواء الأحکام المربوطة بالمالیّات، أو السیاسیّات، أو الحقوق - لم تنسخ، بل تبقی إلی یوم القیامة، ونفس بقاء تلک الأحکام یقضی بضرورة حکومة وولایة، تضمن حفظ سیادة القانون الإلهیّ، وتتکفّل بإجرائه، ولا یمکن إجراء أحکام اللّه إلاّ بها؛ لئلاّ یلزم الهرج والمرج.

ص: 307


1- 1 . لیس هذا التعبیر مُناسبا هُنا فإنَّ اللّه تعالی لا یُشاءُ استعمال المسکّرات ونحوها من المحظورات فلابدّ من تبدیله ب- «ما هُنالِکَ مِنَ الآفات المُبیرة أی المهلکة». [المؤلِّف]

مع أنّ حفظ النظام من الواجبات الأکیدة، واختلال أُمور المسلمین من الأُمور المبغوضة، ولا یقام بذا، ولا یسدّ هذا إلاّ بوال وحکومة.

مضافا إلی أنّ حفظ ثغور المسلمین من التهاجم، وبلادهم من غلبة المعتدین، واجب عقلاً وشرعا، ولا یمکن ذلک إلاّ بتشکیل الحکومة، وکلّ ذلک من أوضح ما یحتاج إلیه المسلمون، ولا یعقل ترک ذلک من الحکیم الصانع.

فما هو دلیل الإمامة، بعینه دلیل علی لزوم الحکومة بعد غیبة ولیّ الأمر - عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف - ، ولا سیّما مع هذه السنین المتمادیة، ولعلّها تطول - والعیاذ بالله -

إلی آلاف من السنین، والعلم عنده تعالی.

فهل یعقل من حکمة الباری الحکیم إهمال الاُمّة الإسلامیّة، وعدم تعیین تکلیف لهم، أو یرضی الحکیم بالهرج والمرج واختلال النظام، ولا یأتی بشرع قاطع للعذر؛ لئلاّ تکون للنّاس علیه حجّة؟!

وما ذکرناه وإن کان من واضحات العقل؛ فإنّ لزوم الحکومة - لبسط العدالة، والتعلیم والتربیة، وحفظ النظم، ورفع الظلم، وسدّ الثغور، والمنع عن تجاوز الأجانب - من أوضح أحکام العقول، من غیر فرق بین عصر وعصر، أو مصر ومصر، ومع ذلک فقد دلّ علیه الدلیل الشرعیّ أیضا»(1).

وقال الفقیه الشریعتمداری رحمه الله : «توضیح ذلک یقتضی ذکر مقدّمة مفیدة لازمة، وهی أنّ موقف مسألة الحکومة من الإسلام ماذا؟ هل تکون جزء من جوهر الإسلام، ومن أرکانه وأجزائه، أو شیء خارج عنه؟

فتارةً یتوهّم أنّ الإسلام مجموع سلسلة من النّصائح الخلقیّة التی یکون العمل بها أمرا اختیاریّا، أو لازما علی حدّ لزوم التّخلّق بالآداب الحسنة فیکون الإسلام بمنزلة ما نقل من الحکماء وفلاسفة الهند من المطالب الحکمیّة، وبمنزلة الأمثال التی تذکر بلسان الحیوانات وغیرها للتّذکیر والتّنبیه.

ص: 308


1- 1 . کتاب البیع 2/(620-617).

ولازم هذا التّوهّم أنّه لیس فی جواهر الإسلام قوانین بها تقدر علی إرادة المجتمع الإسلامی، بل الإسلام کلّه نصائح فنحو هذه المسائل: المجتمع الإسلامیّة کیف ینبغی أن یدار؟ ووظیفة الدّولة والحکومة بالنّسبة إلی النّاس، وکذلک وظیفة الرّعایا فی مقابل الدّولة والحکومة ماذا؟... لم یکن فی قوانین الإسلام موردا للتوجّه فعلی هذا النّوع من التّفکیر مسألة الحکومة مثل الاُمور العادیّة کالاکل والشّرب، والصّنعة وغیرها من الأُمور العادیّة اللازمة للمجتمع غیر داخلة فی تعالیم الإسلام لم یتعرّض لها الإسلام.

وربّما یذکر تأییدا لما یتوهّم سیرة عیسی علیه السلام فی عصره، وعدم تدخّله فی الحکومة، بل وصیّته لاُمّته بترک التّدخّل، حیث کان نظره الأعلی ومقصوده الغائی النّصح، تحریض اُمّته وأتباعه نحو عالم المعنی والملکوت؛ ولذا نقل عنه علیه السلام من جملة نصائحه هذه العبارة: «أُعطوا ما لقیصر لقیصر وما للّه للّه».

وتارة أُخری قد یتوهّم أنّ الحکومة الإسلامیّة فی صدر الإسلام فی زمن رسول اللّه صلی الله علیه و آله حدثت مصادفة من دون أن تدخل فی جوهر الإسلام کما کتب أحد کُتّاب أهل السّنّة قبل أربعین سنة تحت عنوان: «هل النّبیّ کان ملکا؟» واختار فی مطاوی کلماته أنّ النّبی صلی الله علیه و آله لم یکن ملکا، وتشکیل حکومته کان أمرا اتّفاقیّا، ولم تکن الحکومة جزء من قوانین الإسلام.

ولا یخفی علیک أنّ هذا الکتاب - وان کان مقصوده تنزیه الإسلام عمّا ارتکبه الأُمویّون والعباسیّون من أُمورٍ تنافی الإسلام مستدلاًّ علی ذلک بأنّ الإسلام دین منفصل عن الدّولة، ولیس من قواعده إنشاء حکومة إسلامیّة - إلاّ أنّه قد جافی الحقیقة فی هذا القول وخالف آراء جمیع علماء المسلمین، ولذلک اعترضوا علیه وحاکموه، وطردوه، ونشروا کتبا فی الردّ علیه، ووهن نظره الضّعیف.

وأنت بأدنی نَظَرٍ فی هذه التّوضیحات تعرف أنّ هذه الاوهام مبنیّة علی جعل مسألة الحکومة من المسائل المتروکة المغفول عنها، والحال أنّ الإسلام حکومة حقّة، ودولة إلآهیّة، وأنّها کانت من شؤون النّبوّة والرّسالة، وأنّ إمامة أئمّتنا المعیّنة من عند اللّه والمغصوبة من طرف النّاس لَیْسَتْ إلاّ بمعنی حقّ الحکومة الحقّة الحقیقیّة، أو الحکومة

ص: 309

داخلة فیها قطعا، بل ذلک من اُصول مذهبنا. فکیف تجعل موردا للبحث الفقهیّ الفرعیّ، ویستدلّ علیها بما لا یدلّ علیها تمام الدّلالة؟

نشأة الحکومة الإسلامیة:

ونحن فی هذا الصدد یلزم علینا أن نحدّد نشأة الحکومة الإسلامیة وموقعها التاریخی.

إنّ سیرة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله تنقسم إلی مرحلتین:

الاُولی فی مکّة: ویمکن اعتبار هذه المرحلة بعیدة عن تکوین الدّولة الإسلامیة، إنّما هی بدایة عامّة. فالظّروف الّتی سایرت الرّسول صلی الله علیه و آله وهو فی مکّة لم تساعده علی وضع اللَّبِناتِ الأُولی لحیاة حکومة الإسلام، فقد کان مشغولاً فی التّخطیط لزرع الدّعوة فی النّفوس، وجمع المسلمین حوله، وکشف أهمیّة الإسلام، ولم یکن النّاس علی استعداد لتفهّم ما یدعو إلیه الرّسول، لهذا ولأوّل وهلة وقفت قریش وأتباعها معارضة ومحاربة له ولدعوته، حتّی اضطرّ أن یشیر علی عدد من أتباعه أن یهاجروا إلی الحبشة سَلامَةً لأنفسهم من غدر المعارضین، وإلی آخر ما یحدّثنا التّاریخ من المآسی والأحداث الدامیّة

الّتی توجّهت إلی المسلمین فی هذه المرحلة.

الثانیة فی المدینة: ویمکن اعتبار هذه المرحلة هی الانطلاقة الواضحة لتکوین الدّولة الإسلامیّة، فقد حصل تحوّل خطیر فی سیاسة النّبیّ صلی الله علیه و آله ، وذلک بعد أن اطْمَأَنَّ فی المدینة إلی وجود المقوّمات الایجابیة للقیام بهذه المهمّة السماویّة، وأنّ أصحابه والصّفوة الطّاهرة من المهاجرین والأنصار بعیدة عن خطر قریش وظلمها، وسعة من العمل.

وبدأ الرّسول یشرّع القوانین الّتی تکفل سلامة الفرد علی ضوء الآیات النّازلة من اللّه سبحانه، ولو ألقینا نظرة علی الآیات الکریمة الّتی نزلت فی المرحلة الأُولی فی مکّة لرأیناها تتضمّن - جمیعها - النّصح والموعظة، والحثّ علی التّحلّی بِالأخلاقِ، وبعض الجوانب العقائدیّة، حتّی قیل إنّ الآیات الّتی نزلت فی مکّة وتخصّ الزکاة والصّلاة لم یقصد بها المعنی المصطلح. فی حین أنّ ما نزل من الآیات فی المدینة نری فیها التّشریع والتّقنین لتنظیم أُمور المسلمین، وسیاسة المجتمع، وعلاقاته بأفراده والآخرین، وکذلک

ص: 310

العلاقات الدّاخلیّة والخارجیّة، والنّظام المالیّ، وطبیعة الحکومة الّتی یجب أن تحکم وهکذا.

ولو حاولنا ضرب الامثلة القرآنیّة فی کثیر من الجوانب، والّتی عالجها الإسلام لضاق بنا المجال، ولم تکن مُعالَجَةُ الإسلام لجانب من الجوانب محدّدا لوقت من الاوقات، أو زمان من الازمنة إنّما هو فی واقعه قانون فیه قابِلِیَّةُ الاِستمرار والإدامة إلی أیّ عصرٍ وَآنٍ. وأستغرب جدّا مِنْ تَوَهُّم بعض الّذین لا یرون فی الإسلام قابلیّة استمراریّة الحکم فیه اعتقادا منهم أنّ قوانینه صالحة لظرف معیّن، وخاصّة فی صدر الإسلام، ویبنون رأیهم هذا علی أساس الجانب المالیّ فی الإسلام؛ فإنِّ الحکومةَ الإسلامیّةَ والّتی لابدّ أن تسایر التّطوّر العلمیّ لا یمکن أن تقیم قواعدها علی منبع مالیٍ کلّ إعتماده علی الزّکاة وأمثاله فی حین أنّ مستلزمات تأسیس الحکومة تقتضی منبعا مالیّا واسعا.

غیر أنّنا نؤکّد - وَنَحْنُ فی صدد الردّ - لأمثال هؤلاء الذّاهبین بعیدا عن تفهّم حقیقة الإسلام أنّ الإسلام فی حیاته المادیّة، وتسییر دفّة حکومته لم یعتمد علی هذا الْجانِبِ الضّئیل من الموارد المالیّة، فهناک جوانب اُخری تکفل للإسلام الإستمرار المالیّ عند تشکیل حکومته، ودیمومتها إذ للحاکم الشّرعی - سواء کان النّبی صلی الله علیه و آله ، أو من بعده الأئمّة علیهم السلام أو من یتولّی السلطة الشرعیّة من بعدهم - أن یلزموا الأُمّةَ بأداء الأموال الکافیة لسدّ حاجة ومتطلّبات الحکومة الإسلامیة.

إنَّ الحکومةَ الإسلامیّةَ الّتی نبحث عنها، وهی حکومة الرّسول الأعظم والأئمة [الطّاهِرِیْنَ] الکرام تختلف کلّ اختلاف عن الحکومات الّتی سبقت الإسلام، أو الّتی جاءت بعد ظهوره والّتی تعتمد التّشریعات الوضعیّة؛ ذلک لانّ الحکومة الإسلامیّة هی من تخطیط اللّه سبحانه، وهو خالق الکون والانسان، وهو أعرف من غیره بمصلحة البشر. فعند ما یضع القوانین للإنسانیّة - الّتی یختار لهم حتما الصّالح لبقائها - لابدّ أن تتوفّر فیها کلّ المقوّمات الکافیة لحفظ البشریّة.

أمّا القوانین الوضعیّة، فهی تعتمد الحسّ والتّجربة، وهذه القوانین المبنیّة علی هذین الأساسین تتعرّض دائما للتّغییر والتّحریر، ولم تتمکّن من إعطاء الصّورة الکاملة

ص: 311

للحکم کما یتجلّی ذلک فی الحکومات الرأسمالیّة، والشّیوعیّة، والدیمقراطیّة، والاستبدادیّة المطلقة وأمثال ذلک. فانّنا نری أنّ قوانینها دائما معرّضه للتّحویر والتّصحیح والتّبدیل، فی حین أنّ القرآن - ذلک الدّستور الخالد - لم یتغیّر، ولم یتبدّل رغم مرور هذه الحقبة الطویلة من الأعوام، وأنّه یملک القابلیّة الکافیة للحکم بموجبه.

ویؤسفنا أنّ الظّروف القاسیة الّتی صاحبت(1) مسیرة الإسلام قد أوقفت جری الحکومة الإسلامیّة من الاستمرار نتیجة الانحرافات، والإتّجاهات الّتی تعرّض لها فی طول هذه القرون.

وبالجملة: من الواضحات التّاریخیّة أنّ هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله ، ومن تبعه من المسلمین من مکّة إلی المدینة لیست أمرا عادیّا، بأن عاش صلی الله علیه و آله مدّة فی مکّة، ثمّ هاجر وسافر إلی المدینة وأقام فیها من دون هدف إسلامی خاصّ، بل هی مبدأ تحوّل خطیر فی الإسلام، ومشخّصة للدّورتین والمرحلتین الْمُمْتازَتَیْنِ: المرحلة الأولی فی مکّة، والمرحلة الثّانیة فی المدینة.

النّظر الدّقیق فی التّواریخ المعتبرة الإسلامیّة یعطینا أنّ کلّ واحدة منهما تمتاز عن الأُخری بممیّزات، ومشخّصات.

فمنها: أنّه فی الزّمن الّذی عاش فیه النّبیّ صلی الله علیه و آله فی مکّة لم تکن قد تکوّنت الحکومة الحقّة بالمعنی الصّحیح لها بعد، وکان المسلمون فیها متفرّقین ومتشتّتین ومستضعفین، بحیث کانوا تارةً محصورین فی شِعْبِ أبیطالب خوفا من الکفّار والمشرکین، وتارةً

مهاجرین إلی الحبشة خوفا، أو معذّبین بأنواع العذاب الّذی ذُکِرَتْ تَفاصِیْلُهُ فی التّواریخ المعتبرة الموجودة.

أمّا بعد هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله ، ومن تبعه من المسلمین إلی المدینة المنوّرة فقد حصل مبدأ تحوّل کبیرٍ فی العالم الإسلامیّ، وتکوّنت الحکومة الحقّة، وحدثت قدرة وتحوّل للإسلام من جهات مختلفة. وقد ترتّبت علیها آثارٌ إسْلامِیَّةٌ متعدّدة کما یظهر لمن تأمّل

ص: 312


1- 1 . الأَوْلی أنْ یُقالَ: زامَنَتْ. [المؤلّف]

فی الآیات القرآنیّة أدنی تأمّل، حیث أنّ الآیات النّازلة فی مکّة تفترق عن الآیات النّازلة فی المدینة المنوّرة من جهاتٍ شتّی، ونحن نتعرّض هنا لبعضها إجمالاً حذرا عن الإطالة.

منها: أنّ الآیاتِ النّازلةَ فی مکّة أکثرها تتضمّن ما یکون مناسبا لحال النّبیّ وأتباعه، فهی تتضمّن العقائد والخلقیّات، والمواعظ والنّصائح، وذمّ المنکرین والمخالفین، وقلّما تتضمّن شیئا من التّشریع، بل قیل انّ آیات الزّکاة والصّلاة الّتی نزلت فی مکّة لم یقصد منها الصّلاة والزّکاة - بالمعنی التّشریعیّ المصطلح - بخلاف الآیات الّتی نزلت فی المدینة المنوّرة فانّ أکثرها یتضمّن تشریعا وتقنینا.

والدّلیل علی ذلک سورتا البقرة والنّساء - وهما مدنیّتان - وأکثر آیات التّشریع موجودة فیهما؛ وما ذلک إلاّ لانّ الوضع کان قد تغیّر وتبدّل من الضّعف إلی القوّة، وأصبحوا مهیّئین لتأسیس حکومة لهم، واقتضت تشریع أحکام وتأسیس أساس بها تجری الحکومة الإسلامیّة والدّولة الحقّة.

والشّاهد علی أنّ الحکومة الإسلامیّة تکوّنت وحدثت بعد الهجرة إلی المدینة وجود کلّ خواصّ الحکومة ومقوّماتها فی المسلمین فی المدینة کتشریع القوانین لتنظیم أُمور المسلمین فیما بینهم، وتقنین قوانین للعلاقات الخارجیّة مع الدّول والملل وضرائب یقوم بها أساس الحکومة وقوامها.

أمّا من جملة القوانین الّتی وضعت لإیجاد النّظم والصّلاح فی البلاد الإسلامیّة فیما بینهم، فَهُوَ ما وُضِعَ لحفظ أموال المسلمین من السَّرِقَةِ والإتلاف وغیرهما من طرق التّطاول والتّعدّی إلی أموال المسلمین - وهو قانون قطع أیدی السّارق والسّارقة - کما یدلّ علیه قوله تعالی: «السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما»(1).

ومنها: ما وضع من القوانین لحفظ الأعراض والتّعفّف فی النّساء المسلمات ومنع

نفوذ الفساد فی المجتمع الإسلامی بشیوع الزّنا ونشره کما یدلّ علی قوله تعالی: «الزّانِیَةُ

ص: 313


1- 1 . سورة المائدة /38.

وَالزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»(1) وکذلک شرّع الإسلام قوانین لأجل حفظ دماء النّاس مثل قانون القصاص مثل قوله تعالی: «وَلَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الاْءَلْبابِ»(2) وقانون الحدود والتّعزیرات لحفظ حرمة القانون الإسلامی وسدّ باب ارتکاب الذنب والفساد فی البلاد الإسلامیّة قهرا، وکذلک لأجل حفظ الامن والسّلم والثّبات فی البلاد المختلفة الإسلامیّة وضع هذا القانون: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الاْءَرْضِ فَسادا أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الاْءَرْضِ...»(3). وبهذا الکلام الموجز أنت تعلم أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله کان له سلطة لتنفیذ العقوبات الشّرعیّة من نَفْیٍ، أو صَلْبٍ، أَوْ قَتْلٍ، أو قَطْعِ یَدٍ، أو جَلْدٍ فی صورة الإخلال بالقانون الإسلامیّ الرّاجع إلی صلاح الشّعب الإسلامی، وکلّ ذلک من مظاهر الحکومة الإسلامیّة.

وممّا ذکرنا ظهر لک أنّ القول بأنّ حکومة النبیّ صلی الله علیه و آله کانت مصادفة، وأمرا اتّفاقیّا ولم تکن الحکومة موجودة فی جوهر الإسلام، ولم تکن شواهد علی أنّ الإسلام حکومة، غیر تامّ؛ لانّ تلک الموارد الّتی نقلنا قلیلاً منها أوضح شاهد علی ما ادّعیناه، وردّ علی هذا القول.

وأمّا القوانین الإسلامیّة التی شرّعت لتنظیم العلاقات الخارجیّة مع الدّول، والملل الأجنبیّة فهی أیضا کثیرة؛ وکلّها حادثة بعد اجتماع المسلمین فی المدینة وتوفّر القدرة لهم علی انشاء الحکومة الإسلامیّة، والکتاب الکریم یشیر إلی ذلک، ومنها الإشارة إلی معاهدة کانت بین المسلمین والکفّار اقتضتها مصلحة المسلمین، ونزلت البراءة منها ومنهم لنقضهم العهد الّذی کان بینهم.

وذلک فی قوله تعالی فی سورة البراءة: «بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَی الَّذِینَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِکِینَ»، وکذلک المعاهدة مع أهل الکتاب، کما ورد فی التّاریخ المعتبر

ص: 314


1- 1 . سورة النّور /2.
2- 2 . سورة البقرة /176.
3- 3 . سورة المائدة /33.

أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله عاهد أهل الکتاب لأوّل عهده بالمدینة، وکانت تلک المعاهدة أوّل حجرٍ فی بناء الدّولة الإسلامیّة، وأوّل علاقة سیاسیّة تقرّر حرّیة التّدیّن فی العبادة والعقائد،

وتحافظ علی الأمن والسّلام.

ومنها: تشریع قانون الجهاد فی الإسلام مع الکفّار بشروطه المقرّرة فی مُحَلِّها.

والقول بأنّ غزوات الإسلام، وجهاد المسلمین کان کلّ ذلک دفاعیّا صحیح، إلاّ أنّه لا ینفی وجود قانون إسلامیّ خاصّ بالحرب. ومعلوم أنّ الجهاد وغیره یستلزم وجود القدرة فی المسلمین، ووجود مجتمع کامل لهم، وکلّ ذلک من مظاهر الحکومة الإسلامیّة»(1).

وقال بعض أَساتِذَتِنا رحمه الله : «قد عرفت ضرورة الحکومة وحفظ النظام الاجتماعی للبشر، وانَّ الهرج والمرج الاجتماعی مما یدرک ضرره وقبحه کل عاقل من أی أمّة أو ملّة کان.

والمُراجِعُ للکتابِ والسُّنَّةِ وَفِقْهِ مَذاهبِ الإسلام من الشیعة والسُّنَّةِ یظهر له بالبداهة أنّ دین الاسلام الذی جاء به النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لم تَنْحَصِرْ أحکامه فی أمور عبادیة ومراسیم وآداب فردیة فقط، بل هو جامع لجمیع ما یحتاج إلیه الانسان فی مراحل حیاته الفردیة والعائلیة والاجتماعیة من المعارف والأخلاق والعبادات والمعاملات والسیاسات والاقتصاد والعلاقات الداخلیة والخارجیة. فهو بنفسه نظام کامل یجمع الاقتصاد والسیاسة أیضا.

والتتبع فی أخبار الفریقین وفتاواهم فی الأبواب المختلفة لفقه الإسلام یرشدنا إلی کون الحکومة وتنفیذ المقررات أیضا داخلة فی نسج الاسلام ونظامه. فالاسلام بذاته دین ودولة، وعبادة واقتصاد وسیاسة.

فتری النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بعد هجرته إلی المدینة باشر بتأسیس أوّل دولة اسلامیة عادلة، وقد مهّد لها مقدماتها من أخذ البیعة من القبائل والوفود وعقد میثاق الأُخوة بین

ص: 315


1- 1 . تحقیقٌ وتقریراتٌ فی باب البیع والخیارات 4/(52-45).

المهاجرین والأنصار والمعاهدة بینهم وبین یهود المدینة. وأقام مسجدا جعله مرکزا لتجمّع المسلمین وموضعا لصلواتهم ولنشاطاتهم الاجتماعیة والسیاسیة.

وراسل الملوک والأُمراء فی البلاد وکتب إلیهم یدعوهم إلی الإسلام والدخول تحت ظلّ حکومته.

ولم یقنع ببیان الأحکام وإقامة الصلوات والتبلیغ والارشاد فقط. بل کان ینفّذ

حدود الإسلام وأحکامه ویبعث العمّال والولاة ویطالب بالضرائب والمالیات ویجهّز الجیوش ویقاتل المشرکین والمناوئین، إلی غیر ذلک من شؤون الحکومة، فهذه کانت سیرته فی حیاته. وقد کان الحکم الذی قام به صلی الله علیه و آله فی عصره مع قصر مدته حکما فریدا لم تعرف البشریة إلی الآن له شبیها فی سهولته وسذاجته وما وجد فیه الناس من عدل وحرّیة ومساواة وایثار، وقد أذْعَنَ بذلک المؤرخون من غیر المسلمین أیضا.

وبعد وفاته صلی الله علیه و آله لَمْ یشکّ أحد من المسلمین فی الاحتیاج إلی الحکومة، بل أجمعوا علی وجوبها وضرورتها. وإنّما وقع الخلاف بین الفریقین فی أنّه صلی الله علیه و آله هل نصب امیرالمؤمنین علیه السلام والیا أو إنّه أهمل أمر الخلافة وفوضّه إلی المسلمین. فالشیعة الامامیة تعتقد أنّ النبی صلی الله علیه و آله قد عیّن أمیرالمؤمنین علیه السلام فی غدیر خمّ وفی غیره من المواقف ونصبه لتصدّی الولایة بعد وفاته. والسنة یقولون بانعقاد الامامة بعده صلی الله علیه و آله بالشوری وانتخاب أهل الحلّ والعقد. وکیف کان فرسول اللّه صلی الله علیه و آله مضافا إلی نبوته ورسالته کان بنصّ القرآن الکریم اَوْلی بالمؤمنین من أنفسهم وکان له الولایة علیهم، وکذلک الأئمّة الاثناعشر عندنا کان لهم حق الولایة. والبحث بحث کلامی یطلب من محله.

وتمتاز الحکومة الاسلامیة عن الحکومة الدیموقراطیة الغربیة الدارجة بوجوه:

منها: ان الحاکم فی الحکومة الاسلامیة یجب أن یکون أَعْلَمَ النّاس وأعدلهم وأتقاهم وأقواهم بالأمر وأبصرهم بمواقع الأمور. ففی عصر النبی صلی الله علیه و آله کان هو بنفسه اَوْلی بالمؤمنین من أنفسهم وکانت له الولایة علیهم من قبل اللّه - تعالی - . وبعده کانت الولایة عندنا حقا للأئمة الأثنی عشر، وفی عصر الغیبة للفقیه العادل العالم بزمانه البصیر بالأمور والحوادث الرؤوف الحافظ لحقوق النّاس حتّی الأقلیات غیر المسلمة، فلا یجوز للأمة

ص: 316

انتخاب غیره.

ومنها: ان الحکومة الاسلامیة بشعبها الثَّلاثِ من التشریع والقضاء والتنفیذ تتقیّد بموازین الاسلام وقوانینه العادلة النازلة من قبل اللّه - تعالی - العالم بمصالح خلقه، فلا یجوز التخلف عنها. فالحاکم فی الحقیقة هو اللّه - تعالی - والوالی منفّذ لأَحکامه. وقد یعبّر عن هذه الحکومة بالحکومة التئوقراطیة بمعنی حکومة القانون الإلهی علی المجتمع.

وأما فی النظام الدیموقراطی الانتخابی الدارج فملاک الانتخاب فیه رضا الناخبین، والهدف منه تحقیق أهوائهم ومشتهیاتهم کیف ما کانت، فلا یتقید الناخب ولا المنتخب لا بمقررات شرعیة ولا بمصالح عقلیة وفضائل أخلاقیة»(1).

وقال آیة اللّه الشیخ محمّدإسحاق الفیاض - دام ظله - : «الحکومة الإسلامیة الشرعیة هی الحکومة القائمة علی أساس مبدأ الحاکمیة للّه وحده لا شریک له، والسلطة الحاکمة فیها تتمثل فی ولی أمر المسلمین وهو منصوب من قبل اللّه تعالی فی زمن الحضور والغیبة معا.

أما فی زمن الحضور فأنّه منصوب بالتخصیص بالاسم والشخص والصفات.

وأما فی زمن الغیبة فإنّه منصوب بالتنصیص بالصفات فقط کصفة الفقاهة التی هی متمثلة بالفقه الجامع للشرائط منها الأعلمیة.

ثمّ أن ثبوت الولایة والزعامة الدینیة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیهم السلام واضح ولا کلام ولا إشکال فیه لأنّ القدر المتیقن من قوله تعالی فی الآیة المبارکة: «وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ» هو الأئمة الأطهار علیهم السلام هذا مضافا إلی الروایات الدالة علی ذلک.

وإنّما الکلام والإشکال فی ثبوت الولایة والزعامة الدینیة للفقیه الجامع للشرائط ولا یمکن إثبات هذه الولایة بالنص لأن الروایات التی استدل بها علی ثبوت الولایة للفقیه بأجمعها ضعیفة من ناحیة السند فلا یمکن الاعتماد علیها ومن هنا فالمشهور بین الفقهاء عدم ثبوت الولایة للفقیه هذا.

ص: 317


1- 1 . دراسات فی ولایة الفقیه 1/(10-8).

ولکن الصحیح ثبوت هذه الولایة له وهو لا یحتاج إلی دلیل خارجی لأن امتداد الشریعة المقدسه وخلودها یتطلب امتداد الولایة والزعامة الدینیة المتمثلة فی زمن الحضور برسالة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وبعده بإمامة الأئمة الأطهار علیهم السلام ، وفی زمن الغیبة بفقاهة الفقیه الجامع للشرائط منها الأعلمیة إذ لا یمکن افتراض امتداد الشریعة وخلودها بدون افتراض امتداد الولایة والزعامة الدینیة، ضرورة أن الشریعة فی کل عصر بحاجة إلی التطبیق والتنفیذ وإجراء الحدود والحفاظ علی الحقوق والاهتمام بمبدأ العدالة والتوازن بین طبقات الأمة، فإذن بطبیعة الحال ما هو ثابت للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیهم السلام فی زمن الحضور فی الدین الإسلامی فهو ثابت للفقیه الجامع للشرائط فی عصر الغیبة فإذا فرضنا أنّ الفقیه کان مبسوط الید ولم تکن هناک عوائق وموانع عن تشکیل الدولة الإسلامیة علی أساس مبدأ حاکمیة الدین فیجب علیه أن یقوم بتشکیل الدولة کذلک ومن الواضح أن تشکیل الدولة الإسلامیة بتمام أرکانها ومکوناتها لا یمکن

بدون ثبوت الولایة والصلاحیة الواسعة للفقیه فی سَنِّ القانون والتشریع حسب متطلبات الظروف وحاجة الوقت ومصالح النّاس العامة فی حدود منطقة الفراغ لأنّ ترک الإسلام هذه المنطقة بدون تشریع لزومی بعنوان أولی یدلّ علی أنّه تعالی جعل صلاحیة التشریع فی هذه المنطقة لولی الأمر بعنوان ثانوی حسب متطلبات الوقت وحاجة البلد فی کل عصر کما سوف نشیر إلیه.

الی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أن ثبوت الولایة والزعامة الدینیة للفقیه الجامع للشرائط لا تحتاج إلی أی دلیل خاص خارجی لأنه مقتضی القاعدة حیث أن امتداد الشریعة وخلودها یقتضی امتداد الولایة والزعامة الدینیة علیها.

ومما ذکرناه فقد ظهر الفرق بین السلطة الحاکمة فی الحکومة الشرعیة حیث هی متعینة من قبل اللّه تعالی فی زمن الحضور والغیبة معا وبین السلطة الحاکمة فی الحکومات غیر الشرعیة حیث هی متعینة بالانتخابات الحرة أو بالقوة والانقلاب.

ثمّ إن للسلطة الحاکمة فی الحکومة الشرعیة صلاحیة واسعة فی تنفیذ الدستور الإلهی من جهة، والتشریع وسنّ القانون فی أجهزة الدولة کافة: الاقتصادیة والتعلیمیة

ص: 318

والاجتماعیة والحقوقیة والإداریة وجهاز الأمن والمخابرات والشرطة والجیش وغیرها حسب الظروف ومتطلبات حاجة الوقت ومصالح البلد العامة فی حدود منطقة الفراغ من جهة أخری، والهدف من وراء کل ذلک هو تحقیق مبدأ العدالة الاجتماعیة والتوازن بین طبقات الأمة والاستقرار والأمن هذا من جانب.

ومن جانب آخر إنّ الفرق بین الحکومة الشرعیة والحکومة غیر الشرعیة إنّما هو علی أساس مذهب الشیعة الإمامیة لأنّ الحکومة علی ضوء هذا المذهب إنّما تکون شرعیة إذا کانت قائمة علی أساس مبدأ حاکمیة الدین بأن یکون تعیین السلطة الحاکمة من قبل اللّه عزّ وجلّ سواء أکان فی زمن الحضور أم فی زمن الغیبة، إذ کما أن ولایة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیهم السلام تکون من قبل اللّه تعالی کذلک ولایة الفقیه الجامع للشرائط فی زمن الغیبة.

فالنتیجة إنّ الولایة والخلافة علی أساس مذهب الشیعة الإمامیة مجعولة من قبل اللّه عزّ وجلّ سواء أکانت فی زمن الحضور أم فی زمن الغیبة وأمّا علی أساس مذهب أهل السنة فالمجعول من قبل اللّه تعالی إنّما هو ولایة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله فحسب وأما خلافة الخلفاء وولایتهم فإنّما هی ثابتة عندهم بالإجماع وآراء النّاس لا بنص من اللّه تعالی.

وعلی هذا فکل حاکم فی البلاد الإسلامیة إذا ثبتت حکومته علی النّاس بالانتخابات الحرة النزیهة یعنی بآراء النّاس فهو ولی أمر المسلمین وحکمه نافذ وحکومته حکومة إسلامیة شرعیة عند أهل السنة هذا هو الفرق بین مذهب الشیعة الإثنی عشریة ومذهب أهل السنة.

ثمّ إن الحکومة الإسلامیة القائمة علی أساس مبدأ الدین قد شکلت فی عصر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بیده المبارکة وبکافة أجهزتها وقد ظهرت فی الساحة ونجحت فی هذا التطبیق، أی تطبیق الحکومة الإسلامیة علی الساحة نجاحا باهرا رغم قصر عمرها»(1).

ص: 319


1- 1 . الأُنموذج فی منهج الحکومة الاسلامیة /(15-9)؛ المسائل المستحدثة، الحکومة الاسلامیة /(10-7).
تتمةٌ: حدود اختیارات ولیّ الفقیه

أحسن مقال فیها ما أبدعه الشهید آیة اللّه السیّد محمّدباقر الصدر رحمه الله (1353-1400ق) تحت عنوان «منطقة الفراغ» وطرحها أوّلاً فی التشریع الاقتصادی فی کتابه «إقتصادنا» ثمّ عمّمها للسلطة التشریعیة فی الحکومة الإسلامیة المؤسسة علی نظریة ولایة الفقیه.

قال قدس سره فی کتابه «اقتصادنا»: «وحیث جئنا علی ذکر منطقة الفراغ فی التشریع الإقتصادی، یجب أن نعطی هذا الفراغ أهمیة کبیرة خلال عملیة اکتشاف المذهب الاقتصادی، لأنه یمثل جانبا من المذهب الاقتصادی فی الإسلام. فإنّ المذهب الاقتصادی فی الإسلام یشتمل علی جانبین: أحدهما: قد ملیء من قبل الإسلام بصورة منجزة، لا تقبل التغییر والتبدیل. والآخر: یشکّل منطقة الفراغ فی المذهب قد ترک الإسلام مهمة ملئها إلی الدولة أو (ولی الأمر) یملؤها وفقا لمتطلبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامی، ومقتضیاتها فی کل زمان.

ونحن حین نقول: «منطقة فراغ»، فإنّما نعنی ذلک بالنسبة إلی الشریعة الإسلامیة ونصوصها التشریعیة، لا بالنسبة إلی الواقع التطبیقی للإسلام، الذی عاشته الأمة فی عهد النبوة. فإنّ النبی الأعظم صلی الله علیه و آله قد ملأ ذلک الفراغ بما کانت تتطلبه أهداف الشریعة فی المجال الإقتصادی، علی ضوء الظروف التی کان المجتمع الإسلامی یعیشها، غیر أنّه صلی الله علیه و آله حین قام بعملیة مل ء هذا الفراغ لم یملأه بوصفه نبیّا مبلغا للشریعة الإلهیة، الثابتة فی کل مکان وزمان، لیکون هذا المل ء الخاص من سیرة النبی لذلک الفراغ... معبرا عن صیغ

ص: 320

تشریعیة ثابتة، وإنّما ملأه بوصفه ولی الأمر، المکلف من قبل الشریعة بمل ء منطقة الفراغ وفقا للظرف.

ونرید أن نخلص من هذا إلی النتائج الآتیة:

أوّلاً: أن تقویم المذهب الاقتصادی فی الإسلام لا یمکن أن یتم بدون إدراج منطقة الفراغ ضمن البحث، وتقدیر إمکانات هذا الفراغ، ومدی ما یمکن أن نساهم عملیة ملئه مع المنطقة التی ملئت من قبل الشریعة ابتداءً... فی تحقیق أهداف الاقتصاد الإسلامی.

وأما إذا أهملنا منطقة الفراغ ودورها الخطیر، فإن معنی ذلک تجزئیة إمکانیات الاقتصاد الإسلامی، والنظر إلی العناصر الساکنة فیه دون العناصر الحرکیة.

وثانیا: أن نوعیة التشریعات التی ملأ النبی صلی الله علیه و آله بها منطقة الفراغ من المذهب، بوصفه ولی الأمر... لیست أحکاما دائمیة بطبیعتها، لأنها لم تصدر من النبی بوصفه مبلغا للأحکام العامة الثابتة، بل باعتباره حاکما وولیا للمسلمین. فهی إذن لا تعتبر جزءا ثابتا من المذهب الاقتصادی فی الإسلام، ولکنها تلقی ضوءا إلی حد کبیر علی عملیة مل ء الفراغ التی یجب أن تمارس فی کل حین وفقا للظروف، وتیسر فهم الأهداف الأساسیة التی توخاها النبی صلی الله علیه و آله فی سیاسته الاقتصادیة، الأمر الذی یساعد علی مل ء منطقة الفراغ دائما فی ضوء تلک الأهداف.

وثالثا: إنّ المذهب الاقتصادی فی الإسلام، یرتبط علی هذا الأساس ارتباطا کاملاً بنظام الحکم فی مجال التطبیق، فما لو یوجد حاکم أو جهاز حاکم یتمتع بنفس ما کان الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله یتمتع به من الصلاحیات، بوصفه حاکما لا بوصفه نبیّا لا یتاح مل ء منطقة الفراغ فی المذهب الإقتصادی بما تفرضه الأهداف الاقتصادی کاملاً، بنحو نقطف ثماره ونحقق أهدافه.

ومن الواضح أن هذا الکتاب ما دام یبحث فی المذهب الاقتصادی، فلیس من وظیفته أن یتکلم عن نظام الحکم فی الإسلام، ونوعیة الشخص أو الجهاز الذی یصح أن یخلف الرسول شرعا فی ولایته وصلاحیاته، بوصفه حاکما، ولا عن الشروط التی یجب أن تتوفر فی ذلک الفرد أو الجهاز... فإنّ ذلک کلّه خارج عن الصدد. ولهذا سوف نفترض

ص: 321

فی بحوث الکتاب حاکما شرعیا، یسمح له الإسلام بمباشرة صلاحیات النبی کحاکم، ونستخدم هذا الافتراض فی سبیل تسهیل الحدیث عن المذهب الاقتصادی ومنطقة الفراغ فیه، وتصویر ما یمکن أن یحققه من أهداف ویقدمه من ثمار.

وأما لماذا ترکت فی المذهب الاقتصادی الإسلامی منطقة فراغ، لم تملأ من قبل الشریعة ابتداءً بأحکام ثابتة؟، وما هی الفکرة التی تبرر وجود هذه المنطقة فی المذهب، وترک أمر ملئها إلی الحاکم؟، وبالتالی ما هی حدود منطقة الفراغ علی ضوء الأدلة فی الفقه

الإسلامی؟ کل ذلک سوف نجیب علیه فی البحوث المقبلة إن شاء اللّه تعالی»(1).

ثمّ قال فی أواخر کتابه: «والفکرة الأساسیة لمنطقة الفراغ هذه، تقوم علی أساس: أن الإسلام لا یقدم مبادئه التشریعیة للحیاة الاقتصادیة بوصفها علاجا موقوتا، أو تنظیما مرحلیا، یجتازه التاریخ بعد فترة من الزمن إلی شکل آخر من أشکال التنظیم. وإنّما یقدمها باعتبارها الصورة النظریة الصالحة لجمیع العصور. فکان لابدّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستیعاب، أن ینعکس تطور العصور فیها، ضمن عنصر متحرک، یمد الصورة بالقدرة علی التکلیف وفقا لظروف مختلفة.

ولکی نستوعب تفصیلات هذه الفکرة یجب أن نحدد الجانب المتطور من حیاة الانسان الاقتصادیة، ومدی تأثیره علی الصورة التشریعیة التی تنظم تلک الحیاة.

فهناک فی الحیاة الاقتصادیة علاقات الانسان بالطبیعة، أو الثروة التی تتمثل فی أسالیب انتاجه لها، وسیطرته علیها وعلاقات الانسان بأخیه الانسان، التی تنعکس فی الحقوق والامتیازات الّتی یحصل علیها هذا أو ذلک.

والفارق بین هذین النوعین من العلاقات: أنّ الإنسان یمارس النوع الأوّل من العلاقات، سواء کان یعیش ضمن جماعة أم کان منفصلاً عنها، فهو یشتبک علی أیِّ حال مع الطبیعة فی علاقات معینة، یحددها مستوی خبرته ومعرفته، فیصطاد الطیر، ویزرع الأرض، ویستخرج الفحم، ویغزل الصوف بالأسالیب التی یجیدها. فهذه العلاقات

ص: 322


1- 1 . اقتصادنا /(402-400).

بطبیعتها لا یتوقف قیامها بین الطبیعة والانسان علی وجوده ضمن جماعة. وإنما أثر الجماعة علی هذه العلاقات، أنها تؤدی إلی تجمیع خبرات وتجارب متعددة، وتنمیة الرصید البشری لمعرفة الطبیعة، وتوسعة حاجات الانسان ورغباته تبعا لذلک.

وأما علاقات الانسان بالانسان، التی تحددها الحقوق والامتیازات والواجبات، فهی بطبیعتها تتوقف علی وجود الانسان ضمن الجماعة. فما لم یکن الانسان کذلک، لا یقدم علی جعل حقوق له وواجبات علیه. فحق الانسان فی الأرض التی أحیاها، وحرمانه من الکسب بدون عمل عن طریق الربا، والزامه بإشباع حاجات الآخرین من ماء العین التی استنبطها، إذا کان زائدا علی حاجته... کل هذه العلاقات لا معنی لها إلاّ فی ظل جماعة.

والإسلام - کما نتصوره - یمیز بین هذین النوعین من العلاقات. فهو یری أن علاقات الانسان بالطبیعة أو الثروة، تتطور عبر الزمن، تبعا للمشاکل المتجددة التی یواجهها الانسان باستمرار وتتابع، خلال ممارسته للطبیعة، والحلول المتنوعة التی یتغلب بها علی تلک المشاکل. وکلما تطورت علاقاته بالطبیعة ازداد سیطرد علیها، وقوة فی وسائله وأسالیبه.

وأما علاقات الانسان بأخیه، فهی لیست متطورة بطبیعتها، لأنها تعالج مشاکل ثابتة جوهریا، مهما اختلف اطارها ومظهرها. فکل جماعة تسیطر خلال علاقاتها بالطبیعة علی ثروة، تواجه مشکلة توزیعها، وتحدید حقوق الأفراد والجماعة فیها، سواء کان الانتاج لدی الجماعة علی مستوی البخار والکهرباء، أم علی مستوی الطاحونة الیدویة.

ولأجل ذلک یری الإسلام: أن الصورة التشریعیة التی ینظم بها تلک العلاقات، وفقا لتصوراته للعدالة... قابلة للبقاء والثبات من الناحیة النظریة لأنها تعالج مشاکل ثابتة. فالمبدأ التشریعی القائل - مثلاً - : إن الحق الخاص فی المصادر الطبیعیة یقوم علی أساس العمل. یعالج مشکلة عامة یستوی فیها عصر المحراث البسیط وعصر الآلة المعقدة، لأن طریقة توزیع المصادر الطبیعیة علی الأفراد، مسألة قائمة فی کلا العصرین.

ص: 323

والإسلام فی هذا یخالف المارکسیة، التی تعتقد أن علاقات الانسان بأخیه، تتطور تبعا لتطور علاقاته بالطبیعة، وتربط شکل التوزیع بطریقة الانتاج، وترفض امکان بحث مشاکل الجماعة، إلاّ فی إطار علاقتها بالطبیعة، کما مرّ بنا عرضه ونقده فی بحوث الکتاب الأوّل من اقتصادنا.

ومن الطبیعی - علی هذا الأساس - أن یقدم الإسلام مبادئه النظریة والتشریعیة، بوصفها قادرة علی تنظیم علاقات الانسان بالانسان فی عصور مختلفة.

ولکن هذا لا یعنی جواز إهمال الجانب المتطور، وهو علاقات الانسان بالطبیعة واخراج تأثیر هذا الجانب من الحساب فان تطور قدرة الانسان علی الطبیعة، ونمو سیطرته علی ثرواتها، یطور وینمی باستمرار خطر الانسان علی الجماعة، ویضع فی خدمته باستمرار امکانات جدیدة للتوسع، ولتهدید الصورة المتبناة للعدالة الاجتماعیة.

فالمبدأ التشریعی القائل مثلاً: ان من عمل فی أرض، وأنفق علیها جهدا حتّی أحیاها، فهو أحق بها من غیره... یعتبر فی نظر الإسلام عادلاً، لأن من الظلم أن یساوی

بین العامل الذی أنفق علی الأرض جهده، وغیره ممن لم یعمل فیها شیئا. ولکن هذا المبدأ بتطور قدرة الانسان علی الطبیعة ونموها، یصبح من الممکن استغلاله. ففی عصر کان یقوم احیاء الأرض فیه علی الأسالیب القدیمة، لم یکن یتاح للفرد أن یباشر عملیات الاحیاء إلاّ فی مساحات صغیرة. وأما بعد أن تنو قدرة الانسان، وتتوفر لدیه وسائل السیطرة علی الطبیعة، فیصبح بإمکان أفراد قلائل ممن تؤاتیهم الفرصة، أن یحیوا مساحة هائلة من الأرض، باستخدام الآلات الضخمة ویسیطروا علیها، الآمر الذی یزعزع العدالة الاجتماعیة ومصالح الجماعة. فکان لابدّ للصورة التشریعیة من منطقة فراغ، یمکن ملؤها حسب الظروف. فیسمح بالاحیاء سماحا عاما فی العصر الأوّل ویمنع الأفراد فی العصر الثانی - منعا تکلیفیا - عن ممارسة الاحیاء، إلاّ فی حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامی وتصوراته عن العدالة.

وعلی هذا الأساس وضع الإسلام منطقة الفراغ فی الصورة التشریعیة التی نظم بها الحیاة الاقتصادیة، لتعکس العنصر المتحرک وتواکب تطور العلاقات بین الانسان

ص: 324

والطبیعة، وتدرأ الأخطار التی قد تنجم عن هذا التطور المتنامی علی مرّ الزمن.

منطقة الفراغ لیست نقصا: ولا تدل منطقة الفراغ علی نقص فی الصورة التشریعیة، أو إهمال من الشریعة لبعض الوقائع والأحداث. بل تعبر عن استیعاب الصورة، وقدرة الشریعة علی مواکبة العصور المختلفة، لأن الشریعة لم تترک منطقة الفراغ بالشکل الذی یعنی نقصا أو اهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحکامها بمنح صفة تشریعیة ثانویة، حسب الظروف. فاحیاء الفرد للأرض مثلاً عملیة مباحة تشریعیا بطبیعتها، ولولی الأمر حق المنع عن ممارستها، وفقا لمقتضیات الظروف.

الدلیل التشریعی: والدلیل علی إعطاء ولیالأمر صلاحیات کهذه، لمل ء منطقة الفراغ، هو النص القرآنی الکریم: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ».

وحدود منطقة الفراغ التی تتسع لها صلاحیات أولی الأمر، تضم فی ضوء هذا النص الکریم کل فعل مباح تشریعیا بطبیعته فأیّ نشاط وعمل لم یرد نص تشریعی یدل علی حرمته أو وجوبه... یسمح لولی الأمر باعطائه صفة ثانویة، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبیعته، أصبح حراما، وإذا أمر به، أصبح واجبا. وأما الأفعال التی ثبت تشریعیا تحریمها بشکل عام، کالربا مثلاً، فلیس من حق ولی الأمر، الأمر بها. کما أن

الفعل الذی حکمت الشریعة بوجوبه، کانفاق الزوج علی زوجته، لا یمکن لولی الأمر المنع عنه، لأن طاعة أولی الأمر مفروضة فی الحدود التی لا تتعارض مع طاعة اللّه وأحکامه العامة. فألوان النشاط المباحة بطبیعتها فی الحیاة الاقتصادیة هی التی تشکّل منطقة الفراغ»(1).

وقال فی کتابه الآخر: «إنّ الشریعة الإسلامیة هی مصدر التشریع بمعنی أنها هی المصدر الذی یستمد منه الدستور وتشرع علی ضوئه القوانین فی الجمهوریة الإسلامیة وذلک علی النحو التالی:

ص: 325


1- 1 . اقتصادنا /(726-722).

أوّلاً: ان أحکام الشریعة الثابتة بوضوح فقهی مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحیاة الاجتماعیة جزءا ثابتا فی الدستور سواء نص علیه صریحا فی وثیقة الدستور أو لا.

ثانیا: إن أی موقف للشریعة یحتوی علی أکثر من اجتهاد یعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستوریا ویظل اختیار البدیل المعین من هذه البدائل موکولاً إلی السلطة التشریعیة التی تمارسها الامة علی ضوء المصلحة العامة.

ثالثا: فی حالات عدم وجود موقف حاسم للشریعة من تحریم أو ایجاب یکون للسلطه التشریعیة التی تمثل الامة أن تسنّ من القوانین ما تراه صالحا علی أنْ لا یتعارض مع الدستور وتسمی مجالات هذه القوانین بمنطقة الفراغ وتشمل هذه المنطقة کل الحالات التی ترکت الشریعة فیها للمکلف اختیار اتخاذ الموقف فإنَّ مِنْ حقّ السلطة التشریعیة أنْ تفرض علیه موقفا معینا وفقا لما تقدره من المصالح العامة علی أنْ لا یتعارض مع الدستور»(1).

وتبعه آیة اللّه الشیخ محمّدإسحاق الفیاض - مدظله - وقال: «إنّ من ممیزات الدین الإسلامی کشریعة عامة للبشر ولجمیع الأزمنة والأمکنة، ومنهج خالد یواکب العلم والتطور نحو الأفضل، هو أن ترک فی هذه الشریعة منطقة فراغ، وهی الرقعة الخالیة من النصوص التشریعیة فی الکتاب والسنة، وهی منطقة المباحات الأصلیة وهی عنصر ثالث فی الإسلام وهو العنصر المتحرک غیر الثابت فی الشریعة المقدسة وذلک لعدة عوامل:

العامل الأوّل: إن الشریعة الإسلامیة شریعة خالدة أبدیة متکاملة تحل مشاکل الإنسان فی کل عصر وقرن طول التاریخ وإلی الأبد مهما تطور.

العامل الثانی: إن الحکومة الإسلامیة التی شکلت فی عصر النبی الأکرم وبیده المبارکة صلی الله علیه و آله حکومة بسیطة بکافة أجهزتها وأرکانها ومن الواضح أن تلک الحکومة لا تغنی فی الوقت الحاضر لأن الحکومة فی هذا الوقت قد تطورت وتوسعت بکل مکوناتها وأجهزتها وأنظمتها من النظام الاقتصادی والتعلیمی والاجتماعی والإداری والأمنی

ص: 326


1- 2 . الإسلام یقود الحیاة /19 (/10 من الطبعة الاُولی).

والمخابراتی والجیش والشرطة وهکذا.

العامل الثالث: أنه لا یمکن وضع نظام ثابت للحکومة کنظام العبادات طول التاریخ وفی کل عصر وإلی الأبد، ضرورة أنّ نظام الحکومة یتغیّر بتغیّر الزمان ویتطور بتطور الحیاة العامة بکافة جوانبها ولا یمکن تطبیق نظام الحکومة فی عصر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله علی الحکومة فی العصر الحالی المتطورة بکافة کیاناتها وتشکیلاتها وأجهزتها.

العامل الرابع: إن اللّه تعالی جعل ولایة الأمر للأئمة الأطهار علیهم السلام بعد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وفی زمن الغیبة للفقیه الجامع للشرائط منها الأعلمیة ومن الطبیعی أن ولی الأمر مسؤول ومکلف من قبل اللّه تعالی بتشکیل الحکومة علی أساس مبدأ حاکمیة الدین إذا کانت الظروف ملائمة والعوائق والموانع غیر موجودة.

العامل الخامس: أنه لا یسمع لولی الأمر أن یتصرف فی الأحکام الشرعیة الإلزامیة المجعولة فی الشریعة المقدسة کالمنع عن فعل الواجب والأمر بفعل الحرام مثلاً وهکذا.

وهذه العوامل جمیعا تتطلب من الشارع ترک منطقة فراغ فی الشریعة المقدسة وإعطاء صلاحیة واسعة لولی الأمر فیها للتشریع بعنوان ثانوی فی حدود هذه المنطقة ووضع دستور ونظام فیها للحکومة الإسلامیة بکافة مکوناتها وشرائحها وأرکانها حسب متطلبات الظروف وحاجة الوقت فی کل عصر لمل ءِ الفراغ.

ومن هنا یظهر أن منطقة الفراغ لیست نقصا فی التشریع الإسلامی ولا إهمال فیه بل هی تعبر عن ضرورة استیعاب الشریعة لکل العصور المختلفة فی طول التاریخ وقدرتها علی الاستیعاب.

والخلاصة أنه لا یمکن تشریع نظام ثابت للحکومة فی هذه المنطقة فلهذا أوکل الشارع أمر التشریع وجعل النظام والقانون فی حدود المنطقة إلی ولی الأمر بعنوان ثانوی حسب متطلبات الظروف والحاجة فی کل وقت لمل ءِ الفراغ فیه.

وأما نظام المحاسبة فی الإسلام فهو وظیفة السلطة الحاکمة فی الحکومة

ص: 327

الإسلامیة.

أما فی عصر الحضور فحیث أن السلطة الحاکمة المتمثلة فی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وبعده بالأئمة الأطهار علیهم السلام فلا یحتمل أن یقوم النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بوضع خطة اقتصادیة أو تعلیمیة أو إداریة أو أمنیة أو غیر ذلک عفویا بدون دراسة هذه الخطة بکافة جوانبها الایجابیة والسلبیة والظروف المحیطة بها ومفرداتها وجمع المعلومات حولها وإلاّ فقد خالف وظیفته الإلهیة وهذا غیر محتمل فی حقِّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله هذا إضافة إلی أنه معصوم ولا یحتمل الخطأ فی حقه.

وأما فی زمن الغیبة فهی متمثلة فی الفقیه الجامع للشرائط: کالأعلمیة والعدالة والأمانة والإخلاص والصرامة فی تنفیذ الأحکام الإلهیة وتحقیق مبدأ العدالة والتوازن بین طبقات الأمة بدون مجاملة أیّ جهة مهما کانت واستعمال صلاحیته للتشریع بصفة ثانویة فی حدود منطقة الفراغ حسب حاجة الوقت وظروف البلد.

وعلی هذا فإذا فرضنا أنّ الفقیه المذکور قادر علی تشکیل الحکومة الإسلامیة کما إذا کانت الظروف مناسبة والعوائق غیر موجودة لا من الداخل ولا من الخارج وجب علیه شرعا القیام أوّلاً بإنشاء مجلس الشوری المؤلَّف من العلماء البارزین والمفکرین والخبراء والأمناء المخلصین من کافة أنحاء البلد ثمّ المشاورة معهم بموضوعیة حول تشکیل الحکومة من الأفراد ذوی الخبرة والکفاءة واللیاقة والإیمان والإخلاص، لأنها المیزان والمعیار فی الحکومة الإسلامیة الشرعیة.

وأما المعاییر الأخری فلا قیمة لها من منظور الإسلام کالطائفیة والحزبیة وغیرهما من الخصوصیات، بینما تؤخذ هذه المعاییر بعین الاعتبار فی الحکومات غیر الشرعیة، وبذلک تختلف الحکومة الشرعیة عن غیرها.

وعلیه فإذا قامت السلطة الحاکمة بوضع خطة اقتصادیة، وتعلیمیة، وإداریة، وأمنیة أو بإنشاء مشروع فلابدّ أوّلاً من دراسة هذه الخطة أو المشروع بواسطة المفکرین والعلماء والمثقفین وأهل الإیمان والإخلاص والخبرة بالموضوع دراسة مفصلة بکافة مفرداتها وجوانبها وظروفها ومستقبلها ومدی نجاحها وبعد تکمیل الدراسة والاطمئنان

ص: 328

بنجاحها تقوم بوضع الخطة أو إنشاء المشروع.

ولا یجوز لها وضع خطة أو مشروع عفویا لأنه قد یؤدی إلی إتلاف الأموال من

بیت مال المسلمین، وهذه جریمة لا تغتفر، ولا یمکن لولی الأمر أن یقدم علی مثل هذا العمل لأن عدالته وأمانته ووثاقته تمنع عن ذلک، فإذن فرض وضع الخطة أو المشروع عفویا خلف فرض أنه عادل وأمین وثقة من جهة ومأمور شرعا بالدراسة حولها من جهة أخری.

ومن هنا یظهر أن نظام المحاسبة یسری فی تمام مکونات الحکومة وشرائحها لأن وضع مکوناتها لابدّ أن یکون بعد دراسته بجمیع جهاته وجوانبه وظروفه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری أن نظام المحاسبة فی الإسلام لا یمکن أن یکون نظاما ثابتا بل هو متغیر بتغیر الحکومات ومتطور بتطورها سعة ودقة، وعصرا بعد عصر طول التاریخ، ولهذا یکون أمره بید السلطة الحاکمة فی کل عصر.

ثمّ أن وضع نظام أجهزة الحکومة ککل من النظام الإداری والتعلیمی والأمنی وغیرها یکون فی حدود منطقة الفراغ لأن صلاحیة السلطة الحاکمة للتشریع ووضع الدستور إنما هو فی حدود هذه المنطقة لا مطلقا، وهذا المنطقة منطقة واسعة تکفی للتشریع حسب ما تتطلب حاجة الوقت لمل ءِ الفراغ فیه.

وبکلمة أخری إنّ السلطة الحاکمة فی الحکومة الإسلامیة فی عصر الغیبة لابدّ أن تکون واجدة للصفات التالیة:

الأولی: أن تکون عالمة وفقیهة بالأحکام الفقهیة الإسلامیة بکافة مسائلها وأن تکون أعلم من غیرها فی هذه الأحکام.

الثانیة: أن تکون عادلة أمینة.

الثالثة: أن تکون صارمة وقویة فی تنفیذ الأحکام الإلهیة لتحقیق العدالة والتوازن بین طبقات المجتمع وحفظ الحقوق بدون ملاحظة أی جهة خارجیة مهما کانت.

فإذا کان الفقیه واحدا لهذه الصفات فالولایة ثابتة له من قبل اللّه تعالی وأنه مأمور بتشکیل الدولة الإسلامیة علی أساس مبدأ حاکمیة الدین إذا لم تکن هناک عوائق وموانع

ص: 329

من تشکیلها هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری إن للسلطة الحاکمة حق التدخل فی جمیع شؤون الدولة ومکوناتها وشرائحها بغرض الحفاظ علی التوازن ومبدأ العدالة بین جمیع طبقات الأمة التی أهتم الإسلام بها بل لها حق التدخل فی القطاعات الخاصة أیضا فیما إذا أرادت تلک القطاعات السیطرة علی ثروات البلد بحیث توجب تزعزع العدالة والتوازن بین طبقات

الأمة وحینئذ فعلی السلطة الحاکمة أن تمنعها إلاّ فی حدود لا تضر بمبدأ العدالة والتوازن.

مثلاً إذا فرضنا إنّ لدی شخص أمکانیة السیطرة علی مساحات کبیرة من الأرض باستخدام الآلات الحدیثة لأحیائها وحیث أن هذه العملیة قد تضر بالعدالة الاجتماعیة وتزعزعها فللسلطة الحاکمة أن تمنعه عن ممارستها بعنوان ثانوی إلاّ فی حدود تتناسب مع أهداف الإسلام النبیلة.

وقد تقدم إن تشکیل الدولة لابدّ أن یکون بواسطة مجلس الشوری المؤلَّف من العلماء والمفکرین والخبراء والأمناء والمخلصین فإنهم کانوا یقومون بانتخاب أعضاء الدولة من الأفراد الکفوئین والمفکرین من ذوی اللیاقة والخبرة والإیمان والإخلاص بعد دراسة سوابقهم بشکل موضوعی دقیق وجمع المعلومات حولهم ودراسة أوضاعهم واستقامتهم وقوة إرادتهم وعدم تأثیر الجهات الخارجیة فیهم کالطائفیة والحزبیة ونحوهما.

ومن هنا تکون مثل هذه الحکومة الإسلامیة بالشروط التی ذکرناها حکومة نزیهة بتمام شرائحها ومکوناتها وبعیدة عن الاختلاس والفساد والإداری والمالی والأخلاقی والتساهل والتسامح فی العمل وأداء الوظیفة.

ولهذا وذاک تدفع مثل هذه الحکومة الإسلامیة البلد إلی التطور والازدهار والتقدم والأمن والاستقرار بینما إذا لم تکن الحکومة نزیهة بکل مکوناتها وشرائحها تدفع البلد إلی التخلف وعدم الاستقرار.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی إن الحکومة الإسلامیة لو طبقت بجمیع شرائطها لکانت حکومة نزیهة بتمام مکوناتها وشرائحها وأعضائها وبعیدة عن تأثیر أی

ص: 330

جهة خارجیة فیها بینما الحکومات غیر الشرعیة لا یؤتمن معها علی عدم تدخل الجهات الخارجیة وتأثیرها علیها.

وهنا یتضح أن اتهام الحکومة الإسلامیة بأنها دکتاتوریة ناشئ من الجهل والتعصب والعناد وعدم المعرفة بالنظام الإسلامی وتخیل إن السلطة الحاکمة مطلق العنان تفعل ما تشاء وتترک ما تشاء، وقد مرّ إن السلطة الحاکمة مأمورة من قبل اللّه تعالی بالتحاور والتشاور مع أهل الحل والعقد من العلماء والمفکرین والخبراء والأمناء والصلحاء فی کل صغیرة وکبیرة.

وبعد دراسة موسعة وشاملة حول السیرة الذاتیة لکل عضو من أعضاء الحکومة

بشکل دقیق وموضوعی علی طبق معاییر خاصة کالنزاهة والکفاءة واللیاقة ینتخب إذا کانت المعاییر منطبقة علیه هذا إضافة إلی أن المعتبر فی السلطة الحاکمة العدالة والأمانة والوثاقة وهی تمنع عن إطلاق عنانها وأن تفعل ما تشاء»(1).

وقال آیة اللّه السیّد علی الأکبر الحائری - مدظله - - وهو أحد تلامیذ الشهید الصدر رحمه الله - فی توضیح کلام استاذه فی تحدید منطقة الفراغ: «وأمّا القسم الثانی: من الضوابط العامة لمل ء منطقة الفراغ، وهی الضوابط الراجعة إلی تحدید مساحة منطقة الفراغ التی فوض فیها حق التشریع والتقنین إلی ولی الأمر، فیمکن تحدید تلک المساحة بثلاثة مجالات:

المجال الأوّل: مجال تشخیص الموضوعات الدخیلة فی الأحکام الثابتة التی شرعها الإسلام بصورة مباشرة فإن کثیرا من الأحکام التی شرعها الإسلام بصورة مباشرة قد أناطها بموضوعات خارجیة قابلة للتشکیک والإبهام فی بعض الحالات فعلی ولیالأمر - حینئذٍ - أو السلطة التشریعیة التی أشرنا إلیها أن یعلن التشخیص المیدانی المناسب لتلک الموضوعات حتّی یتضح حال تلک الأحکام سلبا وإیجابا.

ص: 331


1- 1 . الأُنموذج فی منهج الحکومة الإسلامیة /(41-29)؛ المسائل المستحدثة الحکومة الإسلامیة /(30-23).

فمثلاً: من جملة الأحکام الثابتة فی الإسلام حرمة ممارسة الآلات المعدة للقمار فإنها تحرم ممارستها حتّی بغیر رهن مادامت معدة للقمار، کما هو المشهور، فلو أن آلة معینة کانت صالحة للقمار وغیر القمار فحینئذٍ تارة یتغلب علیها القمار بصورة واضحة معروفة فتشملها الحرمة المذکورة، لأنها من الآلات المعدة للقمار، وتارة أخری یتغلب غیر القمار بصورة واضحة معروفة أیضا فلا تشملها الحرمة المذکورة - أی لا تحرم ممارستها بغیر رهن - لأنها لیست معدة للقمار، وتارة ثالثة لا تکون القضیة واضحة معروفة، فیقع الشک فی أنها من الآلات المعدة للقمار أو لیست، کذلک، ففی هذه الحالة یکون من حق ولی الأمر أن یعلن تشخیصه لهذا الموضوع ویحکم بذلک.

کما أن من الأحکام الثابتة أن الأصوات والألحان المعدة لمجالس اللهو واللعب تکون محرمة، فإذا وقع الشک فی لحن من الألحان أنّه من الألحان المعدة لذلک أو لا کان من حق ولی الأمر أن یشخص هذا الموضوع ولو بالفحص عن طریق أهل الخبرة ویحکم علی طبق ما یتوصل إلیه من تشخیص.

ومن الأمثلة المعروفة لتشخیص الموضوع من قبل ولی الأمر مسألة الهلال فی الشهور القمریة؛ فإن هناک أحکاما ثابتةً منوطةً بالشهور القمریة وهی متوقفة علی ظهور الهلال فإذا ثبت ظهور الهلال لولی الأمر کان من حقه أن یحکم بذلک.

وبصورة عامة الأحکام الشرعیة الثابتة یجب استنباطها بصورة کلیة من خلال مصادر التشریع الإسلامی، وقد یتوصل الفقیه من خلال ذلک إلی حکم کلی منوط بموضوع معین بحیث یدور الحکم سلبا وإیجابا مدار ذلک الموضوع ویبقی الحکم حینئذٍ تحت رحمة تشخیص الموضوع ولا یمکن حل الموقف عند الشک فی الموضوع بالرجوع إلی مصادر التشریع، لأنها إنّما تعین الحکم الکلی علی فرض تحقق الموضوع، نعم قد یأتی الحکم الظاهری عند الشک فی الموضوع ولکن ولی الأمر إذا شخص الموضوع وارتفع عنه الشک کان من حقه الحکم علی طبق ذلک ووجب علی النّاس إطاعته فیه.

المجال الثانی: مجال تشخیص الأهم عند التزاحم بین الأحکام الإلیهة الثابتة، کما

ص: 332

إذا وقع التزاحم بین الجهاد الواجب أو دفع العدو الغاشم وبین الانتهاء عن بعض المحرمات کاجتیاز الأرض المغصوبة أو إتلاف مالاً یرضی به صاحبه، بل قد یتوقف دفع العدو علی قتل بعض الأبریاء فیقع التزاحم بین امتثال وجوب دفع العدو وامتثال حرمة قتل الأبریاء، بمعنی أن ضیق القدرة وقلة الإمکانات العملیة قد یؤدی إلی التنافی والتضاد بین امتثال حکمین من الأحکام الإلهیة الثابتة، ففی مثل ذلک یکون من حق ولی الأمر أن یحکم علی طبق ما یشخصه من أهمیة أحد الحکمین علی الآخر ویجب علی الأمة إطاعته فیه، ولیست هذه إطاعة للمخلوق فی معصیة الخالق لأن الأحکام الشرعیة إذا تزاحمت فی مقام الامتثال تقدم الأهم علی ما یقل عنه أهمیة، ولا یحق لولی الأمر أن یحکم إلاّ علی طبق ما یعتقد من الأهمیة.

المجال الثالث: مجال المصالِح الطارئة فی دائرة المباحات، فإن التصرفات التی لم یرد فیها تکلیف الزامی ثابت من قبل الشریعة الإسلامیة لا نفیا ولا إثباتا قد تحدث فیه مصالح وملاکات طارئة وفق الظروف والملابسات التی تمر بالأمة الإسلامیّة، بحیث تستدعی الالتزام بسلوک معین، ففی مثل ذلک یحق لولی الأمر أن یحکم بالالتزام بذلک السلوک حفظا لتلک المصالح والملاکات، والأمثلة علی ذلک کثیرة یمکن أن نذکر منها المصالح الاقتصادیة الطارئة التی تستدعی به فی بعض الظروف وضع الضرائب المالیة فی

دائرة أوسع مما أمر به الإسلام من الزکوات والأخماس الواجبة، وکذلک المصالح التی تستدعی فی بعض الظروف تحدید الأشعار، وکذلک المصالح التی تستدعی وضع الضوابط الخاصة للمرور إلی غیر ذلک من المصالح العامة التی تستدعی وضع جملة من القوانین والأحکام وفق الظروف والملابسات التی تمر بالأمة الإسلامیّة أو بالشعب الذی یحکمه الإسلام، فإن من شأن ولی الأمر أو السلطة التشریعیة المفوضة من قبله أن یشخص أمثال هذه المصالح ویصدر الأحکام اللازمة علی طبقها، ویجب علی الأمة أن تسمع له وتطیع. وهذا أیضا لا یستلزم إطاعة المخلوق فی معصیة الخالق، فإن إعطاءه کمیة من المال بعنوان الضریبة مثلاً، والالتزام بسعر معین أو بنسبة معینة من الربح فی المعاملات، والالتزام بضوابط معینة فی المرور... إلی غیر ذلک کلها من الأمور المباحة

ص: 333

بطبیعتها ولیست فیها معصیة للخالق تبارک وتعالی، فإذا أمر بها ولی الأمر أصبحت واجبة علی النّاس بسبب وجوب طاعة ولی الأمر فی غیر معصیة للخالق تبارک وتعالی.

هذه هی المجالات الثلاثة التی یمکن أن نحدد بها مساحة منطقة الفراغ التی فوض الحکم فیها إلی ولی الأمر، وقد یستدل من الناحیة الفقهیة علی شمول منطقة الفراغ لکل هذه المجالات الثلاثة بإطلاق أدلة وجوب طاعة ولی الأمر وإطلاق أدلة نیابة الفقیه العادل عن ولی الأمر فی عصر الغیبة، فإن إطلاق هذه الأدلة یدل علی وجوب طاعة ولی الأمر أو نائبه فی کل ما یحکم به فی جمیع الأمور وفی جمیع المجالات، وقد خرج عن ذلک ما یستلزم معصیة اللّه تبارک وتعالی وبقیت فی إطلاقها هذه المجالات الثلاثة التی ذکرناها لعدم استلزامها لمعصیة اللّه تبارک وتعالی.

ضوابط ما یملأ به الفراغ

وأما القسم الثالث: من الضوابط العامة لمل ء منطقة الفراغ، وهی الضوابط الراجعة إلی ما یملأ به الفراغ من القوانین والتشریعات من قبل ولی الأمر، فإن الشریعة الإسلامیّة بعد أن حددت مجالات الفراغ وفوضت أمر التشریع والتقنین فیها إلی ولی الأمر لم تدع أمر مل ء هذا الفراغ تحت رحمة الرغبات الشخصیة الخاصة لولی الأمر لکی یملأه کیفما یشاء وبأی نحو یرید بل لابدّ لولی الأمر أن یراعی أمرین أساسیین.

الأمر الأوّل: ملاحظة مصالح الأمة فی جمیع القوانین والتشریعیات التی یضعها لمل ء منطقة الفراغ حسب الظروف المرحلیة التی تمر بها الأمة فإذا کان أمامه عدة خیارات لحل مشکلة من المشاکل الاقتصادیة أو السیاسیة أو غیرها التی تمر بالأمة

الإسلامیّة، بمعنی أن هذه المشکلة یمکن حلها باختیار واحدة من صیغ قانونیة متعددة، فلابدّ لولی الأمر أن یختار جهد الإمکان أفضل تلک القضیة، ولا یحق له أن یختار الصیغة القانونیة الأنسب لمصالحه الخاصة ولا الصیغة القانونیة الأنسب لمصالح طبقة خاصة أو قطاع معین من قطاعات الأمة دون غیرها فإن مثل ذلک خیانة بالأمة ولا یجوز ارتکابها لولی الأمر بالضرورة.

والأمرا لثانی: ملاحظة تلک المصالح من وجهة نظرا لإسلام وبحسب الموازین الإسلامیّة

ص: 334

العامة لا من وجهة النظر المادی البحث مثلاً أو من وجهات النظر الأخری التی لا تنسجم فی روحها مع الإسلام ولأجل توضیح ذلک نکتفی بمثالین:

المثال الأوّل: إننا لا حظنا المصالح الاقتصادیة العامة من وجهة النظر المادی البحث فقد یؤدی ذلک إلی ضرورة منع العمال فی جمیع المعامل والمصانع من ممارسة الفرائض الدینیة من الصوم والصلاة وحفظ الحجاب للنساء العاملات إلی غیر ذلک، لأن الصوم یؤدی إلی ضعف العامل عن عمله، والمدة التی تستغرقه إقامة الصلاة فی المعامل والمصانع ستنقص من ساعات العمل الیومی للعمال، کما أن الحجاب الإسلامی للنساء العاملات قد یلکئ من مستوی السرعة للتقدم الکمی والکیفی فی نطاق أعمالهن، وهذه الأمور بمجموعها ستؤثر تأثیرا بالغا جدا علی مستوی الإنتاج فی المعامل والمصانع ومن ثمّ ستؤثر علی المصالح الاقتصادیة العامة فی الوطن الإسلامی، وهذا یعنی وقوع التزاحم بین امتثال تلک الفرائض الدینیة لهؤلاء العمال وبین المصالح الاقتصادیة الکبیرة التی ستضیع بسبب إقامة تلک الفرائض، وبحسب هذه النزعة الفکریة قد ینتهی الأمر إلی ترجیح تلک المصالح...»(1).

ولکن قال عمّی الأکبر آیة اللّه الشهید الحاج آقا نوراللّه النجفی الأصفهانی قدس سره (1278-1346ق) المستشهد قبل ولادة الشهید الصدر رحمه الله بِسَبْعِ سنین ما نصه بالفارسیة: «مطالب بر دو قسم است: یک امری که خداوند در آن امر فرموده؛ مثل حکم میراث و زنا و لواط و شراب و خمس و زکات و سایر واجبات و محرمات و احکام و در این قبیل احکام احدی را حق سؤال و جواب و نفی و اثبات و تغییر و تبدیل و چون و چرا نیست. و باید تمام مسلمانان اطاعت آن را بنمایند.

و یک امری است که حکم و قانون معینی در کتاب و سنت نوشته نشده، مثل حوادث اتفاقیه و امور عامه عادیه و خصوصیات نظم و انتظام بلاد و عباد و حفظ ثغور

ص: 335


1- 1 . مقالة «منطقة الفراغ فی التشریع الإسلامی»، المطبوعة فی مجلة «رسالة التقریب»، العدد 11/(125-120).

واستحکام وانتظام امر معیشت مسلمانان و امنیت طرق و شوارع و رواج کسب و تجارت و فلاحت و مصادیق احکام و امثال اینها که به مقتضای آیه شریفه «وَأَمْرُهُمْ شُوری بَیْنَهُمْ» خداوند عالم این امور را به مشورت ارجاع فرموده که مسلمانان مشورت و مصلحت بینی کنند؛ و هر قسم صلاح دانند رفتار نمایند»(1).

وفی الختام لابدّ لی أن أُنبّه علی أنّ حکم مزاحمة فقیه لفقیه آخر سوف یأتی(2) الکلامُ عَلَیْهِ فی فروع بحث ولایة عدول المؤمنین فانتظر.

ص: 336


1- 1 . مکالمات مقیم و مسافر /64 و 65.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 373.

الثالث: ولایة عدول المؤمنین

اشارة

(1)

الأُمور المطلوبُ وجودها فی المجتمع بحیث لا یرضی الشارع بترکها وإهمالها وفوتها، وَعِنْدَ فقدان الفقیه - لا سمح اللّه له - أو تعذّر الوصول إلیه، فهل یجوز لعدول المؤمنین القیام بتحمّل أعباء هذه الأُمور بالتصدی لها أو الإشراف علیها أو التنظیم بها أو التطبیق فیها؟ أو لا یجوز.

ومن الواضح أنّ الجواز یأتی فی موارد عدم اشتراط العمل بإذن الإمام علیه السلام أو الفقیه وإلاّ عدم الجواز واضح لأنّ مقتضی الأصل عدم جواز التصرف فیه ونشک فی مشروعیة أصل العمل والأصل عدم مشروعیته.

قال الشهید: «یجوز للآحاد مع تعذّر الحکّام تولیة آحاد التصرّفات الحِکَمیّة علی الأصحّ، کدفع ضرورة الیتیم، لعموم: «وَتَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی»(2)، وقوله علیه السلام : «واللّه تعالی فی عون العبد ما کان العبد فی عون أخیه»(3)، وقوله صلی الله علیه و آله : «کلّ معروف صدقة»(4).

ص: 337


1- 1 . جعلت عنوان البحث کما علیه المشهور ومتابعة لهم کما یظهر للقاریء الکریم من مطاوی الکلام.
2- 2 . سورة المائدة /2.
3- 3 . المستدرک 12/429، ح10، الباب 34 من أبواب فعل المعروف؛ وراجع: وسائل الشیعة 16/371، ح2، الباب 29 من أبواب فعل المعروف، صحیحة ذریح. وفیه: عون المؤمن ما کان المؤمن عون أخیه.
4- 4 . وسائل الشیعة 16/286، ح5، الباب الأوّل من أبواب فعل المعروف، حسنة عبداللّه بن میمون القداح.

وهل یجوز أخذ الزکوات والأخماس من الممتنع وتفریقها فی أربابها، وکذا بقیّة وظائف الحکّام غیر ما یتعلّق بالدعاوی؟ فیه وجهان: وجه الجواز ما ذکرنا، ولأنّه لو مُنع من ذلک لفاتت مصالح صرف تلک الأموال، وهی مطلوبة للّه تعالی.

وقال بعض مُتَأخِّرِی العامّة(1): لا شکّ أنّ القیام بهذه المصالح أهمّ من ترک تلک الأموال بأیدی الظلمة یأکلونها بغیر حقّها ویصرفونها إلی غیر مستحقّها.

فإن تُوقِّع إمامٌ یصرف ذلک فی وجهه، حفظ المتمکّن تلک الأموال إلی حین تمکّنه من صرفها إلیه، وإن یئس من ذلک - کما فی هذا الزمان - تعیّن صرفه علی الفور فی مصارفه؛ لما فی إبقائه من التغریر وحرمان مستحقّیه من تعجیل أخذه مع مسیس حاجتهم إلیه. ولو ظفر بأموال مغصوبة حفظها لأربابها حتّی یصل إلیهم، ومع الیأس یتصدّق بها عنهم، وعند العامّة تصرف فی المصالح العامّة»(2).

وَعَلَّق علیه الشیخ الأعظم بقوله: «والظاهر أنّ قوله: «فإن توقّع... إلی آخره» من کلام الشهید قدس سره ، ولقد أجاد فیما أفاد إلاّ أنّه قدس سره لم یبیّن وجه عدم الجواز، ولعلّ وجهه: أنّ مجرّد کون هذه الاُمور من المعروف لا ینافی اشتراطها بوجود الإمام أو نائبه کما فی قطع الدعاوی وإقامة الحدود، وکما فی التجارة بمال الصغیر الذی له أب وجدّ؛ فإنّ کونها من المعروف لا ینافی وکوله إلی شخص خاصّ.

نعم، لو فُرض المعروف علی وجه یستقلّ العقل بحسنه مطلقا - کحفظ الیتیم من الهلاک الذی یعلم رجحانه علی مفسدة التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه - صحّ المباشرة بمقدار یندفع به الضرورة، أو فرض علی وجه یفهم من دلیله جواز تصدّیه لکلّ أحدٍ إلاّ أنّه خرج ما لو تُمُکِّن من الحاکم، حیث دلّت الأدلّة علی وجوب إرجاع الاُمور إلیه، وهذا کتجهیز المیّت، وإلاّ فمجرّد کون التصرّف معروفا لا ینهض فی تقیید ما دلّ علی عدم ولایة أحد علی مال أحد أو نفسه، ولهذا لا یلزم عقد الفضولی علی المعقود له بمجرّد کونه

ص: 338


1- 5 . وهو الشیخ عزالدین بن عبدالسلام.
2- 1 . القواعد والفوائد 1/406، القاعدة 148.

معروفا ومصلحة، ولا یفهم من أدلّة المعروف ولایة للفضولی علی المعقود علیه؛ لأنّ المعروف هو التصرّف فی المال أو النفس علی الوجه المأذون فیه من المالک أو العقل أو الشارع من غیر جهة نفس أدلّة المعروف.

وبالجملة، تصرّف غیر الحاکم یحتاج إلی نصٍّ عقلی، أو عموم شرعی، أو خصوصٍ فی مورد جزئی، فافهم»(1).

المسألة خلافیة

یظهر من صاحب المفتاح خلاف الأصحاب قدس سرهم فی المقام حیث یقول: «...

ویستفاد من بعض الأخبار(2) ثبوت الولایة للحاکم مع فقد الوصی وللمؤمنین مع فقده. وفی الحدائق(3) نسبته إلی الأصحاب. وفی مجمع البرهان(4): الظاهر ثبوت ذلک لمن یوثق بدینه وأمانته بعد تعذّر ذلک کلّه... - إلی أن قال - : ولم نجد خلافا إلاّ من ابن إدریس(5) فإنّه قال: لا یجوز لمن لیس بفقیه تولّی ذلک بحال، وقد یظهر ذلک من المفید(6) والتقی(7) حیث لم یذکرا إلاّ السلطان والفقیه»(8).

وکما صرّح بوجود القول بالخلاف الفاضل المراغی رحمه الله حیث یقول: «إذا تعذّر الاُولیاء أو فقدت حتّی الحاکم فهل الولایة للعدول مطلقا، أو لیس لهم مطلقا، أو فیما لا یمکن التأخیر فیه لهم ولایة دون غیره؟ ... وجوه بل أقوال...»(9).

ص: 339


1- 2 . المکاسب 3/563 و 564.
2- 1 . راجع: وسائل الشیعة 19/421، الباب 88 من أبواب الوصایا.
3- 2 . الحدائق 20/378.
4- 3 . مجمع الفائدة والبرهان 9/232 و 233.
5- 4 . السرائر 3/194.
6- 5 . المقنعة /675.
7- 6 . الکافی فی الفقه /366.
8- 7 . مفتاح الکرامة 16/82 و 83.
9- 8 . العناوین 2/580.

أقول: فالمسألة محلّ خلاف بین الأصحاب وإن کان المشهور تَلَقِّیْهِ بالقبول، ومحلّ انکار عند مشهور العامة لأنّهم لا یرون اختصاص الولایة بالعدول بل عندهم الفاسق الغالب المتغلب للأمر یکون ولیّا للأمر.

تأسیس الأصل فی المسألة

قبل إیرادِ الأَدِلَّةِ لابدّ من تأسیس الأصل الأوّلی فی المقام فأقول: الأصل الأوّلی - کما مرّ فی أوّل بحث الولایات(1) - عدم ثبوت ولایة انسانٍ علی إنسان آخر وأنّه لا ولایة لأحدٍ علی غیره إلاّ بقیام دلیل یثبت ذلک.

وبعده الأصل اللفظی: أیضا یدلّ علی نفی ولایة عدول المؤمنین وغیرها لأنّ قوله علیه السلام فی موثقة سماعة: ... فإنّه لا یحل دم امریء مسلم ولا ماله إلاّ بطیبة نفسه.(2)

یدلّ علی ممنوعیّة جمیع التصرفات الانتقالیة منها أو غیرها فی مال المسلم إلاّ من خلال الإذن ونفی التصرف بالولایة.

وقوله - عجل اللّه تعالی فرجه الشریف - فی التوقیع المروی بسند صحیح: ... فلا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه.(3)

یدلّ علی نفی ولایة التصرف فی الأموال مطلقا والدال عموم منطوقه.

وأمّا الأصل العملی: بالنسبة إلی الولایة: فلا شک فی الولایة أنّها مجعولة شرعا وتکون من الأحکام الوضعیة ولا یمکن ترتب الآثار علیها إلاّ بعد إحراز جعلها، فحینئذ بمجرد قیام الشک فی الجعل تجری أصالة عدم الجعل.

کما أنّه کذلک بالنسبة إلی المجعول، لأنّ الولایة تکون من الأُمور الحادثة وکانت مسبوقة بالعدم، وبعد ثبوت الشریعة وجعلها نشّک فی أنّها مجعولة علی النطاق الواسع بحیث تشمل ولایة عدول المؤمنین أم لا؟ والأصل عدم مجعولیتها علی النطاق الواسع فلا تشمل ولایة عدول المؤمنین.

ص: 340


1- 9 . راجع هذا المجلد صفحة 14.
2- 10 . وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.
3- 1 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال.

کما أنّ هذین الأصلین - عدم الجعل وعدم المجعول - ینفیان نفوذ التصرفات المبنیّة علی هذه الولایة.

مضافا إلی أنّ استصحاب بقاء ملکیّة المالک السابق - قبل التصرف الولائی - یجعل التصرف الولائی لغیر المالک باطلاً وذلک عند الشک فی صحة تصرفاته ونفوذها.

هذا کلّه فی الأصل الأوّلی واللفظی والعملی فی المقام.

ویؤیدها السیرة العلقلائیة: القائمة علی نفی ولایة انسان علی آخر وعلی حریّة کلّ انسان واستقلاله عن غیره فی نفسه وماله وعمله ونشاطه.

الاُمور التی تعرض علیها الولایة علی أقسام:
الأوّل: ما یستقلّ العقل بحسنه مطلقا

- کحفظ الیتیم من الهَلاک - أو یفهم من دلیله جواز تصدّیه لکلِّ أحدٍ - کتجهیز المیت - وأنّه مطلوب وقوعه من کلِّ شخصٍ.

وهذا القسم الأوّل: هو الأُمور التی یجوز لعدول المؤمنین التَّصَدِّی لَها والقیام بها بما یتناسب من متطلّباتها فی الأعصار والأمصار من دون أیّ نقاشٍ.

الثانی: الأُمور التی تختص بأشخاص معیّنین مِمَّنْ لَهُمْ صفات خاصة

الثانی: الأُمور التی تختص بأشخاص معیّنین مِمَّنْ لَهُمْ صفات خاصة فیجوز لهم التصدی لها کالإفتاء والقضاء والولایة علی الأُمور العامة کما مرّ ذلک فی مناصب الفقیه(1)

بالتفصیل.

ولا شک بِاخْتِصاص هذه الأُمور بالفقیه الذی له صفات معیّنة ومؤهّلات خاصة ولا یجوز لغیره من عدول المؤمنین وغیرهم التَّصَدِّی لِهذِهِ الاْءُمُوْر ولذا أخرجه الشهید قدس سره من دائرة ولایتهم بقوله: «غیر ما یتعلّق بالدعاوی»(2) وألحقه الشیخ الأعظم رحمه الله بها: «وإقامة الحدود»(3).

ویلحق بهما منصب الإفتاء والولایة علی الأُمور العامة والأُمور التی تکون

ص: 341


1- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 178.
2- 1 . القواعد والفوائد 1/406.
3- 2 . المکاسب 3/563.

مشروطة بإذن الفقیه نحو مصرف سهم الإمام علیه السلام من الخمس.

الثالث: الأُمور التی نشک فی تَوَقُّفِها وَاشْتِراطِها علی إذن الفقیه

الثالث: الأُمور التی نشک فی تَوَقُّفِها وَاشْتِراطِها علی إذن الفقیه فهل یجوز لعدول المؤمنین التصدّی لها أم لا؟ وهی الأُمور التی نشکّ فی مدخلیة إذن الفقیه فیها تکلیفا أو فی صحتها ونفوذها وضعا. فلابدّ من البحث حول حکمها تکلیفا ووضعا.

أمّا الحکم الوضعی: فالأصل عند الشک فی نفوذ التصرف وصحته هو عدم نفوذ التصرف وعدم صحته وعدم تحقّق آثاره من الملکیّة أو الزوجیة ونحوهما.

بعبارة أُخری: الأصل یقتضی فساد التصرفات عند الشک فی نفوذها فی هذه الأُمور التی نشک فی مدخلیة إذن الفقیه فیها. فمثلاً لو جمع عدول المؤمنین الأخماس وَدَفَعُوْها إلی أصحابها نشک فی ملکیّة الهاشمی وغیره من الآخذین لها والأصل عدم تحقّق الملکیّة لهم مع عدم إذن الفقیه.

وأمّا الحکم التکلیفی: فهل یجوز لعدول المؤمنین الْتَصَدِّیْ للأُمور التی یحتمل مدخلیة إذن الفقیه فی مشروعیتها وصحتها أم لا؟

إذا وَصَلَتْ النوبة إلی الأصل العملی، فَالشُّبْهَةُ تکون حکمیّة نشک فی حرمة تصرفات عدول المؤمنین وعدمها؟ وأصل البراءة تقتضی جوازها وعدم توقفها علی إذن الفقیه، هذا کلّه بالنسبة إلی الشک فی الوجوب.

وأمّا بالنسبة إلی الشک فی الواجب: بمعنی اشتراط الواجب بإذن الفقیه وعدمه فالأصل العملی أیضا یقتضی البراءة عن الاشتراط.

هذا کلّه بالنسبة إلی جریان الأُصول العملیة فی حکمی الوضعی والتکلیفی.

وأمّا مقتضی الأدلة اللفظیة علی أیِّ شیءٍ یقرّر ویثبت أیُّ شیءٍ فلابدّ من ملاحظتها ومدی دلالتها فلذا ندخل فی بحث أدلة ولایة عدول المؤمنین بإذن اللّه تعالی فنقول:

أدلة ولایة عدول المؤمنین
اشارة

قد تمسکوا لإثباتها بالأدلة الأربعة:

ص: 342

1- الکتاب
اشارة

فقد استدلوا بآیات منه:

منها: قوله تعالی: «وَتَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی

منها: قوله تعالی: «وَتَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی وَلا تَعاوَنُوا عَلَی الاْءِثْمِ وَالْعُدْوانِ»(1).

بتقریب: أنّ حفظ الیتیم من الهلاک ودفع ضرورته ورفع احتیاجاته إعانة علی البرّ فهو مندوب شرعا وخطاب الآیة الشریفة لعامة المکلفین ولا یختص بالفقیه. فجواز تصدی المؤمنین لأنواع البرّ یستفاد من الآیة الشریفة.

وبعبارة أُخری: ثَبَتَتْ الآیةُ لزومَ التعاون بین النّاس وتکون فی بیان جهة هذا التعاون بحیث یکون فی البرّ والتقوی، لا الإثمّ والعدوان، ولزوم هذا التعاون فی الجهة الخاصة یتأکّد فی المجامع الدینیة وبالنسبة إلی المؤمنین لاسیّما العدول منهم، وهذا التعاون الخاص یکون مبدأً لولایتهم.

ویرد علیه: أوّلاً: قد مرّ أنّ «التعاون عبارة عن اجتماع أشخاص لإیجاد أمر من المعصیة أو الطاعة کَهَدْمِ مسجدٍ أو بنائه، ولذا ینسب الفعل إلی الجمیع لا إلی الشخص الواحد»(2) وإذا کان معنی التعاون هذا فأیّ ربط له بولایة عدول المؤمنین؟!

وثانیا: مجرد الاْءَمْرِ بالتعاون عَلی البرّ والتقوی لا یدلّ علی ثبوت الولایة للعاملین بها وإلاّ یلزم أن یکون کلّ مَنْ أحَسَنَ وبَرَّ إلی غیره ولیّا علیه والتالی باطل فالمقدم مثله.

وثالثا: البر الوارد فی الآیة الشریفة هو ما ثَبَتَتْ برّیتُهُ عُرْفا أو شرعا أو عقلاً، ثمّ إذا احتملنا فی تصرفٍ إذنَ الفقیهِ، فالتمسک بالآیة الشریفة لاِءثبات برّیته تَمَسُّکٌ بالعامِّ فی الشبهة المصداقیة له. لأنّ مع جریان هذا تَکُوْنُ برّیّة هذا التصرف مشکوکا فیها فلا یحکم العرف أو الشرع أو العقل ببرّیته، فالتمسک بالآیة الشریفة یکون تمسکا بالدلیل فی الشبهة

الموضوعیة لذاک الدلیل.

ص: 343


1- 1 . سورة المائدة /2.
2- 2 . الآراء الفقهیة 1/200.

فظهر ممّا ذکرنا أنّ آیة التعاون أجنبیة عن ولایة عدول المؤمنین وإثباتها.

ومنها: قوله تعالی «وَالْمُوءْمِنُونَ وَالْمُوءْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ»

(1).

بتقریب: أنَّ الاْآیةَ أَثْبَتَتْ وجود الولایة للمؤمنین والمؤمنات علی بعض آخر من هاتین الطائفتین ومن جملتها ولایة عدول المؤمنین أو أنّها فیهم تتأکّد وتتقّوی. لأنّ الآیة تبیّنت وجود ولایة عامة بین المؤمنین ولم تعیّنهم فتشمل جمیعهم فتکون بالنسبة إلی عدولهم آکَدَ وأقوی.

ویرد علیه: أوّلاً: الولایة الثابتة فی الآیة الشریفة مذکورة فی ذیلها وهی ولایة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لأنّ اللّه تعالی یقول بعده: «یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ»(2).

وثانیا: یرد علیه ما اُوردته آنفا فی الاستدلال بالآیة السابقة (ثالثا) من التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة له.

ومنها: قوله تعالی: «وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

ومنها: قوله تعالی: «وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَأُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3).

بتقریب: الأُمورَ التی لا یرضی الشارع بترکها وإهمالها وفوتها تدخل فی «الخیر» الوارد فی الآیة الشریفة بلا إشکال، ونص الآیة یدلّ علی وجود طائفة من المؤمنین «یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ» ویتصدون إلی هذه االأُمور، ولیس هذا إلاّ ثبوت الولایة لعدول المؤمنین.

ویرد علیه: أوّلاً: دخول الأُمور التی نشک فی تَوَقُّفِها وَاشْتِراطِها علی إذن الفقیه فی عنوان «الخیر» الوارد فی الآیة الشریفة محلّ نقاش واضح.

وثانیا: الولایة الثابتة فی الآیة مذکورة فی ذیلها وهی ولایة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر کما قال اللّه تعالی «وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ». کما مرّ

ص: 344


1- 1 . سورة التوبة /71.
2- 2 . سورة التوبة /71.
3- 3 . سورة آل عمران /104.

فی ذیل الآیة السابقة.

وثالثا: مجرد الدعوة إلی الخیر لا یوجب للداعی الولایة علی الْمَدْعُوِّیْنَ وإلاّ

تثبت الولایة لکلِّ واعظ علی متعظه ولکلِّ متکلِّم علی مخاطبه إذا دعاه إلی الخیر، والتالی باطل فالمقدم مثله، کما مرّ فی ذیل الآیة الاُولی.

ورابعا: من مُتَمِمات الإیرادات أنَّ جماعةً من المُخَیّرین حَمَلُوا قَوْلَهُ تعالی: «وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ» علی معنی التّجرید مع إرادة المجموع علی حَدِّ قول القائل: لِیَکُنْ لی مِنْکَ صدیقٌ مُخلصٌ. وَمَنْ له إشْمامٌ واستئناسٌ بمغزی بلاغة الذکر الحکیم وَمَلاحن کلام العرب لا یُنکر هذا الوجه الوجیه.

ومنها: قوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»

(1).

بتقریب: «إنّ ظاهر الاستثناء کون القرب إذا کان حسنا جائزا وهنا کذلک، ولیس الخطاب للحکّام خاصة بل ظاهره العموم، وإذا ثبت ذلک فی مال الیتیم ثبت فی غیره بالاُولویّة وبعدم القول بالفصل»(2).

وبتوضیح: الآیة الشریفة تخاطب الجمیع - لا الفقهاء خاصة - فی عدم التصرف وَالتَّداول فی أموال الیتامی إلاّ إذا کان ذلک التصرف والتدأوّل حسنا ومفیدا بالنسبة إلی الیتیم فإذا کان حسنا یکون جائزا، وإذا ثبت الجواز لکل أحدٍ أن یتصدی لأموال الیتامی إذا کان تصرفه وتصدیه نافعا للیتیم، ثبت الجواز فی بقیة التصرفات بالاُلویّة القطعیة وبعدم القول بالفصل.

وبتقریب آخر: التصدی لأُمور الیتامی وَإِدارة أموالهم واجب بحکم العقل والشرع، والآیة نهت أن یکون هذا التصدی بنحو غیر حسن و غیر نافع، فإذا کان حسنا ونافعا لکان جائزا، وهذا الجواز لا یختص بتصدی لاِءمْوالِ الیتامی بل یعمّ الاُمور الاجتماعیة الاُخَر لاتحاد المناط بل اولویة بعضها بالنسبة إلی أموال الیتامی کإجراء

ص: 345


1- 1 . سورتا الأنعام /152، والإسراء /34.
2- 2 . العناوین 2/580.

الحدود ودفع الظلم والظالم وتنظیم معاش النّاس ومعادهم وحفظ النظام و...(1).

ویرد علیه: أوّلاً: قد مرّ(2) فی ولایة الأب والجدّ بحوث مفصلة حول الآیة الشریفة والکلمات الواردة فیها فلا نعیدها وَقَدْ قلنا هناک إنّ الآیة «تدلّ علی اعتبار

مراعاة المصلحة فی تصرفات الاُولیاء بلا فرق بین التصرفات الاعتباریة والتصرفات الخارجیة وبلا فرق بین الأب والجدّ وغیرهما، نعم بضرورة الفقه لا تدلّ علی مراعاة الأصلح والأنفع کما مرّ، وأمّا دلالتها علی مراعاة الأصلح والأنفع النسبی والغالبی والممکن فلا ینکر، واللّه العالم»(3).

وثانیا: الآیة الشَّرِیْفَة لم تثبت الولایة لأحدٍ بل تقول التصرف الولائی لابدّ فی ذاته أن یُراعی فِیْهِ مصلحة المولی علیه وإلاّ کان باطلاً، وأمّا من هو الولی ومن یجوز له هذا التصرف فهو خارج عن مدلول الآیة الشَّرِیْفَة فلا تثبت بها الولایة لعدول المؤمنین ولا لغیرهم.

وثالثا: التعدی من أموال الیتامی إلی کلِّ صغیر وکبیر کإجراء الحدود وتنظیم معاش النّاس وحفظ النظام الذی نعلم أنّها کلّها مَوْکُوْلَةٌ إلی الفقیه ولابدّ من الاستیذان منه حتّی بالنسبة إلی أموال الیتامی، مشکل جدّا، فمن أین یدعی فیها «الاولویة القطعیة» أو «بعدم القول بالفصل» أو «اتحاد المناط»، ودون اثبات هذه الدعوی خرط للقتاد.

ومنها: قوله تعالی: «یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ

ومنها: قوله تعالی: «یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُکُمْ وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»(4).

بتقریب: أنّ السؤال فی الآیة الشریفة هو التصرفات بالنسبة إلی الیتیم وأمواله وأجاز اللّه تعالی التصرفات الاْءصْلاحِیَّة والمخالطة الحسنة ولم یقیّدهما بأحدٍ دون أحد،

ص: 346


1- 3 . راجع: تحقیقٌ فی القواعد الفقهیة /794، تألیف صدیقی المکرّم آیة اللّه السیّد علی الفرحی - دامت برکاته - ، سبط شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی قدس سره .
2- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 50.
3- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 69.
4- 2 . سورة البقرة /220.

فیجوّزهما لکلِّ أحدٍ، فإذا کان الأمر هکذا بالنسبة إلی الأیتام وأموالهم فیمکن القول بالجواز فی غیرها من التصرفات بالاُلویة القطعیة أو بعدم القول بالفصل أو اتحاد المناط.

ویرد علیه أوّلاً: الآیة الشریفة تثبت مراعاة المصلحة فی التصرفات الولائیة فی الیتامی وأمّا من یجوز له هذه التصرفات ومن یکون ولیّا فهو خارج عن مدلولها.

وثانیا: التعدی من الیتامی إلی غیرهم من مصالح العباد والبلاد، دون إثباته خَرْطُ الْقَتادِ کما مرّ.

والحاصل: استفادة ولایة عدول المؤمنین من الآیات الشریفة فی غایة الإشکال والاستدلال بها لم یتم، هذا کلّه فی استفادة الحکم من کتاب اللّه العزیز الغفار، واللّه العالم.

2- السنة
أ: الروایات الخاصة
اشارة

استدلوا بعدّة من الروایات وهل یستفاد منها «اشتراط العدالة فی المؤمن الذی یتولّی المصلحة عند فقد الحاکم، کما هو ظاهر أکثر الفتاوی؛ حیث یعبّرون بعدول المؤمنین، وهو مقتضی الأصل، ویمکن أن یستدلّ علیه ببعض الأخبار أیضا»(1).

منها: صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع
اشارة

قال: مات رجل من أصحابنا ولم یوص فرفع أمره إلی قاضی الکوفة فصیّر عبدالحمید القیم بماله، وکان الرجل خلّف ورثة صغارا ومتاعا وجواری، فباع عبدالحمید المتاع، فلما أراد بیع الجواری ضعف قلبه عن بیعهنَّ إذ لم یکن المیت صیّر إلیه وصیته، وکان قیامه فیها بأمر القاضی لأنهنَّ فروج.

قال: فذکرت ذلک لأبیجعفر علیه السلام وقلت له: یموت الرجل من أصحابنا، ولا یوصی إلی أحد، ویخلف جواری فیقیم القاضی رجلاً منّا فیبیعهنَّ، أو قال: یقوم بذلک رجل منّا فیضعف قلبه لأنهنَّ فروج، فما تری فی ذلک؟ قال: فقال: إذا کان القیم به مثلک، ومثل عبدالحمید فلا بأس.(2)

ص: 347


1- 1 . المکاسب 3/564.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/363، ح2، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.

قال الشیخ الأعظم رحمه الله فی ذیلها: «بناء علی أنّ المراد من المماثلة: إمّا المماثلة فی التشیّع، أو فی الوثاقة وملاحظة مصلحة الیتیم وإن لم یکن شیعیّا، أو فی الفقاهة - بأن یکون من نوّاب الإمام علیه السلام عموما فی القضاء بین المسلمین - أو فی العدالة.

والاحتمال الثالث منافٍ لإطلاق المفهوم الدالّ علی ثبوت البأس مع عدم الفقیه ولو مع تعذّره. وهذا بخلاف الاحتمالات الاُخر؛ فإنّ البأس ثابت للفاسق أو الخائن أو المخالف وإن تعذّر غیرهم، فتَعَیّن أحدها الدائر بینها، فیجب الأخذ فی مخالفة الأصل بالأخصّ منها، وهو العدل»(1).

اعتراضات علی مقالة الشیخ الأعظم
الأوّل: اعترض المحقّق النائینی علی الشیخ الأعظم

بقوله: «ویمکن أن یورد علیه:

أمّا أوّلاً: فبأنَّ ما أفاده فی وجه بُعد الاحتمال الرابع أعنی أرادة المماثلة فی الفقاهة

بأنّه یلزم ثبوت البأس فی عدم تصدی الفقیه مع أنّ المورد ممّا لابدّ أن یؤتی به ولو من غیر الفقیه، منقوض بالنسبة إلی ارادة الاحتمال الثالث أیضا بل وعلی الاحتمال الثانی، فإنَّ المفروض أنّه مع عدم العادل والموثَّق تکون الواقعة ممّا لابدّ من القیام به ولو من الفساق.

وأمّا الثانیا: فبأنّه یمکن أن یکون المفروض فی مورد الروایة صورة التمکن من الرجوع إلی الفقیه وأنّ البأس کان فی تصدی غیره لأجل التمکن من تصدیه، فالإنصاف أنّ الروایة مجملة لا تصلح لاستنباط اعتبار العدالة منها»(2).

وتبعه فی الاعتراض تلمیذه السیّد الخوئی وقال: «ویتوجه علیه أوّلاً: أنّ العلم الخارجی بعدم إرادة الإطلاق من الکلام لا یرخّص رفع الید عن ظهور اللفظ فی الاطلاق، بل لابدّ من التحفّظ علی الظهور وتقیید الإطلاق بالعلم الوجدانی بالتقیید، وأمّا رفع الید عن أصل الظهور وحمل اللفظ علی خلاف الظاهر فهو ممّا لا مجوّز له علی ما فصّلنا

ص: 348


1- 3 . المکاسب 3/565.
2- 1 . المکاسب والبیع 2/340.

الکلام فیه عند التکلّم فی مبحث العام والخاص وقلنا إنّ أصالة الظهور إنّما تجری فی تعیین المراد لا - بعد العلم بالمراد - فی أنّه کیف یراد.

وثانیا: أنّ هذه المناقشة تجری فی الاحتمال الرابع أیضا للعلم بأنّ القیمومة ثابتة للفاسق عند تعذّر الوصول إلی العادل مع أنّ مفهوم الصحیحة ثبوت البأس عند عدم العدالة علی نحو الإطلاق، فالعلم الوجدانی علی الخلاف موجود فی هذا الاحتمال أیضا، هذا.

والصحیح أن یقال: بأنّ الاحتمال الأوّل أیضا ساقط عن الاعتبار أعنی المماثلة فی التشیّع، لأنّ الظاهر من الروایة أنّ السؤال إنّما هو عن المیّت من الشیعة والعادة جاریة علی نصب واحد ممّن یوافق المیت فی المذهب من أقران المیّت وأصحابه قیّما علی أمواله وأطفاله، فإنّ من البعید غیر المتعارف أن ینصب سنّی قیّما علی أولاد الشیعی المتوفّی، إذن فالمماثلة فی الطریقة والتشیّع کانت مفروغا عنها فی الروایة، ومعه لابدّ فی الخروج عن أصالة عدم جواز التصرف فی أموال الغیر من أن نعتبر جمیع المحتملات الباقیة فی المماثلة کالوثاقة والعدالة والفقاهة وغیرها ممّا نحتمل فی معنی المماثلة اقتصارا علی القدر المتیقّن فی الخروج عن مقضی الأصل حتّی مثل المکان والبلد والعمر فیما إذا احتملنا دخل هذه الاُمور، والوجه فی ذلک أنّ الظاهر من الروایة هو التمکّن من استئذان الإمام علیه السلام فی التصرفات وکان العصر عصر الحضور، کما أنّ المبیع کان متاعا لا

یخشی علیه من الضیاع والتلف علی تقدیر تأخیر بیعه إلی زمان تحصیل الإذن من الإمام علیه السلام .

ومن الظاهر أنّه مع التمکّن من الإمام علیه السلام وحضوره لیس لغیره الولایة فی أمثال مورد السؤال، ومعه إذا جعل الولایة لواحد کما فی قوله علیه السلام «إذا کان مثلک ومثل عبدالحمید فلا بأس» فهو حکم علی خلاف القاعدة یقتصر فیه علی المقدار المتیقّن کما ذکرناه، فإنّه علیه السلام قد جعل بذلک الولایة لغیره مع التمکّن مع الوصول إلیه علی طبق القضیة الحقیقیة ولو لأجل التساهل والارفاق، فلا مناص من الاکتفاء فی الخروج عمّا تقتضیه

ص: 349

القاعدة علی القدر المتیقّن»(1).

أقول: یمکن أن ندافع عن الشیخ الأعظم بأنّ مبناه بناءً علی ما صرّح به من قوله: «هذا، والذی ینبغی أن یقال: إنّک قد عرفت أنّ ولایة غیر الحاکم لا تثبت إلاّ فی مقام یکون عموم عقلی أو نقلی یدلّ علی رجحان التصدّی لذلک المعروف، أو یکون هناک دلیل خاصّ یدلّ علیه، فما ورد فیه نصّ خاصّ علی الولایة اتّبع ذلک النصّ عموما أو خصوصا فقد یشمل الفاسق وقد لا یشمل»(2).

توضیح مبناه: أنّ الولایة لم تَثْبُتْ لأحدٍ من المؤمنین إلاّ بعد ورود عمومٍ عقلیٍّ أو نقلیٍّ أو یَکُوْنُ هُناکَ نَصٌّ خاصٌّ یَدُلُّ عَلَیْها، النصوص العامة تقتضی عدم اعتبار العدالة ولکن لنصوص الخاصة تقتضی اعتبارها، وما حکم الشیخ الأعظم ذیل هذه الصحیحة باشتراط العدالة هو ما یقتضیه هذا الدلیل الذی یدخل فی النصوص الخاصة فلا یتم الاعتراض علیه. واللّه العالم.

الثانی: ما ذکره المحقّق الاصفهانی

بقوله: «والتحقیق: أنّ اطلاق المفهوم تابع لإطلاق المنطوق، ومن الواضح أنّه لا معنی لإطلاق المنطوق هنا، بیانه: إنّ المراد إذا کانت المماثلة فی الفقاهة فمعناها إنْ کان القیم مثلک ومثل عبدالحمید فقیها فلا بأس، ومن البیّن أنّ نفوذ تصرّف کلّ فقیه غیر منوط بوجود فقیه آخر ولا بعدمه قطعا، لا أنّه أمر یحتمل دخله حتّی یقوم المتکلم بصدد نفی دخله وجودا وعدما لیتحقّق اطلاق کلامی منه، بحیث یکون حجة علی نفی دخله من قبله، وهکذا الأمر من سائر المحتملات فتدبر جیدا»(3).

مراده: «أنّ القواعد الاُصولیّة تقتضی تبعیّة المفهوم للمنطوق، لأنّ دلالة المفهوم دلالة التزامیّة ودلالة المنطوق مطابقیّة، والالتزامیّة تابعة للمطابقیّة فی العموم والخصوص، فإذا استحال فرض الإطلاق فی المنطوق استحال انعقاده فی المفهوم أیضا،

ص: 350


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/178 و 179.
2- 2 . المکاسب 3/567.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/405 و 406.

وفیما نحن فیه بما أنّه لا إطلاق فی المنطوق کذلک لا إطلاق فی المفهوم بالضرورة، وذلک بحکم البرهان المذکور، ومع انتفاء الإطلاق فی المفهوم یسقط دعوی الشیخ، من أنّ: «الاحتمال الثالث مناف لإطلاق المفهوم الدال علی ثبوت البأس مع عدم الفقیه»(1)، لما ثبت من أنّ صحّة تصرّف کلّ فقیه غیر مقیّد بتصرّف غیره من الفقهاء وجودا، وأیضا من جهة العدم لم یکن تصرّف کلّ فقیه مشروطا بعدم تصرّف فقیه غیره، وبالتالی فمع عدم احتمال التقیید یبطل الإطلاق فی المنطوق، لتوقّف ثبوت الإطلاق علی احتمال المدخلیّة، حیث نردّه من خلال الإطلاق، ومع علمنا بأنّ تصرّف الفقیه فی الاُمور الحسبیّة جائز مطلقا غیر مقیّد بوجود فقیه آخر وعدمه، فإذا انتفی احتمال التقیید ینتفی بتبعه الإطلاق، ومع بطلان الإطلاق فی المنطوق یبطل دعوی الإطلاق فی المفهوم بتبعه أیضا»(2).

وفیه: «أنّ دعوی المحقّق الأصفهانی من أنّ: «نفوذ تصرّف کلّ فقیه غیر منوط بوجود فقیه آخر ولا بعدمه قطعا»(3) تامّة لا نقاش فیها، لکن القطع بذلک لا یحصل لنا إلاّ بعد ملاحظة الأدلّة الشرعیّة، والیقین الحاصل بعد ملاحظتها لا یعدّ مانعا عن انعقاد الاحتمال المذکور، لیمنع عن انعقاد اللاّحق، لأنّه قبل المراجعة إلیها نحتمل احتمالاً وجدانیّا بأنّ الولایة الثابتة للفقیه إنّما هی ولایة مجموعیّة لا استغراقیّة - کما هو الحال فی الوصیّة إلی الأوصیاء المتعدّدین، مع اشتراط اشتراک مجموعهم فی الإشراف علی التنفیذ بمعنی أنّ الولایة الثابتة لهم تکون بنحو العام المجموعی، حیث یستلزم اجتماعهم واتّفاقهم علی التصرّف، فلا تکون تصرّفاتهم المنفردة نافذة، ومثل هذا الاحتمال الوجدانی لا دافع له إلاّ من خلال إطلاق الدلیل، ممّا یعنی لزوم انعقاد الإطلاق فی الدلالة المنطوقیّة أوّلاً، لکی یقتضی ثانیا علی رفع الاحتمال المذکور، فإذا ثبت الإطلاق فی المنطوق ثبت الإطلاق فی المفهوم بتبعه، ویثبت بتبعه صحّة ما التزم به الشیخ وبطلان

ص: 351


1- 1 . المکاسب 3/565.
2- 2 . العقد النضید 4/243 و 244.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/406.

دعوی المحقّق الأصفهانی»(1).

الثالث: ما ذکره المحقّق الإصفهانی أیضا

بقوله: «ثمّ إنّ احتمال المماثلة فی الفقاهة مدفوع بأنّ عبدالحمید الذی یحتمل إرادته من هذا الخبر؛ إمّا عبدالحمید بن سالم العَطّار الکوفی أو عبدالحمید بن سعد البجلی الکوفی.

والأوّل: وإنْ کان موثقا فی کلام جمع إلاّ أنّه لیس صاحب أصل أو کتاب لیستفاد فقاهته من کونه صاحب کتاب فی الروایات، نعم أسند ذلک(2) إلی محمّد ابنه.

والثانی: وإنْ کان صاحب کتاب ویروی عنه صفوان کما فی ترجمته(3)، إلاّ أنّه لم یوثّق صریحا فی کتب الرجال إلاّ من حیث روایة صفوان عنه، وهو ممن أجمعت الْعِصابَةُ علی تصحیح ما یَصِحُّ عنه، أو من حیث هذه الرِّوایَة حیث جعل قرینا لمثل محمّد بن إسماعیل بن بزیع الذی هو من الفقهاء من مشایخ الفضل بن شاذان.

وکلاهما محل تَأَمُّلٍ(4)، لِما فی الأوّل من المناقشة فی إثبات العدالة به فی فنه.

ولما فی الثانی من احتمال کونه مماثلاً له فی کونه إمامیا أو أمینا فقط، مع أنّه من المحتمل أنْ یکون هو ابن سالم الثقة فتأمل.

وعلی أیِّ حال فإمّا ثقة ولا فقاهة؛ وإمّا فقیه ولا توثیق، بل الظاهر کما فی غالب نسخ التهذیب أنّه ابن سالم لوجوده فیها وهو لیس بصاحب کتاب لیستظهر منه کونه فقیها واللّه العالم.

نعم بِناءً علی أنّهما واحد کما قیل، وأنّه نسب تارة إلی أبیه وأُخری إلی جده، لِوَصْفِ(5) کلیهما بأنّه مولی بَجِلیَّة کوفی وکلیهما بالعطار فهو فقیه موثق واللّه أعلم»(6).

ص: 352


1- 1 . العقد النضید 4/244.
2- 2 . رجال النجاشی /339، رقم 907. وفیها وثق والده، وکلامه محل کلام هل التوثیقق للولد أو الوالد؟ فراجع.
3- 3 . رجال النجاشی /246، رقم 646.
4- 4 . فی المصدر: التأمل.
5- 5 . فی المصدر: لتوصیف.
6- 6 . حاشیة المکاسب 2/406.

وفیه: أوّلاً: روایة عبدالحمید بن سالم العَطّار عن الإمام أبیالحسن موسی علیه السلام ووثاقته اسْتُفِیْدَتْ من النجاشی(1) وفقاهته اسْتُفِیْدَتْ من تمثیله بمحمّد بن إسماعیل بن

بزیع والتمثیل لا یکون إلاّ فی أظهر الأشیاء وأعرفها کما مرّ منّا فی بحث ولایة الفقیه(2). والرجل لا یکون عندنا إلاّ ابن سالم العطار واللّه العالم.

وثانیا: نعم، قول النجاشی: «له کتاب النوادر»(3) یرجع إلی ابنه محمّد بن عبدالحمید، کما إنّ قوله «وکان ثقةً من أصحابنا الکوفیین»(4) یرجع إلی والده عبدالحمید ابن سالم لاِءَنَّه لو کان الابن المراد من التوثیق لا یحتاج إلی ذکر «وکان ثقةً» بل یمکن أن یقول بدله «ثقةٌ» من دُوْنَ «کان» کما هو دأب النجاشی.

وثالثا: عبدالحمید بن سعد بَجَلِیٌّ کوفیٌّ له کتاب کما ذکره النجاشی(5)، ولکن إثبات أنَّ لَه کتاب لا یُثْبِتُ فَقاهَتَهُ خِلافا لِما ذکره المحقّقَ الأصفهانی رحمه الله لأنّ الکتاب لو کان فی التاریخ أو المواعظِ أو الفضائلِ أو الثواب والعقاب أو العقائد أو السِّیَر کیف یمکن إثبات فقاهة مؤلِّفه به؟! «له کتاب»(6) عنوان عام والفقاهة عنوان خاص وَلا یُثْبِتُ الأعَمُّ الأخَصَّ.

ورابعا: علی ما مرّ منّا فی بحوثنا فی علم الرجال(7): کلّ من ذکره النجاشی قدس سره فی فهرسته ولم یتعرض لمذهبه فهو شیعیٌّ إمامیٌّ اثناعشریٌّ وکلّ من ذکره ولم یقدح فیه فهو مستور وممدوح ومعتبر ومحلّ اعتماد لأنّ مبناه ذکر مصنفی الإمامیة، وهو حریص فی کل ما ورد فی قدحهم، فإذا لم یذکر أحدا بقدح فلم یصل قدحه إلیه فهو معتبر لعدم ورود

ص: 353


1- 7 . رجال النجاشی /339، رقم 906.
2- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 215.
3- 2 . رجال النجاشی /339، رقم 906.
4- 3 . رجال النجاشی /339، رقم 906.
5- 4 . رجال النجاشی /246، رقم 648.
6- 5 . رجال النجاشی /246، رقم 648.
7- 6 . راجع تقریرات هذه البحوث بقلم المحقّق الخبیر الشیخ جویا جهانبخش - دامت برکاته - .

القدح الثابت فی حقّه.

وعلی هذا المبنی - الذی لستُ أنّا أوّل مَنْ قال به - ، بل أنا تابع لجماعة من مشایخ هذا الفن فی ذلک، ثبوت اعتبار ومدح وحُسْن ووثاقة عبدالحمید بن سعد واضح.

وخامسا: لم تَتمّ هذه المقالة: «فإمّا ثقة ولا فقاهة وأمّا فقیه ولا توثیق»(1) لأنّه لو کان عبدالحمید بن سالم فهو فقیه ثقة وهو المختار، ولو کان عبدالحمید بن سعد فهو مؤلِّف

ممدوح معتبر فلم یثبت فقاهته ولکن یثبت توثیقه کما مرّ.

وسادسا: لم یثبت أنّهما واحد، بل ظاهر النجاشی أنّهما اثنان لأنّهما لو کانا واحدا لابدّ للنجاشی عند ذکر محمّد بن عبدالحمید أن یقول: وقد مرّ والده أو عند ذکر الوالد أن یقول: وقد یأتی ولده محمّد ولم یذکرهما، فظاهر عنوانهما متعددا، واحدا منهما - وهو عبدالحمید بن سعد - مستقلاً وثانیهما - وهو عبدالحمید بن سالم - تبعا لولده محمّد تعددهما، وَوَصْفُ الأخیر بالعطّار والأوّل بِالْبَجَلِیّ، من دون تکرار الْوَصْفِ فیهما أیضا شاهد علی تعددهما فلا یتم «أنّهما واحد کما قیل»(2) ولم یتصف «کلاهُما بأنّه مولی بجِلیَّةَ کوفی وکلاهما بالعطار»(3) والاشتراک بینهما یثبت أنّهما کوفیان فقط.

الرابع: ما ذکره المحقّق الخمینی رحمه الله

بقوله: «ولکن استفادة عموم الحکم موقوفة علی إحراز کونه بصدد الإجازة مطلقا، أو فی مقام بیان الحکم الکلّی الشرعیّ، وهما محلّ اشکال فی المورد لأنّ ظهور کلام الإمام علیه السلام فی بیان الحکم الشرعی أنّما یکون فی غیر ما کانت الإجازة فیه بیده، کما لا یخفی علی المتأمّل، وعموم الإجازة أیضا غیر محرز.

وعلی فرضه، فبقاؤها بعد رحلته علیه السلام محلّ کلام؛ لأنّ الإجازة غیر جعل المنصب، فلابدّ فی بقائها من دلیل»(4).

وببیان آخر: «أنّ الاستدلال بهذه الروایة یتمّ فیما لو کان الإمام علیه السلام فی مقام بیان

ص: 354


1- 7 . حاشیة المکاسب 2/406.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/406.
3- 2 . حاشیة المکاسب 2/406.
4- 3 . کتاب البیع 2/675.

الحکم الواقعی، دون الإذن والتوکیل الْمَعْدُوْدَیْنِ من شؤون الإمام علیه السلام ، بمعنی أنّ الإمام إذا کان یقصد بیان الحکم الواقعی، وأنّه عند فقد الفقیه فإنّ لعدول المؤمنین ولایة التصرّف فی المصالح العامّة، صحّ الاستدلال بالروایه علی اشتراط العدالة. وأمّا لو کان یقصد أن یأذن لمثل عبدالحمید وابن بزیع بالتصرّف فی أموال الیتامی والقاصرین، کما هو شأن الإمام، فلا مجال للاستدلال بها لخروجها عن دائرة البحث، والروایه من صنف الأخیر، فلا مجال للاستدلال بها فی المقام، واستنتاج اعتبار العدالة فی المتصرّف منها»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: الأصل فی ما یصدر من الأئمة علیهم السلام هو بیان الحکم الشرعی الواقعی لأنّهم علیهم السلام مبیّنون للأحکام الشرعیة ولهم الولایة التشریعیة کما مرّت فی أوّل

بحث ولایة الفقیه(2)، لا إعمال ولایتهم العامة، والحمل علی الأخیر یحتاج إلی قرینة وبیان.

وثانیا: عَلی فَرْض قبول هذه المقالة: «ظهور کلام الإمام علیه السلام فی بیان الحکم الشرعی إنّما یکون فی غیر ما کانت الإجازة بیده»(3) وغیر موارد إعمال ولایته العامة، لیست المورد من موارد الإجازة بل یکون من موارد النصب وإعطاء المقام وجعل الولایة لأحد بل نصب الفقیه منصب القیمومیة علی الأیتام، ونعلم أن إعطاء المنصب توسط الإمام علیه السلام ونصب المقام وجعل الولایة لأحد باق بعد وفاة الأمام علیه السلام ولذا یظهر عدم تمامیة هذه المقالة: «وعلی فرضه [أی فرض عموم الإجازة [فبقاؤها بعد رحلته علیه السلام محلّ کلام لأنّ الإجازة غیر جعل المنصب فلابدّ فی بقائها من دلیل»(4).

لأنّ المورد جعل المنصب لا الإجازة.

وثالثا: قوله علیه السلام : «إذا کان القیم به مثلک ومثل عبدالحمید فلا بأس»(5). قرینة

ص: 355


1- 4 . العقد النضید 4/240.
2- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 149.
3- 2 . کتاب البیع 2/675.
4- 3 . کتاب البیع 2/675.
5- 4 . وسائل الشیعة 17/363، ح2.

قطعیة علی أنّ الإمام علیه السلام یقصد به بیان الحکم الشرعی الواقعی لا إعمال ولایته علیه السلام ، ولا أقل تکون مقالته علیه السلام قرینة قطعیة علی أنّه فی مقام إعمال الولایة جعل منصب القیومیة للأیتام للفقهاء العظام حیث نفی البأس عن أمثالهما لا أشخاصهما.

وهذه المقالة أیضا قرینة قطعیة علی أنّها لیست علی نحو الإجازة حتّی نبحث فی عمومیتها.

ورابعا: لو تنزّلنا أوّلاً وقبلنا عدم دلالة الصحیحة علی الحکم الشرعی الواقعی وتنزّلنا ثانیا وقبلنا أنّها لم تدل علی جعل المنصب فی إعمال ولایة العامة للإمام، وقلنا بأنّها إجازة صدرت من الإمام علیه السلام فلا یمکن نفی عمومیتها لأنّها صدرت علی محور المثلیّة وفلا یمکن اختصاصها بأشخاص معیّنین من ابنی بزیع وسالم، بل یفید عموم الإجازة لأمثالهما من الفقهاء العظام فلا یتم «وعموم الإجازة غیر محرز»(1).

وخامسا: لو فُرِضَ صُدُوْرُ هذه الإجازة الخاصة - علی ما قاله المُعْتَرِض - فی غرة

شهر ذیالقعدة الحرام سنة 220ه الذی استشهد الإمام أَبُوْجعفر الثانی جواد الأئمة علیه السلام فی آخر یوم منه، هل یحتمل المعترض المحقّق إعادتها بعد شهر فی بدایة إمامة أبیالحسن الهادی علیه السلام ؟!، وهل فهم ابنا بزیع وسالم من کلام الإمام الجواد علیه السلام لزوم تجدیدها فی زمن الإمام الآتی؟!

وهذه القرائن کلّها تنفی تَطَرُّق هذا الاحتمال - أی صدورها علی نحو الإجازة الخاصة - واللّه سبحانه هو العالم.

والحاصل: صحیحة ابن بزیع تدلّ علی ولایة الفقیه بالنسبة إلی أموال الایتام وقیمومیتهم، لأنّ المماثلة المذکورة فیها هی الفقاهة کما مرّ بَیانُ ذلِکَ.

نعم، الفقیه لابدّ أن یکون عادلاً حتّی ثبتت الولایة فی حقه، وإذا کان عادلاً لابدّ أن یکون مُوَثَّقا کما لابدّ أنْ یکون شیعیا.

ص: 356


1- 5 . کتاب البیع 2/675.

وأمّا تَطَرُّقُ احتمال المماثلة فی التشیع فَهُوَ مُنْتَفٍ بما مرّ(1) من السیّد الخوئی(2) فی الاعتراض الأوّل فراجعه، هذا تمام الکلام حول صحیحة ابن بزیع وقد عرفت عدم دلالتها علی ولایة عدول المؤمنین والحمد للّه ربّ العالمین.

ومنها: صحیحة علی بن رئاب قال: سألت أباالحسن موسی علیه السلام عن رجل بینی وبینه قرابة مات وترک أولادا صغارا، وترک ممالیک غلمانا وجواری ولم یوص، فما تری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها أُم ولد؟ وما تری فی بیعهم؟ قال: فقال: إن کان لهم ولیّ یقوم بأمرهم باع علیهم ونظر لهم وکان مأجورا فیهم، قلت: فما تری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها أُم ولد؟ فقال: لا بأس بذلک إذا باع علیهم القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم، فلیس لهم أن یرجعوا فیما صنع القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم.(3)

فی سند الکلینی سهل بن زیاد ولکن سندی الصدوق والشیخ بالروایة صحیحان.

حملها الشیخ الأعظم علی «کفایة الأمانة وملاحظة مصلحة الیتیم فیکون مفسّرا للاحتمال الثانی فی وجه المماثلة»(4) فی الصحیحة الماضیة أی المماثلة فی الوثاقة.

ویرد علیه: إنّ الصحیحة «بعد اعتبار القیّم والفراغ عن قیمومیته تتحدّث عن لزوم

مراعاته المصلحة»(5) وکلامنا فی ولایة عدول المؤمنین وجواز تصدیهم للقیمومیة وبینهما بَوْنٌ بعید.

ولذا قال المحقّق النائینی بعد نقل هذه الصحیحة: «والانصاف عدم امکان استفادة شیء منها أیضا، وذلک لأنّها مسوقة لبیان تصحیح فعل القیم لا فی مقام بیان من یصلح للقیام بأمرهم وما یعتبر فیه، فلعل القیم المذکور فی مورد الروایة کان فقیها أو نائبا أو مأذونا مع اجتماع ما یعتبر فیه من الشرائط فلا یستفاد منها اعتبار عدالة المتصدی أو

ص: 357


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 349.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/179.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/361، ح17 الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.
4- 4 . المکاسب 3/656.
5- 1 . العقد النضید 4/250.

وثاقته»(1).

وتبعه المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله وقال: «ولا یخفی أنّ الروایة لیست بصدد بیان الأوصاف المعتبرة فی القیّم وغیر ناظرة إلیها، وإنّما هی فی مقام بیان جواز الشراء فیما إذا باع علیهم القیّم الناظر إلی أفعالهم، أمّا أنّ أیّ وصف یعتبر فی القیّم فهی غیر ناظرة إلیه فلا یمکن الأخذ بإطلاقها. علی أنّ هذه الروایة مطلقة من حیث عدم اعتبار تعذّر الوصول إلی الإمام فضلاً عن الفقیه، بل حکم بجواز تولیة آحاد المسلمین علی نحو الإطلاق سواء کان ذلک فی زمان الإمام وأمکن الوصول إلی محضره أم کان فی زمان آخر تمکّن من الوصول إلی الفقیه أو لم یتمکّن، وعلیه فتکون هذه الروایة أجنبیة عمّا نحن بصدده، إذ الکلام فی ولایة المؤمنین أو غیرهم فی غیر زمان التمکّن من الإمام أو الفقیه، وأمّا جعل الولایة علی نحو الإطلاق فیمکن أن یشترط فیها شیء آخر أو یحذف عنها بعض الشروط، وکیف کان فالمقام غیر ما دلّت علیه الروایة کما هو ظاهر»(2).

ومنها: موثقة سماعة قال: سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وکبار من غیر وصیة، وله خدم وممالیک وعُقَدٌ(3)، کیف یصنع الورثة بقسمة ذلک المیراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلک کلّه فلا بأس.(4)

قد یقال: «تقریب الاستدلال بمثل هذه الروایة واضح، وهو أنّه حتّی مع عدم الإذن السابق من الحاکم أو المجتهد لخصوص هذا الرجل الثقة مثلاً لا بأس بقیامه باُمور المیّت

وورثته، بل یمکن أن یستفاد منها لزوم قیامه لا مجرّد جوازه، وذلک لأنّ الإمام لم یُعیِّن فی جواب المسألة طریقا آخر، وحیث إنّه لا یصحّ الإهمال فلذا یترجّح بل یتعیّن أن یتصدّی له الثقه، وهذا یکون بمعنی ولایة العدل أو ما یقربه.

ولا یخفی أنّ الروایة لم تقیّد الرجل المتصدی له بالعدالة، بل قیّدته بالوثاقة التی

ص: 358


1- 2 . المکاسب والبیع 2/340.
2- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/180.
3- 4 . العُقَد: جمع عُقْدِة وهی الضَیْعَة والمکان الکثیر الشجر [الصحاح 2/510].
4- 5 . وسائل الشیعة 19/422، ح2، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا.

هی أدون منها اصطلاحا. نعم، لا یبعد أن یقال: إنّها فی لسان الروایات متحدة معها ظاهرا»(1).

حملها الشیخ الأعظم «علی أنّ المراد من یوثق به ویطمئنّ بفعله عرفا وإن لم یکن فیه ملکة العدالة»(2).

وتبعه المحقّق الاصفهانی وقال: «وإن کانت العدالة فی نفسها أخص من الوثاقة»(3).

ولکن المحقّق النائینی شکّک فی المراد من الوثاقة وقال: «ولا ینبغی الارتیاب فی دلالتها علی کفایة الوثاقة فی القیم بأمور الصغیر، لکن الشأن فی المراد من الوثاقة، إذ لم یعلم أنّ المراد منها هل هو العدالة، فإنّها قد تطلق ویراد بها العدالة، أو أنّ المراد بها هو المعنی الأعم من العدالة وکیف کان فلو أُرید منها الاعم لوجب تقییدها بصحیحة إسماعیل بن سعد المرویة عن الرضا علیه السلام »(4).

والمحقّق السیّد الخوئی حمل الوثاقة فی الموثقة علی مرتبة فوق العدالة لا دونها وقال: «... لأنّ الثقة أخص من العدالة ومعناها من یؤمن به فی جمیع أفعاله وأخلاقه ودینه، ومنه ثقة الإسلام لقب الکلینی قدس سره وأمّا إطلاق الثقة فی اصطلاح الرجالیین علی من لا یکذب فی الحدیث فقط وإن کان فاسقا فی حدّ نفسه أو کان کافرا مثلاً فهو اصطلاح خاص للرجالیین وإنّما اصطلحوا بذلک لأنّه مشغلتهم حیث إنّ شغلهم التفتیش عن صدق الرواة وکذبهم فی الخبر، وأمّا الثقة علی نحو الإطلاق کما وقع فی الحدیث فهی عبارة عمّن یؤمن به فی جمیع الاُمور علی نحو الإطلاق وهو أرقی من العدالة وأخصّ منها کما لا یخفی»(5).

ص: 359


1- 1 . تحقیق فی القواعد الفقهیة /795 للعلاّمة الحجة الآیة السیّد علی الفرحی - دام ظله - .
2- 2 . المکاسب 3/567.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/408.
4- 4 . المکاسب والبیع 2/340 و 341.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/180 و 181.

والفرق بین المحقّقین النائینی والخوئی: النائینی یری الوثاقة أعمّا من العدالة والخوئی أخصا منها.

وتابع شیخُنا الاستاذ استاذَه السیّد الخوئی فی معنی الوثاقة ولم یرض بما دون العدالة وقال: «فلا ظهور للثقة فیها فیمن یطمئن بفعله عرفا ولو کان فاسقا، بل لا یبعد ظهورها فی العدل ولا أقل من الحمل علیه جمعا بینها [أی بین موثقة سماعة] وبین صحیحة إسماعیل بن سعد»(1).

وخالفهم الاستاذ المحقّق - مدظله - وقال: «ومن المعلوم أنّ المراد هی الأمانة المانعة والرادعة عن الخیانة [فی الأموال] لا الوثاقة المعتبرة فی القول والأخبار وبمدلول هذه الروایة نرفع الاجمال عن مدلول صحیحة ابن بزیع...»(2).

أقول: القاعدة تقتضی حمل الثِّقَة علی معناه اللغوی إلاّ إذا قامت قرینة علی خلافه، ومعنی الثقة هو الذی یُعتمدُ علیه وَیُطْمَأَنُّ إلیه فی القول أو العمل، سواءً کان عادلاً أم فاسقا فعلیه یکون معنی الوثاقة أَعَمَّ من العدالة، والوثاقة فی الأمور المالیة هی الأمانة وقدرة إدارة الأموال، فحینئذ بهذه الموثقة یمکن تقیید المطلقات من الروایات أو المجملات.

مضافا إلی أنّ ما ذکره الأعلام الثلاثة یوجب إجمال الروایات الواردة فی حجیة أخبار الثِّقاتِ وترددها بین العدالة والوثاقة، هذا أوّلاً.

وثانیا: أنّهم ذهبوا فی علم الأُصول إلی أنّ النسبة بین العدالة والوثاقة هی العموم والخصوص من وجه، لأنّ الرجل قد یکون عادلاً غیر ثقة فی إخباره لکثرة سهوه وَخَطَئِهِ وقد یکون موثقا لأنّه لم یکذب ولکنّه فاسق فی أفعاله. وإذا وصلوا إلی الفقه ذهبوا إلی أنّ النسبة بینهما هی العموم والخصوص المطلقان وأنّ الوثاقة أخص من العدالة أو أَعَمِّ منها.

وأمّا الإشکال الأصلی: فی هذه الموثقة فَهُوَ ورودها فی قسمة المیراث، ونحن

ص: 360


1- 1 . ارشاد الطالب 4/240.
2- 2 . العقد النضید 4/251.

نرید أن نثبت ولایة عدول المؤمنین بها فی مطلق التصرفات فی الأُمور الحسبیة مع فقدان الفقیه، والقاعدة تقتضی لزوم الاقتصار علی مورد النص وعدم تعمیمها إلی غیرها، فلا یثبت بها المدعی.(1)

ویمکن أن یجاب عنه: رجل ثقة إذا قام بقسمة أموال المیت بین اُولاده الصغار والکبار، یأخذ الکبار سِهامَهُمْ وَیَنْصَرِفُوْنَ إلی أعمالهم ومعیشتهم ویبقی الصغار وَسِهامُهُمْ وحفظهم وإدارة أموالهم فلابدّ للرجل الثقة القاسم أن یحفظ الصغار وأموالهم حتّی یکبروا، وهذا هو معنی ولایة عدول المؤمنین أو ثقاتِهم.

والأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - استفادوا من الموثقة ما اسْتَفَدْناهُ ولذا جاءوا بها فی ضمن أدلة ولایة عدول المؤمنین، واللّه العالم.

ومنها: صحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری قال: سألت الرضا علیه السلام عن رجل مات بغیر وصیة وترک أولادا ذکرانا وغلمانا صغارا، وترک جواری وممالیک هل یستقیم أن تباع الجواری؟ قال: نعم.

وعن الرجل یموت بغیر وصیة وله ولد صغار وکبار أیحلّ شراء شیء من خدمه ومتاعه من غیر أن یتولّی القاضی بیع ذلک، فإن تولاّه قاض قد تراضوا به ولم یستعمله الخلیفة أیطیب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا کان الأکابر من ولده معه فی البیع فلا بأس إذا رضی الورثة بالبیع، وقام عدل فی ذلک.(2)

حملها الشیخ الأعظم «علی اشتراط تحقّق عنوان العدالة»(3). کما هو الظاهر منها.

وتبعه المحقّق النائینی وقال: «المستفاد منها اعتبار العدالة فی المتصدی ویکون شارحا لما أجمل فی الأخبار السابقة ویصیر المتحصل من المجموع اعتبار العدالة وأنّه مع وجود العدل لا یجوز التصدی مِنْ غیره ولا یصح منه التصدی»(4).

ص: 361


1- 3 . کما فی العقد النضید 4/253.
2- 1 . وسائل الشیعة 17/362، ح1، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 2 . المکاسب 3/567.
4- 3 . المکاسب والبیع 2/341.

وقبل المحقّق الاصفهانی دلالتها علی «عدالة المتولی لأمر الیتیم»(1).

وتبعهم المحقّق السیّد الخوئی وقال: «وهذه الروایة أیضا تدلّ علی اشتراط العدالة فی القیم»(2).

وقال المحقّق الخمینی قال: «ثمّ إنّ فی قوله علیه السلام : «إذا کان الأکابر من ولده معه» إلی آخره، احتمالین:

أحدهما: رجوع ضمیر (معه) إلی القاضی الذی تراضوا به، ویکون المراد أنّ القاضی المذکور إذا باع بمحضر عدل لا بأس به، فتدلّ علی لزوم نظارة العدل فی البیع، وأمّا جواز استقلاله بذلک فلا.

إلاّ أن یقال: إنّ القاضی الجائر لا دخالة لفعله فی الصحّة، فهی ناشئة من نظر العدل محضا، فتدلّ الروایة التزاما علی الصحّة لو أوقعه بنفسه، وله وجه لو دلّت علی أنّ العدل رضی بذلک، وهو محلّ تأمّل.

وثانیهما: رجوع الضمیر إلی المشتری، ویکون المراد إلغاء عمل القاضی، توقّف الصحّة فی قسمة الأکابر علی رضاهم، وفی قسمة الصغیر علی قیام العدل فی البیع؛ أی یکون البیع برضا الکبیر والعدل، فتدلّ علی أنّ فعل العدل نافذ فی حصّة الصغیر، فتتمّ الدلالة، وهذا أوفق بمناسبة الحکم والموضوع»(3).

وقال الاستاذ المحقّق - مدظله - : «وهذه الروایة تامة الدلالة والإسناد وصریحة علی اعتبار العدالة فی الولی المتصرِّف وهی بعیدة عن المناقشة»(4).

أقول: المناقشة فی دلالة هذه الصحیحة علی اعتبار العدالة مکابرة واضحة. والظاهر رجوع الضمیر «معه» إلی القاضی الذی تراضوا به ولم یستعمله الخلیفة وهو لایخلو إمّا أن یکون عادلاً أو فاسقا، فإذا کان القاضی عادلاً یصدق علیه «وقام عدل فی

ص: 362


1- 4 . حاشیة المکاسب 2/405.
2- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/181.
3- 1 . کتاب البیع 2/678.
4- 2 . العقد النضید 4/253.

ذلک» ولا یحتاج إلی حضور عدلٍ أو لزوم نظارته فی البیع.

وإذا کان القاضی فاسقا ینفذ حکمه فی حقّ الکبار لأنّهم قد تراضوا به وأمّا بالنسبة إلی الصغار ف«قام عدل فی ذلک» حتّی یتم البیع بالنسبة إلی حصّتهم. فتدلّ الصحیحة علی ولایة عدول المؤمنین.

وأمّا رجوع الضمیر إلی القاضی الجائر أو المشتری فبعید جدّا لعدم سؤالٍ عن الأوّل وعدم ذکره صریحا عن الثانی فتأمل.

الجمع بین الروایات الأَرْبَعِ وحصیلة الکلام فیها:

قد عرفت إجمال صحیحة ابن بزیع عند الشیخ الأعظم ومَنْ تبعه بین أربع احتمالات أو أقل، ولکنّه یرفع الید عن إجمالها بصحیحة ابن رئاب من اعتبار الوثاقة وکفایة الأمانة وملاحظة مصلحة الیتیم ولکن القوم لا یرضون برفع إجمالها بها.

فیبقی فی البین موثقة سماعة الدالة علی اعتبار الوثاقة وصحیحة ابن سعد الدالة علی اعتبار العدالة، فذهب إلی اعتبار کلّ منهما فریق، کما ذهب ثالث إلی اعتبار «کل واحد منهما أی کفایة العدالة أو الوثاقة فی جواز التصدی للاُمور الحسبیّة»(1).

وأقول: صحیحة ابن بزیع تختص بولایة الفقیه؛ لأنّ المماثلة الموجودة بین ابنی بزیع وسالم هی الفقاهة، فلم تکن مجملة عندی.

وأمّا صحیحة ابن رئاب فلا تدلّ إلاّ علی لزوم مراعاة المصلحة فی أموال المولّی علیه بعد اعتبار القیم والفراغ عن قیومیته، فلم تدلّ علی ما نحن بصدده کما مرّ.

فتبقی فی المقام موثقةُ سماعة وصحیحةُ ابن سعد الدّالَّتانِ علی اعتبار الوثاقة والعدالة، وبناءً علی أنّ الوثاقة تکون أَعَمَّ من العدالة، والعدالة أَخَصَّ منها - کما علیه الشیخ الأعظم والمحقّق الاصفهانی - ، وفی الموثقة اکتفی بذکر الوثاقة فهی کافیة فی المقام واضافة العدالة إلی جنبها تکون علی نحو الاستحباب والاولویة، وقد مرّ أنّ المراد بالوثاقة هنا الانضباط المالی والأمانة المالیة وقدرة ادارة الأموال لا سیّما إذا کانت کثیرة

ص: 363


1- 1 . کما ذهب إلی الأخیر الاستاذ المحقّق - مدظله - فی العقد النضید 4/255.

وتؤیدها قرینة الحکم والموضوع وعدم وجود العلل الخفیّة فی المعاملات.

فبما ذکرنا من الروایات تَثْبتُ ولایة ثِقات المؤمنین فضلاً عن عدولهم. هذا علی القول بأنّ الوثاقة أعمّ من العدالة.

وأمّا علی القول بأنّ الوثاقة أخص من العدالة - کما علیه المحقّق السیّد الخوئی - فلا یجوز التصدی للأُمور الحسبیة إلاّ لِمَنْ یکون تالیا للمعصوم علیه السلام فی عصمته، وهذا یعنی تعطیل هذه الأُمور وحیث نعلم بعدم رِضا الشارعِ بتعطیلها فلابدّ من حمل الوثاقة فی الموثقة علی العدالة الواردة فی الصحیحة حتّی یجوز تصدی عدول المؤمنین لئلا تَتَعَطَّلُ هذه الاُمور التی لا یرضی الشارع بترکها.

وأمّا علی القول بأنّ النسبة بین الْعَدالَةِ والوثاقة هی العموم والخصوص من وجه کما هو الصحیح - وعلیه الاستاذ المحقّق(1) مدظله - فلابدّ من حمل کلمة العدالة فی الصحیحة علی الوثاقة فی المعتبرة بِالْقَرِیْنَتَیْنِ الماضیتین - وهما الحکم والموضوع، وعدم وجود العلل والمصالح الخفیة فی المعاملات - ونتیجتها ثبوت ولایة ثِقاتِ المؤمنین - لا عدولهم - فی المقام. واللّه العالم.

وبما ذکرنا من الجمع لا نحتاج إلی التفاصیل الواردة فی وجوه الجمع بین الموثقة والصحیحة فی کلام المحقّق الخمینی(2) رحمه الله .

هذا کلّه فی الروایات الخاصة الواردة فی المقام:

ب: الروایات العامة
اشارة

قد استدلوا بعدة من الروایات التی بعمومها تَشْملُ ولایة ثِقاتِ المؤمنین أو عدولهم:

منها: صحیحة ذریح

قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: أیّما مؤمن نفّس عن مؤمن کربة، وهو معسر، یسرّ اللّه له حوائجه فی الدنیا والآخرة، ومن ستر علی مؤمن عورة

ص: 364


1- 2 . راجع العقد النضید 4/252.
2- 1 . راجع کتاب البیع 2/682 وما بعدها.

یخافها ستر اللّه علیه سبعین عورة من عورات الدنیا والآخرة، قال: واللّه فی عون المؤمن ما کان المؤمن فی عون أخیه، فانتفعوا بالعظة، وارغبوا فی الخیر.(1)

ومنها: حسنة ابن القداح

عن أبیعبداللّه علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : کلّ معروف صدقة، والدال علی الخیر کفاعله، واللّه یحبّ إغاثة اللهفان.(2)

ومنها: معتبرة السکونی

عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : عونک الضعیف من أفضل الصدقة.(3)

ومنها: مرسلة القطب الراوندی

عن النبی صلی الله علیه و آله قال: إنّ اللّه فی عون العبد، مادام العبد فی عون أخیه.(4)

بتقریبین: 1- قبول حفظ الیتیم وقیمومیته والتحفظ علی أمواله من أفضل أفعال المعروفة وأهمّها، فیکون مشروعا ومطلوبا شرعا ویدخل فی عموم الصدقة واستحبابها فی قوله صلی الله علیه و آله : کلّ معروف صدقة.(5)

أقول: فی مدلول قوله صلی الله علیه و آله : کل معروف صدقة قولان: الأوّل: المعروف فی کلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنوان مشیر إلی الأُمور التی تکون مشروعیتها ومعروفیتها واردة وثابتة فی الشریعة المقدسة.

وفیه: لایمکن القول بأنّ المعروف عنوان مشیر إلی ما ثَبَتَتْ شَرْعِیَّتُهُ من قبل، لأنّ ما یفید فی التقریب استفادة مشروعیة المعروف بحمل الصدقة علیه، ولو کانت مشروعیة المعروف ثابتة ومعلومة من قبل ثمّ یحمل علیه عنوان الصدقة والمشروعیة فهذا دور واضح أو فقل: فما فائدة حمل الصدقة علی المعروف الذی نعلم مشروعیته؟!

الثانی: المراد بالمعروف فی الروایة ما هو معروف عُرْفا وعند العقلاء ومجتمعهم.

ص: 365


1- 2 . وسائل الشیعة 16/371، ح2، الباب 29 من أبواب فعل المعروف.
2- 3 . وسائل الشیعة 16/286، ح5، الباب 1 من أبواب فعل المعروف.
3- 4 . وسائل الشیعة 15/141، ح2، الباب 59 من أبواب جهاد العدو.
4- 5 . مستدرک الوسائل 12/429، ح10، الباب 34 من أبواب فعل المعروف.
5- 6 . وسائل الشیعة 16/286، ح5، الباب 1 من أبواب فعل المعروف.

وفیه: لم تَتمّ عُرْفِیَّةُ المعروف إلاّ فی مورد نعلم بعدم اشتراط فعل المعروف بإذن أحد.

وأمّا إذا کان مشروطا بإذن أحد أو تحتمل مشروطیته فلا یراه العرف والعقلاء معروفا. أو لاأقل من أن نشک فی معروفیته وبعد الشک فیها، التمسک بقوله صلی الله علیه و آله : کلّ معروف صدقة، فی هذه الموارد تمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة له أو تمسک بالدلیل لإثبات موضوعه وهو باطل.

وبالجملة: لا یمکن إثبات ولایة ثقات المؤمنین بقوله صلی الله علیه و آله : کل معروف صدقة.

2- الاستدلال بقوله صلی الله علیه و آله : «عونک الضعیف من أفضل الصدقة(1) وما ورد فیه کلمة «العون»: أمر العون یدور بین الوجود والعدم، وحیث یصدق عنوان العون عرفا علی مَنْ قام بقیمومة الأیتام وحفظ أموالهم فیثبت به ولایة ثقات المؤمنین.

لایقال: لسان هذه الروایات یَکُوْنُ لسان الترغیب والتشویق علی القیام بالعمل لکسب الثواب والتقرّب إلی اللّه تعالی، ولیس لسانه جواز صدور فعل العون من کلِّ فاعل یقوم به، وفی کل أمرٍ لو احتملنا صدوره من فرد معین أو أفراد معینین.

بعبارة أُخری: الروایات تدلّ علی استحباب عون المؤمن أو الضعیف من دون أن یستفاد من إطلاقها توسعة عنوان العون، لیمکن التمسک بإطلاقها وإثبات جواز مطلق التصرفات وإن احتملنا اشتراطها علی إذن أحدٍ أو توقّف صحتها کذلک.

لأنّا نقول: ونجاب بالحَلِّ: مفاد هذه الروایات مشروعیة واستحباب کلّ عون، لأنّ الشارع قد وصف کلَّ فعلٍ یعدّعونا للضعیف أو للمؤمنین بالصدقة وبالملازمة تکشف مشروعیة کلّ ما یعدّ من مصادیق العون، ومنها: حفظ أموال الأیتام وقیمومیتهم.

وبالنقض: لو کان الأمر کما قال فلا یمکن التمسک بإطلاق قوله تعالی: «أَوْفُوا

بِالْعُقُودِ»(2) أو «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(3) أو «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(4) علی لزوم الوفاء بمطلق

ص: 366


1- 1 . وسائل الشیعة 15/141، ح2.
2- 1 . سورة المائدة /1.
3- 2 . سورة البقرة /275.
4- 3 . سورة النساء /29.

العقود أو نفوذ جمیع البیوع أو صحة جمیع التجارات التی وقعت عن تراض، بل تجری الآیات الثَّلاثُ بالنسبة إلی العقد الصحیح بحسب القواعد الشرعیة أو البیع کذلک أو «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» هکذا. فحینئذ لا یمکن التمسک بإطلاقها عند الشک فی صحة العقود أو البیوع أو التجارات، ولکنّهم تَمَسَّکُوْا بهذه الاطلاقات من دون نکیر وَاسْتَنْتَجُوا صحة هذه الأُمور.

ولکن مع ذلک کلّه یمکن أن یقال: «بالرغم من تمامیّة الطریقة التی أثبتنا من خلالها الإطلاق، لکنّها غیر جاریة فی المقام لسبب معیّن یختصّ بها روایة العون، وهو أنّ المحمول فی هذه القضیّة عنوان الصدقة الذی یحمل فی طیّاته غایة القُرب إلیه سبحانه، ولولاها لعدّ الفعل الصادر فی سبیل إعانة الضعیف هبةً لا صدقة، ولهذه العلّة فإنّه إذا لاحظنا مقتضیات الحکم والموضوع، نجد أنّ موضوع هذه الروایة لیس مطلق عون الضعیف، بل العون القابل لأن یوصف بالصدقة المقرّبة، فإنّ مثلها تکون مشروعة من خلال حثّ الشارع علیها، وبالتالی فإنّ ظهور هذه الروایة مقیّدة منذ البدایة وفاقدة للإطلاق، ولا یصحّ التمسّک بها لإثبات مشروعیّة مطلق ما یقوم به العدل، وإن احتمل مدخلیّة الإذن فی صحّته ومشروعیّته.

ولو سلّمنا إطلاقها البَدْوِیّ من خلال الدلالة الالتزامیّة الکاشفة عن مشروعیّة کلّ ما یعدّ عونا، إلاّ أنّه فاقد الاعتبار لاحتفاف الموضوع بما یحتمل الصارفیّة»(1).

3- الإجماع

الإجماع الذی یظهر من کلمات الأصحاب واستدل به الفاضل المراغی رحمه الله وقال فی ذکر عداد أدلة ولایة عدول المؤمنین ما نصه: «الخامس: ظهور إجماع الأصحاب علی الجواز من دون نکیر کما یظهر بالتتبّع»(2).

ص: 367


1- 4 . العقد النضید 4/234.
2- 5 . العناوین 2/581.

أقول: قد عرفت سابقا فی عنوان «المسألة خلافیة»(1) خلاف ابن إدریس صریحا

فی المقام وإمکان استفادة الخلاف من إطلاق کلمات المفید والتقی، فالإجماع لم یتحقّق، نعم الشهرة الفتوائیة والعملیة موجودتان بین الأصحاب ولکنهما غیر الإجماع، هذا أوّلاً.

وثانیا: الإجماع علی فرض تحققه یکون مدرکیا أو لاأقل من احتمال مدرکیته فلا یفید فی المقام شیئا.

4- العقل

بتقریب: أنّ العقل حاکم بعدم رِضا الشارع الأقدس بِتَعْطِیْلِ بعض الأُمور الذی یسمّونها بالاُمور الحسبیة، وإذا لم یکن فی البین الإمام أو الفقیه فتصل النوبة إلی ثقات المؤمنین وعدولهم بل تصل النوبة من باب الضرورة إلی فسّاقهم - إن یقدرون علی إقامتها - ولا تصل النوبة إلی الکفار فی فرض فقد الجمیع ولو فی غیر الاُمور الولائیة فی الأخیر، لانّ اللّه تعالی یقول: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(2).

هذا التقریب مرضیٌّ عندی وأمّا ما ذهب إلیه بعض ممّن عاصرناه فی تقریب دلیل العقل بقوله: «أنّه لا ریب فی أنّه یلزم لکلّ جماعة أن یکون لهم ولیّ یُعبَّر عنه بعناوین مختلفة، کالحاکم أو المدبّر أو الرئیس أو المرجع أو... فإن کان فیها رجل ذولیاقة ممتازة، وهو الواجد لجمیع الشروط اللازمة للولایة إلی درجة عالیة، ومنها العدالة والعلم والتدبیر وحسن العمل والکفایة و... فلا کلام فی أحقّیته ولزوم اتّباعه، وأمّا مع فقده کما هو مورد البحث هنا فتصل النوبة طبعا إلی الّذین لا یکون فیهم من هو بدرجة تلک اللیاقة الممتازة، ففی هذه الصورة یُحکم طبعا بولایة الأصلحین فالأصلحین منهم، وهم الواجدون للسیاسة والعدالة مثلاً بالنسبة إلی الفاقدین لهما، أی یُحکم بحقّ ولایة عدول المؤمنین ومع فقدهم یحکم من باب الضرورة بولایة فسّاقهم، وذاک الأمر الواضح عقلاً لا یختص بالمجامع الایمانیة، بل یعم المجامع غیر الایمانیة أیضا، غایة الأمر أنّه لا یصطلح فیهم

ص: 368


1- 6 . راجع هذا المجلد صفحة 339.
2- 1 . سورة النساء /141.

عنوان العدالة والعادل، بل یصطلح فیهم نظیره کالأمین أو الصالح أو... ولکنّک خبیر بأنّه لا یتفاوت أصل المسألة عقلاً بالنظر إلی هذه الاصطلاحات، فإنّ أصل المسألة - الّذی یعتمد علیه جمیع العقلاء والملل باقتضاء فطرتهم ووجدانهم - هو أنّهم یلاحظون ویقدّمون الأصلح فالأصلح أو الألیق فالألیق أو الأنسب فالأنسب أو... ولا ریب فی أنّ جمیعهم یقولون بأنّ الأصلح أو الألیق أو الأنسب عبارة عن أهل الصدق والوفاء والأمانة وما

بمعنی هذه وإن لم تُسمَّ عندهم بالعدالة.

هذا کلّه إن لم یُنتخب واحد من الأفضلین أو الأصلحین وإلاّ فمن الواضح أنّه یصیر بالانتخاب أولی من غیره عملاً، فمسألة عدول المؤمنین بالصورة الشورائیة مثلاً تختصّ بموارد عدم انحصار الأمر فی واحد منهم أو عدم انتخابه لجهة من الجهات وإلاّ فهو المرجع فی ما انحصر فیه أو انتخب له، وإن شئت قلت: فهو نائب عن الحاکم الأصلی عملاً وإن لم یکن نائبا عنه رسمیّا. هذا کلّه مقتضی دلیل العقل»(1).

فغیر تام عندی بوجوه لا أُطیل الکلام بذکرها لوضوح بعضها.

ثمّ هاهنا فروع:
الفرع الأوّل: مباشرة الفاسق وتکلیفه بالنسبة إلی نفسه

لو شک فی الفاسق أنّه هل یکون مأذونا شرعا فی تولی الأُمور الحسبیة أم لا؟ فهل یجوز له التصدی والمباشرة لهذه الأُمور أم لا؟ فهذه صورة المسألة عند القوم، وعندنا لابدّ من تبدیل الفاسق بغیر الثقة.

قال الشیخ الأعظم رحمه الله : «فالظاهر جوازه - ثمّ ذکر أدلة الجواز وقال - : ولو ترتّب حکم الغیر علی الفعل الصحیح منه، کما إذا صلّی فاسق علی میّت لا ولیّ له، فالظاهر سقوطها عن غیره إذا علم صدور الفعل منه وشکّ فی صحته، ولو شکّ فی حدوث الفعل منه وأخبر به ففی قبوله إشکال»(2).

ص: 369


1- 1 . تحقیق فی القواعد الفقهیة /790 و 791.
2- 2 . المکاسب 3/568.

أقول: الظاهر عدم جوازه خلافا للشیخ الأعظم لعدم تمامیة الأدلة التی تمسّک بها - وقد عرفت عدم تمامیتها فی ماقبل(1) حول مفاد معتبرة عبداللّه بن یحیی الکاهلی(2) وعدم دلالتها علی مقالة الشیخ الأعظم فلا نعید - .

وأمّا تمثیل تصرفات الفاسق أو غیر الثقة بالصلاة علی میّتٍ لا ولیّ له یکون مع الفارق، لأنّ الصلاة علی المیت واجب کفائی علی جمیع المکلفین - لا عدولهم أو ثقاتهم - والفاسق منهم فیجوز له الصلاة علی المیت، وتسقط بفعل بعضهم - والفاسق منهم - لو صدرت منه صحیحة فإن اُحرزت صحة فعل الفاسق بالعلم أو الاطمئنان أو

بأمارة شرعیة نحو: أصالة الصحة فی فعل المسلم تسقط عن الآخرین. نعم، لو شکّ فی أصل إقامة الصلاة بتوسط الفاسق وهو أخبر بإقامتها ففی قبول قوله إشکال نشأ من جریان آیة النباء(3) بالنسبة إلی إخباره ولزوم التبیّن فیه.

وأمّا الأُمور الحسبیة أوّلاً وبالذات بعد الإمام علیه السلام فهی واجِبَةُ علی الفقیه ثمّ فی فرض عدمه - لا سمح اللّه - أو عدم تصدیه أو عدم إمکان الاستیذان منه هِیَ وَاجِبَةٌ علی عدول المؤمنین أو ثِقاتِهم - علی خلاف مرّ - والفاسق أو غیر الثقة لیس من الطائفتین فلا یجب علیه التصدی بل لا یجوز له بل یحرم علیه هذه التصرفات لا سیّما إذا کانت فی النفوس أو الأعراض أو الأموال العامة أو الخاصة، واللّه العالم.

الفرع الثانی: حکم فعل الفاسق إن کان متعلّقا بفعل غیره

لو تصدّی الفاسق أو غیر الثقة فی أُمور الأیتام وغیرها، فهل یحکم فی تصرفاته بالصحة ویجوز الشراء منه أو عقد النکاح علی الیتیمة بإذنه أو غیرهما من آثار نفوذ تصرفاته؟

قال الشیخ الأعظم: «... فلا یجوز الشراء منه وإن ادّعی کون البیع مصلحة بل یجب

ص: 370


1- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 69.
2- 4 . وسائل الشیعة 17/248، ح1، الباب 71 من أبواب ما یکتسب به.
3- 1 . سورة الحجرات /6.

أخذ المال من یده(1)... ولا یجدی هنا حمل فعل المسلم علی الصحیح کما فی مثال الصلاة المتقدّم... وأمّا الحکم فیما نحن فیه، فلم یحمل علی التصرّف الصحیح، وإنّما حُمل علی موضوع هو «إصلاح المال ومراعاة الحال» والشکّ فی أصل تحقّق ذلک، فهو کما لو أخبر فاسق بأصل الصلاة مع الشکّ فیها»(2).

بعبارة أُخری: تصرفات الفاسق لم تُحمل علی التصرف الصحیح حتّی تجری أصالة الصحة فیها، لأنّ التصرف الصحیح هو «اصلاح المال ومراعاة الحال ومصالح الأیتام»، والشک یکون فی أصل تحقّق ووجود هذا التصرف الصحیح فلا یقبل قول الفاسق فیه لما مرّ من عدم اعتبار إخباره.

ثمّ قال: «وإن شئت قلت: إنّ شراء مال الیتیم لابدّ أن یکون مصلحة له، ولا یحرز ذلک بأصالة صحّة البیع من البائع، کما لو شکّ المشتری فی بلوغ البائع، فتأمّل»(3).

وقال المحقّق الإیروانی فی شرح مقال الشیخ الأعظم: «هذا وجه آخر لعدم جریان أصالة الصحّة غیر الوجه الأوّل وإن کان ظاهر العبارة أنّه عینه، وحاصل هذا الوجه هو أنّ أصالة الصحّة فی الإیجاب لا تثبت إلاّ صحّة الإیجاب صحّة تأهلیّة، ولا یحرز بها تحقّق المصلحة، والفرض أنّ القابل أیضا متصرّف فی مال الغیر بقبوله، فلابدّ له من إحراز أنّ تصرّفه واقع علی وجه أحسن، وما لم یحرز لا أثر لقبوله فی الحکم بحصول النقل، وصحّة الإیجاب إنّما تفید ترتیب الأثر علیه عند تعقّبه بالقبول الصادر علی وجه أحسن والفرض فی المقام الشکّ فیه، وهذا کذلک فی کلّ مقام اشترک الشرط»(4).

وقال الإیْرَوانیُّ فی وجه تأمل الشیخ الأعظم فی آخر کلامه: «لعلّه یشیر إلی فساد ما أفاده أوّلاً وجها لعدم جریان أصالة الصحّة، وإلاّ فما أفاده أخیرا بعد قوله: «وإن شئت قلت الّذی» قد عرفت أنّه وجه مستقلّ بما لا تأمّل فیه، إلاّ أن یکون جواز القبول من

ص: 371


1- 2 . المکاسب 3/568.
2- 3 . المکاسب 3/569.
3- 4 . المکاسب 3/569.
4- 1 . حاشیة المکاسب 2/387.

المشتری موضوعه صحّة الإیجاب من البائع، فإذا صحّ الإیجاب بحکم أصاله الصحّة جاز تعقیبه بالقبول نظیر الصلاة علی المیّت، لکنّ ذلک مجرّد فرض لا واقع له»(1).

وقال المحقّقُ المُرَوِّجُ فی وجه تأمله: «لعلّه إشارة إلی الفرق بین ما نحن فیه - وهو الشراء من الفاسق - وبین الشک فی بلوغ البائع. ومحصل الفرق بینهما: أنّ مجری أصالة الصحة هو العمل الذی یشکّ فی أنّ عامله هل أتی به ناقصا بمعنی أنّه ترک شیئا نسیانا من أجزائه وشرائطه أم أتی به تامّا؟ فالشک یکون فی أمر إختیاری له من الفعل والترک.

وأمّا إذا کان المشکوک فیه أمرا غیر إختیاری کالبلوغ، فلا تجری فیه أصالة الصحة.

وعلیه فلا یجری أصل الصحة فی الشک فی البلوغ، بل یجری فیه إستصحاب عدم البلوغ. ویجری فیما نحن فیه، وهو البیع مع مراعاة إصلاح مال الیتیم، فإنّه أمر إختیاری للبائع، فتجری فیه أصالة الصحة.

ویحتمل أن یکون الأمر بالتأمل إشارة إلی ما قیل: من جریان أصل الصحة فی البلوغ وغیره، کما إختاره المصنف قدس سره فی الاصول(2)»(3).

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «نعم، لو وجد فی ید الفاسق ثمن من مال الصغیر لم یلزم الفسخ مع المشتری وأخذ الثمن من الفاسق؛ لأنّ مال الیتیم الذی یجب إصلاحه وحفظه من التلف لا یعلم أنّه الثمن أو المثمن، وأصالة صحّة المعاملة من الطرفین یحکم بالأوّل، فتدبّر»(4).

یعنی: لا یجوز لشخصٍ ثالثٍ - أی غیر المتبایعین - الزام البائع الفاسق علی فسخ المعاملة مع المشتری وأخذ الثمن من الفاسق واسترداد المبیع من المشتری، لأنّه لا یعلم مال الیتیم الذی یلزم علی الکلِّ حفظه هل الثمن أو المثمن وأصالة الصحة من الطرفین

ص: 372


1- 2 . حاشیة المکاسب 2/388.
2- 3 . راجع فرائد الاصول 3/360.
3- 4 . هدی الطالب 6/229.
4- 1 . المکاسب 3/569.

- البائع الفاسق والمشتری - یحکم بأنّه الثمن.

ثمّ أمر بالتدبر حتّی یحصل الفرق بین هذه الصورة الأخیرة والصورة السابقة حیث تجری أصالة الصحة فیها ولا تجری فی السابقة، «وحاصل الفرق بینهما هو: أنّ إصلاح مال الیتیم شرط فی صحة کلٍّ من الإیجاب والقبول إبتداءً، إذ کل منهما یتصرف فی مال الیتیم بإعطاء البائع وأخذ المشتری، ولذا لو وقعت المبایعة بین شخصین، وشکّ شخصٌ ثالث فی صحتها فله إجراءُ أصالة الصحة فی فعلهما، بخلاف ما نحن فیه، لعدم وقوع قبولٍ بعد حتّی یجری فیه أصل الصحة. وجریانه فی الإیجاب لا یجدی، لأنّ أثره الصحة التأهلیة أی الصالحة لإنضمام القبول الصحیح إلیه، لا الصحة الفعلیة»(1).

قال المحقّق الإیروانی: «إجراء أصالة الصحّة هنا دونه فی المسألة السابقة کاشف عن أنّ عمدة الوجه فی عدم الجریان هناک هو الوجه الّذی ذکره أخیرا دون ما ذکره أوّلاً، وإلاّ لاشترک هذا معه فی عدم الجریان لاشتراک الوجه الأوّل»(2).

ثمّ اعترض علی مقالة الشیخ الأعظم: «لا یعلم أنّه الثمن أو المثمن»(3) بقوله: «بل یعلم أنّه المثمن علی تقدیر عدم جریان أصالة الصحّة لاستصحاب عدم انتقال المثمن من ملکه وعدم انتقال الثمن إلی ملکه، ویعلم أنّه الثمن علی تقدیر جریان أصالة الصحة»(4).

الفرع الثالث: هل یجوز مزاحمة فقیه لفقیه آخر فی الأُمور الحسبیة؟
اشارة
تقدیم امور:
اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ من تقدیم أُمور:

الأوّل: عنوان البحث: «مزاحمة فقیه لفقیه آخر»

یتم فی قیام فقیه فی مزاحمة فقیه آخر بحیث ثبتت فقاهتهما وإلاّ مع عدم ثبوت فقاهة أحدهما أو الشک فی مقامه الفقهی فلا نزاع فی بطلان مزاحمة الذی لم یثبت فقاهته أو المشکوک فقاهته.

الثانی: البحث هنا حول تزاحم فقیهین ثَبَتَتْ فقاهتهما

الثانی: البحث هنا حول تزاحم فقیهین ثَبَتَتْ فقاهتهما وَتَصَرَّفا بحسب الموازین

ص:373


1- 2 . هدی الطالب 6/230 و 231.
2- 3 . حاشیة المکاسب 2/388.
3- 4 . المکاسب 3/569.
4- 5 . حاشیة المکاسب 2/388.

الشرعیة وإلاّ فإن کان قد تصرّف أحدهما بما یخالف الموازین الشرعیة فیجوز مزاحمته بل معارضته لأنّه خالف الموازین الشرعیة. لکن هذه المزاحمة بل المعارضة تتم فی ما خالف الموازین الشرعیة وأمّا النزاعات التی تعود إلی المباحث الأُصولیة والآراء الرجالیة والاستنباطات الفقهیة فلا یجوز مزاحمة فقیه یری المسألة من هذه الأنظار والخلافات، لأنّها ترجع إلی الاستنباط والاجتهاد والآراء فیه مختلفة والأنظار فیه متفاوتة، فلابدّ من لحاظ هذه النکتة المهمة.

الثالث: المزاحمة عرفیة ویتوقف صدقها علی الصدق العرفی

الثالث: المزاحمة عرفیة ویتوقف صدقها علی الصدق العرفی، لأنّها من العناوین التی یُدْرِکُها العرف والعقل وَالْعُقَلاءُ، وهی أی المزاحمة: عبارة عن دخول الثانی فی ما دخل فیه الأوّل مع وحدة المورد، فإذا قام فقیه بقیمومة أیتام وأموالهم فدخل الآخر فی بعض الأموال بعد قیام الأوّل، یعدّد دخوله مزاحمة للأوّل فلا یجوز.

الرابع: لابدّ فی هذا البحث من عدم التخلیط بین مفاد أدلة مزاحمة الفقیهین

الرابع: لابدّ فی هذا البحث من عدم التخلیط بین مفاد أدلة مزاحمة الفقیهین بالعنوان الأوّلی أی حکم تزاحم بذاته ومدی دلالة أدلته.

وبین حکم التزاحم بالعنوان الثانوی من ترتب نقض الغرض أو اختلال النظام أو ایجاد شبهة تکالب الفقهاء علی جیفة الدنیا وحطامها ممّا قد یؤدی إلی تضعیف إیمان عامّة النّاس ونحوها.

فلابدّ من عدم تخلیط البحثین فی المقام کما ربّما یظهر من الشیخ الأعظم(1) حیث أضاف إلی أدلة عدم جواز المزاحمة لزوم اختلال النظام.

الخامس: هل الفقیهان کالوکیلین المستقلین فی أمرٍ

الخامس: هل الفقیهان کالوکیلین المستقلین فی أمرٍ نحو بیع الدار فقط دون مقدماته من المقاولة وغیرها، بحیث ما لم یتحقّق البیع لا مانع من إقدام الآخر، أو أنّهما کالوکیلین عن شخص واحد بحیث یکون إلزامهما کإلزامه ودخولهما فی الأمر کدخوله

فکما لا یجوز مخالفة الموکِّل، لا یجوز تزاحمهما حتّی بالنسبة إلی المقدمات؟!

ولذا قال الشیخ الأعظم: «وربما یتوهّم: کونهم حینئذٍ کالوکلاء المتعدّدین، فی أنّ

ص:374


1- 1 . المکاسب 3/572، قوله قدس سره : «هذا کلّه مضافا إلی لزوم اختلال نظام المصالح...».

بناء واحد منهم علی أمر مأذون فیه لا یمنع الآخر عن تصرّفٍ مغایرٍ لما بنی علیه الأوّل.

ویندفع بأنّ الوکلاء إذا فرضوا وکلاء فی نفس التصرّف لا فی مقدّماته، فما لم یتحقّق التصرّف من أحدهم کان الآخر مأذونا فی تصرّفٍ مغایرٍ وإن بنی علیه الأوّل ودخل فیه، أمّا إذا فرضوا وکلاء عن الشخص الواحد بحیث یکون إلزامهم کإلزامه ودخولهم فی الأمر کدخوله، وفرضنا أیضا عدم دلالة دلیل وکالتهم علی الإذن فی مخالفة نفس الموکّل، والتعدّی عمّا بنی هو علیه مباشرةً أو استنابةً، کان حکمه حکم ما نحن فیه من غیر زیادة ولا نقیصة.

والوهم إنّما نشأ من ملاحظة التوکیلات المتعارفة للوکلاء المتعدّدین المتعلّقة بنفس ذی المقدّمة، فتأمّل»(1).

لابدّ من ملاحظة الأدلة، ومدی دلالتها حتّی یظهر الحال.

وحینئذ نبدأ بالبحث عنها بما یقتضی العنوان الأوّلی ویقع الکلام فی المقامین:

المقام الأوّل: ما یقتضیه الأدلة العنوان الأوّلی فی مقام الثبوت
اشارة

قد یقال: بعدم جواز المزاحمة فی مقام الثبوت بمایلی من الأدلة:

أ: ما ذکره الشیخ الأعظم

من أنّ دخول الفقیه فی أمرٍ یکون کدخول الإمام علیه السلام «فدخول الثانی فیه وبناؤه علی تصرّف آخر مزاحمة له فهو کمزاحمة الإمام علیه السلام ، فأدلة النیابة عن الإمام علیه السلام لا تشمل ما کان فیه مزاحمة الإمام علیه السلام »(2).

ویمکن أن یناقش فیه: لیست مزاحتهما کمزاحمة الإمام علیه السلام إلاّ إنّه من الإمام لا مع الإمام وعلیه، «وعموم أدلة النیابة یقتضی کون کلِّ منهما نائبا عنه علیه السلام »(3).

بِعِبارةٍ أُخری: المزاحمة بین الفقیهین النائبین، لم تصل إلی مزاحمة الإمام علیه السلام بل تکون فی مرتبة ما دون الإمام علیه السلام وهی النیابة، لا فی مرتبة الإمام علیه السلام وهی الإمامة

ص:375


1- 1 . المکاسب 3/572.
2- 2 . المکاسب 3/571.
3- 3 . حاشیة المکاسب /98 للمحقّق الخراسانی قدس سره .

والولایة العظمی، فلا تعد مزاحتهما مزاحمة الإمام علیه السلام علی ما فرضها الشیخ الأعظم رحمه الله .

ولذا قال المحقّق الاصفهانی رحمه الله : «بأنّ مزاحمة الإمام علیه السلام غیر جائزة لغیر الإمام بداهة، وأمّا إذا کانت مزاحمة الفقیه مزاحمة الإمام علیه السلام لفرض النیابة، فمزاحمة الفقیه لفقیه مثله کمزاحمة الإمام للإمام، وعدم جوازها أوّل الکلام، فالمانع ثبوتا غیر معلوم فتدبر»(1).

مراده: «لم یثبت عدم جواز مزاحمة الإمام للإمام علی فرض تحققه أنّه بعد تحقّق المزاحمة بینهما لا دلیل علی لزوم رفع الید بالنسبة إلی الثانی وصرف الارادة عن التصرف علی الثانی لرفع التضادّ الواقع بینهما من اجتماع الارادتین فی مرتبة واحدة وزمان واحد، فکذلک بالنسبة إلی الأولی. ولم یؤخذ فی معنی المواخذة ورود التصرف والارادة علی تصرف وإرادة سابقتین، حتّی یقال: بأنّ عنوان المزاحمة لم یتحقّق من الأوّل حتّی یحرم علیه فیجب رفعه، بل لابدّ أن یکون طرفاه فی رتبة واحدة»(2).

أقول: لابدّ من ملاحظة الأدلة وما یُجعل بواسطتها من الأحکام الوضعیة المجعولة حتّی نعلم أنّ مزاحمة فقیه للفقیه آخر هل هی مزاحمة الإمام علیه السلام أم لا؟

والمجعول بالأدلة ما هی؟

1- الولایة: ومن المعلوم أن جَعْلَ الولایةِ لأحدٍ وَإعْطاءَهُ منصب الولایة لا یجعله کالإمام علیه السلام بحیث المزاحمة معه تکون مزاحمة الإمام علیه السلام ، للفرق الواضح بین صاحب الولایة ونائبه فحینئذ تتم مقالة المحقّقَیْن.

2- الحکومة: بأنْ یجعله الإمام علیه السلام حاکما، فحینئذ مزاحمته تَکُوْنُ مزاحمة الحاکم لا الإمام علیه السلام ، فتمت مقالتهما.

3- الحجیة: بأنْ یجعله الإمام علیه السلام حجّة علی النّاس، فکذلک مزاحمة ومعارضة الحجتین لا یمسّ الإمام علیه السلام وصحت مقالتهما.

ص:376


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/417.
2- 2 . کتاب القضاء /62 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی رحمه الله .

4- الهوهویة: بأن یجعله الإمام علیه السلام وجوده التنزیلی، ففی هذه الصورة مزاحمة الفقیه تکون مزاحمة الإمام علیه السلام لأنّه وجوده التنزیلی فلا تتم مقالتهما. والذی یسهل الخطب إنّا نفقد دلیلاً یدلّ علی الهوهویة وأنّ الفقیه یکون وجودا تنزیلیّا للإمام علیه السلام .

ولو سلّمنا أنّ الفقیه یعدّ وجودا تنزیلیّا للإمام علیه السلام ، فإنّه لا دلیل علی عدم جواز مزاحمة مثل هذا الوجود المنزَّل، بل إنّما الثابت بالأدلة عدم جواز مزاحمة ما سوی

الإمام علیه السلام مع الإمام علیه السلام .(1)

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة مقالة الشیخ الأعظم فی المقام وأنّ مزاحمة الفقیه لَیْسَتْ کمزاحمة الإمام علیه السلام .

ب: المزاحمة غیر معقولة ثبوتا

بتقریب: أَنَّ المزاحمة تعدّ من خصوصیات الوجود وأمّا متعلّقات الأوامر والأحکام فَلَیْسَتْ إلاّ الطبائع التی لا تزاحم بینها، ومن المعلوم أنّ الطبیعة لا تزاحم الفرد، والوجود الخارجی مسقط للأمر فقط، لا أنّه متعلّق له بل یستحیل أن یکون ما هو مسقط للأمر متعلّقا له.

وبالجملة: ما هو متعلّق للأمر - وهو الطبیعة - یستحیل فیه التزاحم وما فیه التزاحم - وهو الوجود الخارجی - لم یکن متعلّقا للأمر، وبالتالی المزاحمة غیر معقولة ثبوتا لأنّ متعلّق الولایة هی الطبیعة - طبیعة الفقیه - ولا تزاحم بین الطبائع، وما تقع فیه المزاحمة هو الوجود - الفقیه خارجا - الذی لا یتعلّق به الولایة، فالمزاحمة لا تتصور ثبوتا وبتبعه یسقط ما قیل عن مزاحمة فقیه لفقیه آخر رأسا.

ویرد علیه: أوّلاً: الأوامر والطلبات توابع لأغراض المولی والأغراض المترتبة علی الطبائع والماهیات لا تخلو من قسمین:

الأوّل: الأغراض إمّا مترتبة علی الطبائع والماهیات من حیث هی هی ومن حیث أنّها الماهیة - من دون أیّ شیءٍ آخر - فلا یمکن الالتزام به علی کلا القولین وهما أَصالَتا

ص:377


1- 1 . راجع العقد النضید 4/274.

الماهیة والوجود، وأمّا علی الأوّل - أصالة الماهیة - فَلاِءنَّ الغرض یترتب علی الماهیة المجعولة، لا غیرها والماهیة المجعولة أی الماهیة بعد تعلّق الجعل بها فتصیر موجودة. وأمّا بناءً علی الثانی - أصالة الوجود - والأمر اُوضح لاستحالة ترتب الأثر والغرض علی الماهیة لأنّها من حیث هی لیست إلاّ هی وإنّما یترتب الغرض علی وجودها فقد ثبت أنّ الغرض تابع للوجود.

فحینئذ الالتزام بتعلّق الأغراض بالماهیات المحضة والطبائع الخالصة دون الوجودات الخارجیة یستلزم لازما باطلاً وهو تخلّف الطلب عن الغرض.

وثانیا: بعد وقوع المزاحمة بین الأفراد والوجودات الخارجیة، وبعد ثبوتها بین

الوجودین الْخارِجِیَّیْنِ تسری منهما إلی الحکم الثابت علیهما، والمزاحمة بین الفردین تصیر منشأ التنافی فی مقام الامتثال بین الحکمین وبالتالی التزاحم تسری إلی الأحکام والطبائع فی مقام الامتثال بتبع تزاحم الأفراد، فالمزاحمة تصیر موجودة.

وثالثا: الأوامر تتعلق بالطبائع لا الأفراد ولکن مع ذلک یمکن فرض المزاحمة لأنّ «الأمرین المتعلّقین بالصلاة والإزالة مثلاً، فانّه لا یخلو حالهما:

أمّا أنّ الإزالة قابلة للقسمة إلی الإزالة المقارنة مع آخر وقت الصلاة، والإزالة التی لم تکن متقارنة معه، وأمّا أنّها غیر قابلة للقسمة.

والأخیر باطل بالضرورة، وبالتالی یثبت الأوّل... فبحکم البرهان الصلاة المقارنة للإزالة وغیرها ونفس الإزالة قابلتان للتقارن مع آخر الوقت وعدمه، وبناءً علیه فإنّ الغرض الذی کان موجبا لصدور الأمر لا یخلو حاله: إمّا أن تکون موسّعة أو مضیّقة ولا ثالث، وبتبعهما یتوسّع الطلب ویتضیّق، حیث أنّ الآمر الذی یأمر بإزالة النجاسة من المسجد، لا شکّ أنّه یلاحظ مضایقة بعض أفراد الإزالة مع الصلاة وعدمها، فیطلبها تارةً مضیّقة واُخری موسّعة، فإذا اعتبر الصلاة أهمّ منها أمر بها مضیّقة، وإلاّ کان طلبه موسَّعا، وطلب الطبیعة... یعنی تزاحم الطلبین فی مقام الامتثال»(1).

ص:378


1- 1 . العقد النضید 4/277.

«ورابعا: یبدو... خلط بین باب تعلّق الأوامر والأحکام التکلیفیّة، وبین باب الحکومة والولایة والقیمومة والقضاء، إذ أنّ المتعلّق فی الباب الأوّل هی الطبائع مطلقا، سواءً اعتبرنا المتعلّق الطبیعة بذاتها أم الطبیعة المنسوبة إلی الخارج، وأمّا المتعلّق فی باب الحکومة والولایة، فهی الوجودات بذاتها دون الطبائع والماهیّات»(1).

ج: لا یعقل تصور مزاحمة الفقهاء ثبوتا

بتقریب: التزاحم لا یخلو عن اثنین لا ثالث لهما:

الأوّل: التزاحم فی الوجود: کتزاحم اجتماع الصلاة مع إزالة النجاسة، ومن المعلوم دخول الفقیه اللاحق فی ما قام به الفقیه السابق لا یعدّ مزاحمة له فی الوجود لأنّهما لا یتمانعان فی الوجود.

الثانی: التزاحم فی التأثیر: کتزاحم العلّتین علی معلول واحد.

وهذا القسم من المزاحمة یُتَصَوَّرُ فی المقدمات المعدّة والسببیّة وکلتاهما

مفقودتان فی المقام، وأمّا الأوّل فقیام الفقیه اللاحق بإیجاد المقدمات المعدّة لا یزاحم قیام السابق بها، لإمکان ایجادهما المقدمات المعدّة.

وأمّا الثانی فکذلک لوقاما بإیجاد المقدمات السببیّة کما لو أنشا البیع فلا تزاحم بینهما لتقدیم تأثیر انشاء السابق وبطلان اللاحق بانتفاء موضوعه، ومع تقارن صدورهما یتساقطان.

وبالجملة: لا یعقل تصور مزاحمة الفقهاء لا فی المبدأ ولا فی المنتهی فی مقام الثبوت.

ویرد علیه: المراد من المزاحمة هنا لیست العقلیة منها لِیَصِحَّ ما یُقَرَّرُ، بل المراد منها المزاحمة العرفیة وهی متحقّقة فی جمیع ما یقوم به الفقیه اللاحق من المقدمات ما عدا الأخیرة منها، «فدخول الفقیه اللاّحق فی سؤم الفقیه السابق وما قام به من مقدّمات

ص:379


1- 2 . العقد النضید 4/277.

البیع أو الإجارة وغیرهما، یعدّ مزاحمة له فی بیعه وسؤمه»(1).

د: لا یمکن شمولیة أدلة ولایة الفقیه فرض التزاحم

هذا الدلیل یقرّر بوجهین:

«التقریب الأوّل: أنّ مزاحمتهما تتحقّق بعد مرحلة جعل الولایة لهما، فإطلاق دلیل الجعل لا یشمل الانقسامات المتأخرّة عن جعل الولایة، فکما التزمنا فی باب التعبّدی والتوصّلی بأنّ إقامة الصلاة بقصد الأمر یکون فی الرتبة المتأخّرة عن تعلّق الأمر، ولذلک لا مجال لإطلاق الأمر بالصلاة لکی تشمل الصلاة بقصد الأمر، کذلک الحال فی المقام، فإنّ المزاحمة من الفقیه تتحقّق بعد جعل الولایة له، وإطلاق الأدلّة المثبتة لولایة الفقیه قاصرة عن شمول مثل هذه الخصوصیّة التی نشأت متأخّرة عنها.

ویُجاب عنه أوّلاً: بأنّ دعوی إطلاق دلیل الجعل لا یشمل الانقسامات المتأخّرة عن الحکم، لیست قاعدة ثابتة ومتّفقة علیها، بل هی مبنائیّة، حیث نخالفه فیها، ونعتقد بإمکان شمول إطلاق الأدلّة للانقسامات المتأخرّة عن الحکم، إمّا بدلالتها الذاتیّة أو من خلال متمّم الجعل، وقد بحثنا عن ذلک فی مباحث الاُصول بالتفصیل.

وثانیا: وهو ما سیأتی لاحقا من خلال الإجابة عن التقریب الثانی»(2).

التقریب الثانی: استحالة ما یلزم من وجوده عدمه تعدّ من الواضحات وهی

تجری فی المقام لأنّ مزاحمة الفقیه الثانی ناشئة من حق الولایة المجعولة له، وهذا الحق المجعول له یوجب انعدام حق الولایة المجعولة للفقیه الأوّل وما یلزم وجوده عدمه مستحیل.

ویرد علیه: الاستحالة تامة إذا کانت التصرفات المؤدّیة إلی المزاحمة تکون من الانقسامات الثانویة للحکم والخصوصیات المترتبة علیه نحو اتیان المأمور به بقصد الأمر أو انقسام المکلَّف إلی العالِم بالحکم والجاهل به.

ص:380


1- 1 . العقد النضید 4/279.
2- 2 . العقد النضید 4/280 مع تغییر مختصر.

وأمّا إذا کانت من الانقسامات الأوّلیة والخصوصیات المتقدمة للحکم فلا تتم الاستحالة، لأنّ البحث یجری فی أنّ أدلة ولایة الفقیه هل تُجعل وسیعا بحیث تشمل صور التزاحم أو تجعل ضیّقا بحیث لا تشمل صوره من الابتداء، وهذا یعدّ من الانقسامات الأوّلیة والخصوصیات المتقدمة علی الحکم.

وبالجملة: فظهر ممّا ذکرنا فی نقد الأدلة الأربعة بالنسبة إلی استحالة المزاحمة فی مقام الثبوت، عدم مانع ثبوتی فی مزاحمة فقیه لفقیه آخر، فحینئذ تصل النوبة إلی مقام الإثبات فنقول.

المقام الثانی: ما تَقْتَضِیْهِ الأدلة العنوان الأوّلی فی مقام الاثبات
أ: الأدلة الأوّلیّة غیر مطلقة؟

قد یناقش فی دلالة الأدلة الأوّلیة علی جواز المزاحمة لعدم وجود الإطلاق فیها، لأنّ مع وجود الاطلاق فیها وثبوته یستلزم ولایة الفقیه علی نفسه وعلی غیره من الفقهاء وهی ممنوعة إذ الشارع جَعَلَ الولایة للفقیه علی غیر الفقیه لا للفقیه علی نفسه وعلی غیره من الفقهاء.

بتقریب: إثبات الأدلة الشرعیة للحکم حیثیٌّ ولیس بمطلق، مثلاً أنّ قوله تعالی «أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الاْءَنْعامِ»(1) یثبت حلیّة البهمیة من حیث أنّها بهمیة فهی مطلقة من هذه الحیثیة فقط، ولا اطلاق فیها من جمیع الجهات والحیثیّات لتشمل حلیة البهمیة حتّی المغصوبة منها.

ومثلها أدلة ولایة الفقیه تنحصر دلالتها علی حیثیتها وحدودها ولا اطلاق فیها حتّی تشمل الحیثیات الاُخَر نحو: إثبات ولایة فقیه علی فقیه آخر مثله، فحینئذ إذا

تصرف فقیه فی ما هو شأنه وله الولایة علیه، لا یحقّ للفقیه الآخر مزاحمة الفقیه السابق فی تصرفاته لعدم إثبات الولایة اللاحق علی السابق.

ویرد علیه: بالنقض والحَلّ:

ص:381


1- 1 . سورة المائدة /1.

وأمّا النقض: فبما ورد فی أبواب الوقف والوکالة والوصایة والقیمومیة أن ینصب الواقف أو الموکلِّ أو الموصی أو الذی یجعل القیم علی أطفاله شخصا خاصا أو أشخاصا علی نحو الاستقلال أو أشخاصا علی نحو الإنضمام، وقد اتفق الفقهاء قدیما وحدیثا علی صحة هذا النصب فی هذه الأبواب، فإذا صح هذا النصب فی هذه الأبواب، فیمکن أن یکون نصب الفقیه علی الولایة مثل النصب فی هذه الأبواب علی نحو الاستقلال، فمادام الموضوع موجود یجوز لکلِّ فقیه علی نحو الاستقلال إعمال ولایته علیه.

وأمّا الحلّ: فَبِکَوْنِ الولایةِ المجعولة للفقیه تارة محدودة ومضیقة بعدم تصرّف فقیه آخر، واُخری مطلقة وموسّعة بحیث تشمل موارد التزاحم بین الفقیهین، وعلی أیّ حالٍ: الولایةُ المجعولةُ له ولایةٌ وسلطنة علی الأموال والاُمور إمّا بالتضییق أو بالتوسیع، لا الولایة والسلطنة علی نفس الفقیه أو غیره من الفقهاء.

وقد خلط فی الاستدلال بین اطلاق عنوان الولایة وتخصیصه للمُوْرد - أی المال أو الأمر - مع إطلاقها وتخصیصه للوارد - أی الفقیه نفسه أو الفقیه الآخر، وبین الوارد - وهو الذی یتصدی للأمر فی إعمال ولایته - والمورد - وهو المال أو الأمر الذی یُعْمِلُ الفقیه ولایته فیه - بونٌ بعیدٌ.

ب: لم تثبت الأدلة الأوّلیة جواز المزاحمة

بتقریب: الأدلة الواردة فی نیابة الفقیه عن النبی صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام تقتضی انتقال الصلاحیات الممنوحة لهم علیهم السلام بلا فرق بین أن یکون المزاحم فقیها أو غیره، وبمقتضی إطلاق أدلة النیابة ینتقل هذا الحکم - أی عدم جواز المزاحمة - إلی نائبهم وهو الفقیه، فلا یجوز لأحد - سواء کان فقیها أو غیره - مزاحمة الفقیه المتولّی والمتصدی للأمر.

ویرد علیه: أوّلاً: قد عرفت المناقشات حول أدلة النیابة فی بحث ولایة الْفَقِیْهِ فلا نعیدها.

وثانیا: علی فرض ثبوت النیابة، لم یدلّ دلیل علی أنّ النائب کالمنوب عنه نفسه، وأنّ کل ماللمنوب عنه ینتقل إلی نائبه، مع إنّا نعلم بخروج کثیر من مقامات المنوب عنه

ص:382

وولایاتهم عن هذه النیابة، ولا یشارکهم الفقیه إلاّ فی موارد معدودة، فلا إطلاق فی أدلة النیابة.

وثالثا: علی فرض ثبوت إطلاق أدلة النیابة، خروج کثیر من الولایات والمقامات یوجب تخصیص الأکثر المستهجن، ولو لم یصل إلی حدّ الاستهجان یصل إلی حدّ یوجب الاجمال فی القانون العام، لأنّ بلوغ التخصیص إلی حدّ النصف أو الأکثر تنافی مع قانونیة القانون وعمومه وشموله ویؤدی إلی إجماله.

ج: مسلک الشارع فی جعل الولایات

مسلک الشارع وطریقته فی جعل الأحکام الشرعیة مبنیّة ملاحظة الفوائد اللازمة والضرورات الحیویّة ولا یرید العسر بالنّاس وأن یجعل علیهم تکالیفا شاقّة، وأن یضع عنهم الأغلال بل قال اللّه تعالی: «یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَلا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ»(1) وقال تعالی: «الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الاْءُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوبا عِنْدَهُمْ فِی التَّوْراةِ وَالاْءِنْجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْءَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(2) وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث: لم یُرْسِلْنی اللّه ُ تعالی بالرَّهْبَانِیَّةِ ولکن بعثنی بالحنیفیّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ أصُومُ واُصَلِّی وألْمِسُ أهلی، الحدیث.(3)

ومن جملة الأحکام الشرعیة «الولایات الشرعیّة الممنوحة للأفراد، فإنّها بمقتضی قوله تعالی: «تِلْکَ الدّارُ الاْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوّا فِی الاْءَرْضِ وَلا فَسادا»(4) محدودة بمقدار الضرورة الرافعة لمشاکل عامّة النّاس، فإذا لا حظنا الأخبار التی تنهی

ص:383


1- 1 . سورة البقرة /185.
2- 2 . سورة الأعراف /157.
3- 3 . الکافی 11/130، ح1 (5/494) خبر ابن القداح.
4- 4 . سورة القصص /83.

النّاس عن السعی لحصول الرئاسات العامّة کقوله علیه السلام : «ملعون من ترأس»(1) وأضرابه، نستکشف منها أنّ مقاصد الشریعة بعیدة کلّ البُعد عن جعل مثل هذه المناصب، وبالتالی فإذا نصب الشارع ولیّا وحاکما، فإنّ ذلک لیس إلاّ لأجل الضرورة التی ینبغی أن تتقدّر

بقدرها، والضرورة الحاصلة فی المقام هی مراعاة أمر المولّی علیه، وتمشیة اُموره والحفاظ علی أمواله من الضیاع، ومثل هذه المقاصد الهامّة لا تجتمع من إطلاق الولایة لیشمل غیره لینتهی الأمر إلی التزاحم والتنازع، وعلیه فإنّ أدلّة الولایة - مع ملاحظة القرائن المستنبطة من روح الشریعة وأحکامها ومقاصدها - المثبتة لولایة الاُمور الحسبیّة، غیر وافیة بجواز المزاحمة، ولذلک فإنّ الحکم بجواز المزاحمة متوقّف علی قیام دلیل آخر، إذْ إنّ أدلّة الولایة بنفسها غیر متکفّلة وغیر مقتضیة له»(2).

د: الأُمور الحسبیة

قد مرّ(3) إثبات ولایة الفقیه بالأُمور الحسبیة والمراد بها «الأُمور الضروریّة التی لا نشکّ أنّ الشارع لا یرضی بترکها وإهمالها، حیث نعلم علم الیقین بأنّ الشارع کما أنّه یهتمّ اهتماما خاصّا بالمصالح العامّة ولا یرضی بفوتها، ممّا یؤدّی عادةً إلی حدوث الهرج والتعدّی علی الأبریاء والضعفاء وإراقة الدِّماء وما إلی ذلک، کذلک یهتمّ بنفس الدرجة بالمصالح الخاصّة، ولزوم مراعاتها وحفظها عن الضیاع والتعدّی، ومن المعلوم أنّ ذلک لا یتمّ إلاّ من خلال ولیّ منصوب یتکفّل رعایة الاُمور المذکورة، ولیس هذا الولیّ سوی الفقیه الجامع للشروط المعروفة، وقد ذکرنا فی مبحث ولایة الفقیه أنّ هذه الولایة تکون للفقیه المطلق - أی القادر علی استنباط الأحکام الشرعیّة فی مطلق الأبواب الفقهیّة عِلْما والمستنبط لأکثرها عملاً، وإن لم یکن قد استنبط جمیعها بالفعل - والناظر فی الأخبار، والعارف بالحلال والحرام علی نحو الجمع المضاف. ولا یخفی أنّ دلیل الضرورة یعدّ من أهمّ الأدلّة علی إثبات کبری موضوع الولایة، ولکنّها دلیل لبّی ولیس بلفظی، بالتالی لا

ص:384


1- 5 . الکافی 3/728، ح4 (2/298).
2- 1 . العقد النضید 4/287 و 288.
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 288.

مجال للتمسّک بإطلاقها، بل ینبغی الاقتصار فیها علی المتیقّن، وهو کون الولایة مجعولة لکلِّ فقیهٍ تصدّی وحصل به الاستغناء، وأمّا جواز مزاحمته فلیس الدلیل وافیا بذلک، وبالتالی فالأصل عدم جوازها»(1).

ه : الإجماع

قد مرّ(2) بَیانُ مراتب ولایة الفقیه وأنّ الاُولی مِنْها إجماعیة ولم یناقش فیها أحد،

والثانیة محل نقاش وایراد، والثالثة غیر ثابتة لم یقل بها إلاّ الشاذ، والمرتبة الاُولی هی ما یحرز من الدلیل الشرعی لابدیة وجوده فی الخارج أو مطلق محبوبیته ومطلوبیته.

ومن الواضح أنَّ صور التزاحم خارجة عن هذه المرتبة مضافا إلی أنّ الإجماع هنا محتمل المدرکیّة وأنّه دلیل لبّیّ یجب الاقتصار علی القدر المتیقن منه، فلا یشمل موارد المزاحمة أبدا.

والحاصل إلی هنا: عدم وجود الدلیل فی مقام الاثبات علی جواز مزاحمة فقیه لفقیه آخر قد تصدّی المسؤولیة وقام بها بحسب ما تقتضیه مصلحة المولّی علیه.

فذلکة القول فی المقام:

«لاشک أنّ الالتزام بإطلاق دلیل جعل الولایة - کما التزم به المحقّق الإیروانی(3) - یقتضی الحکم بجواز المزاحمة، کما أنّه لا شکّ أنّ الالتزام بعدم إطلاق أدلّة الجعل یقتضی الحکم بعدم جواز المزاحمة والتصرفات علی أقسام:

تارةً: یتّحد الفقیهان فی تصرّفهما زمانا، کما لو باعا أموال الصغیر أو أنْشَئآ نکاحها فی زمان واحد.

واُخری: لم یتّحدا زمانا فی التصرّف، بل یکون أحدهما سابقا والآخر لا حقا.

وتنقسم الصورة الاُولی إلی:

تارةً: یتّحدان فی طرف المعاملة، بأن باع الأوّل لزید وکذلک فعل الثانی.

ص:385


1- 3 . العقد النضید 4/288 و 289.
2- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 185.
3- 1 . حاشیة المکاسب 2/389.

واُخری: یختلفان بأن باع الأوّل لزید وباع الثانی لعمرو.

ومن المعلوم، القاعدة العامّة فی العقود الصادرة منهما دفعة واحدة هی البطلان، حیث لا مجال للحکم بصحّتهما لوضوح بطلانه، کما لا مجال للحکم بصحّة أحدهما معیّنا لأنّه ترجیح بلا مرجّح، کما لا مجال للحکم بصحّة أحدهما مردّدا لأنّ المردّد لا یکون موردا للأثر، وبالتالی یکون شمول أدلّة الولایة لهذه الصورة قطعیّ العدم.

إلاّ أن یقال: إنّ المورد یعدّ من موارد شمول أدلّة القرعة، لأنّ المفروض ثبوت الولایة لهما، وصحّة تصرّف کلّ واحدٍ منهما بمقتضی ولایته، والقرعة فی هذه الحالة تحلّ المشکلة وتعیّن التصرّف الصحیح، وهذا هو المستفاد من کلام الشهید رحمه الله فی «القواعد والفوائد»(1).

ویرد علیه: الحکم المذکور مبنی علی الالتزام بشمول أدلّة القرعة للذی لیس له واقع معیّن، وأمّا مع الالتزام باختصاص أدلّة القرعة بالموارد التی لها واقع معیّن غیر مردّد، فلا مجال لجریان القرعة فی المقام.

وممّا ذکرنا ثبت أنّه إذا اتّخذ مورد التصرّف والمعاملة من حیث الجهة [أی المشتری] والثمن والمثمن، کما لو باع الفقیه الأوّل لزید وباع الثانی أیضا له أو لوکیله دون اختلاف فی الثمن والمثمن، فإنّ القاعدة تقتضی البطلان، لأنّه برغم وحدة الثمن إلاّ أنّ المعاملة متعدّدة ومختلفة لتعدّد الموجب والقابل واختلافهما، ومقتضی الأصل عند الشکّ فی شمول الدلیل وعدمه هو عدم الشمول.

نعم، یمکن تصحیح هذه المعاملة فیما لو اعتبرنا المجعول بأدلّة الولایة هو عنوان الفقیه لا شخصه، وبالتالی تکون المعاملة صادرة ممّن له عنوان الفقیه - سواءً المتصرّف الأوّل أو الثانی - مع اتّحاد الثمن والمثمن والمشتری، فتشملها أدلّة الصحّة برغم تفاوت الفقیهین فی الخصوصیّات الفردیّة.

وهذا بخلاف ما لو اعتبرنا المجعول بأدلّة الولایة لیس عنوان الفقیه بل وجوداتها

ص:386


1- 2 . القواعد والفوائد 1/409، القاعدة 148.

