حماه الوحی

اشارة

سرشناسه : فاضل موحدی لنکرانی، محمد، 1310 -

عنوان قراردادی : ائمه اطهار (علیهم اسلام) یا پاسداران وحی در قرآن کریم. عربی.

عنوان و نام پدیدآور : حماه الوحی/محمد الفاضل اللنکرانی، شهاب الدین الاشراقی ؛ المترجم عبد الرحیم الحمدانی.

مشخصات نشر : قم: مرکز فقه الائمه الاطهار علیهم السلام، 1425ق.، =1384.

مشخصات ظاهری : 328 ص.

شابک : 30000 ریال9647709219

وضعیت فهرست نویسی : فهرست نویسی توصیفی

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

شناسه افزوده : اشراقی، شهاب الدین

شناسه افزوده : طهرانی، عبد الرحیم

شماره کتابشناسی ملی : 1165958

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

ص: 7

المقدّمة قیم الامم عری موثقة

قیمة السلعة:

الحدیث المتداول فی الوسط الاقتصادی إنّما یدور حول السلعة و السوق.

و السؤال الذی یثیره الاقتصادیون هو ما ثمن سلعة ما؟ و عادة ما یتراوح ثمن السلعة بین الهبوط و الارتفاع؛ الامر الذی یصطلح علیه بتأرجح القیمة.

و یرتبط تأرجح القیمة بحاجة الأمّة بصورة مباشرة، فاذا کانت هناک من حاجة ارتفعت القیمة و بخلافه تنخفض، و علیه فهی خاضعة لقضیة العرض و الطلب، و القاعدة بینهما عکسیة فإذا ازداد الطلب قلّ العرض بینما یزداد العرض إذا قلّ الطلب، و من هنا تزداد القیمة إذا ازداد الطلب بینما تهبط فی العکس. إذن فالمشتری یشکّل أحد عناصر قیمة السلعة، و من هنا تعمد البلدان إلی تقییم رفع مستوی قیمة سلعها و تبعث بخبرائها الذین یقیّمون التسویق من أجل مضاعفة عدد الزبائن و زیادة حجم الصادرات، لدیمومة عجلة الاقتصاد بغیّة الحدّ من الهواجس التی یستبطنها الفقر.

ص: 8

السبب الأهمّ:

العنصر الأهمّ فی قیمة الأشیاء یکمن فی نفس السلعة، فالسلعة لیست بذات أهمیة إذا کان تأرجح قیمتها علی ضوء الحاجة فهی تحمل قیمتها معها، و غلاء مثل هذه السلع إنّما یتوقّف علی طلب الناس؛ و یعزی ذلک إلی خلوّ السلعة فی حدّ ذاتها من القیمة المطلوبة. فالذهب من السلع الثمینة، و هو رصید لسائر السلع، و لیس للطلب من تأثیر یذکر فی ارتفاع سعره. فقد یقلّ الطلب إلّا أنّ سعره لا یهبط. و السؤال الذی یطرح نفسه هنا: لِمَ کان الذهب غالیاً فی جمیع البلدان و لا یفقد قیمته؟ و یبدو أن علل الإجابة علی هذا السؤال تحظی بأهمّیة فائقة نوکلها إلی علماء الاقتصاد، إلّا أنّنا نخوض فی بعض الأمور بهذا الشأن: فالذهب معدن قوی و مقاوم فی مختلف الظروف و لا یفقد خصائصه إلی جانب جماله و جذّابیة لونه، فهو لا یتأثر بالماء و سائر العناصر المؤثّرة فی خصائص المعادن، و بریقه یخطف الأبصار و إن دفن لسنوات تحت التراب، و لا یمکن مقارنته بالنحاس الذی یفقد صفاته إلی حدّ الصدأ إذا ما تعرّض لبعض الظروف المؤثرة کالرطوبة. و علیه یمکن القول بأنّ غلاء هذا الفلز نابعاً من کونه نفیساً.

قیمة الشخص:

الإنسان کالذهب و لا بدّ من تعیین قیمته من خلال الالتفات إلی ثمن هذا الفلز و سبب غلائه. و للإنسان شخصیتان؛ إحداهما فردیة، و الأخری اجتماعیة. و یمکن تحدید شخصیته الفردیة علی غرار مثال الذهب فیقال: أی إنسان ذو قیمة؟ فی حین لا بدّ من استطلاع رأی الآخرین فی تحدید شخصیته الاجتماعیة، و العنصر المهمّ فی تعیین موقعه و قیمته إنّما یتأتّی من معطیاته علی مستوی المجتمع، کما یکتسب المجتمع

ص: 9

قیمته العالمیة من خلال موقعه. فالفرد القیّم من ذاع نبوغه و مجده فی المجتمع، و توقّفت عجلة تنمیته علی خصائصه و امتیازاته. و أمّا المجتمع القیّم فهو ذلک الذی یتمتّع بخصائص بارزة تمیّزه فی المجتمع الدولی، و النظام الناجح للمجتمعات البشریة هو النظام الذی یتمتع بالزعامات التی یفرزها فکر و نضج ذلک المجتمع. و قد التفتت الدنیا الیوم إلی هذه الحقیقة، و هی أنّ البلدان إنّما تحتذی حذو الشعوب المقتدرة الحیّة فی إعداد و بلورة شعوبها، حیث یشکّل هذا الاحتذاء البنیة التحتیّة لخلق المجتمع المطلوب. إلّا أنّ التحقیقات و الدراسات التی قام بها علماء الاجتماع بشأن عناصر ظهور المجتمعات الناجحة أو الفاشلة تفید أنّ الشعب الحی هو الشعب الذی یقود مسیرته الأفذاذ من الزعماء الحکماء و القادة النجباء یمسکون بمقدّراته و یتولّون دیمومته و حفظ حیویّته بفضل أفکارهم السامیة و تطلّعاتهم النبیلة.

القرآن الکریم:

لقد قدّم القرآن الکریم- کتاب المسلمین- هذه الأطروحة العالمیة العظیمة من أجل إرساء دعائم المجتمع الحیّ و حفظ سیادة المسلمین فی الأسرة الدولیة. و قد عزا الکتاب الحکیم ظهور البلدان العامرة و المستقلة ذات الشعوب المقتدرة إلی وجود القادة الأکفّاء و الثقة باللَّه و الانفتاح علی الغیب. و قد لفت القرآن أنظار المسلمین إلی أطروحته المذکورة المتمثِّلة بالقادة الذین یتکفّلون بسعادة الأمّة فی الدارین فقال: أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ(1). کما أرشدنا إلی تحقّق الأمّة المنیعة التی ینظر إلیها العالم بعین


1- سورة النساء: الآیة 59.

ص: 10

الإجلال و الإکبار و التی تمتلک عناصر القوّة و الفکر فی ظلّ الزعامة الدینیّة الرشیدة فقال: فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً(1). و علیه فالمدرسة القرآنیة تولی أهمّیة للزعماء الربّانیین فی نشوء البلدان المستقلّة المرفّهة السعیدة.

أهل البیت:

و بناءً علی ما تقدّم فإنّ هناک صفوة من أهل بیت النبی الأکرم صلی الله علیه و آله تنهض من بعده بقیادة الأمّة و إیصالها إلی سعادتها و کما لها المنشود. هذه الصفوة الجلیلة الحافظة للوحی و الأمینة علی العقیدة و الناهضة بزمام أمور الإسلام، هی أهل البیت و ولاة الأمر الوارد ذکرهم فی القرآن و أطروحة القرآن هی أنّ زعامة أهل البیت تخلق الأمّة المقتدرة و الرشیدة التی تسود العالم؛ و ذلک لأنّهم صفوة عالمة، رشیدة، زاهدة، شجاعة، کریمة، مضحّیة، عالمة بأسرار القرآن، مستندة إلی الغیب، ربیبة مدرسة النبوة و المصطفاة من قِبل اللَّه، فهم القادة الذین یتکفّلون بضمان سعادة الأمة، و هم الزعماء المفعمون بحبّ اللَّه؛ رحماء بالأمّة لا یکنّون لها سوی الرأفة و الشفقة. لقد نعتهم القرآن و أثنی علیهم بمختلف الصفات، و من هنا منحهم صفة الزعامة المطلقة: «أولی الأمر». فهم و بلطف اللَّه و عنایته منزّهون عن کلّ آفة روحیة، ذوو بصائر ثاقبة و صدور منشرحة و قلوب أوعیة لعلم اللَّه. هم مَن نسمّیهم الأئمّة الأطهار علیهم السلام.


1- سورة النساء: الآیة 54.

ص: 11

طموحات المجتمعات:

تتطلّع المجتمعات الحیّة لمثل هؤلاء الزعماء فی تحقیق أهدافها و سعادة شعوبها؛ لأنّها أیقنت بأنّ سعادتها مرهونة بوجود هؤلاء القادة البررة. و قد تفضّل البارئ سبحانه علینا بأن جعل الأئمّة الأطهار علیهم السلام قادتنا إلی السعادة و الفلاح. و هکذا یتبلور المجتمع الشیعی الیوم و بالاستناد إلی هؤلاء البررة بما یلفت انتباه العالم إلی رشده و ازدهاره و تربیته الصائبة الناجحة.

مهمّتنا:

إنّنا إنّما نواجه حدودنا و اعتبارنا الإنسانی إذا ما قصّرنا فی تخلید أئمّتنا و الاعتزاز بهم، فأنّی لهذه الطائفة الحقّة أن تبلغ الکمال و الرقی و نیل الأهداف المقدسة إن غیّبت العدالة و اندثر العلم و زال الورع و التقوی. و لعلّ العدو الغاشم المتربّص- الذی یهمّ بشق عصا المسلمین و تجریدهم من عظمتهم و مجدهم- یری أنّ أفضل سبیل یمکّنه من تحقیق أطماعه و سلب الأمّة هویتها إنّما یکمن فیما یوجّهه من ضربة قاصمة لزعامتها الربّانیة، الأمر الذی ینبغی أن یلتفت إلیه المسلمون و یتأمّلوا ما یستنبطه من أفکار هدّامة لا تضمر سوی توجیه سهامها المسمومة نحو زعمائنا الربّانیّین الأئمّة الأطهار علیهم السلام انطلاقاً من بعض المسمّیات الخلّابة من قبیل الثقافة و الانفتاح و حریة الفکر و ما إلی ذلک من المفردات القلقة. فأعداء الإسلام لا یتورّعون فی التشبّث بکلّ الوسائل من أجل الوقوف بوجه عناصر القوّة و الشخصیات التی یعتمدها القرآن الکریم، فخوار عجل السامری ما زال یسترجع فی حناجر الأجانب الطامعین. و علیه فلا ینبغی الانسیاق وراء هذه الأطروحات الزائفة و الأسالیب العصریة التی لا تنوی سوی النیل من عظمة القرآن الکریم و القضاء علی الإسلام العزیز.

ص: 12

الدافع من تألیف الکتاب:

إنّ الدافع الذی یقف وراء تألیفنا لهذا الکتاب هو ما برز الیوم فی أوساط المجتمع الإیرانی الذی یهدف إلی استغفال الشباب من خلال ما یسمّی ب «الانفتاح الفکری» و «الدین المیسَّر» المغلّفة بشعار «حسبنا کتاب اللَّه» الذی یعنی الإسلام من دون زعامة النبی صلی الله علیه و آله و هدایة أهل بیته الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم القادة و الزعماء الأدلّاء علی الطریق، فإن أصررتم علی هذا الشعار کان علیکم الإقرار بزعامتهم علی ضوء تأکیدات الکتاب، فزعامتهم و مکانتهم لا تخرج عن إطار القرآن البتة. لقد حاولنا طرح المباحث العلمیّة بأسلوب میسّر، لیتسنّی لنا الردّ علی الأسئلة و الاستفسارات التی تدور فی الأذهان. و قد استندنا إلی القرآن الکریم فی کلّ بحث، أمّا التمسّک بأخبار أهل البیت فی بعض الموارد فإنّما کان علی سبیل تأیید ما ورد فی القرآن، فی حین غضضنا الطرف عن مثل هذه الأخبار فی إثبات إمامة الأئمّة علیهم السلام. یشتمل الکتاب علی أربعة أقسام، یقتصر الهدف الأصلی للکتاب علی الأقسام الثلاث الأولی منه، بینما یتکفّل القسم الرابع ببحث علم سیّد الشهداء و معطیات نهضته المبارکة و ... فهو لیس بأهمّیة الأقسام الثلاث التی تتعرّض لقضیة الإمامة من وجهة نظر القرآن. و بالطبع فإنّ بحث الإمامة لیس من الأبحاث الجدیدة، فقد ألّف کبار علماء الشیعة و محدِّثیهم عدّة مؤلّفات بهذا الشأن من قبیل: 1- کتاب الشافی للسید المرتضی علم الهدی، المتوفّی عام 436. 2- کتاب الألفین لآیة اللَّه جمال الدین العلّامة الحلّی المؤلَّف تلبیة لطلب ولده الجلیل فخر المحقّقین المتوفّی عام 726. 3- إحقاق الحقّ للقاضی نور اللَّه، المتوفّی سنة 1019. 4- غایة المرام للسیّد هاشم البحرانی، المتوفّی سنة 1107 أو 1109. 5- الصراط المستقیم إلی مستحقّی التقدیم لعلی بن یونس النباطی البیاضی،

ص: 13

المتوفّی عام 877. 6- عبقات الأنوار للمیر حامد حسین الهندی، المتوفّی عام 1306. 7- الغدیر للعلّامة الأمینی، المتوفّی عام 1390، و عشرات الکتب الحدیثة بلغة بسیطة. آملین أن توفّر مطالعته بعض الفوائد لکافّة الإخوة من الباحثین و المحقّقین و المثقفین و الشغفین بمقام الإمامة. سائلین الإخوة من العلماء الأعلام و المطّلعین الغضّ و الإغماض عمّا بدر منّا من زلل و خطأ. ربّنا لا تؤاخذنا إن نسینا أو أخطأنا. شهاب الدین الإشراقی- محمّد الفاضل اللنکرانی

ص: 14

ص: 15

ص: 16

ص: 17

الإمامة علی ضوء القرآن الکریم

اشارة

تری الشیعة أنّ الإمامة منصب إلهی، فهم یقولون: لیس للدین من خلود و بقاء إذ کان هناک فراغ یعقب النبی صلی الله علیه و آله لا وظیفة للدین فیه، کیف یجوز علی اللَّه الذی ارتضی الإسلام للناس دیناً خالداً إلی الأبد أن یترک الناس سدیً بعد الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله دون أن یعیّن لهم وظیفتهم فی حفظ أساس الدین و تطبیق التعالیم الإسلامیة؟ و بناءً علی هذا، لا بدّ أن تکون هناک صفوة تنهض بمسئولیة زعامة المسلمین و تتولّی بیان الأحکام و التعالیم القرآنیة للُامّة الإسلامیة و تتکفّل بحفظ الشریعة السمحاء و إرشاد المسلمین و العمل علی حلّ مشاکلهم و رعایة دیمومة الدین. إذن فالإسلام یتطلّب وجود الإمام بعد النبی صلی الله علیه و آله، فإذا فوّضت الإمامة إلی الناس کان معنی ذلک تزلزل أرکان الدین الإسلامی القائم علی أساس بسط العدل و القِسط و إشاعة التوحید و سلب روح الفضیلة و أُسس الوحدانیة؛ و ذلک لأنّه

ص: 18

أوکل الأمّة لنفسها و خوّلها انتخاب الإمام، رغم وجود البعض من عبدة الأهواء و حبّ الجاه و الرئاسة الذین لا یتورّعون عن اعتماد الحیلة و الخداع من أجل الحکم و الأخذ بزمام الأمور؛ و هذا لن یؤدّی بالتالی إلّا إلی سیادة الظلمة و الطغاة الذین یتّخذون عباد اللَّه خولًا و ماله دولًا. و علیه و بحکم العقل و المنطق فإنّ اللَّه الذی أراد لدینه المُبین أن یکون الدین الخاتم و الخالد إلی یوم القیامة، و الذی أسّس بُنیانه علی أساس حکومة العدل و القِسط و بثّ العلم و إشاعة الحریات و الحیاة الخالدة و العیش الهنی ء الذی تسوده المساواة و المواساة، قد فرغ من تحدید تکلیف المسلمین لمرحلة ما بعد رحیل النبی، حذراً من الهرج و المرج و الفوضی التی تخلّفها حکومة الطُّغاة، و التی تقود فی خاتمة المطاف إلی زوال الدین. و هذا ما دفع بالطائفة الحقّة لأن تؤمن بأنّ الولایة و الإمامة منصب إلهی ربّانی کالنبوّة، حیث أوجبها اللَّه و حصرها فی صفوة من أجل خلود الدین و بقاء کلمة التوحید و سیادة حکومة العدل العالمی. هذه خلاصة مقتضبة من حکم العقل الذی یری ضرورة وجود الإمام بعد النبی من أجل زعامة الأمّة الإسلامیة و إدارة شئونها، کما یدرک هذا العقل بأنّ اللَّه سبحانه قد أودع هذا المنصب لمن لهم أهلیّة القیام بمسئولیته.

القرآن و الإمامة:

ما یُفهم من القرآن الکریم أیضاً هو أنّ الإمامة منصب إلهی، و لا بدّ لنا من أجل توضیح هذا الأمر أن نستعرض النصوص القرآنیة. فالذی یفیده القرآن هو أنّ إمامة الامّة و الولایة علیها إنّما تفوق النبوّة، أی أنّ صلاحیة الإمامة متوفّرة فی النبی، حیث إنّ مجابهته للأحداث و الوقائع المریرة

ص: 19

جعلت مقام النبوّة أعظم ثقلًا فأمدتّه بالأرضیة الخصبة لممارسة منصب زعامة الامّة و إمامتها. و علیه فلا ینبغی أن یسی ء أحد فهم هذه القضیة لیتصوّر بأنّنا نرید أن نقول:

إنّ الإمام فوق النبی. کلّا، بل المقصود هو أنّ الإمامة فوق النبوّة و أنّ النبوّة قد تشتمل أحیاناً علی الإمامة. و من هنا یتّضح بأنّ کلّ نبی فی نفس الوقت الذی یبلغ فیه مقام النبوّة و یخبر عن المغیّبات فهو إمام للأُمّة قد محّص بالبلاء لیکون جدیراً بتولّی منصب الإمامة. فالنتیجة التی نخلص إلیها أنّ القرآن فی الوقت الذی یُعتبر فیه الإمامة منصباً إلهیاً، یلفت الانتباه إلی مزیّتها التی تفوق النبوّة، و الآن نتناول بالبحث، الآیات القرآنیة الواردة بهذا الخصوص:

ص: 20

الدلیل الأوّل من القرآن

اشارة

قال سبحانه فی کتابه العزیز: وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ(1). دراسة الآیة الکریمة: «الکلمة» أحیاناً تطلق هذه اللفظة و یُراد بها المعنی، کما تُطلق أحیاناً أُخری علی الکلام «و کلمة بها کلام قد یؤم»، و قد أطلقها القرآن الکریم علی لسان آیاته علی نوع من الحقائق، کما عبّر عن عیسی علیه السلام بأنّه کلمة إِنَّ اللَّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ(2). فعیسی علیه السلام حقیقة قیّمة و إنسانیة مدهشة عجیبة، و أنّ اسم هذا الإنسان العجیب هو «عیسی بن مریم». إذن فالکلمة إشارة إلی تلک الحقیقة و الحدّ الوجودی لعیسی، و اسم هذا


1- سورة البقرة: الآیة 124.
2- سورة آل عمران: الآیة 45.