الخارجیّة من زید وعمرو وبکر الموصوفین بالفقاهة - کما هو الحقّ - فحینئذٍ یعدّ الموضوع هو المصداق الخارجی، وبالتالی لا یمکن تصحیح المعاملة الصادرة منهما.

لا یقال: إنّ الملاک فی جعل الولایة هو صدور العمل عن فقیه نصبه الشارع ولیّا علی الصغیر رعایةً له ولأمواله، وبالتالی لا خصوصیّة لشخص الفقیه، فلا اعتبار لکون الفقیه المتصرّف زید أو عمرو إنّما المهمّ صدوره من فقیه له الولایة المذکورة، وهکذا یمکن تصحیح المعاملة الحاصلة.

لأنّا نقول: بعض الأحکام لا یمکن تعلّقها بعناوینها کالمرجعیّة والولایة والحکومة والقضاء، لأنّ موضوعها هی الوجودات الخارجیّة، حیث یعدّ الفقیه والحاکم هو المرجع فی الحوادث الواقعة خارجا.

وبالتالی فبحسب الأدلّة الأوّلیّة نذهب إلی بطلان المزاحمة، وعدم إمکان تصحیح عملهما وتوجیههما إلاّ أن یثبت عموم دلیل القرعة»(1).

ما یقتضیه الأصل الْعَمَلِیّ فی مسألة تزاحم الفقیهین
اشارة

لو فُرض أنَّ النَّوْبَةَ وَصَلَتْ إلی الاْءصْلِ العملی فی المقام فما هو الأصل؟

بلا فرق بین التصرف فی الأموال المتعلّقة بالإمام علیه السلام المعروفة الیوم بسهم الإمام علیه السلام أو غیرها، لأنّ الکلَّ یرجع الیوم إلی الفقیه الجامع لشرائط الإفتاء. یمکن تصویر الأصل فی الصورتین:

الصورة الاُولی: إذا قام فقیهٌ بإعمال ولایته فی خلال مقدمات عمله من

الصورة الاُولی: إذا قام فقیهٌ بإعمال ولایته فی خلال مقدمات عمله من تصرفاته عارضه فی العمل غیره الذی کان حین بدایة إعمال ولایته فی مقدمات العمل غیر معدود من الفقهاء ثمّ بعد ما کان الفقیه الأوّل مشتغل بالمقدمات صار فقهیا ویبنی علی مزاحمة الأوّل، فما هو الأصل العملی فی هذه الصورة؟

قد یقال: الولایة ثابتة للفقیه الأوّل، والثانی لیس له الولایة حین لم یکن فقیها، والان صار فقیها فنشک فی ثبوت الولایة له والأصل بقاء عدم ولایته أی استصحاب عدم

ص:387


1- 1 . العقد النضید 4/(291-289) مع اصلاحات.

الولایة له.

ویرد علیه: استصحاب عدم الولایة للفقیه الثانی غیر جارٍ فی المقام والوجه فی ذلک أنَّ الولایة من الأحکام الشرعیة المجعولة وموضوعها وجودا وعدما یدور مدار الفقاهة، فالفقاهة بالنسبة إلی الولایة لیست من حالات الموضوع بل هی من مقوماته، فحینئذ إذا لم یکن فقیها لم یکن ولیّا قطعا ولکن بعد بلوغه مرتبة الفقاهة یحصل له الولایة، ولا یمکن استصحاب عدم ثبوت ولایته حین لم یکن فقیها لأنّ الفقاهة من مقومات الولایة لا من حالاتها فلا یجری استصحاب عدم ولایة الثانی.

الصورة الثانیة: إذا تصرف الفقیه الأوّل فی ما یجوز له إعمال الولایة فیه

الصورة الثانیة: إذا تصرف الفقیه الأوّل فی ما یجوز له إعمال الولایة فیه ثمّ أراد الفقیه الثانی الثابت فقاهته من بدایة إعمال ولایة الأوّل أن یزاحمه فی تصرفاته فما هو مقتضی الأصل العملی؟

إذا لم تَکُن الأدلة اللفظیة فی المقام یکون الشک فی أن الولایة المجعولة للفقیه تکون مجعولة علی نحو التوسعة والإطلاق بحیث تشمل صور التزاحم أو مجعولة علی نحو التضیّق والمحدویة والتقیید فحینئذ لا تشمل صور التزاحم فترجع أدلة الولایة إلی إثبات الفرد الطویل أو الفرد القصیر، وعلی هذا أرکان الاستصحاب بالنسبة إلی الأفراد غیر جاریة لأنّ الفرد القصیر لا یشمل صور التزاحم والفرد الطویل یشملها، وأمّا کلّی الولایة وطبیعتها فهی مُتُیَقِّنَةُ الوجود إمّا فی ضمن الفرد الطویل أو القصیر، وبعد الشک فی بقائها عند التزاحم نستصحب کلّی الولایة، وبها ثبتت الولایة فی صور التزاحم وهذا هو

القسم الثانی من أقسام استصحاب الکلّی الذی یذهب إلی جریانه الشیخ الأعظم(1) والمحقّقون: الخراسانی(2) والنائینی(3) والعراقی(4) والخوئی(5) والأستاذ المحقّق(6) -

ص:388


1- 1 . فرائد الاصول 3/191.
2- 2 . کفایة الاصول /406، طبعة مؤسسة آل البیت علیهم السلام .
3- 3 . فوائد الاصول 4/413.
4- 4 . نهایة الأفکار، القسم الأوّل 4/122.
5- 5 . مصباح الاصول 3/105.
6- 6 . العقد النضید 4/294.

مدظله - وإلی عدمه السیّد الروحانی(1) قدس سره تبعا للقمی(2). والجریان هو مختارنا فی أبحاثنا الاُصولیة فراجعها إن شئت.

لا یقال: لا مجال لجریان الاستصحاب الکلی، لأنّ الأثر لیس لکلّی عنوان الولایة، بل الولایة هی حکم شرعی جُعلت لِلْمَصادِیْقِ الخارجیة من الموصوفین بالفقاهة وهی دائرة بین مقطوع الزوال - إذا جُعلت مضیقة ومقیّدة لخروج صور التزاحم - ومشکوک الحدوث - إذا جُعلت موسَّعة ومطلقة لِدُخول صور التزاحم حینئذ - فلا مجال لجریان الاستصحاب؛ لأنّ الولایة الحکمیّة المجعولة التی لها الأثر لا تتم فیها أرکان الاستصحاب وما تتم فیه أرکان الاستصحاب وهی کلّی عنوان الولایة لیس له أثر مجعول.

لأنّا نقول: الولایة لها الأثر فی جواز التصرف فی الأموال وغیرها، وأمّا سعة دلیلها أو ضیقه لا تأثیر لهما فی جواز التصرف وإن کان لهما الأثر فی جهات أُخَر نحو جواز المزاحمة وعدمها.

فحینئذ یمکن استصحاب کلّی الولایة ویتبعه ثبوتها فی صور المزاحمة بمثل جریان استصحاب کلّی الحدث بالرغم التردید فی خصوصیاته من الصغر والکبر، فتکون النتیجة عدم جواز الدخول فی الصلاة ومسّ الکتاب لأنّهما من آثار کلّی الحدث وإن کان لکلِّ واحد منهما آثار یختص به.

وبالجملة: یمکن أن یقال: فی تحقیق حکم الأصل فی مسألة الولایة فی صور المزاحمة، أنّ الاحتمالات أربعة:

الأوّل: المزاحمة بالنسبة إلی الولایة کالحدث بالنسبة إلی الطهارة، فتکون المزاحمة رافعة أو مسقطة للولایة بمعنی أنّ المزاحمة ترفع الولایة الثابتة، فحینئذ أرکان الاستصحاب تامة لرجوع الشک إلی ثبوت الرافع أو المسقط والأصل عدمه، فنستصحب

ص:389


1- 7 . منتقی الاصول 6/172.
2- 8 . القوانین 2/69.

ثبوت الولایة عند الشک فی وجود المزاحمة وجوازها.

الثانی: الولایة مجعولة شرعا وعدم المزاحمة تکون قیدا لهذا المجعول الشرعی، ففی هذا الاحتمال مقتضی الأصل عدم ثبوت الولایة، للشک فی ثبوت ولایة اللاحق بعد تصدی السابق والأصل عدمها.

الثالث: الولایة ثابتة وغیر مقیّدة وإنّما القید یعود إلی التصرف الذی یکون موردا للولایة فیکون عدم المزاحمة قیدا لمورد الولایة لا لنفسها، فیجوز التصرف ولایةً بشرط أن لا یکون قد سبقه فقیه آخر بالتصرف فی موردها.

فیعود الشک فی هذه الحالة إلی المحدود دون الحدّ حیث نشکّ فی أنّ المولّی علیه محدود بعدم تصرّف فقیه آخر أو عدمه.

ففی هذا الاحتمال مقتضی الأصل عدم الولایة، لعود الشک إلی جعل الولایة وعدمه والأصل عدمه.

الرابع: إذا کان الفقیه متردّدا بین أحد الاحتمالات الثلاثة السابقة، فحینئذ یتردّد الشاک فی الحکم من جهة جریان الأصل تارةً وعدم جریانها اُخری، وبالتالی لا مجال لإحراز ثبوت الولایة للفقیه اللاحق حینئذ.

وهذا تمام الکلام فی بحث مزاحمة فقیه لفقیه آخر واللّه العالم.

الفرع الرابع: هل یجوز مزاحمة ثقة أو عدل لثقة أو عدل آخر فی الاُمور الحسبیة؟
اشارة

إذا قام عدلٌ أو ثقة من المؤمنین بالتصرف مثلاً فی أموال الأیتام، فهل یجوز لعدل أو ثقة آخر مزاحمته فی هذا التصرف مادام الموضوع کان باقیا؟

وأمّا بعد تحقّق التصرف من الأوّل من وقوع بیع أو إجارة أو نحوهما، فلا شک من أنّ موضوع المزاحمة یکون منتفیّا فلا یتحقّق المزاحمة فی الخارج.

وقبل الشروع فی البحث لابدّ من ملاحظة مقالة الشیخ الأعظم فی المقام:

مقالة الشیخ الأعظم قدس سره

قال: «ثمّ إنّه حیث ثبت جواز تصرّف المؤمنین، فالظاهر أنّه علی وجه التکلیف

ص:390

الوجوبی أو الندبی، لا علی وجه النیابة من حاکم الشرع، فضلاً عن کونه علی وجه النصب من الإمام علیه السلام ، فمجرّد وضع العدل یده علی مال یتیم لا یوجب منعَ الآخر ومزاحمته بالبیع ونحوه.

ولو نقله بعقد جائز، فوجد الآخر المصلحة فی استرداده، جاز الفسخ إذا کان الخیار ثابتا بأصل الشرع أو بجعلهما مع جعله للصغیر أو مطلق ولیّه من غیر تخصیص بالعاقد. وأمّا لو أراد بیعه من شخص وعرّضه لذلک جاز لغیره بیعه من آخر مع المصلحة وإن کان فی ید الأوّل.

وبالجملة، فالظاهر أنّ حکم عدول المؤمنین لا یزید عن حکم الأب والجدّ من حیث جواز التصرّف لکلٍّ منهما ما لم یتصرّف الآخر»(1).

«وحاصل کلامه: أنّ حکم ولایة العدول وجواز تصرّفهم تکلیفی علی وجه الوجوب أو الاستحباب، دون أن تکون لهم نیابة أو وکالة عن الإمام أو نائبه، ولذلک فما دام یعدّ موضوع التصرّف باقیا، جاز لغیره من العدول أن یتدخّل ویتصرّف بما یراه مصلحة للصغیر، فللثانی فسخ المعاملة الخیاریّة - سواءً کان الخیار ثابتا بأصل الشرع کخیار الحیوان وخیار المجلس، أو مجعولاً کخیار الشرط - والقیام بإنشاء عقد آخر أصلح وأنفع للصغیر من المعاملة الاُولی.

ویقول أخیرا: إنّ الولایة الثابتة لعدول المؤمنین إنّما تکون فی حدّ الولایة الثابتة للأب والجدّ، فکما أنّ للجدّ أن یتصرّف فی أموال حفیده بعد تصرّف الأب وقبل زوال الموضوع، کذلک الحال فی عدول المؤمنین.

... [و] لیس هناک تهافت بین ما قاله فی صدر کلامه ومختاره فی الذیل، فقوله أوّلاً إنّه لا ولایة لعدول المؤمنین، بل الثابت لهم مجرّد التکلیف، لا یناقض قوله أخیرا عندما یقول بأنّ ولایتهم بمنزلة ولایة الأب والجدّ، لأنّه لا یقصد بذلک إثبات الولایة لهم،

ص:391


1- 1 . المکاسب 3/569 و 570.

بل مجرّد تحدید صلاحیّاتهم وتقلیصها فی حدود صلاحیّات الأب والجدّ»(1).

المناقشة فی مقالة الشیخ الأعظم

ویرد علیه: «أوّلاً: لا شکّ فی صحّة دعواه من أنّ تصرّفات عدول المؤمنین لا تستمدّ شرعیّتها من نیابته عن الإمام علیه السلام ، إذ لا یعدّ العدل نائبا عنه علیه السلام ، وهذا ممّا لا نقاش

فیه، أمّا بالنسبة إلی الفقیه فإنّ للنقاش فی أنّ تصرّفاته مبنیّة علی النیابة عنهم علیهم السلام أو الولایة مجال واسع، أمّا فی عدول المؤمنین، حیث أنّ أمر العدل مردّدٌ بین الولایة والتکلیف، وقد مرَّ کلام الشیخ الدال علی التزامه بالثانی دون الأوّل، وهو ممنوعٌ، لأنّ موارد التصرّف علی ثلاثة أقسام:

تارةً: یکون مورد التصرّف لا قابلیّة فیه لجعل الولایة له، کجواز الأکل والشرب، فبرغم جواز التصرّف له فیهما، لکن لا مجال لجعل الولایة له بالنسبة إلیهما.

واُخری: یکون مورد التصرّف فیه القابلیّة لأنّ یجعل له الولایة فیه کتجهیز المیّت، فإنّه برغم ثبوت هذا التکلیف یمکن جعل الولایة فیه، کما جاء فی قوله علیه السلام : [«یصلّی علی الجنازة اُولی النّاس بها أو یأمر من یحبّ»(2) أو قوله علیه السلام بالنسبة إلی قضاء الصلاة والصیام: «یقضی عنه أُولی النّاس بمیراثه»(3)]، حیث أثبت الولایة للورثة بحسب طبقاتهم.

وثالثة: مورد التصرّف لا یمکن أن یکون التکلیف فیه مجرّدا عن الولایة، کما فی التصرّفات الوضعیّة التی هی موضوع الصحّة والفساد، حیث لا یعقل فیها ثبوت جواز التصرّف دون الولایة، لأنّه «لا بیع إلاّ فی مایملک»(4)، فلابدّ أن یکون للبائع الولایة علی

ص:392


1- 2 . العقد النضید 4/256.
2- 1 . وسائل الشیعة 3/114، ح1، الباب 23 من أبواب صلاة الجنازة، صحیحة ابن أبیعمیر عن بعض أصحابه.
3- 2 . وسائل الشیعة 10/330، ح5، الباب 23 من أبواب أحکام شهر رمضان، صحیحة حفص ابن البختری.
4- 3 . قد مرّ مصادره فی الآراء الفقهیّة 5/268 و 269 فراجعه.

البیع حتّی یتحقّق الصحّة والنفوذ.

وتصرّفات عدول المؤمنین مندرجة فی القسم الأخیر، حیث لا یعقل ثبوت التکلیف دون ثبوت الولایة، وبالتالی فما التزم به الشیخ من ثبوت التکلیف مجرّدا عن الولایة ممنوعٌ.

وثانیا: أنّ مقتضی صدور البیع ممّن لیس بمالک، هو صیرورة العقد فضولیّا، ولا سبیل للخروج عنه إلاّ بانتساب البیع إلی البائع بلام النسبة، ومثل هذه اللاّم تفید الولایة أیضا.

وثالثا: فضلاً عمّا ذکرنا، فإنّ النصوص الخاصّة أیضا دالّة علی اندفاع دعوی الشیخ

من عدم ثبوت الولایة، ومنها: [موثقة سماعة(1) وصحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری(2) الماضیتان وتدّلان علی ثبوت الولایة للثقة أو العدل کما مرّ(3)].

بالجملة: علّق الشیخ جواز المزاحمة مع الولی وعدمه علی العنوان الثابت فی حقّ الولی من التکلیف والولایة، فقال بجواز المزاحمة لو کان الثابت مجرّد التکلیف، وعدم جوازها إذا کان المجعول النیابة والولایة، وقد ثبت ممّا ذکرناه اندفاع مبنی الشیخ، وأنّ الثابت لیس إلاّ الولایة، لأنّ تصرّف الولی معدود فی التصرّفات الوضعیّة المستلزمة لثبوت الولایة»(4). واندفاع ما بنی علیه کما یظهر لک ممّا سیأتی فانتظر.

نبحث عن هذا الفرع فی المقامین:

المقام الأوّل: ما تَقْتَضِیْهِ الأَدِلّةُ العامَّةُ

ومنها: الروایات الدالة علی حرمة التصرف فی مال الغیر بدون إذنه نحو:

موثقة سماعة عن أبیعبداللّه علیه السلام فی حدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: من کانت عنده

ص:393


1- 1 . وسائل الشیعة 19/422، ح2، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/362، ح1، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 358.
4- 4 . العقد النضید 4/(259-257) مع تصرفات واصلاحات منّا.

أمانة فلیؤدها إلی من ائتمنه علیها، فإنّه لا یحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلاّ بطیبة نفسه.(1)

ومثلها صحیحة أبیأُسامة زید الشحام(2)

والتوقیع الشریف المروی بسند صحیح عن الناحیة المقدسة وفیه: وأمّا ما سألت عنه من أمر الضیاع التی لناحیتنا هل یجوز القیام بعمارتها، و أداء الخراج منها و صرف ما یفضل من دخلها إلی الناحیة احتسابا للأجر و تقرّبا إلیکم؟ فلا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه، فکیف یحلّ ذلک فی مالنا؟! من فعل شیئا من ذلک لغیر أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرم علیه و من أکل من مالنا شیئا فإنّما یأکل فی بطنه نارا و سیصلی سعیرا.(3)

هذه الروایات «تمنع النّاس منعا باتا عن مطلق التصرّفات فی أموال الآخرین،

حتّی أموال الصغار الذین قد یستلزم عدم تصرّفهم فیها فقدانها وتلفها، نعم دلّت النصوص الخاصة والضرورة الشرعیة بعدم رضا الشارع بتلف هذه الأموال، وأنّه ینبغی لهم التصرف فیها، تلافیا لفقدها وتلفها، ومع الغضّ عن هذه الضرورة، فإنّ عموم الدلیل وعدم وجود مخصّص لفظی مشتمل علی الإطلاق، یقتضی تعمیم حکم القاعدة المذکورة، وعدم جواز رفع الید عن حکمها إلاّ بقدر الضرورة، والمتیقّن منه جواز تصرّف العدل فیما إذا لم تکن ید العادل الآخر مسبوقة إلی المال والتصرّف فیه، ومع سبق ید غیره إلیه یشکّ فی جوازه، ومجرّد الشکّ فیه یقتضی بطلانه، لاندارج المشکوک فی عمومات المنع، حیث إنّ دلیل المخصّص لبّیٌّ مردّد بین الأقلّ والأکثر، ویجب الاقتصار فی مخالفته علی المتیقّن، وهو جواز التصرّف فیما لم تسبق إلیه ید عادل آخر.

وبالنتیجة: تعدّ مزاحمة العادل الثانی للأوّل بعد تصرّفه ممنوعة وباطلة بمقتضی

ص:394


1- 5 . وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی؛ ونقلت عنه فی الآراء الفقهیة 4/116.
2- 6 . وسائل الشیعة 29/10، ح3، الباب 1 من أبواب القصاص فی النفس.
3- 7 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال؛ ونقلتها فی الآراء الفقهیة 4/117 مع ذکر مصادرها فراجع.

القواعد العامّة»(1).

هذا کلّه بحسب القواعد العامة، ولکن یظهر من المحقّق المؤسس الحائری قدس سره عدم جواز التمسک بالقواعد العامة هنا بل لابدّ من جریان استصحاب حکم الخاص یعنی جواز تصرفات العدل الثانی بعد تصرف العدل الأوّل.

مقالة المؤسس الحائری قدس سره ونقده

قال ردّا علی الشیخ الأعظم: «بأنّه لا فرق بین الوجوه الثلاثة [من أنّ المجعول مجرد الحکم التکلیفی أو الولایة أو النیابة] من جهة هذه الثمرة سواء کان المدرک للولایة هو القدر المتیقّن أم الأدلّة اللفظیة، أمّا علی الأوّل فلأنّ القدر المتیقّن من الخروج عن خلاف الأصل الأوّلی من عدم جواز التصرّف فی أنفس الغیر وأمواله وأعراضه صورة عدم تصدّی فرد آخر من العنوان، فیخرج الباقی عن القدر المتیقّن، ولا فرق بین الحکم والولایة والنیابة وهذا واضح.

وأمّا علی الثانی، فیدور الأمر مدار استفادة العموم الأزمانی من الدلیل، فإنّ الدلیل الآمر برجوع العوام مثلاً فی الوقائع الحادثة إلی الحکّام إن کان ناظرا إلی زمان دخول فقیه آخر أیضا نظیر ما یقال فی التخییر الاستمراری فی دلیل التخییر بین الخبرین کان للفقیه الآخر مزاحمة الأوّل، وللعوام المراجعین أن یرفعوا الید عن الأوّل ومراجعة الثانی کما فی

الخبرین، وکذلک الدلیل الدال علی ولایة هذا الجنس أو نیابته إن استفید منه العموم الأزمانی وأنّ الولایة أو النیابة محفوظة حتّی بعد تصدّی فرد آخر مثله جاز المزاحمة، ولیس مزاحمة نائب الإمام علیه السلام حینئذ إلاّ من نائبه وبإذنه علیه السلام .

هذا علی تقدیر الاستفادة، ولو لم یکن للدلیل عموم أزمانی علی جمیع الوجوه الثلاثة فیکون الحال کما لو کان المدرک هو القدر المتیقّن فهل یصحّ إثبات جواز تصرّف الثانی بالاستصحاب أو لا؟ الحق الجواز، فیقال: إنّه کان قبل تصدّی الأوّل جائز التصرّف أو ولیّا والآن نشکّ فی بقاء ذلک، فالأصل بقاؤه.

ص:395


1- 1 . العقد النضید 4/259.

لا یقال: هذا مبنیّ علی القول بانصراف قوله: «لا یحلّ مال امرئ إلاّ بطیب نفسه» إلی المالک الذی من شأنه الإذن وطیب النفس، فلا یشمل الصغیر، وأمّا لو قلنا بعمومه للصغیر أیضا فلابدّ حینئذ من التفصیل بین ما لو استفید الحکم فالمرجع عند الشکّ عموم هذا الخبر أو الولایة فالمرجع الاستصحاب، والفرق أنّ استصحاب حکم الخاص مع وجود العموم الأزمانی کما هو الحال فی الخبر المذکور غیر جائز، لأنّه تمسّک بالأصل فی قبال الدلیل، والاستصحاب المنقّح لموضوع العام مقدّم علی العام، فلو استفید الحکم کان تصرّفا فی حکم قضیّة لایحلّ، ولو استفید الولایة أو النیابة کان تصرّفا فی موضوعها وتعمیما لطیب نفسه إلی طیب نفس من یقوم مقامه بلسان التنزیل، والأوّل تخصیص والثانی تخصیص بلسان الحکومة، فلا جرم یختل حال الاستصحاب علیهما.

لأنّا نقول: هذا العموم بالنسبة إلی الصغیر غیر ممکن العمل مطلقا؛ لأنّ العمل به إنّما یحصل بإناطة جواز التصرّف بطیب نفس الصغیر وهذا المعنی غیر متحقّق فی حال الصغارة أبدا، وبعد ذلک لا یفرق الحال بین أن یکون جواز التصرّف ثابتا لواحد أو اثنین، فلا یکون الثانی زیادة تخصیص ولا الأوّل حفظ عموم»(1).

توضیح کلامه: «إنّ العدل الثانی کان له جواز التصرّف تکلیفا - علی مبنی الشیخ - أو ولایةً بالأصالة، وقبل أن یضع العدل السابق یده علی مال الصغیر وینوی التصرّف فیه، وعند قیام السابق بالتصرّف نشکّ فی بقاء جواز التصرّف لللاّحق وعدمه، فإنّ الاستصحاب یثبت بقاء الجواز السابق للعدل اللاّحق، هذا ومن جهة اُخری نشکّ أیضا أنّ الثانی هل زالت ولایته بوضع الأوّل یده علی المال وعدمه، فإنّ الاستصحاب أیضا یثبت

بقاء ولایته وضعا.

فإن قیل: بأنّه لا مجال لجریان استصحاب حکم الخاصّ مطلقا، بل ینبغی التفصیل بین مذهب الشیخ القائل بالتلکیف، وغیره القائل بثبوت الولایة أو النیابة، وأنّه یجب علی الأوّل التمسّک بعموم قوله: «لا یَحِلّ لأحد أن یتصرّف...» أمّا فی الثانی فیجری فیه

ص:396


1- 1 . کتاب البیع 2/(37-35)، بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی قدس سره .

الاستصحاب.

بیان ذلک: علی مبنی الشیخ یکون التخصیص واردا علی قوله: «لا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف...» حیث تخصیص ممنوعیّة التصرّف مطلقا بخصوص العدل المؤمن، فیشکّ فی سعة دائرة المخصّص وضیقه بین الأقلّ والأکثر، ویکون المرجع حینئذٍ عموم «لا یحلّ...» الذی یبطل أثر الاستصحاب لأنّه أصل والعموم دلیل والقاعدة تقتضی تقدّم الدلیل علی الأصل. وهذا بخلاف ما إذا التزمنا بثبوت الولایة فإنّ استصحاب بقاء الولایة یزیل عموم قوله: «لا یحلّ...» وبذلک یتقدّم الاستصحاب علی الدلیل، والسبب فی قدرة الاستصحاب علی إزالة موضوع الدلیل، أنّه من خلال الاستصحاب یثبت أنّ تصرّف العدل اللاّحق لم یعد تصرّف الأجنبی لیشمله حکم المنع والحرمة، بل هو تصرّف مَنْ له حقّ التصرّف من المالک أو الوکیل أو الولی.

قلنا: برغم تمامیّة الکبری المذکورة فی المقام، وأنّه ینبغی علی المسلک الأوّل التمسّک بعموم المنع عند الشکّ فی جواز تصرّف الثانی وعدمه، وعلی المسلک الثانی بالاستصحاب، لکن الصغری غیر تامّة، لأنّ موضوع دلیل «لا یحلّ» المالک المتصرّف الذی من شأنه أن یأذن لغیره فی التصرّف، فإذا کان قادرا علی التصرّف بنفسه، أو من خلال الإذن لغیره، ففی هذه الصورة لو قام غیره بالتصرّف شمله عموم الدلیل وعدّ تصرّفه عدوانیّا، وهذا بخلاف ما إذا کان المالک فاقدا لمثل هذه الشأنیة، وعاجزا عن الإذن لغیره کما فیما نحن فیه، فإنّ الصغیر عاجزٌ عن ذلک، فحینئذٍ لا مجال لجریان عموم الدلیل، بل یکون اقتضاء جریان الاستصحاب تامّا ومانعه مفقودا، سواءً التزمنا بمبنی الشیخ أو بمبنی غیره»(1).

نقد کلامه: ولکن یرد علیه: «أوّلاً: إنّ الطفل برغم عجزه عن الإذن بالتصرّف فعلاً لصغره، إلاّ أنّه قابل له مآلاً وحینما یکبر ویبلغ، وبالتالی فدعوی اختصاص عموم المنع

بمن هو قادرٌ علی الإذن وعدمه، فلا یشمل الصغیر وأضرابه ممنوعٌ، لما ثبت من إمکانه

ص:397


1- 1 . العقد النضید 4/260 و 261.

الاستقبالی فی الصغیر، وکذلک فی المجنون الأدواری حیث أنّ له ذلک بعد الإفاقة.

وثانیا: لو سلّمنا عدم شمول قوله: «لا یحلّ» للصغیر، ولکنّه بعمومه یعمّ الصغار وأولیائهم، فإذا کان الصغیر فاقدا لشأنیّة الإذن، ینبغی علی المتصرّف تحصیل الإذن من ولیّه، وعلیه فإنّ إطلاق اشتراط جواز التصرّف بالإذن، یقتضی ممنوعیّة التصرّف إلاّ بعد إذن الولی، ومع فقد الولی فإنّ المرجع هو أصالة جواز تصرّف العدل من المؤمنین فیه، بشرط أن لا تکون ید عادل آخر مسبوقة علیه.

وثالثا: اختصاص مدلول قوله: «لا یحلّ» بخصوص العاقل البالغ دون غیره لفقده الشأنیة، یستلزم ما لا یمکن حتّی للقائل الالتزام به، وزوال أصالة حرمة التصرّف فی أموال الصغار، وانقلابه إلی أصالة حلّیة التصرّف فیها، وهو باطلٌ قطعا، وعلیه فبالأولویّة القطعیّة یثبت أنّ الأصل فی التصرّف فی أموال الصغار هی الحرمة.

ورابعا: ولو سلّمنا جمیع ذلک واعتبرنا الدلیل خاصّا بمن له شأنیة الإذن فعلاً، فإنّ قوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(1) والأخبار المفسّرة لها والواردة فی ذیلها، جمیعها تفید أنّ الأصل حرمة الاتّجار والتصرّف فی أموال الیتامی والصغار، والمتیقّن الخارج منه هو قیام العدل من المؤمنین بالتصرّف فیها، لصیانتها عن الضیاع، بشرط أن لا یکون تصرّفه مسبوقا بتصرّف عدل آخر غیره»(2).

المقام الثانی: ما تَقْتَضِیْهِ النُّصُوْصُ الْخاصَّةُ
اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ من ذکر نکتة وهی:

تنبیهٌ: فی جواز التمسک بالإطلاق علی فرض وجوده

«هل حیثیّة المسبوقیّة والسابقیّة تعدّان من الخصوصیّات الذاتیّة المتعلّقة بشخص العادل المؤمن، بحیث یمکن تقسیم المؤمن إلی المسبوق والسابق - کما نقسّم المؤمن إلی العالم وغیر العالم - أم أنّهما حیثیّتان راجعتان إلی الأفعال الصادرة من المؤمن، فإنّ ثبت

ص:398


1- 1 . سورة الأنعام /152.
2- 2 . العقد النضید 4/(263-261).

الأوّل فإنّ للتمسّک بالإطلاق مجالٌ وإلاّ فلا.

والمستفاد من کلمات جماعة من الفقهاء أنّها لا تعدّ من الحیثیّات الذاتیّة، وبالتالی

لا مجال للتمسّک بالإطلاق، ولکن هناک مجال لدفعه لإمکان تقسیمها کما هو الحال فی الأب والجدّ، فهما ولیّان وتعدّ الصفة من حیثیّاتهما الذاتیّة سواءً زاحم أحدهما الآخر أو لم یزاحم، وبالتالی فإنّ للتمسّک بالإطلاق فیهما مجال واسع، وکذلک الأمر فی المقام فإنّ کلّ مؤمن عدل ولی سواءً زاحمه ولیٌ آخر أم لم یزاحمه.

وبالجملة: فإنّ خصوصیّة المزاحمة لها القابلیّة لصیرورتها من الحیثیّات الذاتیّة للعدل القابلة للقسمة»(1).

وأمّا النصوص الخاصة فهی الروایات الاْءَرْبَعُ الماضیة:

1- صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع.(2)

وقد عرفت أنّها تدل علی ولایه الفقیه عندنا، لا ولایة عدول المؤمنین وثِقاتِهم، فهی خارجة عن المقام.

2- صحیحة علی بن رئاب.(3)

وقد عرفت أنّها لا تدلّ إلاّ علی لزوم مراعاة المصلحة فی أموال المولّی علیه، بعد اعتبار القیمومیة والفراغ عنها، فلا تدلّ علی ولایة عدول المؤمنین وثقاتهم، فهی أیضا خارجة عن المقام.

3- موثقة سماعة.(4)

قد عرفت دلالتها علی ولایة ثِقات المؤمنین فضلاً عن عدولهم، ولکن لیس لها إطلاق حتّی تشمل صورة المزاحمة، مضافا إلی أنّ قوله علیه السلام : «إن قام رجلٌ ثقةٌ قاسمهم

ص:399


1- 1 . العقد النضید 4/263.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/363، ح2، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/361، ح1، الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.
4- 4 . وسائل الشیعة 19/422، ح2، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا.

ذلک کلّه فلا بأس»(1)، یدلّ علی قیام رجل واحد فقط هو المتصرِّف الأوّل فلا یدلّ علی ولایة الثانی.

4- صحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری.(2)

قد عرفت دلالتها علی ولایة عدول المؤمنین من دون مناقشة ولکن لیس لها إطلاق أیضا حتّی تشمل صورة المزاحمة، مضافا إلی أنّ قوله علیه السلام : «وقام عدلٌ فی ذلک»،

یدلّ علی قیام عدل واحد فقط کما مرّ فی ذیل الموثقة.

فظهر ممّا ذکرنا لک عدم وجود الإطلاق فی النصوص الخاصة حتّی تشمل صورة المزاحمة.

نقل مقال المحقّق الإیروانی ونقده

یری المحقّق الإیروانی جواز المزاحمة متفرّعا علی ثبوت الولایة للعنوان العام یعنی: «عنوان المؤمن المنطبق علی کلّ فرد فرد ابتداء والمنطبق علی کلّ فرد فرد بعد تصدّی بعضهم فبالملاک الّذی ینفذ تصرّفات کلّ فرد ابتداءً ینفذ تصرّفات کلّ فرد بعد تصّدی بعض وإثبات یده علی المال ما لم یتحقّق التصرّف المؤثّر فی حصول النقل المفوّت لموضوع مال الیتیم الثابت علیه ولایة المؤمن»(3).

ولکن یرد علیه: ما مرّ منّا(4) من أنّ متعلَّق الحکومة والولایة هی الوجودات بِذَواتِها دون الطبائع والماهیات والعناوین، فالولایة مجعولة لِمَنْ یَصْدُقُ علیه الفقیه أو الثقة أو العدل فی الخارج بالحمل الشائع الصناعی، لا عناوین الفقیه أو الثقة أو العدل وماهیاتهم وطبائعهم فلا تتم مقالة الإیروانی قدس سره .

تذکرة:

«جواز مزاحمة ولیّ آخر للولی الأوّل المتصرّف والجامع لشروط الولایة، منافٍ

ص:400


1- 5 . وسائل الشیعة 19/422، ح2، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا.
2- 6 . وسائل الشیعة 17/362، ح1، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 1 . حاشیة المکاسب 2/388.
4- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 378.

مع حکمته تعالی فی تمشیة اُمور الصغیر، التی هی السبب فی جعل الولایة، ومراعاةً لذلک نجد أنّ الشیخ الأعظم بعد استعراضه لأدلّة الولایة التی استنتج منها عدم جواز المزاحمة، یقول أخیرا: «هذا کلّه مضافا إلی لزوم اختلال نظام المصالح المنوطة إلی الحکّام سیّما فی مثل هذا الزمان الذی شاع فیه القیام بوظائف الحکام ممّن یدعی الحکومة»(1)»(2).

ص:401


1- 3 . المکاسب 3/572.
2- 4 . العقد النضید 4/266.

مسألة: نقلُ العبد المسلم إلی الکافر

اشارة

من شروط المتعاقدین إسلام من ینتقل إلیه العبد المسلم من المتعاقدین، نبحث عنه بالإجمال لا بالتفصیل لعدم وجود الموضوع لهذا الفرع فی هذه الأزمنة ولعدم إندارس أحکام اللّه تعالی وعدم نسیانه ونَبْتَدِئُ بنقل أقوال الفقهاء العظام کما هِیَ سِیْرَتُنا فی بدایة الأبحاث:

نقل الأقوال

قال الشیخ فی المبسوط: «ولا یجوز لکافر أن یشتری عبدا مسلما ولا یثبت ملکه علیه وفیه خلاف لقوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(1)... وإذا وکلّ مسلمُ کافرا فی شراء عبد مسلم لا یصحّ شراؤه، ولا یجوز أن یکون وکیلاً للآیة الّتی قدّمناها، وإذا قال کافرُ لمسلم: أعتق عبدک عن کفّارتی فأعتقه صحّ ویدخل فی ملکه ویخرج منه بالعتق. إذا کان العبد کافرا وإن کان مسلما لم یصحّ لأنّا بیّنا أنّ الکافر لا یملک مسلما.

إذا اشتری الکافرُ أباه المسلم لا ینعتق علیه لأنّا قد بیّنا أنّه لا یملک، وإذا لم یملک لا ینعتق علیه، وفی النّاس من قال: ینعتق علیه وإن لم یصحّ ملک الأب لأنّه لا یلحقه صغار لانعتاقه عقیب الملک.

وإذا استأجر کافر مسلما صحّت إجارته سواء استأجره فی عمل موصوف فی ذمّته أو استأجره یوما من حین العقد أو شهرا أو سنة للبناء أو للبیع أو [ل]غیر ذلک لأنّه لا مانع منه»(2).

ص:402


1- 1 . سورة النساء /141.
2- 2 . المبسوط 2/167 و 168.

وقال فی الخلاف: «مسألة: إذا وکلّ مسلم کافرا فی شراء عبدٍ مسلمٍ، لم یصح ذلک.

وللشافعی فیه قولان(1).

دلیلنا: قوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(2).

وهذا عام فی جمیع الأحکام.

مسألة: إذا قال کافر لمسلم: اعتق عبدک عن کفّارتی، فأعتقه، لم یصحّ إذا کان مسلما، وإن کان کافرا یصحّ.

وقال الشافعی: یَصِحَّ علی کل حال، ویدخل فی ملکه، ویخرج منه بالعتق(3)، ولم یفصّل.

دلیلنا: أنّا قد بیّنا أن الکافر لا یصحّ أن یملک المسلم، والعتق فرع علی الملک، فإذا لم یصحّ ملکه لم یصحّ عتقه.

وإذا کان کافرا جاز أن یملکه، فیصح عتقه، فینتقل إلیه بالملک ثمّ ینعتق.

مسألة: إذا استأجر کافر مسلما العمل فی الذمة، صحّ بلا خلاف.

وإذا استأجره مدة من الزمان شهرا أو سنة لیعمل له عملاً، صحّ أیضا عندنا.

واختلف أصحاب الشافعی، ففیهم من قال: فیه قولان کالشراء.(4)

ومنهم من قال: لا یَصِحُّ قولاً واحدا.(5)

دلیلنا: انّ الأصل جواز ذلک، والمنع یحتاج إلی دلیل»(6).

وقال المحقّق فی شرائط المتعاقدین: «وأن یکون المشتری مسلما، إذا ابتاع [عبدا] مسلما، وقیل: یجوز ولو کان کافرا ویُجْبَرُ علی بیعه من مسلم والأوّل أشبه. ولو

ص:403


1- 3 . المجموع 9/356؛ وفتح العزیز 8/110.
2- 4 . سورة النساء /141.
3- 1 . المجموع 9/358؛ وفتح العزیز 8/108.
4- 2 . المجموع 9/359؛ وفتح العزیز 8/108.
5- 3 . المجموع 9/359.
6- 4 . الخلاف 3/190.

ابتاع [الکافر] أباه المسلم هل یَصِحُّ؟ فیه تردُّدٌ، والأشبهُ الجواز لانتفاء السبیل بالعتق»(1).

قال العلاّمة فی التذکرة: «لا یشترط إسلام العاقد إلاّ إسلام المشتری فی شراء العبد المسلم، فلا ینعقد شراء الکافر للمسلم، عند أکثر علمائنا(2) - وبه قال أحمد ومالک فی إحدی الروایتین وأصحّ قولی الشافعی(3) - لأنّ الاسترقاق سبیل فینتفی؛ لقوله تعالی:

«وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(4).

ولأنّه ذلّ، فلا یثبت للکافر علی المسلم، کالنکاح. ولأنّه یُمنع من استدامة ملکه فیُمنع من ابتدائه، کالنکاح.

وقال أبوحنیفة والشافعی فی أضعف القولین، ومالک فی الروایة الاُخری، وبعضُ(5) علمائنا:یصحّ ویُجبر علی بیعه؛ لأنّه یملکه بالإرث، ویبقی علیه - لو أسلم - فی یدیه، فصحّ شراؤه.(6)

والفرق: أنّ الإرث والاستدامة أقوی من الابتداء؛ لثبوته بهما للمُحْرم فی الصید مع منعه من ابتدائه، ولا یلزم من ثبوت الأقوی ثبوت الأدون مع أنّنا نقطع الاستدامة علیه

ص:404


1- 5 . الشرائع 2/10.
2- 6 . منهم الشیخ الطوسی فی المبسوط 2/167؛ وابن زهرة فی الغنیة /210؛ والمحقّق فی شرائع الإسلام 2/16.
3- 7 . المغنی 4/332؛ الشرح الکبیر 4/47؛ الکافی فی فقه الإمام أحمد 2/13؛ أحکام القرآن لابن العربی 1/510؛ الجامع لأحکام القرآن 5/421؛ الوجیز 1/133؛ العزیز شرح الوجیز 4/17؛ الوسیط 3/13؛ حلیة العلماء 4/118؛ المهذّب للشیرازی 1/274؛ المجموع 9/355 و 359-360؛ روضة الطالبین 3/11؛ الحاوی الکبیر 5/381؛ التفسیر الکبیر 11/83.
4- 1 . سورة النساء /141.
5- 2 . انظر: شرائع الإسلام 2/16.
6- 3 . المغنی 4/332؛ الشرح الکبیر 4/47؛ الوجیز 1/133؛ العزیز شرح الوجیز 4/17؛ الوسیط 3/13؛ حلیة العلماء 4/118؛ الحاوی الکبیر 5/(381-382)؛ المهذّب للشیرازی 1/274؛ المجموع 9/355 و 359-360؛ روضة الطالبین 3/11؛ الجامع لأحکام القرآن 5/421.

بمنعه منها وإجباره علی ازالتها»(1).

وقال فی المختلف: «مسألة: لا یجوز أن یشتری الکافر عبدا مسلما، فإن اشتراه کان باطلاً، وقیل: یجوز ویجبر علی بیعه من مسلم(2)، واختار الشیخ الأوّل(3)، وهو الحق.

لنا: قوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(4) ودخوله فی ملکه أعظم السبیل.

احتج الآخرون بأنّ للکافر أهلیة التملّک، والعبد المسلم یصح تملّکه وقد وجد العقد فتثبت صحة البیع. والسبیل ینتفی بإجباره علی بیعه، کما لو أسلم الکافر تحت ید الکافر.

والجواب: لا یکفی المقتضی مع وجود المانع فی ثوبت الحکم، والمانع هنا موجود

وهو اثبات السبیل للکافر علی المسلم.

مسألة: لو اشتری الکافر أباه المسلم قال الشیخ فی المبسوط: لا یَصِحُّ البیع ولا ینعتق علیه؛ لما تقدّم من أنّ فیه اثبات السبیل علی المسلم(5)، وتبعه ابن البرّاج(6).

والأقرب عندی الجواز، وهو اختیار والدی رحمه الله والسبیل منتف بالعتق؛ لأنّه فی العقد لا سبیل له علیه، وفی الآن الثانی ینعتق علیه فینتفی السبیل»(7).

أقول: اختار العلاّمةُ الجواز فی مسألة شراء الکافر أباه المسلم، واحتمل الصحة فی¨ مسألة شراء الکافر المسلم فی نهایته حیث یقول: «لا یشترط إسلام العاقد، فیصح بیع الکافر وشراؤه، لأنّه عقد صادف ملکا فاقتضی أثره، إلاّ أن یشتری مسلما أو مصحفا،

ص:405


1- 4 . تذکرة الفقهاء 10/19.
2- 5 . شرائع الإسلام، 2/10.
3- 6 . المبسوط 2/167.
4- 7 . سورة النساء /141.
5- 1 . المبسوط 2/168.
6- 2 . جواهر الفقه /60، مسألة 222.
7- 3 . مختلف الشیعة 5/58 و 59.

فیشترط اسلام المشتری، لأنّ الرقّ ذلّ فلا یجوز اثباته للکافر علی المسلم، کما لا ینکح الکافر المسملة، ولقوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(1) والتملک أعظم السبیل.

فعلی هذا لو عقد کان باطلاً ولم یثمر الملک. ویحتمل الصحة، لأنّه طریق من طرق التملک، فیملک به الکافر رقبة المسلم کالإرث. وکذا البحث فیما لو وهب منه عبد مسلم فقبل، أو أوصی له به»(2).

أقول: فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة اعتبار الإجماع علی البطلان الوارد فی الغنیة(3)، نعم، البطلان هو المشهور بین أصحابنا - قدس اللّه أسرارهم - کما أسنده الفاضل المقداد فی کنز العرفان(4) إلی الفقهاء، والأردبیلی فی زبدة البیان(5) إلی أصحابنا، وصاحب الجواهر إلی «المشهور بین الأصحاب نقلاً وتحصیلاً»(6).

وممّا ذکرنا یَظْهَرُ وجه التأمل فی کلام الجدّ الفقیه الشیخ جعفر حیث یقول: «والحجة فی أصل الحکم الإجماع المحصّل من تتبّع الأقوال - ولا یُخلّ به نسبة الخلاف

إلی مَن لا یُعرف(7)، ولا ذکر الاحتمال من بعضهم(8) - ثمّ الإجماع المنقول(9) المؤیّد

ص:406


1- 4 . سورة النساء /141.
2- 5 . نهایة الإحکام 2/456.
3- 6 . غنیة النزوع /210.
4- 7 . کنز العرفان 2/44.
5- 8 . زبدة البیان /439.
6- 9 . الجواهر 23/536 (22/334).
7- 1 . فقد قال الشیخ الطوسی فی المبسوط 2/167: «وفیه خلاف». وقال المحقّق الحلّی فی شرائع الإسلام 2/16: «وقیل: یجوز ولو کان کافرا ویُجبر علی بیعه من مسلم». ومثله ذکر العلاّمة فی مختلف الشیعة 5/59.
8- 2 . وهو العلاّمة فی نهایة الإحکام 2/456
9- 3 . فی المبسوط 2/27؛ غنیة النزوع، قسم الفروع /210.

بالشهرة المستفیضة محصّلة ومنقولة(1)»(2).

وأختتم بحث نقل الأقوال بمقالة الفقیه المتتبع السیّد العاملی حیث یقول: «اشتراط إسلام المشتری إذا اشتری مسلما وبطلان شراء الکافر له خیرة «الخلاف(3) والمبسوط(4) والغنیة(5) والشرائع(6) والتذکرة(7) ونهایة الإحکام(8) والمختلف(9) والتحریر(10) والإرشاد(11) وشرحه» لولده(12) و «الدروس(13) والمیسیة والروضة(14) والمسالک(15) والکفایة(16) والمفاتیح(17)» وهو ظاهر «مجمع البرهان(18)» أو صریحه وظاهر

ص:407


1- 4 . فی مجمع الفائدة والبرهان 8/161.
2- 5 . شرح القواعد 2/46.
3- 6 . الخلاف: فی البیع 3/188، مسألة 315.
4- 7 . المبسوط: فی البیوع 2/167.
5- 8 . غنیة النزوع: فی البیع /210.
6- 9 . شرائع الإسلام: فی عقد البیع وشروطه 2/10.
7- 10 . تذکرة الفقهاء: فی المتعاقدین 10/19.
8- 11 . نهایة الإحکمام، فی العاقد 2/456.
9- 12 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/58.
10- 13 . تحریر الأحکام: فی المتعاقدین 2/278.
11- 14 . إرشاد الأذهان: فی أرکان التجارة 1/360.
12- 15 . شرح الإرشاد للنیلی: فی البیع /45، س18 (من کتب مکتبة المرعشی برقم 2474).
13- 16 . الدروس الشرعیة: فی البیع 3/199.
14- 17 . الروضة البهیة: فی المتعاقدین 3/243.
15- 18 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/166.
16- 19 . کفایة الأحکام: فی عقد البیع وشروطه /89، س37.
17- 20 . مفاتیح الشرائع: فی البیع 3/49.
18- 21 . مجمع الفائدة والبرهان: فی المتعاقدین 8/161.

«الإیضاح(1) وجامع المقاصد(2) وحواشی الشهید(3)» وغیرها(4). وفی «الغنیة» الإجماع

علیه(5). وفی «التذکرة» أنّه مذهب الأکثر(6). وفی «مجمع البرهان» أنّه المشهور(7). وفی «المبسوط» أنّ فیه خلافا(8). وفی «المختلف» قیل: إنّه یجوز ویجبر علی بیعه من مسلم(9). ونحوه ما فی «الشرائع(10) والتذکرة». وفی الأخیر نسبته إلی أبیحنیفة(11). واحتمله فی «نهایة الإحکام» قال: کما لو ورثه. ومثله لو وهب له فقبل أو أوصی له به(12)»(13).

أدلة المشهور علی البطلان

أ: آیة نفی السبیل

وهی قوله تعالی: «لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(14).

وفی الجواهر: «الذی هو معظم عمدة دلیل الأصحاب علی ذلک (أی البطلان)»(15).

ص:408


1- 22 . إیضاح الفوائد: فی المتعاقدین 1/413.
2- 23 . جامع المقاصد: فی المتعاقدین 4/62.
3- 24 . الحاشیة النجّاریة /220.
4- 25 . کالحدائق الناضرة: فی المتعاقدین 18/422 و 426.
5- 1 . غنیة النزوع، فی البیع /210.
6- 2 . تذکرة الفقهاء: فی المتعاقدین 10/19.
7- 3 . مجمع الفائدة والبرهان: فی المتعاقدین 8/161.
8- 4 . المبسوط: فی البیوع 2/167.
9- 5 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/59.
10- 6 . شرائع الإسلام: فی عقد البیع وشروطه 2/16.
11- 7 . تذکرة الفقهاء: فی شرائط المتعاقدین 10/19.
12- 8 . نهایة الإحکام: فی شرائط العاقد 2/456.
13- 9 . مفتاح الکرامة 12/(562-560).
14- 10 . سورة النساء /141.
15- 11 . الجواهر 23/537 (22/335).

بتقریب: تملّک الکافر للمسلم استرقاق له والاسترقاق سبیل للکافر علی المؤمن وهو منفیٌّ بالآیة الشریفة.

واعترض علیه الشیخ الأعظم قدس سره بما نصه: «وأمّا الآیة: فباب الخدشة فیها واسع:

تارةً: من جهة دلالتها فی نفسها ولو بقرینة سیاقها الآبی عن التخصیص، فلابدّ من حملها علی معنی لا یتحقّق فیه تخصیص، أو بقرینة ما قبلها(1) الدالّة علی إرادة أنّ نفی

الجعل فی الآخرة.

واُخری(2): من حیث تفسیرها فی بعض الأخبار بنفی الحجّة للکفّار علی المومنین، وهو ما روی فی العیون، عن أبیالحسن علیه السلام ، ردّا علی من زعم أنّ المراد بها نفی تقدیر اللّه سبحانه بمقتضی الأسباب العادیّة(3) تسلّط الکفّار علی المؤمنین، حتّی أنکروا - لهذا المعنی الفاسد الذی لا یتوهّمه ذو مسکة - أنّ الحسین بن علی علیه السلام لم یقتل، بل شبّه لهم ورُفع کعیسی - علی نبیّنا وآله وعلیه السلام - .

وتعمیم الحجّة(4) علی معنی یشمل الملکیة، وتعمیم السبیل علی وجه یشمل الاحتجاج والاستیلاء(5)، لا یخلو عن تکلّف.

وثالثةً: من حیث تعارض عموم الآیة مع عموم ما دلّ علی صحّة البیع(6)، ووجوب الوفاء بالعقود(7)، وحِلّ أکل المال بالتجارة(8)، وتسلّط النّاس علی أموالهم(9)، وحکومة

ص:409


1- 12 . وهو قوله تعالی: «یَحْکُمُ بَیْنَکُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ»، سورة النساء /141.
2- 1 . کما فی الحدائق 18/424 و 425.
3- 2 . عیون أخبار الرضا علیه السلام 2/203، الباب 46، ح5، خبر أبیالصلت الهروی؛ ونقل عنه فی بحارالأنوار 44/271، ح4.
4- 3 . کما فی العناوین 2/358 للفاضل المراغی، وذکر التعمیمین.
5- 4 . کما فی الجواهر 13/539 (22/336).
6- 5 . مثل «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»، سورة البقرة /275.
7- 6 . سورة المائدة /1.
8- 7 . سورة النساء /29.
9- 8 . راجع عوالی اللآلی 1/222، ح99.

الآیة علیها غیر معلومة.

وإیاءُ سیاق الآیة عن التخصیص مع وجوب الالتزام به فی طرف الاستدامة، وفی کثیر من الفروع فی الابتداء(1)، یقرّب تفسیر السبیل بما لا یشمل الملکیة، بأن یراد من السبیل السلطنة، فیحکم بتحقّق الملک وعدم تحقّق السلطنة، بل یکون محجورا علیه مجبورا علی بیعه.

وهذا وإن اقتضی التقیید فی إطلاق ما دلّ علی استقلال النّاس فی أموالهم وعدم حجرهم بها، لکنّه مع ملاحظة وقوع مثله کثیرا فی موارد الحجر علی المالک أهون من

ارتکاب التخصیص فی الآیة المسوقة لبیان أنّ الجعل شیءٌ لم یکن ولن یکون، وأنّ نفی الجعل ناشٍ عن احترام المؤمن الذی لا یقیّد بحال دون حال»(2).

تنبیه: قاعدة نفی السبیل

من الأُمور التی تُسْتَفادُ من الآیة الشریفة قاعدة تُسَمّی عند الفقهاء بقاعدة نفی السبیل والمراد بها نفی السبیل للکافر علی المسلم ولها فروع کثیرة وتعدّ من مبطلات العقود وإن لم تنحصر فیها - أی فی المبطلات - ومن جملة فروعها: «عدم ثبوت الولایة للکافر، حیث ترجع الولایة علی مسلم والتحکّم علیه، فلا عبرة بإذنه فی أحکام الأموات، لأنّه لا ولایة له، ولا أولویّة له فی المیراث.

وعدم ثبوت حقّ له فی ذمّه المسلم من جانب اللّه تعالی - من زکاة أو خمس أو کفارة أو نحو ذلک من الحقوق - ما لم یصدر سبب الضمان من نفس المکلّف من استدانة أو وصیّة أو وقف أو نحو ذلک؛ وهذا سرّ اشتراط الإسلام فی المستحقین.

وعدم اشتراط صحّة نذر الولد ونحوه من العهد والیمین علی إذن الوالد الکافر فی وجه؛ وکذا کلّ من یشترط إذنه فی عبادةٍ - کالزوج ونحوه - وفی المالیّات مسألة اُخری.

ص:410


1- 9 . قال المامقانی قدس سره : «الظاهر أنّه أشار بذلک إلی الملک القهری کالإرث، ومن غیر القهری مثل بیعه علی من ینعتق علیه، ومثل ما لو قال الکافر للمسلم: اعتق عبدک عنّی، ومثل ما لو اشترط عند بیعه علی الکافر عتقه». غایة الآمال /423 (6/355).
2- 1 . المکاسب 3/(586-584).

وعدم لزوم إطاعة الکافر فی مقامات لو کان مسلما لوجب.

وعدم نفوذ قضاء الکافر وإن جمع سائر الشرائط.

وعدم جواز تولّیه للوقف الْمُتُعَلِّق بالمسلمین.

وعدم جواز تملّکه للمسلم بشراءٍ أو صلح وهبة وإصداق، أو نحو ذلک من دفع عوض دین أو ضمان. وبعبارة اُخری: کلّ سبب اختیاریّ ناقل للملک إلی الکافر، فإنّه غیر صحیح. کما أنّه لو ملک بسببٍ قهری - کالإرث لو قلنا به - أو کان المملوک کافرا عند کافر فأسلم المملوک یُباع علی مالکه قهرا ولا یقرّ یده علیه.

وعدم جواز إعارة المسلمِ للکافر ورهنه عنده ولا إیداعه له فی وجهٍ مبنیّ علی أنّ الاستنابة فی الحفظ سبیل.

وعدم جواز حوالة الکافر علی المسلم فی وجه وإن ضعف.

وعدم ولایته علی صغیر أو مجنون أو سفیه فی نکاح أو مال.

وعدم جواز استئجاره للمسلم فی عینه وإن جاز فی ذمّته.

وعدم جواز إجارة العبد المسلم له.

وعدم جواز وکالته علی مسلم لکافر أو مسلم.

وعدم جواز وکالته فی بیع عبد مسلم مرهون أو غیره.

وعدم ثبوت شفعة له إذا کان المشتری مسلما وإن کان البائع کافرا.

وعدم جواز وصایته علی مال مسلم أو مولّی علیه محکوم بإسلامه ولو بالاشتراک.

وعدم جواز نکاحه للمسلمة ابتداءا وکذا استدامةً، فإنّ بإسلامها یبطل النکاح لو لم یسلم الزوج فی العدّه.

وعدم العبرة بالتقاطه إذا کان اللقیط محکوما بإسلامه بأحد الطرق المذکورة فی محلّها.

وفی عدّ عدم استحقاقه الإرث مع الوارث المسلم وعدم جواز القصاص من المسلم بالکافر من هذا الباب إشکال.

ص:411

وغیر ذلک من المواضع الّتی لم نذکرها یتنبّه علیها المتدرّب فی الفنّ بمعونة ما ذکرناه»(1).

أدلة قاعدة نفی السبیل

یمکن استفادة حکم هذه القاعدة من الأُمور التالیة:

«أحدها: الإجماع المحصّل القطعی الحاصل من تتبّع کلمة الأصحاب فی المقامات الّتی ذکرناها فی الباب، فانّهم متسالمون علی عدم وجود السبیل للکافر علی المسلم ویرسلونه إرسال المسلّمات من دون نکیر، وهذا کاشف عن رضا الشرع بذلک وحکمه به.

وثانیها: الإجماعات المنقولة حدّ الاستفاضة، بل التواتر من الأصحاب - کما لا یخفی علی المتتبّع - المؤیّدة بالشهرة العظیمة البالغة حدّ الضرورة.

وثالثها: الاعتبار العقلی، فإنّ شرف الإسلام قاضٍ بأن لا یکون صاحبه مقهورا تحت ید الکافر ما لم ینشأ السبب من نفسه، فإنّه حینئذٍ أسقط احترام نفسه. وهذا وإن لم یکن فی حدّ ذاته دلیلاً، لکنّه مؤیّد قویّ مستند إلی فحوی ما ورد فی الشرع.

ورابعها: ما دلّ من الأدلّة الخاصّة فی بعض الموارد، کباب النکاح، فإنّ النصوص قضت بعدم جواز تزویج المؤمنة للکافر.

وغیر ذلک ممّا دلّ علی اشتراط الإسلام فی الولیّ علی المسلم، فإنّ المستفاد منها: أنّ العلّة فی ذلک کلّه عدم رضا الشارع بتسلّط الکافر علی المسلم فیتسرّی إلی سائر المقامات بتنقیح المناط، أو بالعلّة المنصوصة المستفادة من کلام الشرع وإن کان من حیثیّة تعلیق الحکم علی الوصف. وأظنّ ورود التعلیل صریحا فی روایات النکاح، فینبغی الرجوع إلیها.

وخامسها: الخبر المشهور فی ألسنة الفقهاء المتلقّی بالقبول بحیث یغنی عن ملاحظة سنده، وهو قوله صلی الله علیه و آله : «الإسلام یعلو ولا یُعْلی علیه» فإنّه من الکلمات الجاریة

ص:412


1- 1 . العناوین 2/350 و 351.

مجری القاعدة، ک- «لا ضرر ولا ضرار» ونحوه، فلا وجه للبحث فی سنده، وإنّما الکلام فی الدلالة.

فإن قلنا: إنّ دلالته علی نفی السبیل ممّا یکشف عنها فهم الفقهاء - لأنّهم یستدلّون به فی هذه المقامات من دون نکیر، وهو من أعظم القرائن علی معرفة المراد - فلا بحث، إذ مقتضاه کون المراد من الخبر: عدم تسلّط الکافر علی المسلم»(1).

ب: قیاس الابتداء علی الاستدامة

بتقریب: انّ الکافر یُمنع من استدامة ملکه علی العبد المسلم، لأنّه لو ملکه قهرا بإرث أو أسلم فی ملکه بِیْعَ علیه، فیُمنع من ابتدائه کالنکاح.

بعبارة أُخری: المستفاد من منع الشارع عن استدامة ملکیة الکافر علی العبد المسلم، «عدم رضاه بأصل وجوده حدوثا وبقاءً، من غیر مدخلیّة لخصوص البقاء، کما لو أمر المولی بإخراج أحد من الدار أو بإزالة النجاسة عن المسجد؛ فإنّه یفهم من ذلک عدم جواز الإدخال»(2).

واعترض علیه الشیخ الأعظم بما نصه: «إنّ هذا إنّما یقتضی کون عدم الرضا بالحدوث علی نهج عدم الرضا بالبقاء، ومن المعلوم: أنّ عدم رضاه بالبقاء مجرّد تکلیفٍ بعدم إبقائه وبإخراجه عن ملکه، ولیس معناه: عدم إمضاء الشارع بقاءه، حتّی یکون العبد المسلم خارجا بنفسه شرعا عن ملک الکافر، فیکون عدم رضاه بالإدخال علی هذا

الوجه، فلا یدلّ علی عدم إمضائه لدخوله فی ملکه لیثبت بذلک الفساد.

والحاصل: إنَّ دلالة النهی عن الإدخال فی الملک، تابعة لدلالة النهی عن الإبقاء، فی الدلالة علی إمضاء الشارع لآثار المنهیّ عنه وعدمه، والمفروض انتفاء الدلالة فی المتبوع»(3)، وهو الإبقاء.

فحینئذ: یحرم بیع العبد المسلم من الکافر ولکن لا یبطل کحرمة المتبوع وهو

ص:413


1- 1 . العناوین 2/352.
2- 2 . المکاسب 3/583.
3- 1 . المکاسب 3/583.

الإبقاء وعدم زوال ملکه بمجرد إسلام العبد.

وإن کانَ للمناقشة فی الحرمة التکلیفی أیضا مَجالٌ واسعٌ کما لا یخفی علی أهله.

ج: التمسک بالنص

مرسلة حماد بن عیسی عن أبیعبداللّه علیه السلام أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام أُتی بعبد ذمّیّ قد أسلم، فقال: اذهبوا فبیعوه من المسلمین، وادفعوا ثمنه إلی صاحبه ولا تقروه عنده.(1)

بتقریب: فتوی المشهور علی طبقها یجبر ضعف سندها فی الإرسال وأمّا دلالتها تخصیص البیع بالمسلمین فی مقام البیان یدلّ علی فساد البیع من المشتری الکافر وإلاّ لم یکن وجه للتقیید بالمسلمین، وهذا التقیید یدلّ علی المنع من بیعه من الکافر لفساده وعدم ترتب الملکیة علیه.(2)

واعترض علیه الشیخ الأعظم بما نصه: «إنّ التخصیص بالمسلمین إنّما هو من جهة أنّ الداعی علی الأمر بالبیع هی إزالة ملک الکافر والنهی عن إبقائه عنده، وهی لا تحصل بنقله إلی کافر آخر، فلیس تخصیص المأمور به لاختصاص مورد الصحّة به، بل لأنّ الغرض من الأمر لا یحصل إلاّ به، فافهم»(3).

وأمره بالتفهم إشارة إلی: «أنّه لا وجه لإستفادة الإختصاص بالمسلمین إلاّ التشبث بمفهوم الوصف حتّی یدلّ علی عدم صحة بیعه بغیر المسلمین، وَیَصِّحُ الاِسْتِدْلالُ به علی اعتبار الإسلام فی مَن ینتقل إلیه العبدُ المسلم.

أو إشارة إلی: أنّ الأمر بإزالة الملک مستلزم لبطلان البیع، بصیرورته سفهیّا. فالنهی وإن کان تکلیفیا، لکنّه یوجب الفساد.

إلاّ أن یقال: إنّ المراد بالسفاهة ما یکون سفاهةً عرفا مع الغض عن حکم الشارع، لأنّ السفاهة من الألفاظ التی یرجع فیها إلی العرف، فلابدّ أن تکون المعاملة سفهیةً مع

ص:414


1- 2 . وسائل الشیعة 17/380، ح1، الباب 28 من أبواب عقد البیع وشروطه.
2- 3 . کما فی هدی الطالب 6/296.
3- 4 . المکاسب 3/583 و 584.

الغض عن حکم الشارع بوجوب الإزالة»(1).

د: النبویٌّ المُرْسَلُ

عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: الإسلام یَعْلُو ولا یُعلی علیه.(2)

بتقریب: ینجبر إرساله بعمل المشهور علی طبقه واستدلال الفقهاء فی موارد متعددة به:

منها: لو دبّر الکافر عبده فأسلم العبد فإنّه یباع علیه العبد سواء رجع السیّد عن تدبیره أم لا.

واستدلّ الشیخ علیه بعد الإجماع والأخبار وقال: «وأیضا قوله علیه السلام : الإسلام یعلو ولا یعلی علیه. ولو لم یبع علیه وکان لمولاه علیه طاعة، لکان قد علاه وهو کافر، وذلک ینافی الخبر»(3).

ووافقه العلاّمة(4) والشهیدان(5).

ومنها: عدم إرث الکافر من المسلم.

واستدلّ الشیخ(6) فی هذا الفرع بالنبوی وتبعه الشهید الثانی(7).

ومنها: عدم ولایة الکافر علی المسلمة فی النکاح سواءً کان أبا أو جدّا.(8)

ومنها: عدم جواز علوّ بناء الکافر علی بناء المسلم، بل عدم جواز مساواته.(9)

ص:415


1- 1 . هدی الطالب 6/297.
2- 2 . وسائل الشیعة 26/14، ح11، الباب 11 من أبواب موانع الإرث، و 26/125، ح2، الباب 15 من أبواب میراث الأبوین والاُولاد.
3- 3 . الخلاف 6/418.
4- 4 . مختلف الشیعة 8/91.
5- 5 . الدروس 2/230؛ المسالک 10/386.
6- 6 . الخلاف 6/418.
7- 7 . المسالک 13/20.
8- 8 . راجع: جامع المقاصد 12/107؛ والمسالک 7/167؛ والجواهر 30/371 (29/206).
9- 9 . راجع: المبسوط 2/46؛ وتذکرة الفقهاء 9/344؛ ومختلف الشیعة 4/444؛ وجامع المقاصد 3/463؛ والجواهر 22/492 (21/284).

«ومن المعلوم أنّ ما نحن فیه اُولی بالاستدلال علیه به»(1) من هذه الفروع التی

مرّت.

وقد بسط الکلام الفاضل المراغی حول النبوی ووجوه الاستدلال به فی عناوینه(2) فراجعها إن شئت.

ولکن یرد علیه: صدق العلو علی الملکیّة الوحیدة، والمحجورة عَن التصرف والخالیة عن السلطنة والسلطة، والفاقدة للولایة والأمر والنهی محلُّ تأمّلٍ ومناقشةٍ ومنعٍ واضحٍ.

وقال المحقّق الإصفهانی رحمه الله فی توضیح الاستدلال بالنبوی ونقده ما نصه: «إنّ نفس المالکیة مولویة وسیادة، وهو علو حقیقة، ولیس العلو کالسبیل فإنّه بنفسه یتعدی ب- «علی»، وحینئذٍ إنْ کانت القضیة مسوقة لنفی کل ما کان مصداقا للعلو من المجعولات الشرعیة - کالملکیة والزوجیة والسلطنة - فالخبر متکفّل لعدم حصول الملک بالبیع من الکافر، لکنه یجب تخصیصه بموارد ثبوت الملکیة بالارث وبعدم الزوال بعد اسلام المملوک ونحوهما، ولا یعم ما نقل فی المتن من عدم جواز اعلاء الکافر بنائه علی دار المسلم، لأنّ الاعلاء الخارجی لیس من مصادیق العلو القابل للنفی شرعا، وجوازه وإنْ کان قابلاً للنفی إلاّ أنّه لیس مصداقا للعلو، والسلطنة علی اعلاء بنائه سلطنة علی فعله لا سلطنة علی المسلم لیکون مصداقا للعلو، علی المسلم.

وإنْ کانت القضیة مسوقة للحکم بعدم العلو علی المسلم فیساوق الحکم بعدم التملک شرعا، وبازالته مع ثبوته؛ وبعدم جواز التصرف المساوق لنفی السلطنة علیه، وإذا عممناه لکل علو تکوینی أو تشریعی فیعم عدم جواز اعلاء بنائه، فلا یرد علیه ما کان یرد علی الأوّل من الشقین، وعلیه فلا یکون دلیلاً علی عدم نفوذ البیع، لا من حیث تعلق النهی بعنوان الاعلاء لا بعنوان المعاملة، بل من حیث إنّ الحرمة المولایة لا تقتضی فساد

ص:416


1- 10 . المکاسب 3/582.
2- 1 . العناوین 2/(356-353).

المعاملة، وإنْ تعلّق النهی بعنوانها، ولا یخفی أنّ الفقرة الاولی وهو قوله علیه السلام (الإسلام یعلو) قابلة للمعنیین، فعلی الأوّل یراد منها ثبوت ما هو مصداق للعلو من المجعولات الشرعیة للمسلم بأسبابه ولیس للکافر ذلک، وعلی الثانی یراد منها جواز علو المسلم علی الکافر، سواء کان بتملکه أو ببناء داره أعلی من داره»(1).

وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

ل: الإجماع

المُدَّعی فی غنیة النزوع(2) لابن زهرة.

وقد عرفت الخلاف فی المسألة فی أوّل البحث: «نقل الأقوال»(3) فلا نعیده.

ولذا قال الشیخ الأعظم: «لکن الإنصاف: أنّه لو اغمض النظر عن دعوی الإجماع... لم یکن ما ذکروه من الأدلّة خالیا عن الإشکال فی الدلالة»(4).

ه : هذه المعاملة سفهیة

لا شبهة فی لزوم ازالة ملک الکافر، والإقدام علی التمّلک الذی یجب إزالته وعدم السلطنة بوجه علی التصرف، تعدّ معاملة سفهیة، فتفسد المعاملة بجهة سفهیتها.

ویرد علیه: أنَّ الدواعی العقلائیة غیر منحصرة فی بقاء العین علی ملکه أو فی التصرف فیه، بل یمکن فرض الاشتراء بأقل من ثمن المثل ویُباع علیه بثمن المثل ونحو ذلک من الدواعی العقلائیة فتخرج المعاملة السفهیة.

و: الشراء هنا غرریة

الشراء وإن کان نافذا من حیث نفسه إلاّ أنّه بملاحظة عدم تمکینه من تسلّم المال وأخذه یُفسد، لأنّه غیر مقدور التسلیم إلی الکافر.

ویرد علیه: نعم، عدم القدرة علی أخذ المال یوجب غرریة الشراء، ولکن الغرر

ص:417


1- 2 . حاشیة المکاسب 2/445 و 446.
2- 1 . الغنیة /210.
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 402.
4- 3 . المکاسب 3/582.

هنا منتف للعلم بأنّ العبد المسلم یُباع علی الکافر ویدفع إلیه ثمنه، وحیث أنّ الثمن یدفع إلی الکافر، فبهذا المقدار من القدرة علی أخذ المال وتسلّمه تُدفع الغرریة، مضافا إلی إمکان تسلیمه لوکیله المسلم حتّی باع علیه ویدفع إلیه ثمنه.

ی: لزوم إعزاز المسلم وتعظیمه

استدلّ فی العناوین(1) والجواهر(2) بلزوم إعزاز المسلم ووجوب تعظیمه وحرمة اهانته علی بطلان البیع.

ویرد علیه: أنّها لا تقتضی إلاّ حرمة البیع، ومن المعلوم أنَّ حرمته لا تلازم فساده وبطلانه.(3)

أدلة الصحة

اشارة

تدلّ علی الصحة العمومات والإطلاقات الواردة فی صحة البیوع والتجارات والعقود نحو قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(4) قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(5) وقوله تعالی: «إلاَّ أَنْ تَکُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(6) وقوله صلی الله علیه و آله : النّاس مسلطون علی أموالهم(7).

شراءُ الکافرِ العبدَ المسلمَ بیعٌ وعقدٌ وتجارةٌ، والکافرُ مسلّطٌ علی ماله فی شرائه فیحکم بصحة الشراء.

وذکر الشیخ الأعظم فی أدلة الصِّحَّةِ استصحابها فقال: «مضافا إلی استصحاب الصحّة فی بعض المقامات یقتضی الصحّة، کما إذا کان الکافر مسبوقا بالإسلام - بناءً علی

ص:418


1- 4 . العناوین 2/356.
2- 5 . الجواهر 23/537 (22/334).
3- 1 . الأدلة الثلاثة الأخیرة ونقودها مذکورة فی حاشیة المکاسب 2/446 و 447 للمحقّق الاصفهانی قدس سره .
4- 2 . سورة البقرة /275.
5- 3 . سورة المائدة /1.
6- 4 . سورة النساء /29.
7- 5 . عوالی اللآلی 1/457، ح198، ونقل عنه فی بحارالأنوار 2/272، ح7 (1/358).

شمول الحکم لمن کفر عن الإسلام - أو کان العبد مسبوقا بالکفر، فیثبت فی غیره بعدم الفصل، ولا یعارضه أصالة الفساد فی غیر هذه الموارد؛ لأنّ استصحاب الصحّة مقدّم علیها، فتأمّل»(1).

وأمره بالتأمل لعلّه إشارة إلی منع حکومة استصحاب أصالة الصحة علی أصالة الفساد - لئلا تلزم لغویة جعل أصالة الصحة أو لأنّ أصالة الصحة أصل موضوعیُّ وأصالة الفساد أصل حکمی، والأصل الموضوعی مقدّم علی الأصل الحکمی - .

وجه منع الحکومة: عدم تسبُّب أحد الشکین عن الآخر.

أو لعلّه اشارة إلی عدم جریان استصحاب الصحة ووجهه تبدلّ الموضوع بین الکفر والإسلام. فإذا زال الإسلام فلا وجه لاستصحاب الصحة لتبدّل الموضوع من المسلم إلی الکافر.

ولکن الظاهر تمامیة حکومة اصالة الصحة علی أصالة الفساد بما مرّ.

والحاصل: یمکن القول بصحة شراء الکافر العبد المسلم لعدم تمامیة أدلة البطلان وجریان أدلة الصحة فی حقّه واللّه سبحانه هو العالم.

وقال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا فرق بین البیع وأنواع التملیکات کالهبة والوصیّة»(2). والصلح والهدیة والإصداق والإقرار ونحوها. فإذا جاز الشراء فقد جاز جمیعها واللّه العالم.

ثمّ هاهنا فروع لابدّ من البحث حولها
اشارة

ثمّ بعد بناء المشهور علی حُرْمَةِ انتقال العبد الْمُسْلِمِ إلی الکافر، هاهنا فروع لابدّ من البحث حولها:

1- تملیک منافع المسلم لِلْکافِر

هل یجوز تملیک منافع المسلم حرّا کان أم عبدا إلی الکافر بأنْ یؤجر الحرّ المسلم نفسَه من الکافر أو یؤجِّر المولی عبدَه المسلم من الکافر أم لا؟

ص:419


1- 6 . المکاسب 3/586.
2- 1 . المکاسب 3/586.

قال السیّد العاملی قدس سره : «مقتضی العبارة [فی متاجر القواعد(1)] فی الاستئجار المنع مطلقا سواء کانت فی الذمّة أو علی عین کما هو خیرة «الإیضاح(2) والدروس(3)» وهو قضیة إطلاق عبارة إجارة الکتاب(4) و «جامع المقاصد(5)». وفی «حواشی الکتاب» للشهید(6) و «جامع المقاصد(7) والمسالک(8) والروضة(9)» أنّها إن کانت علی عمل فی الذمّة یجوز لانتفاء السبیل، وإن کانت علی العین لم یجز، وقد اتفق کلامه فی «التذکرة(10) والتحریر(11) ونهایة الإحکام(12)» فیما إذا کانت علی عمل فی الذمّة فجوّزه فیها، واستشکل فی «التحریر» فیما إذا کانت علی عین، وظاهره فی «التذکرة» الجواز فی ذلک،

وقرّبه فی «نهایة الإحکام» ثمّ احتمل البطلان، وقال فیها(13) وفی «التذکرة(14)»: وعلی

ص:420


1- 2 . قواعد الأحکام: فی المتاجر 2/17.
2- 3 . إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/413.
3- 4 . الدروس الشرعیة: فی شرائط المتعاقدین 3/199.
4- 5 . قواعد الأحکام: فی الإجارة 2/286.
5- 6 . جامع المقاصد: فی الإجارة 7/122.
6- 7 . لم نعثر علیه فی حواشی الشهید الموجودة لدینا.
7- 8 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/63.
8- 9 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
9- 10 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/245.
10- 11 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/21.
11- 12 . تحریر الأحکام، فی عقد البیع 2/279.
12- 13 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/457.
13- 1 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/458.
14- 2 . ظاهر العبارة أنّ الوجهین ممّا احتملهما العلاّمة نفسه فی التذکرة، ولکنّ الّذی فیها هو نسبتهما إلی الشافعی، قال رحمه الله : فإن قلنا بالصحّة فهل یؤمر بأن یؤجر من مسلم؟ للشافعی وجهان، انتهی. راجع التذکرة: 10/21.

احتمال الصحّة فهل یؤمر بإجارته من مسلم؟ قال فی «التذکرة» فیه(1) وجهان، وقرّب العدم فی «نهایة الإحکام».

وفی «الخلاف(2)» نفی الخلاف - وظاهره بین المسلمین - عن صحّة استئجار الکافر للمسلم علی عملٍ موصوف فی الذمّة، وظاهره الإجماع منّا علی ما إذا کان علی عین، قال: إذا استأجر کافر مسلما لعمل فی الذمّة صحّ بلا خلاف، وإذا استأجره مدّة من الزمان شهرا أو سنةً لیعمل عملاً صحّ أیضا عندنا.

ویؤیّده ما ورد فی الأخبار(3) من أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام کان یؤجر نفسه الشریفة من الیهود لیسقی لهم النخل کلّ دلو بتمرة، وکفاک ما ورد من الأخبار(4) فی قصّة نزول سورة هل أتی الدالّة علی غزل فاطمة علیهاالسلام الصوف للیهود بأصواع من الشعیر، وحمله ذلک علی ما إذا کانت فی الذمّة کما فی «جامع المقاصد(5)» فی الخبر الأوّل بعید جدّا إلاّ أن یحمل ذلک علی المعاطاة، لأنّه لا لزوم.

وظاهر العبارات أنّه لا فرق فی المسلم بین الحرّ والعبد لمکان الإطلاق کما هو صریح «التذکرة(6) ونهایة الإحکام(7)» فیما إذا کانت علی عین. وفی «الدروس(8)» بعد أن منع إجارة العبد المسلم للکافر مطلقا قال: وجوّزها الفاضل، والظاهر أنّه أراد إجارة الحرّ المسلم، ویلوح منه الفرق بین إجارة الحرّ والعبد، فلیتأمّل»(9).

ص:421


1- 3 . کذا فی المطبوعة من المفتاح ولکن فی تذکرة الفقهاء 10/21: «للشافعی وجهان».
2- 4 . الخلاف: فی البیع 3/190، مسألة 319.
3- 5 . بحارالأنوار: 38/306، ح6، و 41/39، ح17.
4- 6 . أمالی الصدوق: المجلس الرابع والأربعون، ح13، /329، رقم 390.
5- 7 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/63.
6- 8 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/21.
7- 9 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/457.
8- 10 . الدروس الشرعیة: فی شرائط المتعاقدین 3/199.
9- 11 . مفتاح الکرامة 12/572 و 573.

أقول: یظهر من المتتبع الفقیه العاملی أنّ الأقوال فی المسألة أربعة:

أ: الجواز مطلقا کما مرّ من الخلاف والتذکرة، وهو مقرّب نهایة الإحکام.

ب: الجواز مع وقوع الإجارة علی الذّمة دون العین کما مرّ من الشهیدین والمحقّق الثانی فی متاجر جامع المقاصد.

ج: الجواز إذا کان الأجیر حرّا دون العبد کما یلوح من الشهید فی الدروس.

د: المنع مطلقا کما مرّ من القواعد والإیضاح والدروس وإجارة جامع المقاصد.

أظهرها عند الشیخ الأعظم الثانی (ب) وقال ما نصه: «أظهرها الثانی، فإنّه کالدین لیس ذلک سبیلاً، فیجوز.

ولا فرق بین الحرّ والعبد، کما هو ظاهر إطلاق کثیر: کالتذکرة وحواشی الشهید وجامع المقاصد، بل ظاهر المحکیّ عن الخلاف: نفی الخلاف فیه، حیثث قال فیه: إذا استأجر کافر مسلما لعمل فی الذمّة صحّ بلا خلاف، وإذا استأجره مدّة من الزمان شهرا أو سنة لیعمل عملاً صحّ أیضا عندنا، انتهی.

وادّعی فی الإیضاح: أنّه لم ینقل من الأُمّة فرق بین الدین وبین الثابت فی الذمّة بالاستئجار.

خلافا للقواعد وظاهر الایضاح، فالمنع مطلقا؛ لکونه سبیلاً.

وظاهر الدروس: التفصیل بین العبد والحرّ، فیجوز فی الثانی دون الأوّل، حیث ذکر بعد أن منع إجارة العبد المسلم الکافر مطلقا، قال: «وجوّزها الفاضل، والظاهر أنّه أراد إجارة الحرّ المسلم»(1)، انتهی.

وفیه نظر؛ لأنّ ظاهر الفاضل فی التذکرة: جواز إجارة العبد المسلم مطلقا ولو کانت علی العین.

نعم، یمکن توجیه الفرق بأنّ ید المستأجر علی الملک الذی مَلَکَ منفعته، بخلاف الحرّ؛ فإنّه لا یثبت للمستأجر ید علیه ولا علی منفعته، خصوصا لو قلنا بأنّ إِجارة الحرّ

ص:422


1- 1 . الدروس 3/199.

تملیک الانتفاع لا المنفعة، فتأمّل»(1).

أقول: ولکن أظهرها عندی الأوّل (أ) وهو الجواز مطلقا لعدم تمامیة التفصیل بین العبد والحرّ، والعین والذمّة، وقد مرّت صحة بیع العبد المسلم من الکافر فلا بأس بإجارته وإجارة الحرّ له لعدم صدق السبیل واللّه العالم.

2- رهن العبد المسلم عند الکافر

هل یجوز جعل العبد المسلم عند الکافر وثیقة للدین أم لا؟

قال الفقیه المتتبع السیّد العاملی: «وأمّا الارتهان فظاهر العبارة [فی متاجر القواعد] أیضا المنع مطلقا کما هو خیرة «الإیضاح(2) والتذکرة(3)» فی کتاب الرهن و «المختلف(4)» فیه، وظاهر «نهایة الإحکام(5)» الجواز مطلقا. وفی «التذکرة(6)» فیه وجهان للشافعی. وفی «الکتاب(7)» فی کتاب الرهن و «الدروس(8) والإیضاح(9)» فیه و «جامع المقاصد(10) والمسالک(11)» أنّه یجوز إذا لم یکن تحت ید الکافر کما إذا وضعاه عند مسلم، لأنّ استحقاق أخذ العین لا یعدّ سبیلاً. وهو خیرة «المبسوط(12)». وقال الشهید فی

ص:423


1- 2) المکاسب 3/587 و 588.
2- 1 . إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/413.
3- 2 . تذکرة الفقهاء: فی الرهن 13/146.
4- 3 . مختلف الشیعة: فی الرهن 5/422.
5- 4 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/458.
6- 5 . تذکرة الفقهاء: فی الرهن 13/146.
7- 6 . قواعد الأحکام: فی الرهن 2/110.
8- 7 . الدروس الشرعیة: فی الرهن 3/390.
9- 8 . إیضاح الفوائد: فی الرهن 2/11.
10- 9 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/63.
11- 10 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
12- 11 . المبسوط: فی الرهن 2/232.

«حواشیه(1)»: المراد بالارتهان المصاحب للدوام والقبض، قلت: هو أحد وجهی الشافعی(2)، ولم یرجّح شیئا فی «التحریر(3)»»(4).

أقول: یظهر من کلامه قدس سره أنّ الأقوال فی الإرتهان أربعة:

أ: الجواز مطلقا وهو ظاهر العلاّمة فی نهایة الإحکام.

ب: التردد وهو ظاهر العلاّمة فی متاجر التذکرة ورهن التحریر.

ج: التفصیل بین صورة عدم وضع العبد تحت ید الکافر فیجوز - کما إذا وضعاه عند مسلم - ، وصورة وضعه تحت ید الکافر فلا یجوز. وهو مختار کتاب الرهن فی کتب:

المبسوط والقواعد والإیضاح والدروس ومتاجر جامع المقاصد والمسالک.

د: المنع مطلقا وهو مختار العلاّمة فی متاجر القواعد ورهن التذکرة وولده فی متاجر الإیضاح.

قال الشیخ الأعظم: «أقواها الثالث [ج، التفصیل] لأنّ استحقاق الکافر لکون المسلم فی یده سبیل، بخلاف استحقاقه لأخذ حقّه من ثمنه»(5).

أقول: المختار هو القول الأوّل أی الجواز مطلقا، لأنّ جعل العبد المسلم عند الکافر وهو ممنوع من التصرف فیه - لأنّ المرتهن ممنوع من التصرف - لا یُعدّ سبیلاً لعدم وجود سلطنته علی العبد المسلم حینئذ وصرف القبض ومصاحبته دائما لا یُعد سبیلاً.

فیظهر ممّا ذکرنا أنَّهُ لیس للراهن أن یصدر إجازة تصرف الکافر المرتهن فیه، لأنّها تعدّی إلی سلطنة الکافر علیه المنفیة بقاعدة نفی السبیل واللّه العالم.

3- إعارة العبد المسلم إلی الکافر والإیداع عنده

هل یجوز أن یعیر المسلم عبده المسلم إلی الکافر بحیث یستفید الکافر فی معاشه

ص:424


1- 12 . لم نعثر علیه فی حواشی الشهید الموجودة لدینا.
2- 13 . المجموع 9/359.
3- 14 . تحریر الأحکام، فی الرهن 2/473.
4- 15 . مفتاح الکرامة 12/574.
5- 1 . المکاسب 3/589.

وحیاته من العبد المسلم؟ وهل یجوز ایداع العبد المسلم عند الکافر أم لا؟

قال السیّد العاملی فی ذیل قول العلاّمة فی متاجر القواعد: «الأقرب جواز الإیداع له والإعارة عنده»(1): «وفی نهایة الإحکام(2) والتذکرة(3)» تجوز إعارته وإبداعه، إذ لیس ملک رقبة ولا منفعة ولا حقّ لازم، ونحو ذلک ما فی «الإیضاح(4)». وفی «حواشی الشهید(5)» الإعارة والإیداع أقوی منعا یعنی من الارتهان، فلیتأمّل. وفی عاریة «الکتاب [القواعد(6)]» تحرم إعارة العبد المسلم من الکافر. وفی «المسالک(7)» فی إیداعه له وجهان أجودهما الصحّة، وفی إعارته له قولان أجودهما المنع. وفی «جامع المقاصد» لو ان المسلم جاریةً أو صبیّا فالّذی ینبغی عدم جواز إیداعه إیّاه بالاستقلال إذ لا یؤمن

علیه»(8).

أقول: یظهر من کلامه قدس سره الأقوال فی المسألتین:

أ: الجواز فیهما وهو مختار العلاّمة فی متاجر القواعد والتذکرة ونهایة الإحکام.

ب: حرمة الإعارة، وهو اختیار العلاّمة فی عاریة القواعد.

ج: جواز الإیداع وحرمة الإعارة وهو الظاهر من ثانی المحقّقین والشهیدین فی جامع المقاصد والمسالک. وفی الأوّل ذهب إلی عدم جواز إیداع الجاریة والصبی إلی الکافر.

ص:425


1- 2 . القواعد 2/17.
2- 3 . نهایة الإحکام: فی شروط المتعاقدین 2/458.
3- 4 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/22.
4- 5 . صریح عبارة الإیضاح الحکم بعدم الجواز مطلقا قال فیه: والأقوی عندی عدم الجواز فی المسألتین، راجع إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/414.
5- 6 . لم نعثر علیه فی حواشی الشهید الموجودة لدینا.
6- 7 . قواعد الأحکام: فی العاریة 2/193.
7- 8 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
8- 1 . مفتاح الکرامة 12/577.

د: المنع فیهما وهو مختار الفخر فی الإیضاح والشهید فی حواشیه.

والشیخ الأعظم(1) استحسن الحرمة فی العاریة وتنظّر فیها فی الودیعة، لوجود السبیل والعلو فی الاعارة وعدمهما فی الودیعة. فهو مع القول الثالث [ج] ونحن مع القول الأوّل [أ] وهو الجواز فیهما لعدم صدق السبیل والعلو فیهما کما مرّ فی بحث تملیک منافع المسلم للکافر. واللّه العالم.

4- وقف الکافر عبدَه المسلم علی أهل الکفر
اشارة

هل یجوز هذا الوقف أم لا؟

قال الشیخ الأعظم: «وممّا ذکرنا یظهر عدم صحة وقف الکافر عبده المسلم علی أهل ملّته»(2).

أقول: لأنّ هذا الوقف سبیل وعلو تنفیهما الشریعة المقدسة، وکذلک تظهر صحة وقفه علی أهل ملّة الإسلام. واللّه العالم.

المراد مِنْ الکافر

مَنْ هو المراد مِنَ الکافر فی ألسنتهم هنا؟

الکافر هنا یقابل المسلم فلابدّ من التعریف بالإسلام والمسلم حتّی یظهر مقابلهما الکفر والکافر.

ما هو الإسلام؟

الإسلام هو الإقرار بالشهادتین، الشهادة علی التوحید والشهادة علی الرسالة،

یدخل فیه جمیعُ الفِرَقِ مِنْ العامة والخاصة بطوائفهما ومختلف مذاهبهما.

فمن أقرّ بهما فهو مسلم یحقن به الدم والمال وتجری علیه المناکح والمواریث والطهارة وحلیة ذبیحته.

وممّا ذکرنا یَظْهَرُ دخول جمیع طوائف أهل الخلاف من العامة العمیاء وغیرهم من

ص:426


1- 2 . المکاسب 3/589.
2- 3 . المکاسب 3/590.

الْمُعْتَقِدِیْنَ بالمذاهب الفاسدة فیه ما دام لم ینکروا ضروریا من ضروریات الإسلام أو مع عدم الالتزام بلوازم الإنکار.

وفی مقابله الکفر وهو إنکار إحدی الشهادتین من التوحید والرسالة، علی سبیل منع الخلو، فمن أنکر وحدة اللّه تعالی أو أنکر نبوة خاتم الأنبیاء والمرسلین نبیّنا محمّد صلی الله علیه و آله فهو کافر، ولو کان کتابیّا من الیهود والنصاری والمجوس، وإن کان للکتابیین أحکام یختصون بها من سائر الکفار نحو، الجزیة وجواز نکاح نسائهم موقتا، ودائما - علی قولٍ - وطهارتهم - علی قول - .

یلحق بالکفار، الخوارج - القدیم، والحدیث وهم التکفیریون والانتحاریون والإرهابیون والدواعش - والنواصب والغلاة من المنتحلین لِلشَّرِیْعَةِ الإسلامیة، وکذا المرتدون عنها.

ویلحق بهم الصوفیة(1) بشرطین: 1- انکار ضروری من ضروریات الدیانة الإسلامیة بشروطها. 2- وتحلیل المحرّمات الضروریة من الشریعة المقدسة وهذان الشرطان لا یختصان بالصوفیة وکل من یفعلهما خرج من رقبة الإسلام.

فظهر ممّا ذکرنا أنّ تمامیة مقالة الشیخ الأعظم مِنْ أنّ المراد بالکافر «کلّ مَنْ حکم بنجاسته...»(2). مبنیةٍ علی القول المشهور من نجاسة أهل الکتاب.

الفرق بین الإسلام والإیمان

الإیمان یطلق علی مَعْنَیَیْنِ:

1- العقد القلبی علی الشهادتین اللتین یقرّ بهما علی لسانه والاعتقاد بهما والعمل علی طبقهما والالتزام العملی بلوازمهما ویدلّ علیه قوله تعالی: «قالَتِ الاْءَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُوءْمِنُوا وَلکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا یَدْخُلِ الاْءِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ وَإِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ لا

یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئا إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ * إِنَّمَا الْمُوءْمِنُونَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ

ص:427


1- 1 . کما یظهر من جدی العلاّمة التقی صاحب هدایة المسترشدین فی کتاب فتواه المطبوع المسمی ب- «رساله صلاتیه» /150.
2- 2 . المکاسب 3/590.

ثُمَّ لَمْ یَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أُولئِکَ هُمُ الصّادِقُونَ»(1).

فالإیمان بعد الإسلام وفضل الإیمان علی الإسلام ظاهر ویلزم السبق إلی الإیمان وأنّه مبثوث علی الجوارح والأعضاء من البدن وله درجات ودعائم وأقسام وحقیقة والثواب علیه وتنقضه أُمور وتثبته أُمور أُخر، یدلّ علی کلُّها الروایات الواردة(2) حول الإیمان أذکر لک بعض من صحاحها:

منها: موثقة سَمَاعَةَ قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِی عَبْدِاللّه ِ علیه السلام : أَخْبِرْنِی عَنِ الاْءِسْلاَمِ وَالاْءِیمَانِ أَهُمَا مُخْتَلِفَانِ؟

فَقَالَ: إنَّ الاْءِیْمَانَ یُشَارِکُ الاْءِسْلاَمَ، وَالاْءِسْلاَمَ لاَ یُشَارِکُ الاْءِیْمَانَ.

فَقُلْتُ: فَصِفْصُمَا لِی.

فَقَالَ: الاْءِسْلاَمُ شَهَادَةٌ أَنْ لاَ إِلهَ إَلاَّ اللّه ُ، وَالتَّصْدِیقُ بِرَسُولِ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، بِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ، وَعَلَیْهِ جَرَتِ الْمَنَاکِحُ وَالْمَوَارِیثُ، وَعَلی ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَالاْءِیمَانُ الْهُدی وَمَا یَثْبُتُ فِی الْقُلُوبِ مِنْ صِفَةِ الاْسْلاَمِ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَالاْءِیمَانُ أَرْفَعُ مِنَ الاْءِسْلاَمِ بِدَرَجَةٍ؛ إِنَّ الاْءِیمَانَ یُشَارِکُ الاْءِسْلاَمَ فِی الظَّاهِرِ، وَالاْءِسْلاَمَ لاَ یُشَارِکُ الاْءِیمَانَ فِی الْبَاطِنِ، وَإِنِ اجْتَمَعَا فِی الْقَوْلِ وَالصِّفَةِ.(3)

ومنها: معتبرة حمران بن أعْیَنَ عن أبیجعفر علیه السلام ، قَالَ: سَمِعْتُهُ یَقُولُ: الاْءِیمَانُ مَا اسْتَقَرَّ فِی الْقَلْبِ، وَأَفْضی بِهِ إِلَی اللّه ِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ لِلّهِ وَالتَّسْلِیمِ لاِءَمْرِهِ؛ وَالاْءِسْلاَمُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَهُوَ الَّذی عَلَیْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنَ الْفِرَقِ کُلِّهَا، وَبِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ، وَعَلَیْهِ جَرَتِ الْمَوَارِیثُ، وَجَازَ النِّکَاحُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَی الصَّلاَةِ وَالزَّکَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، فَخَرَجُوا بِذلِکَ مِنَ الْکُفْرِ، وَأُضِیفُوا إِلَی الاْءِیمَانِ، وَالاْءِسْلاَمُ لاَ یَشْرَکُ الاْءِیمَانَ، وَالاْءِیمَانُ یَشْرَکُ الاْءِسْلاَمَ، وَهُمَا فِی الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ یَجْتَمِعَانِ، کَمَا صَارَتِ الْکَعْبَةُ فِی الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ لَیْسَ فِی الْکَعْبَةِ، وَکَذلِکَ الاْءِیمَانُ یَشْرَکُ الاْءِسْلاَمُ، والإسلام لاَ یَشْرَکُ

ص:428


1- 1 . سورة الحجرات /14 و 15.
2- 2 . لأجل العثور علیها راجع کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 1/(509/492).
3- 3 . الکافی 3/72، ح1 (2/25).

الاْءِیمَانَ؛ وَقَدْ قال اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - : «قالَتِ الاْءَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُوءْمِنُوا وَلکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا یَدْخُلِ الاْءِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ»(1) فَقَوْلُ اللّه ِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَصْدَقُ الْقَوْلِ.

قُلْتُ: فَهَلْ لِلْمُؤْمِنِ فَضْلٌ عَلَی الْمُسْلِمِ فِی شَیْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالاْءَحْکَامِ وَالْحُدُودِ وَغَیْرِ ذلِکَ؟

فَقَالَ: لاَ، هُمَا یَجْرِیَانِ فِی ذلِکَ مَجْری وَاحِدٍ، وَلکِنْ لِلْمُؤْمِنِ فَضْلٌ عَلَی الْمُسْلِمِ فِی أعمالها وما یَتَقَرَّبانِ بِهِ إلی اللّه - عزّ وجلّ - .

قلت: أَ لَیْسَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - یَقُولُ «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها»(2) وَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَی الصَّلاَةِ وَالزَّکَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَعَ الْمُؤْمِنِ؟

قَالَ: أَ لَیْسَ قَدْ قَالَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - : «فَیُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافا کَثِیرَةً»(3)؟ فَالْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِینَ یُضَاعِفُ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ: لِکُلِّ حَسَنَةٍ سبعین ضِعْفا، فَهذَا فَضْلُ الْمُؤْمِنِ، وَیَزِیدُهُ اللّه ُ فِی حَسَنَاتِهِ عَلی قَدْرِ صِحَّةِ إِیمَانِهِ أَضْعَافا کَثِیرَةً، وَیَفْعَلُ اللّه ُ بِالْمُؤْمِنِینَ مَا یَشَاءُ مِنَ الْخَیْرِ.

قُلْتُ: أَ رَأَیْتَ مَنْ دَخَلَ فِی الاْءِسْلاَمِ أَ لَیْسَ هُوَ دَاخِلاً فِی الاْءِیمَانِ؟

فَقَالَ: لاَ، وَلکِنَّهُ قَدْ أُضِیفَ إِلَی الاْءِیمَانِ، وَخَرَجَ مِنَ الْکُفْرِ وَسَأَضْرِبُ لَکَ مَثَلاً تَعْقَلُ بِهِ فَضْلَ الاْءِیمَانِ عَلَی الاْءِسْلاَمِ: أَ رَأَیْتَ لَوْ أَبْصَرْتَ رَجُلاً فِی الْمَسْجِدِ، أَ کُنْتَ تَشْهَدُ أَنَّکَ رَأَیْتَهُ فِی الْکَعْبَةِ؟ قُلْتُ: لاَ یَجُوزُ لِی ذلِکَ.

قَالَ: فَلَوْ أَبْصَرْتَ رَجُلاً فِی الْکَعْبَةِ، أَکُنْتَ شَاهِدا أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَکَیْفَ ذلِکَ؟! قُلْتُ: إِنَّهُ لاَ یَصِلُ إِلی دُخُولِ الْکَعْبَةِ حَتّی یَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ ثُمَّ قَالَ: کَذلِکَ الاْءِیمَانُ وَالاْءِسْلاَمُ.(4)

ومنها: صحیحة أَبِیالصَّبَّاحِ الْکِنَانِیِّ عَنْ أَبِیجَعْفَرٍ علیه السلام ، قَالَ: قِیلَ

ص:429


1- 4 . سورة الحجرات /14.
2- 1 . سورة الأنعام /160.
3- 2 . سورة البقرة /245.
4- 3 . الکافی 3/74، ح5 (2/26).

لاِءَمِیرِالْمُؤْمِنِینَ علیه السلام : مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، کَانَ مُؤْمِنا؟ قَالَ: فَأَیْنَ فَرَئِضُ اللّه ِ؟

قَالَ: وَسَمِعْتُهُ یَقُولُ: کَانَ عَلِیٌّ علیه السلام یَقُولُ: لَوْ کَانَ الاْءِیمَانُ کَلاَما، لَمْ یَنْزِلُ فِیهِ صَوْمٌ وَلاَ صَلاَةٌ وَلاَ حَلاَلٌ وَلاَ حَرَامٌ.

قَالَ: وَقُلْتُ لاِءَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام : إِنَّ عِنْدَنَا قَوْما یَقُولُونَ: إِذَا شَهِدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ

مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ.

قَالَ: فَلِمَ یُضْرَبُونَ الْحُدُودَ؟ وَلِمَ تُقْطَعُ أَیْدِیهِمْ؟ وَمَا خَلَقَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - خَلْقا أَکْرَمَ عَلَی اللّه ِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الْمُؤْمِنِ؛ لاِءَنَّ الْمَلاَئِکَةَ خُدَّامُ الْمُؤْمِنِینَ، وَأَنَّ جِوَارَ اللّه ِ لِلْمُؤْمِنِینَ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنِینَ، وَأَنَّ الْحُورَ الْعِینَ لِلْمُؤْمِنِینَ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا بَالُ مَنْ جَحَدَ الْفَرَائِضَ کَانَ کَافِرا؟.(1)

ومنها: صحیحة جَمِیلِ بْنِ دَرِّاجٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَاعَبْدِاللّه ِ علیه السلام عَنِ الاْءِیمَانِ، فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ.

قَالَ: قُلْتُ: أَ لَیْسَ هذَا عَمَلٌ؟ قَالَ: بَلی. قُلْتُ: فَالْعَمَلُ مِنَ الاْءِیمَانِ؟ قَالَ: لاَ یَثْبُتُ لَهُ الاْءِیمَانُ إِلاَّ بِالْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ مِنْهُ.(2)

ومنها: معتبرة السکونی عَنْ أَبِی عَبْدِاللّه ِ، عَنْ أَبِیهِ علیهماالسلام ، قَالَ: «قَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ - صَلَوَاتُ اللّه ِ عَلَیْهِ -: الاْءِیمَانُ لَهُ أَرْکَانٌ أَرْبَعَةٌ: التَّوَکُّلُ عَلَی اللّه ِ، وَتَفْوِیضُ الاْءَمْرِ إلی اللّه ِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللّه ِ، وَالتَّسْلِیمُ لاِءَمْرِ اللّه ِ - عَزَّ وَجَلَّ -»(3).

2- وقد یطلق علی الإقرار بولایة وصی رسول اللّه وخلیفته، مولای ومولی الکونین أبیالحسنین أمیرالمؤمنین علی بن أبیطالب علیه السلام واُولاده الاْءحَدَ عَشَرَ المعصومین علیهم السلام وتدلّ علیه عدّة من الروایات(4) أذکر لک بَعْضا من صحاحها:

ص:430


1- 1 . الکافی 3/89، ح2 (2/33).
2- 2 . الکافی 3/102، ح6 (2/38).
3- 3 . الکافی 3/121، ح2 (2/47).
4- 4 . لأجل العثور علی بعض منها راجع کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 12/(237-226).

منها: صحیحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِیجَعْفَرٍ علیه السلام ، قَالَ: بُنِیَ الاْءِسْلاَمُ عَلی خَمْسَةِ أَشْیَاءَ: عَلَی الصَّلاَةِ، وَالزَّکَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، وَالْوَِلاَیَةِ.

قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ: وَأَیُّ شَیْءٍ مِنْ ذلِکَ أَفْضَلُ؟

فَقَالَ: الْوَِلاَیَةُ أَفْضَلُ؛ لاِءَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ، وَالْوَالِی هُوَ الدَّلِیلُ عَلَیْهِنَّ.

قُلْتُ: ثُمَّ الَّذِی یَلِی ذلِکَ فِی الْفَضْلِ؟

فَقَالَ: الصَّلاَةُ؛ إِنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلی الله علیه و آله قَالَ: الصَّلاَةُ عَمُودُ دِینِکُمْ.

قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ الَّذِی یَلِیهَا فِی الْفَضْلِ؟

قَالَ: الزَّکَاةُ؛ لاِءَنَّهُ قَرَنَها بِهَا، وَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ قَبْلَهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : الزَّکَاةُ تُذْهِبُ الذُّنُوبَ.

قُلْتُ: وَالَّذِی یَلِیهَا فِی الْفَضْلِ؟

قَالَ: الْحَجُّ؛ قَالَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - : «وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ»(1)؛ وَقَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : لَحَجَّةٌ مَقْبُولَةٌ خَیْرٌ مِنْ عِشْرِینَ صَلاَةً نَافِلَةً، وَمَنْ طَافَ بِهذَا الْبَیْتِ طَوَافا أَحْصی فِیهِ أُسْبُوعَهُ وَأَحْسَنَ رَکْعَتَیْهِ، غَفَرَ اللّه ُ لَهُ؛ وَقَالَ فِی عَرَفَةَ وَیَوْمِ الْمُزْدَلِفَةِ مَا قَالَ.

قُلْتُ: فَمَاذَا یَتْبَعُهُ؟ قَالَ: الصَّوْمُ.

قُلْتُ: وَمَا بَالُ الصَّوْمِ صَارَ آخِرَ ذلِکَ أَجْمَعَ؟

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ الاْءَشْیَاءِ مَا إِذَا فَاتَکَ لَمْ تَکُنْ مِنْهُ تَوْبَةٌ دُونَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَیْهِ فَتُؤَدِّیَهُ بِعَیْنِهِ، إِنَّ الصَّلاَةَ وَالزَّکَاةَ وَالْحَجَّ وَالْوَِلاَیَةَ لَیْسَ یَنْفَعُ شَیْءٌ مَکَانَهَا دُونَ أَدَائِهَا، وَإِنَّ الصَّوْمَ إِذَا فَاتَکَ أَوْ قَصَّرْتَ أَوْ سَافَرْتَ فِیهِ، أَدَّیْتَ مَکَانَهُ أَیَّاما غَیْرَهَا، وَجَزَیْتَ ذلِکَ الذَّنْبَ بِصَدَقَةٍ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَیْکَ، وَلَیْسَ مِنْ تِلْکَ الاْءَرْبَعَةِ شَیْءٌ یُجْزِیکَ مَکَانَهُ غَیْرُهُ.

ص:431


1- 1 . سورة آل عمران /97.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ذِرْوَةُ الاْءَمْرِ وَسَنَامُهُ وَمِفْتَاحُهُ وَبَابُ الاْءَشْیَاءِ وَرِضَا الرَّحْمنِ الطَّاعَةُ لِلاْءِمَامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، إِنَّ اللّه َ - عَزَّ وَجَلَّ - یَقُولُ: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلّی فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظا»(1) أَمَا لَوْ أَنَّ رَجَلاً قَامَ لَیْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَتَصَدَّقَ بِجَمِیعِ مَالِهِ وَحَجَّ جَمِیعَ دَهْرِهِ وَلَمْ یَعْرَفْ وَلاَیَةَ وَلِیِّ اللّه ِ فَیُوَالِیَهُ وَیَکُونَ جَمِیعُ أَعْمَالِهِ بِدَلاَلَتِهِ إِلَیْهِ، مَا کَانَ لَهُ عَلَی اللّه ِ حَقٌّ فِی ثَوَابِهِ، وَلاَ کَانَ مِنْ أَهْلِ الاْءِیمَانِ. ثُمَّ قَالَ: أُولئِکَ الْمُحْسِنُ مِنْهُمْ یُدْخِلُهُ اللّه ُ الْجَنَّةَ بَفَضْلِ رَحْمَتِهِ.(2)

ومنها: صحیحة عَجْلاَنَ أَبِیصَالِحٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِی عَبْدِاللّه ِ علیه السلام : أَوْقِفْنِی عَلی حُدُودِ الاْءِیمَانِ.

فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ، وَالاْءِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ، وَصَلاَةُ الْخَمْسِ، وَأَدَاءُ الزَّکَاءِ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِجُّ الْبَیْتِ، وَوَلاَیَةُ وَلِیِّنَا،

وَعَدَاوَةُ عَدُوِّنَا، وَالدُّخُولُ مَعَ الصَّادِقِینَ.(3)

ومنها: صحیحة الْفُضَیْلِ بْنِ یَسَارٍ: عَنْ أَبِیجَعْفَرٍ علیه السلام ، قَالَ: بُنِیَ الاْءِسْلاَمُ عَلی خَمْسٍ: عَلَی الصَّلاَةِ، وَالزَّکَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، وَالْوَِلاَیَةِ؛ وَلَمْ یُنَادَ بِشَیْءٍ کَمَا نُودِیَ بِالْوَِلاَیَةِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِأَرْبَعٍ وَتَرَکُوا هذِهِ یَعْنِی الْوِلاَیَةَ.(4)

ومنها: صحیحة عِیسَی بْنِ السَّرِیِّ أَبِیالْیَسَعِ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِی عَبْدِاللّه ِ علیه السلام : أَخْبِرْنِی بِدَعَائِمِ الاْءِسْلاَمِ، الَّتِی لاَ یَسَعُ أَحَدا التَّقْصِیرُ عَنْ مَعْرَفَةِ شَیْءٍ مِنْهَا، الَّتِی مَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرَفَةِ شَیْءٍ مِنْهَا فَسَدَ دِینُهُ وَلَمْ یُقْبَلْ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَمَنْ عَرَفَهَا وَعَمِلَ بِهَا صَلَحَ لَهُ دِینُهُ وَقُبِلَ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ یَضِقْ بِهِ مِمَّا هُوَ فِیهِ لِجَهْلِ شَیْءٍ مِنَ الاْءُمُورِ جَهِلَهُ؟

فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَالاْءِیمَانُ بِأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، وَالاْءِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ، وَحَقٌّ فِی الاْءَمْوَالِ الزَّکَاةُ، وَالْوَِلاَیَةُ الَّتِی أَمَرَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِهَا وَِلاَیَةُ آلِ

ص:432


1- 2 . سورة النساء /80.
2- 3 . الکافی 3/54، ح5 (2/18).
3- 1 . الکافی 3/52، ح2 (2/18).
4- 2 . الکافی 3/53، ح3 (2/18).

مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله .

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ فِی الْوَِلاَیَةِ شَیْءٌ فَضْلٌ یُعْرَفُ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ؟

قَالَ: نَعَمْ؛ قَالَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - : «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(1) وَقَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : مَنْ مَاتَ وَلاَ یَعْرَفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِیتَةً جَاهِلِیَّةً، وَکَانَ رَسُولَ اللّه ِ صلی الله علیه و آله وَکَانَ عَلِیّا علیه السلام ، وَقَالَ الاْآخَرُونَ: کَانَ مُعَاوِیَةَ؛ ثُمَّ کَانَ الْحَسَنَ، ثُمَّ کَانَ الْحُسَیْنَ، وَقَالَ الاْآخَرُونَ: یَزِیدَ بْنَ مُعَاوِیَةَ وَحُسَیْنَ بْنَ عَلِیٍّ؛ وَلاَ سَوَاءَ وَلاَ سَوَاءَ.

قَالَ: ثُمَّ سَکَتَ، ثُمَّ قَالَ: أَزِیدُکَ؟ فَقَالَ لَهُ حَکَمٌ الاْءَعْوَرُ: نَعَمْ، جُعِلْتُ فِدَاکَ، قَالَ: ثُمَّ کَانَ عَلِیَّ بْنَ الْحُسَیْنِ، ثُمَّ کَانَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِیٍّ أَبَا جَعْفَرٍ، وَکَانَتِ الشِّیعَةُ قَبْلَ أَنْ یَکُونَ أَبُوجَعْفَرٍ وَهُمْ لاَ یَعْرِفُونَ مَنَاسِکَ حَجِّهِمْ وَحَلاَلَهُمْ وَحَرَامَهُمْ، حَتّی کَانَ أَبُوجَعْفَرٍ، فَفَتَحَ لَهُمْ، وَبَیَّنَ لَهُمْ مَنَاسِکَ حَجِّهِمْ وَحَلالَهُمْ وَحَرَامَهُمْ، حَتّی صَارَ النَّاسُ یَحْتَاجُونَ إِلَیْهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا کَانُوا یَحْتَاجُونَ إِلَی النَّاسِ، وَهکَذَا یَکُونُ الاْءمْرُ، وَالاْءَرْضُ لاَ تَکُونُ إِلاَّ بِإِمَامٍ، وَمَنْ مَاتَ لاَ یَعْرِفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِیتَةً جَاهِلِیَّةً، وَأَحْوَجُ مَا تَکُونُ إِلی مَا أَنْتَ عَلَیْهِ إِذَا بَلَغَتْ نَفْسُکَ هذِهِ - وَأَهْوی بِیَدِهِ إِلی حَلْقِهِ - وَانْقَطَعَتْ عَنْکَ الدُّنْیَا تَقُولُ: لَقَدْ کُنْتُ عَلی أَمْرٍ حَسَنٍ.(2)

ومنها: صحیحة اُخری له قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِیعَبْدِاللّه ِ علیه السلام : حَدِّثْنِی عَمَّا بُنِیَتْ عَلَیْهِ دَعَائِمُ الاْءِسْلاَمِ إِذَا أَنَا أَخَذْتُ بِهَا زَکا عَمَلِی، وَلَمْ یَضُرِّنِی جَهْلُ مَا جَهِلْتُ بَعْدَهُ.

فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاّ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، وَالاْءِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ، وَحَقٌّ فِی الاْءَمْوَالِ مِنَ الزَّکَاةِ، وَالْوَِلاَیَةُ الَّتِی أَمَرَ اللّه ُ بِهَا وَِلاَیَةُ آلِ مُحَمَّدٍ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلی الله علیه و آله قَالَ: مَنْ مَاتَ وَلاَ یَعْرِفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِیتَةً جَاهِلِیَّةً؛ قَالَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - : «أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(3) فَکَانَ عَلِیٌّ، ثُمَّ صَارَ مِنْ بَعْدِهِ الْحَسَنُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ الْحُسَیْنُ، ثُمَّ مَنْ بَعْدِهِ عَلِیُّ بْنُ الْحُسَیْنِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیٍّ، ثُمَّ هکَذَا یَکُونُ الاْءَمْرُ؛ إنَّ الاْءَرْضَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ بِإِمَامٍ، وَمَنْ مَاتَ لاَ یَعْرِفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِیتَةً

ص:433


1- 3 . سورة النساء /59.
2- 4 . الکافی 3/57، ح6 (2/19).
3- 1 . سورة النساء /59.

جَاهِلِیَّةً، وَأَحْوَجُ مَا یَکُونُ أَحَدُکُمْ إِلی مَعْرِفَتِهِ إِذَا بَلَغَتْ نَفْسُهُ هَاهُنَا - قَالَ: وَأَهْوی بِیَدِهِ إِلی صَدْرِهِ - یَقُولُ حِینَئِذٍ: لَقَدْ کُنْتُ عَلی أَمْرٍ حَسَنٍ.(1)

أقول: فظهر ممّا ذکرنا أنّ النسبة بین الإسلام والإیمان بِکِلَیْ معنیین عموم وخصوص مطلق، فالإسلام عام والإیمان خاص وداخل فی الإسلام، وکلُّ مؤمنٍ مسلمٌ، ولکن لیس کلُّ مسلمٍ بمؤمن، بل بعض المسلمین یکونون مؤمنین وبعضهم غیر مؤمنین علی المعنیین من الإیمان.

ویمکن إرجاع الإیمان بالمعنی الثانی إلی الإیمان بالمعنی الأوّل لأنّ الاعتقاد بالولایة یکون من لوازم الاعتقاد بالنبوة، لأنّهما ممّا جاء به النبی صلی الله علیه و آله فلابدّ من المؤمن بالنبی الاعتقاد بالولایة والعقد القلبی علیها والالتزام العملی بها فیدخل الإیمان بالمعنی الثانی إلی الإیمان بالمعنی الأوّل وهذا هو المختار والحمد للّه الغفار.

قال فی الجواهر: «... ضرورة کون الإیمان فی السابق مرادفا للإسلام، فإنّه بالمعنی الأخصّ اصطلاح جدید، نعم ربّما اُطلق الإیمان فیها مقابل الإسلام باعتبار إرادة التصدیق القلبی والتسالم الظاهری مع النفاق باطنا ولکنّ المعروف مرادفته، وکذا لفظ الدین الذی هو عند اللّه الإسلام»(2).

أقول: مراده قدس سره من السابق عند فقهائنا الأقدمین ومراده من المعنی الأخص هو الإیمان بالمعنی الثانی - أی بالولایة - ثمّ اعترف بالفارق بین الإیمان بالمعنی الأوّل

والإسلام، ثمّ ذهب إلی أنّ المعروف ترادفهما - أی الإیمان بالمعنی الأوّل والإسلام - بل ترادفهما مع لفظ الدین.

«ثمّ إعلم أن المتکلمین قد اختلفوا فی حقیقة الایمان فقال بعضهم: أنّه مرکب من التصدیق باللسان والعقد بالقلب. والعمل بالجوارح.

وقال بعض آخر منهم: أنّه مرکب من العقد القلبی والتصدیق اللسانی.

ص:434


1- 2 . الکافی 3/61، ح9 (2/21).
2- 3 . الجواهر 31/167 و 168 (30/96).

وقال آخرون: أنّه أمر قلبی فقط. وشرط قبوله وترتب الآثار علیه الإقرار باللسان.

وقال بعضهم: أنّه أمر بسیط ذو مراتب فی الشدة والضعف وهو التصدیق بالجنان فقط، والإقرار باللسان والعمل بالأرکان کاشفان عنه وموجبان لترتب الآثار علیه. وهذا هو الذی رجّحناه... إلی غیر ذلک من الأقوال... .

والغرض من ذکرها هنا إجمالاً أنّ الایمان بأیّ معنی أُخذ فللعمل مدخلیة فیه. کما لا یخفی. ومدخلیته فیه إمّا فی ماهیته وحقیقته. کما هو مقتضی القول الأوّل أو فی کماله أو فی ترتب الآثار علیه أو فی کاشفیته عنه أو فی غیره کما هو مقتضی الأقوال الأخری فمن ترک جمیع ما أمر اللّه تعالی بإتیانه وأتی بجمیع ما نهی اللّه عن إتیانه ففعله ذلک کاشف عن أنّه لا إیمان له. ومن امتثل بعضا وترک بعضا آخر. وخلط عملاً صالحا وآخر سیئا ففعله ذلک کاشف عن ضعف إیمانه»(1).

هل یلحق بالکفار أطفالهم؟

قال فی الجواهر: «والظاهر أنّ بحکم المسلم ولده وإن بلغ مجنونا، کما أنّ بحکم الکافر ولده کذلک؛ للتبعیّة، فلا یباع حینئذٍ ولد العبد المسلم للکافر ولا لولده، ویجبر علی بیعه منهما بإسلام أبیه أو جدّه أو غیرهما ممّن یتبعه فی الإسلام کالاُمّ، من غیر فرق بین کونهما حرّین أو عبدین للمالک أو غیره.

لکن فی القواعد: «وهل یباع الطفل بإسلام أبیه الحرّ أو العبد لغیر مالکه؟ إشکال، وإسلام الجدّ أقوی إشکالاً»(2).

وکأنّه للإشکال فی التبعیّة، خصوصا فی الجدّ، وخصوصا مع بقاء الأب علی الکفر، فیبقی حینئذٍ ما دلّ علی بقاء الملک بحاله.

ویضعّف: بأنّ دلیلها شامل لذلک، بل لعلّه من أظهر أفرادها.

بل لعلّ قوله: «کلّ مولود یولد علی الفطرة، وإنّما أبواه یهوّدانه وینصّرانه

ص:435


1- 1 . الأربعین الهاشمیة /120 و 121، للسیّدة نصرت بیگم الأمین الأصفهانیة - رحمة اللّه علیها - .
2- 2 . قواعد الأحکام: المتاجر، فی المتعاقدین 2/18.

ویمجّسانه»(1) کافٍ فی ذلک، بناءً علی إرادة التبعیّة فی الیهودیّة من قوله: «یهوّدانه»؛ ضرورة ظهوره حینئذٍ فی أنّ الولد علی الإسلام لو لا التبعیّة المقتضیة للکفر، فمع انتفائها - بإسلام الأب مثلاً - یبقی علیه حینئذٍ.

فضلاً عمّا دلّ علی التبعیّة یه أیضا من قوله تعالی: «وَ... أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ»(2) وغیره کمرسل الصدوق: «قال علیّ علیه السلام : إذا أسلم الأب جرّ الولد إلی الإسلام، فمن أدرک من ولده دعی إلی الإسلام، فإن أبی قتل...»(3) الحدیث.

وقوّة الإشکال فی الجدّ یدفعها: معلومیّة التبعیّة للأشرف المتحقّق فیه فی الفرض، وإن کان هو أبعد من الأب رتبةً، کما هو واضح.

بل قد یقال: بإلحاق إسلام السابی بإسلام أحدهما، فیقهر علی بیعه حینئذٍ لو ارتدّ؛ لما دلّ علی التبعیّة فی الإسلام به.

فظهر حینئذٍ من ذلک: التبعیّة فی الإسلام والکفر فیمن عرفت، فیجری علیه حکمهما.

نعم، لا یجری حکم الإسلام فی المعذور لفسحة النظر أو لبعده عن محلّ المعرفة، واللّه أعلم»(4).

أجاب الشیخ الأعظم عن الإلحاق بقوله: «فیه إشکال»(5).

مراده من الإشکال: «عدم صدق «الکافر» حقیقةً علی أطفالهم، سواء أکان الکفر

ص:436


1- 1 . من لا یحضره الفقیه: الفرائض، باب میراث أهل الملل 4/334، ح5719؛ وسائل الشیعة 26/14، ح11، باب 1 من أبواب موانع الإرث؛ الجامع الصغیر (للسیوطی) 1/474، ح3063؛ کنز العمّال 1/66، ح246؛ شرح صحیح مسلم 11/52؛ سنن البیهقی 6/205.
2- 2 . سورة الطور /21.
3- 3 . من لا یحضره الفقیه، 3/152، ح3556، القضایا والأحکام، باب الارتداد؛ وسائل الشیعة 28/329، ح7، باب 3 من کتاب الحدود والتعزیرات.
4- 4 . الجواهر 23/(549-547) [22/341 و 342].
5- 5 . المکاسب 3/590.

وصفا وجودیّا مضادّا للإیمان، أم عدمیّا.

أمّا علی الأوّل فواضح. وأمّا علی الثانی فلأنّ الکفر بمعنی عدم الإسلام، ومن المعلوم أنّ التقابل بین الإسلام والکفر تقابل العدم والملکة، لا تقابل السلب والإیجاب.

وعدمُ الملکة منتفٍ فی أطفال الکفار، فلا یلحق الأطفال بالبالغین»(1).

لا یقال: إنّ المراد من الکافر أعمّ من الحقیقی والحکمی فیلحق الأطفال بآبائهم، لأنّ هذه الأعمیة مقتضی حکومة مادلّ علی أنّ أطفالهم بمنزلة آبائهم فی الأحکام والآثار.

لأنّا نقول: «هذه الحکومة غیر ظاهرة، لتوقفها علی عموم دلیل تنزیل الأطفال منزلة البالغین. ولم نعثر - الی الآن - علی هذا الدلیل. والمتیقن هو ثبوت بعض الأحکام للأطفال کالنجاسة، والتبعیة فی السّبی»(2).

فحینئذ لو شک فی شمول أدلة منع شراء الکافر العبد المسلم فمقتضی عمومات صحة البیع وتجارة عن تراض واطلاق الوفاء بالعقد، صحة انتقال العبد المسلم إلی طفل الکافر «لمرجعیة العام فی المخصص المجمل المفهومی الدائر بین الأقل والأکثر وللاقتصار فی التخصیص علی القدر المتیقن وهو الکافر البالغ»(3). کما علیه المحقّق المروج قدس سره .

ولکن یرد علیه: الأطفال یلحقون بالآباء عند کلِّ قوم فیحکم بکفر أطفال الکفار، فیجری فی حقِّ الأطفال آیة نفی السبیل ونبوی علو الإسلام بالاُولویة القطعیة علی فرض جریانهما فی فرعنا کما علیه المشهور. فلا یجوز شراء العبد المسلم لطفل الکافر علی مبنی المشهور واللّه العالم.

حکم شراء العبد المسلم للمخالف

اشارة

قال الشیخ الأعظم رحمه الله : «لا بأس ببیع المسلم من المخالف ولو کان جاریة، إلاّ إذا

ص:437


1- 1 . هدی الطالب 6/327.
2- 2 . هدی الطالب 6/327.
3- 3 . هدی الطالب 6/327.

قلنا بحرمة تزویج المؤمنة من المخالف؛ لأخبار دلّت علی ذلک، فإنّ فحواها یدلّ علی المنع من بیع الجاریة المؤمنة، لکن الأقوی عدم التحریم»(1).

حکم بعدم البأس لأنّ المخالف محکوم بالإسلام لا الکفر، فیجوز له شراء العبد المسلم ولو کان المبیع جاریة مؤمنة شیعیة.

ثمّ استثناها علی القول بحرمة تزویج المؤمنة من المخالف کما حُکی غیر واحد(2)

الشهرة علی الحرمة، ولکنّها(3) لم تثبت، کما تنظّر(4) فیها صاحب الجواهر وقال: «... ومنه یعلم: عدم قائل صریح معتدّ بِهِ من القدماء بعدم جواز نکاح المؤمنة غیر المؤمن ولو من الفرق الإمامیة کالواقفی ونحوه ممّا جری علیه حکم الإسلام فی هذا الحال»(5).

وتابع الشیخُ الأعظمُ فی استثنائهِ جَدِّیَ الشیخ جَعْفَرا حیث یقول: «لا یبعد اشتراط الإیمان فی حقّ الإماء لظاهر بعض الأخبار»(6).

وقال صاحب الجواهر فی شرح کلام استاذه: «ولعلّه أشار بذلک ما فی النکاح من عدم تزویج المخالف المؤمنة مخافة علی دینها فلا یکون کفوا لها، ولکنّة - کما تری - لا یصلح بمجرد ذلک للخروج عن مقتضی العمومات جنسا ونوعا، وإن کان الاحتیاط مع إمکانه لا ینبغی ترکه، هذا»(7).

ولکن تبع صاحب المفتاح استاذه الشیخَ جَعْفَرا وقال: «یبقی الکلام فی المخالف إذا اشتری جاریة مؤمنة أو عبدا صغیرا محکوما بإیمانه ونحو ذلک ممّن یمکن حمله له

ص:438


1- 4 . المکاسب 3/592.
2- 5 . کالفیض الکاشانی فی مفاتیح الشرائع 2/253، مفتاح 711، وسیّد الریاض فی کتابه 11/283.
3- 1 . أی الشهرة.
4- 2 . الجواهر 31/165 (30/95).
5- 3 . الجواهر 31/167 (30/96).
6- 4 . شرح القواعد 2/48.
7- 5 . الجواهر 23/542 (22/338).

علی مذهبه فهل یصحّ هذا البیع؟ احتمالان، والأصحّ عدم الصحّة کما صرّح به الشهید علی ما هو فی بالی، والعلّة(1) المنصوصة فی عدم تزویج المؤمنة من المخالف تدلّ علی ذلک، إلی غیر ذلک ممّا یمکن أن یستدلّ به علی ذلک»(2).

مستند حُرْمَةِ تزویج المُؤْمنة من المخالف

عدّة من الروایات:

منها: صحیحة الفضیل بن یسار قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن نکاح الناصب؟ فقال: لا، واللّه ما یحلّ، قال فضیل: ثمّ سألته مرّة أُخری فقلت: جعلت فداک، ما تقول فی نکاحهم؟ قال: والمرأة عارفة؟ قلت: عارفة، قال: إنّ العارفة لا توضع إلاّ عند عارف.(3)

النفی یدلّ علی الحرمة الوضعیة أعنی الفساد.

ومنها: معتبرة بل صحیحة(4) زرارة بن أَعْیَنَ عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: تزوّجوا فی الشکاک ولا تزوّجوهم، فإنّ المرأة تأخذ من أدب زوجها ویقهرها علی دینه.(5)

أخذا بتعلیل الوارد فی ذیلها.

ومنها: صحیحة علی بن مهریار قال: کتب علیّ بن أسباط إلی أبیجعفر علیه السلام فی أمر بناته وأنّه لا یجد أحدا مثله، فکتب إلیه أبوجعفر علیه السلام : فهمت ما ذکرت من أمر بناتک وأنّک لا تجد أحدا مثلک، فلا تنظر فی ذلک رحمک اللّه، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: إذا جاءکم من ترضون خلقه ودینه فزوّجوه، إلاّ تفعلوه تکن فتنة فی الأرض وفساد کبیر.(6)

یحمل الدین علی الاْءِیْمانِ بالولایة.

ص:439


1- 6 . وسائل الشیعة 20/555، ح2، الباب 11 من أبواب ما یحرم بالکفر، و 20/76، الباب 28 من أبواب مقدّمات النکاح.
2- 7 . مفتاح الکرامة 12/571.
3- 8 . وسائل الشیعة 20/550، ح5، الباب 10 من أبواب ما یحرم بالکفر.
4- 1 . لأنّ سند الصدوق إلی الروایة صحیح.
5- 2 . وسائل الشیعة 20/555، ح2، الباب 10 من أبواب ما یحرم بالکفر.
6- 3 . وسائل الشیعة 20/76، ح1، الباب 28 من أبواب مقدمات النکاح.

أقول: وأنت تری بأنّ النفی یُحمل علی الاستحباب أو الأفضلیة والتعلیل لیس إلاّ الحکمة وهی لا تعمّم ولا تخصّص والدین یحمل علی الإسلام لا الإیمان بالمعنی الثانی فلا تتم الأدلة الحرمة.

بل عموماتُ باب النکاح وإطلاقاتُه تُدلّ علی تزویج المؤمنة بالمسلم نحو صحیحة محمّد بن مسلم عن أبیجعفر علیه السلام قال: سألته عن الإیمان؟ فقال: الإیمان ما کان فی القلب، والإسلام ما کان علیه التناکح والمواریث وتحقن به الدماء، الحدیث(1).

وصحیحة العلاء بن رزین أنّه سأل أباجعفر علیه السلام عن جمهور النّاس؟ فقال: هم الیوم أهل هدنة، تردّ ضالتهم، تؤدّی أمانتهم، وتحقن دماؤهم، وتجوز مناکحتهم وموارثتهم فی هذه الحال(2).

وصحیحة عمر بن أبان قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن المستضعفین؟ فقال: هم أهل الولایة، فقلت: أیّ ولایة؟ فقال: أما أنّها لیست بالولایة فی الدین، ولکنّها الولایة فی المناکحة والموارثة والمخالطة، وهم لیسوا بالمؤمنین ولا الکفّار، منهم المرجون لأمر اللّه - عزّ وجلّ - .(3)

فالمختار جواز إنکاحها من المسلم کما علیه صاحب الجواهر وقال: «... کون المدار علی الإسلام فی النکاح وأنّ جمیع فرقه التی لم یثبت لها الکفر - بنصب أو غلوٍّ أو نحو ذلک - ملّة واحدة یشترکون فی التناکح بینهم والتوارث وغیرهما من الأحکام والحدود واللّه العالم»(4).

مستثنیات جواز تملک الکافر للعبد المسلم
اشارة

بناءً علی عدم الجواز حکموا بإخراج صورتین منه:

ص:440


1- 4 . وسائل الشیعة 20/559، ح13، الباب 11 من أبواب ما یحرم بالکفر.
2- 5 . وسائل الشیعة 20/561، ح1، الباب 12 من أبواب ما یحرم بالکفر.
3- 6 . وسائل الشیعة 20/577، ح5، الباب 11 من أبواب ما یحرم بالکفر.
4- 1 . الجواهر 31/177 (30/102).
1- إذا کان الشراء مستعقبا لِلاِنْعِتاقِ
اشارة

ویظهر هذا الشراء فی ثلاث فروع:

أ: شراء الکافر مَنْ ینعتق علیه قهرا واقعا

قال السیّد العاملی رحمه الله : «وأمّا لو اشتری الکافر أباه المسلم أو مَن ینعتق علیه ففی المسبوط(1) أنّه لا یصحّ البیع ولا ینعتق، لأنّه لا یملکه. وهو قضیة کلامه فی الخلاف فی مسألة(2) ما إذا قال له: أعتق عبدک عن کفّارتی، وفی بعض نسخ المختلف(3) نسبة ذلک إلی ابن حمزة، وفی بعضها إلی ابن البرّاج، ولعلّ هذه هی الصحیحة فقد نقله غیره(4) عن ابن البرّاج، ولم ینقل ذلک عن ابن حمزة ولا وجدته فی الوسیلة. وبه قال بعض العامّة مستندا إلی أنّ ما منع من شرائه لم یبح له شراؤه وإن زال ملکه کالصید للمحرم(5). والفرق أنّ المحرم لو ملکه لثبت علیه بخلاف المتنازع فیه.

وفی المقنعة(6) والنهایة(7) والسرائر(8) والشرائع(9) والتذکرة(10) والإرشاد(11)

ص:441


1- 2 . المبسوط: فیما یصحّ بیعه وما لا یصحّ 2/168.
2- 3 . الخلاف: فی البیع 3/190، مسألة 318.
3- 4 . لم نجد هذه النسخة من المختلف الّتی أشار إلیها الشارح، والنسخ الّتی عندنا تصرّح بالنسبة المذکورة إلی ابن البرّاج کما نقلها عنه فی غایة المرام، والحدائق عن المختلف، راجع المختلف: 5/59، والطبعة القدیمة /349؛ وغایة المرام 2/19؛ والحدائق 18/426.
4- 5 . نقله الصیمری فی غایة المرام: فی عقد البیع 2/19.
5- 6 . المغنی لابن قدامة 4/306.
6- 7 . المقنعة: فی ابتیاع الحیوان /599.
7- 8 . النهایة: فی باب ابتیاع الحیوان وأحکامه /408.
8- 9 . السرائر: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه 2/(342-343).
9- 10 . شرائع الإسلام: فی شروط المتعاقدین 2/16.
10- 11 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/20.
11- 12 . إرشاد الأذهان: فی بیع الحیوان 1/365.

وشرحه لفخرالإسلام(1) والمختلف(2) ونهایة الإحکام(3) واللمعة(4) والدروس(5) وجامع المقاصد(6) والمسالک(7) والروضة(8) والمیسیة والمفاتیح(9) وغیرها(10) أنّه یملک مَن ینعتق علیه، فإذا اشتراه انعتق علیه فی الحال، وقد نقله فی المختلف(11) عن والده. وفی السرائر(12) أنّه مجمع علیه. وفی الحدائق(13) أنّه مشهور. وفی التحریر(14) أنّ فی البطلان إشکالاً. وفی النهایة(15) أنّه لا فرق فی ذلک بین کونهنّ أو کونهم من رضاع أو نسب، وفی المقنعة(16) والسرائر(17) إنّما هو إذا کنّ أو کانوا من النسب دون الرضاع»(18).

وقال الجواهر: «ف- (لو ابتاع الکافر أباه المسلم، هل یصحّ؟ فیه تردّد) بل وخلاف:

ص:442


1- 1 . شرح الإرشاد للنیلی: فی شروط المتعاقدین /45، س20 (من کتب مکتبة المرعشی برقم 2474).
2- 2 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/59.
3- 3 . نهایة الإحکام: فی شرائط العاقد 2/457.
4- 4 . اللمعة الدمشقیة: فی عقد البیع /111 وفی بیع الیحوان /117.
5- 5 . الدروس الشرعیة: فی شرائط المتعاقدین 3/199.
6- 6 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/62.
7- 7 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
8- 8 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/244.
9- 9 . مفاتیح الشرائع: فی اشتراط الإسلام فی المشتری 3/50.
10- 10 . کالحدائق الناضرة: فی شرائط المتعاقدین 18/426.
11- 11 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/59.
12- 12 . السرائر: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه 2/343.
13- 13 . الحدائق الناظرة: فی شرائط المتعاقدین 18/426.
14- 14 . تحریر الأحکام: فی عقد البیع 2/279.
15- 15 . النهایة: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه /409.
16- 16 . المقنعة: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه /599.
17- 17 . السرائر: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه 2/(342-343).
18- 18 . مفتاح الکرامة 12/567 و 568.

فعن المبسوط(1) وابن البرّاج(2): لا یصحّ، بل هو مقتضی المحکی عن الخلاف فیما

لو قال الکافر للمسلم: «أعتق عبدک المسلم عن کفّارتی»(3)، کما أنّه أحد وجهی الشافعیّة(4).

(والأشبه) عند المصنّف ومحکیّ المقنعة(5) والنهایة(6) والسرائر(7) وکافّة المتأخّرین(8): (الجواز؛ لانتفاء السبیل بالعتق) بل عن السرائر: أنّه مجمع علیه.

وهو الحجّة بعد العموم جنسا ونوعا، السالم عن معارضة الآیة(9) بعد أن کان الحکم الانعتاق قهرا، وإن قلنا باستلزامه الملک الضمنی الذی هو مقارن للعتق زمانا متقدّم علیه ذاتا کتقدّم العلّة علی المعلول؛ لعدم اندراجه فی السبیل المنفیّ(10).

ومن ذلک یعرف حینئذٍ: عموم الحکم لکلّ من ینعتق علیه قهرا، من غیر فرق بین الأب وغیره ولو کانوا من رضاع، بناءً علی کونهم کالنسب فی ذلک»(11).

وقال الشیخ الأعظم: «والوجه فی الأوّل [هذا الفرع] واضح، وفاقا للمحکیّ عن

ص:443


1- 19 . المبسوط: البیوع، ما یصحّ بیعه وما لا یصحّ 2/112.
2- 20 . جواهر الفقه: /60، مسألة 222.
3- 1 . الخلاف: البیوع 3/190، مسألة 318.
4- 2 . الشرح الکبیر 4/41؛ العزیز (شرح الوجیز): 4/17؛ الوجیز 1/133؛ الوسیط 3/14.
5- 3 . المقنعة: التجارة، ابتیاع الحیوان /599.
6- 4 . النهایة: العتق، من یصحّ ملکه 3/5.
7- 5 . السرائر: المتاجر، ابتیاع الحیوان 2/343.
8- 6 . کالعلاّمة فی المختلف: المتاجر، عقد البیع وشرائطه 5/59؛ والشهید الأوّل فی المتعاقدین 4/62؛ والشهید الثانی فی المسالک: التجارة، شروط المتعاقدین 3/167.
9- 7 . سورة النساء /141.
10- 8 . سورة النساء /141.
11- 9 . جواهر الکلام 23/545 و 546 (22/340).

المقنعة(1) والنهایة(2) والسرائر - مدّعیا علیه الإجماع(3) - والمتأخّرین کافّة(4)؛ فإنّ مجرّد الملکیّة الغیر المستقرّة لا یعدّ سبیلاً، بل لم یعتبر الملکیّة إلاّ مقدّمة للانعتاق.

خلافا للمحکی عن المبسوط(5) والقاضی(6)، فمنعاه؛ لأنّ الکافر لا یملک حتّی ینعتق؛ لأنّ التملّک بمجرّده سبیل، والسیادة علوّ.

إلاّ أنّ الإنصاف: أنّ السلطنة غیر متحقّقة فی الخارج، ومجرّد الإقدام علی شرائه لینعتق، منّةٌ من الکافر علی المسلم، لکنّها غیر منفیّة»(7).

أقول: لم تتحقّق السلطنة للکافر علی المسلم فی شرائه من ینعتق علیه کالآباءِ والأُولاد؛ لأنّ انعتاقهم علیه قهریٌّ واقعیٌّ لیس باختیار الذی اشتراهم فلا یصدق العلو أیضا لأنّ «المراد بالسبیل المنفی ما یترتّب علی الملک المستقرّ للسلطنة إمّا للرقّیة أو المنفعة واستحقاق الانتفاع ونحو ذلک، لا مطلق ما یترتّب علی الملک فی الجملة، وإلاّ لامتنع إرث الکافر للعبد المسلم من کافرٍ آخر، والثانی باطل اتفاقا، فیتعیّن المعنی الأوّل»(8).

وأمّا المنّة فَهِیَ أیضا غیر متحقّقة، لأنّ انعتاقهم حکمٌ شرعیٌّ ولیس باختیار المشتری لهم مضافا إلی أنّها غیر منفیّة فی الأدلة الشرعیة کما اعترف بالأخیر الشیخ الأعظم فی آخر کلامه المنقول.

ص:444


1- 10 . فی المصدر: الفقیه ولکن الصحیح ما ضبطناه. وانظر: المقنعة /599.
2- 11 . النهایة /408 و 540.
3- 12 . السرائر 2/343 و 3/7.
4- 13 . کما مرّ.
5- 14 . المبسوط 2/168، وحکاه عنه وعن القاضی، العلاّمة فی المختلف 5/59.
6- 15 . جواهر الفقه /60، مسألة 222.
7- 1 . المکاسب 3/593.
8- 2 . مفتاح الکرامة 12/570.
ب: شراء الکافر من ینعتق علیه ظاهرا

کما إذا أقرّ الکافر بحریّةِ عبدٍ مسلمٍ ثمّ اشتراه یملکه وینعتق علیه ظاهرا أخذا بإقراره حریته.

قال السیّد العاملی: «وقال جماعة منهم المصنّف(1) [العلاّمة] فی جملة من کتبه: إنّ فی حکمه کلّ شراء یستعقب العتق، ومثّله فی التذکرة(2) بما إذا اعترف الکافر بحرّیة عبدٍ مسلم ثمّ اشتراه، وفی جامع المقاصد(3) بما إذا اعترف الکافر بأنّ عبد زید حرّ ثمّ اشتراه. وأطلق فی المسالک(4) فمثّله بما إذا أقرّ بحرّیة عبد غیره ثمّ اشتراه فإنّه یعتق علیه بمجرّد الشراء، ومثّله فی نهایة الإحکام(5) بما لو قال الکافر لمسلم: أعتق عبدک المسلم عنّی بعوض أو بغیر عوض فأجابه إلیه، وبما لو أقرّ بحرّیة عبد مسلم ثمّ اشتراه، قال:

فالاُولی من هاتین أولی بالصحّة من الاُخری، لأنّ الملک فیها ضمنی والعتق فی الثانیة وإن حکم به فهو ظاهر غیر محقّق. ولم یفرّق فی التذکرة(6) والمسالک(7) بین الصورتین علی تقدیر جواز الضمنی»(8).

وقال فی الجواهر: «بل فی التذکرة(9) وغیرها(10): تسریة الحکم إلی کلّ شراء

ص:445


1- 3 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/21؛ نهایة الإحکام: فی البیع فی شروط العاقد 2/457.
2- 4 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/21.
3- 5 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/63.
4- 6 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
5- 7 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/457.
6- 1 . تذکرة الفقهاء فی البیع 10/21.
7- 2 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
8- 3 . مفتاح الکرامة 12/568 و 569.
9- 4 . تذکرة الفقهاء: البیع فی المتعاقدین 10/21.
10- 5 . کنهایة الإحکام: البیع فی العاقد 2/457؛ ومعالم الدین (لابن القطّان): البیع فی العاقد 1/341؛ والشهید الثانی فی المسالک: التجارة، شروط المتعاقدین 3/167.

یستعقب العتق، کما لو قال لمسلم: «أعتق عبدک المسلم عنّی» أو «اشتر من أقرّ بحرّیّته».

وهو کذلک بناءً علی أنّ المدرک للحکم المزبور ما عرفت»(1).

لکن خالفهم الشیخ الأعظم واستشکل فی صحة هذا الشراء وقال: «وأمّا الثانی [هذا الفرع] فیشکل بالعلم بفساد البیع علی تقدیری الصدق والکذب؛ لثبوت الخلل: إمّا فی المبیع لکونه حرّا، أو فی المشتری لکونه کافرا، فلا یُتصوّر صورة صحیحة لشراء من أقرّ بانعتاقه»(2).

أقول: مراده قدس سره : العلم الإجمالی بفساد هذا الشراء موجود، لاِءنَّهُ علی تقدیر صدق المشتری یکونُ الخلل موجودا فی المبیع لکونه حرّا وبیع الحرّ فاسد، وعلی تقدیر کذب المشتری الخلل موجود فی المشتری لکونه کافرا والکافر لا یشتری العبد المسلم، فلا یمکن الحکم بصحة هذا الشراء بعد وجود هذا العلم الإجمالی.

ثمّ قال: «إلاّ أن نمنع اعتبار مثل هذا العلم الإجمالی فتأمل»(3).

أقول: یمکن المنع عن اعتبار هذا العلم الإجمالی بوجهین:

الأوّل: ما ذهب إلیه صاحب الحدائق(4) من عدم التنجیز فی العلم الإجمالی إذا کان الخطاب الوارد فیه مرددا «بین خطابین، کما إذا علم أنَّ هذا المائع إمّا خمر وإمّا خَلٌّ مملوک للغیر، فیعلم حینئذٍ بخطابٍ مردّدٍ بین «إجتنب عن الخمر، ولا تغصب» فهذا العلم

الإجمالی غیر منجِّز علی مذهبه، وإنّما المنجّز عنده هو العلم التفصیلی بخطاب ومتعلقه، وتردُّد مورده بین شیئین. کما إذا علم بنجاسة أحد الإنائین، فإنّ العلم بخطاب «وجوب الاجتناب عن النجس» تفصیلی، وموضوعه مردّد بین إنائین. فالإجمال یکون فی مورد الخطاب لا فی نفسه ولا فی متعلقه.

والمقام نظیر القسم الأوّل: إذ الخطاب فیه مردّد بین خطابین، وهما: «لایجوز شراءُ

ص:446


1- 6 . الجواهر 23/547 (22/341).
2- 7 . المکاسب 3/593.
3- 8 . المکاسب 3/594.
4- 9 . الحدائق 1/517.

الحُرّ، ولا یجوز تملک الکافر العبد المسلم» ومثل هذا العلم الإجمالی لا أثر له»(1).

الثانی: ما ذهب إلیه المحقّق الاصفهانی(2) بتوضیح: «لا علم بفساد البیع علی کل تقدیر، بل علی تقدیر خاصٍّ، وهو تقدیر الحریة واقعا، لأنّه علی هذا الفرض لا یصلح للملکیة.

وأمّا علی تقدیر کذب الإقرار ورقیّة المبیع، فهو صالح للملکیة بدون مانع، إذ المانع - وهو السبیل - مفقود، حیث إنّ الملکیة الواقعیة المحکومة ظاهرا بعدمها للمقرِّ لیست سبیلاً له علی المسلم، فلا مانع من بیعه، فیصحّ بیعُه من البائع، لحجیة یده علی الملکیة ظاهرا، وعدم قدح إقرار المقرِّ بالحرِّیة فی ذلک، لکونه إقرارا فی مال الغیر ظاهرا علی ما تقتضیه الید، ویصحّ الشراء أیضا من المشتری، لعدم مانع وهو السبیل، فیخرج الثمن من کیسه واقعا وظاهرا، ویدخل فی ملکه المبیع واقعا لا ظاهرا، لأنّه مقتضی إقراره الذی أثره عدم صیرورته مالکا للمقرِّ به ظاهرا»(3).

وأمر الشیخ الأعظم بالتأمل لعلّه ردّ علی الوجه الأوّل من عدم الفرق فی تنجیز العلم الاجمالی بین العلم التفصیلی بالخطاب وتردد موضوعه بین شیئین، وبین تردد الخطاب بین خطابین، کما تعرض له الشیخ الأعظم قدس سره فی الشبهة المحصورة فی فرائده(4).

أقول: إشکال الشیخ الأعظم غَیْرُ تامٍّ نأخذ بظاهر إقرار الکافر ونحکم بصحة بیعه وانعتاقه علیه، کما اعترف به جمع من الأصحاب نحو: العلاّمة والکرکی والشهید الثانی وصاحب الجواهر والمحقّقَیْن النائینی(5) والإصفهانی - قدس اللّه أسرارهم - .

بل قال النائینی رحمه الله : «بل ولو أقرّ العبد فی المقام بالعبودیة، فإنّ اقرار العبد لا یترتب علیه أثر بالنسبة إلی الکافر المقرّ له بالحریة، فالکافر المقرّ مأخوذ بإقراره سواء أقرّ العبد

ص:447


1- 1 . هدی الطالب 6/339.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/466.
3- 3 . هدی الطالب 6/339 و 340.
4- 4 . فرائد الاصول 2/209.
5- 5 . المکاسب والبیع 2/353، وقد مرّت المصادر فلا نعیدها.

بخلافه أم لا، فلا یترتب علی بیعه إلاّ استنقاذه»(1).

ج: إذا قال کافر لمسلم: اعتق عبدک عنی بکذا فاعتقه

ذهب الشیخ فی المبسوط(2) والخلاف(3) أنَّهُ: إذا قال کافرٌ لِمُسْلِمٍ: اعتق عبدک عن کفارتی فاعتقه صحّ إن کان العبد کافرا، وإن کان مسلما لم یصحّ لأنّه لا یملک مسلما.

ولکن العلاّمة ذهب إلی الصحة فی ما إذا کان العبد مسلما فی نهایته(4) واستوجه عدمها فی التحریر(5) وتعرّض لوجود الخلاف فی المسألة فی التذکرة(6).

والشهید الثانی ألحقها بالأقوی وعلّله بأنّه «شراءٌ ضمنیٌّ»(7).

واختار صاحب الجواهر(8) الصحة کما مرّ(9) وتبعه الشیخ الأعظم لأنّه استشکل فی قول الشیخ فی المبسوط فی الفرع الأوّل [ أ] ویراها الإنصاف(10).

وتبعهما المحقّق النائینی(11).

أقول: وأنا تابع لهم من الحکم بالصحة لما مرّ من أنّ دخول العبد المسلم آنا ما فی ملک الکافر وعتقه علیه لا یُعدّ سبیلاً ولا علوّا المنفیین فیحکم بصحته.

تنبیهٌ:

إذا عرفتَ ما تلوتُ علیک فی الفروع الثَّلاثَةِ ظهر لک أنّ الملکیة فی الفرع الأوّل

ص:448


1- 1 . المکاسب والبیع 2/353.
2- 2 . المبسوط 2/168.
3- 3 . الخلاف 3/190، مسألة 318.
4- 4 . نهایة الإحکام 2/457.
5- 5 . تحریر الأحکام الشرعیة 2/279.
6- 6 . تذکرة الفقهاء 10/21.
7- 7 . المسالک 3/167.
8- 8 . الجواهر 23/547 (22/341).
9- 9 . فی الفرع السابق «ب».
10- 10 . راجع المکاسب 3/593.
11- 11 . المکاسب والبیع 2/353.

والثالث استطراقیة - أی طریق إلی الحریة - وفی الفرع الثانی استنقاذیة - أی استنقاذ من العبودیة - ولا دلیل علی حرمتهما، والدلیل علی الحرمة - لو تمّ ولم یتم - إنّما علی 9

الملکیة الاستقراریة - أی استقرار ملک الکافر علی العبد المسلم - . کما علیه المحقّق النائینی(1) قدس سره .

ونُقل عن الحاشیة النجاریة للشهید «أنّ السبیل المنفی بالآیة الشریفة قد فسّر بثلاثة تفاسیر بمجرّد الملک وبالملک القارّ(2) وبقابلیّته، فعلی الأوّل یمتنع شراء مَن ینعتق علیه، وعلی الثانی والثالث یصحّ، ومشروط العتق یبطل علی الأوّل والثانی، ویصحّ علی الثالث، انتهی»(3).

وقال الشیخ الأعظم: «والحاصل: أنّ «السبیل» فیه ثلاثة احتمالات - کما عن حواشی الشهید - :

مجرّد الملک، ویترتّب علیه عدم استثناء ما عدا صورة الإقرار بالحریّة.

والملک المستقرّ ولو بالقابلیّة، کمشروط العتق، ویترتّب علیه استثناء ما عدا صورة اشتراط العتق.

والمستقرّ فعلاً، ویترتّب علیه استثناء الجمیع.

وخیر الاُمور أوسطها»(4).

أقول: قد ظهر ممّا ذکرنا لک أنّ المنفی بالسبیل والسلطنة والعلو هو الملکیة القارّة التی عبّر عنها الشیخ الأعظم بالمستقرّ فعلاً والنائینی بالملکیة الاستقراریة وعندی بالملکیة الاستقراریة التامة بحیث لیس لمالکها إجبار بالبیع ونحوه. فما ذکره الشیخ الأعظم فی المقام من حمله علی الملکیة القارة المستقرة ولو بقابلیتها لم یتم عندی.

ص:449


1- 1 . راجع المکاسب والبیع 2/352 وما بعده.
2- 2 . القار یعنی مجمع الأجزاء فی الوجود، والموجود القار غیر سیال نحو: المکان، فی مقابل الموجود غیر قار الوجود نحو الحرکة والزمان. [المؤلِّف]
3- 3 . الحاشیة النجاریة /220 ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/570.
4- 4 . المکاسب 3/594.

فحینئذ لا یتم استثناء الصورة الاُولی فی فروعه الثلاثة، نعم یصح استثناء الصورة الثانیة الآتیة آنفا.

2- لو اشترط البائع عتقه علی الکافر

لو اشترط البائع عتق العبد المسلم علی الکافر المشتری فهل یحکم بصحة هذا البیع المشروط أم لا؟

قال السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة: «وفی نهایة الإحکام(1) أنّه لو اشتری عبدا مسلما بشرط العتق فهو کما لو اشتراه مطلقا، لأنّ العتق لا یحصل عقیب الشراء، ثمّ احتمل مساواته لشراء القریب. وقد ألحق فی الدروس(2) والروضة(3) بالقریب ما إذا شرط علیه - یعنی علی الکافر - عتقه، فما فی المبسوط(4) - من أنّه إذا شرط علیه عتقه فإن أعتقه فقد وفی بالشرط، وإن لم یعتقه قیل فیه شیئان: أحدهما یجبر علیه لأنّ عتقه استحقّ بالشرط، والثانی أنّه لا یجبر علیه لکن یجعل البائع بالخیار - فلیس ممّا نحن فیه، إذ کلام الشیخ فیما إذا کان المشروط علیه مسلما، والکلام یأتی فیه فی محلّه بعون اللّه سبحانه ولطفه»(5).

وقال فی الجواهر بعد ما نقلت عنه فی الفرع [ب] ما نصه: «بل الظاهر کون الحکم کذلک فی مشروط العتق علی وجهٍ یحصل بمجرّد القبول، بناءً علی صحّة اشتراط نحو ذلک.

بل ربّما ظهر من الشهیدین: إلحاق مشروطه(6)؛ علی معنی: أن یعتقه بعد العقد، فإن

ص:450


1- 1 . نهایة الإحکام 2/457.
2- 2 . الدروس الشرعیة 3/199.
3- 3 . الروضة البهیة 3/244.
4- 4 . المبسوط 2/151.
5- 5 . مفتاح الکرامة 12/569 و 570.
6- 6 . الدروس الشرعیّة: البیع/ درس 239، 3/199؛ الروضة البهیّة: المتاجر / الفصل الثانی 3/244.

وفی وإلاّ اُجبر علی قول، أو فسخ البائع العقد علی القول الآخر.

لکن فی محکیّ نهایة الإحکام أنّه «کما اشتراه مطلقا؛ لأنّ العتق لم یحصل عقیب الشراء»(1).

وفیه: أنّ ذلک لا ینافی نفی السبیل الظاهر فی السلطنة علیه کغیره من الأملاک، کما لا ینافی استدامة الملک بل والملک بالإرث، بعد أن کان الحکم فیه الجبر علی بیعه أو عتقه والتفریق بینه وبینه»(2).

وقال الشیخ الأعظم: «ومنها [أی من موارد استثناء عدم جواز تملک الکافر للعبد المسلم]: ما لو اشترط البائع عتقه، فإنّ الجواز هنا محکیّ عن الدروس والروضة، وفیه

نظر؛ فإنّ ملکیّته قبل الإعتاق سبیل وعلوّ، بل التحقیق: أنّه لا فرق بین هذا، وبین إجباره علی بیعه، فی عدم انتفاء السبیل بمجرّد ذلک»(3).

وتابع المحقّق النائینی الشیخ الأعظم وقال: «ما لو اشترط البائع علی المشتری عتقه، والحکم فیه هو المنع، وذلک لان الاشتراط علیه لا یفید أمرا أزید من إجباره علی البیع، والمفروض هو تحقق هذا الإجبار علیه من طرف الشارع، کما یستفاد من قوله علیه السلام : «لا تقروه عنده وبیعوه من المسلمین»(4).

وإذا لم یکن الإجبار الشرعی کافیا فی صحة تملکه فالإجبار الجائی من قبل الشرط أیضا کذلک مع أنّه ربّما لا یجبر باجبار فیلزم بقائه تحت سلطنته والحاصل أنّ المانع عن بیعه من الکافر فی هذه الصورة وهو سلطنته علیه موجود، بخلاف الصور المتقدمة فإنّه لا سلطنة من الکافر علیه فی شیء من تلک الصور الثلاث کما اوضحناه»(5).

وقال المحقّق الاصفهانی: «بیانه: أنّ المشروط تارة هو الانعتاق بنحو شرط

ص:451


1- 7 . نهایة الإحکام: البیع / فی العاقد 2/457.
2- 8 . الجواهر 23/547 (22/341).
3- 1 . المکاسب 3/594.
4- 2 . وسائل الشیعة 17/380، ح1، مرسلة حماد بن عیسی.
5- 3 . المکاسب والبیع 2/353 و 354.

النتیجة، واُخری هو الاعتاق بنحو شرط الفعل، فإنْ کان بنحو شرط النتیجة فحاله حال ما تقدم من تعقب الملکیة بالانعتاق قهرا؛ فلیست الملکیة سبیلاً ولو اقتضاءً، ولا مانع من مثل هذا الشرط بعد کون المشروط أمرا سائغا مشروعا، غایة الأمر أنّه یحصل بنفس الشرط؛ وهو سبب له شرعا، والمراد حصول الانعتاق بعد حصول الملکیة.

وهل یمکن الانعتاق بلا حصول الملک نظیر ما قدمناه فی شراء من ینعتق علی المشتری شرعا؟ لا یبعد ذلک، غایة الأمر أنّه فی ما تقدم بحکم الشارع؛ وهنا بتسبیب من الشارط، فإذا باع بشرط الانعتاق فقد قطع إضافة العبد عن نفسه بازاء الثمن وشرط عدم تعلق المبیع بالمشتری، فأوجد المقتضی للملکیة مع المانع عنها، نظیر البیع المقتضی لحق الخیار مقرونا بشرط عدمه، لا بشرط سقوطه فی ظرف ثبوته، ولیس ذلک شرطا منافیا لحقیقة العقد، إذ علی هذا المبنی لا یتقوم البیع بحصول الملک کی یکون شرط عدمه منافیا لحقیقته، بل مقتضٍ له فلا یکون مقتضاه فعلیّا إلاّ مع قبول المحل وعدم المانع شرعا أو تسبیبا، وحیث إنّ الملکیة إعتبار وضعی فهو قابل للتسبب إلیه نفیا وإثباتا کما فی سائرالموارد فتدبر جیدا.

وإنْ کان بنحو شرط الفعل فهو مشکل، إذ لا یقتضی الشرط إلاّ إلزام الکافر الشارط بالعتق، فلو کفی مجرد الإلزام بفک الملک فی صحة التملیک والتملک لکفی الاجبار علی البیع من المسلم فی صحة البیع من الکافر، غایة الأمر أنّه إلزام بإزالة ملک الکافر إبتداءً فی الثانی، وإمضاءً فی الأوّل، وعلی أیّ حال هو إزالة ملک مستقر لا أنّ أمد الملک آنی.

نعم بینهما فرق؛ وهو أنّ الملک - فی البیع المحکوم علیه شرعا بالازالة - ملک مقتضٍ للسلطنة علی التصرفات عرفا؛ فهو سبیل بالاقتضاء، ولا یجدی الالزام بإزالته فی عدم کونه سبیلاً، بخلاف البیع المشروط فیه بالعتق فإنّ الملک فیه عرفا غیر مقتضٍ للسلطنة علی التصرفات، بل مع قطع النظر عن الشرع أیضا لیس له السلطنة علی التصرفات، فمثله لیس سبیلاً عرفا دون الأوّل.

لکنه غیر فارق؛ لأنّ الشرط یوجب عدم فعلیة السلطنة التی هی من مقتضیات الملک، لا أنّه یوجب عدم اقتضائه مع بقائه إلی أنْ یتحقّق الوفاء بالشرط، فهو سبیل

ص:452

بالاقتضاء مقرون بالمانع عن فعلیة مقتضاه، لا عن أصل اقتضائه فتدبر»(1).

أقول: الحقّ مع الشهیدین وصاحب الجواهر رحمه الله فی صحه هذا البیع لأنّ المشروط إذا کان علی نحو شرط النتیجة فلا إشکال فی صحته وإذا کان علی نحو شرط الفعل أیضا یصح هذا البیع، لأنّ الوفاء بالشرط لازم علی الکافر فإن وفی واعتق العبد فقد وقع التفریق بینهما ولا سبیل، وإن لم یف فللبائع خیار الفسخ إن شاء فسخ البیع ووقع التفریق ولا سبیل، وإن شاء لم یفسح البیع والکافر اُجبر علی بیع العبد المسلم ووقع التفریق ولا سبیل حینئذ.

وعلی أیِّ حالٍ لم یستقر ملک الکافر علی العبد المسلم والدلیل علی الحرمة - لو تمَّ ولم یتم - إنّما یدلّ علی الملکیة الاستقراریة التامة.

فظهر ممّا ذکرنا صرف الوفاء بالشرط وهو العتق أو ردّ المبیع فی فرض الفسخ أو الإجبار علی البیع لم یصدق علیه السلطنة أو السبیل أو العلو خلافا للشیخ الأعظم والنائینی.

نعم، عدم تفریق الشیخ الأعظم(2) بین هذا الفرع وبین إجباره علی بیعه تام ولکن حکمه «فی عدم انتفاء السبیل بمجرد ذلک»(3) غیر تام، بل یحکم بانتفاء السبیل فیهما کما

مرّ واللّه الْعالِم.

حکم التملک القهری

اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ من تعریف الملکیة القهریة وهی التی لا یتعلّق سببها بالاختیار کالإرث وفی مقابلها الملکیة الاختیاریة وهی التی یتعلّق سببها بالاختیار کالبیع. وأمّا حصول الملک فی الثانیة بعد تمامیة السبب فهو قهریٌّ دائما.

ولکن قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ ما ذکرنا کلّه حکم ابتداء تملّک الکافر للمسلم اختیارا، أمّا التملّک القهری فیجوز ابتداءً، کما لو ورثه الکافر من کافر اُجبر علی البیع،

ص:453


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/467 و 468.
2- 2 . المکاسب 3/594.
3- 3 . .المکاسب 3/594.

فمات قبله، فإنّه لا ینعتق علیه ولا علی الکافر المیّت؛ لأصالة بقاء رقّیته، بعد تعارض دلیل نفی السبیل وعموم أدلّة الإرث.

لکن لا یثبت بهذا الأصل تملّک الکافر، فیحتمل أن ینتقل إلی الإمام علیه السلام ، بل هو مقتضی الجمع بین الأدلّة؛ ضرورة أنّه إذا نُفی إرث الکافر بآیة نفی السبیل، کان المیّت بالنسبة إلی هذا المال ممّن لا وارث له فیرثه الإمام علیه السلام .

وبهذا التقریر یندفع ما یقال: إنّ إرث الإمام علیه السلام منافٍ لعموم أدلّة ترتیب طبقات الإرث.

توضیح الاندفاع: أنّه إذا کان مقتضی نفی السبیل عدمَ إرث الکافر، یتحقّق نفی الوارث الذی هو مورد إرث الإمام علیه السلام ، فإنّ الممنوع من الإرث کغیر الوارث.

فالعمدة فی المسألة: ظهور الاتّفاق المدّعی صریحا فی جامع المقاصد(1)»(2).

واعترض علیه المحقّق النائینی وقال: «إنّ الإرث عبارة عن انتقال مال المُوَرِّث إلی وارثه بتبدل المالک بقیام الوارث مقام مورثه فی کونه طرفا للإضافة إلی المال بلا تبدیل فی المال ولا فی الإضافة التی بینه وبین المالک، کما أنّ البیع عبارة عن تبدیل المال بمال آخر بلا تبدیل فی طرف المالک ولا فی إضافته إلی المال، بل الاضافة والمالک باقیان علی حالهما، وإنّما التبدیل فی المال، فالإرث والبیع متعاکسان من هذه الجهة لکون المتبدل فی البیع هو المال، وفی الإرث هو المالک، وعلی هذا إذا کان الکافر مالکا لعبد کافر فأسلم العبد ثمّ مات مولاه یقوم وارثه مقامه فی کونه طرفا لإضافته إلی العبد بعد

إسلامه، فکما أنّ المُوَرِّثَ بعد إسلام العبد مالک له لکنّه یجبر علی بیعه فکذا وارثه یصیر قائما مقامه فی کونه مالکا له مجبورا علی بیعه ولیس حاله إلاّ کحال المورث، وهذا خارج عن مورد الخبر(3) إذ هو یدلّ علی المنع عن انتقال المال إلی الکافر، وفی الإرث لیس الانتقال فی المال وإنّما وقع التبدیل فی المالک فلا یمکن أنْ یتمسک فی المنع عنه

ص:454


1- 1 . جامع المقاصد 4/63.
2- 2 . المکاسب 3/595.
3- 1 . وسائل الشیعة 17/380، ح1، مرسلة حماد بن عیسی.

بالخبر المذکور، وعلی هذا فلا یبقی مجال للحکم بانعتاق العبد ولا بانتقاله إلی الإمام أصلاً، وما ذکرناه شیء موافق مع الاعتبار، ویمکن تطبیق الحکم علیه بعد أنْ لم یکن فی المسئلة دلیل بالخصوص کما هو الشأن فی أکثر أبواب المعاملات، هذا.

ولکن [الشیخ الأعظم] قدس سره لم یسلک هذا المسلک، بل سلک مسلکا آخر، حیث أنّه جعل الدلیل علی المنع عن البیع عبارة عن نفی السبیل ثمّ عارضه بعموم أدلة الإرث ثمّ رجع إلی الاستصحاب بعد تعارض الدلیلین، وحیث أنّ القدر المتیقن السابق هو رقیة العبد لا ملک الوارث فإنّه لا حالة سابقة له، أجری الأصل فی بقاء رقیة العبد، ولما کان الثابت به بقائه علی رقه وأنّه لا ینعتق بموت المُوَرِّثِ لا انتقاله إلی الوارث، قال بانتقاله إلی الإمام لکونه مقتضی الجمع بین الأدلة أعنی أدلة الإرث وأدلة منع تملک الکافر للمسلم، هذا محصل ما سلکه.

وفیه: ما لا یخفی أمّا أوّلاً: فلما فی جعله الدلیل علی المنع من البیع عبارة عن الآیة المبارکة مع أنّه لا دلالة فیها علی المنع، وهو قدس سره أیضا اعترف بعدم دلالتها کما تقدم.

وأمّا ثانیا: فلما فی جعله المعارضة بین دلیل المنع وبین أدلة الإرث فإنّه لو سلم دلالة أدلة المنع علی المنع من التوارث أیضا لکانت أدلة المنع حاکمة علی عمومات أدلة الإرث، وقد تقدم أنّ المناقشة والتشکیک فی حکومة الآیة الشریفة علی العمومات فی غیر محلِّه، وأنّ ضابط الحکومة منطبق علی المقام.

وأمّا ثالثا: فلما فی حکمه بالانتقال إلی الإمام نظرا إلی جریان أصالة بقاء رقیة العبد، وذلک لأنَّ بقاء رقیته الثابت بالأصل لا یثبت انتقاله إلی الإمام إلاّ بعد اثبات مقدمة، وهی أنّه یکفی فی الحکم بالانتقال إلی الطبقة اللاحقة مجرد عدم احراز وجود الطبقة السابقة ولا یحتاج إلی احراز عدمها أو ما بحکم عدمها من الممنوعیة عن الإرث، وإلاّ فمع الحاجة إلی احراز عدم الطبقة المتقدمة لا یمکن الحکم بالانتقال إلی الإمام بعد

تعارض الدلیلین فإنّه لم یحرز بعد تعارضهما ممنوعیة الکافر من الإرث، غایة الأمر یکون عدم إرثه من باب عدم احراز وارثیته لا من باب احراز العدم، فالمهم حینئذ تنقیح تلک المقدمة ولتنقیحها مقام آخر، وان کان الحق فیها هو الاکتفاء بعدم احراز الطبقة

ص:455

السابقة ولا یحتاج فیه إلی احراز عدمها»(1).

قال السیّد العاملی: «قد صرّح الشهیدان(2) بأنّه إنّما یمنع من دخول العبد المسلم فی ملک الکافر اختیارا أمّا غیره کالإرث وإسلام عبد الکافر فإنّه یجبر علی بیعه بثمن المثل علی الفور إن وجد راغب، وإلاّ حیل بینه وبینه إلی أن یوجد الراغب، ونفقته علیه وکسبه له، وهو قضیّة کلام جماعة(3) فی الأوّل بل فی جامع المقاصد(4) الإجماع علیه، وصریح کثیرین فی الثانی - أعنی إسلام عبد الکافر - »(5).

وقال فی الجواهر: «نعم، قد صرّح الشهیدان(6) وغیرهما(7): باختصاص ذلک فیه، أمّا دخوله بالإرث من کافر، أو بقاؤه علی الملک - کما لو أسلم وهو فی یده - فلا:

للأصل فی الثانی، وقوّة دلیل الإرث فی الأوّل، مضافا إلی ما عن جامع المقاصد: من الإجماع علیه فی الأوّل(8)، وظاهر نفی الخلاف فیه فی الثانی عن التذکرة(9).

ولکن یجبر علی بیعه من الراغب، ومع عدمه یحال بینه وبینه إلی أن یوجد؛ لعموم نفی السبیل - الذی لا منافاة بین تخصیصه بالابتداء، ووجوب إزالته عنه لعدم التملیک بسبب من الأسباب الاختیاریّة - ولفحوی خبر حمّاد المزبور... ولغیر ذلک ممّا یقتضی الحکم المذکور.

ص:456


1- 1 . المکاسب والبیع 2/(356-354).
2- 2 . الدروس 3/199؛ ومسالک الأفهام 3/167.
3- 3 . منهم المحقّق الکرکی فی جامع المقاصد 4/(62-63)؛ والبحرانی فی الحدائق الناضرة 18/426؛ والعلاّمة فی تذکرة الفقهاء 10/22.
4- 4 . جامع المقاصد 4/63.
5- 5 . مفتاح الکرامة 12/566.
6- 6 . الدروس 3/119، درس 239؛ الروضة البهیّة 3/245؛ مسالک الأفهام 3/167.
7- 7 . کابن القطّان فی معالم الدین 1/341.
8- 8 . جامع المقاصد 4/63.
9- 9 . عبارة التذکرة: «ولأنّه یمنع من استدامة ملکه فیمنع من ابتدائه» قال العاملی: «فکأنّه لا خلاف فی الاستدامة». انظر تذکرة الفقهاء 10/19؛ ومفتاح الکرامة 12/562.

وإن کان کسبه له فی هذه المدّة - أی إلی أن یباع - لکونه مملوکا له فیها ونفقته

علیه.

وربّما احتمل: عدم الملک له أیضا فیها، وإنّما له تعلّق بأخذ ثمنه خاصّة. لکنّه کما تری، هذا»(1).

فرع: هل یلحق بالإرث کلّ ملک قهریٍّ؟

أو لا یلحق أو یفرِّق بین ما کان سببه اختیاریا وغیره؟

قال الشیخ الأعظم: «وجوه خیرها: أوسطها ثمّ أخیرها»(2).

وجه الخیریة ومثال السببین والمختار فی عدم الإلحاق یظهر من کلام المحقّق النائینی حیث یقول: «مثال ما کان الملک القهری بسبب غیر اختیاری هو الوقف بناءً علی أن یکون الوقف الخاص کالملک، فإنّه ینتقل إلی الطبقة المتأخرة بلا اختیار منهم ومثال ما کان بسبب اختیاری کالخیار، والحکم فیهما هو عدم الالحاق بالإرث مطلقا سواء کان بالسبب الاختیاری أو بالسبب الغیر الاختیاری.

أمّا الأوّل فلما سیأتی عند عنوان المصنف [الشیخ الأعظم] قدس سره لحکم الخیار.

وأما الثانی فلعدم مجیئ ما قلنا فی الإرث فی الوقف وتوضیح ذلک: أنّ الوجه فی الحکم بالتوارث علی ما عرفت هو عدم التفاوت بین ملک الوارث وملک مورثه، بل ملکه هو بعینه ملک مورثه، وإنّما یقوم الوارث مقام مورثه فی کونه طرفا لتلک الملکیة، فالوارث یصیر طرفا لتلک الملکیة علی ما هی علیه من الوصف أعنی لزوم الجبر علی المالک بالبیع واخراج الملک عن تحت سلطنته، وهذا الملاک یجری فی الوقف، فإنّه إذا وقف العبد الکافر علی طبقات الکفار بطنا بعد بطن فأسلم العبد الموقوف فلا یخلو إمّا أن یسلم عند وجود الطبقة التی کانت موقوفا علیها فی حال کفر العبد وإمّا أن یسلم مقارنا مع زوال تلک الطبقة وانتقال العبد إلی الطبقة اللاحقة بحیث یقع اسلام العبد وانتقاله إلی الطبقة اللاحقة

ص:457


1- 1 . الجواهر 23/540 و 541 (22/337).
2- 2 . المکاسب 3/596.

فی ظرف واحد وعلی کلا التقدیرین فلا ینتقل إلی الطبقة اللاحقة أمّا علی الأوّل فلأنّ إسلامه یوجب فساد وقفه لأنّ بقاء وقفه موجب لسلطنة الکافر الموقوف علیه، وإذا بطل وقفه یباع بثمن یصح تسلط الکافر علیه فیجعل وقفا علی هذه الطبقة وعلی من بعدها من الطبقات فلا یبقی العبد بعد اسلامه وقفا علی الطبقة الموجودة حال اسلامه حتّی ینتقل عند زوالهم إلی الطبقة اللاحقة، واما علی الثانی فالأمر أُوضح، لأنّه إذا حکم ببطلان الوقف

علی الأوّل وإخراج عین العبد عن ملک الطبقة الموجودة مع أنّه کان علی ملکهم قبل إسلامه فعدم دخوله إلی ملک الطبقة اللاحقة إذا کان إسلامه مقارنا لاضمحلال الطبقة السابقة یکون بطریق أُولی»(1).

لا یقرّ العبد المسلم علی ملک الکافر

قال الشیخ الأعظم: «لا إشکال ولا خلاف فی أنّه لا یقرّ المسلم علی ملک الکافر، بل یجب بیعه علیه؛ لقوله علیه السلام فی عبدٍ کافرٍ أسلم: «اذهبوا فبیعوه من المسلمین وادفعوا إلیه ثمنه ولا تقرّوه عنده»(2).

ومنه یعلم: أنّه لو لم یبعه باعه الحاکم، ویحتمل أن یکون ولایة البیع للحاکم مطلقا؛ لکون المالک غیر قابل للسلطنة علی هذا المال - غایة الأمر أنّه دلّ النصّ والفتوی علی تملّکه له - ولذا ذکر فیهما: أنّه یباع علیه(3)، بل صرّح فخرالدین قدس سره فی الإیضاح بزوال ملک السیّد عنه، ویبقی له حقّ استیفاء الثمن منه(4). وهو مخالف لظاهر النصّ والفتوی، کما عرفت»(5).

أقول: وأمّا الاحتمال المذکور فی کلامه قدس سره بالنسبة إلی و لایة الحاکم للبیع مطلقا

ص:458


1- 1 . المکاسب والبیع 2/356 و 357.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/380، ح1، الباب 28 من أبواب عقد البیع.
3- 3 . اُنظر: الشرائع 2/10؛ والقواعد 2/17؛ والمختلف 5/59؛ والدروس 3/199؛ والروضة البهیّة 3/245 وغیرها.
4- 4 . إیضاح الفوائد 1/414.
5- 5 . المکاسب 3/596.

فمراده فی مقابل عدم امتناع الکافر من بیع العبد المسلم، حیث ذهب العلاّمة إلی تصدی الحاکم للبیع فی فرض الامتناع وقال: «ولو امتنع الکافر من البیع حیث یُؤمر باع الحاکم بثمن المثل...»(1).

ویقول فی التذکرة: «لو امتنع الکافر من إزالة الملک حیث یُؤمر، باعَهُ الحاکم بثمن المثل، ویکون الثمن للکافر، فإن لم یجد راغبا، صبر مع الحیلولة. ولو مات الکافر، أمر وارثه بما یؤمر مُورّثة»(2).

ولذا قال السیّد العاملی: «إذا عرف هذا فلو امتنع من بیعه باعه علیه الحاکم قهرا،

فلو لم یوجد راغب حیل بینهما بمسلم حتّی یوجد الراغب ونفقته علیه وکسبه له إلی حین خروجه عن ملکه کما فی نهایة الإحکام(3) والدروس(4) ونحوه ما فی التذکرة(5) وجامع المقاصد(6)»(7).

ولکن المحقّق النائینی قوّی هذا الاحتمال وقال ما نصه: «وهذا الاحتمال قَوِیٌّ جدا وذلک لأن بیعه نحو استیلاء علیه وهو منفی بعموم الآیة المبارکة، ومع الغض عنه یکون مقتضی الخبر المتقدم عدم ولایة الکافر علی بیعه، حیث قال علیه السلام : اذهبوا فبیعوه من المسلمین، ولم یقل الزموه بالبیع»(8).

وقد ناقشه المحقّق الاصفهانی رحمه الله بقوله: «ینبغی التکلم فی أنّه للمالک أنْ یباشر بیع عبده من المسلم أو لا؟ ولا مانع منه إلاّ کون سلطنته علی بیعه من مسلم سبیلاً علی

ص:459


1- 6 . القواعد 2/18.
2- 7 . التذکرة الفقهاء 10/23.
3- 1 . نهایة الإحکام 2/459.
4- 2 . الدروس 3/199.
5- 3 . تذکرة الفقهاء 10/23.
6- 4 . جامع المقاصد 4/66.
7- 5 . مفتاح الکرامة 12/579.
8- 6 . المکاسب والبیع 2/357.

المسلم فیکون منفیا، وأنّ الروایة تکفّلت لأمر المسلمین بالبیع علیه، فیعلم منها أنّه لا سلطنة له علی البیع.

ویندفع الأوّل: بأنّ السلطنة علی بیعه من مسلم سلطنة علی إزالة سبیل الکافر علی المسلم، فکیف یکون هو بنفسه سبیلاً؟! مع أنّ السبیل المنفی هو ما یکون علی المسلم ویدخل به الضرر علیه ویکون به الظفر للکافر علی المسلم، وهذا کله منتفٍ فی السلطنة علی بیعه من مسلم، فلا معارض لدلیل السلطنة فی هذا المقدار من السلطنة الثابتة للمالک بالدلیل، مع أنّ السلطنة المنفیة هو کون أمر التصرف فی العبد بیده؛ بحیث له أنْ یفعل وله أنْ لا یفعل، وهنا لیس کذلک؛ بل هو کسائر المکلفین مأمور بازالة ملکه عنه، فهو مقهور فی هذا التصرف لا مختار فتدبر.

ویندفع الثانی: بأنّ أمر المسلمین بالبیع علی الکافر محمول علی العادة؛ من عدم اقدامه علی بیع عبده وعدم اعتنائه من حیث إنّه کافر بهذا الحکم الثابت فی شریعة الإسلام، وحیث یصح منه البیع فإذا لم یقدم علی أداء هذا الواجب یجبره الحاکم من باب الأمر بالمعروف، فإذا لم یبع أو لم یمکن اجباره فهل یتعین للحاکم ثمّ لعدول المؤمنین أو

محض تکلیف لا یُشْتَرَطُ بشیء؟

ظاهر النص حیث إنّه علیه السلام أمر المسلمین بقوله علیه السلام : إذهبوا فبیعوه من المسلمین؛ وادفعوا ثمنه إلی صاحبه؛ ولا تقروه عنده، أنّه مجرد تکلیف بالبیع کالتکلیف بأداء ثمنه وکالتکلیف بعدم اقراره عنده، لا أنّه إذن منه علیه السلام بما هو ولی الأمر، وأنّه تصرف من باب الولایة لا أنّه بیان للحکم [الولائی(1)]، فإنّه خلاف الظاهر، نعم مقتضی الأصل تعین الحاکم ثمّ العدول»(2).

ثبوت الخیار للمالک الکافر وعدمه

قال العلاّمة فی القواعد: «ولو أسلم عبد الذمِّیّ طولب ببیعه أو عتقه، ویملک الثمن

ص:460


1- 1 . الزیادة منّا.
2- 2 . الحاشیة المکاسب 2/471 و 472.

والکسب المتجدّد قبل بیعه أو عتقه، فلو باعه من مسلمٍ بثوبٍ ووجد فی الثمن عیبا جاز له ردّ الثمن. وهل یستردّ العبد أو القیمة؟ فیه نظر؛ ینشأ من کون الاسترداد تملّکا للمسلم اختیارا، ومن کون الردّ بالعیب موضوعا علی القهر کالإرث، فعلی الأوّل یستردّ القیمة کالهالک، وعلی الثانی یجبره الحاکم علی بیعه ثانیا. وکذا البحث لو وجد المشتری به عیبا، وبأیّ وجهٍ أزال الملک: من البیع والعتق والهبة حصل الغرض»(1).

ولکن ذهب الشهید إلی عدم ثبوت الخیار للمالک الکافر ولا المشتری إذا یوجب رجوع العبد المسلم إلی الکافر وقال فی الحاشیة النجاریة: «ولا یثبت له خیار المجلس ولا الشرط، بل للمشتری»(2).

ولکن خالف نفسه فی الدروس وقال: «ویجری فیه أحکام العقد من الخیار والردّ بالعیب فیه أو فی ثمنه المعیّن فیُقْهر علی بیعه ثانیا»(3).

واختار المحقّق الثانی ثبوت الخیار للمالک الکافر وقال فی شرح قول العلاّمة فی القواعد: «فلو باعه من مسلم بثوب ووجد فی الثوب عیبا، جاز له رد الثمن»، «أی: للکافر، لأن إلزامه بِالرِّضا بالعیب تخسیر، وقد یعلم من هذا ثبوت أحکام الخیار اللاحق للعقد بأنواعه، کما نبّه علیه فی الدروس(4)، وهو الوجه، لأن العقد لا یخرج عن مقتضاه بکون

المبیع عبدا مسلما لکافر، لانتفاء المتقضی، لأن نفی السبیل لو اقتضی ذلک بمجرده لاقتضی خروجه عن الملک بالإسلام.

فعلی هذا لو کان البیع معاطاة فهی علی حکمها، ولو أخرجه عن ملکه بالهبة جرت فیه أحکامها، نعم لا یبعد أن یقال: للحاکم إلزامه باسقاط نحو خیار المجلس، أو مطالبته بسبب ناقل یمنع الرجوع، إذا لم یلزم منه تخسیر المال.

قوله: «وهل یسترد العبد أو القیمة؟ فیه نظر، ینشأ من کون الاسترداد تملکا

ص:461


1- 3 . القواعد 2/17 و 18.
2- 4 . الحاشیة النجاریة /220.
3- 5 . الدروس 3/199.
4- 6 . الدروس 3/199.

للمسلم اختیارا».

لیس هذا الوجه بشیء، لأن الثمن المعین إذا ردّه انفسخ العقد، فیعود العبد إلی الکافر، لامتناع بقاأ ملک بغیر مالک، وامتناع کون الثمن والمبیع معا ملکا للمشتری، وهذا قهری، فأین التملک الاختیاری الذی ادّعی؟ والثانی أصح، فیجبره الحاکم علی بیعه ثانیا.

قوله: «وبأیّ وجه أزال الملک، من البیع والعتق والهبة حصل الغرض».

ومثله الصلح، لکن ینبغی تقیید الهبة باللازمة»(1).

ویظهر من الشیخ الأعظم عدم ثبوت الخیار للکافر ولا علیه قال: «وکیف کان، فإذا تولاّه المالک بنفسه، فالظاهر أنّه لا خیار له ولا علیه، وفاقا للمحکیّ عن الحواشی فی خیار المجلس والشرط؛ لأنّه إحداث ملک فینتفی؛ لعموم نفی السبیل؛ لتقدیمه علی أدلّة الخیار کما یقدّم علی أدلّة البیع.

ویمکن أن یبتنی علی أنّ الزائل العائد کالذی لم یزل، أو کالذی لم یعد(2)؟ فإن قلنا بالأوّل، ثبت الخیار؛ لأنّ فسخ العقد یجعل الملکیّة السابقة کأن لم تزل، وقد أمضاها الشارع وأمر بإزالتها، بخلاف ما لو کان الملکیّة الحاصلة غیر السابقة، فإنّ الشارع لم یمضها. لکن هذا المبنی لیس بشیء؛ لوجوب الاقتصار فی تخصیص نفی السبیل علی

المتیقّن.

نعم، یحکم بالأرش لو کان العبد أو ثمنه معیبا.

ویشکل فی الخیارات الناشئة عن الضرر؛ من جهة قوّة أدلّة نفی الضرر، فلا یبعد

ص:462


1- 1 . جامع المقاصد 4/65 و 66.
2- 2 . ثمّ إنّ هذه القاعدة وما یتفرع علیها من فروع - کالفسخ بالخیار - نقلها الشهید قدس سره فی القواعد، ولم یظهر منه ترجیح أحد الاحتمالین، فقال: «طریان الرافع للشیء هل هو مبطل له، أو بیان لنهایته؟ ... وقد یعبّرُ عنها بأنّ الزائل العائد هل هو کالذی لم یزل؟ أو کالّذی لم یعد، فإنّ القائل بأنها کالذی لم یزل یجعل العود بیانا لاستمرار الحکم الأوّل، والقائل بأنّها کالذی لم یعد یقول برفع الحکم الأوّل بالزوال، فلا یرجع حکمه بالعود». [القواعد والفوائد 1/268، القاعدة 85].

الحکم بثبوت الخیار للمسلم المتضرّر من لزوم البیع، بخلاف ما لو تضرّر الکافر، فإنّ هذا الضرر إنّما حصل من کفره الموجب لعدم قابلیّته تملّک المسلم إلاّ فیما خرج بالنصّ.

ویظهر ممّا ذکرنا، حکم الرجوع فی العقد الجائز، کالهبة»(1).

ثمّ تنظّر فی ما ذکره المحقّق الثانی بقوله: «لأنّ نفی السبیل لا یخرج منه إلاّ الملک الابتدائی [القهری کالإرث] وخروجه لا یستلزم خروج عود الملک إلیه بالفسخ، واستلزام البیع للخیارات لیس عقلیا، بل تابع لدلیله الذی هو أضعف من دلیل صحّة العقد الذی خصّ بنفی السبیل، فهذا أولی بالتخصیص به، مع أنّه علی تقدیر المقاومة یرجع إلی أصالة الملک وعدم زواله بالفسخ والرجوع، فتأمّل.

وأمّا ما ذکره أخیرا بقوله: «لا یبعد» ففیه: أنّ إلزامه بما ذکر لیس بأولی من الحکم بعدم جواز الرجوع، فیکون خروج المسلم من ملک الکافر إلی ملک المسلم بمنزلة التصرّف المانع من الفسخ والرجوع»(2).

ثمّ تأمّل فی ما ذکره العلاّمة فی القواعد وأحال وجه تأمله بما ذکره فی نقد المحقّق الثانی واستثنی: «إلاّ أن یقال: إنّ مقتضی الجمع بین أدلّة الخیار، ونفی السبیل: ثبوت الخیار والحکم بالقیمة، فیکون نفی السبیل مانعا شرعیّا من استرداد المثمن [وهو العبد المسلم هنا]، کنقل المبیع فی زمن الخیار، وکالتلف الذی هو مانع عقلیّ.

وهو [أی الجمع بین أدلة الخیار ونفی السبیل] حسنٌ إن لم یحصل السبیل بمجرّد استحقاق الکافر للمسلم المنکشف باستحقاق بدله؛ ولذا حکموا بسقوط الخیار [أی خیار المجلس مطلقا] فی من ینعتق علی المشتری(3)، فتأمّل(4)»(5).

ص:463


1- 1 . المکاسب 3/597.
2- 2 . المکاسب 3/598.
3- 3 . راجع: تذکرة الفقهاء 11/10؛ جامع المقاصد 4/287؛ حاشیة الارشاد /388، المطبوعة فی ضمن المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی وآثاره؛ غایة المرام 2/43؛ المسالک 3/212؛ مجمع الفائدة والبرهان 8/389 و 390؛ مفتاح الکرامة 14/157؛ والجواهر 24/31 (23/18)؛ ونسب فی الحدائق 19/16 سقوط خیار المشتری إلی المشهور.
4- 4 . لعلّه إشارة إلی أنّ دلیل خیار المجلس قاصر عن شموله لهذا المورد لأنّ بمجرد حصول الملکیة بالبیع ینعتق العبد علی المشتری فلا تبقی الملکیة إلی زمن الافتراق حتّی یجری الخیار. [المؤلِّف].
5- 5 . المکاسب 3/599.

وقال المحقّق النائینی: «وکیف کان فالکلام یقع تارة فیما إذا تولاه المالک بنفسه، وأُخری فیما یتولاه الحاکم.

أمّا الأوّل: فقد اختلف فی ثبوت الخیار مطلقا فی بیع المالک إیّاه أو عدم ثبوته مطلقا، أو التفصیل بین الخیارات الثابتة بجعل الشارع کخیار المجلس أو بجعل المتعاملین کخیار الشرط وبین الخیارات الثابتة بدلیل نفی الضرر کخیار الغبن، بالقول بانتفاء الأوّل وثبوت الثانی لو کان الضرر علی المسلم دون الکافر، والقول بالتفصیل بین البناء علی أنّ الزائل العائد کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد، فیقال بثبوت الخیار علی الأوّل وعدم ثبوته علی الثانی، علی أقوال واحتمالات اردئها الأخیر، وذلک لأنّ مسئلة أنّ الزائل العائد کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد مع أنّها لا أساس لها فی موردها غیر منطبقة علی المقام.

وتوضیح ذلک أنّ مورد هذا الکلام إنّما هو فیما إذا باع البائع مثلاً شیئا ببیع خیاری ثمّ قبل أنْ یقع منه الفسخ باع المشتری الذی اشتراه منه بالبیع الخیاری من ثالث فزال عن ملک المشتری فما دام أنّها لم یعد إلی ملک المشتری لیس للبائع الرجوع إلی العین، بل لو اختار الفسخ فلابدّ أن یرجع إلی المشتری ببدله من المثل أو القیمة، وإذا عاد عن ملک الثالث إلی ملک المشتری فیقال بابتناء رجوع البائع إلی العین بعد العود إلی المشتری علی أنّ الزائل العائد کأنّه لم یزل فیصح رجوعه إلیه، أو کأنّه لم یعد فلا یصح، فقیل بالأوّل وقیل بالثانی وفصل ثالث بین ما إذا کان عوده بفسخ العقد الواقع بینهما فیکون کأنّه یزل فإنّ المشتری حینئذٍ یتملکه بالملک السابق وبین ما إذا کان بعقد جدید فیکون کأنّه لم یعد لأنّ تلک الملکیة جدیدة حدثت بالعقد الجدید وکیف کان فمورد هذا الکلام لابدّ أن یکون نظیر هذا المثال وما نحن فیه أجنبی عنه، إذ لیس فی المقام عود حتّی نقول أنّه کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد، بل الکلام فی أصل صحة العود وأنَّ الزائل عن ملک الکافر بالبیع هل یصح أن یعود إلیه أو لا، ولیس عود حتّی نقول أنّه

ص:464

کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد.

وأمّا الخیارات الناشئة عن الضرر فاعلم أنّ فیها مسلکین:

أحدهما: أنّ دلیل نفی الضرر بنفسه موجب لثبوت الخیار.

وثانیهما: أنّ المنشأ للخیار هو تخلف الشرط الضمنی وأنّ دلیل نفی الضرر یقتضی ثبوت الخیار بواسطة تخلفه.

وحیث أنّ المسلکین متفاوتان فی الحکم فینبغی أنْ نتکلم علی کلِّ مسلکٍ علی حدة فنقول:

أمّا علی المسلک الأوّل: فإمّا أن یکون الضرر علی الکافر البائع أو علی المشتری المسلم، فقد یقال بالتفصیل بینهما بالخیار للثانی دون الأوّل، أمّا عدم الخیار للأوّل فلأنَّ الضرر ینشأ من سوء اختیار الکافر للکفر، ودلیل نفی الضرر لا ینفی ما کان من الضرر بالاختیار، وأمّا ثبوت الخیار إذا کان الضرر علی المشتری المسلم فلأن دلیل نفی السبیل وإن کان حاکما علی أدلة الأحکام، لکن لا حکومة له علی دلیل نفی الضرر لکونه أیضا مثل دلیل نفی السبیل فی حکومته علی أدلة الأحکام، فیکونان فی درجة واحدة، نظیر أدلة نفی الحرج مع دلیل نفی الضرر حیث لا حکومة لأحدهما علی الآخر فلا یقدم دلیل نفی السبیل علی دلیل نفی الضرر وإن کان یقدم علی الدلیل المثبت لخیار المجلس ونحوه ممّا کان ثابتا بأصل الشرع أو بجعل المتعاملین بل یقدم دلیل نفی الضرر علیه لقوته، هذا محصل هذا التفصیل.

ولا یخفی ما فیه أیضا: لأنّ قوة دلیل نفی الضرر توجب تقدیمه علی دلیل نفی السبیل لو کان دلیل نفیه قابلاً للتخصیص، وأمّا مع عدم قبوله له کما تقدم فیجب تخصیص دلیل نفی الضرر به لقابلیته للتخصیص، بل وقوع التخصیص علیه بدرجة قیل باحتیاجه إلی الجابر لو اُرید العمل به، وهذا القول وإن کان فاسدا لما حققناه فی محلِّه مِنْ أنَّ ما توهم خروجه عن عمومه لیس بالتخصیص بل إنّما هو بالتخصص، لکن أصل إمکان إیراد

ص:465

التخصیص علیه ووروده فی الجملة ممّا لا یقبل المنع، وعلیه فیجب تخصیص دلیل نفی الضرر بدلیل نفی السبیل فتحصّل ممّا ذکرناه سقوط التفصیل بین الخیارات الأصلیة وبین الخیارات الناشئة عن عموم نفی الضرر بتوهم سقوط الأوّل لأجل حکومة دلیل نفی السبیل علی الأدلة المثبتة للخیارات الأصلیة وثبوت الثانی لعدم حکومة دلیل نفی السبیل علی عموم دلیل نفی الضرر وتقدم دلیل نفی الضرر علی دلیل نفی السبیل لقوة دلیله.

ومنه یظهر سقوط التفصیل بین الخیار الناشی من ضرر المشتری المسلم وبین

الخیار الناشیء من ضرر البائع الکافر بثبوت الخیار فی الأوّل لأجل قاعدة نفی الضرر وعدم ثبوته فی الثانی بالمنع عن شمول القاعدة له لکون الکافر باختیاره الکفر مقدما علی الضرر.

ووجه سقوطه: هو عدم عموم القاعدة للضرر المترتب علی المشتری المسلم بعد تخصیصها بدلیل نفی السبیل فیکون الضرران أعنی ما یترتب علی المشتری وما یترتب علی البائع سواء فی خروجهما عن عموم قاعدة الضرر، ومع الغض عن ذلک فلا وجه لهذا التفصیل إذ الخارج عن القاعدة هو ما کان الإقدام علی نفس الضرر کالإقدام علی المعاملة الغبنیة مع العلم بالغبن لا الاقدام علی شیء آخر یترتب علیه الضرر کالاقدام علی الکفر فی المقام، فالاقدام علی الکفر لیس اقداما علی الضرر مثل الاقدام علی المعاملة الغبنیة مع العلم بالغبن کما لا یخفی.

فهذه التفاصیل الثلاثة أعنی التفاصیل بین الخیار الأصلی والخیار الضرری، والتفصیل فی الخیار الضرری بین ضرر المسلم وضرر الکافر، وابتناء المسئلة علی أنّ الزائل العائد کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد کلّها ساقطة.

بقی من الوجوه المحتملة ثلاثة وجوه:

الأوّل: احتمال سقوط جمیع الخیارات مطلقا سواء کان الخیار أصلیا أم جعلیا أم ناشئا من دلیل نفی الضرر.

الثانی: احتمال ثبوت الجمیع مطلقا فیکون بیع الکافر کبیع المسلم فیما له من

ص:466

الأحکام، وهذا هو المنقول عن جامع المقاصد.

الثالث: سقوط الخیارات بالنسبة إلی العین فلا یجوز للکافر استرداد العین بالفسخ مطلقا سواء کان العقد لازما أو کان جائزا، کان الخیار فی العقد اللازم أصلیا أو جعلیا أو ناشئا من دلیل نفی الضرر، ویجوز له الرجوع إلیه بالقیمة هذا.

وأقوی الاحتمالات هو الأوّل وذلک لأنّه قد تبیّن فیما تقدَّم أنّ الدلیل علی فساد بیع المسلم من الکافر حسبما حررناه کان هو الخبر المتقدم(1) بالتقریب الذی عرفت من کون النهی فی قوله علیه السلام : لا تقرّوه، راجعا إلی مرحلة المسبب(2)، وبعد الغاء خصوصیة حالة

البقاء التی هی مورد الخبر یستفاد مبغوضیة المعنی المسببی بقاءً وحدوثا، والنهی الراجع إلی مرحلة المسبب حدوثا یدل علی الفساد فیدل علی فساد البیع من الکافر، ولا فرق فی مغبوضیة المسبَّب بین أسبابه، فلا فرق حینئذٍ بین البیع والصلح وغیرهما فکلّما کان سببا لذلک المسبب المنهی عنه یکون النهی عنه کاشفا عن عدم تأثیر السبب ولو کان إیقاعا لا عقدا، فالفسخ فاسد لکونه إنشاء حلّ العقد ومن الإیقاعات ویکون سببا للملکیة، وإذا کانت الملکیة المسببة عنه منهیا عنها کان النهی عنها کاشفا عن فساد سببها فالفسخ فاسد غیر مؤثر فی ارتجاع الملکیة ومع عدم تأثیره لا یکون الخیار ثابتا إذ معنی الخیار هو ملک الفسخ ومع عدم تأثیر الفسخ فلا ملک علیه، فجمیع الخیارات ساقطة بدلیل واحد وهو الدلیل الدال علی مبغوضیة ملکیة الکافر للعبد المسلم.

وبهذا الدلیل تسقط التفاصیل المتقدمة أیضا حتّی التفصیل بین العین والبدل، وتوضیحه: إنّ مورد الرجوع إلی المثل أو القیمة بعد تعذّر ردّ العین إنّما هو فیما إذا کان الرجوع إلی العین جائزا بسبب الفسخ وکان تسلیم العین متعذرا بواسطة التلف أو ما بحکمه فإنّه حینئذ ینتقل إلی البدل من القیمة أو المثل سواءً قلنا بأنّ الفسخ عبارة عن حلِّ العقد الموجب لرجوع العین إلی ما انتقل عنه أو قلنا أنّه ارتجاع للعین المستلزم لحلِّ

ص:467


1- 1 . وسائل الشیعة 17/380، ح1.
2- 2 . وهی تبادل الاضافتین المتحقّق باعتبار الطرفین وانشائهما ویکون أمرا باقیا فی عالم الاعتبار ما لم یتعقبه الفسخ من ذی الخیار أو الإقالة کما مرّت فی الآراء الفقهیة 1/11.

العقد، غایة الأمر أنّه بناءً علی الأوّل یکون انتهاء الأمر إلی البدل فی رتبة ثالثة حیث لابدّ أوّلاً من حل العقد لکی یترتب علیه رجوع العین إلی ما انتقل عنه وبعد الارتجاع إلیه وکونها متعذّرة ینتقل إلی البدل، وعلی الثانی فی رتبة ثانیة حیث أنّه بعد ارتجاع العین بالفسخ ینتقل إلی البدل، وعلی کلِّ تقدیرٍ لابدَّ من الرجوع إلی العین أوّلاً حتّی ینتهی بعد تعذّر تسلیمه إلی البدل والمفروض فی المقام امتناع الرجوع إلی العین لما استفید من الدلیل بالتقریب المتقدم، فلا موقع للرجوع إلی البدل.

وبعبارة أُوضح: الرجوع إلی البدل إنّما یکون عند امتناع تسلیم العین بعد الفراغ عن الرجوع إلیه الذی هو فی ظرف إمکان الرجوع إلیه، والممتنع فی المقام هو الرجوع إلی العین ومع امتناع الرجوع إلیه فلا تنتهی النوبة إلی بدلها الذی کان بعد الفراغ عن الرجوع إلیها، وهذا ظاهرٌ جدا، فالتحقیق هو سقوط جمیع الخیارات مطلقا، ولو کانت من الخیارات الضرریة وأنّ التفاصیل المتقدمة کلَّها ممنوعةٌ.