ص: 21

الموجود أو الکلمة هو عیسی، و توکل التفاصیل إلی محلّها(1). «الابتلاء» الامتحان و التمحیص، و لمّا کان أصله هو البلاء، فکلّ تمحیص و امتحان اشتمل علی البلاء و المصاعب کان ابتلاءً. «الإتمام»: الإکمال و الإتقان.

الهدف من الامتحان:

الهدف من الامتحان هو دراسة قوی الشخص الممتحن و الوقوف علی استعداداته بالنسبة للمادّة التی تخضع للامتحان، فلو امتحن شخص فی مسألة ریاضیة، فإنّه یکون موفّقاً فی الامتحان و یُکتب له النجاح إذا تمکّن من حلّ المسألة بصورة صائبة، أمّا إذا عجز عن حلّها و فشل عن الإتیان بالإجابة الصحیحة، إلّا أنّه کتبها بخطّ واضح جمیل فإنّ درجته فی الامتحان صفر رغم أنّه أجاد کتابتها بخطّ لطیف. لقد محّص إبراهیم بعدّة حقائق مریرة و قد اجتازها بقوّة، و قد خرج مرفوع الرأس أمام الحقّ المطلق فی هذا الاختبار و التمحیص. نعم ما محّص به إبراهیم کان بعض الحقائق الصعبة المریرة، أمّا الغرض من ذلک التمحیص فقد تمثّل بالوقوف علی صموده و تجلّده تجاه تلک الحقائق، و حیث نجح فی الامتحان، فقد اتّضح بأنّه عالم ثابت الجِنان صلب بالنسبة لمواد الامتحان.

النبی إبراهیم و التمحیص:

1- لقد محّص إبراهیم بالإنابة إلی اللَّه و التوکّل علی الحقّ و الحقیقة و التوحید، فخرج من هذا التمحیص مطمئنّ القلب ذا یقین خالص؛ و علیه فإبراهیم کان رجلًا


1- انظر تفسیر« کلام الحقّ» لآیة اللَّه الإشراقی.

ص: 22

موقناً و ثابت الجنان منقاداً للحق مسلماً للذات الإلهیة المقدّسة. 2- إنّ إبراهیم کان یعتمد علی علم جمّ فی إثبات مفهوم التوحید و وجود واهب الوجود بحیث بهت خصمه و لفّته الحیرة من منطق إبراهیم و أدلّته و براهینه المحکمة. 3- کانت شخصیة إبراهیم لا تعرف للقومیة و الوطنیة و القبلیة من معنی فی قبال الذوبان و الفناء فی اللَّه و الثبات علی العقیدة. 4- أبدی إبراهیم غایة الصبر و الصمود و المقاومة من أجل عقیدته و دافع عنها مستمیتاً. 5- کان خلع حبّ الدنیا عن قلب إبراهیم- و عدم اغتراره بزبرجها- هیناً علیه فی جنب طاعة اللَّه و التسلیم لأوامره. 6- کشف إبراهیم عن مدی شجاعته و عمق شخصیته الذاتیّة فی إطار مواجهته لطاغوت عصره نمرود. 7- أثبت إبراهیم باستجابته لذبح ابنه مدی زهده فی الدنیا و عشقه للجمال الإلهی المطلق، و أنّه لا یملک لنفسه من خیرة تجاه أمر اللَّه سوی الطاعة و التسلیم، و لیس هناک من علاقة أسمی من العلاقة باللَّه و الرغبة بامتثال أوامره، و لیس هنالک من أثر یمکنه الحدّ من هذه العلاقة حتّی رابطة الأب بابنه و إن کان وحیده، فقد ملئ قلبه بحبّ اللَّه و لم یدع فیه مثقال حبّة من خردل لحبّ غیره.

مواد التمحیص:

یتبیّن من النقاط آنفة الذکر أنّ المواد التی مُحّص فیها إبراهیم، و قد اجتازها بنجاح هی عبارة عن: الیقین التامّ و الإدراک الکامل للحقّ و الحقیقة و خالق العالم،

ص: 23

و الصبر و الاستقامة لإثبات وجود اللَّه، و امتلاکه الحجّة القاطعة و العلم الذی یدعو للحیرة و الذهول، و الحلم و التضحیة و الزهد و التغاضی عن زخارف الدنیا و زبرجها، و الشجاعة و المروءة و احتمال الصعاب، و محاربة الأفکار الضالّة و عدم التأثّر بعواطف العوامّ إلی آخر ما هنالک. أجل لقد مُحّص إبراهیم بهذه المواد و قد وفّق فیها جمیعاً، و هو نبیّ، فلمّا مُحّص بهذا التمحیص و کُتب له النجاح و التوفیق جعله اللَّه إماماً مُفترض الطاعة علی الناس. إذن: فالإمامة لا تتوقّف علی قومیّة الشخصیة أو روابطها النسبیة، و هی لیست تفویضیة، کما أنّها لیست خاضعة لآراء الأمّة و وجهات نظرها من أجل تحدید مصیر البلاد و الإسلام، و لا یمکن لرأی أفراد الأمّة أن یعیّن الزعامة علی الأمّة علی ضوء النظرة الإسلامیة، بل الإمامة فی عرض النبوّة و تابعة للإرادة الإلهیة و هی منصب ربّانی رفیع لا یشغله إلّا من کان له علم کافٍ و درایة بالأحکام و التعالیم الإلهیة و إشاعة روح التوحید، لیتسنّی له الردّ علی الشبهات و الإشکالات التی تثیرها سائر الأدیان ضدّ اللَّه و الدین، و تفنید النظریات و الفرضیات الجدیدة التی تهدف إلی زعزعة أساس التوحید. و علی هذا فلا بدّ أن یکون عالماً بأفکار الناس و عقائدهم و اسلوب تفکیرهم، إلی جانب وقوفه علی العلوم التی من شأنها تهدید الدین الإسلامی الحنیف. بل الإمام هو الشخص الذی لا تأخذه فی اللَّه لومة لائِم و لا یخشی القِتال من أجل الإسلام، و ألّا یُکلّف سوی نفسه فی هذا الشأن. و الإمام هو الشخص الذی لا تزحزحه الشدائد و الویلات و المصائب المروّعة عن الاستقامة و الثبات علی الحقّ، فهو مثال الصبر و الحلم.

ص: 24

و الإمام هو الشخص الذی لیس لزخارف الدنیا و زینتها من سبیل إلی روحه الآمنة و نفسه المطمئنّة. و الإمام هو الشخص المُستقیم و الصامد المضحّی الذی لیس لأفکار العامّة و خرافاتها و انصیاعها للأراجیف و الأوهام أن تبعده عن الدفاع عن العقیدة، و یعیش الاستقامة و الصلابة تجاه العواطف الطائشة البعیدة عن التعقّل و المنطق. و أخیراً فالإمام هو الشخص الذی یمتلک الشجاعة و الإقدام الذی لا یدعه یصمت مقابل القوّة الجبّارة التی تناهض اللَّه و الحقّ، بل تدفعه شجاعته لإحقاق الحقّ و الإفصاح عن حقائق الدین. ما مرّ معنا کان قبسات مقتضبة من شرائط الإمامة، و سنخوض بصورة أکثر تفصیل فی هذا الموضوع من خلال دراسة الآیات الأُخری الواردة بهذا الشأن.

ص: 25

الدلیل الثانی من القرآن

اشارة

قال تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِیلًا(1). کلمة «أمر» لفظ عامّ یشمل جمیع الأقوال و الأفعال، و یمکن اعتباره هنا بمعنی أعمال المجتمع و شئوناته. و لا یُستبعد هنا أن یکون المُراد بالأمر المعنی الاصطلاحی، فیکون المُراد بأولی الأمر فی هذه الحالة الأفراد الذین لهم صلاحیة الآمریة أو إصدار الأوامر، و کأنّ أوامرهم علی درجة من الاعتباریة و وجوب الاتّباع بحیث عرفوا فی القرآن بهذه الصفة «اولی الأمر» أی الأفراد المطاعون فی کلّ ما یأمرون به، فالصفة المذکورة ملازمة لهم، و هی من قبیل الصفة التی ینعت بها بعض الناس الذین ینشطون فی مجال الصناعة و الاستثمار، حتّی صارت صفتهم التی یعرفون بها فیطلق


1- سورة النساء: الآیة 59.

ص: 26

علیهم أصحاب الصناعة. و بناءً علی ما تقدّم فإنّ هناک جماعة من الناس تمیّزت فی إسلامیتها بحیث وجبت طاعتهم فیما یأمرون و ینهون، و منصبهم هو منصب إلهی یتمیّز بالإمرة حتّی عرفوا بأنّهم «اولی الأمر». و بالطبع فإنّ هنالک مسألة لم یلتفت إلیها البعض من أولئک الذین خاضوا فی مِصداق اولی الأمر أو استغرقوا فی مفهومه، فذهبوا إلی أنّ الأمر بمعنی شأن من الأفعال و الأقوال، ففسّروا اولی الأمر علی أنّهم الأفراد الذین تکون کافّة الشئون و الامور تحت تصرّفهم و ولایتهم.

بحث فی الآیة المبارکة:

الطاعة هی اتّباع الأمر، إذن فمفهومها یفید صدور الحکم و الأمر من المطاع، طبعاً الأصل الأوّلی هو عدم وجود حکومة و إمرة لفرد علی فرد آخر. فالإنسان کائن خُلِق حرّاً، و ینبغی أن یعیش الحریة فی الفکر و العمل، فالحریة جزء من فطرة الإنسان و الأصل الابتدائی لخلقته الإنسانیة، و ذلک لأنّه مجهّز بالفکر و العقل و الإرادة، و لا معنی لسلبه حریة التفکیر و الإرادة، فهو إنّما یستطیع اتّخاذ القرار فی تقریر مصیره و أعماله و أفعاله علی ضوء العقل، الفصل الممیّز للإنسان، فهو یشخص الأمور بقوّة العقل ثمّ تأتی إرادته فی تحقیق الصالح من الطالح من الأعمال. و بناءً علی هذا فهو حرٌّ و مختار فی تقریر مصیره و أعماله و أفعاله علی ضوء إدراکه و عقله، و لیس للآخرین من سبیل لأن یجرّدوه من حریته فی الفکر و العمل و اتخاذ القرار و أن یفرضوا قوّتهم علی إرادته. أضف إلی ذلک أنّ الفرد الذی یری نفسه خاضعاً لتشخیص الآخرین و امتثال أوامرهم و نواهیهم إنّما هو فرد ذلیل؛ لأنّه لیس هنالک من امتیاز لأحد علی آخر فی الخلقة الاولی حتّی یستسلم فرد

ص: 27

لآخر، و لذلک نقول بأنّ الأصل الأوّلی هو عدم حکومة فرد لفرد آخر أو عدّة أفراد. و علی ضوء ما تقدّم فإن کان هنالک بعض الأفراد الذین یتمتّعون ببعض السمات و الامتیازات فهم یتمتّعون ببُعد الآمریة قطعاً. کالأفراد الذین یضاعفون من قواهم العقلیة إثر کثرة الدراسات و التحقیقات العلمیة و التجارب فی الحیاة، فتکون لهم قدرة تمیِّزهم عن الآخرین فی تشخیص الأمور و تحدید العناصر الأساسیة التی تلعب دوراً فی تحقیق سعادة الإنسان و فلاحه، فمثل هؤلاء الأفراد و بفضل کونهم أکثر درایة و بصیرة و أعظم قوّة و اقتداراً و ملکة عقلیة فی إدراک الأمور بما لا یسع الآخرین درکه أن یکون لهم حقّ الإمرة و الحکومة علی الأفراد الذین یفتقرون لتلک المواصفات. و لذلک نری الفطرة تقود إلی هذا النهج و الأُسلوب، فالطفل الذی یقصّر عن تشخیص الأشیاء أو یفتقر لهذا التشخیص یطیع والدیه و یمتثل ما تقتضیه مشیئتهما، و هذا ما علیه الحال بالنسبة للجاهل تجاه العالم، و الفرد الخام إزاء الناضج، و القلق الخاوی حیال المستقرّ المحکم، فهو یطیعه و یقتفی أثره فی طریقة حیاته. إذن فالأصل الأوّلی یفید عدم تمیّز الأفراد علی بعضهم البعض، و الحرّیة فی العمل، و عدم حکومة فرد لآخر، إلّا أنّ هذا الأصل قد یخرق فی بعض الحالات و لا یمکن تطبیقه، فإذا کان هناک شخص أو أشخاص یتمتّعون بقدرات فکریّة و عقلیّة تفوق الآخرین، فإنّ الفطرة تقتضی فی هذه الحالة بضرورة تبعیّة الجاهل للعالم و الناقص للکامل و الضعیف للقوی. أمّا الأمر المهمّ الذی لا ینبغی أن یغیب عنّا هنا هو أنّ طاعة الجاهل للعالم لا تقتصر علی علمه فقط، و انقیاد الفرد البسیط للناضج الحکیم إنّما یختص بما له فیه الحکمة و هکذا دوالیک. و لکن إذا فرضنا فرداً کان نموذجاً للآخرین فی تجاربه، و یفوق جمیع الناس

ص: 28

علماً و عملًا و قدرة و بصیرة و فکراً و إحاطة بدقائق الأُمور، و کان وجوده علماً و إدراکاً و درایة و حکمة، و لم یقصر ببصره علی الدنیا، بل امتدّ نظره إلی الآخرة بما یجعله قادراً علی إرشاد الناس و هدایتهم إلی الفلاح و السعادة و الفوز بالحیاة الأبدیّة، بل إذا کان علمه خارقاً محیطاً بجمیع الکمالات و السعادات الأبدیّة، و کان له عقل نورانی لیس معه ظلمة، بل کان کائناً ملائکیاً و منبعاً للفضائل و الخصال الحمیدة، فهل تری الفطرة فی هذه الحالة أن تکون طاعته محصورة فی حدود معینة، کأن یُطاع فی مورد و یعصی فی آخر؟ أم أنّ الفطرة تقتضی التسلیم له و اتّباعه حیثما حلّ و الاستسلام إلی حکومته و تفویضه کافّة مقدّرات حیاته، لیتسنی له أن یبلغ الکمال الإنسانی، و بالتالی یکون المجتمع مجتمعاً مقتدراً فاضلًا یسوده العدل و القسط حتّی تصبح البلاد فی ظلّ طاعته بمثابة المدینة الفاضلة؟ لا شکّ أنّ حکم العقل و اقتضاء الفطرة یری أنّ طاعة مثل هؤلاء الرجال العِظام لا بدّ أن تکون طاعة مطلقة عمیاء، و سوف لن تعدّ هذه الطاعة مذمومة، و لا تتعارض مع الوجدان و العقل و لا تتضارب و الطبیعة الأُولی فی عدم أحقیّة حکومة فرد لآخر، بل هی طاعة سلیمة کما یراها العقل و یدعو إلیها. فالذی نخلص إلیه ممّا سبق أنّ الأصل الأوّلی و إن أفاد عدم حکومة و إمرة فرد علی آخر، إلّا أنّ هذا الأصل لا یصدق فی بعض الأحوال؛ لأنّ العقل یحکم بلزوم طاعة الأُمّة لأفرادها من ذوی الفضل و الکمال، لکن إذا کان فضله و امتیازه محدوداً کانت طاعته محدودة أیضاً، و إن کانت امتیازاته مطلقة کانت طاعته مطلقة فی کلّ شی ء.

لمن الطاعة؟

سؤال: إنّ ما قیل علی سبیل الفرض هو عین الصواب؛ لأنّ العقل یقضی

ص: 29

بالطاعة المطلقة للإنسان بالصیغة المذکورة سابقاً، أی إذا کان المُطاع هو فرد أکمل من الجمیع فی کافّة الکمالات و أعلمهم فی جمیع العلوم الإنسانیة و أعرفهم بسبیل سعادة الإنسان و فلاحه، فإنّ العقل یحکم بجواز بل بوجوب طاعته، و لکن أین مثل هذا الفرد؟ و لمن ینبغی أن یسند هذا المقام لنطیعه؟ جواب: لقد تکفّلت الآیة القرآنیة- آنفة الذکر- بحلّ إشکالیة هذا السؤال، فالطاعة المطلقة للَّه، و اللَّه هو الذی عدّ طاعة الرسول کطاعته، کما أنّ اللَّه هو الذی أوجب طاعة أُولی الأمر. و علیه فمصداق ذلک الفرد لیس سوی رسول اللَّه و أُولی الأمر، لکن یبدو أنّ هناک نقطة مهمّة وردت فی الآیة لا بدّ من الالتفات إلیها، فقد وردت لفظة «الطاعة» مکرّرة فی الآیة، حیث قالت: أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ و نفهم من هذا التکرار أنّ طاعة رسول اللَّه فی طول طاعة اللَّه، فطاعة اللَّه لا ینبغی أن یتخلّلها أیّ تأمّل و لا یشوبها أیّ توقّف، أمّا طاعة الرسول الواقعة فی طول طاعة اللَّه فهی إنّما تنتهی إلی إرادة اللَّه و تؤدّی إلی تحقّق التوحید و العدل و الفضائل، و إلّا فإنّ طاعة الرسول لیست لازمة قطّ إذا کانت علی الخلاف من ذلک، و کان السبیل الذی یسلکه لا ینتهی إلی اللَّه و الفضیلة و تحقیق السعادة للناس و لا یقود إلی الکمال، بینما قال سبحانه وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ أی أنّ ما یقوله إنّما هو الشی ء الذی یجب أن یؤول إلیه البشر، و الحکومة التی ینهض بها إنّما تمثّل الحکومة التی یجب أن تنضوی کافة الإنسانیة تحت لوائها، لتتمکّن الأُمّة فی ظلّ تلک الحکومة و زعامة ذلک القائد أن تنال الحیاة الآمنة و الوادعة المستقرّة المشتملة علی السعادة، و أن تجعل دنیا الناس حرّة سعیدة متّصلة بالآخرة بعیدة عن کلّ خمول و تخلّف، سواء فی الحیاة الدنیویة أو فی کسب الفضائل و التزوّد للحیاة الاخرویة الأبدیّة. ثمّ أردفت عبارة الآیة أَطِیعُوا اللَّهَ بقوله تعالی: وَ أُولِی الْأَمْرِ و لم تتکرر

ص: 30

کلمة «الطاعة» و یعود عدم تکرار الطاعة إلی تساوی و وحدة هدف طاعة الرسول و طاعة أُولی الأمر، فکما أنّ طاعة الرسول تؤدّی إلی السعادة و الفلاح و حکومته تبسط الاستقرار و تشیع الخیر و الصلاح فإنّ طاعة أُولی الأمر کذلک. إذن فطاعة الرسول هی طاعة أُولی الأمر، و لیس هنالک أدنی تفاوت و اختلاف فی الآثار و الفوائد التی تترتّب علی کلّ طاعة، سواء کانت طاعة الرسول أم طاعة أولی الأمر. و عوداً إلی الآیة الشریفة، فإنّها ذکرت طاعة النبی و أُولی الأمر و أوجبتها بصورة مطلقة، و حیث أوردتها علی نحو الإطلاق، فإنّ ذلک یعنی أنّ طاعتهم لازمة فی کلّ الأُمور. و علی ضوء هذا الإطلاق و ما ورد فی المقدّمة یتحصّل أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و ولاة الأمر إنّما هم أفراد یتمتّعون بقوی و قدرات تفوق سائر البشریة، کما یتبیّن أنّهم فی قمّة السموّ و ذروة الکمال الإنسانی، و هم أعظم من غیرهم فی العقل و الإدراک و البصیرة و الخبرة بکافّة حوادث الدنیا و طرق السعادة و الفلاح، بحیث یحکم العقل و تقضی الفطرة بوجوب تسلیم کافّة العُقلاء و العلماء و المجرّبین فضلًا عن سائر شرائح الأُمّة لهم فی کافّة شئون حیاتهم الدنیویة و الأُخرویة.

خلاصة البحث:

1- الأصل الأوّلی یقتضی عدم أحقیّة حکومة فرد أو أفراد لفرد أو أفرادٍ من الآخرین. 2- المبنی الأساس لصحّة هذا الأصل هو عدم وجود التمایز بین شرائح الأُمّة من حیث قوی العقل و الإدراک و سائر الصفات و الخصائص الممیزة، و لیس هناک من معنی للطاعة فی هذه الحالة سوی صورة واحدة، و هی «الترجیح بلا مرجّح» و هذا الترجیح مرفوض بحکم العقل.

ص: 31

3- یشذّ هذا الأصل فی بعض الحالات و لا یصحّ تطبیقه، أی فی الحالات التی یکون فیها امتیازات لفرد أو بعض الأفراد علی الآخرین من حیث الفضائل المعنویة و القوی العقلیة و البصیرة بالأُمور، فإنّ طاعة مثل هؤلاء الأفراد طبیعیة بل ضرورة لازمة بحکم العقل و الفِطرة، إلّا أنّ هذه الطاعة إنّما تکون بمقدار الامتیاز و مورده. 4- إذا کان هناک أفراد یتمتّعون بامتیازات مطلقة غیر محدودة فی کافّة الکمالات، فإنّ طاعة الآخرین لهؤلاء الأفراد بحکم العقل مطلقة لا تعرف الحدود، أی لا بدّ من اقتفاء آثارهم فی کلّ أمر و الائتمار بأوامرهم و نواهیهم و التسلیم و الانقیاد التامّ لهم. 5- طالما أقرّت الآیة الکریمة طاعة الرسول و أُولی الأمر فی طول طاعة اللَّه و أوجبت علی الأُمّة مطلق الطاعة، فالذی یتبیّن علی هذا الضوء أنّ ولاة الأمر فی الإسلام کرسول اللَّه فی أنّهم ممتازون مطلقاً فی جمیع الصفات الإنسانیة و الکمالات الروحیة. و هنا نقول بعد هذه الخلاصة: إنّنا نعرف رسول اللَّه و هو محمّد بن عبد اللّه صلی الله علیه و آله، و نعلم أیضاً بأنّه محیط من خلال الوحی بکافّة الأسرار التی تتضمّن سعادة البشریة، حتّی أوجب القرآن الکریم طاعته المطلقة فقال: وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(1). و لکن من هُم اولی الأمر الذین جعل اللَّه طاعتهم فی طول طاعته، ثمّ قرنَ طاعتهم بطاعة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؟ فإن قُلنا- علی ضوء ما تقدّم-: إنّ القرآن و الإسلام لا یری أنّ کلّ فرد یمکنه أن یکون من ولاة الأمر و إن تمّ اختیاره مِن قبل الأُمّة فإنّنا لم نقل جزافاً؛ و ذلک


1- سورة الحشر: الآیة 7.

ص: 32

لأنّنا ذکرنا سابقاً بأنّ لأُولی الأمر کما للرسول طاعة مطلقة، کما قلنا بأنّ الطاعة المطلقة مساوقة و ملازمة للاشتمال علی الامتیازات المطلقة، أی لا بدّ من القول- علی ضوء هذه الآیة دون تفسیرها و تعیین مصداقها- بأنّ اولی الأمر لا بدّ أن یکونوا أفراداً ممّن یستند علمهم إلی معدن الوحی، و إلّا یکون علمهم جهلًا مرکّباً، و ألّا یقتصر علی مائة آیة أو أقلّ أو أکثر، کما لا یکون علمهم مستنداً إلی تجارب معینة أو دراسات و أبحاث اجتماعیة محدودة، بل لا بدّ أن یکونوا قد نهلوا العلم و رضعوه من ثدی الوحی، و أن یکونوا عالمین بالقرآن و السنّة محیطین بجمیع أسرار الدین و مصیر المسلمین و سبل السعادة و طرق الشقاوة، و لا بدّ أن یکونوا أفراداً ذوی بصائر مطلقة و تامّة بأوضاع المجتمع و روحیّات الأُمّة و فی اسلوبهم فی الحکم و زعامة المسلمین. و یجب أن یکونوا علی درجة من الزهد و الورع و التقوی بحیث لا تحرفهم زخارف الدنیا و زِبرجها و حلاوة رئاستها عن جادّة الصواب و سبیل الحقّ، و ینبغی أن یکونوا علی درجة من التوسّم و قوّة التشخیص بما یحول دون خطأهم و زللهم، حتّی لا یصدروا جِزافاً الأحکام الخاطئة و القوانین المخالفة للقرآن و السنّة فیخرّبوا البلاد و یُهلکوا العباد، کما لا بدّ أن یکونوا معصومین من الذنب و الخطأ و الاشتباه، و أخیراً ینبغی ألّا یبخلوا بالتضحیة بالغالی و النفیس و الجود بالنفس من أجل عظمة الإسلام و تحقیق عزّة المسلمین و رفعتهم، و ألّا تأخذهم فی اللَّه لومة لائم فی إحقاق الحقّ و استیفاء حقوق المسلمین، و ألّا یألوا جهداً فی الدفاع عن القرآن و الإسلام و تطبیق الأحکام و التعالیم الإسلامیة. إذن و علی ضوء سیاق الآیة و ما یفهم منها نعرف مَن هم أُولی الأمر؟ فالذی یمکن فهمه من قوله تعالی: وَ أُولِی الْأَمْرِ أی و أطیعوا أُولی الأمر- فإنّ طاعتهم هی طاعة رسول اللَّه، و أنّ طاعة رسول اللَّه إنّما هی بمثابة طاعة اللَّه- هو أنّ أُولی الأمر الذی أوجبت الآیة الکریمة طاعتهم لیسوا إلّا أُولئک الذین رضعوا من ثدی

ص: 33

الوحی عرفوا کتاب اللَّه، و علموا بما یجری علی المسلمین من حوادث، و أحاطوا بکافّة أحکام الإسلام استناداً إلی منطق الوحی. نعم، لا یمکن أن یکون ولاة الأمر سوی أولیاء اللَّه الذین یتّصفون بالورع و التقوی و الزهد و البصیرة و الدرایة و الزهد و العصمة و الشجاعة و السماحة و المروءة و التضحیة من أجل حفظ کیان الإسلام و الذود عن أحکام القرآن.

مزید من الضوء علی آیة أُولی الأمر:

ذکرنا آنفاً أنّ الآیة الکریمة تفید عدّة أُمور: 1- کون الطاعة المطلقة و مطلق طاعة اللَّه و الرسول و أُولی الأمر واجباً و فریضة. 2- هناک سنخیة بین طاعة الرسول و طاعة اللَّه، أی أنّ الرسول لا یهدف فی آمریته سوی رضا اللَّه و تحقق التوحید و سعادة الأُمّة، و أنّ کلّ ما یأمر به إنّما یستند إلی حقیقة الوحی و البصیرة التامّة و العلم الشامل بمصیر البشریة و الصراط المستقیم الذی ینبغی أن تسلکه الإنسانیة جمعاء. 3- طاعة أُولی الأمر مساوقة لطاعة رسول اللَّه، و علیه فلا بدّ من الإذعان لهذه الحقیقة، و هی أنّهم یستندون فی منطقهم علی غرار رسول اللَّه إلی الوحی، و هم یحوزون علی ذات البصیرة و العصمة عن الخطأ التی حاز علیها رسول اللَّه، و إلّا لما جازت طاعتهم المطلقة فی کافّة شئون الحیاة الدنیویة و الأُخرویة. و لکن هناک نقطة لا بدّ من عدم إغفالها؛ و هی أنّ ولاة الأمر لا یتلقّون الوحی- کالرسول- إلّا أنّ علمهم إنّما یأتی عن طریق مجاری الوحی و تعالیم رسول اللَّه لهم، و لکن حیث قرنت طاعتهم بطاعته فإنّ ذلک یوجب علمهم و معرفتهم بکافّة الحوادث الخفیّة التی یعلمها الرسول و یحیط بها.

ص: 34

أجل، إنّ مغزی هذا الکلام هو تعیین مصادیق أُولی الأمر، و لا نری من حاجة إلی التعیین من خلال سائر الأدلّة، و علی هذا الضوء لا بدّ من القول بأنّ جمیع الأخبار و الروایات المتواترة التی صرّحت بأنّ أُولی الأمر هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام، لا تعتبر من قبیل الأدلّة التعبدیّة التی تفرض علینا التعبّد بها دون الحاجة إلی إقامة البراهین العقلیة؛ و لا بدّ من القول أیضاً بأنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام قد أشاروا لما من شأنه أن یفیده التأمّل و التمعّن فی مفاد الآیة الکریمة، و لم یستندوا فی ذلک إلی علمهم بالمغیبات لعدم وجود ضرورة تدعو إلی مثل ذلک. و بعبارة أُخری: فإنّ کون الأئمّة الأطهار مصداقاً لعنوان «اولی الأمر» إنّما هو تعیین قهری لا تعیینهم هم أنفسهم، و إذا تتبّعنا الأخبار فهی لیست سوی إضافة و تصریح لما أفادته الآیة الکریمة، و لا یسعنا هنا إلّا أن نذکر بعض النماذج من الروایات التی صرّحت بولاة الأمر، لعلّنا نتوقّف بصورة أعمق و أکثر جدیّة علی الحقائق، و إلیک ما ساقه الأئمّة الأطهار علیهم السلام بشأن هذه الآیة و سائر الآیات المماثلة:

الحدیث الأوّل:

ابن بابویه الصدوق قال: حدّثنا غیر واحد من أصحابنا قالوا: حدّثنا محمّد ابن همام، عن جعفر بن محمّد بن مالک الفزاری، عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن أحمد ابن الحارث قال: حدّثنی المفضّل بن عمر، عن یونس بن ظبیان، عن جابر بن یزید الجعفی قال: سمعت جابر بن عبد اللّه الأنصاری یقول: لمّا أنزل اللَّه علی نبیّه محمّد صلی الله علیه و آله: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ قلت: یا رسول اللَّه عرفنا اللَّه و رسوله فمن أُولو الأمر الذین قرن اللَّه طاعتهم بطاعتک؟ فقال علیه السلام: هم خُلفائی یا جابر و أئمّة المسلمین من بعدی، أوّلهم علی بن أبی

ص: 35

طالب، ثمّ الحسن ثمّ الحسین، ثمّ علی بن الحسین، ثمّ محمّد بن علی المعروف فی التوراة بالباقر، و ستدرکه یا جابر، فإذا لقیته فأقرأه منّی السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمّد، ثمّ موسی بن جعفر، ثمّ علی بن موسی، ثمّ محمّد بن علی، ثمّ علی بن محمّد، ثمّ الحسن بن علی، ثمّ سمیّی محمّد و کَنِیّی حجّة اللَّه فی أرضه و بقیّته فی عباده ابن الحسن بن علی»(1).

ملاحظة:

فی الروایة عدد من النقاط الجدیرة بالاهتمام، و هی: 1- لقد فهم جابر من الآیة الکریمة عین ما ذکرناه کراراً سابقاً، کما ذهب إلی أنّ طاعة أُولی الأمر مماثلة و مشابهة لطاعة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله. 2- لقد عبّر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عن ولاة الأمر بخلفائه و أئمّة المسلمین بعد رحیله، و الحال لیس هنالک من معنی للخلیفة سوی الخلافة فی المناصب و الوظائف الرسالیة. 3- لقد ذکر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أسماء الأئمّة من بعده الذین لم یلدوا ذلک الحین، کما ذکر خصال إمامین منهم، و أنّ تسمیتهم بأسمائهم و ذکر بعض صفاتهم و الإخبار عن لقاء جابر للإمام الباقر علیه السلام إنّما یدلّ علی أنّ ذلک الإخبار کان مستنداً للوحی، و أنّ الوحی هو الذی صرّح بأسمائهم و ولایتهم؛ فالذی نخلص إلیه من هذه الروایة هو أنّ اللَّه عیّن هؤلاء الأئمّة لا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله. بعبارة أُخری: هناک فرض یصرّح بأنّ الإمامة بعد النبی صلی الله علیه و آله کانت متروکة له، فالنبی یستخلف من یشاء، حیث فوّض اللَّه له ذلک. کما هناک الفرض الآخر الذی یذهب إلی أنّ اللَّه سبحانه هو الذی عیّن الأئمّة و بیّن صفاتهم للنبی صلی الله علیه و آله،


1- کمال الدین: 253 ح 3، و عنه تفسیر کنز الدقائق 2: 493.

ص: 36

و الروایة دلیل علی صحّة الفرض الثانی، و بناءً علی هذا فإنّ الأئمّة الأطهار هم خُلفاء النبی وقادة الأُمّة و زعماء الدین إلی یوم القیامة، و أنّ خلافتهم تستند إلی نصب إلهی، و أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله لم یذکر أسماءهم و صفاتهم إلّا عن طریق الوحی.

تحقیق آخر فی الآیة:

ما المُراد بالطاعة التی یؤخذ بنظر الاعتبار فی مفهومها الأمر و الآمر؟ هل تختصّ طاعة ولاة الأمر ببیان أحکام اللَّه و الحلال و الحرام، أی هل یجب علی الأُمّة أن ترجع إلیهم و تطیعهم فی الواجبات و المحرّمات و المستحبّات؟ و بعبارة أُخری: هل أنّ الأمر بالطاعة هو أمر إرشادی یقتصر علی رعایة امتثال الأحکام الإلهیة و تطبیقها علی أقوال ولاة الأمر و الأئمّة الأطهار علیهم السلام، و أن لیس هنالک أیّة طاعة خارج بیان الأحکام؟ فیکون معنی الآیة الکریمة، أن ارجعوا فی تشخیص الواجبات و المحرّمات إلی النبی و الإمام و أطیعوهما؟ أم أنّ ولایة الأمر تعنی ولایتهم للمسلمین فی کافّة الشئون الاجتماعیة و السیاسیة الفردیة و الجماعیة التی تتعلّق بمصیر و تعیین أُسلوب الحکم، و أنّ ولایتهم فی هذا الحکم إنّما ترتکز علی تعالیم الإسلام؟ أم أنّ الطاعة المُفترضة أبعد من هذین الاحتمالین، أی لا بدّ من وجوب طاعتهم فی الواجبات و المحرّمات و المستحبّات و المکروهات و المباحات، کما تجب طاعتهم و الإذعان لهم فی کافّة الشئون الاجتماعیة و السیاسیة و شئون الحکم و تطبیق الإسلام علی أنّهم قادة المسلمین و زعماء الحکومة الإسلامیة؟. یبدو أنّ الاحتمال الثالث هو الأقوی و الأتمّ، أی أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم زعماء و أدلّاء علی الطریق مطاعون فی الأحکام التعبدیّة، کما أنّهم رؤساء الحکومة الإسلامیة و الحاکمون علی مقدّرات العالم الإسلامی و مطبّقو الأحکام

ص: 37

و التعالیم القرآنیة؛ لأنّ ظاهر الآیة أُولِی الْأَمْرِ یقول: و أطیعوا أُولی الأمر، و لو اقتصرت طاعتهم علی الأحکام التعبدیّة لما کان هناک من انسجام بین هذا الأمر و التعبیر عنهم بولاة الأمر، فالأمر الذی یُعنی به الشأن أو ذلک المعنی الاصطلاحی لا یمکن الاقتصار به علی أحکام الإسلام، بل یمکن القول: إنّهم لیسوا آمرین فی تفسیر أحکام القرآن و بیان السُنّة النبویّة، إنّما هُم مفسّرون و شارحون. و من هنا یتبیّن أنّ ولایة الأمر تشتمل علی معنی أکثر شمولیة من تفسیر القرآن الکریم و تبیین الحلال و الحرام. و علیه: فإنّ طاعة ولاة الأمر تعنی الانقیاد لهم فی کافّة الشئون الاجتماعیة و المهامّ السیاسیة للبلاد الإسلامیة، و إذا أصبحوا هم القادة و الزعماء وجب أن تکون للإسلام مؤسّساته و جمعیاته و حکومته التی تستند إلی القرآن و السنّة النبویّة، فالأئمّة الأطهار هم رؤساء هذه الحکومة، و کما استطاع رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أن یشکّل الحکومة الإسلامیة و یدیر شئون البلاد، فقد تزعمها کذلک أمیر المؤمنین علی علیه السلام معتمداً نفس الاسس و الخطط التی اعتمدها النبی صلی الله علیه و آله. و لدینا بعض الروایات التی تؤکّد هذا الأمر: فقد صرّحت بعض الروایات المعتبرة فی کتاب الکافی و غیره بهذا المضمون:

«نزلت: أطیعوا اللَّه و أطیعوا الرسول ... فقال رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی علی علیه السلام: ألا من کنت مولاه فعلیّ مولاه»(1). إذن فالآیة «أطیعوا اللَّه ....» بانیة دعامة الوحدة الإسلامیة و الحکومة الإسلامیة، و معتبرة الأئمّة الأطهار زعماء هذه الحکومة.

الحدیث الثانی:

محمّد بن یعقوب الکلینی، عن علی بن إبراهیم، عن محمّد بن عیسی، عن


1- الکافی 1: 286 ح 1، و عنه تفسیر کنز الدقائق 3: 496- 497.

ص: 38

یونس، عن حمّاد بن عثمان، عن عیسی بن السری قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام:

حدّثنی عمّا بنیت علیه دعائم الإسلام إذا أنا أخذت بها زکی عملی و لم یضرّنی جهل ما جهلت بعده، فقال: «شهادة أن لا إله إلّا اللَّه، و أنّ محمّداً رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، و الإقرار بما جاء به من عند اللَّه، و حقّ فی الأموال من الزکاة، و الولایة التی أمر اللَّه بها ولایة آل محمّد صلی الله علیه و آله- إلی أن قال:- قال اللَّه عزّ و جل: أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فکان علیّ علیه السلام، ثمّ صار من بعده حسن، ثمّ من بعده حسین، ثمّ من بعده علی بن الحسین، ثمّ من بعده محمّد بن علی، ثمّ هکذا یکون الأمر، إنّ الأرض لا تصلح إلّا بإمام»(1).