هذا علی ما سلکه المُصَنِّفُ [الشیخ الأعظم] قدس سره من جعل الخیار فی بعض

المقامات مثل خیار الغبن ناشئا من نفی الضرر، وأمّا علی ما هو المختار عندنا من کون المنشأ فی أمثال هذه المقامات هو تخلّف الشرط الضمنی وأنّ دلیل نفی للضرر بنفسه لا یکون متکفلاً لإثبات الخیار فی الغبن وإنْ کان یصح الاستدلال به بعد جعل الملاک هو تخلف الشرط، فالأمر فی بطلان التفصیل أوضح ضرورة أنّه لا یبقی حینئذٍ خیار ناشٍ عن دلیل نفی الضرر فیصیر من الخیارات الأصلیة التی لا اشکال فی حکومة دلیل نفی السبیل علی أدلتها کسائر الأدلة التی هی محکومة بدلیل نفیه من غیر إشکال کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام بالنسبة إلی الفسخ، ومنه یظهر عدم جواز الردّ بسبب العیب أیضا، نعم لا بأس بالأرش حیث أنّه لا مانع منه بعد سقوط الردّ.

هذا کلُّه فیما إذا کان الکافر هو بنفسه متولِّیّا للبیع، وأمّا إذا کان المتولی هو الحاکم کما قلنا أنّه وظیفة له علی ما یستفاد من قوله علیه السلام : فبیعوه(1)، فلا خیار أیضا فإنَّ مقتضی

ص:468


1- 1 . وسائل الشیعة 17/380، ح1.

الخیار هو ارتجاع العین إلی من انتقل إلیه بعد الأخذ بالخیار، والمفروض عدم إمکان رجوع العین إلی الکافر، ولا یعقل القول بصحة الفسخ والالتزام بعدم رجوع العوضین إلی من انتقلا عنه بل برجوعهما إلی ثالث أجنبی لکونه خارجا عن حقیقة الفسخ الذی هو حلُّ العقد، فکما أنّ مقتضی العقد هو خروج المال عمّن انتقال عنه کذلک یکون مقتضی الفسخ دخوله فی ملکه وعوده إلیه بالملکیّة السابقة بعد جعل العقد کأنْ لم یکن بسبب الفسخ»(1).

أقول: لو تمت أدلة حُرْمَةِ بیع العبد المسلم للکافر وفسادها، وتمّ احتمال تولّی الحاکم لبیع العبد المسلم، تمت مقالة المحقّق النائینی قدس سره ومع المناقشة فیهما کما عرفت وأنّهما لم یتما، فیکون المختار جریان الخیارات فی البیع المذکور بأقسامها کما علیه العلاّمة والشهید فی الدروس والمحقّق الثانی واللّه العالم.

ص: 469


1- 2 . المکاسب والبیع 2/(363-358).

مسألة: حکم نقل المصحف إلی الکافر

قد بحثنا عن هذه المسألة فی المسألة الأُولی: بیع المصحف من خاتمة المکاسب المحرّمة(1)، فی الفرع الرابع من الفروع التی الحقتُها بالبحث وقد ناقشنا أدلة حرمة هذا البیع وفسادها والفروع الملحقة بها فلا نعیدها فإن شئت فَراجِعْ «هذا کِتابُنا یَنْطِقُ عَلَیْکُمْ بِالْحَقِّ»(2) واللّه العالم.

إلی هنا تم الکلام فی شرائط المتعاقدین وبه تمّ الجزء الرابع من قسم البیع من کتابنا الآراء الفقهیة فی یوم الخمیس غرّة شَهْرِ ربیعٍ الآخر 1436 علی ید مؤلِّفه العبد هادی النجفی ببلدة إصفهان صانها اللّه تعالی عن طوارق الحدثان وسائر بلاد المسلمین.

والحمدللّه أوّلاً وآخرا وظاهرا وباطنا وصلّی اللّه علی سیّدنا محمّد وآله الأئمة الهداة الطیّبین الطاهرین المعصومین لا سیّما خاتمهم الإمام المنتظر الحجة الثانیعشر المهدی الموعود - عجل اللّه تعالی فرجه الشریف - وجعلنا من خدّامه والمستشهدین بین یدیه. وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمین.(3)

ص: 470


1- 1 . راجع: الآراء الفقهیة قسم المکاسب المحرمة 3/(292-283).
2- 2 . سورة الجاثیة /29.
3- 3 . وقد تم تصحیح هذه الاوراق علی یدّ مؤلِّفها فی صبیحة یوم الخمیس عید الأضحی 1436 ببلدة اصفهان والحمد للّه أوّلاً وآخرا.

المجلد 8

اشارة

سرشناسه : نجفی، هادی، 1342 -

عنوان و نام پدیدآور : االآراء الفقهیه: قسم البیع/ تالیف هادی النجفی.

مشخصات نشر : تهران: شب افروز، 1393.

مشخصات ظاهری : 448 ص.: نمونه.

شابک : 978-600-92902-8-4

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه: به صورت زیرنویس.

موضوع : معاملات اموال شخصی و منقول (فقه)

موضوع : معاملات (فقه)

رده بندی کنگره : BP190/1/ن3آ36 1393

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : 3555378

ص: 1

اشارة

ص: 2

تقریظ الحکیم المتأله المرجع الدینی آیة اللّه العظمی المرحوم السیّد عزالدین

الحسینی الزنجانی قدس سره (1340-1434) بخطّه الشریف فی شهر رجب المرجب 1431

ص: 3

باسمه تعالی

چه مبارک سحری بود [و] چه فرخنده شبی آن شب قدر که این تازه براتم دادند

برحسب سیره آباء و اجداد بحمداللّه روزهای جمعه تا این جانب به خاطر دارم مجالس ذکر مولانا اباعبداللّه الحسین _ ارواحنا وارواح العالمین لتراب مرقد الفداء _ در حسینیه منزل شخصی برقرار است. برکات و افاضات این عمل نورانی پیوسته ساطع و لامع است به گونه ای که برای معاندی هم جای انکار باقی نمی ماند.

از آن جمله در جمعه گذشته مجلس به قدوم میمنتْ لزومِ عالم بزرگوار آیة اللّه آقای حاج شیخ هادی نجفی _ دامت برکاته _ مزین شد و روح و طراوت خاصی به مجلس، بالخصوص به این بنده به هیچ ارزنده بخشید. لاسیما خود حامل آثار علمی خود در مکاسب محرمه در سه

ص: 4

جلد هدیه فرمودند.

بحمداللّه آثار تحقیق از محابرات آشکار بود. بسیار خوشوقت و ان شاء اللّه مورد استفاده قرار خواهد گرفت. از حسن تصادف این جانب هم با رفقای حوزه مشغول مباحثه و تدریس این قسمت هستم.

در خاتمه این بهترین عمل را به عالم فرهیخته اصفهان تبریک تقدیم نموده و مزید توفیقات معظم له از قادر متعال و ائمه اطهار _ صلوات اللّه علیهم _ خواستارم. به راستی ملتمس دعا هستم.

این جانب هم توفیق مسافرت به اصفهان فقط به قصد زیارت قبر مجلسی _ سلام اللّه علیه _ در چندین سال قبل در زمان حیات رجل الرجال و واحد الآحاد آقای ارباب قدس سره داشته و از محضر شریفشان استفاده بردم. آن بزرگمرد در احیاء نماز جمعه تأکید داشتند و این جانب را به مناسبت اقامت نماز جمعه در زنجان مورد تشویق قرار دادند.

اللهم اعل درجات علماءنا الماضین وأحینا حیاتهم وأمتنا علی سیرتهم وطریقهم.

مشهد مقدس _ محمّد عزّالدین الحسینی الزنجانی

ص: 5

ترجمة التقریظ بالعربیّة(1)

باسمه تعالی

یا سحرا مبارکة ویا لیلة رائعة / لیلة القدر التی أعطیتُ فیها رخصة النجاة من النار

إنّ مجالس عزاء مولانا أبی عبداللّه الحسین _ أرواحنا وأرواح العالمین لتراب مرقده الفداء _ کانت ولاتزال منعقدة فی حسینیة بیتی الخاص کل جمعة حسب سیرة آبائی واجدادی علی ما فی بالی، ولم تنفک تسطع برکات هذا العمل النورانی وتلمع آثارها الخیر حیث لا یبقی مجالاً للإنکار ولو للمکابرین.

منها أن مجلس هذا العبد قد أشرق وساده رَوح وریحان بورود العالم الجلیل آیة اللّه الحاج الشیخ هادی النجفی _ دامت برکاته _ فی الجمعة الماضیة، خاصة أن سماحته جاء ومعه ثلاثة مجلدات من کتابه القیم المکاسب المحرمة أهداها إلیّ.

والحمدللّه هو کتاب مفعم بالتحقیق والإبداع. لقد سررت وسأستفید منه إن شاء اللّه. ومن المصادفة الطیبة أننی منشغل بمذاکرة الموضوع وتدریسه مع بعض زملائی من علماء الدین.

وختاما أهنئ العالم الجلیل الجهبذ بهذا العمل الرائع، وأسأل المولی القدیر والأئمة الأطهار _ صلوات اللّه علیهم _ له مزیدا من التوفیق، وأطلب جدّا منه الدعاء.

وأما أنا، فأسعدنی التوفیق بأن أسافر إلی إصفهان لأجل الزیارة مضجع المجلسی _ سلام اللّه علیه _ قبل عدة سنوات فی أیام حیاة رجل الرجال وواحد الآحاد سماحة السیّد أرباب قدس سره ، واستفدت من مجلسه العلمی. کان سماحته یشدد علی إقامة صلاة الجمعة وقدّر جهودی فی إقامتها بزنجان.

اللهم اعل درجاتِ علماءنا الماضین وأحیِنا حیاتَهم وأمِتنا علی سیرتهم وطریقهم.

مشهد المقدسة _ محمّد عزّالدین الحسینی الزنجانی

ص: 6


1- (1) بقلم الدکتور علی زاهدپور _ حفظه اللّه _.

بسم الله الرحمن الرحیم

تاریخُ إنهاء المُجَلَّدِ الثامِن من کتابِ «الآراء الفِقْهِیَّة» لِسماحَةِ الْفَقِیه المُدَقِّقِ النِحریر المجتهد المُحَقِّقِ الکبیر آیة اللّه الشّیخ هادِی آلِ أبی المجد النَّجَفِیّ _ دامَ ظِلُّهُ الوارف _

الآیَةُ النَّجَفِیُّ فَیْضُ عَطائِهِ الْ_ فِکْرِیِّ مُتَّصِلُ بِغَیْرِ نَفادِ

فَبِمِرْقَمِ التَّحقِیْقِ کَمْ قَد خَطَّ مِنْ کُتُبٍ فَرائِدَ دُوِّنَتْ بِسَدادِ

لَمْ یَعْرُها حَشْوٌ وَلَمْ یَعْلَقْ بِها عابٌ یُثِیْرُ حَفَائِظَ النُّقّادِ

بِمُذابِ تِبْرٍ دُبِّحَتْ صَفَحاتُها الْ_ غُرُّ النَّفائِسُ لا بِسَیْلِ مِدادِ

(وَرِثَ) الْفَقاهَةَ (کابِرا عَنْ کابِرٍ مَوْصُوْلَةَ الإسْنادِ بِالإسْنادِ)(1)

ص: 7


1- (2) ما بین الأَقْواسِ تضمینٌ مع تَصَرُّفٍ یَسِیْرٍ وَهُوَ لاِءحَدِ الشُّعَراءِ مِنْ أهْلِ القَرْنِ الرابِعِ الْهِجْرِیّ علی ما أحْفَظُ فی مَدْحِ الوزیر العالِمِ الأدِیب الصاحِبِ إسْماعِیْلَ بْنِ عَبّادٍ _ رَحِمَهُ اللّه تعالی _ . وَقَد اسْتَبْدَلْتُ بِقَوْلِهِ: (وَرِثَ الْوَزارَةَ): وَرِثَ الْفَقاهَةَ. لاِقْتِضاءِ الْمقامِ ذلِک.

وَقَفا (أبا المَجْدِ الرِّضا) بَنُبُوْغِهِ وَاعْتامَ(1) نَهْجَ أَعاظِمِ الاْءجْدادِ

فَغَدا لَهُ مِیْراثُهُمْ فی عَصْرنا (فَرْضا وَرَدَّا) وَهُوَ أوفَرُ زادِ

وَکَفاهُ بِ_ (الآراء) مِنْ فَخْرِ بِهِ خَلُدَ اسْمُهُ السّامِیْ مَدی الاْآبادِ

فَلَقَدْ أقامَ بِهِ علی اسْتِنْباطِهِ الْ_ وافِیْ شَواهِدَ جَمَّةَ الاْءعْدادِ

وَبِ_ (ثامِنِ الاْءجْزاء) أتْحَفَ مَعْشَرَ الْ_ فُقَهاءِ أَعْلامِ الْهُدی الاْءوْتادِ

أنْعِمْ بِهِ سِفْرا تَأَلَّقَ بِالْبَها فَمَحا الدُّجُنَّةَ بِالسَّنا الْوَقّادِ

وَبِمُنْتَهی الْقِسْطاسِ(2) قُلْتُ مُؤَرِّخا: «قَدْ ضاءَ(3) بِ_(الاْآراءِ) فِقْهُ الْهادِیْ»

(60)(104)(802)(263) (158) (51)

سنة 1438ه

الأقَل عَبْدُالسّتار عَفا عَنْهُ الملیک الغفّار، وَعَنْ والِدَیْهِ

النَّجَفُ الأشرفُ _ المدرسةُ المَهدیّة العِلْمیّةُ الدِّینیّةُ

ص: 8


1- (3) أی اختار.
2- (4) فی عِبارَةِ (وبمُنْتَهی الْقِسْطاس) تَوْرِیَةٌ بِإضافَةِ قِیْمَةِ السِّیْنِ وَهِیَ ستُّوْنَ إلی مادَّةِ التّارِیْخ وَبِها یَتِمُّ المَقْصود.
3- (5) یُقالُ: ضاءَ، وَأَضاءَ، کِلاهُما صَحِیْحٌ.

فصل شرائط العوضین

اشارة

ص: 9

ص: 10

1_ المالیّة

یظهر من العلاّمة اعتبارها فی البیع حیث یقول: «لا یجوز بیع ما لا منفعة فیه لأنّه لیس مالاً، فلا یؤخذ فی مقابلته المال، کالحبّة والحبّتین من الحنطة، ولا نظر إلی ظهور الانتفاع إذا انضمّ إلیها أمثالها، ولا إلی أنّها قد توضع فی الفخّ(1) أو تُبذر. ولافرق بین زمان الرخص والغلاء. ومع هذا فلا یجوز أخذ حبّة من صُبْرة الغیر، فإن اُخذت، وجب الردّ، فإن تلفت، فلا ضمان؛ لأنّه لا مالیّة لها.

وهذا کلّه للشافعی أیضا، وفی وجهٍ آخر له: جواز بیعها وثبوت مثلها فی الذّمة. ولیس بجید»(2).

وتبعه الشیخ الأعظم وذهب إلی اعتبار المالیة فی کلٍّ من العوضین وقال: «یشترط فی کلِّ منهما کونه متموّلاً لأنّ البیع لغةً مبادلة مالٍ بمال(3)...(4) والأُولی أن یقال: «إنّ ما تحقّق أنّه لیس بمال عرفا، فلا إشکال ولا خلاف فی عدم جواز وقوعه أحدَ العوضین؛ إذ لا بیع إلاّ فی ملک. وما لم یتحقّق فیه ذلک: فإن کان أکل المال فی مقابله أکلاً بالباطل عرفا، فالظاهر فساد المقابلة. وما لم یتحقّق فیه ذلک: فإن ثبت دلیل من نصّ أو إجماع علی عدم جواز بیعه فهو، وإلاّ فلا یخفی وجوب الرجوع إلی عموماتِ صحّة البیع والتجارة،

ص: 11


1- (6) الفخُّ: المصیدة. الصحاح 1/428.
2- (7) تذکرة الفقهاء 10/35، مسألة 14.
3- (8) کما فی المصباح المنیر /69.
4- (9) المکاسب 4/9.

وخصوص قوله علیه السلام فی المرویّ عن تحف العقول: «وکلّ شیءٍ یکون لهم فیه الصلاح من جهةٍ من الجهات، فکلّ ذلک حلال بیعه... إلی آخر الروایة»(1)، وقد تقدّمت فی أوّل الکتاب(2)»(3).

یرد علیه: «أوّلاً: أنّه لا دلیل علی اعتبارها [أی اعتبار المالیة العرفیة]، سوی المصباح الذی هو علی فرض اعتباره لیس إلاّ من قبیل شرح الاسم، فإذا تعلّق الغرض الشخصی بشیء _ کالعقرب والخنفساء أو کتابة والده أو صورته _ لا مانع من شرائه.

وثانیا: لو سلّمنا اعتبار المالیّة فیه، فغایته أن لا یرتّب علی معاوضة غیر الأموال الأحکام الخاصّة للبیع ولا تعمّها أدلّته الخاصّة، إلاّ أنّه لا یمنع شمول ما ورد فی صحّة مطلق العقود، کقوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فتکون معاوضة صحیحة ولو لم یکن بیعا؛ ولذا ذکرنا فی بعض تنبیهات المعاطاة: أنّه إذا بدّل أحد عباءته بقباء غیره یصحّ وإن لم یکن بیعا ولم یصدق البائع ولا المشتری علی کلٍّ منهما، بل لو سئل کلّ منهما وقیل له: إنّک بعت مالک؟ أجاب بأنّی لم أبع ولکن عاوضت مالی، ومع ذلک فهی معاوضة.

[وثالثا]: أنّ ما ذکره فی فرض الشک فی المالیّة العرفیّة، من أنّه إذا اُحرز کون أکل المال فی مقابله أکلاً للمال بالباطل کان فاسدا، خلفٌ ومناقضة؛ إذ مع الشک فی المالیّة لا معنی للعلم بکون أکل المال فی مقابله أکلاً له بالباطل، بل الشک فی ذلک مستلزم للشک فیه. هذا بناءً علی أن یحمل الأکل بالباطل علی ما حمله علیه [الشیخ الأعظم]، وأمّا علی المختار فهو أجنبیّ عمّا نحن فیه رأسا.

[ورابعا]: أنّ ما ذکره من الرجوع إلی عمومات صحّة البیع والتجارة إذا لم یحرز کونه من أکل المال بالباطل، یکون من قبیل التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیّة، إذ المفروض الشک فی مالیّة المبیع، فتکون الشبهة مصداقیّة.

[وخامسا]: وأمّا الرجوع إلی روایة تحف العقول حیث جوّز بیع کلّ ما فیه وجه من وجوه

ص: 12


1- (10) تحف العقول /333.
2- (11) المکاسب 1/5.
3- (12) المکاسب 4/10.

الصلاح، فهو فاسد بعد ما عرفت(1) من فسادها سندا ودلالة»(2).

ما هی المالیة؟

قال المحقّق النائینی: «ویعتبر فی مالیة الشیء اُمور:

الأوّل: أن یکون له أحد الأمرین من المنفعة أو الخاصیة علی سبیل منع الخلو، والمراد بالمنفعة هو قابلیة الانتفاع به مع بقاء عینه کسکنی الدار ورکوب الدابة، وبالخاصیة ما یترتب علیه من المنافع المتوقف ترتبه علی ذهاب عینه مثل الاشباع المترتب علی الخبز الموقوف علی ذهاب عینه بأکله، وهذان الأمران علی سبیل منع الخلو مقومان لمالیة المال فمالا منفعة فیه ولا خاصیة له أصلاً فلامال.

الثانی: أنْ یکون مما یصح اقتنائه لأجل ما یترتب علیه من المنفعة أو الخاصیة عقلاً بأن کان مما یقتنیه العقلاء لذلک بحسب عادتهم سواء کان استعماله لأجل خاصیته مثلاً شایعا غیر مختص ببعض الأحوال کالحنطة التی تقتنی لأجل الاقتیات، أو کان نادرا مختصا ببعض الأحوال لمکان تعلق غرض العقلاء باقتنائها، فما لا یصح اقتنائه لأجل ما یترتب علیه من المنافع والأغراض فلا یکون مالاً وإن کان له أحد الأمرین من المنفعة والخاصیة، لکن لمکان شیوع وجوده مثل الرمل والأحجار فی مواضعها لا یقدم العقلاء علی اقتنائه بل یعد اقتنائه عملاً سفهیا عندهم.

الثالث: أن یکون ممّا یبذل العقلاء بإزائه المال، فلو لم یبذل بإزائه المال لم یکن مالاً کالماء فی جنب الأنهار حیث أنّه مع ماله من المنفعة والخاصیة لایکون عندهم مالاً لمکان عدم إقدامهم ببذل المال بإزائه، وهذه الأمور المذکورة دخیلة فی التمول عرفا.

الرابع: أنْ لاتکون تلک المنفعة أو الخاصیة المقومان لمالیة الشیء مصبا وموردا للنهی الشرعی بأن تعلق النهی بنفس تلک المنفعة أو الخاصیة، لصیرورة الشخص بسبب حرمة هذه المنفعة أو الخاصیة علیه محروما عن ذلک الشیء شرعا، فیکون وجود المنفعة

ص: 13


1- (13) راجع الآراء الفقهیة 1/(20-16).
2- (14) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/103 و 104.

والخاصیة کالعدم، إذ ما لایجوز الانتفاع به فیما یترتب علیه یکون کما لا ینتفع به أصلاً، فمثل الخمر ونحوه(1) لا یکون مالاً لأجل المنع عن ترتب ما هو الملاک فی مالیة المال علیه شرعا»(2).

وقال الإیروانی فی تعریفها: «ثمّ إنّ تعریف المال بأنّه ما یبذل بإزائه المال فی غایة الفساد، فإنّه من أخذ المعرَّفَ فی التعریف، والظّاهر أنّه لا إشکال فی اعتبار أمرین فی تحقّق مفهومه، أحدهما حاجة النّاس إلیه فی أمور دنیاهم، أو عقباهم، والثانی عدم إمکان الوصول إلیه بلا إعمال عمل»(3).

وقال الاستاذ المحقّق _ مدظله _ بعد المناقشة فی التعریفین: «ولعل أسلم التعاریف _ وإن لا یخلو عن المناقشة باعتبار شموله للمناصب الاعتباریّة التی یتنافس علیها العقلاء، لکنّها غیر معدودة من الأموال _ اعتبار المالیّة شیئا یتنافس علیه العقلاء، ولیس المراد من العقلاء الإنسان الذی یمتلک عقلاً یعبد به الرحمن، بل مَنْ له عقل المعاش، ویسعی لکسب ما ینتفع به، وبالتالی یعدّ الکنز الذی لا مالک له مالاً، کما یعدّ الخمر والخنریز أیضا مالاً _ لولا الحکومة الشرعیّة بإلغاء المالیّة عنهما _ لتنافس العقلاء علیهما»(4).

أقول: تعریف المال ویتبعه المالیة واضحٌ عند العُرف لاغبار علیه وکلّ هذه التعاریف تَرِدُ علیها مناقشات لأنّها لا تکون إلاّ شرحا للاسمِ لإبعادنا عن المعنی العرفی الواضح فلا نحتاج إلی النقض والابرام فیها وإلاّ لعل أردء التعاریف هی الأخیرة منها. واللّه العالم.

الدلیل علی اعتبار المالیة فی البیوع

الأوّل: قول الفیومی فی المصباح المنیر: «الأصلُ فی البیع مُبَادَلَةُ مالٍ بمالٍ لقولهم

ص: 14


1- (15) کذا وَرَدَ فی الأصْلِ، والصَّواب «ونَحْوِها»؛ لأنّ الخَمْرَ مُؤنَّثَةٌ فی کلام العرب بلاخلاف.
2- (16) المکاسب والبیع 2/364 و 365.
3- (17) حاشیة المکاسب 2/414.
4- (18) العقد النضید 4/338.

بیعٌ رابحٌ وبیعٌ خاسرٌ وذلک حقیقةٌ فی وصفِ الأعیان لکنّه اُطلقَ علی العقد مجازا لأنّه سببُ التملیکِ والتملُّکِ»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: قد مرّ أنّ هذا التعریف لا یکون إلاّ شرحا للإسْمِ بل لا یکون حتّی شرح الاسم.

وثانیا: اعترف الفیومی بأنّ هذا الإطلاق مجازیٌّ.

وثالثا: لا اعتبار بقول اللغوی فی التحدیدات الشرعیة کما بحثنا عنه فی مباحثنا الأُصولیة.

الثانی: قوله صلی الله علیه و آله : لا بیع إلاّ فی ما یملک(2)، یدلّ علی أنّ المبیع یجب أن یکون مالاً حتّی یدخل فی الملک.

ویرد علیه: أوّلاً: الروایة عامیة.

وثانیا: الروایة تدلّ علی اعتبار الملکیة لا المالیة فلا تطابق بین الدلیل والمدعی.

وثالثا: انّ النسبة بین الملک والمال عموم وخصوص من وجه ولا یصح الاستدلال بأحدهما علی إثبات الآخر.

ورابعا: المالیة مفهوم عرفی والروایة نصّ شرعی ولا یحدد المفهوم العرفی بالنص الشرعی.

الثالث: المبیع إذا لم یکن مالاً یکون أکل المال فی مقابله أکلاً له بالباطل، نهی عنه قوله تعالی: «لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ»(3).

یرد علیه: المراد «بِالْباطِلِ» فی الآیة الشریفة الأسباب الباطلة و«الباء» للسببیة فلایتم الاستدلال لأنّها غیر ناظرة إلی المبیع وشروطه.

ص: 15


1- (19) المصباح المنیر /69.
2- (20) سنن الترمذی 3/486، ح1181؛ مسند أحمد 2/207؛ السنن الکبری 7/318؛ سنن الدارقطنی 4/14، ح42؛ المصنَّف 6/417، ح11456 لعبد الرزاق؛ کنزالعمال 9/641، ح27779؛ مستدرک الحاکم 2/17.
3- (21) سورة النساء /29.

وقد یقال: «أساس المالیّة وملاک اعتبارها عقلائیّة ولیست بشخصیّة، بمعنی أنّ الشیء یعدّ مالاً فیما إذا اعتبره العرف والعقلاء مالاً، ولذلک لا یمکن وصف مال معتبر عند شخص تعلّق به غرضه _ لکن یستهین به العرف والعقلاء _ أنّه مالٌ لفقده ملاک المالیّة، فالثوب البالی الذی قد یعتزّ به الشخص لکونه ثوب أبیه ویذکّره به، ولا یتنازل عنه فی مقابل أموال الدُّنیا، لا یعدّ مالاً لعدم کونه موصوفا بالمالیّة العرفیّة، وأمّا الفقهاء فقد علّقوا وصف المالیّة بما یعتبره العرف والعقلاء مالاً، وإن کان مَنْشَؤُهُ شخصیّا، فالمدار فی تحقّق المالیّة هی الثابتة عند العرف والعقلاء وإن کانت ناشئة من غرض شخصی، فالحشرات برغم خسّتها وحقارتها العرفیّة، وعدم تقابلها بالمال، إلاّ أنّها قد توصف بالمالیّة بالنسبة إلی العالِم بالحشرات الذی یتعلّق غرضه بها، ویبذل الأموال الطائلة لتحصیلها وتصنیفها وتحنیطها وما إلی ذلک، فإنّ هذه الرغبة المعقولة والمحترمة عند العقلاء تجعلها مالاً، برغم أنّ المعاملة الواقعة علیها معاملة علی ما لایبذل بإزاءه مالٌ عقلاءً وعرفا.

أمّا اعتبار المالیّة فی العوضین، فقد ادّعی الشیخ [الأعظم] صراحةً لُزُوْمَ مالیّة العوضین و[قال:] «إنّ ما تحقّق أنّه لیس بمالٍ عرفا فلا إشکال ولا خلاف فی عدم جواز وقوعه أحد العوضین»(1) وقد أقام أدلّة عدیدة علی ذلک، لکن ثبت ممنوعیّتها واندفاعها، وبذلک یسقط أصل الدعوی، وبالتالی فیصحّ معاملة حبّة حنطة واحدة بحبّة شعیر واحدة، بمثل ما تصحّ معاملة منّ من الحنطة بمنّ من الشعیر، نعم المعاملة الاُولی غیر عقلائیّة، لا یقدم علیها العقلاء دون الثانیة، إلاّ أنّ عدم معقولیّتها لایخرجها عن عنوان البیع والمعاملة لصدق مفهوم البیع علیها. وهکذا ثبت عدم تقیّد مفهوم البیع لغةً وعرفا بالمالیّة.

أمّا بالنسبة إلی الأدلّة الشرعیّة: فقد نُوقش فی تقییدها بالمالیّة وعدمه علی قولین:

قیل: إنّ الأدلّة مطلقة غیر مقیّدة بالمالیّة وعدمها، وهو مختار المحقّق السیّدِ الخوئی، حیث التزم بأنّ الأدلّة الشرعیّة مطلقة تشمل جمیع المعاملات والعقود عدا ما یصدر من السفیه، وأنّ الممنوع بیع السفیه دون البیع السفهی الصادر من العاقل.

ص: 16


1- (22) المکاسب 4/10.

وقیل: إنّ الأدلّة الشرعیّة وموضوعاتها مقیّدة بالعقلائیّة، بمعنی أنّ إطلاقات أدلّة الحِلّ ولزوم الوفاء مقیّدة بالمعاملات الصادرة من العقلاء، وهو الصحیح لأنّ الأدلّة الشرعیّة الواردة فی باب المعاملات تندرج فی الأحکام الإمضائیّة المنصرفة إلی ارتکازات العقلاء، وإن یحتمل أن تکون أوسع وأشمل ممّا عند العقلاء، لکن المتیقّن منها ما هو المرتکز عندهم، ومن المعلوم أنّ المرتکز عند العقلاء تصحیح البیوع الصادرة من العقلاء علی وجه معقول، لا مطلق ما یُتعامل به وإن کان غیر معقول.

وبالجملة أوّلاً: إنّ إطلاق الأدلّة الشرعیّة الواردة فی باب المعاملات مقیّدة ومضیّقة ذاتا بما عدا المعاملات السفهیّة.

وثانیا: اعتبار الأدلّة الإمضائیّة أدلّة تأسیسیّة دالّة علی حکم الشارع بصحّة أمر غیر عقلائی، بعیدٌ عن روح الشریعة ومقاصدها، ویتوقّف ثبوتها علی مؤونة زائدة.

ومقتضی الدلیلین المذکورین انصراف إطلاق آیة الحلّ واللّزوم عن البیع السفهی، واختصاصهما بالبیوع العرفیّة العقلائیّة، واندفاع ما قیل من إطلاقها ولا أقلّ من الشکّ فی شمولهما للمبیع الفاقد للمالیّة، فیکون المرجع أصالة الفساد.

وخلاصة الکلام: هی أنّه قد ثَبَتَ ممّا ذکرنا أنّ النتائج المترتّبة علی المسالک المختلفة کما یلی:

1_ بناءً علی مسلک المشهور _ وهو مسلک الشیخ [الأعظم] _ القائل باعتبار لزوم تحقّق المالیة فی مفهوم البیع، ثبت انتفاء مفهوم البیع عند إحراز عدم المالیّة.

2_ بناءً علی مسلک المحقّق السیّد الخوئی، فإنّ مفهوم البیع غیر متقوّم بالمالیّة، وبالتالی یکون اقتضاء شمول الأدلّة لمطلق البیوع حتّی الفاقدة للمالیّة تامّا ومانعه مفقودا.

3_ وأمّا بناءً علی المسلک المختار _ بعد ثبوت بطلان المسلکین السابقین _ فإنّ مفهوم البیع عرفا غیر متقوّم بالمالیّة، لکنّه مقیّد بها شرعا، وبالتالی فإنّ مبادلة ما لا مالیّة

ص: 17

فیه بیعٌ لکنّها غیر صحیحة شرعا»(1).

أقول: بعد قبول عدم اعتبار دلیل المالیة، وأنّ الممنوع هو بیع السفیه دون البیع السفهی، وأنّ أدلة المعاملات إمضائیة ولیست بتأسیسیّة، ووجود إطلاق أدلة صحة البیع وغیره من المعاملات فلابدّ لنا من الذهاب إلی ما ذهب إلیه المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله من صحة البیع مع فقد المالیة فی العوضین، ولا أدری من أین اسْتَفَادَ الأستاذُ المحقّق _ مدظله _ أنّ «مفهوم البیع عرفا غیر متقوم بالمالیة لکنّه مقیّد بها شرعا»؟ ومن أین جاء هذا التقیید الشرعی بعد قبول الاُمور السالفة؟! واللّه العالم.

ص: 18


1- (23) العقد النضید 4/(347-345).

2_ الملکیّة

اشارة

قال المحقّق فی شرائط المبیع: «الأوّل: أن یکون مملوکا»(1).

وقال صاحب الجواهر فی ذیله: «بلاخلاف(2) بل الإجماع(3) بقسمیه علیه والنصوص(4) واضحة الدلالة علیه، بل فی المرسل: لا بیع إلاّ فی ملک(5)»(6).

وقال العلاّمة فی القواعد فی شرائط العوضین: «وصلاحیته للتملک»(7).

وقد حمل السیّد العاملی مقالة العلاّمة علی اعتبار المالیة حیث یقول فی تعیین مراده: «یرید أنّه یشترط فی المبیع کونه ممّا جرت العاده بتملّکه بعقد معاوضة لینتفع به منفعة معتبرة فی نظر العقل سائغة فی نظر الشارع، فإنّ ما لا منفعة فیه لا یعدّ مالاً وکان أخذ المال فی مقابلته حراما قریبا من أکل المال بالباطل.

ولخلوّ الشیء عن المنفعة سببان: القلّة والخسّیة. قالقلّة کالحبّة والحبّتین من الحنطة والزبیبة الواحدة، لأنّ ذلک لا یعدّ مالاً ولا یبذل فی مقابلته المال، ولا ینظر إلی

ص: 19


1- (24) الشرائع 2/10.
2- (25) کما فی الحدائق 18/432.
3- (26) کما فی مجمع الفائدة والبرهان 8/167.
4- (27) راجع وسائل الشیعة 17/333، الباب 1 من أبواب عقد البیع وشروطه.
5- (28) مرّت مصادره.
6- (29) الجواهر 23/551 (22/343).
7- (30) القواعد 2/21.

ظهور الانتفاع به إذا ضمّ هذا الدر إلی أمثاله وإلی ما یفرض من وضع الحبّة فی فم الفخ. ولا فرق بین زمان الرخص والغلاء. ولا یستلزم ذلک جواز أخذ الحبّة والحبّتین من صبرة الغیر، لأنّا إنّما نفینا تملّکه بعقد معاوضة ولم ننف ملکیّته مطلقا، بل هو مال مملوک یقبل النقل بالهبة ونحوها وإذا تلف ضمنه بمثله علی الأصحّ کما ستعلم.

وأمّا ما لا منفعة فیه لخسّته فکالحشار»(1).

ثمّ قال فی آخر کلامه: «... بل الإجماع علی الملکیة ممّا لا ریب فیه»(2).

وهکذا حمل الفاضل المامقانی عبارة المحقّق الماضیة وقال: «ولیس مراده [أی المحقّق] بذلک [بکلامه الماضی] أن یکون البائع مالکا له حتّی یکون مقتضاه عدم صحة بیع الفضولی، بل مراده به الاحتراز عما لیس بمملوک من جهة عدم قابلیته للملک...»(3).

أقول: لو تمّ حمل الفَقِیْهَیْنِ کلامَ الفاضلَین دلَّ علی الشرط السابق _ أی المالیة _ وإلاّ علی هذا الشرط _ أی الملکیة _ وظاهرهُما الأخیر.

ثمّ فلیعلم: أنّ الملک علی قسمین: 1_ الشخصی کملکیة کلّ أحد لأمْوالِهِ الخاصّة. 2_ النوعی.

والملک النوعی إمّا یکون قابلاً لأن یصیر ملکا شخصیا کالخمس والزکاة حیث أنّهما ملکان للنوع والطبیعة ولکنّهما یصیران ملکا لمن یقبضهما.

وإمّا یکون غیر قابل لأن یصیر ملکا شخصیّا ثمّ إنّ هذا الأخیر مَنافِعُهُ قد تکون ملکا شخصیا بالفعل کالوقف الخاص حیث أنّه لیس ملکا لشخص مخصوص لکونه ملکا للطبقات کلّها ولکن آحاد کل طبقة یصیرون مالکین لمنافعه ملکا خاصا.

وقد تکون منافعه ملکا شخصیا بالقوة کالوقف العام فإنّ منافعه لیست لأشخاص معینة لکنّها قابلة للملک الخاص.

وقد لا تکون منافعه قابلة للملک الشخصی الخاص کالأراضی المفتوحة عنوة

ص: 20


1- (31) مفتاح الکرامة 13/8.
2- (32) مفتاح الکرامة 13/10.
3- (33) غایة الآمال 7/7.

فأنّها ملک لعامة المسلمین فلابدّ من أن یصرف منافعها فی ما یعود نفعه إلی عموم المسلمین.(1)

الشیخ الأعظم(2) کغیره من الفقهاء ذهب إلی اعتبار الملکیة فی البیع فلابدّ من البحث حول دلیل اعتبارها وعلی أیِّ حالٍ تفریع الشیخ الأعظم الملکیة علی المالیة لاوجه له، لأنّهما أمران متغایران بینهما عموم من وجه کما مرّ.

دلیل اعتبار الملکیة ونقده

الملکیّة أمر اعتباری لیست بذاتها وحقیقتها داخِلَةً فی مفهوم البیع ولاعلاقة لها بصحته وفساده کما یدلّ علی عدم الدخل بیع السلف وبیع الکلّی فی الذمّة.

وأمّا التمسک بدخالتها فی البیع بالنبوی: لابیع إلاّ فی ملک، فغیر تامٍ لتطرق الاحتمالات الثّلاثة فی مدلولها وهی:

«1_ احتمال أن یکون دالاًّ علی اعتبار ما یُملک فی البیع، بمعنی أنّه لا مجال لبیع ما لیس فیه قابلیّة الملکیّة، فیکون مدلول الخبر لا تبع ما لیس یُملک، فیدلّ علی نفی البیع عن مثل الخمر والخنزیر.

2_ احتمال أن یکون مدلوله لا تبع ما لیس تملِک، أی لا تبع ما لا تملکه، ممّا یدلّ علی اعتبار الملکیّة فی المبیع.

3_ احتمال أن یدلّ علی اشتراط مِلک البیع لا فی متعلّقه، وتکون النتیجة انتفاء البیع عند انتفاء ملک البیع، ولذلک لابدّ أن یکون البائع إمّا مالکا أو ولیّا أو وکیلاً»(3).

وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال مع أنّ «ظاهره اعتبار ملک البیع، فلیس خروج مثل بیع الوکیل أو الولی بالتخصیص، فالروایة ناظرة إلی المنع عن بیع الإنسان مال غیره ممّا لیست له سلطنة علیه لیشتریه ویسلّمه إلی المشتری. وعلیه فلا مانع من بیع ما تعلّق

ص: 21


1- (34) التقسیم مأخوذ من المحقّق النائینی فی المکاسب والبیع 2/366.
2- (35) المکاسب 4/11، قوله: «ثمّ إنهم احترزوا باعتبار الملکیة فی العوضین...».
3- (36) العقد النضید 4/349.

به الحقّ _ کحقّ التحجیر_ ولا فی جعله ثمنا»(1).

وبالجملة: «اعتبار الملکیّة لم یدلّ علیه دلیل بأن یکون الثمن والمثمن مملوکین قبل البیع ولذا یصحّ بیع الکلّی فی الذمّة مع أنّه لا یکون ملکا له، نعم یعتبر أن یکون البائع مالکا للبیع بمعنی أن یکون أمر البیع بیده وتحت سلطته وإن لم یکن المبیع ملکا کما فی بیع الکلّی فی الذمّة فإنّه یملک بیع ما فی ذمّته»(2).

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنهم احترزوا باعتبار الملکیّة فی العوضین من بیع ما یَشترک فیه النّاس: کالماء، والکلأ، والسموک والوحوش قبل اصطیادها؛ لِکون هذه کلّها غیر مملوکة بالفعل»(3).

أقول: إن کان مراد الشیخ الأعظم من الملکیة هی الملکیة فی المبیع فلا یکون مانعا من بیع المباحات الأصلیة لأنّ ما «یشترک فیه النّاس _ کالماء والکلاء والأسماک والوحوش قبل اصطیادها _ فإن لم یکن منع عن بیعها ولو من جهة العجز عن التسلیم، فلا مانع من بیعها، فیبیع السمک فی البحر ثمّ یصیده ویسلّمه إلی المشتری»(4).

وإن کان مراده قدس سره من الملکیة هی ملکیة البیع وسلطنة البائع علیه _ علی خلاف ظاهر الشیخ الأعظم _ «صحّ الاحتراز به عن بیع المباحات الأصلیّة إذ نسبة البائع والمشتری إلیها علی حدّ سواء ولا یکون للبائع خصوصیّة بحیث یکون أمر بیعها بیده دون المشتری.

ولا وجه للاحتراز عنها باعتبار المالیّة فی العوضین کما عن المحقّق(5) بدعوی أنّها لیست مالاً عرفا کما هو واضح.

ص: 22


1- (37) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/105.
2- (38) تعلیق العلاّمة الآیة الشیخ علی أصغر الأحمدی الشاهرودی قدس سره المستشهد فی الانتفاضة العراقیة فی زمن النظام صدام البائد، علی کتاب محاضرات فی الفقه الجعفری 3/104.
3- (39) المکاسب 4/11.
4- (40) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/105.
5- (41) الشرائع 2/10.

کما إنّه لیس الوجه فی الاحتراز عنها اعتبار أن لا یکون البیع سفهیّا إذ فیه أوّلاً: أنّ بیع السفیه باطل لا البیع السفهی، وثانیا: إذا کان البائع قادرا علی أخذ المباحات وتسلیمها فتکون ثمرة هذا البیع إلزامه بأخذها وتسلیمها»(1). واللّه العالم.

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «واحترزوا أیضا به عن الأرض المفتوحة عنوة»(2) ثمّ تعرّض لأحکام الأراضی ونحن تابِعُوْنَ له فی الترتیب فنقول:

ص: 23


1- (42) تعلیق العلاّمة الآیة الشیخ علی أصغر الأحمدی الشاهرودی قدس سره علی کتاب محاضرات فی الفقه الجعفری 3/104.
2- (43) المکاسب 4/11.
أقسام الأرضین وأحکامها
اشارة

قال الشهید: «جمع الأرض علی الأراضی غلط(1)»(2).

قال السیّد العاملی: «فی الصحاح(3) والقاموس(4) إنّه جمع علی غیر القیاس. وقال فی المصباح: قال أبوزید: سمعت العرب تقول فی جمع الأرض الأراضی والاُرُوض مثال فُلُوس، وجمع فَعْل فَعالی فی أرض وأراضی وأهل وأهالی ولیل ولیالی علی غیر قیاس»(5) (6).

أقول: الأرض إمّا موات أو عامرة وکل منهما إمّا أن تکون کذلک بالأصالة أو عرض لها ذلک، فهی أربعة أقسام علی الحصر العقلی:

1_ الموات بالأصالة: فلا إشکال ولاخلاف بیننا فی کونها من الأنفال وکونها

ص: 24


1- (44) ومن الملحوظ أنّ الأرض لم یذکر لها جمعٌ فی القرآن الکریم بخلاف السماء إذ تکرّر جمعها علی (سماوات) حتّی إنّ فی حالة بیانِ مُساوقَةِ الأرض للسّماء فی عددِ الطبقات قال تعالی: «وَمِنَ الاْءَرْضِ مِثْلَهُنَّ» [سورة الطلاق /12] والقول بمنع جمع أرضٍ علی (أراضٍ) تحجیرٌ لواسعٍ وهو من جنایات الاستقراء النّاقص لکلام العرب العربا وسماعا وقیاسا وللبسط مقامٌ غیر هذا.
2- (45) الحاشیة النجاریة /343؛ ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 19/11.
3- (46) الصحاح 3/1064 مادّة «أرض».
4- (47) القاموس المحیط 2/323 مادّة «أرض».
5- (48) المصباح المنیر 1/12 مادّة «أرض».
6- (49) مفتاح الکرامة 19/11.

للإمام علیه السلام .

2_ العامرة بالأصالة: وهی مشترک فی الحکم مع سابقتها.

3_ الموات بالعرض: قد مرّ حکمها فی المسألة الثالثة: ما یأخذه الجائر من الخراج والمقاسمة والزکاة، فی خاتمة المکاسب المحرمة(1) فلا نعید.

4_ العامرة بالعرض: یأتی حکمها.

فلابدّ من البحث حول أحکام هذه الثلاثة الباقیة:

1_ الأرض الموات بالأصالة
اشارة

قال العلاّمة فی تعریف الموات: «الموات هی الأرض الخراب الدارسة التی باد أهلها واندرس رسمها.

وتُسمّی میتةً ومَواتا ومَوَتانا بفتح المیم وسکون الواو: هو عمی القلب، یقال: رجل مَوْتان القلب إذا کان أعمی القلب لا یفهم شیئا»(2).

وهی من الأنفال وللإمام علیه السلام وسواء کانت فی بلاد الإسلام أو الکفر یَدُلُّ علیه مضافا إلی عدم الخلاف فی المسألة بین الأصحاب کما یَدُّلَ علی أنّها للإمام علیه السلام ظاهر المبسوط(3) والتذکرة(4) والتنقیح(5) والکفایة(6)، ودعوی الإجماع علیه فی الخلاف(7) والغنیة(8) وجامع المقاصد(9) والمسالک(10)، طوائف من النصوص:

ص: 25


1- (50) راجع الآراء الفقهیة 3/(473-453).
2- (51) تذکرة الفقهاء 19/351.
3- (52) المبسوط 3/270.
4- (53) تذکرة الفقهاء 19/358.
5- (54) التنقیح الرائع 4/98.
6- (55) کفایة الأحکام 2/544.
7- (56) الخلاف 3/525 و 526، مسألة 1.
8- (57) غنیة النزوع /293.
9- (58) جامع المقاصد 7/9.
10- (59) المسالک 12/391.
الطائفة الأُولی: النصوص الدالة علی أنّها من الأنفال

منها: صحیحة حَفْص بن ال_بُخْتَری، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: الأنفال ما لم یوجف علیه بخیل ولا رکاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأیدیهم وکلّ أرض خربة، وبطون الأودیة، فهو لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وهو للإمام من بعده یضعه حیث یشاء.(1)

قدر المتیقن من الأرض الخربة هی الموات بالأصالة وقد مرّ تفسیر الموات بالأرض الخراب فی کلام العلامة قدس سره .

ومنها: موثقة محمّد بن مسلم، عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه سمعه یقول: إنّ الأنفال ما کان من أرض لم یکن فیها هراقة دم، أو قوم صولحوا وأعطوا بأیدیهم، وما کان من أرض خربة، أو بطون أودیة، فهذا کلّه من الفیء والأنفال للّه وللرسول، فما کان للّه فهو للرسول یضعه حیث یحبّ.(2)

ومنها: موثقة سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال؟ فقال: کلّ أرض خربة أو شیء یکون للملوک فهو خالص للإمام ولیس للناس فیها سهم، قال: ومنها البحرین لم یوجف علیها بخیل ولا رکاب.(3)

ومنها: موثقة زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: قلت له: ما یقول اللّه: «یَسْأَلُونَکَ عَنِ الاْءَنْفالِ قُلِ الاْءَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ»(4)؟ وهی کلّ أرض جلا أهلها من غیر أن یحمل علیها بخیل ولا رجال ولا رکاب فهی نفل للّه وللرسول.(5)

«کل أرض جلا أهلها» إذا کانت من الأنفال، الأرض التی کانت مواتا بالأصل

ص: 26


1- (60) وسائل الشیعة 9/523، ح1، الباب 1 من أبواب الأنفال.
2- (61) وسائل الشیعة 9/526، ح10.
3- (62) وسائل الشیعة 9/526، ح8.
4- (63) الأنفال /1.
5- (64) وسائل الشیعة 9/526، ح9.

ولیس لها أهل بالطریق الاُولی تکون من الأنفال.

ومنها: موثقة إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن الأنفال؟ فقال: هی القری التی قد خربت وانجلی أهلها فهی للّه وللرسول، وما کان للملوک فهو للإمام، وما کان من الأرض الخربة لم یوجف علیه بخیل ولا رکاب، وکلّ أرض لا ربّ لها، والمعادن منها، ومن مات ولیس له مولی فماله من الأنفال.(1)

وغیرها من الروایات التی ادعی صاحب الجواهر(2) امکان دعوی تواترها ویراها الشیخ الأعظم «مستفیضة بل قیل: إنّها متواترة»(3) ولا یبعد بلوغ مجموعها حدّ التواتر الإجمالی.(4)

الطائفة الثانیة: النصوص الدالة علی أنّ الأرض کلّها للإمام علیه السلام

صحیحة أبی سیار مسمع بن عبدالملک فی حدیث قال:

قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی کنت ولیت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانین ألف درهم، وکرهت أن أحبسها عنک وأعرض لها وهی حقّک الذی جعل اللّه تعالی لک فی أموالنا، فقال: وما لنا من الأرض وما أخرج اللّه منها إلاّ الخمس؟! یا أبا سیّار، الأرض کلّها لنا، فما أخرج اللّه منها من شیء فهو لنا، قال: قلت له: أنا أحمل إلیک المال کلّه؟ فقال لی: یا أبا سیار، قد طیبناه لک وحللناک منه فضمّ إلیک مالک، وکلّ ما کان فی أیدی شیعتنا من الأرض فهم فیه محلّلون، ومحلّل لهم ذلک إلی أن یقوم قائمنا فیجبیهم طسق ما کان فی أیدی سواهم، فإنّ کسبهم من الأرض حرام علیهم حتّی یقوم قائمنا فیأخذ الأرض من أیدیهم ویخرجهم منها صغره.(5)

ومنها: خبر أبی خالد الکابلی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: وجدنا فی کتاب علیّ علیه السلام :

ص: 27


1- (65) وسائل الشیعة 9/531، ح20.
2- (66) الجواهر 39/11 (38/10).
3- (67) المکاسب 4/13.
4- (68) کما قاله آیة اللّه الشیخ محمّدإسحاق الفیاض _ مدظله _ فی کتابه: «الأراضی» /23.
5- (69) وسائل الشیعة 9/548، ح12، الباب 4 من أبواب الأنفال.

«إِنَّ الاْءَرْضَ لِلّهِ یُورِثُها مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»(1). أنا وأهل بیتی الذین أورثنا الأرض، ونحن المتّقون، والأرض کلّها لنا، فمن أحیی أرضا من المسلمین فلیعمرها، ولیؤدّ خراجها إلی الإمام من أهل بیتی، وله ما أکل منها، فإن ترکها وأخربها، فأخذها رجل من المسلمین من بعده فعمرها وأحیاها، فهو أحقّ به من الذی ترکها، فلیؤدّ خراجها إلی الإمام من أهل بیتی، وله ما أکل منها حتّی یظهر القائم علیه السلام من أهل بیتی بالسّیف، فیحویها ویمنعها ویخرجهم منها کما حواها رسول اللّه صلی الله علیه و آله ومنعها، إلاّ ما کان فی أیدی شیعتنا، فإنّه یقاطعهم علی ما فی أیدیهم، ویترک الأرض فی أیدیهم.(2)

دلالة فقرة «الأرض کلّها لنا» فی الروایتین علی ملکیّة الإمام لمطلق الأراضی ومنها الموات تامة ولکن سند الروایة الأخیرة ضعیف بما مرّ منّا(3) ولذا عبر عنها العلاّمة(4) بالصحیح عن أبی خالد الکابلی عن الباقر علیه السلام .

ودلالة هذه الطائفة علی أنّ الأرض الموات بالأصالة للإمام علیه السلام إنّما هی بالعموم.(5)

الطائفة الثالثة: النبویان العامیان
اشارة

المذکوران فی تذکرة الفقهاء(6) وهما غیر مرویین من طرقنا:

أحدهما: ما روی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: موتان الأرض للّه ولرسوله ثمّ هی لکم منّی.(7)

ص: 28


1- (70) الأعراف /128.
2- (71) وسائل الشیعة 25/414، ح2، الباب 3 من کتاب إحیاء الموات.
3- (72) راجع الأراء الفقهیة 3/471 و 472.
4- (73) تذکرة الفقهاء 19/353.
5- (74) کما فی الأراضی /27.
6- (75) تذکرة الفقهاء 19/352.
7- (76) المسند للشافعی /382؛ ومعرفة السنن والآثار 4/(522-521)، ح3737؛ وسنن البیهقی 6/143؛ وتأویل مختلف الحدیث /184؛ وجواهر العقود 1/240؛ والتلخیص الحبیر 3/62، ح1293، أورده الجویینی فی نهایة المطلب 8/281؛ ونحوها فی عوالی اللآلی 3/480، ح1 ونقل عنه فی المستدرک 17/111، ح1.

وثانیهما: عن سمرة بن جندب أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال: عادیُّ الأرض للّه ولرسوله ثمّ هی لکم منّی أیها المسلمون.(1)

قال العلاّمة: «یرید بذلک دیار عاد وثمود»(2).

مناقشة المحقّق الإصفهانی فی دلالة الروایات

قال قدس سره : «إنّ الموات بالأصالة للإمام علیه السلام ، ومن الواضح للمتأمل المراجع إلی الأخبار أنَّها وإنْ کانت مستفیضة أو متواترة، إلاّ أنّ کون الأنفال کلّیّة له علیه السلام کذلک، لا أنّ النصوص فی خصوص الموات مستفیضة، فإنّ بعض النصوص(3) تضمن کون الأرض الخربة للإمام علیه السلام ، وبعضها(4) تضمن کون الأرض الخربة التی باد أهلها له علیه السلام ، وبعضها(5) تضمن کون الأرض التی لا ربَّ لها للإمام علیه السلام ، وبعضها(6) تشتمل علی أنّ الأرض المیتة التی لا ربَّ لها له علیه السلام ، أمّا الأرض الخربة مطلقة کانت أو مقیدة فموردها المسبوقة بالعمارة لا الموات بالأصالة، وأمّا الأرض التی لا ربّ لها فمطلقها ومقیدها مسوقة لمالکیته علیه السلام لما لا مالک له، من باب الغلبة، فلا یکون دلیلاً علی أنّ الموات بالأصالة _ بما هی موات _

ص: 29


1- (77) التلخیص الحبیر 3/62، ح1293؛ المغنی لابن قدامة 6/150؛ الشرح الکبیر 6/150؛ نهایة المطلب 8/283؛ والعزیز فی شرح الوجیز 6/206 للرافعی؛ عوالی اللآلی 3/481، ح5 ونقل عنه فی المستدرک 17/112، ح5.
2- (78) تذکرة الفقهاء 19/352.
3- (79) وسائل الشیعة 9/523، باب 1 من أبواب الأنفال، ح1 صحیحة حفص بن البختری، وح8 موثقة سماعة وح10 موثقة محمّد بن مسلم.
4- (80) وسائل الشیعة 9/527، باب 1 من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام، ح9 موثقة زرارة وح11 خبر الحلبی.
5- (81) وسائل الشیعة 9/533، باب 1 من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام، ح28 مرسلة أبیبصیر.
6- (82) وسائل الشیعة 9/524، باب 1 من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام، ح4 مرسلة حماد الطویلة.

للإمام علیه السلام ، والنبویان المذکوران فی المتن(1) غیر مرویین من طرقنا، نعم فی بعض روایات الکافی «والموات کلّها للإمام علیه السلام »(2)، والمسألة وإنْ کانت اتفاقیة إلاّ أنّ الغرض أنَّ النصوص بها لیست مستفیضة ولا متواترة.

وأمّا ما ورد من أنّ الأرض کلّها للإمام علیه السلام فیعم الموات فلابدّ من حمله علی الملک بمعنی آخر، فیکون کملکه تعالی ملکا حقیقیا لا اعتباریا تَتَرَتَّبُ علیه الآثار، وذلک الملک الحقیقی یعمّ الأملاک والملاّک کما قدمناه فی مبحث الولایة»(3).

وقال فی بحث الولایات: «فإنّ الممکنات کما أنّها مملوکة له تعالی حقیقة بإحاطته الوجودیة علی جمیع الموجودات بأفضل أنحاء الإحاطة الحقیقیة کذلک النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام ، بملاحظة کونهم من وسائط فیض الوجود لهم الجاعلیة والإحاطة بذلک الوجه، بمعنی فاعل ما به الوجود لا ما منه الوجود، فأنّه مختص بواجب الوجود، ولا بأس بأنْ تکون الأملاک ومُلاّکها مملوکة لهم بهذا الوجه، وإنْ لم تکن هی مملوکة لهم بالملک الإعتباری الذی هو موضوع الأحکام الشرعیة»(4).

توضیح مقالة المحقّق الإصفهانی وترتیبها کما یلی: هذه المسألة «_ وهی کون الأرض الموات بالأصالة للإمام علیه السلام _ وان کانت اتفاقیة إلاّ أنّه لا یمکن إتمامها بالنصوص الواردة فی المقام _ وهی الطوائف المتقدمة _ حیث قد ناقش فی تلک الطوائف بأجمعها.

أمّا الطائفة الأولی وهی التی تصنّف إلی مجموعتین:

إحداهما: جاءت بهذا النص: «الأرض الخربة التی لم یوجف علیها بخیل ولا رکاب للإمام علیه السلام ».

والاُخری: جاءت بنص آخر: «کلّ أرض لا ربّ لها».

فقد ناقش قدس سره فی کلتا المجموعتین.

ص: 30


1- (83) المکاسب 4/13.
2- (84) التهذیب 4/126، ح5، وولم نجد الروایة فی الکافی.
3- (85) حاشیة المکاسب 3/15 و 16.
4- (86) حاشیة المکاسب 2/381.

أمّا المجموعة الاولی فقد قال: فیها کما عرفت بأنّ الأرض الخربة لا تشمل الموات بالأصالة، وتختص بالأرض الخربة المسبوقة بالعمارة.

وأمّا المجموعة الثانیة فقد قال: فیها بأنّها مُسَوِّقة لبیان ملکیّة الأرض للإمام علیه السلام بما هی لا ربّ لها، لا بما هی موات بالأصالة فلا تدلّ علی ملکیتها من هذه الحیثیة.

وأمّا الطائفة الثانیة: فقد ذکر قدس سره أنّها وإن کانت تعم الموات بالأصالة، إلاّ أنّه لابدّ من حملها علی الملک بمعنی آخر، فیکون کملکه تعالی ملکا حقیقیا، لا اعتباریا یترتب علیه الآثار، وذلک الملک الحقیقی یعم الأملاک، والملاّک»(1). أو أصل حلّیّة التصرف فی الأرض الموات.(2)

وأمّا الطائفة الثالثة: وهی النبویان العامیان فقد ذکر أنّهما غیر مرویین من طرقنا، و«صریح فی التملیک عن رضاه صلی الله علیه و آله غایة الأمر لابدّ من أن یقیّد بأدلة الإحیاء وأنّ الموات لهم بإحیائها»(3).

الجواب عن مناقشة المحقّق الإصفهانی

یجاب عن مناقشته من أنّ «الأرض الخربة مطلقة أو مقیدة فموردها المسبوقة بالعمارة لا الموات بالأصالة»(4) عدم تمامیة هذا الانصراف المدعی بأنّ المنصرف من الأرض الخربة هو المسبوقة بالعمارة فلا تشمل الموات بالأصالة فیردّه:

أوّلاً: ما ورد فی کلمات اللغویین من أنّ الخراب ضد العمران أو نقیضه فالنسبة بین العنوانین التضاد أو التناقض ولا ثالث لهما، ولا محالة الأراضی تنقسم إلی القسمین: أ: الخربة، ب: المعمورة ولا ثالث.

فالتقسیم ثنائیٌ وتکون الأرض الموات داخلاً فی الخربة.

وإلیک نص بعض کلماتهم:

ص: 31


1- (87) الأراضی /28.
2- (88) کما یظهر منه قدس سره فی حاشیة المکاسب 3/17.
3- (89) حاشیته علی المکاسب 3/17.
4- (90) حاشیة المکاسب 3/16.

قال الخلیل بن أحمد: «وعَمَرَ الناسُ الأرض یَعْمُرُونَها عِمارةً، ونهی عامرة معمورة ومنها العُمْران. واستعمر(1) اللّه النّاسَ لیَعْمُروها. واللّه أعمر الدّنیا عمرانا فجعلها تعمر ثمّ یُخَرِّبُها»(2).

وقال أحمد بن فارس: «عمر: العین والمیم والراء أصلان صیحان، أحدهما یدلُّ علی بقاء وامتداد زمان، والآخر علی شیء یعلو، من صوتٍ أو غیره... ومن الباب عمارة الأرض، یقال عَمَرَ الناسُ الأرضَ عِمارةً، وهم یَعْمُرُونها، وهی عامرة معمورةٌ. وقولهم: عامرة، محمولٌ علی عَمَرَتِ الأرضُ، والمعمورة من عُمِرت. والاسم والمصدر العُمْران. واستَعمر اللّه تعالی الناسَ فی الأرض لیعمرُوها. والباب کلُّه یؤول إلی هذا»(3).

وقال الراغب الإصفهانی: «العمارةُ نقیضُ الخرابِ، یقال: عَمَرَ أرْضَهُ یَعْمُرُها عِمارَةً...»(4).

وقال الجوهری: «الموت ضد الحیاة... والموات بالفتح ما لا روح فیه، والموات أیضا الأرض التی لا مالک لها من الآدمیین ولا ینتفع بها أحد... وقال الفراء: الموتان من الأرض التی لم تحی بعد. وفی الحدیث: موتان الأرض للّه ولرسوله فمن أحیی منها شیئا فهو له»(5).

وقال ابن الأثیر: «الموات: الأرض التی لم تزرع ولم تعمر ولا جری علیها ملک أحد وإحیاؤها مباشرة عمارتها وتأثیر شیءٍ فیها...»(6).

ص: 32


1- (91) ف_ (للّه) هو (المُسْتَعْمِرُ) لکن أسیئ استعمال هذه الکلمة القرآنیة المقدّسة فی ما یسمّی ب_ (القاموس السیاسیّ) فأصبحت تطلق علی الغزاة الطغاة (المحتلّین) مصاصی دماء الشعوب ومبتزّی خیرات أوطانها ومهدّمی أرضها.
2- (92) ترتیب کتاب العین /681.
3- (93) معجم مقاییس اللغة 4/140 و 141.
4- (94) المفردات /359.
5- (95) صحاح اللغة 1/266 و 267.
6- (96) النهایة 4/370.

وقال الطریحی: «والموات بالضم وبالفتح یقال لما لا روح فیه ویطلق علی الأرض التی لا مالک لها من الآدمیین ولا ینتفع بها إمّا لعطالتها أو لاستیجامها أو لبعد الماء عنها»(1).

وقال أیضا: «دار خربة بکسر الراء وهی التی باد أهلها، والخراب ضد العمارة»(2).

وثانیا: «لا موجب لدعوی مثل هذا الانصراف، ضرورة أنّ المنصرف منها عرفا لیس هذا المعنی، بل المنصرف منها عند العرف حسب ما هو المرتکز فی أذهانهم هو المعنی الذی یکون فی مقابل المعنی المنصرف من الأرض العامرة عرفا بتقابل التضاد کالمعنی المتفاهم من الأرض المیتة فی مقابل المعنی المتفاهم من الأرض المحیاة، فکما أنّ الأرض العامرة تشمل العامرة طبیعیا، والعامرة بشریا، کذلک الأرض الخربة تشمل الخربة بالأصالة، والخربة بالعرض.

فالنتیجة أنّه لا منشأ لهذا الاختصاص ولا یوجب لتلک الدعوی، وأنّ الأرض الخربة کالأرض المیتة، فکما انها تشمل المیتة بالأصالة والمیتة بالعرض، فکذلک الأرض الخربة»(3).

وثالثا یجاب عن مناقشته فی المجموعة الأولی من الطائفة الاُولی: إن کان الانصراف المدعی «یقوم علی أساس أنّ مورد روایاتها خصوص ما إذا کانت مسبوقة بالعمران دون الأعم منها ومن الموات بالأصالة، فیردَه:

أ: أنّ الأمر لیس کذلک، فإنّ الروایات التی تتضمن الأرض الخربة تصنّف إلی ثلاثة أصناف:

الأوّل: جاء بهذا النص: کلُّ أرض خربة للإمام علیه السلام .(4)

الثانی: جاء بنص آخر: ما کأن من الأرض بخربة لم یوجف علیها بخیل ولا

ص: 33


1- (97) مجمع البحرین /144.
2- (98) مجمع البحرین /108.
3- (99) الأراضی /16.
4- (100) وسائل الشیعة 9/523، ح1 و 8 و 10 وکلّها معتبرات.

رکاب.(1)

الثالث: جاء بنص ثالث: کلُّ أرض خربة باد أهلها.(2)

وبعد ذلک نقول:

أمّا الصنف الأوّل: فلا یکون فیه مادلّ علی أنّ مورده خصوص الأرض الخربة التی کانت مسبوقة بالعمارة.

وإن شئت قلت: أنّه لیس هنا قرینة لا من الخارج ولا من الداخل علی أنّ مورده الأرض الخربة المسبوقة بالعمارة، وعلیه فمقتضی عمومه شموله لکلِّ أرض خربة، سواء أکانت خربة بالأصالة أم کانت بالعرض.

وأمّا الصنف الثانی: فأیضا لا دلیل علی أنّ مورده الأرض الخربة المسبوقة بالعمران فحسب، دون الأعم منها ومن الموات بالأصالة. وقد ذکرنا سابقا أنّه یعم الأرض الخربة التی لیس لها أهل ومن الطبیعی أنّ الأرض الخربة التی کانت کذلک تشمل الخربة بالأصالة أیضا.

نعم، الأرض الخربة التی یکون لها أهل لا تشملها نظرا إلی أنّ فرض الأصل لها خلف، حیث أنّه لا یمکن إلاّ بقیام الفرد بإحیائها وعمارتها... لما أنّه لا یمکن فرض تحقق العلاقة بین الفرد والأرض ابتداءً، سواء أکانت علی مستوی الملک أم کانت علی مستوی الحقّ إلاّ بقیامه باستثمارها وإحیائها، ثمّ بعد ذلک إذا عرض علیها الخراب فهل یوجب خروجها عن نطاق علاقته بها نهائیا أو لا؟! ففیه [ما مرّ(3)].

واما الصنف الثالث: فهو وان کان مورده خصوص الأرض الخربة المسبوقة بالعمارة بقرینة فرض وجود الأهل لها إلاّ أنّ هذا الصنف ضعیف من ناحیة السند فلا یمکن الاعتماد علیه علی أنّه لا یصلح أنْ یکون مقیدا لإطلاق الصنفین الأوّلین کما هو ظاهر.

ص: 34


1- (101) وسائل الشیعة 9/531، ح20 موثقة إسحاق بن عمار.
2- (102) وسائل الشیعة 9/533، ح28 مرسلة أبی بصیر.
3- (103) راجع الأراء الفقهیة 3/473 من «أنّها باقیة علی ملک مالکها ولو طرا علیه الموات».

هذا اضافة إلی عدم الحاجة إلیه، حیث أنّه یکفی لإثبات ما هو المقصود فی المقام الصنفان الأولان.

ب: علی تقدیر تسلیم أنّ مورد الروایات الأرض الخربة المسبوقة بالإحیاء إلاّ أنّ المتفاهم العرفی منها عدم خصوصیة للمورد، جزما وأنّه لا فرق بین المسبوقة بالإحیاء وغیر المسبوقة به»(1).

ورابعا: یجاب عن مناقشته فی المجموعة الثانیة من الطائفة الأولی: «إنّ هذه الدعوی(2) إن کانت تقوم علی أساس أنّه لا إطلاق لها بالإضافة إلی الموات بالأصالة، وانما هی ناظرة إلی ملکیة الأرض للإمام علیه السلام بما هی لا ربّ لها فعلاً من ناحیة إبادة أهلها أو انجلائه أو ما شاکل ذلک.

فیرده: انه لا شیهة فی إطلاقها وعمومها لکلِّ أرضٍ لا ربَّ لها سواء أکان عدم رب لها بالذات کالموات بالأصالة أو العامرة کذلک أو بواسطة أمر طارء کالموات بالعرض أو العامرة کذلک.

وإن کانت تقوم علی أساس أنّها تدلّ علی ملکیة الإمام علیه السلام بهذا العنوان أی بعنوان لا ربَّ لها، ولا تدلّ علیها بعنوان آخر کالموات بالأصالة، فإذن لا دلیل علی أنها ملک للإمام علیه السلام .

فیرده: أنّها وإن کانت تدلّ علی ذلک، إلاّ أنّ هذا العنوان أی عنوان «ما لا رب لها» لیس فی مقابل عنوان الموات بالأصالة، بل هو ینطبق علیها انطباق العنوان علی معنونه، والکلّی علی أفراده.

ومن الطبیعی أنّ کلّ ما ینطبق علیه عنوان «ما لا رب لها» فهو داخل فی نطاق ملکیة الإمام علیه السلام ، وقد عرفت أنه لا شبهة فی انطباق هذا العنوان علی الموات بالأصالة.

ص: 35


1- (104) الأراضی /17 و 18.
2- (105) «دعوی ان هذه النصوص التی جاءت بهذا العنوان «الأرض التی لا رب لها» مسوقة لبیان مالکیة الإمام علیه السلام للأرض بما هی لا رب لها، لا بما هی موات بالأصالة، فحینئذ لا تدلّ علی أنّ الموات بالأصالة بما هی موات ملک للإمام علیه السلام ». [الأراضی /25].

وإن شئت قلت: أنّ حیثیة الموات بالأصالة للأرض لا یتباین حیثیة ما لا رب لها بحیث لا یمکن التقائهما فی أرض واحدة، لیقال أنّ مادل علی ملکیة الأرض من الحیثیة الأولی لا یدلّ علی ملکیتها من الحیثیة الثانیة لعدم انطباقها علی ما تنطبق علیه الأولی.

بل هما متداخلتان تداخل الأخص فی الأعم، ومنطبقتان فی الخارج علی أرض واحدة، فالأرض الموات بالأصالة تنطبق علیها حیثیة ما لا ربَّ لها، وهی داخلة فی نطاق ملکیة الإمام علیه السلام .

ومن الطبیعی أنّه لا فرق فی دخولها فی نطاق ملکیته علیه السلام بین أن یکون من جهة حیثیتها الخاصة وهی الموات بالأصالة، أو من جهة حیثیتها العامة التی تنطبق علیها وعلی غیرها _ وهی حیثیة ما لا ربّ لها _»(1).

وخامسا: یجاب عن مناقشته فی الطائفة الثانیة: أ: «لا موجب لحمل الملک فی هذه الطائفة من النصوص علی الملک الحقیقی بالمعنی المذکور، لوضوح أن هذا الحمل بحاجة إلی عنایة زائدة، فلا یمکن الذهاب إلیه من دون قرینة تشهد علی ذلک.

وبکلمة أخری: لا شبهة فی ظهور النصوص فی الملک الاعتباری ولا یمکن رفع الید عن هذا الظهور إلاّ عند توفر قرینة علی الخلاف ولا قرینة فی المقام لا من الداخل، ولا من الخارج»(2).

ب: و«لو أغمضنا النظر عن ظهور النصوص فی نفسها فی ملکیَّةِ الأرض للإمام علیه السلام بالملکیة الاعتباریة الشرعیة، إلاّ أنّ فی ذیلها قرائن تشهد علی ذلک، وتؤکد أنّ ملکیة الإمام علیه السلام للأرض کلّها حکم شرعی، ومن جهة تلک القرائن لا مناص من الالتزام بذلک.

منها: فرض الطسق والإُجرة له علیه السلام فیها تفریع علی ملکیته لها، وهذا شاهد قطعی علی أنّ ملکیته علیه السلام لها حکم شرعی، لا تکوینی خارجی، ولا روحی محض.

ومنها: تحلیله علیه السلام الأرض للشیعة، دون غیرهم تفریعا علی ملکیته لها، فإنّه یدلّ

ص: 36


1- (106) الأراضی /25 و 26.
2- (107) الأراضی /29.

علی أنّ الملکیة هنا حکم شرعی لا غیره، نظرا إلی ظهور النصوص فی التحلیل المالکی.

ومنها: فرض أنّ القائم(عج) إذا ظهر أخذ الأرض من أیدی غیر الشیعة، وأخْرَجَهُمْ(1) منها صِفْرا(2)، فإنّه یدلّ بوضوح علی أنّ ملکیتها للإمام علیه السلام حکم شرعی، لا تکوینی، ولا معنوی، حیث أنّ شیئا منهما لا یکون مانعا عن تملک غیره وتصرفه فیها، ولا یکون محرّما کما فرض فیها»(3).

وأمّا مناقشته فی الطائفة الثالثة: فمتینة جدّا حیث لا یمکن الاستدلال بالنبویین المذکورین لعدم ثبوتهما عندنا.

تنبیهات
الأوّل: ما المراد من ملکیة الأنفال للإمام علیه السلام

«إنّ المراد من ملکیة الأنفال للإمام علیه السلام ملکیة منصب الإمامة وقد یعبّر عنها بملکیة الدولة علی أساس أنّ مرّد ملکیة منصب الإمامة إلی ملکیة الدولة، ولیست ملکا خاصا للإمام علیه السلام کسائر أملاکه الخاصة فإنّه _ مضافا إلی بُعد ذلک فی نفسه _ یدلّ علیه أمران:

الأوّل: نصوص الباب _ بمناسبة الحکم والموضوع _ فإنّها تصنف إلی مجموعتین:

إحداهما: جاءت بهذا اللسان «الأرض کلها لنا» کما فی صحیحة مسمع بن عبدالملک، وصحیحة الکابلی، فهذه المجموعة تدلّ _ بمناسبة الحکم والموضوع _ علی أنّها ملک عام للمنصب یعنی _ منصب الإمامة _ ، لا أنّها ملک خاص للفرد.

والأُخری: جاءت بلسان: أنّ الأنفال للإمام صلی الله علیه و آله وسلم ، وفی بعضها أنّها للرسول صلی الله علیه و آله ومن بعده للإمام علیه السلام فإنّها تدلّ بوضوح علی أنّها ملک لمنصب الرسالة والإمامة.

الثانی: أنّها لو کانت ملکا خاصا للإمام علیه السلام لکانت من جملة ترکته علیه السلام بعده، وتقسم میراثا بین ورثته، مع أنّ الأمر لیس کذلک جزما. بل هی تنتقل من إمام إلی إمام

ص: 37


1- (108) وفی المصدر: «ویخرجهم».
2- (109) وفی المصدر: «صفرة».
3- (110) الأراضی /31.

آخر سواء أکان للإمام السابق وارث غیره أم لا.

فالنتیجة: أنّه لا شبهة فی انّها ملک عام للمنصب، لا للشخص.

ثمّ ان هذه الملکیة بطبیعة الحال تمتد بامتداد الإمامة، وتصرف منافعها فی مصالح الدولة ونفقات الحکومة»(1).

التنبیه الثانی: بماذا یتحقّق احیاء الأرض المیتة؟

قد ورد فی عدّة من الروایات أنّ عملیة الإحیاء تُوْجِبُ ملکیّة الأرض فما هی هذه العَمَلِیَّةُ؟

قال الشیخ: «وأمّا ما به یکون الإحیاء فلم یرد الشرع ببیان ما یکون إحیاء دون ما لا یکون غیر أنّه إذا قال النبیّ _ علیه وآله السلام _ : «من أحیا أرضا فهی له»، ولم یوجد فی اللّغة معنی ذلک، فالمرجع فی ذلک إلی العرف والعادة، فما عرفه النّاس إحیاء فی العادة کان إحیاء، وملکت به الموات، کما أنّه لما قال: «البیّعان بالخیار ما لم یفترقا»، «وأنّه نهی عن بیع ما لم یقبض»، و«أنَّ القطع یجب فی قیمة المجنَّ»، رجع فی جمیع ذلک إلی العادة.

فإذا ثبت ذلک فجملة ذلک علی أنّ الأرض تحیی للدار والحظیرة والزراعة فاحیاؤها للدّار فهی بأن یحوط علیها حائط ویسقّف علیه، فإذا فعل ذلک فقد أحیاها وملکها ملکا مستقرّا ولا فرق بین أن یبنی الحائط بطین أو بآجر وجصّ أو خشب.

وأمّا إذا أخذها للحظیرة فقدر الإحیاء أن یحوطها بحائط من آجر أو لبن أو طین وهو الرهص أو خشب ولیس من شرط الحظیرة أن یجعل لها سقف، وتعلیق الأبواب فی الدور والحظیرة لیس من شرطه، وفیهم من قال هو شرط والأوّل أقرب.

وأمّا الإحیاء للزراعة فهو أن یجمع حولها ترابا وهو الّذی یسمی مرزا وأن یرتّب لها الماء إمّا بساقیة فیحفرها ویسوق الماء فیها، أو بقناة یحفرها أو بئر أو عین یستنبطها ولاخلاف أنَّ هذه الثلاثة شرط فی الإحیاء للزّراعة وفی النّاس مَنْ ألحق بها أن یزرعها ویحرثها، والصحیح أنّه لیس من شرطه، کما أنّ سکنی الدار لیس من شرط الإحیاء.

ص: 38


1- (111) الأراضی /187.

وأمّا إذا أحیاها للغراس، فإنّه یملکها إذا ثبت الغراس فیها ورتّب الماء فیها فإذا فعل ذلک فقد أحیاها فإذا أحیاها وملکها فانّه یملک مرافقها الّتی لا صلاح للأرض إلاّ بها»(1).

وقال المحقّق: «کیفیة الإحیاء: والمرجع فیه إلی العرف، لعدم التنصیص شرعا ولغةً.

وقد عَرَف انّه إذا قصد سکنی أرضٍ، فأحاط ولو بخشبٍ أو قصبٍ وسقفٍ، ممّا یمکن سکناه، سمّی إحیاءً. وکذا لو قصد الحظیرة، فاقتصر علی الحائط من دون السقف. ولیس تعلیق الباب شرطا.

ولو قصد الزّراعة، کفی فی تملیکها التحجیر بمرزٍ أو مسنّاة. وسوق الماء إلیها بساقیةٍ أو ماشابهها. ولا یشترط حراثتها ولا زراعتها، لأنّ ذلک انتفاع کالسّکنی.

ولو غرس أرضا فنبت فیها الغرس، وساق إلیها الماء، تحقّق الإحیاء. وکذا لو کانت مستأجمةً(2)، فعضد شجرها وأصلحها. وکذا لو قطع عنها المیاه الغالبة، وهیّأها للعمارة، فإنّ العادة قاضیةٌ بتسمیة ذلک کلّه إحیاءٌ، لأنه أخرجها بذلک إلی [حدّ] الانتفاع، الذی هو ضدّ الموات. ومن فقهائنا الآن من یسمّی التحجیر إحیاءً، وهو بعیدٌ»(3).

قال العلاّمة: «وأمّا الإحیاء فإنّ الشرع ورد به مطلقا، ولم یعیّن له معنیً یختصّ به، ومن عادة الشرع فی مثل ذلک ردّ النّاس إلی المعهود عندهم المتعارف بینهم، کالقبض، فإنّه ورد فی الشرع مطلقا ولم ینصّ له علی معنیً، فیرجع الفقهاء فیه إلی الاستعمال المتداول بین النّاس، وکذا الحرز، ونظائره کثیرة، وکذا الإحیاء، وإنّما یظهر معناه بین النّاس فی عرفهم فیُنزّل علیه، ویکون المراد به فی نظر الشرع کلّ ما یُعدّ إحیاءً فی العرف، وذلک یختلف باختلاف ما یُقصد عمارته من الموات»(4).

ص: 39


1- (112) المبسوط 3/271 و 272.
2- (113) هی الموضعُ الذی یکثُرُ فیه القَصَبُ. وغالبا ما تکونُ مَأْسَدَةً؛ أیْ مَوْضِعا للأُسُوْد.
3- (114) الشرائع 3/219 و 220.
4- (115) تذکرة الفقهاء 19/351.

وقال أیضا: «من عادة الشرع أنّه إذا أطلق لفظا ولم ینصّ علی مسمّی عنده یخالف العرف فإنّه یُنزّل علی معناه فی العرف، کالقبض والحرز فی السرقة والتفرّق، فإنّ الشرع ورد بذلک فی قوله علیه السلام : «البیّعان بالخیار ما لم یتفرّقا»(1) وأنّه نهی عن بیع ما لم یقبض(2)، وأنّ القطع یجب علی السارق من الحرز(3)، ولم یبیّن کیفیّته.

وإنّما یرجع إلی العرف؛ لأنّه علیه السلام لا یعلّق حکما إلاّ علی ما إلیه طریق، فلمّا لم یبیّنه دلّ علی أنّ طریقه العرف، وإلاّ لزم تکلیف ما لا یطاق؛ إذ لا طریق غیره.

وقد ورد الشرع بالإحیاء ولم یبیّنه، فانصرف إطلاقه إلی المتعارف بین النّاس، وذلک یختلف باختلاف المُحیا، فالأرض قد تُتّخذ للسکنی والحظیرة والمزرعة، وإحیاء کلّ واحدٍ من ذلک بتهیئتها للانتفاع الذی أُریدت له، ویظهر بصُورٍ تشتمل علی مسائل:

مسألة: إذا أراد السکنی فی الملک [الذی] یقصد إحیاءه، وإنّما یکون ذلک بصیرورته دارا، وإنّما یصیر کذلک بأن یدار علیها حائط ویُسقَّف بعضها؛ لأن السکنی لا یکون إلاّ بذلک، والتحویط إمّا بالآجُرِ أو اللَّبِن أو بمحض الطین أو ألواح الخشب أو

ص: 40


1- (116) مسند أحمد 2/74، ح4552 و4/403، ح14890 و5/586، ح19312 و5/639، ح19629؛ صحیح البخاری 3/76 و 77 و 84 و 85؛ صحیح مسلم 3/1164، ح1532؛ سنن ابن ماجه 2/736، ح2182 و 2183؛ سنن أبی داوُد 3/(274-273)، ح3457 و 3459؛ سنن الترمذی 3/(547-550)، ح 1245-1247؛ سنن النسائی (المجتبی) 7/(245-244) و (249-247) و 251؛ السنن الکبری (للنسائی) 4/5، ح6049-1؛ سنن الدارقطنی 3/6، ح14؛ المستدرک (للحاکم) 2/16؛ السنن الکبری (للبیهقی) 5/(271-269)؛ المصنّف (لابن أبی شیبة) 7/(126-124)، ح 2609-2607 و 2611 و 7/127، 2617.
2- (117) مسند أحمد 1/355، ح1850؛ صحیح البخاری 3/89؛ السنن الکبری (للنسائی) 4/(36-35)، ح6188-2 و 6192-6؛ السنن الکبری (للبیهقی) 5/313؛ المعجم الکبیر (للطبرنی) 11-11، ح10871 و 10872، و 12/10874 و 10875؛ المصنّف (لابن أبی شیبة) 6/368، ح1378.
3- (118) السنن الکبری (للبیقهی) 8/263.

القصب بحسب العادة، ولا یجب تعمیم السقف علی الحیطان الدائرة علی البقعة، بل یکفی فیه ما یمکن السکنی معه، ولأنّ اسم الدار حینئذٍ یقع علیه.

هذا قول الشیخ(1) رحمه الله ، وهو قول أکثر الشافعیّة(2).

وبعضهم لم یشترط التسقیف فی إحیاء الدار.(3)

وهو إحدی الروایتین عن أحمد، فإنّه اکتفی بتحویط الجدار لا غیر؛ لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «مَنْ أحاط حائطا علی أرضٍ فهی له»(4).

ولأنّ الحائط حاجز منیع، فکان إحیاءً، کما لو جعلها حظیرةً للغنم؛ لأنّ القصد لا اعتبار به، لأنّه لو أرادها حظیرةً للغنم فبناها بجصٍّ وآجُرٍ وقسّمها بیوتا فإنّه یملکها، وهذا لا یعمل للغنم مثله، ولأنّه لو بناها للغنم مَلَکها بمجرّد الحائط، فإذا مَلَکها جاز له أن یبنیها دارا من غیر اشتراط تسقیفٍف(5)، ولا بأس بذلک.

واشترط أکثر الشافعیّة فی إحیاء الدار تعلیق الباب؛ لأنّ العادة فی المنازل أن یکون لها أبواب، وما لا باب له لا یُتّخذ مسکنا.(6)

ولم یذکره الشیخ رحمه الله ولا بعض الشافعیّة؛ لأنّ نصب الباب للحفظ، والسکنی لا تتوقّف علیه.

ص: 41


1- (119) المبسوط 3/271.
2- (120) الحاوی الکبیر 7/486؛ المهذّب (للشیرازی) 1/431؛ نهایة المطلب 8/292؛ الوجیز 1/244؛ الوسیط 4/225؛ حلیة العلماء 5/498؛ التهذیب (للبغوی) 7/493؛ البیان 7/415؛ العزیز شرح الوجیز 6/244؛ روضة الطالبین 4/354.
3- (121) نهایة المطلب 8/295؛ العزیز شرح الوجیز 6/244؛ روضة الطالبین 4/354.
4- (122) المصنّف (لابن أبی شیبة) 7/76، ح2432؛ مسند أحمد 5/638، ح19620 و 5/653، ح19726؛ سنن أبی داوُد 3/179، ح3077؛ المعجم الکبیر (للطبرانی) 7/252، ح6866 و 6867؛ السنن الکبری (للبیهقی) 6/148.
5- (123) المغنی 6/(198-197)؛ الشرح الکبیر 6/(179-178).
6- (124) المهذّب (للشیرازی) 1/431؛ الوجیز 1/244؛ حلیة العلماء 5/498؛ البیان 7/415؛ العزیز شرح الوجیز 6/244؛ روضة الطالبین 4/354.

مسألة: لو أراد إحیاء أرضٍ یتّخذها زَرِیْبَةً للدوابّ أو حظیرةً تجفَّف فیها الأثمار أو یجمع الحطب أو الحشیش، اشتُرط التحویطُ لا غیر، ولا یشترط التسقیف هنا إجماعا؛ قضاءً للعرف فیه، ولا یکفی نصب سعفٍ وأحجار من غیر بناءٍ؛ لأنّ المتملّک لا یقتصر علیه فی العادة، وإنّما یفعل مثله المجتاز المرتفق.

ولو حوّط بالبناء فی طرفٍ واقتصر للباقی علی نصب الأحجار والسعف، [ف]للشافعیّة قولان، أحدهما: الاکتفاء، والثانی: عدمه.(1)

ولا یشترط التسقیف هنا إجماعا.

وفی اشتراط تعلیق الباب ما سبق من الخلاف.

مسألة: لو قصد الإحیاء لاتّخاذ الموات مزرعةً، اعتُبر فی إحیائه أُمور:

الأوّل: جمع التراب حوالیه لینفصل المُحیا عن غیره، ویُسمّی المرز، وفی معناه نصب قصبٍ وحجرٍ وشوکٍ وشبهه، ولا حاجة إلی التحویط إجماعا، فإنّ معظم المزارع بارزة.

الثانی: تسویة الأرض بطمّ الحُفَر التی فیها، وإزالة الارتفاع من المرتفع، وحراثتها، وتلیین ترابها، فإن لم یتیسّر ذلک إلاّ بماءٍ یساق الیها فلابدّ منه لتتهیّأ الأرض للزراعة.

الثالث: ترتیب مائها إمّا بشقّ ساقیةٍ من نهرٍ أو حفر بئرٍ أو قناةٍ وسقیها إن کانت عادتها أنّها لا تکتفی فی زارعتها بماء السماء، وإن اکتفت به فلا حاجة إلی سقیٍ ولا ترتیب ماءٍ.

وإذا احتاجت فی السقی إلی النهر، وجب تهیئة ماءٍ من عینٍ أو نهرٍ أو غیرهما.

فإذا هیّأة، فإن حفر له الطریق ولم یبق إلاّ إجراء الماء فیه کفی، ولم یشترط إجراء الماء ولا سقی الأرض، وإن لم یحفر بَعْدُ، فللشافعیّة وجهان.(2)

وبالجملة، السقی نفسه غیر محتاجٍ إلیه فی تحقّق الإحیاء، إنّما الحاجة إلی ترتیب

ص: 42


1- (125) العزیز شرح الوجیز 6/244؛ روضة الطالبین 4/354.
2- (126) العزیز شرح الوجیز 6/245؛ روضة الطالبین 4/354.

ماءٍ یمکن السقی منه.

وأراضی الجبال التی لا یمکن سَوْقُ الماء إلیها ولا یصیبها إلاّ ماء السماء قال بعض الشافعیّة: لا مدخل للإحیاء فیها، وبنی علیه أنّا إذا وجدنا شیئا من تلک الأراضی فی ید إنسانٍ لم یُحکم بأنّه ملکه، ولا یجوز بیعه وإجارته.

والوجه: أنّها تُملک بالحراثة وجمع التراب علی الحدود، وکثیر من المزارع تستغنی عن سوق الماء [إلیها] بالمطر.

وهل تشترط الزراعة لحصول الملک فی الزراعة؟ الوجه: العدم؛ فإنّ الزراعة استیفاء منفعة الأرض، واستیفاء المنفعة خارج عن حدّ الإحیاء، کما أنّه لا یعتبر فی إحیاء الدار أن یسکنها، وهو أحد وجهی الشافعیّة، والثانی: الاشتراط؛ لأنّ الدار والزریبة لا تصیر محیاةً إلاّ إذا حصل فیها عین مال المُحیی، وکذا المزرعة.(1)

مسألة: لو قصد الإحیاء بزرع بستانٍ فلابدّ من التحویط، ویرجع فیما به یحوّط إلی العادة، فإن کانت عادة البلد بناء الجدار لزم البناء، وإن کانت عادتهم الحظیرة بالقصب والشوک وربما ترکوه أیضا کما فی البصرة وقزوین، اعتُبرت عادتهم، وحینئذٍ یکفی جمع التراب حوالیه، کالمزرعة.

والقول فی سَوْقِ الماء إلیه علی ما تقدّم فی المزرعة.

وهل یعتبر غرس الأشجار أم لا؟ مَن اعتبر الزرع فی المزرعة اعتبر [الغرس] فی البستان بطریق الاُولی، ومَنْ لم یعتبره اختلفوا فی الغرس علی وجهین، ومُعظمهم اعتبره.

والفرق: أنّ اسم المزرعة یقع علی البقعة قبل الزراعة، واسم البستان لا یقع قبل الغراس، ولأنّ الزرع یسبقه تقلیب الأرض وحرثها، فجاز أن یقام مقامه، والغرس لا یسبقه شیء یقام مقامه، ولأنّ الغرس یدوم، فأُلحق بأبنیة الدار، والزرع بخلافه.(2)

والوجه: أنّه لابدّ من أحد أمرین: إمّا الحائط أو الغرس لیتحقّق الاسم.

ص: 43


1- (127) الوسیط 4/225؛ التهذیب (للبغوی) 4/494؛ البیان 7/416؛ العزیز شرح الوجیز 6/245؛ روضة الطالبین 4/355.
2- (128) العزیز شرح الوجیز 6/(246-245)؛ روضة الطالبین 4/355.

وکذا الأرض إذا زُرعت بماءٍ سبق إلیها فقد تمّ الإحیاء وإن لم یجمع التراب حولها.

تنبیه: لو کانت الأرض مستأجمةً فعضد شجرها وأصلحها، أو کانت المیاه غالبةً فقطعها عنها وهیّأها للعمارة، کان ذلک إحیاءً عرفا»(1).

قال صاحب الجواهر: «(و) لا خلاف بین الأصحاب فی أنّ (المرجع فیه إلی العرف؛ لعدم التنصیص شرعا) علی کیفیّة خاصّة له حتّی تقدّم علیه (و) لا (لغةً) لو قلنا بتقدّمها علیه، وما کان کذلک فلا إشکال فی الرجوع فیه إلی العرف»(2).

والظاهر أنّ الإحیاء «یتحقّق بخلق الفرد بجهوده وعمله فی الأرض الشروط التی تتیح له فرصة الاستفادة منها وتجعلها قابلة للانتفاع والانتاج، علی أساس ان تلک الشروط لم تکن متوفرة فیها قبل ممارسة الفرد بخلقها ولم تکن صالحة للانتفاع والانتاج منها. ثمّ إنّ خلق تلک الشروط انّما هو بإزالة الصخور عن وجهها، وتوفیر المیاه فیها وإزالة ارتفاعها، وقطع ما فیها من الأشجار والحطب، وغیر ذلک ممّا له دخل فی صلاحیتها للاستفادة.

ومن الطبیعی أنّ هذه الفرصة لم تکن متاحة قبل إحیائها، وانّما نتجت عن عملیة الإحیاء: والعامل علی أساس خلقه تلک الفرصة فیها بعمله وجهوده اکتسب حقا فیها، ومن أجْلِ(3) ذلک یکون أولی بها من غیره.

أو فقل: إنّ العامِلَ یملک الفرصة المزبورة بوصف کونها نتیجة عمله وجهوده: ولیس لأحد أن یزاحمه فی الاستفادة من تلک الفرصة.

وبعد ذلک: فهذه الأرض تصلح للانتفاع والانتاج بزرع، أو غرس أشجار، أو ما شاکل ذلک، ولا یعتبر فی صدق إحیائها حراثتها، ولا زراعتها، وهکذا، فإنّ کلّ ذلک انتفاع بها بعد الإحیاء.

نعم، انّ ما ذکرناه انّما هو إحیاء للأرض بما هی.

ص: 44


1- (129) تذکرة الفقهاء 19/(456-451).
2- (130) الجواهر 39/95 (38/65).
3- (131) فی المصدر: «ومن أجل».

واما إذا أراد الفرد إحیاء الدارِ فیها أو الحظیرة أو البستان أو نحو ذلک، فانّه بخلقه اتاحة الفرصة لبدأ العمل فی تلک الأشیاء وان کان قد اکتسب حقا فی الأرض، ولیس لاِخر أن یزاحمه فی ذلک، إلاّ أنّ إحیاء هذه الأشیاء إنّما هو بتحقّقها بمالها من العناوین الخاصة، فإحیاء الدار لایتحقّق إلاّ بإحداث ما هو مقوم لها من الحیطان والسقف وغیرهما مما هو دخیل فی صدق عنوانها.

وعلی الجملة: فَإحیاء کلِّ شیءٍ عبارة من إحداث ذلک الشیء فی الخارج بعنوانه، ومن الطبیعی أنّه یختلف باختلاف أجزائه الرئیسیة المقومة له»(1).

بقی هنا أمر؟

وهو هل الإحیاء منوط بالقصد ویعتبر فی صدقه قصده أم لا؟

«ظاهر ما مرّ من المبسوط والشرائع والتذکرة وکذا المسالک(2) أن صدق الإحیاء یختلف بحسب ما یقصد من العمارة، فالتحویط علی أرض بقصد الحظیرة إحیاء لها وبقصد الدار تحجیر ولا یصدق علیه الإحیاء إلاّ بعد التسقیف ولو ببعضها.

ویظهر من بعض عدم دخل القصد فی ذلک وأنّه یکتفی بأدنی العمارات فی صدق الإحیاء مطلقا.

ویظهر من موضع من التذکرة أیضا اختیار ذلک.

قال: «لو قصد نوعا وفعل إحیاء یملک به نوعا آخر، کما إذا حوّط بقعة بقصد السکنی، وهذا الإحیاء إنما یتحقق فی تملک حظیرة الغنم وشبهها هل یفید الملک؟ الوجه عندی ذلک، فإنّه ممّا ییملک به الحظیرة لو قصدها وهو أحد وجهی الشافعیة. والثانی أنّه لا یملک به وإلاّ لزم الاکتفاء بأدنی العمارات أبدا، واستحالة التالی ممنوعة»(3).

ویظهر من الجواهر کفایة القصد المتأخر بسبب العدول، قال: «کما یجوز العدول عن قصد الدار بعد التحویط واتخاذها حظیرة، فإنّه یملکها بذلک لصدق الإحیاء علیها

ص: 45


1- (132) الأراضی /183 و 184.
2- (133) المسالک 12/424.
3- (134) تذکرة الفقهاء 19/457، مسألة 1198.

عرفا ولو باعتبار إخراجها عن التعطیل الأوّل وصیرورتها ذات منفعة تخرج بها عن اسم الموات»(1)»(2).

أقول: ولکن الظاهر «إنّ الأُمور الخارجیة التکوینیة لیس قوامها وافتراق بعضها عن بعض بالقصد، وإنّما یتقوم به ویمتاز بسببه الأمور الاعتباریة المحضة. والإحیاء والعناوین الحاصلة بسببه أمور خارجیة تکوینیة فلا تتقوم ولا تمتاز بالقصد.

ویؤید ذلک أنه لوحوّط رجل أرضا فالعرف إما أن یحکم علیه بأنه إحیاء أو لا یحکم، لا أنهم یحیلون الأمر إلی السؤال عن المحوّط وعن قصده وأنه هل قصد بالتحویط الحظیرة أو الدار مثلاً. وعلی هذا فالملاک فی صدق الإحیاء تهیّؤ الأرض فعلاً لأن ینتفع بها بواحد من الانتفاعات المتعارفة المترقبة، فتدبّر»(3).

الثالث: الإحیاء سببٌ لملکیة الأرض للمحیی

هل الإحیاء سبب ملکیة الأرض لمحییها _ کما هو المختار وقد تقدم منّا البحث فی الکتاب(4) _ أو توجب صلة المحیی بالأرض علی مستوی الحقّ فحسب دون الملک(5)، وتظهر ثمرة القولین فی الموات بالعرض إذا کانت لها سابقة الإحیاء الإنسانی فعلی الأوّل _ وهو المختار _ بقاء رقبة الأرض علی ملک مالکها المحیی أو ورثته، وعلی الثانی أحقّیّه المحیی مَنُوْطَةٌ ببقاء إحیائه وإذا خربت الأرض وذهبت آثار إحیاء المحیی فقد سقطت أحقّیته ویجوز للغیر إحیاوها وأمّا علی ملکیة رقبة الأرض فلا یجوز للغیر التصرف فیها ولذا قلنا: «والحاصل ما یظهر لنا من الروایات هو القول بملکیة رقبة الأرض للمحیی _ بلا فرق بین کونه مؤمنا أو مسلما أو کتابیا أو مشرکا _ ولا تخرج عن ملکه إلاّ

ص: 46


1- (135) جواهر الکلام 39/97.
2- (136) دراسات فی ولایة الفقیه 4/183 و 184.
3- (137) دراسات فی ولایة الفقیه 4/185.
4- (138) الآراء الفقهیة 3/472.
5- (139) کما اختاره آیة اللّه الشیخ محمّدإسحاق الفیاض _ دام ظله _ فی کتابه الأراضی /184 وما قبلها.

بالإعراض أو الأسباب الناقلة للملک، کما علیه المشهور من أصحابنا، ولا یجوز لأحد إحیاؤها أو التصرف فیها إلاّ بإذنه.

نعم، لو لم یکن للأرض مالک معلوم یجوز إحیاؤها ولکن لو علم المحیی أو حضر المالک یجب علی المحیی ردّ رقبة الأرض والاُجرة له»(1).

2_ الأرض العامرة بالأصالة
اشارة

وهی الأراضی التی کانت عامرة بالأصل أی لا مِنْ مُعَمِّرٍ فهی من الأنفال وتکون للإمام علیه السلام .

والوجه فیه عدم تحقّق ما هو الملاک لتملک الشخص وهو الإحیاء.

قال العلاّمة فی القواعد: «کل أرض لم یجر علیها ملک لمسلمٍ فهی للإمام»(2).

قال فی المفتاح: «کما طفحت بذلک عباراتهم بلاخلاف من أحد، وفی التذکرة(3) الإجماع علیه. وهذ إذا کانت الأرض فی بلاد الإسلام کما فی التحریر(4) وغیره(5)، لأنّ أراضی بلاد الکفر إذا جری علیها ملک الکافر فهی له، وإن کان بالإحیاء ولا تکون للإمام علیه السلام بل تعتبر حالها باعتبار جریان أحکام المسلمین علیها من کونها عنوةً أو صلحا أو أسلموا علیها طوعا. ولا فرق فی هذه الأرض بین أن تکون مواتا وأن تکون قابلة للانتفاع بغیر إحیاء»(6).

ص: 47


1- (140) الآراء الفقهیة 3/(473-472).
2- (141) القواعد 2/267؛ ونحوها فی الشرائع 3/217.
3- (142) تذکرة الفقهاء: إحیاء الموات فی أراضی بلاد الإسلام 2/400، س30، قال صاحب الأراء الفقهیة: لم أجده فی التذکرة مع کثرة تتبعی فیها. واللّه العالم.
4- (143) تحریر الأحکام: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/483.
5- (144) کإرشاد الأذهان: الجهاد فی الأرضین 2/348.
6- (145) مفتاح الکرامة 19/27 و 28.

وقال فی الجواهر: «بلاخلاف أجده فیه»(1).

وتدلّ علیه عدّة من الروایات:

منها: موثقة إسحاق بن عمار الماضیة عن أبی عبداللّه علیه السلام : ... وکلُّ أرضٍ لا ربَّ لها، الحدیث.(2)

ومنها: مرسلة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال: لنا الأنفال، قلت: وما الأنفال؟ قال: منها المعادن والآجام، وکلّ أرض لا ربّ لها، وکلّ أرض باد أهلها فهو لنا»(3).

قال الشیخ الأعظم: «ولا یخصّص(4) عموم ذلک بخصوص بعض الأخبار، حیث جُعل فیها من الأنفال «کلّ أرض میّتة لا ربّ لها»؛ بناءً علی ثبوت المفهوم للوصف المسوق للاحتراز؛ لأنّ الظاهر ورود الوصف مورد الغالب؛ لأنّ الغالب فی الأرض التی لا مالک لها کونها مواتا»(5).

اعتراض النائینی علی الشیخ الأعظم ونقده

واعترض علیه المحقّق النائینی بقوله: «والاُولی ان یقال بالمنع عن التقیید من أصله وذلک لأنّ مورد حمل المطلق علی المقید إنّما هو فیما إذا ثبت وحدة المطلوب من الدلیلین، وذلک عند ما إذا کان المطلوب هو صرف الوجود کما فی «اعتق رقبة مؤمنة» إذا استفید وحدة المطلوب وأنّه لیس إلاّ صرف الوجود من العتق، وأمّا إذا کان المطلوب علی نحو الطبیعة الساریة المقتضی للعموم فلا موقع معه للحمل کما فی مثل «إکرام العالم» و «اکرم العالم العادل» حیث لا یحمل المطلق علی المقید بل یؤخذ بکل منهما ویقال بمطلوبیة إکرام کل عالم من العدول وغیر العدول، وما نحن فیه من هذا القبیل، إذ لا تنافی

ص: 48


1- (146) الجواهر 39/23 (38/19).
2- (147) وسائل الشیعة 9/531، ح20.
3- (148) وسائل الشیعة 9/533، ح28.
4- (149) الظاهر أنّ الُمخَصِّص جمع من الأصحاب ومنهم صاحب الجواهر فی کتابی الخمس 16/465 و 468 (16/118 و 120) وإحیاء الموات 39/11 (38/11).
5- (150) المکاسب 4/16.

بین کون مطلق الأراضی التی لا ربَّ لها للإمام علیه السلام وبین کون الموات منها أیضا له علیه السلام ، وعلی تقدیر التسلیم فبالمنع عن کون دلیل المقید واردا فی مقام بیان حکم الموات بالأصل، بل الظاهر بقرینة التقیید بقوله علیه السلام لارب لها أنّه فی مقام بیان حکم ما عرضه الموت وانه علی قسمین، ماله مالک معلوم وما لایعلم مالکه وأنّ حکم ما لا ربَّ له أنّه للإمام علیه السلام ، وحینئذٍ ینبغی أن یقال: إنّ هذا القید أعنی کونه ممّا لا ربَّ لها وارد مورد الغالب لا أن التقیید بالمیتة وارد مورد الغالب إذ هو لبیان الموضوع حینئذٍ کما لا یخفی»(1).

ولکن یمکن مناقشة النائینی رحمه الله : أوّلاً: بالمناقشة «فی المثال الذی ذکره للقسم الثانی ب_ «أکرم هاشمیا» و «أکرم هاشمیّا عالما» حیث إنّه من قبیل صرف الوجود»(2).

وثانیا: «إنّ عدم حمل المطلق علی المقیّد فی القسم الثانی إنّما هو فی فرض عدم ثبوت المفهوم للقید بأن لا یکون احترازیّا وإلاّ فلو فرض ثبوت المفهوم فی الکلام فلا إشکال فی لزوم حمل المطلق علی المقیّد، فلو ورد «لا تشرب الخمر» و «لا تشرب الخمر إن کان من التمر» فلابدّ من تقیید إطلاق المطلق بواسطة المفهوم المستفاد من الشرط، فالصحیح فی الجواب ما أفاده الشیخ»(3) الأعظم قدس سره .

وثالثا: «إنّ الموضوع التام هو الأرض فقط، وأمّا المیتة فهی خارجة عن الموضوع وقید له مثل کلمة «لا ربّ لها» فللأرض قیدان»(4).

مناقشة المحقّق الإصفهانی للشّیخ الأعظم

ناقش المحقّق الإصفهانی فی حمل الشیخ الأعظم مرسلة حماد الطولیة(5) علی

ص: 49


1- (151) المکاسب والبیع 2/367 و 368.
2- (152) تعلیقة العلاّمة الآیة الشیخ علیأصغر الأحمدی الشاهرودی قدس سره علی کتاب محاضرات فی الفقه الجعفری 3/116.
3- (153) تعلیقة العلاّمة الآیة الشیخ علیأصغر الأحمدی الشاهرودی قدس سره علی کتاب محاضرات فی الفقه الجعفری 3/116.
4- (154) المصدر 3/117.
5- (155) وسائل الشیعة 9/524، ح4.

الوصف الغالب بقوله: «إنّ الظاهر من قولهم علیهم السلام «لا ربّ لها» قبول الموضوع مع حفظ عنوانه، لأنّ یکون له ربٌّ وأنْ لا یکون له ربٌّ، ومن الواضح أنّ الموات بالأصالة لیست کذلک، إذ لا یمکن أنْ یکون لها مالک إلاّ بإحیائها المخرج لها عن کونها مواتا، بخلاف العامرة بالأصالة، فإنّها مع انحفاظ عنوانها یمکن أنْ یکون لها ربٌّ بالحیازة، وأنْ لا یکون لها ربٌّ بعدم الحیازة.

وعلیه فما وصف بأنّها لا ربّ لها ینحصر فی الأرض العامرة وفی المیتة بالعرض، وحینئذٍ لا یمکن أنْ یکون الاعتبار فی المیتة بالعرض بحیثیة مَوَتَانها، فإنَّ لازمه أنْ تکون العامرة التی حازها الشخص فماتت ملکا للإمام علیه السلام وإنْ کان لها مالک فعلاً، بناءً علی أنْ النزاع المعروف فی باب إحیاء الموات مختص بما إذا ماتت بعد الإحیاء لا بعد الحیازة، وأنّ حالها حال سائر ما حازه الانسان من عدم خروجه عن ملکه إلاّ بناقل شرعی.

ومنه یعلم أنّ التوصیف بکونها(1) «لا ربّ لها» فی المرسلة وفی الإطلاقات لا یقبل الحمل علی الغلبة، ولا یصح تنزیل الإطلاقات علی بیان مالکیة الإمام علیه السلام للموات بما هی موات، فتدبر جیدا»(2).

ویرد علیه: أوّلاً: قوله قدس سره : «الظاهر من قولهم علیهم السلام «لا ربّ لها» قبول الموضوع مع حفظ عنوانه، لأنّ یکون له ربٌّ وأنْ لا یکون له ربٌّ، ومن الواضح أنّ الموات بالأصالة لیست کذلک، إذ لا یمکن أنْ یکون لها مالک إلاّ بإحیائها المخرج لها عن کونها مواتا»(3).

معارض لقوله قدس سره السابق: «وأمّا الأرض التی لا ربّ لها فمطلقها ومقیِّدها مسوقة لمالکیته علیه السلام لما لا مالک له وتوصیفها بالمیتة... من باب الغلبة»(4). وبین المقالتین معارضة واضحة وسبحان من لا یسهو.

وثانیا: قد مرّ أنّ النسبة بین الخراب والعُمْرانِ، أو الموات والعامرة هی ثنائیٌ ولا

ص: 50


1- (156) المیتة.
2- (157) حاشیة المکاسب 3/22.
3- (158) حاشیة المکاسب 3/22.
4- (159) حاشیة المکاسب 3/16.

ثلاثیٌ فیحنئذٍ قوله علیه السلام : «کل أرض لا ربّ لها» أعمٌّ من الأرض المیتة بالأصالة والمیتة بالعرض والعامرة عندنا وأمّا بناءً علی مقالة المحقّق الإصفهانی یختص بالأرض المیتة بالعرض والعامرة فقط دون الأرض المیتة بالأصالة.

وثالثا: مناقشته غیر مرتبطة بالاستدلال، لأنّا نکون فی مقام إثبات أنّ الأراضی العامرة للأمام علیه السلام بقوله علیه السلام : «کل أرض لا ربّ لها»، ونقاشه علی فرض صحته یخرج الموات بالأصالة وهی خارجة عن الاستدلال.

ورابعا: قوله علیه السلام : «کل أرض لا ربّ لها» قضیة حملیة معدولة المحمول فلا تجتمع مع انتفاء موضوعها فلابدّ من وجود الموضوع وهو «کلُّ أرضٍ» ثمّ حمل «لا ربّ لها» علیها، وهذا المحمول یصدق مع الأرض التی لها قابلیة المربوبیة وعدمها، والموات بالأصالة لیست لها قابلیة المربوبیة العامة فیصدق علیها حمل «لا ربّ لها»، والعامرة بالأصالة لها قابلیة المربوبیة العامة فیصدق علیها حمل «لا ربّ لها»، فحینئذٍ یکون موضوع «کلُّ أرضٍ» عنوانا عامّا یصدق علی الموات بالأصالة وبالعرض والعامرة بالأصالة، فلا یتم مقالة الإصفهانی من خروج الموات بالاصالة عن مورد الروایة.

وخامسا: القیود المذکورة فی مرسلة حماد الطویلة(1) فاقدة للمفهوم بقرینة سیاقها «والشاهد علی ذلک أنّه قد ذکر فی مرسلة حمّاد قبل هذه الفقرة المستشهد بها علی التقیید قوله: «وکلّ أرض خربة قد بادَ أهلها» حیث أدرجت الأراضی الخربة فی سیاق الأنفال، ولا شکّ فی أنّها فاقدة للمفهوم، لأنّ مطلق الأراضی التی باد أهلها عنها تعدّ ملکا للإمام، سواءً کانت عامرة أو خربة، لأنّ الإمام وارثُ من لا وارث له، فتمام الموضوع هو انقراض الأهل عن الأرض، ولا دخل لخرابها وعدمه فی الموضوع، وبرغم ذلک نجد أنّ الأرض قد وصفت فی المرسلة بالخربة، ولذلک لا یمکن عدّ الأوصاف المذکورة فی هذه المرسلة _ ومنها وصف المیّتة _ قیودا لتحدید الموضوع، بل الأوصاف المذکورة جمیعها من باب الغلبة، لا من باب الدلالة علی الانتفاء عند الانتفاء لیستفاد من مفهومها فی المقام

ص: 51


1- (160) وسائل الشیعة 9/524، ح4.

عدم ملکیّة الإمام للأراضی العامرة. وبالتالی فما ذهب إلیه الشیخ من حمل الأوصاف علی الغلبة صحیحٌ لکن بهذا التوجیه»(1).

مناقشة الأُستاذ المحقّق _ مدظله _ للشّیخ الأعظم

ذهب الأُستاذ المحقّق _ مدظله _ أوّلاً: إلی منع وصف قید «میتة» فی مرسلة حماد الطویلة فی قوله علیه السلام : «کل أرض میتة لا ربّ لها»(2)، غالبیّا بقرینة عامة وهی: «انّ القیود المذکورة خلال الأحکام الإنشائیّة أو الإخباریّة إنّما هی قیود احترازیّة، ولأجل تحدید الموضوع، وبیان المواصفات الضروریّة واللاّزمة فیها، ولا یمکن عدّها أوصافا غالبة، ولذلک تثبت لها المفهوم، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ الإمام علیه السلام من خلال قوله: «کلّ أرض میّتة لا ربّ لها» یحدّد موضوع الأنفال ویقیّد هذه الأراضی بقیدین: کونها میّتة ولا ربّ لها، فإذن روایة حمّاد تحدّد ملکیّة الإمام بالأرض المق_یّدة بهذین القیدین، ومن خلال ذلک یعرف ثبوت المفهوم لها وأنّ الأرض العامرة التی لا ربّ لها لیست ملکا للإمام علیه السلام »(3).

وثانیا: أنّ مرسلة حماد الطویلة «لا قدرة لها ولا اقتضاء فیها علی تقیید الأخبار المطلقة السابقة.

ودعوی: أنّ المرسلة منجبرة بعمل الأصحاب بمضمونها.

مدفوعة أوّلاً: بعدم ثبوت استناد الفقهاء إلیها فی مقام الفتوی، برغم أنّها مذکورة فی الکتب الفقهیّة الاستدلالیّة.

وثانیا: لو سلّمنا العمل بها، فإنّ مجرّد ذلک لا یحقّق عنوان الانجبار، لأنّ عمل الأصحاب بالأخبار لا یخلو:

[1] تارةً: تکون فتوی الأصحاب مستندة إلی الروایة من باب الوثوق بصدورها.

[2] وأُخری: تکون فتوی الأصحاب اعتمادا علی الروایة من باب توثیق روایتها

ص: 52


1- (161) العقد النضید 4/405.
2- (162) وسائل الشیعة 9/524، ح4.
3- (163) العقد النضید 4/404.

عملاً.

أمّا الأوّل: فلا اعتبار به لغیر من اعتمد علیها واستند بها، بمعنی أنّ وثوق فقیهٍ بروایةٍ مّا حجّةٌ عنده لا عند غیره من الفقهاء، فإذا اطمأنّ الصدوق أو الکلینی بصدور روایة عن الإمام فإنّ وثوقه بذلک حجّة له لا لغیره.

أمّا الثانی: فهو مفید فی المسانید دون المراسیل، بمعنی أنّه إذا کانت الروایة مسندة وجهلنا وثاقة أحد رواتها، فحینئذٍ یعدّ عمل الأصحاب بها توثیقا عملیّا لرواتها وتکون حجّةً للجمیع، أمّا إذا کانت الروایة مُرْسَلَةً فإنّ عمل الأصحاب بها لا ینتهی إلی توثیق الرواة والروایة، وبالتالی فإنّ مطلق المرسلات غیر قابلة للانجبار بعمل الأصحاب. ومرسلة حمّاد من هذا القبیل ولذلک لا مجال لتصحیحها وتوثیقها بعمل الأصحاب بها»(1).

ویمکن أن ندافع عن الشیخ الأعظم أوّلاً: القرینة قائمة علی غالبیة وصف «میتة» لِ_ «کل أرض» بمقالَةِ الأُستاذ المحقّق _ مدظله _ الماضیة آنفا فی الایراد الخامس علی مناقشة الإصفهانی.

وثانیا: «ثبوت المفهوم للقید إنّما هو من جهة أنّه لو لم یکن احترازیا دالاً علی المفهوم لزم لغویته، ففی القید الوارد مورد الغالب لمّا لم یلزم منه هذا المحذور لم یثبت المفهوم وإلاّ فلا فرق بینه وبین غیره من القیود، والأولی أنّ الوصف لا مفهوم له أصلاً لعدم لزوم اللغویة من ذکر القید ولو لم یکن له مفهوم، فإنّ ذکره قد یکون من جهة کون المقیّد مورد السؤال أو من جهة عدم کون غیره مورد الابتلاء کما فی الروایة المزبورة حیث إنّ الأراضی التی هی مورد ابتلاء أهل العراق والحجاز میتة فلا مفهوم للوصف أصلاً»(2).

وثالثا: مرسلة حماد الطویلة مُنْجِبَرٌ ضعف إسنادها بعمل الأصحاب عندنا لإفتائهم علی مضامینها مع وضوح إرسالها فهی تعدّ من المعتبرات عندهم _ أعلی اللّه

ص: 53


1- (164) العقد النضید 4/405 و 406.
2- (165) التنقیح فی شرح المکاسب 2/238.

کلمتهم ومقامهم _ .

والمختار فی المقام:

أقول: لا معارضة بین الدلیلین المثبتین هنا وهما: «کلّ أرض لا ربّ لها»(1) و «وکل أرض میتة لا ربّ لها»(2) وإنّ کان الثانی أخَصَّ من الأوّل لعدم إحراز تکلیف واحد فی المقام، وغالبیة القید فی الثانی فلا تنافی بینهما. فثبت أنّ الأراضی العامرة بالأصالة معدودة من أملاک الإمام علیه السلام بالملکیة الاعتباریة واللّه العالم.

فرع: هل تملک الأرض العامرة بالأصالة بالحیازة؟
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «وهل تملک هذه بالحیازة؟ وجهان: من کونه مال الأمام، ومن عدم منافاته للتملّک بالحیازة، کما یُملک الموات بالإحیاء مع کونه مال الإمام، فدخل فی عموم النبویّ: «من سبق إلی ما لم یسبقه إلیه مسلم فهو أحقّ به»(3)»(4).

أقول: النبوی المذکور مرسلٌ لا یمکن الوثوق به ولا ینجبر ضعفه بعمل الأصحاب، هذا من جهة السند.

وأمّا الدلالة: ففیها أوّلاً: اعْتَرَضَ المحقّق الخراسانی بقوله: «إنّما سیق الإطلاق مساق أحقیّة السابق، وعدم جواز مزاحمة اللاحق، لافی مساق جواز السبقة حتّی کان عدم جواز السبق إلی أموال النّاس بدلیل خاص، فلا یجوز التّمسک بإطلاقه فیما إذا شُّک فی جوازه، کالأرض العامرة التی هی تکون ملکا للإمام علیه السلام »(5).

وأجاب عنه المحقّق الإصفهانی بقوله: «أنّه بالمطابقة یدل علی الترخیص فی السبق إلی ما لم یسبقه إلیه أحد، وبالتزام علی أنّه لا یجوز مزاحمته، حیث إنّه مقتضی

ص: 54


1- (166) وسائل الشیعة 9/531، ح20.
2- (167) وسائل الشیعة 9/524، ح4.
3- (168) عوالی اللآلی 3/480، ح4؛ ومستدرک الوسائل 17/112، ح4، الباب الأوّل من أبواب إحیاء الموات.
4- (169) المکاسب 4/17.
5- (170) حاشیة المکاسب /105.

کونه أحق به ولا یجوز مزاحمة ذی الحق، فیکون کقوله علیه السلام «من أحیی أرضا میتة فهو أحق بها، وهی له»(1) فإنّه یتضمن الترخیص الشرعی فی الإحیاء، وأنّه سبب للأحقیة أو الملکیة، فکذلک هنا یکون دلیل السبق دالاً علی سببیة السبق للأحقیة»(2).

وفیها ثانیا: «إنّ مجرد الأحقیة لایقتضی الملکیة، وإنْ کانت لاتنافیها أیضا، فالاستدلال للتملک بالحیازة بمجرّد الأحقیة هنا وفی المباحات غیر وجیه، بل لابدّ من إقامة دلیل آخر علی الملکیة»(3).

ویمکن أن یجاب عنه: «إنّ الارتکاز العرفی الناشیء من استقرار السیرة العقلائیة الثابتة من صدر الإسلام _ بل قبله _ علی إحیاء الأراضی التی لا ربّ لها، وترتیب آثار الملک علیها کما هو بناء الدول أیضا، والشارع لم یردعهم عن ذلک، بل أمضی طریقتهم.

وبالجملة: فالإرتکاز المزبور یمنع إحتمال غیر الملک من الأحقیّة کالإباحة، بل المراد بها الأحقیّة فی الملکیة»(4).

وفیها ثالثا: «إنّ الموات التی هی مورد الإحیاء ودلیله مختصة بالإمام علیه السلام ، فیکون «من أحیی» ترخیصا شرعیا ومالکیا منه فی الإحیاء المملک مثلاً.

وأمّا مورد دلیل السبق فغیر مختص بالأراضی ولا بخصوص الإمام علیه السلام ، لیکون کدلیل الإحیاء فیلزمه جواز السبق إلی ملک کلّ أحد أیضا، ومع استفادة تقیده بعدم کون المورد متعلقا لحقِّ الغیر بالسبق أو غیره _ ویدلّ بالفحوی علی عدم کونه ملکا للغیر _ فلا مجال للاستدلال به هنا، لأنّه لایعم ما هو ملک الغیر إماما کان أو غیره، وإلاّ لجاز السبق إلی سائر أموال الإمام علیه السلام ، لو جعل هذا إذنا مالکیا فی السبق إلی ماله»(5).

ص: 55


1- (171) وسائل الشیعة 25/412، ح4 صحیحة محمّد بن مسلم: «أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها وهی لهم».
2- (172) حاشیة المکاسب 3/23.
3- (173) حاشیة المکاسب 3/23.
4- (174) هدی الطالب 6/434.
5- (175) حاشیة المکاسب 3/23.

ویمکن أن یجاب عنه: «لا منشأ لاحتمال إرادة معنی عامّ یشمل غیر الأراضی من سائر أموال الإمام علیه السلام فضلاً عن أموال غیره علیه السلام ، وذلک للإتکاز المزبور، ولکون مورد الإحیاء ملک الإمام بالإمامة، لا ملکه الشخصی الذی یرثه الوارث، ولا مال غیره. والسبق إلی مال الإمام علیه السلام لا ینطبق إلاّ علی الموات من الأرض والمحیاة ذاتا، وعلی ما فیها من الأشجار والنبات»(1).

وفیها رابعا: «الحدیث یثبت للسابق الحقّ فیما سبق إلیه دون المسبوق، ولا شکّ أنّ حقّ الإمام أسبق من حقّ المحیی، بمعنی أنّ ملکیّة الإمام للأرض العامرة أسبق من عمران المحیی، وبالتالی لا یبقی موضوع للحدیث لکی یستدلّ به»(2).

ویمکن أن یجاب عنه: النبی صلی الله علیه و آله الذی کان حقّه مقدَّما علی الإمام علیه السلام أجازالسبق والتصرف والملکیة علیها فلاتنافی بین ملکیة الإمام للأراضی العامرة بالأصالة وجواز تملّکها لمِنْ سبق إلیها.

وبالجملة: «لا ینبغی الإشکال فی دلالة النبوی علی تملک الأرض العامرة بالحیازة. لکن ضعف السند یمنعه عن الاعتبار»(3).

مضافا إلی ورود روایات التحلیل فی خصوص شیعتهم علیهم السلام کما فی صحیحة أبی سیار مسمع بن عبدالملک: کل ما کان فی أیدی شیعتنا من الأرض فهم فیه محلّلون، الحدیث.(4)

وفی خبر یونس بن ظبیان أو المعلّی بن خنیس: وما کان لنا فهو لشیعتنا، الحدیث.(5)

فبالنسبة إلی الشیعی الملکیّةُ ثابتةٌ بِلا رَیْبٍ. واللّه العالم.

ص: 56


1- (176) هدی الطالب 6/434.
2- (177) العقد النضید 4/408.
3- (178) هدی الطالب 6/435.
4- (179) وسائل الشیعة 9/548، ح12، الباب 4 من أبواب الأنفال.
5- (180) وسائل الشیعة 9/550، ح17.

نعم، یمکن أن یناقش فی هذا الارتکاز العرفی بالنقاش فی مَنْشَئِهِ وهی السیرة العقلائیة الثابتة فی عصر التشریع _ بل قبله _ علی إحیاء الأراضی التی لا ربّ لها، ومنها: الأراضی العامرة بالأصالة، وإحیاؤها حیازتها، فالسیرة العقلائیة قائمة علی تملک الأراضی العامرة بالأصالة بالحیازة.

وأمّا المناقشة فی هذه السیرة العقلائیة المدعاة

فلم تثبت سیرةٌ من العقلاء علی تملک الأراضی العامرة بالأصالة بالحیازة، «بل لا یبعد ثبوتها علی خلفه، فإنّ العقلاء حسب فطرتهم الأولیّة لا یعترفون بتلک الأسباب التی تکون مظهر من مظاهر القوة والتحکم علی الآخرین، فإنّها أسباب ولّدتها الظروف الثانویة فی المجتمعات التی لا تقوم علی أساس العدل والقیم الإنسانیة، وإنّما تقوم علی أساس مظاهر القوة واللا أخلاقیة. ومن الطبیعی أنّه لا قیمة لتلک الأسباب، لا لدیهم، ولا لدی الإسلام نهائیا.

أو فقل: إنّ الإسلام لم یعترف بحیازة الأرض والسیطرة علیها علی أساس القوة والتحکم علی الآخرین فی میدان وجود المنافسة علیها من قبل هؤلاء، ولم یرها مصدرا لوجود حقٍّ فیها.

نعم، إنْ کانت السیطرة علیها علی أساس إنفاق العمل وبذل الجهد فیها _ لخلق الشروط والفرصة للإستفادة منها والانتفاع بها کما إذا کانت الأرض میتة أو لاستغلالها والانتفاع بها کما إذا کانت حیة _ فالإسلام وإن کان قد اعترف بها إلاّ أنّ اعترافه بذلک فی الاُولی انما هو علی اساس أنّها تحمل طابع الإحیاء فیها. لا طابع الحیازة والسیطرة. وفی الثانیة إنّما هو علی أساس العمل والانتفاع بها. فالنتیجة أنّ مصدر الحقّ فیها لدی الإسلام إنّما هو العمل فلا قیمة للسیطرة بدونه أصلاً.

وبکلمة اُخری: إنّنا قد اکتشفنا اعتراف الإسلام من خلال نصوصه التشریعیة، أو البناء من العقلاء بهذا الإطار العام وهو أنّ کلَّ عاملٍ فی المصادر والثروات الطبیعیة یملک نتیجة عمله _ علی اختلاف نوع العمل، ونوع النتیجة _ علی ضوء الشرائط المبیِّنة فی محلِّها. ومن هنا تختلف نتیجة عمل العمال فی الأرض المیتة عن نتیجة عمله فی الأرض

ص: 57

الحیّة طبیعیا علی أساس اختلاف نوع العمل فیهما.

وعلی اثر ذلک: تختلف علاقة العامل بالأرض المیتة عن علاقة العامل بالأرض الحیّة علی أساس أنّ نیتجة عمله فی الأرض المیتة إنّما هی خلق الشروط فیها التی تتیح للفرد فرصة الاستفادة منها والانتفاع بها، حیث لم تکن تلک الشروط متوفرة فیها قبل قیام العامل بإحیائها، وإنّما هی نتجت عن عملیة الإحیاء، فالعامل علی ضوء ذلک الإطار العام یملک تلک الشروط والفرصة فیها، وهذه الشروط إنّما تبرر علاقة العامل برقبة الأرض علی مستوی الحق فحسب إذا کانت الرقبة داخلة فی نطاق ملکیة غیره. وأمّا إذا لم تکن داخلة فی ذلک وکانت من المباحات الأصلیة فالشروط المزبورة إنّما تبرّر علاقته بها علی مستوی الملک... .

وبما أنّ هذه العلاقة معلولة لهذه الشروط والفرصة فهی بطبیعة الحال ثابتة ما دامت الشروط فیها متوفرة والفرصة متاحة سواء أکان العامل یمارس الانتفاع بها أم لم یمارس، وأمّا إذا زالت تلک الشروط والفرصة عنها فإن کانت العلاقة علی مستوی الحق فقد انقطعت عنها نهائیا بمقتضی الارتکاز العرفی وإن کانت علی مستوی الملک فهی باقیة ولم تزل بزوالها... .

وأمّا نتیجة عمله: فی الأرض الحیّة بطبیعتها _ فبما أنّها لم تکن خلق الشروط والفرصة للإنتفاع بها، لفرض أنّ تلک الشروط متوفرة فیها ذاتا وبدون بذل جهد بشری وأنّ العامل فیها لم یخلق صفة لها ذات قیمة اقتصادیة، وإنّما قام بالإنتفاع بزرعها، وغرس أشجارها، أو ما شاکل ذلک _ فهی بطبیعة الحال إنّما هی ما نجم عن عمله وجهده فیها وهو الزرع أو الشجر فی فرض الکلام فالعامل إنّما یملک ذلک علی ضوء الإطار العامِّ المزبور _ کلُّ عاملٍ یملک نتیجة عمله _ ولا یملک صفة فی الأرض ما دام أنّه لم یخلق فیها شیئا.

ومن الطبیعی أنّ عمله الإنتفاعی بها لا یبرر اختصاص العامل برقبة الأرض. نعم ما دام هو یمارس العمل فیها ویواصل فی زراعتها کان أحقّ من غیره بالإنتفاع بها، ولیس لغیره أن یزاحمه فیه، علی أساس أنّه بالبناء القطعی من العقلاء قد اکتسب حقّ الأولویة فیها بقیامه باستغلال الأرض والإنتفاع بها، فإنّ مِنْ حقّه فی هذا الحال الاحتفاظ بها ومنع

ص: 58

الآخر من مزاحمته وانتزاع الأرض منه، لأنَّ الآخر لیس أَوْلی من الذی ینتفع بها فعلاً.

ولا یحصل علی حق أوسع من ذلک بنکتة أنّه معلول لانتفاعه بها، ولا یعقل أن تکون دائرة المعلول أوسع من دائرة العلة، وعلیه فلا محالة یکون ثبوت هذا الحقّ له ما دام هو قائم بالانتفاع بها فعلاً وإلاّ فلا حقّ له. ومن هنا لو ترک الانتفاع بها لم یبق له حقّ فی الاحتفاظ بها، ویجوز عندئذ لآخرین یقوم باستغلالها واستثمارها.

وهذا هو الفارق بین الحقّ الحاصل للعامل فی الأرض الموات علی أساس قیامه بعملیة إحیائها، والحقّ الحاصل له فی الأرض الحیّة علی أساس قیامه باستغلالها والإنتفاع بها.

ومن هذا القبیل: استخدام الأرض لرعی الحیوانات، فإنّه وإن کان عملاً من أعمال الانتفاع بالمصادر الطبیعیة إلاّ أنّه لا یؤثر فی إیجاد حقٍّ فی الأرض علی أساس أنّه لم یقم فیها بعملیة ذات قیمة اقتصادیة کخلق الحیاة فیها أو نحوها، وإنّما هو یقوم بعملیة تربیة حیوانات فیها فتکون نتیجة عمله فیها إنّما هی الثروة الحیوانیة فیملک العامل علی ضوءالإطار العام المتقدم تلک الثروة الحیوانیة علی أساس أنّها نجمت عن جهده وعمله.

نعم، یحصل العامل علی أَثَرِ ذلک علی حقّ الأولویّة فیها ما دام یمارس عَمَلَهُ هذا ویُواصِلُهُ فیه، لا مطلقا فلو ترک ذلک لم یبق له الحق فی الاحتفاظ بها، ویجوز لغیره ان یقوم بالانتفاع بها واستثمارها... .

وأمّا ما ذکرناه بالإضافة إلی الأرض الحیّة بطبیعتها موافق للبناء القطعی من العقلاء الجاری علی ذلک الثابت فی جمیع الأعصار»(1).

إلی هنا ظهر عدم تَمامِیَّةِ دلیلین من أدلة تملک الأراضی العامرة بالأصالة بالحیازة وهما:

1_ حدیث السبق الذی تمسک به الشیخ الأعظم وقد عرفت ضعف سنده ودلالته.

2_ السیرة العقلائیة المُدَّعاة علی تملک الأراضی العامرة بالأصالة بالحیازة وقد

ص: 59


1- (181) الأراضی /(314-310).

عرفت عدم تمامیتها بالتفصیل الذی مرّ.

وقد استُدِلَّ علی تملّکها بوجوه أُخَرَ نذکر بعضها فی مایلی:

3_ قوله تعالی: «وَالاْءَرْضَ وَضَعَها لِلاْءَنامِ»(1)

بتقریب: أنَّ الآیة الشریفةَ تدلّ علی ملکیة الأرض للأنامَ، وإطلاقُ الأرضِ یشمل الأراضی العامرة بالأصالة واطلاق الأنام یشمل المحیز، فالمحیز یملک ما أحازه من الأراضی العامرة بالأصالة.

وفیه: «أوّلاً: أنّ اللاّم المذکورة فی الآیة الشریفة لیست بلام الملکیّة بل هی لام الغایة، ووزانها وزان اللاّم فی قوله تعالی: «سَخَّرَ لَکُمْ ما فِی السَّماواتِ وَما فِی الاْءَرْضِ»(2)، فلا دلالة فیها علی الملکیّة.

وثانیا: ولو سلّمنا دلالتها علی الملکیّة، فهی تثبتها لمطلق الأنام، والبحث فی المقام عن الملکیّة الشخصیّة دون النوعیّة»(3).

4_ استدلال المحقّق الإصفهانی رحمه الله

قال الإصفهانی قدس سره : «ویمکن أن یقال: إنّ کون الأرض عامرة بالمعنی المتقدم لا ینافی الإحیاء بغرس الشجر وحفر البئر وأشباه ذلک، فتملکها بعنوان الإحیاء»(4).

مراده: «أنّ ملکیة الأراضی العامرة تکون بالإحیاء أیضا بمثل ما هو الحال فی الأراضی الموات، فإنّ الآجام والغابات والوادیات والأنهار بحاجة إلی الإحیاء بإزالة الآجام وتسطیح الوادیات وکری الأنهار وشقّ الطرق فی الغابات، وما إلی ذلک ممّا یؤدّی جمیعها إلی إمکان الاستفادة منها فی الزرع وغیره، وبالتالی فإنّ المحیی یملکها عن طریق الإحیاء، حیث یصدق علیه قوله علیه السلام : «أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض أو عمروها

ص: 60


1- (182) سورة الرحمن /10.
2- (183) سورة لقمان /20.
3- (184) العقد النضید 4/407.
4- (185) حاشیة المکاسب 3/24.

فهم أحقّ بها»(1)»(2).

وفیه: «لا مجال للجمع بین صفتی العمارة والإحیاء، بمعنی أنّه لا یصحّ وصف ما یقوم به الإنسان فی تنمیة الأراضی المحیاة بالعمارة، لأنّ الأخیرة وصفٌ یُطلق بخصوص الأراضی المیّتة المتوقّفة إحیاؤها علی العمران، دون الأراضی العامرة. والشاهد علی ذلک أنّ کلمة «الإحیاء» قد اُطلقت فی الأخبار علی خصوص أراضی الموات، أمّا الصفة التی یصحّ أن یتّصف بها الأعمال التی یقوم بها الإنسان فی الأراضی العامرة، هی دفع الموانع عن نمو الأراضی النامیة بالذات أو إیجاد ما یلزم إیجاده من الشرائط»(3).

5_ معتبرة السکونی

عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : مَنْ غرس شجرا، أو حفر وادیا بدیّا لم یسبقه إلیه أحد، وأحیی أرضا میتة فهی له قضاء من اللّه ورسوله صلی الله علیه و آله .(4)

بتقریب: أنَّ ظاهر هذه المعتبرة جعل غرس الشجر وحفر البئر «فی قبال الإحیاء أنّهما یوجبان الملکیة بنفسهما، أو من حیث صدق الإحیاء أیضا، لا بمعناه المقابل له فی الرّوایةِ، لکنّه علی أیِّ حالٍ غیر التملک بالحیازة، إذْ لا یعتبر فیها شیء من الغرس والحفر ونحوهما، بل یکفیه مجرد الاستیلاء علیه»(5).

وبالجملة: إنّ الْقِیامَ بالعملین المذکورین _ الغرس والحفر _ فی الأراضی الموات أو العامرة یکون فی حکم الإحیاء بالنسبة إلی الأراضی الموات فیکونان مملِّکین.

فالغرس والحفر یکونان مملِّکین فی الأراضی العامرة بالأصالة.

وفیه: من الواضح فی الفقه الإسلامی أنّ الغرس والزرع للغارس والزارع ولو کانا غاصبین فحینئذ «غرس الشجر یفید ملکیّة الغارس لها بالخصوص دون الأرض

ص: 61


1- (186) وسائل الشیعة 25/411، ح3، الباب 1 من أبواب إحیاء الموات صحیحة محمّد بن مسلم.
2- (187) العقد النضید 4/409 مع اضافات واصلاحات.
3- (188) العقد النضید 4/409 مع اضافات واصلاحات.
4- (189) وسائل الشیعة 25/413، ح1، الباب 2 من أبواب إحیاء الموات.
5- (190) حاشیة المکاسب 3/24.

المغروسة علیها»(1).

ویمکن أن یقال: علی منوالهما حفر البئر، فالبئر للحافر ولو کان الأرض لغیره وکثیرا ما نجد فی الخارج ملکیة الأرض لأحدٍ والبئر الموجودة فیها للآخر.

فلا یکون مدلول هذه المعتبرة ملکیة الأراضی العامرة بالأصالة بل مدلولها ملکیة الغرس للغارس والبئر لحافرها. إلاّ أن یکون فی الأراضی الموات بالأصالة فیصدق علیهما الإحیاء وتوجب الملکیة هذا أوّلاً.

وثانیا: علی فرض تمامیة الاستدلال، فإنَّ هذَیْنِ الْعَمَلَیْنِ یکونان غیر الحیازة، فلا تدلّ المعتبرة علی التملک بالحیازة کما مرّ من المحقّق الإصفهانی فی آخر تقریبه.

6_ صحیحتا محمّد بن مسلم

عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها.(2)

وعن أبی جعفر علیه السلام قال: أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض، وعمروها فهم أحقّ بها، وهی لهم.(3)

ونحوهما مرسلة الصدوق قال: قد ظهر رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی خیبر، فخارجهم علی أن یکون الأرض فی أیدیهم یعملون فیها ویعمرونها، وما بأس لو اشتریت منها شیئا، وأیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض، فعمروه فهم أحقّ به، وهو لهم.(4)

بتقریب: إنّ الاستدلال یکون بلفظة «عمروها» فی سیاق الأسباب المملِّکة ومن المعلوم «أنّ عمارة کلّ أرض بحسبها، فعمران أرض الموات یختلف عن عمران الأراضی العامرة بالذات، فعمران الأخیرة تکون بإزالة الآجام، وتجفیف میاهها وقلع الأشجار الزائدة من الغابة، وشقّ الطرق فیها وما إلی ذلک من الطرق المؤدّیة إلی تنمیة ثمرات

ص: 62


1- (191) العقد النضید 4/410.
2- (192) وسائل الشیعة 25/411، ح3.
3- (193) وسائل الشیعة 25/412، ح4.
4- (194) وسائل الشیعة 25/412، ح7.

الأراضی العامرة»(1).

وَیُرِدَ علیه: ما مرّ من مقابلة العمران والخراب وأنّ «العمارة قسیمٌ للخراب، فلا یصحّ إطلاق صفة العمران علی الأراضی العامرة بالذات، ومجرّد الشکّ یسقط الاستدلال بها فی المقام»(2).

7_ صحیحة أُخری لمحمّد بن مسلم

قال: سألته عن الشراء من أرض الیهود والنصاری؟ قال: لیس به بأس _ الی أن قال: _ وأیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض، أو عملوه فهم أحقّ بها، وهی لهم.(3)

بتقریب: أنّ عطف العمل علی الأرض علی عملیة الإحیاء یعلّمنا بأنّه کالإحیاء یکون من أسباب التملّک فحینئذ «الأراضی العامرة المملوکة للإمام علیه السلام تُملّک من المسلم العامل علیها بشتّی الأعمال»(4).

ویرد علیه: أنّه لا یمکن الأخذ بإطلاق هذه الصحیحة بأنّ مَنْ عمل فی أرضٍ فهی له لا سیّما مع إطلاق العمل فحینئذ لابدّ من حمل الإطلاقین _ إطلاق مَنْ واطلاق العمل _ علی المحیی وعملیة الإحیاء فیصیر «أو عملوه» عطفا تفسیریا لقوله علیه السلام : «أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض»، ولذا أعرض الأصحاب عن اطلاق العمل ولم یقل أحد بأنّ کلّ مَن عمل فی أرضٍ فهی له.

فذلکة الکلام

الأراضی العامرة بالأصالة ملک للإمام علیه السلام وتعدّ من الثروات العامة فلا یجوز لأحدٍ تملّکها لا بالحیازة ولا بالغرس ولا بالحفر ولا بِعُمْرانِها وتنمیتها والعمل فیها، نعم کلّ عامل یملک عمله فیها لا أکثر ورقبة أراضیها باقیة فی ملک الإمام علیه السلام لاستفادة عامة

ص: 63


1- (195) العقد النضید 4/410.
2- (196) العقد النضید 4/410.
3- (197) وسائل الشیعة 25/411، ح1.
4- (198) العقد النضید 4/411.

النّاس وعملهم فیها ونشاطاتهم علیها لاسیّما بالنسبة إلی الشیعة کما مرّ(1) آنفا واللّه العالم.

3_ الأرض العامرة بالعرض
اشارة

قال الشیخ الأعظم رحمه الله : «الثالث: ما عرض له الحیاة بعد الموت: وهو ملک للمحیی، فیصیر ملکا له بالشروط المذکورة فی باب الإحیاء بإجماع الاُمّة کما عن المهذّب [البارع(2)]، وبإجماع المسلمین کما عن التنقیح(3)، وعلیه عامّة فقهاء الأمصار کما عن التذکرة(4)»(5).

أقول: إحیاء الموات مستحبٌ مرغوبٌ فیه لأنّه من مصادیق السعی فی تحصیل الرزق المأمور به فی قوله تعالی: «فَامْشُوا فِی مَناکِبِها وَکُلُوا مِنْ رِزْقِهِ»(6) ولقوله عزوجل: «هُوَ أَنْشَأَکُمْ مِنَ الاْءَرْضِ وَاسْتَعْمَرَکُمْ فِیها»(7). ولقوله تعالی: «وَالاْءَرْضَ وَضَعَها لِلاْءَنامِ»(8) وقول عزّ من قائل: «هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ ما فِی الاْءَرْضِ جَمِیعا»(9)

قال العلاّمة: «تذنیب: الإحیاء مستحبٌّ؛ لما فیه من السعی فی تحصیل الرزق المأمور به فی قوله تعالی: «فَامْشُوا فِی مَناکِبِها وَکُلُوا مِنْ رِزْقِهِ»(10) ومن إخراج العاطل من حیّز العطلة المشتملة علی تضییع المال إلی حیّز العمارة، وقد روی عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه

ص: 64


1- (199) راجع صفحة 56 من هذا المجلد.
2- (200) المهذّب البارع 4/285.
3- (201) التنقیح الرائع 4/98.
4- (202) تذکرة الفقهاء 19/354.
5- (203) المکاسب 4/17.
6- (204) سورة الملک /15.
7- (205) سورة هود /61.
8- (206) سورة الرحمن /10.
9- (207) سورة البقرة /29.
10- (208) سورة الملک /15.

قال: «مَنْ أحیا أرضا میتةً فله فیها أجر، وما أکله العوافی(1) منها فهی له صدقة»(2) ولأنّ اللّه تعالی لم یخلق الأرض عبثا، بل خلقها والأعیان الخارجة منها _ کالمعادن _ والمنافع المتعلّقة برقبتها لمنافع سکانها»(3).

أقول: «وفی خراج یحیی بن آدم القرشی بسنده عن جابر، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «من زرع زرعا أو غرس غرسا فأکل منه إنسان أو سبع أو طائر فهو له صدقة»(4).

وروی الترمذی بسنده عن أنس، عن النبی صلی الله علیه و آله ، قال: «ما من مسلم یغرس غرسا أو یزرع زرعا فیأکل منه إنسان أو طیر أو بهیمة إلاّ کانت له صدقة»(5)»(6).

ویدلّ علی جواز إحیاء الموات وملکیّة المحیی لها الأخبار المتواترة إجمالاً عند الفریقین:

منها: صحیحة الفضلاء عن أبی جعفر وأبی عبداللّه علیهماالسلام قالا: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من أحیی أرضا مواتا فهی له.(7)

ومنها: صحیحة زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من أحیی مواتا فهو له.(8)

ص: 65


1- (209) العوافی جمع العافیة، وهی کلّ طالب رزقٍ من إنسانٍ أو بهیمةٍ أو طائرٍ. النهایة _ لابن الأثیر _ 3/267 «عفا».
2- (210) مسند أحمد 4/238، ح13859 و 4/275، ح14091 و 4/(326-325)، ح14425؛ السنن الکبری (للبیهقی) 6/148 بتفاوتٍ یسیر.
3- (211) تذکرة الفقهاء 19/354.
4- (212) الخراج /78.
5- (213) سنن الترمذی 2/421، ح1400، أبواب الأحکام، الباب 40 (باب ماجاء فی فضل الغرس).
6- (214) دراسات فی ولایة الفقیه 4/149.
7- (215) وسائل الشیعة 25/412، ح5، الباب 1 من أبواب إحیاء الموات.
8- (216) وسائل الشیعة 25/412، ح6.

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها.(1)

ومنها: صحیحته اُخری له قال: سمعت أباجعفر علیه السلام یقول: أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض، وعمروها فهم أحقّ بها، وهی لهم.(2)

ومنها: صحیحة أبی بصیر، قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن شراء الأرضین من أهل الذمّة، فقال: لا بأس بأن یشتریها منهم، إذا عملوها وأحیوها، فهی لهم، وقد کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین ظهر علی خیبر وفیها الیهود، خارجهم علی (أن یترک) الأرض فی أیدیهم، یعملونها ویعمرونها.(3)

ومنها: صحیحة عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: سئل _ وأنا حاضر _ عن رجل أحیی أرضا مواتا، فکری فیها نهرا، وبنی بیوتا، وغرس نخلاً وشجرا، فقال: هی له، وله أجر بیوتها، وعلیه فیها العشر فیما سقت السماء، أو سیل وادٍ أو عین، وعلیه فیما سقت الدوالی والغرب(4) نصف العشر.(5)

ومنها: معتبرة السکونی، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من غرس شجرا، أو حفر وادیا بدیّا لم یسبقه إلیه أحد، وأحیی أرضا میتة فهی له قضاء من اللّه ورسوله صلی الله علیه و آله .(6)

ومنها: موثقة محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام ، عن الشراء من أرض الیهود والنصاری؟ فقال: لیس به بأس قد ظهر رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی أهل خیبر فخارجهم علی أن یترک الأرض فی أیدیهم یعملونها ویعمرونها فلا أری بها بأسا لو أنّک اشتریت

ص: 66


1- (217) وسائل الشیعة 25/411، ح3.
2- (218) وسائل الشیعة 25/412، ح4.
3- (219) وسائل الشیعة 25/416، ح1، الباب 4 من أبواب إحیاء الموات.
4- (220) الغِرْب کَفِلْسِ: الدلو العظیم الذی یتخذ من جلد الثور.
5- (221) وسائل الشیعة 25/412، ح8.
6- (222) وسائل الشیعة 25/413، ح1، الباب 2 من أبواب إحیاء الموات.

منها شیئا وأیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض وعملوها فهم أحقّ بها وهی لهم.(1)

ورواها صاحب الوسائل مختصرا وبسند صحیح فی کتاب إحیاء الموات.(2)

ومنها: صحیحة سلیمان بن خالد، قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن الرجل یأتی الأرض الخربة، فیستخرجها، ویجری أنهارها ویعمرها، ویزرعها، ماذا علیه؟ قال: علیه الصدقة، الحدیث.(3)

ومنها: مرسلة الصدوق قال: قد ظهر رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی خیبر، فخارجهم علی أن یکون الأرض فی أیدیهم یعملون فیها ویعمرونها، وما بأس لو اشتریت منها شیئا، وأیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض، فعمروه فهم أحقّ به، وهو لهم.(4)

«تِلْکَ عَشَرَةٌ کامِلَةٌ» من أحادیثنا، وإمّا من طرق العامة:

ففی مؤطأ مالک فی کتاب الأقضیة، عن هشام بن عروة، عن أبیه أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «من أحیا أرضا میتة فهی له، ولیس لعرق ظالم حق»(5).

ورواه البیهقی بسنده عن مالک.(6)

وروی البخاری فی کتاب الوکالة عن عروة، عن عائشة، عن النبی صلی الله علیه و آله ، قال: «من أعمر أرضا لیست لأحد فهو أحق». قال عروة قضی به عمر فی خلافته.(7)

ورواها أبوعبید بسنده، عن عروة، عن عائشة، عنه صلی الله علیه و آله بلفظ «من أحیا» ورواها البیهقی «مَنْ عمّر».(8)

ص: 67


1- (223) وسائل الشیعة 15/156، ح2، الباب 71 من أبواب جهاد العدو.
2- (224) وسائل الشیعة 25/411، ح1
3- (225) وسائل الشیعة 25/411، ح2.
4- (226) وسائل الشیعة 25/412، ح7.
5- (227) مؤطأ مالک 2/121، القضاء فی عمارة الموات.
6- (228) سنن البیهقی 6/143، کتاب إحیاء الموات، باب من أحیا أرضا میتة فهی له...
7- (229) صحیح البخاری 2/48، باب من أحیاء أرضا مواتا.
8- (230) الأموال /363؛ سنن البیهقی 6/142، إحیاء الموات، باب من أحیا أرضا میتة لیست لأحد.

وروی أبوداود بسنده عن عروة، قال: أشهد أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قضی أن الأرض أرض اللّه والعباد عباد اللّه، ومن أحیا مواتا فهو أحق به. جاءنا بهذا عن النبی صلی الله علیه و آله الذین جاؤوا بالصلوات عنه.(1)

ورواه البیهقی أیضا.(2)

وروی البیهقی بسنده، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «العباد عباد اللّه والبلاد بلاد اللّه، فمن أحیا من الموات الأرض شیئا فهو له (بعطیة رسول اللّه خ.ل) ولیس لعرق ظالم حق.(3)

وروی البیهقی أیضا بسنده، عن کثیر بن عبداللّه، عن أبیه، عن جده أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «من أحیا مواتا من الأرض فی غیر حق مسلم فهو له، ولیس لعرق ظالم حق».(4)

وروی البیهقی أیضا بسنده، عن عروة بن الزبیر، عن أبیه، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «من أحیا أرضا میتة لم تکن لأحد قبله فهی له، ولیس لعرق ظالم حق».(5)

وروی أبوداود بسنده، عن سمرة، عن النبی صلی الله علیه و آله ، قال: «من أحاط حائطا علی أرض فهی له»(6).

ورواه أیضا فی مستدرک الوسائل، عن عوالی اللآلی، عن سمرة.(7)

وروی البیهقی بسنده عن سمرة، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «من أحاط علی شیء

ص: 68


1- (231) سنن أبی داود 2/158، کتاب الخراج والفیء والإمارة، باب فی إحیاء الموات.
2- (232) سنن البیهقی 6/142، کتاب إحیاء أرضا میتة لیست لأحد... .
3- (233) سنن البیهقی 6/142، کتاب إحیاء الموات، باب من أحیاء أرضا میتة فهی له...
4- (234) سنن البیهقی 6/142، کتاب إحیاء الموات، باب من أحیا أرضا میتة لیست لأحد...
5- (235) سنن البیهقی 6/142، کتاب إحیاء الموات، باب من أحیا أرضا میتة لیست لأحد...
6- (236) سنن أبی داود 2/159، کتاب الخراج...، باب فی إحیاء الموات.
7- (237) مستدرک الوسائل 17/111، ح3، الباب 1 من کتاب إحیاء الموات؛ عوالی اللآلی، 3/480، ح3.

فهو أحق به، ولیس لعرق ظالم حق».(1)

البیهقی بسنده عن طاوُس، عن ابن عباس، قال: «إنّ عادیّ الأرض للّه ولرسوله ولکم من بعد، فمن أحیا شیئا من موتان الأرض فهو أحق به»(2).

وروی نحوه فی المستدرک عن عوالی اللآلی.(3)

البیهقی بسنده عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «موتان الأرض للّه ولرسوله، فمن أحیا منها شیئا فهی له»(4).

ورواه فی المستدرک عن عوالی اللآلی.(5)

قولان رئیسیان فی المسألة
اشارة

وهما:

«القول الأوّل: المشهور من أنّ الإحیاء کبقیّة الأسباب المملکة _ سواءً الإنشائیّة منها کالبیع والإجارة أو القهریّة کالإرث _ یعدّ من أسباب حصول الملک، وقد ادّعوا علیه الإجماع، واعتبروا الإحیاء مملّکا برغم بقاء ملکیّة الإمام علیه السلام علی الأرض.

القول الثانی: أنّ الإحیاء لا یعدّ من الأسباب المملّکة، بل هی تفید الأولویّة وحقّ الاختصاص بالأرض»(6).

ص: 69


1- (238) سنن البیهقی 6/142، کتاب إحیاء الموات، باب من أحیا أرضا میتة لیست لأحد...
2- (239) سنن البیهقی 6/143، کتاب إحیاء الموات، باب لا یترک ذمّی... .
3- (240) مستدرک الوسائل 17/112، ح5، الباب 1 من کتاب إحیاء الموات، عوالی اللآلی 1/44، ح58.
4- (241) سنن البیهقی 6/143، کتاب إحیاء الموات، باب لا یترک ذمّی... .
5- (242) مستدرک الوسائل 17/111، ح2، الباب 1 من کتاب إحیاء الموات؛ عوالی اللآلی 3/480، ح1.
6- (243) العقد النضید 4/363.
أدلّة القول الأوّل

1_ الإجماع

الوارد فی مقالات العلاّمة(1) وابن فهد الحلّی(2) والفاضل المقداد(3) رحمهم الله کما مرّت(4) فی مقالة الشیخ الأعظم(5) فی أوّل البحث.

ویرد علیه: أوّلاً: الإجماع لم یتم مع وجود قول آخر فی المسألة.

وثانیا: علی فرض تمامیته یکون مدرکیّا فلابدّ من ملاحظه غیره من الأدلة.

2_ استدلال العلاّمة قدس سره

حیث یقول: «ولأنّ الحاجة تدعوا إلی ذلک، وتشتدّ الضرورة إلیه؛ لأنّ الإنسان مدنیٌّ بالطبع، لا یمکنه أن یعیش کغیره من الحیوانات، بل لابدّ من مسکنٍ یأوی إلیه هو وعیاله، وموضع یختصّ به، فلو لم یشرع الإحیاء لزم الحرج العظیم، وهو منفیٌّ إجماعا»(6).

وَیَرِدُ علیه: أنّ مَدَنَیّةَ طبیعة الإنسان واحتیاجه إلی المسکن والعمل والمزرع لاتقتضیان لزوم تحقّق الملکیة، لإمکان رفع الضرورة بثبوت حقّ الاختصاص والأَولویة فهذا الاستدلال، استدلال بالأعم علی الأخص وهو لا یفید.

3_ الحرج العظیم المنفی

الوارد فی مقالة العلاّمة الماضیة آنفا بتقریب: أنّ الملکیة إذا لم تحققت بالإحیاء تستلزم الحرج العظیم المنفی فی الشریعة المقدسة.

وَیَرِدُ علیه: أوّلاً: قد مرّ مرارا وتکرارا بأنّ دلیل رفع الحرج من الأدلة النافیة

ص: 70


1- (244) تذکرة الفقهاء 19/354.
2- (245) المهذب البارع 4/285.
3- (246) التنقیح الرائع 4/98.
4- (247) راجع هذا المجلد صفحة 64.
5- (248) المکاسب 4/17.
6- (249) تذکرة الفقهاء 19/354.

للحکم ولا یمکن اثبات الحکم به.

وثانیا: علی فرض اثبات الحکم به یمکن رفعه بثبوت الإباحة المطلقة لمن یقوم بعملیة الإحیاء، بحیث تبقی رقبة الأرض علی ملک الإمام علیه السلام ولکن یبیح التصرف للمحیی کما مرّ نظیرها فی الأرض العامرة بالأصالة.

وثالثا: وهکذا یمکن رفعه بثبوت حقّ الاختصاص والأَولویة فلا یمکن إثبات الملکیة به.

4_ النصوص المتواترة إجمالاً بین الفریقین

التی مرّت عشرون منها آنفا وظهورها علی الملکیة ممّا لا ینکر وکذا ظهور «اللام» فیها وغیرها من الظهورات الواردة فی النصوص کما مرّت بعضها فی المجلد الثالث من المکاسب المحرمة.(1)

أدلة القول الثانی
اشارة

«وقد نسب هذا القول إلی جماعة من الأصحاب: منهم شیخ الطائفة الشیخ الطوسی قدس سره فی کتابه المبسوط(2).

ومنهم المحقّق فی کتابه الشّرائع(3) فی بحث الجهاد.

ومنهم الشهید الثانی قدس سره فی المسالک(4)، بل حکی هذا القول فیه عن الأکثر.

ومنهم السیّد محمّد من آل بحرالعلوم قدس سره فی بلغته(5)»(6).

وتبعهم المحقّقون الإصفهانی(7) والخوئی(8) والمنتظری(9) والفیاض(10) ورآه

ص: 71


1- (250) الآراء الفقهیة 3/467 وما بعدها.
2- (251) المبسوط 3/370.
3- (252) الشرائع 3/215 و 216.
4- (253) المسالک 12/401.
5- (254) بلغة الفقیه 1/347.
6- (255) الأراضی /98 بترتیب وتخریج منّا.
7- (256) حاشیته علی المکاسب 3/20.
8- (257) مصباح الفقاهة 5/131؛ التنقیح فی شرح المکاسب 2/246.
9- (258) دراسات فی ولایة الفقیه 4/205.
10- (259) الأراضی /113.

الشهید السیّد محمّدباقر الصدر(1) رأیا فقهیا یبدو أکثر انسجاما مع نصوص الشریعة.

واستدلوا علیه بعدّة من الروایات تدلّ علی «عدم خروج الأرض عن ملک صاحبها بالقیام بعملیة الإحیاء والعمارة، ودخولا فی ملک من یقوم بهذه العملیة.

منها: صحیحة أبی سیّار مسمع بن عبدالملک _ فی حدیث _ قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی کنت ولیت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئت بخمسها ثمانین ألف درهم، وکرهت أن أحبسها عنک وأعرض لها وهی حقّک الذی جعل اللّه تعالی لک فی أموالنا، فقال: وما لنا من الأرض وما أخرج اللّه منها إلاّ الخمس؟! یا أبا سیّار، الأرض کلّها لنا، فما أخرج اللّه منها من شیء فهو لنا، قال: قلت له: أنا أحمل إلیک المال کلّه؟ فقال لی: یا أبا سیّار، قد طیبناه لک وحللناک منه فضمّ إلیک مالک، وکلّ ما کان فی أیدی شیعتنا من الأرض فهم فیه محلّلون، ومحلّل لهم ذلک إلی أن یقوم قائمنا فیجبیهم طسق ما کان فی أیدی سواهم، فإنّ کسبهم من الأرض حرام علیهم حتّی یقوم قائمنا فیأخذ الأرض من أیدیهم ویخرجهم منها صغرة.(2)

«وقد اسْتُفِیْدَ من هذه الصحیحة عدّة أُمور:

الأوّل: استُفید من إطلاق قوله: «الأرض کلّها لنا...» أنّ أصل رقبة الأرض وما یتفرّع منها _ قبل الإحیاء وبعده _ للإمام، ومقتضی الجمع بین هذا الخبر وأخبار الإحیاء ثبوت الملکیّة للإمام وحقّ التصرّف للمُحیی.

الثانی: کما یستکشف من قوله: «فکلّ ما فی أیدی شیعتنا من الأرض فهم فیه محلّلون» ثبوت الملکیّة للإمام والحقّ للمحیی.

الثالث: کما یستکشف من قوله: «فیجریهم طسق ما کان فی أیدی سواهم» أنّ

ص: 72


1- (260) اقتصادنا /416 (طبعة اُخری /463).
2- (261) وسائل الشیعة 9/548، ح12.

الإمام یسترجع أُجرة أرضه من المخالفین دون شیعته، حیث یعطف علیهم بإباحة اُجرتها وطسقها لهم.

الرابع: کما إنّ قوله: «فإنّ کسبهم من الأرض حرامٌ علیهم» دلیلٌ علی [عدم[ ملکیّتهم، لعدم إمکان اجتماع حرمة التصرّف مع ملکیّة المحیی.

الخامس: کما إنّ قوله: «فیأخذ الأرض من أیدیهم» دلیلٌ علی عدم مملکیّة الإحیاء، وإلاّ لما جاز سلب الملکیّة عن المالک وإخراجه من أرضه»(1).

وبعبارةٍ أُخری: «یستفاد منه کون الأرض مطلقا ومنها الموات للإمام وأنها مباحة لشیعتهم ولکن لهم أخذ طسقها بل استرداد أصلها منهم فیدلّ علی عدم انتقال الرقبة إلیهم وبقاء علاقة الإمام بها»(2).

منها: خبر أبی خالد الکابلی عن أبی جعفر علیه السلام قال وجدنا فی کتاب علی علیه السلام أنَّ الأرض للّه یورثها من یشاء من عباده «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»(3)، أنا وأهل بیتی الذین أورثنا الأرض ونحن المتقون والأرض کلّها لنا، فمن أحیی أرضا من المسلمین فلیعمرها، ولیؤد خراجها إلی الإمام من أهل بیتی، وله ما أکل منها، فإن ترکها وأخربها، فأخذها رجل من المسلمین من بعده، فعمرها وأحیاها، فهو أحقّ بها من الذی ترکها، فلیؤدّ خراجها إلی الإمام من أهل بیتی، وله ما أکل منها، کما حواها رسول اللّه صلی الله علیه و آله ومنعها، إلاّ ما کان فی أیدی شیعتنا، فإنّه یقاطعهم علی ما فی أیدیهم، ویترک الأرض فی أیدیهم.(4)

وهذه الروایة تتضمن عدة نقاط:

الأولی: أنّ الأرض بتمامها داخلة فی نطاق ملکیة الإمام علیه السلام ، وقد تقدم أنّ هذه الملکیة حکم شرعی، لا أمر تکوینی، ولا معنوی، وذکرنا أنّه لا مناص من الالتزام بذلک.

الثانیة: أنّه قد قید المحیی فیها بکونه من المسلمین، وسیأتی الکلام من هذه

ص: 73


1- (262) العقد النضید 4/370.
2- (263) دراسات فی ولایة الفقیه 4/203.
3- (264) سورة الأعراف /128.
4- (265) وسائل الشیعة 25/414، ح2، الباب 3 من أبواب إحیاء الموات.

الناحیة فی ضمن الأبحاث الآتیة.

الثالثة: أنّ الإمام علیه السلام قد فرض الخراج فی هذه الروایة علی من یقوم بعملیة الإحیاء تفریعا علی ملکیته علیه السلام ومن الطبیعیّ أنّ هذه النقطة تنص علی أنّ عملیة الإحیاء فی أرض الإمام علیه السلام لا توجب تملک المحیی لرقبتها. وإنّما هی توجب کونه أحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ بها من غیره، وإلاّ فلا مقتضی لفرض الخراج علیه.

الرابعة: أنّ الحق الخاص الذی حصل للمحیی فی الأرض علی أساس قیامه بإحیائها إنما هو یرتبط بالأرض ما دامت حیّة، فإذا انقطعت الحیاة عنها بترکها انقطع حقّه عنها نهائیا، فإذا قام غیره بإحیائها ثانیا حصل له الحقّ فیها علی أساس ذلک. وهذه النقطة تدلّ بوضوح علی أنّ رقبة الأرض قد ظلت فی ملک الإمام علیه السلام .

الخامسة: ان القائم من آل محمّد صلی الله علیه و آله إذا ظهر بالسیف أخذ الأرض التی فی أیدی غیر الشیعة، وَتَرَکَ الأرض التی فی أیدیهم. وهذه نص فی بقاء علاقة الإمام علیه السلام بالأرض، وعدم انقطاع علاقته عنها بقیام غیره بإحیائها.

وبعبارة أُخری: یستفاد من هذه الروایة أمورٌ:

«الأوّل: أن الأرضین کلها للإمام بما هو إمام، یعنی أن له الولایة علیها وتکون تحت اختیاره.

الثانی: أن کل مسلم مجاز فی إحیائها وعمرانها.

الثالث: أنه یجب علی من أحیا شیئا منها أن یؤدّی خراجها إلی الإمام من أهل بیتی، یعنی من له حق الإمامة لاکلّ من یدعیها ویتقمصها جورا. ولازمه عدم تملک المحیی للرقبة وإن صار أحق بها من غیره.

الرابع: أن حق المحیی ثابت مادام یتوجه إلیها وإلی إحیائها، فإن ترکها بالکلیة أو خربت وزالت آثار إحیائه زالت علاقة المحیی بها بالکلیة وجاز لغیره إحیاؤها وأداء خراجها إلی الإمام.

الخامس: أن للقائم من آل محمّد علیه السلام الذیی صار قادرا مبسوط الید أن یأخذ الأرض ممن فیها، نعم لا یأخذها من شیعته ولعله لشفقته الخاصة بهم.

ص: 74

ومقتضی جمیع ذلک بقاء علاقة الإمام بالأرض فی جمیع المراحل، فیکون وزان الإمام فی إذنه لإحیاء الأرض وزان من حفر قناة وهیأ ماء لمنطقة خاصة ثمّ نادی: من أحیا وعمر قسمة من هذه المنطقة صار أحق بها من غیره، فلیس معنی ذلک إلاّ أنه أولی بالتصرف فیها وأنه یملک آثار إحیائه لا أنه یملک رقبة الأرض وتنقطع علاقة المالک عنها»(1).

ومنها: صحیحة عمر بن یزید قال: سمعت رجلاً من أهل الجبل، یَسْأَلُ أباعبداللّه علیه السلام عن رجل أخذ أرضا ممّا ترکها أهلها، فعمّرها وکری أنهارها، وبنی فیها بیوتا، وغرس فیها نخلا شجرا؟ قال: فقال أبوعبداللّه علیه السلام : کان أمیرالمؤمنین علیه السلام یقول: «من أحیی أرضا من المؤمنین فهی له. وعلیه طسقها یؤدیها إلی الإمام علیه السلام فی حال الهدنة فإذا ظهر القائم علیه السلام فلیوطن نفسه علی أن تؤخذ منه»(2).

«المستفاد من مضمون هذه الصحیحة أمران:

الأوّل: أنّ الأرض عاریة بید المؤمنین زمن الغیبة وإنّما علیهم دفع طسقها، وأمّا إذا ظهر الإمام علیه السلام فعلیهم أن یوطّنوا أنفسهم علی الاسترجاع منهم»(3).

فحینئذٍ ذَیْلُها نصّ: فی بقاء الأرض فی نطاق ملکیة الإمام علیه السلام ولا تنقطع علاقته علیه السلام عنها نهائیا بقیام غیره بإحیائها.

«الثانی: استدلّ من التزم بأنّ الإحیاء من أسباب ملکیّة الأرض الموات باللاّم الواردة فی بعض الأخبار والظاهرة فی الملک، وما ورد فی هذه الصحیحة من قوله: «من أحیا أرضا من المؤمنین فهی له» یعدّ مفسّرا للاّم المذکورة فی تلک الأخبار، ونسبتهما نسبة العموم والخصوص المطلق، أی الحاکم والمحکوم والمفسَّر والمفسِّر دون التعارض، فتدلّ الأخیرة علی أنّ المؤمن یملک الأرض بالکیفیّة المذکورة لا مطلقا»(4).

ص: 75


1- (266) دراسات فی ولایة الفقیه 4/201.
2- (267) وسائل الشیعة 9/549، ح13، الباب 4 من أبواب الأنفال.
3- (268) العقد النضید 4/371.
4- (269) العقد النضید 4/371.

وبعبارة أُخری: «مفادها أنَّ الأرض للإمام وأنّ للمؤمن إحیاءها، ومع تصریحها بأنّها لمن أحیاها صرّح بأنّ علیه طسقها وأن للقائم علیه السلام أن یأخذها منه. فیستفاد منها بقاء علاقة الإمام بها وعدم مالکیة المحیی لرقبتها، فیراد بکونها له أحقیته بها من غیره ومالکیته لآثار إحیائه، وبذلک یفسّر سائر الأخبار الحاکمة بأنّ من أحیا أرضا فهی له.

ولعل المقصود بالإمام فی حال الهدنة مطلق من له حق الإمامة شرعا لاخصوص المعصوم، کما یحتمل بعیدا أن یراد بالقائم فیها کلّ مَنْ له حق الإمامة إذا قام بالسیف. ولا یلازم توطین النفس علی أخذ الأرض منه أخذ الأرض منه أخذها منه فعلاً بل یراد إیمانه بأنَّ الأرض لیست له، فلا ینافی هذا روایة الکابلی الحاکمة بعدم أخذها من الشیعة، فتدبّر»(1).

أقول: لا نوافق مع بعض أساتذتنا قدس سره فی کلامه الأخیر: «لعلّ المقصود...» الخ ولعلّ أشار إلی ضعفه بالتدبّر فی آخر کلامه.

ومنها: صحیحة سلیمان بن خالد قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن الرجل یأتی الأرض الخربة، فیستخرجها ویجری أنهارها ویعمرها ویزرعها ماذا علیه؟ قال: «الصدقة، قلت: فان کان یعرف صاحبها، قال: فَلْیُؤَدِّ إلیه حقّه»(2).

فإنّ قوله علیه السلام : «فلیؤد إلیه حقّه» نص فی أنّ علاقة صاحب الأرض لا تنقطع عن أرضه نهائیا بذلک. وإلاّ لم یبق حقّ له.

وبعد ذلک نقول. ان هذه المجموعة التی هی روایات أرْبَعٌ بما انها نص فی أنّ علاقة الإمام علیه السلام لا تنقطع عن رقبة الأرض بقیام غیره بعملیة إحیائها واستثمارها، فبطبیعة الحال تتقدم علی المجموعة السابقة التی هی ظاهرة فی أنّ عملیة الإحیاء توجب تملک المحیی لرقبة الأرض، فإنّ النص یتقدم علی الظاهر، بل لو لم تکن نصا فلا شبهة فی أنّها أظهر من تلک المجموعة، والأظهر یتقدم لدی العرف علی الظّاهر، فلا معارضة بینهما.

ص: 76


1- (270) دراسات فی ولایة الفقیه 4/202.
2- (271) وسائل الشیعة 25/415، ح3.

وعلیه فلابدّ من رفع الید عن ظهور تلک المجموعة، وحملها علی أنّ العلاقة التی توجبها عملیة الاحیاء للمحیی بالأرض إنّما هی علی مستوی الحقّ فحسب، دون الملک، بقرینة هذه المجموعة»(1).

«وبالجملة، المستفاد من هذه الأخبار الصحیحة التی أفتی بمضمونها الشیخ(2) وابن البراج(3) وابن زهرة(4) فی کتبهم المعدة لنقل المسائل المأثورة عن الأئمة علیهم السلام : هو أن الأرض الموات للإمام وفاقا لسائر الأخبار الحاکمة بذلک، وأن للمسلمین إحیاءها وأداء طسقها إلیه، وأن للقائم علیه السلام إذا قام أخذ الأرض منهم.

ومقتضی ذلک کله بقاء علاقة الإمام بها وأن المحیی لا یملک الرقبة بل یملک ما هو أثر فعله من آثار الإحیاء ما بقیت ویکون هو أحقّ بها من غیره وأولی بالتصرف فیها. وأفتی فی السرائر(5) أیضا بمثل ما أفتوا به، فیکون هذا القول مشهورا بین قدماء أصحابنا»(6).

اشکالات ثلاثة علی القول الثانی

الأوّل: صحیحة عبداللّه بن سنان نصٌ فی القول الأوّل

صحیحة عبداللّه بن سنان، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال: سُئل _ وأنا حاضر _ عن رجل أحیی أرضا مواتا، فکری فیها نهرا، وبنی بیوتا، وغرس نخلاً وشجرا، فقال: هی له، وله أجر بیوتها، وعلیه فیها العشر فیما سقت السماء، أو سیل وادٍ عین، وعلیه فیما سقت الدوالی والغرب نصف العشر.(7)

ص: 77


1- (272) الأراضی /(97-95) مع إضافات وإصلاحات کثیرة.
2- (273) المبسوط 3/370.
3- (274) المهذب 1/183.
4- (275) الغنیة /293.
5- (276) السرائر 1/481.
6- (277) دراسات فی ولایة الفقیه 4/203.
7- (278) وسائل الشیعة 25/412، ح8، الباب 1 من أبواب إحیاء الموات.

بتقریب: هذه الصحیحة «نص فی أنّ صلة الإمام علیه السلام بالأرض تنقطع عنها نهائیا بقیام غیره بإحیائها والسیطرة علیها. وکذا نص فی نفی الخراج بقرینة الاقتصار فیها علی ذکر الزکاة.

فإذن بطبیعة الحال تقع المعارضة بین هذه الصحیحة، والصحاح المتقدمة، باعتبار أنّ هذه الصحیحة نص فی أنّ عملیة الإحیاء توجب علاقة المحیی بالأرض علی مستوی الملک، وانقطاع علاقة الإمام علیه السلام عنها نهائیا، وتلک الصحاح نص فی أنّها لا توجب إلاّ علاقة المحیی بها علی مستوی الحقّ، وبما أنّه لا مرجح لتلک الصحاح علیها، فلا یمکن الأخذ بها، وطرح صحیحة عبداللّه بن سنان، فإذن لا محالة تسقطان معا، وبعد سقوطهما کذلک لا مانع من الرجوع إلی المجموعة الأُولی من الروایات الظاهرة فی أنّ عملیة الإحیاء توجب الملک، وذلک لأنّ المانع من الأخذ بظاهر تلک المجموعة انما هو الصحاح المزبورة، فإذا افترض سقوطها بالمعارضة لم تصلح للمانعیة عن الاخذ بظاهرها.

ونظیر ذلک ما إذا کان فی المسألة عام وخاص، وفرضنا أنّ الخاص قد سقط عن الاعتبار، إمّا من ناحیة ابتلائه بالمعارض: أو من ناحیة أُخری، فعندئذٍ لا مانع من الرجوع إلی العام»(1).

ویمکن أن یجاب عنه: بأنّ کبری هذا الإشکال «وإن کانت فی غایة الصحة والمتانة، ولا إشکال عند الأصحاب فیها، لا نظریّا، ولا عملیّا فی أبواب الفقه إلاّ أنّ ما نحن فیه لیس من صغری تلک الکبری، وذلک لأنّ صحیحة عبداللّه بن سنان لا تصلح أنْ تکون طرفا للمعارضة مع الصحاح المتقدمة، لوضوح أنّ الصحیحة لیست نصا فی مدلولها، بل ولا أظهر من الروایات المتقدمة، ضرورة أنّ قوله علیه السلام فی الصحیحة: «هی له»، کقوله علیه السلام فی تلک الروایات «فهی له» فإنّ التعبیر فیهما علی مستوی واحد، ومن المعلوم أنّ المتفاهم العرفی من مثل هذا التعبیر لیس أزید من الظهور فی الاختصاص علی مستوی الملک، کما أنّ دلالة الصحیحة علی عدم وجوب الخراج لا تتعدی عن الظهور

ص: 78


1- (279) الأراضی /98.

الإطلاقی الناشیء من السکوت فی مقام البیان.

وإن شئت قلت: إنّ الصحیحة بما أنّها کانت فی مقام البیان، ومع ذلک قد اقتصرت علی وجوب الزکاة، وسکتت عن وجوب الخراج، فیحصل لها ظهور عرفی فی عدم وجوبه. ومن الواضح انّ هذا الظهور لیس بأقوی من سائر الظهورات.

فالنتیجة فی نهایة الشوط: إنّ ظهور هذه الصحیحة فی سببیة الإحیاء للملک، لیس بأقوی من ظهور الروایات المتقدمة فی ذلک فضلاً عن کونها نصا، فلا فرق بینها، وبین تلک الروایات من هذه الناحیة»(1).

الثانی: جواز بیع هذه الأراضی تنافی مع القول الثانی

بتقریب: «ترتّب آثار الملک علی الأرض المحیاة، حیث اتّفق الجمیع علی جواز بیعها بعد الإحیاء، ممّا یتنافی مع القول بثبوت الحقّ، ویتأکّد الإشکال بناءً علی اعتبار الملکیّة فی المبیع.

یمکن الإجابة عنه: أوّلاً: بحسب المبانی المختلفة:

أمّا علی المبنی المشهور:من الالتزام بثبوت الحقّ والحکم بصحّة البیع، فالجواب عنه یکون بعین ما أُجیب عن ترتیب آثار الملکِ علی المعاطاة، حیث التزمنا بأنّ مقتضی الجمع بین دلیل «لا بیع إلاّ فی ملک» واستصحاب عدم تحقّق المِلک من خلال البیع الفعلی، هو تحقّق الملکیّة آنا مّا قبیل التصرّفات المتوقّفة علی المِلک، وکذلک الحال فی المقام فإنّ مقتضی الجمع بین ما دلّ علی أنّ الإحیاء یثبت الحقّ، وقیام الضرورة القطعیّة والسیرة الثابتة علی صحّة التصرّفات الصادرة من المحیی علی الأرض من البیع والإجارة وغیرهما، هو تحقّق الملکیّة آنا مّا وقبل قیام المحیی بالتصرّفات المتوقّفة علی الملک.

وأمّا علی المبنی الثانی(2) المخالف للمشهور: القائل بأنّ البیع هو تبدیل طرفی

ص: 79


1- (280) الأراضی /99 و 100.
2- (281) وهو مختار المحقّقیْن: النائینی وتلمیذه السیّد الخوئی _ رحمهما اللّه _ .

الإضافة سواءً کانت الإضافة ملکا أو حقّا، فإنّ الإشکال مندفع أیضا لصحّة المبادلة فی مطلق الإضافة وإن کانت حقّا.

وأمّا علی مبنی المحقّق الإصفهانی: القائل بأنّ حقیقة البیع هو: «جعل الشیء بإزاء شیء آخر» الشامل للمِلک والحقّ؛ لأنّ الشیء الآخر الواقع بإزاء الثمن قد تکون أرضا وقد یکون حقّا، ویکون الإشکال أیضا مندفعا لأنّ متعلّق الشیء علی هذا المبنی أعمّ من المملوک والحق»(1)

وثانیا: یجوز بیعها کما یجوز بیع الأراضی الخراجیة باعتبار ما أحدثها علی الأرض من الزرع والغرس والحفر والبناء وغیرها من الإحداثات التی تملکها المحیی علیها بلا اشکال عند الجمیع واللّه العالم.

الثالث: ثبوت الخمس فی نفس الأرض المحیاة یُنافی القول الثانی

عدّ السیّد الخوئی هذا الإشکال من الفروع المبتلی بها کثیرا وَسَلَّمَ بهِ وذهب فی تقریر بحثه بعدم ثبوت الخمس فیها وقال: «وقد سُئلنا عنه مرارا وهو ثبوت الخمس فی نفس الأرض الموات بعد الإحیاء إذا کان الإحیاءُ للتجارة دون مؤنة نفسه وعیاله فإنّه علی ما ذکرناه لا خمس فی نفس الأرض لعدم کونه ملکا للمُحیی لیدخل تحت المنافع الحاصلة یوما فیوما، بل یثبت الخمس فی منافعها بعد مضی الحول کما هو واضح»(2).

ولکنّه تراجع عن هذا التَّسْلِیْمِ وذهب إلی الالتزام بثبوت الخمس فی نفس هذه الأراضی فی کتاب فتواه حیث یقول: «... وأمّا إذا کان تعمیره بقصد التجارة بنفس البستان وجب الخمس فی ارتفاع القیمة الحاصل فی آخر السنة، وإن لم یبعه کما عرفت»(3).

فهذا الاشکال لا یمکن الإجابة عنه إلاّ بالقول بعدم ثبوت الخمس فی نفس هذه الأراضی وفتوی الأصحاب علی خلافه.

ص: 80


1- (282) العقد النضید 4/373.
2- (283) مصباح الفقاهة 5/131.
3- (284) منهاج الصالحین 1/333، مسألة 1215.
فذلکة الکلام بین القولین والمختار منهما

مستند القولین _ القول بالملکیّة والقول بالأحقیّة والاُولویة _ طائفتان من الروایات کما مرّتا وهما فی بدایة الأمر متعارضتان فلابدّ من الجمع بینهما لو أمکن وإلاّ إعمال قواعد الترجیح لو وُجد وإلاّ قواعد التعارض.

وأمّا الجمع: فممکن لوجود روایات شاهد الجمع بینهما وهی: موثقة أو صحیحة محمّد بن مسلم الماضیة وفی آخرها: ... وأیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض وعملوها فهم أحقّ بها وهی لهم.(1)

فی هذه الموثقة أو الصحیحة فسّر الإمام علیه السلام أنّ المراد بالأحقیّة فی إحیا الأرض هی المالکیة بقرینة «اللام» الظاهرة فی الملکیة.(2)

ومثلها: معتبرة محمّد بن مسلم قال: سمعت أباجعفر علیه السلام یقول: أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض وعمروها فهم أحقّ بها وهی لهم.(3)

ونحوها مرسلة الصدوق وفیها: ... وأیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض فعمروه فهم أحقّ به وهو لهم.(4)

وقد کتبت فی الجزء الثالث: «ومن هنا ظهر معنی کلمة «الأحقیّة» فی غیرها من الروایات الواردة فی شأن الإحیاء أنّ المراد بها هی الملکیة:

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: أیّما قوم أحیوا شیئا من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها.(5)

فقد ظهر ممّا ذکرنا أنّ المراد بأداء الحقّ الوارد فی صحیحة سلیمان بن خالد هو ردّ رقبة الأرض للمحیی الأول ، لأنّ حقّه هو ملکیته للأرض، وإلیک نصها:

ص: 81


1- (285) وسائل الشیعة 15/156، ح2، وسائل الشیعة 25/411، ح1.
2- (286) کما مرّ منّا هذا الجمع فی هذا الکتاب: الآراء الفقهیة 3/468.
3- (287) وسائل الشیعة 25/412، ح4.
4- (288) وسائل الشیعة 25/412، ح7.
5- (289) وسائل الشیعة 25/411 ح2 .

صحیحة سلیمان بن خالد قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن الرجل یأتی الأرض الخربة فیستخرجها ویجری أنهارها ویعمرها ویزرعها ماذا علیه؟ قال: الصدقة، قلت: فإن کان یعرف صاحبها؟ قال: فلیؤدّ إلیه حقّه.(1)

وفی هذه الصحیحة یسأل السائل عن أرضٍ کان لها مالک ولکنّه ترک إحیاءها فصار مواتا وأحیاها الثانی فماذا علیه؟ أجاب الإمام بأنّ علیه الصدقة - أی الزکاة فقط - إن کان لا یعرف صاحبها أو یعلم إعراضه عنها ولکنه إذا عرف صاحبها فلیودّ إلیه حقّه أی أرضه، لأنّه مالک لرقبة الأرض. هذا ما استفدتُهُ منها.

وکذا یُحمل الترک علی الإعراض فی الروایات الآتیة بقرینة أنّ المحیی یصیر مالکا لرقبة الأرض.

نحو: صحیحة معاویة بن وهب قال : سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: أیّما رجل أتی خربة بائرة فاستخرجها وکری أنهارها وعمرّها فإنّ علیه فیها الصدقة، فإن کانت أرض لرجل قبله فغاب عنها وترکها فأخرجها، ثم جاء بعد یطلبها فإن الأرض للّه ولمن عمّرها.(2)

بل لابدّ أن تُحمل فی هذه الصحیحة کلمة «ترکها» ب_ «أعرض عنها»، وإلاّ لا یتم تطبیق الکبری الموجودة فی آخرها علی المطلوب، وهو ملکیة المحیی الثانی علی الأرض، وهی قوله علیه السلام : «فإنّ الأرض للّه ولمن عمّرها».

ولأنه لو لم یعرض المحیی الأوّل عن الأرض فالکبری تنطبق علیه لا علی الثانی، فلابدّ من حمل کلمة «ترکها» فیها علی الإعراض حتّی تنطبق الکبری علی الثانی. والأمر هکذا فی الصحیحة الآتیة، فلابدّ من حمل کلمة «ترکها أهلها» فی کلام السائل علی إعراض أهلها، وإلاّ لم تنطبق الکبری الواردة فی کلام الإمام علیه السلام ، وهی قوله: «مَنْ أحیی أرضا من المؤمنین فهی له» علی المحیی الثانی، بل تنطبق علی المحیی الأوّل، وهو

ص: 82


1- (290) وسائل الشیعة 25/415 ح3 .
2- (291) وسائل الشیعة 25/414 ح1 .

خلاف المطلوب. هذا ما ظهر لی عند التأمل.

ومنها: صحیحة عمر بن یزید قال: سمعت رجلاً من أهل الجبل یسأل أباعبداللّه علیه السلام عن رجل أخذ أرضا مواتا ترکها أهلها فعمّرها وکری أنهارها وبنی فیها بیوتا وغرس فیها نخلاً وشجرا؟ قال: فقال أبوعبداللّه علیه السلام : کان أمیرالمؤمنین علیه السلام یقول: من أحیی أرضا من المؤمنین فهی له وعلیه طَسْقها یؤدّیه إلی الإمام فی حالة الهدنة، فإذا ظهر القائم فلیوطن نفسه علی أن تؤخذ منه.(1)

یُحمل بقرینة ما ذکرنا «الترک» الوارد فی کلام السائل علی الإعراض، ولکن الوارد فی جواب الإمام علیه السلام تقیید المحیی بالإیمان، ولا یمکن تقیید المطلقات به لأنّهما مثبتان. والظاهر بعد قبول أنّ عملیة الإحیاء توجب الملکیة لابدّ من حمل الطسق الوارد فیها علی الزکاة، کما یَظْهَرُ من صحیحتی سلیمان بن خالد(2) وعبداللّه بن سنان(3) الماضِیَتَیْنِ.

ویمکن أن یبقی علی ظاهره فیصیر معنی کلمة «الطسق» الأُجرة، لأنّ الأرض الموات من الأنفال، والأنفال کلّها للإمام علیه السلام ، فیمکن له أن یأذن فی عملیة الإحیاء ولکن مع جعل الطَسْق، أی الأجرة علی المحیی، فله أنّ یجعل الطسق والاُجرة. ولکن لم یعهد منهم هذا الجعل، ویمکن أن یجعله صاحب العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) بعد ظهوره.

وأما التفصیل الوارد فیها بین زمان ظهور القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) وبین غیره فلا بأس به، أی للقائم (عج) أن یأخذ الأرض من المحیی أو له أن یجعل علیه الطسق أو الأجرة. کما یمکن دعوی أنّ المراد بالهدنة زمن حکومة غیر الأئمة علیهم السلام ، والمراد بزمن الظهور زمن حکومتهم، لأنَّهُمْ کُلَّهم هُمُ القائمون بالحقّ.

ویمکن أن یقال: بأنّ الضمیر المستتر فی کلمة «تؤخذ» یرجع إلی الزکاة، فیصیر المعنی: أنّ القائم _ بالمعنیین _ یأخذ الزکاة فی زمن ظهوره أو اقتداره ولکن فی غیرها من

ص: 83


1- (292) وسائل الشیعة 9/549 ح13 .
2- (293) وسائل الشیعة 25/415 ح3 .
3- (294) وسائل الشیعة 25/412 ح8 .

الزمن علی المالک أن یؤدیها. هذا ما ظهر لنا بعد التأمل فی الروایة.

ومنها: خبر أبی خالد الکابلی عن أبی جعفر علیه السلام قال: وجدنا فی کتاب علی علیه السلام : «إِنَّ الاْءَرْضَ للّه ِِ یُورِثُهَا مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»(1)، أنا وأهل بیتی الذین أورثنا الأرض ونحن المتقون والأرض کلّها لنا، فمن أحیی أرضا من المسلمین فلیعمرها ولیؤدّ خراجها إلی الإمام من أهل بیتی وله ما أکل منها، فإن ترکها وأخربها فأخذها رجل من المسلمین من بعده فعمّرها وأحیاها فهو أحقّ بها من الذی ترکها، فلیؤدّ خراجها إلی الإمام من أهل بیتی وله ما أکل منها حتی یظهر القائم (عج) من أهل بیتی بالسیف، فیحویها ویمنعها ویخرجهم منها کما حواها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ومنعها، إلاّ ما کان فی أیدی شیعتنا، فإنّه یقاطعهم علی ما فی أیدیهم ویترک الأرض فی أیدیهم.(2)

عبّرنا عن الروایة بالخبر لأنَّ أبا خالد الکابلی اثْنانِ:

أحدهما: الکبیر اسمه کنکر وقیل وردان، وقد ذکره الشیخ فی أصحاب علی بن الحسین زین العابدین علیه السلام .(3) وهذا الرجل ثقة بلا ریب عندنا.

ثانیهما: الصغیر واسمه وردان ذکره الشیخ فی أصحاب الباقر علیه السلام وقال: «وردان أبوخالد الکابلی الأصغر، روی عنه علیه السلام وعن أبی عبداللّه علیه السلام ، والکبیر اسمه کنکر»(4). وکذا ذکره فی أصحاب الصادق علیه السلام وقال فی شأنه: «وردان أبو خالد الکابلی الأصغر روی عنهما علیهماالسلام والأکبر کنکر»(5). وهذا الأصغر لم یرد توثیقه، ولذا استشکل فی سند الروایة بأن أباخالد الکابلی إمّا مشترک أو أنّ الراوی عن أبی جعفر علیه السلام هو الأصغر فقط _ کما هو الصحیح _ ولذا لا یمکن الحکم باعتبار سندها. بل هی ضعیفة الإسناد لعدم اعتبار أبی خالد الکابلی الأصغر الراوی عن أبی جعفر علیه السلام ، ولذا تعجّب الشیخ الحر فی حاشیة

ص: 84


1- (295) سورة الأعراف/ 128 .
2- (296) وسائل الشیعة 25/414 ح2 .
3- (297) رجال الشیخ/ 100 الرقم 2 .
4- (298) رجال الشیخ/ 139 الرقم 5 .
5- (299) رجال الشیخ/ 328 الرقم 26 .

الوسائل(1) من الشهید الثانی فی محلِّه».

وأمّا المذکور فی رجال الشیخ فی أصحاب الصادق علیه السلام بعنوان «کنکر أبوخالد القماط کوفی»(2)، وکذلک عنونه فی الفهرست وقال: «أبوخالد القماط له کتاب وقال ابن عقدة: اسمه کنکر»(3). فهو غیرهما لأنّهما کابُلِیّانِ وهذا الرجل کوفی بتصریح الشیخ، ویبعد اتحاد الأخیر مع أبی خالد الکوفی المذکور فی رجال الشیخ فی أصحاب الرضا علیه السلام (4) لبُعد الزمان.

وأمّا دلالتها: فیمکن حملها علی ما ذکرنا ، بأنّ للإمام علیه السلام أن یجعل علی الأراضی الأنفال الخراج أو الطَسْق أو الأُجرة، والمراد بجملة «وله ما أکل منها» أنّه مالکها، ولکن لو ترکها وأعرض عنها یجوز للغیر إحیاؤها وتملکها مع أداء الخراج. ولا یمکن الحکم بتقیید مطلقات الإحیاء بالمسلمین، لأنّهما کما مرّ مثبتتان. والروایة تدلّ علی أنّ القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشریف) بعد ظهوره یأخذ الأرض من غیر شیعته ویأخذ منهم الخراج.

ولا بأس بالأخذ بما فیها بالنسبة إلی ما بعد الظهور لو تمّ سندها. والأمر فیه سهلٌ، لأنّ الإمام علیه السلام عالم بوظیفته وعلینا أن نطیعه. ویمکن اختلاف الحکم بین زمنی ما قبل الظهور وما بعده.

والحاصل: ما یظهر لنا من الروایات هو القول بملکیة رقبة الأرض للمحیی _ بلا فرق بین کونه مؤمنا أو مسلما أو کتابیا أو مشرکا _ ولا تخرج عن ملکه إلاّ بالإعراض أو الأسباب الناقلة للملک، کما علیه المشهور من أصحابنا، ولا یجوز لأحد إحیاؤها أو التصرف فیها إلاّ بإذنه.

نعم، لو لم یکن للأرض مالک معلوم یجوز إحیاؤها ولکن لو علم المحیی أو حضر

ص: 85


1- (300) وسائل الشیعة 25/415 .
2- (301) رجال الشیخ / 277 الرقم 9 .
3- (302) الفهرست/ 522 الرقم 830 .
4- (303) رجال الشیخ/ 396 الرقم 2 .

المالک یجب علی المحیی ردّ رقبة الأرض والأُجرة له.

ومن المعلوم أنّ النزاع یختص بأراضی الأنفال، وأمّا غَیْرُها من الأراضی فَلا یختلف أحدٌ بأنّها باقیة علی ملک مالکها ولو طرأ علیه الموات. ومن هنا یَظْهَرُ حکم الأراضی المفتوحة عَنْوة لو طرأ علیها الخراب، فهی باقیة علی ملک المسلمین بلا خلاف عند الأصحاب (قدس اللّه أسرارهم). هذا ما أدی إلیه نظری القاصر بعد التتبع والتأمل فی الروایات، واللّه سبحانه هو العالم»(1).

وأمّا الترجیح: فیمکن ترجیح روایات الملکیة بوجوه عدیدة:

منها: أنَّ روایات الأحقیة قد أَعْرَضَ عنها الأصحابُ وهم لا یعملون بها فتسقط عن الحجیة والاعتبار.

ومنها: «إنّ سیرة المسلمین عامة قد جرت عملیا من لدن زمان الأئمة علیهم السلام إلی زماننا هذا علی عدم اعطاء الخراج والطسق للإمام علیه السلام ومن الطبیعی أنّ هذه السیرة کما تکشف عن انقطاع صلة الإمام علیه السلام عن الأرض نهائیا ودخولها فی ملک من یقوم بإحیائها. کذلک تکشف عن إعراض الأصحاب جمیعا عن تلک الصحاح وعدم عملهم بها»(2).

ومنها: أنّ الروایات التی تدلّ علی تملک المحیی لرقبة الأرض بالإحیاء روایات معروفة مشهورة بین الأصحاب، وهذا بخلاف الروایات التی تدلّ علی عدم تملکه بعملیة الإحیاء، فإنّها بالإضافة إلیها روایات شاذة، وحیث أنّ الشهرة فی الروایة من إحدی مرجحات باب المعارضة، فتقدّم تلک الروایات المشهورة علی هذه الروایات النادرة»(3).

ومنها: لو سلّم تمامیة أسناد روایات الأحقیة ودلالتها «فهی مخالفة لارتکاز المتشرعة علی ثبوت الملک دون مجرد الحقّ»(4).

وهذه المرجحات تکفینا فی الأخذ بروایاتِ الملکیّة حتّی لو لم یقبل الجمع الذی

ص: 86


1- (304) الآراء الفقهیة 3/(473-469).
2- (305) الأراضی /103.
3- (306) الأراضی /107.
4- (307) العقد النضید 4/386.

ذکرته.

وأمّا التعارض: فلو لم یقبل الجمع والترجیح تصل النوبة إلی معارضة الطائفتین فتسقطان وتصل النوبة إلی السیرة العقلائیة الدالة علی ملکیة أراضی الموات لمحییها _ والارتکاز المتشرعة الماضیة ناشئة منها _ ، لأنّهم فی الأعصار والأمصار یعملون بها ویحکمون علیها ویمشون علی طبقها.

وعلی فرض انکار هذه السیرة العقلائیة، «یرجع إلی الأصل ومقتضی الاستصحاب أیضا بقاء الحق للمحیی الأوّل علی ما هو الصحیح من جریان الاستصحاب عند الشک فی المقتضی بل حتّی علی مختار الشیخ لأنّه من قبیل الشک فی الرافع وأنّه بعد عروض الخراب یرتفع حقّ المحیی الأوّل أم لا، والشبهة فی المقام وإن کانت حکمیّة إلاّ أنّ أمثال المورد ممّا کان الحکم بالأحقیّة ولو بعد عروض الخراب موردا لإمضاء العقلاء ولیست من الاُمور التأسیسیّة فیجری فیها الاستصحاب»(1).

والحاصل: مختارنا هو القول بالملکیة کما علیه المشهور والمعمول بها عند الأصحاب _ قدس اللّه أسرارهم _ ، واللّه العالم.

تنبیهٌ

قال الشیخ الأعظم: «لکن ببالی من المبسوط(2) کلام یشعر بأنّه یملک التصرّف، لا نفس الرقبة، فلابدّ من الملاحظة»(3).

أقول: قد بحثنا(4) عن مقالات شیخ الطائفة الطوسی قدس سره فی التهذیب(5)

ص: 87


1- (308) تعلیقة آیة اللّه الشیخ علی أصغر الأحمدی الشاهرودی قدس سره علی کتاب محاضرات فی الفقه الجعفری 3/124.
2- (309) المبسوط 2/29.
3- (310) المکاسب 4/17.
4- (311) الآراء الفقهیة 3/(458-455).
5- (312) التهذیب 4/146.

والاستبصار(1) والنهایة(2) والمبسوط جهاده(3) وإحیا مواته(4) وقلنا:

«والحاصل، أنّ الشیخ قدس سره عدل عمّا ذکره فی التهذیبین والنهایة بما ذکره فی المبسوط، وفیه ذهب إلی مالکیة أراضی الموات إذا کانت عملیة الإحیاء بإذن الإمام علیه السلام ، وذهب أیضا أنّ طرو الموات علی الأرض لا یوجب خروجها عن ملک مالکها بل یبقی فی ملکه وملک وراثه»(5).

فلا نعید البحث هنا فراجع ما حَرَّرْتُهُ هناک والحمدللّه المعید.

تذکیرٌ: ثمرات البحث بین القولین

أذکر لک بعض الثمرات المترتبة علی القولین _ الملک أو الأحقیّة _ وهی:

1_ «إمکان إسقاط الحقّ والتنازل عنه، بناءً علی ثبوت الحقّ دون المِلک، لأنّ الإضافة الحقّیة أمرٌ قابل للإسقاط والسقوط، دون الإضافة الملکیّة غیر القابلة لهما.

2_ لو قلنا بثبوت المِلک،فإنّه لا مانع فی تصحیح العقود الواقعة علی الأرض من البیع والصلح والهبة والوقف وغیرها، أمّا مع الالتزام بالحقّ فإنّه لا مجال لتصحیح هذه المعاملات إلاّ بناءً علی الملکیّة آنا مّا قبل البیع أو الصلح، وإثبات هذا النوع من الملکیّة بحاجة إلی مؤونة زائدة، وقد بحثنا عنها فی المعاطاة.

3_ أنّه تصحّ المعاوضة علی الحقّ بناءً علی إمکان وقوع الحقّ عوضا فی المعاملات، دون ما إذا التزمنا بثبوت الملک.

وبعبارة أُخری: أنّ إضافة الحقّ إلی المحیی صالحة للمعاوضة علیها، دون الإضافة الملکیّة المتوقّفة علی تحقّق متعلّق الإضافة.

ص: 88


1- (313) الاستبصار 3/108.
2- (314) النهایة /(420-418)، و 443.
3- (315) المبسوط 2/29.
4- (316) المبسوط 3/269 و 270.
5- (317) الآراء الفقهیة 3/458.

4_ عدم تعلّق الخمس بالأرض المحیاة بناءً علی الحقّ دون القول بالملک»(1).

تکمیل: بعض أحکام هذا القسم

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ القسم الثالث، إمّا أن تکون العمارة فیه من المسلمین، أو من الکفّار.

فإن کان(2) من المسلمین فملکهم لا یزول إلاّ بناقل أو بطروّ الخراب علی أحد القولین.

وإن کان من الکفّار، فکذلک إن کان فی دار الإسلام وقلنا بعدم اعتبار الإسلام، وإن اعتبرنا الإسلام، کان باقیا علی ملک الإمام علیه السلام . وإن کان فی دار الکفر، فملکها یزول بما یزول به ملک المسلم، وبالاغتنام، کسائر أموالهم»(3).

تتمیمان:
الأوّل: هل یعتبر کون المحیی مسلما؟
اشارة

فیه قولان:

1_ اعتبار اسلام المحیی

وهو ظاهر المحقّق لأنّه قال: «ملکه المحیی له إذا کان مسلما ولا یملکه الکافر»(4).

وقال ابن اخته وتلمیذه العلاّمة: «إذا أذن الإمام لشخصٍ فی إحیاء الأرض الموات، مَلَکها المُحیی إذا کان مسلما، ولا یملکها الکافر بالإحیاء ولا بإذن الإمام فی الإحیاء، فإن أذن الإمام فأحیاها، لم یملک عند علمائنا _ وبه قال الشافعی(5) _ لما رواه العامّة فی

ص: 89


1- (318) العقد النضید 4/387.
2- (319) کذا، والمناسب: کانت.
3- (320) المکاسب 4/18.
4- (321) الشرائع 3/215.
5- (322) الحاوی الکبیر 7/476؛ المهذّب _ للشیرازی _ 1/(431-430)؛ نهایة المطلب 8/285؛ الوجیز 1/241؛ الوسیط 4/218؛ حلیة العلماء 5/497؛ التهذیب _ للبغوی _ 4/490؛ البیان 7/413؛ العزیز شرح الوجیز 6/207؛ روضة الطالبین 4/344؛ الإشراف علی نکت مسائل الخلاف 2/668، ح1188.