الحدیث الثالث:

محمّد بن یعقوب الکلینی، عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن محمّد بن أبی عمیر، عن عمر بن أُذینة، عن برید العجلی، عن أبی جعفر علیه السلام فی قول اللَّه عزّ و جل: فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً(2) جعل منهم الرسل و الأنبیاء و الأئمّة، فکیف یقرّون فی آل إبراهیم علیه السلام و ینکرونه فی آل محمّد صلی الله علیه و آله؟ قال: قلت: وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً؟ قال: الملک العظیم أن جعل فیهم أئمّة، من أطاعهم أطاع اللَّه و من عصاهم عصی اللَّه، فهو الملک العظیم(3). و هنا لا بدّ من الالتفات إلی أنّ «الملک» بمعنی البلاد بضمّ المیم و بکسرها یعنی المال، کما یُقال: المَلِک لصاحب البلاد؛ و المالک لصاحب المال؛ و لذلک فاللَّه سبحانه هو ملک الوجود و مالکه قُلِ اللَّهُمَّ مالِکَ الْمُلْکِ ...(4) و حیث کانت مالکیّة الحقّ


1- الکافی 2: 21 ح 9.
2- سورة النساء: الآیة 54.
3- الکافی 1: 206 ح 5، و عنه تفسیر کنز الدقائق 2: 482- 483.
4- سورة آل عمران: الآیة 26.

ص: 39

تبارک و تعالی علی الإطلاق مالکیة حقیقیة لا اعتباریة؛ لذلک یُقال له: «مالک الملک». إذن فقولنا: صاحب المُلک و صاحب المِلک لا یتنافی و الآیة القرآنیة الکریمة، و هناک الآیات القرآنیة الأُخری التی تؤید هذا المعنی فی أنّ الملک بالضمّ یعنی به البلاد، فقد صرّحت الآیة قائلة: وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ(1) إلّا أنّ هذه الآیات التی تتحدّث عن الملک لا تقتصر علی الإشارة إلی البلاد، بل الأهمّ من ذلک: أنّها تتحدّث عن صاحب البلاد، فمثلًا هذه الآیة التی تقول بخصوص نبی اللَّه داود: وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ تفید أنّ البلد الذی یقوده داود علیه السلام قد أصبح بلداً قویاً إثر زعامته و قیادته، و کأنّ الذی یتبادر من الآیة أنّ قوّة البلاد إنّما تکمن فی قیادته و زعامته القویّة و العالمة المقتدرة، إذن فالملک العظیم هو البلد القوی الذی یحکم من قبل زعیم قوی و مقتدر و عالم، بحیث إذا قیل: البلد الفلانی هو بلد قویّ و واسع و عامر، کان لا بدّ من الإذعان إلی أنّ هذه المَنعة و القوّة إنّما تعود إلی زعامة ذلک البلد. إذن فالملک العظیم من وجهة نظر القرآن إشارة إلی امتلاک الزعامة الناجحة، و هذا بدوره یزیح السّتار عن أمر عظیم فی العثور علی بلد عامر و قوی و مستقلّ من شأنه أن یلعب دوراً عالمیاً من خلال اعتماده علی ذاته و مقوّماته، أی أنّ رمز ظهور مثل هذه البلدان لیس سوی امتلاکها لزعیم قوی مقتدر. و بناءً علی هذا فإنّ قول الباقر علیه السلام هو عین الصواب، و حقاً إنّه لباقر علوم الأوّلین و الآخرین إذ قال علیه السلام: «الملک العظیم أن جعل فیهم أئمّة ...» و من هذه الجهة فإنّ هذه الآیة دلیل واضح علی وجوب کون الأئمّة الأطهار هُم زعماء البلاد وقادة الأُمّة، فإذا ما کانوا قادة الأُمّة کانت بلاد المسلمین قویّة مقتدرة.


1- سورة ص: الآیة 20.

ص: 40

الحدیث الرابع:

من الروایات المشهورة و المعروفة بین الفریقین التی لا یشکّ أحد فی تواتُر صدورها عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله روایة الثقلین، و التی یمکن الجزم بأنّ دلالتها صریحة فی وجوب طاعة الأئمّة الأطهار علیهم السلام. و قد صرّح العالم النحریر شیخ المشایخ و استاذ الفُقهاء الشیخ مرتضی الأنصاری فی کتاب الرسائل- الذی یعدّ من الکتب النفیسة فی أُصول الفقه- فی فصل حجیّة ظواهر الکتاب(1) قائلًا: «لیس لخبر الثقلین من ظهور سوی فی وجوب طاعة القرآن و العترة و حرمة مخالفتهما». و هنا لا بدّ من القول: بأنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله إنّما قال حدیث الثقلین تأییداً و بیاناً لقوله سبحانه: أَطِیعُوا اللَّهَ و علی ضوء الخبر فإنّ العترة لا بدّ أن تکون فی عرض القرآن الکریم، فالقرآن مُطاع و العترة مُطاعة کذلک. و القرآن کتاب سماوی محیط علیم بکافّة الحوادث و الوقائع التی یعیشها المسلمون، و قوانینه جاریة إلی یوم القیامة، و هی أساس تشکیل الحکومة الإسلامیة علی مدی التأریخ، و العترة المُرادفة للقرآن کذلک، و لذلک حین تطالعنا الأخبار المتظافرة التی تصف أمیر المؤمنین علی علیه السلام بأنّه القرآن الناطق(2) و الکتاب السماوی هو القرآن الصامت فبالالتفات إلی آیة أَطِیعُوا اللَّهَ و حدیث الثقلین، و لا ینبغی أن یکون هناک شکّ و تردید فی هذا الأمر. و رغم کون هذا الأمر غنیّاً عن التوضیح و أنّ مفاد خبر الثقلین هو ذات مفاد آیة أَطِیعُوا اللَّهَ و لحصول المزید من الاطمئنان، لا بأس بتسلیط الضوء علی هذا الأمر، فنقول: هناک نوع من تجرید الفرد المطیع من الاختیار فی حیاته فی ظلّ الطاعة


1- فرائد الاصول، المعروف ب« الرسائل» 1: 119.
2- بحار الأنوار: 39/ 272.

ص: 41

المطلقة، و ذلک لأنّ المطیع إنّما یجعل فکره و إرادته و عمله تحت تصرّف المُطاع، و قد ذکرنا بأنّ علّة طاعة المُطاع بنحو مطلق هی کون المُطاع یمتلک علماً مطلقاً، و بصیراً و ذا درایة بکافّة سبل الهدایة و طرق السعادة و الفلاح، و هو عارف بنمط الحیاة التی یسودها الأمن و الاستقرار و السکینة، و التی لا تعرف القلق و الاضطراب، کما أنّه خبیر بکلّ ما یؤدّی إلی السعادة و الشقاوة، و حیث تحکم الفطرة بضرورة التسلیم لمثل هذا الفرد، کان لا بدّ من القول بأنّ الآیة أَطِیعُوا اللَّهَ إنّما توجب علی الناس الانقیاد و التسلیم إلی اللَّه و الرسول و ولاة الأمر، بالشکل الذی تکون فیه إرادة الناس تابعة إلی إرادة ذلک الفرد، فلم تعد لهم من إرادة، و هذا ما یمثّل منتهی الإدراک و العقل و الدرایة بحیث یکون الإنسان علی هذا النوع من التسلیم تجاه معلّمیه من ذوی العلم و البصائر لیظفر بسعادته و فلاحه. هذا هو المعنی الذی نفهمه من الآیة الشریفة، و هو نفس المعنی الذی یفیده حدیث الثقلین، لا سیّما بالالتفات إلی کلمة «التمسّک» الواردة فی الحدیث «إنّی تارک فیکم الثقلین ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا أبداً: کتاب اللَّه، و عترتی ...»(1) فالتمسّک یعنی التسلیم و الانقیاد للمتمسّک به، فهی لا تفید سوی الطاعة المطلقة للمُطاع التی صرّحت بها الآیة الشریفة. و أخیراً فإنّا نری أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قد خلّف للمسلمین ثقلین: الأوّل هو القرآن الکریم الذی یُعتبر دستور الحکومة الإسلامیة و رکنها الرکین و قائدها، فإنّ الأئمّة الأطهار هم أساس الحکومة و زعماؤها و لیس للأُمّة من سبیل سوی الانصیاع لقیادتهم و الانقیاد لهم.

خلاصة التحقیقات:

علی ضوء الروایة المنقولة عن ابن بابویه القمی فإنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله قد عیّن


1- بحار الأنوار 23: 104- 205 ب 7.

ص: 42

ولاة الأمر، و قد کان مفاد الروایة- التی وردت بشأن الآیة القرآنیة- أَطِیعُوا اللَّهَ- أنّ الأئمّة علیهم السلام هم اثنا عشر و أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله نصبهم بوحی من اللَّه، أی أنّ اللَّه هو الذی نصبهم و جعلهم أئمّة، فما کان من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إلّا أن أبلغ المسلمین الخبر. کما اتّضح من «التحقیق الآخر فی الآیة الکریمة» أنّ وظیفة الأئمّة لا تقتصر علی شرح و بیان الحلال و الحرام، بل هم زعماء الأُمّة وقادة البلاد و رؤساء الحکومة الإسلامیة، و أنّ رسالتهم هی تطبیق التعالیم الإسلامیة و الأحکام القرآنیة فی العالم الإسلامی، و الأُمّة مأمورة بطاعتهم لیتمکّنوا من إجراء الأحکام الإسلامیة و یأخذوا بید الأُمّة إلی شاطئ السعادة و الفلاح، کما أنّ زعامتهم أبدیة خالدة، کما ذکرنا بعض الروایات التی تؤیّد بل تشکّل الدلیل القطعی علی هذا المدّعی، و قلنا بأنّ طاعة الأئمّة لا تعنی سوی آمریتهم و زعامتهم للحکومة الإسلامیة، کما فهمنا من روایة برید العجلی عن الإمام الباقر علیه السلام بأنّ الأُمّة إذا أقرّت بمثل هذه الزعامة للأئمة، کانت حصیلة هذه الزعامة بلاد واسعة و مستقلّة و حرّة قائمة علی أساس العدل و القسط، و قد ذکّر الإمام بأنّ شرط الحکومة الإسلامیة العالمیة و الملک العظیم إنّما یکمن فی زعامة الأئمّة الأطهار و حاکمیتهم المطلقة. کما ذکرنا بأنّ مفاد حدیث الثقلین هو نفس مفاد آیة الطاعة، أی أنّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله قد جعل القرآن و العترة الرکیزتین الأساسیتین لقیام الحکومة الإسلامیة. و بناءً علی ما تقدّم فلیست هناک من حاجة لأن نستعرض سائر الروایات لإثبات ما ذا تعنی ولایة الأمر؟ و من هُم ولاة الأمر؟ و ما هی وظیفة ولاة الأمر؟ إلّا أنّنا نذکّر بقضیة مهمّة أشرنا إلیها سابقاً، و هی أنّ شخصیة الإمام لیست شخصیة علمیة شارحة و مفسّرة لأحکام القرآن الکریم و السنّة فحسب، بل

ص: 43

الإمامة مساویة للنبوّة و من المناصب الإلهیّة، أی أنّ اللَّه سبحانه قد جعل صفوة من الناس بعد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أئمّة الدین و جعل لهم الحکومة التی یصرفون شئونها بالاستفادة من علومهم التی ورثوها عن النبی صلی الله علیه و آله و لم یجعل اللَّه الزعامة و الإمامة الإسلامیة إلّا إلی الصفوة التی اتّصفت بالزهد و البصیرة و العصمة و الشجاعة و المروءة و التضحیة، العالمة بأوضاع الأُمّة و التی لیس لعلمها حدود بالحوادث الواقعة، لیبقی الدین خالداً أبدیاً و الأُمّة قویّة مستقلة سعیدة فی دینها و دنیاها، کما أنّ بقاء دین الحقّ و شعور المسلمین بالحیاة الحرّة الکریمة و الاستقلال من شأنه أن یفجّر طاقاتها و یجعلها تعیش الحیاة الهانئة و تسعی لنیل الحیاة الأُخرویّة.

الإمام فی رسالة سیّد الشهداء علیه السلام

أشار الإمام الحسین علیه السلام إلی مقام الإمام فی رسالته التی بعثها ردّاً علی رسائل أهل الکوفة الذین کتبوا إلیه مطالبین بزعامته و تشکیل الحکومة الإسلامیّة تحت لوائه فقال علیه السلام: «فلعمری ما الإمام إلّا الحاکم بالکتاب، القائم بالقسط، الدائن بدین الحقّ، الحابس نفسه علی ذات اللَّه و السلام»(1)، فالرسالة تشیر إلی لحاظین مهمّین بالنسبة للإمام: اللحاظ الأوّل: ما هو مقام الإمام فی الأُمّة؟ فالإمام لیس ذلک الفرد الذی یقبع فی زاویة و ینأی بنفسه بعیداً عن التدخّل فی شئون الأُمّة و تحقیق مصالح عامّة الناس، بل لا بدّ أن یکون الإمام هو الآخذ بزمام الامور و علی رأس الحکومة، و هو حاکمها المطلق الذی یسعی لاستیفاء حقوق الضُّعفاء من الأقویاء.


1- الإرشاد لأبی عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العکبری البغدادی، المعروف بالشیخ المفید( م 413). تحقیق مؤسسة آل البیت لتحقیق التراث، مجلّدان. نشر و طباعة دار المفید ج 2 ص 39.

ص: 44

اللحاظ الثانی: إنّ وظیفة الإمام فی هذه الحکومة هی العمل بالقرآن و تطبیق أحکامه و تعالیمه، فالقرآن لم ینزل لتقتصر الأُمّة علی تلاوته، و تحتکم فی عملها و وظائفها للقوانین الوضعیة التی یبتدعها بعض الأفراد بما لدیهم من أفکار و آراء؛ الأفراد الذین لا یسعهم النظر إلی أبعد من الواقع الذی یعیشون فیه و یفتقرون للإحاطة التامّة بجمیع المصالح و المفاسد، فالمجتمع فی ظلّ حکومة هؤلاء الأفراد یعیش فی دوامة من القلق و الاضطراب و الفساد و الانحراف، فهی حکومة الأهواء و الشهوات التی تحرق الأخضر و الیابس من قیم الأُمّة. أجل لا بدّ أن یکون القرآن هو المنهج الذی تستمدّ منه القوانین فی الدولة الإسلامیّة التی یتزعّمها الإمام، فتکون وظیفته الانتصار للمظلوم و بسط القسط و العدل، بحیث لا یطمع القوی فی حیفه و لا ییأس الضعیف من عدله، و لا ینبغی أن ینحرف الإمام قید أنملة فی إجرائه للقوانین الإسلامیة التی تضمن العدل و تزیل الظلم و الجور، و أن یحبس نفسه للَّه و لا یری سوی رضاه. و بناءً علی هذا لا ینبغی لأیّ عنصر سوی الحقّ أن یؤثّر علی الإمام فی بسطه للعدل و القسط، من قبیل النسب و الحصول علی الجاه، و القبلیة و القومیة، و ما إلی ذلک، و إلّا فهو أسیر بید الشیطان، و لیس لمثل هذا الفرد أهلیة زعامة الإسلام و المسلمین. هذه هی وظائف الإمام، و لذلک قال أمیر المؤمنین علی علیه السلام حین ولی أمر الخلافة: «لیس أمری و أمرکم واحداً، إنّی اریدکم للَّه و أنتم تریدوننی لأنفسکم، أیّها الناس أعینونی علی أنفسکم، و أیم اللَّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه و لأقودنّ الظالم بخزامته حتّی أورده منهل الحقّ»(1). فأمیر المؤمنین إنّما یحکم من أجل اللَّه، و حکومته إجراء العدل و الانتصار


1- نهج البلاغة/ لمحمّد عبده: ص 306.

ص: 45

للمظلوم من الظالم، لا یری سوی اللَّه و لیس للهوی من سبیل إلیه. و بناءً علی ذلک فمن وجهة نظر أمیر المؤمنین و ولده السعید الحسین الشهید علیهما السلام أنّ الإمام هو ذلک الشخص الذی یهیّئ نفسه لقیادة المسلمین و زعامتهم، و أنّ الإمام هو الشخص الذی یتربّع علی کرسی الحکم و یکوّن حکومة اجتماعیة فعّالة تستهدف تجسید العدالة و الوقوف إلی جنب المظلوم، و تطبّق القرآن الکریم فی المجالات المختلفة للحیاة. و الإمام فی تطبیقه لهذه البرامج یکون شخصیّة إنسانیّة متسامیة، لا یفکّر بغیر اللَّه تعالی، و لا مجال للأهواء و الشهوات فی إدارة تلک الحکومة، و لا یحکم إلّا من أجل رضا اللَّه تعالی. و إذا لم یتّخذ القرآن الکریم برنامجاً لعمله، لا لأجل تثبیت سلطته الشخصیة، التی تجد طریقها إلی قلوب الناس من خلال إشاعة العدل و التوحید، و من خلال هذا الطریق یحاول أن یثبّت سلطته و یُحکم سیطرته، بل تطبیق العدالة لأجل العدل و إصلاح البلاد و إعمار المدن، و إیواء المظلومین و الأخذ بحقّهم، و إحیاء آثار النبوّة، و حفظ کتاب اللَّه، و أخیراً لإحیاء اسم اللَّه و دعوتهم إلیه سبحانه و إقبالهم علی اللَّه تعالی بقلوب متیّمة بحبّ الذات الأقدس. و لذلک یصف علیه السلام هدفه من الحکومة و زعامة المسلمین: «اللهمّ إنّک تعلم أنّه لم یکن الذی فینا منافسة فی سلطان و لا التماس شی ء من فضول الحطام، و لکن لنردّ المعالم من دینک و نظهر الصلاح فی بلادک، فیأمن المظلومون من عبادک و تقام المعطّلة من حدودک»(1).


1- نهج البلاغة/ لمحمّد عبدة: ص 300.

ص: 46

ص: 47

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَی الْکافِرِینَ یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لا یَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِکَ فَضْلُ اللَّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ (سورة المائدة: الآیة 54) إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ (سورة المائدة الآیة: 55). وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (سورة المائدة: الآیة 56)

ص: 48

ص: 49

الدلیل الثالث من القرآن

اشارة

إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ(1). الولایة للَّه و الرسول، ثمّ لعدد من المؤمنین، و کلمة «الذین آمنوا» ذات دائرة واسعة، ممّا حدا بالقرآن لقصرها علی طائفة خاصّة من المؤمنین فقال: الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ. فلیس لجمیع المؤمنین الولایة علی الآخرین، بل الولایة لفئة منهم، فإن قیل بأنّ «الذین آمنوا» لها ظهور فی عامّة الأفراد، و هی تشمل کافّة المؤمنین علی نحو القضیة الحقیقیة، و لا تُشیر علی نحو القضیّة الخارجیّة إلی طائفة معینة، نقول: لیس لهذا الکلام من معنی قابل للإدراک و التعقّل؛ لأنّه لا یمکن أن تکون الولایة لجمیع المؤمنین علی أنفسهم، فولایة الجمیع علی الجمیع لا تکون سوی الفوضی و الهرج و المرج و انهیار النظام الاجتماعی، فی حین وردت الآیة القرآنیة فی مقام جعل


1- سورة المائدة: الآیة 55.

ص: 50

منصب الولایة، أی کما أنّ الرسول هو ولی الأُمّة الإسلامیة و القائم علی تدبیر شئونها؛ فإنّ لبعض المؤمنین- بنص الآیة- مثل هذا المنصب، و القرائن التی وردت قبل هذه الآیة و بعدها إنّما تؤیّد صحّة هذا المدّعی. فقد خاطبت الآیة السابقة جمیع المسلمین قائلة: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ .... و صرّحت الآیة اللاحقة بنفس المضمون قائلة: وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ.

توضیح المُراد:

الادّعاء القائم هو أنّ العبارة «و الذین آمنوا»- فی الآیة التی نحن بصدد بحثها- مقتصرة علی جماعة معیّنة من المؤمنین، فولایة المسلمین بعد رسول اللَّه لهذه الجماعة، و الشاهد علی صحّة و تمامیّة ذلک الآیة التی سبقت: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا و الآیة اللاحقة وَ مَنْ یَتَوَلَ، فالآیة الشریفة خطاب لکافّة المسلمین، فالمراد بالضمیر المتّصل فی جملة إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللَّهُ هؤلاء المسلمون، و المعنی: «أیّها المسلمون إنّما ولیکم اللَّه و رسوله و بعض من المؤمنین». أمّا إذا قلنا إنّما ولیّکم اللَّه و رسوله و أنتم المسلمون جمیعاً، فإنّ هذا المعنی لیس بمعقول، فإنّه لا یمکن أن یکون للمسلمین جمیعاً الولایة علی أنفسهم، أ فلیس مثل هذا الجعل للحکم و المنصب لغواً؟ أو لا یوجب مثل هذا الأمر تصدّع و انهیار النظام الاجتماعی؟!. أمّا الآیة اللاحقة وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللَّهَ ... أی أنّ کلّ من امتثل حکومة و ولایة هؤلاء الأفراد بعد اللَّه و رسوله، فإنّ ذلک سیؤدّی إلی ظهور مجتمع قوی مقتدر و حزب یعرف باسم حزب اللَّه و ستکون له الغلبة علی الدوام.

ص: 51

بناءً علی هذا فإنّ هناک طائفة تقرّ بهذه الولایة «و من یتولّ اللَّه ...» و هناک طائفة یجب أن تکون هی المتولّیة للأُمور، و علیه: فعبارة «و من یتولّ اللَّه» إنّما تعیّن وظیفة المسلمین فی الانقیاد للجماعة ذات الولایة، و العبارة «و الذین آمنوا» تعیّن ولاة المسلمین «إنّما ولیکم اللَّه و رسوله و الذین آمنوا». و بناءً علی ما ذکر فإنّ العبارة «و الذین آمنوا» حصرت ولاة الإسلام فی جماعة خاصّة و طبقة معیّنة محدودة، إضافة إلی ما ذکرنا من أنّ الآیة الکریمة وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللَّهَ ... قد حثّت المؤمنین علی الانضواء تحت ولایة تلک الجماعة المعیّنة و تشکیل حزب هو حزب اللَّه الذی یتمتّع المسلمون فی ظلّه بالقوّة و المنعة بحیث لن تنالهم الهزیمة أبداً. فالذی نستفیده من الآیات الثلاث:- 1- تحذیر الأُمّة من التراجع و النکوص عن دینها و خسارتها للمقام الذی حباها اللَّه تعالی به، و تذکیرها بعناصر القوّة من جهة أُخری یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ .... 2- أنّ الأُمّة الإسلامیّة محتاجة إلی مَن یقودها، و ولیّ الأمر و القیّم علی أُمورها هو اللَّه و النبی ثمّ طائفة من المؤمنین. 3- الاستجابة لهذه الولایة ستؤدّی- قهراً- إلی ظهور حزب قوی یتکفّل بغلبة الأُمّة علی أعدائها و عدم الفشل و الهزیمة.

قضیة مهمّة:

کان بحثنا السابق یدور حول ظاهر الآیة الشریفة. أمّا إذا أردنا أن نخوض فی سبب النزول فإنّ المُسلّم به هو أنّ الآیة المُبارکة قد نزلت بشأن أمیر المؤمنین علی علیه السلام. فقد ذکر أبو ذر الغفاری: أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله صلّی الظهر بالمسلمین، فدخل فقیر المسجد و سأل فلم یجبه أحد، فرفع السائل یده إلی السماء و قال: اللّهمّ اشهد

ص: 52

إنّی سألت فی مسجد نبیّک فلم یعطینی أحد شیئاً، و کان علی علیه السلام راکعاً، فأشار إلی السائل بیده فانتزع خاتمه، فلمّا رأی ذلک رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و فرغ من الصلاة قال:

اللّهمّ إنّی أسألک ما سألک موسی علیه السلام فی أخیه هارون فاستجبت له، اللّهمّ اجعل علیّاً علیه السلام خلیفتی، اشدد به أزری و أشرکه فی أمری. قال أبو ذر: فو الله ما أتمّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله دعاءه حتی نزل علیه جبرائیل بالآیة إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللَّهُ ...(1). هذه واحدة من عشرات الروایات التی أشارت صراحة إلی مصداق قوله.

الَّذِینَ آمَنُوا و لا نری حاجة للخوض فی الروایات التی وردت فی سبب النزول؛ لأنّها صرّحت علی سبیل القطع بأنّها نزلت فی علی علیه السلام، علماً أنّ منهج الکتاب إنّما یستند إلی القرآن لا الروایات. أمّا الحدیث، فقد أکّد أنّ «و الذین آمنوا» إنّما هم عدّة خاصة، و لیس للجمیع النهوض بهذه الوظیفة الخطیرة المتمثّلة بالزعامة، و لا ینبغی التصدّی لها إلّا من قِبل أولئک الذین لهم صلاحیة و أهلیة التصدّی، و أفضل نموذج للتصدّی لها هو علی علیه السلام. إذن فالقرآن الکریم فی هذه الآیة المُبارکة قد عیّن أئمّة المسلمین، کما أشار إلی زعامة علی بن أبی طالب علیه السلام، و لا یقتصر هذا الکلام علی عُلماء الشیعة و کبار المحدّثین، بل ذهب مفسّرو العامّة إلی أنّ هذه الآیة قد نزلت فی علی علیه السلام. فقد شحن تفسیر ابن کثیر بعدّة روایات عن عتبة بن أبی حکیم، و عن سلمة بن کهیل. و کذلک عن مجاهد و ابن عباس بعدّة طرق، و عن السدّی أنّ الآیة قد وردت بحقّ علی علیه السلام(2)، و من أراد المزید فلیراجع ما سطّرته العامّة من کتب بهذا الشأن. و بناءً علی ما سبق فإنّ الآیة الَّذِینَ آمَنُوا قد أشارت إلی موقع بعض


1- مجمع البیان 3: 346- 347.
2- تفسیر القرآن العظیم لابن کثیر 2: 71.

ص: 53

المسلمین الذین لهم کفاءة التصدّی لُامور المسلمین، و هذا ما علیه عُلماء الشیعة و السنّة فی أنّ الآیة نزلت بشأن علی علیه السلام و زعامته. و حیث لا یعقل نهوض جمیع المسلمین بمنصب الزعامة و الإمامة، و کان من القطع أن تکون آیة الَّذِینَ آمَنُوا محصورة فی بعض الأفراد الأکفّاء، و تری الشیعة بأنّ علی علیه السلام من هؤلاء الأفراد، کما تری العامّة أنّ المُراد بالآیة هو مولی المتّقین علی علیه السلام، کان لا بدّ من القول علی ضوء اعتراف الفریقین و بالاستناد إلی عدم معقولیة کون المُراد بالآیة الَّذِینَ آمَنُوا عموم المسلمین، أنّ القرآن الکریم قد صرّح فی هذه الآیة بإمامة المسلمین و قلّدها ربیب النبوّة علی بن أبی طالب علیه السلام.

إشارة إجمالیة إلی بعض الروایات الواردة فی تفسیر الآیات الدالّة علی الإمامة

یسرّنا هنا أن نتناول بالبحث بعض الروایات لنستمع من خلالها إلی ما صرّح به نفس الأئمّة علیهم السلام بشأن ما أوردناه سابقاً من زعامتهم و إمامتهم: 1) وردت فی کتاب وسائل الشیعة روایة عن الصدوق بسند معتبر عن المعلّی ابن خنیس، عن الإمام الصادق علیه السلام قال: قلت له: قول اللَّه عزّ و جل: إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها وَ إِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ(1) فقال: «عدل الإمام أن یدفع ما عنده إلی الإمام الذی بعده، و امرت الأئمّة أن یحکموا بالعدل، و امر الناس أن یتّبعوهم»(2). 2) کما وردت روایة عن الکلینی: محمّد بن یعقوب عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زیاد، عن محمّد بن عیسی، عن أبی عبد اللّه المؤمن، عن ابن مسکان، عن سلیمان بن خالد، عن أبی


1- سورة النساء: الآیة 58.
2- الفقیه 3: 2 ح 2، و عنه وسائل الشیعة 27: 14، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی ب 1 ح 33084.

ص: 54

عبد اللّه علیه السلام قال: «اتّقوا الحکومة؛ فإنّ الحکومة إنّما هی للإمام العالم بالقضاء العادل فی المسلمین لنبیّ أو وصیّ نبیّ»(1). 3) و روی العیاشی أنّ سعد قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن الآیة الشریفة:

لَیْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقی وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها(2) فقال: «آل محمّد صلی الله علیه و آله أبواب اللَّه و سبیله و الدعاة إلی الجنّة و القادة إلیها و الأدلّاء علیها إلی یوم القیامة»(3). 4) نقل حمزة بن الطیّار أنّه عرض علی أبی عبد اللّه علیه السلام بعض خطب أبیه حتّی إذا بلغ موضعاً منها قال له: «کفّ و اسکت، ثمّ قال أبو عبد اللّه علیه السلام: إنّه لا یسعکم فیما ینزل بکم ممّا لا تعلمون إلّا الکفّ عنه و التثبّت و الردّ إلی أئمّة الهدی حتّی یحملوکم فیه علی القصد و یجلوا عنکم فیه العمی، و یعرّفوکم فیه الحقّ. قال اللَّه تعالی:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(4)»(5). 5) و نورد هنا بعض ما أوصی به أمیر المؤمنین علی علیه السلام لکمیل: «یا کُمیل لا تأخذ إلّا عنّا تکن منّا ... یا کُمیل هی نبوّة و رسالة و إمامة، و لیس بعد ذلک إلّا موالین متّبعین أو عامِهین مبتدعین، إنّما یتقبّل اللَّه من المتّقین»(6). 6) الحدیث المتواتر و المتّفق علیه من العامّة و الخاصّة و المعروف بحدیث الثقلین الذی لم ینکره أحد، و أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قاله علی سبیل الیقین، فقد عیّن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی هذا الحدیث وظیفة المُسلمین إلی یوم القیامة، معتبراً فیه القرآن


1- الکافی 7: 406 باب أنّ الحکومة إنّما هی للإمام ح 1.
2- سورة البقرة: الآیة 189.
3- تفسیر العیّاشی 1: 86 ح 210، و عنه بحار الأنوار 2: 104.
4- سورة النحل: الآیة 43 و سورة الأنبیاء: الآیة 7.
5- الکافی 1: 50 باب النوادر ح 10.
6- تحف العقول: 171 و 175.

ص: 55

و العترة الثقلین الذین لن تضلّ الامّة إذا ما تمسّکت بهما إلی یوم القیامة، فقال صلی الله علیه و آله:

«إنّی تارک فیکم الثقلین ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا: کتاب اللَّه، و عترتی أهل بیتی و إنّهما لن یفترقا حتّی یردا علیّ الحوض»(1). 7) هناک روایة صحیحة أو حسنة فی کتاب الوسائل عن محمّد بن یعقوب، عن علی بن إبراهیم، عن أبیه و عن عبد اللّه بن الصلت جمیعاً، عن حمّاد بن عیسی، عن حریز بن عبد اللّه، عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث فی دعائم الإسلام، قال: «أما لو أنّ رجلًا قام لیله، و صام نهاره، و تصدّق بجمیع ماله، و حجّ جمیع دهره، و لم یعرف ولایة ولی اللَّه فیوالیه، و یکون جمیع أعماله بدلالته إلیه، ما کان له علی اللَّه حقّ فی ثوابه و لا کان من أهل الإیمان»(2). فالذی یتّضح من هذا الحدیث أنّ الإتیان بالتکالیف و الوظائف الإسلامیّة لا بدّ أن یکون من خلال إرشادات و ولایة الأئمّة الأطهار علیهم السلام، فهم زُعماء الدین وقادة المُسلمین، و لا بدّ من تفویض الأعمال إلیهم بهدف حفظ النظام الاجتماعی و منع الفوضی و الهرج و المرج. 8) ورد فی الکتاب المذکور عن محمّد بن یعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسین بن سعید، عن النضر بن سوید، عن عاصم بن حمید، عن أبی بصیر یعنی المرادی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام- فی قول اللَّه عزّ و جل: وَ إِنَّهُ لَذِکْرٌ لَکَ وَ لِقَوْمِکَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ(3)- «فرسول اللَّه صلی الله علیه و آله الذکر، و أهل بیته المسئولون و هم أهل الذکر»(4).


1- کفایة الأثر: 87؛ مختصر بصائر الدرجات: 213 ح 254؛ المراجعات: 279.
2- وسائل الشیعة 1: 119 ح 298 نقلًا عن الکافی 2: 19 ح 5.
3- سورة الزخرف: الآیة 44.
4- وسائل الشیعة 27: 62 ح 33203.

ص: 56

دراسة ضروریّة

استفاضت لدینا الروایات- کهاتین الروایتین- التی صرّح فیها الأئمّة علیهم السلام قائلین: نحن أهل الذکر و حملة القرآن، و علی الأُمّة أن تأخذ بهدینا فی عملها بالقرآن، فهذه الروایات تفوّض المسئولیة للأئمة علیهم السلام، و علیه: فلا بدّ أن یُناط حلّ المشاکل و إرشاد الأُمّة و الأخذ بیدها- مع الأخذ بنظر الاعتبار تفسیر الأئمّة علیهم السلام للآیة الکریمة- بزعماء الدین. أمّا ما ورد فی الآیة الشریفة وَ إِنَّهُ لَذِکْرٌ لَکَ وَ لِقَوْمِکَ فإنّه یدعونا إلی التأمّل فی سورة الزخرف حیث تقول: فَاسْتَمْسِکْ بِالَّذِی أُوحِیَ إِلَیْکَ إِنَّکَ عَلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ* وَ إِنَّهُ لَذِکْرٌ لَکَ وَ لِقَوْمِکَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ(1)، فقد قال الإمام الباقر و الصادق علیهما السلام: نحن قوم النبی صلی الله علیه و آله. فالآیة تصرّح بأنّ الصراط المستقیم هو القرآن، و قد قلّدک القرآن- و الأئمّة من بعدک- مسئولیة خطیرة، کما أفاض علیکم هذا الکتاب علماً و إدراکاً لیس لکم أن تنهضوا بعبئه و مسئولیته. أ فلا نفهم من هذه الآیة و بضمیمة الروایة أنّ المسئولیة التی کلّف بها رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قد کلّف بها الأئمّة الأطهار علیهم السلام أیضاً؟ أو لیست هذه الآیة فی مقام نصب الأئمّة کهداة للُامّة الإسلامیة علی غرار النبی الأکرم صلی الله علیه و آله؟ بلی، الآیة الکریمة علی ضوء تفسیر الإمام قد جعلت الأئمّة کرسول اللَّه صلی الله علیه و آله هداة أدلّاء علی الطریق، و أنّ الصراط الذی یسلکونه هو الصراط الذی أوحاه لهم القرآن الکریم، و أنّ هذه الهدایة وظیفة خطیرة و مسئولیة عظیمة بحیث إنّهم یُسألون عنها یوم القیامة: «و سوف یُسألون».


1- سورة الزخرف: الآیتان 43- 44.

ص: 57

إذن فهم الأئمّة و الزُعماء إلی یوم القیامة، و علیهم أن ینهضوا بهذه المهمّة و لا یتوانوا فی أدائها، و ذلک أنّهم مسئولون عنها یوم القیامة. و بناءً علی ما تقدّم فالذی نستفیده من الآیة الکریمة و روایة التفسیر:- 1- أنّ الأئمّة علیهم السلام کالنبی صلی الله علیه و آله هم هُداة و أدلّاء علی الطریق. 2- أنّهم إنّما یستندون إلی الآیات القرآنیة فی هذه الهدایة. 3- أنّ وظیفة الأئمّة کوظیفة النبی بالتمسّک بالقرآن من أجل الهدایة. 4- أنّ هذه الوظیفة- أی هدایة الأُمّة بالقرآن- هی وظیفة أبدیّة إلی یوم القیامة. 5- أنّ مسئولیّة الأئمّة کالنبی فی القیام بهذه الوظیفة، فهی مسئولیة کبیرة و لیس لهم أن یقصّروا فی أدائها. 6- الأئمّة کرسول اللَّه صلی الله علیه و آله سیسألون یوم القیامة عن القیام بهذه الرسالة الخطیرة. 7- للأئمة کما لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله إحاطة تامّة بالقرآن و أسراره؛ لأنّه ذکر لهم کما هو ذکر لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله: وَ إِنَّهُ لَذِکْرٌ لَکَ وَ لِقَوْمِکَ. و علیه: فإنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم زُعماء مسئولون، و أنّ القرآن قد حباهم بشرائط الإمامة و ألهمهم الإحاطة بامور المسلمین، و علیهم أن یقوموا بوظیفتهم بإمامة کافّة شئون المسلمین و حلّ مشاکلهم و تلبیة متطلّباتهم، و أن یأخذوا بأیدیهم من خلال التمسّک بالقرآن إلی شاطئ الأمان و السعادة و الفلاح. ملاحظة: لقد تواترت الروایات التی تجاوزت حدّ الاستفاضة فی تفسیر هذه الآیة، و من أراد المزید من أجل الوقوف علی صحّة هذا الادّعاء فلیراجع الأخبار الواردة بهذا الشأن. 8- ورد فی الکتاب المذکور و الباب المذکور عن الصدوق فی کتاب الأمالی و عیون الأخبار، عن علی بن الحسین بن شاذویه، و جعفر بن محمّد بن مسرور

ص: 58

جمیعاً، عن محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحمیری، عن أبیه، عن الریّان بن الصلت، عن الرضا علیه السلام- فی حدیث- أنّه قال للعلماء فی مجلس المأمون: أخبرونی عن معنی هذه الآیة: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا(1)، فقالت العلماء: أراد اللَّه بذلک الامّة کلّها، فقال الرضا علیه السلام: «بل أراد اللَّه- عزّ و جلّ- العترة الطاهرة»(2).