قوله علیه السلام : «موتان الأرض للّه ولرسوله ثمّ هی لکم منّی أیّها المسلون»... وقال مالک وأبوحنیفة وأحمد أنّه لا فرق بین المسلم والذّمیّ فی التملّک بالإحیاء؛ لعموم قوله علیه السلام : «مَنْ أحیا أرضا میتةً فهی له» ولأنّ الإحیاء جهة من جهات التملّک، فاشترک فیها المسلم والذمّیّ، کسائر جهاته من الاحتطاب والاحتشاش والاصطیاد فی دار الإسلام(1)»(2).

وتبعهما المحقّق الثانی وقال: «وکذا یشترط کون المحیی مسلما، فلو أحیاء الکافر لم یملکْ عند علمائنا وإن کان الإحیاء بإذن الإمام علیه السلام »(325).

ثمّ أضاف: «والحقّ: أن الإمام لو أذِنَ له فی الإحیاء للتملک قطعنا بحصول الملک له، وإنما البحث فی أن الإمام علیه السلام هل یفعل ذلک أم لا؟ نظرا إلی أن الکافر أهل له أم لا؟

والذی یُفهَمُ من الأخبار، وکلام الأصحاب العدم. ولیس مرادهم أن الإمام علیه السلام یرخصه فی التملک ثمّ لا یُمَلِّکُ قطعا»(3).

أقول: تابع المحقّقُ الکرکیُّ الشهید الأوّل فی المقام فی کتابه الدروس الشرعیة(4)

ص: 90


1- (323) الإشراف علی نکت مسائل الخلاف 2/688، ح1188؛ عیون المجالس 2/1817، ح1281؛ الذخیرة 6/158؛ مختصر القدوری، /140؛ روضة القُضاة 2/544، ح3230؛ الفقه النافع 3/1308، ح1064؛ الهدایة _ للمرغینانی _ 4/99؛ الاختیار لتعلیل المختار 3/95؛ المغنی والشرح الکبیر 6/(168-167)؛ الحاوی الکبیر 5/476؛ نهایة المطلب 8/285؛ حلیة العلماء 5/497؛ البیان 7/413؛ العزیز شرح الوجیز 6/208.
2- (324) تذکرة الفقهاء 19/360.325) جامع المقاصد 7/10.
3- (326) جامع المقاصد 7/10.
4- (327) الدروس الشرعیة 3/55.

کما یأتی آنفا. وتبعهما ثانی الشهیدین فی الروضة(1) والمسالک(2).

أدلة اعتبار إسلام المحیی

أ: الإجماع

المدّعی فی کلام العلاّمة(3) والکرکی(4).

«ویردّه: أوّلاً: أنّ الإجماع غیر ثابت، فإنّ المحکی عن جماعة کثیرة الخلاف فی المسألة: منهم شیخ الطائفة الشیخ الطوسی فی المبسوط(5) والخلاف(6)، وابن إدریس فی السرائر(7) [ویحیی بن سعید فی الجامع للشرائع(8). وظاهر القاضی فی المهذب(9) و[ المحقّق فی النافع(10)، والشهید الثانی فی اللمعة(11).

وثانیا: انه لا أثر لهذا الإجماع علی تقدیر تحققه، وذلک لأنَّ الإجماع إنّما یکون حجة باعتبار کشفه عن قول المعصوم علیه السلام فی المسألة، والاجماع المدّعی فیها لا تتوفر فیه هذه الصفة جزما، لاحتمال أن یکون أساسه [خبر أبی خالد] الکابلی المتقدمة، وصحیحة عمر بن یزید التی مرّت سابقا بناء علی أن یکون المراد من المؤمنین فیها الأعم من الطائفة الخاصة والعامة.

ص: 91


1- (328) الروضة البهیة 7/135.
2- (329) المسالک 12/392.
3- (330) تذکرة الفقهاء 19/360.
4- (331) جامع المقاصد 7/10.
5- (332) المبسوط 3/270.
6- (333) الخلاف 3/527، مسألة 4.
7- (334) السرائر 1/481.
8- (335) الجامع للشرائع /375.
9- (336) المهذب 2/29.
10- (337) المختصر النافع /251.
11- (338) اللمعة /241.

[وثالثا]: لا دلیل علی اعتبار الاجماع المنقول فی نفسه»(1).

ولذا قال صاحب الجواهر: «وأمّا الإجماع المزبور فلم نتحقّقه بل لعلّ المحقَّق خلافه»(2).

ب: النبویّان الماضیان

عن سمرة أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال: «عادیّ الأرض للّه ولرسوله ثمّ هی لکم منّی أیّها المسلمون»(3) یرید بذلک دیار عاد وثمود.(4)

وروی أنّه علیه السلام قال: «موتان الأرض للّه ولرسوله ثمّ هی لکم منّی»(5).

ویرد علیهما أوّلاً: أنّهما عامیتان ولذا ذهب صاحب الجواهر(6) إلی عدم حجیة ما رواه العلاّمة فی التذکرة.

وثانیا: إثبات الشیء لا ینفی ما عداه، إذا دلّ الدلیل علی اثبات غیره، وتثبت العامیتان الملکیة للمسلمین ولا ینفیه عن غیرهم.

وثالثا: ما ورد فی تذکرة الفقهاء(7) لم نجده فی کتب الحدیث کما عن بعض مهرة أساتذتنا(8) قدس سره .

ورابعا: لعلّ المخاطب فی قوله صلی الله علیه و آله : «لکم» جمیع النّاس لاخصوص المسلمین.

وخامسا: اعترف ابن قدامة الحنبلی بعدم معرفة هذا الحدیث [المذکور فی تذکرة

ص: 92


1- (339) الأراضی /129 مع إضافات وإصلاحات.
2- (340) الجواهر 39/16 (38/14).
3- (341) أورده الجوینی فی نهایة المطلب 8/283؛ والرافعی فی العزیز شرح الوجیز 6/206.
4- (342) تذکرة الفقهاء 19/352.
5- (343) أورده الجوینی فی نهایة المطلب 8/281.
6- (344) الجواهر 39/16 (38/14).
7- (345) تذکرة الفقهاء 19/352 و 360.
8- (346) دراسات فی ولایة الفقیه 4/222.

الفقهاء] فی کتابه المغنی(1) وهم أبصر بأحادیثهم.

ج: خبر أبی خالد الکابلی(2)

الذی مرّ سندا ودلالة وتفسیرا. حیث قیّد المحیی بکونه من المسلمین والقید لدی العرف ظاهر فی الاحتراز «فیدلّ علی أّن الحکم فیها لم یثبت للطبیعی الجامع بینه وبین غیره، وإلاّ لکان القید لغوا، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ الإحیاء لو کان سببا لعلاقة المحیی بالأرض مطلقا أی _ ولو کان کافرا _ لکان تقییده بکونه من المسلمین فی موردین من الروایة لغوا صرفا»(3).

وبعبارة أُخری: «أنّ المفاهیم من قبیل ظهور الفعل لاظهور اللفظ بما هو لفظ موضوع، حیث إنّ الفعل إذا صدر من الفاعل المختار العاقل یحمل عند العقلاء علی کونه صادرا عنه باختیاره بداعی الغایة العادیة المترقبة من هذا الفعل، ومن جملة الأفعال التلفظ بالألفاظ الموضوعة ومنها القیود. فیحمل التلفظ بالقید من الوصف أو الشرط أو غیرهما بما أنه فعل اختیاری للافّظ علی کونه صادرا عنه للغایة الطبیعیة المترقبة من القید عندهم، والغایة المترقبة منه فی المحاورات هو الدخل فی موضوع الحکم وعدم کون ذات المقید بدونه تمام الموضوع للحکم. نعم یمکن أن یسدّ مسدّ هذا القید قید آخر کما هو واضح. وکیف کان فإذا کان ظاهر الروایة التقیید بالإسلام حمل علیها الأخبار المطلقة قهرا، فتدبّر»(4).

أقول: إذا عرفت أنّ دلالة المفهوم هی دلالة فعلیة ودلالة الإطلاق دلالة لفظیة فحینئذ فی فرض تعارض الدلالة الفعلیة والدلالة اللفظیة تقدّم الدلالة اللفظیة علی الدلالة الفعلیة.

نعم، الدلالة الفعلیة تفید فی فرض عدم الدلالة اللفظیة ولکن مع وجودها لا تقدر

ص: 93


1- (347) المغنی 6/150.
2- (348) وسائل الشیعة 25/414، ح2.
3- (349) الأراضی /130.
4- (350) دراسات فی ولایة الفقیه 4/221.

علی تقییدها والتقدّم علیها ولعلّ إلی ما ذکرنا أشار الاُستاذ قدس سره فی أمره بالتدبّر فی آخر کلامه رُفع فی الخلد مقامه.

ولذا ذهب صاحب الجواهر إلی أنّ الروایة «لا ینافی ما دلّ علی الأعم»(1).

د: صحیحة عمر بن یزید(2)

الماضیة سندا ودلالةً. والمؤمن الوارد فیها «إن أُرید به المعنی العام ساق المسلم(3) وإلاّ کان قیدا آخر أخص من المسلم»(4) الذی لم یقل به أحد.

ولکن یرد علیها: ما اُوردته علی خبر أبی خالد الکابلی من تقدیم الدلالة اللفظیة علی الدلالة الفعلیة.

ه_: صحیحة أبی سیار مسمع بن عبدالملک(5)

الماضیة سندا دلالة وتفسیرا.

«بناءً علی عموم الأرض فیها، وأما إذا حمل اللام علی العهد وأرید بالأرض فیها خصوص ما لم یوجف علیها کأراضی البحرین فلا مجال للاستدلال بها فی المقام»(6).

یرد علیها: ما مرّ من خبر أبی خالد الکابلی فلا نعید.

2_ عدم اعتبار إسلام المحیی وهو القول بالتعمیم

استحسنه المحقّق فی الشرائع حیث یقول: «ولو قیل: یملکه مع إذن الإمام علیه السلام کان حسنا»(7).

وقال الشهید فی شرائط تملّک الأرض بالإحیاء: «وثانیها: أن یکون المحیی

ص: 94


1- (351) جواهر الکلام 39/16 (38/14).
2- (352) وسائل الشیعة 9/549، ح13.
3- (353) کما بناه آیة اللّه الفیاض _ مدظله _ فی کتابه الأراضی /129 ومرّت عبارته آنفا.
4- (354) دراسات فی ولایة الفقیه 4/221.
5- (355) وسائل الشیعة 9/548، ح12.
6- (356) دراسات فی ولایة الفقیه 4/221.
7- (357) الشرائع 3/215.

مسلما، فلو أحیاها الذمّی بإذن الإمام ففی تملّکه نظر، من توهّم اختصاص ذلک بالمسلمین.

والنظر فی الحقیقة فی صحَهَ إذن الإمام له فی الإحیاء للتملّک، إذ لو أذن لذلک لم یکن بدَ من القول بملکه، وإلیه ذهب الشیخ نجم الدین رحمه الله »(1).

وقال ثانی الشهیدین تبعا لثانی المحقّقین(2) _ کما مرّ _ : «وفی ملک الکافر مع الإذن قولان، ولا إشکال فیه لو حصل، إنّما الإشکال فی جواز إذنه علیه السلام له، نظرا إلی أنّ الکافر هل له أهلیّة ذلک أم لا؟»(3).

ونحوه فی المسالک.(4)

واعترض صاحب الجواهر علی الشهید وتابعیه بقوله: «لا إشکال _ بعد عصمة الإمام علیه السلام _ فی حصول الملک له بالإذن له فی التملّک؛ ضرورة أنّه لو لم یکن أهلاً لذلک لم یأذن له، إلاّ أنّه یمکن تحصیل الإجماع _ فضلاً عن النصوص _ علی عدم اعتبار الإذن بالإحیاء من الإمام فی التملّک، بل یکفی الإذن منه بالإحیاء الذی هو سبب حصول الملک مع فرض وقوعه علی الوجه المعتبر.

إنّما الکلام فی اعتبار الإسلام _ مع الإذن _ وعدمه فهو علی تقدیره شرط آخر لترتّب الملک علی الإحیاء، ولا مانع عقلاً ولا شرعا فی عدم ترتّب الملک علی الإحیاء للکافر وإن أذن فی الإحیاء الإمام علیه السلام ؛ إذ الإذن فی أصل إیجاده غیر الإذن فی تملّکه به، وما أدری من أین أخذ ذلک الشهید فی الدروس! حتّی أنّه أوقع غیره فی الوهم.

وقد سمعت دعوی الإجماع من الفاضل فی التذکرة علی عدم ترتّب الملک علی إحیاء الکافر وإن أذن له الإمام علیه السلام فیه، بل وفی أثناء کلام الکرکی أیضا.

وإن کان التحقیق خلافه؛ لظهور النصّ والفتوی فی کونه سببا شرعیّا لحصول

ص: 95


1- (358) الدروس 3/55.
2- (359) جامع المقاصد 7/10.
3- (360) الروضة البهیة 7/135.
4- (361) المسالک 12/392.

الملک مع حصول شرائطه _ التی منها الإذن أیضا _ سواء کان المحیی مسلما أو کافرا»(1).

أدلة عدم اعتبار إسلام المحیی

أ: الإطلاقات الواردة فی روایات الإحیاء

التی مرّت بکثرتها «مع کونها فی مقام البیان، بل ورد بعضها بلفظ عام کقوله علیه السلام فی صحیحة محمّد بن مسلم: «أیّما قوم أحیوا...»(2) فیعمّ المسلم والکافر. والتقیید بالمسلمین أو المؤمنین فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام علی ما فی [خبر] الکابلی و [صحیحة] عمر بن یزید لا یوجب التقیید فی الأخبار الکثیرة الصادرة عن النبی صلی الله علیه و آله والصادقین علیهم السلام ، إذ لا یحمل المطلق علی المقیّد إلاّ مع إحراز وحدة الحکم، وهذا إنّما یجری فی الأحکام الإلهیة العامة المستمرة، وأما فی الأحکام السلطانیة فیمکن تعددها واختلافها بحسب الموضوع عموما وخصوصا حسب اختلاف شرائط الزمان والمصالح المنظورة ونظر الإمام الآذن.

هذا مضافا إلی احتمال کون ذکر المسلمین أو المؤمنین لبیان عنایة خاصة بهما أو غلبة الابتلاء بهما لالاختصاص الحکم بهما، ویکفی هذا لدفع محذور اللغویة فی ذکرهما. وإثبات الحکم لموضوع خاص لا ینفی الحکم عما عداه، إذ یکون هذا من قبیل مفهوم اللقب ولیس بحجة»(3).

«اللّهم إلاّ أن یقال: إنّ ملکیة الکفار لرقبة الأراضی فی البلاد الإسلامیة حیث یوجب ذلک سلطتهم بالتدریج علی السیاسة والاقتصاد والثقافة صار هذا سببا لمنع الشارع من حصولها.

وبعبارة أُخری المقتضی للملکیة وإن کان موجودا فی کلیهما ولکن ضرر سلطة الکفّار علی البلاد الإسلامیة وشؤون المسلمین مانع من اعتبار الملکیة لهم شرعا، والمتیقن منها علی القول بها إنّما هو فی المسلم وأما الکافر فیثبت له الجواز أو الأحقیة

ص: 96


1- (362) الجواهر 39/14 (38/12 و 13).
2- (363) وسائل الشیعة 25/412، ح4.
3- (364) دراسات فی ولایة الفقیه 4/222 و 223.

فقط، فتدبّر»(1).

ب: النصوص الخاصة

منها: موثقة محمّد بن مسلم(2) أو صحیحته(3).

ومنها: صحیحة أبی بصیر(4).

ومنها: مرسلة الصدوق(5)، الماضیات(6).

وهذه النصوص تدلّ بوضوح علی سببیة الإحیاء لتملّک الذمّی الکافر.

فلابدّ من القول بعدم اعتبار إسلام المحیی فکلّ مَنْ قام بإحیاء أرضٍ میتةٍ یملکها ولذا قال صاحب الجواهر: «فالمتّجه الملک بالإحیاء مطلقا ولو لحصول الإذن منهم علیهم السلام فی ذلک حال الحضور، ولعلّ المصلحة فیه إرادة تعمیر الأراضی»(7).

فحینئذ سببیة الإحیاء للتملّک تامة بالنسبة إلی جمیع النّاس مع اختلاف آرائهم وعقائدهم وأدیانهم وبالنسبة إلی جمیع أراضی الموات فی بلاد الإسلام أو الکفر ولذا قال صاحب الجواهر: «ولا فرق فیما ذکرنا بین الموات فی بلاد الإسلام وغیره؛ لإطلاق الأدلّة، خلافا لما یظهر من بعض. ولا بین الذمّی وغیره من أقسام الکفّار، وإن کان لنا تملّک ما یحییه الحربی کباقی أمواله»(8).

ص: 97


1- (365) دراسات فی ولایة الفقیه 4/223.
2- (366) وسائل الشیعة 15/156، ح2.
3- (367) وسائل الشیعة 25/411، ح1.
4- (368) وسائل الشیعة 25/416، ح1.
5- (369) وسائل الشیعة 25/412، ح7.
6- (370) راجع صفحة 67 من هذا المجلد.
7- (371) الجواهر 39/18 (38/16).
8- (372) الجواهر 39/20 (38/17).
الثانی: شرائط الإحیاء
اشارة

قال المحقّق: «یُشترط فی التملُّکِ بالإحیاء شروطٌ خمسةٌ»(1):

1_ ألاّ یکونَ علی الأرض یدٌ لِمسلمٍ

قال المحقّق بعد ذکر هذا الشرط: «فإنّ ذلک یَمْنَعُ من مباشرةِ الإحیاء لِغیرِ المُتُصَرِّفِ»(2).

وقال العلاّمة: «الأوّل: أن لا یکون علی الأرض ید مسلمٍ؛ لأنّ ذلک یمنع من إحیاء الأرض لغیر المتصرّف، ولو اندرست العمارة لم یجز إحیاؤها؛ لأنّها ملکٌ لمعیّنٍ علی خلافٍ تقدّم»(3).

وقال المتتبع العاملی بعد نقل هذا الشرط من القواعد(4): «کما فی الشرائع والتذکرة وجامع المقاصد(5) والمسالک(6) والروضة(7) وکذا الإرشاد(8) واللمعة(9) والکفایة(10) والمفاتیح(11) مع جعل انتفائها شرطا فی التملّک بالإحیاء فی الجمیع عدا جامع المقاصد

ص: 98


1- (373) الشرائع 3/216.
2- (374) الشرائع 3/216.
3- (375) تذکرة الفقهاء 19/431.
4- (376) القواعد 2/267.
5- (377) جامع المقاصد: فی شروط التملّک بالإحیاء 7/19. قال فیه: «لأنّ ظاهر الید یقتضی الملک، وهذا القدر کافٍ فی منع الغیر من الإحیاء وإن لم یُعلَمْ وجود سبب الملک، ولکن یشترط أن لا یُعلم أن إثبات الید بغیر سبب مملک ولا أولویة، فإن عُلم ذلک لم تکن تلک الید معتبرة،فیجب تقیید إطلاق العبارة».
6- (378) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 12/406.
7- (379) الروضة البهیة: فی شرائط التملّک بالإحیاء 7/155.
8- (380) إرشاد الأذهان: فی شروط التملّک بالإحیاء 1/348.
9- (381) اللمعة الدمشقیة: فی شروط التملّک بالإحیاء /242.
10- (382) کفایة الأحکام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 2/550.
11- (383) مفاتیح الشرائع: فیما یشترط فی الإحیاء 3/28.

وقد عبّر عن هذا الشرط فی التحریر(1) والدروس(2) بأن لا یکون مملوکا لمسلم کما عرفت. ولم یذکر هذا الشرط بمعنییه فیما عدا ما ذکر، وفی حکم المسلم المسالم کما فی الإرشاد(3) والدروس(4) والمسالک(5) والمفاتیح(6) والکفایة(7) حیث قیل فیها: لمسلم أو مسالم وهو معنی قوله فی الروضة(8): ید محترمة»(9).

وقال صاحب الجواهر: «بلا خلاف أجده بین مَنْ تعرّض له»(10) ثمّ أضاف: «نعم، عن بعضهم ترک هذا الشرط؛ معلّلاً: بأنّ الید إن لم ترجع إلی أحد هذه الاُمور لا أثر لها.

وفیه: أنّ فائدتها تظهر مع اشتباه الحال، فإنّها محکوم باحترامها ما لم یعلم فسادها وإن لم یعرف خصوص الموجب لها»(11) ثمّ زاد «نعم، ربّما اُبدل «الید» فی الشرط المزبور ب_ «الملک» کما وقع فی بعض کتب الفاضل(12)، وکأنّه من اقتضاء الید ذلک مع عدم العلم بالفساد، وربّما کان حینئذٍ لبناء الشرط المزبور علی المسألة وجه.

ولکن فیه: أنّ الدلیل _ کما ستعرف _ یقتضی عدم ترتّب الملک بإحیاء ما کان فی الید المحترمة وإن لم یعلم الملک بها، بل کانت محتملة له وللحقّ.

ص: 99


1- (384) تحریر الأحکام: فی شروط التملّک بالإحیاء 4/485.
2- (385) الدروس الشرعیة: فی شرائط التملّک الإحیاء 3/56.
3- (386) لم یذکر فی الإرشاد إلاّ الأرض التی علیها ید المسلم من غیر أن یشیر إلی ید غیر المسلم مطلقا، فراجع الإرشاد: 1/348.
4- (387) الدروس الشرعیة: فی شرائط التملّک الإحیاء 3/56.
5- (388) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 12/406.
6- (389) مفاتیح الشرائع: فیما یشترط فی الإحیاء 3/28.
7- (390) کفایة الأحکام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 2/550.
8- (391) الروضة البهیة: فی شرائط التملّک بالإحیاء 7/155.
9- (392) مفتاح الکرامة 19/43.
10- (393) الجواهر 39/44 (38/33).
11- (394) الجواهر 39/45 (38/33).
12- (395) نحو تحریر الأحکام الشرعیة 4/485.

بل یمکن دعوی ذلک حتّی مع العلم بعدم کونها مالکة ولکن محتملة للحقّیّة التی هی غیر الملکیّة؛ لأصالة احترام الید، وللشکّ فی ترتّب الملک بالإحیاء معه إن لم یکن ظاهر الأدلّة عدمه، خصوصا بعد ملاحظة الفتوی ومفهوم المرسل: «من أحیا میتة فی غیر حقّ مسلم فهی له» وإن لم یکن موجودا فی طرقنا، ولکنّه منجبر بالعمل، فیمکن أخذه دلیلاً مستقلاًّ، فضلاً عن حصول الشکّ به، مضافا إلی فحوی ما تسمعه فی التحجیر والحمی ونحوهما وصدق الظلم ونحوه، واللّه العالم»(1).

أقول: ما ذکره فی المستند الشرط الأوّل تام إلاّ إنجبار ضعف سند النبوی بعمل الأصحاب وأخذه دلیلاً مستقلاً، لعدم استناد عملهم بالنبوی المذکور کما هو المعلوم واللّه العالم.

2_ أن لا یکون حریما لِعامرٍ

هکذا عنونه المحقّق ومثّل له: «کالطریق والشرب وحریم البئر والعین والحائط»(2).

ثمّ عیّن حریم کلّ واحد منهم بالتفصیل.

وقال العلاّمة: «الثانی: أن لا یکون حریما للعامر، فإنّ حریم المعمور کنفس المعمور لا یُملک بالإحیاء، کما لا یُملک المعمور؛ لأنّ مالک المعمور استحقّ باستحقاق المواضع التی هی من مرافقه، کالطریق، فإنّه لا یجوز لأحدٍ أخذ طریقٍ یسلک فیه المالک إلی عمارته؛ لما فیه من التضرّر المنفیّ بالإجماع.

وکذا الشِّرْب وحریم العین وما شابه ذلک من مسیل ماء العامر وطُرُقه ومطرح قمامته وملقی ترابه وآلاته وکلّ ما یتعلّق بمصالحه.

ولا نعلم خلافا بین فقهاء الأمصار أنّ کلّ ما یتعلّق بمصالح العامر ممّا تقدّم أو بمصالح القریة کفنائها ومرعی ماشیتها ومحتطبها وطُرُقها ومسیل میاهها لا یصحّ لأحدٍ

ص: 100


1- (396) الجواهر 39/45 و 46 (38/34).
2- (397) الشرائع 3/216.

إحیاؤه، ولا یملک بالإحیاء.

وکذا حریم الآبار والأنهار والحائط والعیون وکلّ مملوکٍ لا یجوز إحیاء ما یتعلّق بمصالحه؛ لقوله علیه السلام : «مَنْ أحیا أرضا میتةً فی غیر حقّ [مسلم] فهی له»(1) مفهومه أنّ ما یتعلّق به حقُّ مسلمٍ لا یُملک بالإحیاء، ولأنّا لو جوّزنا إحیاءه لبطل الملک فی العامر علی أهله.

هذا ممّا لا خلاف فیه، إنّما الخلاف فی أنّ الخلاف فی أنّ مالک العامر هل یملک الحریم الذی له، أو یکون أولی وأحقَّ به من غیره ولیس بمالکٍ؟

فقال بعضهم: إنّه یملک کما یملک العامر _ وهو أصحّ وجهی الشافعیّة(2) _ لأنّه مکان استحقّه بالإحیاء فمَلَک(3) کالمُحیا، ولأنّ معنی الملک موجود [فیه] لأنّه یدخل مع المعمور فی بیع المعمور، فإنّ مَنْ باع دارا دخل فیها الطریق وغیره من حقوقها، ولأنّه لیس لغیره إحیاؤه ولا الاعتراض فیها، ولأنّ الشفعة تثبت بالشرکة فی الطریق المشترک، وهو یدلّ علی أنّه مملوک.

وقال بعضهم: إنّه غیر مملوکٍ لمالک العامر؛ لأنّ الملک یحصل بالإحیاء ولم یوجد فیها إحیاء.(4)

ولیس بجیّدٍ؛ لمنع المقدّمتین، فإنّ عرصة الدار تُملک ببناء الدار وإن لم یوجد فی نفس العرصة إحیاء، ولأنّ الإحیاء تارةً یکون بجعله معمورا، وتارةً یکون بجعله تبعا للمعمور.

ص: 101


1- (398) صحیح البخاری 3/(139-140)؛ السنن الکبری للبیقهی 6/142؛ المعجم الکبیر للطبرانی 17/(13-14)، ح4؛ المغنی 6/168؛ الشرح الکبیر 6/170.
2- (399) الحاوی الکبیر 7/488؛ حلیة العلماء 5/500؛ التهذیب (للبغوی) 4/490؛ البیان 7/410؛ العزیز شرح الوجیز 6/212؛ روضة الطالبین 4/348؛ المغنی 6/169؛ الشرح الکبیر 6/170.
3- (400) الظاهر: «فملَکَه».
4- (401) البیان 7/410؛ العزیز شرح الوجیز 6/212؛ روضة الطالبین 4/348.

وعلی القول بأنّه لا یکون مملوکا لمالک العامر لیس له بیع الحریم منفردا.

علی الأوّل فکذلک أیضا، قاله أبوحنیفة وبعض الشافعیّة(1)، کما لو باع شِرْبَ الأرض وحده.

والأقرب: الجواز»(2).

وقال المتتبع العاملی بعد نقل هذا الاشتراط من القواعد «وقد عدّ عدمه شرطا فی التملّک بالإحیاء فی الشرائع والنافع(3) والتذکرة والتحریر(4) والإرشاد(5) واللمعة(6) والدروس(7) وسائر ما تأخّر(8). وهو معنی ما فی المبسوط(9) والمهذّب(10) والجامع(11) من أنّه فی حکم العامر. وفی جامع المقاصد(12) الإجماع علیه. وفی المسالک(13) والمفاتیح(14) وکذا الریاض(15) والکفایة(16) لا خلاف فیه»(17).

ص: 102


1- (402) العزیز شرح الوجیز 6/212؛ روضة الطالبین 4/348.
2- (403) تذکرة الفقهاء 19/(433-431).
3- (404) المختصر النافع: فی شروط التملّک بالإحیاء /251.
4- (405) تحریر الأحکام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 4/485.
5- (406) إرشاد الأذهان: فی شروط التملّک بالإحیاء 1/348.
6- (407) اللمعة الدمشقیة: فی شروط التملّک بالإحیاء /242.
7- (408) الدروس الشرعیة: فی شروط التملّک بالإحیاء 3/58.
8- (409) کظاهر التنقیح 4/99؛ والمهذّب البارع 4/283؛ وغایة المرام 4/129.
9- (410) المبسوط: فی أنّ حریم المحیاة من الموات فی حکم المحیاة 3/268.
10- (411) المهذّب: فی أنّ حریم المحیاة فی حکم المحیاة 2/28.
11- (412) الجامع للشرائع: فی أنّ حریم المحیاة فی حکم المحیاة /374.
12- (413) جامع المقاصد: إحیاء الموات فی أحکام الأراضی 7/21.
13- (414) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 12/406.
14- (415) مفاتیح الشرائع: فیما یشترط بالإحیاء 3/28.
15- (416) ریاض المسائل: فی شروط التملّک بالإحیاء 12/349.
16- (417) کفایة الأحکام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 2/551.
17- (418) مفتاح الکرامة 19/44.

ویمکن أن یستند لهذا الشرط بحسنة إدریس بن زید القمی صاحب الرضا علیه السلام عنه علیه السلام قال: سألته وقلت: جعلت فداک إنّ لنا ضیاعا ولها حدود ولنا الدواب وفیها مراعی، وللرجل منّا غنم وإبل ویحتاج إلی تلک المراعی لإبله وغنمه، أیحلّ له أن یحمی المراعی لحاجته إلیها؟ فقال: إذا کانت الأرض أرضه فله أن یحمی ویصیر ذلک إلی ما یحتاج إلیه.(1)

والتعبیر عنها ب_ «صحیح إدریس بن زید أو خبره»(2) غیر تام لأنّه حسنٌ، اللّهم إلاّ إذا کان المراد به إدریس بن زیاد الثقة فتکون الروایة صحیحة الإسناد.(3)

وبخبر محمّد بن عبداللّه قال: سألت الرضا علیه السلام عن الرجل تکون له الضیعة، وتکون لها حدود، تبلغ حدودها عشرین میلاً (أو أقل أو أکثر) یأتیه الرجل فیقول: أعطنی من مراعی ضیعتک، وأعطیک کذا وکذا درهما، فقال: إذا کانت الضیعة له فلا بأس.(4)

والتعبیر عنه ب_ «صحیح أحمد بن عبداللّه علی الظاهر»(5) غیر تام لأنّه محمّد بن عبداللّه بن عیسی الأشعری القمی وهو إمامیٌ مجهولٌ.

اللّهم إلاّ إذا کان المراد به محمّد بن عبداللّه بن زرارة لکثرة روایة البزنطی عنه وهو ثقة فیکون الروایة صحیحة الإسناد.(6)

وتقریب الاستدلال بهما هو مقالة صاحب الجواهر رحمه الله حیث یقول: «بل ربّما کان ظاهرهما الملکیّة _ بناءً علی إرادة البیع ونحوه من الإعطاء فیهما _ کما عن الشیخ(7)

ص: 103


1- (419) وسائل الشیعة 17/371، ح1، الباب 22 من أبواب عقد البیع وشروطه.
2- (420) الجواهر 39/48 (38/35).
3- (421) کما ن_بّه علیه الأستاذ رحمه الله فی دراسات فی ولایة الفقیه 4/168.
4- (422) وسائل الشیعة 25/422، ح1، الباب 9 من أبواب کتاب الإحیاء.
5- (423) الجواهر 39/47 (38/35).
6- (424) کما ن_بّه علیه الأُستاذ رحمه الله فی دراسات فی ولایة الفقیه 4/168.
7- (425) المبسوط: کتاب إحیاء الموات 3/272.

وبنی البرّاج(1) وحمزة(2) وإدریس(3) وسعید(4) والفاضل(5) وولده(6) وغیرهم(7)، بل فی المسالک: أنّه الأشهر(8).

مضافا إلی أنّه مکان استحقّه بالإحیاء فملک کالمحیی، ولأنّ معنی الملک موجود فیه؛ لدخوله مع المعمور فی بیعه ولیس لغیره إحیاؤه ولا التصرّف فیه بغیر إذن المحیی، ولأنّ الشفعة تثبت فی الدار بالشرکة فی الطریق المشترک المصرّح فی النصوص المزبورة ببیعه معها، ولإمکان دعوی کونه محیا؛ باعتبار أنّ إحیاء کلّ شیء بحسب حاله.

خلافا لظاهر جماعة أو صریحهم: من عدم الملک، بل هی من الحقوق(9)؛ لعدم الإحیاء الذی یملک به مثلها.

وفیه: ما عرفت من منع عدم حصول الإحیاء الذی لا یعتبر فیه مباشرته کلّ جزء جزء، فإنّ عرصة الدار تملک ببناء الدار دونها، ومنع توقّف الملک علی الإحیاء، بل یکفی فیه التبعیّة للمحیا، وتظهر الثمرة فی بیعها منفردة»(10).

واستشکل بعض أساتذتنا قدس سره فی تقریب الاستدلال وقال: «ولکنّه لا یخلو من شوب إشکال، إذ من المحتمل أن یراد بالمراعی فیهما قسمة من نفس الأرض المحیاة بلحاظ علوفتها لا المراتع الطبیعیة المجاورة لها بقرینة قوله علیه السلام : «إذا کانت الأرض أرضه فلا بأس»، وبقرینة تجویز البیع إن أرید به بیع نفس الرقبة.

ص: 104


1- (426) المهذّب: باب إحیاء الموات 2/30.
2- (427) الوسیلة: الزکاه / إحیاء الموات /135.
3- (428) السرائر: المتأجر / بیع المیاه والمراعی 2/382.
4- (429) الجامع للشرائع: البیع / بیع الماء /275.
5- (430) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات / أقسام الأراضی 4/489.
6- (431) إیضاح الفوائد: إحیاء الموات / فی الأراضی 2/233.
7- (432) کالسبزواری فی الکفایة: إحیاء الموات / شرائط التملّک 2/551.
8- (433) مسالک الأفهام: إحیاء الموات / فی الأرضین 12/407.
9- (434) الروضة البهیّة: کتاب إحیاء الموات 7/156.
10- (435) الجواهر 39/48 و 49 (38/35 و 36).

وقد کان بیع المراعی ونقلها موردا للشبهة إجمالاً بلحاظ ما ورد من شرکة المسلمین فی الماء والنار والکلأ، والنهی عن بیع فضل الکلأ. ولذلک سألوا عن بیع حصائد الحنطة والشعیر أعنی مابقی منهما بعد الحصاد أیضا مع وضوح کونهما فی الأرض المملوکة کما فی خبر إسماعیل بن الفضل، فراجع. هذا»(1).

أقول: الاستدلال خالٍ عن شوب هذا الإشکال إذ لا یحتمل «أن یراد بالمراعی فیهما قسمة من نفس الأرض المحیاة» لوضوح حکمها حینئذ من جواز بیع الأرض المحیاة ورجوع ضمیر «فیها مراعی» إلی کلمة «حدود» کرجوع ضمیر «لها حدود» إلی کلمة «ضیاعا» وإلاّ لا یتم ذکر الضیاع وحدودها ومراعی الموجودة فی حدودها أی حریمها وسأل إدریس بن زید أو زیاد _ علی الاحتمال الذی مرّ من الأُستاذ قدس سره _ أوّلاً من حمی تلک المراعی لحاجته إلی جمیعها لکثرة دوابه، وأجاب الإمام علیه السلام : «إذا کانت الأرض أرضه فله أن یحمی» حریمها من المراعی وغیرها ف_ «یصیر ذلک إلی مایحتاج إلیه» فیرتفع احتیاجه بتحمیة الحریم الذی فیها المراعی، ثمّ سأل ثانیا عن بیع تلک المراعی المحمیّة الموجودة فی حریم أرضه فأجاب الإمام علیه السلام : «إذا کانت الأرض أرضه فلا بأس» ببیع مراعیها لأنّها تدخل فی ملکه.

وکذا الکلام فی خبر محمّد بن عبداللّه أو صحیحته بتقریب: أنّ المراعی المسئول عنها إذا کانت داخلة فی الضیعة التی تکون للرجل فیصح بیعه بلا ریب وإشکال فلا یحتاج إلی السؤال من الإمام علیه السلام لوضوح حکمها عند الجمیع، نعم إذا کانت المراعی فی حدود الضیعة وتکون من حریمها _ لا من نفس الضیعة _ فیسأل حفید عیسی الأشعری القمی أو زرارة _ علی الاحتمال الذی مرّ من الأُستاذ قدس سره _ عن بیعها أو إجارتها وأجاب الإمام علیه السلام : «إذا کانت الضیعة له فلا بأس» ببیع أو إجارة مراعیها الموجودة فی حدودها التی تکون حریمها. لأنّ حریم کلّ ملک یتبعه فی الملکیّة، هذا ما أفهمه من الروایتین فلا یتم الإشکال.

ص: 105


1- (436) دراسات فی ولایة الفقیه 4/169.

مضافا إلی ترتب الضرر علی المالک إذا کان حریم ملکه لغیره والضرر منفی فی الشریعة المقدسة بقاعدة لا ضرر.

نعم، لا یمکن استفادة ملکیة حریم الأرض لمالک الأرض من الإجماع المدعی فی التذکرة وجامع المقاصد وکذا «لا خلاف فیه» الموجود فی المسالک والمفاتیح والکفایة والریاض، لوجود القول بعدم ملکیته له ولاحتمال مدرکیة الإجماع واللّه العالم.

3_ «أن لا یُسَّمیه الشرعُ مشعرا للعبادة

کعرفة ومنی والمشعر فإنّ الشرع دلّ علی اختصاصها موطنا للعبادة فالتعرض لِتَمَلُّکِها تفویتٌ لتلک المصلحةِ»(1).

قال العلاّمة: «الثالث: أن لا یکون مشعرا للعبادة بوضع الشارع، کعرفة ومنی والمشعر؛ لأنّ الشارع وضعها موطنا للعبادة، وفی تسویغ تملّکها تفویت هذا الغرض، ومنافاة لهذه المصلحة.

وللشافعیّة قولان فی أنّه هل تُملک أراضی عرفة بالإحیاء کسائر البقاع، أم لا؟ لتعلّق حقّ الوقوف بها، وعلی تقدیر القول بالملک ففی بقاء حقّ الوقوف فیما مَلَک وجهان، وعلی القول ببقائه فهل یبقی مع اتّساع الباقی، أم مع ضیقه عن الحجیج؟ وجهان.

وذکر [الغزالی] ثلاثة أوجُه فی المسألة، ثالثها: الفرق بین أن یضیق الموقف فیُمنع، وبین أن لا یضیق فلا یُمنع.

والمنع المطلق أشبه عندهم بالمذهب؛ لأنّه کالمواضع التی تعلّق بها حقّ المسلمین عموما أو خصوصا، کالمساجد والطُّرُق والرُّبُط فی الطُّرُق والمواضع التی یصلّی فیها للعید خارج الأمصار والبقاع الموقوفة علی معیّنٍ أو غیر معیّنٍ»(2).

وقال سیّد المفتاح فی شرح قول العلاّمة فی القواعد: «(الرابع: أن یکون مشعرا للعبادة کعرفة ومنی وجُمَع) عدم جواز إحیاء هذه المواضع کلّها أو الکثیر منها کأنّه من

ص: 106


1- (437) الشرائع 3/218.
2- (438) تذکرة الفقهاء 19/434 و 435.

ضروریّات الدین وإن لم یذکر ذلک أکثر المتقدّمین.

قوله: (وإن کان یسیرا لا یمنع المتعبّدین) کما فی التحریر(1) والدروس(2) والحواشی(3) وجامع المقاصد(4) والروضة(5) وهو قضیة إطلاق الباقین من المتأخّرین. وفی المسالک(6) والکفایة(7) أنّه المشهور. ووسمه تارةً أُخری فی المسالک بأنّه الأشهر(8). ولا ترجیح فی التذکرة(9) والمفاتیح(10).

حجة الکتاب وما وافقه أنّ الشرع دلّ علی اختصاصها موطنا للعبادة، فالتعرّض لتملّکها تفویت لتلک المصلحة کما فی الشرائع(11) وغیرها(12). وهذا التوجیه یقضی بالمنع من إحیاء الکثیر منها الّذی یؤدّی إحیاؤه إلی الضیق علی الناسکین ویحتاج إلیه غالبا، وأمّا ما عداه فلا یدلّ علی المنع فیه أصلاً.

واستدلّ فی الدروس بأنّ فی المنع سدّا لباب مزاحمة الناسکین وأنّ حقوق الخلق کافّة متعلّقة به(13). ولا بأس به مع إضافة الاستناد إلی الأصل وأنّ المشعریة صادقة علی المجموع المؤلَّف من الأجزاء، والنهی عن الکلّ لیس من حیث کونه کلاًّ بل من حیث

ص: 107


1- (439) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/485.
2- (440) الدروس الشرعیة: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/57.
3- (441) لم نعثر علیه فی الحاشیة النجّاریة المنسوبة إلی الشهید وأمّا سائر حواشیه فلا یوجد لدینا.
4- (442) جامع المقاصد: إحیاء الموات فی أحکام الأراضی 7/27.
5- (443) الروضة البهیة: فی شرائط التملّک بالإحیاء 7/156.
6- (444) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک الإحیاء 12/417.
7- (445) کفایة الأحکام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 2/557.
8- (446) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 12/417.
9- (447) تذکرة الفقهاء: فی شرائط التملّک بالإحیاء 19/435.
10- (448) مفاتیح الشرائع: فیما یشترط فی الإحیاء 3/28.
11- (449) شرائع الإسلام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/218.
12- (450) جامع المقاصد: إحیاء الموات فی أحکام الأراضی 7/27.
13- (451) الدروس الشرعیة: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/57.

اشتماله علی المعنی الشائع، وهو الاختصاص، وهو حاصل فی کلّ جزء، وأنّ المتبادر من أخبار الباب ما عدا هذه الأماکن الشریفة»(1).

وقال صاحب الجواهر فی شرح قول المحقّق: (الثالث: أن لا یسمّیه الشرع مشعرا للعبادة کعرفة ومنی والمشعر) وغیرها من الأماکن المشرّفة والمواضع المحترمة التی جعلها اللّه (تعالی شأنه) مناسک للعبادة وشرّفها کما شرّف بعض الأزمنة الخاصّة، فهی فی الحقیقة لیست الموات _ الذی هو بمعنی المعطّل عن الانتفاع _ فضلاً عن وضع ید سائر المسلمین علیها وتعلّق حقوقهم بها.

بل هی أعظم من الوقف الذی یتعلّق به حقّ الموقوف علیهم بجریان الصیغة من الواقف (فإنّ الشرع) الذی هو المالک الحقیقی قد (دلّ علی اختصاصها موطنا للعبادة) من دون إجراء صیغة، ومنها ما جعله اللّه مسجدا کمسجد الحرام ومسجد الکوفة ونحوهما من مراقد الأئمّة علیهم السلام التی أذن اللّه أن ترفع ویذکر فیها اسمه.

(فالتعرّض لتملّکها) حینئذٍ منافٍ للجعل المزبور من ربّ العزّة، بل فیه (تفویت لتلک المصلحة) من غیر فرق بین جمیع أجزائها فی ذلک، وبین زیادة سعتها لذلک وعدمه؛ ضرورة أنّ اللّه (تعالی شأنه) جعل کلّ جزءٍ جزءٍ منها کذلک.

فمن الغریب ما وقع من المصنّف من قوله: (أمّا لو عمر فیها ما لا یضرّ ولا یؤدّی إلی ضیقها عمّا یحتاج إلیه المتعبّدون کالیسیر لم أمنع منه) بل کاد یکون کالمنافی للضروری، بل فتح هذا الباب فیها یؤدّی إلی إخراجها عن وضعها.

وأغرب منه: موافقة بعض من تأخّر عنه(2) علی ذلک؛ بتخیّل: أنّ المنع من جهة مزاحمة الناسکین، فمع فرض عدمها _ کالیسیر _ یتّجه الجواز حینئذٍ؛ لانتفاء العلّة المزبورة.

وفیه ما لا یخفی بعد ما ذکرناه.

ص: 108


1- (452) مفتاح الکرامة 19/(73-71).
2- (453) کالشهید الثانی فی المسالک: إحیاء الموات / فی الأرضین 12/417؛ والسبزواری فی الکفایة: إحیاء الموات / شرائط التملّک 2/557.

وأعجب من ذلک: تفریعهم(1) علی التقدیر المزبور _ الذی هو معلوم الفساد _ أنّه هل یجوز للناسک الوقوف بها مع عدم الإذن أو مع النهی، أو لا یجوز مطلقا أو مع وجود غیره من المکان بخلاف ما لو تضیّق؟! مع أنّ القول بالملک یأبی القول بالجواز مطلقا، إلاّ أن یجعله مراعی بعدم الإضرار، فیتّجه التفصیل حینئذٍ.

إلاّ أنّ ذلک کلّه _ کما تری _ لا ینبغی أن یسطر، واللّه العالم.(2)

قال بعض أساتذتنا قدس سره معلقا علی کلام صاحب الجواهر رحمه الله : «إن کان المقصود تعمیر قطعة من المشعر وتملکها بحیث یمنع غیره منها فالظاهر ورود إشکال صاحب الجواهر، وإن کان المقصود تعمیرها لیستفاد منها فی مواقع الحرّ والبرد من دون أن یمنع غیره منها فالظاهر عدم الإشکال فیه»(3).

أقول: من الواضح کلام صاحب الجواهر قدس سره ناظرٌ إلی الشق الأوّل فی کلام الأُستاذ رحمه الله لا الشق الثانی، فالاستاذ یوافق صاحب الجواهر فی مقالته.

ولکن اعترض آیة اللّه الشیخ محمّد إسحاق الفیاض _ مدظله _ علی صاحب الجواهر _ رحمة اللّه _ بقوله: «انّه لا یقاس تلک الأماکن المشرفة بالوقف کالمسجد والمدرسة وما شاکل ذلک، فإنّ الوقوف حسب ما یوقفها أهلها فلا یجوزالتصرف فیها بما ینافی جهة وقفها. وأمّا هذه الأماکن المحترمة فلیست بوقف شرعا، ولذا لا تترتب علیه أحکام الوقف، ومجرد أنّ اللّه تعالی جعلها مشعرا للعبادة وموطنا لها فی وقت خاص من أیام السنة لا یوجب کونها وقفا بالمعنی المعهود، ولیس لنا دلیل آخر یدل علی أنّها وقف.

وعلیه فلا مانع من التصرف فیها بما لا یوجب المزاحمة والضیق علی المتعبدین، کما إذا کان فی غیر اوقات النسک، فان کونها متعلقة لحقوق المسلمین معناه أنّه لا تجوز مزاحمتهم فی اوقات قیامهم بالنسک والأعمال فیها، وأما فی غیر تلک الاوقات فلا

ص: 109


1- (454) الروضة البهیّة: کتاب إحیاء الموات 7/157؛ مفتاح الکرامة: إحیاء الموات / فی الأراضی 19/73.
2- (455) جواهر الکلام 39/(78-76) (38/53).
3- (456) دراسات فی ولایة الفقیه 4/171.

مقتضی لعدم جوازه.

ومن هنا یظهر أنّه لا مانع من الزرع الفصلی فیها یعنی _ فی غیر فصل النسک والأعمال _ علی أساس أنّه لا یوجب المزاحمة، بل لا مانع من تأسیس عمارات وبیوت سکن فیها التی تؤجر فی تلک الاوقات من الناسکین والمتعبدین نظرا إلی أنّها لم تکن مزاحمة لهم.

فالنتیجة فی نهایة الشوط: أنّ المقدار الثابت إنّما هو عدم جواز التصرف فیها بما یوجب المزاحمة فی أوقات النسک والعبادات وأمّا إذا لم یکن مزاحما فلا دلیل علی عدم جوازه أصلاً، بل لا شبهة فی أنّه یوجب علاقة المتصرف بها»(1).

أقول: الحقُّ مع الذین یقولون باشتراط هذا الشرط لا «کأنّه من ضروریات الدین»(2) کما ذهب إلیه سیّد المفتاح أو القول بخلافه _ کما أفتی به المحقّق فی الشرائع(3) _ «کاد یکون کالمنافی للضروری»(4) کما قاله صاحب الجواهر، لأنّ المحقّق ومَنْ تبعه(5) من الشهید الثانی فی المسالک(6) والسبزواری فی الکفایة(7) وآیة اللّه الفیاض _ مدظله _ فی الأراضی(8) لم یفتوا بخلاف ضروری الدین کما هو الواضح.

وإن اعترف الشهید الثانی رحمه الله فی الروضة(9) بأنّه قول نادر ووسمه المحقّق الثانی(10) بأنّه ضعیف وعدّه صاحب الجواهر من الغریب وموافقته من الأغرب والتفریع علیه من

ص: 110


1- (457) الأراضی /165.
2- (458) مفتاح الکرامة 19/72.
3- (459) الشرائع 3/218.
4- (460) الجواهر 39/77 (38/54).
5- (461) نفی الشهید الثانی والسبزواری عنه ال_بُعد.
6- (462) المسالک 12/417.
7- (463) الکفایة 2/557.
8- (464) الأراضی /165.
9- (465) الروضة البهیة 7/157.
10- (466) جامع المقاصد 7/27.

الأعجب وکلّها ممّا لا ینبغی أن یسطر کما مرّ.

أدلة القول المختار

[1] بل لما مرّ من صاحب الجواهر بأنّ مشاعر العبادة «فی الحقیقة لیست من الموات _ الذی هو بمعنی المعطّل عن الانتفاع»(1) بل هی من الأراضی المحیاة بالتشریف الإلهی حیث جعلها اللّه تعالی من الأماکن المشرفة والمواضع المحترمة ومشعرا للعبادة.

مضافا إلی أنّ الحیاة لیست منحصرة بجریان الماء وإخراج النبات وإحداث البناء وتأسیس المعمل بل یمکن إحیا الأرض بحضور الزائر والمسافر والمُشاهِد والناظر المسمی الیوم ب_ «صنعة التوریسم» کما هو الأمر فی الآثار والأبنیة التاریخیة والمَشاهد النادرة من الطبیعة کالأنهار والبحار والجبال والغابات.

وبالجملة: أحیاء کل شیءٍ بحسبه.

[2] الشارع وهو المالک الحقیقی جعل هذه الأراضی موطنا للعبادة وهذا الجعل الشرعی یکون أقوی من وقف المالک الإعتباری، فکما لا یجوز تملّک الأراضی الموقوفة، فلا یجوز تملّک هذه المشاعر والمَشاهد بالإحیاء.

[3] تملّک هذه المشاهد المشرّفة والمشاعر العبادة بالإحیاء یوجب تفویت المصلحة المترتبة علیها وینافی مع الجعل الإلهی من دون فرق بین جمیع أجزائها أو بعضها، وبین وسعتها للعبادة أو ضیقها لأنّ جمیع أجزائها جعلت مشعرا للعبادة.

ومن هذه المشاعر: ما جعله اللّه مسجدا کالمسجد الحرام ومسجد الکوفة ومراقد الأئمة المعصومین علیهم السلام وما جعله المسلمون من مصلی البلد ومحلّ دفن الموتی ونحوها.

هذا تمام الکلام فی الشرط الثالث واللّه العالم.

4_ «ألا یکون ممّا أقطعه إمام الأصل

ولو کان مواتا خالیا من تحجیرٍ، کما أقطع النبیّ صلی الله علیه و آله الدور(2)، وأرضا

ص: 111


1- (467) الجواهر 39/77 (38/53).
2- (468) المسالک 12/418: لعبداللّه بن مسعود، وهی اسم موضع بالمدینة، بین ظهرانّی عمارة الأنصار؛ ویُقال: المعنی أنّه أقعطه تلک البقعة لیتخذها دورا.

بحضرموت(1)، وحُضْر فرسِ الزّبیر(2) فإنّه یفید اختصاصا مانعا من المزاحمة، فلا یصحّ دفع هذا الاختصاص بالإحیاء»(3) کما فی الشرائع.

وقال العلاّمة فی شرائط الإحیاء من التذکرة: «أن لا یکون مُقْطَعا من الإمام، فإنّ لإقطاع الإمام مدخلاً فی الموات، بل عندنا أنّه هو المالک للموات، فیجوز للأمام أن یُقطع غیره أرضا من الموات خالیةً من التحجیر لمن یُحییها، ویصیر المُقطَع أولی.

ویفید الإقطاع التخصیص والأحقّیّة کالتحجیر، ویمنع الغیر من المزاحمة له، ولا یصحّ رفع هذا الاختصاص بالإحیاء.

وقد أقطع صلی الله علیه و آله وائل بن حجر(4) أرضا بحضرموت.(5)

وروی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أقطع الدُّور.(6)

وأقطع الزبیرَ حُضْرَ فرسه _ یعنی عَدْوَه(7) _ ما جری، فلمّا قام الفرس رمی بسوطه، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله : «اقطعوا له مرمی سوطه»(8).

وروی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله دعا الأنصار لیُقطع لهم بالبحرین، قالوا: یا رسول اللّه إن

ص: 112


1- (469) المسالک 12/418: لوائل بن حجر «بتصرف».
2- (470) الروضة 7/159: بن العوام... وهو مقدار عدو ما جری، فأجری فرسه حتّی قام، أی عجز عن التقدم، فرمی بسوطه طلبا للزیادة علی الحضر، فأعطاء من حیث وقع السوط... .
3- (471) الشرائع 3/218.
4- (472) هو الحضرمیّ الصحابی المعروف روی عنه ولداه علقمة وعبدالجبّار.
5- (473) سنن أبی داوُد 3/173، ح3058؛ سنن الترمذی 3/665، ح1381؛ المعجم الکبیر _ للطبرانی _ 22/13، ح12؛ السنن الکبری _ للبیهقی _ 6/144.
6- (474) سنن أبی داوُد 3/173، ح3060؛ المعجم الکبیر _ للطبرانی _ 10/274، ح10534؛ السنن الکبری _ للبیهقی _ 6/145؛ العزیز شرح الوجیز 6/216 و 219.
7- (475) بل عَدْوٌ ذو وثب کما فی المعجم الوسیط /181. أقول: بالفارسیة: دویدن با جهش را گویند که در سوارکاری بدان تاخت یا تازاندن اطلاق می شود.
8- (476) سنن أبی داوُد 3/(178-177)، ح3072؛ السنن الکبری _ للبیهقی _ 6/144؛ العزیز شرح الوجیز 6/219؛ المغنی 6/182؛ الشرح الکبیر 6/189.

فعلتَ فاکتب لإخواننا من قریش بمثلها.(1)

وفائدة الإقطاع مصیر المُقْطَع أحقّ بإحیائه، کالمتحجّر.

وإذا طالت المدّة ولم یحیه المُقْطَع أو أحیاه غیره، فعند الشافعیّة یکون الحکم کما تقدّم فی المتحجّر.(2)

وقال مالک: إن أحیاه عالما بالإقطاع کان ملکا للمُقْطَع، وإن أحیاه غیر عالمٍ بالإقطاع فالمُقْطَع بالخیار بین أن یأخذه ویغرم للمُحیی ما أنفق علیه فی العمارة، وبین أن یترکه علی المُحیی ویأخذ منه قیمة الموات قبل العمارة.(3)

وقال أبوحنیفة: إن أحیاه قبل ثلاث سنین فهو للمُقْطَع، وإن أحیاه بعدها فللمُحیی.(4)

ولا ینبغی أن یُقطع الإمام إلاّ مَنْ یقدر علی الإحیاء وبقدر ما یقدر علیه»(5).

وقال العلاّمة فی أسباب الاختصاص من القواعد: «السادس: إقطاع الإمام، وهو متّبع فی الموات، فلا یجوز إحیاؤه وإن کان مواتا خالیا من التحجیر کما أقطع النبیّ صلی الله علیه و آله بلال بن الحارث العقیق(6)، فلمّا ولی عمر قال له: ما اُقْطِعْتَه لتحجبه فأقطعه النّاس؛ وأقطع أرضا بحضرموت(7)، وأقطع الزبیر حُضْر فرسه فأجری فرسه حتّی قام فرمی بسوطه(8)،

ص: 113


1- (477) صحیح البخاری 3/150 و 4/119؛ مسند أحمد 3/647، ح12295؛ السنن الکبری _ للبیهقی _ 6/145 و 10/131؛ المغنی 6/182؛ الشرح الکبیر 6/189.
2- (478) العزیز شرح الوجیز 6/219؛ روضة الطالبین 4/354.
3- (479) الحاوی الکبیر 7/482؛ العزیز شرح الوجیز 6/219.
4- (480) الحاوی الکبیر 7/482؛ العزیز شرح الوجیز 6/219.
5- (481) تذکرة الفقهاء 19/440.
6- (482) سنن أبی داود 3/173، ح 3061 و 3062، باب فی قطاع الأرضین؛ وسنن البیهقی 6/145؛ ومسند أحمد 1/306؛ والعقیق: واد بظاهر المدینة.
7- (483) سنن أبی داود 3/173، ح3058؛ وسنن الترمذی 3/665، ح1381.
8- (484) مستدرک الوسائل 17/122، ح4، باب 12 من أبواب کتاب إحیاء الموات، نقلاً من عوالی اللآلی 1/164، ح168؛ وسنن أبی داود 3/177، ح3072؛ وسنن البیهقی 6/144.

وهو یفید الاختصاص»(1).

وقال السیّد العاملی فی شرح عبارة القواعد: «العقیق وادٍ بظاهر المدینة. والحُضر بالحاء المهملة المضمومة والضاد المعجمة وهو عدوه، وإنّما رمی بسوطه طلبا للزیادة. وفی الحدیث(2) أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: اُقطعوا الزبیر من (عن _ خ ل) سوطه. وقال فی التذکرة(3) قد أقطع النبیّ صلی الله علیه و آله وائل بن حجر أرضا بحضرموت. وقال فی القاموس حُضرموت بضمّ المیم بلد یقال: هذا حضرموت(4)، أی فتبنی الأوّل علی الفتح وتعرب الثانی إعراب ما لا ینصرف، وإن شئت أضفت الأوّل إلی الثانی فقلت: هذا حضرموت، أعربت حضرا وخفضت موتا، وهو وادٍ دون الیمن أرسل اللّه فیه سیلاً علی اُناس من أهل الفیل أفلتوا من طیر أبابیل فهلکوا، فسمّی حضرموت حین ماتوا فیه، وفیه بئر یقال لها بئر برهوت تردها(5) هامُ الکفّار.

قوله: «وهو یفید الاختصاص» کما هو صریح الوسیلة(6) والشرائع(7) والتذکرة(8) والتحریر(9) والدروس(10) وجامع المقاصد(11) والمسالک(12) والروضة(13) وهو قضیة کلام

ص: 114


1- (485) قواعد الأحکام 2/269.
2- (486) سنن أبی داود 3/177، ح3072.
3- (487) تذکرة الفقهاء 19/440؛ والروایة فی تلخیص الحبیر 3/64، ح1300.
4- (488) القاموس المحیط 2/10.
5- (489) معجم البلدان 2/270.
6- (490) الوسیلة: إحیاء الموات /134.
7- (491) شرائع الإسلام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/218.
8- (492) تذکرة الفقهاء: فی شرائط الإحیاء 19/440.
9- (493) تحریر الأحکام: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/490.
10- (494) الدروس الشرعیة: فی شرائط تملّک الموات بالإحیاء 3/61.
11- (495) جامع المقاصد: إحیاء الموات فی أحکام الأراضی 7/29.
12- (496) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 12/418.
13- (497) الروضة البهیة: فی شروط الإحیاء 7/159.

الباقین. وقال فی المبسوط: صار أحقّ به بلا خلاف(1) أی بین المسلمین، ثمّ إن قام بعمارته وإلاّ فکما سبق(2) فی التحجیر»(3).

أقول: یأتی حکم التحجیر إن شاء اللّه.

وقال صاحب الجواهر فی شرح عبارة الشرائع: «الشرط (الرابع: أن لا یکون ممّا أقطعه إمام الأصل ولو کان مواتا خالیا من تحجیر) الذی لا خلاف فی أنّ له ذلک کما عن المبسوط(4)، بل ولا إشکال؛ ضرورة کون الموات من ماله الذی هو مسلّط علیه، مع أنّه أولی بالمؤمنین من أنفسهم.

(کما أقطع النبیّ صلی الله علیه و آله ) عبداللّه بن مسعود (الدور)(5) وهی اسم موضع بالمدینة بین ظهرانی عمارة الأنصار، ویقال: المعنیّ أنّه أقطعه ذلک لیتّخذها دورا.(6)

(و) أقطع وائل بن حجر (أرضا بحضرموت)(7).

(و) أقطع الزبیر (حُضْر فرس)_ه أی عَدْوه، بل قیل: إنّ (الزبیر) أجری فرسه حتّی قام الفرس رمی بسوطه طلبا للزیادة، فقال صلی الله علیه و آله : (أعطوه من حیث بلغ السوط)(8).

ص: 115


1- (498) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/273.
2- (499) تقدّم فی مفتاح الکرامة 19/84.
3- (500) مفتاح الکرامة 19/88 و 89.
4- (501) المبسوط: کتاب إحیاء الموات 3/274.
5- (502) تلخیص الحبیر 3/63، ح1299؛ مجمع الزوائد 4/197؛ المعجم الأوسط (للطبرانی) 5/163.
6- (503) البدر المنیر 7/65، ح11.
7- (504) سنن أبی داود 3/173، ح 3058 و 3059؛ سنن الترمذی 3/665، ح1381؛ تلخیص الحبیر 3/64، ح1300؛ المعجم الکبیر (للطبرانی) 12/9، ح4؛ تاریخ المدینة (لابن شبّة) 2/580؛ فتوح البلدان 1/88، رقم 231؛ إمتاع الأسماع 9/358.
8- (505) مسند أحمد 2/156؛ تلخیص الحبیر 3/64، ح1301؛ سنن أبی داود 3/177، ح3072؛ سنن البیهقی 6/144؛ المعجم الأوسط (للطبرانی) 4/305؛ إمتاع الأسماع 9/362؛ المغنی (لابن قدامة) 6/164؛ الشرح الکبیر 6/170.

وأقطع بلال بن الحارث العقیق.

(فإنّه) إن لم یفد الملک فلا ریب بل لا خلاف(1) فی أنّه (یفید اختصاصا مانعا من المزاحمة، فلا یصحّ دفع هذا الاختصاص بالإحیاء) بل عن المبسوط نفیه کذلک بین المسلمین.(2)

وکذا لیس لأحد نقضه، وما عن عمر: من أنّه لمّا تولّی قال لبلال: «ما أقطعت العقیق لتحجبه، فأقطعه النّاس» لا حجّة فیه، وکم له من أخذ فدک ونحوها!

علی أنّه یمکن ذلک کما تسمعه فی التحجیر إذا لم یحی المحجّر، کما صرّح به فی جامع المقاصد(3)، وإن کان ذکر المصنّف وغیره(4) ذلک فی التحجیر دونه یشعر بالعدم، بل لو لا ظهور الاتّفاق علیه هناک لأمکن إشکاله بتعلّق الحقّ الذی یقتضی استصحابه عدم الزوال وإن عطّل.

وکأنّ ما ذکر من الاختصاص المزبور مبنیّ علی عدم تملّک الموات بغیر الإحیاء، ولکن فیه منع واضح إن لم یکن إجماعا. وحینئذٍ فلابدّ من تنزیل الإقطاع المزبور علی وجه الاختصاص والأحقّیّة بالإحیاء، وإلاّ فلو فرض کونه علی جهة التملیک جاز إن لم یکن إجماعا، ولیس لأحد حینئذٍ الاعتراض علیه بتعطیله وأن تمادی الزمان، علی إشکال؛ لاحتمال جواز إحیاء الغیر له باُجرة علی نحو ما سمعته فی الأرض التی ملکت بالإحیاء فأهملها حتّی ماتت، هذا»(5).

ذهب آیة اللّه الشیخ محمّدإسحاق الفیاض _ مدظله _ إلی أنّ الأرض المقطوعة

ص: 116


1- (506) ینظر الوسیلة: الزکاة / إحیاء الموات /134؛ وتحریر الأحکام: إحیاء الموات / أقسام الأراضی 4/490؛ والدروس الشرعیّة: إحیاء الموات 3/61، درس 211؛ والروضة البهیّة: کتاب إحیاء الموات 7/159.
2- (507) المبسوط: کتاب إحیاء الموات 3/273.
3- (508) جامع المقاصد: إحیاء الموات / فی الأراضی 7/31.
4- (509) کالعلاّمة فی القواعد: إحیاء الموات / فی الأراضی 2/269.
5- (510) الجواهر 39/(80-78) [38/55 و 54].

یملکها المُقْطَع ولکن لیس للإقطاع الیوم ثمرة عملیة وقال: «إنّ عملیة الإحیاء: _ بوصف کونها سببا لصلة المحیی برقبة الأرض علی مستوی الملک أو الحق علی الخلاف المتقدم _ إنّما هی فیما إذا لم تکن رقبة الأرض ممّا أقطعه الإمام علیه السلام وإلاّ فلا أثر للاحیاء أصلاً، فإنّ الإمام علیه السلام إذا أعطی قطعة من الأرض الموات لشخص فهی تصبح ملکا له، حیث أن للإمام علیه السلام ذلک من جهتین.

إحداهما: من جهة ولایته علیه السلام العامة.

وثانیتهما: أنّ الأرض الموات بما أنّها داخلة فی ملکه علیه السلام کما عرفت فله اختصاص فرد أو طائفة بقطعة منها علی مستوی الحق أو الملک، فإنّ کلّ ذلک بیده علیه السلام وتحت اختیاره. ومن الطبیعی أنّه لا یجوز تصرف غیره فیها بعد هذا الاختصاص، لأنّه تصرف فی ملک غیره أو فیما له حق فیه.

وقد روی أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أقطع _ الدور _ لعبداللّه ابن مسعود _ وهی اسم موضع بالمدینة _ ، واقطع وائل بن حجر _ أرضا بحضرموت _ ، واقطع الزبیر _ عَدْو فرسه _ واقطع بلال بن الحارث _ العقیق _ .

وکیف کان فلا شبهة فی أنّ للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله ذلک، وکذا للأئمة الأطهار علیه السلام ، وإنّ ما أقطعه فهو خاص لمن قُطِعَ له، إلاّ أنّ الکلام إنّما هو فی إثبات ذلک صغرویا وهو لا یمکن، حیث لم یقم لنا دلیل معتبر علی ذلک، لا فی الموارد المذکورة، ولا فی غیرها.

فالنتیجة: أنّ المسألة وإنْ کانت ثابتة کبرویا إلاّ أنّه لا طریق لنا إلی إحراز صغری لها فی شیء من الموارد. وعلیه فلا نتیجة عملیة لهذه المسألة خارجا»(1).

وقال فی آخر کتابه: «الإقطاع وهو فی المصطلح الفقهی عبارة عن إقطاع النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام قطعة أرض أو معدن لفرد أو أفراد، وعن الشیخ قدس سره فی المبسوط تحدیده بمنح الإمام علیه السلام حق العمل فیها لشخص أو اشخاص علی أساس أن الإسلام لا یجوز العمل فی المصادر والثروات الطبیعیة الخام بدون إذن الإمام علیه السلام أو الدولة إذنا

ص: 117


1- (511) الأراضی /166.

خاصا أو عاما، فإذا سمح لفرد أو أفراد فی استثمار تلک الثروات فهو فی المصطلح الفقهی إقطاع.

فالنتیجة أنّ الإقطاع بدوره أسلوب من أسالیب الاستثمار والانتاج فی الموارد الخام، ویترتب علی ذلک أنّه لا یجوز للإمام علیه السلام إقطاع الفرد ما یزید علی قدر طاقته ویعجز عن استثماره.

وعلی هذا الأساس فالإسلام لم یعتبر الإقطاع سببا لتملک الفرد الثروة الطبیعیة التی أقطعها النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام أیاه، وأنما جعل للفرد المقطع حق الاولویة فی استثمار تلک الثروة یعنی _ لا یجوز لغیره انتزاعها منه والعمل فیها بدلاً عنه _ کما عن العلاّمة قدس سره فی القواعد حیث قال: بأنّ الإقطاع یفید الاختصاص، وعن الشیخ فی المبسوط بان السلطان إذا أقطع رجلاً من الرعیة قطعة من الموات صار أحق بها من غیره بلا خلاف، وقد صرح بذلک المحقّق فی الشرائع أیضا هذا.

أقول: إنّ تفسیر الإقطاع بهذا المعنی وان کان بمکان من الامکان علی أساس أن للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله ذلک، وکذا للإمام علیه السلام إلاّ أن إثباته بدلیل معتبر مشکل جدا. حیث لم یرد فی دلیل معتبر أن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام أقطع لفرد أو جماعة هذه الأرض أو ذلک المعدن.

نعم نُقل أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أقطع _ عَبْدَاللّه بنَ مَسْعُوْدٍ _ الدور، وهی اسم موضع بالمدینة. وأقطع _ وابل بن حجر _ أرضا بحضرموت. واقطع _ الزبیر _ حضر فرسه.

ولکن کل ذلک: لم یثبت بنص معتبر کما مرّ. هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری: أنه لا مانع من تفسیر الإقطاع بمعنی منح النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام ملکیة هذه الأرض أو هذا المعدن لفرد أو جماعة إذا رأی فیه مصلحة. لما تقدم فی ضمن البحوث السالفة من أنّ أمر الأراضی بیده علیه السلام حتّی الأراضی الخراجیة، وله أن یتصرف فیها بما یری ولو کان ذلک التصرف منح ملکیتها لفرد، وعلیه فلا وجه لتخصیص الإقطاع بالتفسیر الأوّل.

وعلی الجملة: فلو ثبت الإقطاع فی الشرع المقدس بدلیل معتبر فلا وجه

ص: 118

لتخصیصه بالتفسیر الأوّل، إذ هو کما ینسجم مع هذا التفسیر ینسجم مع التفسیر الثانی أیضا.

نعم یمتاز التفسیر الأوّل عن التفسیر الثانی فی نقطة أُخری، وهی أن الإقطاع بالتفسیر الثانی خاص بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام ولیس لأحد غیرهما ذلک وأما الإقطاع بالتفسیر الأوّل فهو غیر خاص بهما»(1).

أقول: بناءً علی سَعَة حدود اختیارات الولی الفقیه الجامع لشرائط الحکم، تکون المسألة ذاتَ ثمرةٍ عملیةٍ اللّهمّ إلاّ إذا قلنا بِاخْتِصاصِها بالنبی صلی الله علیه و آله وأوصیائه الخاصّین علیهم السلام کما یلوح من المحقّق فی الشرائع، فلا تشمل الفقیه حتّی بناء علی سَعَةٍ ولایته وهو الظاهر، والمختار أنّ الإقطاع یوجب تملیک المقطَع للمقطَع له والوجه فی ذلک لِما ورد فی کلام العلاّمة رحمه الله : «أن سبب الملک عندنا تملیک الإمام له ولأنّ الموات قد بیّنا أنّه للإمام خاصة»(2).

ثمّ فَلْیُعْلَمْ بأنّ الإقطاع قسمان:

أ: إقطاع الموات للتملیک وقد مرّ.

ب: إقطاع إرفاق: «وهو أن یُقطعه موضعا یجلس فیه من الطریق الواسعة ورحاب الجوامع ومقاعد الأسواق.

ویجوز ذلک إذا لم یضرّ بالمارّة والمصلّین؛ لأن ذلک لمرافق المسلمین والجالس یرتفق بذلک ببیعٍ وشراءٍ وغیر ذلک.

واختلفت الشافعیّة فی أنّه هل لإقطاع الإمام فیه مدخل؟ علی وجهین:

أحدهما: أنّه لا مدخل له فی هذا الارتفاق؛ لأنّه ینتفع بها علی صفتها من غیر عملٍ، فأشبهت المعادن الظاهرة، ولأنّه لا مدخل للتملّک فیه، ولا معنی للإقطاع، بخلاف الموات.

ص: 119


1- (512) الأراضی 415 و 416.
2- (513) تذکرة الفقهاء 19/435.

والثانی: أنّ له مدخلاً فیه؛ لأنّ للإمام نظرا واجتهادا فی أنّ الجلوس فی المواضع هل هو مُضرٌّ أم لا، ولهذا یزعج مَنْ جلس إذا رأی جلوسه مُضرّا، وإذا کان للاجتهاد فیه مدخل فکذا لإقطاعه.(1)

إذا عرفت هذا، فقد قال بعض الشافعیّة: إنّ للإمام أن یتملّک من الشوارع ما فضل عن حاجة الطروق(2)»(3). واللّه العالم.

5_ «ألاّ یسبق إلیه سابق بالتحجیر

فإنّ التحجیر یفید أولویّة، لا ملکا للرّقبة. وإن ملک به التصرّف حتّی لو هَجَمَ علیهِ مَن یرومُ الإحیاءَ، کان له منعه. ولو قاهرهَ فأحیاها لم یملک.

والتحجیرُ: هو أن ینصب علیها المروز(4)، أو یحوطها بحائطٍ. ولو اقتصر علی التّحجیر وأهمل العمارة، أجبره الإمام علی أحد الأمرین، إمّا الاحیاء وإمّا التخلیة، بینها وبین غیره؛ ولو امتنع أخرجها السلطان من یده، لئلا یُعَطِّلَها.

ولو بادَرَ إلیها مَن أحیاها لم یصِحّ، ما لم یرفَع السلطانُ یدَهُ، أو یأذَن فی الإحیاء»(5). کما فی الشرائع وقال بعد صفحة: «ومن فقهائنا الآن من یسمّی التحجیر إحیاءً وهو بعید»(6).

أقول: هو شیخُ المحقّقِ، الفقیهُ الشیخُ نجیبُ الدینِ بنِ نما الحلّی رحمه الله کما صرح به الشهید فی الدروس وقال: «وعن الشیخ نجیب الدین بن نما أنّ التحجیر إحیاء.

ویمکن حمله علی أرض لیس فیها استیجام ولا ماء غالب وتسقیها الغیوث غالبا

ص: 120


1- (514) العزیز شرح الوجیز 6/223؛ روضة الطالبین 4/359.
2- (515) العزیز شرح الوجیز 6/223؛ روضة الطالبین 4/359.
3- (516) تذکرة الفقهاء 19/442.
4- (517) المُرُوْزُ: جمع المَرْز، وهو الحدّ الترابیّ الممیّز بین موضع وموضع ولیس فیه ارتفاعٌ وهو غیر عربیّ؛ لذلک لم یُذْکَرْ فی کثیرٍ من معجمات لغة العرب القدیمة.
5- (518) الشرائع 3/218.
6- (519) الشرائع 3/220.

فإنّ ذلک قد یعدّ إحیاء، وخصوصا عند من لایشترط الحرث ولا الزرع والغرس؛ لأنّهما انتفاع وهو معلول الملک فلا یکون سببا له کالسکنی»(1).

ومستند الشیخ ابن نما قوله صلی الله علیه و آله : مَن أحاط حائطا علی أرض فهی له.(2)

والخبر عامیٌّ(3) کما تری.

لا الإجماع الظاهر من المبسوط علی أنّ الإقطاع مثل التحجیر حکما أو موضوعا حیث قال الشیخ: «إذا أقطع السلطان رجلاً من الرعیة قطعة من الموات، صار أحقّ به من غیره باقطاع السلطان إیّاه بلا خلاف، وکذلک إذا تحجّر أرضا من الموات، والتحجیر أن یؤثر فیها أثرا لم یبلغ به حدّ الاحیاء، مثل أن ینصب فیها المروز أو یحوّط علیها حائطا وما أشبه ذلک من آثار الاحیاء، فإنّه یکون أحقّ بها من غیره، فإقطاع السلطان بمنزلة التحجیر»(4).

والعجب من الفقیه العاملی(5) حیث نسب إلیه أنّه یقول: «أنّ الإحیاء مثل التحجیر»، وهو کما تری، نعم، الإحیاء مثل التحجیر مفهومان عرفیان ولیس لهما حدّ خاص لدی الشرع والمرجع فی تحققهما العرف.

وقال العلاّمة فی شرائط الإحیاء: «الرابع: أن لا یکون قد سبق إلیه مَنْ حجّره، فإنّ التحجیر عندنا لا یفید الملک، بل الأولویّة والأحقّیّة، لا ملکا للرقبة وإن مَلَک به التصرّف... .

إذا عرفت هذا، فقد قلنا: إنّ التحجیر لا یفید الملک؛ لأنّ سبب الملک عندنا تملیک

ص: 121


1- (520) الدروس الشرعیة 3/56.
2- (521) عوالی اللآلی 3/480، ح3؛ ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/111، ح3.
3- (522) مسند أحمد 5/12 و 21؛ المصنّف (لابن أبی شیبة) 5/285، ح12؛ کنزالعمّال 3/890، ح9047؛ الجامع الصغیر 2/552، ح8307؛ سنن أبی داود 3/179، ح3077؛ سنن البیهقی 6/148؛ مسند الطیالسی /122.
4- (523) المبسوط 3/273.
5- (524) راجع مفتاح الکرامة 19/80.

الإمام له؛ لأن الموات قد بیّنّا أنّه للإمام خاصّةً، وعند العامّة سبب الملک إنّما هو الإحیاء ولم یوجد.(1)

وقال بعض الشافعیّة: إنّ التحجیر یفید التملّک.(2)

والمشهور: أنّه یفید الأولویّة؛ لأنّ الإحیاء إذا أفاد الملک وجب أن یفید الشروع فیه الأحقّیّة، کالاستیام مع الشراء، وأیضا فلیأمن مَنْ یقصد الإحیاء بالشروع فی العمارة.

ولا ینبغی أن یزید المحجِّر علی قدر کفایته ویضیّق علی الناس، ولا أن یحجّر ما لا یمکنه القیام بعمارته، فإن فَعَل ألزمه الحاکم بالعمارة أو التخلّی عن الزیادة فیسلّمها إلی مَنْ یقوم بعمارتها.

وکذا لو ترک المحجِّر الإحیاءَ، ألزمه الحاکم بالعمارة أو الترک؛ لما وُجد فی کتاب علیٍّ علیه السلام قال: «وإن ترکها أو أخربها فأخذها رجل من المسلمین بعدَه فعمرها وأحیاها فهو أحقّ بها من الذی ترکها»(3).

وهو قول بعض الشافعیّة.(4)

وقال آخَرون: لیس لأحدٍ أخذ الزیادة؛ لأنّ ذلک القدر غیر متعیّنٍ»(5).

وقال الفقیه المتتبع العاملی: «التحجیر) ممّا صرّح فیه أنّ عدم التحجیر شرط فی التملّک بالإحیاء أو أنّه مانع منه أو سبب فی الاختصاص المبسوط(6) والمهذّب(7) والوسیلة(8)

ص: 122


1- (525) العزیز شرح الوجیز 6/217.
2- (526) العزیز شرح الوجیز 6/217؛ روضة الطالبین 4/352.
3- (527) وسائل الشیعة 25/414، ح2 خبر أبی خالد الکابلی.
4- (528) العزیز شرح الوجیز 6/217؛ روضة الطالبین 4/352.
5- (529) العزیز شرح الوجیز 6/217؛ روضة الطالبین 4/352.
6- (530) المبسوط: فی إحیاء الموات التملّک بالإحیاء 3/273.
7- (531) المهذّب: فی إحیاء الموات 2/32.
8- (532) الوسیلة: فی إحیاء الموات /133.

بمفهومها والغنیة(1) والسرائر(2) وجامع الشرائع(3) والشرائع(4) والنافع(5) والتذکرة(6) والتحریر(7) والإرشاد(8) والتبصرة(9)

واللمعة(10) والحواشی(11) وجامع المقاصد(12) والمسالک(13) والروضة(14) والکفایة(15) والمفاتیح(16) من دون خلاف ولا تأمّل»(17)... «ولیس له _ أی التحجیر _ فی أخبارنا ذِکر، ولعلّهم أخذوه من فحوی ما دلّ علی الأولویة فی السبق إلی مکان من المسجد أو السوق، أو من الخبر النبویّ العامیّ الّذی تداوله أصحابنا واستدلّوا به: مَن أحیا میتة فی غیر حقّ مسلم فهی له.(18) ولعلّه إلیه استند ابن نما

ص: 123


1- (533) غنیة النزوع: فی إحیاء الموات /293.
2- (534) السرائر: فی شرائط التملّک بالإحیاء 1/482.
3- (535) الجامع للشرائع: فی إحیاء الموات /375.
4- (536) شرائع الإسلام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/218.
5- (537) المختصر النافع: فی إحیاء الموات /251.
6- (538) تذکرة الفقهاء: فی شرائط التملّک بالإحیاء 19/435.
7- (539) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/486.
8- (540) إرشاد الأذهان: الجهاد فی حکم الأرضین 1/348.
9- (541) لم نجد فی التبصرة البحث عن الشروط المذکورة ولا ذکرا لما یومئ إلی التحجیر وما یتعلّق به. نعم فی قوله «ولا یجوز التصرّف فی ملک الغیر بغیر إذنه ولو فیما فیه صلاحه» نوع إیماء إلی ذلک علی نحو العموم، فراجع التبصرة /109 وتأمّل.
10- (542) اللمعة الدمشقیة: فی إحیاء الموات /242.
11- (543) لم نعثر علیه فی الحاشیة النجّاریة المنسوبة إلی الشهید وأمّا سائر حواشیه فلا یوجد لدینا.
12- (544) جامع المقاصد:فی إحیاء الموات فی أحکام الأراضی 7/28.
13- (545) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 12/419.
14- (546) الروضة البهیة: فی شرائط التملّک بالإحیاء 7/160.
15- (547) کفایة الأحکام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 2/558.
16- (548) مفاتیح الشرائع: فیما یشترط فی الإحیاء 3/28.
17- (549) مفتاح الکرامة 19/74.
18- (550) سنن البیهقی 6/148.

فی أنّه یفید الملک کما یأتی، وقد قالوا کما ستسمع: إنّ التحجیر أن ینصب علیها المروز أو یحوطها بحائط. وفی الریاض أنّ الظاهر اتّفاقهم علی أصل التحجیر وأنّ جمعا منهم ادّعوا الإجماع علیه صریحا.(1) وقد نسب قبل ذلک دعواه إلی المسالک(2) ونحن لم نجد التصریح بالإجماع لا من المسالک ولا غیرها إلاّ المفاتیح(3). نعم هو محصّل معلوم وظاهرالتذکرة(4) کما عرفت. وفی مجمع البرهان(5) کأنّه إجماعیّ»(6).

واستدلّ له صاحب الجواهر بقوله: «وکیف کان، فلم نجد فی شیء ممّا وصل إلینا من النصوص هذا اللفظ فضلاً عمّا ذکروه فی تفسیره، وإنّما الموجود فی خبر سمرة بن جندب: «إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: من أحاط حائطا علی أرض فهی له». ومقتضاه الملک به کما تسمعه من ابن نما، إلاّ أن یحمل علی أرض یتحلّق إحیاؤها بذلک، أو یراد من اللام _ ولو بقرینة الشهرة أو الإجماع _ الأحقّیّة المزبورة لا الملک.

وربّما یستفاد الأحقّیّة به من صدق حیازة المباح به وإن کان لایملک إلاّ بالإحیاء، ومن أنّه سبق إلیه نحو السبق إلی الوقف والسوق والمسجد ونحوها، وفی حدیث أبی داود المروی من طرق العامّة _ وفی الإسعاد(7): أنّه صحّحه الصابی _ : «من سبق إلی ما لم یسبق إلیه مسلم فهو له»(8)، وفی بعض کتب الأصحاب روایة «فهو أحقّ به»(9).

ص: 124


1- (551) ریاض المسائل: فی شرائط التملّک بالإحیاء 14/112.
2- (552) ریاض المسائل: فی شرائط التملّک بالإحیاء 14/112.
3- (553) مفاتیح الشرائع: فیما یشترط فی الإحیاء 3/28.
4- (554) تذکرة الفقهاء 19/435.
5- (555) مجمع الفائدة والبرهان: فی شرائط التملّک بالإحیاء 7/492.
6- (556) مفتاح الکرامة 19/75.
7- (557) الکتاب غیر موجود لدینا.
8- (558) سنن أبی داود 3/177، ح3071؛ تلخیص الحبیر 3/63، ح1296؛ سنن البیهقی 6/142.
9- (559) عوالی اللآلی: باب إحیاء الموات 3/480، ح4؛ مستدرک الوسائل 17/111، ح4، باب 1 من کتاب إحیاء الموات.

ولکن مع ذلک کلّه فالإنصاف أنّ العمدة الإجماع المزبور، وإلاّ فما فی التذکرة(1) والمسالک(2) وبعض الشافعیّة(3) _ من الاستدلال علیه بأنّه «إذا أفاد الإحیاء ملکا فلابدّأن یفید التحجیر _ الذی هو الشروع فیه _ أولویّةً نحو البیع والاستیام _ کماتری؛ ضرورة عدم الملازمة، مع احتمال أنّ التحجیر أعمّ من الشروع فیه وإن فسّره به فی القواعد(4) والمسالک(5) وغیرهما(6)»(7).

واستدلّ له آیة اللّه الفیاض _ مدظله _ بقوله: «وإنّما الکلام فی دلیل ذلک.

الموجود فی بعض کلمات الأصحاب أن عمدة الدلیل علیه الإجماع(8) والتسالم(9).

وعن العلاّمة فی التذکرة(10)، والشهید الثانی قدس سره فی المسالک(11) ان التحجیر شروع فی الاحیاء، فإذا أفاد الاحیاء الملک أفاد التحجیر الذی هو شروع فیه الأولویة لا محالة.

وقد یستدل علی ذلک بالروایة الدالة علی أن «من سبق إلی ما لم یسبق إلیه مسلم فهو له»(12). وغیر خفی: أنّ کلاّ منها لا یصلح أن یکون دلیلاً.

ص: 125


1- (560) تذکرة الفقهاء: إحیاء الموات / فی شرائطه 19/436.
2- (561) مسالک الأفهام: إحیاء الموات / فی الأرضین 12/419.
3- (562) مغنی المحتاج 2/366.
4- (563) قواعد الأحکام: إحیاء الموات / فی الأراضی 2/269.
5- (564) تقدّم المصدر آنفا.
6- (565) کالروضة البهیّة: کتاب إحیاء الموات 7/160.
7- (566) الجواهر 39/82 و 83 (38/57).
8- (567) کما فی مفاتیح الشرائع 3/28 علی أنّه یفید الاولویة تبعا للعلاّمة فی تذکرة الفقهاء 19/435؛ وفی مجمع البرهان 7/492 کأنّه اجماعیٌّ.
9- (568) ریاض المسائل 14/112 (12/351).
10- (569) تذکرة الفقهاء 19/436.
11- (570) المسالک 12/419.
12- (571) سنن أبی داود 3/177، ح3071؛ تلخیص الحبیر 3/63، ح1296؛ وسنن البیهقی 6/142.

أمّا الإجماع: فهو غیر متحقّق لوجود المخالف فی المسألة وعلی تقدیر تسلیم تحققه فهو إجماع منقول وقد حقّق فی الأصول أنّه لا دلیل علی اعتباره.

وأمّا ما عن العلاّمة والشهید الثانی من الملازمة بین کون الأحیاء مفیدا للملک وکون التحجیر مفیدا للاولویة فلا دلیل علیه أصلاً إلاّ أن یکون نظرهما إلی أنّ بناء العقلاء قائم علی ذلک وهو غیر بعید، کما سوف نشیر إلیه.

وأمّا الروایة فلم نعثر علیها من طرق الخاصة، وإنّما هی مرویة من طرق العامة، وعلیه فلا أثر لها أصلاً. علی أنّها لو ثبتت لکان حالها حال روایات الإحیاء الظاهرة فی إفادة الملک، وهی مقطوع البطلان علی أساس أن التحجیر لدی الأصحاب لا یفید الملک جزما.

فالصحیح فی المسألة أنْ یقال: إنّ الدلیل علی کون عملیة التحجیر تمنح حقّ الأولویة لمن یقوم بها أنّما هو سیرة العقلاء وحیث لم یرد ردع عنها من قبل الشرع فهی علی أساس ذلک لا محالة تکشف عن إمضاء الشارع لها، فیکون دلیلاً فی المسألة.

ثمّ إنّ المتیقن: من تلک السیرة أنّما هو فیما إذا أراد المحجر القیام بعملیة الإحیاء، وهذا یعنی _ ان التحجیر لدی العرف والعقلاء أنّما یمنح حق الأولویة للمحجرّ علی أساس أنّه شروع فی عملیة الاحیاء وابتداء لها _ .

واما إذا کان قاصدا به السیطرة علی مساحة کبیرة من الأرض والاستیلاء علیها _ من دون أن یکون بصدد أحیائها واستثمارها والاستفادة من ثرواتها _ فالظاهر بل المقطوع به أنه لا أثر لتحجیره هذا نهائیا، حیث لم یحرز جریان السیرة من العقلاء علی أنّه مفید لحقّ الأولویة مطلقا حتّی فی هذا الفرض، بل لا یبعد دعوی قیام السیرة منهم علی عدم ترتیب أثر علیه علی أساس أنّهم یرون أن ذلک یضرّ بالعدالة الاجتماعیة، ویوجب الضیق علی الآخرین وتفویت حقوقهم.

ومن هنا یعتبر فی کون عملیة التحجیر مفیدة لحقِّ الأولویة تمکن المحجرّ من القیام بالإحیاء والعمارة وإلاّ لم تکن مفیدة له، وأمّا إذا کان متمکنا من القیام به ثمّ زال عنه التمکن فإن کان موقتا لم یزل حقّه عنها وإلاّ زال وجاز للآخر أن یقوم بأحیائها، کما

ص: 126

أنّ الأمر کذلک إذا امتنع من القیام بعملیة الإحیاء والاستثمار»(1).

6_ أن لا یکون قد حماه النبی صلی الله علیه و آله

قال الشیخ: «فأمّا الحِمی... وهو أن یحمی قطعة من الأرض للمواشی ترعی فیها والنّاس فی ذلک علی ثلاثة أضرب: النبیّ محمّد_ علیه وآله أفضل الصلاة والسلام والبرکات _ والأئمّة من بعده _ علیهم أفضل الصلاة والسلام والتحیّات _ وآحاد المسلمین، فأمّا النبیّ صلی الله علیه و آله فکان له أن یحمی لنفسه ولعامّة المسلمین لقوله علیهم السلام لا حمی إلاّ للّه ولرسوله، وروی عنه علیه السلام أنّه حمی النقیع _ بالنون _ وروی نافع عن ابن عمر أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله حمی النقیع لخیل المجاهدین ترعی فیه.

فأمّا آحاد المسلمین فلیس لهم أن یحموا لأنفسهم ولا لعامّة المسلمین لقوله علیه السلام لا حمی إلاّ للّه ولرسوله، وهذ خاصّ فی هذا الموضع، وهذان لا خلاف فیهما.

وأمّا الأئمّة الّذین نذهب إلی إمامتهم المعصومون، فإن حموا کان لهم ذلک، لأنّ أفعالهم حجّة ولا یجوز علیهم الخطا والقبیح، وفی المخالفین من قال لیس للإمام أن یحمی لنفسه شیئا، وإن أراد أن یحمیه للمسلمین لیس له ذلک، وفیهم من قال له أن یحمی للمسلمین.

فإذا ثبت ذلک فالکلام فی فصلین أحدهما بیان ما یحمی له، والثانی قد ما یحمی.

فأمّا الّذی یحمی له فانّه یحمی للخیل المعدّة لسبیل اللّه، وَنَعَمِ الجزیة، ونعم الصدقة والضوالّ.

وأمّا قدر ما یحمی فهو ما لا یعود بضرر علی المسلمین، أو بضیّق مراعیهم، لأنّ الإمام لا یفعل عندنا إلاّ ما هو من مصالح المسلمین.

فإذا ثبت هذا فإنّه یحمی القدر الّذی یفضل عنه ما فیه کفایة لمواشی المسلمین فأمّا ما حماه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فإنّه لا یجوز للإمام القائم مقامه نقضه وحلّه، لأنّ فعله حجة یجب اتباعه فیه، وما یفعله الإمام القائم مقامه لا یجوز لأحد تغییره، وإنّ غیّره هو أو من

ص: 127


1- (572) الأراضی /(161-159).

بعده من الأئمّة أو أذن واحد منهم لغیره فی إحیاء میّت فأحیاه فانّه یملکه فأمّا من یحییه بغیر إذنه فإنّه لا یملک به حسب ما قدّمناه»(1).

قال المحقّق: «للنبی صلی الله علیه و آله ، أن یحمی لنفسه ولغیره من المصالح(2) کالحِمَی لنعم الصّدقة. وکذا عندنا لإمام الأصل. ولیس لغیرهما من المسلمین، أن یحمی [لنفسه]. فلو أحیاه محی لم یملکه، مادام الحِمَی مستمرّا.

وما حماه النبیُّ صلی الله علیه و آله ، أو الإمام[ علیه السلام ]، لمصلحةٍ فزالت، جاز نقضه؛ وقیل: ما یحمیه النبیّ صلی الله علیه و آله خاصّةً، لا یجوز نقضه لأنّ حماه کالنصّ»(3).

وقال العلاّمة: «السادس: أن یحمی بقعةً من الموات لمواشٍ بعینها، ویمنع سائر النّاس من الرعی فیها.

والحمی قد کان لرسول اللّه صلی الله علیه و آله لخاصّ نفسه وللمسلمین؛ لما روی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لا حمی إلاّ للّه ولرسوله»(4).

ولکنّه علیه السلام لم یحم لنفسه، وإنّما حمی النقیع _ بالنون _ لإبل الصدقة ونَعَم الجزیة وخیل المجاهدین فی سبیل اللّه.(5)

وعندنا أنّ للإمام أن یحمی لنفسه ولإبل الصدقة ونَعَم الجزیة وخیل المجاهدین

ص: 128


1- (573) المبسوط 3/270 و 271.
2- (574) المسالک 12/420: المراد بالحمی: أن یحمی بقعة من الموات لمواشٍ بعینها، ویمنع سائر الناس من الرعی فیها.
3- (575) الشرائع 3/219.
4- (576) مسند أحمد 4/624، ح15990، و 5/21، ح16221؛ صحیح البخاری 3/148؛ سنن أبی داود 3/180، ح3083؛ المعجم الأوسط _ للطبرانی _ 5/133، ح4669؛ المعجم الکبیر _ له أیضا _ 8/(97-96) ح 7428-7426؛ سنن الدارقطنی 4/238، ح122؛ المستدرک _ للحاکم _ 2/61؛ السنن الکبری _ للبیهقی _ 6/146.
5- (577) الکافی 5/277، ح5؛ التهذیب 7/414، ح625؛ الأموال _ لأبی عبید _ /309؛ مسند أحمد 2/332، ح6402؛ السنن الکبری _ للبیهقی _ 6/146؛ صحیح ابن حبّان _ برتیب ابن بلبان _ 10/538، ح4683؛ الطبقات الکبری _ لابن سعد _ 5/11.

علی حدّ ما کان للنبیّ صلی الله علیه و آله ، وأمّا غیرهما من آحاد المسلمین فلیس لهم أن یحموا لأنفسهم ولا لغیرهم؛ لقوله علیه السلام : «لا حمی إلاّ للّه ولرسوله».

وأنّما قصد به النبیّ صلی الله علیه و آله منع العامّة من الحمی، وذلک لأنّ العزیز من العرب کان إذا انتجع بلدا مخصبا وافی بکلبٍ علی جبلٍ إن کان به، أو علی نشزٍ إن لم یکن به جبل، ثمّ استعوی الکلب ووقف له من کلّ ناحیةٍ مَنْ یسمع صوته بالعواء، فحیث انتهی صوته حماه من کلّ ناحیةٍ لنفسه، ویرعی مع العامّة فیما سواه، فنهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن ذلک(1)؛ لما فیه من التضییق علی النّاس.

وأمّا الأئمّة علیهم السلام فقد قلنا: إنّهم عندنا فی ذلک بمنزلة النبیّ صلی الله علیه و آله .

ومَنَع الشافعی من تجویز الحمی لخاصّ نفسه، فإن حمی لنفسه لم یکن له ذلک.(2)

وإن أراد أن یحمی للمسلمین فقولان:

أحدهما: لیس له ذلک؛ لقوله علیه السلام : «لا حمی إلاّ للّه ولرسوله» ولأنّه لا یحمی لنفسه فلا یحمی لغیره، کالعامّة.

ونقول بموجَب الحدیث، فإنّ الإمام قائم مقام الرسول صلی الله علیه و آله ، والمقدّمة الأُولی ممنوعة.

والثانی _ وهو الصحیح عندنا وعندهم _ : [الجواز(3)] وبه قال مالک وأبوحنیفة؛ [لأنّ(4)] عمر بن الخطّاب حمی موضعا وولّی علیه مولی له یقال له: هُنَی، فقال: یا هُنَی اضمم جناحک للناس، واتّق دعوة المظلوم، فإنّ دعوة المظلوم مجابة، وأدخل ربَّ

ص: 129


1- (578) کما فی الأُم 4/47؛ ومختصر المزنی /131؛ ونهایة المطلب 8/289؛ والعزیز شرح الوجیز 6/220؛ والمغنی 6/185؛ والشرح الکبیر 6/(203-202).
2- (579) الحاوی الکبیر 7/483؛ المهذّب _ الشیرازی _ 1/434؛ نهایة المطلب 8/288؛ الوجیز 1/242؛ التهذیب _ للبغوی _ 4/492؛ البیان 7/427؛ العزیز شرح الوجیز 6/220؛ روضة الطالبین 4/357.
3- (580) ما بین المعقوفین أثبتناه من العزیز شرح الوجیز، وفاقا لما فی بقیّة المصادر.
4- (581) بدل ما بین المعقوفین فی النُّسَخ الخطّیّة والحجریّة: «إنّ». والمثبت یقتضیه السیاق.

الصُّرَیْمة وربَّ الغُنَیمة(1)، إیّاک ونَعَم ابن عفّان ونَعَم ابن عوف، فإنّهما إن تهلک ماشیتهما یرجعا إلی نخلٍ، وزرعٍ، وإنّ ربَّ الصُّرَیْمة والغُنَیمة إن تهلک ماشیته یأتنی بعیاله فیقول: یا أمیرالمؤمنین أفتارکهم [أنا(2)] لا أبا لک لا أبا لک(3)، فالماء والکلأ أهون علَیَّ من الدینار والدرهم، وأیم اللّه إنّهم لیقولون: إنّها لبلادنا التی قاتلنا علیها فی الجاهلیّة وأسلمنا علیها فی الإسلام، ولو لا الخیل التی أحمل علیها فی سبیل اللّه لما حمیتُ من بلاد الإسلام شبرا.(4)

وهو إجماع منهم، ولأنّ ما کان لمصالح المسلمین قامت الأئمّة فیه مقام النبیّ صلی الله علیه و آله [وقد روی عن النبیّ صلی الله علیه و آله (5)] أنّه قال: «ما أطعم اللّه نبیّا طعمةً إلاّ جعلها طعمةً لمن بعده»(6) وأمّا الخبر فمخصوص(7)»(8).

وقال السیّد العاملی فی شرح کلام العلامة فی القواعد: «وفی حکم الإقطاع

ص: 130


1- (582) الصُّرَیمة تصغیر الصِّرمة، وهی القطیع من الإبل والغنم، والغُنَیمة تصغیر الغنم، یرید: أدخل صاحبَ الإبل القلیلة والغنم القلیلة فی الحمی والمرعی. النهایة _ لابن الأثیر _ 3/27 «صرم».
2- (583) ما بین المعقوفین أثبتناه من المصدر.
3- (584) جملة «لا أبا لک» غیر مکرّرةٍ فی المصادر.
4- (585) الموطّأ 2/1003، ح1؛ صحیح البخاری 4/87؛ السنن الکبری _ للبیهقی _ 6/147؛ الأُم 4/46 و 48؛ التهذیب _ للبغوی _ 4/492؛ البیان 7/428؛ العزیز شرح الوجیز 6/220.
5- (586) ما بین المعقوفین أثبتناه من المغنی 6/187؛ والشرح الکبیر 6/204.
6- (587) مسند أحمد 1/9، ح15؛ سنن أبی داوُد 3/144، ح2973.
7- (588) الحاوی الکبیر 7/483؛ المهذّب _ للشیرازی _ 1/434؛ نهایة المطلب 8/288؛ التهذیب _ للبغوی _ 4/492؛ البیان 7/(428-427)؛ العزیز شرح الوجیز 6/220؛ روضة الطالبین 4/357؛ المغنی 6/(187-186)؛ الشرح الکبیر 6/(204-203)؛ الإشراف علی نکت مسائل الخلاف 2/668، ح1189؛ عیون المجالس 4/1817، ح1282؛ روضة القُضاة 2/551، ح3268 و 3269.
8- (589) تذکرة الفقهاء 19/(445-442).

الحِمی، وهو منع الإمام النّاس عن رعی کلأ ما حماه فی الأرض المباحة لیختصّ به دونهم) قد جعل فی التذکرة(1) والتحریر(2) والدروس(3) عدم الحِمی شرطا فی الإحیاء المملّک. ومثله جعله فی حکم الإقطاع. ومَن ذکره مستقلاًّ وبیّن أحکامه أفاد کلامه ذلک. وقد عرّفه المصنّف بما سمعت وبمعناه ما فی التذکرة(4) هو أن یحمی بقعة من الموات لمواشٍ بعینها ویمنع سائر النّاس من الرعی فیها، وکلاهما غیر المعنی اللغوی و العرفی وإنّما أراد بهما بیان المراد منه فی کلام الفقهاء. والتعریف الموافق للّغة والعرف ما فی المبسوط قال: وهو أن یحمی قطعة من الأرض للمواشی ترعی فیها، وقد روی أصحابنا والعامّة عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال: لا حمی إلاّ للّه ولرسوله.(5) والظاهر أنّ الخبر عامّی، لأنّه لیس موجودا فی الجوامع العظام من کتبنا، ولکنّهم أخذوه مسلّما. وفی التذکرة(6) وغیرها(7) أنّه صلی الله علیه و آله قصد منع العامّة من الحِمی، وذلک لأنّ العزیز من العرب کان إذا انتجع بلدا مخصبا وافی بکلب علی جبل أو علی نَشَز إن لم یکن به جبل، ثمّ استعوی الکلب، ووقف له من کلّ ناحیة مَن یسمع صوته بالعواء، فحیث انتهی صوته حماه من کلّ ناحیة لنفسه ویرعی مع العامّة فیما سواه، فنهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن ذلک لما فیه من التضییق علی النّاس.

وقد نبّه المصنّف بقوله (وهو منع الإمام) علی خلاف الشافعی حیث منع علی غیر النبیّ صلی الله علیه و آله الحِمی لنفسه، واختلف کلامه علی قولین(8) إذا حمی للمسلمین، لأنّ الأئمّة

ص: 131


1- (590) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/442.
2- (591) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/486.
3- (592) الدروس الشرعیة: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/57.
4- (593) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/442.
5- (594) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/270.
6- (595) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/443.
7- (596) تحریر الأحکام الشرعیة 4/489؛ ومسالک الأفهام 12/421.
8- (597) الحاوی الکبیر: فی الحمی من إحیاء الموات 7/483.

_ صلوات اللّه علیهم _ بمنزلة النبیّ صلی الله علیه و آله عندنا، وهو من ضروریّات مذهبنا.

ونحوه ما فی السرائر(1) وجامع الشرائع(2) والشرائع(3) والتحریر(4) والدروس(5) حیث قیل فیها: ولإمام الأصل ذلک عندنا. وکیف کان، فمشروعیة الحِمی ثابتة بإجماع المسلمین، وستسمع إجماعهم علی بعض الخصوصیّات.

قوله: (کما حمی النبیّ صلی الله علیه و آله النقیع) کما ذکر ذلک الخاصّة والعامّة(6)، وقد روی فی الکافی(7) والتهذیب(8) بسندٍ ضعیف بجماعة عن أبی الحسن علیه السلام قال: سألته عن بیع الکلأ والمرعی، فقال: لا بأس، قد حمی رسول اللّه صلی الله علیه و آله النقیع لخیل المسلمین. وهذا الخبر یُستشمّ منه رائحة التقیة، لأنّ الجواب غیر مطابق للسؤال. والنقیع _ بالنون _ موضع قریب من المدینة کان یستنقع فیه الماء، ومنه أوّل جمعة جُمعت فی الإسلام فی المدینة فی نقیع الخَضِمات بالمعجمتین. وفی الحواشی(9): أنّه بکسر النون.

قوله: (وللإمام أن یحمی لنفسه) لأنّ الموات ملک له، ومَن ملک أرضا فله حمایتها بلا خلاف کما فی الخلاف(10) والغنیة(11). وقد روی العامّة النبیّ صلی الله علیه و آله قال: لا حمی إلاّ للّه

ص: 132


1- (598) السرائر: البیع فی أقسام النّاس فی الحمی 2/381.
2- (599) الجامع للشرائع: فی إحیاء الموات /375.
3- (600) شرائع الإسلام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/219.
4- (601) تحریر الأحکام الشرعیة: احیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/(490-489).
5- (602) الدروس الشرعیة: فی شرائط تملّک الموات بالاحیاء 3/58.
6- (603) السنن الکبری للبیهقی 6/146.
7- (604) الکافی: فی بیع المراعی 5/277، ح5.
8- (605) تهذب الأحکام: باب بیع الماء و... 7/141، ح10؛ ووسائل الشیعة 17/337، ح3، باب 9 من أبواب إحیاء الموات.
9- (606) لم أجده فی الحاشیة النجّاریة بل فیها /347: «النقیع بفتح النون موضع یجتمع فیه الماء فیکثر الخصیب».
10- (607) الخلاف: إحیاء الموات 3/528، مسألة 6.
11- (608) غنیة النزوع: فی إحیاء الموات /293 و 294.

ولرسوله ولأئمّة المسلمین.(1) وفی المبسوط أنّ للنبیّ صلی الله علیه و آله أن یحمی لنفسه ولعامّة المسلمین بلا خلاف.(2) وفی التذکرة: لکنّه لم یحم لنفسه، وإنّما حمی النقیع لأبل الصدقة ونَعَم الجزیة وخیل المجاهدین.(3) وغرض المصنّف هنا بیان أنّ الإمام کالنبیّ صلی الله علیه و آله ، وأنّ له وللنبیّ صلی الله علیه و آله أن یحمی لنفسه ولغیره. وممّا ذکر فیه أنّه له أن یحمی لنفسه المبسوط(4) والغنیة(5) والسرائر(6) والجامع للشرائع(7) والشرائع(8) والتحریر(9) لکن فی المبسوط والسرائر عند بیان ما یحمی له لم یذکر الحِمی لنفسه وإنّما ذکر الأربعة الآتیة، ولم یذکره فی الوسیلة(10) أصلاً، وظاهره الحصر فی الأربعة، ولعلّه لأنّه لم یفعله صلی الله علیه و آله وإلاّ فالمعصوم قوله وفعله حجّة، علی أنّه مالک وللمالک أن یفعل فی ملکه ما یشاء.

قوله: (ولنَعَم الصدقة الضوالّ) والخیل المعدّة لسبیل اللّه ونَعَم الجزیة کما فی المبسوط(11) والوسیلة(12) والغنیة(13) والسرائر(14)

ص: 133


1- (609) لم نظفر علی عبارة الحدیث فی کتب حدیث العامّة ولا الخاصّة إلاّ علی قوله صلی الله علیه و آله : لا حمی إلاّ للّه ولرسوله. نعم رواه الشیخ فی الخلاف 3/528 وابن زهرة فی الغنیة /294.
2- (610) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/270.
3- (611) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/443.
4- (612) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/270.
5- (613) غنیة النزوع: فی إحیاء الموات /293 و 294.
6- (614) السرائر: البیع فی أقسام النّاس فی الحمی 2/381.
7- (615) الجامع الشرائع: فی إحیاء الموات /375.
8- (616) شرائع الإسلام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/219.
9- (617) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/490.
10- (618) الوسیلة: فی إحیاء الموات /134.
11- (619) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/270 و 271.
12- (620) الوسیلة: فی إحیاء الموات /134.
13- (621) غنیة النزوع: فی إحیاء الموات /(294-293).
14- (622) السرائر: فی أحکام الحمی 2/381.

وجامع الشرائع(1) والتذکرة(2) وغیرها(3)، وزاد فی التذکرة مواشی الضعفاء.

قوله: (ولیس لغیره ذلک) لیس لغیر النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام _ وهو المراد من العبارة _ من آحاد النّاس أن یحمی لنفسه ولعامّة المسلمین بلا خلاف کما فی المبسوط(4) وإجماعا کما فی التحریر(5) ولا یجوز لغیرهما الحِمی إجماعا کما فی المسالک(6) وهو کذلک، لأنّ عبارات مَن تعرّض له قد طفحت بذلک، وهو من العامّة إجماع کما فی التذکرة وإن خالف الشافعی فی أحد قولیه، لأنّ عمر بن الخطّاب قد حمی موضعا وولّی علیه هنیّا وأمره أن یدخل ربّ الصریمة وربّ الغنیمة ونهاه أن یدخل فیه نَعَم ابن عفّان وابن عوف.(7)

وهل لولاته فی النواحی؟ فیه وجهان عند العامّة، والوجه المنع إلاّ بإذنه کما فی التذکرة(8) ومنه یُعلم حال الفقهاء فی زمن الغیبة.

ولم یذکر المصنّف قدر المحی، وقد قدّر فی المبسوط(9) والوسیلة(10) والسرائر(11) وجامع الشرائع(12) والتذکرة(13)

ص: 134


1- (623) الجامع للشرائع: فی إحیاء الموات /375.
2- (624) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/443.
3- (625) الخلاف: فی الحمی وأحکامه 4/528، مسألة 7.
4- (626) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/270 و 271.
5- (627) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/490.
6- (628) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 12/421.
7- (629) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/444.
8- (630) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/443.
9- (631) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/270 و 271.
10- (632) الوسیلة: فی إحیاء الموات /134.
11- (633) السرائر: البیع فی أقسام النّاس فی الحمی 2/381.
12- (634) الجامع للشرائع: فی إحیاء الموات /375.
13- (635) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/443.

والتحریر(1) بما لا یعود بضرر علی المسلمین ولا یضیّق مراعیهم. ولعلّ مَن ترک ترکه لظهور أنّ المعصوم لا یحمی إلاّ الأقلّ الّذی لا یبین ضرره علی المسلمین.

قوله: (ولا یجوز نقض ما حماه الإمام ولا تغییره) أی اعتباطا من دون إذنٍ منه ولا زوال مصلحة. وهو ممّا لا ریب فیه، وإنّما الخلاف فیما إذا زالت المصلحة کما یأتی، لکنّه قال فی المبسوط(2) والخلاف(3) فأمّا ما حماه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فإنّه لا یجوز للإمام القائم مقامه نقضه وحلّه، لأنّ فعله حجّة یجب اتّباعه فیه، وما یفعله الإمام القائم مقامه لا یجوز لأحد تغییره، وإن غیّره هو أو مَن بعده من الأئمّة أو أذن واحد منهم لغیره فی إحیاء میت فأحیاه فإنّه یملکه، ولعلّه إلیه أشار المحقّق فی الشرائع بقوله: «وقیل ما یحمیه النبیّ خاصة لا یجوزنقضه، لأنّ حماه کالنصّ»(4)، انتهی. وعلی ردّه نبّه فی الدروس بقوله: ولا فرق بین ما حماه النبیّ صلی الله علیه و آله والإمام، لأنّ حِماهما نصّ، إذ لا یحکم الإمام بالاجتهاد عندنا.(5) والنقض هو الإبطال من رأس، والتغییر قد یکون للبعض، وقد یکون للکلّ.

قوله: (ومَن أحیا منه شیئا لم یملکه مادام الحِمی مستمرّا) کما هو صریح جماعة(6) وقضیة کلام الباقین(7). وهو ممّا لا ریب فیه أیضا عندنا وعند العامّة.

وقوله: (فإن کان الحِمی لمصلحة فزالت فالوجه جواز الإحیاء) وجواز نقضه کما جزم به فی الشرائع(8) والتذکرة(9) والتحریر(10)

ص: 135


1- (636) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/490.
2- (637) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/271.
3- (638) الخلاف: فی إحیاء الموات 3/529، مسألة 8.
4- (639) شرائع الإسلام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/219.
5- (640) الدروس الشرعیة: فی شرائط تملّک الموات بالإحیاء 3/58.
6- (641) منهم المحقّق فی الشرائع 3/219؛ والشهید الثانی فی المسالک 12/421؛ والسرائر 2/382.
7- (642) کما فی الغنیة /294؛ والدروس 3/58؛ ومجمع الفائدة والبرهان 7/500.
8- (643) شرائع الاسلام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 3/219.
9- (644) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/446.
10- (645) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/490.

والحواشی(1) والمسالک(2). وفی ترجیح فی الإیضاح(3). وفی المسالک: أنّه فی حِمی الإمام موضع وفاق وفی حِمی النبیّ صلی الله علیه و آله وجهان: أحدهما أنّه کذلک للاشتراک فی المقتضی، والآخر المنع مطلقا، لأنّ حِماه إنّما کان لمصلحة مقطوعة فکان کالنصّ لا یجوز تغییره(4)، انتهی. وقد سمعت ما فی المبسوط من أنّ ما یحمیه النبیّ صلی الله علیه و آله خاصّة لا یجوزنقضه، وما فی الشرائع من نسبته إلی القیل. وهذا لقول لم نجده لأحد من طائفتنا غیر الشیخ فی ظاهر المبسوط(5) وإنّما هو قول للعامّة، قالوا: لأنّه نصّ فلا ینقض بحال، ومنهم مَن قال: إن بقیت الحاجة لم یغیّر، وإن زالت فوجهان: أحدهما وبه قال أبوحنیفة(6) الجواز لزوال العلّة، وأظهرهما عند الشافعی(7) العدم، لأنّ التغییر إنّما یکون بالاجتهاد، ونحن نقطع أنّ ما فعله مصلحة فلا یرفع القطع بالظنّ.

ویبقی الکلام فی هذا الّذی یجوز له الإحیاء والنقض والتغییر، فقد فرض فی الدروس(8) وجامع المقاصد(9) وظاهر التحریر(10) فی غیر الوالی من آحاد النّاس، وقد فرضه فی التذکرة(11) فی نفسه تارةً بمعنی أنّ الإمام ینقض ما حماه إذا زالت المصلحة وهو الّذی ذکره فی المسالک(12) أخیرا.

ص: 136


1- (646) الحاشیة النجّاریة /347.
2- (647) مسالک الأفهام: فی شرائط تملّک الموات بالإحیاء 12/422.
3- (648) إیضاح الفوائد: إحیاء الموات فی المنافع 2/235.
4- (649) مسالک الأفهام: فی شرائط تملّک الموات بالإحیاء 12/422.
5- (650) المبسوط: فی إحیاء الموات 3/271.
6- (651) کما فی التذکرة 19/446؛ وانظر روضة الطالبین 4/454.
7- (652) المجموع 15/235.
8- (653) الدروس الشرعیة: فی شرائط تملّک الموات بالإحیاء 3/58.
9- (654) جامع المقاصد: إحیاء الموات فی أحکام المنافع 7/33.
10- (655) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات فی أقسام الأراضی 4/490.
11- (656) تذکرة الفقهاء: فی شروط التملّک بالإحیاء 19/446.
12- (657) مسالک الأفهام: فی شرائط التملّک بالإحیاء 12/421 و 422.

وفی احتیاج خروجه عن الحِمی حیث یکون المحیی آحاد النّاس إلی حکم الحاکم نظر من تبعیّة المسبّب، لأنّه شرّع لمصلحة وعلّة خاصّة، فإذا زالت العلّة زال المعلول فیرجع إلی أصله من الإباحة، ومن أنّ التغییر إنّما یکون بالاجتهاد ولا یجوز تغییر ما فعله الإمام علیه السلام بالاجتهاد. وهو کما تری یمنع ذلک علی الحاکم أیضا، وأنّ المحمی لا یثبت بمجرّد المصلحة بل بحکم الإمام، فلا یزول إلاّ به، لامتناع مناطیة الأحکام بالمصالح بل بالوصف، وهو کما تری أیضا وأنّه قد تعیّن لتلک الجهة کالمسجد والمقبرة، فلا یتغیّر إلاّ بالنصّ. ولا ترجیح فی الدروس(1) والإیضاح(2). وربّما قیل(3): إنّما یجوز الإحیاء بإذن الإمام وإذا أذن زال الحِمی فلا حاصل لهذا الفرع. واُجیب بأنّه نفرض أنّه أذن علیه السلام مطلقا، فیکون شمول الإطلاق لهذا الفرد فرع زوال الحِمی، وعدمه فرع عدمه.

وهل للإمام الثانی إزالة ما حماه السابق لمصلحة زائدة مع بقاء مصلحة المحمی لها؟ وجهان: من أنّها إنّما تعیّنت لجهة مستحقّة، فهی کالمسجد ومن زوال الملک فی المسجد بخلاف الحِمی، فإنّه تابع للمصلحة، وقد یکون غیرها أصلح منها»(4).

وقال صاحب الجواهر فی شرح کلام المحقّق فی الشرائع: «(وللنبیّ صلی الله علیه و آله ) الذی هو أولی بالمؤمنین من أنفسهم (أن یحمی) بقعة من الأرض الموات (لنفسه ولغیره من المصالح کالحمی لنعم الصدقة) والجزیة والضوالّ ونحوها، قال فی محکیّ المبسوط: «للنبیّ صلی الله علیه و آله أن یحمی لنفسه ولعامّة المسلمین بلا خلاف»(5).

(وکذا عندنا لإمام الأصل) الذی هو بمنزلة النبیّ صلی الله علیه و آله فی کلّ ما لم یثبت أنّه من

ص: 137


1- (658) الدروس الشرعیّة: فی شرائط تملّک الموات بالإحیاء 3/58.
2- (659) إیضاح الفوائد: إحیاء الموات فی المنافع 2/235.
3- (660) القائل والمجیب هو المحقّق الکرکی فی جامع المقاصد: إحیاء الموات فی أحکام المنافع 7/33.
4- (661) مفتاح الکرامة 19/(102-94).
5- (662) المبسوط: کتاب إحیاء الموات 3/270.

خواصّه، بلا خلاف(1) ولا إشکال؛ ضرورة کون الموات لهم علیهم السلام ، وفی النبویّ: «لا حمی إلاّ للّه ولرسوله»(2)، وزاد فی آخر:

«ولأئمّة المسلمین»(3).

والأصل فیه: أنّ الأعزّاء(4) من العرب إذا انتجع أحد منهم بلدا مخصبا وأتی(5) (6) بکلب علی جبل إن کان به، أو علی نشز إن لم یکن به جبل، ثمّ استعوی الکلب، وأوقف من کلّ ناحیةٍ من یسمع صوته بالعوی، فحیث انتهی صوته حماه من کلّ ناحیة لنفسه، ویرعی مع العامّة فیما سواه، فنهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن ذلک لما فیه من التضییق علی النّاس.(7)

ولا ینافی ذلک ما وقع منه علیه السلام کما فی الخبر عن أبی الحسن علیه السلام : «سألته عن بیع الکلأ والمرعی؟ فقال: لا بأس، قد حمی رسول اللّه صلی الله علیه و آله النقیع(8) لخیل المسلمین»(9)؛ فإنّه لیس حمی لنفسه.

ولذا قال فی التذکرة: «إنّه صلی الله علیه و آله لم یحم لنفسه، وإنّما حمی النقیع لإبل الصدقة ونعم

ص: 138


1- (663) کما فی الخلاف: إحیاء الموات 3/528، مسألة 6.
2- (664) سنن أبی داود 3/180، ح3083؛ مسند أحمد 4/38؛ صحیح البخاری 3/148؛ المستدرک (للحاکم) 2/61؛ مجمع الزوائد 4/158؛ مسند الحمیدی 2/344؛ المصنّف (لابن أبی شیبة) 5/391، ح1؛ السنن الکبری (للنسائی) 3/8، ح5775؛ کنزالعمّال 4/383، ح11024؛ الجامع الصغیر 2/746، ح9877.
3- (665) البحر الزخّار 5/77؛ الخلاف: إحیاء الموات 3/528، مسألة 6.
4- (666) الأعزّاء: هم الذین کانت لهم العزّة والهیبة بین القبائل ولا یجْسِروا أحدٌ علی ما وقع فی حماهم، ومن مشاهیرهم کُلَیْبُ. وهو من رجال تغلب الأشداء وإلیه یُنْسَبُ (حمی کُلَیْب).
5- (667) فی المصادر بدلها: وافی.
6- (668) کذا فی الأصل، والذی یقتضیه السیاق: أتی بکَلْبٍ، (بحذف الواو).
7- (669) تحریر الأحکام: إحیاء الموات / أقسام الأراضی 4/489.
8- (670) النقیع: موضع قریب من المدینة. النهایة (لابن الأثیر) 5/108 (نقع).
9- (671) الکافی 5/277، ح5، باب بیع المراعی؛ تهذیب الأحکام 7/141، ح10، باب 10 بیع الماء؛ وسائل الشیعة 25/423، ح3، باب 9 من کتاب إحیاء الموات.

الجزیة وخیل المجاهدین»(1).

وبالجملة: ذلک وإن کان جائزا له ولکن لم یفعله لنفسه إیثارا للغیر، وما وقع منه صلی الله علیه و آله إنّما هو للمسلمین، ولعلّ ذکر المصنّف الإمام علیه السلام تنبیها علی ما یحکی عن الشافعی: من اختصاص ذلک بالنبیّ(2) صلی الله علیه و آله (و) فیه: أنّه لا دلیل علی أنّه من خواصّه، بل الخبر المزبور المروی فی طرقهم دالّ علی خلافه.

نعم (لیس لغیرهما من المسلمین أن یحمی)(3) بلا خلاف کما عن المبسوط(4)، بل إجماعا فی المسالک(5) ومحکیّ التحریر(6). وما وقع من عمر بن الخطّاب من أنّه قد حمی موضعا وولّی علیه رجلاً،(7) لا حجّة فیه، بل هو مخالف لما عرفت.

وما فی الخبر المزبور _ الذی لا مطابقة فیه بین الجواب والسؤال ظاهرا إلاّ علی تکلّف _ محمول علی ما إذا کان المرعی ملکا للحامی لأنّ الأرض أرضه، کما اُومئ إلیه فی بعض المعتبرة، قال فیه: «إنّ لنا ضیاعا ولها حدود وفیها مراعی، ولرجلٍ منّا غنم وإبل یحتاج إلی تلک المراعی لإبله وغنمه، أیحلّ له أن یحمی ویصیّر ذلک إلی ما یحتاج إلیه. فقلت: الرجل یبیع المراعی؟ فقال: إذا کانت الأرض أرضه فلا بأس»(8).

اللّهمّ إلاّ أن یکون نائبا خاصّا عنهما فی ذلک، بل یقوی جوازه لنائب الغیبة أیضا إن

ص: 139


1- (672) تذکرة الفقهاء: إحیاء الموات / فی شرائطه 19/443.
2- (673) روضة الطالبین 4/453؛ الحاوی الکبیر 7/483؛ المغنی (لابن قدامة) 6/167؛ المجموع 15/234 و 236؛ مغنی المحتاج 2/369.
3- (674) فی نسخة الشرائع 3/219 بعدها إضافة «لنفسه» مجعولةً فی نسخة المسالک بین معقوفتین.
4- (675) المبسوط: کتاب إحیاء الموات 3/270.
5- (676) مسالک الأفهام: إحیاء الموات / فی الأرضین 12/421.
6- (677) تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات / أقسام الأراضی 4/490.
7- (678) مختصر المزنی /131؛ المسند (للشافعی) /381؛ سنن البیهقی 6/(147-146)؛ کنزالعمّال 3/(921-920)، ح 9170-9168؛ نصب الرایة 4/270؛ تاریخ دمشق 44/341.
8- (679) الکافی: المعیشة 5/276، ح2، باب بیع المراعی؛ تهذیب الأحکام: التجارات 7/141، ح8، باب 10 بیع الماء؛ وسائل الشیعة 17/371، ح1.

لم نقل: إنّه من خواصّ الإمامة، أمّا غیره من سائر النّاس فلا إشکال فی عدم الجواز؛ لما عرفت، مضافا إلی مفهوم الخبر المزبور وغیره ممّا دلّ علی اعتبار کون الأرض أرضا له فی جواز الحمی، لا إذا کانت مباحة مندرجة فیما دلّ(1) علی اشتراک النّاس فی النار والماء والکلأ.

وعلی کلّ حال (ف_)لا خلاف أجده(2) فی أنّه (لو أحیاه محیٍ لم یملکه ما دام الحمی مستمرّا) إذ المراد بالحمی هو منع النّاس عن التعرّض لبعض الأراضی التی لا تضیق علی المسلمین برعی أو غیره لأجل کلئها، ولا ریب فی اقتضاء ذلک عدم جواز الإحیاء وعدم ترتّب الملک لو فعل؛ لعدم الإذن بل النهی، ولعلّه لذا ترکه بعضهم فی الشرائط، وإن کان من ذکره شرطا قد لاحظ عدم تملّکه بالإحیاء، فیکون الجمیع متّفقین علی الحکم المزبور.

بل لا یجوز نقض الحمی ولا تغییره لأحدٍ غیرهم علیهم السلام من دون إذن منهم مع فرض بقاء المصلحة.

(و) إنّما الکلام فی أنّ (ما حماه النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام لمصلحة فزالت) هل یجوز نقضه؟ ففی المتن: (جاز نقضه) کما هو خیرة الفاضل(3) والشهیدین(4) والکرکی(5)؛ للأصل وغیره.

(وقیل: ما یحمیه النبیّ صلی الله علیه و آله خاصّة لا یجوز نقضه؛ لأنّ حماه کالنصّ) الذی لا یجوز الاجتهاد فی مقابلته.

ص: 140


1- (680) انظر: وسائل الشیعة 25/417، باب 5 من کتاب إحیاء الموات.
2- (681) یظهر الإجماع من مفتاح الکرامة: إحیاء الموات / فی الأراضی 19/100.
3- (682) قواعد الأحکام: إحیاء الموات / فی الأراضی 2/270؛ تحریر الأحکام الشرعیة: إحیاء الموات / أقسام الأراضی 4/490.
4- (683) الشهید الأوّل فی الدروس: إحیاء الموات / المقدّمة 3/58؛ والشهید الثانی فی المسالک: إحیاء الموات / فی الأرضین 12/422.
5- (684) جامع المقاصد: إحیاء الموات / فی الأراضی 7/33.

ولعلّه أشار بذلک إلی ما فی محکیّ المبسوط(1) والخلاف(2): «فأمّا ما حماه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فإنّه لا یجوز للإمام القائم مقامه نقضه وحلّه؛ لأنّ فعله حجّة یجب اتّباعه فیه، وما یفعله الإمام القائم مقامه لا یجوز لأحد تغییره، وإن غیّره هو أو من بعده من الأئمّة أو أذن أحد منهم لغیره فی إحیاء میّت فأحیاه فإنّه یملکه...» إلی آخره، وإلاّ فلم نجده لغیره.

نعم، هو قول للعامّة(3) مبنیّ علی مذهبهم فی الإمام، ولا ریب فی بطلانه عندنا؛ ضرورة عدم الفرق بین حماهما بعد أن کانا معصومین ولا یحکمان بالاجتهاد.

وهل ینتقض بمجرّد زوال المصلحة، أو لابدّ من التصریح بالنقض؟ وجهان أو قولان، أقواهما الأوّل؛ لأنّ أصل وقوعه مبنیّ علی المصلحة فیکفی حینئذٍ زوالها فی زواله، بل لا یبعد جواز تغییر الإمام له لزیادة المصلحة فی غیره فضلاً عن زوالها، واللّه العالم»(4).

وقال آیة اللّه الفیاض _ مدظله _ : «إنّ الإسلام لم یعترف بالحمی علی أساس أنّه مصدر حقٍّ فی الثروات الطبیعیة، حیث أنّه عند العرب فی زمن الجاهلیة عبارة عن الاستیلاء والسیطرة علی مساحات کبیرة من الأرض بما فیها من الثروات بالقوة والتحکم علی الآخرین بحیث یعتبر المسیطر نفسه مالکة لتلک المساحات الکبیرة بما فیها من المصادر والثروات، وقد تقدم فی ضمن الأبحاث السالفة بشکل موسع أنّ الإسلام لم یعترف بأیِّ حقّ فی تلک الثروات والمواد الخام إلاّ علی أساس العمل وبذل الجهد فی سبیل الانتفاع بها والاستفادة منها، ولا قیمة للسیطرة علیها نهائیا بدون انفاق عمل.

نعم لا شبهة فی ثبوت حق الحمی فی الإسلام للرسول صلی الله علیه و آله علی أساس أن أمر الأراضی بیده صلی الله علیه و آله وله أنْ یتصرف فیها بما یری فیجوز له صلی الله علیه و آله أنْ یحمی مساحة کبیرة من

ص: 141


1- (685) المبسوط: کتاب إحیاء الموات 3/271.
2- (686) الخلاف: إحیاء الموات 3/529، مسألة 8 و 9.
3- (687) المغنی (لابن قدامة) 6/(169-168)؛ الشرح الکبیر 6/184؛ المجموع 15/239.
4- (688) الجواهر 39/(95-90) [38/(65-61)].

الأرض لمصالح عامة. کما روی أن رسول اللّه قد حمی النقیع لخیل المسلمین، وکذا لاشبهة فی ثبوت هذا الحق للإمام علیه السلام بعده بعین الملاک المزبور، بل لا یبعد ثبوته لنائبه علیه السلام وهو الفقیه الجامع للشرائط فی عصر الغیبة أیضا»(1).

أقول: ثبوت حقّ الحمی للفقیه فی عصر الغیبة محلّ تأمل بل منع کما یظهر من العلاّمة فی التذکرة(2) وصرح به السیّد العاملی فی المفتاح(3) وخلافا لصاحب الجواهر(4) وبعض أساتذتنا(5) قدس سره وآیة اللّه الفیاض(6) _ مدظله _ .

ص: 142


1- (689) الأراضی /416 و 417.
2- (690) تذکرة الفقهاء 19/446.
3- (691) مفتاح الکرامة 19/98.
4- (692) الجواهر 39/93 (38/63).
5- (693) دراسات فی ولایة الفقیه 4/174.
6- (694) الأراضی /417.
حکم الأراضی المفتوحة عنوةً
اشارة

تعرّض الشیخ الأعظم(1) قدس سره «لحکم الأراضی المفتوحة عنوة بمناسبة تعرّضه لحکم الأرضین، فذکر مقدّمة ما حاصله: أنّ الأراضی التی تحت ید الکفّار _ بناءً علی المختار من ثبوت الحقّ لهم أیضا بالإحیاء _ یکون لهم إمّا ملکا أو حقّا علی الخلاف، فإن بقوا علی کفرهم کانت الأراضی کبقیّة أموالهم من النقود وغیرها(2). کما أنّهم إذا أسلموا طوعا کانت الأراضی لهم کما تکون لغیرهم من المسلمین. وإذا انجلوا عنها بدون قهر إمّا خوفا أو لغیره أو ماتوا جمیعا ولم یبق لهم وارث، کانت الأراضی من الأنفال ومن الأراضی التی لا ربّ لها، فتکون للإمام علیه السلام . وإذا انجلوا عنها قهرا وغلبةً صارت الأراضی خراجیّة، ویعبّر عنها ب_ «المفتوحة عنوة» وهی ملک للمسلمین بالمعنی المتقدّم، أی تصرف منافعها فی مصالحهم.

وهناک قسم خامس یسمی ب_ «الأراضی الصلحیّة» تارة و«الخراجیّة» أُخری، وهی التی یصالح الوالی علیها مع الکفّار، وهی تکون تابعة لکیفیّة المصالحة وجعل الوالی، فإن صالحهم علی أن تکون الأراضی ملکا لهم ویؤدّون الخراج کانت مملوکةً لهم، وإن صالحهم علی أن تکون الأراضی ملکا للمسلمین ویؤدّون الخراج فکذلک»(3). ویأتی تفصیل ذلک فانتظر.

ص: 143


1- (695) المکاسب 4/18.
2- (696) ویزول ملکه بما یزول به ملک المسلم کما یزول بالاغتنام أیضا (الأحمدی).
3- (697) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/128.
إجماع فقهائنا فی المسألة وخلاف العامة فیها

قال الشیخ فی التعریف بها وحکمها: «والضرب الآخر من الأرضین، ما أُخذ عنوة بالسّیف، [من الکفار] فإنّها تکون للمسلمین بأجمعهم. وکان علی الإمام أن یقبّلها لمن یقوم بعمارتها بما یراه من النّصف أو الثُّلث أو الرّبع. وکان علی المتقبّل إخراج ما قد قبل به من حقّ الرّقبة، وفیما یبقی فی یده وخاصّه العشر أو نصف العشر.

وهذا الضّرب من الأرضین لا یصحّ التّصّرف فیه بالبیع والشّری والتملّک والوقف والصّدقات. وللإمام أن ینقله من متقبّل إلی غیره عند انقضاء مدّة ضمانه، وله التّصرّف فیه بحسب ما یراه من مصلحة المسلمین. وهذه الأرضون للمسلمین قاطبة، وارتفاعها یقسم فیهم کلّهم: المقاتلة، وغیرهم. فإن المقاتلة لیس لهم علی جهة الخصوص إلاّ ما تحویه العسکر من الغنائم»(1).

أقول: قد مرّت عبارة الشیخ فی جهاد المبسوط(2) فی الکتاب(3) فلا نعیده.

وقال العلاّمة فی جهاد التذکرة: «الأرض المأخوذة بالسیف عَنْوةً یُقبّلها الإمام لمن یقوم بِعِمارَتِها بما یراه من النصف وغیره، وعلی المتقبّل إخراج مال القبالة وحقّ الرقبة، وفیما یفضل فی یده إذا کان نصابا العُشْر أو نصفه، فلا یصحّ التصرّف فی هذه الأرض بالبیع والشراء والوقف وغیر ذلک.

وللإمام أن ینقله من متقبّلٍ إلی غیره إذا انقضت مدّة قبالته، وله التصرّف فیه بما یراه من مصلحة المسلمین، وارتفاع هذه الأرض ینصرف إلی المسلمین بأجمعهم وفی مصالحهم؛ لقول الرضا علیه السلام : «وما اُخذ بالسیف فذلک للإمام یُقبّله بالذی یری، کما صنع رسول اللّه صلی الله علیه و آله بخیبر، قبَّل أرضها ونخلها، والنّاس یقولون: لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا کان البیاض أکثر من السواد، وقد قبّل رسول اللّه صلی الله علیه و آله خیبر، وعلیهم فی حِصَصِهم العُشْر

ص: 144


1- (698) النهایة /194 و 195.
2- (699) المبسوط 2/33 و 34.
3- (700) الآراء الفقهیة 3/440 و 441.

أو(1) نصف العشر»(2).

إذا عرفت هذا، فإنّ هذه الأرض للمسلمین قاطبة إن کانت محیاةً وقت الفتح، لا یصحّ بیعها ولا هبتها ولا وقفها، بل یصرف الإمام حاصلها فی المصالح، کسدّ الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر وأرزاق القضاة والوُلاة وصاحب الدیوان وغیر ذلک من المصالح.

وأمّا الموات منها وقت الفتح فهی للإمام خاصّة، ولا یجوز لأحد إحیاؤه إلاّ بإذنه إن کان ظاهرا. ولو تصرّف فیها أحد من غیر إذنه، کان علیه طسقها، وحال الغیبة یملکها المتصرّف من غیر إذن؛ لأنّ عمر بن یزید روی _ فی الصحیح _ أنّه سمع رجلاً یسأل الصادقَ علیه السلام عن رجل أخذ أرضا مواتا ترکها أهلها فعمّرها وأکری أنهارها وبنی فیها بیوتا وغرس فیها نخلاً وشجرا، قال: فقال أبوعبداللّه علیه السلام : «کان أمیرالمؤمنین علیه السلام یقول: مَنْ أحیی أرضا من المؤمنین فهی له، وعلیه طسقها یؤدّیه إلی الإمام فی حال الهدنة، فإذا ظهر القائم علیه السلام فلیوطّن نفسه علی أن تؤخذ منه»(3).

إذا عرفت هذا، فإذا زرع فیها أحد أو بنی أو غرس، صحّ له بیع مالَه فیها من الآثار وحقّ الاختصاص بالتصرّف، لا بیع الرقبة؛ لأنّها ملک المسلمین قاطبةً»(4).

وقال فی المنتهی: «الأرضون علی أربعة أقسام:

أحدها: ما یُملک بالاستغنام ویؤخذ قهرا بالسیف، فإنّها تکون للمسلمین قاطبةً ولا تختصّ بها المقاتلة، بل یشارکهم غیر المقاتلة من المسلمین، وکما لا یختصّون بها، کذلک لا یفضّلون، بل هی للمسلمین قاطبةً. ذهب إلیه علماؤُنا أجمع وبه قال مالک.(5)

ص: 145


1- (701) فی المصدر: «و» بدل «أو».
2- (702) التهذیب 4/119، ح342.
3- (703) التهذیب 4/145، ح404.
4- (704) تذکرة الفقهاء 9/186 و 187.
5- (705) المدوّنة الکبری 2/(27-26)؛ بدایة المجتهد 1/401؛ المنتقی للباجی 3/223؛ الکافی فی فقه أهل المدینة 129/؛ الأحکام السلطانیّة 2/137؛ الحاوی الکبیر 14/260.

وقال الشافعیّ: إنّها تقسّم بین الغانمین، کسائر الأموال.(1) وبه قال أنس بن مالک، والزبیر، وبلال.(2)

وقال قوم: إنّ الإمام مخیّر بین القسمة والوقف علی المسلمین. ورواه الجمهور عن علیّ علیه السلام ، وعمر. وبه قال الثوریّ.(3)

وقال أبوحنیفة: الإمام مخیّر بین ثلاثة: بین قسمتها ووقفها وأن یقرّ أهلها [علیها(4)] ویضرب علیهم الخراج یصیر حقّا علی رقبة الأرض لا یسقط بالإسلام.(5)...

مسألة: وهذه الأرض المأخوذة بالسیف عنوة یقبّلها الإمام ممّن یقوم بعمارتها بما یراه من النصف أو الثلث، وعلی المتقبّل إخراج مال القبالة وحق الرقبة، وفیما یفضل فی یده إذا کان نصابا، العشر أو نصف الشعر، وهذا الضرب من الأرضین لا یصحّ التصرّف فیها بالبیع والشراء والوقف وغیر ذلک، وللإمام أن ینقله من متقبّل إلی غیره إذا انقضت مدّة ضمانه وله التصرّف فیه بحسب ما یراه من مصلحة المسلمین، وارتفاع هذه الأرض ینصرف إلی المسلمین بأجمعهم وإلی مصالحهم، ولیس للمقاتلة خصوصا، إلاّ ما یحویه العسکر»(6).

وقال سیّد المفتاح: «الضرب الرابع: الأرض الّتی فُتحت عنوةً، وهذه للمسلمین قاطبةً بإجماع علمائنا قاطبةً، وقد نقل الإجماع علی ذلک فی الخلاف(7) والتذکرة(8)

ص: 146


1- (706) الأُمّ 4/181؛ الحاوی الکبیر 14/260؛ حلیة العلماء 7/677؛ المیزان الکبری 2/184؛ رحمة الأُمة بهامش المیزان الکبری 2/183؛ الأحکام السلطانیّة 2/137.
2- (707) الشرح الکبیر بهامش المغنی 10/532؛ الأموال لأبی عبید /69.
3- (708) حلیة العلماء 7/678؛ الشرح الکبیر بهامش المغنی 10/532.
4- (709) أثبتناها من بعض المصادر.
5- (710) المبسوط للسرخسیّ 10/37؛ بدائع الصنائع 7/118؛ الهدایة للمرغینانیّ 2/141؛ شرح فتح القدیر 5/(217-215)؛ تبیین الحقائق 4/96؛ مجمع الأنهر 1/640؛ الحاوی الکبیر 14/260؛ حلیة العلماء 7/678؛ العزیز شرح الوجیز 11/447.
6- (711) منتهی المطلب 14/(256-253).
7- (712) الخلاف: فی الزکاة 5/535، مسألة 23.
8- (713) تذکرة الفقهاء: فی إحیاء الموات 19/370.

والمنتهی(1)، کسواد العراق وبلاد خراسان والشام ومکّة المشرّفة علی ما عدّة المؤرخّون کما فی المسالک(2) قلت: وقد عدّ ذلک من ذلک جماعة(3) من فقهائنا، وزادوا: هوازن(4)، ووافقنا علی ذلک جمهور العامّة کما ستعرف.

وقد اختلفوا فی مکّة زادها اللّه تعالی شرفا، وکونها مفتوحةً عنوةً هو الظاهر من المذهب کما قاله الشیخ فی المبسوط(5) وجماعة(6). وفی الخلاف(7) الإجماع علی ذلک.

وعن بعض(8) کتب التواریخ المعتمدة أنّ الحیرة من أرض العراق _ وهی بلدة قرب الکوفة وأُخری قرب عانة(9) _ فُتحت صلحا، وأنّ نیسابور من بلاد خراسان فُتح صلحا، وقیل: عنوةً، وبلخ منها، وهراة وقوشیح والتوابع فُتح صلحا وبعض عنوةً.

وأمّا بلاد الشام ونواحیه فحکی أنّ حلب وحماة وطرابلس فُتح صلحا، وأنّ دمشق فُتح بالدخول من بعض غفلةً بعد أن کانوا طلبوا الصلح من غیره، وأنّ أهل أصفهان عقدوا أمانا، وأنّ آذربیجان فُتح صلحا، وأنّ أهل طبرستان صالحوا أهل الإسلام، والری

ص: 147


1- (714) منتهی المطلب: فی الجهاد 14/253.
2- (715) مسالک الأفهام: فی أحکام الأرضین 3/54.
3- (716) کالشهید الثانی فی حاشیة الإرشاد (غایة المراد) 1/488؛ والشیخ فی المبسوط 2/(34-33)؛ والعلاّمة فی التذکرة 9/184.
4- (717) قبیلة من قیس وأرضهم قریبة من الطائف (منه قدس سره ).
5- (718) المبسوط: فی الجهاد 2/33.
6- (719) منهم العلاّمة فی تذکرة الفقهاء: فی الجهاد 9/188.
7- (720) الخلاف: فی السیر 5/527، مسألة 13.
8- (721) الناقل _ الّذی نقل عنه الشارح هذه العبارة الطویلة _ علی الظاهر هو البحرانی فی حدائقة: 18/(310-309)، فراجع.
9- (722) هی الیوم تابعةٌ لمحافظة الأنبار، من محافظات العراق الغربیّة.

فُتح عنوةً، بل قیل(1): إنّ أکثر بلاد الإسلام فُتحت عنوةً.

ویثبت کونها مفتوحة عنوة بنقل مَن یوثق بنقله واشتهاره بین المؤرّخین. وقد جعل بعضهم(2) من الأدلّة ضرب الخراج من الحاکم وإن کان جائرا وأخذ المقاسمة من ارتفاعها عملاً بأنّ الأصل فی تصرّفات المسلمین الصحّة، إذ الظاهر أنّ أخذ الخراج من ذلک البلد إذا کان مستمرّا فی الأعصار لم یکن شیئا حادثا من بعض سلاطین الجور بل کان شیئا مستمرّا من الصدر الأوّل من غیر نکیر، إذ لو کان حادثا لنقل فی کتب التواریخ والأخبار. وفی نقل من نقل عمّن نقل من علمائنا وغیرهم بلاغ کما عرفت وستعرف.

وفی المبسوط(3) أنّ هذه الأرض لا یصحّ التصرّف فیها ببیعٍ ولا شراءٍ ولا هبةٍ ولا معاوضةٍ ولا تملیکٍ ولا إجارةٍ ولا إرث، ولا یصحّ أن تبنی دورا ومنازل ومساجد وسقایات ولا غیر ذلک من أنواع التصرّف، ومتی فعل شیء (شیئا _ خ ل) من ذلک کان التصرّف باطلاً. وفی موضعین(4) آخرین منه ذکر نحو ذلک. ومثل ذلک ما فی النهایة(5) والغنیة(6) والشرائع(7) فی موضعین منها والنافع(8) والتذکرة(9) فی موضع منها والکتاب(10) فی الجهاد والإرشاد(11) وموضع (وموضعین _ خ ل) من التحریر(12)

ص: 148


1- (723) القائل هو الشهید الثانی فی الروضة: فی إحیاء الموات 7/136.
2- (724) کالسیّد الطباطبائی فی ریاض المسائل: فی أحکام الأرضین 8/119 من طبعة آل البیت.
3- (725) المبسوط: فی الجهاد 2/34.
4- (726) المبسوط: فی الزکاة 1/235، وأمّا الموضع الثانی فلم نعثر علیه فراجع لعلّک تجده إن شاء اللّه.
5- (727) النهایة: فی الزکاة فی أحکام الأرضین /(195-194).
6- (728) غنیة النزوع: فی الجهاد /204.
7- (729) شرائع الإسلام: فی أحکام الأرضین 1/293، وفی إحیاء الموات 3/215.
8- (730) المختصر النافع: فی الجهاد /114.
9- (731) تذکرة الفقهاء: فی الجهاد 9/(187-186).
10- (732) قواعد الأحکام: فی الجهاد 1/493.
11- (733) إرشاد الأذهان: فی الجهاد 1/347.
12- (734) تحریر الأحکام الشرعیة: فی الجهاد 2/170، وفی إحیاء الموات 4/482.

والمنتهی(1) وهو ظاهر المراسم(2) والوسیلة(3).

وفی موضع آخر من التذکرة(4) والتحریر(5) أنّه یجوز بیعها تبعا لآثار التصرّف، ونحوه ما فی السرائر(6)

ص: 149


1- (735) منتهی المطلب: فی الجهاد 14/256.
2- (736) المراسم: فی ذکر حکم مَن أسلم /142.
3- (737) الوسیلة: فی أحکام الأرضین /132، وفی الجهاد /202.
4- (738) تذکرد الفقهاء: فی العوضین 10/39.
5- (739) الموجود فی التحریر لا یوافق المحکیّ عنه فی الشرح، فإنّه قال: ولا یصحّ بیع الأرض المفتوحة عنوةً بل یجوز بیع آثاره فیها کالبناء والغراس وماء البئر لمن استنبطه، وماء النهر لمن حفره یجوز بیعه علی کراهیة، انتهی. وهذه العبارة کما تری صریحة فی عدم جواز بیع رقبة الأرض، فراجع تحریر الأحکام الشرعیة: فی عقد البیع 2/279.
6- (740) المذکور فی السرائر فی موضعین هو المنع من بیع الأرض المفتوحة عنوةً والأرض المحیاة، قال فی الجزء الأوّل فی کتاب الزکاة /477: وهذا الضرب من الأرض (أی المفتوحة عنوةً) لا یصحّ التصرّف فیه بالبیع والشراء والوقف والهبة وغیر ذلک _ أعنی نفس الرقبة _ فإن قیل: نراکم تبیعون وتشترون وتقفون أرض العراق وقد اُخذت عنوةً؟! قلنا: إنّما نبیع ونقف تصرّفنا فیها وتحجیرنا وبناءنا فأمّا نفس الأرض لا یجوز ذلک منها، انتهی. وقال فی الجزء الثانی فی کتاب البیع /375 فی أحکام الأرض المحیاة: قال (أی الشیخ): ومتی أراد المحیی لأرضٍ من هذا الجنس الّذی ذکرناه أن یبیع شیئا منها لم یکن له أن یبیع رقبة الأرض وجاز له أن یبیع ما له من التصرّف منها، انتهی. فأنت تری أنّه رحمه الله یصرّح فی الموضعین بعدم جواز بیع الأرض، فراجع لعلّک تجد عبارة له غیر ذلک تدلّ علی الجواز، فإنّ الکلام الثانی وإن کان محکیّا عن الشیخ إلاّ أنّه لم یعترض علیه ولم یردّ الحکم المذکور فیه بل أیّده فیما یأتی من کلامه فإنّه فی الجزء المذکور /380 _ فی الأرض الّتی ورثها وعلم أنّها لغیر مورّثه وبعد أن فصّل فی المسألة وروی فیها أخبارا _ قال: فسبیله (أی الأرض المعلوم کونها لغیر مورّثه) سبیل اللقطة، فبعد التعریف المشروع یملک التصرّف الّذی ذکره فی الخبر دون رقبة الأرض إذا کانت فی الأرض المفتحة عنوةً، فهذا وجه تأویل هذا الحدیث، انتهی. وکیف کان، فالموضع الّذی نسبه الشارح إلی السرائر لم نعرفه.

فی موضع منها

والمختلف(1) والمنتهی(2) وحواشی الکتاب(3) واللمعة(4) والروضة(5) وقوّاه فی موضع من المسالک(6) وفی آخر منه(7) نسبته إلی جمع من المتأخّرین وأنّ العمل علیه.

وفی موضع آخر من السرائر(8) عند نقله کلام الشیخ: إنّما نبیع ونقف تصرّفنا فیها وتحجیرنا وبناءنا، فأمّا نفس الأرض فلا یجوز فیها ذلک. قال فی المختلف(9) بعد نقل ذلک عنه: هذا یشعر بجواز البناء والتصرّف فیها. قلت: ویشعر بأنّ الأرض لیست جزءا من المبیع. وما فی السرائر هنا موافق لما فی الاستبصار(10) والتهذیب(11) حیث جوّز فیهما

ص: 150


1- (741) مختلف الشیعة: فی الجهاد 4/429.
2- (742) منتهی المطلب: فی أحکام الأرضین 14/262.
3- (743) لم نعثر علیه فی حواشی الشهید الموجود لدینا، وحکاه عن بعض الحواشی المنسوبة للشهید علی القواعد فی جامع المقاصد 7/11.
4- (744) اللمعة الدمشقیة: فی شرائط المبیع /111.
5- (745) الروضة البهیة: فی شرائط المبیع 3/247.
6- (746) مسالک الأفهام: فی شروط المبیع 3/168 وفی الجهاد 3/56.
7- (747) مسالک الأفهام: فی شروط المبیع 3/168 وفی الجهاد 3/56.
8- (748) السرائر: فی أحکام الأرضین 1/478.
9- (749) مختلف الشیعة: فی أحکام الأرضین 4/429.
10- (750) الاستبصار: فی باب حکم أرض الخراج 3/110، ذیل ح387.
11- (751) لم نعثر فی التهذیب علی کلامٍ یوافق ما فی السرائر وغیره من عدم جواز بیع الأراضی المفتوحة عنوةً وشرائها، بل کلامه متهافت، ففی موضع من زیادات الخمس والأنفال قال: وأمّا أراضی الخراج وأراضی الأنفال والّتی قد انجلی عنها أهلها فإنّا قد أبحنا التصرّف فیها ما دام الإمام علیه السلام مستترا، فإذا ظهر یری هو فی ذلک رأیه، فنکون نحن فی تصرّفنا غیر آثمین، انتهی، التهذیب 4/(144-143). هذا الکلام أو لاأقل مفهومه أنّ الجائز فی الأراضی الّتی انجلی عنها أهلها والمفتوحة عنوةً هو مجرّد التصرّف غیر المنتهیة إلی الملک والتملیک. وفی موضع آخر منه فی هذا المقام قال: وأمّا الأرضون الّتی تؤخذ عنوةً أو یصالح أهلها علیها فقد أبحنا شراءها وبیعها، لأنّ لنا فی ذلک قسما لأنّها أراضی المسلمین وهذا القسم أیضا یصحّ الشراء والبیع فیه علی هذا الوجه، وأمّا الأنفال وما یجری مجراها فلیس یصحّ تملّکها بالشراء والبیع وإنّما اُبیح لنا التصرّف حسب، انتهی، الجزء المذکور /146. وهذا الکلام صریح فی جواز بیع تلک الأرض وشرائها. وفی موضع آخر من الجزء السابع باب أحکام الأرضین _ بعد أن عقد لها بابا، أعقبه بالأخبار الّتی إذا قیس بعضها ببعض وجمع بینها یدلّ مجموعها علی عدم جواز البیع، فما فی الشرح من نسبة جواز بیعها وشرائها إلی الشیخ فی التهذیب لا یمکن المساعدة علیه، فراجع وتأمّل.

بیع ما له من التصرّف دون رقبة الأرض، وحمل الحقّ فی خبر أبی بردة علی ذلک أعنی ما له من التصرّف. ولعلّ الخبر دلیل المشهور بین المتأخّرین وستسمعه. وفی حواشی الشهید(1) أنّها إذا بیعت تبعا للآثار یجوز أن تکون مجهولة والأولی أنّها جزء من المبیع فلابدّ من العلم بها أیضا.

وقضیة ما فی الدروس(2) أنّه یَصِحَّ بیعها منفردة فی زمن الغیبة. ونحوه ما فی جامع المقاصد(3). قال فی الدروس: ولا یجوز التصرّف فی المفتوحة عنوةً إلاّ بإذن الإمام علیه السلام سواء کان بالوقف أو بالبیع وغیرهما، نعم فی حال الغَیبة ینفذ ذلک. وأطلق فی المبسوط أنّ التصرّف فیها لا ینفذ. وقال ابن إدریس: إنّما یباع ویوقف تجیرنا وبناؤنا وتصرّفنا لا نفس الأرض، انتهی ما فی الدروس. وفیه تأمّل، لأنّها لیست ملکا له والبیع والوقف موقوفان علی الملک، بل قد قیل: إنّه فی حال الحضور یبعد حصول الإذن بذلک منه علیه السلام إلاّ أن تقضی المصلحة العامّة بذلک کأن یحصل الاحتیاج إلی ثمنها أو یجعل قطعة منها مسجدا. وعلی کلّ حال فقول الدروس لیس بذلک البعید، إذ قد تکون المصلحة فی ذلک مع

ص: 151


1- (752) حکاه عن بعض الحواشی المنسوبة إلیه علی القواعد فی جامع المقاصد 7/11 ویظهر أیضا من الحاشیة النجّاریة (/37) المنسوبة إلیه حیث قال: فلو استولی غیرنا من المخالفین علیها فالأصحّ أنّه یملک لشبهة الاعتقاد کالمقاسمة ویملک الذمّی الخمر والخنزیر، فحینئذٍ لا یجوز انتزاع ما یأخذه المخالف من ذلک کلّه، انتهی موضع الحاجة، فراجع وتأمّل.
2- (753) الدروس الشرعیة: فی الجهاد 2/41.
3- (754) جامع المقاصد: فی إحیاء الموات 7/11.

غَیبته علیه السلام أو عدم انبساط یده، وقد یؤول ذلک إلی التصرّف فی ما له من الغرس والبناء. ویأتی تنقیح الکلام إن شاء اللّه تعالی.

وفی موضع آخر من السرائر(1) نقلاً عن الشیخ أنّه إذا حجر أرضا ثمّ باعها لم یصحّ بیعها، وفی النّاس من قال: إنّه یصحّ، وهو شاذّ، وأمّا عندنا فلا یصحّ بیعه، لأنّه لا یملک رقبة الأرض بالإحیاء وإنّما یملک التصرّف بشرط أن یؤدّی إلی الإمام ما یلزمه علیها. وکأنّ قوله: «وأمّا عندنا» من کلام ابن إدریس لا من الشیخ، لأنّ النسخة الّتی حضرتنی من السرائر غیر نقیة من الغلط.

وفی موضع آخر من الدروس لا یجوز بیع المفتوحة عنوةً ولا بیع ما بها من بناء وشجر وقت الفتح. نعم لو جدّد فیها شیء من ذلک جاز بیعه، وربما قیل: ببیعها تبعا لآثاره. وروی أبوبریدة جواز بیع أرض الخراج من صاحب الید والخراج علی المشتری، وفی روایة إسماعیل بن الفضل(2) إیماء إلیه، انتهی(3). قلت: قد عرفت وستعرف الحال فی خبر أبی بردة ولیس هو أبابریدة، وأمّا روایة إسماعیل بن الفضل الهاشمی فمنزّلة علی أنّها(4) اشتری منه آثاره کما ستسمع.

وفی موضع آخر من السرائر فأمّا من قال: لایجوز بیع رباع مکّة ولا إجارتها فصحیح إن أراد نفس الأرض، لأنّ مکّة اُخذت عنوةً بالسیف، فهی لجمیع المسلمین لاتباع ولا توقف ولا تستأجر، فأمّا التصرّف والتحجیر والآثار فیجوز بیع ذلک وإجارته

ص: 152


1- (755) الموجود فی السرائر المطبوع هو النقل عن الشیخ بعدم صحّة البیع فی المقام صریحا، وأنّ قوله «وأمّا عندنا» من کلام الشیخ قال فیه: قال شیخنا أبوجعفر الطوسی رحمه الله : إذا تحجّر أرضا وباعها لم یصحّ بیعها، وفی النّاس من قال یصحّ، وهو شاذّ. قال شیخنا: فأمّا عندنا فلا یصحّ بیعه لأنّه لا یملک رقبة الأرض بالإحیاء وإنّما یملک التصرّف بشرط أن یؤدّی إلی الإمام ما یلزمه علیها، انتهی. السرائر 1/483، وهذا یطابق ما فی المبسوط 3/273 بعین ألفاظه.
2- (756) وسائل الشیعة 11/121، ح4، باب 72 من أبواب جهاد العدو وما یناسبه.
3- (757) الدروس الشرعیة: فی المکاسب 3/175.
4- (758) کذا فی نسختین والظاهر: أنّه (مصحّحه).

کما یجوز بیع سواد العراق المفتوحة عنوةً(1)، انتهی.

وقد نزّل صاحب المسالک عبارة الشرائع فی باب الجهاد حیث قال: لا یجوز بیعها ولا هبتها ولا وقفها، علی أن المراد لا یصحّ ذلک فی رقبة الأرض مستقلّة، أمّا فعل ذلک بها تبعا لآثار المتصرّف من بناءٍ وغرسٍ وزرعٍ ونحوها فجائز علی الأقوی. قال: فإذا باعها بائع مع شیء من هذه الآثار دخلت فی البیع علی سبیل التبع وکذا الوقف وغیره، وتستمرّ کذلک مادام شیء من الآثار باقیا، فإذا ذهبت أجمع انقطع حقّ المشتری والموقوف علیه وغیرهما عنها، هکذا ذکره جمعٌ وعلیه العمل(2)، انتهی. وهذا التنزیل ممکن فی کثیر من العبارات لکن بعض عبارات المبسوط(3) لا یمکن ذلک فیها، فلیتأمّل. وقد نزّل المحقّق الثانی(4) عبارة القواعد فی عدم التصرّف علی حال الحضور.

وفی المفاتیح لو کان للمتصرّف فیها بناء أو غرس أو زرع جاز بیعه، لأنّه مملوک، وکونه فی أرض الغیر لا یمنع من التصرّف فی ملکه، ونسبه إلی أصحابنا، ثمّ قال: وقیل یجوز بیعها تبعا للآثار المذکورة لا منفردة(5)، انتهی.

وسواد العراق _ کما ذکره الأصحاب(6) وغیرهم من العامّة(7) فی أبواب شتّی کباب الزکاة والجهاد والخمس والبیع والرهن _ هو ما بین عَبّادان والموصل طولاً إلی ساحل البحر. وقیّده بعضهم بکونه من شرقی دجلة. قال: وأمّا الغربی الّذی یلیه البصرة فإنّه

ص: 153


1- (759) السرائر: فی زیادات الحجّ 1/645.
2- (760) مسالک الأفهام: فی أحکام الأرضین 3/56.
3- (761) المبسوط: فی أحکام أراضی الزکاة 1/235، وفی الجهاد 2/34.
4- (762) جامع المقاصد: فی إحیاء الموات 7/11.
5- (763) مفاتیح الشرائع: فی أقسام الأراضی وأحکامها 3/22.
6- (764) کالشیخ فی المبسوط: فی الجهاد 2/(34-33)، والعلاّمة فی تذکرة الفقهاء: فی الجهاد 9/189، والبحرانی فی الحدائق الناضرة: فی البیع 18/310 نقلاً عن المنتهی 14/270، والشیخ فی الخلاف: فی الزکاة 2/68، مسألة 80.
7- (765) الحاوی الکبیر: فی السیر باب فتح السواد 14/256.

إسلامی مثل شطّ عثمان بن أبی العاص فإنّ أرضه کانت مواتا فأحیاها عثمان بن أبی العاص وما بین طریق القادسیة المتصل بِعُذَیْبٍ من أرض العرب ومنقطع جبال حُلْوان عرضا. وسمّیت سوادا لأنّ الجیش لمّا خرجوا من البادیة رأوا هذه الأرض والتفاف أشجارها فسمّوها سوادا لذلک.

وأمّا خراسان فمن أقصاها إلی کرمان و خوزستان وهمدان و قزوین وما حوالیها.

ولم یذکروا تحدید الشام وکتب التواریخ(1) کافلة بذلک»(2).

وقال صاحب الجواهر: «(کل أرض فتحت عنوةً) بفتح العین وسکون النون: الخضوع(3)، ومنه قوله تعالی: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ»(4)، والمراد هنا: القهر والغلبة بالسیف (وکانت محیاةً) حال الفتح (فهی للمسلمین قاطبةً) الحاضرین والغائبین والمتجدّدین بولادة وغیرها (والغانمون فی الجملة) لا اختصاص لأحد منهم بشیء منها.

بلا خلاف أجده فی شیء من ذلک بیننا(5)، وإن توهّم من عبارة الکافی فی تفسیر الفیء والأنفال(6) _ ولعلّه لذا نسب الحکم إلی المشهور فی الکفایة(7) _ لکنّه فی غیر محلّه، کما لا یخفی علی من لاحظها.

بل فی الغنیة(8) والمنتهی(9)

ص: 154


1- (766) منها تاریخ بغداد: فی باب الخبر عن السواد 1/(12-11).
2- (767) مفتاح الکرامة 13/(74-66).
3- (768) النهایة (لابن الأثیر) 3/315 (عنا).
4- (769) سورة طه /111.
5- (770) انظر المبسوط: الجهاد / حکم ما یغنم وما لا یغنم 1/568؛ وغنیة النزوع: کتاب الجهاد /204؛ وقواعد الأحکام: الجهاد / فی الاغتنمام 1/493؛ ومعالم الدین (لابن القطّان): الجهاد / فی الاغتنمام 1/294.
6- (771) الکافی 1/538، کتاب الحجّة، باب الفیء والأنفال وتفسیر الخمس.
7- (772) کفایة الأحکام: الجهاد / أحکام الأرضین 1/373.
8- (773) غنیة النزوع: کتاب الجهاد /204 و 205.
9- (774) منتهی المطلب: الجهاد / أحکام الأرضین 14/253.

وقاطعة اللجاج(1) للکرکی والریاض(2) وموضعین من الخلاف(3) بل والتذکرة(4) علی ما حکی عن بعضها: الإجماع علیه.

بل هو محصّل، نعم عن بعض العامّة: اختصاص الغانمین بها کغیرها من الغنائم(5)»(6).

وقال الشیخ الأعظم: «وإن رفعت یده [الکافر] عنها [الأراضی] قهرا وعنوة، فهی کسائر ما لا یُنقل من الغنیمة _ کالنخل والأشجار والبنیان _ للمسلمین کافّة إجماعا، علی ما حکاه غیر واحد، کالخلاف(7) والتذکرة(8) وغیرهما(9)، والنصوصُ به مستفیضة»(10).

وقال بعض الأساتذة رحمه الله : «البحث هنا فی الأراضی المفتوحة عنوة وقهرا التی هی قسم من غنائم الحرب. وفی حکمها ما صولح علیها علی أنها للمسلمین. ولا إشکال عندنا فی عدم تقسیمها بین المقاتلین، بل یجب أن تبقی وقفا علی مصالح المسلمین. وقد تطابقت علی ذلک فتاوی أصحابنا وروایاتهم، وإن کانت المسألة خلافیة بین فقهاء السنة»(11).

ص: 155


1- (775) قاطعة اللجاج (الخراجیّات): المقدّمة الاُولی /40.
2- (776) ریاض المسائل: الجهاد / أحکام الأرضین 8/114.
3- (777) الخلاف: الزکاة / 2/(70-67)، مسألة 80؛ وکتاب السسِّیر 5/(535-534)، مسألة 23.
4- (778) تذکرة الفقهاء: الجهاد / فی الغنائم 9/(184-183).
5- (779) حلیة العلماء 7/677؛ الحاوی الکبیر 14/(260-259)؛ المیزان الکبری: 2/184؛ الشرح الکبیر 10/540.
6- (780) الجواهر 22/(274-272) [21/157].
7- (781) الخلاف 2/(70-67).
8- (782) تذکرة الفقهاء 9/183.
9- (783) کالغنیة /(205-204)؛ ومنتهی المطلب 14/253؛ والجواهر 21/157.
10- (784) المکاسب 4/19.
11- (785) دراسات فی ولایة الفقیه 3/182.
مستند فقهاء الطائفة
اشارة

مستندنا عدّة من الروایات الواردة من طرقنا بالأسانید الصحیحة وبالدلالة الواضحة:

منها: صحیحة أحمد بن محمّد بن أبی نصر قال: ذکرت لأبی الحسن الرضا علیه السلام الخراج وما سار به أهل بیته، فقال: العشر ونصف العشر علی من أسلم طوعا تُرکت أرضه فی یده وأخذ منه العشر ونصف العشر فیما عمر منها، وما لم یعمر منها أخذه الوالی فقبله ممّن یعمره، وکان للمسلمین، ولیس فیما کان أقل من خمسة أو ساق(1) شیء، وما أُخذ بالسیف فذلک إلی الإمام یقبله بالذی یری کما صنع رسول اللّه صلی الله علیه و آله بخیبر قبل أرضها ونخلها، والنّاس یقولان لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا کان البیاض أکثر من السواد، وقد قبل رسول اللّه صلی الله علیه و آله خیبر وعلیهم فی حصصهم العشر ونصف العشر.(2)

ونظیرها: خبر صفوان بن یحیی وأحمد بن أبی نصر جمیعا قالاً: ذکرنا له الکوفة وما وضع علیها من الخراج وما سار فیها أهل بیته، فقال: من أسلم طوعا تُرکت أرضه فی یده وأُخذ منه العشر ممّا سُقی بالسماء والأنهار، ونصف العشر ممّا کان بالرشاء(3) فیما عمروه منها وما لم یعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممّن یعمره، وکان للمسلمین وعلی المتقبلین فی حصصهم العشر أو نصف العشر ولیس فی أقل من خمسة أوسق شیء من الزکاة، وما أُخذ بالسیف فذلک إلی الإمام یقبله بالذی یری، کما صنع رسول اللّه صلی الله علیه و آله بخیبر قَبَّلَ سوادها وبیاضها _ یعنی: أرضها ونخلها _ ، والنّاس یقولون: لا تصلح قبالة الأرض والنخل وقد قبل رسول اللّه صلی الله علیه و آله خیبر، قال: وعلی المتقبلین سوی قبالة الأرض العشر ونصف العشر فی حصصهم، ثمّ قال: إنّ أهل الطائف أسلموا وجعلوا علیهم العشر ونصف

ص: 156


1- (786) الوسق: ستون صاعا کما فی موثقة سماعة المرویة فی وسائل الشیعة 9/186، ح1، الباب 5 من أبواب زکاة الغلات، یعنی الوسق یعادل 180 کیلو غراما.
2- (787) وسائل الشیعة 15/158، ح2، الباب 72 من أبواب جهاد العدو.
3- (788) الرشاء: الحبل، یعنی ما سقی بالواسطة، أنظر: مجمع البحرین _ رشا _ 1/184.

العشر، وإنّ مکة دخلها رسول اللّه عنوة وکانوا أُسراء فی یده فأعتقهم وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.(1)

والروایة ضعیفة الإسناد بعلی بن أحمد بن أشیم لأنّه مجهول وإن صحح العلاّمة المجلسی الروایة فی مرآة العقول(2) وقبله الوحید وقال فی شأنه: «حکم خالی العلاّمة(3) بحسنه لوجود طریق الصدوق إلیه، والروایة عنه کثیرة ویؤیده روایة أحمد بن محمّد بن عیسی عنه»(4). ولکن الحکم بحسنه مشکل جدّا وأمّا إضمار الروایة فلا بأس به بعد أنّ صفوان بن یحیی وأحمد بن محمّد بن أبی نصر البزنطی کلیهما من فقهاء أصحاب الإمام أبی الحسن الرضا علیه السلام .

وقال العلاّمة المجلسی: ««والنّاس یقولون» یحتمل: أن یکون مع العامة باعتبار المساقاة فإنّ أباحنیفة منع منها، لکن عامتهم خالفوه فی ذلک حتّی أبی یوسف، أو باعتبار المزارعة وذلک مذهب أبیحنیفة، ومالک، وشافعی وکثیرا منهم. وقد احتجّ العّامة أیضا علی أبیحنیفة فی المقامین بخبر خیبر»(5).

ثمّ «والأراضی المفتوحة عنوة کانت تسمی أراضی خراجیة. والخراج والمقاسمة کانا یطلقان علی الطَسْق الذی کان یؤخذ منها: فإن کان التقبیل بمال معین بنحو الإجارة سمّی خراجا، وإن کان بسهم مشاع من عائدة الأرض بنحو المزارعة سمّی مقاسمة. وربما أطلق علی کلیهما الخراج... .

والظاهر أن المراد بقوله علیه السلام : «وما لم یعمروه منها»، هو الموات من الأراضی»(6).

«والمتبادر من قوله: «وما أخذ بالسیف»، المحیاة من أراضیهم لا مطلق الأراضی

ص: 157


1- (789) وسائل الشیعة 15/157، ح1.
2- (790) مرآة العقول 16/26.
3- (791) الوجیزة /238، رقم 239.
4- (792) منهج المقال 7/315 تعلیقة رقم 1308.
5- (793) مرآة العقول 16/26.
6- (794) دراسات فی و لایة الفقیه 3/193.

وإن توهم. وهل یراد به طبیعة ما أخذ بالسیف بإطلاقها، أو یکون إشارة إلی خصوص ما أخذ بالسیف من أراضی الکوفة وسواد العراق المذکورة فی السؤال؟ لعلّ الأظهر هو الأوّل.

وقوله: «والنّاس یقولون: لا تصلح قبالة الأرض والنخل»، إشارة إلی منع أبی حنیفة للمساقاة، ومنع مالک وأبی حنیفة والشافعی للمزارعة أیضا، والامام علیه السلام استدلّ بعمل النبی صلی الله علیه و آله علی صحة کلا العقدین.

وقد تعرض فی الحدیث لفتح مکة عنوة وأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أعتق أهلها، فهل منّ علیهم بأراضیها أیضا أو أنّه أبقاها للمسلمین؟ قد مرَّ من المبسوط قوله: «وإنّما لم یقسم الأرضین والدور لأنّها لجمیع المسلمین، کما نقوله فی کلِّ ما یفتح عنوة»(1).

ولکنّه من المحتمل أنه صلی الله علیه و آله منّ علیهم بها أیضا. وعلیه فلا یتعین إبقاء الأراضی المفتوحة عنوة للمسلمین بل تکون تحت اختیار الإمام کسائر الغنائم کما مرَّ، والإبقاء أحد شقوق اختیاره، فتدبّر»(2).

ومنها: مرسلة حمّاد الطویلة عن بعض أصحابه عن أبی الحسن علیه السلام _ فی حدیث _ قال: یُؤخذ الخمس من الغنائم فیُجعل لمن جعله اللّه له، ویقسم أربعة أخماس بین من قاتل علیه وولی ذلک، قال: وللإمام صفو المال، أن یأخذ الجاریة الفارهة، والدابة الفارهة، والثوب والمتاع ممّا یحب أو یشتهی، فذلک له قبل قسمة المال وقبل إخراج الخمس، قال: ولیس لمن قاتل شیء من الأرضین ولا ما غَلَبوا علیه إلاّ ما احتوی علیه العسکر، ولیس للأعراب من الغنیمة شیء وإن قاتلوا مع الإمام، لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله صالح الأعراب أن یدعهم فی دیارهم ولا یهاجروا علی أنّه إن دهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله من عدوه دهم أن یستنفرهم فیقاتل بهم، ولیس لهم فی الغنیمة نصیب، وسنته جاریة فیهم وفی غیرهم، والأرضون التی أُخذت عنوة بخیل أو رکاب فهی موقوفة متروکة فی یدی مَنْ یعمرها

ص: 158


1- (795) المبسوط 2/33.
2- (796) دراسات فی ولایة الفقیه 3/194.

ویحییها، ویقوم علیها علی ما صالحهم الوالی علی قدر طاقتهم من الحقِّ النصف أو الثلث أو الثلثین علی قدر ما یکون لهم صلاحا ولا یضرّهم _ إلی أن قال: _ ویؤخذ بعد ما بقی من العشر فیقسم بین الوالی وبین شرکائه الذین هم عمّال الأرض وأُکرتها فیدفع إلیهم أنصباءهم علی ما صالحهم علیه، ویأخذ الباقی فیکون بعد ذلک أرزاق أعوانه علی دین اللّه، وفی مصلحة ما ینوبه من تقویة الإسلام وتقویة الدین فی وجوه الجهاد وغیر ذلک مما فیه مصلحة العامة لیس لنفسه من ذلک قلیل ولا کثیر.(1)

«هذه المرسلة قد عمل بها الأصحاب فی الأبواب المختلفة. وحمّاد من أصحاب الإجماع الذین أجمع الأصحاب علی تصحیح ما یصح عنهم. والتعبیر عن الشخص المبهم ببعض أصحابنا یشعر بنحو إجلال له، فلعلّ الروایة مع إرسالها لا تنقص عن روایة حسنة. والدلالة علی المقصود واضحة.

وقوله علیه السلام : «لیس لنفسه من ذلک قلیل ولا کثیر»، فالظاهر أنه لا یراد به إلاّ تأکید کون الأرضین لجمیع المسلمین وأنه تصرف عوائدها فی مصالحهم، دفعا لتوهم کون بعضها ملکا لشخص الإمام. وعلی هذا فلا یدلّ علی منع استفادة شخصه منها إذا فرض احتیاجه إلیها، حیث إن سدّ خلاّت الإمام وعائلته من أهمّ مصالح العامة.

ویشهد لذلک الروایات المستفیضة الدالّة علی أن النبی صلی الله علیه و آله صرف من عوائد خیبر فی مصارف نفسه وأزواجه. وخیبر فتحت عنوة»(2).

ومنها: صحیحة محمّد الحلبی قال: سُئل أبوعبداللّه علیه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجمیع المسلمین: لمن هو الیوم، ولمن یدخل فی الإسلام بعد الیوم، ولمن لم یخلق بعد.

فقلت: الشراء من الدهاقین قال: لایصلح إلاّ أن تشتری منهم علی أن یصیرها للمسلمین، فإذا شاء ولی الأمر أن یأخذها أخذها، قلت: فإن أخذها منه قال: یرد علیه

ص: 159


1- (797) وسائل الشیعة 15/110، ح2، الباب 41 من أبواب جهاد العدو.
2- (798) دراسات فی ولایة الفقیه 3/196.

رأس ماله وله ما أکل من غلّتها بما عمل.(1)

«تتحدّث الروایة عن حکم أراضی السواد التی سمّیت سوادا لکثرة النخیل والزرع، أو لأنّ الخضرة تقارب السَّواد، وهی الأراضی المفتوحة عنوةً والواقعة فی جنوب العراق ووسطه ووالتی فتحها المسلمون بالخیل والرکاب، فقد أجاب الإمام علیه السلام عن حکمها بأنّها «لعامّة المسلمین» وکلمة «المسلمین» جمعٌ محلّی بالألف واللاّم، وعموم افرادی ینحلّ بانحلال العنوان علی مصادیقه الخارجیّة المتعدّدة، فالروایة ظاهرة فی أنّ هذه الأراضی مملوکة لعامّة المسلمین فردا فردا، وأنّ کلّ فرد من المسلمین له الإضافة باللاّم إلی الأرض، وقد سبق أن ذکرنا أنّ اللاّم ظاهرة فی الملکیّة بظهور إطلاقی، وإن کانت موضوعة لغةً لمطلق الاختصاص، لکنّها ظاهرة فی الاختصاص المطلق الذی هی الملکیّة. فإذن الروایة ظاهرة فی ثبوت اقتضاء الملکیّة علیها للمسلمین فردا فردا، بعد زوال مالکیّة الکافرین عنها بالغلبة والقهر. هذا فضلاً عن تصریح الإمام علیه السلام بعده بقوله: «لمن هو الیوم، ولمن یدخل فی الإسلام بعد الیوم، ولمن لم یخلق بعد»، حیث تفید هذه الجملة شمول الحکم لجماعةٍ، منهم مَن هو کافرٌ الآن ومسلمٌ لاحقا، ومنهم من هو معدومٌ حین الفتح وسیُخلق ویولد لاحقا، فظهور الروایة ونصّها یدلاّن علی ملکیّة جمیع أفراد المسلمین لها، والخصوصیّة التی یتضمّنها النصّ هی ثبوت الملکیّة لمن کان کافرا ثمّ أسلم عن فطرة.

کما إنّه یستفاد من السؤال عن «الشراء من الدهاقین» وجوابه علیه السلام عنه أمران:

1_ أنّ الأراضی المفتوحة عنوة غیر قابلة للشراء والانتقال بالبیع.

2_ تکرار ما أثبته فی صدر الخبر من ملکیّة الأرض لعامّة المسلمین، وعدم جواز بیعها، والمعاملة علیها إلاّ فی صورة واحدة، وهی فیما لو کان متعلّق الإشتراء والمعاملة الحقّ الذی منحه له الحاکم، أو بیع البناء الذی علیها.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرناه أنّ هذه الروایة صحیحة الإسناد والدلالة تفید ملکیّة

ص: 160


1- (799) وسائل الشیعة 17/369، ح4، الباب 21 من أبواب عقد البیع وشروطه.

المسلمین عامّة للأراضی المفتوحة عنوة، وأنّها بعد الفتح تنتقل من الکفّار إلی المسلمین بنحو المِلک دون الحقّ»(1).

ومنها: حسنة أبی الربیع الشامی، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لا تشتر من أرض السواد شیئا إلاّ من کانت له ذمة فإنّما هو فیء للمسلمین.(2)

الظاهر أنّ المراد من استثناء النهی هو عدم جواز شرائها إلاّ لِمَنْ تقبَّل خراج الأرض علی ذمّته وأدائها إلی بیت مال المسلمین، لا لِمَنْ عمل بها عمل ملکیة رقبة الأرض.

ومنها: خبر محمّد بن شریح فال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن شراء الأرض من أرض الخراج؟ فکرهه، وقال: إنّما أرض الخراج للمسلمین، فقالوا له: فإنّه یشتریها الرجل وعلیه خراجها، فقال: لا بأس إلاّ أن یستحیی من عیب ذلک.(3)

والمراد بالکراهة الواردة فیها هی الحرمة الوضعیة لو اشتری رقبة الأرض لتعلیله بأنّها «للمسلمین» وأنّها «أرض الخراج» فلو اشتری رقبة الأرض کانت شرائه باطلة.

وأمّا لو اشتری إحداثات البائع علیها مع تقبّل أداء خراجها فحکم الإمام علیه السلام بعدم بأس لهذا الشراء.

وعیب هذه الأراضی خراجها فلو أخفی البائع هذا العیب فللمشتری خیاره. وعلیه فیکون المراد بالاستحیاء هو الاستخفاء لا ما ذکره بعض الأساتذه قدس سره من أنّ شراء هذه الأراضی «کان یعدّ ذلک عیبا فی تلک الأعصار»(4)، لِ_ «أنّه لا یناسب اشتراؤه لغیر أهل الذمة»(5).

ص: 161


1- (800) العقد النضید 4/463.
2- (801) وسائل الشیعة 17/369، ح5.
3- (802) وسائل الشیعة 17/370، ح9.
4- (803) دراسات فی ولایة الفقیه 3/197.
5- (804) دراسات فی ولایة الفقیه 3/197.

والعجب من الاستاذ المحقّق(1) _ مدظله _ أنّه یری التنافی بین صدر الروایة من الحکم بفساد البیع وذیلها من الحکم بعدم البأس فحکم بأنّها ساقطة عن الدلالة مع إقراره _ مدظله _ ب_ «أنّ الکراهة لعلّها من جهة عدم دفع الخراج»(2) أی شراء رقبة الأرض، «وأنه لا بأس ولا کراهة لو اشتراها الرجل ودفع خراجها»(3) أی اشتری إحداثات البائع والتزم بدفع خراجها إلی بیت مال المسلمین، فمع هذا الجمع الواضح بین الصدر والذیل فکیف حکم بسقوط دلالة الروایة؟!

ومنها: خبر أبی بُرْدَة بن رَجَا قال: قلت: لأبی عبداللّه علیه السلام کیف تری فی شراء أرض الخراج؟ قال: ومن یبیع ذلک؟! هی أرض المسلمین، قال: قلت: یبیعها الذی هی فی یده، قال: ویصنع بخراج المسلمین ماذا؟ ثمّ قال: لا بأس، اشتری حقّه منها ویحول حقّ المسلمین علیه، ولعلّه یکون أقوی علیها وأملأ بخراجهم منه.(4)

سند الروایة ضعیف بأبی بُرْدَة بن رَجَا لأنّه مهمل وأمّا دلالتها تامة لأنّ ورد فی صدر الروایة «الاستفهام الإنکاری الصادر من الإمام، ثمّ تعلیله وجه الاستنکار بأنّها أرض المسلمین، لخیرُ دلیلٍ علی أنّ الأراضی المفتوحة عنوة ملک لعامّة المسلمین، ولا یجوز للبعض منهم تملّکها. فالإمام علیه السلام نفی البیع معلّلاً ذلک بأنّها أرض المسلمین، ثمّ أجاز ذلک فی ذیل الخبر من جهة تعلّق الشراء بالحقّ دون العین.

بیان ذلک: أنّ أمر الأراضی المفتوحة عنوة یعود إلی إمام المسلمین _ سواء العادل أو الجائر بناءً علی الإمضاء فی الأخیر _ فللوالی حقّ التصرّف فیها، فمن أعطاه الوالی شیئا من هذه الأراضی، ثبت له الحقّ فیها، ویجوز له بمقتضی حکم الإمام علیه السلام أن یبیع حقّه لغیره.

وبالجملة: فلا منافاة بین صدر الخبر المانع للبیع وذیله المجیز له، فتکون دلالته

ص: 162


1- (805) العقد النضید 4/464.
2- (806) العقد النضید 4/464.
3- (807) العقد النضید 4/464.
4- (808) وسائل الشیعة 15/155، ح1، الباب 71 من أبواب جهاد العدو.

علی المدّعی تامّة»(1).

ومنها: صحیحة إسماعیل بن فضل الهاشمی قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن رجل اشتری أرضا من أرض أهل الذمة من الخراج وأهلها کارهون، وإنّما یقبلها من السلطان لعجز أهلها عنها أو غیر عجز، فقال: إذا عجز أربابها عنها فلک أن تأخذها إلاّ أن یضاروا، وإن أعطیتهم شیئا فسخت أنفس أهلها لکم فخذوها.

قال: وسألته عن رجل اشتری أرضا من أرض الخراج، فبنی بها أو لم یبن غیر أنّ أُناسا من أهل الذمة نزلوها، له أن یأخذ منهم أُجرة البیوت إذا أدّوا جزیة رؤوسهم؟ قال: یشارطهم فما أخذ بعد الشرط فهو حلال.(2)

المراد بالشراء فی صدرها التقبل من الإمام کما یظهر من قوله: «وإنّما یقبلها من السلطان» وحکم الإمام علیه السلام بجواز التقبل وإعطاء شیئا لأهل الذمة لئلا یتضرّوا بما حدثوا فی الأرض، ولعل المراد بالشراء فی ذیلها أیضا کذلک أو الشراء بجهة إحداثات البائع والأوّل أظهر.

الاحتمالات التی یمکن استفادتها من الروایات
اشارة

الوجوة المحتملة المستفادة من الروایات الماضیات متعددة تبلغ إلی أکثر من عشرة احتمال فلابدّ من ذکرها وتعیین المختار منها:

«1_ إنّ الأرض المفتوحة عنوة ملکٌ لعامّة المسلمین بالفعل، وعلی نحو الإطلاق، الشامل لمن هو مسلمٌ حین الفتح أو سیوجد لاحقا، بل الذی کافرٌ حین الفتح ویسلم لاحقا، أو ولد کافرا ملیّا ثمّ أسلم متأخّرا، وهذا الاحتمال هو المترائی من صحیحة الحلبی(3).

2_ إنّ الأرض المفتوحة ملکٌ لمن هو موجود حین الفتح بالفعل، دون من هو غیر موجود من أبناء المسلمین أو الکفّار وأبناءهم، ممّن یَسْلِمون لاحقا، وأن تحصل لهم

ص: 163


1- (809) العقد النضید 4/466 و 467.
2- (810) وسائل الشیعة 17/370، ح10، الباب 21 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- (811) وسائل الشیعة 17/369، ح4.

الملکیّة لاحقا بعد وجودهم أو دخولهم فی رقبة الإسلام والمسلمین.

فبناءً علی الاحتمال الأوّل، تکون الملکیّة ثابتة للمعدومین _ فضلاً عن الموجودین _ بالفعل، بمعنی أنّ الملکیّة موجودة بالرغم من أنّ المالک معدوم. أمّا علی الاحتمال الثانی فإنّ الملکیّة الفعلیّة تکون لخصوص الموجودین، وإن ثبتت للمعدومین عند وجودهم وللکافرین عقب إسلامهم.

3_ إنّ الاراضی المفتوحة ملکٌ لنوع المسلم دون أفرادهم، کما هو الحال فی حصّة الفقراء والعلویّین من الزکاة وسهم السادة، فلیست الأرض ملکا لأفراد المسلمین، حتی نعتبرها ملکا فعلیّا للموجودین وتقدیریّا للمعدومین، بل هی ملک لطبیعی المسلم ونوعه _ الاُصولی دون المنطقی _ کما هو الحال فی الحصّتین المذکورتین.

وعلیه فإن قلنا بوحدة ملکیّة النوع والجهة، أصبحت الاحتمالات ثلاثة ومع عدم الالتزام بوحدتهما تصبح الاحتمالات أربعة [کما] هو [الصحیح].

4_ اعتبار الأراضی المفتوحة ملکا للجهة، مثل ملکیّة الدولة للأموال العامّة، حیث أنّ ملکیّتها لها لم تکن علی نحو ملکیّة الفرد أو الطبیعی، بل ملکیّة حیثیّة وهی التی یعبّر عنها فی عصرنا الحاضر بالشخصیّة الحقوقیّة فی مقابل الشخصیّة الفردیّة.

أمّا بالنسبة إلی الحقّ: ففیه أیضا تجری الاحتمالات الثلاثة _ بناءً علی وحدة الجهة والطبیعة أو الأربعة بناءً علی تعدّدهما _ ، فتصیر الاحتمالات إلی هنا بناءً علی تعددهما ثمانیة.

9_ هو الاحتمال الذی تحدّث عنه الشهیدان(1) والمحقّق الکرکی(2) _ رحمهما اللّه _ من اعتبار المِلک أو الحقّ بتبع الآثار، بمعنی أنّه تحصل الملکیّة _ أو الحقّ _ علیها تبعا لوجود آثارها، وتزول بتبع زوالها، فالفرد من المسلمین یملک [ما یأخذه من] الولاة [قبالةً] فیما لو شرع فی البناء علیها، وتبقی ملکیّته لها ببقاء البناء علیها، وتزول بزواله.

ص: 164


1- (812) الدروس الشرعیة 2/41؛ والمسالک 3/56.
2- (813) جامع المقاصد 4/97.

وفیه: هذا الوجه لا دلیل علیه، فضلاً عن مخالفته مع القواعد والنصوص الخاصّة المذکورة سابقا، حیث لا إشارة فی واحدٍ منها علی تحقّق الملکیّة بالآثار وزوالها بزوالها.

10_ إنّه لیس هناک للمسلمین حقّ أو ملک علی مطلق الأراضی المفتوحة عنوة، بل إنّ رقبة هذه الأراضی موقوفة، وتنفکّ بالفتح عن مطلق الملکیّة الشخصیّة والفردیّة، فتصبح متحرّرة، وینبغی صرفها فی مصالح المسلمین.

وفی هذا الاحتمال صُوْرَتانِ:

1/10_ إحداهما: أنّ ما یتحقّق بعد الفتح هو مجرّد فکّ رقبة الأرض عن الملکیّة، وعدم تقبّلها للمالک کما فی المساجد، وبالتالی یجب صرفها فی مصالح المسلمین، کما وردت الإشارة إلیه فی روایة حمّاد(1)، وقال به الفقهاء فی خصوص منافع هذه الأراضی.

2/10_ ثانیتهما: أنّ ما یتحقّق من خلال الفتح زوال ملکیّة الکفّار عنها، وصیرورتها وقفا علی المسلمین، کما هو الحال فی الأوقاف العامّة فإنّ من أوقف أرضه علی فقراء المسلمین، یکون قد أوقفها علی جمیعهم.

وهذا الوجه أیضا لا دلیل علیه، سوی مرسلة حمّاد الوارد فیها قوله «فهی موقوفة متروکة»(2) الدالّة علی أنّ هذه الأراضی موقوفة، لکن لا ینبغی التردید فی أنّه لیس المقصود من الوقف المذکور فیها، الوقف المصطلح علیه بین الفقهاء فی کتاب الوقف، لأنّ المراد من [الوقف] المصطلح، المنع عن التقلّبات الإنشائیّة کالبیع والصلح فیها، ولزوم السکون فیه، فالسکون المطلوب فی کتاب الوقف سکون إنشائی، والمطلوب فی الأراضی سکون غیر إنشائی.

وبالتالی فالدافع لهذا الوجه أمران:

أ: إنّ الروایة المبتنیة علیها هذا الوجه روایة مرسلة ضعیفة لا اعتبار بها.

ب: ولو سلّمنا صحّتها، فلابدّ من الجمع بینها وبین سائر الأخبار الدالّة علی أنّ

ص: 165


1- (814) وسائل الشیعة 15/110، ح2، الباب 41 أبواب جهاد العدوّ.
2- (815) وسائل الشیعة 15/110، ح2، الباب 41 أبواب جهاد العدوّ.

الأرض «هی لمن الیوم ولمن یدخل فی الإسلام بعد الیوم ولمن لم یخلق بعد»(1) فهی تفید ثبوت الملکیّة، والمرسلة تفید أنّها ملِلک ساکن غیر قابل للنقل»(2).

ولکن الظاهر من صحیحة محمّد الحلبی(3) هو الاحتمال الأوّل لأنّ المستفاد منها ثلاثة اُمور وهی:

«أ: الملکیة.

ب: وأنّ الملاّک هم الأفراد علی نحو العموم الاستغرافی.

ج: وأنّ الملکیّة الثابتة لهم ملکیّة فعلیّة لا استقبالیّة.

أمّا الملکیّة، فهی مستفادة من الظهور الإطلاقی فی اللاّم الدال عرفا علی الاختصاص المطلق.

أمّا المالک فهو مستفاد من کلمة «المسلمین»، فهی جمع محلّی بالأل، فضلاً عن أنّها عنوان مشیرٌ فسّره الإمام علیه السلام بقوله: «لمن هو الیوم، ولمن یدخل فی الإسلام بعد الیوم، ولمن لم یخلق بعد».

أمّا الملکیّة الفعلیّة، فهی مستفادة من قول الإمام علیه السلام : «لمن یدخل فی الإسلام بعد الیوم» حیث یدلّ علی أنّ الملکیّة ثابتة له بالفعل، وإن لم یکن داخلاً فی الإسلام بعد ومعدودا منهم»(4).

الموانع التی تمنع من الأخذ بظهور صحیحة الحلبی
اشارة

قد ادعی وجود موانع لا یمکن معها الأخذ بظهور صحیحة الحلبی ومنها:

1_ الاشکال العقلی

تقریره: کیف یمکن تحقّق الملکیة الفعلیة للمسلمین المعدومین مع أنّ الملکیة _ ولو کانت من الأُمور الاعتباریة _ من الاُمور ذات الاضافة التی تحتاج إلی طرفیها من

ص: 166


1- (816) وسائل الشیعة 17/369، ح4، الباب 21 من أبواب عقد البیع.
2- (817) العقد النضید 4/(470-468)، مع اصلاحات واضافات.
3- (818) وسائل الشیعة 17/369، ح4.
4- (819) العقد النضید 4/471.

المملوک والمالک ثمّ اعتبار الملکیة بینهما ومع فرض معدومیة المالک کیف یمکن تحقّق هذه الإضافة؟!

نعم، الملکیة لیست من الاُمور الإضافیة الحقیقیة نحو: الفوقیة والتحتیة أو اُبوّة والبُنُوة بل تعدّ من الاُمور الإضافیة الاعتباریة ولکن یستحیل أن تحقّق أمر إضافی من دون تحقّق طرفی الإضافة حتّی لو کانت اعتباریة، والمعدوم یستحیل أن یکون طرفا للموجود فی الإضافة بلا فرق بین إضافتی الحقیقیة والاعتباریة.

جوابه: أوّلاً: بالنقض فی بحث الزمان _ بناءً علی أنّه من الاُمور التکوینیة _ حیث تصح نسبة الزمان إلی طرف معدوم بل طرفی المعدوم نحو صحة استعمال هذه الجملة عرفا وعقلاً وهی: «إنّ الیوم بعد الأمس وقبل الغد» أو ما ورد من قوله علیه السلام : «قم فاغتنم الفرصة بین العدمین» فتنسب الیوم الموجود أو الفرصة الحالیة الموجودة إلی القبلیة والبعدیة المعدومتین.

وثانیا: الأُمور الاعتباریة تابعة لاعتبار مُعْتَبِرِها فإذا اعتبرها من دون تحقّق الأمرین الإضافیتین فلا إشکال فی صحة اعتباره إذا ترتب علیه أثر ونحوها وارد فی الشریعة وغیرها بل وارد فی سیرة العقلاء فی حیاتهم الاجتماعیة من سالف الزمان إلی زماننا هذا أذکر لک أمثلة لها:

أ: عقد الإجارة لأنّ منافع الآتیة للدار مثلاً معدومة بالفعل ولکن صح تملیکها للمستأجر من الآن.

ب: أو جواز بیع الثمرة الموجودة فی هذه السنة مع الثمرة التی تحصل فی السنة القادمة مع أنّ الأخیرة معدومة الآن بالفعل ولکن حصلت الملکیة والتملّک لهما من الآن بعد بیعها.

ج: صحة الوصیة لتملیک منافع داره لاُولاده واُولاد اُولاده من نسله المعدومین فعلیّا الذین یراهم فی عالم الوجود فی الأزمنة الآتیة.

فحینئذ فلا مانع عقلیّ أو شرعیّ من تملیک المعدوم للموجود کالاجارة أو تملّک الموجود للمعدوم کملکیة الأرضی المفتوحة عنوة للمسلمین المعدومین أو تملیک

ص: 167

المعدوم للمعدوم کالوصیة الماضیة.

وحلّها وجود الفارق الرئیسی بین عالمی الاعتبار والتکوین کما مرّ منّا مرارا فی أبحاثنا الاصولیة والفقهیة.

2_ کیف تکون ملکیتها لعامة المسلمین ثمّ یجوز استیجارها لهم؟!

تقریر الإشکال: إذا کانت ملکیة الأراضی المفتوحة عنوة لعامة المسلمین علی نحو الانحلال، بحیث یکون کلّ فردٍ فردٍ منهم مالکا فکیف یجوز لهم قبالة هذه الأراضی وإجارتها بالخراج والمقاسمة مع إمام المسلمین؟

بعبارة اُخری: الإجارة هی تملیک المنفعة، فکیف یجوز تملیک المنفعة مع فرض مالکیة العین للمستأجر وبتبع العین مالکیة المنفعة له باعتبار أنّه فرد من أفراد المسلمین، فکیف یمکن تملیک المنفعة له بالإجارة مرّة اُخری؟!

فاستیجار المسلمین لها باطل وممنوع عقلاً وعرفا وشرعا مع أن سیرة حکام المسلمین وولاتهم فی زمنی الحضور والغیبة إجارة هذه الأراضی الخراجیة للمسلمین من دون نکیر!

جوابه: الأراضی المفتوحة عنوة ملک لعامة المسلمین علی نحو الإشاعة، فیجوز لأحدهم استیجارها من إمام المسلمین وتعدیة حقوق المسلمین مع قبالة التی کتبها مع إمامهم والتصرف فیها بحیث یشاء کما هو الأمر فی غیرها من الأملاک المشاعة بین عدّة أفراد. فلا مانع من الجمع بین الملکیة المشاعة واستیجار العین أو بعضها کما لا یخفی.

3_ کیف تجتمع الملکیة مع عدم جواز التصرفات الاعتباریة والخارجیة؟

تقریر الاشکال: الصحیحة تدلّ علی ثبوت الملکیة لکلِّ فرد من أفراد المسلمین، وهذه الملکیة کیف تثبت لهم مع عدم جواز التصرفات الاعتباریة لهم کالبیع والصلح والإجارة والوقف ونحوها، أو التصرفات الخارجیة نحو: الزرع والبناء والسکنی وغیرها إلاّ من خلال إذن إمام المسلمین ومع کتابة القبالة معه، فمثل هذه الملکیة التی لا یتمکن المالک معها من جمیع التصرفات المالکیة لغو محض.

فکیف یمکن القول بملکیتهم للأراضی الخراجیة مع أنّهم ممنوعون عن التصرف

ص: 168

فیها مطلقا إلاّ مع إذن إمام المسلمین؟!

جوابه: الملکیة هنا لیست الملکیة الشخصیة التی یجوز معها التصرفات الاعتباریة والخارجیة، بل الملکیة هنا قسم خاص منها وکیفیّة معیّنة منها وهی لزوم صرف منافعها فی سدّ خلات مجتمع المسلمین ومصالحهم، فحینئذ فالملکیة الخاصة ثابتة للمسلمین فی الأراضی الخراجیة ولکن جواز التصرف فیها مشروط بإذن إمام المسلمین رعایة لحفظ مصالحهم وحقوق جمیعهم.

4_ کیف تجتمع الملکیة مع عدم ثبوت الإرث فیها؟

تقریر الإشکال: قانون التوارث یقتضی انتقال ما یملکه المیت من مال أو حق إلی وارثه، فلو کانت الأراضی الخراجیة لعامة المسلمین لزم انتقالها إلی ورثتهم ویستلزم منه اختلاف حصصهم الموروثة قلّة وکثرة بالضرورة وبالتالی الاختلاف فی مقدار مالکیتهم!

مع أن الفقهاء ینفون التوارث فیها فکیف یجتمع الملکیة مع عدم ثبوت الإرث؟!

جوابه: قد مرّت الملکیة هنا قسم خاص منها ولیست الملکیة الشخصیة بحیث یرث بعد موت المالک إلی ورثته، وعدم التوارث لا یجتمع مع الملکیة الشخصیة ولکنها یجتمع مع الملکیة الخاصة التی یأتی تفصیلها فانتظر.

والحاصل: بهذه الإشکالات الأربعة ونحوها التزم جمع من محققی أصحابنا إلی ملکیة الجهة أو النوع، لا إلی ملکیة کل فرد من أفراد المسلمین علی نحو الملکیة الفعلیة.

کما ذهب المحقّق النائینی(1) إلی أنّها ملک للجهة _ وقد مرّ تعریفها فی الاحتمال الرابع من المحتملات العشرة الواردة فی الروایات فراجعه.

وذهب المحقّق الإصفهانی رحمه الله إلی أنّها ملک للطبیعی _ کما مرّ تعریفه فی الاحتمال الثالث من المحتملات العشرة _ وقال: «الأنسب بالجمع بین الأخبار ورعایة الآثار ما ذکرناه فی أوائل البحث(2) عن الأراضی من کونها ملکا للطبیعی علی وجه خاص... أنّ

ص: 169


1- (820) المکاسب والبیع 2/371.
2- (821) قال فی حاشیة علی المکاسب 3/14: «وعلیه فیمکن أن یقال: بملاحظة الجمع بین الأخبار ورعایة الآثار أنّ الأرض ملک لطبیعی المسلمین ونوعهم لا لآحادهم، وما ورد _ من أنّه ملک لجمیع المسلمین ممن وجد وممن لم یخلق بعد _ یراد به عدم اختصاص ملک الطبیعی بزمان دون زمان، وإنْ کان کلّ واحدٍ من المسلمین قابل لانطباق الطبیعی علیه، لکنّه لیس کالخمس والزکاة بحیث یجب علی المتولی لأمرها إقباضها إلی من شاء، بل جعل أمرها عینا ومنفعةً إلی ولی الأمر مع رعایة مصلحة النوع، فتارة تقتضی المصلحة إقباض رقبة الأرض إلی واحد، وأُخری تقتضی إبقاء الأرض وصرف حاصلها فی مصلحة النوع. وأمّا بذل ولی الأمر بعنوان العطیة والجائزة فإمّا هو من باب حق التولیة، أو لأنَّ قیامه بأمر مصلحة النوع، ولوازم الریاسة مرعیة فی الرئیس القائم بالأمر، فبالأخرة تکون العطیة والجائرة مصلحة النوع».

الأرض لیست ملکا لآحاد المسلمین استغراقیا حتّی یرد المناقشة من الوجهین وغیرهما ممّا قدمناه بل ملک للطبیعی، فالشخص بما هو غیر مالک حتّی لا یجوزالإجارة منه أو یجوز نقل حصته، مع أنّ عدم جواز نقل الحصة کما یمکن أن یکون لعدم الملک کذلک یمکن أن یکون لحبس الملک علی وجه خاص»(1).

ثمّ تعرض لمحاولة ما ورد فی صحیحة محمّد الحلبی من قوله علیه السلام : هو لجمیع المسلمین: لمن هو الیوم ولمن یدخل فی الإسلام بعد الیوم ولمن لم یخلق بعد.(2)

من أنّ ظاهرها ملکیة آحاد المسلمین استغراقیا «إلاّ أنّه للمحاذیر المتقدمة مرارا یحمل علی ملک الطبیعی والترتیب الذی ذکره علیه السلام لبیان أنّه لا یختص بزمان دون زمان، ویقبل الانطبقاق علی المسلم بالفعل وعلی من یدخل فی الإسلام»(3).

ویمکن تأییده بأنّ «ل_» الواردة فی کلمة «للمسلمین» غیر آبیة عن الملکیة النوعیة نحو الوقف علی العماء وآیتی الزکاة والخمس وظهورهما فی الملکیة النوعیة للأصناف الواردة فی الآیتین وأنّهما لم تکن ملکا لأفرادهم علی نحو الاستغراق.

ولکن یمکن أن یناقش علیه:

ص: 170


1- (822) حاشیة المکاسب 3/51.
2- (823) وسائل الشیعة 17/369، ح4.
3- (824) حاشیة المکاسب 3/57.

أوّلاً: «أنّ قوله علیه السلام : «لمن هو الیوم...» لم یقصد بها تعمیم النوع، لکفایة العنوان بنفسه لشمول نوع من ینطبق علیه العنوان، دون الحاجة إلی التنصیص علی التعمّم بإضافة کلمتی «الیوم» و«بعد الیوم»، والشاهد علیه الخطابات التکلیفیّة، فإنّ مجرّد التصریح بلفظة العلماء فی «أکرم العلماء» إنّما هو لتعمیم الحکم، ولا حاجة لإبراز التعمّم بإضافة الیوم والغد للدلالة علی عدم الاختصاص بزمان معیّن. وبالتالی فدعواه أنّ الجملة المذکورة إنّما هی لإفادة عدم محدودیّة الملکیّة بزمان دون زمان ممنوع»(1).

وثانیا: «أنّ قوله علیه السلام : «لمن یدخل فی الإسلام بعد الیوم ولمن لم یخلق بعدُ» مصداق للفرد، ولا یصحّ إسناده إلی الطبیعة، کما هو الحال فی کلمة «الجمیع» المضافة إلی المسلمین، فإنّ المراد منها الأفراد دون الطبیعة، لأنّ الذی یدخل فی الإسلام أو قد یولد هو الفرد بعینه دون النوع أو الجهة»(2).

وثالثا: «یمکن تصویر ملکیّة النوع فی الشرع، کما هو الحال فی باب الأوقاف والوصایا، لکن هذه الملکیّة النوعیّة تنطبق فی النهایة علی الفرد، أمّا الملکیّة النوعیّة التی تبقی منحصرة بالنوع، دون أن تتعدّی إلی الفرد، ودون أن تصبح ملکا للأفراد لا عینا ولا منفعة _ کما التزم بها المحقّقان النائینی والإصفهانی _ فهی ممّا لا یمکن فرضها أو تعقّلها»(3).

وبالجملة: یمکن القول بملکیّة الأراضی المفتوحة عنوة لآحاد المسلمین علی نحو الاستغراق، فعلیة من دون اختصاص بزمان دون زمان، بل هذه الملکیّة التشریعیة ثابتة علی مرّ الدهور إلی یوم القیامة ولکن ملکیّة خاصة غیر ملکیتهم الحرّة المطلقة لأموالهم الشخصیّة الفردیّة، وهی ملکیّة محبوسة غیر حرّة، ومقیدة غیر مطلقة بحیث لا یتمکنوا من التصرف فیها إلاّ بإذن إمام المسلمین ولابدّ من أداء الخراج إلیه ولا یجوز بیعها ولا إجارتها ولا یرث إلی أولادهم وعلی هذا الاساس الملکیة الفعلیة الخاصة وهی

ص: 171


1- (825) العقد النضید 4/478.
2- (826) العقد النضید 4/478.
3- (827) العقد النضید 4/479.

محبوسة ومق_یّدة ثابتة لآحاد المسلمین علی طول الزمان من دون إشکال والحمدللّه العالم بأحکامه.

بعض أحکام الأراضی المفتوحة عنوة
1_ هل تشمل فریضة الخمس الأرض المفتوحة عنوة أو أنّها ملک خاص للمسلمین ولایحتاج إلی أداء الخمس؟

فیه قولان:

أ: المشهور بین الأصحاب شمول أدلة الخمس لها بل یظهر من صاحب المدارک(1) إجماع المسلمین علیه. والوجه فیه إطلاق أدلة الخمس من الآیة الشریفة(2) والروایات الواردة(3) فی وجوبه یشمل الأراضی المفتوحة عنوة.

ب: ما اختاره صاحب الحدائق من عدم وجوب الخمس فیها وقصّر الخمس فی الغنائم المنقولة دون غیرها کالأراضی والمساکن وقال: «ولا أعرف علی هذا التعمیم دلیلاً سوی ظاهر الآیة(4)... وقد تتبعتُ ما حضرنی من کتب الأخبار کالوافی والوسائل المشتمل علی أخبار الکتب الأربعة وغیرها فلم أقف فیها علی ما یدلّ علی دخول الأرض ونحوها من ما قدمناه فی الغنیمة التی یتعلق بها الخمس، ولم أقف فی شیء منها علی وجوب إخراج الخمس منها عینا أو قیمة حتّی الأخبار الواردة فی تفسیر الآیة المشار إلیها فإنّها ما بین صریح أو ظاهر فی تخصیصها بما ینقل ویحول.

وحینئذ فیمکن تخصیص الآیة بما دلت علیه هذه الأخبار...»(5). ثمّ أضاف: «وبالجملة فما ذکروه لا وجود له فی شیء من الأخبار، بل ظواهرها من حیث عدم

ص: 172


1- (828) مدارک الأحکام 5/360.
2- (829) سورة الأنفال /41.
3- (830) وسائل الشیعة 9/485، الباب 2 من أبواب ما یجب فیه الخمس، وغیرها من الروایات.
4- (831) الحدائق 12/324.
5- (832) الحدائق 12/325.

التعرض لذکره ولو إشارة سیما فی مقام البیان هو العدم»(1).

القول المختار: هو ما ذهب إلیه صاحب الحدائق؛ لأنّ عنوان الغنیمة فی الآیة الشریفة ونصوص الروایات فُسِّرَتْ فی صحیحة علی بن مهزیار ب_ «الفائدة یفیدها»(2) المرء. فعلی هذا یکون موضوع الخمس الفوائد المالیة الشخصیة وقد عرفت أنّ ملکیة آحاد المسلمین للأراضی الخراجیة ملکیة خاصة مق_یّدة محبوسة غیر حرّة لم یصدق علیها عنوان «الفائدة» عرفا.

مُضافا: إلی أنّ الروایات الواردة لبیان أحکام الأراضی الخراجیة لم یتعرض فی شیء منها وجوب الخمس وسکوتها دلیل علی عدم وجوبها کما قال صاحب الحدائق:، «ویؤید ما قلناه الأخبار الواردة فی حکم الأرض المفتوحة عنوة ومنها خیبر وعدم التعرض فیها لذکر الخمس بالکلّیة مع ذکر الزکاة فیها، ولو کان ثابتا فیها لکانت أولی بالذکر لتعلقه برقبة الأرض»(3).

وثالثة: علی فرض وجوب الخمس فیها علی مَنْ یجب إخراجها؟ علی آحاد المسلمین حیث لم یتمکنوا من التصرف فیها مطلقا، أو علی إمام المسلمین حیث لم یتملک من الأراضی الخراجیة إلاّ نصیبه بما أنّه أحد من المسلمین ولیس له التصرف فیها إلاّ فی إدارتها وقبالتها وأخذ الخراج منها وصرفه فی مصالح المسلمین ولم یأذنوا فی الروایات فی إخراج خمس هذه الأراضی بتوسطه، فعلی مَنْ یجب إخراج الخمس؟! وهذه عویضة لابدّ المشهور من حلّها.

فالمختار عدم وجوب الخمس فیها کما مرّ من الحدائق وعلیه الأستاذ المحقّق(4) _ مدظله _ .

2_ المتصدی للأراضی الخراجیة

ص: 173


1- (833) الحدائق 12/327.
2- (834) وسائل الشیعة 9/502، ح5، الباب 8 من أبواب ما یجب فیه الخمس.
3- (835) الحدائق 12/326.
4- (836) العقد النضید 4/483.

المتصدی لها أوّلاً هو الإمام المعصوم علیه السلام الذی یخلف عن النبی صلی الله علیه و آله وکان وصیّا له ثمّ نائبه بدلاً منه وفی عصر الغیبة المتصدی لها هو الفقیه الجامع لشرائط الإفتاء مع تحقق الولایة له، ومع عدمه أو عدم ولایته یتصدی لها عدول المؤمنین حِسْبَةً کما مرّ فی بحث الولایات.

وأمّا لو قام جائر وتصرف فی هذه الأراضی وبلیت الشیعة بالمعاملة معه، أجاز الأئمة علیهم السلام فی الروایات المعاملة معهم تسهیلاً لشیعتهم وتوسعة علیهم وأفتی بها فقهاء الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین.

وقد ذکرتُ لک نصوص الروایات وکلمات الأصحاب فی المقام فی المسألة الثالثة من مسائل خاتمة المکاسب المحرمة: ما یأخذه الجائر من الخراج والمقاسمة والزکاة فی بحثی «تطور البحث»(1) و «أدلة القائلین بالجواز»(2) فراجعهما إن شئت ولا نعید.

3_ لا یجوز بیع الأراضی الخراجیة

عدم جواز بیع هذه الأراضی کأنّه إجماعیٌّ وتدلّ علیه النصوص المتعددة الماضیة(3) ولکن هذه الأراضی قد طالتها أیادی المسلمین بالبیع والشراء والإجارة والصلح وغیرها قدیما وحدیثا ولذلک قد تصدی الفقهاء محاولة هذه المعاملات وتبریرها بوجوه:

أ: یجوز بیعها وشارئها بلحاظ «الآثار والأبنیة المحدثة فیها بعد الاغتنام بل والحقّ المتعلق بها للمتصرف. فتصیر الأرض للمشتری علی وجه کانت للبائع من ثبوت حقّ الأولویة وعدم جواز المزاحمة إذا فرض کون التصرف وإحداث الآثار بإذن الإمام، أو بإجازته العامة للشیعة علی القول بها؛ أو بإذن نائبه الخاص أو العام، أو بتقبیل السلطان الجائر بناء علی إمضائهم علیهم السلام لذلک»(4).

ص: 174


1- (837) الآراء الفقهیة 3/(383-371).
2- (838) الآراء الفقهیة 3/(407-384).
3- (839) راجع بحث مستند فقهاء الطائفة صفحة 156 من هذا المجلد.
4- (840) دراسات فی ولایة الفقیه 3/212.

کما مرّ فی خبر أبی بُرْدَة بن رجا(1) وصحیحة إسماعیل بن فضل الهاشمی(2) وخبر محمّد بن شریح(3) وحسنة أبی الربیع الشامی(4)، وهذه المحاولة هی المختار فی شرائها.

ب: «قیام السیرة القطعیّة علی التعامل بها، حیث أنّ الثابت قیام السیرة القطعیّة عند المتشرّعة علی التعامل بهذه الأراضی، بل إنّ أراضی الکوفة التی تعدّ القدر المتیقّن ممّا فتحت عنوة، فقد ثبتت السیرة القطعیّة علی التعامل بها، وهی تعدّ مخصصّة للأدلّة الدالّة علی عدم جواز التصرّف فیها.

ولا یخفی أنّه لا یکفی مجرّد احتمال استناد هذه السیرة إلی فتاوی الفقهاء، لعدم اعتبارها إلاّ إذا ثبت اتّصالها بالأئمّة علیهم السلام أو بأصحابهم وتلقّیها منهم، وهو أمرٌ لانستبعد تحقّقه، وقد شاع أیّام تشرّفنا فی النجف الأشرف أنّه عُثر علی صندوق یتضمّن وثیقة تشیر إلی قیام عمّار ابن یاسر ببیع داره فی الکوفة وعلیها ختم أمیرالمؤمنین علیه السلام (5)، ولکن لا مجال للاعتماد علی مجرّد هذه الوثیقة لأنّها قضیّةٌ فی واقعة.

ج: الحکم علی المعاملات الواقعة علیها بالصحّة من خلال الأمارة والدلیل:

أمّا الامارة: فباعتبار أنّ کلّ ما یتعامل علیها من هذه الأراضی سبقتها یدٌ علیها تعدّ أمارة علی الملکیّة، إلاّ إذا ثبت خلافها، وبالتالی فکلّ دار أو عرصة فی الکوفة أو النجف أو نهاوند کانت علیها یدٌ قبل إجراء المعاملات علیها، وهذه الأیادی أمارة علی الملکیّة.

ص: 175


1- (841) وسائل الشیعة 15/155، ح1.
2- (842) وسائل الشیعة 17/370، ح10.
3- (843) وسائل الشیعة 17/369، ح9.
4- (844) وسائل الشیعة 17/369، ح5.
5- (845) سمعت من العلاّمة الشهید السیّد عزّالدین بحرالعلوم رحمه الله أنّه ممّن شاهد الوثیقة المذکورة، وقد کانت موضوعة فی صندوق عثر علیه حینما أقدم العمّال علی حفرالأساس فی إحدی العرصات الواقعة بحیّ الکندة، القریبة من الجامع الأعظم بالکوفة، وقد جاء فیها أنّ عمّارا باع داره لفلان وشهد بذلک علیّ بن أبی طالب علیه السلام وشمر بن ذی الجوشن وثالث نسیت اسمه، وقد بقیت الوثیقة فترة غیر قلیلة فی النجف تتداولها الأیادی، وشاهدها العدید من أهل العلم ومنهم المحقّق الخوئی قدس سره إلی أن اختفت.

نعم، لا شکّ أنّ الأراضی لم تکن فی تلک الأیّام جمیعها عامرة، بل کانت بعضها میّتة ممّا یدخلها فی ملک الإمام دون المسلمین، وأمّا العامرة فهی تبقی ملکا للمسلمین إلی یوم القیامة، وعلیه فلابدّ من إحراز أنّ المفتوحة کانت عامرة حین فتحها أو میّتة، ومجرّد احتمال کون الأرض عامرة حین الفتح یوجب الشکّ فی العقد، کما أنّ مجرّد احتمال کونها مواتا فی تلک الأزمنة وأنّها بقیت بأیدی الکفّار من أهل الذمّة مقابل الجزیة أو المصالحة علیها مع المسلمین، أو احتمال أن تکون الأرض من قطائع الإمام، أو أذن الإمام بالتصرّف فیها، یقتضی الحکم بصحّة التعامل بها، وصحّة تداول الأیدی المتعاملة علیها.

أمّا الأصل: فباعتبار أنّ البحث یدور حول الأراضی العامرة التی فتحها المسلمون، حیث یشکّ فی دخول الأرض المبتلی بها فیما فتحت عنوة وعدمه، لأنّ الفتح أمرٌ حادثٌ مسبوقٌ بالعدم، وهناک عمومات _ کقوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وغیرها _ تدلّ علی لزوم الوفاء والالتزام بمطلق العقود، عدا العقد الواقع علی الأرض المفتوحة عنوة، وعند الشکّ فی المعاملة الواقعة علی الأرض المشکوکة، فإنّ الشکّ یعود إلی العنوان المخصّص وبالتالی یجری الأصل فیها، ویثبت صحّة الموضوع، ولزوم الوفاء به.

فإن قیل: إنّ الاستصحاب المذکور معارض بمثله، باعتبار أنّ الأصل عدم بقاء الأرض فی ید ملاّکها بالمصالحة علیها أو بدفع الجزیة، وعدم کونها من قطائع الإمام، لأنّها اُمور مستحدثة، وعند الشکّ فیها یجری استصحاب عدمها.

قلنا: من الثابت أنّه لا اعتبار لجریان الاستصحاب إلاّ فیما إذا کان ذا أثر، والاستصحاب المذکور لا أثر له بنفسه، وإنّما الأثر للازمه وهو أیضا لا اعتبار به لأنّه مفتوحة عنوة، وبالتالی یجری الاستصحاب الأوّل دون معارض.

د: عند الشکّ فی عامریّة الأرض المتعامل علیها حین الفتح وعدمها، تجری أصالة عدمها؛ لأنّ العُمْرانَ أمرٌ حادث، ومن خلالها یثبت صحّة جمیع التصرّفات الواقعة

ص: 176

علیها»(1).

حکم الأراضی الصلحیة
اشارة

وقد تسمّی «الأراضی الخراجیة» أیضا، و«هی الأرض التی فتحت من قبل المسلمین من دون أن یسلم أهلها ولا قاوموا الدعوة الإسلامیة بشکل مسلح، بل ظلّوا علی دینهم فی ذمّة الإسلام بعقد الصلح فتصبح الأرض أرض الصلح»(2). ولم یتعرض الشیخ الأعظم من البحث حولها ولکن نبحث عنها فی مقامین:

المقام الأوّل: مقتضی عقد الصلح

هذه الأرض تابعة لبنود عقد الصلح فإن نص فیه علی أنّ الأرض کانت ملکا لهم تبقی فی ملکیتهم، وإن نص فیه علی أنّها ملکا للمسلمین فهی لهم وتصیر کالأراضی المفتوحة عنوة الماضیة آنفا، وإن نص فیه علی أنّها للإمام تدخل فی ملکه وتکون من الأنفال ویجری علیها حکمه، هذه کلّها فی الأراضی التی کانت عامرة فی أیدیهم.

وأمّا الأراضی الموات أو العامرة بالأصالة منها فَتَدْخُلُ فی ملک الإمام علیه السلام کنظائرها وله أن یتصرف فیها بما یری من المصلحة.

«نعم، إذا أدرجها فی عقد الصلح لزم أن یطبّق علیها ما هو مقتضی هذا العقد، ولا یجوز الخروج عن مقرراته ومقتضیاته.

فالنتیجة: إنّ مقتضیات عقد الصلح تختلف باختلاف الموارد والمصالح علی أساس أنّ أمره بید ولی الأمر فله أن یعقد الصلح معهم علی حسب ما یراه من المصلحة للدولة أو الاُمّة وهی بطبیعة الحال تختلف باختلاف المقامات»(3).

المقام الثانی: مقتضی الروایات

أ: مجموعة من الروایات تدلّ علی أنّ أرض الصلح تکون من الأنفال وهی التی اقتضی عقد الصلح ملکیتها للإمام علیه السلام ، لا ما یقتضی عقد الصلح أنّها باقیة فی ملکیتهم أو

ص: 177


1- (846) العقد النضید 4/(485-483) مع تصحیحات.
2- (847) الأراضی /325.
3- (848) الأراضی /326.

ما یقتضی أنّها للمسلمین فتدخل فی حکم الأراضی المفتوحة عنوة، فحینئذ ما یدلّ علیها هذه المجموعة هو قسم خاص من الأراضی الصلحیة وهی ما یدلّ عقد الصلح علی أنّها للإمام علیه السلام .

ومن هذه المجموعة: صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: الأنفال ما لم یوجف علیه بخیل ولا رکاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأیدیهم، وکلّ أرض خربة، وبطون الأودیة، فهو لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وهو للإمام من بعده یضعه حیث یشاء.(1)

وأنت تری بأنّ الإمام علیه السلام جعل عنوان الصلح فی مقابل عنوان الإعطاء الظاهر فی تغایرهما ولعلّ المراد من الإعطاء هو إعطاء الأرض وتسلیمها للإمام تسلیما ابتدائیا من دون أی شرط مسبق، بحیث لم یکن هناک عقد صلح کما فعله یهود فدک بالنسبة إلی أرضهم وإعطائها لرسول اللّه صلی الله علیه و آله . والمراد من الصلح ما مضی من إعطاء الأراضی للإمام علیه السلام فی عقد صلح ودخولها فی ملکیته علیه السلام .

ویمکن أن یقال: باتحاد عنوانی الصلح والإعطاء کما یظهر من الروایتین التّالِیَتَیْنِ.

ومنها: مرسلة حماد الطویلة عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح _ فی حدیث _ قال: وله (أی للإمام علیه السلام ) بعد الخمس الأنفال، والأنفال کل أرض خربة قد باد أهلها وکل أرض لم یوجف علیها بخیل ولا رکاب ولکن صالحوا صلحا وأعطوا بأیدیهم علی غیر قتال، الحدیث.(2)

ظاهر المرسلة إتحاد عنوانی الصلح والإعطاء وأنّهما عطف تفسیر وإن یمکن القول بتغایرهما کما مرّ.

ومنها: موثقة محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه سمعه یقول: إنّ الأنفال ما کان من أرض لم یکن فیها هراقة دم، أو قوم صولحوا وأعطوا بأیدیهم، وما کان من أرض

ص: 178


1- (849) وسائل الشیعة 9/523، ح1، اللباب 1 من أبواب الأنفال.
2- (850) وسائل الشیعة 9/524، ح4.

خربة، أو بطون أودیة، فهذا کلّه من الفیء والأنفال للّه وللرسول، فما کان للّه فهو للرسول یضعه حیث یحبّ.(1)

وظاهرها کماضیها فی الدالة.

ب: ولکن هناک مجموعة أُخری من الروایات تدلّ أنّ الأراضی الصلحیة باقیة علی ملک أصحابها ومن المعلوم أنّ هذه المجموعة أیضا تدلّ علی قسم خاص من الأراضی الصلحیة وهی التی تبقی علی ملکیة أصحابها فی عقد الصلح وعلی بنودها الممضاة من الطرفین.

فمنها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن شراء أرض أهل الذمة، فقال: لا بأس بها فتکون إذا کان ذلک بمنزلتهم تؤدی عنها کما یؤدون... الحدیث.(2)

ومنها: حسنة أبی الربیع الشامی عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لا تشتر من أرض السواد شیئا إلاّ من کانت له ذمة فإنّما هو فیء للمسلمین.(3)

ومنها: حسنة زرارة قال: قال: لا بأس بأن یشتری أرض أهل الذمة إذا عملوها وأحیوها فهی لهم.(4)

معلی بن محمّد البصری حسن أقلاً کما علیه المامقانی وهو یروی عن الحسن بن علی بن زیاد البجلی إمامی ثقة فالسند لا بأس به أو حسن وإمّا الإضمار فلا یضرّ بالروایة مع أنّ مضمِرها زرارة وهو لا یروی من غیر الإمام علیه السلام .

وبالجملة: الظاهر من المجموعة الأخیرة هو شراء رقبة الأرض «وحملها علی شراء الحقّ المتعلّق بها کما کان الأمر فی شراء الأرض المفتوحة عنوة بمکان من الإمکان إلاّ أنّه خلاف الظاهر فیکون بحاجة إلی قرینة»(5).

ص: 179


1- (851) وسائل الشیعة 9/526، ح10.
2- (852) وسائل الشیعة 17/370، ح8، الباب 21 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- (853) وسائل الشیعة 17/369، ح5.
4- (854) وسائل الشیعة 17/368، ح2.
5- (855) الأراضی /328.

والحاصل: «أنّ أرض الصلح تختلف باختلاف ما تم علیه عقد الصلح بشأنها، ولیس لها ضابط کلی فی جمیع الموارد»(1).

هذا مجمل البحث حول الأراضی وللتفصیل راجع کتاب «الأراضی» للفقیه البحاثة آیة اللّه الشیخ محمّد إسحاق الفیاض _ دام ظله _ فإنّه مشحون بالتحقیقات والحمدللّه العالم بأحکامه.

ص: 180


1- (856) الأراضی /328.

3_ الطِلْقِیَةُ (التمامیة)

اشارة

ذهب جمع من أصحابنا إلی اشتراط الطلقیة فی شروط العوضین:

منهم: المحقّق قال: «الثانی: أن یکون طلقا فلا یصح بیع الوقف...»(1).

ومنهم: العلاّمة قال: «ویشترط فی الملک التمامیة فلا یصح بیع الوقف...»(2). ونحوه فی الإرشاد(3).

ومنهم: الشهیدان فی اللمعة وشرحها(4) والمحقّقون الکرکی فی جامع المقاصد(5) وابن القطان فی معالم الدین(6) والفیض الکاشانی فی المفاتیح(7) والسبزواری فی الکفایة(8) والمحدث البحرانی فی الحدائق(9) والفاضل النراقی فی المستند(10).

ولکن قال صاحب الجواهر: «الثانی: أن یکون) الملک (طلقا) أی تامّا، کما أبدله به فی القواعد(11).

إلاّ أنّه لم نجد شیئا منهما فی شیء ممّا وصل إلینا من النصوص، واستفادته ممّا

ص: 181


1- (857) الشرائع 2/11.
2- (858) قواعد الأحکام 2/23.
3- (859) إرشاد الأذهان 1/361.
4- (860) الروضة البهیة 3/253.
5- (861) جامع المقاصد 4/97.
6- (862) معالم الدین 1/342.
7- (863) مفاتیح الشرائع 3/51، مفتاح 899.
8- (864) الکفایة 1/454.
9- (865) الحدائق 18/438.
10- (866) مستند الشیعة 14/307.
11- (867) قواعد الأحکام: المتأجر / فی العوضین 2/23.

ورد فی الأماکن المخصوصة _ کالوقف(1) واُمّ الولد(2) ونحوهما _ علی وجهٍ یتعدّی منه إلی غیره لا یخلو من إشکال؛ ضرورة کونه:

إن کان المراد به: عدم تعلّق حقّ للغیر به، فهو منقوض بما ثبت جواز بیعه ممّا هو کذلک؛ من بیع العبد الجانی، والمبیع فی زمن الخیار علی أحد الوجوه، وترکة المدیون کذلک أیضا... وغیرها.

وإن أُرید به: ما جاز لمالکه جمیع أنواع التصرّفات به، فهو أوضح من الأوّل فسادا؛ فإنّ منذور عدم التصرّف الخاصّ لا ینافی جواز البیع قطعا.

وإن جعل مرجعه: إلی کلّ ما ثبت عدم جواز بیعه ممّا تعلّق به حقّ الغیر، لم یوافق ذکره بعنوان الشرطیّة العامّة، وکذا إن اُرید به عدم تزلزل الملک؛ فإنّ من المعلوم جواز بیع الموهوب ونحوه.

ومثل ذلک قد وقع لهم فی شرائط الزکاة، وذکرنا فیه هناک نحوا من ذلک.

فلاحظ وتأمّل، فإنّ المقام متقارب خصوصا بعد ذکرهم بعد ذلک اشتراط القدرة علی التسلیم _ نحو ذکرهم هناک اشتراط التمکّن من التصرّف _ مع اشتراط التمام، وإن کان هما غیر متلازمین؛ فإنّ المغصوب والمفقود والآبق ونحوها مملوکة ملکا تامّا إلاّ أنّه غیر متمکّن من التصرّف فیها ولا مقدورة علی تسلیمها.

والأمر فی هذا سهل بعد معلومیّة کون مقتضی العمومات جواز البیع لکلّ عین مملوکة، إلاّ ما خرج بالدلیل ممّا تعلّق به حقّ للغیر علی وجهٍ ینافیه البیع مثلاً.

وعلی الفقیه انتقاد الحقوق المتعلّقة بالنسبة إلی المنافاة المزبورة وعدمها، ولا دلیل علی أنّ مطلق تعلّق حقّ الغیر منافٍ، بل لعلّ الدلیل علی خلافه»(3).

وتبعه الشیخ الأعظم وقال: «والمراد ب_ «الطِلق» تمام السلطنة علی الملک بحیث

ص: 182


1- (868) وسائل الشیعة: أنظر 19/182، باب 6 من أبواب کتاب الوقوف والصدقات.
2- (869) وسائل الشیعة: أنظر 18/278، باب 24 من أبواب بیع الحیوان؛ و 23/175، باب 6 من أبواب الاستیلاد.
3- (870) الجواهر 23/(575-573) [22/356 و 357].

یکون للمالک أن یفعل بملکه ما شاء، ویکون مطلق العنان فی ذلک.

لکن هذا المعنی فی الحقیقة راجع إلی کون الملک ممّا یستقلّ المالک بنقله ویکون نقله ماضیا فیه؛ لعدم تعلّق حقٍّ به مانعٍ عن نقله بدون إذن الحقّ، فمرجعه إلی: مِنْ شرط البیع أن یکون متعلَّقه ممّا یَصِحُّ للمالک بیعه مستقلاً، وهذا ممّا لا محصلّ له.

فالظاهر أنّ هذا العنوان لیس فی نفسه شرطا لیتفرّع علیه عدم جواز بیع الوقف والمرهون واُمّ الولد، بل الشرط فی الحقیقة انتفاء کلٍّ من تلک الحقوق الخاصّة وغیرها ممّا ثبت منعه عن تصرّف المالک _ کالنذر والخیار ونحوهما _ وهذا العنوان منتزع من انتفاء تلک الحقوق.

فمعنی «الطِلق»: أن یکون المالک مطلق العنان فی نقله غیر محبوس علیه لأحد الحقوق التی ثبت منعها للمالک عن التصرّف فی ملکه، فالتعبیر بهذا المفهوم المنتزع تمهیدٌ لذکر الحقوق المانعة عن التصرّف، لا تأسیسٌ لشرط لیکون ما بعده فروعا، بل الأمر فی الفرعیّة والأصالة بالعکس.

ثمّ إنّ أکثر من تعرّض لهذا الشرط لم یذکر من الحقوق إلاّ الثلاثة المذکورة، ثمّ عنونوا حقّ الجانی(1) واختلفوا فی حکم بیعه.

وظاهرٌ أنّ الحقوق المانعة أکثر من هذه الثلاثة أو الأربعة، وقد أنهاها بعض من عاصرناه إلی أزید من عشرین، فذکر _ بعد الأربعة المذکورة فی عبارة الأکثر _ : [5] النذرَ المتعلّق بالعین قبل البیع، [6] والخیارَ المتعلّق به، [7] والارتدادَ، [8] والحلفَ علی عدم بیعه، [9] وتعیینَ الهدی للذبح، [10] واشتراطَ عتق العبد فی عقدٍ لازم، [11[ والکتابةَ المشروطة أو المطلقة بالنسبة إلی ما لم یتحرّر منه؛ حیث إنّ المولی ممنوع عن التصرّف بإخراجه عن ملکه قبل الأداء، [12] والتدبیرَ المعلَّق علی موت غیر المولی، بناءً علی جواز ذلک، فإذا مات المولی ولم یمت من عُلِّق علیه العتق کان مملوکا للورثة ممنوعا من التصرّف فیه، [13] وتعلّقَ حقّ الموصی له بالموصی به بعد موت الموصی

ص: 183


1- (871) أی الحقّ المتعلّق بالعبد الجانی، وقد اُضیف الحقّ إلی من علیه الحقّ.

وقبل قبوله بناءً علی منع الوارث من التصرّف قبله، [14] وتعلّقَ حقّ الشفعة بالمال؛ فإنّه مانع من لزوم التصرّفات الواقعة من المالک، فللشفیع بعد الأخذ بالشفعة إبطالها، [15] وتغذیةَ الولد المملوک بنطفة سیّده فیما إذا اشتری أمةً حُبلی فوطأها فأتت بالولد، بناءً علی عدم(1) جواز بیعها. [16] وکونَه مملوکا وُلد من حرٍّ شریکٍ فی اُمّه حال الوط ء، فإنّه مملوک له، لکن لیس له التصرّف فیه إلاّ بتقویمه وأخذ قیمته. [17] وتعارضَ السبب المملِّک والمزیل للملک، کما لو قَهَرَ حربیٌّ أباه، [18] والغنیمةَ قبل القسمة، بناءً علی حصول الملک بمجرّد الاستیلاء دون القسمة؛ لاستحالة بقاء الملک بلا مالک. وغیرَ ذلک ممّا سیقف علیه المتتبّع»(2).

أقول: وقد بحث الفاضل المامقانی رحمه الله عن هذه الفروع بالتفصیل راجع کتابه غایة الآمال(3).

وهاهنا جهات من البحث:

الأولی: ما معنی الطلقیة والتمامیة؟

لم یظهر معنیٌ واضحٌ للطلقیة والتمامیة من کلمات القوم فقد عُرفت بتعاریف لا یخلو من مناقشة:

منها: عدم تعلّق حق الغیر بالملک.

ویرد علیه: جواز المعاملة علی المبیع فی زمن الخیار وترکة المدیون قبل إخراج الدین وبیع العبد الجانی ونحوه.

ومنها: الطلقیة والتمامیة هی ما جاز لمالک الملک جمیع أنواع التصرفات فیه.

ویرد علیه: المنذور بعدم التصرف الخاص لا ینافی جواز البیع قطعا.

ومنها: الطلقیة هی کلُّ ما ثبت عدم جواز بیعه لتعلّق حق الغیر به.

ص: 184


1- (872) کلمة «عدم» ورد فی نسخة، ولم ترد فی سائر النسخ، ولم یثبتها الفاضل المامقانی فی شرحه غایة الآمال: اُنظر غایة الآمال /430.
2- (873) المکاسب 4/(32-29).
3- (874) غایة الآمال 7/(59-29).

ویرد علیه: ما ثبت عدم جواز بیعه لتعلّق حق الغیر به صحیح فی الموارد الخاصة التی ثبتت وأمّا استفادة الشرطیة العامة من هذه الموارد الخاصة مشکلة جدّا.

ومنها: الطلقیة هی عدم تزلزل الملک.

ویرد علیه: بعد غمض العین عن وجود التزلزل فی الملک فهو منقوض بجواز بیع الموهوب والمهریة قبل الدخول ونحوهما.(1)

ومنها: الطلقیة هی تمامیة السلطنة علی الملک بحیث یکون للمالک أن یفعل بملکه ما شاء ویکون مطلق العنان فی ذلک.

ویرد علیه: مآل هذا الشرط إلی اشتراط صحة البیع بأن یکون متعلِّقه ممّا یصح للمالک بیعه مستقلاً فحینئذ یشترط فی جواز البیع جواز بیع المبیع.

بعبارة اُخری: «إنّ الطلقیة تعنی تمامیّة سلطنة المتعاقدین علی التعامل والبیع، وهی لیس غیر الصحّة وجواز البیع ونفوذه، وبالتالی فلو اعتبرنا الطلقیة من شروط السلطنة، أصبح جواز البیع مشروطا بجواز البیع، وهو محالٌ، لما ثبت من لزوم تغایر الشرط والمشروط»(2). هذا أوّلاً.

وثانیا: «الظاهر أنّ هذا العنوان لیس فی نفسه شرطا لیتفرّع علیه عدم جواز بیع الوقف والمرهون واُمّ الولد، بل الشرط فی الحقیقة انتفاء کلٍّ من تلک الحقوق الخاصّة وغیرها ممّا ثبت منعه عن تصرّف المالک _ کالنذر والخیار ونحوهما _ وهذا العنوان منتزع من انتفاء تلک الحقوق»(3).

ومنها: الطلقیة هی أن یکون المالک مطلق العنان فی نقله غیر محبوس علیه لأحد الحقوق التی ثبت منعها للمالک عن التصرف فی ملکه.

ویرد علیه: لو کانت الطلقیة بهذا المعنی أی «ینبغی أن یکون المبیوع طلقا بعیدا عن تعلّق حقّ من الحقوق المذکورة به لیصحّ التعامل علیه، وفی الحقیقة یعدّ الاُمور

ص: 185


1- (875) التّعارِیْفُ الأربعة والایرادات مذکوراتٌ فی کلام صاحب الجواهر کما مرّت عبارته.
2- (876) العقد النضید 4/486.
3- (877) المکاسب 4/30.

المذکورة من موانع صحّة البیع، أمّا الطلقیة فهی تعدّ من الاُمور الانتزاعیّة المنتزعة عند انتفاء الموانع المذکورة، فما یعدّ شرطا لصحّة العقد إنّما هو عدم الوقفیّة وعدم الرهنیّة وغیرهما، ولا تردید أنّ تحقّق کلّ ممنوع متوقّف علی انتفاء مانعه، فالرطوبة مانعٌ والاحتراق هو الممنوع المشروط تحقّقه بعدم المانع، وکذلک صحّة البیع ونفوذه مشروطان بعدم هذه الموانع، ومن المعلوم أنّ عدم المانع شرطٌ عدمی والأصل الأوّلی انتفاء هذه الموانع إلاّ ما ثبت بالدلیل، ولذلک فلا یعدّ الطلقیّة شرطا یتوقّف صحّت العقد علیها، وإنّما هی مفهوم انتزاعی، وتمام المناط یدور مدار منشأ الانتزاع الذی هو عدم هذه الاُمور، فثبت من خلال ما ذکرناه أنّ الشرط عدم هذه الاُمور دون الطلقیة»(1).(2)

ومنها: الطلقیة هی مرسلیة الملک بالنسبة إلی مالکه.

قال المحقّق النائینی فی توضیح هذا التعریف و ردّ مقالة الشیخ الأعظم: «بأن یکون له تمام السلطنة علیه فیما یشاء من بیعه واجارته وجمیع تقلباته، ولیس مرجعه إلی جواز البیع حتّی یرد بأنه لا معنی فی اشتراط جواز البیع بان یکون المبیع جایز البیع، لصیرورته من قبیل جعل الشیء مشروطا بنفسه کما استشکل به المصنف [الشیخ الأعظم] قدس سره بل مرجعه إلی اشتراط کون الملک مطلق العنان للمالک وکانت سلطنته علیه تاما فی مقابل السلطنة الناقصة الناشئة نقصانها عن تعلق حقّ الغیر بالملک، فکما أنّ مرجع أصل السلطنة لیس إلی الحکم التکلیفی أعنی جواز التصرف فی الملک أو الوضعی أعنی مضی تصرفه فیه ونفوذه بل هی ممّا یترتب علیها الحکم التکلیفی والوضعی، کذلک لیس مرجع تمامیة السلطنة فی مقابل نقصانها إلی الحکم التکلیفی أو الوضعی. بل الحکمان یترتبان علیها فمعنی الطلق هو تمامیة السلطنة الناشیة عن کون الملکیة مرسلة عن حق الغیر ومطلقة العنان بالنسبة إلی المالک ومن المعلوم أنّ هذا المعنی أساس جواز التصرف فی الملک ونفوذه من المالک کسایر شرائط المتعاقدین والعوضین.

ص: 186


1- (878) العقد النضید 4/487.
2- (879) التعریفان الأخیران والمناقشة علیهما للشیخ الأعظم قدس سره کما مرّت عبارته.

ثمّ مَنْشَأُ اعتبار الطلقیة فی الملک وان کان هو انتفاء تعلّق حقّ الغیر به من حق البطون المتأخرة من الموقوف علیه فی الوقف وحق المرتهن فی الرهن والاستیلاد فی أُمّ الولد وحقّ المجنی علیه فی العبد الجانی، لکن ذلک أی اعتبارها عن انتفاء تعلق الحقوق المذکورة انما هو فی مرحلة الإثبات وأمّا فی عالم الثبوت فالأمر بالعکس بمعنی أنّ الطلقیة منشاء لانتفاء الحقوق المذکورة فانتفاء تعلق الحقوق بالملک مسبب عن طلقیته واقعا وفی عالم الثبوت، لکنه سبب لاثبات طلقیته فی عالم الاثبات. فلا یرد ما اورده المصنف [الشیخ الأعظم] قدس سره بقوله: «فالظاهر ان هذا العنوان لیس فی نفسه شرطا (الخ)»(1) لما عرفت من أنّ الشرط فی مرحلة الثبوت هو الطلق ویترتب علیه انتفاء الحقوق فالطلق هو الأصل وانتفاء الحقوق المترتب علیه هو الفرع ولا یکون الأمر فی الفرعیة والأصالة بالعکس ثبوتا وإن کان کذلک فی مرحلة الإثبات.

ثمّ ان انتفاء الطلقیة عند تعلق احدی الحقوق إمّا یکون لاجل قصور الملک فی اقتضاء السلطنة التامة، وذلک کما فی الوقف الخاص بناءً علی أن یکون ملکا للموقوف علیه فان ملکیته قاصرة عن اقتضاء السلطنة التامة وإمّا لأجل وجود المانع، وذلک کما فی مثل العین المرهونة، والأمة المستولدة والعبد الجانی فإنّ مقتضی الملکیة فیها تام بالنسبة إلی السلطنة التامة، لکن تعلق حقّ الغیر یمنع عن اقتضائه»(2).

«ویرد علیه: أوّلاً: بأنّه لا مجال لمعرفة الحکم فی مقام الثبوت إلاّ عن طریق ملاحظة المدلول فی مقام الإثبات، إذ لا سبیل لمعرفة الواقع إلاّ من خلال ملاحظة ظهور الأدلّة، ولذلک فما صرّح به من أنّ «انتفاء تعلّق الحقوق بالمِلک مسبّبٌ عن طلقیّته واقعا وفی عالم الثبوت، لکنّه سببٌ لإثبات طلقیّته فی عالم الإثبات»، ممنوعٌ، بل الأمر بالعکس، فإنّ مقام الثبوت لیس له کاشف إلاّ من خلال مقام الإثبات، ولذلک فما التزم به الشیخ من أنّ مقتضی ملاحظة الأدلّة أنّ المانع عن صحّة البیع هو الوقف والرهن، وأمّا

ص: 187


1- (880) المکاسب 4/30.
2- (881) المکاسب والبیع 2/373 و 374.

الطلقیّة فهی منتزعة ومتفرّعة عنهما هو الصحیح.

وثانیا: لا یعقل أن یکون عدم الوقفیّة وعدم الرهنیّة متفرّعین علی تمامیّة السلطنة، لأنّ المایز بین الفرع والأصل هو تخلّل الفاء بینهما، فیکون ما قبل الفاء أصلاً وما بعده فرعا، وما التزم به الشیخ یتطابق مع هذه القاعدة، حیث یعتبر عدم الموانع المذکورة أصلاً وتمامیّة السلطنة فرعا، أی (هذا المال لیس بوقف ولا رهن فسلطنته علیه تامّة)، ولذلک فإنّ الأصل عدمهما، وما التزم به المحقّق النائینی من أنّ الأصل هی الطلقیّة ویتفرّع عنها عدم الوقف والرهن ممنوعٌ»(1).

الثانیة: فوارق القولین

ثمّ الْفارِقُ بین القولین _ أی قول الفاضلین ومن تبعهما، وأصحاب المقابس والجواهر والمکاسب _ أُمورٌ:

«الأوّل: أنّ الأصل علی رأی المحقّق والعلاّمة هی الطلقیّة، والفرع عدم الوقف والرهن والاستیلاء، أمّا علی رأی الشیخ [الأعظم] _ وکذلک صاحب المقابس حیث جعل الموانع عشرین _ فإنّ الأصل عدم هذه الموانع، أمّا الطلقیة فهی عنوانٌ منتزع من هذه الموانع.

الثانی: أنّ رأی الفاضلین یستلزم لازما لایمکن تعقّله، وهو توقّف صحّة العقد بالسلطنة علی البیع التی هی فی حدّ نفسها عبارة عن الصحّة، فتکون السلطنة التی هی الصحّة مشروطة بالصحّة، وهو محالٌ لاستلزامه اتّحاد الشرط والمشروط.

الثالث: بناءً علی رأی الفاضلین فإنّ الشرط یصبح أمرا وجودیّا وهو الطلقیة، خلافا لرأی الشیخ [الأعظم] حیث أصبح الشرط أمرا عدمیّا وهو عدم الوقفیّة والرهنیّة وغیرهما»(2).

ص: 188


1- (882) العقد النضید 4/492.
2- (883) العقد النضید 4/487.
الثالثة: اعتراض المحقّق الخراسانی علی مقالة الشیخ الأعظم ودفاع المحقّق الإصفهانی عن الشیخ الأعظم

قال المحقّق الخراسانی: «المانع هو الجامع بین الحقوق، فانّه علی شتاتها، وتفرقها، یکون مجتمعة فی المنع عن تأثیر البیع، فلابدّ ان یکون هذا بما یجمعها یکون مشترکة فیه، ویکون الشرط هو فقد ذاک الجامع الّذی عبّر عنه بکونه طلقا، أی فاقدا لذاک المانع، فلیس الأمر فی الاصالة والفرعة فی هذا الشرط، وفروعه علی العکس»(1).

مراده قدس سره : إنّ الأصل عند الخراسانی رحمه الله فی المانع «هو الجامع بین هذه الاُمور، والشرط عبارة عن انتفاء هذا الجامع، فإذا أصبح الشرط انتفاء الجامع دون الخصوصیّات، من الطبیعی أن یصبح الجامع أصلاً والأعدام المذکورة _ عدم الرهنیّة وعدم الوقفیّة وعدم الاستیلاء _ فروعا، وبذلک یبطل ما التزم به الشیخ من أنّ الأصل هو انتفاء الاُمور الخاصّة، وأنّ الجامع متفرّع علیه، ویتبیّن صحّة ما التزم به الفاضلان.

ثمَّ إنّ ما التزم به المحقّق الآخوند مبنیٌّ علی قاعدة أسّسها واعتمد علیها فی المقام وغیره، ومفادها أنّ الاُمور المتنوّعة فی الوجود والمشترکة فی الأثر لابدّ وأن ینتهی بمقتضی [قاعدة] «عدم إمکان صدور الواحد عن الکثیر» إلی جامع واحد یکون علّةً لحدوث الأثر الواحد، وبناءً علیها فإنّ الوقف فی الرهن والاستیلاء اُمور متنوّعة، ولکنّها متّفقة فی الأثر، وهو المنع عن صحّة البیع ونفوذه، وبما أنّه لا یعقل أن ینشأ الأثر الواحد من الخصوصیّات المتنوّعة، فلا سبیل إلاّ أن یکون المؤثّر هو الجامع بین هذه الاُمور، فیصبح الجامع أصلاً والخصوصیّات المذکورة فروعا له»(2).

أقول: یمکن أن تعد مقالة المحقّق النائینی تقریرا وتوضیحا وتبیینا لبیان المحقّق الخراسانی _ قدس سرهما _ .

واعترض المحقّق الإصفهانی علی استاذه الخراسانی وقال: «لا دلیل نقلاً

ص: 189


1- (884) حاشیة المکاسب /106 و 107.
2- (885) العقد النضید 4/488.

ولاعقلاً علی إندراج تلک الخصوصیات تحت جامع واقعی، أمّا نقلاً فواضح؛ إذْ الثابت بالأدلة اللفظیة نفس عدم جواز بیع الوقف، وعدم جواز تصرف الراهن بدون إذن المرتهن.

وأمّا عقلاً فلأَنَّ ما هو المبرهن علیه من اقتضاء وحدة الأثر لوحدة المؤثر، إنّما هو فی المقتضی ومقتضاه، لا فی شرائط التأثیر وجودیة کانت أو عدمیة، فإنّ الأثر یترشح من ذات الموثر فقط، لا من شرائطه، فوحدته یقتضی وحدة المترشح منه.

بخلاف الشرائط التی هی دخیلة فی فعلیة الأثر عن مؤثره، فإنّه یمکن أنْ یکون هناک جهات مصححة لفاعلیة الفاعل أو لقابلیة القابل، فیتعدد بلحاظها الشرائط، ولذا لم یذهب وهم أحد إلی رجوع جمیع شرائط الصلاة من الطهارة والاستقبال والتستر ونحوها إلی شرط واحد، وکذا فی غیرها، ومنه تعرف النظر فیما أفاده شیخنا الاستاذ فی تعلیقته الأنیقة هنا فراجع»(1).

قال الاستاذ المحقّق _ مدظله _ : «إنّ مناقشة الإصفهانی مرکّبة من النقض والحلّ:

أمّا النقض: إنّ الالتزام باشتراط الجامع منقوض بباب الصلاة، إذ لا شکّ أنّ الصلاة _ وغیرها من المرکّبات العبادیّة کالحجّ والصوم _ متقوّمة بشروط عدیدة کالطهارة والاستقبال والتستّر ونحوها، وإدراج هذه الاُمور تحت عنوان واحد هو الجامع بین هذه الشروط المعتبرة ممّا لا یمکن قبوله.

أمّا الحلّ: فإنّه لا شکّ فی لزوم التفریق بین المقتضی والشرط والمانع.

أمّا المقتضی: فإنّ نسبته إلی المقتضی تقتضی جریان القاعدة المذکورة، وهی «اقتضاء وحدة الأثر لوحدة المؤثّر» لأنّ المقتضی هو الأثر والمقتضی هو المؤثّر ولا یعقل وحدة الأثر وتعدّد المؤثّر.

أمّا الشرط: فإنّ القاعدة المذکورة غیر جاریة فیه لأنّ أثر المشروط أثرٌ للمقتضی دون الشرط.

أمّا ثبوتا: فإنّ الشروط علی قسمین: قسمٌ منها مکمّلٌ لفاعلیّة الفاعل، وقسم آخر

ص: 190


1- (886) حاشیة المکاسب 3/70 و 71.

منها متمّم لقابلیّة القابل، فالجفاف یعدّ متمّما لقابلیّة الشیء للإحتراق، والمماسّة تتمّم وتکمّل فاعلیّته له، والفائدة المترتّبة علی وجود الشروط کونها مؤثّرة فی ارتقاء أثر المقتضی من القوّة إلی الفعلیّة.

أمّا إثباتا: فإنّه لا یخفی لزوم متابعة الدلیل فی الفتوی، فکما فی الصلاة حیث قامت الأدلّة علی اشتراطها باُمور من الطهارة والاستقبال والتستّر وغیرها، کذلک فی المقام حیث أفادت الأدلّة بمانعیّة الوقف والرهن وغیرهما، فالموانع مختلفة بحسب الأدلّة، ولا مانع عقلاً بحسب مقام الإثبات لاعتبار جمیعها والحکم بمقتضاها، وبالتالی فمختار الشیخ هو الصحیح دون المحقّق الآخوند.

[و] کلام المحقّق الإصفهانی ودفاعه عن الشیخ تامّ حلاًّ ونقضا، وفی مقامی الثبوت والإثبات»(1).

الرابعة: الإشکالات الواردة علی الشیخ الأعظم

لم تتم مقالة الشیخ الأعظم حول تفسیر الطلقیة بأنّها «تمام السلطنة علی الملک»(2). واُخری ب_ «أن یکون المالک مطلق العنان فی نقله غیر محبوس علیه لأحد الحقوق التی ثبت منعها للمالک عن التصرف فی ملکه»(3).

وترد علیها عدّة إشکالات:

منها: «فسّر الشیخ الطلقیّة بأنّها «تمام السلطنة علی المِلک»، ولا علاقة لهذا التفسیر بما نحن فیه من البحث عن شروط العوضین، فإنّ الفاضلان بعد ما فرغا عن شروط المتبایعین وأوصافهما، دخلا فی البحث عن شروط العوضین، وجعلا من شروطهما الطلقیّة، ومن ثَمّ فإنّ تفسیر الطلقیّة بتمامیّة السلطنة یقلب الأمر من البحث عن شرطیّة العوضین إلی البحث عن أوصاف المتبایعین، وهذا خلط ممنوعٌ بین أوصاف المالک والمملوک وشروطهما.

ص: 191


1- (887) العقد النضید 4/489 و 490.
2- (888) المکاسب 4/29.
3- (889) المکاسب 4/30.

ومنها: اعتباره الطلقیّة أمرا منتزعا من انتفاء هذه الاُمور أیضا ممنوع، لأنّه فسّر الطلقیّة بتمامیّة السلطنة التی هی أمرٌ وجودی، وانتفاء الاُمور المذکورة أمرٌ عدمیٌ، ویستحیل انتزاع الوجودی من العدمی، لما ثبت من ضرورة اتّحاد الأمر الانتزاعی مع منشأ انتزاعه، ولذلک یستحیل اتّحاد الأمر الوجودی مع العدم والعدمی.

ومنها: نسب الشیخ الطلقیّة إلی المالکین، واعتبرها وصفا لهما، وفسّرها بسلطنتهما علی مطلق التصرّفات، وقد ثبت أنّها تحصل من انتفاء القیود المذکورة، ممّا یستلزم أن یکون وصف المالک منتزعا من وصف العین، وهو ممنوع.

ومنها: جمع الشیخ بین أمرین لا یمکن الجمع بینهما، حیث اعتبر الوقف والرهن من الموانع، ثمّ قال بشرطیّة عدم هذه الأُمور، وهو ممنوع.

[لأنّ] اعتباره عدم هذه الموانع شرطا ممنوعٌ برهانا، لما ثبت من أنّه لا یعقل أن یصبح عدم المانع شرطا، لأنّ العدم لا یستطیع أن یکون مکمّلاً لفاعلیّة الفاعل أو متّمما لقابلیّة القابل _ کما هو معنی الشرط عند الاُصولیّین _ فلیس لهذا العدم أثرٌ وجودیّ، ولذلک یستحیل أن یتحقّق من خلاله الشرطیّة، نعم یصحّ اعتبار هذه الموانع من جهة مزاحمة وجودها مع مقتضی الشیء المطلوب، ولکنّه لا یجعل عدمها شرطا.

ومنها: الثابت أنّ الأحکام الشرعیّة وما یترتّب علیها من الشرطیّة والمانعیّة اُمور اعتباریّة، یتوقّف علی اعتبار الشارع لهما بالخصوص، کقوله: «لا صلاة إلاّ بطهور»، وقوله: «لا تصلِّ فیما لا یؤکل لحمه» وغیرهما، والمستفاد من ظاهر الأدلّة الواردة المنع عن بیع الوقف والتصرّف فی العین المرهونة، وأنّ المعتبر مانعیّتهما، وبالتالی لا یصحّ اعتبار عدمهما، حیث یعدّ اعتبار شرطیّة عدمهما لغوا.

ولو سلّمنا إمکان اعتبار الشارع عدمهما شرطا مسامحةً، فإنّه لا اعتبار به ویعدّ باطلاً وفاقدا للأثر، ولهذا السبب وغیره نری أنّ جمعه رحمه الله بین شرطیّة انتفاء هذه الاُمور ومانعیّتها الشرعیّة مستلزمٌ للغویّة الجعل»(1).

ص: 192


1- (890) العقد النضید 4/(494-492).
الخامسة: القول المختار فی المقام وعدد مسائل هذه الشرطیة
اشارة

اثبات الطلقیة بعنوان الشرطیة العامة فی شرائط العوضین مشکل جدّا فلا یتم مقالة الفاضلان ومن تبعهما.

نعم هاهنا حقوق تعلّقت بالملک تمنع من بیعه ولکن استفادة الطلقیة علی نحو الشرطیة العامة من هذه الحقوق أیضا «لا یخلو من إشکال»(1) کما یراه صاحب الجواهر.

والمختار: ثبوت هذه الحقوق المانعة عن البیع بالملک فلابد من ملاحظة هذه الحقوق فردا فردا وإثباتها صغرویا ولا تنتج منها کبری الطلقیة ولذا قال صاحب الجواهر: «علی الفقیه انتقاد الحقوق المتعلّقة بالنسبة إلی المنافاة المزبورة وعدمها ولا دلیل علی أنّ مطلق تعلّق حق الغیر منافٍ بل لعلّ الدلیل علی خلافه»(2).

ثمّ أکثر من تعرّض لهذه الحقوق بحثوا عن ثلاث مسائل «ثمّ عنونوا حق الجانی واختلفوا فی حکم بیعه» کما قاله الشیخ الأعظم.(3) ولکن الشیخ أسداللّه التستری قدس سره أنهاها إلی أزید من عشرین مسألة کما مرت بعضها من الشیخ الأعظم.(4)

قال المحقّق النائینی: «قد عرفت ان أکثر المتعرضین لهذا الشرط فرعوا علیه عدم جواز بیع الوقف واُم الولد والعین المرهونة، وزاد بعض فی التفریع عدم جواز بیع العبد الجانی. واورد علیهم فی المقابس ببطلان حصر التفریع فی الثلثة أو الأربعة بل ینبغی التعمیم إلی مطلق ما خرج عن تحت تمامیة سلطنة المالک بواسطة تعلق حقّ به ثمّ أنهاها إلی تمام العشرین، وذلک مثل النذر المتعلق بالعین قبل البیع والخیار المتعلق بها إلی آخر ما نقله المصنف [الشیخ الأعظم(5)] عنه _ قدس سرهما _ فی الکتاب.

ولکن التحقیق هو الاکتفاء بالموارد الأربعة لأنّ ما عدّه قدس سره من الموارد إمّا یکون

ص: 193


1- (891) الجواهر 23/573 (22/356).
2- (892) الجواهر 23/574 (22/357).
3- (893) المکاسب 4/30.
4- (894) المکاسب 4/31.
5- (895) المکاسب 4/31.

من المسائل الخلافیة کحق الخیار وبعض آخر مما ذکره وإمّا یکون ممّا ذهب المشهور فیه إلی عدم مانعیته عن البیع.

وإمّا یکون مرددا بین أن یکون من قبیل حقّ الرهانة أو من قبیل حقّ الجنایة والفرق بینهما علی ما سیأتی هو کون حقّ الرهانة علقة خاصة متعلقة من المرتهن إلی العین المرهونة الموجب لکونها مخرجا لدینه، ویلزمه أن یکون فی ظرف قابلیتها للمخرجیة والنقل والانتقال وحقّ الجنایة حقّ یتعلق من المجنی علیه علی رقبة الجانی الموجب لاسترقاقه أینما وجده ولو بعد خروجه عن ملک المالک ویترتب علیه جواز استرقاق الجانی علی أیِّ صفة کان الجانی علیها.

وعلی هذا فاُمّهات الفروع المترتبة علی هذا الشرط هو الأربعة المذکورة فی کلام الأکثر فیجب أن یعقد لکلِّ منها مسئلة فهنا أربع مسائل»(1).

أقول: وأنت تری کون المسألة من المسائل الخلافیّة لا یستلزم خروجها عن دائرة البحث، بل الأمر بالعکس، وأنّ الاختلاف یستدعی البحث والوصول إلی حقیقة الأمر المختلف فیه، والشاهد علی ذلک أنّ الأصحاب قد اختلفوا فی حکم العین المرهونة، وبرغم ذلک فقد بحث عنها الشیخ فی المقام.

والحکم فی المورد الثانی والثالث أیضا کذلک، فإنّ مخالفة التستری مع بعض ما ذهب المشهور إلی عدم مانعیّته، أو التردید فی أنّه فی قبیل حقّ الرهانة أو حقّ الجنایة، لا یستلزم إخراجها عن دائرة البحث.

نعم، الأربعة المذکورات تعدّ من أهمّ الموارد، إلاّ أنّ أهمّیتها لا تنافی ضرورة البحث عن باقی الموارد، لکن نترک البحث عنها تبعا للمشهور وفرارا عن التطویل، وقد تعرّض الشیخ لها من خلال أربع مسائل»(2). ونحن نتبع أثره فی ثلاث منها دون العبد الجانی، وإلیک سردها:

ص: 194


1- (896) المکاسب والبیع 2/375.
2- (897) العقد النضید 4/495.
المسألة الاولی: عدم جواز بیع الوقف
تمهیدٍ: ما هی حقیقة الوقف؟
اشارة

ما هی حقیقة الوقف وهل هی بحیث یوجب المنع عن بیعه؟ وهل المانعیة ذاتیّة مع البیع أم أنّ منعه یکون مستندا إلی فقد الشرط أو وجود المانع؟

القائلون بذاتیة مانعیة الوقف مع البیع وهذه هی الدلیل الأوّل لبطلان بیع الوقف
اشارة

اختلفوا فی جهة المانعیة ومرجع الخلاف یرجع إلی الاختلاف فی حقیقة الوقف، وهاهنا قولان:

القول الأوّل: الوقف هو الحبس المترادف مع الممنوعیة عن التصرفات

القول الأوّل: الوقف هو الحبس المترادف مع الممنوعیة عن التصرفات کما نُسب(1) إلی ظاهر الجواهر(2) تبعا لأستاذه کاشف الغطاء فی شرح القواعد(3) وصهره الشیخ أسداللّه التستری صاحب المقابس(4) ونجله الشیخ حسن صاحب أنوار الفقاهة(5).

القول الثانی: الوقف عبارة عن قصر الملک علی شخص أو جهة خاصة وهو

القول الثانی: الوقف عبارة عن قصر الملک علی شخص أو جهة خاصة وهو

ص: 195


1- (898) کما فی المکاسب 4/35 ونسبه إلی «بعض من عاصرناه» وحاشیة المکاسب 3/73 للمحقّق الإصفهانی والعقد النضید 4/513.
2- (899) الجواهر 23/576 (22/358).
3- (900) شرح القواعد 2/223.
4- (901) المقابس /144 الطبعة الحجریة.
5- (902) أنوار الفقاهة 5/284.

مختار المحقّق الإصفهانی قدس سره .

قال المحقّق الإصفهانی فی اثبات قوله ونفی القول الآخر: «الوقف: هو الحبس المساوق والإسکان، فی قبال الجریان فی أنحاء التقلیبات والتقلبات.

والمراد بالحبس إمّا هو الممنوعیة عن التصرفات، کما هو ظاهر الجواهر(1) تبعا لما فی شرح القواعد(2) لکاشف الغطاء قدس سره ، فجواز المعاوضات مضاد لحقیقة الوقف حینئذٍ، ومقتضاه بطلان الوقف بنفس جواز التصرف لا بالتصرف.

وإمّا قصر الملک علی شخص أو جهة مثلاً، بحیث لا یتعداهما، وحیث إنَّ الملکیة حقیقة واحدة لا تتفاوت فی الوقف وغیره، فحیثیة عدم التعدی من موضوعها راجعة إلی عدم نفوذ التصرف شرعا، فیکون تفاوت الملک فی الوقف مع غیره بکونه محکوما شرعا بعدم الانتقال من موضوعه، وحینئذٍ فنفس التصرف مزیل للوقف لا حکمه، بل حکمه مضاد لتلک الحیثیة التی هی حکم شرعی للملک الوقفی، فینقلب الوقف بعد وجود مسوّغ التصرف الناقل من اللزوم إلی الجواز، کما هو ظاهر [الشیخ الأعظم] قدس سره فیما سیأتی(3) إنْ شاء اللّه تعالی.

والتحقیق: أنَّ حقیقة الوقف الموافقة لمفهومه لیست بمعنی الممنوعیة من التصرفات؛ فإنَّ المنع الذی ینشأ بصیغة الوقف ویتسبب إلیه لیس هو المنع المالکی، ولا المنع الشرعی ولا ثالث.

أمّا عدم کونه منعا مالکیا فلأنَّ منع الغیر عن التصرف فی العین وإنْ کان قابلاً للانشاء کإنشاء الاباحة، إلاّ أنّه لایعقل أنْ یکون موقوفا علی القبول، مع أنّ حقیقة الوقف

ص: 196


1- (903) جواهر الکلام 23/576 (22/358).
2- (904) شرح القواعد 2/220 ولکنّه ذهب فی الوقف العام إلی عدم جواز بیعه «لعدم أصل الملکیة» وفی الوقف الخاص لأنّ البیع ینافی حقیقة الوقف لأخذ الدوام فیه لا لعدم الملکیة لثبوتها فیه علی المشهور، أو لأنّ نفی المعاوضات علی الأعیان مأخوذ فیه ابتداءً کالتحریر للمملوک ولأن حقوق الأعقاب متعلّقة به ولظهوره بین النّاس... شرح القواعد 2/223 و 224.
3- (905) المکاسب 4/37.

مما لا شبهة فی قابلیتها للقبول، بل المعروف أنّها موقوفة علیه خصوصا فی الوقف الخاص، مع أنّ المنع المالکی لا یتصور إلاّ فی ظرف بقاء العین علی ملک المانع، وإلاّ فلا معنی لمنعه عما لا مساس له به.

والحال أنَّ خروج العین عن ملک الواقف ممّا لا کلام فیه، وأمّا منع نفسه عن التصرفات فلا معنی له إلاّ بالالتزام بعد تصرفه فی العین، فما المانع عن تصرف الغیر، إذْ نفوذ الوقف لا یقتضی إلاّ تحقّق ما أنشأه الواقف شرعا دون غیره.

وأمّا عدم کونه منعا شرعیا تکلیفیا أو وضعیا: فلأنّ المنع التکلیفی _ وإنْ کان مجعولاً شرعا _ لکنه لیس من الاعتبارات التی یتسبب إلیها بأسبابها، بل تنبعث من مبادئه فی نفس المولی، والمنع الوضعی لیس إلاّ عدم إنفاذ السبب، والنفوذ وعدمه لیسا بمجعولین شرعا، بل ینتزعان من ترتب اعتبار الشارع للملکیة أو للزوجیة علی أسبابه الداعیة إلی اعتباره وعدمه، فلا معنی للتسبب إلی إیجاد المنع الشرعی بسبب معاملی عقدی أو إیقاعی، فتدبر جیدا»(1).

«بیان مراده: یستعرض المحقّق الإصفهانی رحمه الله أوّلاً ما یترتّب علی دعوی کاشف الغطاء من قیام المضادّة بین الوقف والحکم بجواز البیع؛ لأنّه لو حملنا حقیقة الوقف علی المنع عن التصرّف فإنّ حکم الشارع بجواز بیع العین الموقوفة بعد خرابها وسقوطها عن قابلیّة الانتفاع، یعدّ اجتماعا للضدّین، ممّا یقتضی أن نحکم _ تصحیحا لحکم الشارع _ ببطلان وقفیّة العین الموقوفة وزوالها قبل البیع، وهو ما لا یمکن توجیهه، وهذا بخلاف ما لو قلنا إنّ حقیقته لیس إلاّ حبس العین، أو اختصاصها بأشخاص معلومة _ کالوقف علی الأولاد _ أو جهات معیّنة _ کالوقف علی العلماء والفقراء _ بحیث تکون ملکیّتها مقتصرة علی هذه الطائفة من الأشخاص أو الجهات، ومن المعلوم أنّ لازم قصر المِلک هو الحکم بعدم جواز البیع، وبالتالی فلا تحصل مضادّة بین الوقف والحکم بجواز البیع، لما ثبت أنّ حقیقته هو الحبس علی هذه المجموعة، لا منعها من البیع، نعم لازم هذا الأمر ممنوعیّة

ص: 197


1- (906) حاشیة المکاسب 3/73 و 74.

بیعها، فیحصل التنافی بین جواز البیع وحکم الوقف، لا بین الجواز وأصل الوقف کما فی الدعوی الاُولی.

ثمّ یقول المحقّق الإصفهانی من خلال تحقیقه: بأنّ الدعوی الاُولی مبتنیّة علی المنع عن التصرّف، والمنع لا یخلو إمّا أن یُراد به المنع الشرعی أو المالکی، کما هو الحال فی الإباحة التی تنقسم إلی الإباحة الشرعیّة أو الإباحة المالکیّة.

أمّا المنع المالکی فواضح، وأمّا المنع الشرعی، فهو علی قسمین:

1_ المنع التکلیفی، والمراد منه الحرمة فی مقابل الإباحة.

2_ المنع الوضعی، والمراد منه الفساد فی مقابل الصحّة ونفوذ المعاملة.

وفی کلّ الأحوال، سواءً قصد کاشف الغطاء أو صاحب «الجواهر» من المنع المالکی منه أو الشرعی، فإنّ دعواهما مدفوعة؛ لأنّ الأوّل یتضمّن محذورین والثانی محذور واحد، وعلی کلّ تقدیر فالحکم بأنّ الوقف یفید المنع عن التصرّف باطلٌ.

أمّا المنع المالکی: ففیه محذوران:

1_ قیام الضرورة الفقهیّة عند المشهور(1) علی اعتبار القبول فی مطلق الوقف، وعلی الخصوصص فی الوقف الخاصّ، لأنّ الوقف معدودٌ من المنشآت الشرعیّة التی فیها قابلیّة القبول، فإذا اعتبرنا الوقف أمرا یعود حکمه بالمنع إلی المالک فإنّ الضرورة قائمة علی عدم تقبّل المنع المالکی للقبول، کالإباحة المالکیّة التی قامت الضرورة علی أنّ ما یبیحه المالک لا یحتاج إلی قبول المباح له، بل الشیء مباحٌ له سواءً قبل أم لم یقبل، وکذلک الحال فی المنع المالکی،فإنّ ما یمنعه المالک ممنوع سواءً قبله الممنوع له أم لم یقبله، وقد ثبت أنّ الوقف حقیقةٌ تقبل القبول.

2_ إنّ المنع عن التصرّف لو کان منعا مالکیّا، لاستلزم تفرّعه عن المالکیّة بمثل تفرّع الإباحة المالکیّة عن الملکیّة، ولا یعقل بقاء الفرع بعد زوال الأصل، ولا شبهة أنّ

ص: 198


1- (907) وإن اختلف أصحابنا فی حکمه علی ثلاثة أقوال: قولٌ بأنّه یلزم وجود القبول مطلقا، وقولٌ بعدم لزومه مطلقا، وقولٌ بالتفصیل بین ما کان وقفا علی الأشخاص فإنّه بحاجة إلی القبول وبین ما إذا کان وقفا علی الجهات فلا یحتاج إلی القبول.

المالکیّة تزول بحدوث الوقف، ومع زوالها کیف یتسنّی له أن یمنع عنه بعد ما صار أجنبیّا عن العین الموقوفة؟!

وأمّا محذور المنع الشرعی: فقد ثبت أنّه إمّا تکلیفی کحرمة التصرّف فی مال الغیر، وأمّا وضعی کبطلان البیع. وعلی کلّ تقدیر فإنّ المنع الشرعی یعدّ من الاعتباریّات الشرعیّة، وأمّا الوقف فإنّه معدود من الاُمور التسبیبیّة التی یتحقّق من خلال انشاء المالک، والحرمة الشرعیّة والوضعیّة غیر قابلتان للتحقّق والوجود من خلال انشاء المالک.

وبالجملة: أثبت المحقّق الإصفهانی من خلال هذا التحقیق، بطلان ما التزم به کاشف الغطاء وصاحب الجواهر، من أنّ المراد من الوقف هو المنع، ودلَّ علی أنّ الوقف لا یتضمّن منعا مالکیّا ولا شرعیّا، بل الصحیح أنّ المراد من الوقف هو قصر المِلک علی الأشخاص أو الجهات، وهذا المعنی _ فضلاً عن بُعده عن الإشکال _ یتّفق مع ما ارتکز علیه سیرة العقلاء وتصرّفاتهم منذ القدم، حیث لا یختصّ ظاهرة الوقف بالمسلمین، ولا یعدّ من مبتدعاتهم، بل کانت شائعة بین الاُمم السابقة کالیهود والنصاری والمجوس، حیث نجد أنّهم یقومون بعملیّة الوقف ویحصرون الأموال غیر المنقولة والأملاک علی الکنائس والبیع ودور عبادتهم، وغیرها من العناوین والجهات العامّة أو الأشخاص»(1).

اشکالات السیّد الخمینی علی المحقّق الإصفهانی
الإشکال الأوّل وجوابه

ذهب الإصفهانی إلی أنّ الحبس فی الوقف لا یکون بمعنی ممنوعیة التصرف لأنّها إمّا مالکیة أو الشرعیة:

فلا تکون المالکیة لانّ المنع المالکی لا یحتاج إلی القبول ولکن الوقف یحتاج إلی القبول علی القول المشهور.

واستشکل السیّد الخمینی علیه بقوله: «أنّ موقوفیة الوقف علی القبول أوّل الکلام،

ص: 199


1- (908) العقد النضید 4/(501-499).

بل الظاهر عدمها وأنّ الوقف من الإیقاعات»(1).

ویمکن أن یدافع عن المحقّق الإصفهانی أنّه یری الوقف سِنْخا له قابلیة القبول والاقتضاء له، ویمکن أن یکون متعلَّقا للقبول بخلاف المنع المالکی لعدم اعتبار القبول فیه أو عدم قابلیته للقبول فلا یتم الإشکال.

الإشکال الثانی ونقده

ذهب الإصفهانی إلی أنّ الحبس بمعنی ممنوعیة التصرف إذا کانت مالکیة لا یحتاج إلی القبول.

واعترض السیّد الخمینی علیه بقوله: «أنّ جعل الممنوعیّة علی فرضه، لیس ممنوعیّة لا مساس لها بالقابل؛ فإنّ الحبس علیه علی هذا الفرض، قرار کونه ممنوعا عنه، نظیر شرط النتیجة، وهو یحتاج إلی القبول»(2).

مراده: إنّ المنع المالکی إذا کان بنحو الشرط النتیجة یحتاج إلی القبول فلا فرق بینه وبین الوقف الذی یحتاج إلی القبول.

ویمکن أن یجاب عنه: إنّه لابدّ أن یلاحظ اعتبار المنع المالکی لأنّه یعتبر علی قسمین:

أ: یمکن أن یعتبره المالک علی المعنی العقدی فحینئذ یحتاج إلی قبول بلا فرق بین شرط الفعل وشرط النتیجة.

ب: ویمکن أن یعتبره علی المعنی الایقاعی فلا یحتاج إلی قبول مطلقا أی بلا فرق بین شرطی الفعل والنتیجة.

والوجه فی ذلک: أنّ المنع المالکی اعتبار من المالک وأمره بیده ویمکن أن یعتبره تارة علی المعنی العقدی فیحتاج إلی القبول وأُخری علی المعنی الإیقاعی فلا یحتاج إلیه أصلاً.

ص: 200


1- (909) کتاب البیع 3/122.
2- (910) کتاب البیع 3/122.

فظهر ممّا ذکرنا: أ: المدار فی احتیاجه إلی القبول لا یکون علی شرط النتیجة بل یدور علی المعنی العقدی فلا یتم الاِعتراض.

ب: المنع المالکی یمکن أن یحتاج إلی القبول إذا أُنشِی ءَ علی المعنی العقدی فلا یتم مقالة الإصفهانی: «لا یعقل أن یکون [المنع المالکی] موقوفا علی القبول»(1).

الإشکال الثالث وَرَدُّهُ

ذهب الإصفهانی إلی «أنّ المنع المالکی لا یُتَصَوَّرُ إلاّ فی ظرف بقاء العین علی ملک المانع وإلاّ فلا معنی لمنعه عمّا لا مساس له به»(2) والحال أنّ خروج العین عن ملک الواقف ممّا لا کلام فیه.

وَاورد السیّد الخمینی علیه بقوله: «إنّ إیقاع المنع إنّما هو فی زمان مالکیّته، فلو کان الحبس هو الممنوعیّة، لکان حصول الممنوعیّة وخروج العین عن ملکه، بإنشائها فی زمان مالکیّته، ولا یعتبر فی جعل المالک وتصرّفه فی ملکه إلاّ کونه ملکا له حال التصرّف، نظیر الشرائط فی ضمن العقد، فلو شرط علی المشتری عدم بیعه، أو شرط إجارته فی رأس السنة الآتیة، صحّ وإن لم یکن ملکا له فی رأسها، وهو واضح»(3).

أجاب الاستاذ المحقّق _ مدظله _ عن هذا الایراد بقوله: «إذا لا حظنا تصرّفات الملاّک نجد أنّها علی قسمین:

1_ بعضها یتوقّف حدوثها علی المِلک، لکنّها بقاءً مستغنی عنه، فإنّ قیام المالک بتملیک ماله للغیر، یعدّ تصرّفا متوقّفا علی الملکیّة حدوثا، لکن یستغنی عنها المتصرّف بقاءً.

2_ وبعضها الاَخَرُ یحتاج إلی المِلک حدوثا وبقاءً، فإذا انتفت الملکیّة بقاءً لزم الانقلاب، کالإباحة المالکیّة التی تعنی فی ذاتها ترخیص المالک بالتصرّف المطلق، وبالتالی لابدّ من بقاء الملکیّة لتبقی الإباحة مستمرّة، إذ مع انتفاءها لا تبقی الرخصة

ص: 201


1- (911) حاشیة المکاسب 3/74.
2- (912) حاشیة المکاسب 3/74.
3- (913) کتاب البیع 3/122.

المالکیّة الممنوحة من المبیع للمباح له.

وممّا ذکرنا یتبیّن أنّ المنع المالکی علی وزان الإباحة المالکیّة، فلا یشمل بقاء المنع مع زوال الملِک، لاتّحاد الإباحة والمنع من جهة المصدر واسم المصدر، مع فارق الاسم والاعتبار، من جهة إضافد الإباحة إلی المبیح، کما أنّ المنع المالکی وممنوعیّة المِلک کلاهما أیضا بمعنی واحد، أی إذا لا حظنا الممنوعیّة دون الاستناد إلی المالک عُدَّ وصفا للمِلک، وإذا لاحظناها مستندة إلی المالک عُدّ فعلاً صادرا منه، وبالتالی فلیس المنع والممنوعیّة وصفان مختلفان یمکن فرض بقاء أحدهما وزوال الآخر، بل هما باقیان ببقاء المِلک، وزائلان بزواله. وبذلک یندفع الإیراد المذکور»(1).

الإشکال الرابع وَمَنْعُهُ

اعترض السیّد الخمینی علی مختار الإصفهانی فی معنی الحبس وهو «قصر العین علی شخص أو جهة بمعنی عدم تعدیها عنهما»(2) بقوله: «انّ ماهیّة الحبس إذا کانت قصر الملک علی شخص أو جهة، وأنّ تفاوت الملک الحاصل بالبیع ونحوه مع الحاصل بالوقف إنّما هو بأمر خارج؛ هو عدم نفوذ التصرّف شرعا، ففی کلّ مورد لم یحصل قصر الملک بهذا المعنی، لابدّ من الالتزام بأحد أمرین فاسدین بالضرورة:

إمّا الالتزام: بأنّ الوقف علی غیر ما یصلح للمالکیّة _ نظیر الوقف علی الحیوانات، أو علی معنیً مصدریّ نظیر الإحجاج والإرسال إلی المشاهد، ووقف المسجد والمشعر _ خارجٌ عن ماهیّة الوقف.

أو الالتزام: بأنّ الحیوان والحدیقة والمعانی المصدریّة، تصیر بالوقف مالکة، فلو وقف شیء علی الإحجاج، یصیر الإحجاج مالکا، أو علی حدیقة الحیوانات تصیر الحدیقة أو الحیوانات مالکة، وهو کما تری.

والالتزام: بأنّ حقیقة الوقف تختلف باختلاف الموارد، له فی کلّ مورد معنیً، لا

ص: 202


1- (914) العقد النصید 4/504.
2- (915) حاشیة المکاسب 3/74.

یقصر عن الالتزامین المتقدّمین، وفی کلامه مورد نظر، بل تناقض، لا یهمّنا البحث عنها»(1).

ولکن یمکن أن یمنع من هذا الاعتراض بأنّ الإصفهانی قال: «فمن البیّن أنّ العین بما هی لا إضافة لها إلی شخص أو جهة إلاّ بلحاظ الاختصاص الملکی أو مطلق الاختصاص، فالمراد قصرها علی الشخص ملکا أو اختصاصا، فالملک أو الاختصاص مقوم القصر ومعینه، ومرجع قصر العین ملکا مثلاً قصر ملکیتها علی شخص المساوق لعدم زوالها عنه، لا أنّ المُنْشَأ والمتسبب إلیه نفس اعتبار الملکیة، فإنّه غیر مناسب لمفهوم الوقف»(2).

ومع هذا التبیین منه قدس سره یصیر «معنی الوقف هو قصر المِلک أو قصر الاختصاص متی لم تکن الجهة المقصودة قابلةً لقبول الملکیّة، فوقف المال علی الإحجاج والإرسال إلی المشاهد وتعلیف الحیوانات یعدّ تخصیصا للمال لهذه الجهات لا تملیکا لهم کما زعمه المُسْتَشْکِل»(3).

وظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة الاشکالات الأربعة الواردة علی المحقّق الإصفهانی، والحمدللّه.

مقالة النائینی فی حقیقة الوقف
اشارة

قال المحقّق النائینی: «إعلم ان الموجب لعدم طلقیة الملک إمّا یکون من جهة عدم المقتضی لطلقیته أو یکون لأجل المانع عن طلقیته وأصول الموانع ثلاثة الرهن والجنایة وأم الولد وما عداها ملحقة بها فالوقف لا یکون طلقا لاجل عدم المقتضی لا لأجل وجود المانع، والکلام فی الوقف إنّما هو فی الوقف الخاص بناءً علی صیرورته ملکا لطبقات الموقوف علیهم. وأمّا الوقف العام والوقف علی الجهات فخارجان عن محل الکلام، حیث أنّه لایجوز بیعهما لانتفاء الملکیة لا لأجل انتفاء الطلقیة فی مورد الملک الشخصی کما أنّه

ص: 203


1- (916) البیع 3/123 و 124.
2- (917) حاشیة المکاسب 3/74.
3- (918) العقد النضید 4/505.

علی تقدیر القول بعدم الملک فی الوقف الخاص أیضا لیس المنع عن بیعه لأجل انتفاء الطلقیة، فالوقف إنّما یکون من صغریات ما لا یجوز بیعه لعدم کونه طلقا إذا کان خاصا وقلنا فیه بالملک.

فإن قلت: الوقف الخاص بناءً علی صیرورته ملکا للطبقات یکون ممنوعا عن بیعه لاجل تعلق حق الطبقات المتأخرة به فیکون عدم طلقیته لأجل وجود المانع کالرهن ونحوه.

قلت: نعم وإن کان حقّ الطبقات المتأخرة متعلقا به، لکن مع ذلک یکون المنع عن بیعه مستندا إلی عدم المقتضی لأنَّ عَدَمَ المعلول عند عدم المقتضی ووجود المانع یستند إلی عدم الأوّل لا إلی وجود الثانی، لأنّ عدمه متقدم علی وجود الثانی، والمعلول إنّما یستند إلی أسبق علله.

ثمّ [إنّ] الدلیل علی بطلان بیع الوقف قد ظهر مما بیناه من کون الملک الحاصل به قاصرا عن قابلیة النقل والانتقال.

وتوضیحه: إنّ ماهیة الوقف عبارة عن إیقاف المال وبالفارسیة «واداشتن آن در محلی» بحیث لا یمکن أن یتحرک عن محلّ وقوفه إلی محلّ آخر فکأنّه صار مقطوع الرجلین، وهذا المعنی هو المنشأ بإنشاء الواقف وقد تعلق به الإمضاء، وإذا کان بماهیته غیر قابلة للنقل والتبدیل من مکان إلی مکان آخر وصار بما له من الماهیة ممضاة عند الشارع فلا یقبل النقل والانتقال ولا یجوز بیعه فیکون عدم جواز بیعه موافقا مع القاعدة لو لم یکن إجماع علی عدم جوازه فضلاً عن کونه إجماعیا أیضا ودلّ علیه الأخبار»(1).

أقول: أنت تری أنّ المحقّق النائینی أیضا یری ماهیة الوقف هی إیقاف المال وتکون غیر قابلة للنقل والانتقال فلا یجوز بیعه، ولأنّ البیع والوقف یتنافیان ذاتا وماهیة، البیع هو النقل والانتقال، والوقف إیقاف المال وعدم النقل والانتقال.

وذهب إلی هذا المقال صاحب الجواهر حیث یقول: «والذی یقوی فی النظر _ بعد

ص: 204


1- (919) المکاسب والبیع 2/386 و 377.

إمعانه _ أنّ الوقف مادام وقفا لا یجوز بیعه، بل لعلّ جواز بیعه مع کونه وقفا من المتضاد، نعم إذا بطل الوقف اتّجه حینئذ جواز البیع»(1).

ظهور الایراد علی السیّد الخمینی رحمه الله

وبما ذکرنا ظهر مواقع النظرفی کلام السیّد الخمینی رحمه الله حیث یقول فی تعریف الوقف: «والذی یمکن أن یقال: إنّ اعتبار الوقف فی جمیع الموارد إیقاف الشیء علی جهة، أو شخص، أو غیرها؛ لتدرّ المنافع منه علیها، فبقوله: «وقفت علیه» مع التعدیة ب_ «علی» المقتضیة للعلوّ، کأنّه جعل العین _ فی الاعتبار _ علی رأس الموقوف علیه لا تتعدّاه، لتدرّ منافعها علیه، ولا تتعدّی المنافع عنه؛ تبعا لعدم تعدّی نفس العین عن رأسه اعتبارا.

وهذا المعنی مع کونه موافقا للاعتبار العقلائیّ، صادق فی جمیع الموارد»(2)... «ولو قیل: إنّ الوقف مقابل الحرکة واللاّسکون، فلابدّ من لحاظ عدم الحرکة، وعدمها لیس فی المکان، بل فی الاعتبار، وهو عدم النقل، کالبیع وغیره، فیرجع الوقف إلی جعل الشیء ساکنا عن الانتقال، وممتنعا عن التصرّفات الناقلة والمعدِمة، کما هو المنقول عن «الجواهر»(3).

قلنا: الوقف علی الشخص أو الجهة، مقابل التجاوز عنه، فإذا وقف علی شخص، صار هو الموقوف علیه؛ أی وقف علیه، ولم یتعدّ عنه إلی غیره.

هذا لو سلّم لحاظ عدم الحرکة الوقوف عن الحرکة فی الوقف، ولکنّ الظاهر عدم لحاظها فی الوقف، فلا ینقدح فی ذهن الواقف إلاّ عنوان «الوقف علی فلان» أو «علی کذا».

وعلی ما ذکرناه، لیس بین ماهیّة الوقف وجواز النقل أو نفس النقل، مضادّة

ص: 205


1- (920) الجواهر 23/576 (22/358).
2- (921) کتاب البیع 3/125.
3- (922) جواهر الکلام 23/576 (22/358)؛ اُنظر المکاسب 4/35؛ حاشیة المکاسب المحقّق الإصفهانی 3/73.

ومنافرة.

وتوهّم، کون الوقف الدائم و المؤبّد منافیا للنقل؛ من أجل أنّ النقل ولو سلّم عدم منافاته لنفس الوقف، لکنّه منافٍ لدوامه غیر وجیه؛ لأنّ الدوام والانتقطاع فیه کالدوام والانقطاع فی باب النکاح، فکما أنّ النکاح الدائم لا ینافی جواز الطلاق أو نفسه، فمعنی دوامه أنّه لا أمد له حتّی ینقضی فی رأسه، وإن أمکن وصحّ قطعه بالطلاق، فکذلک الدوام فی الوقف، معناه أنّه غیر منقطع حتّی ینقضی فی رأس أمده، فما لم یکن سبب لفسخه فهو باقٍ، بخلاف المنقطع الذی یکون اقتضاؤه قصیرا وإلی وقت محدود.

فتحصّل ممّا ذکر: أنّ الوقف بنفسه غیر مانع عن النقل، فلابدّ من إقامة دلیل علی المنع»(1).

وأنت تری المضادة بین کلامه الأوّل ومقاله الآخر أی بین تعریف الوقف بأنّه «إیقاف الشیء علی جهة أو شخص أو غیرهما لتدّر المنافع منه علیها...» وبین قوله قدس سره : «لیس بین ماهیة الوقف وجواز النقل أو نفس النقل مضادّة ومنافرة» وسبحان من لا یسهو.

وبالجملة: الوقف بذاته وماهیته لا یقبل البیع وبین الماهتین معارضة ومنافرة واضحة وهذا هو الدلیل الأوّل لبطلان بیع الوقف. واللّه العالم.

الدلیل الثانی: الإجماع

الإجماع قائم علی عدم جواز بیع الوقف محصَّلاً محکیّا بل هذا الحکم من القطعیات وکاد یکون من الضروریات.

قال المتتبع العاملی فی ذیل قول العلاّمة (ولا یَصِحُّ بیع الوقف ولا هبته ولا نقله): «کما نصّته بذلک روایاتهم(2) وبأنّه لا یحلّ ذلک لأحد. وأفصحت به عباراتهم فی مطاوی کلماتهم خصوصا عند کلامهم علی جواز بیعه عند خرابه لخلف بین أربابه أو نحوه کما

ص: 206


1- (923) کتاب البیع 3/126.
2- (924) راجع وسائل الشیعة 19/185، باب 6 من أبواب أحکام الوقوف والصدقات.

ستسمع، وانعقدت علیه إجماعاتهم. ففی السرائر أنّ الّذی یقتضیه مذهبنا أنّه بعد وقفه وتقبیضه لا یجوز الرجوع فیه ولا تغییره عن وجوهه وسبله ولا بیعه _ إلی أن قال: _ لأنّا إجماع منّا علی ذلک.(1) وفی الغنیة أیضا الإجماع علی أنّه لا یجوز الرجوع فی الوقف ولا تغییره عن وجوهه ولا سبله.(2) والحاصل: أنّ ذلک من القطعیّات بل کاد یکون من الضروریّات»(3).

أقول: هذا الحکم إذا کان علی حدّ الإجماع لا یفید فی المقام شیئا لأنّه مدرکیٌّ وأمّا إذا وصل إلی حدّ القطعیات والضروریات کما حصّله الفقیه المتتبع العاملی فلابدّ من قبوله والمشی علی طبقه والظاهر أنّه کذلک واللّه العالم.

الدلیل الثالث: الاطلاقات

أ: قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(4)

الآیة الشریفة تدلّ علی وجوب الوفاء بالعقود بلا فرق بین أن نفهم منها الحکم التکلیفی بوجوب الوفاء بها أو الحکم الوضعی بصحتها ولزومها أو کلا الحکمین فعلی أیّ حال الآیة تدلّ علی نفوذ کلّ عقدٍ وصحته. فإذا اعتبرنا الوقف من العقود یصح التمسک بالآیة وإذا اعتبرنا أنّه من الإیقاعات فکذلک یصح التمسک بها لأنّ «الْعُقُودِ» فُسّر بالعهود والوقف حینئذ معدود من العهود فلابدّ من الوفاء به والحکم بلزومه.

ب: قوله تعالی: «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(5)

علی القول بأنّ التجارة هی «مطلق الاکتساب والإتجار بالمال، فحینئذٍ یشترط فی صدق العنوان أمران: لزوم وصول المال إلی القابل، ولزوم قبول القابل، ولولاهما لما تحقّقت التجارة، وعلیه فلو التزمنا بتحقّق نقل المِلک والمال عند الوقف، فإنّ للاستدلال

ص: 207


1- (925) السرائر: فی أحکام الوقف 3/153.
2- (926) غنیة النزوع: فی الوقف /298.
3- (927) مفتاح الکرامة 21/679.
4- (928) سورة المائدة /1.
5- (929) سورة النساء /29.

بالآیة مجال، وأمّا مع إنکار ذلک _ کما هو الحقّ _ واعتبار عنوان الوقف الشامل لوقف المسجد أیضا _ وأنّ وقفه یعدّ فکّا للملک ویشترط فیه القبول _ أمرا منافیا مع التجارة والاکتساب المادّی، فلا مجال للاستدلال بها، ولعلّ عدم استدلال الشیخ بها لهذه الجهة»(1).

ج: قوله علیه السلام : النّاس مسلّطون علی أموالهم

المستفاد منه قاعدة السلطنة «فقد اختلف أصحابنا فی تفسیرها، وفیها مَبانٍ متعدّدة:

أمّا الشیخ رحمه الله فقد التزم بأنّها تُشرّع جواز أنواع التصرّفات فی المال، وإن ناقش فیها فی بحث المعاطاة قائلاً: بأنّ القاعدة تثبت أصل السلطنة دون أسبابها فی موارد الشکّ، وبالتالی فإنّه علی مسلک الشیخ یصحّ الاستدلال بها فی الوقف، لأنّه تفعیل لنوع من أنواع السلطنة الجائزة، ومع صحّته لا یجوز البیع.

أمّا علی مبنی المحقّق الآخوند ومن تبعه _ وهو الحقّ عندنا _ من أنّ القاعدة لا تُشرّع السلطنة فی البیع والصلح وغیرهما، وإنّما تثبت السلطنة للمالک فی مقابل من هو محجورٌ وممنوع عن التصرّف، وبعبارة أُخری القاعدة تدلّ علی أنّه لیس لأحدٍ منع الملاّک عن التصرّف فی ما یخصّهم من الأموال والأملاک، فعلی هذا المبنی لا مجال للاستدلال بها.

والنتیجة: إنّه ثبت ممّا ذکرنا جواز الاستدلال ببعض الأدلّة العامّة، وذلک بمقتضتی بعض المبانی لا جمیعها»(2).

الدلیل الرابع: الروایات العامة الواردة فی باب الوقف
اشارة

هناک طائفة من الروایات العامة استدلّ بها علی بطلان بیع الوقف:

منها: صحیح الصفار أنّه کتب إلی أبی محمّد الحسن بن علی علیهماالسلام فی الوقف وما

ص: 208


1- (930) العقد النضید 4/506 و 507.
2- (931) العقد النضید 4/507.

روی فیه عن آبائه علیهم السلام فوقع علیه السلام : الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها إن شاء اللّه.(1)

بتقریب: أنّ الوقف یکون بحسب ما یوقفه أهله فیکون البیع منافیا مع ما قام به المالک من وقف ماله علی جمیع المبانی.

اعترض المحقّق الإیروانی ونقده

قال المحقّق الایروانی فی ذیل هذه الصحیحة: «والتمسک بالعموم المذکور علی المدّعی یتوقّف علی أنْ یکون عدم البیع مأخوذا فی حقیقة الوقف، کما هو الظاهر، ولذا عرّف بأنّه تحبیس الأصل، وتسبیل الثمرة، ویؤیّده إطلاق الوقف علیه؛ فأنّه جعل الملک واقفا راکدا یتجاوز عن ملک إلی ملک، وعن شخص إلی شخص، کما هو شأن الأملاک»(2).

ویرد علیه: «بالرغم من أنّ الشیخ [الأعظم] لا یری بدوا مدخلیّة عدم البیع فی حقیقة الوقف، لکنّه یصرّح أخیرا بأنّ المانع عن البیع أُمور ثلاثة(3):

1_ منافاة البیع مع حقّ الواقف.

2_ منافاته مع حقّ الموقوف علیهم من البطون المتأخّرة عن بطن البائع.

3_ ومنافاته مع التعبّد الشرعی المکشوف عنه بالروایات.

ومن خلال هذه الموانع الثلاثة، یثبت الشیخ ممنوعیّة دخول البیع علی الوقف، وبالتالی فیصحّ استدلاله بالروایة»(4).

ومنها: صحیحة أبی علی بن راشد
اشارة

قال: سألت أباالحسن علیه السلام قلت: جعلت فداک اشتریت أرضا إلی جنب ضیعتی بألفی درهم، فلمّا وفرت المال خبرت أنّ الأرض وقف، فقال: لا یجوز شراء الوقوف(5) ولا تدخل الغلّة فی ملکک(6)، ادفعها إلی من اُوقفت علیه،

ص: 209


1- (932) وسائل الشیعة 19/175، ح1، الباب 2 من أبواب کتاب الوقوف والصدقات.
2- (933) حاشیة المکاسب 2/437.
3- (934) المکاسب 4/35 و 36.
4- (935) العقد النضید 4/508.
5- (936) فی التهذیب: الوقف 9/130، ح556.
6- (937) فی الکافی: مالک 7/37، ح35.

قلت: لا أعرف لها ربّا، قال: تصدق بغلّتها.(1)

بتقریب: أنّ الصحیحة تدلّ علی بطلان شراء ابن راشد الأرض الموقوفة «وعدم تملّکه لغلّتها، وإنّ علیه إعادة الأرض إلی أصحابها الموقوف علیهم إن کان یعرفهم؛ لأنّ یده علیها عادیة، فإذا جهلهم علیه أن یتصدّق بغلّتها، لأنّ الغلّة إذا کانت موقوفة تکون ملکا للبطون، ومع الجهل بهم یصبح من الأموال المجهولة مالکها، فیجب أن یتصدّق بها لأنّها مورد صرفها»(2).

قال الإمام الخمینی قدس سره فی تعلیقه علی متن هذه الصحیحة: «متن الحدیث هنا موافق للتهذیب والوسائل فی کتاب الوقف.

وقد اختلفت کتب الحدیث فی ألفاظه، ففی بعضها: «وفیت»(3) بدل: «وفّرت» وفی بعضها: «وزنت»(4).

وفی بعضها «الوقف»(5) بدل: «الوقوف».

وفی بعضها: «إلی جنبی»(6) بدل: «إلی جنب ضیعتی».

وفی بعضها: «ألف»(7) بدل: «ألفی».

وفی بعضها «مالک»(8) بدل: «ملکک»... إلی غیر ذلک.

لکن لم أجد فی شیء من الکتب بدل قوله: «ولمّا وفّرت المال» «ولمّا عمّرتها» کما

ص: 210


1- (938) وسائل الشیعة 19/185، ح1، الباب 6 من أبواب کتاب الوقوف والصدقات.
2- (939) العقد النضید 4/509.
3- (940) الکافی 7/37، ح35.
4- (941) الوافی 10/555.
5- (942) الکافی 7/37، ح35؛ الفقیه 4/179، ح629؛ الاستبصار 4/97، ح377.
6- (943) الفقیه 4/242، ح5576.
7- (944) نفس المصدر.
8- (945) الکافی 7/37، ح35؛ الفقیه 4/179، ح629؛ الاستبصار 4/97، ح377.

هو الموجود فی تجارة الشیخ الأعظم(1) قدس سره .

والمظنون: أنّه اشتباه، منشؤه الإتّکال علی الحافظة حال التحریر، فإنّ الاشتباه من النسّاخ فی مثل ذلک بعید.

والعجب: أنّ بعض المحشّین(2) اتّکل علی نقل الشیخ الأعظم قدس سره ولم یراجع کتب الحدیث، فاستشکل فی الانصراف: بأنّ مورد الروایة هو تعمیر الخراب، وأجاب عنه.

فعلی العلماء الأعلام والمحصّلین عدم الأتّکال علی الحافظة فی نقل الأحادیث، ولا علی کتب الاستدلال، ولا سیّما مثل کتاب الجواهر وما بعده.

ومع الأسف الشدید، فاتتنا قراءة کتب الأحادیث علی المشایخ وقراءتهم علینا بعد توسعة الفقه واُصوله بهذه التوسعة، ولذلک وقعنا فی اشتباهات کثیرة، منشؤها اختلاف النسخ، واختلاف قراءة کلمة واحدة تختلف معها الأحکام، کما هو ظاهر للمراجع»(3).

ومنها: صحیحة ربعی بن عبداللّه، عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: تصدق أمیرالمؤمنین علیه السلام بدارٍ له فی المدینة فی بنی زُرَیق فکتب: بسم اللّه الرحمن الرحیم هذا ما تصدق به علی بن أبیطالب وهو حی سویّ، تصدّق بداره التی فی بنی زریق صدقةً لا تباع ولا توهب حتّی یرثها اللّه الذی یرث السموات والأرض، وأسکن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهنّ، فإذا انقرضوا فهی لذی الحاجة من المسلمین.(4)

سند الشیخ ضعیف بالأسود بن أبی الأسود لأنّه مجهولٌ ولکن الصدوق رواها بسنده الصحیح عن ربعی بن عبداللّه فالرّوایة صحیحة الإسناد بسند الصدوق.

وقد قرّب الشیخ الأعظم دلالة الصحیحة بتقاریب ثلاثة:

التقریب الأوّل:

قال الشیخ الأعظم: «فإنّ الظاهر من الوصف کونها صفة لنوع الصدقة لا لشخصها،

ص: 211


1- (946) المکاسب 4/34.
2- (947) حاشیة المکاسب، للمحقّق الإصفهانی 3/76.
3- (948) کتاب البیع 3/151.
4- (949) وسائل الشیعة 19/187، ح4.

ویبعد کونها شرطا خارجا عن النوع مأخوذا فی الشخص»(1).

مراده: «إنّ ظاهر الروایة دالّ علی أنّ الواقع صدقة، فلا یتحمّل البیع والهبة باقتضاء ظهورها الذاتی، فالوصفان المذکوران ناشئان من ذات الموصوف لا من خلال الشرط والجعل، کما هو الحال فی قول القائل: «عاملتُ معاملةً غبنیّة» الظاهر فی أنّ الغبن صفة للمعاملة، وأنّها غبنیّة بنفسها لا بجعل المتعامل»(2).

التقریب الثانی:

قال: «مع أنّ سیاق الاشتراط یقتضی تأخّره عن رکن العقد، أعنی الموقوف علیهم، خصوصا مع کونه اشتراطا علیهم»(3).

مراده: «إنّ حقیقة الشرط هی الالتزام فی ضمن الالتزام الآخر، فإذن لابدّ أن یتمّ الالتزام الأوّل بجمیع مستلزماته وشرائطه، لیصل الدور إلی الشرط الذی هو الالتزام فی ضمن الالتزام الآخر، وفیما نحن فیه فإنّ الالتزام الوقفی یجب أن یتمّ أوّلاً لیصل الدور إلی الشرط الذی هو التزام فی ضمن الالتزام الوقفی، وهذا الالتزام الوقفی متوقّف علی الموقوف علیه من البطون أو الجهات، فتکون الأخیرة مقوّما للالتزام الوقفی، وعلیه فإذا قصد الإمام علیه السلام بقوله: «لا تُباع ولا تُوهب» الشرط والالتزام، فإنّ لازمه کون الشرط مذکورا قبل حصول المشروط، وهو خلاف القاعدة القاضیة بلزوم تحقّق الوقف أوّلاً ثمّ إدراج الشروط المذکورة فیه، وبالتالی لا یمکن عدّ قول الإمام علیه السلام شرطا، لأنّه لو کان شرطا لاستلزم ذکره بعد ذکر الموقوف علیهم»(4).

ولکن یرد علی هذه التقریب: «لو سلّمنا حقیقة الشرط والقاعدة المذکورة، إلاّ أنّ حقیقة الشرط لیست سیاقیّة لتقتضی بالضرورة ذکره بعد ذکر الموقوف علیهم، بل هی سنخ حقیقة یصحّ صدورها من الواقف قبل ذکر الموقوف علیهم وبعده، والشاهد علی

ص: 212


1- (950) المکاسب 4/34.
2- (951) العقد النضید 4/510.
3- (952) المکاسب 4/34.
4- (953) العقد النضید 4/510 و 511.

ذلک روایة أیّوب بن عطیّة، حیث ورد فیها ذکر الشرط بعد ذکر الموقوف علیهم، ممّا یدلّ علی أنّه لیس هناک قاعدة ثابتة متّبعة، تفید لزوم ذکر الشرط بعد ذکر متعلّقات الموقوف علیهم، بل یمکن أن یتقدّم أو یتأخّر، والروایة هی [صحیحة أیوب بن عطیة]: «قال: سمعتُ أباعبداللّه علیه السلام یقول: قَسَّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله الفیء، فأصاب علیّا علیه السلام أرضٌ فاحتفر فیها عینا فخرج منها ماءٌ ینبع فی السماء کهیئة عنق البعیر، فسمّاها عین یَنْبُعٍ، فجاء البشیر یُبشّره، فقال: بشّر الوارث بشّر الوارث، وهی صدقةً بتّا بتلاً(1) فی حجیج بیت اللّه وعابر سبیله، لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث، فمن باعها أو وهبها فعلیه لعنة اللّه والملائکة والنّاس أجمعین، لا یقبل اللّه منه صَرْفا ولا عَدْلاً»(2).

وبالجملة: فاستدلال الشیخ بسیاق الجملة الشرطیّة، اعتمادا علی الروایة الأُولی، والحکم بأنّ ورود الشرط قبل الموقوف علیهم یعتبر وصفا منوّعا للصدقة ولازما للوقف، دون ما إذا کان واردا بعده حیث یعدّ شرطا، ممنوعٌ بدلالة [صحیحة أیوب بن عطیة[ حیث ورد الشرط فیها بعد ذکر الموقوف علیهم، ممّا یدلّ علی أنّه لیس هناک ضابطة یمکن أن یعتمد علیها فی تصنیف القیود المذکورة إلی الوصف أو الشرط»(3).

التقریب الثالث:
اشارة

وهو الذی ذکره صاحب المقابس من «أنّه لو جاز البیع فی بعض الأحیان کان اشتراط عدمه علی الإطلاق فاسدا، بل مفسدا؛ لمخالفته للمشروع من جواز بیعه فی بعض الموارد: کدفع الفساد بین الموقوف علیهم أو رفعه، أو طروء الحاجة، أو صیرورته ممّا لا ینتفع به أصلاً»(4).

ص: 213


1- (954) بَتَلَه یَبْتُلُهُ بَتْلاً إذا قطعه، ومنه الحیدث: بَتَل رسول اللّه صلی الله علیه و آله الهُرْی، أی أوْجَبَها ومَلَّکَها مِلْکا لا یتطرّق إلیه نقض. [النهایة الأثیریة 1/94].
2- (955) وسائل الشیعة 19/186، ح2.
3- (956) العقد النضید 4/511 و 512.
4- (957) المقابس /144 ونقل عنه فی المکاسب 34 و 35.
واعترض الشیخ الأعظم علیه بثلاث اعتراضات:
اشارة

أوّلاً: «إنّ هذا الإطلاق نظیر الإطلاق المتقدّم فی روایة ابن راشد فی انصرافه إلی البیع لا لعذر»(1).

مراده: «أنّ اشتراط عدم جواز البیع منصرف إلی الحالة المتعارفة، ولا یشمل الظروف الطارئة التی یجوز فیها بیع الوقف»(2).

وثانیا: «إنّ هذا التقیید ممّا لابدّ منه علی تقدیر کون الصفة فصلاً للنوع أو شرطا خارجیا»(3).

مراده: «لا سبیل لنا إلاّ أن نرفع الید عن الإطلاق، سواءً اعتبرنا الصفة فصلاً منوّعا أو شرطا خارجیّا، لأنّه لیس لنا صدقة لا تباع ولا تورث مطلقا، بل کلّ صدقة قابلة للبیع فی ظروف طارئة محدّدة شرعا، وبالتالی فالإطلاق ساقط»(4).

وثالثا: «مع احتمال علم الإمام علیه السلام بعدم طروء هذه الاُمور المبیحة، وحینئذٌ یصحّ أن یستغنی بذلک عن التقیید علی تقدیر کون الصفة شرطا، بخلاف ما لو جعل وصفا داخلاً فی النوع؛ فإنّ العلم بعدم طروء مسوّغات البیع فی الشخص لا یغنی عن تقیید إطلاق الوصف فی النوع، کما لا یخفی»(5).

مراده: «لعلّ علم الإمام علیه السلام بعدم طروّ الحالات المبیحة للبیع فی الوقف الأخیر، جعله یُبقی الإطلاق علی حاله، ویستغنی عن التقیید بذکر الشرط»(6). بخلاف لو جعل وصفا داخلاً فی النوع کما مرّ فی کلامه قدس سره .

ص: 214


1- (958) المکاسب 4/35.
2- (959) العقد النضید 4/512.
3- (960) المکاسب 4/35.
4- (961) العقد النضید 4/512.
5- (962) المکاسب 4/35.
6- (963) العقد النضید 4/512.
ولکن یمکن أن یجاب عن الشیخ الأعظم:

أوّلاً: الإطلاق کما یشمل الحالات المتعارفة کذلک یشمل الحالات الطارئة ما لم یثبت تقیید.

وثانیا: نعم، کل إطلاق إذا ثبت المقیّد له یقیّد، وهذا ممّا لا شبهة فیه.

وثالثا: حمل الإطلاق علی علم الإمام یحتاج إلی قرینة مفقودة فی المقام لأنّه خلاف ظاهر الکلام.

فلا یتم اعتراضات الشیخ الأعظم علی الشیخ أسداللّه التستری _ قدس سرهما _ عندنا.

وبالجملة: صفتا «لاتباع ولاتوهب» خصوصیتان لذات الصدقة لا أنّهما عارضتان علیها من خلال الشرطین المذکورین.

تهافت فی کلام الشیخ الأعظم
اشارة

قال: «فظهر أنّ التمسّک بإطلاق المنع عن البیع علی کون الوصف داخلاً فی أصل الوقف _ کما صدر عن بعض من عاصرناه(1) _ لا یخلو عن نظر، وإن کان الإنصاف ما ذکرنا: من ظهور سیاق الأوصاف فی کونها أوصافا للنوع»(2).

وأنت تری أنّه قدس سره ردّ علی ما «صدر عن بعض من عاصر»ه وهو الشیخ أسداللّه التستری صاحب المقابس رحمه الله من أنّ عدم جواز بیع الوقف وبطلانه یعدّ من ذاتیات الوقف والتنافی بین البیع والوقف یکون ذاتیا ردّه بقوله: «لا یخلو عن نظر». فالشیخ الأعظم لایعدّ بطلان بیع الوقف من الخصوصیات الذاتیة للوقف ولذا استدّل علی البطلان بالاجماع والروایات العامة.

ولکنه صرح فی ذیل صحیحة ربعی بن عبداللّه من أنّ وصفی «لاتباع ولا توهب» تعدّ «صفة لنوع الصدقة»(3) و«اوصافا للنوع»(4) أی تعدّ فضلاً منوّعا للوقف.

ص: 215


1- (964) هو المحقّق التستری فی مقابس الأنوار /144.
2- (965) المکاسب 4/35.
3- (966) المکاسب 4/34.
4- (967) المکاسب 4/35.

ومن المعلوم «أنّه لو کان عدم جواز البیع حکما شرعیّا مستقلاًّ خارجا عن ذات الوقف، متعلّقا به فی ظروف معیّنة، لما صحّ عدّه فصلاً منوّعا لنوع الوقف، باعتبار أنّ الفصل مقوّم للشیء، فإذا ثبت أنّ عدم جواز البیع فصلٌ لنوع الوقف، عُدَّ من مقوّماته لا أحکامه»(1).

محاولة المحقّق الإصفهانی لرفع التهافت ونقدها
اشارة

حاول المحقّق الإصفهانی رفع هذا التهافت بقوله: «وبالجملة: بعد جعل الوصف مقوّما لنوع من الصدقة، یکون هذا النوع الخاص وقفا، وأمّا أنّ حقیقة الوقف منحصرة فی هذا النوع فلا دلیل علیها، فلعله جنس له أنواع، منها الصدقة المتقومة بحیثیة عدم الانتقال بیعا وهبة وإرثا، ومنها ما لا یکون کذلک.

مع أنّ جعل الوصف مقوما وفصلاً لنوع الوقف _ کما صرح بعنوان الفصلیة(2) فیما بعد _ منافٍ لما فی کلامه رحمه الله فیما(3) بعد، من عدم کون المنع الانتقال مأخوذا فی حقیقة الوقف، وأنّه من أحکامه.

بخلاف ما إذا جعل الوصف وصفا خارجیا لازما للوقف، فیکون المتسبب إلیه حصة من طبیعی التملیک الملزوم شرعا للمنع عن أنحاء الانتقالات، فإنّه خالٍ عن محذور التنافی بین کلماته قدس سره ، ویصح التردید بین کونه وصفا لازما لحقیقة الوقف شرعا أو کونه شرطا إلتزم به الواقف فی ضمن عقد الوقف والتصدق بماله علی البطون، وعلیه ینبغی حمل کلامه (زید فی علو مقامه)»(4).

نقدها: المحاولة عقیمة «لمخالفتها مع صریح کلام الشیخ القائل بأنّه: «علی تقدیر

ص: 216


1- (968) العقد النضید 4/513.
2- (969) المکاسب 4/35.
3- (970) المکاسب 4/37.
4- (971) حاشیة المکاسب 3/77.

کون الصفة فصلاً للنوع أو شرطا خارجیّا»(1) فصیرورة»(2). الصفة فصلاً تمنعها أنْ تکون شرطا خارجیا أی لا یمکن الجمع بین الفصلیة والشرطیة فلا تفید محاولة المحقّق الإصفهانی قدس سره .

والحاصل: لو لم نقل بالتهافت فلا أقل من وجود الاضطراب فی کلمات الشیخ الأعظم لا یمکن رفعه بهذه المحاولة ونحوها وسبحان من لا یسهو.

تعلیقة المحقّق الإصفهانی علی تقریب صاحب المقابس

أیّد وعلّق المحقّق الإصفهانی علی التقریب الثالث الذی مرّ(3) من الشیخ أسداللّه التستری فی المقابس _ واعترض علیه الشیخ الأعظم بثلاثة اعتراضات وأجبنا عن اعتراضاته _ ، بقوله: «لا یخفی أنّ شرط عدم البیع تارة بنحو شرط الفعل، والالتزام بعدمه غیر منافٍ لجواز فعله، وأُخری بنحو شرط النتیجة، فإنْ کان ثبوتیا کشرطیة ملکیة شیء له فنفس الشرط بعموم دلیله سبب شرعا لثبوتها، وإنْ کان عدمیا کما فی المورد، فإنّ المراد الالتزام بعدم انتقاله بیعا، فالعدم لایحتاج إلی سبب لیکون نفوذ الشرط مقتضیا للثبوت، فلا معنی للالتزام به إلاّ إبداء المانع عن تأثیر ما هو سبب للانتقال، من عقد البیع ونحوه، والالتزام بعدم تأثیر السبب شرعا إلتزام بغیر المشروع، والظاهر هنا شرط النتیجة، ویؤکده إضافة عدم الارث إلی عدم البیع والهبة فتدبر»(4).

مراده: یحتاج إلی مقدمة وهی: «أنّ هناک فرقا بین شرط النتیجة وشرط الفعل، ففی الأوّل یکون متعلَّق الشرط نفس الملکیّة أو الزوجیّة، أمّا المتعلَّق فی الثانی فهو التملیک أو التزویج، فإنّه لا مانع من اشتراطهما خلال العقد، لأنّهما فعلان یتوقّف تحقّقهما علی اختیار الفاعل، فله أن یبیع داره لزید ویشترط علیه أن یملّکه کذا، فالشرط یعدّ من شروط الفعل، وعلی المشروط علیه الالتزام بذلک، وإلاّ ثبت للمشروط له الخیار. وأمّا

ص: 217


1- (972) المکاسب 4/35.
2- (973) العقد النضید 4/513.
3- (974) مرّ فی صفحة 213 من هذا المجلد.
4- (975) حاشیة المکاسب 3/79.

شرط النتیجة فهو أن یُقْدم الرجل علی بیع داره لزید، ویشترط فی ضمنه أن یکون الکتاب ملکه بحیث یصبح الکتاب ملکا له بنفس الشرط.

أمّا شرط الفعل: فلا شکّ فی نفوذه بمقتضی قوله علیه السلام : «المؤمنون عند شروطهم» إلاّ إذا کان شرطا محرّما.

وأمّا شرط النتیجة: فقد اختلف أصحابنا فی حکمه:

[حیث] ذهب جماعة إلی أنّ مثل هذا الشرط لا یمکن أن یکون بنفسه سببا، وإنّما یجب قیام السبب الخاصّ المترتّب علیه المسبّب الخاصّ، فلا تتحقّق الزوجیّة أو الملکیّة بمجرّد الشرط فی ضمن العقد؛ لأنّ لازمه حصول الملکیّة والزوجیّة بلا سبب، بل لابدّ من صیغة النکاح أو البیع والهبة لیتحقّق من خلال هذه الأسباب الزوجیّة أو الملکیّة.

والتزم آخرون بإمکان قیام الشرط مقام السبب، وترتّب النتیجة علیه، لکن لا مطلقا، بل بالتفصیل بین أقسام النتیجة، واستدلّوا علی ذلک بأنّ النتائج علی قسمین:

القسم الأوّل: النتائج المتوقّفة تحقّقها علی سبب خاصّ شرعا کالطلاق، فإنّه لا یتحقّق الطلاق من خلال شرط الطلاق فی ضمن البیع، لأنّ الطلاق له صیغة خاصّة وضعها الشارع هی السبب فی وقوعه، ولامجال لتحقّقه بأیّ سبب آخر حتّی ولو کان شرطا فی ضمن عقد لازم.

القسم الثانی: النتائج التی لم یتوقّف تحقّقها علی سبب خاصّ شرعا، فمثل هذه النتائج تحصل بکلّ سبب عرفی کالملکیّة، حیث لم یعیّن لها الشارع صیغة خاصّة وسببا معیّنا، بل فیها القابلیّة للوجود بمطلق الأسباب العرفیّة کالبیع والمعاطاة والصلح، ومنها الشرط فی ضمن العقد.

ثمّ بعد بیان هذه المقدّمة نقول: فصّل المحقّق الإصفهانی فی المقام بین النتائج الثبوتیّة التی یمکن تحقّقها من خلال الشرط _ کالملکیّة وغیرها من الاُمور الخارجیّة أو الاعتباریّة _ وبین النتائج العدمیة التی لا تتوقّف عدمیّتها علی سبب، ولذلک لا یمکن إیجاده بالشرط. وما نحن فیه من القسم الأخیر، لأنّ متعلّق الشرط فی قوله: «لا تُباع ولا تُوهب» عدمی، أی عدم النتیجة وهی عدم المبیعیّة وعدم الموهوبیّة، وهما أمران یستحیل

ص: 218

أن یکون لهما سبب، وبالتالی لا مجال لتحقّقهما من خلال شرط النتیجة.

نعم، یمکن أن یتصوّر تعلّق [الشرط]، وذلک فیما لو کان متعلّقه ممّا یمنع عن السبب الشرعی، فیصبح معنی الشرط فی هذه الحالة هو أنّنی تصدّقت بالمال، مع الالتزام بعدم تأثیر [سببه من] البیع والهبة، لکن مثل هذا الشرط یعدّ باطلاً لمخالفته مع المشروط الذی [بیّن عدم شرطیته الشرع والالتزام بتأثیره التزام بغیر المشروع].

وبالجملة: استنتج المحقّق الإصفهانی من خلال تحقیقه بصحّة شرط الفعل دون النتیجة، لمخالفة الأخیرة مع الشرع دون السابق، والمستفاد من سیاق الروایة الأخیرة [صحیحة ربعی بن عبداللّه] أنّ الشرط المذکور فیها لو لم یکن وصفا للصدقة، فلابدّ وأن یکون شرط النتیجة لجهتین: لأنّه شرط عدمی قد شرط فیه عدم البیع والهبة، ولتضمّن الروایة کلمة «لا تُورث» والذی لا یمکن حملها علی شرط الفعل، لأنّ الإرث أمرٌ لا یمکن تحقّقه إلاّ من خلال حکم الشرع دون الشرط، فلیس أمره بید المکلّف لیوجده من خلال الشرط، بل هو أمرٌ مقیّد بأحکام الشریعة، وشرطه فی ضمن العقد یعدّ شرطا للنتیجة دون الفعل»(1).

ویرد علیه: «أوّلاً: إنّ إطلاق قوله رحمه الله : «إنّ شرط عدم البیع تارةً بنحو شرط الفعل، والالتزام بعدمه غیر منافٍ لجواز فعله» _ لکونه داخلاً فی موارد مسوّغات بیع الوقف، وبالتالی لا یکون جواز بیعه منافیا مع عدم البیع، کما هو الحال فی کلّ شرط مباح _ الدالّ علی أنّ مطلق موارد بیع الوقف جائزة.

ممنوعٌ، لمنافاته مع ما ورد من وجوب بیع الوقف فی موارد اُخری، وهی:

1_ قیام الضرورة الملحّة کحاجة الموقوف علیهم لثمن العین الموقوفة.

2_ قیام ما یهدّد سلامة الوقف أو الموقوف علیهم، کما لو تنازع أرباب الوقف وخیف انتهاء الأمر إلی تلف النفوس والأموال، أو حدث ما أدّی إلی خراب العین الموقوفة _ وسواء کان المراد من الخراب قلّة المنافع أو زوالها _ فإنّ الشارع أجاز فیه بیع الوقف.

ص: 219


1- (976) العقد النضید 4/(516-514).

وعلیه، فما التزم به المحقّق الإصفهانی _ وتبعه علی ذلک بعض أعلام تلامذته _ من أنّه لا مانع من إطلاق شرط الفعل؛ ممنوعٌ لمنافاته مع وجوب البیع فی بعض الموارد.

وثانیا: إنّ دعواه أخیرا بأنّ «الظاهر هنا شرط النتیجة» والاستدلال علیها بأنّ شرطا «لا تُباع ولا تُوهب» قد تعقبهما قوله: «ولا تورث» المعدود من شروط النتیجة، ممّا یوجب اندراج الشرطین السابقین فیها لوحدة السیاق.

ممنوعةٌ، إذ لابدّ من التفریق بین متعلّق الشرط والتوصیف، فقد یقع المتعلّق تارةً وصفا کقوله علیه السلام : «صدقةً لا تُباع ولا تُوهب» فیندرج فی شرط النتیجة، لعدم قابلیّته لشرط الفعل، وقد تقع الجملة متعلّق الالتزام، وحینئذٍ لا یبقی لها وجه لظهورها فی شرط النتیجة، [بل تقع فی شرط الفعل] والشاهد علی ذلک:

1_ وقوع هذه الجملة فی النصوص والأخبار تارةً شرطا فعلیّا واُخری علی نحو شرط النتیجة:

أمّا علی نحو شرط النتیجة: فقد جاء فی روایة فی باب اللّقیط أنّ «اللّقیط لا یُباع ولا یُوهب»(1) أی لیس فی اللقیط قابلیّة البیع والهبة و [الشراء].

وأمّا علی نحو شرط الفعل: فقد جاء فی روایة صحیحة رواها الشیخ الطوسی بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن ابن سنان، ورواها الکلینی بسنده الصحیح عن الحلبی، عن أبی عبداللّه علیه السلام : قال: «سألته عن الشرط فی الإماء، لاتباع ولا تورث ولا توهب؟ فقال علیه السلام : یجوز ذلک غیر المیراث فإنّها تورث، وکلّ شرط خالف کتاب اللّه فهو رُدّ»(2).

ولو کانت الجملة علی نحو شرط النتیجة _ کما ادّعاه المحقّق الإصفهانی _ کان

ص: 220


1- (977) مراده صحیحة محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفر علیه السلام عن اللقیط، فقال: حرٌ لا یُباعُ لا یُوهَبُ. [وسائل الشیعة 25/468، ح5، الباب 22 من أبواب بیع اللقطة]. ونحوها صحیحة اُخری محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال: سألته عن اللقیط، قال: لا یُباعُ ولا یُشْتَری. [وسائل الشیعة 23/97، ح1، الباب 62 من أبواب کتاب العتق].
2- (978) وسائل الشیعة 18/267، ح1، الباب 15 من أبواب بیع الحیوان.

الشرط إبداءً للمانع فی مقابل تأثیر السبب الشرعی، ولا شکّ فی بطلانه، برغم ذلک نجد أنّ الإمام علیه السلام قد حکم بصحّته، وبالتالی لا یخلو حال الشرط المذکور:

فأمّا شرط النتیجة وهو ما أبطله الإصفهانی وصحّحه الإمام علیه السلام ، وأمّا شرط الفعل فهو أیضا یعدّ إبطالاً لدعوی الإصفهانی القائل بعدم إمکان وقوع الجملة شرطا للفعل.

وهناک رواة اُخری یمکن عدّها مؤیّده لدعوانا، وهی [خبر جمیل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما علیهماالسلام ]: «فی رجل اشتری جاریة وشرط لأهلها أن لا یبیع ولا یهب؟ قال: یفی بذلک إذا شرط لهم»(1).

وفی روایة الشیخ بإسناده عن المیثمی زیادة قوله: «یفی بذلک إذا شرط لهم إلاّ المیراث» حیث أجاز الإمام الشرط عدا المیراث.

2_ موافقة دعوانا مع ما استنتجه الفقهاء والمحدّثین من هذه الأخبار، فضلاً عن صاحب «الوسائل» الخبیر المتضلّع بمضامین الأخبار ومدلولاتها، حیث عنون الباب الذی أدرج فیه الأخبار المذکورة ب_«باب حکم اشتراط عدم البیع والهبة والمیراث فی بیع الجاریة»(2)، وللمزید عن ذلک راجع ما ذکره صاحب «الجواهر»(3) فی المقام.

وثالثا: إنّ تأکید دعواه أخیرا ب_(إضافة عدم الإرث إلی عدم البیع والهبة) أیضا ممنوعة:

1_ لما ذکرناه آنفا من أنّ إضافة الإرث إلی عدمهما لا توجب اندراج الجمیع فی شرط النتیجة.

2_ ولو سلّمنا أنّ ضمّ الإرث إلیهما یوجب ذلک، لکن معظم الأخبار الصحیحة _ عدا الصحیحة الواردة فی قضیّة عین یَنْبُعٍ(4) _ لا تتضمّن سوی العدمین دون إضافة

ص: 221


1- (979) وسائل الشیعة 18/268، ح2، الباب 15 من أبواب بیع الحیوان.
2- (980) وسائل الشیعة 18/267.
3- (981) جواهر الکلام 24/376 (23/201).
4- (982) وسائل الشیعة 19/186، ح2.

الإرث إلیهما، کما هو الحال فی صحیحة ربعی بن عبداللّه(1) حسبما رواها الشیخ الطوسی(2) بإسناده الصحیح، نعم رواها الشیخ الصدوق فی «الفقیه»(3) بنفس الإسناد مع ضمّ (لا تُورث) إلیهما، فیدور الأمر بین الزیادة والنقیصة، وتقتضی القاعدة ترجیح عدم السهو فی الزیادة، وخاصّةً فیما نحن فیه حیث أنّ الزیادة حادثة فی نقل الصدوق رحمه الله الذی یعدّ أضبط وأتقن من الشیخ فی نقل الأخبار، لانحصار اهتماماته بخصوص الأخبار والأحادیث دون الشیخ الذی تنوّعت اشتغالاته وتفرّقت اهتماماته، لکن برغم ذلک فإنّ هذا الترجیح لا ینفع المحقّق الإصفهانی فی دعواه للأسباب التالیة:

أ: هناک مبنیان فی کیفیّة معالجة دوران الأمر بین الزیادة والنقیصة وکلاهما غیر مُفِیْدَیْنِ لدعوی الإصفهانی، إذ اختلف أصحابنا:

[1] بین مرجّح لأحدهما علی الآخر

[2] وبین من التزم بعدم الترجیح والتساقط.

أمّا نتیجة الثانی فواضحة حیث یستلزم سقوط النقلین، وبذلک یسقط مستند دعوی المحقّق الإصفهانی. وأمّا الأوّل فإنّه لو تمّ لأفاد ثبوت الدعوی فی المقام؛ لأنّ الترجیح مبنیٌّ علی قاعدة ارتکازیّة علیها سیرة العقلاء وهی أنّ مؤونة الإضافة أکثر من مؤونة النقیصة، بمعنی أنّ من الطبیعی أن یسهو الکاتب حین الکتابة فتسقط منه کلمة حین کتابة النصّ، بخلاف زیادة الکلمة التی تحتاج إلی أن یتنبّه الکاتب إلیها فیحشرها بین الکلمات، ولهذا السبب فإنّ الأصل عند الدوران عدم السهو فی الزیادة، وأنّ الزیادة جاءت محسوبة ومرادة ولیست باعتباطیّة، فلها الاعتبار ولابدّ من ترتیب الأثر علیها.

لکن هذه القاعدة الکلّیة غیر جاریة فی المقام؛ لأنّ الشیخ لو کان قد نقل الخبر مع النقیصة مرّة واحدة، لقدّمنا نقل الصدوق علیه، إلاّ أنّ الملاحظ أنّ الشیخ کرّر النقل فی «التهذیب» و «الاستبصار» وبالتالی یضعف احتمال خطأه.

ص: 222


1- (983) وسائل الشیعة 19/187، ح4.
2- (984) التهذیب 9/131، ح560؛ الاستبصار 4/97، ح378.
3- (985) الفقیه 4/248، ح5588.

ب: صرّح صاحب «الوسائل»(1) بتطابق نقل الصدوق فی «الفقیه» مع نقل الشیخ الطوسی واتّحادهما فی ضبط الکلمات، ووثاقة الحرّ العاملی تقتضی الحکم بموافقة نسخته من «الفقیه» مع النقیصة.

ج: روی الفیض الکاشانی الخبر فی «الوافی»(2) نقلاً عن «الفقیه» خالیا مِنَ الزیادة المذکورة.

وعلیه فللأسباب المذکورة یسقط النقل الوارد فی «الفقیه» المطبوع، ویتقدّم علیه نقل الشیخ مع النقصان، بل یتّفق نقل الشیخ مع نقل الصدوق، ولو تنزّلنا وسلّمنا تردّد الأمر بینهما فالأسباب المذکورة تمنع عن جریان القاعدة.

[الحاصل]: ثبت ممّا ذکرنا عدم ثبوت انضمام الإرث إلی العدمین المذکورین، وبالتالی تَسْقُطُ دعوی المحقّق الإصفهانی المبنیّة علی ضمّ «لا یُورث» إلی «لا یُباع ولا یُوهب».

ورابعا: لو سلّمنا دعوی المحقّق الإصفهانی والتزمنا بأنّ الوضعین المذکورین یعدّان من شروط النتیجة دون الفعل، إلاّ أنّ دعواه بأنّه «لا معنی للالتزام به إلاّ إبداء المانع عن تأثیر ما هو سببٌ للانتقال من عقد البیع ونحوه، والالتزام بعدم تأثیر السبب شرعا التزام بغیر المشروع» ممنوعة، لأنّ المشروعیّة وعدمها من أوصاف الفعل الاختیاری، بمعنی أنّ الفعل الصادر عن المکلّف باختیاره إن وافق الکتاب والسنّة عُدَّ مشروعا، وإن خالفهما أصبح مخالفا للشرع، ومع الالتزام بأنّ الشرط شرط النتیجة، فإنّه لیس لمثل هذا الشرط إبداء المانع مقابل السبب الشرعی؛ لأنّ الإبداء أمرٌ غیر اختیاری وقد ثبت أنّ المشروع وغیر المشروع متفرّعان عن الاختیاری الموافق والمخالف، أمّا غیر المقدور فلا یوصف بذلک.

هذا تمام الکلام فی تعلیقة المحقّق الإصفهانی علی کلام المحقّق التستری

ص: 223


1- (986) وسائل الشیعة 19/187 ذیل ح4 قال: ورواه الصدوق عن ربعی بن عبداللّه نحوه.
2- (987) الوافی 10/568، ح10115.

صاحب المقابس»(1).

موانع بیع الوقف فی رأی الشیخ الأعظم
اشارة

قال: «ممّا ذکرنا ظهر: أنّ المانع عن بیع الوقف اُمور ثلاثة:

حقّ الواقف، حیث جعلها بمقتضی صیغة الوقف صدقة جاریة ینتفع بها.

وحقّ البطون المتأخّرة عن بطن البائع.

والتعبّد الشرعی المکشوف عنه بالروایات؛ فإنّ الوقف متعلّق لحقّ اللّه؛ حیث یعتبر فیه التقرّب ویکون للّه تعالی عمله وعلیه عوضه.

وقد یرتفع بعض هذه الموانع فیبقی الباقی، وقد یرتفع کلّها، وسیجیء التفصیل»(2).

أقول: یمکن النقاش فی هذه الموانع الثلاث کلّها:

1_ أمّا حق الواقف

«فإنّه لا شکّ أنّ الحقّ والمِلک نحو إضافة بین المالک والمملوک، وبین ذو الحقّ ومتعلّق الحقّ، ومن المعلوم أنّه لا یمکن فرض الإضافة فی مطلق الاُمور المرتبطة والمتعلّقة إلاّ مع وجود طرفیها، کما هو الحال فی الوقف، فإنّ الواقف یقطع من خلال الصیغة العُلقة الاعتباریّة والإضافة الملکیّة الموجودة بینه و بین المال، ومن ثَمَّ لا یبقی حقٌّ لیضاف إلیه، إلاّ ما ذکره الشیخ من عنوان الصدقة الجاریة التی ینتفع منها الواقف، فإنّ کلامه صحیح لا غبار علیه، فالبیع بما أنّه یعدّ مفوّتا لهذه الصدقة، یعتبر قاطعا للوقف ومانعا من موانع دوام الصدقة الجاریة.

وأمّا دعواه: من أنّ حبس العین وتسبیل المنفعة یجعل للواقف حقّا فی المال الموقوف، بمثل حقّ الرهانة بین الراهن والمرتهن وحقّ التحجیر.

فهی دعوی ممنوعة، واضحة البطلان، لانقطاع العلاقة الحقّیة والملکیّة بین المالک والعین الموقوفة بعد تحقّق الوقف.

ص: 224


1- (988) العقد النضید 4/(521-516) مع إصلاحات وذکر المنابع والمصادر.
2- (989) المکاسب 4/35 و 36.
2_ وأمّا حقّ اللّه _ سبحانه وتعالی _

فإنّه أیضا أمرٌ لا یمکن تصوّره فی المقام؛ لأنّ المراد من قیام العلقة معه سبحانه لا یخلو:

إمّا أن یُراد منها قیام العلقة الإضافیّة الاعتباریّة بین اللّه سبحانه وبین المال، فهو ممنوع إلاّ فی موارد خاصّة قام الدلیل علیها، کما فی الخمس، حیث دلَّ قوله تعالی: «فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ»(1) علی مثل تلک العلقة، أمّا فی الوقف فلا دلیل علیها.

وأمّا أن یراد منها أنّ الوقف یقلب المال المملوک إلی صدقة، ومن هذه الجهة یعدّ متعلّقا لحقّ اللّه سبحانه، فهو أیضا ممنوع، لأنّ الواقف لا یملّک ماله للّه سبحانه وتعالی من خلال الصیغة، بل تملیک باللّه وفی سبیل اللّه ولأجل التقرّب إلیه سبحانه، وإلاّ فإنّه لو حصلت إضافة مالکیّة بین المال الموقوف وبین اللّه سبحانه وتعالی، لاستحال التعامل علی أموال الفقراء والصدقات من بیع وشراء وإجارة، وهذا ما لا تردید فی بطلانه. فإذن هناک فرق بین التملیک للّه والتملیک باللّه وفی سبیل اللّه.

ولعلّ أدقّ ما قیل فی بطلان هذا الحّق المزعوم، ما صرّح به المحقّق النائینی بقوله: «وأمّا حقّ اللّه تعالی فلیس له حقّ علی الواقف فی مقابل الحکم، نظیر الحقّ المتصوّر فی باب الزکوات والأخماس، نعم المتصوّر فی باب الوقف من اللّه سبحانه هو الحکم الشرعی التعبّدی بوجوب صرف الوقف فیما عیّنه الواقف، ومن المعلوم أنّ الحکم مغایر مع الحقّ فالتعبیر عن الحکم بالحقّ لا یخلو عن مساهلة»(2)»(3).

وبالجملة: لا دلیل علی ثبوت الحق للواقف وللّه سبحانه فی العین الموقوفة ومن المعلوم توقف ثبوت الحق علی الاثبات ولیس هناک ما یثبت لهما ذلک.

3_ وامّا حق البطون المتأخرة

فناقشه المحقّق الخراسانی بقوله: «وأمّا البطون اللاّحقه، فلو سلّم کون العین فعلاً

ص: 225


1- (990) سورة الأنفال /41.
2- (991) المکاسب والبیع للآملی 2/381.
3- (992) العقد النضید 4/(523-521).

متعلّقة لحقّها، فانّما یکون مانعا عن بیعها علی أن یکون الثمن ملکا للموجودین من الموقوف علیهم، لا علی أن یکون الثّمن کالمثمن متعلّقا لحقوقها، إذا کان البیع صلاحا للوقف»(1).

مراده: یمکن توضیح مراده بتمثیله بباب الرهن، «حیث التزم المشهور بعدم جواز بیعه، فی قبال من ذهب إلی جوازه، وإن لم یأذن به المرتهن، لعدم منافاة البیع مع حقّ المرتهن، لانتقال حقّه إلی ذمّة المشتری، وله استنقاذ حقّه من العین. وکذلک الحال فی باب الوقف، فإنّ بیع الوقف إذا کان سببا لزوال حقّ البطون اللاّحقة کان منافیا له، وأمّا إذا قلنا بجواز بیعه فیما لو خربت العین الموقوفة، فإنّ الحقّ یبقی ثابتا دون أن یبطل بل ینتقل من المثمن إلی الثمن»(2).

ویرد علیه: «أن الحق الثابت لهم من خلال الوقف حقّان: حقّ متعلّق بخصوص العین، وحقّ متعلّق بمالیّة العین، وبالرغم من أنّ البیع لا یتعرّض لحقّهم الثانی المتعلّق بمالیّة العین الموقوفة، إلاّ أنّه یزیل حقّهم الأوّل المتعلّق بذات العین، ومن هذه الجهة یعدّ البیع مضیّعا لحقوق البطون اللاّحقة، فیکون باطلاً»(3).

وتبع المحقّق الإصفهانی أستاده الخراسانی فی النقاش وقال: «إنّ مالکیة البطون اللاحقة لیست مالکیة فعلیة فی عرض مالکیة البطن السابق، لا استقلالاً ولا اشتراکا، لاستحالة ملکیتین فعلیتین لتمام العین فی زمان واحد، ولعدم استحقاق البطون اللاحقة لبعض منافع العین فی غیر زمانهم، ولیست مالکیة فعلیة طولیة، لاستحالة المالکیة الفعلیة للبطن اللاحق للعین فی زمانه، بداهة أنّه اعتبار لغو لا یصدر من عاقل فضلاً عن الشارع إذْ لیس الملک الاعتباری إلاّ ما یتقوم به الاعتبار، فالاعتبار الفعلی للمالکیة فی زمانه غیر معقول.

فلا محالة تکون مالکیة البطون اللاحقة شأنیة، ولیس الملک الشأنی سنخا من

ص: 226


1- (993) حاشیة المکاسب /107.
2- (994) العقد النضید 4/523.
3- (995) العقد النضید 4/528.

الملک فی قبال الملک الفعلی؛ لیکون أمرا محققا یمنع عن تصرف البطن السابق، بل لیس له إلاّ شأنیة الوجود، لتمامیة سببه الشرعی، وعدم الفعلیة مستند إلی عدم البطن اللاحق الذی یقوم به الملک، والملک الانشائی وإنْ کان محققا، إلاّ أنّه لا ربط له بالملک الاعتباری الذی یتسبب إلیه بالوجود الانشائی کما مرّ مرارا... .

وعلیه فلیس بالنسبة إلی البطون اللاحقة ملک فعلی یمنع عن تصرف المالک بالفعل، ولا حقّ اعتباری مجعول من قبل الواقف، ولا من قبل الشارع، بل الموجود سبب إنشائی تام غیر مؤثر فی مالکیة البطون اللاحقة»(1).

أقول: بالنسبة إلی حق البطون المتأخرة لابدّ أنّ نبحث عنه فی مقامی الثبوت والإثبات.

وأمّا مقام الثبوت

فالبحث فیه یتوقف علی إمکان ملکیة المعدوم وعدمه وفیه قولان: «1_ ذهب المشهور إلی أنّه لا یمکن تصویر الملکیّة الفعلیّة للمعدوم من جمیع النواحی، وقد صرّح بذلک [الشیخ فی النهایة(2) والمبسوط(3) والقاضی فی المهذب(4) وابن إدریس فی السرائر(5) والمحقّق فی الشرائع(6) و] العلاّمة فی عدد من کتبه(7)، والمحقّق الثانی فی جامع المقاصد(8)، وکذلک الشهید الثانی(9)... ومنهم صاحب الجواهر، ولعلّ تصریح

ص: 227


1- (996) حاشیة المکاسب 3/82.
2- (997) النهایة /615.
3- (998) المبسوط 4/14.
4- (999) المهذب 2/109.
5- (1000) السرائر 3/212.
6- (1001) الشرائع 2/199.
7- (1002) منها: تذکرة الفقهاء 21/73، قواعد الأحکام 2/448.
8- (1003) جامع المقاصد 10/41.
9- (1004) المسالک 6/215.

المحقّق الإصفهانی [بما معناه]: «أنّ مالکیّة البطون اللاّحقة لیست مالکیّة فعلیّة ولا یمکن تصوّرها، بل هی مالکیّة شأنیة، وهی لیست إلاّ إنشاء الواقف وتسبیبه الوقف للبطن المتأخّر من خلال الصیغة» لیس إلاّ صدیً لما صرّح به [صاحب الجواهر] فی کتاب الوصیّة، حیث قال فی الفصل المتعلّق بالموصی له: إنّ «المعدوم لیس له أهلیّة التملّک ولا قابلیّته، ضرورة کون الملک من الصفات الوجودیّة التی لا تقوم بالمعدوم، بل لا یتصوّر قیامها فیه، بل مرجع ملک المعدوم إلی الملک بلا مالک، وما ثبت فی الوقف من صحّته علی المعدوم تبعا للموجود، إنّما هو بمعنی جعل الشارع عقد الوقف سببا لملک المعدوم بعد وجوده، فالوجود حینئذٍ کالقبض أحد أجزاء العلّة التامّة فی ثبوت الملک له، لا أنّه مالک حال عدمه، وإلاّ کان وجوده کاشفا عن تحقّق شرکته مع الموجود من أوّل الأمر وهو معلوم البطلان»(1).

2_ ذهب بعض الفقهاء إلی أنّه لا محذور ثبوتا لفرض الملکیّة للمعدوم، واستندوا فی ذلک إلی موارد فقهیّة أثبت فیها الشارع ملکیّة المعدوم، ولعلّ بعضها معدودة من ضروریّات الفقه، کبیع الثمرة الموجودة مع ثمرة السنة القادمة المعدومة خلال صفقة واحدة، وکذلک إجارة المنافع الحاصلة مستقبلاً والمعدومة فعلاً، فإنّ الملکیّة المفروضة فی هذه الموارد إنّما هی ملکیّة معدومة یقوم أحد الأطراف بالتعامل علیها وبیعها وتملیکها للمشتری، ومن المعلوم أنّ الأحکام العقلیّة آبیة عن التخصیص، فإذن الملکیّة التی هی إضافة إلی طرفی المعاملة من المالک والمملوک، لو أمکن تحقّقها بمعناها المفعولی بالنسبة إلی المعدوم، لأمکن تحقّقها بمعناها الفاعلی بالنسبة إلی المالک، للملازمة العقلیّة القائمة بین ملکیّة المعدوم والمالک.

وبعبارة أُخری: بعد ما ثبت شرعا إمکان ملکیّة الأعیان والمنافع المعدومة، فإنّه یثبت بالنسبة إلی المالک أیضا بحکم البرهان والضرورة.

مستند الشمهور فی حکمهم بعدم إمکان وقوع المعدوم طرفا للإضافة، إلی أنّ

ص: 228


1- (1005) الجواهر 29/759 (28/363).

المعدوم لایمکن الإشارة إلیه، وما لایمکن الإشارة إلیه لا مجال لتخصیص الشیء به وتملیکه إیّاه.

والجواب، أمّا کبروریّا: فإنّ ما استند إلیه فی نفی الإضافة عن المعدوم، إنّما هو مختصّ بالمعدوم المطلق دون المعدوم بالإضافة، وهو المعدوم بالفعل الذی سیوجد لاحقا، وذلک لأنّ المعدوم المطلق لا وجه له ولا عنوان: أمّا المعدوم الإضافی فإنّ له عنوان یمکن من خلاله الإشارة إلیه، وقابلاً لأن یصبح موضوعا یتعلّق به الأحکام.

وأمّا صغرویّا: فإنّه لا شکّ فی صحّة الحکم علی العنوان الذی یتحقّق معنونه لاحقا، کصدور الحکم فعلاً فی هذا الیوم علی المعنون الذی یتحقّق غدا، وهو معدوم الآن لکنّه موجودٌ غدا، وما نحن فیه من تعلّق الوقف بالبطون اللاّحقة من هذا القبیل، وکذلک الحال بالنسبة إلی بیع الثمرة وإجارة المنافع المستحدثة.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا نقضا وحلاًّ ومن جهة الثبوت، إمکان جعل الأمر الاعتباری للمعدوم عقلاً، بل نفس التعبّد الشرعی بذلک کاشفٌ عن إمکان تعلّق الإضافة بالمعدوم عقلاً وصحّته، لأنّ التعبّد فرع علی معقولیّة الشیء وصحّته»(1).

وأمّا مقام الاثبات

«فهو متوقّف علی قیام الدلیل، بمعنی أنّه فی أیّ مورد قام الدلیل علی توجیه الخطاب إلی المعدوم، نحکم بصحّته وصحّة المعاملة علیه، کما فی بیع الثمار وتملیک المنافع المستقبلیّة، وکذلک الحال بالنسبة إلی ملکیّة البطون المتأخّرة، فبعد عدم المانع ثبوتا یکفی للحکم بصحّتها نفس الأدلّة علی صحّة الوقف، فإنّ قوله علیه السلام [فی صحیحة ربعی بن عبداللّه]: «تصدّق بداره التی فی بنی زُریق صدقةً لا تُباع ولا تُوهب... لخالاته ما عِشْن وعاش عقبهنّ»(2) دلیلٌ إثباتی یدلّ علی أنّه علیه السلام لا حظ المعدومین من أعقابهنّ من خلال عنوان حالاته الموجودات، فأوقف لهم وملّکهم وخصّهم بهذه الدار التی فی بنی

ص: 229


1- (1006) العقد النضید 4/525 و 526.
2- (1007) وسائل الشیعة 19/187، ح4.

زُریق. بالتالی ثبت أنّه لا مانع من الحکم بتحقّق هذه الملکیّة.

إنّما الکلام فی أنّه هل یثبت للموقوف علیهم الحقّ من خلال هذه الملکیّة العنوانیّة الشأنیة أم لا؟

یمکن أن یقال: الحقّ یعنی الاختصاص والإضافة الخاصّة الحاصلة بین الطرفین، کالاختصاص والإضافة الحاصلة للمرتهن بالعین المرهونة، أو للسابق بمکان الصلاة [فی المسجد]، ولا شکّ أنّ مثل هذا الاختصاص لا یتحقّق إلاّ من خلال السبب، أمّا الملکیّة الحاصلة للبطون اللاّحقة من خلال إنشاء صیغة الوقف، لا یخلو حال المتصرّف فیها بإزالة عنوان الوقف:

أمّا أنّ تصرّفه لا یعدّ عند العقلاء تضییقا علیهم، واعتداءً علی أموالهم وحقوقهم، فلا ذمَّ ولا مؤاخذة، لعدم تصرّفه فی حقّ یُلام علیه.

وأمّا أنّ ذلک یعدّ عند العقلاء عملاً عدوانیّا یؤخذ به ویذمّ لأجله، کما هو الحقّ، فإنّ موافقة الطبقة الحالیّة بالتصرّف الذی یزیل ملکیّة البطون اللاّحقة، یعدّ عند العقلاء _ من کلّ مسلکٍ وملّةٍ وقوم _ عملاً مذموما ومؤاخذا علیه، وکاشفا عن ثبوت حقّ فعلی لم یرد عنه الشارع للبطون اللاّحقة، وبذلک تتمّ دعوی الشیخ من ثبوت الحقّ، ویبطل ما ذهب إلیه المحقّق الإصفهانی(1) وغیره من إنکار ثبوت الحقّ»(2).

فذلکة القول

ثبت مما ذکرنا أنّ المانع عن صحة بیع الوقف هو تعلّق حقّ الموقوف علیهم من البطون المتأخرة بالعین الموقوفة، مضافا إلی ورود الروایات المانعة عن بیع الوقف التی مرّ بعضها. واللّه العالم.

مقالة المحقّق الإصفهانی فی تصحیح بطلان بیع الوقف وتمامیتها

قال: «نعم یمکن القول بالمنع من التصرف الناقل لعدم مقتضٍ تام للمتصرف، لا

ص: 230


1- (1008) حاشیة المکاسب 3/82.
2- (1009) العقد النضید 4/527.

لمانعیة حق البطن اللاحق، توضیحه:

إنَّ ملکیة کلّ بطنٍ إنْ کانت ملکیة فعلیة مرسلة مطلقة کانت مصححة للبیع الذی هو تملیک مرسل مطلق، وإنْ کانت ملکیة محدودة مؤقتة فهی غیر مصححة للتملیک المطلق المرسل، إذ لیس للبائع ما لابدّ منه فی تحقق البیع منه...»(1).

مراده: «انّ حقیقة البیع هی التملیک المرسل المطلق، وهو یتمّ فیما لو کان المملِّک قادرا علیه، وذلک إذا کانت ملکیّته مطلقة، وأمّا إذا کانت محدودة موقّتة فهو عاجز عن تحقّقه، وما نحن فیه من قبیل الثانی إذا أنّ ملکیّة کلّ بطن محدودة بفترة معیّنة، فالمالک الأوّل مالک إلی حین انقراضه، وحینذاک یملکه البطن الثانی وهکذا، وبالتالی فبطلان البیع إنّما هو من جهة عدم الاقتضاء لا قیام المانع»(2).

اورد علیه: «أوّلاً: بأنّه کما أنّ الوقف تملیک محدود، فما المانع أن یقع البیع علی نحو التملیک المحدود.

وثانیا: لو سلّمنا عدم صدق البیع علی التملیک المحدود، فإنّ المشکلة ترتفع فیما لو قام البطن الموجود بتملیک العین تملیکا مرسلاً مطلقا، لکن بشرط انفساخ البیع عند انقراض البطن الموجود.

وثالثا: لو سلّمنا وتنزّلنا عنهما، فإنّ غایة ما یتحقّق من خلال تصرّف البطن الموجود، هو وقوع البیع الفضولی؛ لأنّ الطبقة الموجودة قد باع ما لا یملک، فیتوقّف صحّة البیع وتحقّق الملکیّة المرسلة علی إجازة الطبقة اللاّحقة»(3).

ویمکن أن یجاب عن الإیراد الأوّل: «أنّ توجیه مثل هذه المناقشة إلی کلام المحقّق الإصفهانی لا یخلو عن الغرابة، لأنّ المحقّق الإصفهانی حینما استعرض الأدلّة الواردة فی بابی الوقوف والصدقات علی الطبقات والبطون، لاحظ أنّ جمیعها تفید ثبوت الملکیّة المحدودة، ومن ثمّ یناقش مناقشة إثباتیّة ولیس بثبوتیّة، ویقول مع قیام هذه

ص: 231


1- (1010) حاشیة المکاسب 3/83.
2- (1011) العقد النضید 4/528.
3- (1012) العقد النضید 4/529.

الأدلّة الدالّة علی التملیک المحدود، کیف یمکن فرض تحقّق البیع غیر المحدود، بمعنی أنّ من یملک ملکیّة محدودة کیف یتسنّی له القیام بالبیع المطلق، وتملیک المال الموقوفة للمشتری تملیکا مطلقا؟! وعلیه فقیاس البیع المحدود بالوقف قیاسٌ مع الفارق، وباطلٌ ثبوتا وإثباتا؛ لأنّ ملکیّة الواقف علی العین ملکیّة مطلقة غیر مقیّدة لکن ملکیّة الموقوف علیه محدودة ومق_یّدة، حیث یُملّک الواقفُ الطبقةَ الاُولی جزءا من الملکیّة، ویعطی الطبقة الثانیة جزءها الآخر، وهکذا بالنسبة إلی بقیّة البطون، وبالتالی لیس فی استطاعة المالک المحدود ملکیّته القیام بالبیع المطلق المرسل، فضلاً عن أنّ عمله فاقد لدلیل الاعتبار.

عن الإیراد الثانی: إنّ الحکم فیه یتوقّف علی ملاحظة النتیجة الحاصلة من البحث عن أمرین: أ: هل یجوز البیع بشرط الانفساخ، ب: وهل یعدّ مثل هذا الشرط فی ضمن العقد سائغا؟

أ: لا شکّ فی قیام الأدلّة علی صحّة البیع بشرط الخیار، وأمّا بیع المال مشروطا بأن ینفسخ البیع بنفسه فی فترة معیّنة، فهذا ما نبحث عن حکمه فی بحث الشروط، ونبحث خلاله عن مدی تأثیر الشرط فی فسخ المعاملة، ومختارنا أنّه لا مجال للحکم بصحّة هذا الشرط، لأنّه شرط النتیجة ولیس بشرط الفعل، وبالتالی فشرط انفساخ العقد فی الوقت المعیّن باطل.

ب: ولو سلّمنا صحّة البیع بشرط الانفساخ، فإنّ من ضروریّات الفقه توقّف صحّة کلّ شرط علی صحّة المشروط، أی یجب أوّلاً صحّة العقد بتمامیّة اقتضاءه وارتفاع موانعه، لیصل الدور ثانیا إلی البحث عن حکم الشرط فی ضمنه، وفی المقام فإنّ المشروط بنفسه ممنوعٌ، لأنّه تملیک مطلق ممّن له الملکیّة المحدودة، وبالتالی فأصل العقد فاقدٌ لاقتضاء الصحة، ولا یبقی بعده شرط البحث عن حکمه.

ج: هذا فضلاً عن أنّ الإشکال المذکور دوریّ، لأنّ المستشکل یحاول تصحیح البیع الصادر من المالک المحدود بشرط الانفساخ، فصحّة المشروط متوقّفة علی صحّة الشرط وبالعکس، وهذا دور واضح.

ص: 232

وعن الإیراد الثالث: ثبت فی بحث الفضولی أنّ الإجازة تکون مصحّحة فیما لو صدرت ممّن له حقّ إصدارها، وفی قضیّة الوقف فإنّ ملکیّة جمیع الطبقات تکون محدودة غیر مطلقة، وبالتالی فلا یصحّ صدور الإجازة المطلقة ممّن له الملکیّة المحدودة»(1).

فذلکة الکلام إلی هنا

فقد ظهر ممّا سردناه علیک تمامیة أدلة حرمة بیع الوقف بالوجوه التالیة:

1_ الوقف یتنافی ذاتا مع البیع فالجمع بینهما جمعا بین المتنافیین.

2_ النصوص الخاصة الدالة علی بطلان بیع الوقف.

3_ بیع الوقف یتنافی مع حق بطون الموقوف علیهم المتأخرین.

4_ ما أفاده المحقّق الإصفهانی قدس سره فی تصحیح بیع الوقف. واللّه العالم.

هل جواز البیع موجب لبطلان الوقف أو أنّ الوقف لایبطل إلاّ بالبیع الخارجی فیجوز إبطال الوقف بالبیع؟

ذهب الشیخ الأعظم(2) إلی الثانی «حیث ذکر أنّ مدلول صیغة الوقف وإن اُخذ فیه الدوام والمنع عن المعاوضة، إلاّ أنّه قد یعرض ما یجوّز مخالفة الإنشاء ،ثمّ تنظّره بالرجوع فی الهبة الجائزة المنافی لمقتضی العقد وسلطنة الموهوب له علی العین الموهوبة»(3).

ولکن ذهب جدی الشیخ جعفر قدس سره إلی الأوّل وقال ما نصه: «أنّ البیع واشباهه ینافی حقة الوقف لأخذ الدوام فیه لا لعدم الملکیة، لثبوتها فیه علی المشهور أو لأنّ نفی المعاوضات علی الأعیان مأخوذ فیه ابتداءً فیکون کالتحریر

ص: 233


1- (1013) العقد النضید 4/529 و 530.
2- (1014) المکاسب 4/36.
3- (1015) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/139.

للمملوک»(1).

وتبعه نجله خالی الشیخ حسن قدس سره وقال: «لمنافاة النقل لحقیقة الوقف المتلقّی عن الشارع لأخذ الدوام فیه وکونه حبسا للعین المنافی لنقلها فیکون کالتحریر للمملوک...»(2).

وتابعهما صاحب الجواهر قدس سره وقال: «والذی یقوی فی النظر _ بعد إمعانه _ أنّ الوقف مادام وقفا لا یجوز بیعه، بل لعلّ جواز بیعه مع کونه وقفا من المتضادّ، نعم إذ بطل الوقف اتّجه حینئذٍ جواز البیع»(3).

اعتراض الشیخ الأعظم علی المشایخ الثّلاثة ونقده

واعترض علیهم الشیخ الأعظم(4) بما حاصله: «إن أرادوا من بطلان الوقف انتفاء بعض آثاره، وهو عدم جواز البیع، فیثبت الجواز، لأنّ نفی النفی إثبات، فیکون جواز البیع مشروطا بجوازه، وهو ممّا لا محصّل له، لرجوعه إلی اتّحاد الشرط والجزاء، فضلاً عن احتیاجه إلی النظر أو إلی إمعانه.

وإن أرادوا انتفاء أصل الوقف ورجوعه إلی ملک الواقف أو الموقوف علیه، فهو مخالف للإجماع؛ إذ لم یقل أحد من مجوّزی بیع الوقف بعوده ملکا عند طروّ أحد المسوّغات، ولم یجوّز أحد التصرّف فیه حینئذٍ کالتصرّف فی بقیّة الأموال بأن یهبه إلی أحد أو یرهنه، وقد صرّح المحقّق [الثانی] فی جامع المقاصد(5) بالمنع عن رهنه وإن بلغ حدّا یجوز بیعه معلّلاً باحتمال زوال مسوّغ البیع عند إرادة بیعه فی استیفاء الدین، وکذا لم یقل أحد بانتقاله إلی الوارث بعنوان الإرث إذا لم یبع إلی أن زال المسوّغ بل یحکم بوقفیّته، مع أنّ طروّ المسوّغ لو کان موجبا لبطلان الوقفیّة احتاج رجوعه إلی الوقفیّة ثانیا إلی إنشاء ثان.

ثمّ اختار بعد ذلک أنّ المنع عن البیع لیس مأخوذا فی مفهوم الوقف، فمعنی جواز بیعه ثبوت الولایة للبائع علی تبدیل أموال البطون اللاحقة أو جعل الشارع له حقّ إبطال

ص: 234


1- (1016) شرح القواعد 2/223 و 224.
2- (1017) أنوار الفقاهة 5/284.
3- (1018) الجواهر 23/576 (22/358).
4- (1019) المکاسب 4/37.
5- (1020) جامع المقاصد 5/51.

الوقف»(1).

وتبعه المحقّق النائینی.(2)

أقول فی النزاع بین المشایخ الثّلاثة والشیخین الجلیلین: «إن ارادوا ببطلان الوقف أحد المعنیین المذکورین، أعنی انتفاء بعض آثاره وهو عدم جواز بیعه، أو بطلان الوقف رأسا، فالأمر کما أفاده [الشیخ الأعظم]، لا یمکن الالتزام بشیء منهما.

إلاّ أنّه من المحتمل أن یرادوا به معنی آخر، وهو بطلان الوقف من حیث إیقافه عن البیع، فإنّ الوقف _ کما عرفت _ عبارة عن سکون العین الموقوفة وإسقاطها عن قابلیّة الانتقال بکلّ نحو من أنحائه، وقد أمضاه الشارع إلاّ من جهة البیع عند طروّ المسوّغ ما دام باقیا، فمعنی بطلان الوقف عدم إمضاء الشارع لما أنشأه الواقف، لکن لا مطلقا لیبطل الوقف رأسا، بل من تلک الحیثیّة فقط. وعدم امضائه من بعض الحیثیّات لا یستلزم عدم امضاء ما أنشأه الواقف رأسا کما هو واضح.

والالتزام بالبطلان بهذا المعنی لابدّ منه؛ فإنّ إمضاء الشارع لحبس الوقف من جمیع الجهات منافٍ لتجویز الانتقال بالبیع أحیانا، فما ذکروا من أنّ بقاء الوقف وجواز البیع من التضادّ أمرٌ تام، إلاّ أنّ بطلان الوقف لیس من جمیع الجهات لتلزم المحاذیر المتقدّمة، بل یکون البطلان من جهة البیع مادام المسوّغ موجودا. وعلیه لا یلزم عود الوقف ملکا ولا انتقاله بالإرث ولا جواز التصرّف فیه بغیر البیع من أنحاء التصرّفات، ولا یجوز رهنه ولا غیر ذلک»(3).

مقالة المحقّق الإیروانی فی جواز البیع بعد ارتفاع المسوّغ علی القولین ونقدها

قال: «لا ثمرة لهذا البحث بعد التسالم علی حرمة البیع قبل عروض المجوّز، وعلی جواز البیع بعد عروضة ثمّ دوامه بدوام المجوّز وارتفاعه بارتفاعه.

نعم: لو کان ارتفاع الجواز بارتفاع المجوّز من محلّ الخلاف، وکان مبنیّا علی کون

ص: 235


1- (1021) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/139 و 140.
2- (1022) منیة الطالب 2/278.
3- (1023) محاضرات فی الفقه الجعفری 4/140 و 141.

صفة الوقفیّة مستمرّةً إلی زمان البیع، لا إلی زمان عروض المجوّز، وإلاّ لم یعد إلی المنع بارتفاع السبب؛ لأنّ سبب المنع الأوّلیّ _ وهو الوقف _ قد ارتفع بعروض المجوّز، ولم یحدث وقف آخر کان لهذا البحث مجال، إلاّ أنّه لا وجه لارتفاع جواز البیع بارتفاع السبب المجوّز حتّی علی القول ببقاء صفة الوقف ما لم یتحقّق البیع، فالقولان لا یختلف فی هذا الأثر.

والوجه فی ذلک أمّا علی القول بالخروج عن صفة الوقف بمجرّد جواز البیع فواضح، وقد أشرنا إلیه، وأنّه لا مقتضی للدخول فیها ثانیا، وأمّا علی القول بعدم الخروج إلاّ بالبیع فعلاً فلأنّ صفة الوقف وإنْ کانت محفوظةً ما لم یتحقّق البیع إلاّ أنّ دلیل حرمة البیع _ أعنی: دلیل الوقوف _ لا عموم فیه أزمانیّ کدلیل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1)، فإذا انقطع استمراره الأزمانیّ الناشی من الإطلاق بدلیل جواز البیع عند الأسباب الخاصّة بطل التمسّک به، ولا یرجع إلیه حتّی بعد زمان ارتفاع تلک الأسباب، وکان المحکّم استصحاب حکم المخصّص، أعنی، جواز البیع»(2).

مراده: «جواز البیع بعد زوال المسوّغ علی التقدیرین، سواء قلنا ببطلان الوقف أم لم نقل به، أمّا علی الثانی فلأنّ إطلاق دلیل المنع عن بیع الوقف قد خصّص فی زمان تحقّق المسوّغ، وبعد زواله لا یمکن الرجوع إلی عموم المنع، لأنّه حکم مستمرّ وقد انقطع، وعوده یحتاج إلی دلیل آخر، فیستصحب بقاء حکم المخصّص، وهو جواز البیع، فمن هذه الجهة لا یترتّب أثر عملی علی القول بطلان الوقف بطروّ المسوّغ وعدمه»(3).

ولکن یرد علیه: «الحق عدم جواز البیع بعد زوال مسوّغ البیع. أمّا بناءً علی عدم بطلان الوقف فظاهر لکون المورد من موارد التمسّک بالعام دون المخصّص، وذلک لأنّ عموم عدم جواز بیع الوقف کان شاملاً لما قبل طروّ مسوّغ عن تحت عموم عدم الجواز فیبقی الباقی من المتقدّم علی طروّ المجوّز والمتأخّر منه تحت العام، وقد ذکرنا فی بحث

ص: 236


1- (1024) سورة المائدة /1.
2- (1025) حاشیة المکاسب 2/440.
3- (1026) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/141.

الاُصول أنّ الأفراد الطولیة مثل الأفراد العرضیة فی کونها مشمولة لعموم العام وقد ذکرنا فی ذلک البحث أنّه لا فرق بین العموم الأفرادی الإستغراقی کما فی المقام وبین العموم المجموعی من حیث التمسّک بالعام دون المخصّص، وبدیهی أنّ المقام من قبیل العام الاستغراقی لأنّ کلّ فرد من أفراد البیع محکوم بالبطلان سواء الأفراد الواقعة قبل طروّ المسوّغ أو بعد ارتفاعه، وکل مورد علمنا بخروجه عن تحت العام نتبعه وأمّا غیره فیکون مشمولاً لعموم العام، ولیس هذا کلّه إلاّ من جهة حجّیة الظهور وکونه مطابقا للارادة الجدّیة، وکذا الکلام لو قلنا ببطلان الوقف لأنّ المراد ببطلان الوقف لیس هو خروج الشیء عن الوقفیة وعوده إلی ملک الواقف، ولیس مرادنا أیضا کونه طلقا للموقوف علیهم، بل مرادنا من البطلان ما ذکرناه من مقالة عدم إمضاء الشارع هذا المقدار من الوقف أی جهة المنع عن بیعه فقط، فعلیه إذا علمنا بعدم إمضاء الشارع لهذا المقدار من الوقف ثمّ شککنا بعد زوال العذر فی جواز بیعه وعدمه نتمسّک بعموم دلیل الامضاء بعین ما ذکرناه فی الأوّل، ولیس المورد من موارد التمسّک بالمخصّص لما ذکرناه من أنّه لا فرق بین العموم الاستغراقی والمجموعی، ولا یرفع الید عن ظهور العام وکونه مطابقا للارادة الجدّیة للمتکلّم إلاّ بالمقدار المعلوم، ولیس المقدار المعلوم إلاّ حالة وجود المسوّغ ومجوّز البیع، وأمّا بعد زواله فلا.

مضافا إلی أنّه لو سلّمنا بطلان الوقف وکونه ملکا طلقا للموقوف علیهم مثلاً لا یکون المورد من موارد التمسّک بالمخصّص بل لابدّ من التمسّک بعموم أدلّة الامضاء، لأنّ ما أنشأه الواقف هو حبس العین وسکونها إلی الأبد، ومقتضی عموم دلیل الامضاء کونه ممضی کذلک، وقد خرجنا عنه فی صورة عروض المسوّغ وأمّا بعده أو قبله فنتمسّک بدلیل الامضاء ولو کان مجموعیا متکفّلاً لحکم واحد مستمر بالبیان الذی ذکرناه فیما تقدّم، فما ذکروه وادّعوا علیه عدم الخلاف من بقاء الشیء علی وقفیته إذا لم یبع بعد عروض المجوّز حتّی زال هو مقتضی القاعدة»(1).

ص: 237


1- (1027) التنقیح فی شرح المکاسب 2/260 و 261.

ثمّ بعد ما ظهر من بطلان بیع الوقف وأنّ الأصل الأولی فیه عدم جواز بیعه فیقع الکلام فی الجهتین:

الجهة الاولی: الخروج الموضوعی عن هذا الأصل الأولی
اشارة

وهو عدم جواز بیع الوقف

بمعنی أیّ وقف یجوز بیعه عند طروّ المسموغ وأیّ وقف لا یجوز بیعه؟

وقع الخلاف بین الأصحاب فی ذلک علی أقوالٍ:

أقوال
القول الأوّل:

ذهب بعضهم إلی عدم جواز بیع الوقف مطلقا وعدم الخروج من عموم المنع أصلاً وهو الظاهر من الحلبی(1) وإدریس(2) وقواه الشهید(3) ولکنّه لم یذهب إلیه لکونه نادرا.

القول الثانی:

جواز البیع مطلقا، ومن الواضح أن من یقول بجواز البیع إنّما یقول فی غیر المساجد والمشاهد.

القول الثالث:

جواز البیع فی الوقف المنقطع وعدم جوازه فی الوقف المؤبَّد وهو المحکی عن القاضی(4).

والمراد بالوقف المنقطع: هو الوقف «علی طائفة خاصة من غیر تقید بزمان خاص وإلاّ فیکون حبسا الذی عبارة عن حبس العین مع کونها باقیة علی الملک وتسبیل المنفعة، ولکن حیث أنّه لطائفة خاصة ینقرض کثیرا بانقراضهم فیسمی ذلک بالوقف المنقطع الآخر»(5).

والمراد بالوقف المؤبّد: هو «الوقف لطائفة خاصة کأهل العلم من الشیعة فی النجف مثلاً ومع عدمهم لمطلق أهل العلم ومع عدمهم _ وَالْعِیاذُ باللّه _ لفقراء الشیعة ومع عدمهم

ص: 238


1- (1028) الکافی فی الفقه /324 و 325.
2- (1029) السرائر 3/153.
3- (1030) الدروس 2/279.
4- (1031) المهذب 2/92.
5- (1032) مصباح الفقاهة 5/164.

لأغنیاء الشیعة وهکذا، فمثل هذا الوقف لا ینقطع آخر بل یستمر ویدوم إلی الأبد ویبقی طبقة بعد طبقة وجیلاً بعد جیلٍ»(1).

القول الرابع: جواز البیع فی الوقف المؤبَّد وعدم جوازه فی الوقف المنقطع علی عکس القول الثالث کما علیه الشیخ(2) وسالار(3).

ولعلّ من یقول بهذا القول یری عود الوقف بعد انقطاع الموقوف علیهم إلی ملک الواقف فی المنقطع یعنی أنّ المنقطع ینقطع بنفسه بخلاف المؤبَّد.

القول الخامس:

جواز بیع أجزاء الوقف وآلاته وعدم جوازه فی نفس العین الموقوفة، مثلاً یجوز بیع حصر المسجد وفرشه وجدوعه وغیرها من الأجزاء والآلات التی سقط عن الانتفاع فی هذا المسجد بنحو من الانحاء وهو المحکی عن الاسکافی(4) وفخر المحقّقین(5).

القول السادس:

عدم جواز بیع المساجد والمشاهد والقول بالجواز فی غیرهما من أفراد الوقف.

ولکن هذا القول لیس تفصیلاً فی الحقیقة لأنّه لم یقل أحد بجواز بیع المساجد والمشاهد فهذا القول یرجع إلی القول الثانی وهو الجواز مطلقا ولکنّه فی غیر المساجد والمشاهد.

وبالجملة: بعد ارجاع القول السادس إلی القول الثانی تصیر الأقوال فی الجهة الأُولی وهی الخروج الموضوعی عن الأصل الأوّلی عدم جواز بیع الوقف إلی خمسة واللّه العالم.

ص: 239


1- (1033) مصباح الفقاهة 5/164.
2- (1034) النهایة /599.
3- (1035) المراسم /197.
4- (1036) حکاه عنه العلاّمة فی مختلف الشیعة 6/287.
5- (1037) إیضاح الفوائد 2/407.
الجهة الأُولی فی الوقف المؤبَّد
اشارة

ثمّ یقع الکلام فی هذه الجهة الأُولی فی الوقف المؤبَّد

الوقف المؤبَّد:

ذهب الشیخ الأعظم(1) إلی أنّه علی قسمین:

1_ الوقف التملیکی: «ما یکون ملکا للموقوف علیهم فیملکون منفعته فلهم

1_ الوقف التملیکی: «ما یکون ملکا للموقوف علیهم فیملکون منفعته فلهم استئجاره وأخذ اُجرته ممّن انتفع به بغیر حقٍّ»(2).

وهو علی أقسام:

أ: وقف وتملیک علی البطون والأشخاص، وهذا تملیک للعین علی نحو خاص.

ب: وقف علی العناوین الکلّیّة کالطلاب والعلماء والفقهاء أو بنی هاشم، وهذا تملیک المنفعة.

ج: وقف علی الجهات کان یوقف المال لعمل معیّن نحو طبع ونشر الکتب الدینیة أو إقامة مجالس تعزیة الحسین علیه السلام ، وهذا وقف للانتفاع به فی الجهة الخاصة المنظورة عند الواقف.

2_ الوقف التحریری: «ما لا یکون ملکا لأحدٍ بل یکون فک ملکٍ نظیر التحریر

2_ الوقف التحریری: «ما لا یکون ملکا لأحدٍ بل یکون فک ملکٍ نظیر التحریر کما فی المساجد والمدارس والرُبُط؛ بناءً علی القول بعدم دخولها فی ملک المسلمین کما هو مذهب جماعة(3)، فإنّ الموقوف علیهم إنّما یملکون الانتفاع دون المنفعة، فلو سکنه أحدٌ بغیر حقٍّ فالظاهر أنّه لیس علیه اُجرة المثل»(4).

ولأنّ «المالک یقوم بفکّ العلاقة التی تربطه بالمال، ویحرّره عن قید الملکیّة والمملوکیّة، بمثل ما یحرّر المالکُ عبدَه، ویعدّ المسجد وکذلک المشاعر من منی وعرفات

ص: 240


1- (1038) المکاسب 4/53.
2- (1039) المکاسب 4/53.
3- (1040) منهم العلاّمة فی القواعد 1/269؛ والشهید فی الدروس 2/277؛ والفاضل المقداد فی التنقیح الرائع 2/311؛ والمحقّق الثانی فی جامع المقاصد 9/62؛ والشهید الثانی فی المسالک 5/377؛ والسیّد الطباطبائی فی الریاض 10/154.
4- (1041) المکاسب 4/54.

المتیقّن من هذا النوع من الوقف، حیث یرفع الواقف قید الملکیّة عن الأرض، فتتحرّر من قید ملکیّة البشر، غایة ما هناک أنّه یثبت للمصلّی حقّ الانتفاع من هذه الأرض بالصلاة علیها، ولذلک لو زالت قابلیّة المسجد عن الصلاة فیها لسببٍ من الأسباب، من الهدم أو وقوعه فی الشارع العام فإنّه لا تزول عن الأرض أحکام المسجدیّة، بل تبقی مسجدا لا یحقّ للحائض الجنب المکث فیها.

أمّا بیعها وشراء مسجد آخر بثمنها، فإنّه أیضا غیر جائز، لما سبق وإن ذکرنا أنّ حقیقة البیع إمّا «تملیک عین بمال» _ کما التزم به الشیخ الأعظم _ وإمّا «تبدیل جهة الإضافة» _ کما علیه المحقّق النائینی _ وأمّا «جعل شیء بإزاء شیء» _ کما علیه المحقّق الإصفهانی _ . وعلی جمیع التقادیر یجب أن تکون العین فیها القابلیّة علی تحمّل الإضافة الملکیّة أو ال حقّیة أو طرفیّتها للعلقة، والمسجد فاقدٌ لتحمّل هذه الاُمور وبالتالی لا مجال لبیعه»(1).

وهاهنا فروع لابدّ من البحث حولها:
الأوّل: حکم بیع المساجد

قال الفقیه المتتبع العاملی: «(ولو وقف مسجدا فخربت القریة أو المحلّة لم یجز بیعه) بلا خلاف من أحد إلاّ من أحمد(2)، لأنّ وقفه بمنزلة تحریر العبد، ولبقاء الغرض المقصود منه من إعداده للعبادة لرجاء عود القریة وصلاة مسافر یمرّ به، مضافا إلی الاستصحاب. وفی المبسوط(3) والشرائع(4) والتذکرة(5) والتحریر(6) والإرشاد(7)

ص: 241


1- (1042) العقد النضید 4/547.
2- (1043) راجع المغنی لابن قدامة: فی الوقف 6/225.
3- (1044) المبسوط: فی الوقف 3/300.
4- (1045) شرائع الإسلام: فی لواحق الوقف 2/174.
5- (1046) تذکرة الفقهاء: فی الوقف 20/275.
6- (1047) تحریر الأحکام: فی أحکام الوقف 3/316.
7- (1048) إرشاد الأذهان: فی أحکام الوقف 1/455.

والدروس(1) والروض(2) وکذا المسالک(3) والکفایة(4) أنّ العرصة لم تخرج عن الوقف. وقیّده فی الأخیرین بما إذا لم یکن فی الأرض الخراجیة. قال فی المسالک(5) فإنّه ینبغی بطلان الوقف حینئذٍ بزوال الآثار بالکلّیة. نعم یتمّ هذا فی المملوکة بالأصل لاتبعا لآثار التصرّف. ومن الغریب قوله فی المفاتیح(6) کذا قالوه، وإنّما قاله قبله صاحب المسالک، وقد بیّنّا فی محلّه أنّه إذا بنی وتصرّف بإذن الإمام أو نائبه ولو جائرا عموما أو خصوصا ملک ملکا حقیقیّا لا یزول ملکه ولو زالت الآثار، ولا فرق فی ذلک بین المسجد والدار. وکذلک الحال فیما إذا باعه الإمام أو الجائر لمصلحة الجند، بل وکذا ما أقطعه وبنی فیه وتصرّف. ولهذا أطلق هنا الأصحاب. ووافقهم علی ذلک فی الروضة(7). وفی قولهم صلوات اللّه علیهم(8) «إلی أن یرث الأرض ومَن علیها» ما یدلّ علی ذلک.

ومن المملوک بالأصل ما صولح أهلها علیها وما ملکت بالأحیاء، وهاتان حالهما حال أرض الخراج، فلیتأمّل.

قوله: (ولم یعد إلی الواقف) کما فی الکتب المذکورة مع زیادة الخلاف(9) والسرائر(10) واللمعة(11)

ص: 242


1- (1049) الدروس الشرعیة: فی عدم جواز الرجوع فی الوقف 2/278.
2- (1050) لا یوجد لدینا کتابه.
3- (1051) مسالک الأفهام: فی أحکام الوقف 5/397.
4- (1052) کفایة الأحکام: فی أحکام الوقف 2/19.
5- (1053) مسالک الأفهام: فی أحکام الوقف 5/397.
6- (1054) مفاتیح الشرائع: فی انتقال الموقوف عن الواقف وعدمه 3/213.
7- (1055) الروضة البهیة: فی الوقف 3/186.
8- (1056) وسائل الشیعة 19/202، ح4، الباب 10 من أبواب أحکام الوقوف والصدقات وفیه: «حتی» بدل «إلی».
9- (1057) الخلاف: فی أحکام الوقف 3/550، المسألة 21.
10- (1058) السرائر: فی أحکام الوقف 3/167.
11- (1059) اللمعة الدمشقیة: فی الوقف /105.

وجامع المقاصد(1) والروضة(2). وفی الخلاف والسرائر لأنّ ملکه قد زال بلا خلاف فلا یعود إلاّ بدلیل.

ولم یخالف فی ذلک إلاّ محمّد بن الحسن(3)، قال: إنّ المسجد یرجع إلی ملک الواقف إذا خربت القریة قیاسا علی کفن المیّت فإنّه یعود إلی الورثة، والجامع استغناء المسجد علی المصلّین کاستغناء المیّت عن الکفن وتعذّر المصرف فی الموضعین.(4)

وفیه: أنّا نمنع القیاس والجامع، أمّا الأوّل فلأنّ الکفن ملک لهم فی الأصل لأنّ الترکة تنتقل إلی الورثة بالموت وإن وجب صرف بعضها فی التکفین، وأمّا الثانی فلأنّ الفارق موجود وهو عدم رجاء عود المیّت بخلاف المسجد لجواز عمارة القریة وصلاة مسافر»(5).

وأجاب فی الجواهر بعد الاعتراف فی عدم وجدان الخلاف فی عدم خروج عرصة المسجد عن المسجدیة عن مقالة الشهید الثانی حیث فصّل بین الأراضی المفتوحة عنوة وغیرها وحکم بخروجها عن الأوّل دون الثانی بقوله: «قد أشرنا فی کتاب البیع(6) إلی خروج ذلک بالسیرة القطعیّة علی اتّخاذ المساجد فیها وإجراء حکمها علیها من غیر مدخلیّة للآثار فی ذلک؛ ضرورة اقتضاء المسجدیّة الدوام والتأبید، وحینئذٍ فلا وجه للحکم بمسجدیّتها لا علی هذا الوجه، بل التزام عدم صیرورتها مسجدا حینئذٍ أولی، وإن کان هو مردودا بالسیرة القطعیّة بل بالمعلوم من الشرع من جریان أحکام المساجد علی

ص: 243


1- (1060) جامع المقاصد: فی أحکام الوقف 9/82.
2- (1061) الروضة البهیة: فی الوقف 3/186.
3- (1062) هو محمّد بن الحسن بن فرقدٍ الشّیبانی مولاهم الحنفیّ، أحد صاحِبَی أبی حنیفة اللَذَیْن نَشَرا مذهبه فی الآفاق وربّما خالفاه فی جملة من المسائل، والآخر أبویوسف القاضی.
4- (1063) راجع المغنی لابن قدامة: فی الوقف 6/226.
5- (1064) مفتاح الکرامة 21/(730-728).
6- (1065) انظر ما ذکره فی الجواهر 23/562 (22/349).

مساجد العراق ونحوه، وغیرها من المفتوحة عنوةً»(1).

وقال الشیخ الأعظم: «... فلو خرب المسجد وخربت القریة وانقطعت المارّة عن الطریق الذی فیه المسجد، لم یجز بیعه وصرف ثمنه فی إحداث مسجدٍ آخر أو تعمیره، والظاهر عدم الخلاف فی ذلک کما اعترف به غیر واحد»(2).

مقالة الجدّ الشیخ جعفر قدس سره

ذهب الجدّ الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره إلی عدم صحة بیع عرصة المسجد والاوقاف العامة مطلقا لا لعدم تمامیة الملک بل لعدم أصل الملک، بداهة أنّه بعد جعله محرّرا لا یکون قابلاً للملک مثل العبد إذا اُعتق وصار حرّا ولکنّه قدس سره قال: «... ومع الیأس من الانتفاع بالجهة المقصودة تؤجّر للزراعة ونحوها، مع المحافظة علی الآداب اللاّزمة لها إنْ کانت مسجدا مثلاً، وإحکام السِجلاّت لئلاّ تغلب الید فتقضی(3) بالملک دون الوقف المؤبّد. وتُصرف فائدتها فیما یُماثلها من الأوقاف، مقدّما للأقرب والأحوج والأفضل احتیاطا. ومع التعارض فالمدار علی الترجیح(4). وإنْ تعذّر صُرفت إلی غیر المماثل کذلک. فإنْ تعذّر صُرفت فی مصالح المسلمین. هذا حیث لا تکون من المفتوحة عَنْوَة. وأمّا ما کانت منها؛ فقد سبق أنّها بعد زوال الآثار ترجع إلی ملک المسلمین»(5).

وتبعه نجله الفقیه الشیخ حسن وقال: «فإن کان الموقوف أرضا، وجب إبقاؤها بحالها مهما أمکن الانتفاع بها علی تلک الحال الموقوفة علیها من دار أو حمّام أو مسجد.

وإن عرض لها عدم الإمکان بحیث حصل الیأس من الانتفاع بها بتلک الجهة، آجرها المتولّی فی جهةٍ أُخری، متحرّیا للأقرب فالأقرب، کالانتقال من الدار إلی الخان ومنه إلی الحمّام ومنه إلی الزراعة، محافظا علی الآداب اللازمة للمسجدیّة لو کانت

ص: 244


1- (1066) الجواهر 29/232 (28/107).
2- (1067) المکاسب 4/54.
3- (1068) المکاسب 4/55 _ عند حکایة العبارة _ : (فیُقضی).
4- (1069) فی: المکاسب 4/55 _ عند نقل العبارة _ : (الراجح).
5- (1070) شرح القواعد 2/220 و 221.

مسجدا، فینتقل منه إلی إیجارها للأعمال المشابهة للعبادة الخالیة عن تلویثها بالنجاسة، وتُصرف أُجرتها ونماؤها فیما ماثلها من الأوقاف، فإن تعذّر المماثل صُرفت فی غیره، فإن تعذّر غیره من الموقوفات العامّة صُرفت فی مصالح المسلمین.

هذا إن کانت الأرض من غیر المفتوحة عنوةً أو منها وبقیت آثار التصرّف، وإلاّ عادت عند خرابها للمسلمین کافّة»(1).

وقال الشیخ الأعظم: «وکیف کان، فالحکم فی أرض المسجد مع خروجها عن الانتفاع بها رأسا هو إبقاؤها مع التصرّف فی منافعها _ کما تقدّم عن بعض الأساطین _ أو بدونه»(2).

المحقّق الإصفهانی أیّد مقالة الشیخ جعفر وقال: «وأمّا المسجد فمختصر القول فیه: إنّ للمسجد حیثیتین:

حیثیة المسجدیة وجعل الأرض، أو مع بنائه مسجدا قولاً أو فعلاً، بحیث یترتب علیه أحکام خاصة من حرمة تنجیسه ووجوب إزالة النجاسة عنه إلی غیر ذلک من الواجبات والمستحبات، وحیثیة کونه وقفا عاما وأنّه حبس یتضمن فک الملک، ویجوز للمسلمین الانتفاع به فی الصلاة ونحوها.

وقد عرفت سابقا القول بانفکاک احدی الجهتین عن الأُخری فیما إذا وقف أرضا للصلاة فیها، فأنّه وقف لا یترتب حکم المسجد علیه، بل حکم الوقف العام.

ومن البیّن أنّ حیثیة المسجدیة وکون شخص الأرض بیتا للّه تعالی متقومة بشخص هذه الأرض عینها، وأحکام المسجدیة أحکام عین هذه الأرض لا أحکام لها بما هی مال محفوظ فی ضمن أرض أخری، فلذا لا ینفک أحکام المسجد عنه، ولا یجوز بیع المسجد بما هو مسجد.

وأما بعض الأحکام الأُخر الثابت للوقف العام الذی لا یکون منافیا للمسجدیة

ص: 245


1- (1071) أنوار الفقاهة 5/285.
2- (1072) المکاسب 4/58.

فالمقتضی له موجود والمانع عنه مفقود، کاجارته للزراعة ونحوها متحفظا علی الآداب المخصوص بها المسجد، کما فی کلام کاشف الغطاء قدس سره المنقول فی المتن، فإنّه حیث یتوقف حفظ هذا الوقف علی إجارته لصرف الأُجرة فی تعمیره مثلاً أو فی إحداث مسجد آخر، والمفروض عدم منافاته للمسجدیة حیث إنّ المفروض عدم التمکن من الانتفاع به فی الصلاة أو عبادة أخری فلا منافی للانتفاع به فی الزراعة ونحوها، فالمقتضی للاجارة _ وهو حفظ الوقف _ موجود، والمانع _ من حیثیة المسجدیة _ مفقود»(1).

ولکن اعترض السیّد الخوئی رحمه الله علی الجدّ

وقال: «وهذا ممّا لا یمکن المساعدة علیه لأنّه لا دلیل علی جواز إجارته بعد ما لم یکن ملکا لأحد، والاجارة تقع فی ملک مَن؟ بعد ما فرضنا أنّه لا مالک له، بل یمکن أن یقال إنّه بعد الیأس عن الانتفاع به یصیر من المباحات بمعنی أنّه یجوز لکلّ أحد أن یتصرّف فیه بالزرع ونحوه مع مراعاة الآداب اللازمة له إذا کان من المساجد والمشاهد من دون أن یکون مالکا له بالاحیاء»(2).

واعترض الأستاذ المحقّق _ مدظله _ علی الإصفهانی والخوئی

بقوله: «یقتضی المقام البحث عن أمرین، وهما: عنوان المسجد، وملکیّة الانتفاع بمنافعه وعدمها:

الأمر الأوّل: لیس المراد من عنوان المسجد ما یقوم به بعض النّاس من جعل جزء من الدار أو البناء مصلّی إذ لا یترتّب علیه أحکام المسجد(3)، بل المراد المساحة المعیّنة من الأرض التی اوقفت بعنوان المسجد، وتحرّرت عن قید الملکیّة، وأصبحت من بیوت

ص: 246


1- (1073) حاشیة المکاسب 3/104 و 105.
2- (1074) التنقیح فی شرح المکاسب 2/263.
3- (1075) کما ورد فی صحیحة الحلبی أنّه سأل أباعبداللّه علیه السلام عن مسجد یکون فی الدار، فیبدو لأهله أن یتوسّعوا بطائفة منه، أو یحوّلوه عن مکانه؟ فقال: لا بأس بذلک، الحدیث. [وسائل الشیعة 5/208، ح1، الباب 10 من أبواب أحکام المساجد].

اللّه، فصدق علیها قوله تعالی: «فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ»(1) فإنّ مثل هذه الأراضی لا شکّ أنّ متعلّق الجعل فیها لیس الأرض وترابها، إذ قد یتبدّل ترابها بتراب آخر، وبرغم ذلک یبقی موصوفا بأنّه بیت اللّه، ولذلک اعتبر البعض أنّ متعلّق الجعل هو البُعد المکانی الذی اختلف الفلاسفة فی تفسیره، وناقشوا عن حقیقته:

فقال بعضهم: إنّ البُعد الخالی عن الهواء والتراب هو الذی یمکن أن یتعلّق به عنوان المسجدیّة، أمّا التراب وغیره فمعدود من لواحق المسجد لا ذاته.

ولا یخفی بطلان مثل هذه التحدیدات الفلسفیّة، وبعدها عن فهم العرف العام، فإنّ الوقف عنوان یتعلّق بمساحة معیّنة من الأرض، یعرفه عامّة النّاس من جمیع الملل والشعوب، فللیهود والنصاری والمجوس بیعهم وکنائسهم وأدیرتهم وبیوت نارهم الموقوفة، کما للمسلمین مساجدهم، فالوقف معنی عرفی معلوم للجمیع، ولاحاجة لتعریفه من الاستعانة بالمعانی الفلسفیّة الدقیقة التی لا یعرفها ولا یلتفت إلیها إلاّ بعض الخواصّ من العلماء والحکماء والفلاسفة. فالحقّ أنّ المسجد هی الأرض الموقوفة لعبادة المسلمین لا ذاک البُعد الفلسفی المجهول.

الأمر الثانی: تارةً تصبح العین مملوکة کما فی موارد البیع والهبة، واُخری تصبح المنفعة مملوکة کما فی موارد الإجارة، وثالثة یصبح الانتفاع مملوکا کما فی العاریة حیث أنّ للمستعیر له الانتفاع بالعین المعارة.

أمّا المساجد فلابدّ فیها من البحث عن دائرة ما یمکن الانتفاع بها، إذ شکّ فی جواز الانتفاع بها، فیما إذا لم یکن الانتفاع مزاحما مع حیثیّة المسجد، کما لو نام فی جانبٍ منه دون أن یزاحم المصلّین، لما ثبت من سیرة المسلمین جواز ذلک، أمّا زراعة أرض المسجد، أو اتّخاذ جانب منه للسکن، فإنّهما مخالفان للسیرة المرتکزة، ویعدّان من الاُمور المستنکرة عند المتشرّعة، وبذلک یبطل ما جاء فی تقریرات بعض الأعلام من أنّه

ص: 247


1- (1076) سورة النور /36.

لا مانع من زراعة أرض المسجد والسُّکنی فیه(1)،لما ثبت من قیام السیرة الاستنکاریة عند أهل الشرع فی مثل هذه التصرّفات، وبالتالی لا یجوز بیع المساجد أو إجارتها، حتّی ولو خربت وصارت أرضها شارعا، وکذلک لا یصحّ الانتفاعات المنافیة مع الحیثیّة المسجدیّة لقیام السیرة الاستنکاریّة علیها»(2).

اعتراض صاحب العروة علی الشیخ الأعظم ونقده

قال المحقّق السیّد الیزدی؛ فی مسألة 27 من کتاب الوقف: «إذا خرب المسجد أو القریة الّتی هو فیها لم تخرج عرصته عن المسجدیّة، ولا یجوز بیعها، ویجری علیها أحکام المسجد من الاحترام وعدم جواز التنجیس ونحوهما، مع إمکان الصلاة فیها للمارّة وغیرهم، إذ العمدة فیه العرصة وهی باقیة خصوصا مع احتمال عوده أو عود القریة إلی العمارة. نعم لو شرط الواقف فی وقفه مادام لم یخرب، أو مادامت القریة معمورة، أو جعل داره مسجدا ما دامت علی هیئتها أو نحو ذلک، یمکن الحکم بخروجه.

ودعوی: أنّ المسجد لا یخرج عن المسجدیّة أبدا، محلّ منع، ولذا لو کان فی الأرض المفتوحة عنوة _ الّتی هی للمسلمین _ فخرب ولم یبق من آثاره شیء خرج عن کونه مسجدا، وکذا لو کان فی أرض مستأجرة فانقضت مدّة الإجارة.

ودعوی: عدم صدق المسجد علیه حینئذٍ، ممنوع. فإنّه یصدق إذا استأجر أرضا مائة سنة مثلاً فجعلها مسجدا، بل لو لا الإجماع علی بطلان الوقف إلی مدّة أمکن أن یقال بجواز جعل مکان مسجدا إلی مدّة، فیخرج عن ملک المالک فی تلک المدّة ثمّ یعود إلیه بعد انقضائها.

هذا، ولو فرض فی صورة الإطلاق وعدم الشرط خرابه علی وجه لایمکن الصلاة

ص: 248


1- (1077) أقول: جاء فی تقریرات المحقّق الخوئی [مصباح الفقاهة 5/168] قوله: «نعم یصحّ الزرع والغرس فیه والانتفاع به بغیرهما مع ملاحظة الآداب کما هو واضح». ولا یخفی أنّ کلامه جاء تعلیقا علی کلام کاشف الغطاء عن مسجد القریة التی خربت وانقطعت المارّة عنها وخرب، لا مطلق أرض المساجد حتّی لو کانت عامرة یرتادها المصلّون.
2- (1078) العقد النضید 4/(551-549).

فیه أبدا ولایرجی عوده، أو عرض مانع من الصلاة فیه أبدا مع عدم خرابه، أمکن دعوی خروجه عن المسجدیّة أیضا، ولکن الأحوط إجراء أحکامه علیه، وکذا لو غصبه غاصب لا یمکن الانتزاع منه أبدا.

بل یمکن أن یقال بجواز بیعه وإخراجه عن المسجدیّة، إذا غلب الکفّار علیه وجعلوه خانا أو دارا أو دکّانا.

بل الأَولی أنْ یُباعَ إذا جعلوه محلاًّ للکثافات أو جعلوه بیت خمر مثلاً، صونا لحرمة بیت اللّه عن الانتهاک. والحاصل: أنّه لا دلیل علی أنّ المسجد لا یخرج عن المسجدیّة أبدا»(1).

ثمّ أُورد علی صاحب العروة فی مسألته السّابعة والعشرین: أنّ دعوی زوال عنوان المسجدیة عن المسجد فی الموارد المذکورة ممنوعة، «لأنّ عنوان المسجدیّة یدور مدار جعل الواقف، الذی یقوم من خلال صیغة الوقف بتحریر مساحة معیّنة من الأرض وجعلها مسجدا، فیدور أمر الواقف بین کونه مهملاً أو مطلقا، أمّا الإهمال فلا شکّ فی بطلانه إذ لا یعقل صدوره عمّن یقوم بالأعمال القصدیّة، فإذن لابدّ أن یکون وقفه مطلقا بأن یجعل الأرض المذکورة مسجدا إلی أبد الآبدین، وإلی أن یرث اللّه الأرض ومن علیها، ولا یمکن فرض تعدّد المطلوب فی وقف المساجد _ کما هو الحال فی غیر المسجد من سائر الموقوفات، حیث یوقفها الواقف مع تعدّد المطلوب، بأن یجعل الدار صدقةً ما دام ینتفع بها، ومع زوال الانتفاع للمتولّی تبدیلها إلی ما یمکن الانتفاع منها الأقرب فالأقرب _ لأنّه وقف تحریریٌّ یقوم الواقف من خلال وقفه بفکّ الرقبة عن الملکیّة وتحریرها، ومعه لا مجال للتبدیل، بل لا قابلیّة لها لذلک، بل یستحیل فرض القابلیّة فی الوقف التحریری، لأنّه تحریر عن الملکیّة، وفکّ رقبة الأرض عنها، وجعلها حرّة غیر مملوکة إلی أبد الآبدین، وما لا یُملک فإنّه یستحیل تبدیله إلی شیءٍ آخر»(2).

ص: 249


1- (1079) العروة الوثقی 6/368.
2- (1080) العقد النضید 4/553.

ثمّ قال صاحب العروة فی مسألة 38: «لا فرق فی موارد جواز بیع الوقف بین مثل الوقف علی الأولاد والفقراء والفقهاء ونحوهم، وبین مثل المساجد والربط والمدارس والخانات ونحوها، ولا بین القول بأنّ العین الموقوفة ملک للواقف أو الموقوف علیه أو ملک للّه تعالی مطلقا أو علی التفصیل.

لکن ذکر المحقّق الأنصاری قدس سره أنّ الوقف علی قسمین(1) _ ثمّ ذکر کلام الشیخ الأعظم(2) بطوله واعترض علیه: _

«أوّلاً: نمنع کون وقف المذکورات تحریرا وکونها بمنزلة المباحات الأصلیّة، خصوصا فی غیر المسجد، بل هی علی القول بعدم البقاء علی ملک الواقف وعدم الانتقال إلی الموقوف علیه ملک للّه تعالی، لا علی نحو المباحات الأصلیّة بل علی نحو ملکه تعالی لسدس الخمس فی قوله تعالی: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ إلی آخره»(3) فلا مانع من بیعها مع المسوّغ وأمره راجع إلی الحاکم الشرعی.

وثانیا: یلزم ممّا ذکره عدم جواز البیع أیضا فی الوقف علی الأولاد ونحوهم، علی القول بخروجه عن ملک الواقف وعدم انتقاله إلی الموقوف علیه کما علیه بعضهم، مع أنّهم لم یفصّلوا بین الأقوال، وأیضا علی القول بالبقاء علی ملک الواقف یلزم الالتزام بلزوم کون البیع فی موارد جوازه من الواقف أو ورثته ولا یقولون به.

وثالثا: ما ذکره فی الفرق بین المذکورات وبین حصیر المسجد وجذعه المکسور مجرّد دعوی بلا شاهد.

ورابعا: لا نسلّم عدم صحّة البیع مع عدم الملک، بل یکفی فی صحّته کون المبیع مالاً وإن لم یکن مملوکا کما فی بیع الکلّی فی الذمّة، فإنّه یصحّ مع عدم کونه مالکا لذلک الکلّی فی ذمّة نفسه، لأنّه مال فی حدّ نفسه وإن لم یکن مملوکا له فعلاً، فنقول: المذکورات أموال ووإن لم تکن مملوکة لأحد، والبیع مبادلة مال بمال، وفرق واضح بینها وبین

ص: 250


1- (1081) العروة الوثقی 6/383.
2- (1082) المکاسب 4/(60-53).
3- (1083) سورة الأنفال /41.

المباحات الأصلیّة. وقوله: «لا بیع إلاّ فی ملک» یحتمل أن یکون المراد منه لا بیع إلاّ فی ملک للبیع، ولذا یشمل بیع الولیّ والوکیل لا أنّه لا بیع إلاّ فی ملک للمبیع»(1).

واورد علی اعتراضه الأوّل علی الشیخ الأعظم: «بأنّ الملکیة أمرٌ یتوقّف ثبوتها لجهة من الجهات علی قیام دلیل علیه، لأنّ الملک والحقّ أمران اعتباریّان وضعیّان، وتحقّقهما مخالف للأصل، ویتوقّف علی قیام دلیل علیهما، أمّا الباری تعالی فإنّ ملکیّته لجمیع ما فی عالم الإمکان ملکیّة حقیقیّة، أمّا الملکیّة الاعتباریّة التی نبحث عنها وادّعی السیّد ثبوتها للّه سبحانه وتعالی فی قضیّة المسجد، فإنّه لا دلیل علیها، ولا یقاس المسجد بملکیّته تعالی لسدس الخمس، لقیام الدلیل علی ثبوتها فیه دون المسجد، وبالتالی فدعواه بأنّه «علی القول بعدم البقاء علی ملک الواقف، وعدم الانتقال إلی الموقوف علیه، ملکٌ للّه تعالی» ممنوعة.

فإن قیل: إنّ اللاّم فی قوله تعالی: «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ»(2) تفید ثبوت الملکیّة الاعتباریّة للباری تعالی علی المساجد.

قلنا: اتّفقت کلمة المفسِّرین علی أنّ اللام فیها هی لام الغایة، والآیة تفید أنّ المساجد موضوعة لغایة عبادته تعالی دون سواه، وأنّه لا دلالة فی اللاّم علی ثبوت الملکیّة الاعتباریّة له تعالی، ولا أقلّ أنّ اللاّم تصبح مجملة مردّدة بین لام المِلک أو الغایة، وإطلاقها یفید الاختصاص دون الملک، نعم أعلی مراتب الاختصاص هی الملکیّة، والآیة تفید اختصاص المسجد به تعالی فی مقابل غیره»(3).

واورد علی اعتراضه الأخیر علی الشیخ الأعظم: «أوّلاً: بأنّه لو سلّمنا تفسیرکم لقوله: «لا بیع إلاّ فی ملک»، فإنّ هناک تباین فی تعریف البیع، حیث التزمتم بأنّ البیع هو مبادلة مال بمال، وأمّا الشیخ فقد التزم بأنّ البیع «تملیک عین بعوض»، ولذلک لا یصحّ الإشکال علیه.

ص: 251


1- (1084) العروة الوثقی 6/385.
2- (1085) سورة الجن /18.
3- (1086) العقد النضید 4/554.

وثانیا: لو سلّمنا أنّ البیع مبادلة مال بمال، لکن ما هی الجهة التی تتحقّق المبادلة معها فإنّ المبادلة تعدّ من الاُمور الإضافیّة، وهی لا تخلو إمّا الإضافة فی الملکیّة _ کما هو المعروف _ أو أعمّ منها ومن الحقّیة، أمّا الأوّل فقد اعترفتم بخروج المسجد عنها بالوقف، والأخیر لا دلیل علیه، وبالتالی تبقی الإضافة فاقدا للجهة.

ونتیجة البحث: ثبت من خلال ما ذکرناه صحّة ما ذهب إلیه الشیخ، من أنّ الوقف تحریرٌ للمسجد، وأنّه لا مجال لزوال المسجدیّة مطلقا، وبالتالی فلا یَصِحُّ بیعه وشراءه مطلقا خلافا لما التزم به السیّد رحمه الله [هنا ووفاقا لما]. أفتی السیّد رحمه الله فی الجزء الأوّل من «العروة الوثقی» [بعدم جواز تنجیس المسجد الذی صار خرابا وإن لم یصل فیه أحدٌ(1)، وعدم جواز تنجیس بل وجوب تطهیر المسجد الذی تغیّر عنوانه بأن غصب وجعل دارا أو صار خرابا بحیث لایمکن تعمیره ولا الصلاة فیه(2) واللّه العالم(3)].

فظهر ممّا ذکرنا «من عدم زوال عنوان المسجدیة باندراس الآثار یظهر بقاءُ جمیع الأحکام الثابتة لعنوان المسجد حین وجود الأبنیة، وعدم إرتفاعها باندراس الآثار، لما مرّ من أنّ عنوان المسجدیة من الاعتباریات التی لا تزول بزوال الآثار، لقیامها بنفس الأرض، من دون دخلٍ للآثار فی مسجدیتها. بل المسجد إمّا معمور وإما مغمور، بلا مساس للعمارة فی طروء المسجدیة للأرض، فلیس العمران مقوِّما لعنوان المسجدیة ولا شرطا له.