بحث مختصر:

الاصطفاء: علی وزن الافتعال و أصله من الصفو، و الصفو یعنی الخالص، و علیه: فإنّ الاصطفاء یعنی الانتخاب الخالص، و المصطفی یعنی المنتخب الخالص «صفوة الشی ء: خالصه». عباد جمع عبد، و العبد هنا بمعنی العابد، لا بمعنی المملوک؛ لأنّ جمع العبد بمعنی المملوک هو عبید. قال الراغب الأصفهانی فی المفردات: «و جمع العبد الذی هو مسترقّ عبید، و جمع العبد الذی هو عابد عباد». و یؤیّد القرآن الکریم قول الراغب، فقد نعتت جمیع الآیات القرآنیة التی تحدّثت عن الکُفّار الذین اتّبعوا هوی أنفسهم و الأوثان بالعبید، بینما أطلقت لفظ «العباد» علی من عبد اللّه سبحانه، و لم تستعمل لفظة «العباد» فی مقابل «الإماء» إلّا فی آیة واحدة هی وَ أَنْکِحُوا الْأَیامی مِنْکُمْ وَ الصَّالِحِینَ مِنْ عِبادِکُمْ وَ إِمائِکُمْ(3)، و لا یبعد هنا أن تکون لفظة «العباد» قد جاءت من أجل التشاکل اللفظی.


1- سورة فاطر: الآیة 32.
2- وسائل الشیعة 27: 72، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی ب 7 ح 33233 عن أمالی الصدوق: 615 ح 843 و عیون أخبار الرضا علیه السلام 1: 228 ب 23 ح 1.
3- سورة النور: الآیة 32.

ص: 59

و یؤیّد ذلک ما ورد فی النصوص الفقهیّة و آثار الأئمّة علیهم السلام، حیث وردت کلمة «العبید و الإماء» حیثما کان الکلام عن العبد المملوک. علی کلّ حال فإنّ العباد فی الآیة الشریفة هی جمع عابد. فقد ردّ الإمام الرضا علیه السلام علی العُلماء الذین قالوا: إنّ المراد بالآیة الشریفة الأُمّة کلّها، بأنّ اللَّه أراد بها العترة الطاهرة، فاحتجّ علیه السلام بالآیة الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا حیث المصطفی من العباد غیر جمیع العباد، فهو أضیق دائرة، و لمّا کان المصطفی یعنی المنتخب الخالص، فإنّهم من العباد المخلصین و الموحّدین، و لذلک لا بدّ أن یکون هؤلاء الأفراد مصطَفین تامّی الإخلاص فی عبادة الحقّ. و بعبارة أوضح: أنّ مُراد الآیة: أخلص الناس فی عبادة الحقّ من بین عباد اللَّه الموحّدین، و لیس هناک بین الناس أخلص فی عبادة اللَّه تعالی- بعد النبیّ صلی الله علیه و آله- غیر الأئمّة علیهم السلام. و لذلک قال علیه السلام: لیس المراد بالعباد- هنا بقرینة الاصطفاء- سوی العترة الطاهرة، فالقرآن یقول: لیس لکلّ فرد وراثة القرآن، و إنّ وراثته مختصّة بمن اصطفینا من العباد، و قال الرضا علیه السلام: نحن ورثة القرآن، فالأئمّة هم ورثة الکتاب، و لمّا کان الانتقال مُعتبر فی مفهوم «الإرث» یتبیّن أنّ ما أفاض القرآن علی النبی صلی الله علیه و آله إنّما ینتقل إلی الأئمّة الأطهار علیهم السلام، و نحن نعلم أنّ القرآن إنّما أفاض علی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله العلم و الحکمة و الإمامة و الولایة و المسئولیة و أمثال ذلک، و علیه:

فالأئمّة إنّما یرثون هذه الأمور عن النبی صلی الله علیه و آله. فکما أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عالم بدقائق القرآن و أسراره، فالأئمة علیهم السلام عالمون بها بالوراثة، و کما أنّ النبی یدرک بالوحی بطون القرآن، فإنّ للأئمّة مثل هذا الإدراک و الإحاطة بالوراثة. و أخیراً فکما أناط القرآن بالنبی صلی الله علیه و آله وظیفة الزعامة و تفسیر الأحکام و بیان التعالیم و إمامة الأُمّة الإسلامیة فإنّ الأئمّة علیهم السلام قد ورثوا عنه هذه الوظائف، و لذلک

ص: 60

لمّا کان یوم الدار- أوائل بعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله- جعل النبی صلی الله علیه و آله علیاً علیه السلام خلیفته و نصبه إماماً، فقال: «هذا أخی و وارثی و وزیری و خلیفتی فیکم بعدی»(1) و قد صرّحت بعض الروایات بأنّ علیّاً علیه السلام قال: «یا رسول اللَّه و ما أَرِثُک؟»، قال: «ما ورثت الأنبیاء قبلی: کتاب اللَّه و سنّتی»(2).

خلاصة ما مرّ:

إنّ الإسلام لیس دین الاعتزال و الرهبة، بل دین یشتمل علی برامج و تعالیم من شأنها تنظیم حیاة البشریة و ضمان المعیشة الهنیئة التی یسودها العدل و الإنصاف و المساواة و الإخاء و التساوی فی الحقوق الاجتماعیة المقرّرة لکلّ طبقة بما یصونها عن السلب و النهب، و إنّ هناک حاجة ماسّة فی هذا الدین لتدوین دستوره المتین الذی یقف حائلًا أمام الظلمة، فلا یدعهم یمدّون أیدیهم لیعتدوا علی حقوق الأُمّة، کما یتکفّل بحفظ الشخصیة الإنسانیة لکلّ فرد فی المجتمع من سطوات الجبابرة و عداوتهم، و تتحقق فی ظلّه العدالة الاجتماعیة و التمتّع بالحقوق الفردیة و الجماعیة و ارتفاع المستوی العلمی و الثقافی للناس و نیلهم السعادة الدنیویة التی تؤهّلهم لنیل الخلود و استثمار الإیمان الذی یدعو إلی کسب الفضائل الأخلاقیة و المعنویة، و ممّا لا شکّ فیه أنّ القرآن الکریم هو دستور الإسلام الذی تکفّل بتحقیق هذه الأهداف: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ(3). إلّا أنّ هذا القرآن قد تعرّض لشئونُ حیاة الأُمّة من خلال آیاته الشریفة، و لا تتفق هذه الآیات بأجمعها فی کیفیّة شرحها لمفردات الحیاة التی تعیشها الأُمّة،


1- علل الشرائع 1: 170، ب 133 ح 2، و عنه بحار الأنوار 18: 178 ح 7.
2- تفسیر فرات الکوفی: 227 ح 304، بحار الأنوار 38: 346 ح 21، تفسیر المیزان 8: 117.
3- سورة الإسراء: الآیة 9.

ص: 61

فهناک بعض الآیات القرآنیة التی وردت بصیغة الرمز و الإشارة و الکنایة، بل وردت مُبهمة متشابهة بحیث قد تکون أحیاناً أقرب إلی خلاف المراد فی دلالتها اللفظیة، و هذا ما أشارت إلیه الآیة: هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْکَ الْکِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ(1). فالقرآن شأنه شأن سائر القوانین، حیث وردت بعض نصوصه مجملة، و واضح أنّ المجمل یحتاج إلی ما یُفسّره و یوضّحه. و القرآن کسائر القوانین، قد یصدر أحکامه علی نحو العموم ثمّ یخصّصها بینما یصدرها علی نحو الإطلاق لکنّها تتضمّن التقیید. فأحکامه علی أنواع من قبیل العام و الخاص و المطلق و المقیّد و .... و القرآن یتطرّق أحیاناً إلی قصص الامم الماضیة من أجل تحقیق بعض الأهداف الکُبری و إثبات دعوی النبوّة، فیورد حقبة تأریخیة عمیقة فی جملة قصیرة مقتضبة، بالشکل الذی یتطلّب الوقوف علی تلک الحقائق إلی مؤرّخ عالم بنشوء الأدیان و قصص سالف الامم و متخصّص بلغة القرآن، و القرآن قد یصدر حکماً معیناً لمدة استناداً للمقتضیات السیاسیة و المصالح الإسلامیة العلیا ثمّ ینسخه بحکم حقیقی آخر لا بدّ من مراعاته و تطبیقه، و القرآن قد عیّن المقنن و المنفذ من أجل بسط العدل و القسط و تحقق الوحدة و التضامن و المجتمع الإسلامی، لیتسنی للُامّة أن تقیم الحکومة العادلة فی ظل ولایة و زعامة هؤلاء الأفراد. و أخیراً فإنّ بعض الآیات القرآنیة تحمل رسالة دعوی الناس إلی الصراط المُستقیم الذی یؤدّی إلی السعادة الأبدیّة و الجنّة الخالدة، إلی جانب کسب الفضائل الإنسانیة و بلوغ السموّ و الکمال.


1- سورة آل عمران: الآیة 7.

ص: 62

إذن فدستور الإسلام هو القرآن، و إنّ الحیاة الحرة الکریمة المقرونة بالرفاه و السعادة فی القرآن. و القرآن طائفة من الآیات التی تشکّل موادها أساس النظام الداخلی للحیاة، غیر أنّنا رأینا أنّ آیاته قد تکون مجملة و أحیاناً مُتشابهة کما قد تکون أحیاناً أُخری مُطلقة أو مقیّدة و ناسخة أو منسوخة، کما فهمنا أنّ القرآن هو دعامة حکومة العدل و القسط بالنسبة للُامّة الإسلامیة، و علیه شئنا أم أبینا؛ فإنّ القرآن یتطلّب استاذاً ماهراً و دلیلًا علیماً لیوضّح مجمله و یحلّ معضله و یبیّن مطلقه من مقیّده و یفسّر متشابهه، و أن یکشف النّقاب عن قصص الامم السابقة بما یخرجها عن حالة الإجمال التی أوردها القرآن، و بالتالی علیه أن یمیط اللثام عن أسراره و یمیّز ناسخه من منسوخه، لیجعل الأُمّة تقف بما لا یقبل الشکّ علی مفردات دستور الإسلام من أجل تشکیل الحکومة الإسلامیة، لیتمکن المسلمون فی ظل حکومة العدل القرآنی من العیش بأمن و سلام فی حیاتهم الدنیویّة، بالشکل الذی یمهّد السبیل أمامهم لنیل سعادة الآخرة. و بناءً علی ما تقدّم فإنّ إدراک جمیع حقائق القرآن- بغضّ النظر عن آیاته الصریحة أو الظاهرة- بحاجة إلی معلّم و دلیل، و کذلک الحکومة الإسلامیة المستندة للقرآن بحاجة إلی إمام و ولی أمر. فالذی نخلص إلیه هو أنّ القرآن محتاج إلی مرشد، و المسلمون أیضاً محتاجون إلی الإمام، و هنا لا بدّ أن نسأل: من هو المرشد إلی القرآن و إمام الإسلام؟ لقد دلّت الآیات و الروایات التی أوردناها فی هذا الفصل أنّ المرشد الأبدی و الإمام الواقعی للمسلمین بعد النبی صلی الله علیه و آله و فی ظلّ تعالیمه هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام کما صرّحت الأخبار بأنّ الزعامة قد فوّضت إلیهم إلی یوم القیامة(1)، و علیه فلن یسع


1- الکافی 1: 265- 268.

ص: 63

المسلمون قطّ أن یشکّلوا الحکومة العادلة و المدینة الفاضلة دون هؤلاء الهداة الذین لهم ولایة الأمر. فإن قال قائل: لسنا بحاجة لهذه المدینة الفاضلة الإنسانیة، کما لا نرید الحکومة القائمة علی أساس القرآن، فالبشریة قد شکّلت الحکومة علی أساس قدراتها العلمیة و العقلیة و التی حقّقت لها السعادة. فإنّا نقول: لا بدّ- علی ضوء هذا القول- من غضّ الطرف عن القرآن و اعتبار الإسلام دین العزلة و الرهبنة، فی حین لا بدّ لمن یؤمن بالقرآن و الإسلام أن یذعن بأنّ القرآن و الإسلام من شأنهما فقط إدارة شئون الحیاة الإنسانیة، و أن یقرّ أیضاً أن لیس هنالک من زعامة للحکومة الإسلامیة و هدایة بالقرآن و إحاطة بحقائقه و معارفه سوی للأئمة الأطهار علیهم السلام، و لا یمکن للقرآن- بما أوردناه من خصائص- أن یکون هادیاً للبشریة دون أولئک الهُداة الذین یهدون بأمر اللَّه، کما لا یمکن القول بأنّ الحکومة العادلة مطلوبة، لکن دون الحاجة إلی زعماء الدین و مجسِّدی أحکام و قوانین القرآن؛ لأنّ الأخبار و الآیات دلّت علی أنّ أئمّة الدین و هُداة المسلمین هم تلامذة الرسالة و ربیبی مدرسة النبوّة الأئمّة الأطهار علیهم السلام. إذن، فلا یمکن ألّا یکون هؤلاء ممن توفّرت فیهم شرائط الهدایة بالقرآن و امامة الأُمّة الإسلامیة إلی یوم القیامة، و بناءً علیه فلا بدّ أن یکونوا محیطین بجمیع رموز القرآن و أسراره، عارفین بمحکمه و مُتشابهه و مطلقه و مقیّده، عالمین بجمیع الحوادث التی تواجه المسلمین؛ و إلّا فأنّی لهم أن ینأوا بالمجتمع بعیداً عن آفات تلک الحوادث؟ فهل یسع ربّان السفینة أن یتکفّل بضمان سلامة رکّابها و هو یشقّ عباب البحر دون علم بأمواجه و جزره و مدّه و الحوادث التی یمکن أن تطرأ علیه؟!

ص: 64

خلاصة البحث:

یمکن خلاصة ما مرّ منّا خلال البحث فی ما یلی: 1- لا یستغنی الدین الإسلامی عن إمام، کما لا یستغنی القرآن- الذی یُعتبر دستور و قانون المجتمع الإسلامی- عن شارح و مفسّر. 2- لا یقتصر الإسلام علی کونه سلسلة من الصفات الأخلاقیة و المعنویة المکملة للخصائص الإنسانیة السامیة فحسب، بل هو دین ینطوی علی تعالیم شاملة تستهدف بناء المجتمع الإسلامی المقتدر فی ظلّ الحکومة الإسلامیة التی تنشد تربیة الإنسان الصالح. 3- تستند الحکومة الإسلامیة إلی اسس القوانین و التعالیم القرآنیة و مبادئ السنّة النبویّة الشریفة. 4- یتعذّر التعامل مع النصوص القانونیة القرآنیة دون توضیحها و شرحها من قِبل ذوی الاختصاص من زعماء الدین. 5- تفید الآیات و الأخبار أنّ للأئمّة صلاحیة و أهلیة الخوض فی التعالیم و البرامج القرآنیة و توضیحها و سبر أغوارها. 6- أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم زُعماء الأُمّة الإسلامیة بعد النبی صلی الله علیه و آله، و أنّهم مکلّفون بالنهوض بمسئولیة هذه الزعامة إلی یوم القیامة. 7- نتیجة هذه الخلاصة هی أنّ الأئمّة یملکون شرائط الزعامة و الإمامة، و حیث إنّ أحد شروط زعامة المسلمین إلی یوم القیامة یتمثّل بالعلم التام و الوقوف علی جمیع الحوادث و الأخبار الخاصّة، و الإحاطة بأسرار القرآن، و المعرفة بما غاب عن فهم الأُمّة و إدراکها من الامور، کان من اللازم القول بأنّ للإمام علماً و إحاطة تامّة بخفایا القرآن و السنّة، و بخلافه فلیس بوسعه أن یکون زعیماً للأُمّة إلی الأبد و مفسّراً للقرآن هادیاً به.

ص: 65

وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ (سورة البقرة: الآیة 127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ وَ أَرِنا مَناسِکَنا وَ تُبْ عَلَیْنا إِنَّکَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِیمُ (سورة البقرة: الآیة 128) رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ (سورة البقرة: الآیة 129)

ص: 66

ص: 67

الدلیل الرابع من القرآن

اشارة

لم نتعرّض فی الآیات السابقة إلی جذور الإمامة و لا إلی الصفوة من بنی هاشم التی تتمثّل بشکل واضح بالأئمّة الأطهار علیهم السلام، بل أشرنا إلی أنّ «أُولی الأمر» هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام، کما ذهبنا إلی أنّهم مصداق قهری لهذا العنوان من خلال التأمّل فی آیات القرآن الکریم، و قلنا فی خصوص الآیة «و الذین آمنوا»: إنّها تشیر إلی شکل الزعامة و الإمامة، ثمّ خلصنا إلی أنّ أمیر المؤمنین علی علیه السلام هو مصداق هذه الزعامة، بالاستعانة بالروایات و أسباب النزول، أمّا الآیات التی نعرض لدراستها الآن فهی تتناول أصالة الإمامة و تجذّرها فی القرآن الکریم إلی جانب تأریخ تبلور و نشأة إمامة أئمّة الإسلام منذ زمان إبراهیم الخلیل علیه السلام. أجل، إنّ إبراهیم علیه السلام سأل اللَّه أن یرزقه من ذریّته إماماً یتزعّم شئون الأُمّة الإسلامیة، و ذریّة صالحة تتولّی من بعده زعامة الأُمّة. و بعبارة أوضح: فإنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام سألا اللَّه أن یبعث رسولًا من بنی هاشم، و أن تکون لهذا النبی ذریّة تتولّی هدایة الأُمّة و إمامتها.

ص: 68

إذن، فالآیة القرآنیة المُبارکة قد خاضت بوضوح فی أصالة الإمامة و ضخامة ثقلها فی المجتمع، و أشارت بصراحة إلی صفوة من بنی هاشم من شأنها زعامة و إمامة الأُمّة الإسلامیة. یبدو أنّ إثبات هذا الادّعاء یتطلّب مزیداً من الدقّة و التأمّل فی عدّة آیات من سورة البقرة وردت بهذا الشأن، راجین من القُرّاء الأعزّاء الالتفات إلی النقاط التی بحثت سابقاً، لیصدروا بعدها أحکامهم المنصفة بهذا الخصوص.

دعوة النبی إبراهیم علیه السلام:

ما الذی أراده إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام من الحقّ تبارک و تعالی؟ یقول القرآن: إنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام هما رافعا قواعد بیت اللَّه و الکعبة، فقد کان إبراهیم یبنی البیت و کان إسماعیل یساعده فی هذا البناء، بینما کان إبراهیم منهمکاً بالبناء- یساعده فی ذلک إسماعیل- سأل اللَّه تعالی أن یتقبّل منهما هذا العمل. إذن فالبنّاء هو إبراهیم، و العامل إسماعیل، و المقاول هو اللَّه جلّ و علا. فالبناء کان یهدف إلی إنشاء مرکز التوحید و العبادة و هذا المرکز هو الکعبة، و یصرّح القرآن بأنّ لإبراهیم و إسماعیل خمس دعوات سألاها اللَّه سبحانه، و هی: 1- ربّنا اجعلنا مسلمَین لک. 2- و من ذرّیتنا أُمّة مسلمة لک. 3- أرنا مناسکنا و تُب علینا. 4- و ابعث فیهم رسولًا منک. 5- یتلو علیهم آیاتک و یعلّمهم الکتاب و الحکمة و یزکّیهم.