ومن هنا یظهر أنّ نظر العرف فی ذهاب عنوان المسجدیة العرفیة بذهاب الآثار لیس متّبعا فی ترتیب الأحکام الشرعیة الثابتة للمسجد، إذ الموضوع هو ما عرفت ممّا استفید من السیرة القطعیّة القائمة علی بقاء أحکام المسجدیة علی نفس الأرض ولو بعد زوال جمیع الآثار والأبنیة، إذ السیرة تکشف عن عدم إحالة الشارع تمییز مفهوم المسجد

ص: 252


1- (1087) العروة الوثقی 1/183، مسألة 10، کتاب الطهارة، شروط صحة الصلاة.
2- (1088) العروة الوثقی 1/184، مسألة 13، کتاب الطهارة، شروط صحة الصلاة.
3- (1089) العقد النضید 4/555.

إلی العرف حتّی یکون نظرهم فی ذلک متّبعا شرعا»(1).

والحاصل: «أنّ المسجدیة الموضوعة للأحکام الخاصة الشرعیة المستفادة من السیرة المتقدمة لا یعتبر فیها الإعداد للصلاة أو غیرها، وإنْ حکم العرفُ باعتبار إعداد الأرض للصلاة فی المسجدیة العرفیة.

لکن الرجوع إلی العرف فی تشخیص موضوع الحکم الشرعی علی ما هو قضیة الإطلاق المقامی منوط بعدم بیان الشارع صریحا أو إلتزاما لتحدید موضوع حکمه کما فی المقام، إذ السیرة القائمة علی ترتب أحکام المسجد علی المعمورة والمغمورة تذلُّ إلتزاما علی کون المسجدیة التی جُعلت موضوعا لأحکامٍ خاصّة عبارةً عمّا لا ینفکّ عن الأرض ولو بعد الخراب، ولذا تکون المسجدیة من قبیل التحریر»(2).

وعلی ما ذکرنا: «أنّ الأقوی ترتب أحکام المسجد علی المساجد الواقعة فی الشوارع، سواء أکانت فی الأراضی المفتوحة عنوةً أم غیرها، وسواء وقعت فی المعمورة حال الفتح أم فی مواتها.

نعم الّذی یُسهِّل الخطب فی کثیرٍ ممّا یقع من المساجد فی الشوارع: أنّ نفس أرض المسجد تقع تحت التراب والتبلیط غالبا، بحیث لا تؤثِّر النجاسة فی نفس الأرض، فالمتنجس غیر أجزاء المسجد، کما إذا تنجّس آجرٌ من خارج المسجد، ثمّ اُدخل إلی المسجد، أو العکس. وإن کان الفضاءُ أیضا من المسجد. إلاّ أنّ معروض النجاسة هو الأرض، إذ لا معنی لنجاسة الفضاء»(3).

أقول: ولکن یمکن أن یناقش فی هذا الأخیر لأنّه إذا کانت المسجدیة قائمةً بنفس الأرض دون الأبنیة والآثار وعدم ارتفاعها بتخریب البناء وزوال الآثار، لقیامها بنفس الأرض من دون دخل للآثار فی مسجدیتها، فحینئذ یکونُ المسجد الذی اُدخل فی الشارع من قبل البلدیة والدولة مسجدا ویبقی علی مسجدیته ویترتب علیه أحکام

ص: 253


1- (1090) هدی الطالب 6/587.
2- (1091) هدی الطالب 6/588.
3- (1092) هدی الطالب 6/591.

المسجدیة من عدم تنجیسه ووجوب تطهیره إذا تنجس وعدم مکث الحائض والجنب فیه ونحوها لمن یعلم أنّها مسجد.

نعم، لا یجب إعلام الغیر بکون الأرض مسجدا، فیمحو ذکره علی مضی الأیام والسنین ولا یجب الالتزامُ بحفظه واللّه العالم.

هذا کلّه بالنسبة إلی أرض المسجد.

الثانی: وأمّا أجزاؤه وآلاته وأثاثه

قال جدی الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره : «وأما غیر الأرض من الآلات والفرش والحیوانات وثیاب الضرائح ونحوها: فإنْ بقیت علی حالها وأمکن الانتفاع بها فی خصوص المحلّ الذی اُعدت له؛ کانت علی حالها، وإلاّ جُعلت فی المماثل، وإلاّ ففی غیره، وإلاّ ففی المصالح علی نحو ما مرّ. وإن تعذّر الانتفاع بها باقیة علی حالها بالوجه المقصود منها أو ما قام مقامه؛ أشبهت فی أمر الوقف الملکَ بعد إعراض المالک، فیقوم فیها احتمال الرجوع إلی حکم الإباحة، والعود ملکا للمسلمین تُصرَف فی مصالحهم، والعود إلی المالک. ومع الیأس عن معرفته تدخل فی مجهول المالک. ویُحتمل بقاؤها علی الوقف وتُباع احترازا عن التلف والضرر ولزوم الحرج، ویُصرف مرتّبا(1) علی النحو السابق. ولعلّ هذا هو الأقوی، کما صرّح به بعضهم(2)»(3).

وقال نجله الشیخ حسن: «وإن کان الموقوف غیر أرضٍ، فإن بقی علی حاله وأمکن الانتفاع به فی خصوص المحلّ الذی أُعدّ له لزم الانتفاع به کذلک، وإن لم یبقَ علی حاله بحیث لم یمکن الانتفاع به بوجهٍ، کرضاض الحصیر والباریة الموقوفین فی المساجد وغیرها وبعض أجزاء الخشب والفراش، جاز نقله بعوضٍ وشراء ما ینتفع به فی ذلک المحلّ الموقوف، وإن لم یمکن ففی غیره مقدّما للأقرب فالأقرب؛ لأنّ المنع من بیعه

ص: 254


1- (1093) فی بعض النسخ: (مترتّبا).
2- (1094) إیضاح الفوائد 2/407؛ جامع المقاصد 4/97؛ مسالک الإفهام 3/170؛ مجمع الفائدة والبرهان 8/169-168؛ الحدائق الناضرة 18/444.
3- (1095) شرح القواعد 2/221.

هنا مع اضمحلاله یوجب العبث والسفه، مع احتمال الرجوع فی ذلک إلی حکم الإباحة، کالملک بعد إعراض المالک عنه، أو الرجوع إلی ملک المسلمین کافّة تُصرف فی مصالحهم، أو الرجوع إلی المالک الأوّل، ومع عدم معرفته یکون مجهول المالک.

وما ذکرناه أوّلاً أقوی، إلاّ مع عدم إمکان البیع أیضا، فاحتمال الرجوع إلی المسلمین کافّة هو الأقوی.

وإن بقی علی حاله أو علی حالة ینتفع به إلاّ أنّه لا یمکن الانتفاع به فی الجهة المعدّ لها، فهناک یلزم الانتفاع بها فی المماثل مقدّما الأقرب فالأقرب، وإلاّ فغیر المماثل، وإلاّ ففی منافع المسلمین کافّة.

فإن تعطّل نفعها بجمیع الجهات، فإن خشی علیها من التلف جاز بیعها وشراء وقفٍ آخَر عوضها مقدّما الأقرب فالأقرب، فإن لم یکن الشراء صُرفت فی وجوه البرّ عینا أو قیمةً.

وإن لم یخش علیها، قوی القول بجواز بیعها أیضا کذلک، إلاّ أنّ القول ببقائها فی مکانها وعدم التعرّض لها إلی أن یحکم ولیّ الأمر فیها بحکمه هو الأسلم»(1).

واعترض علیهما الشیخ الأعظم بقوله: «وفیه: أنّ إجارة الأرض وبیع الآلات حسن لو ثبت دلیل علی کونها ملکا للمسلمین ولو علی نحو الأرض المفتوحة عنوة، لکنّه غیر ثابت، والمتیقّن خروجه عن ملک مالکه، أمّا دخوله فی ملک المسلمین فمنفیّ بالأصل.

نعم، یمکن الحکم بإباحة الانتفاع للمسلمین؛ لأصالة الإباحة، ولا یتعلّق علیهم اُجرة»(2).

وقال أیضا: «وأما أجزاؤه [أی المسجد] _ کجذوع سقفه وآجره من حائطه المنهدم _ فمع المصلحة فی صرف عینه(3) فیه تعیّن(4)؛ لأنّ مقتضی وجوب إبقاء الوقوف

ص: 255


1- (1096) أنوار الفقاهة 5/285 و 286.
2- (1097) المکاسب 4/55.
3- (1098) کذا فی النسخ، والمناسب تأنیث الضمیر، وهکذا حال الضمائر الآتیة الراجعة إلی کلمة «اُجزاؤه».
4- (1099) العبارة فی کثیر من النسخ هکذا: فمع المصلحة فی صرف عینه یجب صرف عینه فیه.

وأجزائها(1) علی حسب ما یوقفها أهلها وجوب إبقائه جزءا للمسجد، لکن لا یجب صرف المال من المکلّف لمؤونته بل یُصرف من مال المسجد أو بیت المال. وإن لم یکن مصلحة فی ردّه جزءا للمسجد، فبناءً علی ما تقدّم من أنّ الوقف فی المسجد وأضرابه فکّ ملک، لم یجز بیعه، لفرض عدم الملک.

وحینئذٍ فإن قلنا بوجوب مراعاة الأقرب إلی مقصود الواقف فالأقرب، تعیّن صرفه فی مصالح ذلک، کإحراقه لآجر المسجد ونحو ذلک _ کما عن الروضة(2) _ وإلاّ صُرِف فی مسجدٍ آخر _ کما فی الدروس _ وإلاّ صُرِف فی سائر مصالح المسلملین.

قیل: بل لکلّ أحد حیازته وتملّکه(3)، وفیه نظر»(4).

أقول: أجزاء المسجد وآلاته وأثاثه تارةً یمکن الانتفاع بها وأُخری لا یمکن:

أمّا الأوّل: فإذا أمکن الانتفاع بها بنفس أعیانها فله صور:

«الأُولی: الاِنتفاع بها فی المحلِّ الّذی اُعِدّت له، ویجب إبقاؤها فیه لینتفع بها فی الجهة المقصودة، کافتراش البساط الموقوف فی مسجدٍ انْهَدَمَ.

الثانیة: الاِنتفاع بأعیانها فی مکان آخر مماثل لما اُعدّت له، کوضع الفرش فی مسجدٍ آخر، أو جعل ثوب ضریحٍ ثوبا لضریح آخر، ویجب النقل مع مراعاة الاُمور الثلاثة، وهی کون المنتقل إلیه أقرب وأحوج وأفضل.

الثالثة: الاِنتفاع بأعیانها فی مکانٍ آخر غیر مماثل، کإفتراش بساط المسجد فی مشهدٍ أو حسینیةٍ، ویجب النقل مع مراعاة المراتب الثلاثة المتقدمة.

الرابعة: الاِنتفاع بأعیانها فی مصالح المسلمین العامّة بعد تعذر الإنتفاع بها فی

ص: 256


1- (1100) فی نسخة: وإجرائها.
2- (1101) الروضة البهیّة 3/254.
3- (1102) قاله المحقّق التستری فی مقابس الأنوار /156.
4- (1103) المکاسب 4/59.

الصور الثلاث المتقدمة، وهی الاستفادة منها فی موضعها المعدِّ لها أوّلاً، وکذا فی المماثل، وفی غیر المماثل»(1).

وأمّا الثانی: فإذا لا یمکن الانتفاع بها یجری فی حکمها احتمالات:

«الأوّل: تکون کالمباحات الأصلیة، تُملَک بالحیازة.

الثانی: تصیر ملکا للمسلمین، وتُصرف فی مصالحهم.

الثالث: تعود إلی ملک الواقف، فإنْ عُرف شخصه أو وارثُه فهو، وإنْ لم یُعرف کانت من مجهول المالک، یتصدّق به.

الرابع: تبقی وقفا، کما أن أرض المسجد لم تخرج عن الوقفیة بطروء الخراب، فتُباع الآلات، ویُصرف ثمنها فی المماثل مقدّما للأقرب فالأحوج فالأفضل.

وإن لم یوجد المماثل صُرِف فی غیر المماثل مع رعایة الأُمور الثلاثة. وإن لم یوجد ففی مصالح المسلمین»(2).

ویمکن القول: أجزاء المسجد وآلاته وأثاثه ففیها صور ثلاث:

«الاُولی: أن یری المتولّی والناظر المصلحةَ فی صرف أعیان الأجزاء فی نفس المسجد، بأن یستفاد منها فی إعمار البناء مرّة اُخری، فیتعیّن ذلک، لأنّ مقصود الواقف الإنتفاع بالعین الموقوفة مهما أمکن، والمفروض وجوب العمل بالوقف شرعا علی حسب ما أوقفه. فإنْ توقفَ إبقاؤها علی بذل مالٍ صُرف من مال المسجد إن کان له مال، وإلاّ فمن بیت المال، وإلاّ لم یجب علی المتولِّی صرف شیءٍ من أموال نفسه لإبقاء تلک الأجزاء.

الثانیة: أن لا یری المتولِّی المصلحة فی ردِّ مثل الجذع المنکسر جزءا للمسجد، وحینئذٍ فإن قلنا بجواز بیعها کما حکی عن العلاّمة وجمعٍ فلا کلام، وإن قلنا بعدم الجواز _ کما هو المختار _ ففیه صورتان:

الأولی: القول بوجوب مراعاة الأقرب إلی مقصود الواقف، فیجب صرفُه فی

ص: 257


1- (1104) هدی الطالب 6/581.
2- (1105) هدی الطالب 6/582.

مصالح نفس هذا المسجد، کإحراقه لطبخ آجره.

الثانیة: القول بعدم وجوب مراعاة الأقرب إلی نظر الواقف، ویجب حینئذٍ صرفُه فی سائر مصالح المسلمین»(1).

والحاصل: «الآلات الموضوعة فی المشاهد والمساجد والحسینیات فهی تارة لا تکون إلاّ لأجل الزینة وتعظیم شعائر المساجد و المشاهد مثل القنادیل المعلّقة فی المشاهد الشریفة وغیر القنادیل من الآلات الموضوعة فیها لأجل التزیین، ومن الظاهر أنّ هذه الاُمور وقف وملک لنفس المساجد والمشاهد والانتفاع منها یکون بالتزیین ولیس فی هذه الاُمور ملاحظة تملیک المسلمین وانتفاعهم أصلاً وهی من مصداق الوقف علی الموقوفات وسیجیء الکلام عن قریب إن شاء اللّه تعالی أنّه لا یعتبر أن یکون المالک من ذوی الشعور بعد ما کانت الملکیة أمرا اعتباریا یعتبره العقلاء فی هذه الموارد.

وأُخری تکون الآلات الموضوعة فی المشاهد والمساجد مثلاً وقفا للمسلمین المصلّین فی المسجد أو زوّار المشهد ولکنّه جعل محل الانتفاع منها المسجد والمشهد من دون أن یکون فیها تزیین للمشهد والمسجد مثل المبردات الموضوعة فی المشاهد المشرّفة والمساجد المکرّمة لأن ینتفع الزوّار والمصلّون عند الزیارة والعبادة منها.

وثالثة یلاحظ فیها کلتا الجهتین من انتفاع المسجد بالتزیین وانتفاع النّاس والظاهر فی هذا القسم أیضا أنّه وقف علی نفس المسجد والمشهد لا علی الزوّار والمصلّین، ویؤکّد ذلک ما هو المتعارف فی إنشاء وقفه فإنّه یعبّر عنه بالوقف علی المسجد ونحوه لا علی المصلّین والزائرین، وکیف کان یجوز بیع جمیع هذه الاُمور عند عروض المسوّغ وصرف ثمنها علی المسجد ونحوه فی القسم الأوّل والثالث وعلی المصلّین والزائرین فی القسم الثانی.

وأمّا الکلام بالنسبة إلی الأجزاء المحدثة للمسجد کما إذا سقّف أحد سقف المسجد فالظاهر أنّه لیس مثل نفس مکان المسجد الذی قلنا إنّه تحریر ملک لا یجوز بیعه، بل هو

ص: 258


1- (1106) هدی الطالب 6/603.

من قبیل سائر الموقوفات علی المسجد یجوز بیعه عند عروض المجوّز ولا ینافی ذلک إجراء أحکام المسجد فیه.

ومثل السقف باب المسجد ونحوه من أجزائه المحدثة، فإذن لا مانع من جواز بیعه عند عروض المجوّز لأنّه لیس من نفس المسجد بل هو سقف المسجد أو بابه.

ومن هنا یَظْهَرُ حکم الأجزاء غیر المحدثة کما إذا فرضنا أنّ أحدا بنی لنفسه دارا وبنی فیها سقفا وأبوابا ونحوها ثمّ وقفها مسجدا، فالظاهر أنّ وقف المجموع ینحل إلی جعل الأرض مسجدا وجعل غیره وقفا علی المسجد، وذلک لأنّ المسجد إنّما هو اسم للفضاء والمکان وأمّا غیره من التراب والآجر والأخشاب فلیس بمسجد، ولذا لو انتزع وجعل فی مکان آخر لم یلحقه أحکام المسجد نظیر الکعبة والصفا والمروة ونحوها ممّا هو اسم للفضاء ولذا لو فرض نعوذ باللّه انهدام الکعبة وجب الطواف حول ذاک الفضاء والتوجّه إلیه فی الصلاة والکون فی ذلک الفضاء الخاص فی الحجّ مثلاً، ویشهد لهذا ما أفاده المیرزا [النائینی(1)] ونعم ما أفاد من أنّ المناسب للمسجدیة التی هی تحریر للملک دائما أن یتعلّق بما هو قابل للدوام والاستمرار وما هو قابل له هو الفضاء دون غیره، فإذن یجوز بیع حیطان المسجد وجذوعه وبابه إلی غیر ذلک ممّا یتعلّق به عند طروّ المسوغ ویصرف ثمنها علی المسجد فإنّها مملوکة له من غیر فرق بین الصورتین»(2).

الثالث: ما الحقّ بالمساجد

قال المحقّق التستری فی المقابس: «إنّ کل وقف عامٍّ کان الغرض من وقفه تملیک الإنتفاع للموقوف علیهم _ دون العین أو منافعها _ فلا یصحّ بیعه مادام وقفا بوجهٍ من الوجوه. وقد أجمع الأصحاب علی ذلک فی المسجد... وکذلک المشهد والمقابر المبنیة إذا خربت، والمدارس والخانات والقناطر الموقوفة علی الطریقة المعروفة، والکتب الموقوفة علی المنتفعین، والعبد المحبوس علی خدمة الکعبة ونحوها، والأشجار الموقوفة لإنتفاع

ص: 259


1- (1107) منیة الطالب 2/282.
2- (1108) التنقیح فی شرح المکاسب 2/(268-266).

المارّة، والبواری الموضوعة لصلاة المصلِّین، وغیر ذلک ممّا قُصِد بوقفه الإنتفاع العام لجمیع النّاس أو للمسلمین ونحوهم من غیر المحصورین، لا تحصیل المنافع بالاجارة»(1).

ذکر هذا المقال الشیخ الأعظم وعلّله بقوله: «لأنّ جمیع ذلک صار بالوقف کالمباحات بالأصل اللازم إبقاؤها علی الإباحة کالطرق العامّة والأسواق.

وهذا کلّه حسن علی تقدیر کون الوقف فیها فکّ ملک، لا تملیکا»(2).

أقول: الإلحاق بالنسبة إلی المشاهد المشرفة والحسینیات والمهدیات وما شابهها تامٌّ لأنّ بعد أن یجعل الواقف أرضا لتکون مزارا أو حسینیة تصیر محرّرة مثل المساجد من جهة عدم تملیک أحد أو جهة من الجهات فلا یجوز بیعها أبدا.

وأمّا: المدارس والخانات والقناطر والکتب والأشجار والبواری والعبد المحبوس ونحوها فلا یتم فیها الالحاق بل هذه الأُمور تکون من قبیل الوقف العام وهو علی قسمین:

«القسم الأوّل: ما یکون وقفا لجهة عامّة مثل الوقف علی العلماء والفقراء والسادات مثل الحمّامات والدکاکین بأن تکون منفعة هذه الاُمور راجعة إلیهم ومملوکة لهم فإنّ معنی وقف هذه الاُمور لهؤلاء الجماعة رجوع منفعة هذه الاُمور إلیهم وکونها مملوکة لهم فیجوز لهم الانتفاع بها مباشرة کما یجوز لهم إجارتها والانتفاع باُجرتها.

والظاهر أنّ هذه الأُمور أیضا ملک لهم... من دلالة نفس «علی» فی قول الواقف وقفت علیهم، کما أنّ الظاهر أنّه لا مانع من جواز البیع عند عروض المسوّغ والمجوّز له، والفرق بین هذا وبین الوقف الخاص أنّه فی الوقف الخاص یکون الشیء الموقوف ملکا للأشخاص بنحو الاشاعة بخلافه فی المقام بداهة أنّ الشیء الموقوف لیس ملکا للعلماء بالاشاعة بأن یکون کلّ واحد من العلماء مثلاً مالکا لمقدار من الوقف بنحو الاشاعة بل هو ملک للجهة. وبعبارة اُخری أنّ دائرة الملک سعة وضیقا تختلف بکثرة الموقوف علیهم

ص: 260


1- (1109) مقابس الأنوار /156.
2- (1110) المکاسب 4/60.

وقلّتهم فی الوقف الخاص بخلافه فی هذا القسم بل هو باق علی حاله علی أی حال، وکیف کان فلا فرق فی جواز البیع بین هذا القسم وبین الوقف الخاص عند عروض مجوّز البیع.

والقسم الثانی من الوقف العام: ما یکون وقفا علی لعلماء أو علی جمیع النّاس مثلاً ولکنّه علی نحو لیس لهم إجارته ونحوها بأن لا تکون المنفعة راجعة إلیهم مثل القسم الأوّل، بل وقف علیهم لأنّ ینتفعوا منه مباشرة لا لأنّ یؤجر وتصرف منافعه فیهم وهذا مثل المدارس والخانات الواقعة فی الطرق والقناطر، وقد یعبّر عن هذا القسم فی لسان العلماء بملک الانتفاع دون المنفعة... أنّ مرجع هذا أیضا إلی ملک المنفعة غایة الأمر المنفعة بالمباشرة لأنّ الانتفاع فعل الشخص وکیف یکون الشخص مالکا لفعل نفسه، فهو مالک للمنفعة لکن فی جهة خاصّة ولا مانع من التعبیر عنه بملک الانتفاع مسامحة من باب ضیق العبارة.

وکیف کان الظاهر کون الشیء الموقوف مثل القناطر والمدارس أیضا ملکا للجهة غایة الامر یکون ملکا مضیّقا والمنفعة أیضا مملوکة ملکا مضیّقا، فالفرق بین هذا القسم و القسم السابق أنّه فی القسم الأوّل تکون العین ملکا للجهة لکن محبوسة لا طلقا والمنفعة تکون ملکا لهم طلقا فیجوز لهم المعاوضة علیها والانتفاع بثمنها وفی القسم الثانی کما لا تکون العین مملوکة للجهة طلقا کذلک المنفعة لا تکون طلقة بل هی أیضا محبوسة بمعنی اشتراط صرفها فی جهة خاصّة وهی الانتفاع بها مباشرة، ولیس لهم إجارته ونحوها من التصرفات الواقعة من الملاّک بل لهم أن یجلسوا فی المدارس والخانات إذا کانوا من الموقوف علیهم کما إذا وقف الخان علی أن یسکن فیه الزوّار أو المسافرون»(1).

وبالجملة: فی الوقف العام بکلا قسمیه لا مانع من جواز البیع عند عروض المجوّز فلا یتم القول بالحاقه بالمساجد والمشاهد والحسینیات خلافا للمحقّقین الشیخ أسداللّه

ص: 261


1- (1111) التنقیح فی شرح المکاسب 2/(266-264).

التستری والشیخ الأعظم والنائینی(1) قدس سرهم .

الرابع: هل اتلاف الوقف العام یوجب الضمان؟

استشکل المحقّق التستری فی مطالبة المتلف بالقیمة أو المثل «من أنّ ما یطلب بقیمة عینه یُطلب بمنافعها. ومن المعلوم أنّه لو منع شخصٌ الناسَ من الإنتفاع إلی أن فاتت جملةٌ من منافعها، أو إنتفع بها فی غیر الجهة الموضوعة له _ کما لو جعل المسجد مسکنا له _ أثِمَ، ولکن لم یطلب بها، فکذا لو أتلف العین. ولعدم وضوح الدلیل علی الضمان إلاّ فی الأملاک المنسوبة إلی النّاس، وهذه صارت ملکا للّه، وإنّما للناس الإنتفاع خاصة»(2).

وقال الشیخ الأعظم: «ولو أتلف شیئا من هذه الموقوفات أو أجزائها متلفٌ، ففی الضمان وجهان:

من عموم «علی الید» فیجب صرف قیمته فی بدله.

ومن أنّ ما یطلب بقیمته یطلب بمنافعه، والمفروض عدم المطالبة باُجرة منافع هذه لو استوفاها ظالم کما لو جعل المدرسة بیت المسکن أو محرزا، وأنّ الظاهر من التأدیة فی حدیث «الید» الإیصال إلی المالک فیختصّ بأملاک النّاس، والأوّل أحوط، وقوّاه بعض»(3).

أقول: بعد ما عرفت أنّ الوقف العام ملکٌ للموقوف علیهم وتدلّ علیه کلمة «علی» لأنّها فی صورة عدم الملک لم یکن وجه للتعبیر بهذه الکلمة الدالة علی الضیق والضرر ولیس هذا إلاّ من جهة تضیّق دائرة الملکیة علیهم ولا یکون فی البین ضررٌ یتوجّه إلیهم بل لهم منفعة تعود إلیهم من الوقف فحینئذ إتلاف الملک علی المالک یوجب ضمان المتلف.

مضافا إلی وجود السیرة المستمرة العقلائیة علی الضمان فی الوقف العام بکلا قسمیه لِمَنْ أتلف شیئا من منافعه علی الموقوف علیهم حیث یعتبره العقلاء ضامنا للجهة

ص: 262


1- (1112) منیة الطالب 2/280.
2- (1113) المقابس /156.
3- (1114) المکاسب 4/60.

أو لهم، فلا یتم القول بعدم الضمان والأقوی هو الضمان واللّه العالم.

الخامس: الوقف علی الموقوفات

هل یَصِحُّ وقف الأموال المنقولة وغیر المنقولة علی الموقوفات کما فی وقف المصاحف والمنابر والفرش والمصابیح علی المشاهد المشرفة والمساجد والمدارس، أو وقف الأراضی والدکالین والخانات علیها أم لا؟

قولان: الأوّل: البطلان: لأنّ عناوین المشاهد والمساجد والمدارس قاصرة أن تصبح طرفا لإضافة الملکیة لفقدان الشعور فیها.

الثانی: الصحة: إذ لا دلیل علی أنّه ینبغی أن یکون المالک ذی شعور بل الثابت عند العقل والعقلاء امکان اعتبار الملکیة لفاقد الشعور کالجمادات والحیوانات، ولأنّ الملکیة من الأُمور الاعتباریة ویعتبرها العقلاء لفاقد الشعور أیضا.

«والشاهد علی ذلک ما علیه سیرة الاُمم والشعوب فی البلدان المختلفة، حیث أنّ لکلّ اُمّة وملّة معتقدٌ ودین تدین بها، ومقدّسات تقدّسها، وتقدّم لها القرابین والنذور وتوقف علیها الأموال المنقولة وغیر المنقولة، فلعبدة الأوثان هیاکلهم المقدّسة، وللمجوس بیوت النار التی یقدّسونها، وللیهود والنصاری کنائسهم ومعابدهم وأدیرتهم فیوقفون لها الأموال، ویعتبرون هذه الأماکن المقدّسة طرفا لإضافة الملکیّة، وما علیه المسلمون من وقف الأموال علی المساجد والمشاهد والمزارات المقدّسة أوضح من أن یخفی»(1).

«ویترتّب علیه أنّ المنافع التی تحصل من تلک الاُمور تکون ملکا طلقا للمسجد والمدرسة ونحوهما نظیر ما یکون وقفا علی الکلّی أو الذرّیة کما إذا فرضنا أنّ دکانا کان وقفا علی العلماء أو الذرّیة فکما أنّ منافع تلک الاُمور تکون ملکا طلقا لهؤلاء الجماعة کذلک تکون منافع هذه الاُمور ملکا طلقا للمسجد والمدرسة وللمتولّی أن یتصرّف فیها بما یراه صلاحا بلا اعتبار عروض مجوّز للتصرّف أصلاً فله أن یشتری بمنافع هذه الاُمور

ص: 263


1- (1115) العقد النضید 4/559.

شیئا ویجعله وقفا علی نفس المسجد مثلاً، نعم لابدّ فی جواز بیع نفس الموقوف علی الموقوفات من عروض مسوّغ ومجوّز فافهم»(1).

ولا ینقضی تعجبی من الأُستاذ المحقّق _ مدظله _ حیث یقبل الأمر فی مقام الثبوت واستشکل فی مقام الاثبات وتوقف فیه وقال: «إنّ الملکیّة لها اعتبار عقلائی، فلا مانع فی مقام الثبوت عَقْلاً وعُقَلاءً من ملکیّة الأوقاف للمساجد والمشاهد، وهو ما التزم به جماعة.

إلاّ أنّنا برغم اعتقادنا ذلک وأنّ المرتکز عند العقلاء اعتبار المسجد أو الکنیسة طرفا لإضافة المال، لکن ما یختلج بالبال أنّ هذه الطرفیة والإضافة هل هی علی نحو الملکیّة المعهودة أو علی نحو الاختصاص کما فی (الجُلّ للفرس) من جهة اختصاصه به، أمّا أصل الاختصاص فهو ثابت لا غبار علیه، أمّا الملکیّة فإنّ أدلّة الإثبات قاصرة عن إثباتها، ولذلک فلا نحکم علی هذه الموقوفات إلاّ باختصاصها بالأمکنة المذکورة»(2).

وجه التعجب: الملکیةُ أمرٌ اعتباریٌّ إمّا اعتبرها العقلاء أو لم یعتبرها؟ فالتفصیل بین مقامی الثبوت والاثبات بلا وجه بعد الاقرار باعتبارهم والاختصاص الوارد فی آخر کلامه یمکن أن یسمّی بالملکیة ولا نری الفرق بینهما، واللّه العالم.

السادس: حکم کسوة الکعبة

تتجدد کسوة الکعبة فی یوم التاسع من ذی الحجة الحرام کلّ عام وتُقَسَّمُ بین الدول الإسلامیة وشخصیاتها یتبرکون بها وحیث لم یکن وقفا فیجوز بیعها لأنّ الوقف لابدّ أن یلاحظ فیه التأبید وهذا القید لم یکن فی کسوة الکعبة وإذا لم تکن وقفا یجوز بیعها ویستفاد للتبرک ولا یجوز التکفین به لأجل احترام الکعبة(3) أو لکونها من الحریر الخاص(4) ولذا ورد فی الروایات(5) عدم جواز تکفین المیت فی کسوة الکعبة:

ص: 264


1- (1116) التنقیح فی شرح المکاسب 2/269.
2- (1117) العقد النضید 4/559.
3- (1118) کما احتمله السیّد الخوئی فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/268.
4- (1119) کما احتمله العلاّمة المجلسی فی ملاذ الأخیار 3/234.
5- (1120) راجع وسائل الشیعة 3/44، الباب 22 من أبواب التکفین.

ومنها: مرسلة عبدالملک قال: سألت أباالحسن عن رجل اشتری من کسوة الکعبة شیئا فقضی ببعضه حاجته وبقی بعضه فی یده، هل یصلح بیعه؟ قال: یبیع ما أراد، ویهب ما لم یرد، ویستنفع به، ویطلب برکته، قلت: أیکفّن به المیّت؟ قال: لا.(1)

والروایة دالة علی جواز بیع کسوة الکعبة وهبتها وطلب البرکة منها والانتفاع بها.

کما یدل علیه صحیحة عبدالملک بن عتبة قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عمّا یصل إلینا من ثیاب الکعبة، هل یصلح لنا أن نلبس منها شیئا؟ قال: یصلح للصبیان والمصاحف والمخدّة یبتغی بذلک البرکة إن شاء اللّه.(2)

بتقریب: إذا کانت تصلح للصبیان والمصاحف والمخدّة بطلب البرکة فیجوز الانتفاع بها وإذا جاز الانتفاع فیجوز البیع بالملازمة ولذا حُکی(3) عن الکلینی(4): وفی روایة اُخری أنّه یجوز استعماله وبیع بقیّته.

هذا تمام الکلام فی الجهة الأولی من البحث.

الجهة الثانیة: صور جواز بیع الوقف
الصورة الأولی:
اشارة

«أن یخرب الوقف بحیث لا یمکن الانتفاع به مع بقاء عینه، کالحیوان المذبوح والجذع البالی والحصیر الخَلِق»(5).

تدور هذه الصورة حول الأمرین الرئیسیین خراب العین وسقوطها عن قابلیة الانتفاع فمجرد الخراب لا یسوّغ البیع «بل لابدّ أن ینتهی الخراب إلی حالة ینتفی الانتفاع بها، وعلیه فإنّ المسوّغ الحقیقی لیس مجرّد الخراب، بل عدم الانتفاع؛ وهو تارةً یسقط

ص: 265


1- (1121) وسائل الشیعة 3/44، ح1.
2- (1122) وسائل الشیعة 13/257، ح1، الباب 26 من أبواب مقدمات الطواف.
3- (1123) الحاکی صاحب وسائل الشیعة 13/257.
4- (1124) لم أظفر بها فی الکافی المطبوع ویظهر منها اختلاف نسخ الکافی الشریف.
5- (1125) المکاسب 4/61.

العین بالمرّة عن قابلیّة الانتفاع، واُخری لا یسقطها.

وقلّة الانتفاع: تارةً: یکون بحیث یلحق بالمعدوم.

واُخری: غیر ملحق به، بل یمکن استثمار هذا القلیل والانتفاع به عرفا بحیث لو ترک هذا القلیل لعدّ تضییعا للمال عرفا وعُقَلاءً»(1).

والکلام فی هذه الصورة فی سقوط العین عن الانتفاع بها بالمرّة بحیث لا یمکن الانتفاع بها کما مرّ.

کلمات الفقهاء فی المقام

ذهب جماعة إلی جواز بیع الوقف إذا خرب وجماعة إلی جواز بیعه إذا خاف خرابه وأمّا:

«فممّا جوّز بیعه فیه إذا خرب المقنعة(2) والانتصار(3) والمراسم(4) والخلاف(5) علی الظاهر منه والتذکرة(6) والتحریر(7) والإرشاد(8) والمختلف(9) و[القواعد(10)] وتعلیق الإرشاد(11) ومجمع البرهان(12) وکذا جامع المقاصد(13). وفی الانتصار(14) الإجماع علیه.

ص: 266


1- (1126) العقد النضید 4/562.
2- (1127) المقنعة: فی الوقوف والصدقات /652.
3- (1128) الانتصار: فی بیع الوقف /468.
4- (1129) المراسم: فی أحکام الوقوف والصدقات /197.
5- (1130) الخلاف: فی الوقف 3/551، المسألة 22.
6- (1131) تذکرة الفقهاء: 20/249، مسألة 147.
7- (1132) تحریر الأحکام الشرعیة: فی أحکام الوقف 3/316.
8- (1133) إرشاد الأذهان: فی أحکام الوقف 1/455.
9- (1134) مختلف الشیعة: فی الوقف 6/288.
10- (1135) قواعد الأحکام 2/401.
11- (1136) حاشیة الإرشاد (حیاة المحقّق الکرکی وآثاره) 9/339.
12- (1137) مجمع الفائدة والبرهان: فی شرائط العوضین 8/169-168.
13- (1138) جامع المقاصد: فی أحکام الوقف 9/71-70.
14- (1139) الانتصار: فی بیع الوقف /469.

وقد قیّد فیه الخراب بما إذا لم یجد نفعا، فینطبق علیه معقد إجماع الغنیة کما ستسمع. وفی المقنعة(1) بما إذا لم یوجد له عامر، وفی الکتاب بما إذا خرج عن الانتفاع. وفی الخلاف(2) بما إذا لم یرج عوده. وفی التذکرة(3) والمختلف(4) بعدم التمکّن من عمارته. وجمع بین هذین فی التحریر(5) وقد یکون المراد من الجمیع معنیً واحدا. وجوّز فی الکافی(6) بیع الوقف المنقطع عند خرابه.

ولعلّ مراد من قیّده بما إذا خرج عن الانتفاع ما إذا لم یمکن الانتفاع به فی الجهة المقصودة مطلقا کحصیر یبلی وجذع ینکسر، إذ قد جوّز فی التذکرة(7) و[القواعد(8)] والإیضاح(9) والدروس(10) وجامع المقاصد(11) بیع حصر المسجد وجذوعه حیث لا ینتفع بها فیه ولا فی غیره وإنّما ینتفع بها فی الإحراق، قالوا: فإنّها تباع فیه. وهو ممّا لا ریب فی جوازه وإن خالف فیه بعض الشافعیة(12). وفی المبسوط(13) إن انقطعت نخلة من أرض الوقف أو انکسرت جاز بیعها لأرباب الوقف، لأنّه قد تعذّر الانتفاع بها علی الوجه الّذی

ص: 267


1- (1140) المقنعة: فی الوقوف والصدقات /652.
2- (1141) الخلاف: ی الوقف 3/551، المسألة 22.
3- (1142) تذکرة الفقهاء 20/249، مسألة 147.
4- (1143) مختلف الشیعة: فی الوقف 6/288.
5- (1144) تحریر الأحکام الشرعیة: فی أحکام الوقف 3/316.
6- (1145) الکافی فی الفقه: فی الصدقة /325.
7- (1146) تذکرة الفقهاء 20/247، مسألة 145.
8- (1147) قواعد الأحکام 2/401.
9- (1148) إیضاح الفوائد: فی لواحق الوقف 2/407.
10- (1149) الدروس الشرعیة: فی بیع الوقف 2/280-279.
11- (1150) جامع المقاصد: فی لواحق الوقف 9/116 وفی البیع 4/97.
12- (1151) راجع المجموع: فی الوقف 15/360.
13- (1152) المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/300.

شرطه وهو أخذ ثمرتها، وقیل: لا یجوز، والأوّل أقوی، انتهی فتأمّل جیّدا.

وممّا جوّز فیه بیعه عند خوف خرابه النهایة(1) والمبسوط(2) والمهذّب(3) وفقه الراوندی(4) والوسیلة(5) والواسطة(6) والغنیة(7) والجامع(8) وکشف الرموز(9) والدروس(10) والمقتصر(11). ونقله کاشف الرموز عن شیخه(12). وفی فقه الراوندی(13) الإجماع علی ذلک، قالا معا: وإنّما یملک بیعه علی وجهٍ عندنا، وهو إذا خیف علی الوقف الخراب أو کان بأربابه حاجة شدیدة ولا یقدرون علی القیام به. وزید فی فقه القرآن أو یخاف وقوع خلاف بینهم.(14) وقد عبّر فی النهایة(15) والمهذّب(16) بخوف هلاکه وفساده، والظاهر أنّه بمعنی خوف خرابه ولهذا نظمناه فی هذا السلک. وزاد فی المقتصر إذا

ص: 268


1- (1153) النهایة: فی الوقوف والصدقات 600-599.
2- (1154) المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/287.
3- (1155) المهذّب: فی الوقف 2/92.
4- (1156) فقه القرآن للراوندی: فی الوقف وأحکامه 2/293.
5- (1157) الوسیلة: فی الوقف /370.
6- (1158) حکاه عنه البحرانی فی الحدائق الناضرة: فی البیع 18/440.
7- (1159) غنیة النزوع: فی الوقف /298.
8- (1160) الجامع للشرائع: فی الوقف /372.
9- (1161) کشف الرموز: فی الوقف 2/54.
10- (1162) الدروس الشرعیة: فی بیع الوقف 2/279.
11- (1163) المقتصر: فیا لوقوف والصدقات والهبات /212.
12- (1164) کشف الرموز: فی الوقف 2/54.
13- (1165) فقه القرآن للراوندی: فی الوقف وأحکامه 2/293.
14- (1166) فقه القرآن: فی الوقف وأحکامه 2/293.
15- (1167) النهایة: فی الوقوف والصدقات /600-599.
16- (1168) المهذّب: فی الوقف 2/92.

تعطّل(1)، فإن أرجعنا هذا إلی ما قبله توافق إجماعات «الانتصار والغنیة والمبسوط والفقه»(2).

ثمّ یقع الکلام فی المقامین:

المقام الأوّل: تحقق المقتضی للبیع

المقتضی لجواز البیع فی هذه الصورة موجودٌ لأنّ «طبیعة الوقف بنفسها یقتضی جواز البیع بعد سقوط العین عن قابلیّة الانتفاع بها، لأنّ غرض الواقف وارتکازه الذی دعاه إلی إنشاء الوقف کان حبس العین وتسبیل منافعها بقاءً، والروایة النبویّة _ برغم ضعف سندها _ (حبّس الأصل وسبّل الثمرة)(3) إنّما هی مبیّنة وشارحة لهذا الارتکاز العقلائی، ویُثبت أنّ غرض الواقف هو دیمومة الثمرة وبقاءها، فتکون تبعیّة الإنشاءات للأغراض کتبعیّة المعلول للعلّة الممنوع تخلّفه عنها، بل لابدّ من تطابق الإنشاء مع الغرض، بمعنی أنّه یجب أن تکون دائرة الإنشاء بقدر الغرض لا أوسع منه، لأنّ الإنشاءات علی قسمین:

تارةً: صادرة بنحو التقنین ولبیان قانونیّة الحکم المُنشأ، ونسبة الغرض إلیه تارةً یکون بنحو الحکمة، واُخری بنحو العلّة. فقوله: (لا تشرب الخمر لأنّه مسکرٌ) حکم قانونی اعتبر الإسکار فیه علّة لتمام موضوع الحکم، أمّا عدّة المرأة فهی حکم قانونی، واختلاط المیاه إنّما هی حکمة ولیست بعلّة.

وأُخری: صادرة علی نحو إنشاءات العرف والعقلاء، وفی هذه الصورة یجب أن تکون دائرة الإنشاء متطابقة مع الغرض وبقدره لا أوسع منه.

وإنشاء الواقف یعدّ من القسم الأخیر، فیجب حمل إنشاءه علی ما یتطابق مع

ص: 269


1- (1169) المقتصر: فی الوقوف والصدقات والهبات /212.
2- (1170) مفتاح الکرامة 21/(685-682).
3- (1171) عوالی اللآلی: باب الدیون 2/260، ح14؛ المسند (للشافعی) /308؛ مسند الحمیدی /290؛ تلخیص الحبیر 3/67، ح1310؛ سنن البیهقی 6/162؛ سنن ابن ماجه 2/801، 2397.

غرضه من حبس العین وتسبیل الثمرة بقاءً، فإذا انتفت جاز بیع الموقوفة، ولهذا السبب نحکم بأنّ نفس إنشاء الوقف فیه اقتضاء البیع، وإن لم یقم دلیلٌ شرعی علی جوازه.

توضیح ذلک: لا یخفی أنّ الفقهاء قسّموا الشروط إلی:

الشروط المصرّحة فی ضمن العقد، والشروط المضمرة المبنیّة علی الارتکاز، والتی یعبّر عنها بالشروط البنائیّة، کشرط تساوی الثمن والمثمن فی المعاملة، فإنّه من الشروط التی لا یصرّح بها عادةً فی العقد، إلاّ أنّ العقلاء یبنون معاملاتهم علیه بناءً ارتکازیّا، ویجعلون خیار الغبن لمن تضرّر نتیجة لتخلّفه عن الشرط المذکور، وفیما نحن فیه فإنّ دیمومة منفعة العین الموقوفة تعدّ من هذا القبیل، بمعنی أنّ إنشاء الوقف یقع مع هذا الشرط الارتکازی غیر المصرّح به، ومفاده أنّه یجب أن تبقی العین وثمرتها مسبلة إلی حین إمکان الانتفاع، فإذا انتفت منافعها فی یوم من الأیّام، جاز بیعها وتبدیل ثمنها بعین اُخری یمکن الانتفاع بها بما یتوافق مع غرض الواقف الأقرب فالأقرب، وتأسیسا علیه فباعتقادی أنّ دلیل الوقف بنفسه یقتضی جواز البیع، ولا حاجة للإستعانة بأدلّة أُخری لإثبات الجواز، کما أنّ حکم الشارع بجواز البیع عند انتفاء منافعها لیس حکما تعبّدیّا، وإنّما هو حکم إرشادی إلی هذا الشرط الارتکازی المضمر، أو بیان لحکم واعتبار علی وفق الشرط الارتکازی الذی شرطه الواقف»(1).

بعبارة أُخری: «أنّ الوقف المؤبّد عبارة عن تحبیس العین وتسبیل المنفعة إلی أن یرث اللّه الأرض، ولا فرق بین تصریح الواقف فی صیغة الوقف بکلمة إلی أن یرث اللّه الأرض وبین عدم تصریحه بذلک، لأنّ معنی الوقف عبارة عن هذا، فعلیه لمّا کان الواقف واحدا من العقلاء ویعلم أنّ الأشیاء کلّها فانیة فلابدّ وأن یکون نظره من تحبیس العین وتسبیل المنفعة أعمّ من نفس العین ومن بدلها.

وبعبارة [ثالثة]: أنّ نظر الواقف من تحبیس العین وتسبیل منفعتها أوّلاً وبالذات إلی شخص العین ما دامت حالها هکذا یعنی یمکن الانتفاع بها مع بقاء العین وثانیا

ص: 270


1- (1172) العقد النضید 4/563 و 564.

وبالعرض إلی بدلها، فعلیه یکون نفس إنشاء الواقف تحبیس العین وتسبیل المنفعة علی نحو الدوام دالاً علی هذا المعنی، فلیس للبطون الموجودة إتلاف نفس العین لأنفسهم بل لابدّ من تبدیل العین إلی شیء یبقی وینتفع به الکلّ إلی أن یرث اللّه الأرض»(1).

وممّا ذکرنا یَظْهَرُ ما فی مقالة الشیخ الأعظم من قوله: «نعم، یمکن أن یقال: إذا کان الوقف ممّا لا یبقی بحسب استعداده العادی إلی آخر البطون، فلا وجه لمراعاتهم بتبدیله بما یبقی لهم، فینتهی ملکه إلی من أدرک آخر أزمنة بقائه، فتأمّل»(2).

وجه الظهور: أنّ «المستفاد من کلامه قدس سره هذا کون العین الموقوفة ملکا طلقا للبطون الموجودة التی تسقط العین عن الانتفاع بها فی زمانهم بحیث لو مات أحدهم یرث وارثه منها وهو غیر سدید بداهة أنّ الواقف لم ینشئ بالوقف ملکیتین: ملکیة غیر طلقة للبطون السابقة وملکیة طلقة لمن أردک آخر أزمنة بقاء الوقف، بل الواقف بعد التفاته إلی أنّ العین الموقوفة غیر قابلة للبقاء إلی الأبد لا مناص له من أن یوقف العین بشخصها ما دامت باقیة وبمالیتها بعد التلف، لا بمعنی أنّ الواقف أوقف البدل بشخصه لیقال إنّه لم یکن ملکا له لا حدوثا کما هو واضح ولا بقاءً لأنّه حین المبادلة لم یکن المبدل ملکا للواقف ولا بمعنی أنّه وقف کلّی المالیة الساریة بین العین الموقوفة وبدلها، بل بمعنی أنّه وقف العین الشخصیة بشخصها وبمالیتها غایة الأمر حبس شخص العین محدود بما إذا أمکن الانتفاع بها مع بقائها وبدونه تکون المالیة وقفا فی ضمن أیّ شیء کانت ولیست العین حینئذ محبوسة فیجوز تبدیلها، وهذا هو السرّ فی عدم جواز إتلافها من قبل البطن الموجود فإنّ مالیتها موقوفة فی ضمن أیّ عین کانت ولا یجوز إتلاف المالیة الموقوفة»(3).

وکذا لایتم ما قاله: «وکیف کان، فمع فرض ثبوت الحقّ للبطون اللاحقة، فلا وجه

ص: 271


1- (1173) التنقیح فی شرح المکاسب 2/272.
2- (1174) المکاسب 4/62.
3- (1175) التنقیح فی شرح المکاسب 2/273.

لترخیص البطن الموجود فی إتلافه»(1).

لو کان مراده قدس سره من الحق هو الملکیة الشأنیة لعدم امکان تعقلها حتّی تکون منشأة من قبل الواقف.

المقام الثانی: عدم المانع
اشارة

الموانع المتصورة عن بیع الوقف فی هذه الصورة تتشکل من اُمور لابدّ من دفعها:

أ: دعوی الإجماع

الإجماع حاصل علی عدم جواز بیع العین الموقوفة کما مرّ(2).

ویرد علیه: أوّلاً: أنّه مدرکیٌّ هنا.

وثانیا: «إنّ الإجماع الذی کان موجودا فی أصل المطلب من عدم جواز بیع الوقف لیس موجودا فی المقام لو لم یکن موجودا علی جواز البیع، ولا أقل من کون جواز البیع فی المقام من المعروف والمشهور»(3).

وثالثا: الإجماع دلیل لبیٌّ فاقد للإطلاق فیجب الاقتصار فیه علی القدر المتیقن وهو هنا إذا لم تکن العین قد سقطت عن الانتفاع.(4)

ب: صحیحة أبی علی بن راشد

الماضیة(5) عن أبی الحسن علیه السلام : لا یجوز شراء الوقوف ولا تدخل الغلة فی ملکک ادفعها إلی من أُوقفت علیه، الحدیث.(6)

حیث تعلّق فیها النهی ببیع الوقف وشراءه.

ویرد علیه: «أوّلاً: لا إطلاق للنهی لیشمل المورد، لإحتفافه بقرینة صارفة تمنع

ص: 272


1- (1176) المکاسب 4/63.
2- (1177) راجع هذا المجلد صفحة 206.
3- (1178) التنقیح فی شرح المکاسب 2/270.
4- (1179) کما فی العقد النضید 4/564.
5- (1180) راجع هذا المجلد صفحة 209.
6- (1181) وسائل الشیعة 19/185، ح1.

عن انعقاد الإطلاق للنهی، وهی الغلّة والثمرة المشار إلیهما فی الروایة، حیث تدلاّن علی اختصاص النهی بما إذا کانت العین الموقوفة مثمرة، فلا تشمل صورة فقدها.

وثانیا: أنّ إطلاق أدلّة النهی منزّلة علی مقتضی إنشاء الوقف المقیّد بصورة الانتفاع ووجود الثمرة، لا مؤبّدا حتّی عند فقدهما کما مرّ تفصیله آنفا، وحکم هذه الروایة حکم غیرها من الأدلّة، حیث تدلّ علی عدم الجواز ما دام ینتفع بها، وبالتالی لا إطلاق فیها لتشمل ما إذا کانت العین فاقدة للمنافع»(1).

ج: صحیحة الصّفّار

الماضیة(2) عن أبی محمّد الحسن بن علی علیه السلام : الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها إن شاء اللّه.(3)

قد یقال: أنّها دالة علی عدم جواز بیع الوقف.

وردّه الشیخ الأعظم بقوله: «فلا یدلّ علی المنع هنا؛ لأنّه مسوق لبیان وجوب مراعاة الکیفیّة المرسومة فی إنشاء الوقف، ولیس منها عدم بیعه، بل عدم جواز البیع من أحکام الوقف وإن ذکر فی متن العقد؛ للاتفاق علی أنّه لا فرق بین ذکره فیه وترکه»(4).

المناقشة علی ردّ الشیخ الأعظم

یرد علی الشیخ الأعظم: أوّلاً: إنّ هذه المقالة الأخیرة متهافتة مع ما مرّ منه فی أوّل البحث بعد الحکم علی عدم جواز بیع الوقف إجماعا «لعموم قوله علیه السلام الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها»(5).

ثانیا: لا وجه لتخصیص الصحیحة بما ذکره الشیخ الأعظم من أنّها مسوقة لبیان کیفیة المصرف فی الوقف من أنّ الواقف لو وقفه علی جهة لابدّ من صرف منافعها فی تلک

ص: 273


1- (1182) العقد النضید 4/565.
2- (1183) راجع هذا المجلد صفحة 208.
3- (1184) وسائل الشیعة 19/175، ح1.
4- (1185) المکاسب 4/61.
5- (1186) المکاسب 4/33.

الجهة، بل أنّها عامة تشمل کیفیة التصرف وعدم جواز البیع معا، نعم هذه الصورة من صور جواز بیع الوقف خارجة عن دائرة شمولها.

وثالثا: قد مرّ أنّ عدم جواز بیع الوقف لیس من أحکام الوقف _ کما ذکره الشیخ الأعظم _ بل هو مقوّم للوقف وداخل فی انشائه، لأنّ الوقف عبارة عن تحبیس العین وتسبیل المنفعة علی نحو التأبید، لأنّ محل کلامنا فی الوقف المؤبَّد.

ورابعا: لانحتاج إلی تخصیص الصحیحة کما فعله الشیخ الأعظم بل أنّها «أدلّ علی جواز البیع من المنع خلافا لما استدلّ به المانعین، فإنّه بعد ما ثبت أنّ غرض الواقف الإنشاء التوأم مع الانتفاع الدائم، فإنّ الروایة بنفسها تقتضی البیع عند الخراب وانتفاء المنافع، لأنّ الشارع قد أمضی الوقف بحسب أغراض الواقف المشروطة ببقاء المنفعة، وبالتالی فإنّ نفس إمضاء الوقف شرعا یقتضی جواز البیع عند الخراب، بل لزومه، خاصّةً إذا لا حظنا أنّ إبقاء العین المخروبة یعدّ تضییعا للمال، ومخالفا مع غرض الواقف والشارع، وعلیه فدلیل نفوذ الوقف ما دامت المنفعة باقیة یسقط بعد زوالها، وحینئذٍ یکون اقتضاء إطلاق دلیل «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(1) نافذا دون مانع یمنع عن ذلک»(2).

فذلکة القول فی المقام

والحاصل: إنّ «العمومات الدالة علی صحة المعاملات مِنْ «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(3) و «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(4) فإنّها تقتضی صحة بیع الوقف إذا سقط عن الانتفاع بها فإنَّ المانع عنها إنّما کانت هی الأدلة الدالة علی عدم جواز بیع الوقف فإذا سقطت هی عن المانعیة فتکون هی محکمة ومقتضیة لجواز البیع کما لا یخفی.

وبالجملة: إنَّ أدلة عدم جواز بیع الوقف فیما إذا کانت العین الموقوفة باقیة علی حالها وأمکن الانتفاع بها فی الجهة التی وقفها الواقف لأجلها وإذا سقطت عن الانتفاع بها

ص: 274


1- (1187) سورة البقرة /275.
2- (1188) العقد النضید 4/565.
3- (1189) سورة المائدة /1.
4- (1190) سورة النساء /29.

لم تکن مشمولة لها.

وبعبارة أخری: أنَّ مادّل علی المنع عن بیع الوقف لیس واردا علی نحو التعبد، بل امضاء لما أنشأه الواقف من جعله ساکنا وغیر متحرک بالبیع والهبة وجعله مهرا للزوجة وغیرها من التصرفات کما یقتضیه مفهوم الوقف أیضا وإذا سقطت العین الموقوفة عن الانتفاع بها ارتفع المنع عن بیعها وخرجت العین عن الوقفیة من هذه الجهة وجاز بیعها کما لا یخفی»(1).

ثمّ إنّ هاهنا إشکالاً لابدّ من الجواب عنه
الإشکال

«ثمّ أنّه یقع الإشکال فی أنّه بعد ما جاز بیع الوقف مع عروض ما یخرجه عن الانتفاع بها وبدَّل بشیء آخر فکیف یصیر ذلک وقفا کمبدله مع عدم تعلّق الانشاء من الواقف علیه.

وعلی تقدیر تعلّق الإنشاء به فلا فائدة فیه فإنّه لا یملک بالبدل حین وقف المبدل فما لایملکه لایجوز وقفه لأنّه لا وقف إلاّ فی ملک وبعد تبدیله بالثمن فلیس ملکا للواقف وعلی تقدیر رجوعه إلی ملکه لا یکون وقفا إلاّ بانشاء جدید فهو منفی، بل مقتضی القاعدة حینئذ أی مع الرجوع إلی ملکه إمّا کونه ملکا للواقف علی تقدیر حیاته وللورثة مع موته»(2).

وبعبارة أُخری: «بعد ما جاز بیع الوقف مع عروض ما یخرجه عن الانتفاع بها، وتبدیل ثمنه بوقف آخر، فکیف یصبح هذا الثمن وقفا کمبدله مع عدم تعلّق إنشاء الوقف به.

[ثمّ] علی تقدیر تعلّق الإنشاء به، فإنّه لا یکون مفیدا لصدور الوقف عمّن لا یعدّ مالکا والثابت أنّه (لا وقف إلاّ فی مِلک).

ص: 275


1- (1191) مصباح الفقاهة 5/181 و 182.
2- (1192) مصباح الفقاهة 5/182.

[توضیح] ذلک: لا شکّ أنّ الوقف من الاُمور الإنشائیّة، ولا یتحقّق إلاّ بإنشاءٍ صادرٍ من المالک، فمع خراب الوقف وإن جاز بیع العین الموقوفة شرعا، لکن ما الدلیل علی صحّة وقف الثمن الذی هو بدل للمبدل ولم یکن البائع مالکا له، حیث لا مجال لتوجیه وقف من لیس بمالک، فإنّ متعلّق الإنشاء کان وقف المثمن، ولم یکن الثمن متعلّقا للإنشاء، فما أوقفه الواقف هی الدار التی انتهت وقفیّتها بالخراب، وما نحاول إثبات وقفیّته بعد البیع هو الثمن الذی لم یکن قد تعلّق به الإنشاء، وبالتالی تکون وقفیّة الثمن غیر ممکنة بل ضروریّة البطلان لصدورها عمّن لیس بمالک»(1).

قد تعرّض الأعلامُ لحلِّ هذا الاشکال:
محاولة المحقّق الخراسانی
اشارة

قال: «لا ریب فیه علی تقدیر کون الوقف ممّا یتعدّد فیه المطلوب، ویکون بحسب حقیقته ذا مرتبتین: حبس العین بنفسها مادام ممکنا، وحبسها ببدلها فیما لم یمکن»(2).

توضیح محاولته: «أنّ للواقف مطلوبان طولیّان؛ أوّلی وثانوی، أمّا المطلوب الأوّلی الذی هو متعلّق إنشاء الواقف، لیس إلاّ حبس العین وتسبیل الثمرة، ما دام یمکن الانتفاع بالعین بنفسها وبخصوصیّاتها الشخصیّة، أمّا المطلوب الثانوی فهو الانتفاع ببدلها فیما لو سقط الانتفاع بها، وعلیه فإنّ وقفیّة البدل تکون متحقّقة من خلال الإنشاء المتعلّق بالعین»(3).

نقد الإصفهانی علی محاولة الخراسانی ثمّ توجیهها

اعترض المحقّق الإصفهانی علی استاذه بما نصه: «أنّ المالیة التی هی أمر انتزاعی عقلائی تتشخص بمنشائها، فالمالیة القائمة بالبدل غیر المالیة القائمة بالعین الموقوفة حقیقةً ودقةً، ولا مساس لها بالواقف حتی یجعلها محبوسة فی المرتبة الثانیة من غرضه، بخلاف المالیة القائمة بماله فإنّها قابلة له، وإنّما الکلام فی جواز تبدیل هذه المالیة بما

ص: 276


1- (1193) العقد النضید /565 و 566.
2- (1194) حاشیة المکاسب /110.
3- (1195) العقد النضید 4/568.

یماثلها مع أنّها مالیة العین بشخصها لا بمالیة أخری، وبیع العین کما یوجب نقل العین کذلک نقل المال، وأیُّ دلیل علی لزوم اتباع غرض الواقف حتّی یقال بأنّ الانتفاع بالمال متوقف علی تبدیله؛ مع أنّ تبدیله مساوق لازالة المحبوسیة عنه، فکیف یمکن تعلّق غرضه بالمحبوسیة علی وجه مزیل للمحبوسیة»(1)؟!

مراده: «أنّ بدل العین الموقوفة لم یکن من مراتب ملکیّة الواقف، بل أجنبیّ عنه، لأنّ ما یضاف إلی المالک إنّما هو العین بجمیع خصوصیّاته، وأمّا بدلها، فلم یکن طرفا لعلقة الإضافة، ولذلک لا تأثیر لإنشاء الواقف للعین بالنسبة إلی بدلها لانحصار تأثیر إنشاءه بما هو تحت سلطنته واختیاره دون ما هو خارج عنهما، فحدود صلاحیّة الواقف منحصرة بنفس العین، ولیست متعدّدة لتشمل العین وبدلها طولاً»(2).

ثمّ بعد هذا الاعتراض قام الإصفهانی(3) بتوجیه کلام الخراسانی بما توضیحه: «أنّ کلّ مال یتضمّن ثلاث جهات:

الاُولی: الجهة الخصوصیّة المتعلّقة بالمال المعیّن کالکتاب، فإنّه مالٌ مع خصوصیّة کونه کتابا.

الثانیة: الجهة المالیّة الخاصة المضافة إلی الشیء، وهی القیمة التی یختصّ هذا الکتاب الخاصّ بها.

الثالثة: الجهة المالیّة العامّة التی تشترک الکتاب وغیره فیها، وهی التی یُعبّر عنها بالفارسیّة ب_ (أرزش).

فإنّه عند إتلاف المال تزول الخصوصیّة الاُولی والثانیة، ولیس فی استطاعة التالف أو المالک استیفاءهما. أمّا الجهة الثالثة فهی باقیة وقابلة للردّ والاستیفاء وقوله: «علی الید ما أخذت حتّی تؤدّی» بیان لهذه الخصوصیّة.

وفیما نحن فیه فإنّ الواقف حینما یقدم علی إنشاء الوقف، فإنّه لم یوقف العین

ص: 277


1- (1196) حاشیة المکاسب 3/115.
2- (1197) العقد النضید 4/568.
3- (1198) حاشیة المکاسب 3/(116-114).

وبدلها معا _ کما التزم به الآخوند _ بل یتعلّق وقفه بالجهة الاُولی والثالثة، فلیس یقصد وقف الکتاب بما هو کتاب، بل یوقفه بما هو مالٌ، ولهذا السبب تتوسّع دائرة الموقوف من خلال إنشاء الواقف، وتشمل الکتاب وما یتضمّنه من المالیّة، فإذا انتفی الأوّل وأصبح عدیم الفائدة، فإنّ أصل المالیّة تکون باقیّة وتبقی موقوفة إلی الأبد بنفس إنشاء الوقف الأوّل.

والنتیجة: أنّه ما دام یمکن الانتفاع من العین بالمالیّة القائمة بها، فإنّه یجب الاحتفاظ بها، ومع سقوطهما یصل الدور إلی الجهة الثالثة، حیث یقتضی أصل الوقف لزوم المحافظة علیها، ممّا یستلزم بیع العین الخربة أو عدیمة الفائدة لأجل إبقاء أصل المالیّة الموقوفة أساسا بأصل الوقف، فیصبح البدل أیضا وقفا بتبع وقفیّة أصل المالیّة التی کانت موقوفة إلی الأبد من حین الإنشاء»(1).

محاولة السیّد الیزدی

قال فی ملحقات العروة الوثقی: «إذا وقف مالیّة عین أبدا یمکن أن یقال: إنّه وإن لم یکن من الوقف المصطلح إلاّ أنّ مقتضی العمومات العامّة صحّته، ونمنع حصر المعاملات فی المتداولات، بل الأقوی صحّة کلّ معاملة عقلائیة لم یمنع عنها الشارع، فکما تصحّ الوصیّة بإبقاء مقدار من ماله أبدا وصرف منافعه فی مصارف معیّنة مع الرخصة فی تبدیله بما هو أصلح، فکذا لا مانع منه فی المنجّز بمثل الوقف علی النحو المذکور وإن لم یکن من الوقف المصطلح»(2).

ویناقش علیه: «أوّلاً: لایخفی أنّ الوقف إذا تعلّق بالعین یعنی حبس العین عن جمیع التصرّفات، أمّا الخصوصیّات المتعلّقة بذات العین فهی غیر داخلة تحت الوقف، وأمّا إذا تعلّق الوقف بالخصوصیّة المالیّة دون العین، فإنّ الأمر یقتضی أن نعدّ خصوصیّات هذا النوع من الوقف جواز تبدیلها، لتعلّق الوقف بأصل المالیّة لا بخصوصیّاتها، وبالتالی

ص: 278


1- (1199) العقد النضید 4/568 و 569.
2- (1200) العروة الوثقی 6/393، مسألة 46.

ینبغی أن نلتزم بجواز بیع المالیّة وتبدیلها، وإن لم تطرأ علیها مسوّغات بیع الوقف، وهذا ما لا أظنّ بفقیهٍ یلتزم به»(1).

وثانیا: اطلاق أدلة الوقف لا یشمل ما لیس بمتداول عند العقلاء بیان ذلک: «إنّ المجعولات الشرعیّة علی قسمین: تأسیسیّة وإمضائیّة.

أمّا المجعولات التأسیسیّة: فإنّ الشارع لم یلاحظ حین الجعل خصوصیّة معیّنة فی حکمه، وبالتالی تکون أصالة الإطلاق محکّمة، وهذا بخلاف الأدلّة الإمضائیّة حیث یلاحظ الشارع عند جعلها الخصوصیّات العرفیّة والارتکازات المتداولة عند العقلاء، فقوله: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» یعدّ من الأحکام الإمضائیّة، ویختصّ بالبیوع العقلائیّة المتعارفة فی الأسواق، أمّا البیوع غیر العقلائیّة فبرغم صدق عنوان البیع علیها _ سواءٌ اعتبرناه تبدیل عین بمال، أو تبدیل طرفی الإضافة، أو جعل شیء بإزاء شیء _ فإنّ إطلاق الدلیل المذکور قاصرٌ عن شمولها، ولا أقلّ من أنّه مشکوک، لأنّ الخطابات الشرعیّة ملقاة إلی العرف العام، وتفسیرها موکول إلی فهم العرف الذی یستعین عادةً بمخزونه الذهنی، وبالتالی تعدّ الارتکازات العرفیّة المرتکزة فی أذهان العقلاء قرائن حافّة بالکلام، توجب صرف ظهور الخطاب الشرعیّ عن الموارد غیر العقلائیّة أو المشکوکة.

وما ذکره السیّد رحمه الله من وقف المالیّة مندرج فی القسم الثانی، لأنّ المتداول والمتعارف عند جمیع العقلاء من کلّ ملّة ودیانة، القیام بوقف الأعیان القابلة للبقاء لفترات غیر محدودة، أمّا وقف المالیّة فهو غیر معهود فی سیرتهم کما اعترف بذلک السیّد بنفسه، وصرّح بأنّ هذا النوع من الوقف «لم یکن من الوقف المصطلح»، ولهذا السبب فإنّ إطلاق قوله علیه السلام : «الوقوف بحسب ما یوقفها أهلها» المعدود من الأدلّة الإمضائیّة قاصرٌ عن شمول مثل هذا الوقف الغیر المعهود والبعید عن سیرة العقلاء، وعلیه فإنّ استدلال السیّد بهذا الدلیل ممنوع»(2).

ص: 279


1- (1201) العقد النضید 4/570.
2- (1202) العقد النضید 4/571.

لا یقال: «إنّ اعتبار المالیّة أمرا زائلاً غیر باق بعد زوال خصوصیّاتها الخارجیّة، ولذلک لا یمکن أن یتعلّق بها الوقف، ممنوعٌ، بل الأمر عند العرف والعقلاء عکس ذلک، حیث یعتبرون المالیّة باقیة برغم تبدلّ الخصوصیّات الفردیّة المتعلّقة بها وزوالها، والشاهد علی ذلک ما هو ثابت فی باب الضمانات من بقاء مالیّة المال التالف، واشتغال ذمّة التالف بها، برغم زوال الخصوصیّة، وکذلک الحال فی مطلق باب التجارات حیث نجد أنّ التجّار یتعاملون طوال السنة بمطلق البضاعات وبمواصفات متنوّعة، لکن الذی یبقی للتاجر آخر السنة هی المالیّة التی ینتسب إلیه، ومع بقاءها فیمکن أن تقع متعلّقا للوقف، ومصداقا لقوله علیه السلام : «لا وقف إلاّ فی ملک»»(1).

لأنا نقول: «لا شکّ أنّ المسامحات العرفیّة لاغیة لا اعتبار بها، ولا یمکن الاعتماد علیها فی استنباط الأحکام الشرعیّة، بل الاعتبار للدقّة العقلیّة العرفیّة، ولهذا السبب ینبغی أن نلاحظ حقیقة عنوان بقاء المالیّة فیما نحن فیه، ففی باب الضمان فإنّ المتلف یعدّ بتصرّفه متلفا لأمرین: المال التالف بخصوصیّاته الفردیّة، والمالیّة المتعلّقة بها، فالتلف یعدّ حقیقة _ لا مسامحة _ تلفا للعین ولمالیّتها، وما یدفعه الضامن إنّما هو بدل مالیّة العین المفقودة، فالمالیّة المدفوعة تسدّ مسدّ المالیّة الحقیقیّة والأصلیّة التالفة لا نفسها، وإن یتسامح العرف فی ذلک ویعتبرها نفس المالیّة الأصلیّة، ویری مالیّته باقیة بعد قبضه بدل التالف من المتلف، وکذلک الحال فی باب المکاسب والتجارات، فإنّ التاجر من خلال معاملاته وبیوعه فی تبدّل مستمرّ للعین والمالیّة، وإنّما الأموال المتجدّدة تجبر المالیّات المعدومة خلال المعاملات السابقة، وبالتالی فلا مجال فرض بقاء المالیّة الأصلیّة، بل هی زائلة حقیقةً بزوال عینها، وإنّما تحلّ مالیّة جدیدة محلّ المفقودة، ولذلک لا تعدّ المالیّة الجدیدة الحادثة بعد زوال المالیّة الأصلیّة مصداقا لقوله: «لا وقف إلاّ فی ملک»، لأنّ تعلّق الوقف بالبدل یعدّ [من تعلّق الوقف] بغیر المِلک»(2).

ص: 280


1- (1203) العقد النضید 4/572.
2- (1204) العقد النضید 4/573.

ولکن یمکن تصحیح وقف المالیة بطرق أُخری:

أ: «التمسّک بعموم قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» باعتبار أنّ الموضوع فی الآیة الشریفة عنوان العقد، فیشمل مطلق العقود حتّی وإن لم تکن عقلائیّة، لکن الاستدلال بها یتوقّف علی اعتبار الوقف عقدا من العقود، وهو ما لم یتبنّاه السیّد رحمه الله حیث التزم بعدم عقدیّته لعدم اعتبار القبول فیه.

ب: اعتبار الأدلّة الإمضائیّة مطلقة تشمل جمیع العقود حتّی الغیر المتعارف عند العقلاء.

ج: اعتبار أنّ الموضوع فی قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مطلق العهد وإن لم یکن متضمّنا للإیجاب والقبول، لیشمل وقف المالیّة باعتبار أنّه عهدٌ من العهود»(1). هذا.

جواب السیّد الخوئی

قال فی جواب الاشکال: «والذی ینبغی أن یقال: أنّ الإنشاء وإن تعلَّق بالعین الشخصیة الموجودة فی الخارج ولکن لا خصوصیة للخصوصیة الخارجیة فی العین الموقوفة وإنّما هی هذه العین الخارجیة مع لحاظ المالیّة العاریة عن الخصوصیة الشخصیة فهذه المالیة فی هذه العین الموقوفة الخارجیة ما دامت موجودة وبعدها تکون باقیة فی العین الآخر مع التبدیل وإذن فالمالیة المحفوظة مع الإمکان متعلَّق الوقف فلا فرق فی کونها وقفا بانشاء الواقف وهذا ولا خدشة فیه فی مقام الثبوت.

وأمّا فی مقام الإثبات فالقرینة علی ذلک کون الوقف مؤبدا إلی أنْ یرث اللّه الأرض ومَنْ فیها وعدم إمکان إبقاء العین إلی الأبد فیعلم من ذلک أنّ الوقف إنّما تعلَّق بشیءٍ له أمد حسب طول الزمان بقدر الإمکان غایة الأمر مادامت العین الموقوفة بشخصها باقیة فخصوصیاتها أیضا متعلق الوقف حین الإنشاء ولذا لا یجوز تبدیلها قبل عروض المجوّز إذن فالبدل وقف بإنشاء نفس الواقف لا بإنشاء آخر علی أنّه لو کان ملکا للبطن الموجود

ص: 281


1- (1205) العقد النضید 4/572.

تنقل حق کلّ منهم بمجرد موته إلی وارثه مع أنه لیس کذلک»(1).

مراده: أنّه مدفوع ثبوتا واثباتا:

«أمّا فی مقام الثبوت: فإنّ الإنشاء وإن تعلّق بالعین الشخصیّة، ولکن لا خصوصیّة للخصوصیّة الخارجیّة فیها، بل الاعتبار لها مع لحاظ مالیّتها العاریة عن الخصوصیّة الشخصیّة، بمعنی أنّ الموقوف هذه العین ما دامت موجودة وثمنها بعد زوال العین، وبالتالی فإنّ المالیّة تکون متعلّقة للوقف بمثل العین، فیصبح الثمن وقفا بعد خراب العین.

أمّا فی مقام الإثبات: فإنّ القرینة علی صحّة وقف الثمن قیام الواقف بوقف العین دائما مع علمه باستحالة بقاءها إلی الأبد، فیعلم من ذلک أنّ الوقف إنّما تعلّق بشیء له أمد حسب طول الزمان بقدر الإمکان، ما دامت العین موجودة بشخصها، فإذا زالت بالخراب تکون الخصوصیّات المتعلّقة بها _ وهو الثمن _ أیضا متعلّق الوقف حین الإنشاء، فبخراب الدار تبطل وقفیّة الدار، لکن لا تبطل وقفیّة مالیّته العاریة عن الخصوصیّات»(2).

اعتراض الاستاذ المحقّق _ مدظله _ علی الأعلام الثلاثة

«إنّ متعلق ملکیة المالک هی المالیّة القائمة بالمال المعیّن من الدار أو الکتاب، فمملوکه المالیّة الخاصّة لا العاریة عن الخصوصیّات، فإنّ الأخیرة لا تکون طرف إضافته الملکیّة الإنشائیّة»(3).

وثانیا: اضافة کل مال إلی مالکه لها جهتان: «جهة الاضافة الخصوصیّة کخصوصیّة الدار والکتاب مثلاً، وجهة الإضافة المالیّة فالدار والکتاب بما لهما من المالیّة والقیمة مضافان إلی المالک. کما أنّ متعلّق الإضافة [المالیة] المذکورة یستحیل فیه الإهمال أو الإطلاق، أمّا الإهمال فواضح، وأمّا الإطلاق فإنّ عدم معقولیّة المالیّة المطلقة من جهة أنّها تستلزم أن تکون المالیّة عاریة عن جمیع الخصوصیّات، فتکون قابلة للانطباق علی مال زید و عمرو وغیرهما، ولا شکّ أنّ مثل هذه المالیّة المطلقة لا یمکن أن تصبح طرفا

ص: 282


1- (1206) مصباح الفقاهة 5/183.
2- (1207) العقد النضید 4/556.
3- (1208) العقد النضید 4/567.

مضافا إلی المالک، إلاّ أن یُدّعی أنّ الإطلاق المذکور فی المقام یباین الإطلاق فی بقیّة الموارد، وهی ممنوعة، لما ثبت أنّ الإطلاق لا یخلو: إمّا أنّه جمع الخصوصیّات، أو أنّه رفض الخصوصیّات، وکلاهما ممنوعان فی المقام؛ أمّا الأوّل فبطلانه أوضح من أن یخفی، لاستلزامه أن تکون المالیّة المضافة إلی مطلق الأفراد طرفا مضافة إلی المالک، وهو قطعیّ البطلان. وبالتالی فلابدّ أن یکون الإطلاق بالمعنی الثانی، وأنّ المراد منه المالیّة العاریة عن جمیع الخصوصیّات، ومثل هذه المالیّة قابلة للانطباق علی جمیع الأفراد»(1).

«وبالجملة: ثبت أنّ ملکیّة المالک لیس إلاّ المالیّة المقیّدة دون المطلقة أو المهملة، وعلیه فدعوی السیّد الخوئی بأنّ الاعتبار یکون «المالیّة العاریة عن الخصوصیّة الشخصیّة»(2) ممنوعة»(3).

واعترض علی المحقّق الإصفهانی أیضا بمثل ذلک وقال: «انّ الوقف من الاُمور الإنشائیّة الإضافیّة، ولا یعقل الإهمال فی طرف الإضافة الوقفیّة، لأنّ المضاف إلیه من الحقّ أو المِلک أمرٌ واقعی، بالرغم من أنّ الإضافة بنفسها اعتباریّ، ولذلک لا مجال لفرض الإهمال فی الأمر الواقعی المتحقّق، بل لا یخلو الاعتبار إمّا کونه مالیّة هذه العین، أو مطلق المالیّة الملغی عنها الخصوصیّات، أمّا الاُولی فتزول بزوال الانتفاع، ولا مجال لبقاء شیء سوی المالیّة المطلقة العاریة عنها الخصوصیّات، وبقاءها أیضا ممنوعة بمقتضی ما ذکرناه خلال الرد علی دعوی السیّد الخوئی فلا نعیده»(4).

کما اعترض علی السیّد الیزدی ثالثة بمثل ذلک وقال: «لایعقل الإهمال فی وقف المالیّة، لعدم إمکان تصوّره فی فعل الفاعل القاصد المختار، وعلیه فلو أوقف الرجل مالیّة داره، فلا یخلو الأمر کون الموقوفة هی مالیّة هذا الدار أو مالیّته مع إلغاء الخصوصیّة ولا ثالث.

ص: 283


1- (1209) العقد النضید 4/567.
2- (1210) مصباح الفقاهة 5/183.
3- (1211) العقد النضید 4/567.
4- (1212) العقد النضید 4/569.

أمّا الاُولی: غیر باقیة لکی یوقفها مؤبدّا، بل هی تنتقل من خلال البیع إلی المشتری لو وقعت المعاملة علیه، وإن لم تقع علیها المعاملة، فبقیت إلی أن خرب، فحینئذٍ تزول مالیّتها ولا یبقی شیء بعده لکی یوقفه مؤبّدا، وبالتالی لا یصحّ الوقف مع فرض عدم إمکان تحقّق موضوعه.

أمّا الثانیة: فإنّ اعتبار الموقوفة هی المالیّة الملغی عنها الخصوصیّة المضافة، ممنوعة أیضا للإشکالین اللّذین سبق وذکرناهما آنفا فی الردّ علی مختار المحقّق الإصفهانی والخوئی»(1).

ولکن یمکن أن یجاب عن الاستاذ المحقّق _ مدظله _ والإشکال

بأنّ المالیة الواردة فی کلام السیّد الیزدی هی «مالیة عین» أعنی المالیة المضافة إلی عینٍ ووردت فی محاولة المحقّق الإصفهانی أیضا «مالیة العین بشخصها» أو «المالیة القائمة بماله» أی بمال الواقف، ووردت فی جواب السیّد الخوئی «المالیة فی هذه العین الموقوفة الخارجیة»، فحینئذ المالیة الواردة فی کلماتهم مالیة مقیدة بالعین الموقوفة، فأین هذه المالیة المقیدة ممّا ذکره الاستاذ المحقّق _ مدظله _ من المالیة المهملة التی هی مستحیلة والمالیة المطلقة _ بالمعنیین الرافضة والجامعة _ التی قابلة للانطباق علی جمیع الأفراد [الرافضة]، أو التی تضاف إلی مطلق الأفراد [الجامعة]، فلا تصح أن تضاف إلی المالک الواقف، فما أثبته القوم شیئا وما ردّه الأُستاذ المحقّق _ مدظله _ شیئا آخرَ، المالیة التی تصیر وقفا عندهم هی المالیة المقیدة بالعین، ولکن المالیة لها خصوصیة ذاتیة سیالة وهی امکان تبدیلها وتعویضها من عین إلی عین اُخری، وجواز هذا التبدیل تکون من خصوصیتها الذاتیة.

فحینئذ تکون العین وقفا بعینیتها ومالیتها، وإذا لم یمکن الانتفاع من عینیتها، یمکن الانتفاع بمالیتها وتبدیل مالیة هذه العین بالعین الاُخری، وحیث أنّ العین موقوفة، فمالیتها أیضا موقوفة، وهذه المالیة الموقوفة موجودة فی العین الاُخری بعد التبدیل فهی

ص: 284


1- (1213) العقد النضید 4/571.

أیضا موقوفة فثبتت موقوفیة البدل.

وهذا هو جوابنا لحلّ المشکلة، جواب بسیط ومختصر وواضح یرفع الإشکال من أساسه فلا نحتاج إلی جواب آخر ولکن مع ذلک نذکر لک جواب الاستاذ المحقّق _ مدظله _ احتراما له بما له من التفصیل وتبعید المسافة فی حل الإشکال والحمد للّه علی کل حالٍ.

جواب الاستاذ المحقّق _ مدظله _ عن الاشکال

قال: «وحلّ المشکلة: إنّما یتحقّق من خلال القول بأنّ موقوفیّة البدل تکون من الواقف نفسه، ولکن بشرط النتیجة، بحیث یکون شرط النتیجة هو المحقّق للوقفیّة، واعتمادا علی هذا الوجه، فقد خالفنا جماعة من أعاظم فقهاءنا المتأخّرین کالآخوند والإصفهانی والخوئی، وحکمنا بوقفیّة البدل وقفا دائما کالمبدل. لکن بیان ذلک یتوقّف علی ثلاث مقدّمات:

المقدّمة الاُولی: ثبت فی باب الشروط أنّها علی قسمین: الشروط المصرّحة بها فی صیغة العقد، والشروط الضمنیّة الارتکازیّة. ومعلومٌ أنّ الشرط عنوان إیقاعی إنشائی کالعقد، فهو الإیقاع المرتبط أو الالتزام المرتبط بالالتزام الآخر، کما هو الحال فی العقود الإنشائیّة، لکن مع فارق واحد وهو سعة دائرة الشروط عن سائر العقود الإنشائیّة المبنیّة علی اللفظ المحدّد لمراد المتعاقدین، لأنّها تشمل الشروط المصرّحة والضمنیّة الارتکازیّة، ولهذا السبب یمکن الإیقاع دون التصریح بالشرط اعتمادا علی الشرط الارتکازی، کما فی خیار الغبن حیث حکم الفقهاء بثبوته للمغبون اعتمادا علی الشرط المرتکز عند العقلاء من لزوم التساوی فی المالیّة.

المقدّمة الثانیة: ثبت فی باب الشروط أیضا أنّها تنقسم إلی: شرط الفعل وشرط النتیجة، والأخیرة لاتتحقّق إلاّ بعد قیام المقتضی وفقد الموانع، إذ قد یعتبر فی تحقّقها لفظ خاصّ ممّا یمنع عن تحقّق النتیجة من خلال الشرط کما فی الطلاق، حیث لا مجال لتحقّقه إلاّ من خلال صیغة معیّنة وضعها الشارع، وبالتالی لا یمکن إیجاد البینونة بین الزوجین من خلال الشرط، وهذا بخلاف الملکیّة حیث یمکن تحقّقها من خلال شرط

ص: 285

النتیجة، بأن یقول: (بعتک بشرط أن أملک کتابک) لأنّ الملکیّة غیر مق_یّدة بصیغة خاصّة ویمکن تحقّقها بالقول والفعل.

المقدّمة الثالثة: التزم المشهور بأنّ التعلیق من موجبات بطلان العقد، واستدلّوا علیه بدلیلین:

1_ الدلیل العقلی، وهو أنّ التعلیق یستلزم تفکیک الإنشاء عن المنشأ، وهو محالٌ. لکن ثبت فی محلّه اندفاع هذا الدلیل.

2_ الإجماع علی أنّ التعلیق فی العقود والإیقاعات مبطلٌ للعقد. لکن لا یخفی أنّ الإجماع دلیل لبّی لا إطلاق فیه، أو أنّه مشکوک علی أقلّ تقدیر، فیجب الاقتصار فی دلالته علی المتیقّن.

أقول: أثبتنا من خلال الأبحاث السابقة أنّ غرض الواقف من الوقف المؤبّد إنّما هی الاستفادة الأبدیّة من الموقوف مؤبّدا، ما دام یمکن الاستفادة منها، وببدلها عند زوال الفوائد المرجوّة منها، وقلنا إنّ جواز بیع العین مستفادة من نفس صیغة الوقف لتضمّنها شرطا ارتکازیّا یفید جواز بیعها وتبدیلها بما یمکن الانتفاع منه، وعلیه فإنّ وقفیّة البدل إنّما تکون بشرط ارتکازی علی نحو شرط النتیجة، بمعنی أنّ الواقف حینما یوقف ماله یلتزم بأمرین:

أحدهما بمقتضی صیغة الوقف، والآخر بمقتضی الشرط الضمنی المعلّق الذی ثبت من خلال المقدّمة الاُولی عدم کونه مضرّا بصحّة العقد، وهما:

[1] الالتزام بحبس المال الموقوفة ما دام یُنتفع بها.

[2] والآخر أن یکون بدلها أیضا وقفا.

وبالنتیجة فلا مجال للإشکالات السابقة لتحقّق وقفیّة البدل وقفا نهائیّا مؤبّدا، وذلک من خلال الشرط المبنائی الضمنی الارتکازی الذی یشمله قوله: «الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها» و «المؤمنون عند شروطهم».

بیان ذلک: أنّ الواقف قبل أن یقدم علی إنشاء صیغة الوقف وقبل أن یصبح أجنبیّا عن العین الموقوفة، یتحقّق منه شرطٌ ضمنیّ یعدّ شرطا فی ظرف الوقف لا فی ظرف البیع

ص: 286

اللاّحق، حیث یلتزم من خلال هذا الشرط الضمنی بوقفیّة بدل العین الموقوفة عند زوال منافعها، فالالتزام الحاصل منه فعلی، إلاّ أنّ ظرف الملتزم به متأخّر، ولا یعدّ مثل هذا الالتزام مضرّا بالعقد وبالشرط... ، فوقفیّة بدل العین وقفیّة معلّقة، إلاّ أنّ الالتزام بها فعلی غیر مشروط فی ضمن صیغة الوقف، وقد ثبت خلال المقدّمات المذکورة صحّة [مثل[ هذا الشرط والاشتراط فعلاً واستقبالاً علی نحو شرط الفعل أو شرط النتیجة، ومثل هذه الشروط ساریة وجاریة فی أبواب عدیدة من أبواب المعاملات، کما فی البیع المشروط بردّ الثمن، وفی الشرکة علی نحو المفاوضة والوجوه، بأن یشارک غیره فی التجارة ثمّ یشترط علیه أن تکون جمیع المنافع الحاصلة له دون شریکه بمقتضی الشرط خلافا لمقتضی قواعد الشرکة، وهکذا فی المضاربة وغیرها من العقود والمعاملات والعقود الجائزة، حیث یمکن أن یشرط فی ضمن العقد فیکون متعلّق التزامه فعلیّا أو معلّقا، وأن یکون التعلیق فی متعلّق الشرط، فإنّه لا محذور فی جمیع ذلک، لأنّ الشرط فی هذه الموارد لیس من قبیل الواجب المشروط، بل من قبیل الواجب المعلّق. وهکذا فی المقام فإنّ التزام الواقف بوقفیّة البدل لم یکن معلّقا علی خراب العین الموقوفة ومن ثمّ بیعها، لکی یناقش فی أنّ البطن البائع لم یکن مالکا للعین لیصحّ منه وقف البدل، بل الواقف بنفسه یلتزم بوقفیّة البدل من حین الوقف وفی ظرفه، لکن معلّقا علی البیع، فقیام البطن البائع ببیع العین بعد خرابها وسقوط منافعها، ومن ثمّ وقفیّة البدل، فجمیعها یتمّ من خلال شرط الواقف بنفسه حین الوقف، والمراد من هذا الشرط کون الواقف یلتزم فعلیّا، لکن المتعلَّق والملتَزم به استقبالی، وقد ثبت خلال المقدّمات السابقة صحّة مثل هذا الشرط والالتزام، واندراجه فی إطلاق قوله: «الوقوف بحسب ما یوقفها أهلها» و «المؤمنون عند شروطهم»»(1).

المناقشة فی جواب الاستاذ المحقّق _ مدظله _

یمکن أن یناقش فی جوابه _ دام ظله _ :

ص: 287


1- (1214) العقد النضید 4/(576-573).

أوّلاً: بعد ما مرّ من الجواب المختار مع وضوحه وبساطته واختصاره فهذا الجواب من الاستاذ _ مدظله _ یکون تبعیدا للمسافة وأکلاً بالقفی.

وثانیا: بعد عدم الانتفاع بالعین الموقوفة، عدّ جواز بیعها ووقفیة البدل من الشروط الارتکازیّة فی الوقف علی نحو شرط الفعل أو النتیجة محل تأمل بل منع لغفلة کثیر من الواقفین عن هذا الشرط الارتکازی بل لم یتوجهوا إلیه حتّی لو تذکّروا وتنبّهوا إلیه، فعدّ وقفیة البدل من الشروط الارتکازی محلّ منعٍ فلا تتم المقدمة الأُولی من بیان الاستاذ _ مدظله _ .

وثالثا: قد مرّ منّا فی بحث التنجیز فی العقود(1)، الأدلة العاشرة فی بطلان العقود بالتعلیق واستفدنا منها بطلان العقود المعلَّقة تبعا للمشهور، فحینئذ وقفیة البدل معلَّقا علی بیع العین تکون من العقود أو الایقاعات المعلَّقة فتکون باطلة فلا تتم المقدمة الثالثة من بیان الاستاذ _ دام ظله _ وحفظه اللّه لحفظ المذهب والشریعة بجاه محمّد وآله الطاهرین علیهم صلوات ربّ العالمین.

ثمّ بعد الحکم بجواز البیع فی هذه الصورة.

إنّ هاهنا فروعا لابدّ من البحث حولها
الفرع الأوّل: البدل وقف أو ملک طلق للبطن الموجود؟

قد ظهر ممّا ذکرنا فی جواب الإشکال وقفیة البدل وتوضیح ذلک: «أنّ مقتضی البدلیة وقانون المبادلة یقتضی أن یکون البدل أیضا وقفا علی نحو المبدل، لما ذکرناه مرارا من أنّ الثمن یقوم مقام المثمن فعلیه کما کان المثمن ملکا غیر طلق للبطون الموجودة یکون البدل أیضا کذلک، وما ذکرناه من مقتضی قانون المبادلة أولی ممّا ذکره الشیخ [الأعظم(2)] قدس سره من أنّ البطن الموجود مالک له فعلاً ما دام موجودا بتملیک الواقف فکذلک المعدوم مالک له شأنا، لأنّه لم نعرف معنیً محصّلاً لما ذکره من کون المعدوم مالکا

ص: 288


1- (1215) راجع الآراء الفقهیة 4/(265-243).
2- (1216) المکاسب 4/63.

له شأنا لأنّ معنی هذه الکلمة أنّه لو بقیت العین یکونوا مالکین وأمّا لو لم تبق فتکون ملکیتهم سالبة بانتفاء الموضوع.

وکیف کان، مقتضی قانون البدلیة والمبادلة هو أن یکون البدل مثل المبدل فی کیفیة الملکیة للموجودین والمعدومین وکما أنّ المبدل والمثمن کان ملکا غیر طلق للموجودین بل کان ملکا لهم وللمعدومین من باب حبس العین وتسبیل المنفعة یکون البدل أیضا هکذا، والذی یوضّح هذا المعنی أنّ أحدا لو أتلف الموقوفة وصار ضامنا لبدلها یکون البدل ملکا لهم علی نحو کانت الموقوفة ملکا لهم، وأولی منه ما ذکره الشیخ [الأعظم(1)] قدس سره من أنّ اشتراک البطون فی الثمن أولی من اشتراکهم فی دیة العبد المقتول، لأنّ الدیة حکم شرعی متأخّر عن تلف الوقف فیجوز أن یقال بسقوط حقّ البطون اللاحقة عن الدیّة بتلف نفس الوقف بخلاف الثمن لأنّ الثمن یکون مثل المثمن فی کونه قائما مقام المثمن عند البیع. وأیضا المقام أولی بالحکم من بدل الرهن الذی حکموا بکونه رهنا، مع أنّه یمکن أن یقال بعدم کون البدل قائما مقام المبدل فی الرهنیة من جهة أنّ»(2) «حقّ الرهنیّة متعلّق بالعین من حیث إنّه ملک لمالکه الأوّل، فجاز أن یرتفع، لا إلی بدل بارتفاع ملکیّة المالک الأوّل، بخلاف الاختصاص الثابت للبطن المعدوم، فإنّه لیس قائما بالعین من حیث إنّه ملک البطن الموجود، بل اختصاصٌ موقّت نظیر اختصاص البطن الموجود، مُنشَأٌ بإنشائه، مقارنٌ له بحسب الجعل، متأخّرٌ عنه فی الوجود»(3).

ثمّ فلیعلم: «وجه کون المقام أولی ممّا حکموا به فی الرهن هو: أنّ إنشاء الرهن قد تعلّق بالمبدل بما أنّه ملک للمدیون، والمفروض زوال ملکه عنه بسبب التلف، فیمکن زوال حق الرهانة عنه، وأن لا یتعلق ببدله الذی هو ملک حادث، وإنّما اُقیم مقامه حفظا لحقِّ المرتهن. وهذا بخلاف الوقف، ضرورة إستناد إختصاصه بکلِّ واحدٍ من البطون إلی الواقف، فهو المملِّک للموجودین فعلاً، وللمعدومین شأنا، ولم یتفرّع حقُّ الطبقات

ص: 289


1- (1217) المکاسب 4/65.
2- (1218) التنقیح فی شرح المکاسب 2/273 و 274.
3- (1219) المکاسب 4/65.

اللاّحقة علی ملکیة الموجودین لیکون نظیرا للرهن، بل منشأ إستحقاق الموقوف علیهم _ الموجودین والمعدومین _ هو جعل الواقف. وحینئذٍ فثبوت حق الطبقات بالثمن علی نهج تعلقه بالمبیع أولی من تعلق حقّ الرهانة بالبدل»(1).

و «نسبة البطن المعدوم إلی الوقف کنسبة البطن الموجود إلیه فی أنّ کلاًّ منهما یتلقّی الملک من الواقف فی رتبة واحدة وإنشاءٍ واحد. فإذا تبدّلت العین الموقوفة بعینٍ اُخری کانت الثانیة مثلَ الاُولی فی تعلُّق حقوق جمیع البطون من الموجودة والمعدومة بها»(2).

والحاصل: ذکر الشیخ الأعظم تنظیرین لکلامه هنا:

«أحدهما: قتل العبد الموقوف، فإنّه إذا قُتل العبد المملوک، فللمالک أن یرجع إلی القاتل بقیمة العبد إذا کانت أکثر من دیته، وله أن یأخذ منه الدیة أیضا وقفا کنفس العبد، مع أنّ الدیة بدل عن العبد بعد تلفه بحکم الشارع، فإذا کان البدل الحکمی وقفا فالبدل الحقیقی یکون وقفا بالأولویّة.

ثانیهما: بدل العین المرهونة، فإنّهم حکموا بکونه رهنا، مع أنّ حقّ المرتهن إنّما تعلّق بالمبدل بما أنّه مملوک للراهن، فإذا کان البدل بحکمه حتّی من هذه الجهة، ففی المقام یثبت قیام البدل مقام المبدل بطریق أولی، لأنّ حقّ البطون اللاحقة قد تعلّق بالمبدل بما هو، لا بما أنّه مختصٌّ بالبطون السابقة، فإنّهم یتلقّون الملک من الواقف لا منهم»(3).

الفرع الثانی: هل یحتاج البدل فی کونه وقفا إلی صیغة الوقف؟

«الظاهر عدم احتیاجه إلی الصیغة، لأنّ نفس بیع المبدل یکون موجبا لأن یکون البدل وقفا أیضا، وبعبارة واضحة أنّ الأمر دائر بین أن یکون البدل وقفا بلا احتیاج إلی صیغة الوقف جدیدا بل یکفی فی وقفیته بیع المبدل لما ذکرناه من أنّ قانون المبادلة والبیع یقتضی هذا المعنی، وبین أن یکون ملکا طلقا للموجودین من البطون، ولا یجب علیهم

ص: 290


1- (1220) هدی الطالب 6/640.
2- (1221) هدی الطالب 6/640.
3- (1222) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/159 و 160.

جعله وقفا بداهة أنّه لو کان البدل ملکا لهم بنحو الطلق لا وجه لجعله وقفا بل یتصرفون فیه کتصرف الملاّک فی أموالهم، ولمّا لم یکن الأمر علی الوجه الثانی لما ذکرناه من أنّه مخالف ومنافٍ لعنوان البدلیة ولقانون المبادلة والبیع فلا محالة یکون علی الوجه الأوّل یعنی یکون وقفا من دون احتیاج إلی صیغة جدیدة للوقف لاقتضاء قانون البدلیة والمبادلة ذلک کما هو الواضح»(1).

الفرع الثالث: هل یجوز بیع البدل من دون طروُ مسوغات بیع الوقف؟

«هل یجوز تبدیل البدل مطلقا من دون حصول أحد المسوّغات أو یکون بحکم المبدل من هذه الجهة أیضا؟

الظاهر هو الأوّل، وذلک لأن المُنْشَأ من الواقف إنّما هو وقف العین ما دام یمکن الانتفاع بها والبدل بالمعنی المتقدّم _ أی البدل فی المالیّة _ إذا لم یمکن ذلک، وأمّا البدل الأوّل فلا خصوصیّة له، بل لابدّ من بقاء المالیّة فی ضمن أیّ بدل کانت، فالبدل بحکم المبدل من جمیع الجهات إلاّ من هذه الجهة، فإنّ إنشاء الواقف لا یقتضی المنع عن تبدیل البدل، والبدلیّة إنّما تقتضی قیام البدل مقام المبدل فی الخصوصیّات المترتّبة علی مالیّته، لا فی الأحکام المترتّبة علی خصوصیّة نفسه وشخصه، ومن الظاهر أنّ عدم جواز البیع کان من الأحکام المترتّبة علی شخصه لا مالیّته.

وإن شئت قلت: إنّ البدل صار بدلاً عن الوقف فی زمان جواز بیعه، فهو بحکمه من حیث جواز البیع، فتأمّل.

وبالجملة: نفس ما أنشأه الواقف _ وهو حبس العین وتسبیل منفعتها ما دام الانتفاع بها مع بقائها ممکنا، وحبس مالیّتها فی ضمن البدل إذا لم یمکن ذلک _ یقتضی جواز تبدیل البدل مطلقا ولو من غیر مسوّغ، فلیس البدل بحکم المبدل من هذه الجهة.

وتوهّم المنع عن بیع البدل تمسّکا بإطلاق قوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقف»(2)،

ص: 291


1- (1223) التنقیح فی شرح المکاسب 2/274 و 275.
2- (1224) وسائل الشیعة 19/185، ح1، صحیحة أبی علی ابن راشد.

مدفوعٌ بما تقدّم من أنّه إمضاء لفعل الواقف وما أنشأه، ولیس حکما تعبّدیا، فلا یعمّ البدل بعد ما فرضنا أنّ الواقف لم یحبسه عن النقل، فإذن لا مانع من تبدیل الوقف بما لا ینتفع بعینه کالدرهم أو الدینار ثمّ تبدیله بما ینتفع به»(1).

الفرع الرابع: هل یعتبر بعد البیع شراء المماثل للوقف؟
اشارة

اختلف فتوی الأصحاب فی وجوب شراء المماثل بعد بیع الوقف وهذا مرور علی آرائهم، «صریح کلام المفید(2) وعَلم الهدی(3) وأبی یعلی(4) والشیخ فی النهایة(5) وکذا القاضی فی المهذّب(6) أنّ الثمن حیث یباع ینتفع به الموقوف علیهم وإجماع الانتصار(7) محکیّ علی ذلک. وهو والظاهر من المبسوط(8) وغیره من جمیع ما تقدّم(9)، بل إجماع الغنیة(10) ینطبق علیه عدا التذکرة والمختلف والتنقیح والمقتصر وجامع المقاصد وتعلیق الإرشاد والمسالک والروضة ومجمع البرهان والمفاتیح فإنّ فی التذکرة(11) والمختلف(12) أنّه إن أمکن شراء شیء بالثمن یکون وقفا علی أربابه کان أولی، فإن اتّفق مثل الوقف کان أولی وإلاّ جاز شراء مهما أمکن ممّا یصحّ وقفه وإلاّ یکن صرف الثمن إلی البائعین یعملون

ص: 292


1- (1225) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/161.
2- (1226) المقنعة: فی الوقوف والصدقات /652.
3- (1227) الانتصار: فی بیع الوقف /(469-468).
4- (1228) المراسم: فی أحکام الوقوف والصدقات /197.
5- (1229) النهایة: فی الوقوف والصدقات /600.
6- (1230) المهذّب: فی الوقف 2/92.
7- (1231) الانتصار: فی بیع الوقف /(469-468).
8- (1232) المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/287.
9- (1233) منها الوسیلة: فی أحکام الوقف /370، وشرائع الإسلام: فی لواحق الوقف 2/220 وکشف الرموز: فی الوقف 2/52.
10- (1234) غنیة النزوع: فی الوقف /298.
11- (1235) تذکرة الفقهاء 20/254، مسألة 148.
12- (1236) مختلف الشیعة: فی الواقف 6/289.

به ما شاؤوا. ونحو ذلک ما فی المفاتیح(1)، قال فی المختلف: إنّ فیه جمعا بین التوصّل إلی غرض الواقف من نفع الموقوف علیه علی الدوام وبین النصّ الدالّ علی عدم تجویز مخالفة الواقف حیث شرط التأبید، وإذا لم یمکن تأبیده بحسب الشخص وأمکن بحسب النوع وجب(2). وفی التنقیح إذا أمکن شراء غیره یکون وقفا وجب، وإذا أمکن شراء مثله یکون أولی، فقد حکم فی الأوّل بالوجوب دون الثانی(3). وفی جامع المقاصد الحکم بالوجوب فی المقامین(4). ونحوها فی الحواشی(5) وتعلیق الإرشاد(6) والمسالک(7) والروضة(8). وفی المقتصر(9) یصرف ثمنه فی ملکٍ یستعمله أرباب الوقف، ومهما أمکن المماثلة کان أولی. وفی مجمع البرهان إذا أمکن شراء شیءٍ آخر خالٍ عن المفسدة یمکن وجوبه لحفظ مقصود الواقف مهما أمکن(10). وفی إیضاح النافع لا یجب ابتیاع غیره یکون وقفا. نعم هو أحوط إن زال الاختلاف معه. وفی الکفایة لا أعلم علی ذلک حجّة والنصّ غیر دالّ علیه»(11).

ثمّ لابدّ من ملاحظة أدلة القائلین بوجوب شراء المماثل وهی:

ادلة القول بوجوب شراء المماثل
الدلیل الأوّل: قیاس المسألة بباب الضمان

ص: 293


1- (1237) مفاتیح الشرائع: فی اشتراط المملوکیة وتمامها فی العوضین 3/52.
2- (1238) مختلف الشیعة: فی الواقف 6/289.
3- (1239) التنقیح الرائع: فی الوقف 2/330.
4- (1240) جامع المقاصد: فی أحکام الوقف 9/71.
5- (1241) لم نعثر علیه فی الحواشی الموجودة لدینا.
6- (1242) حاشیة الإرشاد (حیاة المحقّق الکرکی وآثاره) 9/339 و 483.
7- (1243) مسالک الأفهام: فی شروط المبیع 3/170.
8- (1244) الروضة البهیة: فی شرائط المبیع 3/255.
9- (1245) المقتصر: فی الوقوف والصدقات والهبات /212.
10- (1246) مجمع الفائدة والبرهان: المتاجر فی شرائط العوضین 8/169.
11- (1247) مفتاح الکرامة 21/695 و 696.

ذَهَبَ الفقهاءُ فی باب ضمان المغصوب أو المقبوض بالعقد الفاسد إلی وجوب ردّ العین بحسب مراتبها فإذا کان المثل موجودا لابدّ من أداه ومع عدمه تصل النوبة إلی مالیتها وهی القیمة.

وقد أجری هذا البیان فی الوقف أیضا، لأنّ المماثل أقرب إلی العین الموقوفة وإلی غرض الواقف فیتعیّن تبدیلها به مع الإمکان.

نقده: «قیاس المقام بباب الضمان قیاس مع الفارق، لأنّ الحکم بلزوم رعایة المثل فی باب الضمان _ بناءً علی جمیع الأدلّة من قاعدة الید أو السیرة العقلائیّة _ إنّما هو لأجل اشتغال ذمّة الضامن بالعین بجمیع خصوصیّاتها الشخصیّة، ممّا یقتضی الفراغ عنها، فدفع القیمة مع التمکّن من المثل، لا یعدّ مسقطا للذمّة المشغولة بالمثل، وبالتالی فلابدّ فیه _ أصلاً ودلیلاً _ من مراعاة المراتب، أمّا الأمر فی باب الوقف فهو مختلف، ویعدّ إسراء هذا الحکم إلی باب الوقف إسراءً للحکم من موضوع إلی موضوع آخر، وقیاسا ظنّیّا ممنوعا»(1).

ومضافا إلی أنّه قابل للمناقشة صغری وکبری

أمّا الصغری: فقال الشیخ الأعظم: «وفیه: مع عدم انصباط غرض الواقف، إذ قد یتعلّق غرضه بکون الموقوف عینا خاصّة، وقد یتعلّق بکون منفعة الوقف مقدارا معیّنا من دون تعلّق غرض بالعین، وقد یکون الغرض خصوص الانتفاع بثمرته، کما لو وقف بستانا لینتفعوا بثمرته فبیع، فدار الأمر بین أن یُشتری بثمنه بستان فی موضع لا یصل إلیهم إلاّ قیمة الثمرة، وبین أن یُشتری ملک آخر یصل إلیهم اُجرة منفعته، فإنّ الأوّل وإن کان مماثلاً إلاّ أنّه لیس أقرب إلی غرض الواقف»(2). وبالتالی فالمهم هو مراعاة غرض الواقف لا المماثلة، لأنّ ربما ترفض المماثلة غرض الواقف.

وأمّا الکبری: فقال الشیخ الأعظم: «لا دلیل علی وجوب ملاحظة الأقرب إلی

ص: 294


1- (1248) العقد النضید 4/596.
2- (1249) المکاسب 4/67.

مقصوده، إنّما اللازم ملاحظة مدلول کلامه فی إنشاء الوقف؛ لیجری الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها»(1).

مراده: فقدان الدلیل علی وجوب مراعاة غرض الواقف إلاّ إذا دخل فی شرائط وقفه بحیث صرح فی وثیقة الوقف بأنَّ لو خربت العین فلابدّ من شراء مماثلها فحینئذ لابدّ أنْ یشتری بثمنها المماثل لأنّ الواقف شرط فی وقفه وشرطه سائغ وجائز أی نافذ.

وأخیرا استنتج الشیخ الأعظم وقال: «فالحاصل: أنّ الوقف ما دام موجودا بشخصه لا یلاحظ فیه إلاّ مدلول کلام الواقف، وإذا بیع وانتقل الثمن إلی الموقوف علیهم لم یلاحظ فیه إلاّ مصلحتهم»(2).

الدلیل الثانی: اهمال أدلة جواز بیع الوقف

«أدلّة جواز البیع ونفوذه مهملة، فیجب فیها الأخذ بالمتیقّن وهو لزوم شراء خصوص المماثل لأنّه المتیقّن»(3).

ویرد علیه: نعم، المستند هو دلیل جواز بیع الوقف فی هذه الصورة فلابدّ من ملاحظة سعة هذه الأدلة وضیقها ولیس فی البین إهمال حتّی یؤخذ بالقدر المتیقن فیه.

الدلیل الثالث: لزوم مراعاة حقّ الواقف وغرضه

«بیع العین الموقوفة ینافی مع حقّ الواقف المتعلّق بها، فإذا جاز بیعها بعد سقوط الانتفاع، لزم مراعاة حقّه وهو لا یتحقّق إلاّ من خلال البدیل المماثل»(4).

وَیَرِدُ علیه: أنّه لا دلیل علی مراعاة المماثلة، نعم لابدّ من مراعاة حقّه وهو یتحقق فی وقفیة البدل فلا یدلّ علی اعتبار المماثلة بینهما _ أی بین المبدل والبدل _ .

الدلیل الرابع: قاعدة البدلیة تقتضی المماثلة

ص: 295


1- (1250) المکاسب 4/68.
2- (1251) المکاسب 4/68.
3- (1252) العقد النضید 4/597.
4- (1253) العقد النضید 4/597.

ذهب الفقیه الیزدی(1) قدس سره فی مقابل الشیخ الأعظم إلی أنّ شراء المماثل یکون من الأحوط کما أنّ عدم تبدیل البدل یکون من الأحوط واستند فی احتیاطه إلی قاعدة البدلیة وهی تقتضی المماثلة وکذا عدم التبدیل.

ویرد علیه: أوّلاً: قاعدة البدلیة لا تقتضی عدم التبدیل ولا المماثلة لأنّها تدلّ علی تبدیل اضافة المثمن والثمن من البائع والمشتری، فالمثمن یضاف إلی المشتری والثمن إلی البائع بعد البیع وتحقق التبادل بینهما، وأمّا أنّها [قاعدة البدلیة] تدلّ علی عدم جواز تبدیل البدل أو لزوم المماثلة فلا.

وثانیا: حکمه قدس سره بالاحتیاط فی غیر محلّه، لأنّه ربما الاحتیاط یقتضی عدم مراعاة المماثلة، نحو: إذا کان تحقّق غرض الواقف فی عدم مراعاة المماثلة فیحنئذ الاحتیاط یقتضی ترکها، فالنسبة بین الاحتیاط والمماثلة عموم وخصوص من وجه فلا یکون أحدهما دلیلاً للآخر.

والحاصل: حیث لم یثبت أدلة القول بوجوب شراء المماثل لابدّ أن نقول: إذا أحرزناه غرض الواقف فی لزوم المماثلة من أنّ مراده تسبیل خاص فلابدّ من مراعاة المماثلة فی بیع البدل، وإذا أحرزنا أنّ غرضه فی التعمیم فلا شک فی عدم لزوم مراعاة المماثلة فی البدل.

وإذا شککنا فی غرض الواقف فلا دلیل علی اعتبار المماثلة کما مرّ وعلیه الشیخ الأعظم قدس سره ، ولا وجه فی التعیین بالقرعة خلافا للمحقّق الخراسانی(2) رحمه الله ، لعدم جریانها فی الشبهات الحکمیة واللّه العالم.

الفرع الخامس: من هو المباشر للبیع؟

المباشر لبیع الوقف هل هو: [1] المتولی والناظر للوقف أو [2] البطن الموجود من الموقوف علیهم أو [3] البطن الموجود مع الحاکم الذی هو الفقیه العادل أو [4] الحاکم

ص: 296


1- (1254) العروة الوثقی 6/389، ذیل مسألة 42.
2- (1255) حاشیة المکاسب /111.

منحصرا أو [5] الکل معا أو [6] المتولی والحاکم معا.

ذهب الشیخ الأعظم إلی القول الثالث وقال: «ثمّ إنّ المتولی للبیع هو البطن الموجود بضمیمة الحاکم القیّم من قبل سائر البطون»(1).

هذا الاختیار منه قدس سره صحیح علی «مبناه القائم علی أنّ الموقوفة ملک فعلی للبطن الموجود، وشأنی للبطون اللاّحقة: أحدهما البطن الموجود باعتبار ملکیّته الفعلیّة للعین، وبمقتضی قاعدة السلطنة فإنّ للمالک الولایة الفعلیّة علی البیع، لکن من جهة اُخری یجب ضمّ الحاکم الشرعی إلیه باعتبار أنّ العین فی نفس الوقت ملک شأنی للمعدومین وله الولایة علی أموالهم»(2).

ولکن قد مرّ منّا عدم تمامیة هذا المبنی من جهة استحالة اعتبار الملکیة الشأنیة للمعدومین أو من جهة أنّ الملکیة الشأنیة _ لو لم تستحل _ تجری فی فرض الانتفاع، ومع عدم امکان انتفاع المعدومین منها فلا یعقل فرضها وبالتالی تبطُلُ الملکیة الشأنیة ومع إبطالها تسقط ولایة الحاکم علی البیع لأنّه قام مقام المعدومین.

وتبعه الاستاذ المحقّق _ مدظله _ مع المناقشة فی مبنی الشیخ الأعظم، وقال: «مختارنا: هو أنّ حقیقة الوقف إنشاء حبس العین، وبالرغم من أنّها فی الوقف المؤبّد ملازمٌ لخروج العین الموقوفة عن مِلک الواقف، لکن هذا اللاّزم لیس له مثبتٌ عقلی أو شرعی یقتضی دخولها فی مِلک الموقوف علیه، نعم اختصاصها بالموقوف علیهم قطعی، لکن المدّعی هو الاختصاص المطلق.

وبعبارة أُخری: الثابت مطلق الاختصاص، أمّا المدّعی فهو الاختصاص المطلق، والأدلّة القائمة تفید أصل الاختصاص بهم، وهو لا یتجاوز مجرّد الحقّ، أمّا الاختصاص المطلق فلا دلیل علیه.

وخلاصة الکلام: ثبت ممّا ذکرنا أنّه بحسب الأدلّة یجب أن یتولّی البیع الحاکم

ص: 297


1- (1256) المکاسب 4/69.
2- (1257) العقد النضید 4/602.

الشرعی والبطن الموجود»(1).

وذهب السیّد الخوئی قدس سره إلی القول الأوّل ثمّ إلی القول الثانی أعنی أنّ المباشر للوقف هو المتولی والناظر المنصوب من قبل الواقف إلاّ إذا عُلم أنّ نظارته لم یشمل بیع العین الموقوفة فحینئذ المباشر هو البطن الموجود من الموقوف علیهم لأنّه قال: «الظاهر أنّ المباشر له هو الناظر المنصوب من قبل الواقف لو کان وکانت نظارته شاملة لهذا أیضا بأن یسلب الواقف سلطنة الموقوف علیهم عن الوقف من هذه الجهة ویجعل السلطنة بید الناظر من هذه الجهة، نعم لو لم یکن ناظر من قبل الواقف أو کان ولکنّه لم تکن نظارته شاملة لهذه الموارد بل کان منصوبا من قبل الواقف لإصلاح الوقف فقط یکون المباشر للبیع هو البطن الموجود من الموقوف علیهم، لأنّ الوقف ملک لهم والنّاس مسلّطون علی أموالهم، ولا وجه لأن یکون منوطا بنظر الحاکم أیضا»(2).

وذهب شیخنا الاستاذ قدس سره فی الوقف الخاص الملکی إلی القول الثانی وفی الوقف الصرفی والانتفاعی إلی القول الأوّل أی المتولی لو کان ومع عدمه إلی القول الرابع وهو الحاکم وقال: «بعد ما ذکرنا أنّ العین الموقوفة ملک البطن الموجودة فعلاً ولهم نفی التقدیر الذی تصیر معه العین فی المستقبل ملکا للبطن اللاحقة فلا معنی لدخالة الناظر فی نفی ذلک التقدیر من البطن الموجودة، سواء کان ذلک النفی بإتلاف العین حقیقة أو حکما بالبیع ونحوه.

نعم، فیما إذا کانت فی الوقف قرینة ولو کانت عامة علی إبقاء الوقف بأیِّ وجه أمکن ولو ببیع الموقوفة وإبدالها، کما فی الوقف الصرفی أو الانتفاعی، یکون ذلک للمتولی من قبل الواقف ومع عدمه یرجع إلی الحاکم الشرعی، حیث إن إبدال العین الموقوفة فی الوقف الصرفی أو الانتفاعی من الأمور الحسبیة الراجعة إلیه کما لا یخفی»(3).

وذهب المحقّق النائینی قدس سره إلی أنّ الأقوی هو القول الرابع أی الحاکم ولکن ذهب

ص: 298


1- (1258) العقد النضید 4/610.
2- (1259) التنقیح فی شرح المکاسب 2/278؛ محاضرات فی الفقه الجعفری 3/164.
3- (1260) ارشاد الطالب 4/370.

إلی أن الأحوط مراعاة نظر المتولی والحاکم معا(1) وهو القول السادس، ونقل عنه السیّد الخوئی(2) أنّ الأحوط عنده القول الخامس أی مراعاة نظر کل من الموقوف علیهم والمتولی والحاکم.

ولکنه لم یرد فی تقریر بحثه ولعلّه قدس سره سمع منه فی مجلس الدرس أو أنّه _ القول الخامس _ هو الأحوط التام.

وتبعه السیّد الخمینی قدس سره فی ما یراه الأقوی وذهب إلی «أنّ المتصدی فی جمیع موارد بیع الوقف، هو الحاکم بحسب القاعدة إلاّ أن یدلّ دلیل علی خلافه»(3).

أقول: منشأ الخلاف هو ثبوت الملکیة للموقوف علیهم وعدمها وکذلک سعة دائرة اختیارات المتولی والناظر علی الوقف وعدمها، وحیث نذهب إلی عدم ثبوت ملکیة الطلقة التامة للموقوف علیهم حتّی فی الوقف الخاص لأنّ الوقف «تحبیس العین وتسبیل المنفعة» وَسَعَةُ دائرة تصرفات المتولی والناظر فی الوقف فالمباشر لبیع الوقف عندنا هو المتولی والناظر للوقف _ القول الأوّل _ ومع عدمه أو تصریح من الواقف بعدم صلاحیته للبیع یصیر المباشر حاکما _ القول الرابع _ والموقوف علیهم مع انتفاء مالکیتهم لیس لهم اختیار فی ذلک لا منفردا ولا مجتمعا فَتَنْتَفِیْ الأقوال الأربعة الأُخَر، والحمدللّه العالم بالأحکام والأسرار.

الفرع السادس: هل تسقط تولیة المتولی عن بدل الوقف؟

قال الشیخ الأعظم: «الظاهر سقوط نظارته عن بدل الوقف ویحتمل بقاؤه لتعلّق حقّه بالعین الموقوفة فیتعلِّق ببدلها»(4).

وأنت تری أنّ الظاهر عند الشیخ الأعظم سقوط نظارة المتولی عن بدل الوقف واحتمل بقاء نظارته ولم یذکر تقریبا لاستظهاره ولا دلیلاً لاحتماله فلابدّ من ذکرهما:

ص: 299


1- (1261) منیة الطالب 2/284.
2- (1262) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/164.
3- (1263) کتاب البیع 3/223.
4- (1264) المکاسب 4/69.

وأمّا تقریب سقوط نظارة المتولی عن بدل الوقف: فالتولیة والنظارة قائمة بجعل الواقف الذی وقف عین الموقوفة وحیث أنّ بدل الوقف لم یوقف بوقف الواقف فلا اعتبار بجعل المتولی عنه بالنسبة إلی البدل.

وأمّا دلیل احتمال بقاء نظارة المتولی المنصوب من قِبَلِ الواقف علی بدل الوقف: فهو قاعدة البدلیة، وهی تقتضی وقفیة البدل کالمبدل فتنتقل التولیة من المبدل إلی البدل لأنّها حقٌّ ولیس حکما، والحقّ ینتقل من المبدل إلی البدل فالتولیة کذلک.

هذان مستندان لاستظهار واحتمال الشیخ الأعظم قدس سره .

وکلاهما غیر تامٍّ:

أمّا الأوّل: فبدل الوقف لم یوقف بصیغة وقف الواقف ولکنّه بدل من العین الموقوفة ویجری فیها أحکامها بقاعدة البدلیة فلابدّ من لحاظ الموقوف علیهم والمتولی وغیرهما من شرائط الوقف وأحکامها وحقوقها.

وأمّا الثانی: فقاعدة البدلیة لاتقتضی التساوی التام بین أحکام البدل والمبدل، بل هی تقتضی وقفیة البدل وأمّا جریان جمیع أحکام وحقوق المبدل علی البدل محلّ تأمل بل منع واضح ومنها: التولیة.

ولکن یمکن أن یقال: أنّ قاعدة البدلیة کما تقتضی صرف البدل علی الموقوف علیهم فکذلک تقتضی ثبوت نظارة المتولی علی البدل کما کانت علی المبدل لکن بشرط وجود الإطلاق فی کلام الواقف ووثیقة الوقف، لأنّه لو لم یکن فی الوقف متولیّ، تقع المخاصمة والمشاجرة بین الموقوف علیهم فی کلِّ طبقة وصار عدم وجود المتولی موجبا لحدوث النزاع والاختلاف بینهم، فلابدّ من وجوده لحفظ الوقف وإذا کان فی کلام الواقف إطلاقا نأخذ به لإثباتها.

فنحن نستفید من قاعدة البدلیة بانضمام الإطلاق الوارد فی کلام الواقف لاثبات التولیة علی البدل.

نعم، إذا جعل الواقف شخصا متولیا منْ أجل خصوصیة فی العین الموقوفة فلا یمکن اثبات تولیته علی البدل لعدم وجود الاطلاق فی کلام الواقف حینئذ، واللّه العالم.

ص: 300

الفرع السابع: إذا لم یمکن الانتفاع بالبدل مع بقاء عینه کالنقدین ماذا یُفْعَلُ بهما؟

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّه لو لم یمکن شراء بدله، ولم یکن الثمن ممّا ینتفع به مع بقاء عینه _ کالنقدین _ فلا یجوز دفعه إلی البطن الموجود؛ لما عرفت من کونه کالمبیع مشترکا بین جمیع البطون، وحینئذٍ فیوضع عند أمین حتّی یتمکّن من شراء ما ینتفع به ولو مع الخیار إلی مدّة. ولو طلب ذلک البطنُ الموجود فلا یبعد وجوب إجابته، ولا یعطّل الثمن حتّی یوجد ما یشتری به من غیر خیار.

نعم، لو رضی الموجود بالاتّجار به وکانت المصلحة فی التجارة، جاز مع المصلحة إلی أن یوجد البدل.

والربح تابع للأصل ولا یملکه الموجودون؛ لأنّه جزء من المبیع، ولیس کالنماء الحقیقی»(1).

حاصل کلامه: «أنّه إذا لم یمکن تبدیل الوقف بما ینتفع به مع بقاء عینه فبدّل بالدراهم أو الدنانیر، لم یجز دفعها إلی البطن الموجود، ولیس فی حکم المبدل من هذه الجهة، فإنّه کان یجب دفعه إلیهم من جهة توقّف انتفاعهم به علی ذلک، وأمّا الثمن فالمفروض عدم إمکان الانتفاع به، ولذا منعنا وقفه إلاّ فیما أمکن استعماله فی التزیین، فلا وجه لدفعه إلیهم مع کونه ملکا شأنیّا للبطون اللاحقة وتعلّق حقّهم به، فیوضع عند أمین حتّی یتمکّن من شراء ما ینتفع به مع بقاء عینه، ولو لم یمکن أن یشتری به ما ینتفع به إلاّ مع الخیار فلهم المطالبة بذلک، ولا یعطّل الثمن إلی أن یوجد ما یشتری بغیر خیار. ولو رضی الموجود بالاتّجار وکانت فیه المصلحة جاز، والربح تابع للأصل»(2).

ثمّ فی هذا الفرع لابدّ من البحث حول جهات:

«الجهة الأولی: فی جواز(3) تبدیل الوقف بالدرهم والدینار مع عدم إمکان الانتفاع بهما مع بقاء العین، والوقف تتقوّم بذلک مفهوما، فإنّه عبارة عن حبس العین

ص: 301


1- (1265) المکاسب 4/69 و 70.
2- (1266) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/166.
3- (1267) وقد ذهب إلی عدم الجواز المحقّق الإیروانی فی حاشیة المکاسب 2/459.

وتسبیل المنفعة، ومن هنا منعنا عن وقفهما ابتداءً، فإنّه کوقف الخبز ونحوه ممّا یکون الانتفاع به بإتلافه، إلاّ إذا کان ممّا ینتفع بهما مع بقاء العین ولو بالتزیین، وبما أنّ بدل الوقف کالمبدل وقفٌ، لا یمکن تبدیل الوقف بهما.

وفیه، أوّلاً: أنّ لازم ذلک عدم جواز تبدیل الوقف بالثمن، مع أن الغالب فی المبادلات هو تبدیل العین بالثمن، وتبدیل العین بالعین نادرٌ جدّا، فیلزم تضییع الوقف وعدم بیعه إلی أن یتلف، وهو مناف للغرض من تجویز البیع، فکأنّ التبدیل بالدرهم والدینار یقع فی طریق تبدیل الوقف بما ینتفع به مع بقاء عینه، فتأمّل.

وثانیا: الواقف بعد التفاته إلی عدم قابلیّة العین الموقوفة للبقاء وطروّ الفساد علیها واحتیاجها إلی التبدیل وأنّه غالبا یکون بالثمن، لا مناص له من جعل العین محبوسة من جمیع الجهات ما لم تخرب، وعند الخراب محبوسة إلاّ من جهة التبدیل، والبدل بمالیّته محبوسا مع تسبیل المنفعة، إلاّ إذا کان ثمنا فإنّه حینئذ محبوس من تسبیل المنفعة، فتأمّل. فکأنّ الوقف من هذه الجهة یکون علی قسمین، فلا مانع من تبدیل الوقف بما لا ینتفع به مع بقائه ثمّ تبدیله بما هو کذلک، فیکون التبدیل الأوّل واقعا فی طریق تبدیل الوقف بما هو کالمبدل من حیث الانتفاع به مع بقاء العین، ولا مانع من ذلک بجعل الواقف، فتأمّل.

الجهة الثانیة: فی لزوم دفع الثمن إلی البطن الموجود إذا طالبوا به، وذلک لأنّه ملکهم.

ودعوی کونه ملکا للبطون اللاحقة شأنا أو کونه متعلّق حقّهم، فاسدةٌ؛ لما عرفت من اختصاص الوقف بالبطن الموجود، وأمّا البطون اللاحقة فهم یملکونه بعد انقراض البطن الموجود، وهذا لیس ملکا ولا حقّا، بل قضیّة تقدیریّة لا توجب حقّا.

نعم إذا کان هناک متولٍّ أو ناظرٌ علی الوقف تعمّ نظارته حفظ الوقف وبدله، کان رأیه هم المتبّع فی ذلک، ولیس للبطن الموجود المطالبة بالثمن، لأنّ ملکیّتهم له قاصرة علی الفرض.

الجهة الثالثة: فی شراء ما ینتفع به مع الخیار. والکلام فیها یقع من جهتین:

الأولی: ربما یستشکل فی ذلک من حیث إنّ الوقف یعتبر فیه التأبید والاستمرار،

ص: 302

وهو ینافی الملک المتزلزل، فلا یجری فیه الوقف، وکذا بدله فإنّه فی حکمه، فلا یجوز تبدیله بشیء مع الخیار، لأنّه مناف للوقف.

وفیه: ما عرفت من [أنّ البدل وقف بنوعیّته أو مالیّته لا بشخصه فلا یترتّب علیه الحکم المترتّب علی العین بشخصیّته من] جواز تبدیل الوقف اختیارا، وأنّه لیس کالمبدل من هذه الجهة، وعلیه لا مانع من تزلزل الملک فیه، ولا یقاس بتزلزل الملک فی أصل الوقف.

الثانیة: أنّ الظاهر وجوب شراء ما ینتفع به ولو مع الخیار ولو لم یطالب الموجودون بذلک، لأنّ نفس جعل الواقف یقتضی ذلک؛ فإنّ الوقف عبارة عن حبس العین وتسبیل المنفعة، فلابدّ أن یکون الوقف بنفسه أو ببدله قابلاً لأن ینتفع به متی أمکن، طالب به الموقوف علیه أو لم یطالب، فیجب تبدیل الثمن بما ینتفع به ولو خیاریّا، وغالبا یکون المبیع بالبیع الخیاری أرخص من غیره، فإذا لم یفسخ البائع بعد ذلک کان الشراء لجمیع البطون أنفع، وإن فسخ انتفع به البطون الموجودة، فتشتری بالثمن عینٌ اُخری قابلة للانتفاع بها.

الجهة الرابعة: فی الاتّجار بالثمن. ولا بأس باتّجار البطن الموجود به مع المصلحة إلی أن توجد عینٌ تشتری به لتکون بدلاً للوقف، لأنّه ملک لهم. والربح یکون تابعا للعین لأنّه جزء البدل، ولیس من قبیل المنافع بل من قبیل انتیاع الوقف، فإذا اشتری بالثمن صوفٌ مثلاً صار هو بدل الوقف، فإذا بیع بثمن أغلی صار مجموع الثمن بدل الوقف، ولا وجه لعود الربح إلی البطن الموجود. فهو نظیر أن تبدّل الدار الموقوفة الضیّقة بدار أوسع منها، فإنّ الدار الواسعة حینئذ بأجمعها تکون وقفا، لا أنّ المقدار الزائد یکون ملکا طلقا للبطن الموجود کالمنافع»(1).

الجهة الخامسة: أمّا «الوضع عند الامین فإذا فرضنا انّ المال، مال الموجودین والفرض انّ النّقد، ملک الموجودین ولکن اشتراک اللاّحقین، لیس اشتراکا عرضیّا

ص: 303


1- (1268) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/(169-167).

فمالکیّة اللاّحقین، مالکیّةٌ شأنیّةٌ ولهم نوع حقّ فی المال.

فاخذ المال عن المالکین الموجودین فعلاً قهرا علیهم ووضعه عند الأُمناء بملاحظة اشتراک المعدومین فی المال، أمرٌ مشکلٌ لانّ الواقف نفسه وضع المال الموقوف فی ید الموجودین ولم یلاحظ أخذه ووضعه عند الاُءمناء... .

نعم: إذا احتملت خیانة الطّبقة الموجودة للبدل، یلزم الاحتیاطُ فی هذه الصّورة ولکن لا یختصّ هذا للبدل بل یمکن أنْ یُعْرِضَ للعین الموقوفة أیضا.

ومن الواضح أنّ لازم إعمال الاحتیاط، لیس اخذ المال من الطّبقات الموجودةِ ووضعه عند الغیر بل یلزم حینئذٍ ضمّ أمینٍ وغیر ذلک کما انّ الوصیّ إذا خان فی مورد الوصیّة، یضمّ معه امینٌ... .

وبالجملة: الحکم فی المسألة خلافُ القواعد الّتی قال الفقهاء بها فی أشباه المسائل من خیانة الجدّ والأب والوصیّ وغیر ذلک حیث یضمّ أمینٌ لهم عند بروز الخیانة أو احتمالها، احتمالاً عقلائیّا»(1).

الفرع الثامن: لا فرق فی جواز البیع بین خراب کل الوقف أو بعضه

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ لا فرق فی جمیع ما ذکرنا من جواز البیع مع خراب الوقف بین عروض الخراب لکلّه أو بعضه، فیباع البعض المخروب ویجعل بدله ما یکون وقفا. ولو کان صرف ثمنه فی باقیه بحیث یوجب زیادة منفعةٍ جاز مع رضا الکلّ؛ لما عرفت من کون الثمن ملکا للبطون، فلهم التصرّف فیه علی ظنّ المصلحة.

ومنه یعلم جواز صرفه فی وقف آخر علیهم علی نحو هذا الوقف، فیجوز صرف ثمن ملک مخروب فی تعمیر وقف آخر علیهم»(2).

مراده: «إذا خرب بعض الوقف ولم یمکن الانتفاع به یجوز بیعه وجعل بدله وقفا بعین ما ذکرناه فی مورد جواز بیع جمیع الوقف، کما یجوز صرف ثمنه فی جزئه الآخر لو

ص: 304


1- (1269) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/419.
2- (1270) المکاسب 4/70.

کان موجبا لزیادة المنفعة فیه، ویجوز أیضا صرف الثمن فی وقف آخر للموقوف علیهم إذا کان ذلک ا لوقف محتاجا إلی تعمیر، والمناط فی جمیع هذه الاُمور (أی جواز بیع بعض الوقف عند عروض المجوّز وجعل بدله وقفا أو صرف ثمنه فی بقیة الوقف أو صرفه فی وقف آخر لهم) واحد وهو عبارة عمّا ذکرناه آنفا من أنّ نظر الواقف انتفاع الموقوف علیهم من نفس العین الموقوفة مع بقائها ومن بدلها عند عروض المجوّز بأی نحو من الانتفاع، ولا فرق فی البدل بین أن یکون عینا قائمة برأسها وبین أن یکون خشبا أو حدیدا داخلاً فی بناء البعض الباقی أو بناء وقف آخر لأنّها أیضا أعیان یمکن الانتفاع بها مع بقائها فإذا خربت بدّلت بغیرها»(1).

أقول: ما ذکره الشیخ الأعظم تام إذا قلنا بعدم وجوب شراء المماثل کما ذهب إلیه جماعة وتابعهم الشیخ الأعظم فحینئذ ینبغی أن یذکر الفرع بعنوان القول المختار.

مضافا إلی حکمه قدس سره بجواز صرف ثمن بعض العین الموقوفة المخروبة فی باقیها بحیث یوجب زیادة المنفعة جاز مع رضا الکلّ مبنی علی کون الثمن ملکا للبطن الموجودة، وقد عرفت(2) عدم تمامیة هذا المبنی أی مالکیتهم للعین لمنافاتها مع الوقفیة التی هی «تحبیس العین وتسبیل المنفعة»، فلا نحتاج إلی رضایة البطون والأمر موکول إلی تشخیص المتولی، یعمل بما هو مصلحة الوقف واللّه العالم.

وثالثة: إلی أنّ حکمه قدس سره بجواز صرف ثمنه فی الوقف الآخر ولو کان واقفه شخصا آخرا مشکل حتّی فی ما إذا کان الموقوف علیهم واحدا لإمکان اختلاف شرائط الوقف فی نظر الواقفین، ومن تضیع حق الواقف الأوّل حینئذ مع أنّ الشیخ الأعظم مُصِرٌ علی حفظ الحقوق الثلاثة: حق الواقف وحق الموقوف علیهم وحق اللّه کما مرّ منه.(3)

الفرع التاسع: احتیاج الوقف إلی صرف المنفعة الموجودة

«أنّه إذا احتاج الوقف إلی صرف المنفعة الموجودة التی هی ملک طلق للموجودین

ص: 305


1- (1271) التنقیح فی شرح المکاسب 2/282.
2- (1272) راجع صفحة 299 من هذا المجلد.
3- (1273) راجع فی هذا المجال تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/422.

من البطون فی تعمیر الوقف بحیث لو لم تصرف فیه لا یمکن انتفاع البطن اللاحق من الوقف، هل یجب صرفها فی عمارة الوقف حفظا للوقف عن خروجه عن قابلیة انتفاع البطون اللاحقة به أم لا یجب؟

الظاهر أنّه إذا لم یشترط الواقف فی ضمن وقفه إخراج مؤونة الوقف وما یحتاج إلیه من جهة العمارة من منافع الوقف قبل القسمة لا یجب علی الموجودین أن یصرفوا المنافع الموجودة فی تعمیر الوقف لأجل حفظ الوقف عن خروجه عن قابلیة الانتفاع به بالنسبة إلی البطون اللاحقة، لأنّ المنفعة ملک طلق للموجودین فلهم أن ینتفعوا من الوقف ما داموا موجودین، فلا وجه لأن یصرف الإنسان مال نفسه فی حفظ مال شخص آخر، ولا فرق بین هذا وبین ما کان للجار مثلاً وقف یشرف علی الخراب والسقوط عن الانتفاع، وهل یتوهّم أحد أنّه یجب علی الجار أن یصرف ماله فی وقف جاره لئلاّ یکون وقف الجار ساقطا عن الانتفاع به؟!

نعم لا یبعد دعوی الارتکاز فی المصارف الجزئیة کما إذا فرضنا أنّ الوقف احتاج فی العمارة إلی صرف منفعة قلیلة بمقدار الدینار أو أقل فلا یبعد أن یقال إنّ صرف المنفعة فی هذه الموارد ارتکازی لجمیع النّاس.

وبعبارة واضحة: تارة یستند الخراب إلی عالم الکون والفساد حیث إنّ الموجودات فی هذا العالم لا تبقی بحسب طبعها أزید من الزمان المتعارف لها فحینئذ لا موجب لأن یصرف الموجودون المنفعة الموجودة التی هی ملک طلق لهم فی تعمیر الوقف لئلاّ یکون الوقف ساقطا عن قابلیة الانتفاع به بالنسبة إلی البطون اللاحقة، واُخری یستند الخراب إلی الاُمور الجزئیة کما إذا سقط المیزاب من سطح الدار أو حصل ثقب فی سقفها بحیث لو لم یعمّر ذلک لخربت الدار بنزول المطر ولم ینتفع منها الموجودون أیضا، فحینئذ لا مانع من القول بوجوب التعمیر لأجل ما ذکرناه من الارتکاز»(1).

وبعبارة أُخری: «أنّ الوقف إذا احتاج بقاؤه للبطون اللاحقة إلی صرف ثمن منفعته

ص: 306


1- (1274) التنقیح فی شرح المکاسب 2/283.

علی تعمیره بحیث لا یزید التعمیر فی منفعة الوقف لینتفع به البطن الموجود فعلاً، وإنّما یوجب دوامه للبطون اللاحقة، لأنّه إذا لم یعمّر یخرب ویضیع بعد مدّة، فهل یجب صرف المنفعة فی تعمیره أم لا؟

ربما یقال بوجوب ذلک تحفّظا علی حقّ البطون اللاحقة. ولکن الظاهر عدم وجوبه؛ لأنّ المنفعة ملک طلق للبطن الموجود، ولا ملزم لهم أن یصرفوا ملکهم لمنفعة البطون اللاحقة، إذ لا فرق بین إلزامهم بصرف منفعة الوقف أو صرف مالٍ آخر من سائر أملاکهم»(1).

الفرع العاشر: لو خرب بعض الوقف وَبَقِیَ بعضه محتاجا إلی العمارة

قال الشیخ الأعظم: «ولو خرب بعض الوقف وخرج عن الانتفاع وبقی بعضه محتاجا إلی عمارة لا یمکن بدونها انتفاع البطون اللاحقة، فهل یصرف ثمن المخروب إلی عمارة الباقی وإن لم یرض البطن الموجود؟ وجهان آتیان فیما إذا احتاج إصلاح الوقف بحیث لا یخرج عن قابلیة انتفاع البطون اللاحقة إلی صرف منفعته الحاضرة التی یستحقّهاالبطن الموجود إذا لم یشترط الواقف إخراج مؤونة الوقف عن منفعته قبل قسمته فی الموقوف علیهم»(2).

مراده: «إذا احتاج البعض الباقی إلی عمارة لا تزید بها منفعته، وإنّما یتفرّع انتفاع البطون اللاحقة علی ذلک، فهل یجب صرف ثمن المخروب إلی عمارة الباقی وإن لم یرض به البطون الفعلیّة أم لا؟

فإنّه بناءً علی وجوب صرف المنفعة فی ذلک، فثمن الوقف یصرف فیه بالأولویة»(3).

قد یقال: «ولکن التحقیق عدم وجوب ذلک، لأنّ البطن الموجود لهم حقّ الالتزام بتبدیل الثمن بما ینتفعون به فعلاً ویکون قابلاً للبقاء للبطون اللاحقة أیضا، ولیس لأحد

ص: 307


1- (1275) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/170.
2- (1276) المکاسب 4/70.
3- (1277) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/170.

إلزامهم برفع الید عن حقّهم، فتأمّل. وقد عرفت أنّ البطون اللاحقة لیس لهم أیّ حقٍّ فی الوقف فعلاً»(1).

ولکن ینبغی أن یقال: لابدّ من إیکال «حکم هذه المسألة إلی العرف والعادة والقول بانّ العین الموقوفة، کانت مثل سایر الاملاک فکلّ موردٍ کان تعمیر الملک لازمٌ بحیث إذا لم یقدم علی تعمیره یقال: انّه ضاعَ ماله فیلزم صرف بعض الثّمن العائد عن العین الموقوفة وربحه فی حفظها، وامّا فی موارد یکون الخراب یعرض لها بعد مدّةٍ کثیرةٍ کالخمسین والمأة سنواتٍ فالعرف والعادة، لا یحکم بلزوم صرف الرّبح الموجود فی حفظ بعض مورد الوقف ففرقٌ بین قصر الزّمان وطوله ففی خرابه فی قصر الزّمان یلزم صرفه فی تعمیرها دون خرابها فی طول الزّمان وبهذا قالوا فی أشباه المسألة ونظائرها کما إذا وکلّ أحدٌ أحدا فی بیع دار له والموکّل لم یتوجّه إلی بعض المخارج للبیعٍ من مخارج الدّلال والکاتب و... .

ومن المعلوم: انّ الوکالة أیضا ینزّل علی هو المتعارف وهکذا فی الأوصیاء والأولیاء من الحکم الحاکم والوصیّ والولیّ وغیر ذلک یجوز لهم الخرجُ فی صورة المصلحة وحفظِ مورد الوصیّة والوکالة و... .

علی هذا، لیست المسألة من قبیل تعارض الضّررین ولا من بابِ الضّرر المتوجّه إلی شخصٍ لایجب تحمّل الآخر عنه بل اطلاقاتُ الوقف من وجوب العمل بالوقف وحفظه، أو غیرهما من الموارد اللاّزمة فی حفظه، عملها علی عهدة العرف والعادة.

بناءً علیه، التّعمیرات المعمولة وغیر المعمولة، کانت معلومةً عند العرف فهی موکولةٌ علی عهدة العرف وقضائه فکلّ موردٍ یلزم تعمیره، یلزم علیه الاقدام وکلّ موردٍ لیس لازما للتّعمیر، لا یلزم الاقدام علیه»(2).

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «وهنا فروع اُخر یستخرجها الماهر بعد التأمل»(3) ومنها:

ص: 308


1- (1278) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/171.
2- (1279) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/425.
3- (1280) المکاسب 4/70.
الفرع الحادی عشر: إذا لا یمکن الانتفاع فی حقّ الموقوف علیهم

«إذا فرضنا أنّ العین الموقوفة لم تسقط عن الانتفاع بها إلاّ أنّ الانتفاع بها لا یمکن فی حقّ الموقوف علیهم لأنّهم غیر متمکّنین من الانتفاع بها ولکن الغیر متمکّن من الانتفاع بها لو کان مالکا له. وبعبارة واضحة إنّ العین الموقوفة إذا فرضنا أنّها قد وقعت فی مکان لا یتمکّن الموقوف علیهم من الانتفاع بها بوجه من الوجوه مع بقاء عینها بحیث لو لم تبع تکون بلا فائدة أو یتملّکها السلطان، وبدیهی أنّ المناط الذی ذکرناه فی جواز بیع الوقف جارٍ هنا بعینه وبلا کلام»(1).

الفرع الثانی عشر: سقوط العین الموقوفة عن الانتفاع بعد مدّة

«إذا فرضنا أنّ الوقف ممّا یمکن الانتفاع به فعلاً إلاّ أنّه لو لم یُبَع فعلاً یسقط عن الانتفاع بعد مدّة قلیلة بالمرّة ولا یشتریه شخص آخر فی ذلک الظرف کما إذا فرضنا أنّه یقع بعد شهر فی الجادّة، فحینئذ أیضا لا إشکال فی جواز بیعه لأنّ تعطیله یؤدّی إلی تضییع الوقف وإعدام موضوعه فتأمّل»(2).

ثمّ إنّ هاهنا فروعا أُخرَ یعلم حکمها ممّا ذکرنا والحمدللّه العالم بأحکامه.

هذا تمام الکلام فی الصورة الأُولی من صور جواز بیع الوقف والحمدللّه أوّلاً وآخرا.

الصورة الثانیة
اشارة

«أن یخرب بحیث یسقط عن الانتفاع المعتدّ به، بحیث یصدق عرفا أنّه لا منفعة فیه، کدارٍ انهدمت فصارت عَرصَةً تؤجر للانتفاع بها باُجرة لا تبلغ شیئا معتدّا به...»(3).

توضیح مراده: قسّم الشیخ الأعظم هذه الصورة إلی قسمین:

«القسم الأوّل: فیما لو بلغت المنفعة حدّا عدّها العرف معدومة بحسب فهمه، ففی هذه الحالة اختار الشیخ الأعظم جواز بیع العین وذلک استنادا إلی انصراف قوله علیه السلام : «لا

ص: 309


1- (1281) التنقیح فی شرح المکاسب 2/284.
2- (1282) التنقیح فی شرح المکاسب 2/284.
3- (1283) المکاسب 4/71.

یجوز شراء الوقوف»(1) عن مثل هذه الصورة، لأنّ العین الموقوفة برغم وجود المنفعة فیها بحسب الدقّة العقلیّة، وعدم کونها معدومة عقلاً، لکنّها فی حکم العدم، ویترتّب علیه حکمه، لأنّ الأدلّة الشرعیّة ملقاة إلی العرف العام، والمناط فی وجود المنفعة وعدمها رأی العرف، ولذلک فإنّ أدلّة المنع عن بیع الوقف منصرفة عن هذا القسم عرفا.

القسم الثانی: فیما إذا لم یبلغ انعدام المنفعة إلی ما بلغت إلیه فی القسم الأوّل: «کدار انهدمت فصارت عَرَصةً تؤجّر للانتفاع بها باُجرة لا تبلغ شیئا معتدّا به»(2)، أو «الحمام الذی یستأجر کلّ سنة مأة دینار إذا صارت عَرَصةً تؤجّر کلّ سنة خسمة دراهم أو عشرة لغرض جزئی کمجمع الزبائل ونحوه»(3)، ففی هذا القسم:

1_ تارةً: یکون الثمن الحاصل من بیع العرصة أقلّ من المنفعة الحاصلة من إجارتها، فلا یجوز بیعها لإندراجها فی إطلاق قوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقوف».

2_ واُخری: تکون المنفعة الحاصلة من بیعها مساویة لمنفعة الدار أو قریبا منها فی البدل، فهنا یدور الأمر بین حفظ العین والاکتفاء بالمنفعة القلیلة، أو بیعها وتحصیل المنفعة الکثیرة. یقول الشیخ الأعظم إنّ فی المسألة وجهان:

أ: الحکم بجواز البیع باعتبار ما جاء فی کلمات الفقهاء من جواز بیع العین الموقوفة متی سقطت عن قابلیّة انتفاع البطون بها، فإنّ المنفعة إن قصد بها مطلق المنفعة فهی موجودة بالفعل، فلا یجوز بیعها بمقتضی وجودها، وإن کان المقصود منها المنفعة المعتدّة بها فهی مفقودة ولذلک یجوز البیع.

ب: الحکم بعدم جواز البیع لوجود اقتضاء الوقف وعدم ما یمنع عنه.

أمّا المقتضی فهو أنّ الدار أو الحمّام برغم خرابهما، لکن تبقی عرصتهما موقوفة ومشمولة لعموم عدم جواز البیع من دون أن یمنع عنه مانع.

ودعوی انصراف قوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقوف» عن مثل هذه العین الموقوفة

ص: 310


1- (1284) وسائل الشیعة 19/185، ح1، صحیحة أبی علی ابن راشد.
2- (1285) المکاسب 4/71.
3- (1286) المکاسب 4/71.

ممنوعة، لصعوبة إثباتها.

وبالتالی فإنّ المقتضی للمنع عن بیعها متحقّق، والمانع عن تأثیره مفقود، ولا أقلّ من کونه مشکوکا، والقاعدة تقتضی لزوم التمسّک بالأدلّة الدالّة علی المنع من بیع الوقف»(1).

وأیّد المحقّق الخراسانی عدم خروجها عن عموم أدلة وجوب العمل بمقتضی الوقف الذی قاله الشیخ الأعظم بقوله: «ولو نوقش فی عموم تلک الادلّة لهذه الصورة کالصّورة السّابقة، فلا أقلّ من استصحاب عدم الجواز قبل عروض الخراب، فلا یجوز الخروج بذلک عمّا هو مقتضی الإصلاح، إلاّ بالقطع بالجواز کالصّورة الأولی، وأنّی لنا دعواه وان کانت غیر بعیدة»(2).

والحاصل: حکم المسألة مشکلٌ عند الشیخ الأعظم من جهة قیام المقتضی علی منع البیع وتبعه المحقّق الخراسانی فی أدلة منع البیع مضافا إلی استصحاب عدم جواز بیع الوقف قبل عروض الخراب.

مقالة السیّد الخوئی فی توضیح ونقد کلام الشیخ الأعظم

استثنی الشیخ الأعظم صُوَرا من عدم جواز بیع الوقف:

استثنی أوّلاً: «ما إذا خرب الوقف بحیث سقط عن الانتفاع رأسا، واختار فیه جواز البیع.

ثمّ استثنی هذا الفرض الذی هو محلّ الکلام، وهو ما إذا خرب بحیث سقط عن الانتفاع المعتدّ به بحیث یصدق عرفا أنّه لا منفعة فیه.

ثمّ تعرّض للصورة الثالثة، وهی ما إذا خرب بحیث قلّت منفعته إلی حدٍّ لا یلحق بالمعدوم، وقوّی فیها المنع عن البیع.

وفی الفرض الوسط فصّل علی ما یظهر من آخر کلامه بین ما إذا کان النفع الباقی

ص: 311


1- (1287) العقد النضید 5/6 و 7.
2- (1288) حاشیة المکاسب /111.

قلیلاً فی الغایة بحیث یلحق بالمعدوم، وبین ما إذا لم یکن کذلک، فاختار جواز البیع فی الأوّل لانصراف دلیل المنع، کقوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقف» عنه، والمنع فی الثانی.

إلاّ أنّه لم نفهم مراده قدس سره من «النفع المعتدّ به» حتّی قسّم فرض عدم بقائه إلی قسمین، فإنّه إذا کانت للوقف بعد الخراب منفعة عرفیّة ولو قلیلة، فهو داخل فی الصورة الثالثة، فلا وجه لجعله قسما لها، فتأمّلْ.

وبعبارة أُخری: الأقسام المُتَصَوَّرَة ُفی المقام ثلاثة لا أربعة، الأوّل: أن یسقط عن الانتفاع به عرفا وعقلاً کما فی الحیوان المذبوح، الثانی: أن یسقط عن الانتفاع به عرفا فقط مع بقاء الانتفاع به عقلاً، الثالث: أن تقلّ منفعته العرفیّة، ولا رابع، فلا معنی لتقسیم الصورة الثانیة _ وهی سقوط الوقف عن المنفعة العرفیّة _ إلی ما تقلّ منفعته بحیث یلحق بالمعدوم وإلی ما لا تقلّ منفعته کذلک.

وبالجملة: الظاهر أنّ المراد بسقوط الوقف عن الانتفاع المعتدّ به أن لا یترتّب علیه ما یعدّ منفعة له بنظر العرف، کما إذا خرب السریر الموقوف ولم ینتفع بأجزائه، کالحدید الموجود فیه، إلاّ بجعله وراء الباب لئلاّ یفتح، فإنّه لیس من منافع ذلک الحدید، وإن کان ذلک منفعة عقلاً وأمکن إذا بته وجعله شیئا آخر.

فتفصیل المصنّف فی هذا القسم لا وجه له، بل الصحیح فیه جواز البیع؛ وذلک لأنّ متعلّق غرض الواقف إنّما هو تسبیل المنفعة العرفیّة لا العقلیّة، فإذا لم یمکن الانتفاع به بما یعدّ منفعة عرفیّة له، جاز تبدیله بمقتضی غرض الواقف(1) وإنشائه، علی ما اخترناه من أنّ الواقف فی الوقف المؤبّد یحبس العین الموقوفة ما دام الانتفاع العرفی بها ممکنا مع بقائها، وبدلَها إذا لم یمکن ذلک، والأدلّة الواردة کقوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقف» تکون امضاءً لما أنشأه الواقف، فالمنفعة العقلیّة أجنبیّة عن غرض الواقف ولا تکون مانعا عن البیع»(2).

أقول: العقلاء فی أفعالهم وتصرفاتهم یلاحظون الأغراض وَتَدُوْرُ أفعالهم مدار

ص: 312


1- (1289) هو الشیخ محمّدحسین فی حاشیة المکاسب 3/135.
2- (1290) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/(174-171).

الغرض وجودا وعدما بمعنی أنّ الغرض یکون هو المقصود بالذات فَیَصِحُّ أن یکونَ الغُرَضُ قرینةً علی کیفیة العمل الصادر منهم، فیکون الوقف حینئذٍ من أفعال العقلاء وغرضهم منه تحبیس العین وتسبیل المنفعة علی الموقوف علیهم فمع انتفاء المنفعة من الأساس _ کما فی الصورة الأُولی _ أو مع انتفائها عرفا بحیث لا یعدّ المنفعة الموجودة العقلیة منفعة عرفیة لهذا العین _ کما فی الصورة الثانیة _ الغرض من الوقف _ وهو تسبیل منفعة عین الموقوفة _ منتف وبانتفائه سقط الحکم بعدم جواز بیعها، لأنّ بقاء الوقف وعدم جواز بیعه تابع لبقاء غرض الواقف(1) ومع عدمه یحکم بجواز بیعها، فالحکم فی الصورتین واحد.

ثمّ، بعد تخصیص قوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقوف» بغرض الواقف، تصل النوبة إلی اطلاق قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(2)، وحتی لو ترددنا بین تخیصص وعدمه یکون المخصص مجملاً ومرددا بین الأقل والأکثر فلابدّ من الأخذ فیه بالقدر المتیقن والتمسک بالإطلاق فی غیره فیکون الاطلاق محکما فی هذه الصورة. هذا کلّه فی الدلیل اللفظی.

وأمّا الأصل الْعَمَلِیُّ فی المقام: فلا یجری استصحاب عدم جواز بیع الوقف قبل عروض الخراب خلافا للمحقّق الخراسانی لأنّ زوال المنفعة العرفیة معدودة من مقومات المستصحب ولا تعدّ من حالاته فلا یجری الاستصحاب، وحتی مع الشک فی أنّ زوالها یعدّ من المقومات أو الحالات فلا یجری الاستصحاب لأنّ مع الشک فیه التمسک بدلیل الاستصحاب یعدّ تمسکا بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة ذاک الدلیل وهو مردودٌ.

وبعد سقوط الاستصحاب تصل النوبة إلی جَرَیانِ الْبَرءَةِ من الحرمة فی بیع الوقف.

وبالجملة: حکم الصورة الثانیة من صور جواز بیع الوقف هو الجواز بالدلیل اللفظی والأصل العملی والحمدللّه.

تنبیهٌ:
اشارة

ص: 313


1- (1291) کما علیه المحقّق الإصفهانی فی حاشیته علی المکاسب 3/135.
2- (1292) سورة البقرة /275.

قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ الحکم المذکور جارٍ فیما إذا صارت منفعة الموقوف قلیلة لعارضٍ آخر غیر الخراب؛ لجریان ما ذکرنا فیه»(1).

مراده: جواز بیع الوقف «لو قلّت المنفعة مع قابلیة الموقوفة للإنتفاع بها، کما إذا وقف بعیرا للسقی فاستغنی عنه بعد وضع أنابیب الماء، أو وقف خانا لنزول الزوّار والمسافرین فیه، فتعطّل بعد قطع المسافات البعیدة بالطائرات والسیارات، وکذا لو وقف دارا علی ذریّته لیسکنوها بأنفسهم، ولم یمکنهم ذلک لوقوعها فی محلّة لا یقیم فیها _ فعلاً _ ذووا المروّات، ونحو ذلک ممّا تکون العین فیه عامرةً، ولکن لا ینتفع بها فی الجهة المقصودة للواقف.

فما تقدّم من وجه جواز البیع ومنعه یجری هنا أیضا، وبعد ترجیح جانب الجواز هناک _ من جهة أن حبس العین مقدمة لتسبیل الثمرة المعینة، وبإنتفائها ینتفی حقیقة التسبیل المأخوذ فی الوقف، ولا یبقی مجال لحفظ خصوصیة العین المسلوبة منفعتها _ نقول بجواز البیع هنا، لوحدة المناط»(2).

إشکالات الشیخ الأعظم علی مقالة صاحب الجواهر
اشارة

صاحب الجواهر رحمه الله تبعا لأُستاذه وصهرو ونجل اُستاذه قائل بأنّ ذات الوقف تنافی مع البیع _ کما هو مختارنا _ وقد مرّ الکلام حول ذلک فی أوّل البحث.(3)

فلابدّ أوّلاً من نقل مقالة صاحب الجواهر ثمّ طرح إشکال الشیخ الأعظم علیه.

مقالة صاحب الجواهر
اشارة

قال قدس سره : «والذی یقوی فی النظر _ بعد إمعانه _ : أنّ الوقف ما دام وقفا لا یجوز بیعه، بل لعلّ جواز بیعه مع کونه وقفا من المتضادّ، نعم إذا بطل الوقف اتّجه حینئذٍ جواز البیع.

والظاهر تحقّق البطلان فیما لو خرب الوقف علی وجهٍ تنحصر منفعته المعتدّ بها منه فی إتلافه، کالحصیر والجذع ونحوهما ممّا لا منفعة معتدّ بها فیه إلاّ بإحراقه مثلاً،

ص: 314


1- (1293) المکاسب 4/73.
2- (1294) هدی الطالب 7/22.
3- (1295) راجع صفحة 71 من هذا المجلد: القائلون بذاتیة مانعیة الوقف مع البیع.

وکالحیوان بعد ذبحه مثلاً... وغیر ذلک.

ووجه البطلان حینئذٍ: فقدان شرط الصحّة فی الابتداء، المراعی فی الاستدامة بحسب الظاهر، وهو کون العین ینتفع بها مع بقائها.

کما إنّه قد یقال: بالبطلان أیضا فی انعدام عنوان الوقف فیما لو وقف بستانا مثلاً ملاحظا فی عنوان وقفه «البستانیّة» فخربت حتّی خرجت عن قابلیّة ذلک، فإنّه وإن لم تبطل منفعتها أصلاً لإمکان الانتفاع بها دارا مثلاً لکن لیس من عنوان الوقف.

واحتمال: بقاء نفس العَرْصَةِ علی الوقف؛ باعتبار أنّها جزء الموقوف وهی باقیة، وخراب غیرها وإن اقتضی بطلانه فیه(1) لا یقتضی بطلانه فیها.

یدفعه: أنّ العَرْصَةَ کانت جزءً من الموقوف من حیث کونه بستانا لا مطلقا، فهی حینئذٍ جزء عنوان الموقوف الذی قد فرض فواته. ولو فرض إرادة وقفها لتکون بستانا أو غیرها لم یکن إشکال فی بقاء وقفها؛ لعدم ذهاب عنوان الوقف، لکنّه خلاف الفرض.

وکذا لو وقف نخلة للانتفاع بثمرتها فانکسرت، فإنّه وإن أمکن الانتفاع بالجذع بتسقیف ونحوه، لکنّه لیس من عنوان الوقف.

وربّما یؤیّد ذلک فی الجملة: ما ذکروه فی باب الوصیّة(2) من أنّه لو أوصی بدار فانهدمت قبل موت الموصی بطلت الوصیّة؛ لانتفاء موضوعها.

نعم، لو لم تکن الداریّة والبستانیّة مثلاً عنوانا للوقف _ وإن قارنت وقفه _ بل کان المراد الانتفاع به فی کلّ وقت علی حسب ما یقبله، لم یبطل الوقف بتغیّر أحواله.

ثمّ علی فرض بطلان الوقف بذلک، فهل یعود للواقف وورثته کالوقف المنقطع، أو للموقوف علیه وورثته؟ وجهان، ینشآن:

من الخروج عن ملک الواقف ودخوله فی ملک الموقوف علیه بالوقف، وإنّما منعه من التصرّف بغیر الانتفاع المنافی(3) لبقاء العین فی الملک ما دام قابلاً لتلک المنفعة، فمع

ص: 315


1- (1296) فی بعض النسخ بعدها إضافة: لکن.
2- (1297) المبسوط: کتاب الوصایا 4/38.
3- (1298) حسب السیاق کلمة «المنافی» صفة ل_ «التصرّف» وإذا کانت صفة ل_ «الانتفاع» فینبغی حذف «غیر».

فرض ذهابها وبطلان الوقف بذلک یبقی مملوکا له من غیر منع، یتصرّف به کیف یشاء.

ومن أنّ خروجه عن ملکه کان علی الوجه المذکور لا مطلقا، فمع فرض بطلان ذلک الوجه یعود إلی ملک المالک.

ولعلّ الأوّل لا یخلو من قوّة، بل یشهد له ما تسمعه من النصّ والفتوی المجوّزة لبیعه للموقوف علیهم»(1).

توضیح کلام صاحب الجواهر

ذهب صاحب الجواهر إلی أنّ الوقف یبطل بعروض مجوزات بیع الوقف لأنّه یری التنافی الذاتی بین عنوانی الوقف والبیع ولذا التزم بفساد الوقف فی موردین:

أحدهما: خراب الوقف علی وجه تنحصر منفعته المعتدّ بها فی إتلافه، کالحصیر والجذع ونحوهما مما یکون الانتفاع به باتلاف العین کالاحراق.

لأنّ «الوقف مؤلَّف من أمرین أحدهما حبس العین، والآخر تسبیل المنفعة، ومن المعلوم تفرع التسبیل علی وجود الثمرة خارجا، ولا فرق فی إناطة صحة الوقف بوجود کلٍّ من العین ومنفعتها بین الإبتداء والاستدامة، فکما یعتبر وجودهما حدوثا کذلک یعتبر بقاءً، فلو خربت الموقوفة ولم ینتفع بها بطل وقفیّتها، ضرورة إنتفاء المرکّب بانتفاء أحد أجزائه کانتفائه بانعدام تمام الأجزاء.

والحاصل: أن الشرط الدخیل فی صحة الوقف _ وهو کون العین ذات ثمرةٍ مسبّلة _ یقتضی إنتهاء أمد الوقف بإنتفاء الثمرة»(2).

ثانیهما: انعدام عنوان الوقف کما إذا وقف بستانا _ مع أخذ عنوان «البستان» فی صیغة الوقف _ فخرب وسقط عن کونه بستانا.

ففی هذا المورد «إنّ غرض الواقف من قوله: «وقفتُ البستان علی أولادی» إن کان [علی نحو موضوعیة العنوان المأخوذ فی صیغة الوقف بنحو تمام الموضوع] أی کان

ص: 316


1- (1299) الجواهر 23/(578-576) [22/358 و 359].
2- (1300) هدی الطالب 7/23.

حبسَ البستان علی الموقوف علیهم حبسا محدودا وموقّتا ببقاء عنوان «البستان» _ لکونه ملحوظا جهةً تقییدیة تدور الوقفیة مداره _ کان لازمه البطلان بالإنهدام، ویتجه البحث حینئذٍ عن رجوعها إلی الواقف أو صیرورتها ملکا طلقا للموقوف علیهم.

فإن قلت: لا وجه لخروج العرصة عن الوقفیة بعد زوال عنوان «البستان» لکونها جزءا من الموقوفة، إذ «البستان» مرکّب من العرصة والأشجار، ومن المعلوم أن سقوط الأشجار عن الوقفیة _ لتبدلها بأخشاب _ لا یوجب إنتفاء وقفیة العین.

قلت: إنّ العَرْصَةَ وإن کانت جزءا من الموقوفة، إلاّ أنّ الواقف لم یجعلها وقفا لا بشرط الأشجار، بل بشرطها، فزوال عنوان «البستان» وانتهاء وقفیته یوجب سقوط وقفیة الْعَرْصَةِ من جهة فقد الشرط.

وإن کان غرضُ الواقف حبسَ العرصة علی الموقوف علیهم علی [نحو العنوان مشیرا إلی وقفیة الذات، أو علی نحو تعدد المطلوب]. لم یقدح ذهاب عنوان «البستان» فی استمرار وقف العرصة، هذا»(1).

ثمّ ذَکَرَ صاحب الجواهر بعد حکمه ببطلان الوقف أنّ العین ترجع إلی ملک مالکها وواقفها وورثته أو ترجع إلی ملک الموقوف علیهم؟ ویری رجوعها إلی ملک الموقوف علیهم لا یخلو من قوة لوجود الشاهد علیه من النص والفتوی لبیعها للموقوف علیهم.

إشکالُ الشیخ الأعظم

اعترض أوّلاً علی مبنی صاحب الجواهر وهو فساد الوقف فی موارد جواز البیع بالوجوه الأربعة:

الأوّل: «أنّ بطلان الوقف بعد انعقاده صحیحا لاوجه له فی الوقف الموبد»(2).

مراده: لا وجه لبطلان الوقف المؤبَّد بمجرد انتفاء المنفعة، لأنّه یستلزم انقلاب الشیء عما هو علیه إذ مع وقوع الوقف المؤبّد صحیحا یمتنع انقلابه وصیرورته باطلاً

ص: 317


1- (1301) هدی الطالب 7/31 و 32.
2- (1302) المکاسب 4/74.

بنفاد المنفعة، وهذا فی مقام الثبوت.

الثانی: «مع أنّه لا دلیل علیه»(1).

مراده: عدم الدلیل علی مبناه فی مقام الإثبات بمعنی لو سلّمنا امکان انقلاب الوقف المؤبَّد إلی الوقف المنقطع کان الانقلاب منوطا بوفاء الدلیل علیه والدلیل مفقود بل یدلّ علی خلافه وهو قوله علیه السلام : «الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها»(2).

الثالث: «مضافا إلی انّه لا دلیل علی اشتراط الشرط المذکور فی الاستدامة، فإنّ الشروط فی العقود الناقلة یکفی وجودها حین النقل، فإنّه قد یخرج المبیع عن المالیّة ولا یخرج بذلک عن ملک المشتری»(3).

مراده: الشرط المذکور «_ وهو کون العین ممّا ینتفع بها مع بقاء عینها _ وأن کان دخیلاً فی الوقف، لوضوح کون الغایة من حبس العین تسبیل ثمرتها، إلاّ أنّه یکفی فی إنعقاد الوقف صحیحا وجود المنفعة حال حدوث الوقفیة وإنشائها، وأمّا اعتبار إستمرارها فلم یقم علیه دلیل.

والشاهد علی کفایة وجود هذا الشرط إبتداءً هو ملاحظة شروط سائر العقود الناقلة، کمالیة العوضین فی باب البیع، فهی معتبرة حین الإنشاء، لکون البیع مبادلة مال بمال. ولا یقدح فی صحته وترتب النقل علیه سقوط المبیع عن المالیة بید المشتری»(4).

الرابع: «مع أنّ جواز بیعه لا یوجب الحکم بالبطلان، بل یوجب خروج الوقف عن اللزوم إلی الجواز، کما تقدّم»(5).

مراده: «أنّ جواز بیع الوقف فی مورد طروء المسوِّغ له لا یوجب إنتهاء أمد الوقف، وبطلانه، بل یتبدّل لزوم الوقف بالجواز والتزلزل، فإنْ بیع بطل، وإن لم یُبَع بقی وقفا، لما

ص: 318


1- (1303) المکاسب 4/74.
2- (1304) وسائل الشیعة 19/175، ح1، صحیحة الصفار.
3- (1305) المکاسب 4/74.
4- (1306) هدی الطالب 7/25.
5- (1307) المکاسب 4/74.

تقدّم فی أوائل المسألة من أن مفاد دلیل جواز بیع الوقف هو جواز إبطاله، ومن المعلوم أن جواز الإبطال لیس مبطلاً، بل المبطل هو إنشاء بیع الوقف.

وعلیه فتجویز البیع شرعا تخصیص فی دلیل لزوم الوقف، وصیرورته جائزا بعد عروض المسوِّغ»(1).

ثمّ اعترض الشیخ الأعظم ثانیا علی مقالة صاحب الجواهر فی المورد الثانی من موردی جواز بیع الوقف فی کلامه _ وهو بطلان الوقف بزوال العنوان _ بوجهین:

الأوّل: «الإجماع علی أنّ انعدام العنوان لا یوجب بطلان الوقف، بل ولا جواز البیع وإن اختلفوا فیه عند الخراب أو خوفه، لکنّه غیر تغیّر العنوان کما لا یخفی»(2).

مراده: زوال العنوان لا یوجب بطلان الوقف إجماعا کما اعترف به صاحب الجواهر فی مسألة بقاء وقفیة عرصة الدار المنهدمة حیث یقول: «(إذا انهدمت الدار) ولم یبق من آثارها شیء (لم تخرج العرصة) بذلک (عن الوقف، ولم یجز بیعها) بلا خلاف أجده بین من تعرّض له؛ کالفاضل(3) والشهیدین(4) وغیرهم(5)؛ لأنّ الخراب لا یصلح لنقض الوقف وإبطاله مع بنائه علی التأبید وعلی عدم جواز بیعه، ولأنّ العرصة من جملة الموقوف وهی باقیة.

بل لم یحکوا الخلاف فی ذلک إلاّ عن بعض العامّة: فجوّز بیعها إذا انهدمت ولم

ص: 319


1- (1308) هدی الطالب 7/25.
2- (1309) المکاسب 4/75.
3- (1310) تحریر الأحکام الشرعیة: الوقف / فی الأحکام 3/316؛ قواعد الأحکام: الوقف / فی الأحکام 2/359.
4- (1311) الدروس الشرعیّة: الوقف 2/279، درس171؛ مسالک الأفهام: الوقف / فی اللواحق 5/398.
5- (1312) کالشیخ فی المبسوط: کتاب الوقوف والصدقات 3/300؛ والکرکی فی جامع المقاصد: الوقف / فی الأحکام 9/68؛ والکاشانی فی المفاتیح: 3/213، مفتاح 1115؛ والسبزواری فی الکفایة: الوقف / فی الأحکام 2/19.

یمکن عمارتها، کالمسجد.(1)

وفی المسالک: تقییده فی غیر الأرض الخراجیّة، علی نحو ما سمعته فی المسجد»(2).

وبالجملة: «إنّ الفقهاء وإن اختلفوا فی حکم بیع الوقف إذا خرب أو خُشی خرابه، فمنهم من جوّز البیع، ومنهم من منعه، لکن هذا الاختلاف غیر قادح فی إطباقهم علی بقاء الوقف بعد تغییر عنوانه، إذ لا ملازمة بینهما، لکون النسبة بین الخراب وسقوط العنوان عموما من وجه، لصدق «تغیُّر العنوان» دون الخراب فیما إذا کانت العین الموقوفة حیوانا بسنٍّ خاص کبنت لبون أو بنت مخاض مثلاً، فإذا تجاوز سنُّهما عن هذا الحد، فقد تغیّر العنوان مع عدم صدق الخراب.

ولصدق «الخراب» بدون «تبدل العنوان» فی الأرض الموقوفة للزراعة، فانقطع عنها الماء، فإنّه یصدق الخراب علی هذه الأرض مع عدم تبدل عنوانها.

ولتصادقهما فی الدار المنهدمة والبستان الذی خرب، وزال عنوان بستانیته.

فَالنَّتِیْجَةُ: أنّ استمرار الوقف بعد نفاد العنوان مُجْمَعٌ علیه. ومعه لا وجه للإلتزام بالبطلان کما صار إلیه صاحب الجواهر قدس سره »(3).

الثانی: «إن ارید ب_ «العنوان» ما جعل مفعولاً فی قوله: «وقفت هذا البستان»، فلا شکّ فی أنّه لیس إلاّ کقوله: «بعت هذا البستان» أو «وهبته»، فإنّ التملیک المعلّق بعنوانٍ، لا یقتضی دوران الملک مدار العنوان، فالبستان إذا صار ملکا فقد مُلک منه کلّ جزءٍ خارجی وإن لم یکن فی ضمن عنوان «البستان»، ولیس التملیک من قبیل الأحکام الجعلیّة المتعلّقة بالعنوانات.

وإن أُرید ب_ «العنوان» شیءٌ آخر، فهو خارجٌ عن مصطلح أهل العرف والعلم، ولابدّ من بیان المراد منه، هل یراد ما اشترط لفظا، أو قصدا فی الموضوع زیادة علی

ص: 320


1- (1313) حلیة العلماء 6/38؛ المغنی (لابن قدامة) 6/226.
2- (1314) الجواهر 29/233 (28/109).
3- (1315) هدی الطالب 7/39.

عنوانه؟»(1).

مراده: «أنّ منشأَ المصیر إلی بطلان الوقف بزوال العنوان هو أخذ عنوانٍ خاصٍّ فی صیغة الوقف، کقوله: «وقفتُ البستان علی أولادی». ولکن یُسأل من صاحب الجواهر قدس سره عمّا أراده من کلمة «العنوان» [1] فإمّا أن یکون مراده به ما یقع مفعولاً به فی مقام الجعل کالمثال المزبور، و [2] إمّا أن یکون مراده به أمرا آخر کالشرط المبنی علیه الإنشاء أو المصرّح به فیه، بأن یقول: «وقفتُ هذا البستان علی ذریتی مادام بستانا». والمفروض عدم إقتضاء شیءٍ منهما بطلانَ الوقف بنفاد العنوان.

أمّا الأوّل فلأنّ وقفیة البستان لا تکون مقصورةً علی هذا العنوان، بل تسری إلی کلِّ جزءٍ منه، و [من المعلوم] سرایة الأحکام الوضعیة من عناوینها إلی معنوناتها بلا فرقٍ بین الملکیة الحاصلة بالوقف أو بالبیع أو بالهبة.

والشاهد علی تعلُّق الملکیة بالمعنون أنّه لو قال: «بعتُک هذا البستان» وتغیّرت صورته البستانیة بعد البیع لم ینحل العقد، بل تبقی العرصة والأجزاء ملکا للمشتری. فکذا الحال فی الوقف الذی یکون حقیقته إیقافا للعین عن النقل الإعتباری أو تملیکا أو قصرا، سواءً إستمرّ العنوان أم تغیّر»(2).

وأمّا الثانی فإنّ «إرادة الشرط من العنوان غیر معهودة عند العرف وأهل العلم.

مع أنّ إشتراط التوقیت لا یُجدی فیما رامه قدس سره من بطلان الوقف بزوال العنوان، سواء أکان الشرطُ مصرّحا به کما لو قال: «وقفتُ هذا علی أن یکون بستانا أو: مادام بستانا» أم منویّا _ من غیر دلالة علیه فی الإنشاء _ کما لو إقتصر علی جملة: «وقفتُ فی البستان» بانیا علی کونه موقّتا ببقاء البستان.

وجهُ عدم الإجداء: منافاة جعل الملکیة المحدودة _ للموقوف علیه _ للتأبید الذی إعتبروه فی الوقف. فیشکل نفوذ هذا الشرط بأدلة الشروط وبخصوص «الوقوف تکون

ص: 321


1- (1316) المکاسب 4/75.
2- (1317) هدی الطالب 7/41 و 42.

علی حسب ما یوقفها أهلها»(1).

ثمّ اعترض الشیخ الأعظم ثالثا علی صاحب الجواهر فی تأیید مقالته بفرع فی الوصیة بقوله: «وأما تأیید ما ذکر بالوصیّة، فالمناسب أن یقایس ما نحن فیه بالوصیّة بالبستان بعد تمامها وخروج البستان عن ملک الموصی بموته وقبول الموصی له، فهل یرضی أحدٌ بالتزام بطلان الوصیّة بصیرورة البستان عرصة؟

نعم، الوصیّة قبل تمامها یقع الکلام فی بقائها وبطلانها من جهات اُخر»(2).

حاصل اعتراضه: «کان مقصود صاحب الجواهر من تأیید الوقف بالوصیة هو تعلق کلّ منهما بعنوان الدار مثلاً، فکما أن زوال العنوان یبطل الوصیة، فکذا یبطل الوقف. ومقصود [الشیخ الأعظم] قدس سره إبطال التأیید، ثمّ التنظیر بفرعٍ آخر.

أمّا بطلان التأیید فللفرق بین المسألتین، وهو: إقتضاء الوقف علی العنوان صیرورة الموقوفة ملکا فعلیّا للعنوان، بخلاف مسألة الوصیة، لکون ملک الموصی له قبل موت الموصی شأنیا لا فعلیا.

مضافا إلی: أنّ الموصی به هو عنوان «البستان» حال موت الموصی، بشهادة حکمهم بعدم إعتبار وجود الموصی به حال الوصیة. فلو تغیّر عنوان البستان لم یکن الموصی به موجودا حال الموت، والموجود حاله _ وهو العرصة _ مغایرٌ للموصی به، فتبطل الوصیة من هذه الجهة، لا من جهة إعتبار بقاء العنوان فی بقاء الوصیة.

وأمّا التنظیر فتقریبه: أنّ الفرع المماثل للوقف علی العنوان هو الوصیة بالدار التی صارت بعنوانها ملکا فعلیا للموصی له بقبوله وبموت الموصی، ثمّ زال العنوان، فإنّهم لم یلتزموا بزوال ملک الموصی له، وبعوده إلی ورثة الموصی. وهذا کاشف عن عدم موضوعیة العنوان، وکونه معرِّفا. فلیکن الوقفُ مستمرّا بعد ذهاب العنوان، لوحدة المناط»(3).

ص: 322


1- (1318) هدی الطالب 7/43 و 44.
2- (1319) المکاسب 4/76.
3- (1320) هدی الطالب 7/45.

ثمّ اعترض الشیخ الأعظم رابعا علی وجهی صاحب الجواهر من رجوع عین الموقوفة إلی ملک الواقف وورثته أو الموقوف علیهم بقوله: «ثمّ ما ذکره من الوجهین، ممّا لا یعرف له وجه بعد إطباق کلّ من قال بخروج الوقف المؤبّد عن ملک الواقف علی عدم عوده إلیه أبدا»(1).

ولبّ کلامه یرجع إلی أنّه بعد قبول صاحب الجواهر أنّ الوقف هنا یعدّ من الوقف المؤبَّد لا یمکن إبداء احتمال رجوعه إلی الواقف لإطباق «الفقهاء _ القائلین بخروج العین عن ملک الواقف _ علی عدم عودها إلیه أو إلی ورثته. ویستفاد هذا الإجماع من غیر موضعٍ من السرائر، کقوله فی عدم جواز إنتفاع الواقف بما وقفه: «لما بیناه وأجمعنا علیه من أنه لا یصحّ وقفه علی نفسه، وأنّه بالوقف قد خرج عن ملکه ولا یجوز عوده إلیه بحال»(2) فعدم دخوله فی ملک الواقف متفق علیه»(3).

هذه کلُّها اعتراضات الشیخ الأعظم وتوضیحها علی مقالة صاحب الجواهر _ أعلی اللّه مقامهما وجعل الجنة مثواهما _ .

الحکمیة بین الشیخین صاحبی الجواهر والمکاسب
أقول: بالنسبة إلی الاعتراض الأوّل:

للشیخ الأعظم قد مرّ کلامنا فی بحث «هل جواز البیع موجب لبطلان الوقف أو أنّ الوقف لا یبطل إلاّ بالبیع الخارجی...»(4) فی ذیل مقالنا «فی النزاع بین المشایخ الثلاث والشیخین الجلیلین»(5) فلا نعیده فراجع ما حررناه هناک.

وحاصله: نحن مع المشایخ الاْءَرْبَعَةِ _ الشیخ جعفر وصهره الشیخ أسداللّه التستری ونجله الشیخ حسن وصاحب الجواهر رحمهم الله _ فی وجود التنافی الذاتی بین الوقف والبیع.

ص: 323


1- (1321) المکاسب 4/76.
2- (1322) السرائر 3/155.
3- (1323) هدی الطالب 7/47.
4- (1324) راجع هذا المجلد صفحة 233.
5- (1325) راجع هذا المجلد صفحة 235.

ولکنّا مع الشیخ الأعظم فی أنّ الوقف لا یبطل إلاّ بالبیع الخارجی فی موارد جواز بیع الوقف فلا یکون باطلاً قبل بیعه.

وأمّا بالنسبة إلی الاعتراض الثانی للشیخ الأعظم فأقول:

تبع المحققُ الخراسانیُّ صاحبَ الجواهرِ وقال: «لا یبعد أن یقال، أنّه لو أُرید به کون قصد الواقف حبس العین فی وقفها مادامت معنونة بعنوان کذا، وقیل بعدم بطلان مثله لعدم التّأبید، لما عرفت من انّه [التأبید] ما یقابل ال_تّوقیت، ولا توقیت هیهنا، لایبعد أن یقال بالبطلان بزوال العنوان بمعنی انتهاء الوقف إلی الغایة والنّهایة»(1).

کما وافقهما السیّدُ الیزدیُّ وقال: «.. إذا وقف بستانا ملاحظا فی وقفها البستانیة أو الدار ملاحظا فیها الداریة فإنّها إذا خرجت عن العنوان بطل کونها وقفا...»(2).

وحاول المحقّق الإصفهانی تصحیح مقالة صاحب الجواهر بقوله: «... فمرجع وقف البستان بما هو إلی أحد أمرین: [1] إمّا وقف العین الخاصة ما دامت معنونة بعنوان البستانیة، [2] وإمّا وقف العین بشرط ستعرف(3) إن شاء اللّه تعالی حقیقته.

أمّا الأوّل: فمبنی علی أنّ الملکیة قابلة للتحدید من حیث الزمان؛ بحیث یعتبر الشارع ملکیة العین إلی زمان زوال العنوان عنها، وربما یؤید ذلک بأنّ ملکیة الخل مرتبة علی کونه خلاً، فإذا زال العنوان وانقلب خمرا زالت الملکیة بل المالیة، وبذهاب بعضهم إلی أنّ ملکیة الأرض المحیاة باقیة ببقاء الإحیاء، بل الملکیة فی الأعیان دائرة مدار قابلیتها للإنتفاع بها فإذا سقطت عن القابلیة زالت الملکیة، وقد عرفت(4) سابقا معقولیة الملکیة المحدودة بالعرض، وإنْ لم یعقل محدودیتها بالذات؛ لکونها من حیث ذاتها عرضا قارا غیر قابل للتحدد بالزمان.

إلاّ أنّ المؤیدات قابلة للمناقشة بجعل الانقلاب إلی الخمریة الراجع إلی اسقاط

ص: 324


1- (1326) حاشیة المکاسب /111.
2- (1327) العروة الوثقی 6/377، مسألة 37.
3- (1328) فی نفس التعلیقة عند قوله (وأما الثانی...).
4- (1329) حاشیة المکاسب 3/84.

المالیة شرعا مزیلاً للملکیة، وزوال الملک بمزیل لا دخل له بالتحدید، وکذا خراب الأرض مزیل للملک الحاصل بالإحیاء، وکذا السقوط عن قابلیة الانتفاع مع أنّ المالیة قائمة بالخل، وکون مائع تارة مندرجا تحت هذا العنوان وأُخری خارجا عن تحته لا دخل له بانقلاب العنوان وزواله.

وأمّا الثانی: فالاشتراط علی قسمین:

احدهما: أنْ یشترط الواقف الرجوع إلی الملک بعد زوال العنوان، فالعین مملوکة بملکیة مرسلة وللواقف الرجوع إلی ملکه إذا زال عنوان الملک، فیدخل تحت مسألة جواز شرط الرجوع فی الوقف وسیأتی(1) الکلام فیه إنْ شاء اللّه تعالی.

ثانیهما: أنْ یشترط عدم کونه وقفا وملکا إذا زال العنوان فهو شرط منافٍ لمقتضی الوقف، لمنافاة الملکیة الأبدیة فی ذات العین وعدم الملکیة عند زوال عنوانها، بل لا یعقل القصد الجدی إلی التملیک الأبدی، وعدم کونه ملکا عند زوال العنوان، ولیس کزوال الملکیة عند زوال العنوان، فإنّ الزوال والرجوع لا ینافی ارسال الملکیة وأبدیتها، بخلاف عدم کونها ملکا وهو واضح.

وممّا ذکرنا تعرف أنّه یمکن تصحیح کلام صاحب الجواهر بأحد وجهین: إمّا بالالتزام بانشاء الملکیة المقیدة، وإمّا باشتراط رجوع الملکیة المطلقة، إلاّ أنّ ظاهر کلامه فی باب الوقف(2) هو الأوّل وأنّه کالوقف المنقطع الآخر، غایة الأمر أنّ المفروض فی الوقف المنقطع انقضاء الموقوف علیه، وهنا انقضاء أمد الموقوف»(3).

أقول: قد عرفت من نقل هذه الکلمات عدم تمامیة ادعاء الاجماع الوارد فی کلام الشیخ الأعظم، وإن یمکن المناقشة فی محاولة المحقّق الإصفهانی والإیرادُ علیه:

«أوّلاً: أنّ الوقف المؤبّد ینافی ویناقض مع تحدید الملکیّة، ولا مجال لقیاس الوقف المشروط بباب الملکیّة المحدودة.

ص: 325


1- (1330) حاشیة المکاسب 3/150.
2- (1331) جواهر الکلام 22/358، وفی باب الوقف 28/109 من الطبعة الاسلامیة.
3- (1332) حاشیة المکاسب 3/138 و 139.

هذا فضلاً عن منافاته مع شرط الرجوع، سواءً کان علی نحو شرط الفعل أو شرط النتیجة، فالوقف المؤبّد لم ینحصر مناقضته باشتراط عدم الوقفیّة عند زوال العنوان، بل یشمل شرط الفعل وشرط النتیجة أیضا؛ لأنّ المفروض أنّ حقیقة الشرط هی الالتزام بالرجوع، وهو یتقابل مع الالتزام بالتأبید والأبدیّة.

وثانیا: کما أنّ محاولته تصحیح انتفاء الوقف بزوال العنوان، من خلال مقارنته مع الملکیّة المحدودة الموقّتة التی تزول الملکیّة عند حلول الأمد، ممنوعٌ أیضا، لأنّ الواقف حین وقفه للعین الموقوفة _ کالبستان _ یعلم أنّ هذا العنوان کبقیّة العناوین لا یکون أبدیّا، بل یزول عاجلاً أم آجلاً، وبرغم ذلک یحبسه ویوقفه وقفا أبدیّا، ولذلک لا یمکن فرض بقاء الوقف المؤبّد محدودا ومقیّدا ببقاء العنوان وعدمه، لمناقضة المؤبّد مع المحدود.

وبالتالی؛ فإنّ محاولة المحقّق الإصفهانی فی توجیه کلام الجواهر لا یُسمن ولا یُغنی من جوع»(1).

ولکن مع ذلک کلّه یمکن تصحیح مقالة صاحب الجواهر لما عرفت من عدم وجود الاجماع علی خلافه، نعم بین عنوانی «الخراب» و «تغیّر العنوان» عموم وخصوص من وجه کما مرّ، ولکن مراد صاحب الجواهر تقیید الوقف بالعنوان فیکون العنوان مأخوذا فی الوقف علی نحو الحیثیة التقیدیّة ویؤیده قوله علیه السلام : «الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها»(2).

فیکون الوقف مقیدا بهذه الحیثیة التقیدیة ویکون صحیحا ویلزم منها بطلان الوقف بزوال القید والعنوان کما علیه صاحب الجواهر.

نعم، هذا الوقف المقید بالعنوان الزائل عنه فی فترَة لاحقة یتنافی مع الوقف المؤبَّد، وهذا التنافی یعدّ من مشاکل کتاب الوقوف وسوف نبحث عن حلّ هذه العویضة تبعا للقوم فی بحث الوقف المنقطع الآخر لاحقا إن شاء اللّه تعالی.

ص: 326


1- (1333) العقد النضید 5/19.
2- (1334) وسائل الشیعة 19/175، ح1.

ثمّ لابدّ من التنبیه علی تفصیل المحقّق النائینی وردّ السیّد الخوئی رحمه الله ودفاعه عن الشیخ الأعظم قدس سره والملاحظات حوله.

تنبیهٌ: حول تفصیل المحقّق النائینی ونقده وملاحظات النقد

قال المحقّق النائینی قدس سره : «ثمّ إنّ ما ذکرناه من عدم جواز بیع العین الموقوفة إذا لم یلحق قلّة الانتفاع بها بالعدم إنّما هو إذا بقیت الصورة النوعیّة للعین الموقوفة. وأمّا إذا تبدّلت بصورةٍ اُخری فیجوز بیعها وإن لم تلحق بالعدم.

ولا یبعد أن یکون کلام الشیخ [الطائفة(1)] ناظرا إلی هذا المعنی، فإنّ النخلة الموقوفة إذا قلعت تعدّ عرفا مباینةً للنخلة؛ لأنّها عبارة عن الشجرة، لا المادّة المشترکة بینها وبین الجذع والخشب.

وبطلان الصورة النوعیّة عبارة أُخری عن خراب الوقف. وسیجیء _ إن شاء اللّه تعالی _ فی باب الخیار: أنّ مناط مالیّة الأموال إنّما هو بالصورة النوعیّة، لا المادّة المشترکة.

ثمّ المدار فی الصورة النوعیّة علی الصورة النوعیّة العرفیّة لا العقلیّة، فإذا تبدّلت الصورة النوعیّة التی تعلّق الوقف بها یبطل الوقف، ویبقی ذات الجسم فیباع. ولا یقاس انهدام الدار علی زوال صورة الشجرة، فإنّ الدار مرکّبة من البناء والأرض، وانهدام البناء لا یوجب بطلان الوقف رأسا لبقاء العرصة.

وبالجملة: حیث إنّ قوام الوقف بأمرین: بقاء العین الموقوفة، وکونها ذات منفعةٍ لأنّه عبارة عن حبس العین وتسبیل الثمرة، فکما یجوز بیعها إذا لم تکن لها منفعة أصلاً فکذلک یجوز بیعها إذا لم تبقَ صورتها العینیّة التی هی إحدی رکنی الوقف»(2).

واعترض علیه السیّد الخوئی ودافع عن الشیخ الأعظم بقوله: «أنّ العناوین والصور النوعیة عرفیة کانت أو عقلیة وإن کانت موجبة لشیئیة الأشیاء فی نظر العرف

ص: 327


1- (1335) کما فی الخلاف 3/551، مسألة 23.
2- (1336) منیة الطالب 2/285؛ وراجع توضیح الأکثر لهذا التفصیل فی المکاسب والبیع 2/394 و 395.

والعقل، إلاّ أنّها لا تقابل بالمال بوجه وإنّما هی دخلیة فی زیادة المالیة للمادة ولذا لا یجوز بیع الصور بدون المادة لعدم الانفکاک وقد مرّ فی بعض المباحث فی المکاسب المحرمة وسیأتی فی باب الخیارات إن شاء اللّه، أنّ الأوصاف التی لها دخل فی زیادة المالیة وتعد فی نظر العرف من الصورة النوعیة إذا وقعت علیها المعاملة وظهرت خلافها فتکون المعاملة فسادة فإن وقع علیها المعاملة یعد فی نظر العرف مغائرا لما ظهر وإن کانا من جنس واحد کما إذا وقعت المعاوضة علی الفراش المنسوج بنسج وظهر المبیع الفراش المنسوج بنسج آخر یغائر فی نظر العرف أو باع عبدا فظهر أمة أو باع کأسا وظهر قدرا أو باع سکینا وظهر مسمارا أو باع ساعة وظهر قطعة حدید، أو باع صندوقا وظهر طبلاً فإنّ فی جمیع ذلک یبطل البیع لأنّ ما وقع علی البیع غیر مقصود وما هو مقصود لم یقع علیه البیع وإن کانا فی الحقیقة من جنس واحد إلاّ أنّ العرف یراهما شیئین متبائنین فإنّ الرجولة والأنوثة وإن کانتا من جنس واحد إلاّ أنّ العرف یراهما متبائنین کما هو واضح.

ولیست المعاملة فیها واقعة علی نفس تلک الأوصاف إذ لا یعقل الانفکاک بین المادة والصورة، بل المعاملة واقعة علی المادة، والصورة موجبة لمالیتها بحیث لو ذهبت هذه الصورة عن تلک المادة أی الجسم لا المادة الهُیولائِیَّة المحفوظة فی جمیع الأشیاء وتبدلت بصورة أخری مغائرة للأولی لم تبطل البیع، فإنّ نفس المادة قد وقعت متعلقة للبیع وتعنون الأشیاء بتلک الصورة لا توجب وقوع المعاملة علی نفس العناوین فإنّها أعراض لا تقبل الانفکاک ولا یکون کونها عناوین للأشیاء موجبا لکونها محطا لجمیع الأحکام تکلیفیة أو وضعیة بحیث تکون مملوکة وقابلة للتملیک کما هو واضح، وبالجملة الصور النوعیة العرفیة واسطة لوقوع المعاملة علی المواد لکونها سببا لمالیتها لا أنّ نفسها من الأموال.

إذا عرفت ذلک فالحکم فی الوقف أیضا کذلک فإنّه إذا وقف عبدا أو کأسا أو دارا أو دکانا فالظاهر من ذلک أنّ نفس تلک الأشیاء بموادها موقوفة وإنْ کانت مالیتها بصورها النوعیة العرفیة، ولا تدور الوقفیة مدار نفس الصور والعناوین لعدم انفکاکها عن المواد ولا یمکن وقوع المعاملة علیها بنفسها من الهبة والصلح والبیع کما هو واضح، وعلیه فإذا

ص: 328

زالت الصورة النوعیة لم تزل الوقفیة بل تکون المادة التی معنونة بعنوان أیضا وقفا وإن لم ینتفع عنها نفعا کالانتفاع منها مع الصورة الزائلة.

نعم، تزول الوقفیة بزوال الصورة والمادة کلتیهما إذ لیس المراد من المادة هی الهیولی لتکون محفوظة فی ضمن شیءٍ من الأشیاء وإن کان فی ضمن التراب، بل المراد منها هنا هی المادة العرفیة أعنی الجسم الذی کان معنونا بعنوان ولا شبهة أنّه ینتفی کانتفاء صورته.

وعلی هذا فإذا وقف شیئا وکان مفعول قوله عنوان ذلک الشیء بأن قال وقفتُ البستان الفلانی أو الدار الفلانیة أو النخلة الفلانیة فلا شبهة أنّ الوقف هی ذات هذه العناوین المعنونه بها وإنّما تلک العناوین معرّفات إلیها ومقومات لمالیتها ولیس لنفس تلک العناوین بحسب نفسها مالیة تکون وقفا منفکة عن المادة بحیث تدور الوقفیّة مدار نفس العنوان فإذا زالت زال الوقف وإذا ذهب عنوان البستان وعنوان الدار وعنوان النخلة کانت عرصة البستان وعرصة الدار والنخلة المقلوعة غیر وقف، بل باقیا فی ملک الواقف. بل العنوان فی المرکبات الاعتباریة لا ینتزع إلاّ من أمور متعددة فینحل إلی أمور عدیدة کعنوان الدار فإنّ الدار لیست إلاّ مرکبة من العرصة والقبب والجدران وهکذا البستان فمعنی وقف الدار لیس إلاّ وقف الأرض وتلک القبب ومعنی وقف البستان لیس إلاّ وقف الأشجار والعرصة فلا یعقل لوقف العنوان فقط معنی محصّل.

وبالجملة: لا نعقل معنی محصّلا لوقف العنوان المجرد بل وقف العنوان عین وقف ذی العنوان فکما أنّ فی المرکبات الحقیقیة لا تنفک الصورة النوعیة عن المادة لکونها متحدة فی الخارج حقیقة وکذلک فی المرکبات الاعتباریة کالدار والبستان فإنّ العنوان فی ذلک کلّه أیضا لیس موضوعا للحکم بمعنی کونه وقفا خالیا عن المواد.

وبعبارة أُخری: إذا وقف الواقف نخلة لأشخاص فنسئل أنّه هل بقی فی ملک الواقف منها شیء أم لا؟ فإن بقی ذات النخلة فی ملک الواقف لتکون له بعد قلعها فلا معنی لکون النخلة للموقوف علیهم کما هو المفروض وإن لم یبق فی ملک الواقف شیء فبعد

ص: 329

زوال عنوان النخلیة وصیرورتها خشبة فلماذا صار ملکا للواقف؟!»(1).

ثمّ إنّ لنا ثلاث ملاحظات فی کلام المحقّق الخوئی قدس سره :

«الملاحظة الأُولی: تعرّض السیّد الخوئی لقضیّة خراب العین الموقوفة وبیعها فی کتابین من أبواب کتابه (منهاج الصالحین):

1_ قال رحمه الله فی المسألة 95 من مسائل کتاب التجارة، فی شروط العوضین: «لا یجوز بیع الوقف إلاّ فی موارد...:

ومنها: ما لو علم أنّ الواقف لاحظ فی قوام الوقف عنوانا خاصّا فی العین الموقوفة، مثل کونها بستانا، أو حمّاما فیزول ذلک العنوان، فإنّه یجوز البیع حینئذٍ، وإن کانت الفائدة باقیة بحالها أو أکثر»(2).

2_ قال رحمه الله فی المسألة 1193 فی کتاب الوقف _ أحکام الوقف:

«إذا أوقف(3) بستانا لصرف نماءها فی جهة خاصّة، فانقطع عنها الماء حتّی یبس شجرها، أو انقلع شجرها، وبقیت عَرَصةً، فإن أمکن إیجارها وجب ذلک، وصُرفت الاُجرة فی الجهة الموقوف علیها.

نعم، إذا فهم من القرائن أنّ الوقفیّة قائمة بعنوان البستان، کما إذا وقفها للتنزّه أو للاستظلال، فإن أمکن بیعها وشراء بستان أُخری، تعیّن ذلک، وإلاّ بطلت الوقفیّة بذهاب عنوان البستان، وترجع مِلْکا للواقف»(4).

فإذا لاحظنا المسألتین، نجد أنّ الأخیرة شارحة للاُولی، لأنّه عَدَّ زوال العنوان فی کتاب التجارة موجبا لبطلان الوقف ومن مسوّغات البیع، ولکنّه التزم فی کتاب الوقف بأنّه إذا أمکن تحصیل الغرض وجب ذلک من خلال بدله، ومع التعذّر أو انحصاره فإنّه یبطل

ص: 330


1- (1337) مصباح الفقاهة 5/(212-210).
2- (1338) منهاج الصالحین 2/25.
3- (1339) کذا وَرَدَ فی کلامه قدس سره . وهو لیس من لغة العرب الفصحاء فی شیء، بل تلک لغةٌ ردیئةٌ معدولٌ عنها، والفصیح أنّه ثلاثیّ: وَقَفَ.
4- (1340) منهاج الصالحین 2/249.

الوقف وتعود العین إلی ملکیّة الواقف _ بمثل ما التزم به صاحب الجواهر _ وهذا بناءٌ یناقض مع مبناه المصرّح به فی مصباح الفقاهة.

الملاحظة الثانیة: حول ممنوعیّة ما یدّعیه من «أنّ العناوین والصور النوعیّة _ عرفیّة کانت أو عقلیّة _ وإن کانت موجبة لشیئیّة الأشیاء فی نظر العرف والعقل، إلاّ أنّها لا تقابَلُ بالمال بوجهٍ، وإنّما هی دخیلة فی زیادة المالیّة للمادّة، ولذا لا یجوز بیع الصور بدون المادّة لعدم الانفکاک»(1).

أقول: والتحقیق حولها یتوقّف علی ملاحظة حقیقة الصُّوَرِ فی المعاملات، وهل حیثیّتها تقییدیّة أو تعلیلیّة؟ ولا مجال لإثباتها إلاّ من خلال ملاحظة إنشاء العقلاء وارتکازاتهم، والتحقیق فی ذلک یستلزم التفصیل بین الأوصاف والصور النوعیّة العقلیّة.

أمّا الأوصاف: فإنّ حیثیّتها فی المعاملات تعلیلیّة، وما التزم به المحقّق الخوئی من مدخلیّة الوصف فی مالیّة المبیع _ کما فی العبد الکاتب _ تامٌّ لا نقاش فیه.

وأمّا ما التزم به فی الصُّوَرِ النوعیّة العرفیّة.

فممنوعٌ لمخالفته مع ما هو المرتکز عند العقلاء من تقیید المعاملة بالصور النوعیّة دون المواد، فالبائع یبیع الفَرَس والفِراش دون اللّحم والقطن، وکذلک الحال فی الصور النوعیّة العقلیّة، فإنّه بالأولویّة العرفیّة والعقلیّة والعقلائیّة حینما یُقْدِم البائع علی بیع الشاة أو الفرس، فإنّ مورد المعاملة لیس المادّة بل هو الفرس بصورته النوعیّة، بحیث تکون للفرسیّة دخل فی المعاملة.

الملاحظة الثالثة: ما یرد علی قوله أخیرا حول النخلة الموقوفة بعد زوال عنوانها، وصیرورتها خشبة، وأنّه لو بقیت النخلة: «فی ملک الواقف لتکون له بعد قلعها، فلا معنی لکون النخلة للموقوف علیهم، وإن لم یبق فی ملک الواقف شی ء، فبعد زوال عنوان النخلة وصیرورتها خشبة فلماذا صار ملکا للواقف؟»(2).

ص: 331


1- (1341) مصباح الفقاهة 5/210.
2- (1342) مصباح الفقاهة 5/212.

حیث ینتقض بالوقف المنقطع الآخر عند انقراض الموقوف علیهم، من الحکم بخروجه عن ملک الواقف، وانتقاله إلی الموقوف علیهم، ثمّ عوده بعد زوالهم إلی ملکیّة الواقف، وهکذا الأمر فی المقام مع الفرق بین أنّ الانقطاع فی الأوّل یکون من جهة الموقوف علیهم، وفیما نحن فیه یکون فی الموقوف، لکن هذا الفرق لا یمنع من اتّحادهما فی تحقّق الخروج أوّلاً ثمّ الرجوع ثانیا ثبوتا وإثباتا»(1).

أقول: وفی الختام نترک الاعتراض الثالث والرابع للشیخ الأعظم لتمامیتهما، غفر اللّه ایّانا وإیّاکم ورحمهما اللّه تعالی.

الصورة الثالثة
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «أن یخرب بحیث یقلّ منفعته، لکن لا إلی حدٍّ یلحق بالمعدوم.

والأقوی هنا المنع، وهو الظاهر من الأکثر فی مسألة النخلة المنقلعة، حیث جوّز الشیخ رحمه الله فی محکیّ الخلاف بیعها، محتجّا بأنّه لا یمکن الانتفاع بها إلاّ علی هذا الوجه؛ لأنّ الوجه الذی شرطه الواقف قد بطل ولا یُرجی عوده،(2) ومنعه الحلّی قائلاً: ولا یجوز بیعها، بل ینتفع بها بغیر البیع، مستندا إلی وجوب إبقاء الوقف علی حاله مع إمکان الانتفاع، وزوال بعض المنافع لا یستلزم زوال جمیعها، لإمکان التسقیف بها ونحوه،(3) وحکی موافقته عن الفاضلین(4) والشهیدین(5)، والمحقّق الثانی(6) وأکثر المتأخّرین(7).

وحکی فی الإیضاح عن والده _ قدّس سرّهما _ : أنّ النزاع بین الشیخ والحلّی

ص: 332


1- (1343) العقد النضید 5/(24-21).
2- (1344) الخلاف 3/(552-551)، کتاب الوقف، مسألة 23.
3- (1345) السرائر 3/167.
4- (1346) الشرائع 2/221؛ والقواعد 1/269؛ والتحریر 1/290.
5- (1347) الدروس 2/279؛ والمسالک 5/400.
6- (1348) جامع المقاصد 9/72.
7- (1349) حکاه عنهم وعن قبلهم جمیعا المحقّق التستری فی المقابس /155.

لفظیّ، واستحسنه(1)؛ لأنّ فی تعلیل الشیخ اعترافا بسلب جمیع منافعها، والحلّی فرض وجود منفعة ومنع لذلک بیعها.

قیل: ویمکن بناء نزاعهما علی رعایة المنفعة المعدّ لها الوقف کما هو الظاهر من تعلیل الشیخ(2)، ولا یخلو عن تأمّل.

وکیف کان، فالأقوی هنا المنع، وأولی منه بالمنع ما لو قلّت منفعة الوقف من دون خراب، فلا یجوز بذلک البیع إلاّ إذا قلنا بجواز بیعه إذا کان أعود، وسیجیء تفصیله(3)»(4).

توضیح مقالة الشیخ الأعظم: «صرّح [الشیخ الأعظم] بانّ الأقوی هنا، المنع لانّ الأصل فی الوقف، المنعُ عن البیع والادلّة الّتی کانت موجودةً فی عدم جواز البیع، تجری هنا ومن جملتها قوله علیه السلام : «لا یجوزُ شِراءُ الوقفِ» وقوله علیه السلام : «الوقفُ علی حَسَبِ ما یُوقِفُها أهْلُها» قوله علیه السلام : «صدقةٌ لاتُباعُ ولا تُوهبُ».

فهذه الأدلة، یشمل إطلاقها هذا المورد من دون انصرافٍ فیها، المدّعی فی صورة عدم المنفعة بالمرّة أو المدّعی فی صورة عدم الانتفاع المعتدّبه.

ثمّ: انّ الشیخ [الأعظم] رحمه الله صرّح عدم جواز البیع فی هذه الصّورة، یظهر من المشهور أیضا حیث أنّ الشیخ الطوسی؛ فی باب النخلّة الموقوفةِ المنقلعة ذهب إلی جواز بیعها لانّها لم تکن لها ثمرةٌ فی المنفعة التی کانت مقصودةً للواقف لانّه لا تحصل إلاّ بالبیعِ.

اعترض ابن إدریس علی هذه الفتوی من الشیخ الطوسی رحمه الله واستبعده بانّ النّخلة وان زالت منفعتها الخاصّة ولکن کانت لها منافعُ اُخری لانّها یمکن التّسقیف بها وجعلها جسرا.

ایّد هذا الاِعتراضَ، العلاّمةُ الحِلّیُّ وفخرُالمحقّقین والشّهیدان والمحقّق الثانی رحمه الله ولذا جاؤا فی مقام توجیه کلام الشیخ الطوسی رحمه الله بانّ مقصود الشیخ رحمه الله ، غیر الصّورة التی

ص: 333


1- (1350) إیضاح الفوائد 2/393.
2- (1351) قاله المحقّق التستری فی مقابس الأنوار /155، ذیل الصورة الخامسة.
3- (1352) یجیء فی الصورة الرابعة _ الآتیة _ .
4- (1353) المکاسب 4/76 و 77.

فرضها ابن إدریس رحمه الله لانّه ورد فی تعلیل الشیخ الطوسی رحمه الله انّه إذا لم یبعها، لیست لها منفعةٌ أصلاً ومن هذا یعلم أنّ فرض الشیخ الطوسی رحمه الله فی النّخلة، المنفعة فی موردٍ لا یمکن لها التّسقیف أو لا یمکن استعمالها فی الجسر أو لیس موردا للّزومِ.

بالجملة، لو کان فی فرض الشیخ رحمه الله امکانُ التّسقیف أو امکانُ جعلها جسرا لکان هذا، انتفاعا مع أنّ الشیخَ الطُّوسِیَّ رحمه الله فرضه، سلب جمیعِ الانتفاعات عنها وبهذا یصیر نزاعُ الشیخ رحمه الله مع ابن إدریس رحمه الله نزاعا لفظیّا کما نقله فخرالمحقّقین عن العلاّمة رحمه الله فقول العَلَمَین، لیس متواردین علی موردٍ واحدٍ فالموردُ الّذی جوّزه الشیخ الطوسی رحمه الله غیر المورد الّذی جوّزه ابن إدریس رحمه الله فالحقُّ مع کلیهما فالشیخ الطوسی رحمه الله جوّز البیع فی صورة عدم الانتفاع للنّخلة بالمرّة وهو ممّا لا کلام فیه.

وابن إدریس؛ منع فی موردٍ کانت للنّخلةِ، منفعةُ اُخری غیر منفعتها الخاصّة فالنّزاع بین الشیخ الطوسی؛ وابن إدریس رحمه الله لیس نزاعا فی الکبری بل اختلافٌ بینهما فی الصّغری وفرض المسألة.

وبملاحظة هذه الکلمات افتی الشیخ الأنصاری رحمه الله فی مورد الفرض وهو ما عرض الخرابُ للعین الموقوفة وقلّت المنفعة ولکن بحیث یلحق بالمعدوم، بانّ الأقوی والأشهر هو المنع أمّا کونه أقوی لوجود المُقتضی وعدم المانع والمُقتضی هو الأدلّة والمانع لیس هنا موجودٌ وأمّا کونه أشهر فهو المستفاد من کلمات الفقهاء من أنّ کلّ موردٍ کانت فیه منفعة، لا یجوز بیعه»(1).

نقد مقالات الأعلام الثلاثة
اشارة

«کل واحد من کلمات الشیخ الطوسی رحمه الله وابن إدریس رحمه الله والشیخ الأنصاری رحمه الله لا یخلو مِنْ نظرٍ ومناقشةٍ:

وامّا ما قال به الشیخ الطوسی فهو؛ وإن أصاب فی أصل الفتوی وهو جواز البیع فی هذه الصّورة ولکنّ التّعلیل المنقول عنه رحمه الله ، لا یستوی بظاهره إلاّ أن یأوّل.

ص: 334


1- (1354) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/442 و 443.

توضیحه: انّ قول الشیخ، انّ المنفعة التی عیّنها الواقف، زالت ولیست للعین منفعةٌ اُخری.

یعلم من هذه الکلمات: انّ الکبری کانت مُسَلَّمةً عند الشیخ رحمه الله وهی انّ کلّما تترتّب المنفعة علی العین ولو کانت المنفعة غیر المنفعة المذکورة فی الوقف، لا یجوز بیعها.

وهذا هو الّذی أَوجب للعلاّمة أن یقول: أنّ النّزاع بین العلمین، نزاعٌ لفظیٌّ ولکن هذا، لیس بصحیحٍ لانّ ظاهر فتوی الشیخ الطوسی رحمه الله أنّ الکبری، مسلّمةٍ عنده وجعل المدار فی المنفعة، مطلق المنفعة لا المنفعة التی صرّح بها الواقف ولکن بناءً علی ما قلناه سابقا تبعا عن صاحب الجواهر رحمه الله ، أنّ المدار فی بطلان الوقف، علی تعذّر المنفعة التی عیّنها الواقف فالظّاهر منه انّ المراد من انتفاع الثّمرة الموجب للبطلان، لیس مطلق الثّمرة بل المراد منه، الثّمرة التی عیّنها الواقف.

هذا مضافا إلی انّه صرّح بهذا، صاحبُ الجواهر رحمه الله یقتضیه الدّلیلُ الّذی نقله صاحب الجواهر رحمه الله والدّلیل أنّ حقیقة الوقف، حقیقةٌ مرکّبةٌ وهو حبس العین وتسبیل الثّمرة.

ومن المعلوم: أنّ مقصود الواقف من الثّمرة وجعلها تحت انشائه، ثمرةُ العین فالمراد من انتفاع الثّمرة الّذی یوجب بطلان الوقف، انّما هو انتفاعُ الثّمرة الّتی عیّنها الواقف لا مطلق الثّمرة.

نُکْتَةٌ اُخری هنا وهی أنّ صاحب الجواهر رحمه الله صرّح فی مورد زوال العنوان بأنّ العنوان إذا کان موقوفا فزواله موجبٌ للبطلان وإذا کان المعنون موقوفا فزوال العنوان، لیس موجبا للبطلان.

فهنا بحثٌ من حیث الإثباتیّ وهو أنّه من أین یعلم أنّ مقصود الواقف، العنوان أو المعنون؟

من المعلوم: أنّ فی مقام الإثبات، ظاهر اللّفظ کان محکّما فإذا صرّح الواقف: «بأنّی وقفتُ الدّار» وهکذا إذا صرّح: «بأنّی وقفتُ الحمّام» فظاهر الانشاءُ المعلّق علی العناوین،

ص: 335

أنّ مورد الوقف، هو العنوانُ.

التّنبیهُ علی الأمرَیْن (مقدمة علی نقد کلام ابن إدریس)

بعد ما بیّنا انّ انتفاع الثّمرة، موجبٌ لبطلان الوقف وزوال العنوان موجب لبطلان الوقف یجب التّنبیه علی الأمرَیْن:

التّنبیه الأوّل: أنّه لو شککنا فی أنّ مورد الوقف هل هو العنوانُ أو المعنون فقلنا انّ المحکّم، ظاهرُ اللّفظ وهو کون العنوان موردا للوقف کما فی الإنشاءت کلّها.

التّنبیه الثانی: أنّ المناط فی بطلان الوقف بانتفاع الثّمرة، لسقوط الثّمرة أیُّ ثمرةٍ؟ هل هی مطلّق الثّمرة أو الثّمرة الّتی وقعت موردا للإنشاء؟

قلنا سابقا: أنّ المناط، الثّمرة الّتی وقعت موردا للإنشاء لأنّ دلیل بطلان الوقف عند انتفاع الثّمرة، فقدانُ المُنْشَأ وإذا فرضنا أنّ المنشأ، ثمرةٌ خاصّةٌ ففقدانها، موجبٌ لبطلان الوقف فإذا فرضنا أنّ الابتدا والاستمرار کان لهما حکمٌ واحدٌ ففقدان الثّمرة المنظورة للواقف ابتداءً أو استدامةً، موجبٌ للبطلان.

إذا عرفت هذین الأمرین فنحن نسئل عن ابن إدرس رحمه الله ما المراد من قولکم: یُحْفَظُ وقف الواقف علی أیِّ حالٍ؟

من المعلوم: انّ الّذی وقفه الواقف هو النّخلة لا الحطب، والنّخلة المنقلعة کانت حطبا والواقف، لم یوقف الحطب بل النّخلة.

قوله: «انّ حفظ الوقف مهما أمکن لازمٌ» صحیحٌ ولکن لیس هذا من الوقف بشیءٍ لأنّ مورد الوقف، عنوان النّخلة فقد زال ذلک العنوان وبقی حطبا فحینئذٍ فی مورد مثال النّخلة المنقلعة، کان موجبانِ لبطلانِ الوقف:

الأوّل: قاعدة انتفاع الثّمرة.

والثانی: قاعدة زوال العنوان.

فان قلت: من أین یعلم أنّ النّخلة، کانت عنوانا ولعلّ مراد الوقف، المعنونُ.

قلنا: انّ الظّاهر أنّ النّخلة هو العنوانُ.

وهکذا إن قلت: من أین یعلم أنّ مورد نظر الواقف، لیس مطلقَ الانتفاع.

ص: 336

قلنا: إنّ الفرض أنّ الواقف، وقف النّخلة لانتفاع الثّمرة منها نسلاً بعد نسلٍ وما سبّل کلّ الانتفاع من الجسر والتّسقیف.

والقولُ بأنّ: حفظ غرض الواقف، واجبٌ مهما أمکن ولو بطل الوقف والغرض فیلزم العمل بالوقف، الأقربُ فالأقرب.

مدفوعٌ کما أجاب الشیخ عنه بأنّ حفظ دواعی الواقف وأغراضه لا یلزم بل ما یجب العمل به، الغرض الّذی دخل تحت الإنشاء.

علی هذا، ایرادُ ابن إدریس رحمه الله علی الشیخ الطوسی رحمه الله لا یرد ولا دلیل علی حمل کلام الشیخ الطوسی رحمه الله علی صورةٍ اُخری غیر فرض ابن إدریس رحمه الله .

نعم، إن کان یرد علی الشیخ رحمه الله شیء فهو أنّه إنْ کان مقصود الشیخ رحمه الله من قوله: «إنّ الإنتفاع بغیر هذا الوجه، لا یمکن» انّه لو امکن انتفاعٌ آخر غیرُ انتفاعِ مورد نظر الواقف، کان یجب أن ینتفع ذلک الانتفاع.

یرد علی الشیخ الطوسی رحمه الله هذا الایراد الّذی ذکرناه من أنّ عدم امکان الانتفاع بما اوقفه الواقف أوزال عنوان الوقف، یوجب البطلان سواءٌ امکنت المنفعة الاُخری أم لا؟

فمجرّدُ امکان الانتفاع الآخر، لیس دلیلاً علی منع البیع.

الاشکالُ الوارد علی شیخنا الأنصاریّ

امّا الّذی یُرِدُ علی شیخنا الأنصاریّ فی هذه المسألة فهو أصل الفتوی وهو «الأقوی، المنع» علی ما قلناه، محلُّ اشکالٍ وکذلک الاستظهارُ والاستفادة، لیس بصحیحٍ.

امّا بطلانُ أصل الفتوی فنقولُ فیه:

هل الشیخ رحمه الله جعل فرض النّخلة المنقلعة، من مصادیق هذه الصّورة أم کانت غیر محلّ البحث ولکن الشیخ رحمه الله نظرهُ من ذکر فرض النّخلة المنقلعة الموقوفة هنا، الاستفادةُ لمسألة محلّ البحثِ.

بعبارةٍ اُخری، مقصود الشیخ من کون العین الموقوفة تخرب بحیث تقلّ منفعتها بحیث تکون العین الموقوفة مخروبةً لا علی نحوٍ یوجب زوال العنوان، وکانت المنفعة تقلّ، لا علی الخراب بحثٌ سنتعرّض له فی المباحث الآتیة.

ص: 337

وان کان المقصودُ من الخراب، الخراب الّذی لا یُزِیلُ عنوان الوقف، والمقصود من قلّةِ المنفعة، قلّة المنفعة الّتی کانت موردا لنظر الواقف یعنی کان نظر الواقف، النّخلة لا المنفعة.

فقولُ الشیخ؛ فی عدم جواز البیع فی هذا الفرض فله وجهٌ لبقاء العنوان والثّمرة غایة الأمر، صارت الثّمرة إلی القلّة. ولکن الظّاهر من الشیخ، لیس مقصوده هذا الفرض.

وامّا ان کان فرض الشیخ، فرض ما إذا عرض للعین الموقوفة، الخراب بحیث زال العنوانُ وانتفت الثّمرةُ المنظورة ولکن تمکن المنفعة الاُخری غایة الأمر تکون المنفعة الاُخری قلیلةً لا علی حدٍّ یلحق بالمعدوم.

فالظّاهرُ من کلام الشیخ رحمه الله أنّ مراده، هذا الفرض لاِءَنَّ الشیخ رحمه الله قال فی الصّورة الثّانیة، ما إذا عرض الخرابُ للدّار الموقوفة بحیث لا ینتفع بها إلاّ أن یجار لمنفعةٍ أُخری کالمزبَلة ولکن هذه المنفعة فی مقابل المنفعة الّتی کان نظر الواقف بها کلا منفعةٍ وامّا فیما نحن فیه فتقلّ المنفعة بحیثُ لا تلحق بالمعدومِ.

وبالجملة، یُعْلَمُ من کلام الشیخ رحمه الله انّ فرض الشیخ، لیس الفرض الأوّل یعنی بقاء العنوان والثّمرة غایة الأمر عُرض له الخرابُ وعُرضت للمنفعة القلّة فإن کان مقصود الشیخ رحمه الله هذا الفرض ففتوی الشیخ کانت حقّا ولا یحتاج استنباطها من صورة النّخلة المنقلعة لاِءَنّ هنا، کانت المنفعةُ، محفوظةً فیلعم منه انّ مقصود الشیخ رحمه الله فرض النّخلة المنقلعة وکلّ فرضٍ یشابهها من انّ المنفعة الخاصّة للواقف لا یمکن ولکن تمکن المنفعة الاُخری ولو کانت قلیلةً ولکن لا إلی حدٍّ یلحقها علی المعدومِ.

ومقصوده من الخراب، لاأقلّ من کونه أعمّ من زوال العنوانِ فان کان مقصود الشیخ رحمه الله هذا الفرض کما هو الظّاهر من کلامه رحمه الله فیرد علیه ما اوردناه من أنّ هنا، مُوْجِبَیْنِ للبطلانِ.

أوّلهما، زوالُ العنوان والآخر انتفاع الثّمرة وأمّا امکان الثّمرة الأُخری فهو لا یجعل الوقف الباطل صحیحا وملاحظة الأقرب إلی غرض الواقف، لا یلزم.

مُضافا إلی ذلک، یمکن أن یرد علی شیخنا الأنصاری رحمه الله ، إشکالاً آخر وهو أنّ القلّة

ص: 338

والکثرة، من الأُمور النّسبیّة فالمنفعة القلیلة، کانت مالاً فی حدِّ نفسه وتترتّب علیه أحکامُ المالِ وقولنا أنّه کالعدم، إنّما هو بالمقایسة إلی المنفعة الکثیرة منها ولکن مجرّد وجود المنفعة فی حدّ نفسها، لا یکفی بل یمکن القول بانّ القلّة إنْ انتهی إلی حدٍّ فهی ولو کانت مالاً فی حدّ نفسها ومعتدّا بها ولکن إذا کانت القلّة بالنّسبة إلی وضع الموقوفة، تعدّ من تضییع المال، کان مجوّزا لبیعِ الوقف.

فبناءً علیه فی مثل النّخلة الموقوفة المنقلعة، الاستفادةُ منها فی التّسقیف والتّسجیرِ ولو کانت هذه المنفعة، منفعةً معتدّا بها فی حدّ نفسها ولکن بالنّسبة إلی المنفعة الّتی یمکن تحصیلها، تُعَدُّ فی حکم تضییع المال مع قطع النّظر عن تطبیق الموردین المجوّزین لبیع الوقف، من زوال العنوان وانتفاع الثّمرة.

فبناءً علی هذا، الأقوی جواز البیع کما فی الصّورتین المذکورتین»(1).

الصورة الرابعة
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «أن یکون بیع الوقف أنفع وأعود للموقوف علیه. وظاهر المراد منه: أن یکون ثمن الوقف أزید نفعا من المنفعة الحاصلة تدریجا مدّة وجود الموقوف علیه»(2).

جوّز الشیخ المفید(3) بیع الوقف فی هذه الصورة أی إذا کان بیعه أعود وتبعه صاحبا الشرائع(4) والقواعد(5).

وقد نسب الشهید(6) والمحقّق الثانی(7) هذا القول إلی المفید.

ص: 339


1- (1355) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/(449-444).
2- (1356) المکاسب 4/78.
3- (1357) المقنعة /652.
4- (1358) الشرائع 2/11، وعبارته: ویکون البیع أعود علی الأظهر.
5- (1359) القواعد 2/23، وعبارته: ویکون البیع أعود.
6- (1360) الدروس 2/279.
7- (1361) جامع المقاصد 9/68.

نعم حکی کاشف الرموز القول بعدم الجواز من أستاذه المحقّق ویقول: «وکان شیخنا یذهب إلی أن البیع لو کان خوف الخراب جائز وإن کان البیع أنفع لهم غیر جائز وهذا وجه حسنٌ قریب»(1).

وأوّل العلاّمة فی التحریر(2) کلام المفید.

وعلی أیِّ حال المتسالم علیه بین الفقهاء عدم الجواز فی هذه الصورة کما قال الفخر: «علیه أکثر العلماء»(3) وقال ابن فهد: «أنّ باقی الأصحاب علی خلاف المفید فی هذا الفرع»(4).

وقال الشیخ الأعظم: «وزیادة النفع قد تلاحظ بالنسبة إلی البطن الموجود، وقد تلاحظ بالنسبة إلی جمیع البطون إذا قیل بوجوب شراء بدل الوقف بثمنه.

والأقوی المنع مطلقا، وفاقا للأکثر، بل الکلّ»(5).

العمومات والقاعدة تقتضی عدم جواز بیع الوقف ولکن قد استُدِلَ للمفید فی جواز البیع بروایتین:

الأُولی: خبر جعفر بن حیان قال سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن رجلٍ وقف غلّةً له علی قرابةٍ من أبیه، وقرابةٍ من أُمّه، وأوصی لرجلٍ ولعقبه من تلک الغلّة لیس بینه وبینه قرابةٌ بثلاثمائة درهمٍ فی کلّ سنةٍ، ویقسم الباقی علی قرابته من أبیه، وقرابته من أمّه؟

قال: جائزٌ للّذی أوصی له بذلک.

قلت: أ رأیت، إنْ لم یخرج من غلّة الأرض التی وقفها إلاّ خمسمائة درهمٍ؟

فقال: أ لیس فی وصیّته أنْ یعطی الّذی أوصی له من الغلّة ثلاثمائة درهمٍ، ویقسم الباقی علی قرابته من أُمّه وقرابته من أبیه؟

ص: 340


1- (1362) کشف الرموز 2/54.
2- (1363) تحریر الأحکام الشرعیة 3/290، مسألة 4643.
3- (1364) إیضاح الفوائد 2/392.
4- (1365) المهذب البارع 3/64.
5- (1366) المکاسب 4/78.

قلت: نعم.

قال: لیس لقرابته أنْ یأخذوا من الغلّة شیئا حتّی یوفّی الموصی له بثلاثمائة درهمٍ، ثمّ لهم ما یبقی بعد ذلک.

قلت: أ رأیت إنْ مات الّذی أوصی له؟

قال: إنْ مات کانت الثّلاثمائة درهمٍ لورثته یتوارثونها ما بقی أحد، فإذا انقطع ورثته، ولم یبق منهم أحدٌ، کانت الثّلاثمائة درهمٍ لقرابة المیّت تردّ إلی ما یخرج من الوقف، ثمّ یقسم بینهم یتوارثون ذلک ما بقوا، وبقیت الغلّة.

قلت: فللورثة من قرابة المیّت أن یبیعوا الأرض إذا احتاجوا ولم یکفهم ما یخرج من الغلّة؟

قال: نعم، إذا رضوا کلّهم وکان البیع خیرا لهم، باعوا.(1)

ورواه المشایخ الثّلاثة(2) عن جعفر بن حیان أو جعفر بن حنان أو حسان.

وفی سنده مناقشة واضحة لأنّ جعفر بن حیان الصیرفی الکوفی امامی مجهول وجعفر بن حنّان أو حِسان مهملان فالسند ضعیف بجعفر الراوی الأخیر الذی یروی عن الصادق علیه السلام .

وأمّا دلالته: قد ورد فی ذیله فی جواب سؤال: «فللورثة من قرابة المیّت أن یبیعوا الأرض إذا احتاجوا ولم یکفهم ما یخرج من الغلّة؟ أجاب الإمام علیه السلام : «نعم، إذا رضوا کلّهم وکان البیع خیرا لهم، باعوا».

فحینئذ جواز البیع مشروط بأُمور ثلاثة: 1_ الحاجة 2_ رضا الجمیع 3_ أن یکون خیرا لهم. ولکن المدعی أن یکون البیع أعود لهم وهو الاشتراط الأخیر فقط فیکون الدلیل أخص من المدعی هذا أوّلاً.

وثانیا: الأصحاب _ قدس اللّه أسرارهم _ أعرضوا عن هذا الخبر وإعراض المشهور

ص: 341


1- (1367) الکافی 13/410، ح29 (7/35) ونقل عنه فی وسائل الشیعة 19/190، ح8، الباب 6 من أبواب کتاب الوقوف والصدقات.
2- (1368) الفقیه 4/242، ح5577؛ التهذیب 9/133، ح565؛ الاستبصار 4/99، ح382.

موهن لاعتبار الخبر بل إن لم یتم النسبة إلی المفید بالتأویل الوارد فی کلام العلاّمة یکون مجمعا علی اعراضه فیصیر ساقطا عن الاعتبار کلیّا.

وثالثا: الخبر مشتمل علی أشیاء تصیر موجبة لوهنه ومن جملتها: «کیف تجتمع الوصیة مع الوقف لکونهما من المتنافیین بداهة أنّ الوصیة لو کانت قبل الوقف تکون باطلة بمجرد الوقف مثل ما إذا باع الموصی الشیء الموصی به، ولو کانت بعده فهی باطلة أیضا لأنّ الموصی به خارج عن ملکه، ولابدّ من أن یقال: إنّ المراد من الوصیة الشرط یعنی أنّ الواقف شرط فی وقفه هکذا، وقد تطلق الوصیة لغة وفی القرآن علی الشرط مثل قوله تعالی: «یُوصِیکُمُ اللّهُ»(1).

وأیضا ما الوجه لمنع الإمام علیه السلام عن تصرف الموقوف علیهم قبل إخراج ما أوصی به فی صورة عدم خروج الغلّة من الأرض إلاّ بمقدار خمسمائة درهم، بداهة أنّه لا مانع من التصرف فی الغلة وإخراجه بعد هذا، بل لو لم یفوا بالشرط أصلاً لم یکن تصرّفهم فی الغلّة حراما لأنّ اشتراط دفع المبلغ إلی الرجل لا یترتّب علیه إلاّ حکم تکلیفی ولا یکون شریکا معهم فی الغلّة.

وأیضا أنّ ما حکم به الإمام علیه السلام بقوله: «إن مات کانت ثلاثمائة درهم لورثته _ الی أن قال _ مابقی أحد منهم» لم نفهم المراد منه بعد ما ذکرنا من أنّه لابدّ من أن یراد من الوصیة الشرط، بداهة أنّه علی هذا یکون إعطاء ثلاثمائة درهم منوطا بوجود من شرط الاعطاء له، فإذن لا وجه لاعطائه لورثة المشروط له.

وأیضا أنّ ما حکم به بعد ذلک بقوله «فإن انقطع ورثته» الخ لم نفهم له وجها بداهة أنّه ولو فرضنا صحّة الوصیة أیضا لا وجه لأن یکون الموصی به بعد انقراض ورثة الموصی له راجعا إلی قرابة المیّت الواقف، بداهة أنّه علی هذا یکون ممّا لا وارث له فعلیه یکون مالاً للإمام علیه السلام لأنّه علیه السلام وارث من لا وارث له»(2).

ص: 342


1- (1369) سورة النساء /11.
2- (1370) التنقیح فی شرح المکاسب 2/290 و 291.

ولکن یمکن أن یجاب فی جواب الإشکال الأخیر: أنّ المراد من الوصیة فی الخبر لیست الوصیة المصطلحة الفقهیة بل المراد بها معناها اللغوی وهو العهد والتوصیة والتأکید نحو قوله تعالی: «وَصّی بِها إِبْراهِیمُ بَنِیهِ وَیَعْقُوبُ یا بَنِیَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفی لَکُمُ الدِّینَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(1) وقوله تعالی: «وَوَصَّیْنَا الاْءِنْسانَ بِوالِدَیْهِ إِحْسانا»(2) و «أَوْصانِی بِالصَّلاةِ وَالزَّکاةِ ما دُمْتُ حَیًّا»(3) وکما ورد فی وصیة أمیرالمؤمنین علیه السلام بسند صحیح: ثمّ إنّی أوصیک یا حسن وجمیع أهل بیتی ووُلدی ومن بلغه کتابی بتقوی اللّه ربکم ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون... أوصیکم بالضعیفین: النساء وما ملکت إیمانکم، الوصیة.(4)

ولو حملنا الوصیة علی معناها اللغوی یتم جمیع ما ورد فی الخبر من دون أن یرد علیه الإشکال الأخیر فتأمل فی المقام لأنّه حقیق بالتأمل.

الاحتمالات الواردة فی خبر جعفر بن حیان
اشارة

الاحتمالات الواردة متعددة أذکر لکم ستة منها علی مایلی:

«إنّ فی الروایة المذکورة عبارتَیْنِ: إحداهما فی متن السّؤال والأُخری فی جوابه.

وما یکون فی السّؤال من العبارة هکذا: «فللورثة من قرابة المیّت ان یَبیعُوا الأرض إن احتاجُوا ولم یکفهم ما یخرج من الغُلّةِ؟».

وجوابه: «نعم: إذا رضوا کلّهم وکان البیع خیرا لهم، باعُوا».

إن قلت: لم یأت فی الجواب ما کان مذکورا فی السّؤالِ؟

قلت: تکتفی وتقتضی ما فی السّؤال، کلمة «نعم» حیث انّ معنی: «نعم» فی الحقیقة، تکرارُ الجملة السّابقة یعنی: نعم: «إن احتاجُوا وکان البیع خیرا لهم باعُوا».

احتمالٌ آخر فی «نعم» وهو ان «نعم» لا تکونُ تکرارا لجملة السّؤال بل تکرارٌ

ص: 343


1- (1371) سورة البقرة /132.
2- (1372) سورة الاحقاف /15.
3- (1373) سورة مریم /31.
4- (1374) الکافی 13/453 و 455، ح7 (7/51 و 52).

للمحمول فقط فمعنی «نعم» علی هذا الاحتمال: انّه یجوز إذا کان البیع خیرا فبناءً علیه، کان فی قوله علیه السلام : «نعم»، احتمالانِ:

الأوّل: انّه یجوزا لبیع إذا احتاجوا ولم یکفهم ما یخرج من الغلّة.

الثانی: الّذی کان علی خلاف الظّاهر هو انّ «نعم» لیس بمعنی تکرار الجملة بل تکرارٌ للمحمول فقط.

وفی معنی: «کان خیرا لهم» أیضا احتمالات ثلاثةٌ:

الأوّل: انّ قوله علیه السلام : «کان خیرا لهم» یعنی أنفعُ لهم من بقائه.

الثانی: انّ المراد من الخیر، مصلحةٌ کانت داعیةً لفعل الفاعل المختار.

الثالث: انّ المراد من الخیر، الاحتیاج یعنی «لو إحتاجوا باعوا» الاحتمالان الأخیران ذکرهما الشیخ رحمه الله .

فإذا لا حظنا هذه الاحتمالات الثّلاثة مع الاحتمالین المذکورین فی کلمة «نعم»، تصیرُ الاحتمالاتُ الحاصلةُ، ستّةً.

ومن المعلوم: انّ هذه الاحتمالات السّتة، لا تدلّ علی المطلوب إلاّ احتمالٌ واحدٌ وهو کون معنی الخیر، الأنفعیّة لا مصلحة الفاعل ولا بمعنی رفع الاحتیاج وعدم ورود الاحتیاج فی کون معنی الخیر، الأنفعیّة.

فإذا قلنا: أنّ معنی الخیر، الأنفعیّة لم یرد قید: «ان احتاجوا» الّذی کان موجودا فی السّؤال فی الجواب وکان کلمة «نعم» بمعنی أصل التّجویز لا بمعنی تکرار عبارة السّؤال وجملته بل تکرار محمول الجملة وهو «یجوز» ویشهد علی القول بانّ المراد من الخیر، الأنفع مضافا إلی ظاهر کلمة: «الخیر» فی الرّوایة، روایة الحمیری الّتی تأتی تفصیلها فیما بعدُ ووردت فیها عبارة: «کان ذلک أصلح» فمعنی الأصلح هو الخیرُ والأنفع.

ولکن لیس لنا دلیلٌ علی عدم ورود الاحتیاج الّذی ورد فی السّؤال، فی الجواب لانّ ظاهر «نعم» تکرار جملة السّؤال بالمرّةِ لا المحمولُ فقط وهو «یجوز» علیهذا، لا تدلّ

ص: 344

الرّوایة علی المطلوبِ»(1).

اشکالات الشیخ الأعظم علی خبر جعفر بن حیان

اعترض الشیخ الأعظم علی خبر جعفر بن حیان بِخَمْسَةِ إشکالات.

الأوّل: ما مرّ من أنّ الدلیل أخص من المدعی بتقریب: «أنّ الغرض من الإستدلال بخبر جعفر بن حیّان إثبات جواز بیع الوقف لمجرّد کونه أنفع، سواء إنضمّت جهة اُخری _ من حاجة أو ضرورة شدیدة _ إلیه، أم لا. مع أنّ الخبر یدلّ علی إناطة الجواز بحاجة الموقوف علیهم أیضا، لأنّ قوله علیه السلام : «نعم» ناظر إلی الجواز فی مفروض السؤال وهو الحاجة، لکنه علیه السلام ق_یّده بکونه أصلح لهم. ومقتضاه توقف نفوذ البیع علی إجماع الأمرین، وبهذا یظهر عدم وفاء الخبر بإثبات المقصود.

نعم، لا بأس بالاستدلال به لمن یشترط الحاجة والأعودیة کابن سعید(2) والشهید(3) _ قدس سرهما _ .

هذا مع الغصِّ عن الشرط الآخر المذکور فی جوابه علیه السلام من اعتبار رضی الجمیع، وإلاّ فیکون جواز البیع دائرا مدار اُمور ثلاثة: الاحتیاج ورضا الجمیع والأعودیة. وعلی کلِّ حالٍ فلا تدلّ الروایة علی کون المناط فی جواز البیع الأعودیة بالاستقلال.

فإن قلت: یمکن إلغاء قید «الحاجة» لکونه مأخوذا فی السؤال، لا فی جواب الإمام علیه السلام ... وأمّا قید «رضی الکل» فهو إمّا ظاهر فی بیع تمام الوقف بمعنی رضا کل واحدٍ ببیع نصیبه، فلا دلالة فیه علی اعتبار الاِجتماع حتّی بالنسبة إلی بیع بعض الوقف... .

قلت: لا مجال لإلغاء القید هنا، لظهور «نعم» فی الجواز فی موضوع الحاجة، غایته زیادة الشرطین، لا تخطئة السائل فی أصل دخل الحاجة فی نفوذ البیع»(4).

الثانی: ما مرّ من «أنّه یمکن إرادة مطلق النفع من «الخیر» فی قوله علیه السلام : «وکان البیع

ص: 345


1- (1375) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/455 و 456.
2- (1376) الجامع للشرائع /372.
3- (1377) نزهة الناظر /74.
4- (1378) هدی الطالب 7/75 و 76.

خیرا لهم» فالمراد حینئذٍ: کون فعل البیع أرجح من ترکه، کما هو دیدن العقلاء الذین لا یُقدِمون غالبا علی فعلٍ إلاّ إذا کان أرجح من ترکه. ومن المعلوم أنّ الأعودیة بهذا المعنی ممّا لم یقل به أحد، لعدم کونها حینئذٍ شرطاُ تعبدیا، بل أمرا إرتکازیا عقلائیّا.

وبعبارة أُخری: المقصود من هذا الوجه إسقاط خبر جعفر عن الإعتبار بإبداء إحتمال آخر فی کلام الإمام علیه السلام لم یقل به أحد، فیشکل العمل به من جهة مخالفته للإجماع.

وتوضیحه: أنه علیه السلام عدل عمّا فرضه السائل _ من الحاجة إلی البیع _ إلی قوله علیه السلام : «إذا کان خیرا لهم». وهذه الجملة یحتمل کونها قیدا لجواز البیع، فتدل بمفهوم الجملة الشرطیة علی انتفاء الجواز بانتفاء الخیر، کما هو مبنی الاستدلال. ویحتمل کونها مبیِّنةً للموضوع بمعنی أنه علیه السلام جوّز بیعَ الوقف، ولم یعلّقه علی کونه أصلح بحال الموقوف علیه، وإنّما أتی بجملة «إذا کان خیرا» تمهیدا لذِکر الجواب، وهو «باعوا فی مورد حاجتهم» وتنبیها علی أن رعایة الخیر والصلاح یکون من قبیل الداعی الذی یلاحظه العقلاء فی معاملاتهم وأفعالهم الإختیاریة، حیث إن إقدامهم علی المعاملة مطلقا _ سواء أکان المبیع وقفا أو ملکا طلقا _ وترجیح الفعل علی الترک منوط عادةً برعایة النفع والمصلحة، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر الإرتکازی العقلائی لا یتوقف علی بیان الشارع.

وعلیه تکون هذه الشرطیة «إذا کان خیرا باعوا» نظیر الجمل الشرطیة المسوقة لبیان الموضوع، وقد تقرر عدم إنعقاد المفهوم لها، لکون السلب فیها بإنتفاء الموضوع، لا المحمول، فکأنّه علیه السلام قال: «إذا کان فی بیع الوقف نفعٌ لیس فی عدمه، فلیبیعوا، لأنّهم لا یُقدمون علی فعل إختیاری إلاّ أن یکون فیه الصلاح والخیر». ومعناه عدم کون النفع شرطا تعبُّدیّا لجواز بیع الوقف، بل هو إرشاد إلی أمرٍ إرتکازی.

وبناءً علی هذا الإحتمال یجوز بیع الوقف بمجرّد إقترانه بالمنفعة. وهذا مخالف للإجماع، لعدم إلتزامهم بکفایة مطلق النفع فی البیع، وإنّما یقع البحث فی جواز البیع إن کان أنفع بعد وجود النفع فهی وعدمه، هذا.

فإن قلت: یمکن منع احتمال إرادة مطلق الخیر والنفع من قوله علیه السلام : «خیرا لهم»

ص: 346

وذلک بقرینة سبق السؤال عمّا إذا کان البیع أصلح، فالمتحصل من الجواب إناطة الجواز بکون البیع أنفع من ترکه، وعدم کفایة مطلق الخیر الموجب لحدوث إرادة البیع وإختیاره علی ترکه.

وعلیه ینطبق جوابه علیه السلام علی ما نحن فیه من جواز بیع الوقف إن کان أنفع.

قلتُ: لا سبیل لمنع الإحتمال المزبور، إذ کما یمکن جعل کلمة «الأصلح» قرینةً علی المراد من الخیر، فکذا العکس أی قرینیة «الخیر ومطلق النفع» علی ما یراد من «الأصلح» ویکون الجواب حینئذٍ واردا مورد السؤال، ولیس أجنبیّا عنه.

وعلیه فلا شاهد لسدِّ باب الإحتمال المزبور، وهو موجب لطرح الخبر، لمخالفته للإجماع»(1).

الثالث: أنّ المراد من ««الخیر» _ بقرینة السؤال _ یمکن أن یراد به رفع الحاجة المفروضة فی کلام السائل، فیکون المسوِّغ للبیع حینئذٍ رفع حاجة الموقوف علیهم، لا کون البیع أعود لهم، فیکون ظاهر الروایة غیر مطابق للدعوی، فلا یمکن الإستدلال بها علیه.

وبعبارة أُخری: یحتمل فی قوله علیه السلام : «وکان خیرا باعوا» _ من جهة کونه مسبوقا بالسؤال عن حکم حاجة الموقوف علیهم وعدم کفایة غلّة الموقوفة لمؤونتهم _ إرادةُ رفع الحاجة المفروضة فی کلام السائل، لا زیادة المنفعة. فکأنّه علیه السلام قال: «وکان البیعُ وافیا بالحاجة باعوا» وهذه الحاجة محتملة لأمرین:

أحد هما: أن یکون احتیاج الموقوف علیهم إلی نفس ثمن الموقوفة لیُصرف فی شؤونهم، فیکون تجویز البیع ناظرا إلی کون التصرف فی نفس الثمن أنفع _ فی رفع الحاجة _ من إبقاء العین والإنتفاع بالغلّة غیر الوافیة لهم. بناءً علی هذا الإحتمال تصلح الروایة للإستدلال بها فی الصورة الخامسة الآتیة، وهی البیع لرفع الحاجة.

ثانیهما: أن یکون احتیاجهم إلی نفع زائدٍ لتفی الغلّة بمؤونتهم، بأن یکون الباعث

ص: 347


1- (1379) هدی الطالب 7/(78-76).

علی البیع تکمیل النفع حتّی یفی بها، وهذا ینطبق علی الصورة الرابعة من تبدیل العین بما یکون الإنتفاع به أزید.

ولیس الخبر ظاهرا فی الاِحتمال الثانی لیکون دلیلاً علی جواز البیع فی الصورة الرابعة، فیحتمل أن یراد به الإحتمال الأوّل، فیصیر مدلوله أجنبیّا عمّا نحن فیه، هذا»(1).

الرابع: إنّ الأصحاب أعرضوا عن خبر جعفر بن حیان لعدم الظفر علی القائل بمضمونها فلا یمکن الاستناد إلیه بجهة إعراض الأصحاب ویصیر موهونا.

الخامس: الخبر محمول علی الوقف المنقطع الآخر لا الوقف المؤبّد _ الذی نحن بصدد جواز بیعه هنا _ «وذلک لإقتصار الواقف _ کما ذَکَره السائل _ علی قرابة الأب والاُمّ ممّا ظاهره إنقطاع الوقف، وعدم تعرض الواقف لمثل قوله: «فإن انقرضوا فهی لذوی الحاجة من المسلمین». فالإقتصار علی ذکر الأعقاب یدل علی کون الوقف منقطعا مؤبّدا فلا تکون الروایة دلیلاً علی المدّعی، وهو بیع الوقف المؤبّد.

قال العلاّمة فی التذکرة والمختلف بعد نقل الخبر: «فإن مفهوم هذه الروایة عدم التأبید»(2)»(3).

ثمّ أجاب الشیخ لاعظم عن هذا الاشکال الأخیر بأنّ «اقتصار السائل _ فی مقام حکایة فعل الواقف _ علی ذِکر خصوص قرابة الأب وقرابة الاُم، وعدم تعقیبه بمثل «فإن انقرضوا... لا یشهد بانقطاع الوقف، لأعمیته منه، إذ قد یُقتصر فی المؤبّد علی ذِکر صنفٍ من الموقوف علیهم کالأولاد من دون تعیین مآل الوقف لو إنقرضوا.

ص: 348


1- (1380) هدی الطالب 7/79 و 80.
2- (1381) مختلف الشیعة 6/289؛ تذکرة الفقهاء 20/253؛ ونسبه صاحب المقابس إلی الفاضل المقداد وأبی العبّاس ابن فهد والصیمری أیضا، فراجع مقابس الأنوار، کتاب البیع، /50؛ التنقیح الرائع 2/329؛ المهذب البارع 3/67؛ غایة المرام 1/487؛ واستظهره صاحب الجواهر أیضا وإن عبّر عن الروایة بالمکاتبة، فراجع جواهر الکلام 23/599 (22/372 و 373).
3- (1382) هدی الطالب 7/80.

وحیث کان الإقتصار متعارفا فی کلا قسمی الوقف، أمکن التمسک بالإطلاق الناشی من ترک الاِستفصال، إذ لو إختلف حکمُ الوقف المنقطع _ فی جواز البیع عند الحاجة _ عن المؤبد کان المناسب أن یُکلّف السائل تعیین کون الوقف المزبور موقتا أو مؤبّدا. ولمّا لم یستفصل الإمام علیه السلام وبیّن الحکم بقوله: «نعم إذا رضوا کلّهم وکان خیرا لهم باعوا» کشفَ عن اتّحاد قسمی الوقف فی جواز البیع إن کان خیرا للموقوف علیهم.

وهذا الجواب أفاده المحقّق الثانی، وإرتضاه جمعٌ منهم صاحب المقابس، فقال: «ویحتمل أن یکون السکوت عن المرتبة الأخیرة العامة إحالة علی ظهورها، أو لعدم تعلق غرضٍ فی أوّل السؤال بذکرها. ومثل ذلک شائع فی الإستعمال. ولمّا کانت حکایة الحال محتملة، وترک الإستفصال فی الجواب، کان دلیلاً علی العموم، کما تقدّم عن المحقّق الکرکی(1). ولیس ببعید وإن کان ظاهر اللفظ یساعد الأوّل، وهو الإنقطاع»(2)»(3).

ولذا قال الشیخ الأعظم فی آخر کلامه: «وکیف کان ففی الاستدلال بالروایة _ خبر جعفر بن حیان _ مع ما فیها من الاشکال _ علی جواز البیع بمجرد الأنفعیة إشکال»(4).

الثانیة: مکاتبة الحمیری فی التوقیع المروی عن صاحب الزمان _ عجل اللّه تعالی فرجه الشریف _ أنّه کتب إلیه: روی عن الفقیه(5) فی بیع الوقف خبر مأثور: إذا کان الوقف علی قوم بأعیانهم وأعقابهم، فاجتمع أهل الوقف علی بیعه وکان ذلک لصالح لهم أن یبیعوه، فهل یجوز إن یشتری من بعضهم إن لم یجتمعوا کلهم علی البیع، أم لا یجوز إلاّ أن یجتمعوا کلّهم علی ذلک؟ وعن الوقف الذی لا یجوز بیعه؟

فأجاب: إذا کان الوقف علی إمام المسلمین فلا یجوز بیعه، وان کان علی قوم من

ص: 349


1- (1383) جامع المقاصد 9/70.
2- (1384) مقابس الأنوار، کتاب البیع /50.
3- (1385) هدی الطالب 7/81 و 82.
4- (1386) المکاسب 4/82.
5- (1387) فی وسائل الشیعة: عن الصادق علیه السلام .

المسلمین فلیبع کل قوم ما یقدرون علی بیعه مجتمعین ومتفرقین إن شاء اللّه(1)

هذه المکاتبة مرسلة سندا لأنّ أبامنصور الطبرسی لم یذکر سنده إلی الحمیری.

وأمّا تقریب دلالتها:
اشارة

إنّ قوله _ عجل اللّه تعالی فرجه الشریف _ : «فلیبع کلّ قومٍ ما یقدرون علی بیعه مجتمعین ومتفرقین إن شاء اللّه» یحتمل ثلاثة وجوه:

«أحدها: أن یکون تجویز بیع البعض لحصته من الوقف مشروطا بکونه أعود وأنفع للموقوف علیه. ومنشأ هذا الإحتمال کون جواب الإمام علیه السلام ناظرا للسؤال، وصدوره فی مورد فرض السائل أصلحیة البیع، لقوله: «وکان ذلک أصلح».

وعلیه فلا منافاة بین هذه المکاتبة وبین روایة جعفر المجوِّزة للبیع إذا کان أنفع وأصلح، فهما متوافقتان فی الحکم.

ثانیها: أن یکون تجویز بیع البعض مطلقا وغیر مقیّدٍ بکونه أنفع، لعدم ورود قید «الأصلح» فی جواب الإمام علیه السلام ، وإنّما ورد فی سؤال السائل، والعبرة بإطلاق الجواب، لإحتمال عدم دخل «الأصلح» فی جواز بیع کل واحدٍ من أهل الوقف حصّته.

وبناءً علی هذا الوجه یقع التنافی بین جواز البیع مطلقا _ سواء أکان أنفع أم لا _ وبین مفهوم الجملة الشرطیة فی قوله علیه السلام فی خبر جعفر «إذا رضوا کلهم وکان البیعُ خیرا لهم» لظهوره فی إنتفاء الجواز بإنتفاء رضا الکل، أو بإنتفاء خیریة البیع.

ویرتفع التنافی بتقیید إطلاق البیع _ فی المکاتبة _ بمفهوم روایة جعفر، ونتیجة التقیید إختصاص جواز البیع بکونه أنفع»(2).

ثالثها: الحمیری بعد فرض جواز بیع الوقف إذا کان أصلح للموقوف علیهم یسأل جواز الشراء منهم إن لم یجتمعوا کلّهم، أی جواز شراء حصة بعضهم أو أنّ الشراء لابدّ أن یکون من کلّهم دفعة واحدة؟

ص: 350


1- (1388) الاحتجاج 2/490 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 19/191، ح19، الباب 6 من .بواب کتاب الوقوف والصدقات.
2- (1389) هدی الطالب 7/72.

وأجابه الإمام علیه السلام بجواز الشراء منهم مجتمعین أم متفرقین، وبهذه الإجابة قررّه ما ذکره الحمیری من جواز البیع إذا کان أصلح للموقوف علیهم.

وهذا الوجه أحسن من سابقیه وبهذا التقریب تمت دلالة مکاتبة الحمیری علی الصورة الرابعة.

الاشکال علی دلالة مکاتبة الحمیری

قال الشیخ الأعظم: «وممّا ذکرنا [من الاشکال علی خبر جعفر بن حیان] یظهر الجواب عن روایة الحمیری»(1).

مراده: جریان الاشکال الثانی _ وهو إرادة مطلق النفع من کلمة «الأصلح» الواردة فی روایة الحمیری _ والاشکال الرابع _ وهو اعراض الأصحاب _ فیها.

الاشکالان المشترکان من الشیخ الأعظم علی الروایتین

الأوّل: «أن مقتضی عنوان المسألة والدلیل علیه إختصاص الثمن بالبطن الموجود. وهذا مخالف لما تقدم فی الصورة الاُولی من أن الموقوفة ملک فعلی للموجود وشأنی للمعدوم، ومقتضی المعاوضة الشرکة وتعلق حقّ المعدومین بالثمن علی حدٍّ تعلقه بالمثمن. وبهذا یظهر مخالفة الخبرین للقواعد المسلّمة، هذا»(2).

الثانی: لو سُلِّم دلالة الروایتین علی جواز البیع وصرف الثمن فی مؤونة الموجودین، کشف هذا التجویز عن ترخیص الشارع لهم فی إسقاط حقِّ الطبقات المتأخرة آنا قبل البیع، وبطلان الوقف، فیقع النقل علی العین المختصة بالموجودین، ولازمه إختصاص الثمن بهم، لعدم ما یوجب شرکة المعدومین فیه حینئذٍ.

ونظیرُ إسقاط حقّ اللاحقین ما ذکروه فی التملک الآنی فی تصرف ذی الخیار والواهب فیما یتوقف علی الملک، کما إذا باع الواهب ما وهبه للغیر، فإنّ مقتضی توقف البیع علی الملک عود المال إلی ملکه آنا _ وتحقق الرجوع عن الهبة _ لیقع البیع فی

ص: 351


1- (1390) المکاسب 4/82.
2- (1391) هدی الطالب 7/86.

ملکه»(1).

وهذا مستحیل لأنّ البیع علی المال المشترک یقتضی أن یکون الثمن مشترکا بینهم لا مختصا بالبطن الموجود.

فذلکة الکلام فی نقد دلالة المکاتبة

إنّ المکاتبة «لیست فی مقام بیان ما هو المجوّز لبیع الوقف بل فی مقام بیان أنّ أیّ وقف یصحّ بیعه بعد عروض المسوّغ وهی ساکتة من بیان ما هو المجوّز والمسوّغ. وبعبارة واضحة أنّ الروایة فی مقام بیان أنّ بیع الوقف مع فرض وجود المسوّغ له هل یصحّ من بعض الموقوف علیهم أو یعتبر فی جوازه اجتماعهم علیه، وأمّا ما یکون مجوّزا أو مسوّغا فلیست فی مقام بیانه وعلی فرض التسلیم إنّما تدلّ علی جواز بیع الوقف مطلقا لأنّ الأصلحیة إنّما ذکرت فی کلام السائل فلا توجب تقییدا.

سلّمنا کونها قیدا للحکم إلاّ أنّ المراد بها علی ما یظهر من إسناد البیع إلی أرباب الوقف کون البیع أصلح بحالهم لا بحال جمیع البطون، وبیع الوقف وتملّک ثمنه یکون أعود وأنفع لهم دائما، فالمستفاد من الروایة علی هذا جواز بیع الوقف للبطون الموجودة فی جمیع الموارد، فیحنئذ لا تکون أخصّ من أدلّة منع بیع الوقف بل یکون بینهما التباین فتتعارضان، وبدیهی أنّ تلک الروایات المانعة عن بیع الوقف متقدّمة علی روایة الحمیری لضعفها سندا.

مضافا إلی أنّ انقلاب النسبة یجعل تلک الروایات المانعة أخصّ من روایة الحمیری، وذلک لأنّ الروایات المانعة بعد ما خصّصت بما یدلّ علی جواز بیع الوقف عند خرابه وعدم إمکان الانتفاع به مع بقائه تختصّ بغیر صورة خراب الوقف فتکون أخصّ فتقیّد بها روایة الحمیری.

ولو أغمضنا النظر عن جمیع ذلک أنّ الروایة تدلّ علی شیء لم یفت به أحد ویقطع

ص: 352


1- (1392) هدی الطالب 7/87.

بخلافه وهی عبارة عمّا ذکر الشیخ(1) قدس سره من أنّ الظاهر منها أن یکون الثمن بعد البیع ملکا للموجودین من الموقوف علیهم وأن یتصرّفوا فیه کیف شاؤوا، فعلیه لا یمکن الاستدلال بها فی المقام کما لا یخفی فافهم»(2).

وهذا تمام الکلام فی الصورة الرابعة والحمدللّه.

الصورة الخامسة
اشارة

«أن یلحق الموقوفَ علیهم ضرورةٍ شدیدةٍ»(3). أی حاجةٌ ضروریةٌ.

وقد أفتی بجواز بیع الوقف فی هذه الصورة أرباب الکتب التالیة: «المقنعة(4) والانتصار(5) والمراسم(6) والنهایة(7) والمبسوط(8) وفقه الراوندی(9) والوسیلة(10) والواسطة(11) علی ما حکی(12) عنها والغنیة(13) وفی الانتصار(14) والغنیة(15) وظاهر

ص: 353


1- (1393) المکاسب 4/82.
2- (1394) التنقیح فی شرح المکاسب 2/292.
3- (1395) المکاسب 4/83.
4- (1396) المقنعة: فی الوقوف والصدقات /652.
5- (1397) الانتصار: فی بیع الوقف /468 و 469.
6- (1398) المراسم: فی أحکام الوقوف والصدقات /197.
7- (1399) النهایة: فی الوقوف والصدقات /600.
8- (1400) المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/287.
9- (1401) فقه القرآن للراوندی: فی الوقف وأحکامه 2/293.
10- (1402) الوسیلة: فی أحکام الوقف /370.
11- (1403) لأبی جعفر محمّدبن علیّ بن حمزة المشهدی الطوسی، ولا یوجد کتابه لدینا.
12- (1404) نقله عناه الشهید فی غایة المراد: فی شرائط العوضین 2/25.
13- (1405) غنیة النزوع: فی الوقف /298.
14- (1406) الانتصار: فی بیع الوقف /468 و 469.
15- (1407) غنیة النزوع: فی الوقف /298.

المبسوط(1) وفقه القرآن(2) الإجماع علی ذلک. وفی النهایة(3) وجامع الشرائع(4) وتعلیق الإرشاد(5) زیادة کون البیع أعود، وفی المبسوط(6) وفقه القرآن(7) والوسیلة(8) تقیید الحاجة بکونها شدیدة لا یمکن القیام معها به. وظاهر الأوّلین الإجماع علیه کما عرفت. ونفی عن هذه القول البعد فی جامع المقاصد(9). وفی مجمع البرهان أنّه یدلّ علیه الأخبار والاعتبار(10)، لکنّه بعد ذلک تأمّل فیه. وقد استجوده فی غایة المراد(11) لأنّه استجود العمل بالروایة(12) الدالّة علیه وعوّل فی الدروس(13) علی ما رجّحه فی غایة المراد»(14).

ولکن المسألة ذات قولین وجماعة من الأصحاب لم یستثنِ هذه الصورة من أدلة منع بیع الوقف کالإسکافی والصدوق والقاضی وابن إدریس الحلی والمحقّق والعلاّمة والصمیری وغیرهم.

دلیل القائلین بالجواز

1_ الإجماع الوارد فی کلمات الشریف المرتضی والسیّد ابن زُهْرَةَ وظاهر الشیخ

ص: 354


1- (1408) المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/287.
2- (1409) فقه القرآن للراوندی: فی الوقف وأحکامه 2/293.
3- (1410) النهایة: فی الوقوف والصدقات /600.
4- (1411) لم نجد هذه العبارة فی الجامع للشرائع لا فی باب البیع ولا فی الوقف، فراجع.
5- (1412) لم نعثر علیه فی حاشیة الإرشاد (حیاة المحقّق الکرکی وآثاره) 9/339 و 486، فراجع.
6- (1413) المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/287.
7- (1414) فقه القرآن للراوندی: فی الوقف وأحکامه 2/293.
8- (1415) الوسیلة: فی أحکام الوقف /370.
9- (1416) جامع المقاصد: فی الوقف 9/70.
10- (1417) مجمع الفائدة والبرهان: فی شرائط العوضین 8/169.
11- (1418) غایة المراد: فی شرائط العوضین 2/30.
12- (1419) وسائل الشیعة 19/190، ح8، باب 6 من أبواب کتاب الوقوف والصدقات.
13- (1420) الدروس الشرعیة: فی الوقف 2/279.
14- (1421) مفتاح الکرامة 21/690.

والراوندی کما مرّ.

ویرد علیه: أوّلاً: «أنّ الخروج عن قاعدة عدم جواز بیع الوقف منوط بحجة شرعیة کما تحققت فی الصورة الاُولی. ولکن الإجماعین المنقولین قاصران عن تخصیص کبری «لا یجوز بیع الوقف» ولا أقلّ من شبهة کونهما مدرکیّین، لإحتمال إستناد المجمعین _ لو سُلِّم إتفاق الفقهاء علی الجواز _ إلی مثل روایة جعفر [بن حیان] القاصرة دلالةً.

وثانیا: أنّ مجوِّزی البیع للضرورة الشدیدة یخصّون الثمن بالبطن البائع، مع إقتضاء المعاوضة إشتراکه بین الموجود واللاحق. فالخروج عمّا یقتضیه المبادلة _ بالإجماعین المزبورین _ مشکل.

وثالثا: منع صغری الإجماع، لعدم إتفاق الأصحاب علی الجواز، ومعه کیف تتجه دعوی الإجماع علیه؟ وهذا المنع مذهب جماعة من القدماء کالاسکافی، ونسب إلی الصدوق والقاضی والحلی، وکذا المتأخرین کالمحقّق والعلاّمة وغیرهم.

ورابعا: أن المنع لیس فتوی جماعةٍ معدودة حتّی لا تقدح فی إجماع السیّدین، بل هو فتوی الکلّ، علی ما إدّعاه الحلّی، وحینئذٍ یتعارض إجماع الجواز مع إجماع المنع، وحیث لا مرجّح لأحدهما فیتساقطان، ولا یبقی حجة علی جواز البیع»(1).

وخامسا: «ما ثبت فی محلّه من أنّه لا یمکن الاعتماد علی إجماعات السیّد المرتضی وابن زهرة _ رحمهما اللّه تعالی _ .

وسادسا: إنّ هذا الإجماع إجماعٌ منقول، ولا یمکن من خلاله إثبات السبب، فضلاً عن أنّه إذا کان مثبتا للمسبّب عُدَّ إخبارا حدسیّا عن رأی الإمام علیه السلام ، وقد ثبت فی مبحث حجّیة الخبر أنّ أدلّة حجّیة الخبر لا تشمل الأخبار الحدسیّة»(2).

2_ خبر جعفر بن حیان(3)

ص: 355


1- (1422) هدی الطالب 7/94 و 95.
2- (1423) العقد النضید 5/29.
3- (1424) وسائل الشیعة 19/190، ح8.

المتقدم آنفا(1) ومرّ ضعف إسناده والاحتمالات الستة فیه منّا والاشکالات السبعة علیه من الشیخ الأعظم فی دلالته فلا نعیدها.

ومضافا علیها قال الشیخ الأعظم فی الرد علیه: «أنّ ظاهر الروایة أنّه یکفی فی البیع عدم کفایة غلّة الأرض لمؤونة سنة الموقوف علیهم، کما لا یخفی. وهذا أقلّ مراتب الفقر الشرعی. والمأخوذ فی عبائر من تقدّم من المجوّزین اعتبار الضرورة والحاجة الشدیدة، وبینها وبین مطلق الفقر عموم من وجه؛ إذ قد یکون فقیرا ولا یتّفق له حاجة شدیدة، بل مطلق الحاجة؛ لوجدانه من مال الفقراء ما یوجب التوسعة علیه. وقد یتّفق الحاجة والضرورة الشدیدة فی بعض الأوقاف لمن یقدر علی مؤونة سنته، فالروایة بظاهرها غیر معمول بها.

مع أنّه قد یقال: إنّ ظاهر الجواب جواز البیع بمجرّد رضا الکلّ وکون البیع أنفع ولو لم یکن حاجة»(2). ولم یقل به أحد.

دلیل القائلین بالمنع

استدلوا بدلیلین:

«الدلیل الأوّل: اقتضاء الدلیل العام والنصّ الخاصّ عدم جواز بیع الوقف، فإطلاق عموم قوله: «الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها»، ونصّ قوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقف» یدلاّن علی ممنوعیّة بیع الوقف، سواءً عرض للموقوف علیهم الحاجة الشدیدة أم لا.

الدلیل الثانی: المتّفق علیه أنّ العین الموقوفة _ سواءً التزمنا بأنّ حقیقة الوقف التملیک علی البطون مرتّبا، أو الحبس علی البطون _ تعدّ ملکا غیر طلق، ممّا یعنی أنّ الملکیّة لم تختصّ بها الطبقة الموجودة، بل هی ملکیّة فعلیّة للموجودین وشأنیّة للطبقات اللاّحقة، أو أنّ للجمیع الحقّ فیها، فبیع العین الموقوفة لعروض الحاجة الشدیدة للبطن

ص: 356


1- (1425) راجع هذا المجلد صفحة 340.
2- (1426) المکاسب 4/83.

الموجود، یعدّ سببا لتضییع حقّ البطون المتأخّرة، ولذلک یعدّ بیعها باطلاً.

وخلاصة الکلام: ثبت أنّ الحکم الصحیح فی هذه الصورة، هی حرمة بیع الوقف لحاجة الموقوف علیهم وضعا وتکلیفا»(1) والحمدللّه العالم بأحکامه.

الصورة السادسة
اشارة

«أن یشترط الواقف بیعه عند الحاجة، أو إذا کان فیه مصلحة البطن الموجود أو جمیع البطون، أو عند مصلحةٍ خاصّةٍ علی حسب ما یشترط»(2).

و«هذه الصورة من الصور الصعبة والمهمّة، ولذلک یقتضی المقام أوّلاً تحدید المسألة، وشرح ما یتعلّق بموضوع النزاع فیها.

أمّا المسألة فهی ما إذا قام الواقف حین وقف العین بإدخال شرطٍ ضمن الإنشاء، یجیز بذلک بیع العین إذا عرضت حاجة شدیدة للموقوف علیهم، أو حصلت مصلحة اُخری.

وأمّا النزاع فیدور حول تصحیح هذا الشرط، وعن أنّه هل یعدّ ذلک مسوّغا لبیع العین الموقوفة أم لا؟»(3).

الظاهر «أنّ المقصود من شرط البیع هو أن یشترط الواقف فی صیغة الوقف سلطنة الموقوف علیهم علی إبطال الوقف بالبیع عند حاجتهم الشدیدة إلی ثمنه، أو إذا إقتضته مصلحةُ البطن الموجود خاصة أو مصلحة البطون، کأن یقول: «وقفتُ الدار علی ذریتی وشرطتُ علیهم بیعها إن کان أعود لهم أو إحتاجوا إلی ذلک، أو إقتضت مصلحتهم تبدیل الوقف بعین اُخری. أو إذا آلت إلی الخراب» أو نحو ذلک ممّا یکون بنفسه _ ومع الغضِّ عن الشرط _ مجوِّزا للبیع.

ولیس المقصود من الشرط جواز بیعها لنفس الواقف إذا إحتاج إلی ثمنها. وذلک لبطلان شرط الرجوع فی الصدقة المتقرب بها إلیه تعالی.

ص: 357


1- (1427) العقد النضید 5/30 و 31.
2- (1428) المکاسب 4/84.
3- (1429) العقد النضید 5/32.

الثانی: الظاهر عدم تعرُّض مَن سبق العلاّمة لحکم هذه الصورة، بشهادة عدم ورودها فی الأقوال المنقولة أوائل المسألة، ولم ینسبها السیّدُ العاملی(1) قدس سره إلی مَن تقدّم علی العلاّمة. نعم، نسب صاحبُ المقابس(2) إلی الحلبی(3) جواز إشتراطه فی الوقف المنقطع لا المؤبّد، فراجع»(4).

الأقوال فی المسألة

الأقوال فی المسألة خمسة ابتداءً.

«الأوّل: نفوذ الشرط وجواز البیع، ذهب إلیه العلاّمة فی الإرشاد(5)، والشهیدان(6)، وهو مختار الشیخ الأعظم(7) قدس سره وجماعة کأصحاب مفتاح الکرامة(8) والمقابس(9) والجواهر(10) قدس سرهم .

الثانی: الإشکال فی صحة هذا الشرط کما هو صریح القواعد.(11)

الثالث: تفصیل المحقّق الثانی بین کون الشرط عروض المسوِّغ للبیع فیجوز، وبین مطلق المصلحة فلا یجوز.(12)

الرابع: فساد الشرط، وعدم جواز البیع بحالٍ، کما هو مذهب المانع عن بیع الوقف

ص: 358


1- (1430) مفتاح الکرامة 21/707.
2- (1431) مقابس الأنوار، کتاب البیع /63.
3- (1432) الکافی فی الفقه /325.
4- (1433) هدی الطالب 7/96.
5- (1434) إرشاد الأذهان 1/455.
6- (1435) الدروس الشرعیة 2/279؛ غایة المراد 2/452.
7- (1436) المکاسب 4/86.
8- (1437) مفتاح الکرامة 21/708.
9- (1438) مقابس الأنوار، کتاب البیع /63.
10- (1439) الجواهر 29/240 (28/113).
11- (1440) القواعد 2/395.
12- (1441) جامع المقاصد 9/73.

مطلقا أو فی خصوص المقام، بزعم منافاة هذا الشرط لمقتضی الوقف وحقیقته، أو مخالفته للکتاب والسنة»(1).

والخامس: فساد الشرط مع کونه مفسدا للوقف أیضا أعنی سرایة الفساد من الشرط إلی العقد.

ولکن أنت تری بأنّ التفصیل لیس بتفصیل حقیقة لأنّ «حاصل التفصیل جواز البیع عند الشرط فی الموارد التی یجوز بیعه فیها لأنّ الشرط علی هذا یکون مؤکّدا لجواز البیع، وعدم الجواز فی الموارد التی لا یجوز بیعه لکون الشرط باطلاً، وهو کماتری لیس تفصیلاً فی المقام، لأنّ مورد الکلام أن یستند جواز البیع إلی نفس الشرط کما لا یخفی»(2).

وبعد نفی استقلال القول الثالث ترجع الأقوال إلی أربعة.

ما المراد من الشرط هنا؟

المقصود من الشرط فی المقام «معنی أعمّ من الشرط المصطلح؛ أی مطلق القرار والجعل، فإنّ الوقف [إن کان من] منن الإیقاعات لا یحتاج إلی القبول، وإن کان مع نفوذ قراره لا یجوز للموقوف علیهم التخطّی عنه، ولیس دلیل نفوذه أدلّة نفوذ الشرط إلاّ علی بعض الوجوه، بل الدلیل هو قاعدة تسلّط النّاس علی أموالهم(3) وقوله علیه السلام : «الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها»(4).

نعم، قد یقف علی شخص أو أشخاص، ویشترط علیهم أن یبیعوه عند عروض عارض، ویعملوا فی ثمنه بما اشترط، فلابدّ فی نفوذه علیهم من القبول إن قلنا: بخروج الشرط فی مثله عن کونه من الشروط الابتدائیّة کما لا یبعد، وحینئذٍ یکون دلیل النفوذ

ص: 359


1- (1442)هدی الطالب 7/97.
2- (1443) التنقیح فی شرح المکاسب 2/294.
3- (1444) عوالی اللآلی 1/222، ح99 و 1/457، 198؛ بحارالأنوار 2/272، ح7.
4- (1445) الفقیه 4/176، ح620؛ تهذیب الأحکام 9/129، ح555؛ وسائل الشیعة 19/(176-175)؛ کتاب الوقوف والصدقات، الباب 2، ح1 و 2.

أدلّة الشروط»(1).

هذه الصورة علی اختلاف المبانی
مبنی المختار

بناءً علی مبنی المختار من المخالفة الذاتیة والاختلاف الماهوی بین البیع والوقف، هل اشتراط بیع الوقف عند الحاجة یکون منافیا لمقتضی العقد فیحکم ببطلانه؟

یمکن أن یقال: «إنّ الشرط إن کان بنحو أن یکون البدل أیضا کالمبدل وقفا فهذا لیس مخالفا لمقتضی العقد بل الشرط حینئذ یکون مقیّدا لإطلاق الوقف من جهة أنّ مقتضی إطلاقه تحبیس العین عن الحرکة بالأسباب الاختیاریة، والشرط أیضا موافق لهذا المقتضی إلاّ من جهة خاصّة وهی عبارة عن جواز تبدیل العین وجعل بدلها کالمبدل وقفا، وهذا أیضا لا مانع منه کما ذکرناه مرارا وفی خصوص ذکر کلام صاحب الجواهر قدس سره .

وإن کان الشرط بنحو أن یصیر ثمن العین الموقوفة بعد بیعها ملکا طلقا للموجودین من الموقوف علیهم وأن یتصرّفوا فیه کیف شاؤوا فهو فاسد لأنّه مخالف لمفهوم المبادلة المعوّض من جمیع الجهات، ولمّا کان المعوّض ملکا غیر طلق فلابدّ أن یکون العوض أیضا هکذا، نعم لو کان مفاد الشرط بطلان الوقف قبل البیع وکون الوقف ملکا طلقا للموجودین منهم ثمّ یبیعونه کما هو الظاهر من الشرط فلا یکون مخالفا لمقتضی الوقف إلاّ من حیث التأبید، ولکن الظاهر أنّ التأبید لیس مقتضی عقد الوقف ومن مقوّماته بل هو أمر آخر ثبت بالإجماع، فحینئذ إن کان الشرط شرطا فی الأزمان بأن یشترط جواز بیع الوقف بعد عشرین سنة وبعبارة اُخری أن یوقف عشرین سنة فهذا هو القدر المتیقّن من مورد الإجماع القائم علی بطلان الوقف المنقطع، وإن کان الشرط راجعا إلی تضییق دائرة الوقف بالنسبة إلی الموقوف علیهم أی یکون موضوع الوقف ممّا ینقطع لا محالة بأن یوقف العین لزید ولعقبه إلی المرتبة الخامسة مثلاً، وهذا هو محلّ الخلاف بین الأعلام قدس سرهم والمشهور ذهبوا إلی بطلانه.

ص: 360


1- (1446) کتاب البیع 3/245 للسیّد الخمینی رحمه الله .

ولکن المیرزا [النائینی(1)] قد اختار فی المقام صحّة الوقف إن کان الشرط بنحو جعل الخیار للموقوف علیهم بأن یجعل الشیء وقفا دائما ولکنّه جعل للموقوفات علیهم الخیار فی فسخه بأن یکون لهم الفسخ متی شاؤوا، فهذه الصورة لا إجماع فیها علی البطلان بل ذهب جمع إلی الجواز، ولیس مخالفا لمقتضی العقد أیضا بل مقتضی عموم قوله علیه السلام «الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها» نفوذ هذا الشرط، فلم یثبت کون شرط البیع عند الحاجة مخالفا لمقتضی عقد الوقف سواء اُرید به تبدیله وجعل بدله وقفا أو بیعه وأکل ثمنه»(2).

ویمکن تصحیح هذا الاشتراط علی مبنی المختار بتقسیم الشروط المجعولة علی قسمین:

1_ القسم الأوّل: الشرط المخالف لحقیقة المشروط «فهو شرطٌ باطلٌ، والحاکم به هو العقل؛ لأنّ القصد الجدّی للإنشاء _ عقدا أو إیقاعا _ یتعارض مع الشرط والالتزام بما ینافی مع المشروط، لأنّه التزامٌ بالمتناقضین.

وبعبارة أُخری: إنّ الشرط المجعول یُتَصَوَّرُ علی قسمین:

فتارةً: یکون الشارط ملتفتا إلی منافاة الشرط مع المشروط.

واُخری: غیر ملتفت إلی ذلک.

وعلی الأوّل: فإنّه یستحیل تحقّق الشرط مع الإنشاء المتضمّن له، لأنّ الإنشاء أمرٌ قصدیّ وبدونه لایتحقّق الإنشاء، ولایترتّب علی المُنشأ آثاره الشرعیّة والقانونیّة.

وأمّا علی الثانی: فإنّه یمکن أن یتحقّق من المنشأ القصد الجدّی بدوا، لإمکان قصده العقد والشرط لغفلته عن المنافاة، لکن یستحیل تأثیر هذا المُنشَأ خارجا لقیام التقابل بین المشروط والشرط. ولذلک یستحیل علی الشارع الحکم بتحقّقهما ومن ثمّ إمضائهما، لاستحالة تحقّق المتناقضین، فضلاً عن عدم شمول أدلّة الصحّة لهذا المُنشَأ، إمّا

ص: 361


1- (1447) منیة الطالب 2/(289-288).
2- (1448) التنقیح فی شرح المکاسب 2/295 و 296.

لأحدهما علی التعیین فإنّه ترجیح بلا مرجّح، أو لأحدهما مردّدا لا علی التعیین فإنّه باطلٌ، إذ لا صغری له، فیبطل العقد والشرط معا.

وبالجملة: إنّ العقد والشرط باطلان فی حالتی الالتفات وعدمها، مع فارق أنّه فی الاُولی یبطلان بالذّات وفی الثانیة بالعَرَض»(1).

2_ القسم الثانی: الشرط الذی لم یخالف لحقیقة المشروط بل مخالف لإطلاقه فلا دلیل عقلی یمنع عن صحة هذا الشرط، بل إذا کان علی نحو تقیید العموم الأزمانی فی الوقف المؤبَّد أو علی نحو تقیید حکم عدم جواز بیعه فیه أو علی نحو جواز إبطال الوقف المؤبّد بالبیع إذا شرطه الواقف، وإبطال الشیء یوکّد ثبوته _ علی ما ذهب إلیه المحقّق الإصفهانی(2) قدس سره _ ، ففی جمیع هذه الفروض یمکن الحکم بصحة الشرط.

نعم، إذا استلزم هذا الشرط المخالف لإطلاق المشروط مخالفة حکم شرعی لزومی یصیر باطلاً لمخالفة الشرط حینئذ مع الکتاب والسنة، ومن المعلوم بطلان کلّ شرط مخالف لهما و«لکنّه لیس مثل الشرط المخالف لمقتضی العقد فإنّه فاسد ومفسد للعقد لکونه مناقضا له، بل یبتنی فساد العقد بالشرط المخالف للسنّة علی ما سیأتی فی باب الشروط من أنّ الشرط الفاسد هل یکون مفسدا للعقد أم لا؟ فعلی الأوّل یکون مفسدا للوقف فی المقام، وأمّا علی المختار من عدم کون الشرط الفاسد مفسدا لأنّ الشرط التزام آخر فلا یکون مفسدا للوقف. والعجب من المیرزا [النائینی] قدس سره حیث لم یتعرّض لکون الشرط مخالفا للسنّة واکتفی بالجهة الاُولی أی عدم کونه مخالفا لمقتضی العقد، اللهمّ إلاّ أن یقال کما قلناه آنفا إنّ قوله علیه السلام «لا یجوز شراء الوقف» إلخ لیس حکما تعبّدیا بل امضاءً لما أنشأه الواقف، فعلیه یکون الوقف الکذائی مشمولاً لقوله علیه السلام «الوقوف» الخ وغیر ذلک من أدلّة الامضاء»(3).

ویؤیّد مقالتنا فی المقام صحیحة عبدالرحمن بن الحجاج قال: بعث الیَّ أبوالحسن

ص: 362


1- (1449) العقد النضید 5/34 و 35.
2- (1450) حاشیة المکاسب 3/150.
3- (1451) التنقیح فی شرح المکاسب 2/296.

موسی علیه السلام بوصیّة أمیرالمؤمنین علیه السلام ، وهی: «بسم اللّه الرّحمن الرّحیم، هذا ما أوصی به وقضی به فی ماله عبداللّه علی _ ابتغاء وجه اللّه لیولجنی به الجنّة، ویصرفنی به عن النّار، ویصرف النّار عنّی یوم تبیضّ وجوه وتسودّ وجوه _ أنّ ما کان لی من مالٍ بینبع یعرف لی فیها وما حولها صدقة، ورقیقها، غیر أنّ رَبَاحا وأبَا نَیْزَرَ وجُبَیْرا عتقاءٌ، لیس لأحدٍ علیهم سبیلٌ، فهم موالیَّ یعملون فی المال خَمْسَ حِججٍ(1)، وفیه نفقتهم ورزقهم وأرزاق أهالیهم، ومع ذلک ما کان لی بوادی القُری کلّه من مال بنی فاطمة، ورقیقها صدقة، وما کان لی بدیمة وأهلها صدقة، غیر أنّ زُرَیْقا له مثل ما کتبت لأصحابه، وما کان لی بأُذَیْنَةَ وأهلها صدقة، والفُقَیْرَیْنِ کما قد علمتم صدقةٌ فی سبیل اللّه.

وإنّ الّذی کتبتُ من أموالی هذه صدقة واجبة بَتْلَةٌ، حیّا أنا أو میّتا، یُنْفَقُ فی کلّ نفقة یُبْتَغی بها وجه اللّه فی سبیل اللّه ووجهه، وذوی الرّحم من بنی هاشم وبنی المطلب والقریب والبعید؛ فإنّه یقوم علی ذلک الحسن بن علی یأکل منه بالمعروف، وینفقه حیث یراه اللّه _ عزّوجلّ _ فی حِلٍّ مُحَلَّلٍ لا حرج علیه فیه، فإن أراد أنْ یبیع نصیبا من المال فیقضی به الدّین، فلیفعل إن شاء، لا حرج علیه فیه، وإنْ شاء جعله سَرِیَّ المِلْکِ، وإنّ وُلْدَ علیٍّ وموالیهم وأموالهم إلی الحسن بن علی، وإن کانت دار الحسن بن علیّ غیر دار الصّدقة، فبدا له أن یبیعها، فلیبع إن شاء، لا حرج علیه فیه، وإن باع فإنّه یَقْسِمُ ثَمَنَها ثلاثةَ أثلاثٍ، فیجعل ثُلُثا فی سبیل اللّه، ویجعل ثُلُثا فی بنی هاشم وبنی المطّلب، ویجعل الثّلثَ فی آل أبی طالب، وإنّه یضعه فیهم حیث یراه اللّه.

وإن حدث بحسنٍ حدثٌ وحسینٌ حیٌّ، فإنّه إلی الحسین بن علیّ، وإنّ حسینا یفعل فیه مثل الّذی أمرتُ به حَسَنا، له مثل الّذی کتبتُ للحسن، وعلیه مثل الّذی علی حسن، الحدیث.(2)

وسندها صحیح ودلالتها واضحة لأنّ الأموال «هذه صدقة واجبة بَتْلَةٌ» أی منقطعة

ص: 363


1- (1452) الحِجَجُ بکسرِ الحاءِ المهملةِ: جَمْعُ حِجَّةٍ، وهی السَّنَةُ.
2- (1453) الکافی 13/448، ح7 (7/49)، ورواها فی وسائل الشیعة 19/119، ح3، الباب 10 من أبواب کتاب الوقوف والصدقات.

عن صاحبها _ کما فی القاموس(1) _ ولکن أمیرالمؤمنین علیه السلام جعل لولده الإمام الحسن المجتبی علیه السلام الخیار فی أن یبیع الوقف ویؤدّی منه دیونه أو أن یبیع الموقوفة ثمّ تقسیم ثمنها أثلاثا وصرفه فی الموارد المذکورة.

ولکن الشیخ الأعظم علّق علیها بقوله: «والسند صحیح والتأویل مشکل والعمل أشکل»(2).

ولکن یرد علیه: بعدم الاشکال فی العمل بالصحیحة لأنّها کما عرفت موافقة للقواعد وقد ذهب إلیه جمع من الأعلام من زمن العلاّمة إلی العصر الحاضر، فلا یثبت إعراض المشهور عنها حتّی یوجب وهنها، فلابدّ من الأخذ بها والعمل طبقها.

هذا کلّه علی مبنی المختار.

وأمّا علی مبنی عدم المخالفة الذاتیة بین البیع والوقف

فالأمر واضح وتصحیح الاشتراط ظاهر _ کما أنّ المشهور علی هذا المبنی وتبعهم الشیخ الأعظم _ وقد استدلّ بصحة هذا الاشتراط بالوجوه الثلاثة:

1_ عمومات أدلة الوقف:

نحو: «عموم قوله علیه السلام : «الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها» یدلّ علی أنّ إمضاء الشارع تابعٌ لکیفیّة إنشاء الواقف إطلاقا وتقییدا ومشروطا، فهذا النصّ بمفرده کافٍ لإثبات صحّة الوقف المشروط بشرط البیع ونفوذه»(3).

2_ عمومات أدلة الشرط:

نحو: عموم «قوله علیه السلام : «المؤمنون عند شروطهم» لما ثبت أنّ حقیقة الشرط هی الالتزام المربوط بالالتزام الآخر، فتدلّ الروایة علی أنّ المؤمن لا ینفکّ عن شرطه، وأنّ هناک ملازمة قائمة بین المؤمن وشرطه، وأنّه إذا شرط المؤمن فلیس علیه أن ینفکّ عنه.

والنتیجة الحاصلة من ذلک تحقّق الوجوب التکلیفی والوضعی، بمعنی أنّ هنا

ص: 364


1- (1454) القاموس المحیط 2/1276 مادة بتل.
2- (1455) المکاسب 4/88.
3- (1456) العقد النضید 5/32.

حکمان:

حکم تکلیفی یدلّ علی حرمة مخالفة الشرط.

وحکم وضعی دالّ علی صحّة شرطه ونفوذه»(1).

3_ صحیحة عبدالرحمن بن الحجاج الماضیة.

وبالجملة: علی هذا المبنی صحة الاشتراط مقبولةٌ واللّه العالم.

الصورة السابعة
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «أن یؤدّی بقاؤه إلی خرابه علما أو ظنا وهو المعبّر عنه ب_ «خوف الخراب»»(2).

وهی علی قسمین:

الأوّل: إذا کان البقاءُ مؤدیّا إلی

الأوّل: إذا کان البقاءُ مؤدیّا إلی الخراب علی وجه سقوط المنفعة بالکلیة.

الثانی: إذا کان کذلک علی وجه نقص المنفعة لا سقوطها بالکلیة.
اشارة

ذهب الشیخ الأعظم فی الأوّل إلی جواز بیع الوقف وفی الثانی إلی عدمه.

الدلیل علی جواز البیع فی القسم الأوّل من هذه الصورة
1_ لزوم متابعة غرض الواقف: وغرضه بقاء العین إلی یوم القیامة

1_ لزوم متابعة غرض الواقف: وغرضه بقاء العین إلی یوم القیامة، والمفروض أنّ غرض الواقف لا یتحقّق إلاّ ببیع الوقف وتبدیله بعین اُخری فی المقام.

یرد علیه: یجب العمل علی طبق غرض الواقف إذا دخل فی انشاء الوقف بدلالة کلام الواقف، وأمّا الفرض الذی لا یدلّ علیه کلام الواقف الداخل فی انشائه نحو دواعی الواقف وتمنیّاته وآماله وعلله الغائیة لا یجب العمل علی طبقها، بل فرق بین الوقف وغیره من العقود والایقاعات، ولا یدخل فی الالزام والالتزام.

والحاصل: لا دلیل علی وجوب العمل علی طبق غرض الواقف کغیره من العقود والایقاعات.

ص: 365


1- (1457) العقد النضید 5/32 و 33.
2- (1458) المکاسب 4/88.

نعم، فی باب أوامر المولی تجب التبعیّة عن غرض المولی.

«والفرق بین باب الأوامر وبین العقود الإیقاعات أنّ العقود والإیقاعات من الأُمور التّعهدیّة وقَبِلَ کلُّ واحدٍ من الطّرفین، المسؤولیة وهو المیزانُ، وأمّا فی باب أوامر المولی فمولویّة المولی کانت داعیةً لمراعاة میول المولی وأغراضه سواءٌ علم ذلک بالأمر أو بالغرض»(1).

2_ یستلزم الحکم بعدم جواز البیع مع تضییع المال وفساده:

2_ یستلزم الحکم بعدم جواز البیع مع تضییع المال وفساده: العین الموقوفة فی هذه الصورة إذا لم تبع یلزم منه إضاعة المال وفساده، لأنّ عدم تبدیلها بالأحسن یوجب خرابها وفسادها ومن المعلوم أنّ تضییع المال وإفساده یکون منهیّا عنه فی الشریعة المقدسة.

کما قال العلاّمة: «أنّ الغرض من الوقف استیفاء منافعه وقد تعذّرت فیجوز إخراجه عن حدّه تحصیلاً للغرض منه، والجمود علی العین مع تعطیلها تضییع للغرض، کما لو عطب الهدی ذبح فی الحال وان اختصّ بموضع، فلمّا تعذّر المحل ترک مراعاة الخاص لتعذّره»(2).

وتبعه ابن فهد الحلی(3) رحمه الله .

ویرد علیه: حرمة تضییع المال وإفساده فی الشریعة المقدسة من الواضحات، ولکنّها علی من له التسلط علی المال بالبیع والشراء والصلح والهبة ونحوها ولیست علی الجیران والأقرباء والأقوام، والتسلط علی بیع مال الوقف هنا أوّل الکلام فلا یمکن اثبات السلطة علی بیع مال الوقف بهذا الدلیل.

3_ الحقوق الثلاثة: المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم

3_ الحقوق الثلاثة: المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم(4) وهی:

أ: حق اللّه تعالی، ب: حق الواقف، ج: حق البطون المتأخرة من الموقوف علیهم.

ص: 366


1- (1459) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/488.
2- (1460) مختلف الشیعة 6/288.
3- (1461) المهذب البارع 3/66.
4- (1462) المکاسب 4/35.

وبیع العین الموقوفة فی هذا القسم من الصورة السابعة لا یوجب التضیق هذه الحقوق الثلاثة:

«أمّا عدم ذهاب حقّ الواقف بالبیع فهو أنّ نظر الواقف، بقاءُ الملک منه أبد الدّهر من باب: «الباقیاتُ الصّالحاتُ».

ومن المعلوم: أنّ نظر الواقف بقاءُ شخص العین إذا کانت باقیةً فإذا لم یمکن حفظ شخص المال الموقوف فالأمر دائرٌ بین ذهاب شخص المال والنّوع إذا لم یبع الموقوف علیهم، أو بیعه وحفظ النّوع.

فمن المعلوم: أنّ الأمر الثّانی کان مُتعیّنا فبیع العین لیس موجبا لذهاب حقّ الواقف ولا ینازعه حقّ الواقفِ.

وأمّا بقاء الموقوف علیهم فالفرض أنّ الموقوف علیهم انّما هی الطّبقة الموجودة من النّسلِ واللاّحقةِ.

وأمّا کون حقّ اللّه محفوظا فلأنّ حقّ اللّه هو عدم جواز بیع الوقف کما صرّحت به الأدلّة من قوله علیه السلام : «لا یجوزُ بیعُ الوقفِ وشِرائهُ...» والمتبادر من هذه الأدلة أنّ المراد من عدم جواز بیع الوقف، الوقف الّذی لم یکن فی معرض الخراب وینصرف فرض خراب الوقف من أدلّة عدم جواز شراء الوقف ولیس له إطلاقٌ حتّی یشمل الصّورة المفروضة»(1).

ولکن یرد علیه: أوّلاً: لیس للحقوق الثلاثة حقیقة «یعنی لیست حقوقٌ متعدّدةٌ فی قبال الحکم مثل حقّ الخیار وحقّ الشّفعة وحقّ التّحجیر الّذی کان هو مرتبةٌ ضعیفةٌ من الملکیّة الاعتباریّةِ فلا تکون للّه ملکیّةٌ اعتباریةٌ بل هو مالکٌ حقیقةً ومالکُ الملوک فالملکیّةُ الاعتباریّة، غیر المالکیّة التّکوینیّة وکذلک لیس الموقوف علیهم اللاّحقة، مالکین لانّهم لم یکونوا موجودا بعدُ.

نعم: ما یکون هنا موجودا انّما هو إنشاء الواقف وکان ممضاةً لقوله علیه السلام :«أَوْفُوا

ص: 367


1- (1463) تحقیق و تقریرات فی باب البیع والخیارات 4/489.

بِالْعُقُودِ» و «الوقوفُ علی حسب ما یوقفها أهلها» یعنی ما أنشأهُ الواقف، لازم الوفاء ولازمُ العمل مثل کلّ عقدٍ وایقاعٍ ولیس أزید من هذا شیءٌ هنا حتّی یقال: «للّه حقٌّ وللموقوف علیهم حقٌّ وللواقف حقٌّ» وکان هو مرتبةٌ ضعیفةٌ من الملک.

وثانیّا: قوله رحمه الله : انصراف قوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقف» عن فرض المسألة(1) فلا یصحّ لعدم منشأٍ للانصراف لانّ الانصراف الّذی کان مانعا من الاطلاق، کان له موردانِ:

الأوّل: فی موردٍ کانت فیه کثرة الاستعمال، یوجب الانصراف عن الاطلاق إلی الغالب فیه الاستعمال وهذا هو المترائی کثیرا فی کلمات الفقهاء.

الثانی: للانصراف، ما یکون مبناه علی القرائن الحالیّة سواءٌ کانت القرائن، قرائن قطعیّةً أو کان محتمل القرینیّة وبعبارةٍ اُخری کان قدر متیقّنٌ فی مقام التّخاطب وبهذا النّوع من الانصراف، ینصرف الاطلاق إلی مورد السّؤال ولو لم یکن الموردُ مُخصِّصا فی أکثر الموارد ولکن فی بعض الموارد، خصوصیّاتٌ یحتمل دخلها بحیث یمنع عن الاطلاق.

وهذا النّوع من الانصراف، یصّح فی الصورة الأولی ما إذا خرب الوقف فعلاً فینصرف قوله علیه السلام : «لا یجوزُ شراءُ الوقف» کما صرّح به الشّیخ رحمه الله لا لأجل کثرة الاستعمال لأنّه لیست فی الخراب کثرةٌ بل لما کان مورد الکلام، ما یکون مورد الوقف عامرا وکانت فیه الغَلّة ولیس هو إلاّ الوقف المعمور وأمّا الوقف المخروبةُ فلا غلّة فیه ولا یصّح قوله علیه السلام : «لا تدخل الغلّة فی ملکک».

ولکن هذا الانصراف، لا یجری فیما نحن فیه لأنّ ما نحن فیه، یکون معمورا بعدُ وکانت فیه الغلّة ولکن ستخرب فلا یَجئی منشأ الانصراف الّذی قلناه فی الصورة الأولی فی هذا الفرض.

وثالثا: بعد تسلیم انصراف قوله علیه السلام : «لا یجوزُ شراء الوقف» عن فرض المسألة فنقول:

ص: 368


1- (1464) المکاسب 4/90.

انّ دلیل عدم جواز بیع الوقف لا ینحصر فی قوله علیه السلام : «لا یجوزُ شراء الوقفِ» بل أدلّة نفوذ الوقف مثل: «الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها» من جملة تلک الأدلّة بل من أقوالها ودلیل: «لا یجوز شراء الوقف» ممّا یتفرّع علیه حیث قلنا سابقا: انّ هذا النّهی، لیس نهیا استقلالیّا بل یدخل تحت مفهوم العقد أو من لوازمه؟

فمجرّد انصراف: «لا یجوز شراء الوقف» مع انّه لیس فیه اطلاقٌ، لا یکفی فی جواز البیع بل تلزم ملاحظة أدلّةِ نفوذ بیع الوقف فکفایة الشیخ الأعظم رحمه الله فی الجواز بمجرّد قوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقف» وعدم التّعرض بأدلّة نفوذ الوقف، لا یخلو عن اشکال»(1).

4_ لیس لأدلة نفوذ الوقف وعدم جواز بیعه إطلاق:

بتقریب: «لیس لدلیل نفوذ الوقف ولقوله علیه السلام : «لا یُباعُ ولا یُوهبُ» إطلاقٌ فی جمیع الأحوال حتّی فی ما إذا خرب وفی ما إذا کان مُشْرِفا للخراب وحتّی، إذا کان بقائه سفهیّا غیر عقلائیّ وکان اضاعةً للمال وذلک لأنّ عدم جواز البیع أی «لا یباع ولا یوهب» انّما هو لبقاء العین وکونه ذا المنافع أبدا.

فالمرادُ من قول الواقف: «لا یباع ولا یوهب» وقول الشّارع فی إمضائه: «الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها» وقوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقف» کان تفریعا علیه ولها معنیً واحدٌ یعنی ینفذ الشّارع، ما انشأه الواقف وما انشأه الواقف علی حدّ القضایا الطّبیعیّة فالمراد من قوله علیه السلام : «لا یباع ولا یوهب» بقاء العین لاستفادة الموقوف علیهم وهذا فی مقابل الصّدقة المنتقلة ولکن لیس له إطلاقٌ بحیث لو بقی، یلزم له اضاعة المالِ.

فهذا القول علی حدِّ قول القائل: «السّیفُ قاطُعٌ والسّمُ قاتلٌ» فحینئذٍ لا یبعد أن یکون مراد من قال: بعدم جواز البیع، عدم اضاعة مال الوقف شرعا یعنی لیس فی قول الواقفٍ، الاطلاق حتّی بحیث لو استلزم من بقاء العین، الاضاعةُ أیضا، لا یُباع ولا یُوهبُ.

فبناءً علیه، قول الواقف: «لا یباع ولا یوهب» الدّال علی بقاء العین للاستفادةِ، انّما

ص: 369


1- (1465) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/490 و 491.

تصریحٌ لغرضه الأصیل له، الانتفاع وبقاء العین مقدّمةً لبقاء المنفعة وتبع لها.

هذا کما فی باب تعارض الوصف والاشارة حیث صرّحوا بتقدیم الأصیل لغیره، وکما فی باب الخطاء فی التّطبیق فی باب العبادات من تقدیم الأصیل علی الفرع وعین هذا قد یقال فی باب تعدّد المطلوب یعنی کان شیءٌ فی باب العقد هو الأصلُ وشیءٌ آخر کان بعنوان الفرعِ ویلزم حفظ الفرع مع حفظ الأصل.

فبناءً علیه، إذا عقدنا عقدا ذا شرط ولم یعمل بشرطه، وقع العقدُ صحیحا لانّ الأصل هو العقد کان محفوظا.

فلو عقد عقدا علی الموصوف وتخلّف وصفه، مثلاً قلنا: «بِعْتُ الفرس العربیّ» فبان انّه لیس بعربیٍّ قالوا بصحّته لانّه من باب تعدّد المطلوب وکان الأصلُ وهو بیع الفرس، کان محفوظا وانّما تخلّف فرعه وهو وصفه غایة الأمر کان هنا إختیارُ الفسخ.

وفی باب الوقف کذلک یعنی فیما إذا لم یکن للواقفِ، النّظر الأصلیّ إلی العین وانّما عمدة نظره إلی بقاء المنفعة المستمرّة للموقوف فالأصلُ، هو حفظ المنفعة وحفظ العین، طریقٌ لها فی مثل هذه الموارد قال الفقهاءُ بتعدّد المطلوب حتّی قالوا فی باب الأوامر أیضا فی مثل قوله علیه السلام : «إذا امرتکم بشیءٍ فأتوا منه ما استطعتم...» ونحوه من الموارد.

کلّ ذلک، دلیلُ تعدّد المطلوب وکذلک فی باب العقود أیضا مثل باب تخلّف الشّرط والوصف وتخلّف الأجل، کان تعدّد المطلوب أی کانت العقودُ صحیحةً غایة الأمر، کان لها خیار التّخلف وذلک لانّه من باب تَعدّدِ المطلوب وما نحن فیه أیضا من هذا القبیل یعنی فیما إذا کان غرض الواقف من حَبسِ العین ووقفه، حِفظُ المنافع للطّبقات، کان هذا من قبیلِ تعدّد المطلوبِ.

ولا یخفی علیک انّ هذا الغرض، لیس خارجا من مَدلول العقد حتّی یقال بأنّ حفظ هذا الغرض لا یلزم بل یکون من قبیل تعدّد المطلوب وکانت له نظائر متعدّدةٌ کما ذُکر بعضُها سابقا.

بالجملة، تلزم ملاحظة ماهیّة الوقف وملاحظة أنّ تعدّد المطلوب هل یُستفادُ منه أم لا؟ وهو حینئذٍ، دلیل حفظ غرض الواقف ولیس المرادُ منه أنّ کلّ غرضِ الواقف یلزم

ص: 370

حفظه بل یلزم حفظُ غرضٍ «یکونُ من باب تعدّد المطلوب»(1).

وهذا الدلیل الأخیر تام فنحکم به علی جواز بیع الوقف فی القسم الأوّل من الصورة السابعة تبعا للشیخ الأعظم حیث صرّح بجواز بیعه وقال: «القسم الأوّل من الصورة السابعة الذی جوّزنا فیه البیع»(2). واللّه سبحانه هو العالم.

القسم الثانی من الصورة السابعة
اشارة

وهو إذا کان البقاء مؤدیّا إلی الخراب علی وجه تقلیل المنفعة ونقصها لا سقوط العین من المنفعة رأسا.

ذهب الشیخ الأعظم قدس سره فی هذا القسم إلی عدم جواز البیع واستدلّ بالأدلة التالیة:

1_ عموم قوله علیه السلام : لا یجوز شراء الوقوف

قال الشیخ الأعظم: «وأمّا المنع... فلعموم قوله علیه السلام : لا یجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلة فی ملکک(3)، فإنّ ترک الاستفصال فیه عن علم المشتری بعدم وقوع بیع الوقف علی بعض الوجوه المجوزة وعدمه _ الموجب لحمل فعل البائع علی الصحة _ یدلّ علی أنّ الوقف مادام له غلّة لا یجوز بیعه»(4).

مراده: أنّ الإمام علیه السلام لم یستفصل من السائل عن کونه عالما بأنّ البائع أقدم علی بیعها مع حصول المجوز للبیع أو عدمه، ومقتضی ترک الاستفصال تمامیة الإطلاق فی النهی عن شراء الوقف مادام له غلة ینتفع الموقوف علیهم بها.

نقده: لیس مورد صحیحة ابن راشد «مورد الاستفصال والسّؤال والجواب لانّ علی ظاهر الرّوایة، عُلِمَ وضع الحال علی المشتری والإمام علیه السلام فلیس هذا، محتمل الوجهین حتّی یقال: بانّ الإمام علیه السلام ترک الاستفصال... .

[وظهر من جملة] «لا أعرف لها ربّا» فعلم من هذا انّ البایع، لم یکن الموقوف

ص: 371


1- (1466) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/(493-491).
2- (1467) المکاسب 4/95.
3- (1468) وسائل الشیعة 19/185، ح1، صحیحة أبی علی ابن راشد.
4- (1469) المکاسب 4/92.

علیهم بل کان شخصا ثالثا ومسألة الاختلاف انّما هو بین الموقوف علیهم فعلیه، لیس هذا مورد ترک الاستفصال بین کون العلم باختلاف الموقوف علیهم أو الشّک فیه؟ [أو هل یؤدی إلی تقلیل المنفعة أم لاّ؟]

بالجملة: یُعلمُ من هذه الرّوایة انّ هذا، ملکٌ غصبیٌّ والبائعٌ غیر الموقوف علیهم فلیس موردا لاستفصال الإمام والسُّؤال عن السّائل بانّ الموقوف علیهم الّذین باعوا علیک هل کان بینهم اختلافٌ أم لا؟ [أو هل یؤدی إلی تقلیل المنفعة أم لا؟]

تأیید للشیخ الأعظم

یمکن تأیید مقالة الشیخ الأعظم بما ذکره السیّد الیزدی إلی عدم جریان أصالة الصحة فی بیع الوقف وقال: «إذا باع الموقوفُ علیه أو الناظرُ العینَ الموقوفةَ ولم یعلم أنّ بیعه کان مع وجود المسوّغ أو لا، فالظاهر عدم جریان قاعدة الحمل علی الصحة...»(1).

والوجه: فی عدم جریان أصالة الصحة فی بیع الوقف بخلاف نظائره من بیع الوکیل والوصی والولی، أنّ أیادیهم کانت مستقلة لأنّهم متصرفون فی الملک مستقلاً وقول المتصرف معتبرٌ «بخلاف ید المتولّی علی الوقف حیث أنّ یده، یدٌ فرعیٌّ بل تثبیت ید المتولّی انّ هذا الملک، کان وقفا ومن حکم الوقف انّه لا یجوزُ بیعه إلاّ بمجوّزٍ ولم یجعل المتولّی لأجل البیع بل لأجل حفظ الوقف والتّعمیر وتقسیم الوجوه وغیر ذلک.

بالجملة، الید فی الوقف بمعنی اثبات الوقفیّة ومِنْ حکم الوقف عدم جواز بیعه إلاّ بمجوّز والید، لا تثبتُ کون بیعها جایزا له لأنّ ید المتصرّف مبنیٌّ علی حفظ الوقف لا علی إتلاف الوقف والنّقل والانتقال بخلاف الولیّ والوکیل والوصیّ.

ولذا صرّح السیّد(2) رحمه الله انّ: ید المتولّی کید الودعیِّ فی الحفظ وکانت یده، ید اِستیمانٍ فکما انّ دَعوی الودعیّ فی إجازة البیع فی مورد الودیعة یحتاجُ إلی دلیلٍ فکذلک فی الوقف.

ص: 372


1- (1470) العروة الوثقی 6/400، مسألة 63.
2- (1471) العروة الوثقی 6/401.

ثمّ ذکر السیّد(1) رحمه الله فی ذیل هذه المسألة، مسألةً: لا تخلو بینهما عن تهافتٍ وهی انّ احدا کان متصرّفا للملک ثمّ بان انّ هذا الملک، کان وقفا قبل خمسین عاما ووقع البیع علی هذا الملک الموقوف.

صرّح السیّد رحمه الله بانّ هذا، ملک المتصرّف لتعارض الید الفعلیّة واستصحاب الحال فی ما مضی والمعلومُ فی أشباهه ونظائره أنّ الید الفعلیّة فی الملکیّة، مقدّمةٌ علی استصحاب الحال القبلیِّ.

نعم: لو اقرّ ذو الید، ینقلب المنکر ویکونُ مدّعیا فلا تقدّم الید علی الاستصحاب»(2).

تَأْیِیْدُ التَّأْیِیْد: نعم، «کل معاملةٍ کانت مقسما للحلال والحرام أو مقسما للصّحیح والفساد وکان قسمٌ منه فاسدا وقسمٌ منه صحیحا لو دار الأمرُ بینه وبین الصّحیح والفساد، یحمل علی الصّحة وأمّا المعاملةُ الّتی کانت محرّمةً وباطلةً لو خُلِیَّ وطبعها فلا یجوز الحمل علی الصّحة کما إذا شرب أحدٌ مایعا ونحن شککنا فی أنّ هذا المایع هل هو خمرٌ أو فقّاعٌ محرّمٌ أم لا؟ یحمل فعله علی الصّحة وامّا إذا علمنا انّه شرب الخمر ولکن نحمل ان یکون الموردُ من مواردِ جواز شرب الخمر کما إذا کان مریضا وکان فی معرضِ التّلف وعلاجه ینحصر فی شراب الخمر فلا یحمل فعله علی الصّحة کما إذا علمنا انّ أحدا زَنی مع ذات البعل أو غیر ذات البعل ولکن ادّعی الزّانی انّی کنت مجبورا مکرها علی الزّنا فلا یحمل فعله علی الصّحة وهو یضرّ فی عدالته.

وبیع الوقف أیضا من هذا القبیل لانّ بیع الوقف، لا یجوزُ لو خُلِّیَ وطبعَه والمجوّزُ لبیعه لیس علی نحوٍ ینقسم علی الفاسد والصّحیح بل اُستثنی منه مواردُ.

فالحمل علی الحلیّة کما فی قوله علیه السلام : «کلّ شیء لک حلال» والأشیاء کلّها علی هذا حتّی تستبین لک غیره أو تقوم به البیّنه، انّما هو فی الکلّیات [لا(3)] الّتی کانت طبعها

ص: 373


1- (1472) العروة الوثقی 6/401، مسألة 64.
2- (1473) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/499.
3- (1474) زیادة یقتضیها السیاق.

الأوّلی، الحرمة واُسْتُثِنیتْ منها الصّورةُ النّادرةُ والدّلیلُ علی ذلک أنّ اصالة الصّحة من الاصول العُقلائیّة وبناء العقلاء کان دَلیلاً لبّیا ویجب الاقتصارُ فی الدّلیل اللّبیِّ علی القدر المتیقّن.

ولذا لم یثبت ولم یحرز هذا الأصل فی شیء من ذلک الوقف وشرب الخمر والزّنا وغیرها لو لم یثبت العدم»(1).

نعم یمکن أن یناقش علی السیّد الیزدی بوجود التهافت بین المسألتین کما مرّ.

والحاصل: ناقشنا استدلال الشیخ الأعظم بعموم قوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقوف» لعدم جواز البیع ولکن فی طیّ استدلاله مقال تام لابدّ من قبوله وهو عدم جریان أصالة الصحة فی بیع الوقف واللّه سبحانه هو العالم.

2_ عموم قوله علیه السلام : الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها

2_ عموم قوله علیه السلام : الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها(2)

بتقریب: الواقف یحبس ماله مؤبدا ولم یتعرّض لصورة تقلیل منفعة العین ونقصها، فالعین تکون وقفا علی حسب ما یوقفها أهلها ولا یجوز بیعها.

ردّه: ذهب الشیخ الأعظم هنا(3) إلی دلالة «الوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها إن شاء اللّه» علی منع البیع فی هذا القسم من الصورة السابعة، ولکن منع فی الصورة الأولی من صور جوازبیع الوقف دلالته علی المنع «لأنّه مسوق لبیان وجوب مراعاة الکیفیة المرسومة فی إنشاء الوقف ولیس منها عدم بیعه، بل عدم جواز البیع من أحکام الوقف وإن ذُکر فی متن العقد، للاتفاق علی أنّه لا فرق بین ذکره فیه وترکه»(4).

ومراده هناک أنّه یدلّ علی مراعاة کیفیة وقف الواقف من الشرائط والخصوصیات والقیود ولا یدلّ علی عدم جواز بیع الوقف لانّ عدم جواز البیع لا یدخل فی مفهوم الوقف وشرائطه وخصوصیاته وقیوده،فهو خارج عن مدلول قوله علیه السلام : «الوقوف تکون علی

ص: 374


1- (1475) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/497.
2- (1476) وسائل الشیعة 19/175، ح1، صحیحة الصفار.
3- (1477) المکاسب 4/92.
4- (1478) المکاسب 4/61.

حسب ما یوقفها أهلها». وکأنّ هذا تهافت فی کلامه قدس سره .

3_ عموم قوله علیه السلام : صدقة لاتباع ولا توهب حتّی یرثها اللّه الذی یرث

3_ عموم قوله علیه السلام : صدقة لاتباع ولا توهب حتّی یرثها اللّه الذی یرث السموات والأرض(1)

بتقریب: أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام ذکر فی وقف داره فی المدینة فی بنی زُرَیق هذه الجملة وأخذها فی صیغة وقفه علیه السلام ، ویستفاد من عموم هذه الجملة أنّ الوقف وجب أن یبقی حتّی یرثه وارث السموات والأرض فلا یجوز بیعه فی هذا القسم من الصورة السابعة.

ویرد علیه: قد عرفت(2) وجود التهافت فی کلام الشیخ الأعظم(3) ذیل هذه الصحیحة فی الأدلة المانعة عن جواز بیع الوقف ولکن تمسک بها هنا(4) للمنع من البیع فی القسم الثانی من الصورة السابعة. هذا أوّلاً.

وثانیا: هذه الجملة مذکورة فی صیغة وقف أمیرالمؤمنین علیه السلام ولا تدلّ علی أنّ کلّ وقفٍ کان له هذا الحکم.

وثالثا: لم یرد فی الصحیحة کلمة «یترک» الواردة فی کلام الشیخ الأعظم(5) المستدلّ بها، اللهم إلاّ أن یقال أنّه قدس سره نقلها بالمعنی لا باللفظ کما هو الظاهر.

ورابعا: الجواب من عموم هذه الصحیحة هو ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره عن عموم قوله علیه السلام : «الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها» فی الصورة الاولی من أنّ عدم جواز البیع لا یدخل فی مفهوم الوقف، «وإن ذکر فی متن العقد، للإتفاق علی أنّه لا فرق بین ذکره فیه وترکه»(6).

ص: 375


1- (1479) وسائل الشیعة 19/187، ح4، صحیحة ربعی بن عبداللّه.
2- (1480) راجع هذا المجلد صفحة 215.
3- (1481) راجع المکاسب 4/34.
4- (1482) المکاسب 4/92.
5- (1483) المکاسب 4/92.
6- (1484) المکاسب 4/61.
4_ الاستصحاب
اشارة

(1)

بتقریب: أنّ استصحاب عدم جواز بیع الوقف یجری فی هذا القسم الثانی إذا شککنا جواز بیعه، حیث أنّه قبل طرو قلة المنفعة لا یجوز بیع عین الموقوفة وبعدها نشک فی جواز البیع فنستصحب عدم جواز بیعها.

ومن المعلوم أنّ جریان الاستصحاب هنا مبنیٌّ علی جریانه فی الشبهات الحکمیة کما یجری فی الشبهات الموضوعیة، وإن منعه بعض.

وقد وجّه هذا الاستصحاب بتوجیهات ثلاثة(2) قد اغمضنا عن ذکرها لمایلی من الردّ علیه.

ویرد علیه: مع الشک فی أنّ الأدلة المانعة من جواز بیع الوقف هل یجری فی هذا القسم من الصورة السابعة أم لا، لا یصل النوبة إلی جریان استصحاب عدم المنع، بل یجری العمومات الواردة فی المعاملات نحو قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» وقوله عزّوجلّ: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، لأنّ مع فرض عدم دخول المنع من البیع فی الوقف کما علیه الشیخ الأعظم(3) _ کما مرّ _ أو الشک فیه، تصل النوبة إلی جریان العمومات من غیر رادعٍ، ومع جریانها لا تصل النوبة إلی استصحاب عدم جواز بیع الوقف.

تَوُهُّمٌ وَدَفْعُهُ

«ولا یتوهمّ انّ هذا، یدخل فی المسألة المعروفة وهی ما إذا خصّص عامٌّ بمُخصِّصٍ فی زمانٍ هل یرجع بعد انقضاء هذا الزّمان إلی استصحاب هذا المُخصِّص أو یرجع إلی عموم العامِّ؟ فقوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» عامٌّ خرج عنه خیارُ الغبن أو خیار العیب فی الآن الأوّل ویُشّک فی بقاء الخیار فی الآن الثّانی، بناءً علی انّ الخیار هل هو فوریٌّ أو یستمرّ؟ قال بعضٌ: القدر المتیقنّ من الخیار، الآن الأوّل وفی الآن الثّانی یرجع إلی عموم قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ولکن الشیخ الأعظم، لم یقبل إطلاق هذا وأسّس

ص: 376


1- (1485) المکاسب 4/93.
2- (1486) راجع إن شئت العقد النضید 5/(72-66).
3- (1487) المکاسب 4/61.

قاعدةً علی هذا، فی تنبیهات الاستصحاب(1) [و موضوع الکلام فیه: ما إذا ورد عام مطلق من حیث الزمان، بأن دلّ علی استمرار الحکم فی جمیع الأزمنة إلی الأبد، ثمّ خصص ببعض أفراده فی زمان معین، وشک بعد انقضاء زمان الخاص فی حکم الفرد الخاص فی أنّه محکوم بحکم الخاص أم لا؟ فهل یستصحب حکم الخاص أو یتمسک بالعموم؟

وقد حکم الشیخ قدس سره بالتفصیل بین ما إذا لوحظ الزمان فی العام أفرادا وحصصا متعددة، بحیث یکون کلّ فرد من أفراد العام محکوما بأحکام متعددة بتعدد آنات الزمان وقِطعه. وبین ما إذا لوحظ الزمان قطعة واحدة لإستمرار الحکم، ولا عموم إلاّ بلحاظ الأفراد دون الأزمان. فقال بجریان الاستصحاب فی نفسه فی الثانی وعدم کونه موردا لاصالة العموم. بخلاف الأوّل، فانه مورد لأصالة العموم دون الاستصحاب(2)].

ولعلّ مقصودُ الشیخ الأعظم رحمه الله هذا المطلب بان یکون عامٌّ مثل: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، خرج منه بیع الوقف فی زمانٍ حیث قال علیه السلام : «لا یجوزُ شِراءُ الوقف» فکان ذلک تخصیصا فی قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإذا شُکَّ فی الزّمان حین عروض [قلة المنفعة] فالمورد، موردُ الرّجوع إلی استصحاب حکم المُخصِّصِ فلیس مورد الرّجوع إلی حکم العامّ.

بالجملة، قد یتوهّم انّ استصحاب الشیخ الأعظم فی عدم جواز بیع الوقف، مبنیٌّ علی التّحقیق الّذی ذکره رحمه الله فی الفرائد(3) من کون الزّمان إن کان مُکثِّرا أو قیدا، یرجع إلی عموم العامِّ فی صورة الشّک وإن کان ظرفا فیرجع إلی إطلاق المُخصِّص.

ولکنّه مدفوعٌ بأنّ هذا، شکٌّ فی أصل التّخصیصِ، لا شکّ فی دوامِ التّخصیص وذلک لانّ قوله علیه السلام : «لا یجوزُ شِراءُ الوقفِ»، لیس تخصیصا فی عموم: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بل مؤیّدٌ له إذ الوقف عقدٌ من العقود وقد شرط فیه: «ان لا یباع و...» فلیس عدم جواز بیع

ص: 377


1- (1488) فرائد الاصول 3/274.
2- (1489) منتقی الاصول 6/303.
3- (1490) فرائد الاصول 3/274.

الوقف، تخصیصٌ فی عموم: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بل مُؤیّدٌ له لانّ قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» أیضا یدلّ علی عدم الجواز، إذ الوقفُ حبسٌ أبدیٌّ «فَاُوفِ» بهذا العقد الّذی کان حبسا مؤبّدا، لا ینافی الحبس.

فقوله علیه السلام : «لا یجوز شراء الوقف» لیس تخصیصا فی «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» حتّی یقال: أنّ حالة عروض الاختلاف بین الموقوف علیهم، شَکٌّ فی استمرار التّخصیصِ»(1) [ویجوز الرجوع فیه إلی الاستصحاب].

القول المختار فی القسم الثانی من الصورة السابعة

أقول: بعد ما مرّ منّا فی القسم الأوّل من الصورة السابعة من جواز بیع الوقف، لأنّ نظر الواقف فی الوقف إلی استمرار المنفعة وجریانها ودرّها لا إلی بقاء العین ولو لم تکن لها منفعة، وعلی هذا الأساس إذا کان بقاء العین مؤدیّا إلی تقلیل المنفعة ونقصها بحیث هذه المنفعة القلیلة لا تعدّ منفعة هذه العین عرفا فیأتی الدلیل السابق ونحکم بجواز البیع حینئذٍ.

وأمّا إذا کان بقاء العین یؤدی إلی قلة المنفعة بحیث هذه المنفعة تعدّ منفعة هذه العین فی العرف وأهله یعدّونها منفعة العین ولکن المنفعة قد تقلّل وقد تکثر، فالمنفعة جاریة مستمرة فلا یجوز بیع العین الموقوفة.

فالجواز یدور مدار جریان المنفعة واستمرارها عرفا لا عقلاً، بحیث لا یحکم العرف بتضیع المال الوقف واللّه سبحانه هو العالم. وسیأتی آنفا(2) الاستدلال بصحیحة علی بن مهزیار(3) للحکم بالجواز فی هذا القسم فانتظر.

صور الثامنة والتاسعة والعاشرة
الصورة الثامنة: أن یقع بین الموقوف

الصورة الثامنة: أن یقع بین الموقوف علیهم اختلافٌ لا یؤمن معه تلف المال أو النفس وإن لم یعلم أو یظنّ بذلک.

ص: 378


1- (1491) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/506 و 507.
2- (1492) راجع صفحة 382 من هذا المجلد.
3- (1493) وسائل الشیعة 19/188، ح6.

فإنّ الظاهر من بعض العبارات السابقة جوازه لذلک، خصوصا من عبّر بالاختلاف الموجب لخوف الخراب.

الصورة التاسعة: أن یؤدّی الاختلاف

الصورة التاسعة: أن یؤدّی الاختلاف بینهم إلی ضررٍ عظیم من غیر تقییدٍ بتلف المال، فضلاً عن خصوص الوقف.

الصورة العاشرة: أن یلزم فسادٌ یستباح
اشارة

الصورة العاشرة: أن یلزم فسادٌ یستباح منه الأنفس»(1).

وفی الواقع هذه الصور الثّلاثُ ترجع إلی صورة واحدة وهی اختلاف الموقوف علیهم فی مال الوقف بحیث یؤدی إلی الضرر وقد خرجت الصور الثلاث من بیان کیفیة الضرر وتحدیده أو التعبیر عنه إذ قد ینتهی الضررُ إلی حدّ تلف المال أو النفس _ وهی الصورة الثامنة _ وقد ینتهی إلی ضرر عظیم _ وهی الصورة التاسعة _ وقد ینتهی إلی حدّ یستباح به النفوس _ وهی الصورة العاشرة _ ، والحکم بالجواز فی الصور الثلاث هو فتوی المشهور.

قال السیّد العاملی رحمه الله : «وممّا جوّز فیه بیعه عند خوف خرابه لخُلف بین أربابه الشرائع(2) فی موضع منها والکتاب [القواعد(3)] والتحریر(4) والإرشاد(5).

وممّا جوّز فیه إذا أدی بقاؤه إلی خرابه التحریر(6) وقد قیّد فی التلخیص(7) کالکتاب [القواعد] لخُلف بین أربابه. وقال فی اللمعة: إذا أدّی إلی خرابه لخُلف بین أربابه فالمشهور الجواز(8). فلیلحظ هذا فإنّ المصرّح بذلک قبله إنّما المصنّف، فلیکن معناه إذا

ص: 379


1- (1494) المکاسب 4/88 و 89.
2- (1495) شرائع الإسلام: فی لواحق الوقف 2/220.
3- (1496) قواعد الأحکام 2/395.
4- (1497) تحریر الأحکام الشرعیة: فی أحکام الوقف 3/316.
5- (1498) إرشاد الأذهان: فی أحکام الوقف 1/455.
6- (1499) تحریر الأحکام الشرعیة: فی عقد البیع 2/279.
7- (1500) تلخیص المرام: فی الوقف /152.
8- (1501) اللمعة الدمشقیة: فی عقد البیع وآدابه /112.

خیف خرابه لخُلف أربابه فیرجع إلی ما قبله، وقد زید فی الکتاب(1) والتهذیب(2) والاستبصار(3) والشرائع(4) کون البیع أعود. ونحو ذلک ما فی موضع من المفاتیح(5). وفی التنقیح إذا آل إلی الخراب لأجل الاختلاف بحیث لا تنتفع به أصلاً جاز بیعه.(6)

وقد یکون قضیة ما فی الشرائع(7) حیث استشکل فیما إذا لم یقع خلف ولا خشی خراب بل کان البیع أعود ثمّ اختار المنع، أنّه یجوز بیعه عند أحدهما. وقد جوّز فی المبسوط بیعه إذا وقع خُلف بین أربابه.(8) وفی فقه الراوندی إذا خیف وقوع خلاف بینهم.(9) وفی الإرشاد لا یجوز بیعه إلاّ أن یخرب أو یؤدّی إلی الخُلف بین أربابه.(10) وظاهر الأردبیلی الموافقة علی ذلک.(11) وتردّد فی النافع فیما إذا وقع خُلِّف مؤدٍّ إلی الفساد.(12) وجوّز بیعه فی المسالک(13) والروضة(14) والکفایة(15) والمفاتیح(16) إذا وقع

ص: 380


1- (1502) قواعد الأحکام: فی شرائط العوضین 2/23.
2- (1503) تهذیب الأحکام: 9/131، ذیل ح557، باب 3 فی الوقوف والصدقات.
3- (1504) الاستبصار 4/99، ح381، باب 61 فی الوقف.
4- (1505) شرائع الإسلام: فی عقد البیع وشروطه 2/17.
5- (1506) مفاتیح الشرائع: فی اشتراط المملوکیة وتمامها فی العوضین 3/52.
6- (1507) التنقیح الرائع: فی الوقف 2/330.
7- (1508) شرائع الإسلام: فی لواحق الوقف 2/220.
8- (1509) المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/300.
9- (1510) فقه القرآن: فی الوقف وأحکامه 2/293.
10- (1511) إرشاد الأذهان: المتأجر فی العوضین 1/361.
11- (1512) مجمع الفائدة والبرهان: المتأجر فی العوضین 8/(169-168).
12- (1513) المختصر النافع: فی الوقف /158.
13- (1514) مسالک الأفهام: فی شروط المبیع 3/169 وفی أحکام الوقف 5/398.
14- (1515) الروضة البهیة: فی شرائط المبیع 3/255.
15- (1516) کفایة الأحکام: فی أحکام الوقف ولواحقه 2/20.
16- (1517) مفاتیح الشرائع: فی اشتراط المملوکیة وتمامها فی العوضین 3/52 وفی انتقال الموقوف عن الواقف وعدمه /212.

خُلف شدید. قال فی الروضة: وقد علّله علیه السلام بأنّه ربما جاء فیه تلف الأموال والنفوس. وظاهره أنّ خوف الأداء إلیهما لیس بشرط کما فهمه المشهور.(1)

وممّا جوّز فیه بیعه إذا خیف وقوع فتنة وخُلف بین أربابه یحصل باعتبارهما فساد النهایة(2) والمهذّب(3) وفقه الراوندی(4) والتذکرة(5) والتحریر(6) والمختلف(7) والدروس(8) وغایة المراد(9) وجامع المقاصد(10) وإیضاح النافع للقطیفی وتعلیقه علی الشرائع لکنّ القاضی فی المهذّب ذکر ذلک فی المنقطع والراوندی لم یعتبر الفساد.

ولیعلم أنّه فی الدروس نسب قول ابن إدریس بالمنع إلی الندرة(11)، فظاهره أنّ الجواز فی الجملة مجمع علیه. وفی جامع الشرائع(12) وتعلیق الإرشاد(13) أنّه یجوز بیعه إذا کان فساد یجتاح فیه الأنفس. وهذا کلّه قد یوافق ما قبله. ویرشد إلی ذلک ما حکیناه عن اللمعة من حکایة الشهرة کما سمعت»(14).

ص: 381


1- (1518) الروضة البهیة: فی شرائط المبیع 3/255.
2- (1519) النهایة: فی الوقوف والصدقات /(600-559).
3- (1520) المهذّب: فی الوقف 2/92.
4- (1521) فقه القرآن: فیالوقف وأحکامه 2/293.
5- (1522) تذکرة الفقهاء 20/249، مسألة 147.
6- (1523) تحریر الأحکام: فی عقد البیع 2/279.
7- (1524) مختلف الشیعة: فی الواقف 6/288.
8- (1525) الدروس الشرعیة: فی بیع الوقف 2/279.
9- (1526) غایة المراد: فی شرائط العوضین 2/(30-23).
10- (1527) جامع المقاصد: فی أحکام الوقف 9/70.
11- (1528) الدروس الشرعیة: فی بیع الوقف 2/279.
12- (1529) الجامع للشرائع: فی الوقف /372.
13- (1530) حاشیة الإرشاد (حیاة المحقّق الکرکی وآثاره: 9/339).
14- (1531) مفتاح الکرامة 21/(687-685).
مستند جواز البیع فی هذه الصور الثلاث

والمستند فی الجواز صحیحة علی بن مهزیار قال: کتبتُ إلی أبی جعفر علیه السلام : أنّ فلانا ابتاع ضیعةً، فوقفها، وجعل لک فی الوقف الخمس، ویسأل عن رأیک فی بیع حصّتک من الأرض، أو یقوّمها علی نفسه بما اشتراها به، أو یدعها موقوفةً؟

فکتب علیه السلام إلیّ: أعلم فلانا أنّی آمره ببیع حقّی من الضّیعة، وإیصال ثمن ذلک إلیّ، وإنّ ذلک رأْیی إن شاء اللّه، أو یقوّمها علی نفسه إن کان ذلک أوفق له.

وکتبت إلیه: أنّ الرّجل ذکر أنّ بین مَنْ وقف بقیّة هذه الضّیعة علیهم اختلافا شدیدا، وأنّه لیس یأْمن أن یتفاقم ذلک بینهم بعده، فإنْ کان تری أنْ یبیع هذا الوقف، ویدفع إلی کلّ إنسانٍ منهم ما کان وقف له من ذلک، أمَرْتَهُ.

فکتب بخطّه إلیّ: وأعلمه أنّ رأْیی له _ إنْ کان قد علم الاختلاف ما بین أصحاب الوقف _ أنْ یبیع الوقف أمثل؛ فإنّه ربّما جاء فی الاختلاف ما فیه تلف الأموال والنّفوس.(1)

عودٌ إلی ما مضی: هل یمکن الاستناد بهذه الصحیحة للحکم بالجواز فی القسم الثانی من الصورة السابعة

استدلّ الشیخ الأعظم للجواز فی هذا القسم بعد تصرفات ثلاثة فی الصحیحة حتّی تم الاستدلال بها وهی:

1_ أنّ قوله علیه السلام : «فإنّه ربما جاء فی الاختلاف ما فیه من تلف الأموال والنفوس»، «تعلیل لجواز البیع فی صورة الاختلاف»(2) والعلة تعمِّم وتخصِّص وهی هنا معرضیة الوقف للخراب.

2_ «المراد بالمال هو الوقف»(3) یعنی الأموال الموقوفة.

3_ «ضم النفوس إنّما هو لبیان الضرر الآخر المترتب علی الاختلاف، لا أنّ المناط

ص: 382


1- (1532) الکافی 13/412، ح30 (7/36)؛ وسائل الشیعة 19/187 و 188، ح5 و 6.
2- (1533) المکاسب 4/94.
3- (1534) المکاسب 4/94.

فی الحکم هو اجتماع الأمرین کما لا یخفی»(1).

واستفاد من هذه التصرفات الثلاثة: «فیکون حاصل التعلیل أنّه کلّما کان الوقف فی معرض الخراب جاز بیعه»(2).

ثمّ ناقش فی هذا المقال بثلاثة إشکالات:
اشارة

الأوّل: «أنّ المقصود جواز بیعه إذا أدّی بقاؤه إلی الخراب علما أو ظنّا، لا مجرّد کونه ربما یؤدّی إلیه _ المجامع للاحتمال المساوی أو المرجوح، علی ما هو الظاهر من لفظة «ربما» کما لا یخفی علی المتتبّع لموارد استعمالاته _ ولا أظنّ أحدا یلتزم بجواز البیع بمجرّد احتمال أداء بقائه إلی الخراب؛ لأنّ کلمات من عبّر بهذا العنوان _ کما عرفت _ بین قولهم: «أدّی بقاؤه إلی خرابه»، وبین قولهم: «یخشی أو یخاف خرابه»(3).

الثانی: «الخوف عند المشهور، کما یعلم من سائر موارد إطلاقاتهم _ مثل قولهم: «یجب الإفطار والتیمّم مع خوف الضرر»، و«ویحرم السفر مع خوف الهلاک» _ لا یتحقّق إلاّ بعد قیام أمارة الخوف»(4).

الثالث: «أنّ مناط الجواز _ علی ما ذکر _ تلف الوقف رأسا، وهو القسم الأوّل من الصورة السابعة الذی جوّزنا فیه البیع، فلا یشمل الخراب الذی لا یصدق معه التلف. مع أنّه لا وجه _ بناءً علی عموم التعلیل _ للاقتصار علی خوف خراب خصوص الوقف، بل کلّما خیف تلف مالٍ جاز بیع الوقف»(5).

جواب اشکالات الشیخ الأعظم

یمکن أن یجاب عن الاشکال الأوّل: «أنّ کلمة «ربما» فی کلمات العرب، لیست بمعنی التّشکیک وابداع الاحتمال کما انّ «ربّما» الواردة فی قوله تعالی: «رُبَما یَوَدُّ

ص: 383


1- (1535) المکاسب 4/94.
2- (1536) المکاسب 4/94.
3- (1537) المکاسب 4/94.
4- (1538) المکاسب 4/95.
5- (1539) المکاسب 4/95.

الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْ کانُوا مُسْلِمِینَ»(1) لیس بمعنی المشکوک بل المرادُ منه، الیقین خصوصا فی الموارد الّتی کانت فیها، المظنّة فتفید «ربّما» الظّن وذلک مثل المقام حیث فرض فی الرّوایة، ظَنُّ الاختلاف حیث وردت فیها عبارة: «وأنّه لیس یأمَنُ أنْ یتفاقم(2) ذلک بینهم بعده»(3)»(4).

وعن الإشکال الثانی: لا یلزم فی تحقق الخوف قیام أمارته _ أی الظن وهو الاحتمال الراجح _ بل یکفی الشک والاحتمال العقلائی فی صدق الخوف کما صرّح به صاحب العروة(5).

نعم، قد لا یصدق الخوف من دون الظن، کما قد یصدق الخوف من دون الظن أیضا.

وعن الإشکال الثالث: ظهر ممّا ذکرنا فی القسم الأوّل من الصورة السابعة من أنّ المدار فی الوقف جریان منافعه فإذا خیف عقلائیا تقلیل المنفعة بل سقوطها عرفا یصدق تلف الوقف فلا یتم ما ذکره الشیخ الأعظم: «فلا یشمل الخراب الذی لا یصدق معه التلف»(6).

وأمّا عموم التعلیل فجارٍ ولکن فی الأموال الموقوفة فقط لا فی غیرها فلا یتم مقالته قدس سره : «... بل کلّما خیف تلف مالٍ جاز بیع الوقف»(7).

ص: 384


1- (1540) سورة الحجر /2.
2- (1541) تفاقم الأمر، أی عظم.
3- (1542) وسائل الشیعة 19/188، ح6.
4- (1543) تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 14/512.
5- (1544) راجع العروة الوثقی 2/170؛ طبعة جماعة المدرسین _ فصل فی التیمّم _ «الثالث: الخوف من استعماله علی نفسه أو عضو من أعضائه... ویکفی الظن بالمذکورات أو الاحتمال الموجب للخوف سواء حصل له من نفسه أو قول طبیب أو غیره...».
6- (1545) المکاسب 4/95.
7- (1546) المکاسب 4/95.

وبما ذکرنا ظهر تمامیة الاستدلال بالصحیحة للحکم بالجواز فی القسم الثانی من الصورة السابعة فتأمل.

کیفیة الاستدلال للصور الثّلاث بالصحیحة
تقریب الاستدلال للصورة الثامنة بها
اشارة

وأمّا تقریب الاستدلال للصورة الثامنة بها: فمبنی علی العدول عن التعلیل _ بالمعنی السابق _ بالتخصیص والحکم بأنّ مطلق الاختلاف بین الموقوف علیهم یوجب جواز بیع العین الموقوفة ولکن حیث علّله الإمام علیه السلام بقوله: «فإنّه ربّما جاء فی الاختلاف ما فیه تلف الأموال والنفوس»، مطلق الاختلاف تخصّص بتلف المال والنفس علی نحو کفایة الاکتفاء بأحدهما من تلف المال أو النفس.

وبعبارة أُخری: جواب الإمام علیه السلام متضمن لفقرتین:

«إحداهما: تجویز البیع عند ظهور الخُلف والمنازعة بین الموقوف علیهم، وکونه خیرا من إبقاء الوقف علی حاله. ومقتضی الإطلاق جواز البیع بمجرد العلم بالإختلاف، سواء خیف من بقائه تلفُ المال وإراقةُ الدماء أم لا.

ثانیتهما: تعلیل الحکم بقوله علیه السلام : «فإنّه ربما» وظاهره موضوعیة إختلافٍ خاصٍّ لجواز البیع، وهو النزاع الذی لا یؤمن معه من ضیاع الأموال وهلاک النفوس.

ومقتضی تقدیم ظهور العلّة علی المعلول تقیید الإختلاف المجوِّز للبیع بما إذا خیف من بقاء الوقف تلفُ المال والنفس، وبهذا یتم الحکم فی الصورة الثامنة»(1).

اعتراض الشیخ الأعظم علی تقریب الاستدلال

اعترض الشیخ الأعظم(2) قدس سره علی هذا التقریب بما توضیحه: «تقدیم العلّة علی المعلول کما یوجب تقیید الإختلاف بما خیف منه تلف المال والنفس، کذلک یقتضی رفعَ الید عن خصوصیة الإختلاف، وتعمیمَ جواز البیع لما إذا لم یکن خلفٌ بین أرباب الوقف، ولکن عُلِم إفضاء بقائه إلی تلفها من جهةٍ اُخری، وتوقّفَ سدُّ الفتنة علی بیع الوقف، فإنّ

ص: 385


1- (1547) هدی الطالب 7/167.
2- (1548) المکاسب 4/95، السطر الأخیر.

العلّة کما تخصِّص تعمِّم. ومن المعلوم عدم إلتزامِ أحدٍ بجواز بیع الوقف مقدّمة لعلاج مفسدة اُخری أجنبیةٍ عنه. وهذا المحذور یُوهِن العمل بظاهر [الصحیحة]، وتسقط حینئذٍ عن الدلالة علی حکم الصورة الثامنة.

فإن قلت: یمکن الأخذ بموضوعیة مطلق الإختلاف لجواز البیع، وعدم تقییده بقوله علیه السلام : «فإنه ربما» وذلک لورود مثله فی الأخبار مما یکون علّةً للحکم تارةً، وحکمةً اُخری، ومن المعلوم أن ما یصلح للتقیید هو العلّة لا الحکمة.

[کما] قال المحقّق الشوشتری قدس سره : «وأما التعلیل فبناؤه علی الشکف عن الحکمة فی جواز البیع، والغرض منه کون الإختلاف عُرضةً لذلک المحذور، لا أنّ أداءه إلیه شرط لجواز البیع. وبذلک نصّ الشهیدان، وهو ظاهر الکفایة والمفاتیح، ویشهد له التعلیل ب_ «ربما»»(1).

وعلیه فلا مانع من الأخذ بموضوعیة الإختلاف، وعدم تعمیم الحکم لما إذا لم یکن منشأ التلف منازعة أرباب الوقف.

قلت: إن حمل «ربما» علی الحکمة وإسقاطه عن العلیة _ لیبقی عموم الإختلاف علی حاله _ یوجب عدم صلاحیته لتقیید الجواز بخوف تلف المال أو النفس، فإنّ الحکمة کما لا تعمِّم لا تخصِّص، مع أن مفروض الصورة الثامنة هو الجواز لو أدّی بقاء الوقف إلی التلف لا مطلقا.

والحاصل: إن کانت جملة «فإنه ربما» علةً لزم تعمیم الجواز لغیر موارد الإختلاف، ولا سبیل للقول به.

وإن کانت حکمةً لزم تعمیم الجواز لما إذا لم یؤدِّ البقاء إلی التلف، وهو غیر الصورة الثامنة»(2).

وأمّا تقریب الاستدلال للصورة التاسعة بالصحیحة: فمبنی علی حصول ضرر

ص: 386


1- (1549) مقابس الأنوار، کتاب البیع، /59.
2- (1550) هدی الطالب 7/168.

عظیم أی ضرر معتدّبه یصدق علیه تلف الأموال وتلف النفوس وغیرهما فکلّ واحد منها ضرر عظیم وکاف فی جواز البیع.

وبعبارة أُخری: مقتضی العلّیّة فی قوله علیه السلام : «فإنّه ربما جاء فی الاختلاف مافیة تلف الأموال والنفوس»، هی وصول الاختلاف إلی حدّ الضرر العظیم من دون تقییده بتلف المال أو النفس نحو تلف العِرْض وهذه هی الصورة التاسعة.

ویناقش علی هذا التقریب: أوّلاً: مقتضی العلیة فی کلام الإمام علیه السلام هو جواز البیع لکلِّ فتنةٍ وإن لم یرتبط بالوقف وهو ممّا لا یلتزم به أحد.

وثانیا: حمل «تلف المال والنفوس» فی کلام الإمام علیه السلام علی المثال لمطلق الضرر العظیم ممنوعٌ، لأنّ الحمل متوقف علی القطع بعدم خصوصیتهما، ودون اثبات هذا القطع خرط القتاد.

وأمّا تقریب الاستدلال بالصحیحة للصورة العاشرة:
اشارة

فمبنی علی اعتبار تلف النفوس فقط لأنّ تلف النفوس یلازم تلف الأموال غالبا، فذکر تلف الأموال مبنی علی الغالب ولا اعتبار بالقید الغالبی فالمجوز للبیع هو خصوص تلف النفوس واستباحتها وهذه هی الصورة العاشرة.

اعتراض الشیخ الأعظم علی هذا التقریب

اعترض الشیخ الأعظم(1) علیه بإشکالین:

الأوّل: مقتضی العلّیّة التعدّی من «تلف الأموال والنفوس» إلی مطلق احتمال وقوع الفتنة بین الموقوف علیهم، وغیرهم مع أنّه لا یمکن الالتزام بهذا الإطلاق.

الثانی: ظاهر الصحیحة لاسیّما بملاحظة لفظة «ربما» کفایة مجرد الاحتمال فی استباحة النفوس ولکن ظاهر المشهور أخذ العلم أو الظن فی استباحة النفوس لجواز البیع وبینهما المباینة الواضحة.

ص: 387


1- (1551) المکاسب 4/96.
استظهار الشیخ الأعظم من الصحیحة
اشارة

استظهر الشیخ الأعظم(1) من الصحیحة أمرا مغایرا لما ذهب إلیه المشهور ولاحظ فیه جهات ثلاث:

«الأُولی: أن یکون موجبا لتلف الأموال والنفوس، فلا عبرة بمطلق الخُلف والنزاع وإن لم یؤدِّ إلی تلفها. ولیس منشأ هذا التقیید حمل جملة «فإنّه ربّما» علی التعلیل لیکون مقیِّدا لدائرة الإختلاف الوارد فی السؤال، لفرض عدم کون «فإنّه» علةً حقیقیة لتعمِّم أو تقیِّد. بل منشؤه قرینیة الذیل بحسب المتفاهم العرفی علی ما یراد من السؤال.

الثانیة: أن یحصل الخوفُ من أداء بقاء الوقف إلی هلاک النفس أو المال، سواء نشأ من العلم بالأداء أو من الظن به، أو من الإحتمال الموهوم.

والوجه فی ضمِّ الأخیر إلی العلم والظن ورود کلمة «ربما» فی الجواب، وقد مرّ صدقه علی الإحتمال عند الشیخ الأعظم.

الثالثة: أن یکون محذور تلف النفس والمال مترتبا علی نزاع أرباب الوقف فیما یتعلق بحفظه وبالإنتفاع به، وتوقف حسم مادة الفساد علی البیع.

فلو کان المحذور ناشئا من غیر اختلافِ الموقوف علیهم لم یجز البیع.

فإن قلت: مقتضی ظهور التعلیل التعدی من الاِختلاف إلی موجب آخر یؤدِّی إلی هلاک المال والنفس، إذ العلة کما تُضیِّقُ توسِّع أیضا.

قلت: نعم لو استقرّ ظهور «فإنّه ربّما» فی التعلیل حتّی یتعدی عن مورد السؤال إلی غیره، ولکن المفروض منع الظهور المزبور»(2).

ثمّ استنتج(3) أنّ الصحیحة غیر مفتیً بها عند المشهور لأنّ الظاهر اعتبارهم جهتین وهما غیر مذکوران فیها:

«إحداهما: إعتبار العلم أن الظن بأداء بقائه إلی الخراب، وعدم کفایة الإحتمال

ص: 388


1- (1552) المکاسب 4/97.
2- (1553) هدی الطالب 7/175.
3- (1554) المکاسب 4/97.

عندهم.

ثانیتهما: أنّ المؤدِّی إلی الخراب أعم من الفتنة الموجبة لإستباحة الأموال والأنفس»(1).

ولذا ذهب إلی أنّ «النسبة بین فتوی المشهور ومضمون الروایة عموما من وجه»(2).

توضیحه: فتوی المشهور أعم من الصحیحة من جهتین وأخص منها من جهة، کما إنّ الصحیحة أُعَمُّ من فتاواهم من جهة وأخص منها من جهة أُخری.

«أمّا أعمیة الفتاوی من جهتین:

فالأُولی منهما: شمول «تلف المال» لکلِّ من الخراب وقلّة المنفعة، بشهادة تجویز البیع فی قسمی الصورة السابعة.

والثانیة: أنّ المؤدّی إلی الخراب أعم من الفتنة الموجبة لإستباحة الأموال والأنفس، بشهادة تجویز البیع للضرر العظیم کما فی الصورة التاسعة.

وأما أخصیة الفتاوی من الصحیحة، فلإعتبارهم حصولَ العلم أو الظن بأداء البقاء إلی الخراب، بشهادة تعبیرهم بالخوف والخشیة، مع أنّ الصحیحة تعمّ الإحتمال الموهوم، بشهادة کلمة «ربّما».

وأما أعمیة الصحیحة من فتوی المشهور، فلعدم اعتبار العلم والظن، والإکتفاء بمجرد الإحتمال.

وأما أخصیتها منها فَلاِخْتصاصِ الجواز بالفتنة المبیحة للأموال والأنفس.

ومادة الإجتماع _ بمعنی جواز البیع بمقتضی الصحیحة وفتوی المشهور _ هی العلم أو الظن بأداء بقائه إلی الخراب مع الفتنة المبیحة للمال والنفس.

وَمادَّةُ الاِفتراق من طرف الروایة هو احتمال وقوع الفتنة المبیحة لهما، فیجوز البیع

ص: 389


1- (1555) هدی الطالب 7/177.
2- (1556) المکاسب 4/97.

فیها، خلافا للمشهور.

ومن طرف فتوی المشهور موردان:

أحدهما: العلم بأدائه إلی الخراب بدون الفتنة الموجبة لإستباحة المال والنفس.

وثانیهما: خوف الخراب بمعنی قلة المنفعة. ففی هذین الموردین لا دلالة للروایة علی الجواز.

وبالجملة: فمع هذه النسبة بین الصحیحة والفتاوی کیف یصحّ الإستدلال بها؟ فما دلّت علیه لم یُعمل به، وما عُمِل به لم تدل الصحیحة علیه»(1).

ولکن رجع عن مقالته أخیرا وذهب إلی عدم اعراض المشهور عن الصحیحة وقال: «لکن الإنصاف: أنّ هذا لا یمنع من جبر ضعف دلالة الروایة وقصور مقاومتها للعمومات المانعة، بالشهرة؛ لأنّ اختلاف فتاوی المشهور أنّما هو من حیث الاختلاف فی فهم المناط الذی اُنیط به الجواز من قوله علیه السلام : «إن کان قد علم الاختلاف...» المنضمّ إلی قوله: «فإنّه ربما جاء فی الاختلاف»(2).

وحاصل کلامه قدس سره : «أنّهم تسالموا علی جواز البیع فی الجملة، واختلفوا فی خصوصیته ومناطه. وهذا المقدار کافٍ فی إحراز عملهم بالروایة وجبرِ ضعف الدلالة بالنسبة إلی المتفق علیه»(3).

أقول: ولکن یمکن أن یناقش علیه فی مقالته الأخیرة فقط.

أوّلاً: عدم ضعف الدلالة بالشهرة کما حقّقه قدس سره فی الاصول.

وثانیا: بعد تسلیم الجبر بها لابدّ من الأخذ بما فهمه المشهور من الروایة وإن کان ما فهموه غیر ظاهر الروایة، إذِ المفروض جبران ضعف هذا الظهور بفهمهم.

وثالثا: المشهور لم یتفقوا علی مناط الجواز حتّی یقال بجبران ضعف الدلالة بالشهرة، لاختلاف فتاواهم فی منافط الجواز واختلاف أنظارهم فی استفادة مناط الجواز

ص: 390


1- (1557) هدی الطالب 7/177 و 178.
2- (1558) المکاسب 4/97.
3- (1559) هدی الطالب 7/178.

من الصحیحة، فلم یکن هناک شهرة تجبربها ضعف الدلالة.(1)

فذلکة کلام الشیخ الأعظم ونقدها

ذهب الشیخ الأعظم رحمه الله إلی «أنّ المستفاد من المکاتبة بقرینة کلمة «ربما» کفایة الاختلاف الذی یوجب احتمال تلف الأموال والنفوس لا مطلق ما یؤدی إلی المحذور المذکور وإن کان سببه الخراب لعدم ظهور الذیل فی التعلیل والمشهور اعتبروا العلم أو الظنّ بأداء بقائه إلی الخراب وبین الأمرین عموم من وجه فالمکاتبة بظاهرها غیر مفتی بها، وأجاب عن ذلک بأنّ الأصحاب استدلّوا بها ولم یعرضوا عنها غیر أنّه اختلفوا فی فهم المناط الذی یستفاد من الحدیث.

وفیه: أن الروایة بقرینة لفظ «فإنّه» ظاهرة فی التعلیل ولذلک نلتزم بالتعدّی إلی خوف تلف کلّ مال ونفس یتسبّب من بقاء الوقف وإن کان راجعا إلی غیر الموقوف علیهم بل وإن کان سببه غیر الاختلاف أیضا»(2).

مقالة المحقّق السّیّد الخوئی حول الصحیحة ونقدها

قال قدس سره : «وعلی أیِّ حالٍ، هذه الروایة ضعیفة السند، ولم ینجبر ضعفها بعمل المشهور، حتّی لو قلنا بانجبار ضعف السند بعمل الأصحاب، کما هو ظاهر.

کما أنّها ضعیفة الدلالة، بل الظاهر بملاحظة جملة من القرائن کونها أجنبیّة عن بیع الوقف رأسا، وهی:

أوّلاً: أنّ أمره علیه السلام ببیع حصّته من الوقف _ وهو الخمس _ أو أن یقوّمها علی نفسه، لا ینطبق علی شیء من القواعد لعدم طروّ مجوّز لبیعه أصلاً. ولم یکن وجه لإحالة البیع إلیه إذ الواقف بعد تمام الوقف یکون أجنبیّا. والظاهر أنّ حکمه علیه السلام لم یکن إذنا منه ولایة، وإنّما کان بیانا للحکم الشرعی، فلابدّ من حمله علی ما قبل القبض وعدم تمامیّة الوقف.

وثانیا: أنّه علیه السلام جوّز البیع للواقف، ولو کان الوقف تامّا لکان الواقف أجنبیّا عن

ص: 391


1- (1560) کما فی هدی الطالب 7/179.
2- (1561) تعلیقة المحاضرات 3/203.

الوقف، فبأیّ وجهٍ یبیع مال الغیر؟

وثالثا، إنّه علیه السلام حکم بتقسیم الثمن بین الموقوف علیهم، مع أنّ بدل الوقف لابدّ وأن یکون وقفا کالمبدل.

ورابعا: أنّه علیه السلام علّق جواز البیع علی أن لا یأمن الواقف من الخلاف وعلمه بتلف الأموال والنفوس، فحکم علیه السلام حینئذٍ بأنّ البیع أمثل، مع أنّه لا عبرة بعلم الواقف أصلاً. وتوهم کون الجملة بصیغة المجهول منافٍ للسیاق. وکل هذه الاُمور شاهد علی أنّ مورد سؤال الواقف وجواب الإمام علیه السلام هو الوقف قبل القبض.

هذا، مضافا إلی أنّه لا یمکن العمل بالروایة لو أُرید بها البیع بعد تمام الوقف، فیکون مقطوع البطلان علی کلّ تقدیر؛ وذلک لأنّه إن کان قوله علیه السلام فی ذیل الروایة: (فإنّه ربما جاء فی الاختلاف تلف الأموال والنفوس) حکمةً لجواز البیع، فلابدّ من الأخذ بمورد السؤال والجواب، وهو جواز البیع بمجرّد وقوع الاختلاف بین أرباب الوقف وإن لم یخف أداؤه إلی تلف الأموال والنفوس، وهذا ممّا لم یقل به أحد ظاهرا. وإن کان علّة له _ کما هو ظاهر کلمة «فإنّه» _ لزم جواز البیع فیما إذا لزم من ترکه تلف الأموال والنفوس ولو من غیر جهة اختلاف الموقوف علیهم، کاختلاف عمّال الواقف أو الواقف أو المتولی وغیر ذلک ممّا لم یقل أحد بکونه مجوّزا للبیع.

کما إنّه لو حملناها علی ما بعد القبض یلزم تعمیم الجواز لما إذا استلزم بقاؤه تلف الأموال ولو غیر العین الموقوفة؛ فإنّ المذکور فی العلّة تلف الأموال بصیغة الجمع، لا خصوص العین الموقوفة. کما یلزم تعمیمه أیضا من حیث کون منشأ تلف الأموال هو الاختلاف أو غیره فیجوز بیع الوقف لإصلاح کلّ فتنة، ومن حیث العلم بذلک أو الظنّ أو مجرّد الاحتمال أیضا _ فتأمّل _ علی ما هو ظاهر قوله علیه السلام : «ربما جاء فی الاختلاف».

مضافا إلی أنّ التلف غیر الخراب، فإنّ التلف عبارة عن انعدام العین، بخلاف الخراب، ومورد کلامنا هو الخراب دون التلف، وفی التلف لا معنی للبیع والتبدیل بعد فعلیّته.

علی أنّ مقتضی القاعدة عند خراب الوقف هو تبدیله بما یبقی للبطون اللاحقة

ص: 392

أیضا لینتفعوا به، لا بیعه ودفع الثمن إلی الموجودین کما هو صریح هذه الروایة.

فظاهر الروایة غیر مفتی به، فلابدّ من ردّ علمها إلی أهله. وعلی کلٍّ لا یمکن الاعتماد علیها سندا ودلالةً»(1).

ولکن یمکن أن یناقش علیها: أوّلاً: الروایة لم تکن ضعیفة السند بل هی صحیحة الإسناد فلا تحتاج إلی جبران الضعف بعمل المشهور.

وثانیا: «إنّ الخمس الذی جعل للإمام علیه السلام لم یکن من الوقف بل الوقف کان فی بقیّته وبالنسبة إلی حصّة الإمام علیه السلام کان هبة أو هدیّة ونحو ذلک لمکان قول السائل: «وجعل لک فی الوقف الخمس» ولو کان حصّة الإمام علیه السلام أیضا وقفا لقال: وجعل من الوقف الخمس لک، وأمّا قوله علیه السلام فی ذیل السؤال: «أو یدعها موقوفة» فمعناه أن یدعها متروکة، من الإیقاف بمعنی الترک والثبات أی ثابتة علی حالها»(2).

وثالثا: «من الممکن أن یکون الإمام علیه السلام محتاجا إلی ثمن الوقف ومن المحتمل أن تکون الحاجة من المجوّزات للبیع وإن لم یمکن إثبات ذلک من هذه الروایة لإجمالها ولم یثبت لنا ذلک أیضا من طریق آخر، فلا طریق لنا إلی ردّه أیضا والاحتمال موجب لعدم طرح الحدیث»(3).

ورابعا: «إنّ الغالب فی الأوقاف أن یجعل الواقف التولیة أو النظارة لنفسه أو لمن ینتم إلیه بنسب أو سبب، مع أنّه یمکن أن یکون سؤاله عن رأی الإمام علیه السلام استیذانا منه ببیع حصّته فأذن فی ذلک بقوله «أعلم فلانا»، وأمّا بالنسبة إلی غیر حصّة الإمام علیه السلام فمن إطلاق الوقف علیه یمکن استکشاف کون بیعه بعد القبض، ولا أقلّ من استفادة ذلک من ترک استفصال الإمام علیه السلام بین قبل القبض وبعده فیستفاد جواز البیع بعد القبض أیضا»(4).

ص: 393


1- (1562) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/(204-200).
2- (1563) تعلیقة الشهید آیة اللّه الشیخ علیأصغر الأحمدی الشاهرودی علی کتاب محاضرات فی الفقه الجعفری 3/200.
3- (1564) المصدر 3/201.
4- (1565) المصدر.

وخامسا: بالنسبة إلی تقسیم الثمن بین الموقوف علیهم «لأنّه مورد السؤال وقد أمضاه الإمام علیه السلام ، ویمکن الجواب عنه بطرح هذه الفقرة من الحدیث فقط أو فرض مورد السؤال ما إذا لم یمکن اشتراء شیء وجعله وقفا من دون أن ینجرّ إلی الاختلاف السابق کما لا یبعد فی مورد الروایة وعلیه فاشتراء شیء وجعله وقفا یکون لغوا لأنّه لابدّ من بیعه أیضا»(1).

وسادسا: قوله قدس سره : «لا عبرة بعلم الواقف أصلاً»(2)، لعلّ منشأ اعتباره أنّ الواقف جعل التولیة لنفسه مادام حیّا أو أنّ هذا إذنٌ ابتدائیٌّ للواقف من قبل الإمام علیه السلام لحل الاختلاف.(3)

وسابعا: ظاهر الصحیحة «هو التعلیل لکن العلّة لیس هو خوف تلف النفوس والأموال مطلقا بل العلّة بقرینة قوله علیه السلام : «إن کان قد علم الاختلاف بین أرباب الوقف» هی خوف تلف الأموال والنفوس الناشئ من بقاء الوقف لا مطلقا والالتزام به لا محذور فیه فیتعدّی بعموم التعلیل من اختلاف الموقوف علیهم إلی اختلاف المتولین للوقف ونحوه من کلّ ضرر ناشئ عن بقاء الوقف»(4).

وثامنا: «أنّ المشهور لم یلتزموا بالجواز إلاّ فی صورة المظنّة.

والمناقشة فیه بأنّ کلمة «ربما» وإن شملت مجرّد الاحتمال أیضا إلاّ أنّه بقرینة قوله «لا یؤمن أن یتفاقم»(5) یراد به صورة مظنّة الضرر إذ إنّ کلمة «لا یؤمن» أمارة علی وجود الضرر العظیم فیما بعد.

مدفوعة بأنّه لا یوجد فی جواب الإمام علیه السلام إلاّ مجرّد الاختلاف، نعم المشهور قیّدوا الجواز بصورة خوف تلف مال الوقف ولکن یمکن أن یکون منشؤه خطأهم فی کون

ص: 394


1- (1566) المصدر.
2- (1567) محاضرات فی الفقه الجعفری 3/202.
3- (1568) تعلیقة المحاضرات 3/202.
4- (1569) تعلیقة المحاضرات 3/202.
5- (1570) تفاقم الأمر، أی عظم. لسان العرب 12/457.

المراد من تلف الأموال خصوص تلف مال الوقف فلا یثبت إعراضهم عن الحدیث»(1).

فذلکة الکلام فی صحیحة علیبن مهزیار

أمّا من حیث السند فهی من الصحاح وقد مرّت(2) دلالتها علی القسم الثانی من الصورة السابعة.

«وأمّا الاستدلال بها لبقیة الصور فوجهه فی الصورة الثامنة هو الاقتصار علی مضمون الحدیث من احتمال تلف خصوص الأموال والنفوس.

وفی الصورة التاسعة دعوی أنّ ذکر الأمرین من باب المثال وأنّ الملاک هو احتمال ورود ضرر عظیم کهتک عرض أو هتک بعض محارم اللّه من أجل الاختلاف.

وأمّا فی الصورة العاشرة فلدعوی أنّ الملاک هو احتمال تحقّق فساد من الاختلاف ینجرّ إلی تلف النفوس وذکر تلف المال توطئة لذکر تلف النفوس معه من باب ملازمته له غالبا.

والذی یظهر من الحدیث اختصاص مورد السؤال بما إذا علم أن ظنّ تلف الأموال والنفوس إذ فرض فی المورد الاختلاف الشدید الذی لا یؤمن أن یتفاقم ذلک ففی مثله تکون مظنّة التلف إلاّ أنّ فی جواب الإمام علیه السلام لم یؤخذ إلاّ مجرد الاختلاف الذی یحتمل معه التلف فإنّ کلمة «ربما» وإن لم یستعمل فی مجرّد الاحتمال إذا لم یتحقّق له سبب إلاّ أنّه یشمل الاحتمال الناشئ عن السبب مطلقا ولا یختصّ بالعلم أو الظن والمدار علی إطلاق الجواب، کما أنّ المستفاد منه مجرّد الاختلاف المعرّض لتلف الأموال والنفوس سواء کان من أموال الوقف ونفوس الموقوف علیهم، أو غیر ذلک ووجه عدم الحکم بجعل الثمن وقفا لعلّه من جهة عدم العلاج وعدم ارتفاع الاختلاف إلاّ بزوال الوقف کلّیة وبالجملة الروایة صحیحة جدّا ولا بأس بالعمل بمضمونها... وقد عرفت أنّ مضمونها یشمل جمیع الصور عدا التاسعة فإنّ إلغاء خصوصیّة تلف الأموال والنفوس یحتاج

ص: 395


1- (1571) تعلیقة المحاضرات 3/203.
2- (1572) راجع هذا المجلد صفحة 382.

إلی ألطف قریحة ولیس بعیدا بنظر العرف من اللفظ فی مثل هذه المقامات، علی أنّ غرض الواقف من الوقف التقرّب إلی اللّه تعالی وانتفاع الموقوف علیهم، وبقاء الوقف علی حاله مع ترتّب ضرر عظیم علیه ینافی غرضه قطعا»(1).

وأمّا الاشکال فی الصحیحة «بأنّ الوقف ظاهرا کان من الوقف الخاص وهو من العقود علی الظاهر فیحتاج فی تمامیّته إلی القبول والقبض فکیف أمر الإمام علیه السلام ببیعه مع عدم تحقّقهما، ففیه أنّ الأمر بالبیع یکشف عن القبول أو هو قبول إذ هو لازم الأمر ببیع حصّته من الوقف وإیصال ثمنه إلیه، وأمّا بالنسبة إلی القبض فیمکن أن یکون الواقف قبض عن الإمام علیه السلام فضولیّا ویکون الأمر ببیعه إجازة للقبض، هذا علی تقدیر صحّة قبض الفضولی إذا لحقته الإجازة وإلاّ فیمکن أن یجعل الأمر بالبیع کاشفا عن جعل الواقف وکیلاً فی القبض أو یکون هو بنفسه إذنا فی القبض ویکون قبض المأذون بمنزلة قبض الآذن فیتمٌ الوقف بذلک، علی أنّه تقدّم سابقا أنّ حصة الإمام علیه السلام لم یکن من الوقف فراجع»(2).

هذا تمام الکلام فی کیفیة الاستدلال للصور الثلاثة الأخیرة بالصحیحة واللّه سبحانه هو العالم.

الاستدلال لِلصُّوَرِ الثَّلاثِ الأخیرة بالقواعد العامة
اشارة

استدلوا بقاعدتی التزاحم ولا ضرر بتقریب:

1_ قاعدة التزاحم:

«حیث قیل بدلالتها فی المقام من جهة أنّ الأمر دائر بین رفع الید عن بیع الموقوفة، وأمر أهمّ وهو حفظ النفوس، ولا شکّ أنّه عند دوران الأمر بین المهمّ والأهمّ فإنّه یُقدَّم الأهمّ.

بیان ذلک: ثبت فی مبحث التزاحم أنّه لو دار الأمر بین حکمین أحدهما مهمّ والآخر أهمّ محتمل الأهمّیة، فإنّ إطلاق دلیل المهمّ یسقط، ویجب تقدیم دلیل الأهمّ،

ص: 396


1- (1573) تعلیقة المحاضرات 3/205.
2- (1574) تعلیقة المحاضرات 3/204.

وفیما نحن فیه فإنّ قوله: «لا یجوز شراء الوقف» نصٌّ مهمّ یقابله ما هو أهمّ منه، وهو لزوم حفظ [العین] الموقوفة وحیاة الموقوف علیهم، فإذا دار الأمر بینهما فإنّ حفظ الأخیرین أولی من الأوّل.

وأُورد علیه أوّلاً: إنّ التزاحم یتحقّق عادةً بین تکلیفین لیس للمکلّف قدرة علیهما عقلاً لعجزه عن صرف القدرة الواحدة فیهما، فیدور الأمر بین ترکهما أو صرفها فی أحدهما، وحینئذٍ فإنّ العقل یحکم المکلّف، ومن ثمّ عَجز عن الجمع بینهما، فإنّه حینئذٍ لا مجال لجریان قاعدة التزاحم، کما هو الحال فی المقام حیث لو لا الاختلاف بین أرباب الوقف، لأمکن حفظ الأموال والنفوس مع حفظ العین الموقوفة عن البیع، لعدم قیام التمانع فی القدرة علی الجمع بینهما بما لا یؤدّی إلی التزاحم.

وفیه نقضا: الالتزام بهذه الدعوی یستلزم لازما باطلاً لیس لفقیه الالتزام به، وهو لزوم الحکم ببقاء حرمة التصرّف فی مال الغیر لو استلزم نجات الغریق الذی غرق بسوء اختیاره، أی لزوم صرف القدرة فی حفظ المهمّ دون الأهمّ، وهذا ما لا أظنّ أنّ القائل یلتزم به فضلاً عن غیره.

وحلاًّ: أنّ قاعدة التزاحم قاعدة عقلیّة لا مجال فیها للمناقشات المختصّة بالأدلّة النقلیّة، وبالتالی فلا یصحّ البحث عن أنّها مطلقة تشمل جمیع موارد التزاحم، أو أنّها مختصّة بما إذا کان حاصلاً لا بسوء الاختیار، ومادام المستند فی المقام هو الدلیل العقلی یبقی المکلّف مقیّدا بدائرة مدرکاته، سواءً فی جانب التقیید أو المطلق.

وفی المقام فإنّ مستند حکم العقل مبنیٌّ علی أنّ کلّ خطاب وحکم مشمول بالقدرة، فإذا کانت وافیة بالخطابین وجب امتثالهما، وإن کانت غیر وافیة فإنّ العقل حاکم بلزوم مراعاة الأهمّ وترک المهمّ؛ لأنّ حفظ إطلاق المهمّ فی مقابل الأهمّ یستلزم تفویت الغرض الأهمّ، وهو ممّا یقبح صدوره عن الحکیم بحسب مبنی العدلیّة القائلین بالمصالح والأغراض العقلیّة، وهذا الحکم العقلی _ أی لزوم تقدیم الأهمّ _ حکمٌ عامٌ غیر قابل للتخصیص، یدلّ علی لزومه مطلقا، سواءً کان حصول التزاحم بسوء اختیاره أم باختیاره.

وأُورد ثانیا: أنّ التزاحم رافع للحکم التکلیفی، لکنّه غیر مثبت للحکم الوضعی، أی

ص: 397

إذا عجزنا عن امتثال الأمرین من المهمّ والأهمّ معا وحفظ ملاکهما، فإنّه ترتفع الحرمة حینئذٍ من جهة التکلیف دون الوضع الذی هو صحّة بیع العین الموقوفة، حیث لا یترتّب علی التزاحم، وما نقصده فی المقام تحصیل صحّة بیع العین الموقوفة دون الجواز التکلیفی.

وفیه: لا شکّ أنّ مجرّد رفع الحرمة التکلیفیّة دون ترتّب الأثر الوضعی من الصحّة لا یحقّق الغرض من [جریان قاعدة] التزاحم، بل یتحقّق فیما لو جاز بیعه تکلیفا وصحَّ وضعا، وانتهی الأمر إلی تقسیم الثمن بینهم، فلو حکم من جهةٍ بجواز بیع الوقف تکلیفا للاختلاف المذکور، وببطلانه وضعا للدلیل المانع، فإنّ المال یبقی ممنوعا من التصرّف فیه، ویبقی الاختلاف مستمرّا، وبالتالی فمادام لا مجال لحفظ الأهمّ إلاّ بصحّة البیع ونفوذه من خلال الأمر الوضعی، فإنّه لا سبیل لرفع التزاحم إلاّ من خلال الحلّیة التکلیفیّة والصحّة الوضعیّة.

ثمّ قال الاستاذ المحقّق _ مدظله _ : إنّ مستند قاعدة التزاحم لم یکن دلیلاً لفظیّا لکی نبحث عن إطلاقه وعدمه، وإنّما هو حکمٌ عقلیٌ عامٌ لا مجال لتخصیصه أو سریانه إلیه، بل هناک ملازمة بین وجود موضوعه وترتّب الحکم علیه مطلقا، ولذلک فمتی کان المعتمد عند تسویغ البیع هذه القاعدة، فلا مجال للتفریق فی حکمها بین اختلاف أرباب الوقف وغیرهم، بل الاختلاف مطلقا یعدّ صغری هذه القاعدة، وإن کان مؤدّیا إلی تلف غیر الموقوف علیهم، وعلیه فلابدّ من الحکم بأنّ مطلق الاختلاف یعدّ مسوّغا للبیع.

لکن المشکلة أنّ التعمیم لا یتوافق مع مسلک الفقهاء من عدم ترخیص بیع الموقوفة فی مطلق الاختلاف المؤدّی إلی تلف الأموال والنفوس، بل یخصّصونها بخصوص [تلف العین الموقوفة أو] الموقوف علیهم، فینحصر الحکم حینئذٍ بملاحظة المبنی المختار، من رعایة مسلک الفقهاء وعدمها.

[وأمّا القول المختار هنا] فإنّه بمقتضی الصناعة لابدّ علی الفقیه الحکم بجواز البیع باعتبار أنّ الوقف من الاُمور الحسبیّة التی یعود أمرها إلی الحاکم الشرعی والفقیه الجامع للشرائط، فإذا واجه اختلافا وفتنةً تزهق فیها النفوس، وتتلف فیها الأموال، ولا سبیل

ص: 398

لإخمادها إلاّ بیع الموقوفة، کان علیه ذلک حتّی وإن کان الوقف مؤبّدا، لأهمّیة مصلحة حفظ النفوس والأموال عند الشارع _ وهو المختار عندنا _ إلاّ إذا قام إجماعٌ علی اختصاص ذلک بخصوص [تلف العین الموقوفة أو] الموقوف علیهم، حیث یکشف عن أنّ مصلحة حفظ الوقف أهمّ عند الشارع من حفظ النفوس والأموال.

[وفیه: ما لا یخفی علی المتفقه البصیر].

2_ قاعدة لا ضرر

حیث استدلّ بها باعتبار أنّ الاختلاف المذکور یؤدّی إلی الضرر علی المسلمین، وهو منفیٌّ بقوله علیه السلام : «لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام»، ومفاده أنّه متی أصبح الحکم الشرعی سببا لحدوث الضرر، فإنّه مرفوع بل غیر مجعول شرعا.

وفیه: برغم تمامیّة الکبری المذکورة، إلاّ أنّ المقام لا یعدّ من صغریاتها، فإنّ حکم الشارع بحرمة بیع الوقف لم یکن موجبا للضرر ولا سببا إلیه، وإن یعدّ رفعه للحکم سببا لارتفاع الضرر، لکن حدّ دلالة القاعدة المذکورة هو أنّ الأحکام الشرعیّة الضرریّة مرفوعة، لا أنّ کلّ حکم مرفوع لأجل الضرر، وبینهما فرقٌ کبیر»(1).

الاستدلال للصور الثّلاثِ بالشرط الضمنی للوقف

کما یکون من شروط الوقف بل من أرکانه وجود العین الموقوفة، فکذلک وجود الموقوف علیهم، بل الموقوف علیهم أهمیته عند الواقف أکثر من العین الموقوفة لأنّه وقف العین لهم، فإذا دارالأمر بین بقاء عین الموقوفة أو أصل الوقف والموقوف علیهم یقدّم الثانی بهذا الشرط الضمنی الارتکازی للوقف.

هذا تمام الکلام فی الْوَقْفِ المؤبَّد واللّه هو العالم والحمد له تعالی.

ص: 399


1- (1575) العقد النضید 5/(85-82).
الوقف المنقطع
اشارة

یطلق الوقف المنقطع:

تارة: علی الوقف المقترن بمدّة کأربعین سنة مثلاً والظاهر أنّ الإجماع قائم علی بطلان هذا القسم.

قال العلاّمة فی وقف القواعد: «... فلو علّقه بصفةٍ أو بشرط أو قرنه بمدّة لم یقع»(1).

وقال الفقیهُ المتتبعُ العامِلیُّ فی شرحه: «کما فی الغنیة(2) والسرائر(3) والشرائع(4) وکذا الاستبصار(5) وهو معنی إجماع الخلاف(6) والغنیة(7) والسرائر(8) وغیرها(9)، إذ هو تفریع علی اشتراط الدوام. وفی النهایة(10) والسرائر(11) أیضا لا یصحّ إلاّ أن یجعله سکنی

ص: 400


1- (1576) القواعد 2/388.
2- (1577) غنیة النزوع: فی الوقف /298.
3- (1578) السرائر: فی شروط صحّة الوقف 3/156.
4- (1579) شرائع الإسلام: فی شرائط الوقف 2/170.
5- (1580) الاستبصار 4/99، ذیل ح1.
6- (1581) الخلاف: فی الوقف 3/548، مسألة 16.
7- (1582) غنیة النزوع فی الوقف /298.
8- (1583) السرائر: فی شروط صحّة الوقف 3/157.
9- (1584) کالحدائق الناضرة: فی اشتراط الدوام فی عقد الوقف 22/134.
10- (1585) النهایة: فی الوقوف والصدقات... /596.
11- (1586) السرائر: فی شروط صحّة الوقف 3/159.

دار. وزاد فی السرائر أو عمری أو رقبی. وهو معنی قوله فی الجامع(1) یصحّ أعمارا. وفی النافع(2) والتحریر(3) والدروس(4) والمسالک(5) والروضة(6) والکفایة(7) والمفاتیح(8) أنّه یصحّ حبسا، وهو معنی قوله فی التبصرة: إنّه یرجع إلی ورثة الواقف.(9) وفی جامع المقاصد أنّ فی صحّته حبسا قوّة.(10) وقال فی التذکرة(11): لو قال وقفت هذا سنة احتمل البطلان، وهل یبطل أصلاً فلا یعتدّ به أو یکون حبسا؟ إشکال. ویحتمل الصحّة ویکون حبسا، انتهی. أمّا البطلان فوجهه ظاهر، ولعلّه یرجع فی غیر کلام التذکرة إلی القول الآخر کما یرشد إلیه کلام السرائر وقد سمعته، وتعلیلهم له بأنّ شرط الوقف الدوام فیبطل لعدم حصول الشرط، إذ لو کانوا قائلین ببطلان الحبس لا حتاجوا فی بطلانه إلی شیء آخر زائد علی ما ذکروه، مع أنّه غیر مذکور، إذ من المعلوم أنّ بطلانه وقفا لا یستلزم بطلانه حبسا. وأمّا الصحّة حبسا فلوجود المقتضی، وهو الصیغة الصالحة للحبس، لاشتراک الوقف والحبس فی المعنی فیمکن إقامة کلّ واحدٍ مقام الآخر، فإذا قرن الوقف بعدم التأبید کان قرینة علی الحبس، وهذا المجاز شائع کما ستسمع فی المسائل الآتیة، کما لو اقترن الحبس بالتأبید کان قرینة علی الوقف»(12).

ص: 401


1- (1587) الجامع الشرائع: فی الوقف /370.
2- (1588) المختصر النافع: فی الوقوف والصدقات /156.
3- (1589) تحریر الأحکام الشرعیة: فی شرائط الوقف 3/292.
4- (1590) الدروس الشرعیة: فی الوقف 3/264.
5- (1591) مسالک الأفهام: فی شرائط الوقف 5/353.
6- (1592) الروضة البهیة: فی الوقف 3/169.
7- (1593) کفایة الأحکام: فی شرائط الواقف 2/10.
8- (1594) مفاتیح الشرائع: فی حکم الوقف علی الواقف... 3/207.
9- (1595) تبصرة المتعلّمین: فی الوقف /123.
10- (1596) جامع المقاصد: فی أرکان الوقف 9/16.
11- (1597) تذکرة الفقهاء 20/168، مسألة 96.
12- (1598) مفتاح الکرامة 21/461 و 462.

والمقصود بالوقف المنقطع لیس هذا القسم.

وأُخری: یطلق الوقف المنقطع علی ما إذا جعل المال علی مَنْ ینقرض سواءً أکان شخصا معیّنا کزیدٍ أم جمعا معینین کأولاده والسکوت عمّا یصنع به بعد الانقراض.

وهذا القسم الأخیر هو المراد هنا بالوقف المنقطع الآخر.

ویقع الکلام فیه عن جهات ثلاث:

وقبل الورود فی البحث لابدّ من التذکار بأنّ الوقف المنقطع یقسّم علی ثلاثة أقسام:

أ: الوقف المنقطع الأوّل: إمّا بجعل الواقف کما إذا وقفه إذا جاء رأس السنة الکذائیة، وإمّا بحکم الشرع بأن وقف أوّلاً علی ما لایصح الوقف علیه ثمّ علی غیره ممّا یصح والظاهر بطلانه رأسا.(1)

ب: الوقف المنقطع الوسط: کما إذا کان الموقوف علیه فی الوسط غیر صالح للوقف علیه بخلافه فی المبدأ والمنتهی، فهو بالنسبة إلی شطره الأوّل کالمنقطع الآخر فیصح وقفا وبالنسبة إلی شطره الآخر کالمنقطع الأوّل یبطل رأسا.(2)

ج: الوقف المنقطع الآخر وهذا هو محلّ البحث.

الجهة الاولی: صحة وقف المنقطع الآخر وعدمها؟
اشارة

هل یصح وقف العین منقطعا أم لا؟ وعلی فرض صحتها فهل یعدّ وقفا أو حبسا وأخواتها من السُکنی والعُمْری والرُّقْبی.(3)

ص: 402


1- (1599) کما فی وسیلة النجاة 2/198 لآیة اللّه السیّد أبوالحسن الإصفهانی قدس سره ، طبعة عام 1388ش، اعداد: الشیخ أحمد زادهوش.
2- (1600) کما فی وسیلة النجاة 2/198 لآیة اللّه السیّد أبوالحسن الإصفهانی قدس سره .
3- (1601) قال العلاّمة: «السکنی عقد یفتقر إلی الإیجاب والقبول والقبض، وفائدتها التسلیط علی استیفاء المنفعة مع بقاء الملک علی مالکه، ویختلف علیها الأسماء بحسب اختلاف الإضافة، فإذا قُرنت بعُمْر أحدهما قیل: عُمْری، وبالإسکان قیل: سُکنی، وبالمدّة قیل: رُقْبی». [تذکرة الفقهاء 20/285].
أ: الأقوال فی المسألة

قال الفقیه العاملی: «قد قرّب کونه حبسا کما هو صریح الوسیلة(1) وجامع الشرائع(2) والإرشاد(3) والمختلف(4) والتنقیح(5) والمقتصر(6) وإیضاح النافع وجامع المقاصد(7) والمسالک(8) والروضة(9) وکذا الروض(10) وهو ظاهر المراسم(11) والنهایة(12) والخلاف(13) والمبسوط(14) والمهذّب(15) والشرائع(16) والنافع(17) والتذکرة(18) التبصرة(19) والإیضاح(20)

ص: 403


1- (1602) الوسیلة: فی الوقوف والصدقات والوصایا /370.
2- (1603) الجامع للشرائع: فی الوقف /370.
3- (1604) إرشاد الأذهان: فی شرائط الوقف 1/452.
4- (1605) مختلف الشیعة: فی الوقف 6/305.
5- (1606) التنقیح الرائع: فی الوقوف والصدقات والهبات 2/303.
6- (1607) المقتصر: فی الوقوف والصدقات والهبات /209.
7- (1608) جامع المقاصد: فی أرکان الوقف 9/(19-18).
8- (1609) مسالک الأفهام: فی شرائط الوقف 5/356.
9- (1610) الروضة البهیة: وفی الوقف 3/(170-169).
10- (1611) لم نعثر علیه فی الروض، وراجع حاشیة الإرشاد (غایة المراد): فی الوقف 2/(429-428).
11- (1612) المراسم: فی أحکام الوقوف والصدقات /198.
12- (1613) النهایة: فی الوقوف والصدقات /599.
13- (1614) الخلاف: فی الوقف 3/543، مسألة 9.
14- (1615) المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/(293-292).
15- (1616) المهذّب: فی الوقوف والصدقات 2/91.
16- (1617) شرائع الإسلام: فی شرائط الوقف 2/(217-216).
17- (1618) المختصر النافع: فی الوقوف والصدقات والهبات /156.
18- (1619) تذکرة الفقهاء 20/168، مسألة 96.
19- (1620) تبصرة المتعلّمین: فی الوقف /123.
20- (1621) إیضاح الفوائد: فی صیغة الوقف 2/379.

وشرح الإرشاد(1) للفخر وغایة المراد(2) والمهذّب البارع(3) والکفایة(4) وأبی علیّ فیما حکی(5) عنه، لأنّهم قالوا جمیعا بأنّه یرجع عند انقراض الموقوف علیه إلی الواقف أو ورثته کما ستسمع فإنّه لوازم الحبس.

وظاهر المقنعة(6) والسرائر(7) أنّه یَصِحُّ وقفا؛ لأنّهما قالا بأنّه یرجع إلی ورثة الموقوف علیه ولا یرجع إلی الواقف ولا إلی ورثته. وإلیه مال أو قال به فی التحریر(8) وکذا الغنیة لأنّه قال: الأحوط أنّه یصرف فی وجوه البرّ.(9) ونفی عنه البأس فی المختلف(10). وقد نسب کاشف الرموز(11) إلی سلاّر موافقة المفید وهو غلط. وفی المسالک ممّا یحتمل موافقته للمفید کلام الشرائع فإنّه قال: یجب إجراؤه حتّی ینقرض المسمّون(12)، لکنّ الظاهر منها ما نسبناه إلیها، لأنّه(13) استظهر رجوعه إلی ورثة الواقف ولا ترجیح فی کشف الرموز(14) ولا فی الدروس(1636) أصلاً. وقد فهم من الدروس صاحب

ص: 404


1- (1622) حاشیة الإرشاد للنیلی: فی الوقف 68/، س5 (من کتب مکتبة المرعشی برقم 2474).
2- (1623) غایة المراد: فی الوقف 2/(429-428).
3- (1624) المهذّب البارع: فی الوقف 3/(53-50).
4- (1625) کفایة الأحکام: فی شرائط الوقف 2/10.
5- (1626) نقله عنه العلاّمة فی مختلف الشیعة: فی الوقف 6/304..
6- (1627) المقنعة: فی الوقوف والصدقات /655.
7- (1628) السرائر: فی أحکام الوقف 3/165.
8- (1629) تحریر الأحکام: فی شرائط الوقف 3/292.
9- (1630) غنیة النزوع: فی الوقف /299.
10- (1631) مختلف الشیعة: فی الوقف 6/(306-305).
11- (1632) کشف الرموز: فی الوقوف والصدقات والهبات 2/45.
12- (1633) مسالک الأفهام: فی شرائط الوقف 5/356.
13- (1634) شرائع الإسلام: فی شرائط الوقف 2/217.
14- (1635) کشف الرموز: فی الوقوف والصدقات والهبات 2/45.

جامع المقاصد أنّه یکون حبسا(1). وعبارته محتملة لذلک.

وأمّا ما نسب إلی القدماء من هؤلاء فلم یصادف محلّه. ففی المختلف(2) والإیضاح(3) أنّه قال الشیخان وابن الجنید یصحّ الوقف. وبه قال سلاّر وابن البرّاج وابن إدریس. وقال ابن حمزة: یکون حبسا بلفظ الوقف، انتهی کلامهما.

وفیه خطأ من وجوه إن أراد بالوقف معناه أو الحبس، لأنّ هؤلاء لیسوا علی کلمة واحدة کما عرفت، وقد اقتفاهما المتأخّرون فی ذلک. ففی المهذّب البارع(4) مثل ما فی الإیضاح. ونسب صحّة الوقف فی التنقیح(5) إلی النافع والشیخ وابن حمزة و ابن إدریس والعلاّمة. وفی جامع المقاصد(6) أنّ القول بالصحّة مختار الشیخ وأکثر الأصحاب و[العلاّمة] فی المختلف والتذکرة. وقال فی المقتصر(7): إنّه یکون سکنی أو عمری أو حبسا بلفظ الوقف، ونسبه إلی الشیخین وتلمیذهما وأبی علیّ وابن إدریس والمحقّق فی النافع، والکلّ فیما یظهر خلاف الصواب، لأنّک قد عرفت مَن نسبنا وقوعه حبسا أو وقفا إلی ظاهره وصریحه، نعم حکی عن الصیمری(8) أنّه قال: إنّ الأکثر من القدماء وعامّة مَن تأخّر علی الصحّة حبسا، وهو جیّد فی الجملة. وقال فی المفاتیح(9): إنّهم قالوا صحّ، ولو حمل علی الحبس زال الإشکال، انتهی. وفیه: أنّه لا یتمّ بالنسبة إلی المفید ومَن وافقه.

وأمّا القول بالبطلان فقد حکاه فی الخلاف(10)

ص: 405


1- 1 . جامع المقاصد: فی أرکان الوقف 9/16.
2- 2 . مختلف الشیعة: فی الوقف 6/304.
3- 3 . إیضاح الفوائد: فی صیغة الوقف 2/379.
4- 4 . المهذّب البارع، فی الوقف 3/(53-50).
5- 5 . التنقیح الرائع: فی الوقوف والصدقات 2/303.
6- 6 . جامع المقاصد: فی أرکان الوقف 9/17 وفیه «الشیخین» بدل «الشیخ».
7- 7 . المقتصر: فی الوقوف والصدقات والهبات /209.
8- 8 . غایة المرام: فی شرائط الوقف 2/(375-374).
9- 9 . مفاتیح الشرائع: فی حقیقة الوقف 3/208.
10- 10 . الخلاف: فی الوقف 3/543، مسألة 9.

والمبسوط(1) عن بعض أصحابنا ولم نجده. ویظهر من التذکرة(2) أنّه لم یظفر به أیضا.

ولیعلم أنّ جماعة قالوا: إنّ فی المسألة قولین: الصحّة والبطلان، وجماعة قالوا: ثلاثة أقوال»(3).

أقول: الظاهر أنّ الأقوال فی المسألة ثلاثة:

1_ البطلان: قد مرّ من العاملی أنّه حکی عن الخلاف والمبسوط القول بالبطلان عن بعض أصحابنا ولکنه لم یجده کما إنّ العلاّمة فی التذکرة لم یظفر به.

2_ الصحة وقفا: وهو المحکی عن ابن الجنید کما هو ظاهر المفید فی المقنعة وسلاّر وابن البراج و ابن إدریس فی السرائر ومال إلیه العلاّمة فی التحریر وابن زهرة فی الغنیة.

3_ الصحة حبسا: وهو قول أکثر القدماء وعامّة والمتأخرین.

ب: أدلة صحة الوقف المنقطع الآخر

1_ الأدلة العامة

1/1_ قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(4).

تارة یعدّ الوقف من العقود واُخری من الایقاعات.

وتارة «الْعُقُودِ» فی الآیة الشریفة تحمل علی العقد المصطلح المرکب من الایجاب والقبول، واُخری تحمل علی مطلق العهد.

فإذا عدنا الوقف من العقود یشمله الآیة الشریفة علی مبنی العهدیة.

ولذا قالوا: «إنّ التمسک بالآیة الشریفة فی الوقف المنقطع متوقّف علی عقدیة الوقف أو عهدیة العقد فی الآیة»(5).

ص: 406


1- 1 . المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/292 و 293.
2- 2 . تذکرة الفقهاء 20/163.
3- 3 . مفتاح الکرامة 21/(468-465).
4- 4 . سورة المائدة /1.
5- 5 . العقد النضید 5/90.

2/1_ قوله علیه السلام : المؤمنون عند شروطهم.

تقریب الاستدلال بهذا الحدیث الشریف مبنیٌ علی عمومیة الشرط بحیث یشمل الشروط الابتدائیة وقد مرّ عدم تمامیة هذا المبنی.

وأمّا إذا قلنا علی أنّ الشرط هو عبارة عن الالتزام فی ضمن الالتزام _ کما هو المختار _ فلا یمکن الاستدلال لصحة وقف المنقطع الآخر بهذا الحدیث الشریف.

3/1_ قوله علیه السلام : الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها

تقریب الاستدلال: أنّ الشارع قد حکم بمقتضی الجمع المحلّی ب_ «ال» بمراعاة کلّ وقف، فیحکم من ذلک صحة مطلق الوقف، إذ لو لا صحة الجمیع لما صح حکمه العام بلزوم المراعاة فَیَصِحُّ التمسک بعموم هذا الحدیث لصحة الوقف المنقطع الآخر.

لا یقال: «أنّ الحدیث فی مقام حثّ النّاس علی وجوب العمل بمضمون الوقف والالتزام بمقتضاه، وهما متفرّعان علی صحّة الوقف، بمعنی أنّه یجب أوّلاً أن یکون الوقف صحیحا لیترتّب علیه وجوب العمل بمقتضاه، وبالتالی فإنّ التمسّک بعموم الحدیث لإثبات صحّة ما نشکّ فی وقفیّته ممنوع»(1).

لأنّا نقول: یَصِحُّ التمسک بهذا الحدیث کما یَصِحُّ التمسک عند الشک فی صحة العقد بعموم قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لإثبات الصحة مع أنّ الدلیل المذکور دلیل علی اللزوم الذی هو فرع الصحة، وکذلک التمسک بهذا الحدیث.

إن قلت: لو کان التأبید مأخوذا فی حقیقة الوقف ومفهومه لایتم الاستدلال بهذا الحدیث، لأنّه مع احتمال مدخلیة التأبید فی حقیقة الوقف یکون التمسک بالحدیث تمسّکا بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة لذاک الدلیل.

قلت: حقیقة الوقف لیست إلاّ إیقاف العین الموقوفة والمنع عن مطلق التقلّبات فیها، وهذه الحقیقة جاریة فی الوقف المنقطع الآخر لأنّ العین موقوفة علیهم ولا یجوز انتقالها فیشمله قوله علیه السلام : الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها.

ص: 407


1- 1 . العقد النضید 5/91.

نعم، لو کانت حقیقة الوقف تملیک العین للموقوفة علیهم فلا مجال «لإدراج المنقطع فی الوقف إلاّ بعد إمکان فرض إنشاء الملکیّة المحدودة، وأمّا مع إنکار فرض مثل هذه الملکیّة المؤقّتة والمحدودة بکذا سنة، بحیث تخرج العین عن الملکیّة فترة محدودة ثمّ تعود إلیها بعد انقضاءها، فإنّه یبطل الاستدلال بعموم الحدیث المذکور.

وسوف نبحث لاحقا عن أنّه هل یمکن فرض الملکیّة المحدودة والموقّتة عقلاً وعدمه؟

وفی کلّ الأحوال، فإنّ الثابت عَقَلاً أو عُقَلاءً عدم إمکان فرض الملکیّة الموقّتة فی الأعیان، بأن یسلب زیدٌ ملکیّته علی العین کذا سنة وبعدها تعود الملکیّة إلیه مرّةً اُخری، وإن صحّ ذلک فی المنافع»(1).

ولکن العمدة عدم تمامیة هذا الْمَبْنی فی حقیقة الوقف.

2_ الأدلة الخاصة

1/2_ صحیحة علی بن مهزیار

صحیحة علی بن مهزیار قال: قلت له: روی بعض موالیک عن آبائک علیهم السلام : أنّ کلّ وقف إلی وقت معلوم فهو واجب علی الورثة، وکلّ وقف إلی غیر وقت جهل مجهول فهو باطل علی الورثة، وأنت أعلم بقول آبائک علیهم السلام ، فکتب علیه السلام : هکذا هو عندی»(2).

بتقریب: قوله علیه السلام : «أنّ کلّ وقفٍ إلی وقت معلوم فهو واجب علی الورثة» بإطلاقه یدلّ علی صحة الوقف المعلوم وقته وبطلان الوقف المجهول وقته.

«وبعبارة أُخری: تدلّ الفقرة المذکورة أنّ الوقف _ سواءً کان مؤبّدا أو موقّتا _ یتحقّق متی ما کان وقته معلوما، ولا تعود العین الموقوفة حینئذٍ إلی الواقف.

نعم، قام الإجماع علی بطلان الوقف لمدّة معیّنة معلومة کعشر سنوات أو أکثر أو أقلّ [کما مرّ فی أوّل البحث] وعدا ذلک فإنّ جمیع أقسام الوقف الموقّتة داخلة فی إطلاق

ص: 408


1- 1 . العقد النضید 5/90 و 91.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/192، ح1، اللباب 7 من أبواب کتاب الوقوف والصدقات.

هذه الروایة، ومنه الوقف المنقطع کالوقف علی زیدٍ مدّة حیاته، فإنّه وإن نجهل مدّة حیاته، إلاّ أنّ مدّة الوقفیّة معلومة وهی فترة حیاته.

وبالجملة: فهذه الروایة دالّة بظهورها علی صحّة الوقف المنقطع [الآخر]»(1).

2/2_ صحیحة محمّد بن الحسن الصفار

قال الصفار: کتبتُ إلی أبی محمّد علیه السلام أسأله عن الوقف الذی یصحّ کیف هو؟ فقد روی أنّ الوقف إذا کان غیر مؤقَّت فهو باطل مردود علی الورثة، وإذا کان مؤقّتا فهو صحیح ممضی.

قال قوم: إن المؤقّت هو الذی یذکر فیه أنّه وقف علی فلان وعقبه فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساکین إلی أن یرث اللّه الأرض ومن علیها.

وقال آخرون: هذا مؤقّت إذا ذکر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا، ولم یذکر فی آخره للفقراء والمساکین إلی أن یرث اللّه الأرض ومن علیها، والذی هو غیر مؤقّت أن یقول: هذا وقف، ولم یذکر أحدا، فما الذی یصحّ من ذلک؟ وما الذی یبطل؟

فوقّع علیه السلام : الوقوف بحسب ما یوقفها إن شاء اللّه.(2)

هذه المکاتبة صحیحة الإسناد دالة «علی أنّ المعهود من عنوان «الوقف الموقت» فی عُرف المکاتب _ وهو الصفار _ ما یُذکر فیه الموقوف علیه، إمّا مع قرینة التأبید کالوقف علی أشخاصٍ أو جهةٍ، ثمّ تعقیبه بکونه للفقراء والمساکین إلی أن یرث اللّه الأرض ومَن علیها، کما هو رأی قوم. وإمّا بالإقتصار علی شخصٍ وعقبه ما بقوا، وعدم تعیین مآل الوقف بعد إنقراضهم. والأوّل مؤبّد، والثانی منقطع الآخر بحسب مصطلح الفقهاء. ویقابلهما غیر الموقت أی ما لم یُذکر الموقوف علیه أصلاً، وهو باطل.

وبالجملة: فالقرینة الداخلیة _ وهی قول الصفار: «قال قوم... وقال آخرون _ تشهد بأنّ المراد بالموقت لیس هو المقترن بمدّة وأجل، وإن کان المتبادر منه هو المحدود

ص: 409


1- 1 . العقد النضید 5/92.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/192، ح2.

بزمانٍ، بل المراد التصریح بالموقوف علیهم.

ومنه تَظْهَرُ متانة ما أفاده شیخ الطائفة قدس سره من تفسیر إجمال صحیحة ابن مهزیار بصحیحة الصفار، حیث قال: «ومعنی هذا الذی رواه علی بن مهزیار من قوله: کلّ وقف إلی وقت معلوم واجب، معناه: أنّه إذا کان الموقوف علیه مذکورا، لأنّه إن لم یُذکر فی الوقف موقوف علیه بطل الوقف. ولم یرد بالوقت الأجل، وکان هذا تعارفا بینهم. والذی یدل علی ذلک ما رواه محمّد بن الحسن الصفار...»(1).

لکن قد یُشکل هذا التفسیر بذکر «الورثة» فی کلتا الکلیتین فی صحیحة ابن مهزیار من قوله: «واجب علی الورثة... باطل مردود علی الورثة» مع عدم الدخل فی الصحة والبطلان.

ولعلّه قد یوجّه تارةً بما ذهب إلیه جمع من المحدثین والفقهاء من إبقاء «الوقت» علی ظاهره وهو المدّة، وإرادة الحبس من الوقف.

قال [المحقّق] المجلسی الأوّل قدس سره : «إعلم أن ظاهر الجواب: أنّ الوقف بحسب ما یوقف. فإن کان مؤبّدا بأیِّ وجهٍ کان سواء ضمّ الفقراء والمساکین... أو لم یضمّ فهو وقف مؤبّد. وإن کان موقّتا بأن یکون إلی مدةٍ معلومة أو علی شخصٍ معیّنٍ _ والغالب إنقراضه _ فلیس بوقفٍ بالمعنی الأخص، ولکنه حبس صحیح، لا یجوز بیعه مادام المحبوس علیه حیّا، وبعده یرجع إلی ورثة الواقف، وهذا معنی قوله علیه السلام : «باطل مردود علی الورثة»، أی یبطل بعد المدة، لا أنّه باطل عند الصیغة...»(2).

لکن الحمل علی الحبس مع تصریحهم بکون الوقف مجازا فیه منوط بقرینة مفقودة. ومجرّد إنشاء الوقف لمن ینقرض لا یصلح قرینةً علی إرادة الحبس، لتوقفها علی المنافاة عرفا بین مفهوم الوقف والتقیید المزبور حتّی یکون التقیید قرینةً علی إرادة

ص: 410


1- 1 . تهذیب الأحکام 9/132؛ الاستبصار 4/100.
2- 2 . روضة المتقین 11/150، وأفاد نحوه نجله العلاّمة المجلسی الثانی فی ملاذ الأخیار 14/403 وغیرهما، فلاحظ الوسائل 19/193؛ الحدائق الناظرة 22/135؛ ریاض المسائل 10/106؛ مفتاح الکرامة 21/474.

خلاف الظاهر، والمفروض عدم دخل التأبید _ بهذا المعنی _ فی مفهوم الوقف. ومنافاة ظهور صدر صحیحة ابن مهزیار للإجماع علی بطلان الوقف الموقّت بمدّةٍ، لا توجب الحملَ علی الحبس ما لم تنهض قرینة علیه.

وأُخری بما اختاره صاحبُ الجواهر قدس سره بعد إبقاء «الوقف» علی معناه المقابل للحبس، من أنّ الصحة تکون بإعتبار بقاء الموقوف علیه الموقت، والفساد بلحاظ إنقراضه. قال قدس سره : «ففی مثل المفروض هو موقّت مادام الموقوف علیه موجودا، وغیر موقت إذا إنقرضوا، فیثبت له حکم کلٍّ منهما من الصحة والفساد، ضرورة أن قوله علیه السلام فی الصحیح الأوّل [علی بن مهزیار]: _ هو کذلک عندی _ تقریر للکلیتین المفسّرین بالصحیح الآخر _ أی صحیح الصفار _ الذی هو کالصریح فی صحة الوقف بالتفسیر الثانی منهما، وهو مفروض مسألتنا»(1) وإستشهد علی ذلک بما ورد فی [ذیل صحیحة الصفار[ من کونه مردودا علی الورثة، إذ لو کان باطلاً من أوّل الأمر لکان مردودا علی الواقف الذی لم ینتقل المال عنه حتّی یرد علیه مرّة أُخری.

ولکن یمکن التأمل فیه بأن ظاهر مکاتبة [الصفار] التفصیل بین الموقت وغیر الموقت، بالصحة فی الأوّل والبطلان فی الثانی، لا أنّ الموقت یصح فی مدّة بقاء الموقوف علیه، ویبطل بعده، حتّی یکون إنشاء وقفٍ متصفا بالصحة فی زمان حیاة الموقوف علیه وبالفساد بإنقضائه.

وبعبارة أُخری: انّ توصیف «الوقف» بالصحة والفساد [1] تارة یکون بلحاظ حالات الوقف، بمعنی أنّه یحکم علی فردٍ واحدٍ من طبیعی الوقف بالصحة فی مدةٍ، وبالبطلان فی مدةٍ اُخری.

[2] وأُخری یکون المتصف بهما هو الطبیعی بلحاظ حصصه، فبعضها محکوم بالصحة من أوّل الأمر، ومادام عنوان «الوقف» وبعضها محکوم بالبطلان کذلک، لفقد شرطٍ أو إقتران مانع، فلا ینقلب الصحیح باطلاً. والظاهر من الصحیحة هو الثانی، فالموقت

ص: 411


1- 1 . جواهر الکلام 29/127 (28/57 و 58).

صحیح، سواء أکان الموقوف علیه دائما أو منقرضا، وغیر الموقّت باطل.

وإنتهاء الوقف فی المنقطع بإنقراض الموقوف علیه لا یوجب توصیفه بالباطل، إذ البطلان بإنتفاء الموقوف علیه نظیر إنتفاء الوقف بإنتفاء الموقوفة فی کونه من إنتفاء العارض بإنتفاء موضوعه، وهو ضروری.

وقوله علیه السلام : «مردود علی الورثة» لا یکون قرینة علی إرادة الوقف المنقطع، کما لا یکون قرینةً علی إرادة الحبس، فلعلّ ذکره بالخصوص لأمر ما یقتضیه [وهو أنّ الغالب ظهور البطلان بعد موت الواقف] وإلاّ فالوقف إن کان صحیحا فقد وجب علی الواقف، وإن کان باطلاً فقد رُدّ إلیه.

[غایة الأمر] أنّ إبهام جملة «مردود علی الورثة» والردّ علیهم لا یقدح فی الإستدلال بالمکاتبة علی مشروعیة الوقف المنقطع ومُضیِّه علی الواقف، وعدم دلالتها علی صحة الحبس کما ورد فی کلمات من اُشیر إلیهم، مع تصریح مثل الشهید الثانی(1) قدس سره بکون الوقف مجازا فیه، وعدم ما یصلح للقرینیة علیه.

فلو کان تبادر المدّة من «الوقف» مانعا عن إرادة الموقوف علیهم، کان تبادر «الوقف» المصطلح مانعا عن الحمل علی الحبس، ولیست قرینیة التعارف المستفادة من مکاتبة الصفار أضعف من قرینیة إنقراض الموقوف علیهم حتّی نلتجئ إلی إرادة الحبس.

والمتحصل: وفاءُ [صحیحة الصفار] بإثبات صحة الوقف المنقطع»(2).

3/2_ صحیحة أحمد بن محمّد

صحیحة أحمد بن محمّد عن أبی الحسن الثانی علیه السلام ، قال: سألته عن الحیطان السّبعة الّتی کانت میراث رسول اللّه صلی الله علیه و آله لفاطمة علیهاالسلام ؟

فقال: لا، إنّما کانت وقفا، وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یأخذ إلیه منها ما ینفق علی أضیافه، والتّابعة تلزمه فیها، فلمّا قبض جاء العبّاس یخاصم فاطمة علیهاالسلام فیها، فشهد علیّ علیه السلام وغیره

ص: 412


1- 1 . المسالک 5/356.
2- 2 . هدی الطالب 7/(207-204).

أنّها وقفٌ علی فاطمة علیهاالسلام ، وهی: الدّلال، والعَوَاف، والحُسْنی، والصّافیة، وما لأمّ إبراهیم، والمَیْثَبُ، والبُرْقَةُ.(1)

بتقریب: أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وقف الحیطان السبعة علی بنته سیّدة نساء العالمین فاطمة الزهراء _ سلام اللّه علیها _ ، وشهد أمیرالمؤمنین علیه السلام وغیره أنّها وقف علیها ونفی علی بن موسی الرضا علیه السلام کونها إرثا وقال: «إنّما کانت وقفا».

ومن المعلوم أنّ الوقف علی الصدیقة الشهیدة _ سلام اللّه علیها _ یکون من مصادیق الوقف المنقطع الآخر، وقف لها والدها رسول اللّه علیه السلام ، فیمکن القول بصحة الوقف المنقطع الآخر بلا ریب.

والحاصل: أنّ المراد بالدوام فی الوقف واشتراط صحته به هو أحد الأمرین علی سبیل منع الخلو:

1_ الدوام مادامت العین باقیة.

2_ الدوام مادام الموقوف علیهم مَوْجُوْدِیْنَ، ولیس المراد به الأبدیة إلی یوم القیامة فحینئذ لا مانع من صحة الوقف المنقطع.