ص: 69

الآیات و الالتفاتات:

تطالعنا فی هذه الآیات عدّة أُمور، منها: 1) فنّدت الآیة مزاعم الیهود بشأن الکعبة و قبلة المسلمین حین کثر اللغط الذی یصرّح بعدم صحّة نبوّة النبی صلی الله علیه و آله فهو یصلّی الصبح صوب بیت المقدس، ثمّ یستقبل الکعبة فی صلاة العصر، و إنّ مثل هذه الأعمال لا تصدر من عاقل، و إلّا لما غیّر القبلة، فقد کان الهدف المهم هو بیان أصالة الکعبة؛ لأنّ إبراهیم هو الذی بناها و رفع قواعدها، و إن کان النبی صلی الله علیه و آله قد استقبل بیت المقدس لمدّة قصیرة فإنّما کان ذلک طبقاً لمقتضیات المصالح الإسلامیة العُلیا لا علی أساس عدم العلم و الإحاطة بالمغیبات. 2- نبیّنا محمّد صلی الله علیه و آله شخصیة أصیلة متجذّرة تستند رسالته و نبوّته لدعاء إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام، إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام اللذان أعادا بناء مرکز التوحید، و هما عبْدا اللَّه، الذین أخلصا له العبودیّة و الطاعة، فسألاه تبارک و تعالی أن یبعث من ذریّتهما رسولًا ینطلق من قاعدة الإخلاص و العبودیة و الطاعة، و علیه فالیهود ینظرون أعمق من غیرهم إلی أصالة محمّد صلی الله علیه و آله. 3- أنّ محمّداً صلی الله علیه و آله الذی ینتمی إلی ذریّة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام هو من طائفة بنی هاشم، و قد سألا الحقّ سبحانه أن یبعث هذا النبی من تلک الطائفة لینهض بمسئولیة تعلیم و تزکیة هذه الطائفة: وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ .... و بعبارة اخری: أنّهما سألا اللَّه أن یبعث رسولًا من بنی هاشم یتولّی تعلیم و تزکیة جماعة من بنی هاشم، أمّا کیف ندّعی أنّ الرسول المطلوب من بنی هاشم و أنّه یعلّم و یزکّی جماعة من بنی هاشم، فممّا لا شکّ فیه أنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام طلبا رسولًا من عقبهما لتعلیم و تزکیة ذریّتهما، حیث سألا أن یکون

ص: 70

ذلک الرسول المبعوث هو معلّم تلک الذریّة، فقد قالا: وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... و حیث استجیب الدعاء المطلوب؛ و هو بعث محمّد صلی الله علیه و آله کنبیّ، و محمّد من نسل إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام و من نسل بنی هاشم، فالطائفة التی یتوجّه إلیها التعلیم و التزکیة لا بدّ أن تکون تلک الطائفة الصالحة المُنقادة للَّه من نسل بنی هاشم. فالخلاصة، تفید الآیة: وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... أنّ نبی الإسلام صلی الله علیه و آله یجب أن یتلو آیات القرآن علی بنی هاشم و یعلّمهم القرآن و أسرار الدین، لینتهی بهم إلی التزکیة و الطهر و النزاهة.

دلیل حی:

قلنا: إنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام سألا اللَّه سبحانه أن یبعث من ذریّتهما رسولًا من بنی هاشم، ثمّ سألاه أن یعلّم هذا الرسول طائفة من بنی هاشم خفایا الدین و أسرار القرآن و معالم الإسلام. أمّا شاهدنا علی ذلک فروایة وردت فی تفسیر العیاشی و هو من الکُتب المعتبرة، ففیه: عن أبی عمرو الزبیری، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: قلت له: أخبرنی عن امّة محمّد صلی الله علیه و آله من هم؟ قال: أُمّة محمّد بنو هاشم خاصّة، قلت: فما الحجّة فی امّة محمّد أنّهم أهل بیته الذین ذکرت دون غیرهم؟ قال: قول اللَّه عزّ و جل: وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ ...(1) فلمّا أجاب اللَّه إبراهیم و إسماعیل و جعل من ذریتهما امّة مسلمة، و بعث فیها رسولًا منها- یعنی من تلک الامّة- یتلو علیهم آیاته و یزکّیهم و یعلّمهم الکتاب و الحکمة(2).


1- سورة البقرة: الآیة 127.
2- تفسیر العیّاشی 1: 60 ح 101.

ص: 71

مزید من التوضیح:

نورد مزیداً من الإیضاح رغم أنّ الحدیث المذکور صریح فی ما ادّعیناه، فالواو فی الآیة المُبارکة: وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ(1) عاطفة، أی و اجعل من ذُرِّیَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ نسألک لبعض هذه الذریّة ما سألناک لأنفسنا أن اجعلنا مسلمین لک، فاجعلهم مسلمین لک، و بناءً علی هذا فکلمة «من» فی قوله: «و من ذریّتنا» تفید التبعیض، أی بعض هذه الذریّة. إذن، فسنخ تسلیم هذه الطائفة من سنخ تسلیم إبراهیم و إسماعیل، و من هنا یعلم أن عطف طلب إبراهیم و إسماعیل، یعود إلی ظهور طائفة مصطفاة من الأُمّة الإسلامیة تکون فی مصاف آبائها إبراهیم و إسماعیل فی الخشوع و الطاعة و التسلیم. و علیه: فدعاء إبراهیم و إسماعیل لا یشمل کافّة ذریّة إسماعیل لیکونوا علی هذه الدرجة من التسلیم، لیصدق ذلک علی جمیع قریش، و ذلک لأنّنا أشرنا إلی أنّ «من» تفید التبعیض لا التبیین، أضف إلی ذلک- کما ذکرنا- أنّ الرسول المبعوث من ذریّة هاشم، و ذلک الرسول هو معلّم هذه الذریّة طبق ظاهر الآیة، و هذا ما ذکّر به الإمام الصادق علیه السلام.

کشف النقاب عن أصالة الإمامة:

قلنا: إنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام سألا اللَّه سبحانه طائفة من الذریّة تکون بمستوی آبائها فی الإخلاص و الطاعة و التسلیم، کما قلنا: إنّ هذه الطائفة لیست إلّا الصفوة من بنی هاشم، و هنا تتّضح حقیقة اخری؛ و هی أنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام کما سألا اللَّه بعث رسول لهدایة الامّة، قد سألاه أیضاً مثل هذه الهدایة لطائفة من


1- سورة البقرة: الآیة 128.

ص: 72

بنی هاشم، سألاه أن یبعث رسولًا من بنی هاشم، و أن تتربّی و تتلمّذ علی یدیه هذه الطائفة المتّصفة بالعبودیّة و الإخلاص و التسلیم الکامل للَّه، لتکون جدیرة مؤهّلة و صالحة لزعامة الإسلام و إمامة المسلمین، و إلّا لما کان هناک من هدف لسؤالهما اللَّه ظهور تلک الطائفة التی تضاهی آباءها فی الطاعة و التسلیم، و سؤال اللَّه تعلیمهم و تزکیتهم من قِبل الرسول المبعوث.

ما نخلص إلیه من هذه الآیات:

بعد أن رفع إبراهیم و إسماعیل قواعد البیت بأمر اللَّه و من أجل اللَّه و إعادة بناء مرکز التوحید، سألا اللَّه ثلاثة امور أساسیة مهمّة من أجل تحقیق السعادة و الفلاح لذریتهما علی مدی التأریخ، و هی: 1- سألاه أن یبعث رسولًا من ذریّتهما. 2- أن یکون هذا الرسول من بنی هاشم، و قد قال النبی صلی الله علیه و آله: أنا دعوة إبراهیم علیه السلام(1). 3- أن تکون طائفة من بنی هاشم مطیعة و مسلمة تنهض بزعامة و إمامة الأُمّة الإسلامیة، و أن تستند فی إمامتها إلی تعالیم النبی صلی الله علیه و آله و تعلیمه و تزکیته لهم و إلی القرآن و آیاته الحکیمة.

نتیجة هذه الدراسات:

کما أنّ رسالة النبی صلی الله علیه و آله أصیلة متجذّرة لیست حادثة طارئة؛ فإنّ إمامة الأئمّة هی الأُخری أصیلة متجذّرة، و هی استجابة لدعوة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام. و علی ضوء هذا المشروع الذی تضمنه الدّعاء، کان لا بدّ لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله أن یخضع تلک الطائفة من بنی هاشم لتعلیمه المُباشر و یحیطهم علماً بکافّة أسرار و خفایا القرآن،


1- الفقیه 4: 369، بحار الأنوار 38: 62.

ص: 73

بفضل ما منحهم اللَّه من أهلیة و استعداد، لیعدّهم لإمامة المسلمین، و علیه: فإنّ هذه الطائفة حائزة علی شرائط الإمامة من خلال تعلیم النبی و ما أفاض الحقّ علیهم من إخلاص و تسلیم. فالذی نخلص إلیه من هذه الأبحاث هو أنّ الإمامة أصیلة متجذّرة کالرسالة، و لیست الإمامة سوی للطائفة المصطفاة من بنی هاشم.

سؤال یطرح نفسه:

هنالک سؤال یطرح نفسه علی ضوء الشرح الذی أوردناه علی الآیات، و هو هل أنّ رسول اللَّه مبعوث لبنی هاشم فقط لیجتهد فی إرشادهم و هدایتهم و تزکیتهم؟ و هل سأل إبراهیم اللَّه سبحانه نبیاً عائلیاً لتعلیم و تربیة أولاده و ذریّته؟

حتّی یقال: إنّ اللَّه استجاب دعوة إبراهیم من أجل تعلیم و تربیة أولاده، إذن فهو معلّم خصوصی من أجل طائفة خاصّة من ولد إسماعیل.

جواب:

لا شکّ أنّ النبی صلی الله علیه و آله إنّما بعث لکافّة الناس إلی یوم القیامة، فقد اعتبره القرآن الکریم خاتم الأنبیاء(1)، و منذر من بلغ(2). فما الذی حدث لیدعو إبراهیم بأن یکون النبی المبعوث من ذریّة إسماعیل لتزکیة و تعلیم طائفة من ذریّتهما؟ فإبراهیم علیه السلام یعلم بأنّ رسول اللَّه محمّد المصطفی صلی الله علیه و آله سیبعث بالرسالة، و أنّه من ذریّته و هو خاتم الأنبیاء، و دینه ناسخ لکافّة الشرائع و مکمّل لکافّة الأدیان، و أنّه سیصبح إماماً للبشریة جمعاء، و هذه لیست من الامور التی لا یعرفها إبراهیم علیه السلام، فالقرآن


1- سورة الأحزاب: الآیة 40.
2- سورة الأنعام: الآیة 19.

ص: 74

یصرّح بأنّ موسی و عیسی علیهما السلام یعلمان بأنّه النبی الخاتم، و هذا ما تشهد به سائر الکُتب السماویة، بل أبعد من هذا هو أنّ الامم الماضیة- و بغضّ النظر عن الأغراض- تعلم بوضوح کافّة خصائص آخر قائد للعالم، فلِمَ کانت هذه الدعوة من إبراهیم و إسماعیل؟ الجواب علی هذا السؤال هو ما أوردناه سابقاً من أنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام سألا الله أن یبعث نبیاً من ذریّتهما، و أن یقوم هذا المبعوث بتربیة و تزکیة طائفة لیبلغ بها السموّ و الکمال الذی یؤهّلها لزعامة الأُمّة الإسلامیة، و علیه فقد بلورا و أسَّسا مبدأ الإمامة، و سألا تحقیق و تفعیل هذا المبدأ الحیوی من أجل الزعامة الإسلامیّة. و بناءً علی ما تقدّم لم یکن هناک ما یستدعی لأن یکون هذا المبعوث لطائفة معیّنة، بل کان ذلک یستدعی أن یکون مبعوثاً للعالم کافّة، یکون من ذریّتهما، و أن یعدّ طائفة معیّنة من تلک الذرّیة لبعض الأهداف و الغایات العلیا السامیة. و بعبارة اخری: فإنّ الدعوة کانت لجعل النبوّة و الإمامة فی ذریّة بنی هاشم، و هی فی ذات الوقت تفید کون النبوّة و الإمامة زعامة عالمیة إلی الأبد. جدیر بالذکر أنّ دعوة إبراهیم علیه السلام لیست جدیدة، فقد سأل اللَّه بشأن منصب الإمامة فی ذریّته لما استکمل شرائط الإمامة و بشّره سبحانه: إِنِّی جاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِماماً، فردّ اللَّه سبحانه هذا المنصب عمّن لا یستحقّه من تلک الذریّة لا یَنالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ(1). حیث استثنی سبحانه الظلمة من النهوض بهذه المسئولیة العظیمة.

حدیث مع صاحب تفسیر المنار:

أعتقد أنّ صاحب «تفسیر المنار» قد التفت إلی ذلک الأمر المهمّ فی الآیات


1- سورة البقرة: الآیة 124.

ص: 75

الشریفة و دعوة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام، فهو یستند فی فهمه للقرآن إلی ظواهر الألفاظ و خصائص الکلمات، إلّا أنّ روح التعصّب إذا استولت علی عالم تدفعه إلی ما یأباه الذوق السلیم و الطبع القویم، بحیث أخذ یتخبّط تخبط عشواء لیموّه علی الحقائق التی انطوت علیها الآیة الکریمة. فقد علّق صاحب تفسیر المنار علی عبارة «إنّک أنت العزیز الحکیم» بأنّها وردت لتزیل إشکالًا قد یتبادر إلی الأذهان بأنّ دعوة إبراهیم تتنافی و الطبع العربی؛ لأنّ العرب تقولبت بالبداوة و أنست بالغلظة و الخشونة، و علیه فالأقوام العربیة لا تأنس بالعلم و الحکمة، بل هی عدوة للتهذیب و التربیة، فالبداوة العربیة لا تخضع قطّ للنظم الاجتماعیة و هی بعیدة عن الحضارة و المدنیة، فطبیعتهم البداوة، و لمّا کان تعلیم الکتاب و الحکمة و تهذیب الأخلاق لا یعنی سوی التسلیم للنظام الاجتماعی و تقبّل الحضارة و المدنیة و التطبّع بالعادات الإنسانیة، فأنّی لإبراهیم أن یدعو اللَّه بأن یبعث محمّداً صلی الله علیه و آله لیعلّم أولئک العرب الکتاب؟ و یعلّمهم الحکمة و یزکّیهم و یهذّب أخلاقهم. فقد حصر صاحب «المنار» هذا السؤال فی زاویة حرجة، ثمّ قال للهرب منه:

نعم، إنّ هذا الوهم وارد لو لم یکن اللَّه عزیزاً و حکیماً، و حیث إنّ إبراهیم علیه السلام یعلم بأنّ اللَّه عزیز و حکیم، فإنّ ذلک الوهم لیس بوارد. أجل، فاللَّه عزیز و حکیم و بیده حلّ جمیع المشاکل، و لیس هنالک من شی ء یمکنه أن یقف حائلًا أمام إرادته، إذن، صحیح أنّ العرب تعادی العلم و الحکمة و المدنیة، إلّا أنّ إبراهیم علیه السلام یعلم بأنّ اللَّه عزیز و حکیم، و علیه فدعوته لیست مستحیلة، فللقادر العزیز أن یبلغ بهذه الأُمّة منتهی العلم و التمدّن و یجعلها مستعدّة لحمل أعباء الرسالة(1). کانت هذه بعض العبارات التی ذکرها صاحب المنار بشأن الآیات الکریمة،


1- تفسیر القرآن الحکیم، الشهیر ب« تفسیر المنار»: 1/ 465- 473.

ص: 76

و الحقّ أنّ صاحب المنار قد عمد إلی اسلوب التوریة بما فهمه من الآیات الکریمة، و أعرض عن بیان حقیقة الأمر، کما حاول أن یموّه علی المطلب الأساسی أثناء إیراده لذلک الوهم، فقد أدرک مدلول الآیة، إلّا أنّه و بذکره لذلک الوهم قد عدل عن السبیل الصحیح. و لنا أن نسأل صاحب المنار هذا السؤال: هل استنبطت من الآیات أنّ إبراهیم علیه السلام سأل اللَّه أن یبعث محمّداً صلی الله علیه و آله لیعلّم العرب الکتاب و الحکمة و الانصیاع للنظم الاجتماعیّة؟ و ترید أن تقول بأنّ الدین الإسلامی لیس دیناً عالمیّاً، و لم یبعث محمّد صلی الله علیه و آله إلّا للعرب البدو لیجرّهم إلی المدنیة و الحضارة و الالتزام بالقوانین السماویة للقرآن. و بعبارة أُخری: فإنّک استفدت التعلیم العام من الآیة، إلّا أنّک تعتبر هذا العموم مقتصراً علی فئة خاصّة من الأُمّة الإسلامیة، و هم العرب البدائیّون؟ فإن کان هذا هو الذی فهمته، کان علیک أن تقرّ بأنّ المراد الأصلی من بعثة محمّد صلی الله علیه و آله هو الاقتصار علی تعلیم و تزکیة العرب، و بالذات العرب البعیدین عن الحضارة و المدنیة الذین لم یألفوا التعلیم و التربیة و یأنسون بالغلظة و الخشونة؛ و هل یمکنک علی ضوء هذا الإقرار أن تزعم بأنّ محمّداً صلی الله علیه و آله قد بعث للناس کافّة علی مدی التأریخ؟ و إذا زعمت بأنّ هذه الآیات تستهدف تعلیم النظم الاجتماعیّة الإسلامیة و تعلیم و تزکیة جماعة معینة، دون أن یتنافی هذا الأمر و کون الدین الإسلامی دیناً عالمیاً، إلّا أنّ إبراهیم علیه السلام سأل اللَّه لیقوم محمّد صلی الله علیه و آله بتزکیة ذریّته، و ما ذریّته سوی العرب البدو الذین لا یأنسون بالعلم و الحکمة. ففی هذه الحالة لا تکون هذه الآیات بصدد إثبات عالمیة الدین المقدّس، بل هی عبارة عن دعوة تضمّنت تعلیم و تزکیة و إعداد طائفة خاصّة، الأمر الذی أوردناه سابقاً ... إذن، فالدعوة لم تکن بعث رسول من ذریّة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام إلی طائفة

ص: 77

معیّنة، بل کانت تفید بعث رسول عالمی من ذریّتهما، و یقوم بتعلیم صفوة معیّنة من خاصّة القرآن و أسرار الخلقة، و یبلغ بروحهم الطاهرة أقصی درجات السموّ و الطهارة و الکمال. و بناءً علی هذا فإنّنا و إیّاکم نتّفق علی معنی واحد أفادته الآیات الکریمة، و هی أنّ دعوة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام تفید تعلیم النبی صلی الله علیه و آله و تزکیته و إعداده لطائفة خاصّة من ذریّتهما، إلّا أنّنا نختلف بخصوص هذه الطائفة الخاصّة، فنحن نقول بأنّ هذه الطائفة الخاصّة هی الصفوة من بنی هاشم، بینما ذهبتم إلی أنّها العرب البدائیّین المعادین للعلم و المعرفة. فسلکتم إثر ذلک طریقاً مسدوداً، لم یسعکم الخروج منه سوی بتفسیرکم للعزیز الحکیم الذی یفید أنّ اللَّه قادر علی أن یبلغ بالعرب البدائیین قمّة التمدّن، و یجعلهم یتناولون العلم و لو کان فی الثریا بعد أن کانوا أعداءً حقیقیّین لهذا العلم، و أخیراً یجعل أخلاقهم إنسانیة ملکوتیة تفیض بالطهر و العفاف. و الآن نسألک هذا السؤال: أیّ دلالة فی الآیات جعلتک تستند إلی هذا المعنی؟

فقد أراد إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام أن یُبعث رسول من ذریّتهما و قد بُعث محمّد صلی الله علیه و آله، أو لیس محمّد صلی الله علیه و آله الذی ینتمی إلی ذرّیّة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام من بنی هاشم؟ أولم یسأل هذان النبیّان أن یبعث نبی من ذریّتهما؟ رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ فإذا کان محمّد صلی الله علیه و آله من بنی هاشم، فهل هناک غیر بنی هاشم مرادون بالضمیر «هم» فی کلمة «منهم»؟ قطعاً لیس لک الّا أن تجیبنا بالإیجاب. و علیه فالنبیّ محمّد صلی الله علیه و آله هاشمی، مبعوث من بنی هاشم، و هذه هی دعوة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام.