والمختار: هو صحة الوقف المنقطع وقفا کما هو المحکی عن ابن الجنید، وهو ظاهر المفید وسلاّر وابن البراج وابن إدریس ومال إلیه العلاّمة وابن زهرة واللّه العالم.

ج: ملکیة العین الموقوفة

بعد القول بصحة الوقف المنقطع الآخر وبعد انقطاع الموقوف علیهم لِمَنْ ترجع ملکیة العین الموقوفة؟

فی المسألة أقوال ثلاثة(2)

1_ الرجوع إلی الواقف أو ورثته طلقا، و«هو خیرة ما یزید علی عشرین کتابا»(3).

ص: 413


1- 1 . الکافی 13/444، ح1 (7/47)؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 19/119، ذیل ح2.
2- 2 . کما ورد فی کلام المحقّق والشهید الثانیین فراجع جامع المقاصد 9/16، والمسالک 5/356.
3- 3 . قاله السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة 21/468.

2_ الرجوع إلی ورثة الموقوف علیهم بعد وفاتهم کما فی المقنعة(1) والسرائر(2) والمراسم(3) ومال إلیه أو قال به فی التحریر(4).

3_ الرجوع إلی وجوه البرّ فتدخل فی عنوان «سبیل اللّه» وهو اختیار ابن زهرة(5) وجعلها الأحوط، ونفی العلاّمة عنه البأس فی المختلف(6).

أدلة القول الأوّل:

وهو الرجوع إلی الواقف أو ورثته طلقا بل یمکن القول ببقاء الملکیة للواقف فی الوقف المنقطع خصوصا للوجوه التالیة:

«أ: عدم قیام دلیل یدلّ علی الخروج؛ لأنّ مجرّد إنشاء الوقف المنقطع لا یقتضی ذلک.

ب: عدم قیام الملازمة بین إنشاء الوقف المنقطع وخروج العین عن مِلک الواقف.

ج: عدم قیام دلیل یفید دخول العین فی مِلک الموقوف علیهم فی الوقف المنقطع.

د: إنّ القواعد العامّة تقتضی بقاء المِلک فی ملکیّة مالکه إلی أن یقوم السبب المزیل لها _ سواءً القهریّة منه أو الاختیاریّة _ وقد ثبت قیامه فی الوقف الدائم دون المنقطع، وبالتالی فإنّ نفس دلیل ملکیّة المالک یقتضی بقاء العین فی ملکیّته فی الوقف المنقطع.

ه_ : وأخیرا _ بعد الفراغ عن استعراض الأدلّة _ فإنّ الأصل العملی أیضا یقتضی بقاء العین علی ملکیّة مالکه، بمعنی أنّه عند الشکّ فی خروجها بعد إنشاء الوقف المنقطع، فإنّ الاستصحاب یقتضی بقاءها»(7).

ص: 414


1- 1 . المقنعة /655.
2- 2 . السرائر 3/165.
3- 3 . المراسم /198.
4- 4 . التحریر 3/292.
5- 5 . غنیة النزوع /299.
6- 6 . مختلف الشیعة 6/305 و 306.
7- 7 . العقد النضید 5/98.

ویمکن تأیید هذه الأدلة بصحیحة الحسین بن نُعیم الصحاف عن أبی الحسن موسی علیه السلام قال: سألته عن رجلٍ جعل دارا سکنی لرجلٍ إبّان حیاته، أو جعلها له ولعقبه من بعده؟

قال: هی له ولعقبه من بعده کما شرط.

قلت: فإن احتاج، یبیعها؟ قال: نعم.

قلت: فینقض بیعه الدّار السُکنی؟

قال: لا ینقض البیع السّکنی کذلک، سمعت أبی علیه السلام یقول: قال أبوجعفرٍ علیه السلام : لا ینقض البیع الإجارة ولا السّکنی، ولکن یبیعه علی أنّ الّذی یشتریه لا یملک ما اشتری حتّی ینقضی السّکنی علی ما شرط والإجارة.

قلت: فإنْ ردّ علی المستأجر ماله وجمیع ما لزمه من النّفقة والعمارة فیما استأجره؟

قال: علی طیبة النّفس، ویرضی المستأجر بذلک لا بأس.(1)

بناءً علی أنّ المراد بالجعل هنا الوقف ولا الحبس، فتدلّ علی جواز بیع الوقف المنقطع الآخر من الواقف وإذا جاز بیعها فالعین کانت باقیة علی ملکه ولم تخرج عن ملکیته حتّی ترجع إلیه وأمّا لو کان المراد من الجعل فیها الحبس فلاتفی بالمقصود ولذا یمکن تأئید الأدلة بهذه الصحیحة فقط.

«وعن المحقّق القمی(2) رحمه الله أنّه التزم بأنّ الوقف المنقطع یقع حبسا، والمراد بالحبس إبقاء المالک العین علی ملکه وتملیک المنفعة منها للمحبوس له أو جعل الانتفاع منها له، وإن قید ذلک بما دام عمر المحبوس له أو مادامت حیاته أو بزمان خاص فهو، وإن جعل مطلقا یلزم مادامت حیاة الحابس.

ووجه التزامه أنّ الوقف المنقطع لایقع وقفا لاعتبار التأبید فی تحقق عنوان الوقف،

ص: 415


1- 1 . الکافی 13/420، ح38 (7/38)، ونقلها فی وسائل الشیعة 19/135، ح3، الباب 24 من أبواب کتاب الاجارة عن المشایخ الثلاث فی الکتب الأربعة.
2- 2 . جامع الشتات 4/81.

والمراد بتأبید جعل العین للموقوف علیهم إلی أنّ یرث اللّه الأرض ومن علیها.

وأما وقوعه حبسا فاُستشهد بصحیحة عمر بن أُذینة قال: «کنت شاهدا ابن أبی لیلی فقضی فی رجل جعل لبعض قرابته غلّة داره ولم یؤقّت وقتا، فمات الرجل فحضر ورثته ابن أبی لیلی وحضر قرابته الذی جعل له غلّة الدار، فقال ابن أبی لیلی: أری أنّ أدعها علی ما ترکها صاحبها، فقال له محمّد بن مسلم الثقفی: أمّا إنّ علی بن أبیطالب قد قضی فی هذا المسجد بخلاف ما قضیت، فقال: وما علمک؟

فقال: سمعت أباجعفر بن محمّد بن علی علیه السلام یقول: قضی علی علیه السلام برد الحبیس وإنفاذ المواریث.

فقال له ابن أبی لیلی: هذا عندک فی کتابک؟ قال: نعم، قال: فأرسل وائتنی به.

قال له محمّد بن مسلم: علی أنّ لا تنظر من الکتاب إلاّ فی ذلک الحدیث، قال: لک ذاک. قال: فأراه الحدیث عن أبی جعفر علیه السلام فی الکتاب فردّ قضیته»(1).

أقول: کان فی نسخته رحمه الله «ولم یوقف وقفا»(2)، وفهم منه أنّ الجعل إذا لم یکن وقفا یکون حبسا، وفیه ما لا یخفی، فإن الحبس کسائر العقود والإیقاعات یحتاج إلی القصد ومع عدمه أی بإرادة تملیک العین _ کما هو الفرض _ لا یتحقّق الحبس، والروایة ظاهرة فی إرادة الحبس مطلقا المحکوم بعود العین معه إلی ملک الحابس بموته کما لا یخفی.

لا یقال: إذا کان الوقف المنقطع بقصد التقرب فکیف یلتزم بعود الملک إلی الواقف وانتقاله إلی ورثته حین موته مع مادل علی أنّ ما کان للّه لا یرد؟

فإنه یقال: معنی عدم ردّه عدم إرجاع العین بفسخ المعاملة الواقعة بقصد التقریب، وأما إرجاعها بعد انتهاء أمد المعاملة فلا یدخل فی مدلول ذلک الدلیل، کما لو تصدق بمنفعة داره إلی سنتین فبعد انقضاء المدّة لا یکون استرجاع الدار منافیا له، وبهذا یظهر

ص: 416


1- 1 . الکافی 13/408، ح27 (7/34)؛ وسائل الشیعة 19/223، ح1، الباب 5 من کتاب السکنی والحبیس.
2- 2 . بدل «ولم یؤقِّتْ وقتا».

الحال فی الحبس بقصد القربة، فتدبّر جیدا»(1).

وبالجملة: لم یثبت خروج العین عن ملک الواقف فی الوقف المنقطع الآخر.

دلیل القول الثانی:

استدل للقول الثانی «بأنّ للوقف حقیقة واحدة یشترک فیها الوقف المؤبّد والمنقطع، فهما متّفقان فی اندراجهما تحت هذه الحقیقة الواحدة، التی هی انتقال العین الموقوفة بعد إنشاء الوقف إلی ملکیّة البطن الموجود من الموقوف علیهم ملکیّة فعلیّة، وإلی ملکیّة البطون اللاّحقة ملکیّة شأنیّة، ولذلک لا یمکن فرض المنقطع وقفا ثمّ سلب الحقیقة المذکورة عنه، بل بالضرورة لابدّ فیه من انتقال الملکیّة إلیهم فعلاً وشأنا.

أقول: ویرد علیه نقضا وحلاًّ:

أمّا النقض: فإنّ اعتبار کون الوقف له حقیقة واحدة دعوی لا غبار علیها، لکن هناک موارد تشمله عنوان الوقف مع فقدها للحقیقة المذکورة، کما فی وقف المساجد، حیث أنّ وقفها یشابه تحریر العبید فی فکّها عن رقبة الملکیّة والإضافة، فکما أنّ وقف المسجد لا یتضمّن ملکیّة الموقوف علیهم له، فیمکن الأمر فی المقام کذلک.

أمّا الحلٌ: [فأوّلاً: لا نقبل انتقال العین الموقوفة إلی موقوف علیهم ولم یدلّ دلیل علیه.

وثانیا:] لابدّ من التفریق بین الوقف الدائم والوقف المنقطع برغم اشتراکهما فی الحقیقة المذکورة، لأنّ الإنشاء فی الوقف الدائم عند العامّة والخاصّة لیس إلاّ حبس العین وتسبیل الثمرة، وهم یقتضیان سلب الملکیّة وآثارها عن الواقف، ونقلهما إلی الموقوف علیهم أبدا إلی أن یرث اللّه الأرض ومَنْ علیها، ولذلک لا یصحّ فرض تحقّق الوقف الدائم واعتبار بقاء ملکیّة العین للواقف، بل بمجرّد إنشاء الوقف تنتقل ملکیّة العین وآثارها عن الواقف إلی الموقوف علیهم، ویعدّ الواقف _ عرفا وعُقَلاءً وعند جمیع الملل والنحل _ أجنبیّا بالمرّة عن العین ومنافعها.

ص: 417


1- 1 . إرشاد الطالب 4/414 و 415.

وهذا بخلاف ما علیه الحال فی الوقف المنقطع، حیث أنّ الواقف قد سلب عن نفسه من خلال إنشاءه المذکور الملکیّة لمدّة محدودة لا دائمة، وبالتالی فلا مانع من اعتبار الملکیّة له بعد انقضاء الفترة المذکورة، وهذا ما قام علیه الارتکاز العقلائی، ولا أقلّ من أنّ الأصل عند الشکّ فی ثبوت هذا الارتکاز والتردید فی سعة الدلیل وضیقه، هو الاقتصار علی القدر المتیقّن من انتقال المِلک عنه فی الفترة المذکورة، ومن ثمّ عوده إلیه.

وهکذا _ نقضا وحلاًّ _ ثبت بطلان دعوی القائلین بانتقال المِلک من الواقف فی الوقف المنقطع»(1).

وأمّا دلیل القول الثالث:

فالظاهر أنّ دلیل السیّد ابن زُهْرَةَ عدم تمامیة دلیل القولین فذهب إلی أنّ الرجوع إلی وجوه البرّ أحوط.

ویرد علیه: مع تمامیة أدلة القول الأوّل أنّ الرجوع أو البقاء علی ملک الواقف تام.

د: بیع العین الموقوفة فی الوقف المنقطع الآخر
اشارة

بناءً علی القول الأوّل فی ملکیة العین

أعنی رجوعها إلی الواقف أو ورثته طلقا، بل یمکن القول بعدم خروجها من ملک الواقف فی هذا القسم.

فحینئذ یمکن القول بصحة بیعها، لأنّ العین باقیة فی ملک الواقف أو ترجع إلیه فیجوز بیعه لأنّه باع مایملکه.

المناقشة فی صحة هذا البیع بالغرر

قد جاءت المناقشة فی صحته بوجود الضرر فی هذا البیع وقد نهی النبی صلی الله علیه و آله عن بیع الغرر وأوّل مَنْ تعرض لهذا النِقاش الشیخ أسداللّه التستری(2) وتبعه الشیخ الأعظم(3) _ قدس سرهما _ ویمکن طرحها بتقریبین:

ص: 418


1- 1 . العقد النضید 5/(98-96).
2- 2 . مقابس الأنوار، کتاب البیع /65.
3- 3 . المکاسب 4/102.

«الأوّل: أنّ العین الموقوفة علی مَن ینقرض وإن کانت ملکا للواقف حسب الفرض، ولکنها مسلوبة المنفعة، لکونها مستحقةً للموقوف علیه مدّة حیاته. ولمّا لم یکن أمدُ إستحقاق المنفعة مضبوطا بالأعوام لم یعلم المشتری أن عوض الثمن هل هو المبیع المسلوب منفعته سنةً أو مسلوبها عشر سنین؟ فیصدق «البیع الغرری» علیه، لدخل قِصَر المدّة وطولها فی مالیة المبیع زیادةً ونقصا.

والشاهد علی أن الجهل بزمان تسلیم المنفعة یوجب غرریة البیع ما ذکروه فی بطلان بیع مسکن المطلّقة بالأقراء، لجهالة وقت إنتفاع المشتری بذلک المسکن، لدوران زمان عدّتها بین ستة وعشرین یوما ولحظتین(1)، وتسعة أشهر، وسنة، وخمسة عشر شهرا.(2) فلو باع المالکُ هذا المسکن فلابدّ أن یبیعه مسلوب المنفعة، فإن عُلِم أمدُ العدة _ کما إذا کانت بالأشهر _ صحّ البیع، فهو نظیر بیع دارٍ مؤجّرةٍ سنةً. وإن لم یعلم لزم الجهل بوقت تسلیم المنفعة _ وهی السکنی _ للمشتری، فیبطل البیع.

قال المحقّق قدس سره : «لو طلّقها ثمّ باع المنزل، فإن کانت معتدةً بالأقراء لم یصح البیع، لأنها تستحق سکنی غیر معلومة، فیتحقق الجهالة... ولو کانت معتدة بالشهور صحّ، لإرتفاع الجهالة»(3).

والمقام أَوْلی بالبطلان، لإمکان إستثناء البائع _ لمسکن المعتدّة _ أطولَ مدةٍ یقطع بعدم زیادة العدة علیها، وهی خمسة عشر شهرا، بخلاف ما نحن فیه، إذ لا سبیل للعلم بمدة حیاة الموقوف علیه حتّی یستثنیها الواقف.

الثانی: أنّه لا فرق فی مانعیة الغرر فی البیع بین الجهل بذات العوضین وبین الجهل بشأنهما من وصفٍ أو خصوصیةٍ کما فی المقام، لکون وقت القدرة علی تسلیم المنفعة للمشتری مجهولاً»(4).

ص: 419


1- 1 . راجع شرائع الإسلام 3/23.
2- 2 . راجع شرائع الإسلام 3/26.
3- 3 . شرائع الإسلام 3/32.
4- 4 . هدی الطالب 7/211.

وتبعهما المحقّق السیّد الخوئی وذهب إلی غرریة هذا البیع وقال: «نعم، یکون البیع باطلاً من جهة الجهالة فیکون غرریا فهو منهی عنه لأنّ مدّة انتفاع الموقوف علیهم وانقراضهم مجهولة ومن هنا منع الأصحاب کما حکی عن الإیضاح بیع مسکن المطلقة المتعدة بالإقراء لجهالة مدّة العدة.

وبالجملة أن بیع الواقف الوقف المنقطع وان لم یکن فیه مانع من الأخبار مع وجود المقتضی له ولکن جهالة مدّة مانعة عنه من حیث لزوم الغرر بجهالة وقت استحقاق التسلیم التام علی وجه ینتفع به کما لا یخفی»(1).

مقالة المحقّقین الخراسانی والإصفهانی فی صحة المعاملة
اشارة

ولکن فی مقابلهم ذهب المحقّق الخراسانی إلی عدم غرریة هذه المعاملة وقال: «یمکن أن یقال: انّ الجهالة انّما توجب الغرر المضرّ فیما إذا کانت فی نفس العوضین، لا فی منافعهما، حیث أنّ المنافع لیست موردا للبیع، ولذا لو لم یعلم مقدارها، وانّ منفعة هذه العین، قلیلة أو کثیرة، لم یضّر قطعا. نعم تفاوت المنفعة، توجب تفاوت مالیّة ذی المنفعة، والجهل بها ربّما یوجب الجهل بمقدار مالیّته، لکن الجهل بمقدار المالیّة مع العلم بالمال، لا یوجب الغرر، ولو سلّم فلا یکون بمضرّ بلا إشکال»(2).

مراده: «أنّ الغرریّة وصفٌ متعلّق للبیع، والقواعد تقتضی لزوم عدم غرریّة البیع، لکن غرریّته تکون بغرریّة متعلّقه الذی هو العین دون المنافع؛ أی لو کانت الجهالة فی ذات العین وأوصافها کانت السبب فی تحقّق الغرر المبطل للمعاملة، وأمّا إذا لم تکن العین مجهولة بل کانت الجهالة فی المنافع من جهة مدّة التسلیم وکیفیّة ذلک، فإنّ مثل هذه الجهالة لا تکون مضرّة، لعدم سرایتها إلی ذات العین وصفاتها، فإذا کانت العین معلومة الذات والصفات وتحقّقت القدرة علی تسلیمها _ وإن جهل تاریخ التسلیم _ فإنّ مثل هذه العین لا مجال لاتّصاف بیعها بالغرور، ومن ثمّ البطلان»(3).

ص: 420


1- 1 . مصباح الفقاهة 5/236.
2- 2 . حاشیة المکاسب /114.
3- 3 . العقد النضید 5/104.

وتبع المحقّق الإصفهانی أُستاذه الخراسانی وذهب إلی صحة المعاملة وأنّ الجهالة المدعاة لا تضرّ بصحتها للوجوه التالیة وقال: «إنّ المقتضی لصحة البیع وهی الملکیة موجود فلابدّ من مانع عنه شرعا، وما یکون مانعا [1] إمّا الجهالة بمقدار المنفعة التی یستحقها الموقوف علیه؛ للجهل بأمد انقضائها بانقراض الموقوف علیه، [2] وإمّا الغرر.

والأوّل: وإنْ کان مانعا بعنوانه؛ ولکنه علی فرض مانعیته فإنّما یمنع إذا کان متعلّقا بمورد البیع وهی العین ذاتا وصفةً، وکلتاهما معلومة، والمنفعة أجنبیة عن مورد المعاملة _ وإنْ کانت کثرتها وقلتها موجبة لزیادة مالیتها وقلتها _ إلاّ أنّ اللازم معرفة المال لا معرفة المالیة قلة وکثرة.

والثانی: هو الغرر فتوهمه باعتبار أنّه تارة من حیث الجهل بذات المبیع، وأُخری بوصفه، وثالثة من حیث الجهل بالتمکن من التسلیم والتسلم؛ مع أنّ أصل القدرة علی التسلیم معلوم؛ وإنّما المجهول وقت التسلیم التام الذی یتمکن معه من استیفاء المنفعة، وعلیه فکون المعاملة المعلوم فیها ذاتا وصفةً وتسلیما غرریا للجهل بوقت التسلیم غیر معلوم، ولو فرض کونها غرریة فکون مطلق الغرر مانعا _ مع أنّ العمدة فی مانِعِیَّتهِ الاجماع _ غیر معلوم، مضافا إلی النص الوارد فی الحبس؛(1) فإنّه یُفْهَمُ منه أنّ الجهل بوقت انقضاء السکنی لا یمنع عن صحة البیع لا بعنوانه ولا بعنوان الغرر»(2).

وحاصل کلامه: أنّ المعاملة صحیحة للوجوه الثلاثة:

1_ «بعد فرض أنّ أصل القدرة علی التسلیم معلومٌ، وإنّما المجهول وقت التسلیم التام الذی یتمکّن معه من استیفاء المنفعة، وعلیه فکون المعاملة المعلوم فیها ذاتا وصفةً وتسلیما، غرریّا للجهل بوقت التسلیم، غیر معلوم.

2_ ولو فُرِضَ کَوْنُها غرریّةً، فکون مطلق الغرر مانعا _ مع أنّ العمدة فی مانعیّته الإجماع _ غیر معلوم.

ص: 421


1- 1 . وسائل الشیعة 19/135، ح3، الباب 24 من أبواب الاجارة، صحیحة حسین بن نعیم الصحاف.
2- 2 . حاشیة المکاسب 3/165 و 166.

3_ مضافا إلی النصّ الوارد فی الحبس، فإنّه یفهم منه أنّ الجهل بوقت انقضاء السکنی لا یمنع عن صحّة البیع لا بعنوانه ولا بعنوان الغرر»(1).

نقد مقالتهما فی بیان الاستاذ المحقّق

حیث أنّ مقالة الخراسانی مطویة فی ضمن مقالة الإصفهانی یظهر نقد الأوّل من الثانی.

ویمکن أن یناقش فی الوجوه المذکورة فی کلام الإصفهانی: «أمّا الوجه الأوّل: دعواه رحمه الله (بعدم غرریّة المعاملة المعلوم فیها ذاتا وصفة، وتسلیما وإن کان وقت التسلیم مجهولاً).

فممنوعة [أوّلاً]: لأنّ مسلوبیّة المنفعة عن العین تعدّ من الاُمور المتعلّقة بذات العین ووصفها، وبالتالی فإنّ الجهل بها یؤدّی إلی الجهل بهما، وبذلک یبطل دعواه بمعلومیّة المعاملة ذاتا وصفةً.

وثانیا: لو سلّمنا معلومیّتهما، فإنّ البحث فی المقام عن الغرر الذی یعدّ من المواضیع الشرعیّة المجعولة والمترتّب علیها الآثار، ومثل هذه المفاهیم یعدّ العرف مرجعا فی معرفة سعتها وضیقها، فإنّ العرف یری غرریّة المعاملة التی یجهل المشتری الفترة التی یجب علیه فیها الانتظار لکی یقبض المبیع.

وبعبارة أُخری: إنّ العرف یری هذه المعاملة غرریّا، فمانعیّة الغرر لأجل أنّ المشتری جاهل بما یقبضه فی مقابل ما دفعه من الثمن، ولا یخفی أنّ مالیّة الأشیاء مرتبطة بمنافع الأعیان، بحیث لو انتفت المنفعة انتفت المالیّة بتبعها، وکذلک تقلّ المالیّة أو تزید بتبع قلّة المنفعة وزیادتها، فالمال الذی نجهل حالها مسلوبة المنفعة لعشر سنوات أو لمئة سنة، فإنّ مالیّتها أیضا تکون مجهولة، ولا شکّ أنّ دفع الثمن فی مقابل ما تکون مالیّتها مجهولة غرری، لجهل الدافع بمقدار المنافع التی تعود إلیه فی مقابل ثمنه المدفوع.

وبالجملة: أنّ الغرر صادق فی المقام لجهتین:

ص: 422


1- 1 . العقد النضید 5/105.

أوّلاً: من جهة الوصف.

وثانیا: لو سلّمنا عدم صدقه من جهة الوصف، فإنّه صادق من جهة الجهل بالمالیّة.

أمّا الوجه الثانی: أنّ دعواه بعدم مانعیّة مطلق الغرر صحیحة، فیما لو اعتبرنا الإجماع دلیلاً ومستندا علی مانعیّة الغرر، أمّا إذا التزمنا بأن المستند هو قوله صلی الله علیه و آله : «نهی النبیّ عن بیع الغرر» فإنّ الدعوی مدفوعة، لأنّ الغرر المنهیّ عنه فی الخبر المذکور قد اُسند إلی البیع دون المبیع، ولذلک ینبغی أن نلاحظ أصل المعاملة وکیفیّة وقوعها، وعن أنّها غرریّة أم لا دون المبیع، ولذلک لا یؤثّر معلومیّة المبیع فی صحّة المعاملة الغرریّة.

نعم، لو کان المستند هو الإجماع صحّ البحث عن أنّ الغرر المنهیّ بالإجماع هل یختصّ بالمبیع أو یعمّه؟ ممّا یقتضی فی الأدلّة اللبیّة الاکتفاء بالمتیقّن منه، وهو النهی عن الغرر فی البیع.

ولکن بعد ما ثبت أنّ المستند دلیلٌ لفظی فلا مجال للمناقشة المذکورة؛ لأنّ البحث یدور حول الوقف المنقطع الذی نجهل أمده، حیث تکون الجهالة من جهة المنافع فیصدق الغرر عرفا ویشمله عموم دلیل النهی.

أمّا الوجه الثالث: فإنّ استشهاده أخیرا بالنصّ أیضا علیلٌ؛ لأنّ الوارد فی صحیحة حسین بن نعیم أنّه.

«سألته عن رجل جعل دارا سکنی لرجل أیّام حیاته، وجعلها له ولعقبه من بعده...»(1) فإنّ المستفاد من ظاهرها السؤال عمّن قام بحبس الدار لسکنی الرجل طیلة حیاته ولعقبه بعد وفاته، ولا علاقة لها بالوقف حیث لم یرد فیها ذکرٌ لعنوان الوقف، بل لیس فیها دلالة _ لا مطابقیّة ولا التزامیّة _ علی الوقف، فتنحصر دلالتها بالحبس أو لا أقلّ من أنّ الوقف یصبح مشکوکا لتردّدها بینه وبین الحبس، فتصبح الروایة مجملة وتسقط عن قابلیّة الاستدلال بها.

وخلاصة الکلام: أنّ غایة ما یستفاد من هذا الخبر أنّه لو قام مَنْ حبس داره لسکنی

ص: 423


1- 1 . وسائل الشیعة 19/135، ح3.

الرجل وعقبه، ببیع الدار، فإنّ بیعه صحیح برغم أنّ سکنی الرجل فیه ثابت ما دام حیّا.

وبالتالی، فما ذهب إلیه الشیخ [الأعظم(1)] والمحقّق الإصفهانی من الاستدلال بهذا الخبر ممنوعٌ. بل غایة ما یمکن دعواه أنّ الخبر إمّا ظاهر فی الحبس للسکنی، أو أنّه مجملٌ، وعند الإجمال یصبح الغرر مانعا عن صحّة البیع، فإذا ثبت غرریّة المعاملة عرفا، فإنّ مقتضی القواعد الدالّة علی بطلان المعاملات الغرریّة بطلان هذه المعاملة»(2).

المختار فی بیع العین الموقوفة فی الوقف المنقطع الآخر

صحیحة حسین بن نعیم الصَّحَّاف(3) تدلّ علی صحة بیعها، لأنّ المستفاد منها أنّ الجهل بوقت انقضاء السکنی لا یضرّ بصحة البیع لا بعنوان الجهل ولا بعنوان الضرر ولذا حکم الإمام علیه السلام فیها بصحة البیع.

فحینئذ الجهل بانقضاء أمد الوقف المنقطع الآخر أیضا لا یضرّ بصحة البیع.

وأمّا ادعاء وجود الغرر فی هذه المعاملة للجهل بمدّة مسلوبیة المنفعة وهو یؤدی إلی الجهل بذات العین ووصفها، مضافا إلی أنّ العرف یری هذه المعاملة غرریا فغیر تام.

ولظهور عدم تمامیة هذا الادعاء نبحث عن معنی الغرر فی کلمات اللغویین:

قال الخلیل: «الغَرَرُ کالخطر، وغَرَّرَ بمالِه أی: حَمَلَه علی الخَطَر.

والغُرُورُ من غَرَّ یَغُرُّ فَیَغْتَرُّ به المَغْرُورُ. والغَرورُ: الشّیْطانُ. والغارُّ: الغافِلُ»(4).

وقال ابن دُرَید: «... وغَرَّ الرجلُ الرجلَ یَغُرُّ غَرَّا إذا أوطَأه عِشْوَةً أو خَبَّرَه بکذب... والغَرَر معروف... وفعلتُ هذا الأمر علی غِرَّةٍ، إذا فَعَلْتَهُ وأنت غیرُ عالمٍ به»(5).

وقال ابن فارس: «غر:... ومن الباب بیع الغَرَر، وهو الخَطَر الذی لا یُدْرِی أیکون أم لا، کبیع العبدِ الآبِق، والطَّائرِ فی الهواء. فهذا ناقصٌ لا یتمُّ البیع فیه أبدا. غَرّ الطائرُ فرخَه،

ص: 424


1- 1 . المکاسب 4/103.
2- 2 . العقد النضید 5/(108-105).
3- 3 . وسائل الشیعة 19/135، ح3.
4- 4 . ترتیب کتاب العین /708.
5- 5 . ترتیب جمهرة اللغة 2/643.

إذا زَقَّه، وذلک لقلّته ونُقصَانِ ما معه»(1).

وقال الراغب الإصفهانی: «غرّ: یقالُ غَررْتُ فلانا أصبتُ غِرَّتَهُ ونِلْتُ منه ما أریده، والغِرَّةُ غفلةٌ فی الیقظة، والغرار غفلةٌ مع غَفْوَةٍ، وأصل ذلک من الغُرِّ وهو الأثر الظاهر من الشیء ومنه غُرَّةُ الفرس. وغِرَارُ السّیف أی حدّه، وغَرُّ الثّوب أثر کسره، وقیل اطوه علی غَرِّهِ، وغَرَّهُ کذا غُرُورا کأنما طواه علی غَرِّه»(2).

وقال الزمخشری: «غ ر ر: تغرَّرَ الفرسُ وتحجَّل، وهم غُرِّر فرسُک؟ وصبَّحهم الجیشُ وهم غارُّون أی غافلون. ویقال: «أغرُّ من ظبْی مُقْمِر» لأنه یخرج فی اللیلة المقمرة یَرَی أنّه النهار فتأکله السباع، واغترَّه الأمرُ: أتاه علی غِرَّةٍ»(3).

وقال ابن الأثیر: «أنه نهی عن بیع الغرر هو ما کان له ظاهِر یَغُرّ المشتری، وباطنٌ مجهول.

وقال الأزهری: بیع الغرر: ما کان علی غیر عُهْدَة ولا ثِقة، وتدخل فیه البیوع التی لا یحیط بکنهما المتبایعان، من کلِّ مجهولٍ. وقد تکرر فی الحدیث»(4).

وقال أبومنصور: «غرر: ... خدعه وأطمعه بالباطل»(5).

وقال الفیومی: «الغِرَّةُ: بالکسر الغفلة...»(6).

وأنت تری أنَّهُمْ یأخذون فی الغرر الخدعة والغفلة والحیلة والاحتیال وقد استعملت مشتقات هذه المادّة فی القرآن الکریم فی ما یقرب من ثلاثین آیة وفی الجمیع یرجع معناها إلی الاحتیال والخدعة.

ص: 425


1- 1 . معجم مقاییس اللغة 4/381.
2- 2 . المفردات /371.
3- 3 . أساس البلاغة /322.
4- 4 . النهایة 3/355.
5- 5 . لسان العرب 5/11 ونقل عنه السیّد محمّدحسین الحسینی الجلالی فی تلخیص الذهب من لسان العرب 3/14.
6- 6 . المصباح المنیر /444.

کما أنّ استعمالها فی السنة کذلک کقوله علیه السلام : المغرور یرجع علی من غرّه، ونحوها.

وحیث أنّ الاحتیال والخدعة مُنْتَفٍ فی هذه المعاملة لأنّ ذات العین ووصفها وتسلیمها معلوم والجهل بالنسبة إلی وقت تسلیم العین مع علم المشتری بالوقفیة لا یدخلها فی الغرر ولا یضر بصحة البیع المستفاد من صحیحة الصَّحَّاف فالحکم بصحة هذا البیع تام عندنا والحمدللّه الْعالِمِ بأحکامه.

ص: 426

المسألة الثانیة: بیع أُمّ الْوَلَدِ
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «ومن أسباب خروج الملک عن کونه طِلْقا: صیرورة المملوکة اُمّ ولدٍ لسیّدها، فإنّ ذلک یوجب منع المالک عن بیعها، بلا خلافٍ بین المسلمین، علی الظاهر المحکیّ عن مجمع الفائدة(1)»(2).

هذا البحث القسم الثانی من الأملاک الخارجة عن الطلقیة ونبحث عنه مع عدم وجود الموضوع لأُم ولد فی هذه الأعصار لعدم اندارس أحکام اللّه تعالی ولما فیه فوائد ونتائج.

المسألةُ إجماعیةٌ بین المسلمین

قال السیّد العاملیُّ: «عدم جواز بیع اُمّ الولد مع وجوده وإیفاء ثمنها أو القدرة علیه ممّا لا خلاف فیه بین المسلمین کما فی مجمع البرهان(3) والحدائق(4). وفی الغنیة(5) الإجماع علیه. وهو ظاهر المبسوط(6) ولم نجد الخلاف إلاّ من الشیخ میثم البحرانی ذکره فی شرح نهج البلاغة(7) علی ما هو ببالی.

ص: 427


1- 1 . مجمع الفائدة 8/169.
2- 2 . المکاسب 4/107.
3- 3 . مجمع الفائدة والبرهان: فی بیع اُمّ الولد 8/169.
4- 4 . الحدائق الناضرة: فی بیع اُمّ الولد 18/448.
5- 5 . غنیة النزوع: فی البیع /208.
6- 6 . المبسوط: فی الوقوف والصدقات 3/287.
7- 7 . لم نعثر علیه حسب ما تفحّصنا.

ویتحقّقُ الاِستیلادُ بعلوقها به فی ملکه وإن لم تلجه الروح. والتقیید بحیاة ولدها وقع فی کثیر من عبارات الأصحاب. وهو مبنیّ علی الغالب أو التجوّز، لأنّه قبل ولوج الروح لا یوصف بالحیاة.

وقد ألحق جماعة(1) بالبیع سائر ما یخرجها عن الملک لظهور الاشتراک فی العلّة. ولأنّه لو جوّز غیره لانتفی فائدة منعه وهی بقاؤها علی الملک لتعتق، إذ تخرج عن الملک بوجهٍ آخر مثل الصلح والهبة وغیرهما.

ولا خلاف عندنا أنّه یجوز بیعها بعد موت ولدها کما فی مجمع البرهان(2) والإجماع ظاهر الروضة(3)»(4).

تبیین المسألة

ثمّ بعد وضوح خروج أُمّ ولد عن الطلقیة وأنّه «من الأُمور المسلّمة بین المسلمین، فلا وقع للبحث عن دلالة الأدلّة التی اُقیمت علیه، وعدم دلالتها کما فی حاشثیة المحقّق الخراسانی(5) قدس سره . کما أنّه لا وقع للبحث عن أنّ خروجها عن الطلقیّة هل هو لحقٍّ من اللّه سبحانه علیها، أو لحقّ الولد، أو لحقّ نفسها؟ لأنّ هذه کلّها من علل التشریع، لا من علّة الحکم حتّی تکون وظیفة الفقیه تنقیحها فلا یهمّنا البحث عنها، إنّما المهمّ اُمور اُخر ینبغی إیضاحها:

الأوّل: هل یختصّ المنع عن التصرّف فیها بخصوص البیع، أو یعمّ مطلق المعاوضة، أو مطلق النقل ولو لم یکن معاوضةً کالهبة؟ وجوه، بل أقوال، والأقوی هو الأخیر.

وتوضیح ذلک: أنّ الأحکام المترتبة علی العقود تارةً یستفاد من نفس أدلّتها أو من

ص: 428


1- 1 . منهم الأردبیلی فی المجمع: فی البیع 8/170، والبحرانی فی الحدائق: فی البیع 18/448.
2- 2 . مجمع الفائدة والبرهان: فی بیع اُمّ الولد 8/170.
3- 3 . الروضة البهیة: فی التجارة 3/257.
4- 4 . مفتاح الکرامة 13/134.
5- 5 . حاشیة المکاسب /115.

مناسبة الحکم والموضوع: أنّها مختصّة بالبیع، ولا تجری فی غیره، کخیار المجلس والحیوان.

وأُخری یستفاد: أنّها جاریةٌ فی مطلق المعاوضة، بیعا کانت أو صلحا أو إجارة، کتلف المبیع قبل قبضه علی ما سیجیء: من أنّ قاعدة الانفساخ قبل التلف تجری فی عوض الخلع والمهر ونحو ذلک؛ لأنّ المدار فیها علی الضمان المعاوضی.

وثالثةً یستفاد: أنّها جاریة فی مطلق النقل والانتقال ولو لم یکن معاوضة؛ کالهبة ونقل اُمّ الولد فإنّه لا یجوز نقلها عن ملک سیّدها ولو بالهبة، فإنّ من مناسبة الحکم والموضوع یستفاد أنّ الاستیلاد مانع عن التصرّفات الناقلة.

بل ادّعی بعضهم المنع عن کلّ تصرّفٍ کان فی معرض النقل کالرهن.

ولکنّ الحقّ: أنّ المنع عن الرهن لو قلنا به فلیس من جهة المنع عن مطلق التصرّف فیها، فإنّ التصرّفات الغیر المزاحمة لعتقها من نصیب ولدها لا دلیل علی المنع عنها، ولذا لا ینبغی الإشکال فی جواز عتقها، بل المنشأ فی المنع عن الرهن قصور أدلّة الرهن؛ لأنّ الغرض منه کون المرهون وثیقةً للدین، فیباع ویؤخذ الدین من ثمنه، وحیث إنّ اُمّ الولد لا یجوز بیعها فلا یجوز رهنها.

إلاّ أن یقال: إنّ مرجع ذلک إلی امتناع رهنها؛ لأنّ الرهن یقتضی _ طبعا _ أن تکون العین المرهونة مخرجا للدین، وحیث إنّها غیر قابلةٍ لذلک فلا یصحّ رهنها، فالمانع لیس مجرّد قصور الأدلّة، بل لامتناع تحقّق حقیقة الرهن فی اُمّ الولد.

الثانی: أنّه لا إشکال فی أنّ عدم جواز التصرّفات الناقلة فیها یدور حدوثا وبقاءً مدار حیاة الولد، فلو مات ولم یخلّف ولدا تصیر طلقا. إنّما الإشکال فی أنّه لو مات وخلّف ولدا فهل تبقی علی ما کانت علیه من المنع مطلقا لصدق کونها اُمّ ولدٍ، أو تخرج مطلقا لکون الولد حقیقةً فی ولد الصلب، ولا أقلّ من کونه ظاهرا فیه، أو یفصّل بین کون ولد الولد وارثا للمولی فتبقی علی المنع وعدم کونه وارثا له فتخرج عنه؟ وجوه، [بل

ص: 429

أقوال(1)] والأقوی هو الأخیر؛ لأنّها وإن کان یصدق علیها أُمّ الولد إلاّ أنّها إذا لم یکن للولد نصیب منها فلا مانع من جواز بَیْعِها.

الثالث: یکفی الحمل فی المقام وإن قلنا بأنّ الولد لا یصدق علیه حقیقة، بل یعتبر فیه الانفصال؛ وذلک لقوله علیه السلام : «هی أمته إن شاء باع ما لم یحدث عنده حمل»(2).

ثمّ إنّه لا یعتبر فی الحمل ولوج الروح، بل یکفی استقرار النطفة فی الرحم إذا کان منشأ نشوء الآدمیّ. ولا یدلّ علی خلاف ذلک قول [الإمام الصادق] علیه السلام فی مکاتبةٍ یطؤها مولاها فتحبل حیث قال علیه السلام : «یردّ علیها مهر مثلها، وتسعی فی قیمتها فإن عجزت فهی من اُمّهات الأولاد»(3)؛ لعدم الملازمة بین زمان السعی والعجز، وبین ولوج الروح غالبا، فإنّ السعی فی أداء مال الکتابة لا یحتاج إلی زمانٍ طویلٍ، ولا سیّما أنّ الغالب انکشاف الأمر فی العجز والقدرة.

الرابع: یعتبر فی الحمل أن یکون ملحقا بالمولی، فإذا زوّج أمتها ثمّ وَطِئَها زنا واستولدها فهی لیست بأُمّ وَلَدٍ شرعا؛(4) لأنّ للعاهر الحجر، إنّما الکلام فی أنّه هل یعتبر الوط ء من المولی، أو یکفی کون النطفة منه وإن حصل الحمل بالمساحقة مع من وطئها المولی؟ وجهان: من دعوی الانصراف، ومن أنّ المدار کون الولد ملحقا بالمولی شرعا ولو کان الوط ء محرّما کما فی حال الحیض، والأقوی هو الأخیر؛ لأنّه إذا کان الولد ملحقا به

ص: 430


1- 1 . ذهب صاحب الحدائق 18/456 إلی أنه ولد فلا یجوز بیعها، وإطلاق کلام ثانی الشهیدین فی الروضة 3/257 والسبزواری فی الکفایة 2/474 إلی جواز بیعها واختار صاحب المدارک فی نهایة المرام 2/318 القول الأخیر وهو التفصیل.
2- 2 . وسائل الشیعة 23/172، ح1، الباب 4 من أبواب الاستیلاد، صحیحة محمّد بن مارد.
3- 3 . وسائل الشیعة 23/158، ح2، الباب 14 من أبواب المکاتبة، معتبرة السکونی، مع اختلافٍ یسیر.
4- 4 . لیست لاُمّ الولد حقیقة شرعیة فإذا استولدها من الزنا وکان الولد من المولی تکون الأمة أمّ ولد کما اعترف به الماتن من کفایة کون النطفة من المولی ولو کان الوطی محرّما. [المؤلِّف]

فیصدق علیها کونها اُمّ الولد، ولا وجه للانصراف»(1).

الخامس: «لا یخفی أنّ استفادة القاعدة الکلّیّة من الأخبار أو انعقاد الإجماع علیها لا ینافی وقوع الخلاف فی بعض صغریاتها والاتّفاق علی خروج بعضٍ آخر؛ لأنّ جمیع القواعد العامّة قابلة للتخصیص، ففی الموارد الّتی انعقد الإجماع علی الخروج لا کلام فیها، وأمّا فی مورد الخلاف فیتمسّک بعموم القاعدة، ویمنع جواز نقلها، لا من باب قاعدة المقتضی والمانع فإنّها لا أساس لها أصلاً، مضافا إلی المنع عن وجود المقتضی للمنع حتّی یرد علیه: أنّ مع إحراز المقتضی والشکّ فی المانع یجب الحکم بترتّب المقتضی _ بالفتح _ بل من باب أنّ هذه القاعدة الکلّیّة من قبیل العناوین الأولیّة الّتی لا ینافیها طروّ عنوانٍ ثانویّ، فإذا اُحرز العنوان الأوّلیّ وشکّ فی طروّ العنوان الثانویّ الرافع لعموم المنع یتمسّک بالعموم حتّی یثبت التخصیص، کما یتمسّک به فی الشکّ فی رافعیّة الموجود لشبهةٍ حکمیّةٍ أو مفهومیّة.

وبالجملة: یُستفادُ من الإجماع والأخبار: أنّ نفس عنوان کون الأمة اُمّ الولد من العناوین الموجبة لخروج الملک عن الطلقیّة، فإذا ثبت بدلیلٍ قطعیٍّ جواز نقلها فی موردٍ فهو، وإلاّ یحکم بالعدم»(2).

صور جواز بیع أم الْوَلَدِ
الصورة الأولی: جواز بیعها فی ثمن رقبتها الذی وقع فی عقد المعاوضة:

[1] إذا کان للمولی دین

[2] ولم یکن له ما یؤدیه

[3] وکان الدین ثمن رقبتها بعد موت المولی.

«فإنّ جواز بیعها حینئذٍ موضع وفاق کما فی الروضة(3) ولا خلاف فیه کما فی

ص: 431


1- 1 . منیة الطالب 2/(297-295).
2- 2 . منیة الطالب 2/297.
3- 3 . الروضة البهیة: فی التجارة 3/257.

نهایة المرام(1) لصاحب المدارک والکفایة(2) والریاض(3)»(4).

«وأمّا إذا کان حیّا أو کان له مال آخر أو لم یکن الدین فی ثمن رقبتها فخروجها عن عموم المنع ممنوع، لا سیّما إذا کان له مال آخر، وإن کان الدین مستغرقا فإنّ صاحب العین وإن کان أحقّ بماله فی الدین المستغرق فیما إذا کان المدیون حیّا ولا یضرب مع الغرماء إلاّ أنّ هذا الحکم مخصوص بالمفلّس، وأمّا المیّت الّذی لا ذمّة له فصاحب العین أیضا کسائر الغرماء، فإذا کان بعض أمواله متعلّقا لحقٍّ إلهیٍّ أو حقٍّ آخر لا یمکن تعلّق الدین به ککونه اُمّ الولد _ مثلاً _ لا یصحّ أخذه للدین.

وبالجملة: المتیقّن من الخروج عن القاعدة هو المشتمل علی القیود الثلاثة.

ویدلّ علیه: صحیحة «عمر بن یزید قال: قلت لأبی إبراهیم علیه السلام : أسألک؟ قال: سل، قلت: لم باع أمیرالمؤمنین علیه السلام اُمهات الأولاد؟ قال: فی فکاک رقابهنّ، قلت: وکیف ذلک؟ قال: أیّما رجل اشتری جاریة فأولدها ثمّ لم یؤدّ ثمنها ولم یدع من المال ما یؤدی عنه أخذ ولدها منها فبیعت وأدّی ثمنها، قلت: فیبعن فیما سوی ذلک من دین؟ قال: لا»(5).

ولا یخفی أنّ هذه الصحیحة صریحة فی القیدین منها، وهما: کون الدین فی ثمن رقبتها، وعدم مالٍ آخر لمولاها. وظاهرة فی القید الآخر، وهو: موت المولی، فإن ظاهر سؤاله عن أنّه «لم باع أمیرالمؤمنین» أنّ البیع وقع منه علیه السلام بعد موت المولی، وإلاّ کان المناسب أن یقول: لِمَ أمر أمیرالمؤمنین علیه السلام ببیع اُمّهات الأولاد. وهکذا ظاهر قوله علیه السلام : «ولم یدعْ من المال» أنّ هذه القضیّة کانت بعد موت المولی»(6).

ص: 432


1- 1 . نهایة المرام: فی الاستیلاد 2/315.
2- 2 . کفایة الأحکام: فی الاستیلاد 2/473.
3- 3 . ریاض المسائل: فی الاستیلاد 11/395.
4- 4 . مفتاح الکرامة 13/135.
5- 5 . من لا یحضره الفقیه 3/139، ح3512؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 23/170، ح1، الباب 2 من أبواب الاستیلاد و 18/278، ح1، الباب 24 من أبواب بیع الحیوان.
6- 6 . منیة الطالب 2/298 و 299.
الصورة الثانیة: هی الصورة الأُولی مع حیاة مولاها

قد نص علی الجواز فی هذه الصورة فی «الوسیلة(1) والغنیة(2) والسرائر(3) والمختلف(4) والإیضاح(5) والدروس(6) واللمعة(7) وحواشی الشهید(8) وتعلیق الإرشاد(9) وجامع المقاصد(10) والروضة(11) والمسالک(12) وهو المنقول عن(13) أبی علیّ. ونسبه الشهید(14) فی حواشیه إلی الشیخین، وستسمع أنّه ظاهرهما. وظاهر الغنیة(15) أو صریحها الإجماع علیه. وقد أطلق جماعة(16) فقالوا: تباع مع وجود الولد فی ثمن رقبتها مع إعسار مولاها. وقضیة کلامهم الجواز مع حیاة المولی. وعبارة المقنعة(17) والنهایة هی هذه: ولا یجوز بیعهنّ ولهنّ أولاد أحیاء إلاّ أن یفلس السیّد ویکون أثمانهن دَینا فیبعن فی

ص: 433


1- 1 . الوسیلة: فی العتق والتدبیر والمکاتبة /343.
2- 2 . غنیة النزوع: فی البیع /208.
3- 3 . السرائر: فی العتق والتدبیر والمکاتبة 3/23.
4- 4 . مختلف الشیعة: فی الاستیلاد 8/129.
5- 5 . إیضاح الفوائد: فی البیع 1/428.
6- 6 . الدروس الشرعیة: کتاب اُمّ الولد 2/222.
7- 7 . اللمعة: فی البیع /112.
8- 8 . لم نعثر علیه فی الحاشیة النجّاریة المنسوبة إلیه وأمّا غیرها من الحواشی فلا یوجد لدینا.
9- 9 . حاشیة إرشاد الأذهان (حیاة المحقّق الکرکی وآثاره) 9/340.
10- 10 . جامع المقاصد: فی البیع 4/98.
11- 11 . الروضة البهیة: فی بیع اُمّ الولد 3/257.
12- 12 . مسالک الأفهام: فی بیع اُمّ الولد 3/170.
13- 13 . نقله عنه العلاّمة فی مختلف الشیعة: فی الاستیلاد 8/130.
14- 14 . لم نعثر علیه فی الحاشیة النجّاریة المنسوبة إلیه وأمّا غیرها من الحواشی فلا یوجد لدینا.
15- 15 . غنیة النزوع: فی البیع /208.
16- 16 . منهم البحرانی فی الحدائق 18/450، والمحقّق الثانی فی جامع المقاصد: فی البیع 4/98، والشهید الثانی فی مسالک الأفهام: فی شروط البیع 3/170.
17- 17 . المقنعة: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه /601.

قضاء الدَین وإن کان أولادهنّ أحیاء(1)، انتهی.

وهو _ أی القول بالجواز مع حیاة المولی _ مذهب الأکثر کما فی نهایة المرام لصاحب المدارک(2) والکفایة(3) والمشهور کما فی المفاتیح(4) والأشهر کما فی الریاض(5).

قلت: لم یُعْرَفِ الخِلافُ إلاّ من السیّد المرتضی(6). وقد تردّد المحّقق(7) والمصنّف [العلاّمة] هنا [فی القواعد(8)] وفی التحریر(9) والتذکرة(10) وکأنّه مال إلی المنع فی مجمع البرهان(11).

وقال صاحب المدارک فی نهایته(12) وصاحب الکفایة(13) أنّ القول بالمنع نادر لکنّه لا یخلو من قوة»(14).

تدلّ علیها حسنة عمر بن یزید عن أبی الحسن علیه السلام ، قال: سألته عن أمّ الولد تباع

ص: 434


1- 1 . النهایة: فی العتق والتدبیر والمکاتبة /(547-546).
2- 2 . نهایة المرام: فی الاستیلاد 2/316.
3- 3 . کفایة الأحکام: فی الاستیلاد 2/473.
4- 4 . مفاتیح الشرائع: فی اشتراط المملوکیة وتمامها فی العوضین 3/52.
5- 5 . ریاض المسائل: فی الاستیلاد 11/395.
6- 6 . الانتصار: فی بیع أُمّهات الأولاد /383.
7- 7 . شرائع الإسلام: فی بیع اُمّ الولد 2/17.
8- 8 . القواعد 2/23.
9- 9 . تحریر الأحکام الشرعیة: فی بیع اُمّ الولد 2/280.
10- 10 . تذکرة الفقهاء: فی بیع اُمّ الولد 10/41.
11- 11 . مجمع الفائدة والبرهان: فی بیع اُمّ الولد 8/171.
12- 12 . نهایة المرام: فی الاستیلاد 2/316.
13- 13 . کفایة الأحکام: فی الاستیلاد 2/473.
14- 14 . مفتاح الکرامة 13/136 و 137.

فی الدَّیْن؟ قال: نعم فی ثمن رقبتها.(1)

وبهذه الحسنة تمسّک الشهید والمحقّق الثانیان(2).

کما تدل علیها صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن اُمّ الولد؟ قال: أمة تباع وتورث وتوهب، وحدّها حدّ الأمة.(3)

المحمول إطلاقها علی روایتی ابن یزید فتباع فی ثمن رقبتها.

ومن المعلوم أنّ موت المولی وعدمه لا یؤثر فی صحة بیع أم الولد وعدمها لأنّ ثمن رقبة الأمة لابدّ أن یؤدی بلا فرق بین حیاة المولی وموته، فتقیید حسنة ابن یزید بصحیحته الظاهرة فی موت المولی وبقرینة أنّ لفظة «تباع» یستعمل فی ما بعد الموت، کما یظهر من المحقّق النائینی(4) غیر تام.

فیظهر مما ذکرناه: «أنّ استیلاد الأمة یُحدث لها حقّا مانعا عن نقلها، إلاّ إذا کان هناک حقٌّ أولی منه بالمراعاة»(5).

الصورة الثالثة: بیع أم الولد فی الدین الذی استقرضه المولی واشتری به الأمة.

ولم یتمکن من أدائه، فیصح أن یطلق علی هذا البیع أنّه «فی ثمن رقبتها»(6) أو «فی فکاک رقابهنَّ»(7). فیکون البیع صحیحا.

الصورة الرابعة: بیعها لوفاء الثمن الذی استدانه لوفاء ثمن الرقبة الذی کان فی ذمّة المولی

والدلیل علی ذلک صحة إطلاق هذا البیع من أنّه فی ثمن رقبتها.

ص: 435


1- 1 . وسائل الشیعة 18/278، ح2.
2- 2 . راجع الروضة البهیة 3/257؛ وجامع المقاصد 4/98.
3- 3 . وسائل الشیعة 18/279، ح3.
4- 4 . منیة الطالب 2/299.
5- 5 . المکاسب 4/121.
6- 6 . وسائل الشیعة 18/278، ح2، حسند عمر بن یزید.
7- 7 . وسائل الشیعة 18/278، ح1، صحیحة عمر بن یزید.
الصورة الخامسة: بیعها لأداء ما اشترط علیه فی عقد المعاوضة

«کما إذا اشترط البائع علی المشتری أن ینفق علیه مدّةً ولم یتمکّن من الإنفاق إلاّ ببیع الجاریة، أو اشترط علیه أن یخیط له ثوبا، أو یعمل عملاً یتوقّف الوفاء به علی بیع الأمة، فإنّ بیعها للوفاء بالشرط بمنزلة بیعها لأداء بعض ما علیه من الثمن؛ لأنّ للشرط قسطا من الثمن»(1).

ولکن الصحیح أنّه لا یصدق علیها أنّها تباع فی ثمن رقبتها لأنّ «قسطا من الثمن وإن کان فی اللبّ واقعا بإزاء الشرط إلاّ أنّ فی عقد المعاوضة لم یجعل بإزائه شیء فکیف یصدق أنّها تباع فی ثمن رقبتها؟»(2).

الصورة السادسة: تعلّق ضمان الید بها

«بیعها لأداء قیمتها إذا تعلّق بها ضمان الید، کما إذا کان للبائع حقّ الفسخ وفسخ بعد الاستیلاد، بناءً علی جواز تصرّف المشتری فی زمان خیار البائع، وبناءً علی أنّ الاستیلاد، اللاحق مانع عن الحقّ السابق، فحیث لا یمکن ردّ نفس الرقبة فهی بمنزلة التلف، فلابدّ من ردّ قیمتها، وإذا لم یتمکّن منه فتباع لأداء القیمة الّتی یضمنها للمشتری»(3).

ولکن بیعها فی هذه الصورة «بمنزلة بیعها فی دینٍ آخر؛ لأنّ المفروض أنّه أدّی ثمن رقبتها، والبدل الّذی یجب علیه الردّ بعد الفسخ لا ربط له بثمن رقبتها، مع أنّه لو جاز بیعها لأداء هذا الثمن وصحّ انتقالها إلی غیر المولی المستولد لجاز انتقالها إلی المولی الأصلیّ الّذی باعها»(4).

الصورة السابعة: إذا جنت علی غیر مولاها

«فیدفع ثمنها فی الجنایة، أو رقبتُها إن رضی المجنی علیه، ولو کانت الجنایة علی

ص: 436


1- 1 . منیة الطالب 2/302.
2- 2 . منیة الطالب 2/303.
3- 3 . منیة الطالب 2/303.
4- 4 . منیة الطالب 2/303.

مولاها لم یجز، لأنّه لا یثبت له علی ماله مال»(1).

الصورة الثامنة: إذا عجز مولاها عن نفقتها

«ولو أمکن تأدیها ببیع بعضها وجب الاقتصار علیه، وقوفا فیما خالف الأصل(2) علی موضع الضرورة(3)»(4).

الصورة التاسعة: إذا مات قریبها

«ولا وارث له سواها لتعتق وترثه وهو تعجیل عتق أولی بالحکم من إبقائها لتعتق بعد وفاة مولاها»(5).

الصورة العاشرة: إذا کان علوقها بعد الارتهان

«فیقدم حقّ المرتهن لسبقه، وقیل: یقدم حقّ الاستیلاد، لبِناء العتق علی التغلیب، ولعموم النهی عن بیعها»(6).

الصورة الحادیة عَشَرَةَ: إذا کان علوقها بعد الافلاس

«أی بعد الحجر علی المفلَّس، فإنّ مجرد ظهور الإفلاس لا یوجب تعلقَ حقّ الدُیّان بالمال والخلاف هنا کالرهن»(7).

الصورة الثانیة عَشَرَةَ: بیعها عن من تنعتق علیه

«فإنّه فی قوة العتق فیکون تعجیلَ خیرٍ یستفاد من مفهوم الموافقة، حیث إنّ المنع من البیع لأجل العتق»(8).

ص: 437


1- 1 . الروضة البهیة 3/257.
2- 2 . المراد من الإصل هنا «الاستصحاب» أی استصحاب عدم جواز بیع الامة المستولدة.
3- 3 . المراد من الضرورة هو «امکان بیع بعضها»، فإنه إذا امکن ذلک یقتصر علیه.
4- 4 . الروضة البهیة 3/257.
5- 5 . الروضة البهیة 3/258.
6- 6 . الروضة البهیة 3/258.
7- 7 . الروضة البهیة 3/258.
8- 8 . الروضة البهیة 3/259.
الصورة الثالثة عَشَرَةَ: جواز بیعها بشرط العتق

لما مرّ من أنّ المنع لأجل العتق «فإن لم یفِ المشتری بالشرط فسخ البیع وجوبا، فإن لم یفسخه المولی احتمل انفساخه بنفسه، وفسخُ الحاکم إن اتفق»(1).

الصورة الرابعة عَشَرَةَ: بیعها فی کفن سیّدها

«إذا لم یخلف سواها، ولم یمکن بیع بعضها فیه، وإلاّ اقتصر علیه»(2).

الصورة الخامسة عَشَرَةَ: إذا أسلمت أو أسلم أبوها أو جدها

إذا أسلمت قبل مولاها الکافر أو أسلم أبوها أو جدها «وهی مجنونة، أو صغیرة، ثمّ استولدها الکافر بعد البلوغ قبل أن تخرج عن ملکه وهذه فی حکم إسلامها عنده»(3).

الصورة السادسة عَشَرَةَ: إذا کان ولدها غیر وارث

«لکونه قاتلاً، أو کافرا، لأنّها لاتنعتق بموت مولاها حینئذ، إذ لا نصیب لولدها»(4).

الصورة السابعة عَشَرَةَ: إذا خرج مولاها عن الذمة

ومُلِکَتْ أمواله التی هی منها.

الصورة الثامنة عَشَرَةَ: إذا لحقت أم الولد

بدار الحرب ثمّ استرّقت.

الصورة التاسعة عَشَرَةَ: إذا کانت لمکاتب

مشروط ثمَّ فسخ کتابته.

الصورة العشرون: بیعها فی حقِّ المضمون للمولی

«إذا شرط أداء الضمان منها قبل الاستیلاد ثمّ أولدها، فإنّ حقّ المضمون له أسبق من حقِّ الاستیلاد کالرهن والفَلَس السابقین»(5).

ص: 438


1- 1 . الروضة البهیة 3/260.
2- 2 . الروضة البهیة 3/260.
3- 3 . الروضة البهیة 3/261.
4- 4 . الروضة البهیة 3/260.
5- 5 . الروضة البهیة 3/261.

لا یخفی أنّ جلّ هذه الصور غیر منصوصة وللنظر فیه مجال واسع کما اعترف به الشهید الثانی وقال رحمه الله : «فی کثیر من هذه المواضع نظر»(1).

وقد بحث الشیخ الأعظم(2) حول هذه الصور تفصیلاً وتَبِعَهُ المحقّق النائینی(3) ولکن نطوی الکلام فیها لعدم وجود الموضوع فی هذا الزمان ونکتفی بهذا المقدار والحمدللّه ربّ الأحرار.

ص: 439


1- 1 . الروضة البهیة 3/261.
2- 2 . المکاسب 4/107 وما بعدها.
3- 3 . المکاسب والبیع 2/407 وما بعدها.
المسألة الثالثة: بیع العین المرهونة
اشارة

العین إذا تعلّق بها حقّ الرهن تکون المرهونة وهی ملک للراهن ولکن تعلّق علیها حقّ المرتهن فلیست ملکا طلقا لتعلّق حقّ الغیر بها وهذا الحقّ عُدّ مانعا من التصرفات المالکی نحو البیع.

ثمّ إنّ هاهنا ثلاثَ نُکاتٍ لابدّ مِنْ تَوْضِیْحِها فی خلال البحث:

الأُوْلی: اتفق الفقهاء علی أنّ المالک الراهن «لایستقلُّ بالتّصرف یعنی لیست للمالک حالة التّسلط علی عینه بحیث کان جاز له قبل الرّهن أن یبیع ویؤجر ویهب ولکن لیست له هذه الحالة بعد الرّهن»(1).

وقد حُکی(2) عن الشیخ(3) إجماع الفرقة وأخبارهم علی ذلک.

الثانیة: بیع المالک الراهن وعقده هل یقع باطلاً کلّیّا؟ أم یکون موقوفا فإذا یتبعه إذن المرتهن وإجازته یصیر صحیحا؟

ذهب إلی البطلان کلّ من أصحاب المقنعة(4) والمبسوط(5) والخلاف(6)

ص: 440


1- 1 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 5/14.
2- 2 . الحاکی هو الشیخ أسداللّه التستری فی المقابس /188.
3- 3 . الخلاف 3/253، مسألة 59.
4- 4 . المقنعة /622.
5- 5 . المبسوط 2/209.
6- 6 . الخلاف 3/227، مسألة 14.

والمراسم(1) والغنیة(2) والسرائر(3) والمقابس(4). وظاهر الغنیة(5) أو صریحها دعوی الإجماع علی ذلک.

وذهب إلی أنّ العقد الراهن موقوف علی إجازة المرتهن کلّ من أصحاب النهایة(6) والوسیلة(7) والشرائع(8) وإرشاد الأذهان(9) وتذکرة الفقهاء(10) وإیضاح النافع(11) ومجمع الفائدة(12) والحدائق(13) والمکاسب(14).

الثّالثة: علی فرض صحة عقد الراهن وتوقفه علی إجازة المرتهن هل یجری هنا ما جری فی بیع الفضولی من الأقوال فی الإجازة نقلاً وکشفا أو لا؟ وأنّ إجازة المرتهن هنا لیست إلاّ ناقلاً.

المانع من صحة بیع العین المرهونة
اشارة

نعلم أنّ الرهن لا یوجب زوال ملکیة الراهن عن العین فیجوز له بیع ملکه لقوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» وقوله صلی الله علیه و آله : لا بیع إلاّ فی ملک.

ص: 441


1- 1 . المراسم /192.
2- 2 . غنیة النزوع /243.
3- 3 . السرائر 2/417.
4- 4 . مقابس الأنوار /190.
5- 5 . غنیة النزوع /244.
6- 6 . النهایة /433.
7- 7 . الوسیلة /266.
8- 8 . الشرائع 2/17.
9- 9 . إرشاد الأذهان 1/361.
10- 10 . تذکرة الفقهاء 10/42.
11- 11 . إیضاح النافع، نقل عنه فی مفتاح الکرامة 13/142.
12- 12 . مجمع الفائدة 8/171.
13- 13 . الحدائق 18/458.
14- 14 . المکاسب 4/154.

ولکن قد یقال بوجود المانع عن صحة هذا البیع. والمانع علی أقسام:

1_ الإجماع

الإجماع الوارد فی الخلاف والغنیة کما مرّ علی عدم صحة بیع العین المرهونة.

ولکن یرد علیه: أوّلاً: عدم تمامیة هذا الإجماع لأنّ جماعة من الأصحاب یقولون بصحة هذا البیع ولکنّه موقوف علی إجازة المرتهن کما علیه الشیخ نفسه فی النهایة کما مرّ.

وثانیا: وجود أخبار علی ما ادعاه الشیخ فی ذلک ومن المحتمل أنّها کانت مدرک هذا الإجماع.

وثالثا: قد ادعی فی المقام وجود مانع عقلی عن صحة هذا البیع ویمکن استناد المجمعین إلی هذا المانع العقلی فی الحکم بعدم صحة هذا البیع.

فلا عبره بهذا الإجماع فی المقام ولابدّ من البحث حول الأخبار والمانع العقلی المدّعی.

2_ الأخبار

منها: قوله صلی الله علیه و آله : الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف.(1)

وأرسلها العلاّمة عنه علیه السلام فی المختلف(2).

وأمّا من حیث الدلالة فتقریب الاستدلال: أنّها تمنع طرفی الرهن عن التصرف فی العین المرهونة:

«أمّا من جهة الموضوع، فلا یخفی أنّ التصرّف قد یکون خارجیّا کالأکل واللّبس، وقد یکون اعتباریّا کالبیع والصلح والهبة.

وأمّا من جهة الحکم المحمول، فإنّ العنوان المأخوذ فی المرسلة هو کونهما ممنوعان من التصرّف، وإطلاق المنع عن التصرّف یقتضی المنع بقول مطلق، ومعلوم أنّ

ص: 442


1- 1 . درر اللآلی 1/368 لابن أبیجمهور الأحسائی ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13/426، ح6.
2- 2 . مختلف الشیعة 5/421.

هناک فرقٌ جوهری بین مطلق المنع والمنع المطلق، فلو کان مدلول المرسلة مطلق المنع کانت عاجزة عن الدلالة علی بطلان البیع، بخلاف ما إذا أفادت المنع المطلق؛ لأنّ مثل هذا المنع یدلّ علی الممنوعیّة بقول مطلق، الشامل المنع عن التصرّف تکلیفا ووضعا، وتکون النتیجة بطلان بیع العین المرهونة»(1).

قد یناقش علی هذا التقریب بوجهین:

1_ المنع من التصرف: مختص بالتصرفات الخارجیة دون التصرفات الاعتباریة، لعدم صدق التصرف عرفا فی الاعتباریة منها، فلا یصدق علی مجرد البیع أو الإتهاب عنوان التصرف ولا أقل أنّه مشکوک الصدق فلا تعمها المرسلة.

ویجاب عنه أوّلاً: التصرفُ صادقٌ عرفا علی التصرفات الاعتباریة من المالک الأصیل الذی عُدّ ذو الحقّ فیها.

وثانیا: قد اعتبر الفقهاء التصرفات الاعتباریة الصادرة من طرفی الرهن تصرّفا فی المال.

2_ المنع من التصرف هل هو حکم تکلیفی أم یعمّ الوضعی؟ والظاهر أنّه تکلیفی محض فلا یدلّ علی بطلان البیع.

ویرد علیه: حیث ثبت أنّ المراد من التصرف أعمّ من الخارجی والاعتباری فکذلک المنع عنه بمقتضی إطلاقه یکون منعا للراهن والمرتهن التصرف فی العین تکلیفا ووضعا.

لا یقال: فیلزم من حمل المنع علی التکلیف والوضع استعمال اللفظ الواحد فی المعنیین والمشهور لا یجوّزونه.

لأنّا نقول: نحن لا نمنع من استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد کما مرّ فی أبحاثنا الأصولیة، مضافاالی أنّ المنع من استعمال اللفظ فی المعنیین لا تسری إلی مواد الحِلّ والمنع والرخصة ونظائرها، لأنّ هذه المواد قادرة علی تحمّل کلا المعنیین

ص: 443


1- 1 . العقد النضید 5/119.

«والشاهد علی ذلک أنّ الفقهاء استفادوا من إطلاق الحلّیة فی قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» حلّیة البیع وحرمة الرِّبا وضعا وتکلیفا، أی حلّیة البیع ونفوذه وحرمة الرِّبا وبطلانه، والمرسلة من هذا القبیل، فإطلاق المنع فیها یفید ممنوعیّته مطلقا، الشاملة لجهتی الوضع والتکلیف، لا أحدهما بالخصوص، لاستلزامه المنع من جهة لا مطلقا»(1).

لا یقال: «إنّ دعوی عمومیّة المنع للجهتین، تصحّ فیما إذا کان إسناد الحِلّ والحرمة إلی ذات الفعل، کما فی الآیة الشریفة، وأمّا إذا کان إسنادهما إلی الفاعل فإنّ إطلاق المنع اختصاصه بالتکلیف دون الوضع.

وبعبارة أُخری: هناک فرقٌ بین إسناد الحکم إلی الفعل وإلی الفاعل، أمّا فی الأوّل فإنّ الحرمان من الفعل بقول مطلق یقتضی الوضع والتکلیف معا، أمّا فی الثانی فإنّ نسبة الحرمان إلی الفاعل یقتضی التکلیف دون الوضع»(2).

لأنّا نقول: «أنّ دعوی التفصیل المذکور ممنوعة، بل إنّ دلالة نسبة الحکم إلی کلیهما علی حدِّ سواء، فکما أنّ ممنوعیّة الفعل بقولٍ مطلق، حیث تقتضی الوضع والتکلیف، کذلک الحال فی ممنوعیّة الفاعل بقولٍ مطلق، حیث تقتضی عدم الرخصة، وعدم الصحّة معا، وإلاّ لو انحصرت بخصوص التکلیف دون الوضع لما صدق علیها الممنوعیّة بقولٍ مطلق»(3).

«وبالجملة: ثبت اندفاع ما نُوقش فی دلالة المرسلة موضوعا وحکما.

فمن جهة الموضوع، ثبت بطلان ما قیل من اختصاصها بالتصرّفات الخارجیّة دون الاعتباریّة.

ومن جهة الحکم أیضا ثبت إطلاقها الشامل للحکم الوضعی والتکلیفی، ولذلک فإنّها دالّة علی المنع مطلقا»(4).

ص: 444


1- 1 . العقد النضید 5/122.
2- 2 . العقد النضید 5/122.
3- 3 . العقد النضید 5/123.
4- 4 . العقد النضید 5/123.
3_ المانع العقلی وهو التنافی بین البیع والرهن

قد مرّ أنّ حقیقة البیع إمّا تبدیل «طرفی الاضافة _ علی مسلک المحقّق النائینی _ أو تملیک عین بعوض، بحسب مسلک الشیخ رحمه الله .

أمّا حقیقة الرهن:

أ: فی کلمات اللغویّین: فقد استعمل الرهن فی کلمات اللغویّین:

تارةً: فی الثبات والدوام، کقولهم: (نعمة راهنة) أی ثابتة ودائمة.

وأُخری: فی معنی الحبس.

وعلیه فاللّفظ مشترک بینهما.

ولکن من الصعب الالتزام بالاشتراک اللفظی؛ لأنّ اللغویّین غالبا ما یستعملون المفهوم بدل المصداق أو بالعکس، أی یُدخِلون خصوصیّات المصداق وآثاره فی ضِمْنِ معنی اللّفظ ومفهومه، وکذلک بالعکس، ومن هنا یمکن القول بأنّ التحقیق فی معنی الرهن یرشدنا إلی أنّ له معنی واحد وهو الحبس، نعم الثبات والدوام متلازمان له... .

ب: فی کلمات الفقهاء: فقد عرّفه الفقهاء بأمرین:

1 . الحبس، (2) وکونه استیثاقا للدَّین.

أمّا الأمر الثانی: فلا اعتبار به، لأنّ الاستیثاق یعدّ غرض الراهن لا حقیقة الرهن وواقعه.

أمّا الأمر الأوّل: فبالرغم من مساعدة اللّغة له، لکن لو دقّقنا فی حقیقة الأمر لوجدنا أنّ الرهن لیس عین الحبس ظاهرا، وإن یتضمّن الأوّل بعض خصائص الأخیر، والشاهد علی ذلک صحّة إنشاء کلّ واحد منهما مستقلاًّ دون أن یتبادر معنی الآخر إلی ذهن المنشئ والسامع، فیصحّ القول: (حبستُ هذه العین) و (رهنتُ هذه العین)، وهذا شاهد علی أنّ الحبس لا یعدّ عین الرهن ولا حقیقته، بل إنّ الرهن سنخ معنا یکون لازمه الحبس، وإدخال الحبس فی حقیقة الرهن یعدّ خلطا بین اللاّزم والملزوم... .

بعد وضوح هذه المقدّمة، الحقّ أنّه لا تنافی بین الإستیثاق للدّین والبیع عقلاً، فیما لو قلنا ببقاء حقّه علی العین، وإمکان استنقاد ماله حتّی ولو انتقلت بالبیع إلی الغیر؛ لأنّ

ص: 445

مجرّد الانتقال لا ینافی مع قدرة الدائن علی استنقاذ حقّه من العین الثابتة فی ید المشتری.

نعم، لو قیل إنّ الانتقال یؤدّی إلی عجز المرتهن عن استرجاع ماله لو امتنع الراهن، فإنّ البیع یعدّ منافیا للاستیثاق، ولکنّه ممنوع والحقّ هو الأوّل.

والحاصل أنّ مجرّد الانتقال من خلال البیع لا ینافی الرهن، والشاهد علی ذلک أنّه لو مات الراهن، فإنّ دلیل الإرث لا یتخصّص، بل تنتقل ملکیّة العین المرهونة من الراهن إلی الورثة متعلّقا بها حقّ الرهانة، ولا یخفی وحدة البیع والإرث، لأنّ الأوّل انتقال اختیاری، والآخر انتقال قهری، والفرق بینهما کالفرق بین المصدر واسمه، فجهة المصدریّة لا تأثیر لها فی حقیقة الأمر، فإذا وجدت المنافاة تکون فی جهة اسم المصدر؛ أی فی انتقال العین من الراهن، وإلاّ فإنّ مجرّد إنشاء النقل لا یعقل کونه منافیا مع الرهن وحقیقته، فالمعنی الاسم المصدری موجود فی الإرث من دون أن ینافی الرهن بالضرورة.

وعلیه، فلا مانع من وقوع البیع أو الصلح علی العین المرهونة.

أمّا فی صورة الشکّ: أی إذا تردّد الفقیه فی معرفة حقیقة الرهن، ووصل الدور إلی الشکّ فیها، فإنّ الشبهة الحاصلة حینئذٍ تکون شبهة مفهومیّة، ومقتضی القاعدة لزوم التمسّک بعموم دلیل الحِلّ وإطلاقه، حیث یشملان بیع الرهن، وعلی مدّعی البطلان إبداع المانع عقلاً أو شرعا، فیعود الشکّ حینئذٍ إلی تحقّق المانع العقلی بالنسبة إلی البیع، والقاعدة الثابتة هی أنّه متی تمَّ مقام إثبات الإطلاق، وعاد الشکّ إلی قیام المانع العقلی وعدمه، فإنّ حجّیة الإطلاق والعموم _ من جهة حجّیّة مثبتات الاُصول اللّفظیّة _ تدفع الشکّ من جهة احتمال قیام المانع العقلی.

والنتیجة: هی صحّة البیع إلاّ فیما إذا ثبت قیام المانع العقلی عنها.

وخلاصة البحث: ثبت ممّا ذکر أنّه لا دلیل علی المنع من بیع العین المرهونة، کما أنّه لو وصل الدور إلی الشکّ فی جواز البیع وعدمه، فإنّ إطلاقات أدلّة جواز البیع ونفوذه وعموماتها تدفعان مثل هذا الشکّ، إذ لیس مقابل عموم «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» و «أَوْفُوا

ص: 446

بِالْعُقُودِ» من مانعٍ یمنع عن نفوذهما إلاّ أن المانع، وقد بحثنا عن الموانع العقلیّة والنقلیّة المدّعاة، وثبت أنّه لا مانع عقلاً ولا شرعا»(1).

القولان فی بیع العین المرهونة
اشارة

قد مرّ(2) القولان فی بیع العین المرهونة وهما:

1_ البطلان

2_ الصحة أذا لحقه إذن المرتهن.

وأمّا أدلتهما:

1_ أدلة القول بالبطلان
اشارة

مضافا إلی ما مرّ، ذهب صاحب المقابس إلی البطلان مستدلاًّ له: أنّ النهی المتعلّق بالمعاملة علی قسمین:

«تارةً: یکون النهی متوجّها إلی أمرٍ خارج عن ذات المعاملة، ومثله لا یستلزم بطلان المعاملة، کالنهی عن البیع وقت النداء، فإنّ النهی برغم تعلّقه بعنوان البیع، لکنّه قد تعلّق به من جهة أمر خارجٍ عن البیع وهو مزاحمة البیع لصلاة الجمعة، فإذا لاحظنا الآیة الشریفة(3) نجد أنّ الأمر لبّا قد توجّه إلی لزوم القیام بصلاة الجمعة فورا، أمّا النهی فلم یتوجّه إلی البیع بما هو بیعٌ، بل توجّه إلیه باعتبار أنّه یزاحم الجمعة، ولذلک یعمّ کلّ ما یمنع الإنسان عنها سواءً کان بیعا أم غیره، وعلیه فلا یُعَدُّ البیعُ _ ولو وقع _ فاسدا ومفسدا إذ لم یتوجّه إلیه النهی بخصوصه، بل النهی توجّه إلی مطلق المزاحم الذی انطبق علی البیع.

وأُخری: یکون النهی متوجّها إلی ذات المعاملة لا لأمرٍ خارج عنها، ومثله یستلزم بطلان العقد وفساده.

أمّا الصغری: أنّ النهی المتوجّه إلی بیع الراهن یعدّ من مصادیق القسم الثانی دون الأوّل، لأنّ النهی توجّه إلی بیع الراهن بذاته، مثل النهی المتوجّه إلی بیع الوقف واُمّ الولد

ص: 447


1- 1 . العقد النضید 5/(127-124) باختصار وتلخیص.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 440.
3- 3 . سورة الجمعة /9.

ممّا یوجب بطلانه وفساده.

ثمّ قال المحقّق التستری: معترضا علی نفسه بقوله:

فإن قلت: فعلی هذا یلزم بطلان عقد الفضولی وعقد المرتهن، مع أنّ کثیرا من الأصحاب ساووا بین الراهن والمرتهن فی المنع _ کما دلّت علیه الروایة _ فیلزم بطلان عقد الجمیع أو صحّته، فالفرق تحکّم.(1)

وأجاب عنه بما خلاصته: أنّ التصرّف المنهی عنه علی قسمین:

تارةً: یعدّ تصرّفه فی مال الغیر تصرّفا تکوینیّا وانتفاعا منه، فهو محرّم ولا تحلّله الإجازة اللاّحقة، وذلک بمقتضی إطلاق قوله: «لا یحقّ لأحد أن یتصرّف فی مال الغیر إلاّ بإذنه».

وأُخری: یعدّ تصرّفه تصرّفا اعتباریّا کالعقد والإیقاع، وهو علی قسمین:

1_ تارةً: یقعان نیابة عن المالک أو عمّن بیده الأمر من الإیقاعیّات کالطلاق والعتق.

2_ وأُخری: یقعان مُسْتَقِلَّیْنِ عن الغیر.

أمّا التصرّف الاعتباری علی النحو الأوّل: فإنّه یمکن تصحیحه من خلال الإجازة؛ لعدم تعلّق النهی به فضلاً عن أنّ العقد والإیقاع الواقعان نیابةً لا یصدق علیهما التصرّف فی مال الغیر. والعقد الفضولی من هذا القبیل.

أمّا التصرّف علی النحو الثانی: کبیع الغاصب عن نفسه، فإنّه یعدّ تصرّفا فی مال الغیر الذی توجّه إلیه النهی بذاته.

فإذا اعتبرنا بیع الفضول من هذا القبیل عُدَّ باطلاً، وأمّا إذا اعتبرناه من القسم الأوّل فلیس بباطل.

وبالجملة: دَفَع المحقّق التستری عمّا قد یرد علیه من النقض ببیع الفضولی بقوله: «العقد الصادر عن الفضولی قد یکون محرّما وقد لا یکون کذلک».

ص: 448


1- 1 . کما نقل عنه الشیخ الأعظم فی المکاسب 4/156.

ثمّ یقول فی مجال تطبیقه علی البیع المرهون: إنّه تارةً یلاحظ من جهة بیع المرتهن، واُخری المالک [الراهن].

أمّا الأوّل: الصادر عن المرتهن إن وقع بطریق الاستقلال المستند إلی البناء علی ظلم الراهن وغصب حقّه، أو إلی زعم التسلّط علیه بمجرّد الارتهان، کان منهیّا عنه.

وإن کان بقصد النیابة عن الراهن فی مجرّد إجراء الصیغة، فلا یزید عن عقد الفضولی، فلا یتعلّق به النهی أصلاً.

أمّا الثانی: وهو البیع الصادر من المالک [الراهن]، فإنّه باطلٌ «لما حُجر علی ماله برهنه، وکان عقده لا یقع إلاّ مستندا إلی ملکه، لانحصار المالکیّة فیه، ولا معنی لقصده النیابة، فهو منهیٌّ عنه، لکونه تصرّفا مطلقا ومنافیا للحَجْر الثابت علیه»(1)»(2).

مناقشات الشیخ الأعظم علی صاحب المقابس ونقدها

ناقش الشیخ الأعظم فی کلام صاحب المقابس من خلال ستة مناقشات:

«المناقشة الأولی: «منع الفرق فی الحکم بین ملک الغیر علی وجه الاستقلال وبیعه علی وجه النیابة»(3).

بیان ذلک: إنّ ما یتحقّق من خلال البیع أمرٌ واحد وهو تملیک عین بمال _ حسب تفسیر الشیخ _ ، سواءً صدر ممّن أوقعه نیابةً عن الغیر أو مستقلاًّ؛ لأنّ الحقیقة الحاصلة من خلال البیع هی وقوع المعاملة بین المالین، وأمّا طرفی المعاملة فهما أجنبیّان عن حقیقته، ولذلک فإنّ صدوره عن المالک أو عن الغیر مستقلاًّ أو غیر مستقلّ لا تأثیر لها فی الحقیقة الحاصلة، وعلیه فإنّ بیع الغاصب _ مستقلاًّ أو نیابةً عن المالک _ لا مدخلیّة له فی المبادلة الحاصلة بین المالین من خلال الإنشاء.

نعم، المعاملة الحاصلة إذا لحقتها الإجازة تکون نافذة وإلاّ فلا، وإجازة المالک وتوقّع صدورها خارجان عن حقیقة البیع المُنشأ.

ص: 449


1- 1 . کما نقل عنه فی المکاسب 4/157.
2- 2 . العقد النضید 5/(140-138).
3- 3 . المکاسب 4/158.

المناقشة الثانیة: (منع اقتضاء مطلق النهی لا لأمرٍ خارج، للفساد)(1).

أی لو تنزّلنا وسلّمنا بأنّ الإنشاء الصادر من الغاصب والفضول یعدّ تصرّفا منهیّا عنه، إلاّ أنّ مثل هذا النهی لایستلزم الفساد، فضلاً عن أنّ مجرّد الإنشاء لا یعدّ تصرّفا فی مال الغیر ولا غصبا له.

ردّ المناقشة الثانیة

یقتضی المقام البحث عن أمرین:

1 . عن حقیقة التصرّف.

2 . وعن أنّ النهی لا لأمرٍ خارج لا یقتضی الفساد:

الأمر الأوّل: أنّ حقیقة التصرّف لغةً هی التغییر، وصرف الشیء من حالٍ إلی حالٍ آخر، ولا یخفی أنّ الشارع عدّ فهم العرف معیارا لمعرفة مدالیل الأحکام الشرعیّة وحدودها، فإذا کان معنی التصرّف عندهم منصرفا إلی التبدّلات والتحوّلات الخارجیّة، ثبت کلام الشیخ، لکن الصحیح أنّ العرف یری مفهوم التصرّف أعمّا منهما، بمعنی أنّ ما یصدر من المالک من إنشاء البیع لأمواله یعدّ تصرّفا عرفا، حتّی قبل تحقّق تسلّط المشتری علی المال، وأمّا الإنشاء الصادر ممّن لیس له الأهلیّة العرفیّة والعقلائیّة کالفضول لا یعدّ تصرّفا یترتّب علیه الأثر.

نعم، تسلّط الغاصب علی المال وقیامه بالإنشاء الذی یعدّ موضوعا للأثر عند العقلاء، موجبٌ لصدق عنوان التصرّف عرفا، ومن مصادیقه قیام السلطان الجائر ببیع أموال النّاس لصدق التصرّف عرفا علی الإنشاء الصادر منه.

وبناءً علیه، فإنّ للتستری أن یرد علی الشیخ موجبة جزئیّة بقوله: إنّ الفعل الاعتباری الصادر ممّن له کلمة نافذة وجهة استقلالیّة عرفا _ کالمالک والغاصب والسلطان _ یصدق فیه عنوان التصرّف.

الأمر الثانی: یدّعی الشیخ أنّ النهی وإن تعلّق بنفس عنوان المعاملة والبیع، إلاّ أنّنا

ص: 450


1- 1 . المکاسب 4/158.

لا نعتقد بأنّ کلّ نهی متعلّق بعنوان غیر خارجٍ عن المعاملة یقتضی الفساد، لأنّ هناک فرقا بین باب التکالیف وباب الوضعیّات، فما یجری فی الأوّل لا یجری فی الثانی بالضرورة، وکذلک العکس.

هذا فضلاً عن أنّه یجب ملاحظة متعلّق النهی المولوی، حیث یعتبر فی المتعلّق:

الإضافة إلیه سبحانه وتعالی تارةً:

واُخری لا یعتبر فیه الإضافة إلیه سبحانه.

والنهی فی الأوّل یستلزم فساد المتعلّق؛ لأنّ العمل المنهیّ عنه لا یجتمع مع الإضافة إلیه سبحانه، ولذلک نحکم بأنّ النهی التکلیفی فی العبادات یستلزم الفساد، لمنافاته مع عنوان العبادة.

وأمّا النهی فی النوع الثانی _ کالنهی عن البیع _ فإنّه لا یستلزم فساد متعلّقه، إذ لا ملازمة عقلیّة ولا شرعیّة ولا عرفیّة بین النهی وحقیقة البیع، فیصحّ البیع ویشمله عموم دلیل الحِلّ.

وبعبارة أُخری: یدّعی الشیخ أنّه یصدق علی هذا التبادل عنوان البیع، فیندرج فی موضوع دلیل «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» حیث أنّ مقتضیه تامّ، ومانعه الحرمة التکلیفیّة المنحصرة [وهی لا تدلّ علی بطلان البیع ف_]یثبت صحّة العقد برهانا لوجود المقتضی وفقد الموانع.

وقد تابع الشیخ فی دعواه المذکورة جماعة، وحکموا بأنّ النهی التکلیفی لا یوجب الفساد إلاّ إذا کان إرشادیّا، وبالتالی فقوله علیه السلام : «الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرّف» نهیٌ متوجّه إلی مثل هذه المعاملة، لکنّه نهیٌ تکلیفیٌ لا یستلزم الفساد؛ أی بالرغم من أنّ النهی المتعلّق فی المقام لم یکن متعلّقا لأمرٍ خارج عن العقد، لکنّه لا یقتضی فساد المعاملة، ولا یوجب منع صحّتها ونفوذها.

قال الأستاذ المحقّق _ مدظله _ : إنّ دلیل صحّة إمضاء هذا العقد لا یخلو: إمّا دلیل الحلّ «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» أو «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

وفی کلیهما فإنّ السؤال المُثار حینئذٍ هو أنّه:

هل یعقل أن یأمر الشارع بحلّیة البیع وبوجوب الوفاء به مطلقا حتّی وإن کان العقد

ص: 451

مبغوضا شرعا ومتعلّقا لنهیه؟

ولا شکّ أنّ إطلاق دلیل وجوب الوفاء بالشرط والعقد والوعد منصرفٌ عرفا عن العقد والشرط والوعد المبغوض، وعلیه فإنّ إطلاق الدلیلین إمّا منصرفٌ عن مثل هذا العقد المبغوض شرعا، أو أنّه مشکوک الصدق.

أقول: الحقّ مع الشیخ الأعظم من أن النهی التکلیفی لا یستلزم بطلان المعاملة، بل یدلّ علی صحتها لما مرّ مفصلاً فی باب النواهی فی علم الأصول فراجع هناک.

المناقشة الثالثة: دعوی المحقّق التستری فی التفریق بین بیع الراهن وبیع المرتهن ممنوعة ولا وجه له.

بیان ذلک: التزم المحقّق التستری بالتفصیل، وأنّه لو باع المرتهن متوقّعا الإجازة صحّ، وإن باع مستقلاًّ بطل، لکنّه حَکَم علی بیع الراهن بالبطلان مطلقا.

أمّا الشیخ فقد التزم بالتفصیل فی بیع الراهن وحَکَم فی المرتهن بالبطلان مطلقا، رادّا بذلک علی التستری بأنّ حکم الراهن کالمرتهن، فکما یبیع تارةً متوقّعا الإجازة ممّا یقتضی الحکم علیه بالصحّة التأهّلیّة، کذلک قد یبیع مستقلاًّ غیر متوقّع للإجازة، فإنّه لابدّ من الحکم علیه بالبطلان، لصدق عنوان التصرّف الممنوع علیه فعله ممّا یقتضی البطلان.

وعلیه فتفصیل التستری ممنوعٌ.

أقول: مناقشة الشیخ له تامّة لا غبار علیها، إذ لا دلیل علی أنّ بیع المرتهن المتوقّع للإجازة صحیح دون بیع الراهن المتوقّع لها، وبالتالی فالتفصیل ممنوع ولابدّ من تسویة الحکم بینهما.

المناقشة الرابعة: إنّ اقتضاء العُمومات والإطلاقات تامّ الدلالة علی صحّة بیع الراهن باعتبار کونه مالکا وما صدر منه مِصْداقٌ للبیع، والمانع عن صحّته لا یخلو: إمّا أنّه الإجماع أو المرسلة.

أمّا الإجماع: فهو دلیلٌ لبّی ینبغی الاقتصار فیه علی المتیقّن، وهو خصوص ما إذا باع ولم یترقّب الإجازة، فضلاً عن أنّ المجمعین التزموا بصحّة بیع الراهن بالإجازة، ممّا یوجب إجمال وسقوطه فی مقابل عموم العام الدالّ علی الصحّة.

ص: 452

أمّا المرسلة: فإنّه وإن حمل المنع فیها علی تصرّف الراهن والمرتهن معا، لکن قیام القرینة القطعیّة علی أنّ تصرّف المرتهن لیس ممنوعا مطلقٌ، بل المرسلة تمنع عنه فیما إذا لم یلحقه إجازة الراهن، فهذه القرینة مع ملاحظة وحدة السیاق بینهما تفید وحدة حکم الراهن والمرتهن، وأنّ بیع الراهن یعدّ باطلاً فیما إذا لم تلحقه الإجازة، ولا أقلّ أنّ المرسلة تصبح مجملة، والقاعدة تقتضی رفع الید عن عموم العام بمقدار المتیقّن عند تعارض العموم والإطلاق مع المقیّد والمخصّص المجمل المردّد بین الأقلّ والأکثر، وما نحن فیه یعدّ من صغریات هذه القاعدة، فإنّ المرسلة المخصّصة مردّدة ومجملة بین مطلق بیع الراهن أو خصوص ما لا تحلقه الإجازة، ویقتضی ذلک حجّیة العام إلاّ فی المتیقّن.

المناقشة الخامسة: «ما ذکره من منع جریان التعلیل فی روایات العبد(1) فیما نحن فیه مستندا إلی الفرق بینهما، فلم أتحقّق الفرق بینهما، بل الظاهر کون النهی فی کلّ منهما لحقّ الغیر، فإنّ منع اللّه جَلَّ ذکره من تفویت حقّ الغیر ثابت فی کلّ ما کان النهی عنه لحقّ الغیر، من غیر فرقٍ بین بیع الفضولی ونکاح العبد وبیع الراهن»(2).

بیان ردّ الشیخ: یقول علیه السلام فی هذه المناقشة الصحیحة التی لا غبار علیها، أنّه بالرغم من أنّ مورد التعلیل فی روایات العبد عمّن تصرّف فی حقّ الغیر، وهو المولی، إلاّ أنّ المدار علی الوارد وهو التعلیل الدال علی أنّه متی کان العصیان من جهة حقّ الخلق، أمکن تصحیحه من خلال الإجازة، ومتی کان من جهة حقّ الخالق فإنّه باطلٌ لعدم إمکان تصحیحه، والعلّة المذکورة جاریة فیما نحن فیه، والنهی المذکور فی المرسلة إنّما هو بلحاظ حقّ المرتهن، وهذا الحقّ مشترک فی تصرّف الفضولی والراهن بالبیع، والعبد بالنکاح.

المناقشة السادسة: «ما ذکره من المساواة بین بیع الراهن وبیع الوقف واُمّ الولد، ففیه أنّ الحکم فیهما تعبّدٌ، ولذا یؤثّر الإذن السابق فی صحّة البیع، فقیاس الرهن علیه فی

ص: 453


1- 1 . المراد منه التعلیل المذکور فی روایات نکاح العبد بقوله علیه السلام : «إنّه لم یعص اللّه وإنّما عصی سیّده». راجع وسائل الشیعة 21/114، ح1 صحیحة زرارة و 21/115، ح2 موثقته.
2- 2 . المکاسب 4/159.

غیر محلّه»(1).

بیان الفرق: بالرغم من أنّ الفقهاء حکموا ببطلان جمیع هذه البیوع الأربعة _ بیع الراهن والمرتهن والوقف واُمّ الولد _ لأجل فقدان الطلقیّة فیها، لکن یجب أن نفرّق بین الأوّلین والأخیرین، ففی الأخیرین لا تأثیر للإذن فی صحّة بیعهما؛ بخلاف الأوّلین حیث أنّ إذن المرتهن یؤثّر فی صحّة بیع المرهونة، وعلیه فإنّ تأثیر إذن المرتهن وعدم تأثیر إذن الموقوف علیهم، دلیلٌ علی أنّ المنع فی الأخیرین تعبّدی لا یرفعه الإذن، دون المنع فی بیع الراهن، فإنّه قابل للرفع من خلال الإذن.

وخلاصة الکلام: ثبت من خلال هذه المناقشات اندفاع دعوی المحقّق التستری»(2).

2_ أدلة القول بالصحة بعد لحوق إذن المرتهن
اشارة

استدلّ الشیخ الأعظم(3) قدس سره بالأدلة التالیة:

1_ الاستدلال بالأدلة العامة

نحو اطلاق قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» وعموم قوله _ عزّوجلّ _ : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» واطلاق قوله سبحانه: «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» وغیرها من الاطلاقات والعمومات.

وهذه الأدلة العامة تدلّ علی صحة بیع الراهن لو لحقه إذن المرتهن بعد البیع ولا تدلّ علی مقارنة إذنه مع عقد البیع.

ویرد علیه: إنّ الأدلة العامة خُصِّصت بعقد الرهن فلا یجب الوفاء بعقد البیع مادامت العین المرهونة فی الرهن فلا تشمله الأدلة العامة، یعنی مادام لم تأت الإجازة لم یصح البیع.

وأمّا بعد صدور الإجازة من المرتهن، یدخل فی أنّ خروج فرد من تحت العام فی

ص: 454


1- 1 . المکاسب 4/159.
2- 2 . العقد النضید 5/(146-140).
3- 3 . المکاسب 4/154 وما بعده.

زمان بتخصیص عقلی یمنع من التمسک بالعام بعد مُضِیِّ ذلک الزمان، ومنعه الشیخ الأعظم إلاّ أن یکون تخصیصا عنوانیا، ولیس الأمر کذلک فلا تشمل الأدلة العامة بیع الراهن ولو بعد صدور الإجازة من المرتهن. فتأمل.

2_ التعلیل الوارد فی صحة نکاح العبد

ورد التعلیل فی موثقة زرارة: إنّما أتی شیئا حلالاً ولیس بعاص للّه إنّما عصی سیّده ولم یعص اللّه، الحدیث(1).

وورد فی صحیحته: إنّه لم یعص اللّه وإنّما عصی سیّده، فإذا أجازه فهو له جائز.(2)

بتقریب: «أنّ کلّ عقد کان النهی عنه لحقّ الآدمی یرتفع المنع ویحصل التأثیر بارتفاع المنع وحصول الرضا، ولیس ذلک کمعصیة اللّه أصالة فی إیقاع العقد التی لا یمکن أن یلحقها رضا اللّه تعالی»(3).

وبعبارة أُخری: «تفید العلّة المذکورة أنّ المانع هی مخالفة حقّ الخالق دون الخلق، وأنّ مخالفة الأخیرة لا تضرّ، فإذا أجاز جاز وإلاّ فلا، وأنّه برضا الخلق یرتفع المنع، کما هو الحال فی المقام، فإنّه برغم قیام الدلیل علی أنّ «الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرّف» لکن هذا المنع لم یکن بمثل المنع فی الوقف أو البیع الغرری، بل منعٌ بلحاظ حقّ المرتهن، فإذا أجاز جاز مثل صحّة نکاح العبد بعد الإجازة»(4).

وقد یناقش علیه: لا یمکن استفادة الصحة فی بیع الرهن من التعلیل الوارد فی نکاح العبید «لأنّ حقّ المرتهن هنا، لیس من قبیل حقّ السّیّد بل الرّهنُ، عقدٌ ومعاملةٌ وقوله علیه السلام : «انّه لم یعص اللّه بل انّما عصی سیّده...» لم یکن راجعا إلی العقود بل یمکن أن یقال: «انّ الرّاهن، إذا باع العین المرهونة انّما عصی اللّه» لأنّ عقد الرّهن، ممّا أمضاه الشّارعُ وانّه أقدم علی خلاف ما امضاه الشّارعُ فلیس معلوما انّ المراد من عصیان اللّه،

ص: 455


1- 1 . وسائل الشیعة 21/115، ح2، الباب 24 من أبواب نکاح العبید والإماء.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/114، ح1.
3- 3 . المکاسب 4/154.
4- 4 . العقد النضید 5/129.

عصیانُ الحکم التّکلیفیِّ [فقط] بل [یمکن أن یکون] المراد منه العصیان علی ما امضاه الشّارعُ من عقد الرّهنِ [فیشمل عصیان الحکم الوضعی أیضا]»(1).

وبالجملة: تحقق عقدٌ [وهو الرهن] والشارع لم یمض ضدّ هذا العقد.

3_ فحوی أدلة صحّة الفضولی

«الأدلة الواردة فی المنع عن بیع العین المرهونة، إنّما تفید عدم استقلالهما فی التصرّف، لا أنّ البیع الواقع علیها باطلٌ من أساسه، ولا یمکن تصحیحه بالإجازة اللاّحقة أو الإذن السابق.

بیان ذلک: إنّه لا شکّ أنّ الحقّ أهون من المِلک، لأنّ المِلک یتضمّن الحقّ بمعناه اللغوی _ أی الثبوت _ وزیادة، فالملکیّة تتضمّن حقّا آکد وأقوی من الحقّ المجرّد، وعلیه فإذا اعتبرنا الحقّ مرتبة ضعیفة من المِلک، فلا نقاش فی أنّ الملکیّة تعدّ مرتبة أقوی من الحقّ، وإن لم نقل بذلک، فلا نقاش فی أنّ ارتباط المالک بالمملوک أقوی وآکد من ارتباط الحقّ بصاحبه.

وبناءً علی هذه المقدّمة، إذا أفاد النهی عن العقد الفضولی، مجرّد عدم استقلال البائع فی التصرّف دون بطلان أصل المعاملة، فإنّ ذلک یکون فی الحقّ بطریق أولی، ومن المعلوم أنّ هذه الأولویّة عرفیّة ولیس من باب تنقیح المناط، بمعنی أنّه إذا لاحظ العرف أنّ الدلیل لا یفید بطلان بیع مال الغیر من أصله، بل یعلّق صحّته علی إجازة المالک، عَرِف أنّ بیع متعلّق حقّ الغیر یکون أولی بالصحّة بالإجازة من بیع ملک الغیر»(2).

وقد تأمّل فی هذا الفحوی ب_ «انّه یلزمُ احتساب الفحوی بالنّسبةِ إلی لسان الأدلّة لا بالنّسبة إلی المناسبات والاستحسانات وأشیاءٍ خارجةٍ عن مضمون الأدلّة وما یکون فی باب الفضولیِّ، أنّ [بإجازة المالک] صار العقد، عقده بحیث تشمله العموماتُ من:«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وغیره کما صرّح به السّیّدُ رحمه الله فی العروة.

ص: 456


1- 1 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 5/25.
2- 2 . العقد النضید 5/129.

وهذا، دلیل صحّة الفضولیّ وإلاّ قبل الإجازة، لا تشمل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» عقد المالک فمعنی «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» یعنی «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» أیّها المالکون».

ومن المعلوم: انّ هذه الحالة، لیست فی بیع الرّاهن لانّ فی بیع الرّاهن کان العقد، عقد المالک فالإجازة اللاّحقة، لا تؤثّر فیما قبل من حیث الأدلّة حتّی یقال بالفحوی فلیس هنا مناطٌ حتّی یقال بأنّه جارٍ فیما نحن فیه بالطّریق الأولی.

بالجملة: فی باب الفحوی، یلزم أنْ یکون شمول الأدلّة أو المناط الّذی یُستفاد من الأدلّة، أخفی فی الرفع مع انّه لیس الأمر کذلک هنا لأنّ المناط، کان أقوی فی الفرع حیث کان عقد الرّاهن، عقد المالک دون عقد الفضولیِّ حیث أنّ بعد الإجازة، یصیر عقد المالک.

فبناءً علیه، تمکن دَعوی العکس بأن یقال بإمکان القول بصحّة بیع الفضولیّ واختیار البطلان فی باب بیع الرّاهن ووجهه أنّ الفحوی، انّما تلاحظ باعتبار مدلول الأدلّة واعتبارِ اطلاق الأدلّة وعمومها لا باعتبار الاستحسانات الخارجیّة و المناسبات.

وتوضیحه: انّ الرّاهن، انّما باع ماله و عقده عقد [المالک] من الأوّل ومع ذلک لا تشمل: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» عقده لحصول التّخصیصِ فیه وبعد الإجازةِ، لم تحصل فی شمولِ: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، عامٌّ خرج من تحته فردٌ فی زمانٍ، هل یجوز أن یرجع إلی العموم فیما بعد هذا الزّمان؟ فالشّیخ صرّح بشکلٍ أن یرجع إلی العامّ فی هذا الفرد المشکوک بالمناط، ولیس هنا مناطٌ فی البین»(1).

مقالة المحقّق الإیروانی فی المقام ومتابعة المحقّق الإصفهانی له

ذهب المحقّق الإیروانی رحمه الله إلی أنّ بیع الراهن العین المرهونة صحیح من دون حاجة إلی إجازة المرتهن، ولکن تنتقل العین المرهونة مرهونة إلی المشتری، لأنّ حق الرهن یتعلّق بالعین وکان باقیا علی العین حین انتقالها إلی المشتری وهو إن کان عالما یلزم العقد وإن کان جاهلاً فله خیار الفسخ للعیب الموجود فی العین المسلوبة المنفعة مدّة من الزمان.

ص: 457


1- 1 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 5/21.

قال مانصه: «لا وجه للبطلان ولا التوقّف علی إجازة المرتهن، بل الوجه هو الصحّة واللزوم وانتقال العین إلی المشتری مستحقّة للمرتهن، فیکون حقّ المرتهن محفوظا، والعین ملکا للمشتری؛ إذ لا یعتبر فی العین المرهونة أنْ تکون ملکا للراهن، فإذا جاز استفادة عین للرهن ابتداءً جاز بالأولی بیع العین المرهونة، فیکون هذا بحسب الاستدامة مثل ذلک بحسب الابتداء، نعم مع جهل المشتری بالحال یثبت له الخیار، وأمّا من قبل البائع فهو لازم مطلقا.

وبالجملة: الدوران بین البطلان والتوقّف علی الإجازة إنّما یکون التنافی بین صحّة البیع وتأثیره فی النقل وبین بقاء حقّ المرتهن، فیدور الأمر بین بطلان البیع لمکان الحقّ وبین وقوعه مراعیً بسقوط الحقّ من العین بنحو، إمّا بالإجازة أو بإسقاط الحقّ، أو بفک الرّهن، أو الإبراء عن الدین علی إشکال فی غیر الأوّل»(1).

وتبعه المحقّق الإصفهانی رحمه الله فی الجملة حیث قال: «ینبغی تقییده [أی تقیید «الاتفاق علی عدم استقلال المالک...»(2)] بما إذا کان نفوذ البیع منافیا لحقیقة الرهن، أمّا إذا لم یکن کذلک فلا موجب لبطلان البیع؛ کما إذا رضی المشتری ببقائه علی الرهانة، فإنّ رهن المال علی دین الغیر جائز؛ وبیع المال فی أداء الدین الذی هو علی الغیر أیضا نافذ، سواء باع عن مالکه وأدّی الدین بثمنه أو باعه لنفسه کما مرّ تحقیقه مرارا، ففی هذه الصورة لم یکن البیع منافیا للرهانة حتّی یتوقف علی اذن المرتهن أو إجازته أو إبرائه أو إسقاطه أو فک الرهانة، فالاتفاق علی عدم الاستقلال بملاحظة طبع البیع والرهن؛ لا ما إذا لحقه عنایة زائدة وهو رضا المشتری»(3).

ومال إلی هذا القول المؤسس الحائری قدس سره کما سَتَأْتِیْ مقالته ونقده تفصیلاً.

وتبعهم الأستاذ المحقّق _ مدظله _ فی بحثه الشریف.(4)

ص: 458


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/526.
2- 2 . المکاسب 4/151.
3- 3 . حاشیة المکاسب 3/261.
4- 4 . العقد النضید 5/147.

ویرد علیه: إنّه لم یدُلَّ دلیلٌ علی أنّ للمرتهن حقّ علی العین المرهونة والصحیح «أنّ الرهن عقدٌ من العقود کسائر العقود له إیجابٌ وقبولٌ ومن خاصیّة ذلک العقد انّه لازمٌ من طرف الرّاهن وجایزٌ من طرف المرتهن ولیس هنا شی ءٌ إلاّ مفهوم الرّهن وهو اعتبار القبض والإقباض فی الخارج عَلی نحو خاصٍّ کما یکون کذلک فی سایر العقود فالعقود کلّها لها اصلٌ فی التّکوین یعنی الحاجة التّکوینیّة، تقضی القبض والاقباض علی نحو الوثیقة ثمّ یأتی بنحو القانون وهو الایجابُ والقبولُ لحصول الثّقةِ.

فمفهومُ الرّهن، بقاءُ العین المرهونة عند المرتهن حتّی یکونَ داعیا للرّاهن لردّ دین المرتهن ولازمُ تحقّقِ هذا المفهوم؛ بقاءُ العین عند المرتهن دائما وکان الرّاهن ممنوعا من التّصرفِ فهو انّ العین، لیست ماله. وامّا ممنوعیّة الرّاهن فلکون العین وثیقةً عند المرتهن وممنوعیّة تصرّف الرّاهن والمرتهن، انّما هو لاجل کون التّصرف مخالفا لمفهوم العقد ونحوه فعدمُ جواز التّصرف فی العین المرهونة ومن قبل الرّاهن والمرتهن داخلُ جزء العقد لا انّه تعلّق علی العین، حقُّ الغیر.

فلذا نقول: إنّ عدم جواز التّصرف فی العین المرهونة من قبل الرّاهن والمرتهن، تخصیصٌ عقلیٌّ محضٌ فی قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ولیس هو بتخصیص شرعیٌّ وعنوانیٌّ.

فلهذا، إنْ قلنا: إنّ للمرتهن، حَقَّا فی العین المرهونة، انّما هو بذلک المعنی لا انّ له حقٌّ فی مقابل الحکم یعنی الحقّ بمعنی سنخٍ من الأحکام الوضعیّة بالمعنی الفقهیّ الاصطلاحیِّ المجعول من الشّارع»(1).

ثمّ لو تنزلنا وفرضنا «أنّ الرّهن، حقّ راجعٌ إلی العین، فللبحثِ من انّه هل تعلّق علی ذات العین أو تعلّق علیها بما انّها مملوکٌ، مجالٌ کما یُبحثُ فی باب الشّفعة والخیار.

ولکن بعد ما قلناه من انّ الرّهن، لیس من قبیل الحقّ بذلک المعنی الاصطلاحیِّ المجعول من الشّارع علی العین بل العقد، معاوضةٌ ومعاقدةٌ والمعاقدة علی نفس العینِ

ص: 459


1- 1 . تحقیق وتقریرات فی البیع والخیارات 5/24.

فإذا کانت نفس العین رهنا یعنی تعلّقت المعاقدةُ علی العین الّتی کانت ملکا للبائع لیست المعاقدة مع المشتری، فلا معنی للقول بانتقال الحقّ علی المشتری، متعلّقا لرهن الرّاهن»(1).

وبعبارة أخری: «لم یثبت فی باب الرّهن، أصلٌ وحقٌّ للمرتهن علی العین ولو کان هنا أصلٌ فیمکن القول بانّه من باب التّوسع فی التّعبیر ومن المعلوم: انّه لیس المراد من الحقّ هنا، المعنی الاصطلاحیّ الفقهیُّ مثل الحقوق حیث لم یکن هذا الحقّ مثل الحقوق فی الفقه الاسلامیِّ ولم یرد تعرّض فی الرّوایات بمثل هذا النّوع من الحقّ فلیس هنا شیءٌ زائدٌ غیر کونها رهنا بل لا یحتاج إلی جعل حقّ غیر کونها رهنا.

والقولُ بالحقّ هنا، مطلبٌ انتزاعیٌّ لا أنّه أمرٌ أصیلٌ والأصیل المجعول، انّما هو نفس الرّهن واعتباره فلیس هنا حقٌّ زائدٌ غیر کونها رهنا حتّی یبحث عنه بانّه حقٌّ متقوّمٌ علی ذات العین أو متقوّمٌ بما أنّها مملوکٌ للبائع ومعنی عقد الرّهن بقاء العین وعدم انتقالها إلی الغیر وعدم کونها ملکا للغیر، فلیس هنا حقٌّ یتکلّم عنه بأنّه هل قائمٌ بالعین أو بما انّه مملوکٌ للبائع؟»(2).

مقالة المؤسس الحائری فی المقام

قال شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی علیه السلام ما نصه: «قال شیخنا الأستاذ _ دام علاه _ : الجمع العُرْفِیُّ بین إطلاقات وعمومات صحّة البیع، وخصوص النهی عن بیع الراهن لیس إلاّ ارتفاع أصل النفوذ عن هذا القسم ببطلانه رأسا کما هو الحال فی الجمع فی تلک الإطلاقات والعمومات، والنهی عن بیع الوقف وبیع أُمّ الولد وبیع الغرر وغیر ذلک، ولو کان مقتضی الجمع هو الحمل علی رفع الاستقلال مع إثبات أصل الصحّة التأهلیّة لکان اللازم ذلک فی تلک المقامات أیضا.

فنقول: مفاد النهی مع ذینک الإطلاق والعموم قابلیّة أصل العقد للتأثیر والحالة

ص: 460


1- 1 . تحقیق وتقریرات فی البیع والخیارات 5/26.
2- 2 . تحقیق وتقریرات فی البیع والخیارات 5/28.

الکذائیّة مانعة عن استقلاله فیه، فلا ینافی تأثیره الضمنی. بضمیمة زوال تلک الحالة، فمقتضی الإطلاق هو التأثیر عند زوال أُمّ الولدیّة أو الوقفیّة أو الجهالة، والحال أنّ أحدا لا یقول بذلک بل من المسلّم احتیاج المعاملة بعد زوال تلک الحالة إلی صیغة جدیدة، وعدم فائدة فی الصیغة الأُولی رأسا، وإذن فما الفرق بین تلک المقامات ومقامنا، وهل النهی عن بیع الراهن الواقع بلا إجازة المرتهن إلاّ مثل تلک النواهی.

فالأسدّ فی إثبات القول المزبور هو اختیار طریقة أُخری اخترناها فی تصحیح عقد الفضولی بعد ردّ الطریق المذکور فیه أیضا بمثل ما ذکرنا وهی أن یقال _ بعد أنّ قوله: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» ظاهر فی البیع المسبّبی، أعنی: النقل والانتقال، دون السببی، أعنی: الإنشاء المظهر باللفظ، وهذا المعنی محمول علی مصادیقه العرفیّة، فکلمّا حکم فیه العرف بتحقّق المبادلة والنقل والانتقال یحکم علیه الشرع بحکم «أَحَلَّ» _ : أنّ الشارع ربّما یخطّی العرف فی تشخیص بعض المصادیق ویقول: ما حکمتم بمصداقیّة لیس بمصداق واقعا، وهذا هو الحال فی بیع الغرر وأمثاله ممّا انفکّ نظر العرف فیه عن نظر الشرع، وربّما یقرّره فی تشخیص بعض آخر ویقول: قد أصبتم فی حکمکم بالمصداقیّة أو بعدمها فی مورد فلانی.

ومن هذا القبیل مقامنا وبیع الفضولی، فإنّ العرف کما لایری المبادلة متحقّقة بإنشاء صادر من غیر المالک کذلک لایراها حاصلة بمجرّد إنشاء المالک بدون إجازة المرتهن، وکما لایفرّق فی حصولها بین حصول إجازة المالک فی الفضولی قبل العقد أو معه أو بعدها، کذلک فی المقام أیضا لا یفرق بین الصور المذکورة بالنسبة إلی إجازة المرتهن فی الحکم بالحصول فی جمیعها، فإذا قال الشارع: الراهن ممنوع من التصرّف البیعی فمعناه عند العرف أنّ حقیقة المبایعة والمبادلة لایتحقّق منه إلاّ بعد لحوق إجازة المرتهن ولیس للقول المذکور إطلاق شامل لما بعد الإجازة؛ لأنّه حینئذ یصیر من باب التعبّد والتخطئة المصداقیّة وقد فرضناه لیس بهذا الصدد، وإنّما هو بصدد التقریر والمشی علی طبق ارتکازهم وطریقتهم، والمفروض أنّ طریقتهم إنّما هو المنع قبل الإجازة لا بعدها، نعم هذا یحتاج إلی إثبات کون القول المذکور واردا فی هذا المقام لا فی مقام التعبّد

ص: 461

والتخطئة.

هذا مضافا إلی ما أشار إلیه شیخنا المرتضی قدس سره من أنّه علی تسلیم الظهور فی بطلان التصرّف رأسا یمکن التمسّک بأدلّة الفضولی بعد الأولویّة القطعیّة، فإنّه إذا کان بیع الأجنبی للعین المرهونة سواء کان لترقّب الإجازة أو باعتقاد المالکیّة أم بالبناء الغصبی العدوانی صحیحا نافذا عند إجازة الراهن والمرتهن بواسطة تلک الأدلّة، فمن المقطوع أنّ حال الراهن الذی هو المالک لیس بأدون من ذلک الأجنبی، ولازمه صحّة البیع الصادر منه عند لحوق إجازة المرتهن، وبالجملة یمکن التصرّف فی الظهور المذکور بالحمل علی ما ذکرنا بملاحظة تلک الأدلّة بضمیمة هذه الأولویّة القطعیّة.

ثمّ قال شیخنا _ دامت أیّام إفاداته الشریفة _ : وهنا طریق آخر لتصحیح البیع المزبور عند إجازة المرتهن، وهو أن یقال: لیس المقام کعقد الفضولی؛ فإنّ العرف کما عرفت لا یرون المبادلة هناک حاصلة إلاّ بعد إجازة المالک، وأمّا هنا فمصداق المبادلة والبیع المسبّبی محقّق عندهم قبل حصول إجازة المرتهن، لأنّ حال العین المرهونة حال العین المستأجرة، فکما لایمنع الاستئجار هناک عن تحقّق البیع _ بل یرون العین مع سلب المنافع منتقلة إلی المشتری _ کذلک هنا أیضا الرهانة غیر مانعة، فالعین علی حال الرهانة وکونها وثیقة لدین المرتهن تصیر منتقلة إلی المشتری.

وکما أنّ سلب المنافع هناک لایوجب عدم صحّة اعتبار الملکیّة والمبادلة وذلک لوجود ما یصحّ انتزاع ذلک عنه وهو المنافع المتجدّدة بعد انقضاء المدّة کذلک هنا أیضا لیس الممنوعیّة عن التصرّفات موجبة لعدم اعتبار الملکیّة والبیع، إذ یکفی فی صحّة انتزاعهما کون العین جائز التصرّف من البیع والإجازة وغیرهما من المشروطة بالملک عند إجازة المرتهن وکون نماءاتها لمالک.

وإذن فنقول: مقتضی عموم «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» صحّة هذا البیع ولو لم یلحقه إجازة المرتهن، غایة الأمر کون المشتری مع جهله بالحال مختارا فی الفسخ والإمضاء، فحال المقام حال بیع الغرر وبیع أُمّ الولد ممّا یری فیها العرف حقیقة المبادلة، ومقتضی العموم المذکور فیها أیضا هو الوقوع. ولکنّ الفرق بین المقامین أنّ النهی الخاص المتعلّق

ص: 462

بخصوص البیعین تخصیص ذلک العموم ومقتضی إطلاقه عدم الفرق بین زوال الجهالة والاستیلاد بعد ذلک وعدمه.

وأمّا المقام فالنهی الوارد فیه وارد علی الراهن مع عطف المرتهن علیه؛ فإنّ بإجازة الراهن، فالأمر دائر فی الخبر المذکور بین أن یراد من المنع ظاهره من الممنوعیّة الرأسیّة المنافیة للصحّة التأهلیّة أیضا، غایة الأمر نلتزم بتخصیص المرتهن، ولکن نلتزم بحمل المنع علی خلاف ظاهره من ممنوعیّة الاستقلال فی التصرّف الغیر المنافیة مع الصحّة التأهلیّة.

فحال المقام حال ما إذا ورد أکرم العلماء وعلم بأنّ زَیْدا العالِمَ یُسْتَحَبُّ إکرامُهُ فإنّ الأمر دائر بین التصرّف فی المادة بتخصیص العلماء بما سوی زید، وبین التصرّف فی الهیئة بحملها علی مطلق الطلب، وحینئذ فلو لم نقل بأظهریّة المادة فی المقام المقتضیة لحمل الهیئة علی ممنوعیّة الاستقلال فلا أقلّ من الإجمال، فیکون إطلاق «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» بالنسبة إلی ما بعد لحوق الإجازة سلیما عن المعارض والمقیّد، وبعبارة أُخری یکون القدر المتیقّن الخروج هو البیع الغیر المرضیّ به فیبقی البیع المرضیّ به داخلاً تحت الإطلاق.

فلا وجه للقول بالبطلان وإن قوّاه بعض الأساطین _ قُدِّسَتْ أسرارهم _(1).

وقد یناقش علیه: أوّلاً: أنّ دعواه: «إذن فما الفارق بین تلک المقامات ومقامنا، وهل النهی عن بیع الراهن الواقع بلا إجازة المرتهن إلاّ مثل تلک النواهی»(2) لا یمکن اعتبارها ردّا علی الشیخ [الأعظم]؛ لأنّ الشیخ الأعظم استنتج من المرسلة بأنّ النواهی المتعلّقة بالمعاملات تارةً نواهی خَلقیّة _ کعصیان العبد لمولاه _ یمکن دفعها بالإجازة اللاّحقة، واُخری خالقیّة لایزول بالإجازة کما فی بیع الوقف والغرر، ثمّ أثبت بأنّه فرقٌ بین باب الغرر وباب الرهن، وأنّ النهی فی الأخیر نهی خَلقی بلحاظ حقّ المرتهن ولا علاقة له

ص: 463


1- 1 . کتاب البیع 2/(206-202) والأستاذ المحقّق _ مدظله _.
2- 2 . کتاب البیع 2/203.

بباب الغَرر الذی هو نهیٌ خالقی، وممنوع بحدّ ذاته للجهالة المتحقّقة فیه.

فدعوی وحدة الملاک فیهما وتساویهما فی الحکم جوازا ومنعا ممنوعة.

وثانیا: أنّ دعواه بالتفریق بین المرهونة والفضول، باعتبار أنّ المتحقّق من خلال بیع المرهونة هو الأمر المسبّبی الناشئ فی ظرف الإنشاء لصدوره من المالک وقبل الإجازة، بخلاف بیع الفضول حیث یکون تحقّق الأمر المسبّبی فیه متأخّرا عن ظرف الإنشاء وحاصلاً بعد الإجازة.

ممنوعة، فإنّه حتّی لو سلّمنا المبنی والتزمنا بأنّ إنشاء المعاملات یعدّ أسبابا والمنشآت مسبّبات، فإنّ تالیه الفاسد وجوب الالتزام بالنقل دون الکشف، أی أنّ من یلتزم بتحقّق النقل بعد الإجازة لابدّ وأن یقول بناقلیّة الإجازة، مع أنّه رحمه الله التزم فیها بالکشف علی مبنی الشرط المتأخّر.

وبالجملة: فالالتزام بتحقّق البیع المسبّبی بعد الإجازة یستحیل اجتماعه مع القول بالکشف.

وثالثا: إنّ دعواه أخیرا بالجمع بین دلیل الوجوب والاستحباب، من خلال التصرّف فی هیئة الوجوب، وحملها علی مطلق الطلب الذی یصلح أن یجتمع مع دلیل الاستحباب، وتطبیقه علی المقام، یعدّ محاولة ینبغی البحث عنها لمعرفة مرکز التنافی بین العام والخاص وَحَدِّهِ، وأخیرا الطریقة التی یمکن بها علاج التنافی.

فنقول: لا یخفی أنّ البحث یدور حول العام والخاصّ المتخالفان _ دون المتوافقان _ ومعلومٌ أنّ المخالفة تنشأ دائما من ناحیة الحکم دون الموضوع، حیث ینافی ظهور (أکرم زیدا) مع ظهور (یستحبّ إکرام زید)، فإذن مرکز التنافی هو الحکم دون الموضوع.

أمّا حدّ التنافی: أنّ القاعدة تقتضی انحلال دلیل الوجوب إلی أحکام متعدّدة فتحصل من خلالها إطاعات وعصیانات متعدّدة، ویتحقّق التنافی فی المصداق الذی یدلّ الدلیل المنحلّ علی وجوب إکرامه، والدلیل الآخر الدالّ علی عدمه، وحینئذٍ یعدّ إسقاط ظهور الهیئة فی جمیع موارد الحکم، وحملها علی الطلب فی الجملة لتشمل الطلب

ص: 464

الاستحبابی، یعدّ رفع الید عن الحجّة باللاّحجّة، وهو ممنوع.

وهکذا بطلت الدعاوی المذکورة، والمحاولة التی قام بها [المؤسس] الحائری لرفع التنافی بین الدلیلین.

أقول: إنّ الطریقة الوحیدة التی یمکن بها رفع التنافی هی ملاحظة العام والخاص والنسبة الحاصلة بینهما.

فإنّه لا شکّ أنّ نسبة کلّ خاص إلی العام هی نسبة القرینة إلی ذی القرینة، فتکون أصالة الظهور فی القرینة _ بالنسبة إلی ذیها _ تنجیزیٌّ وفی ذی القرینة تعلیقی، أی أنّ ظهور العام مشروط دون الخاص، حیث أنّ ظهور الخاص بالنسبة إلی العام غیر مشروط.

وبعبارة أُخری: إنّ ظهور العام معلّق بعدم وجود الخاص والمقیِّد، أمّا ظهور الخاص فغیر مقیّد و [غیر] معلّق بشیء، ولذلک یعدّ الخاصّ مقدَّما علی العام، ولهذا السبب فالتصرّف فی هیئة الوجوب بحملها علی الطلب فی الجملة بالنسبة إلی بعض المصادیق _ کما ادّعاه [المؤسس] الحائری _ یعدّ أمرا مستحیلاً بحسب القواعد الاُصولیّة دون الفلسفیّة، لاستلزام ذلک إسقاط دلالة الهیئة علی الوجوب، ولا یتمّ الإسقاط إلاّ بعد إسقاط ظهور دلیل الخاص الدالّ علی الاستحباب، واعتباره غیر مخصّص للعام، فالسقوط یتوقّف علی عدم التخصیص، وهذا العدم متوقّف علی سقوط ظهور الخاص؛ لأنّ قرینیّة الخاص تامّ الاقتضاء، ولا یمنع عن تأثیر اقتضاءه وتخصیصه للعام إلاّ قیام المانع، ولا مانع فی المقام إلاّ حمل ظهور (أکرم) علی الطلب فی الجملة دون الوجوب، ولا یتحقّق هذا الظهور إلاّ بعد زوال قرینیّة الخاص، وعدم قدرته علی تخصیص العام، وهو ممنوعٌ.

فثبت أنّ مثل هذا التصرّف فی هیئة الوجوب یعدّ محالاً.

وبالجملة: أنّ هیئة «أکرم» ظاهرة فی الوجوب، إمّا بالإطلاق، أو بحکم العقل، وأمّا هیئة «یستحبّ» نصٌّ فی الاستحباب، فیدور الأمر بین الالتزام برفع الید عن ظهور الأوّل بنصّ الثانی، أو اعتبار مفاد الوجوب عامّا ونصّ الاستحباب خاصّا، فیتقدّم الخاصّ علی العام.

ص: 465

وعلی جمیع المبانی، فإنّ النتیجة هی لزوم حمل مفاد «أکرم» علی الطلب المطلق _ وهو الوجوب الذی یسقط فی خصوص زید _ لا الطلب فی الجملة، ومقتضی القاعدة حصرا هو التخصیص»(1).

ثمّ إنّ هنا قَوْلاً آخر وهو انتقال حق الرهانة من العین إلی الثمن

وهذا منقول من «الشیخ فی المبسوط والعلاّمة رحمه الله فی التّحریر والشّهید رحمه الله فی الدّروسِ من نقل حقّ الرّهن من العین إلی الثّمن، [و] لیس بصحیحٍ.

وجه هذا القول، انّه قیس ما نحن فیه أی باب الرّهن مع سایر الحقوقِ المتقوّمة بالعین بضمیمةِ قاعدة المعاوضات مثلاً قلنا سابقا فی باب الوقف فی بیع العین الموقوفة فی موارد جوازه أنّ حقّ البطون اللاّحقة یُنتقل من العین الموقوفة إلی بدلها فکما انّ العین الموقوفة، کانت مشترکةً بین الطّبقات فکذلک یکون الثّمن مشترکا بین الطّبقات فتنتقل حالة الوقف من العین إلی بدلها أخذا بمقتضی المعاوضة.

وقیس ما نحن فیه وهو باب الرّهن بباب الوقف فینتقل حقّ الرّهن من العین المرهونة المبیعة إلی ثمنها لانّ الرّاهن والمرتهن فکأنّهما یشتَرکان فی المبیع نوعا من الشّرکة.

وان کان مبناه ما قلناه سابقا فالجواب هو الجوابُ عنه لما قلنا من انّ الرّهن، لیس من العقود [التی] قائما بالعین [و] لا قائما بذات العین ولا قائما بما أنّها مملوکٌ.

والفرقُ بین الوجهین لا یخفی علی المتأمّل حیث انّ الوجه الثّالث [وهو قول الإیروانی ومَنْ تبعه] مبنیٌّ علی انّ حقّ الرّهن، یتعلّق علی ذات العین فیذهب هذا الحقّ حیث تذهب هذه العینُ ومبنی الوجه الرّابع انّ حقّ الرّاهن یتعلّق علی العین بما انّها مملوکٌ فیتعلّق الحقّ بالعوضین فالمملوک صار عوضا بمملوکٍ آخر فینتقل إلی الثّمن.

وامّا ما قال به الشّیخ الطّوسیُّ فی المبسوط والعلاّمة فی التّحریر والشّهید رحمه الله فی الدّروس فلا یبعد عدم تطبیق هذا القول مع القول الرّابع فیحتمل أن یکون قولهم بجواز بیع

ص: 466


1- 1 . العقد النضید 5/(136-133).

الرّهن، انّما هو مِنْ أَجْلِ ردّ دینه من ثمن البیع والإجازة مبنیّة علی ذلک لا أنّها مبنیّة علی صحّة بیعه وعدم أداء دینه وإن کان مرادهم رحمه الله هذا فهذا مطلبٌ استظهاریٌّ من کلمة الإجازة فی باب الرّهن ولیس من جملة تلک الاقوالِ.

نعم، إذا قامت القرینة علی خلاف ذلک یعنی قامت القرینة علی إجازةِ المرتهن، البیع لا مِنْ أَجْلِ ردّ دینه فهو ممّا لا کلام فیه ولکنّ الکلامُ فی طبع الإجازة وانّ طبع الإجازة ماذا یقتضی؟

ولعلّ کلام الشّیخ رحمه الله فی المبسوط والعلاّمة فی التّحریر والشّهید رحمه الله فی الدّروس مبنیٌّ علی ذلک وان کان مبناه هذا فیصّح کلامهم ولیس مربوطٌ بالقول بل هو استظهارٌ من الإجازة فی مقام الإثبات وراجعٌ إلی تشخیص مراد المرتهن من إجازته.

وأمّا ان کانُ المراد أنّ الرّهن، حقٌّ متعلّقٌ علی العین بما انّها مملوکٌ ولازم الحقوق المتعلّقه علی الملک انّها یَصِّحُ بیعه منتقلاً حقّ الرّهن علی عوضه، فلا یصّحُ»(1).

القول المختار فی المسألة

أقول: القول المختار من الأقوال الأربعة الماضیة فی بیع الراهن العین المرهونة بإذن المرتهن وهنّ:

أ: البطلان: وهو مختار جماعة منهم الشیخ أسداللّه التستری صاحب المقابس.

ب: الصحة مع إذن المرتهن: وهو مختار جماعة منهم الشیخ الأعظم الأنصاری.

ج: الصحة مطلقا إی من دون إذن المرتهن: وهو ابداع المحقّق الإیروانی ومال إلیه المؤسس الحائری وتبع المحقّقُ الإصفهانیُ الإیروانیَّ والاستاذُ المحقّقُ _ مدظله _ .

د: الصحة مطلقا من دون إذن المرتهن وانتقال حق الراهنة من العین إلی ثمنها وهو منسوب إلی الأعلام الثلاثة.

القول المختار هو القول الثانی أی الصحة مع إذن المرتهن لا بالأدلة التی أقامها الشیخ الأعظم الأنصاری لأنّه قد عرفت عدم تمامیتها بل لما مرّ منّا من أنّ تخصیص

ص: 467


1- 1 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 5/(30-28).

الوارد فی بیع العین المرهونة عقلیٌّ ولا شرعیّ وما ورد فی الشریعة المقدسة من المرسلة النبویة إرشاد إلی ذاک الحکم العقلی.

والتخصیص العقلی من أوّل الأمر لیس بمطلق بل منوط بعدم جواز التصرفات الخارجیة والناقلة فی العین المرهونة من دون إذن ورضایة الطرف الآخر ولکن إذا تصرّف کل منهما _ الراهن والمرتهن _ مع إذن أو رضایة الآخر فتصرفاته نافذة وبیع العین المرهونة داخل فی هذا الکلی فإذا باعها الراهن مع إذن المرتهن کان صحیحا واللّه سبحانه هو العالم.

ثمّ إن هاهنا فروع لابدّ أن نبحث حولها:
1_ الإجازة هنا کاشفة أو ناقلة؟

آراء الفقهاء فی باب الإجازة فی مسألتنا متضاربة تظهر لک بعضها فی ما یأتی:

قول الشیخ الأعظم

ذهب الشیخ الأعظم(1) إلی أنّ حکم الإجازة «فی المقام بحسب القواعد یجب أن تکون ناقلة کحکمها فی باب الفضولی، لکن فبالرغم من أنّ القاعدة تقتضی النقل من حین الإجازة فی باب الفضولی، إلاّ أنّ النصّ الوارد فی هذا الباب _ فی قضیّة قیام الولد ببیع جاریة أبیه وولدها، حیث قال علیه السلام : أنّه لو أجاز جاز _(2) یقتضی مخالفة القاعدة والالتزام بالکشف الحکمی بالأولویّة، بمعنی ترتّب أحکام الملکیّة من حین وقوع البیع تعبّدا وحکما.

بیان الأولویّة: أنّ الإجازة تؤثّر فی بیع الفضولی من جهتین:

1_ إنّ الإجازة تحقّق الاستناد للبیع الفضولی الذی صدر دون استناد إلی المالک.

2_ إنّ الإجازة تحقّق شرط النقل الذی هو إجازة المالک.

فشأن الإجازة فی هذه المعاملة کونها جزء الموضوع الذی لولاه لم یتحقّق

ص: 468


1- 1 . المکاسب 4/160.
2- 2 . وسائل الشیعة 21/203، ح1، الباب 88 من أبواب نکاح العبید والأماء. صحیحة محمّد بن قیس.

موضوع الصحّة؛ لأنّ الموضوع فی قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»بیع المالک، ولزوم الوفاء بالعقد الصادر ممّن له أهلیّة انتساب العقد والعهد إلیه، والإجازة تحقّق الاستناد للعقد الصادر من الفضولی، ویوجب تمامیّة الموضوع، ممّا یوجب انطباق عنوان الرضا المذکور فی قوله تعالی: «إِلاّ أَنْ تَکُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْکُمْ»(1) وقوله علیه السلام : «لا یحلّ مال امرئٍ مسلم إلاّ بطیبة نفسه» علی العقد.

وبالتالی: فإنّ الإجازة یتحقّق أوّلاً الانتساب، وثانیا الرِّضا.

وهکذا تعدّ الإجازة فی البیع الفضولی متمّما للموضوع وجزءا للسبب ومحقّقا لشرط صحّة العقد.

أمّا بیع الراهن فهو بیعٌ صادر من المالک، وعلیه فلا مشکلة فیه من جهة الاستناد، إنّما المشکلة من جهة تعلّق حقّ المرتهن حیث یعدّ مانعا، والإجازة ترفع المانع.

وعلیه، فإذا دلّ النصّ الوارد فی باب الفضولی _ الذی فیه مانعان: عدم الانتساب وعدم الرضا _ علی صحّته وکاشفیّته، دلّ علی صحّة بیع الراهن وکاشفیّته بالأولویّة، لما فی الأخیرة من وجود مانعٍ واحد وهو حقّ المرتهن دون الانتساب الثابت تحقّقه»(2).

اعتراض المحقّق الإیروانی علی الشیخ الأعظم

قال فی تعلیقه علی قول الشیخ الأعظم: «لأنّ إجازة المالک أشبه بجزء المقتضی، وهی هنا من قبیل رفع المانع»(3). بما نصه: «هذا غیر فارق [1] فإنّ المعلول یتوقّف علی تحقّق تمام أجزاء علّته من السبب والشرط وعدم المانع، فلا فرق فی عدم حصول الأثر بین أن یکون المقتضی غیر حاصل وبین أنْ یکون المانع موجودا، [2] مع أنّ تطبیق اصطلاحات أهل المعقول علی أجزاء العقد وتسمیتها بأسمائها ممّا لم یجر علی أصل صحیح؛ فإنّ باب العقود لیس باب الأسباب الحقیقیّة والتأثیر والتأثر»(4).

ص: 469


1- 1 . سورة النساء /29.
2- 2 . العقد النضید 5/148 و 149.
3- 3 . المکاسب 4/161.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/530.

جوابه

ولکن یمکن أن یجاب عنه بأن «موضوع الصحّة فی البیع الفضولی، هو العقد المستند الذی یتحقّق من خلال الإجازة، أمّا بیع الراهن فإنّ موضوع الصحّة فیه متحقّق منذ البدایة، لصدوره ممّن له أهلیّة ذلک، وإنّما المانع عن نفوذه هو حقّ المرتهن لیس إلاّ، وتأکید الشیخ [الأعظم] رحمه الله علی أنّ هناک فرقٌ عرفا بین الإجازة المتحقّقة للموضوع والتی ترفع المانع.

فدعوی المحقّق الإیروانی فی مناقشته الأُولی من أنّه «لا فرق فی عدم حصول الأثر بین أن یکون المقتضی غیر حاصل، وبین أن یکون المانع موجودا».

ممنوعة ومدفوعة.

کما إنّ مناقشته الثانیة أیضا مدفوعة، لأنّ مصطلح المقتضی المستعمل فی کلام الشیخ [الأعظم] لم یکن یقصد به إلاّ موضوع الحکم الشرعی دون المصطلح الفلسفی المعهود، کما أنّ مراده من المانع هو قید الموضوع أیضا، وقد استعمل الفقهاء هذین المصطلحین للتعبیر عن الموضوع وقیوده والشروط [التی لابدّ أن یترک]، لا ما یترشّح منه الوجود، أو ما یوجب متمّم فاعلیّة الفاعل أو مکمّل قابلیّة القابل بحسب ما هو مصطلح عند الفلاسفة»(1).

اعتراض المؤسس الحائری علی الشیخ الأعظم

قال قدس سره : «وممّا ذکرنا یظهر النظر فیما ذکره شیخنا المرتضی _ قدّس سرّه الشریف _ من أنّ القول بالکشف فی الفضولی یستلزمه هنا بالفحوی، لأنّ إجازة المالک أشبه بجزء المقتضی، وهی هنا من قبیل رفع المانع، انتهی المقصود من کلامه.

لأنّ الفحوی المذکورة ممنوعة غایة المنع بناءً علی ما هو قضیّة القواعد من النقل کما هو مختاره قدس سره أیضا، فإذا ورد التعبّد بالکشف الحکمی فی ما هو من قبیل جزء المقتضی لا یمکن التعدّی منه إلی ما هو من قبیل رفع المانع، وهل هو إلاّ القیاس الممنوع؟

ص: 470


1- 1 . العقد النضید 5/150.

نعم ما ذکره لا بأس بجعله مؤیّدا بناءً علی جعل قضیّة القواعد هو الکشف»(1).

القول المختار هو کاشفیة الإجازة

کاشفیة الإجازة فی بیع الفضولی «بمقتضی القاعدة وذلک لجهة عقلائیّة، وهی أنّ المُنشئ حینما یقوم بتملیک العین لا یعقل إهماله للزمان، بل لابدّ أن یلاحظ الفترة الزمنیّة التی تدخل العین فی مِلک المشتری، والشاهد علی ذلک أنّه إذا سُئل الفضول عن ذلک، أجاب بانتقال الملکیّة حین التلفّظ ب_ (بعتُ) أو من حین دفعها إلیه. فالتفات البائع دلیلٌ علی تحقّق الملکیّة أو قصده بتحقّقها من حین البیع، وعلیه فالإجازة المتأخّرة لابدّ وأن تتعلّق بمثل هذا العقد ومن حین وقوعه، فمقتضی الإجازة ثبوتا کونها إنفاذا للملکیّة من حین الإنشاء، کما أنّ مقام الإثبات _ مقتضی ظهور الصحیحة الدالّة علی أنّه متی أجاز مالک الولیدة صحّ البیع _ أیضا دالّ علی تعلّق الإجازة بالعقد من حین وقوعه، وإلاّ لو اعتبرنا الملکیّة متحقّقة من زمان متأخّر عن الإجازة لاستلزم تخلّف الممضی شرعا عمّا أنشأه البایع، بأن تکون الملکیّة المقصودة بالعقد متحقّقة من زمان العقد وقبل الإجازة، بخلاف الملکیّة الشرعیّة حیث تکون متحقّقة من حین تعلّق الإجازة، ممّا یستلزم أن یکون الواقع غیر ممضی، والمُمضی غیر واقع، أی ما تعلّقت به الإجازة والعقد لم یکن نافذا شرعا، وما هو نافذٌ شرعا لم یتعلّق به العقد والإجازة، وهو ممنوع لمخالفته مع ظهور أدلّة صحّة الإجازة الدالّة علی إمضاء ما تعلّقت به الإجازة، وهی الملکیّة من زمان العقد لا زمان الإجازة.

نعم یثیر القول بکاشفیّة الإجازة عدّة مشاکل أجبنا عن بعضها آنفا.

منها: استلزام ثبوت ملکیّة مالکین علی مال واحد. وقد أجبنا عنه بإمکان الانقلاب فی الاعتباریّات ثبوتا وإثباتا.

منها: کیفیّة تصویر انقلاب الملکیّة فی الفترة الواقعة بین العقد والإجازة من المالک إلی المشتری.

ص: 471


1- 1 . کتاب البیع 2/211.

والجواب: إنّ الشارِعَ یعتبر العین مِلْکا للمالک فی الْمُدَّةِ المذکورة، لکن بمجرّد صدور الإجازة منه یعتبر الشارع العین ملکا للمشتری، وهکذا یتعدّد اعتبار الشارع بمقتضی الإجازة، ولا مانع لتعدّده، حیث لا یستلزم الانقلاب فی الواقعیّات لیکون ممنوعا، بل الانقلاب حاصلٌ فیما یعدّ من الاُمور الاعتباریّة، ولا مانع من وقوعه فیها.

أمّا إجازة المرتهن: فهی علی نقیض من إجازة المالک فی العقد الفضولی، حیث لا تأثیر لها فی تحقّق الاستناد، ولا تدلّ علی رضا المالک بالبیع، لتحقّق کلیهما قبل لحوقها إذا البیع صادر من نفس المالک وهو الراهن، وبالتالی فلا تأثیر لمثل هذه الإجازة فی الأمرین المذکورین، إنّما تؤثّر حصرا فی إسقاط الحقّ الثابت لذی الحقّ.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا أنّه لا مجال لقیاس المقام بالعقد الفضولی، ولا ملازمة بین ثبوت کاشفیّة الإجازة فی الأخیرة وثبوتها فی الأوّل، لأنّ الملازمة تتمّ فی ما إذا کانا من باب واحد، أمّا بعد ما ثبت تعدّد ملاکهما، فلا مجال لإثبات الکاشفیّة لإجازة المرتهن بمقتضی ثبوتها فی إجازة الفضولی، بل یتوقّف إثباتها فیه علی دلیلٍ مثبتٍ لذلک فی المقام، دون الأدلّة الدالّة علی کاشفیّة الإجازة فی العقد الفضولی»(1).

2_ إجازة المرتهن یترتب علیه سقوط حقّه أو أنّها إسقاط لحقّه:

مقالة المحقّق النائینی ونقده

قال النائینی قدس سره : «وکیف کان فتوضیح المقام یحتاج إلی مقدمة وهی أنّ الشرائط علی أقسام:

فمنها: ما یکون شرطا للعقد والعقد فی عقدیته یتوقف علیه بحیث لولاه لم یکن العقد عقدا وذلک کالماضویة بناء علی اعتبارها ومایشبه بها، وبعبارة أوضح یکون شرطا لتحقّق العقد.

ومنها: ما یکون شرطا فی نفوذ العقد بعد تمامیة عقدیته ویکون شرطا لروحه وحیاته.

ص: 472


1- 1 . العقد النضید 5/156 و 157.

ومنها: ما یکون شرطا لترتب الأثر علی العقد مثل القبض فی الصرف والسلم، حیث أنّه لا یکون شرطا لعقدیة العقد ولا لنفوذه. بل هو جزء ینضم إلی العقد التام بأجزائه وشرائطه فیترتب علیهما الأثر.

ولا إشکال فی أنّ الإجازة لیست من قبیل القسم الأوّل، ضرورة اعتبار مقارنة ما کان من قبیل القسم الأوّل مع العقد فلا یصح تأخره عنه، ولا من قبیل القسم الأخیر وإلاّ لم تکن مجری للدوران بین الکشف والنقل ولذا لم یذهب احتمال الکشف فی مثل القبض فی باب السلم والصرف إلی وهمٍ، بل هی من قبیل القسم الثانی، إذا عرفت هذا فنقول هنا أمور ینبغی البحث عنها.

الأوّل: إنّ إجازة المرتهن هل هی شرط لنفوذ عقد الراهن وتنفیذ له ویترتب علیه سقوط حقّه أو أنّها إسقاط لحقّه وجهان:

ربما یقال بأنها إسقاط للحقّ لا تنفیذ للعقد، وذلک لأنّ تنفیذ العقد لابدّ وأن یکون ممّن له السلطنة علیه بحیث له ان یفعل لکی یصح منه أن یجیز وهو منحصر بما إذا باع الفضولی مال المالک إذ المالک له البیع فله الإجازة، وأما المرتهن فلیس له بیع مال الراهن فلیس له إجازة بیع الراهن أیضا، وإذا لم تکن له الإجازة فلیس له الرد أیضا: بل لو ردّ لا یؤثر رده فی إسقاط البیع عن التأثیر بعد سقوط حقّه، بل العقد یؤثر فی النقل بعد ذلک الرد وسقوط حقّ المرتهن بفک الرهن مثلاً ولو کان الفک بعد رد المرتهن للبیع.

والسرفی ذلک کله ان خطاب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» الذی مدلوله حکم وضعی لا تکلیفی ومرجعه إلی الأخبار بلزوم العقد لا یشمل غیر المالک فالمرتهن لایخاطب بالوفاء بعقد الراهن وإذا أجاز لا یصیر عقد الراهن عقده لکی یشمله الخطاب فمرجع إجازته حینئذ إلی إسقاط حقّه.

لکن التحقیق هو الأوّل أعنی کون إجازة المرتهن تنفیذا لعقد الراهن وان ترتب علیها سقوط حقّه وأنّه مشمول لعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وذلک لأنّ ملک الرهن وإن کان للراهن لکن للمرتهن حقّ علی العین المرهونه بما هی ملک الراهن فإن شئت فقل بأنّ ملکیة الراهن مرکب لحقّ المرتهن وحقّه راکب علی ملکیته وإن شئت فقل بأن حصة من

ص: 473

الملکیة وهی المرتبة الضعیفة منها ثابتة للمرتهن وحصة منها للراهن ولذا یعبر عن ملک الراهن بأنه لا یکون طلقا ومنشأ نفی الطلقیة عنه هو قصوره عمّا هو علیه بثبوت حصة أو مرتبة منه أو ما شئت فعبر عنه للمرتهن فالمرتهن مخاطب بخطاب «أَوْفُوا» لکن بمقدار ماله من الملکیة أعنی هذا القدر الذی عبرنا عنه بالمرکبیة لحقّه أو بالمرتبة أو بالحصة فله تنفیذ البیع کما أنّ له ردّه»(1).

ویمکن أن یناقش علیه: أوّلاً: دعواه: «أنّ خطاب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» الذی مدلولة حکم وضعی لا تکلیفی»(2) ممنوعة بما مرّ فی أوّل الکتاب(3) من أنّ الآیة الشریفة تدلّ علی حکم تکلیفی بوجوب وفاء کلّ عقد ومن ثمَّ استفاد منها صحة العقود لأنّ اللّه لایحکم بوجوب الوفاء بالنسبة إلی العقود الفاسدة ثمّ یظهر منها أنّ الأصل فی العقود اللزوم لدلالة وجوب الوفاء علیه.

والحقّ فی دلالة الآیة ما اختاره الشیخ الأعظم من حمل مدلول الهیئة علی وجوب الوفاء بالعقود الملازم للزومها.

وثانیا: قوله قدس سره : «حصة من الملکیة وهی المرتبة الضعیفة منها ثابتة للمرتهن...»(4)، لم یتم عقلاً لأنّ:

أ: «الإضافة المتحقّقة بین المالک والعین المرهونة، إنّما هی إضافة شخصیّة، ولا مجال للتفکیک والتخصّص فیها لتنتقل جزءا منها إلی المرتهن.

ب: إنّ الملکیّة تعدّ من الاُمور الاعتباریّة التی لاتقبل التشکیک لیصل مرتبة منها إلی المرتهن، هذا فضلاً عن أنّ عدم الطلقیّة لا یعنی تحصّص الإضافة وانقسامها.

ج: ولو تنزّلنا وسلّمنا جمیع ما ذکر، فإنّ إضافة المالک إلی العین تکون علی نحو الإضافة الملکیّة کما بحثنا عنه فی محلّه، أمّا إضافة المرتهن فهی علی نحو الإضافة

ص: 474


1- 1 . المکاسب والبیع 2/(460-458).
2- 2 . المکاسب والبیع 2/459.
3- 3 . راجع الآراء الفقهیة 1/(16-14).
4- 4 . المکاسب والبیع 2/460.

الحقّیة، والحقّ قسیمٌ للملک لا حصّة منه.

وبالتالی، لا یعقل انتقال الحصّة أوّلاً، کما لایعقل انقلاب الملکیّة المضافة إلی إضافة الحقّ ثانیا»(1).

د: مضافا إلی ما مرّ(2) منّا من عدم ثبوت حق للمرتهن علی العین المرهونة بل الشارع حکم بصحة عقد الرهن ولزومه من طرف الراهن وجوازه من طرف المرتهن، فراجع ما حررناه هناک.

وثالثا: المخاطب بالآیة لیس هو إلاّ العاقد بشروطه لأنّ من یکون العقد عقده فهو مأمور بوجوب الوفاء وأمّا المرتهن لم یصدر منه عقد لیتوجّه إلیه خطاب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فلا یتم ما ذکره قدس سره من قوله: «المرتهن مخاطب بخطاب «أَوْفُوا» لکن بمقدار ما له من الملکیة...»(3).

والحاصل: لیست للمرتهن الملکیة علی العین المرهونة، ولا حتّی حقّ علیها علی ما اختارناه، نعم حکم الشارع بأنّ العقد من جانبه جائز فلیس له إلاّ مجرد انحلال العقد فی بیع الراهن.

وأمّا بناءً علی ثبوت حقّ المرتهن علی العین المرهونة أیضا فلیس له إلاّ إسقاط هذا الحقّ وبعد اسقاط حقّه یحکم بنفوذ عقد الراهن من حینه واللّه العالم.

3_ حکم الإجازة بعد الردّ

هل تنفع الإجازة بعد الرد؟ قال الشیخ الأعظم(4) وجهان: من أنّ المرتهن أجنبی عن العقد ولیس من المتعاقدین فردّه لا یؤثر، ومن أنّ الایجاب المؤثر إنّما یتحقّق برضا المالک والمرتهن، فردّ المرتهن یبطل العقد «وهذا هو الأظهر من قواعدهم»(5).

ص: 475


1- 1 . العقد النضید 5/160.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 459 فی المناقشة علی مقالة المحقّق الإیروانی رحمه الله .
3- 3 . المکاسب والبیع 2/460.
4- 4 . المکاسب 4/161.
5- 5 . المکاسب 4/162.

أقول: بناءً علی مبنی المشهور من ثبوت الحقّ للمرتهن علی العین المرهونة، ردّ المرتهن لا یؤثر علی العقد لأنّه قائم بطرفیه وهو البائع الراهن والمشتری والمرتهن أجنبی بالنسبة إلی العقد فلا یستطیع ردّه، نعم لو أجاز البیع حتّی بعد الردود المکررة تم العقد.

وبناءً علی المختار من عدم ثبوت الحقّ للمرتهن فَإنَّ عَدَمَ تأثیرَ رَدِّهِ واضِح.

ولکن نحن ذهبنا فی بیع الفضولی(1) أیضا من أن ردود المالک لا یوجب سقوط العقد وإذا أجاز بعد الرد یصح انتساب العقد إلیه، فعدم تأثیر ردود المرتهن هنا واضح بلا ریب واللّه العالم.

4_ فک الرهن بعد البیع

یسقط حقّ الرهانة بالوجوه التالیة:

أ: قیام الراهن بفک الرهن وأداء الدین.

ب: إسقاط المرتهن حقّه مطلقا أو بالمصالحة علیه.

ج: إبرأ الدائن ذمّة المدیون.

د: تبرأ شخص ثالث بأداء الدین، ونحوها.

ثمّ هل هذه الأُمور بمنزلة الإجازة بعد البیع وتکون مصححة للعقد أو أنّها لا تقاس بالإجازة ولا تکون مصححة للعقد الراهن؟ قولان:

ذهب إلی الأوّل العلاّمة فی التذکرة(2) وولده(3) والشهید فی الحواشی(4) وهو الظاهر من المحقّق(5) والشهید(6) الثانیین.

وذهب إلی الثانی العلاّمةُ نَفْسُهُ فی القواعد وقال: «فلو افتکَّ الرهن ففی لزوم العقود

ص: 476


1- 1 . راجع الآراء الفقهیة 5/(514-505).
2- 2 . تذکرة الفقهاء 10/42 واحتمل الصحة فی کتاب الرهن من التذکرة 13/386.
3- 3 . إیضاح الفوائد 2/19.
4- 4 . لم أجده فی الحاشیة النجاریة؛ ونقل عن حواشی الشهید فی مفتاح الکرامة 15/364.
5- 5 . جامع المقاصد 5/75.
6- 6 . المسالک 4/48، الروضة البهیة 4/84.

نظر»(1). واستشکل علیه فی التحریر(2) وقال الشهید: «لو انفکّ لا ینفذ العتق لأنّه لا یقع معلَّقا»(3).

الاستدلال علی القول الثانی

استدلّ الشیخ الأعظم(4) علیه بالوجوه الثلاثة:

الوجه الأوّل: «بیع الراهن _ حال حصوله _ لم یکن مشمولاً لدلیل الإمضاء کوجوب الوفاء بالعقود، وحِلِّ البیع، لکونه تصرفا فی متعلق حقّ المرتهن، والمفروض عدم لحوق إجازتِه به حتّی تنفِّذه، ویصیر سببا تامّا للنقل. فالمانع من التأثیر مقترن بالبیع، والذی حصل بعده هو سقوط حقِّ الرهانة بسبب الفک أو بموجب آخر، ولکن لا دلیل علی کفایة السقوط... .

ونتیجة ذلک: أن بیع الراهن حین صدوره کان مقترنا بالمانع، وخارجا عن أدلة الإمضاء، وفی زمان إنتفاء المانع _ بسقوط حق الرهانة _ لا عقد حتّی یعمّه خطاب «أَوْفُوا»»(5).

الوجه الثانی: «إستصحاب ما کان قبل فک الرهن من عدم لزوم العقد، لعدم تعقبه بالإجازة قبل الفک، ولا سلطنة للمرتهن بعد الفک حتّی تنفعه الإجازة، فیبطل.

فإن قلت: إن المقتضی لصحة بیع الراهن _ وهو صدوره من المالک _ موجود، والمانع من اللزوم هو حقّ المرتهن، فمع سقوطه یندرج العقد فی عموم الأمر بالوفاء، ویلزم.

قلت: لا مجال للرجوع إلی العموم فی المقام، لحکومة الاِستصحاب علیه.

وجه الحکومة: إنّ الاِستصحاب منقِّح للموضوع، ویحرز الخاص، کما إذا شک فی

ص: 477


1- 1 . القواعد 2/113.
2- 2 . تحریر الأحکام الشرعیة 2/489.
3- 3 . الدروس 3/398.
4- 4 . المکاسب 4/163.
5- 5 . هدی الطالب 7/528.

فاسقیة زید بعد سبقها، فتستصحب، ویحرز بالإستصحاب موضوع الخاص، فلا یکون محکوما بحکم العام ک_ «أکرم العدول أو صلِّ خلفهم». فعدم جریان العموم فی مثل المقام إنّما هو لأجل إحراز عنوان الخاص، فلا شک فی التخصیص حتّی یتمسک بالعام.

وعلیه، فلا وجه للإشکال علی حکومة الإستصحاب علی العام کما فی بعض الحواشی. نعم هذه الحکومة ظاهریة لا واقعیة کما هو واضح»(1).

الوجه الثالث: «ما یظهر من بعض الروایات من عدم صحة نکاح العبد بدون إذن سیّده بمجرد عتقه ما لم یتحقّق الإجازة ولو بالرضا المستکشف من سکوت السیّد مع علمه بالنکاح»(2).

منها: صحیحة مُعاوِیَةَ بْنِ وَهْبٍ قال: جاء رجل إلی أبی عبداللّه علیه السلام فقال: انّی کنت مملوکا لقوم، وانّی تزوّجت امرأة حرّة بغیر إذن موالیّ ثمّ أعتقونی بعد ذلک، فأُجدّد نکاحی إیّاها حین أعتقت؟ فقال له: أکانوا علموا أنک تزوّجت امرأة وأنت مملوک لهم؟ فقال: نعم، وسکتوا عنّی ولم یغیروا علیّ، قال: سکوتهم عنک بعد علمهم إقرار منهم، أثبت علی نکاحک الأوّل.(3)

ومنها: موثقة الحَسَنِ بْنِ زِیادٍ الطائِیِّ قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّی کنت رجلاً مملوکا فتزوّجت بغیر إذن مولای، ثمّ أعتقنی اللّه بعد فأُجدّد النکاح؟ قال: فقال: علموا أنّک تزوّجت؟ قلتُ: نعم، قد علموا فسکتوا ولم یقولوا لی شیئا، قال: ذلک إقرار منهم أنت علی نکاحک.(4)

جعل الشیخ الأعظم(5) النصوص مؤیدا ثمّ دلیلاً:

وجه التأیید: احتمال «دخل الإجازة بالخصوص فیما لم یکن اللزوم لعدم

ص: 478


1- 1 . هدی الطالب 7/531.
2- 2 . المکاسب 4/163.
3- 3 . وسائل الشیعة 21/117، ح1، الباب 26 من أبواب نکاح العبید والإماء.
4- 4 . وسائل الشیعة 21/118، ح3.
5- 5 . المکاسب 4/163.

المقتضی، وکون القصور لأجله، لا لأجل وجود المانع، فإنّ العبد لا مقتضی لنفوذ تصرفاته، لکونه مسلوب السلطنة ولا یقدر علی شیء. بخلاف الراهن السلطان علی التصرف فی ماله، غایة الأمر أنّ حق المرتهن صار مانعا عن نفوذ تصرفاته، فإذا إرتفع المانع أثّر المقتضی فی المقتضی.

وهذا الاَحتمال یوجب سقوط الإستدلال [بالنصوص] علی نفوذ بیع الراهن بسقوط حق المرتهن، فتکون [النصوص] مؤیدة»(1).

و«وجه الدلالة: ظهور الروایة فی أن عقد النکاح لمّا لم یجب الوفاء به حال حدوثه _ لکونه تصرفا فی ملک السیّد بغیر إذنه _ کان کذلک بقاءً، ولا یقتضی العتق دخولَ هذا العقد فی عموم وجوب الوفاء بالعقود. والظاهر عدمُ الفرق فی هذه الجهة بین نکاح العبد وبین بیع الراهن، فتکون هذه النصوص دلیلاً علی عدم تأثیر فکِّ الرهن فی ترتب الأثر علی البیع السابق»(2).

ثمّ ناقش هذه الوجوه:

المناقشة فی الوجه الأوّل: قال الشیخ الأعظم: «أنّ عدم تأثیر بیع المالک فی زمان الرهن لیس إلاّ لمزاحمة حقّ المرتهن المتقدّم علی حقّ المالک بتسلیط المالک، فعدم الأثر لیس لقصورٍ فی المقتضی، وإنّما هو من جهة المانع، فإذا زال أثّر المقتضی»(3).

توضیح کلامه: «أدلة الإمضاء مقتضیةً لتأثیر بیع الراهن فی النقل، وعدم فعلیة التأثیر إنّما هو لوجود المزاحم وهو حقّ المرتهن المفروض سبقُه علی البیع، ولکن لا ریب فی أن مزاحمة المانع ما دامیة لا مطلقة، فمع سقوط حقِّه بقی وجوب الوفاء بالبیع بلا مزاحم، فیؤثِّر»(4).

المناقشة فی الوجه الثانی: قال الشیخ الأعظم: «لا مجال لاستصحاب عدم

ص: 479


1- 1 . هدی الطالب 7/533.
2- 2 . هدی الطالب 7/533.
3- 3 . المکاسب 4/164.
4- 4 . هدی الطالب 7/534.

تأثیر البیع؛ للعلم بمناط المستصحب وارتفاعه، فالمقام من باب وجوب العمل بالعامّ، لا من مقام استصحاب حکم الخاصّ، فافهم»(1).

توضیح مقاله: «أنّ الاستصحاب یجری فیما لو احتملنا بقاء مناط المتیقّن السابق، لکن مع القطع بزواله، لا یبقی موضوع للاستصحاب حینئذٍ، بل یعدّ جریانه نقضا للیقین بالیقین لا بالشکّ، والمناط سابقا کان مزاحمة حقّ المرتهن، وبعد سقوط الحقّ من خلال المسقطات المذکورة، فإنّ المناط قطعیّ الزوال، ولا یعقل استصحاب حکمٍ لا مناط فیه.

وبعبارة أُخری: یمکن دعوی تبدّل الموضوع فی المقام، لأنّ الموضوع قبل السقوط المال المتعلّق به حقّ الرهانة، وهذا المال الذی لم یکن متعلّقا لحقّ الرهانة، وبالتالی فلا مجال لاستصحاب الحکم السابق.

وأمره بالتفهم أخیرا لعلّه یقصد به الإشارة إلی أنّ مجرّد سقوط استصحاب عدم الصحّة، غیر کافٍ لإثبات الصحّة، بل یتوقّف علی قیام دلیل علیها، فالبرغم من زوال مناط المنع _ کما هو الحقّ _ وعدم جریان استصحاب عدم الصحّة، إلاّ أنّ العقد المتحقّق بحاجة إلی ما یدلّ علی صحّته، حیث لا عموم أزمانی فی آیة الحِلّ بحسب المدّعی، وبالتالی لا یبقی دلیلٌ علی صحّة عقد الراهن»(2).

ولکن المحقّق الإصفهانی رحمه الله حمل أمر الشّیخِ الأعظم بالتأمل علی «أنّ العلم ب_ [انتفاء] مناط المستصحب یمنع عن الاستصحاب ویوجب لحوق هذا الفرد بالأفراد الداخلة فی العام حکما، لا أنّه یوجب ظهور العام فی العموم الأزمانی حتّی یکون من باب العمل بالعام، ولعلّه أشار إلیه بقوله فافهم»(3).

مراد الإصفهانی: أنّ فقد مناط الاستصحاب یقتضی تحقّق حکم العام، لا ظهور العام بالنسبة إلی الفرد، إذ فرقٌ بین جریان حکم العام فی المورد، مع جریان عموم العام فی المورد المذکور، فإنّ العلم بعدم تحقّق مناط الاستصحاب _ وهو حقّ المرتهن الزائل

ص: 480


1- 1 . المکاسب 4/164.
2- 2 . العقد النضید 5/168.
3- 3 . حاشیة المکاسب 3/269.

بعد السقوط بالوجوه الخمسة _ المستلزم لعدم جریانه، یقتضی جریان حکم صحّة العقد دون ظهور العموم فی المورد.

وبالتالی، فإنّ قوله: «فافهم» ناظرٌ إلی بطلان مرجعیّة العموم بعد سقوط الاستصحاب»(1).

ویمکن حمل الأمر بالتفهم علی مقالة المحقّق الإیروانی حیث یقول: «إذا خرج بدلیل الرهن الّذی هو مخصّص لفظیّ زمان الرهن لم یکن مجال للعود علی العام، نعم إذا علم مناط الحکم فی العامّ، وأنّ المانع منحصر فی حقّ المرتهن لم یکن إشکال فی کون الحکم مطابقا لحکم العامّ، ولکن لا بدلیل العامّ.

أمّا إذا احتمل أنّ العقد إذا خرج، خرج أبدا بمعنی أنّ خروجه عن تحت الحکم بوجوب الوفاء مانع آخر وهذا المانع بالفرض باقٍ لم یکن مجال للحکم بوجوب الوفاء، وکان المرجع استصحاب عدم اللزوم»(2).

المناقشة فی الوجه الثالث: قال الشیخ الأعظم: «وأمّا قیاس ما نحن فیه علی نکاح العبد بدون إذن سیّده، فهو قیاسٌ مع الفارق؛ لأنّ المانع عن سببیّة نکاح العبد بدون إذن سیّده قصور تصرّفاته عن الاستقلال فی التأثیر، لا مزاحمة حقّ السیّد لمقتضی النکاح؛ إذ لا منافاة بین کونه عبدا وکونه زوجا»(3).

توضیح کلامه: «إنّ القیاس مع الفارق، حیث إنّ عقد العبد لیس فیه مقتضی الصحة. فعدم نفوذ عقده لأجل عدم المقتضی، لا لأجل المزاحمة مع حق السیّد لیکون من قبیل المانع، کحقّ الرهن الذی هو مانع عن نفوذ عقد الراهن»(4).

والحاصل: بعد ورود مناقشات الشیخ الأعظم علی الأدلة التی اقیمت للقول الثانی، ظهر عدم تمامیتها وثبوت القول الأوّل فی المقام وهو أنّ مسقطات الرهن بعد البیع

ص: 481


1- 1 . العقد النضید 5/169.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/531.
3- 3 . المکاسب 4/164.
4- 4 . هدی الطالب 7/537.

تکون بمنزلة إجازة الراهن بالنسبة إلی البیع، واللّه العالم.

5_ مسقطات حق الرهانة کاشفة أو ناقلة؟

ذهب الشیخ الأعظم(1) إلی أنّ «مقتضی کون عدم تأثیر بیع المالک لأجل مزاحمة حقّ المرتهن _ وإناطة تأثیره بسقوط حقه _ هو ناقلیة سقوط حق الرهانة لا کاشفیته، لأن المزاحم وهو حق المرتهن مانع عن تأثیر، فما دام موجودا یمتنع تأثیر المقتضی، فلا محالة یکون ترتب الأثر من حین سقوط الحق لا من زمان وقوع العقد.

وغرضه قدس سره من هذا الکلام التنبیه علی إشکال کون فک الرّهن ناقلاً، وهو منافاته لم اذهب إلیه القائلون بلزوم العقد بالفک من جعله کاشفا عن صحة عقد الراهن. فحالُ الفکِّ عندهم حال الإجازة فی البیع الفضولی، مع أنّ مقتضی الصناعة الإلتزام بالنقل، لئلاّ یلزم تعلق حقّ الرهانة بمالٍ إنتقل إلی المشتری، کما تقدم... .

وقرّب کون الفک ناقلاً، ونظّره بالإجازة الکاشفة فی مسألة «من باع ثمّ ملک» ثمّ قال بتعین القول بالکشف للإجماع»(2).

لأنّ الفقهاء علی القولین الْماضِیَیْنِ:

1_ صحة بیع الراهن واستکشافه بالفک کما یظهر من العلاّمة فی رهن القواعد فی قوله: «فإنْ انفک ظهر صحة العفو وإلاّ فلا»(3).

مراده: «أنّه لو جُنی علی عبدٍ مرهون، فعفا المولی _ وهو الراهن _ عن الجنایة فی الخطاء، أو عفا عن الجنایة وعن المال _ فی العمد _ الذی هو بدل عنها وعن الإتلاف، فهل یصح عفوه، أی إسقاط حقِّه، أم لا یَصِحُّ رعایةً لحقّ المرتهن، مع أن العفو مسقط لحقِّه؟ ذهب العلاّمةُ فی القواعد إلی وجوب أخذ بدل الجنایة، ثمّ العفو، فإن إفتکّ الرهن بعد ذلک کشف عن صحة العفو، وإن إستمرّ الرهن _ لبقاء الدّین فی ذمة الرهن _ لم یصحّ العفو»(4).

ص: 482


1- 1 . المکاسب 4/164.
2- 2 . هدی الطالب 7/538.
3- 3 . القواعد 2/126.
4- 4 . هدی الطالب 7/521.

2_ بطلان عقد الراهن وعدم تصحیحه بالفک کما مرّ(1) آنفا من الشهید(2) وتنظر العلاّمة(3) فی صحة العقد واستشکاله(4) علیه.

وأمّا القول بصحة عقد الراهن وکون الفک ناقلاً فممّا لا قائل به.

المناقشه فی کلام الشیخ الأعظم

یمکن أن یناقش علیه: أوّلاً: لیس هناک فرق بین إجازة المرتهن فی بیع الراهن وفک الرهن، بناءً علی أنّ إجازة المرتهن لیست شیئا غیر إبطال الرهن.

وثانیا: لیس بین إجازة المرتهن وفک الرهن فرق ماهوی لأنّهما من قبیل رفع المانع فلا فرق بینهما من حیث الناقلیة والکاشفیة.

فظهر ممّا ذکرنا أنّ مسقطات حقّ الرهانة کاشفة لصحة بیع الراهن کما أنّ إجازة المرتهن کذلک ولا فرق ماهوی بینهما من هذه الحیثیة.

والعجب من صاحب العقد النضید(5) حیث ذهب إلی کاشفیة إجازة المرتهن وناقلیة مسقطات الرهن مع أنّهما من قبیل رفع المانع وعدم الفرق الماهوی بینهما واللّه العالم.

6_ هل یجب علی الراهن فک الرهن لو باع العین المرهونة أم لا یجب؟

ذکر الشیخ الأعظم فیه الوجهین:

الأوّل: «وجوب فکّه من مال آخر...»(6).

توضیحه: یجب علی الراهن البائع وجوب فک العین المرهونة من مال آخر لتوقف وجوب الوفاء ببیعه علی هذا الفک، فوجوب الْفَکِّ یکون مقدمیّا.

ص: 483


1- 1 . فی صفحة 476 من هذا المجلد.
2- 2 . الدروس 3/398.
3- 3 . القواعد 2/113.
4- 4 . التحریر 2/489.
5- 5 . راجع العقد النضید 5/173.
6- 6 . المکاسب 4/166.

الثانی: «إنّما یلزم الوفاء بالبیع، بمعنی عدم جواز نقضه، وأمّا دفع حقوق الغیر وسلطنته فلا یجب»(1).

مراده: وجوب الوفاء بالبیع لا یقتضی رفع سلطنة الغیر بل مقتضاه عدم نقض البیع لو کان الْمَبِیْعُ خالیا عن حقّ الغیر. واستشهد الشیخ الأعظم بفرع وهو: «لا یجب علی من باع مال الغیر لنفسه أنْ یَشْتَرِیَهُ مِنْ مالِکِه ویدفعه إلیه، بناءً علی لزوم العقد بذلک»(2).

وجه الاِستشهاد: «انّ الفضول لو باع مال الغیر بقصد وقوعه لنفسه، ففیه إحتمالان:

أحدهما: کون هذا البیع کسائر العقود الفضولیة من أن مَن بیده أمرُ العقد إن إجاز، وَقعَ العقدُ له، ووجب علیه الوفاءُ به، ولا شأن للفضولی أصلاً. وإن ردّه کان إنشاء الفضولی عقدا صوریا، لا عبرة به.

وثانیهما: کون هذا البیع لازما علی الفضولی، ویجب الوفاء به، ولکن لا یجب علیه شراء المال من مالکه مقدمةً لإیجاد الشرط _ وهو الملک _ وتسلیم المبیع للمشتری، بل إن إتفق دخوله فی ملک الفضولی وجب الوفاء بعقده، وإن لم یتفق ذلک لم یجب.

وما أفاده المصنف قدس سره _ من جعل هذا الفرع شاهدا للمقام _ مبنی علی الإحتمال الثانی، فیقال: کما لا یجب علی الأجنبی إیجاد شرط الوفاء بالعقد، فکذا لا یجب علی الراهن إعدام المانع عن نفوذ بیعه، بتخلیص المبیع من حقِّ الرهانة، هذا»(3).

والظاهر من الشیخ الأعظم أنّه اختار الوَجْهَ الثانِیَ؛ لأنّهُ قالَ: «إنّما یلزم الوفاء بالبیع...»(4) الخ.

ولکنّ المُحَقِّقَ الإصفهانِیَّ اخْتارَ الوَجْهَ الأَوّلَ وقالَ: «وجه الوجوب أنّ فک الرهن بأداء الدین واجب من دون تعینه بالذات ببیع العین المرهونة، بل هو مخیّر بین بیعها وأداء

ص: 484


1- 1 . المکاسب 4/166.
2- 2 . المکاسب 4/166.
3- 3 . هدی الطالب 7/544.
4- 4 . المکاسب 4/166.

الدین الموجب للفک؛ وبین أداء الدین بمال آخر، فإذا امتنع الأوّل بسبب لزوم العقد من قبله تعین الفرد الآخر»(1).

توضیح کلامه: «أنّ الراهن مدیونٌ وجب علیه أداء دینه تخییرا، فهو مخیّرٌ وجوبا بأداء دینه إمّا من العین المرهونة، وإمّا من غیرها:

أمّا الأوّل: فمتعذّرٌ شرعا بمقتضی دلیل وجوب الوفاء، حیث باع العین، فلا یحقّ له شرعا التصرف فیها، وقد ثبت فی محلّه أنّه إذا تعذّر عِدْل الواجب التخییری عقلاً أو شرعا، تعیّن العدل الآخر. [وهو الثانی] فیجب علی الراهن أن یفکّ العین المرهونة بمالٍ آخر لکی یستطیع تسلیمها إلی المشتری»(2).

ولکن یرد علیه: «أنّ توجیه المحقّق الإصفهانی مبنیٌّ علی أنّ العین المرهونة لا تتحرّر إلاّ بعد قیام الراهن بفکّ رهنه من خلال الوفاء بالدَّین، ولولاه لکان من حقّ المرتهن أن یستوفی حقّه من نفس العین ولو ببیعها، لکن لا یتمّ البیع إلاّ بعد إذن الراهن وإجازته، وصدور مثل هذه الإجازة منه ممنوعٌ، لمنافاتها مع عقده علیها مع المشتری، فمقتضی البیع الصادر من الراهن أنّه لا یحقّ له أن یأذن ببیعها حتّی للمرتهن.

ومن جهة أُخری: یدلّ دلیل وجوب الوفاء علی ضرورة أن یوفّی دینه من مال سواها، فتوجیه المحقّق الإصفهانی یتمّ، فیما لو اعتبرنا الراهن مخیّرا بالأداء تخییرا وجوبیّا، بین أن یؤدّی من نفس العین المرهونة، أو من مالِ آخر متعلّق به، أمّا لو ثبت أنّ الأدلّة لا تفید سوی أنّه متی امتنع الراهن عن فکّ الرهن بأداء الدَّین، فإنّ المرتهن حُرٌّ فی بیع [العین] المرهونة، واستیفاء الثمن منها، دون الرجوع إلیه والاستئذان منه.

وبذلک یبطل التوجیه المذکور، ویثبت صحّة اختیار الشیخ [الأعظم] من أنّه لا دلیل علی ضرورة وجوب فکّ الرهن بمال آخر عدا المرهونة.

ولو وصل الدور إلی الشکّ فی حدود دلیل وجوب الوفاء وسعته، وأنّ علی الْبائِعِ

ص: 485


1- 1 . حاشیة المکاسب 3/270.
2- 2 . العقد النضید 5/175.

الراهن أن لا ینقض عقده، ممّا یستلزم وجوب فکّ رهنه بمال آخر، فإنّ الشبهة تکون حینئذٍ مفهومیّة ومردّدة بین الأقلّ _ وهو أنّ علیه فقط أن لا ینقض عهده _ وبین الأکثر الشامل لعدم وجوب النقض، وللزوم فکّ الرهن بمالٍ آخر، والقاعدة هی البراءة ولزوم الاقتصار علی الأقل»(1).

أقول: الظاهر عدم وجود الدلیل علی وجوب فک الرهن علی الراهن البائع واللّه العالم.

7_ لو امتنع الراهن من فک الرهن هل یباع علیه أم لا؟

لو امتنع الراهن البائع من فک الرهن وله مال آخر، سواء ذهبنا إلی وجوب فک الرهن علیه أو عدم وجوبه ففیه وجهان:

أ: أمّا بناء علی وجوب فک الرهن علی الراهن البائع:

1_ فیجوز للمرتهن بیع العین المرهونة لاِستیفاء الدَّیْنِ ولازم ذلک إبطال العقد الصادر من الراهن.

والوجه فی ذلک: إذا امتنع الراهن من أداء دَیْنِهِ وفک الرهن یجوز للمرتهن بیع العین المرهونة _ وامتناع الراهن هنا أعمٌّ من الاختیاری والقهری(2) الناشیء من بیع الراهن العین المرهونة _ لتعلق حقّه _ أی حقّ المرتهن _ سابقا علی بیع الراهن، ولا یُلزم الراهن بفک الرهن من مال آخر حینئذ.

وبعد بیع المرتهن الْعَیْنَ المَرْهُوْنَة یَتَرَتَّبُ علیه بُطلانُ عَقْدِ الراهِنِ من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

2_ وأمّا إجبارُ الرَّاهنِ علی فَکِّ الرهن بمالٍ آخَرَ فلأنّ الواجب علی الراهن البائع أن یفکّ العین المرهونة ویُسَلِّمها إلی المشتری وحیث إنّه یمتنع عن الفک جاز للحاکم أن یجبره علیه، لکونه ولیّا علی الممتنع.

ص: 486


1- 1 . العقد النضید 5/176.
2- 2 . کما علیه المحقّق الإصفهانی رحمه الله فی حاشیته علی المکاسب 3/271.

ب: وأمّا بناءً علی عدم وجوب فک الرهن علی الراهن البائع کما اخْتَرْناهُ:

1_ فیجوز للمرتهن أیضا بیع العین المرهونة استیفاءً للدین، بلا فرق بین هذا القسم وبین وجوب فک الرهن.

2_ وأمّا إجبار الراهن علی فک الراهن من مال آخر فللجمع «بین حقی المشتری والمرتهن اللازمین علی الراهن البائع»(1) یُجْبَرُ علی فَکِّ الرهن کما اسْتفادَ الفاضِلُ المامقانیُّ(2) قدس سره دلیل الاجبار فی هذا القسم من کلام الشیخ الأعظم رحمه الله الماضی.

أقول: یمکن أن یناقش علی هذا القسم الأخیر:

أوّلاً: بعد البناء علی عدم وجوب فک الرهن علی الراهن البائع کیف یُجبر الراهن علیه؟! وهل یُجبر أحد علی ما لم یجب علیه فلا تتم استفادة الفاضل المامقانی قدس سره من کلام الشیخ الأعظم.

وثانیا: إنّ ثبوت الحقّ للمشتری أوّل الکلام لأنّه اشتری شیئا علیه حقّ الغیر _ وهو المرتهن _ فیکون البیع بالنسبة إلیه کالمشتری من الفضول فی بیع الفضولی لا حقّ له أصلاً حتّی یجمع بین الحقین: حق المرتهن وحق المشتری فلا یتم مقالة الشیخ الأعظم: «جمعا بین حقی المشتری والمرتهن»(3).

فهذا القِسْمُ الأخیرُ یَبْقی بِلا دَلیلٍ کما صَرَّحَ بهما الفقیهُ الشریعتمداری(4) رحمه الله وبالأوّل منهما المحقّق المروج(5) رحمه الله .

وهذا آخر الکلام حول بیع العین المرهونة وبه تم البحث حول الشرط الثالث من شرائط العوَضَیْنِ _ وهو اشتراط طلقیة المَبِیْعِ _ وبه تمّ الجُزءُ الثامِنُ من الآراء الفقهیة _ قسم البیع (5) _ علی ید مؤلِّفه العبد الجانی هادی النجفی فی یوم الإثنین التاسع عشر

ص: 487


1- 1 . المکاسب 4/166.
2- 2 . غایة الآمال 7/198.
3- 3 . المکاسب 4/166.
4- 4 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 5/52.
5- 5 . راجع هدی الطالب 7/548.

من شهر ذی القعدة الحرام سنة 1437 فی مدینة إصفهان صانها اللّه تعالی عن الحدثان وسائر بلاد أهل الإیمان.

والحمدللّه أوّلاً وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلی اللّه علی محمّد خاتم الأنبیاء والمرسلین وعلی آله الأئمة الطاهرین المعصومین.(1)

ص: 488


1- 1 . اشتغلتُ بتصحیح هذه الأُوراق فی أیام عید النیروز عام 1396 بمدینة إصفهان وقد فرغتُ عنها فی زوال یوم الجمعة 11 فروردین 1396 المطابق للثانی من شهر رجب المرجب سنة 1438 یوم ولادة سیّدی ومولای الإمام علی بن محمّدالهادی علیه السلام علی قول، والحمد للّه أوّلاً وآخرا.

الفهرس

تقریظ المرجع الدینی آیة اللّه العظمی السیّد عزالدین الحسینی الزنجانی قدس سره ··· 3

ترجمة التقریظ بالعربیّة ··· 6

تاریخُ إنهاء المُجَلَّدِ الثامِن من الکتاب من نظم السیّد عبدالسّتار الحسنی البغدادی ··· 7

فصلٌ شرائط العوضین /9

1_ المالیّة ··· 11

2_ الملکیّة ··· 19

دلیل اعتبار الملکیة ونقده ··· 21

أقسام الأرضین وأحکامها /24

1_ الأرض الموات بالأصالة ··· 25

الطائفة الأُولی: النصوص الدالة علی أنّها من الأنفال ··· 26

الطائفة الثانیة: النصوص الدالة علی أنّ الأرض کلّها للإمام علیه السلام ··· 27

الطائفة الثالثة: النبویان العامیان ··· 28

مناقشة المحقّق الإصفهانی فی دلالة الروایات ··· 29

الجواب عن مناقشة المحقّق الإصفهانی ··· 31

تنبیهات ··· 37

الأوّل: ما المراد من ملکیة الأنفال للإمام علیه السلام ··· 37

التنبیه الثانی: بماذا یتحقّق احیاء الأرض المیتة؟ ··· 38

الثالث: الإحیاء سببٌ لملکیة الأرض للمحیی ··· 46

2_ الأرض العامرة بالأصالة ··· 47

اعتراض النائینی علی الشیخ الأعظم ونقده ··· 48

مناقشة المحقّق الإصفهانی للشّیخ الأعظم ··· 49

مناقشة الأُستاذ المحقّق _ مدظله _ للشّیخ الأعظم ··· 52

ص: 489

والمختار فی المقام ··· 54

فرع: هل تملک الأرض العامرة بالأصالة بالحیازة؟ ··· 54

فذلکة الکلام ··· 63

المناقشة فی هذه السیرة العقلائیة المدعاة ··· 57

3_ الأرض العامرة بالعرض ··· 64

قولان رئیسیان فی المسألة ··· 69

أدلّة القول الأوّل ··· 69

أدلة القول الثانی ··· 71

اشکالات ثلاثة علی القول الثانی ··· 77

فذلکة الکلام بین القولین والمختار منهما ··· 80

تنبیهٌ ··· 87

تذکیرٌ: ثمرات البحث بین القولین ··· 88

تکمیل: بعض أحکام هذا القسم ··· 88

تتمیمان ··· 89

الأوّل: هل یعتبر کون المحیی مسلما؟ ··· 89

1_ اعتبار اسلام المحیی ··· 89

أدلة اعتبار إسلام المحیی ··· 90

2_ عدم اعتبار إسلام المحیی وهو القول بالتعمیم ··· 94

أدلة عدم اعتبار إسلام المحیی ··· 95

الثانی: شرائط الإحیاء ··· 97

1_ ألاّ یکونَ علی الأرض یدٌ لِمسلمٍ ··· 97

2_ أن لا یکون حریما لِعامرٍ ··· 100

3_ «أن لا یُسَّمیه الشرعُ مشعرا للعبادة ··· 105

4_ «ألا یکون ممّا أقطعه إمام الأصل ··· 111

ص: 490

5_ «ألاّ یسبق إلیه سابق بالتحجیر ··· 119

6_ أن لا یکون قد حماه النبی صلی الله علیه و آله ··· 126

حکم الأراضی المفتوحة عنوةً ··· 143

إجماع فقهائنا فی المسألة وخلاف العامة فیها ··· 144

مستند فقهاء الطائفة ··· 156

الاحتمالات التی یمکن استفادتها من الروایات ··· 163

الموانع التی تمنع من الأخذ بظهور صحیحة الحلبی ··· 166

1_ الاشکال العقلی ··· 166

2_ کیف تکون ملکیتها لعامة المسلمین ثمّ یجوز استیجارها لهم؟! ··· 168

3_ کیف تجتمع الملکیة مع عدم جواز التصرفات الاعتباریة والخارجیة؟ ··· 168

4_ کیف تجتمع الملکیة مع عدم ثبوت الإرث فیها؟ ··· 169

بعض أحکام الأراضی المفتوحة عنوة ··· 172

1_ هل تشمل فریضة الخمس الأرض المفتوحة عنوة أو أنّها ملک خاص ··· 172

2_ المتصدی للأراضی الخراجیة ··· 173

3_ لا یجوز بیع الأراضی الخراجیة ··· 174

حکم الأراضی الصلحیة ··· 177

المقام الأوّل: مقتضی عقد الصلح ··· 177

المقام الثانی: مقتضی الروایات ··· 177

3_ الطِلْقِیَةُ (التمامیة) ··· 181

الأولی: ما معنی الطلقیة والتمامیة؟ ··· 184

الثانیة: فوارق القولین ··· 188

الثالثة: اعتراض المحقّق الخراسانی علی مقالة الشیخ الأعظم ودفاع المحقّق... ··· 189

الرابعة: الإشکالات الواردة علی الشیخ الأعظم ··· 191

الخامسة: القول المختار فی المقام وعدد مسائل هذه الشرطیة ··· 193

ص: 491

المسألة الاولی: عدم جواز بیع الوقف /195

تمهیدٍ: ما هی حقیقة الوقف؟ ··· 195

القائلون بذاتیة مانعیة الوقف مع البیع وهذه هی الدلیل الأوّل... ··· 195

القول الأوّل: الوقف هو الحبس المترادف مع الممنوعیة عن التصرفات... ··· 195

القول الثانی: الوقف عبارة عن قصر الملک علی شخص أو جهة خاصة و... ··· 195

اشکالات السیّد الخمینی علی المحقّق الإصفهانی ··· 199

الإشکال الأوّل وجوابه ··· 199

الإشکال الثانی ونقده ··· 200

الإشکال الثالث وَرَدُّهُ ··· 201

الإشکال الرابع وَمَنْعُهُ ··· 202

مقالة النائینی فی حقیقة الوقف ··· 203

ظهور الایراد علی السیّد الخمینی رحمه الله ··· 205

الدلیل الثانی: الإجماع ··· 206

الدلیل الثالث: الاطلاقات ··· 207

الدلیل الرابع: الروایات العامة الواردة فی باب الوقف ··· 208

اعترض المحقّق الإیروانی ونقده ··· 209

ومنها: صحیحة أبی علی بن راشد ··· 209

التقریب الأوّل ··· 211

التقریب الثانی ··· 212

التقریب الثالث ··· 213

واعترض الشیخ الأعظم علیه بثلاث اعتراضات ··· 214

ولکن یمکن أن یجاب عن الشیخ الأعظم: ··· 214

تهافت فی کلام الشیخ الأعظم ··· 215

محاولة المحقّق الإصفهانی لرفع التهافت ونقدها ··· 216

ص: 492

نقدها: المحاولة عقیمة ··· 216

تعلیقة المحقّق الإصفهانی علی تقریب صاحب المقابس ··· 217

موانع بیع الوقف فی رأی الشیخ الأعظم ··· 224

1_ أمّا حق الواقف ··· 224

2_ وأمّا حقّ اللّه _ سبحانه وتعالی _ ··· 225

3_ وامّا حق البطون المتأخرة ··· 225

فذلکة القول ··· 230

مقالة المحقّق الإصفهانی فی تصحیح بطلان بیع الوقف وتمامیتها ··· 230

فذلکة الکلام إلی هنا ··· 233

هل جواز البیع موجب لبطلان الوقف أو أنّ الوقف لایبطل إلاّ بالبیع... ··· 233

اعتراض الشیخ الأعظم علی المشایخ الثّلاثة ونقده ··· 234

مقالة المحقّق الإیروانی فی جواز البیع بعد ارتفاع المسوّغ علی القولین ونقدها ··· 235

الجهة الاولی: الخروج الموضوعی عن هذا الأصل الأولی وهو عدم جواز بیع الوقف ··· 238

الأقوال ··· 238

القول الأوّل: ذهب بعضهم إلی عدم جواز بیع الوقف مطلقا وعدم الخروج من ··· 238

القول الثانی: جواز البیع مطلقا، ومن الواضح أن من یقول بجواز البیع إنّما یقول ··· 238

القول الثالث: جواز البیع فی الوقف المنقطع وعدم جوازه فی الوقف المؤبَّد وهو ··· 238

القول الرابع: جواز البیع فی الوقف المؤبَّد وعدم جوازه فی الوقف المنقطع علی ··· 239

القول الخامس: جواز بیع أجزاء الوقف وآلاته وعدم جوازه فی نفس العین ··· 239

القول السادس: عدم جواز بیع المساجد والمشاهد والقول بالجواز فی غیرهما ··· 239

الجهة الأولی فی الوقف المؤبَّد ··· 240

1_ الوقف التملیکی: «ما یکون ملکا للموقوف علیهم فیملکون منفعته فلهم ··· 240

2_ الوقف التحریری: «ما لا یکون ملکا لأحدٍ بل یکون فک ملکٍ نظیر التحریر ··· 240

وهاهنا فروع لابدّ من البحث حولها ··· 241

ص: 493

الأوّل: حکم بیع المساجد ··· 241

الثانی: وأمّا أجزاؤه وآلاته وأثاثه ··· 254

الثالث: ما الحقّ بالمساجد ··· 259

الرابع: هل اتلاف الوقف العام یوجب الضمان؟ ··· 262

الخامس: الوقف علی الموقوفات ··· 263

السادس: حکم کسوة الکعبة ··· 264

الجهة الثانیة: صور جواز بیع الوقف ··· 265

الصورة الأولی ··· 265

کلمات الفقهاء فی المقام ··· 266

المقام الأوّل: تحقق المقتضی للبیع ··· 269

المقام الثانی: عدم المانع ··· 272

فذلکة القول فی المقام ··· 274

ثمّ إنّ هاهنا إشکالاً لابدّ من الجواب عنه ··· 275

الإشکال ··· 275

قد تعرّض الأعلامُ لحلِّ هذا الاشکال ··· 276

محاولة المحقّق الخراسانی ··· 276

نقد الإصفهانی علی محاولة الخراسانی ثمّ توجیهها ··· 276

محاولة السیّد الیزدی ··· 278

ویناقش علیه ··· 278

جواب السیّد الخوئی ··· 281

اعتراض الاستاذ المحقّق _ مدظله _ علی الأعلام الثلاثة ··· 282

جواب الاستاذ المحقّق _ مدظله _ عن الاشکال ··· 285

المناقشة فی جواب الاستاذ المحقّق _ مدظله _ ··· 287

إنّ هاهنا فروعا لابدّ من البحث حولها ··· 288

ص: 494

الفرع الأوّل: البدل وقف أو ملک طلق للبطن الموجود؟ ··· 288

الفرع الثانی: هل یحتاج البدل فی کونه وقفا إلی صیغة الوقف؟ ··· 290

الفرع الثالث: هل یجوز بیع البدل من دون طروُ مسوغات بیع الوقف؟ ··· 291

الفرع الرابع: هل یعتبر بعد البیع شراء المماثل للوقف؟ ··· 292

ادلة القول بوجوب شراء المماثل ··· 293

الدلیل الأوّل: قیاس المسألة بباب الضمان ··· 293

الدلیل الثانی: اهمال أدلة جواز بیع الوقف ··· 295

الدلیل الثالث: لزوم مراعاة حقّ الواقف وغرضه ··· 295

الدلیل الرابع: قاعدة البدلیة تقتضی المماثلة ··· 295

الفرع الخامس: من هو المباشر للبیع؟ ··· 296

الفرع السادس: هل تسقط تولیة المتولی عن بدل الوقف؟ ··· 299

الفرع السابع: إذا لم یمکن الانتفاع بالبدل مع بقاء عینه کالنقدین ماذا یُفْعَلُ بهما؟ ··· 300

الفرع الثامن: لا فرق فی جواز البیع بین خراب کل الوقف أو بعضه ··· 304

الفرع التاسع: احتیاج الوقف إلی صرف المنفعة الموجودة ··· 305

الفرع العاشر: لو خرب بعض الوقف وَبَقِیَ بعضه محتاجا إلی العمارة ··· 307

الفرع الحادیعشر: إذا لا یمکن الانتفاع فی حقّ الموقوف علیهم ··· 308

الفرع الثانیعشر: سقوط العین الموقوفة عن الانتفاع بعد مدّة ··· 309

الصورة الثانیة ··· 309

مقالة السیّد الخوئی فی توضیح ونقد کلام الشیخ الأعظم ··· 311

تنبیهٌ ··· 313

إشکالات الشیخ الأعظم علی مقالة صاحب الجواهر ··· 314

مقالة صاحب الجواهر ··· 314

توضیح کلام صاحب الجواهر ··· 316

إشکالُ الشیخ الأعظم ··· 317

ص: 495

الحکمیة بین الشیخین صاحبی الجواهر والمکاسب ··· 323

أقول: بالنسبة إلی الاعتراض الأوّل للشیخ الأعظم ··· 323

وأمّا بالنسبة إلی الاعتراض الثانی للشیخ الأعظم فأقول ··· 324

تنبیهٌ: حول تفصیل المحقّق النائینی ونقده وملاحظات النقد ··· 327

الصورة الثالثة ··· 332

نقد مقالات الأعلام الثلاثة ··· 334

التّنیبه علی الأمرَیْن [مقدمة علی نقد کلام ابن إدریس] ··· 335

الاشکالُ الوارد علی شیخنا الأنصاریّ ··· 337

الصورة الرابعة ··· 339

الاحتمالات الواردة فی خبر جعفر بن حیان ··· 343

اشکالات الشیخ الأعظم علی خبر جعفر بن حیان ··· 345

وأمّا تقریب دلالتها ··· 350

الاشکال علی دلالة مکاتبة الحمیری ··· 351

الاشکالان المشترکان من الشیخ الأعظم علی الروایتین ··· 351

فذلکة الکلام فی نقد دلالة المکاتبة ··· 352

الصورة الخامسة ··· 353

دلیل القائلین بالجواز ··· 354

دلیل القائلین بالمنع ··· 356

الصورة السادسة ··· 356

الأقوال فی المسألة ··· 358

ما المراد من الشرط هنا؟ ··· 359

هذه الصورة علی اختلاف المبانی ··· 359

مبنی المختار ··· 359

الصورة السابعة ··· 365

ص: 496

الأوّل: إذا کان البقاءُ مؤدیّا إلی الخراب علی وجه سقوط المنفعة بالکلیة ··· 365

الثانی: إذا کان کذلک علی وجه نقص المنفعة لا سقوطها بالکلیة ··· 365

الدلیل علی جواز البیع فی القسم الأوّل من هذه الصورة ··· 365

1_ لزوم متابعة غرض الواقف: وغرضه بقاء العین إلی یوم القیامة ··· 365

2_ یستلزم الحکم بعدم جواز البیع مع تضییع المال وفساده ··· 366

3_ الحقوق الثلاثة: المذکورة فی کلام الشیخ الأعظم ··· 366

4_ لیس لأدلة نفوذ الوقف وعدم جواز بیعه إطلاق ··· 369

القسم الثانی من الصورة السابعة ··· 371

1_ عموم قوله علیه السلام : لا یجوز شراء الوقوف ··· 371

2_ عموم قوله علیه السلام : الوقوف تکون علی حسب ما یوقفها أهلها ··· 374

3_ عموم قوله علیه السلام : صدقة لاتباع ولا توهب حتّی یرثها اللّه الذی یرث ··· 375

4_ الاستصحاب ··· 376

تَوُهُّمٌ وَدَفْعُهُ ··· 376

القول المختار فی القسم الثانی من الصورة السابعة ··· 378

صور الثامنة والتاسعة والعاشرة ··· 378

الصورة الثامنة: أن یقع بین الموقوف علیهم اختلافٌ لا یؤمن معه تلف المال ··· 378

الصورة التاسعة: أن یؤدّی الاختلاف بینهم إلی ضررٍ عظیم من غیر تقییدٍ بتلف ··· 379

الصورة العاشرة: أن یلزم فسادٌ یستباح منه الأنفس ··· 379

مستند جواز البیع فی هذه الصور الثلاث ··· 382

عودٌ إلی ما مضی: هل یمکن الاستناد بهذه الصحیحة للحکم بالجواز ··· 382

اشکالات الشیخ الأعظم ··· 383

جواب اشکالات الشیخ الأعظم ··· 383

کیفیة الاستدلال للصور الثّلاث بالصحیحة ··· 385

تقریب الاستدلال للصورة الثامنة بها ··· 385

ص: 497

اعتراض الشیخ الأعظم علی تقریب الاستدلال ··· 385

تقریب الاستدلال للصورة التاسعة بالصحیحة ··· 386

تقریب الاستدلال بالصحیحة للصورة العاشرة ··· 387

اعتراض الشیخ الأعظم علی هذا التقریب ··· 387

استظهار الشیخ الأعظم من الصحیحة ··· 388

فذلکة کلام الشیخ الأعظم ونقدها ··· 391

مقالة المحقّق السیّد الخوئی حول الصحیحة ونقدها ··· 391

فذلکة الکلام فی صحیحة علیبن مهزیار ··· 395

الاستدلال لِلصُّوَرِ الثَّلاثِ الأخیرة بالقواعد العامة ··· 396

1_ قاعدة التزاحم ··· 396

2_ قاعدة لا ضرر ··· 399

الاستدلال للصور الثّلاثِ بالشرط الضمنی للوقف ··· 399

الوقف المنقطع ··· 400

الجهة الاولی: صحة وقف المنقطع الآخر وعدمها؟ ··· 402

أ: الأقوال فی المسألة ··· 403

ب: أدلة صحة الوقف المنقطع الآخر ··· 406

ج: ملکیة العین الموقوفة ··· 413

فی المسألة أقوال ثلاثة ··· 413

د: بیع العین الموقوفة فی الوقف المنقطع الآخر ··· 418

المناقشة فی صحة هذا البیع بالغرر ··· 418

مقالة المحقّقین الخراسانی والإصفهانی فی صحة المعاملة ··· 420

نقد مقالتهما فی بیان الاستاذ المحقّق ··· 422

المختار فی بیع العین الموقوفة فی الوقف المنقطع الآخر ··· 424

المسألة الثانیة: بیع أُم الْوَلَدِ /427

ص: 498

المسألةُ إجماعیةٌ بین المسلمین ··· 427

تبیین المسألة ··· 428

صور جواز بیع أم الْوَلَدِ ··· 431

الصورة الأولی: جواز بیعها فی ثمن رقبتها الذی وقع فی عقد المعاوضة ··· 431

الصورة الثانیة: هی الصورة الأُولی مع حیاة مولاها ··· 433

الصورة الثالثة: بیع أم الولد فی الدین الذی استقرضه المولی واشتری به الأمة ··· 435

الصورة الرابعة: بیعها لوفاء الثمن الذی استدانه لوفاء ثمن الرقبة الذی کان... ··· 435

الصورة الخامسة: بیعها لأداء ما اشترط علیه فی عقد المعاوضة ··· 436

الصورة السادسة: تعلّق ضمان الید بها ··· 436

الصورة السابعة: إذا جنت علی غیر مولاها ··· 436

الصورة الثامنة: إذا عجز مولاها عن نفقتها ··· 437

الصورة التاسعة: إذا مات قریبها ··· 437

الصورة العاشرة: إذا کان علوقها بعد الارتهان ··· 437

الصورة الحادیة عشرة: إذا کان علوقها بعد الافلاس ··· 437

الصورة الثانیة عشرة: بیعها عن من تنعتق علیه ··· 437

الصورة الثالثة عشرة: جواز بیعها بشرط العتق ··· 438

الصورة الرابعة عشرة: بیعها فی کفن سیّدها ··· 438

الصورة الخامسة عشرة: إذا أسلمت أو أسلم أبوها أو جدها ··· 438

الصورة السادسة عشرة: إذا کان ولدها غیر وارث ··· 438

الصورة السابعة عشرة: إذا خرج مولاها عن الذمة ··· 438

الصورة الثامنة عشرة: إذا لحقت أم الولد ··· 438

الصورة التاسعة عشرة: إذا کانت لمکاتب ··· 438

الصورة العشرون: بیعها فی حقِّ المضمون للمولی ··· 438

المسألة الثالثة: بیع العین المرهونة /440

ص: 499

المانع من صحة بیع العین المرهونة ··· 441

1_ الإجماع ··· 442

2_ الأخبار ··· 442

3_ المانع العقلی وهو التنافی بین البیع والرهن ··· 445

القولان فی بیع العین المرهونة ··· 447

1_ أدلة القول بالبطلان ··· 447

مناقشات الشیخ الأعظم علی صاحب المقابس ونقدها ··· 449

2_ أدلة القول بالصحة بعد لحوق إذن المرتهن ··· 454

1_ الاستدلال بالأدلة العامة ··· 454

2_ التعلیل الوارد فی صحة نکاح العبد ··· 455

3_ فحوی أدلة صحّة الفضولی ··· 456

مقالة المحقّق الإیروانی فی المقام ومتابعة المحقّق الإصفهانی له ··· 457

مقالة المؤسس الحائری فی المقام ··· 460

ثمّ إنّ هنا قَوْلاً آخر وهو انتقال حق الرهانة من العین إلی الثمن ··· 466

القول المختار فی المسألة ··· 467

ثمّ إن هاهنا فروع لابدّ أن نبحث حولها ··· 468

1_ الإجازة هنا کاشفة أو ناقلة؟ ··· 468

2_ إجازة المرتهن یترتب علیه سقوط حقّه أو أنّها إسقاط لحقّه ··· 472

3_ حکم الإجازة بعد الردّ ··· 475

4_ فک الرهن بعد البیع ··· 476

5_ مسقطات حق الرهانة کاشفة أو ناقلة؟ ··· 482

6_ هل یجب علی الراهن فک الرهن لو باع العین المرهونة أم لا یجب؟ ··· 483

7_ لو امتنع الراهن من فک الرهن هل یباع علیه أم لا؟ ··· 486

الفهرس ··· 489

ص: 500

501 .

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.