سؤال آخر:

إذا سلّمنا بأنّ محمّداً صلی الله علیه و آله قد بعث بدلالة الآیة من بنی هاشم، فمن هم الأفراد

ص: 78

الذین سأل إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام أن یقوم هذا النبی الهاشمی بتعلیمهم و تربیتهم؟

فقد صرّح القرآن قائلًا: رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ(1) أو لیست الآیة صریحة بأنّ هذا الرسول الهاشمی منتخب من بین الهاشمیین، أی أنّه یعلم و یزکّی فریقاً منهم؟ و هل من الصواب القول أنّ معنی الآیة هو أن یقوم هذا النبی الهاشمی المبعوث من بنی هاشم بتعلیم و تزکیة عامّة البدو من العرب؟ سنترک الجواب للقُرّاء الأعزاء بعیداً عن التعصّب و اللفّ و الدوران. و علیه: فإنّنا سنخرج صاحب المنار من ذلک الطریق المسدود، فنقول: إنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام سألا اللَّه أن یبعث رسولًا من طائفة من ذریّتهما. و لمّا کانت الطائفة التی بعث منها رسول اللَّه صلی الله علیه و آله هی بنی هاشم، فإنّ المبعوث من هذه الطائفة- بنصّ الآیة- لا بدّ أن یقوم بتعلیم و تزکیة هذه الطائفة، و أمّا الطائفة التی کانت تدور فی ذهنک و التی تستلزم الدعوة الخاصّة لمهمّة خاصّة، لیست إلّا طائفة من بنی هاشم، و لذلک نقول: إنّ آباء محمّد صلی الله علیه و آله قد سألا اللَّه أمرین أساسیین: ظهور رسالة النبی العالمی للإسلام فی طائفة من ذرّیتهما، و الإمامة العالمیة للدین فی نفس تلک الطائفة، الإمامة التی یتلقّی الأئمّة علومها علی ید رسول اللَّه و دروسه الخاصّة لینهضوا بزعامة المسلمین إلی الأبد. و علی ضوء ما تقدّم لا یرد ذلک الوهم فی أنّه کیف سأل إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام اللَّه أمراً مشکلًا بل محالًا عادیاً لکی یجاب علیه من خلال عزّة اللَّه و حکمته. و هنا یبرز هذا السؤال: هل نهض النبی صلی الله علیه و آله بوظیفة تزکیة و تعلیم هذه الطائفة المعیّنة؟ و الجواب سیکون بالسلب؛ لأنّ النبی صلی الله علیه و آله مارس وظیفته من أجل تعلیم و تزکیة الجمیع بما فیهم البدو من العرب و العجم و الأُوربیین و غیرهم. و القرآن لم


1- سورة البقرة،: الآیة 129.

ص: 79

یصرّح بأنّه معلّم خاص، بل صرّحت الآیات بعمومیّة تعلیمه للجمیع، من قبیل الآیة: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ(1). فالآیة الکریمة صریحة فی عمومیة تعلیم و تربیة رسول اللَّه للُامّة، و کذلک الآیة الکریمة من سورة الجمعة، رغم أنّها خصّت تعلیم الرسول بالامیّین و عرب مکّة و أُمّ القری، إلّا أنّها أزالت تلک الخصوصیة و منحت ذلک التعلیم بعداً عمومیاً، فقالت: هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ* وَ آخَرِینَ مِنْهُمْ لَمَّا یَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ(2). کما صرّحت الآیة: کَما أَرْسَلْنا فِیکُمْ رَسُولًا مِنْکُمْ یَتْلُوا عَلَیْکُمْ آیاتِنا وَ یُزَکِّیکُمْ وَ یُعَلِّمُکُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُعَلِّمُکُمْ ما لَمْ تَکُونُوا تَعْلَمُونَ(3). و بناءً علی هذا فالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله معلّم عام للناس کافّة، و لا نرید أن نقول بأنّ التعلیم إنّما یقتصر علی طائفة محدودة هی طائفة من بنی هاشم، بل نقول: إنّ دعوة إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام هی قیام النبی محمّد صلی الله علیه و آله من أجل تربیة و إعداد هذه الصفوة من أهل بیت النبوّة، و هذا ما لم یتحفّظ علیه جملة من مفسّری العامّة التی أوردت فی تفاسیرها لهذه الآیات کلمة «أهل البیت». و قد کان حدیث أبی عمرو الزبیری عن الإمام الصادق علیه السلام الذی أوردناه سابقاً صریحاً فی هذا المعنی. و لا بأس بدراسة سائر الآیات بهذا الخصوص من أجل توضیح المراد بما


1- سورة آل عمران: الآیة 164.
2- سورة الجمعة: الآیة 2- 3.
3- سورة البقرة: الآیة 151.

ص: 80

لا یبقی معه مجال للشکّ، ففی الوقت الذی یعتبر فیه القرآن الکریم تعلیم الکتاب و الحکمة لکافّة الناس، نراه قد صنّف مثل هذا التعلیم لینتقل به من الاختصاص إلی العموم؛ أی أنّه خصّ التزکیة و التعلیم بالأنبیاء و من الأنبیاء إلی طائفة خاصّة و من هذه الطائفة إلی عامّة الناس، و لا یسعنا هُنا إلّا أن نستعرض هذا التصنیف کما صرّح به کتاب اللَّه: 1- قال اللَّه تعالی بشأن عیسی علیه السلام: وَ یُعَلِّمُهُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِیلَ(1)، و خاطب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله قائلًا: وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَیْکَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ عَلَّمَکَ ما لَمْ تَکُنْ تَعْلَمُ وَ کانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَیْکَ عَظِیماً(2). فالآیتان الکریمتان و أمثالهما مختصّتان بأنبیاء اللَّه، فاللَّه هو معلم عیسی و محمّد صلی الله علیه و آله، و قد تولّت الذات الإلهیّة المقدّسة تعلیم الأنبیاء الکتاب و الشرائع و أسرار الحکمة، فاللَّه هو المربّی و النبیّ هو التلمیذ و علم الکتاب و الحکمة هی المواد الدراسیة. 2- قام الأنبیاء فی بعض الأحیان بوظیفة التعلیم الخصوصی، فأعدّوا طائفة من المتخصّصین فی علم الکتاب و الحکمة و تزکیة النفس و تهذیبها، فقد علّم الخضر موسی علیه السلام، کما کان أمیر المؤمنین علیه السلام التلمیذ الممتاز الخاصّ للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله، حیث قال: «علّمنی ألف باب»(3) و قد تتلمّذ هارون علی ید أخیه موسی علیه السلام، کما تتلمّذ الحواریون علی ید عیسی علیه السلام. و أوضح آیة یمکننا الاستشهاد بها بشأن تعلیم النبی الخاصّ لتلامذته و خاصّته من أهله، هی التی نخوض فی بحثها وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ. 3- أمّا الآیات التی تدلّ علی عمومیة رسالة النبی صلی الله علیه و آله و کون التهذیب


1- سورة آل عمران: الآیة 48.
2- سورة النساء: الآیة 113.
3- الإرشاد للمفید 1: 34، إعلام الوری 1: 318، بحار الأنوار 40: 144 ح 50.

ص: 81

الأخلاقی و التعلیم و التزکیة عامّة للجمیع، فهی الآیة الثانیة من سورة الجمعة و الآیة 151 من سورة البقرة و الآیة 164 من سورة آل عمران التی ذکرناها سابقاً. فالذی تفیده الآیات الواردة فی هذا الباب هی: 1- أنّ الأنبیاء تلامذة مدرسة الوحی. 2- الأنبیاء أساتذة المجتمعات البشریة. 3- تلامذة الأنبیاء علی قسمین: تلامذة متفوّقون یتعلّمون و یتزکّون مباشرة من قبل النبی و تعلیمه الخاصّ، و تلامذة اعتیادیون یتلقّون تعلیم النبی و هدایته و إرشاده العام. 4- المهمّ فی جمیع هذه المدارس هو تعلیم کتاب اللَّه و الحکمة، فاللَّه یعلّم أنبیاءه کتابه من خلال الوحی کما یعلّمهم أسرار الخلقة و الدین، فیقوم الأنبیاء بتعلیم هذه الأُمور بصورة خاصّة إلی التلامذة المتفوّقین الذین یضاهون الأنبیاء بلطف اللَّه فی إخلاصهم و طاعتهم و تسلیمهم للَّه، کما یقومون بأنفسهم أو بواسطة هؤلاء التلامذة الأکفّاء بتعلیم هذه المواد العلمیة إلی عامّة التلامذة.

إشکال مهمّ:

کان البحث فی أن تستنبط قضیة الإمامة من الکتاب، و قد استشهدنا بالآیات المرتبطة بدعوة إبراهیم علیه السلام علی أنّ مبدأ الإمامة قد طرح منذ زمان إبراهیم علیه السلام، و الشرائط التی ینبغی أن تتوفّر و تکتمل فی الإمام هی الوقوف التام علی کتاب اللَّه و أسرار الدین، و اشتماله علی النفس الزکیة و الروح السامیة، التی لا یشوبها أدنی دنس أو سابقة من شرک و ظلم و رجس أخلاقی و عبادة للهوی و الهوس و الخرافات. و قد تمسّکنا- لإثبات هذا الأمر- بذیل الآیة التی قالت: وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ ... و الحال أنّ هذه الآیة وردت بشأن تعلیم و تزکیة

ص: 82

عامّة المسلمین، و قد ورد فی القرآن قوله: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ(1). و بناءً علی هذا فکما یتمتّع الإمام بتعلیم و تزکیة النبی، فإنّ هذا التعلیم و التزکیة یشملان عامّة المسلمین، فأیّ امتیاز للأئمة ورد فی هذه الآیات؟ فکما أنّ النبی معلّمهم و مواده الدراسیة هی الکتاب و الحکمة و التزکیة، فهو معلّم الجمیع و یعلّمهم ذات المواد، فلیس هنالک أیّ مزیّة للأئمّة علی غیرهم، فی أنّهم تلامذة مدرسة الوحی، و أنّ لهم اطّلاعاً و إحاطة بجمیع کتاب اللَّه و أسرار الشریعة و یشتملون علی کافّة الکمالات الإنسانیة، فلو کانوا کذلک، لکان کلّ تلمیذ فی هذه المدرسة کذلک أیضاً؛ لأنّ الآیات لم تثبت سوی کون النبی صلی الله علیه و آله معلّماً لهم بصورة خاصّة و لعامّة الناس بصورة عامّة و کون المواد الدراسیّة نفسها. هذه خلاصة الإشکال الذی قد یقتدح فی ذهن مَن لیس له معرفة بالقرآن الکریم، و هنا لا بدّ من الالتفات إلی أصل القضیة لیتّضح الأمر. فقد سأل إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام أمرین مهمّین هما: 1- بعث نبیٍّ من ذریّتهما من طائفة بنی هاشم. 2- قیام النبی المبعوث من هذه الطائفة بتعلیم و تزکیة طائفة من أهل بیت النبوّة، بحیث ینهض رسول اللَّه بهذه الوظیفة مُباشرة دون واسطة. و بناءً علی هذا فإنّ مثل هذا التعلیم الخاص کان غایة و دعوة إبراهیم و ولده إسماعیل علیهما السلام، و قد أُجیبت دعوتهما، أی قد بعث نبی من هذه الطائفة، کما قام الرسول بوظیفته التعلیمیة مُباشرة، و لا تعنی استجابة الدعاء أنّ إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام یریدان فیقوم النبی و یمارس وظیفته التعلیمیّة دون أن یکون للأئمّة من دور فی هذا الأمر، بل معنی استجابة الدعاء هو ظهور أفراد أشدّاء و أزکیاء


1- سورة آل عمران: الآیة 164.

ص: 83

و عُلماء بکتاب اللَّه و آیات الرحمن، و من ذوی البصائر بفلسفة الدین و أسرار الخلیقة. و دلیل هذا الظهور أنّهم فی الوقت الذی یعیشون الإخلاص و التسلیم، و تنبض قلوبهم بالتوحید و عشق الحق، فقد کانوا یتضرّعون لأن یظهر مثل هؤلاء الأفراد فی هذه الطائفة یتّصفون بالإخلاص فی العبودیة للَّه، و یعیشون الانقطاع و التسلیم للَّه و الطهارة من کلّ رجس و دنس، و علیه: فهذه الطائفة المخلصة کانت تمتلک الاستعداد الروحی، و قد تعلّمت و تزکّت بفضل هذا الاستعداد فی مدرسة الرسالة تحت إشراف النبی الأکرم صلی الله علیه و آله و تعلیمه الخاصّ. و لعلّ کلمات أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی نهج البلاغة بشأن کیفیّة ترعرعه فی حضن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و السموّ و الکمال الذی بلغه فی ظلّ العنایة التی أولاها إیّاه النبی صلی الله علیه و آله و منزلته الخاصّة لدیه إشارة إلی هذا المعنی، فقد قال علیه السلام: «وضعنی فی حجره و أنا ولد یضمّنی إلی صدره، و یکنفنی إلی فراشه، و یمسّنی جسده و یشمّنی عرفه، و کان یمضغ الشی ء ثمّ یلقمنیه، و ما وجد لی کذبة فی قول، و لا خطلة فی فعل. و لقد قرن اللَّه به صلی الله علیه و آله من لدن أن کان فطیماً أعظم ملک من ملائکته یسلک به طریق المکارم، و محاسن أخلاق العالم لیله و نهاره. و لقد کنت أتّبعه اتّباع الفصیل أثر امّه، یرفع لی فی کلّ یوم من أخلاقه علماً یأمرنی بالاقتداء به، و لقد کان یجاور فی کلّ سنة بحر فأراه و لا یراه غیری، و لم یجمع بیت واحد یومئذ فی الإسلام غیر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و خدیجة و أنا ثالثهما، أری نور الوحی و الرسالة، و أشمّ ریح النبوّة، و لقد سمعت رنّة الشیطان حین نزل الوحی علیه صلی الله علیه و آله فقلت: یا رسول اللَّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشیطان آیس من عبادته، إنّک تسمع ما أسمع و تری ما أری، إلّا أنّک لست بنبیّ، و لکنّک وزیر و إنّک لعلی خیر»(1).


1- نهج البلاغة لمحمد عبده: 436- 437.

ص: 84

فکلمات أمیر المؤمنین علیه السلام تجیب عن کلّ دعوات إبراهیم علیه السلام و توضّح استجابة دعائه. فقد سأل إبراهیم علیه السلام اللَّه أن یتصدّی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لتعلیم و تزکیة طائفة من ذریّته، فیقول أمیر المؤمنین علیه السلام: وضعنی فی حجره و أنا ولد یضمّنی إلی صدره، و یکنفنی إلی فراشه و یُمسّنی جسده، و یُشمّنی عَرفه، و کان ... یرفع لی فی کلّ یوم من أخلاقه علماً، و یأمرنی بالاقتداء به، و قد جهد نفسه فی تربیتی و تزکیتی حتّی أصبحت أری ما یری و أسمع ما یسمع، و لم یعد هناک من فارق بیننا سوی فی النبوّة و حقیقة الرسالة، فلما رأی ذلک منّی قال صلی الله علیه و آله: إنّک لست بنبیّ، و لکنّک وزیر و إنّک لعلی خیر. فهؤلاء- أی بنی هاشم- هم مفاد الآیة وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ. أمّا سائر الآیات فلیست لها من دلالة علی قیام النبی بمثل هذه الوظیفة تجاه سائر الناس، و ذلک لأنّ سائر الآیات لا تفید أنّ کافّة الناس یملکون استعداداً لتقبّل هذه التعلیمات، أو أنّ النبی صلی الله علیه و آله کان مجبراً علی أساس وظیفته الشخصیّة علی إیصال کافّة الناس إلی تمام مراحل الکمال و تهذیب النفس و أسرار الدین، بل کانت الوظیفة فی أن یلقی النبی صلی الله علیه و آله دروسه العلمیة التربویة، و یحیط الآخرین علماً بالآیات القرآنیة و الأحکام و التعالیم الإسلامیة و الأسرار الدینیة، و لکن هل تبلغ الأُمّة تمام هذه المراحل و تحیط بکافّة أسرار القرآن و تسلّم لتعلیمات محمّد صلی الله علیه و آله و آیات القرآن؟ لم تبحث مثل هذه الأُمور فی الآیات القرآنیة، کلّ ما هنالک هو أنّ القرآن الکریم قد أکّد فی أکثر من آیة أنّ وظیفة النبی صلی الله علیه و آله تجاه الناس لیست بإیصالهم إلی آفاق العلم و التهذیب و الکمال، بل وظیفته إضاءة الطریق و التعریف بمعالم الدین و الطرق التربویة العلمیة، فمن أراد أن یبلغ هذه الحقائق وجب علیه أن یبذل جهده و یستفرغ وسعه فی اتّباع المبادئ الإسلامیة، و من لم یرد فعلی نفسه

ص: 85

لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقی لَا انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ(1). بل القرآن یؤکّد أنّ وظیفة النبی صلی الله علیه و آله هی بیان الحقائق، و الأُمّة مکلّفة بالتفکیر فی هذه الحقائق و اتّباعها: وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ(2). و أخیراً فإنّ القرآن لم یأمر النبی صلی الله علیه و آله بحمل الناس بالقوّة علی التعلیم و التهذیب، بل وظیفته الإبلاغ و الإنذار، و وظیفة الأُمّة التدبّر فی التعالیم، فقد صرّحت الآیة قائلة: کِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْکَ مُبارَکٌ لِیَدَّبَّرُوا آیاتِهِ وَ لِیَتَذَکَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ(3)، بل سلب القرآن عن النبی صلی الله علیه و آله القیام بهذا الأمر: فَذَکِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَکِّرٌ* لَسْتَ عَلَیْهِمْ بِمُصَیْطِرٍ(4). و علیه: فالآیات لا تصرّح بأکثر من وظیفة عامّة للنبی صلی الله علیه و آله فی إبلاغ القرآن و الأحکام و سبل التعلیم و التربیة و التزکیة، و الأُمّة مخیّرة بین الاتّباع و عدمه. أمّا الآیات التی نحن بصددها و بقرینة أنّ طائفة بنی هاشم بدعاء إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام أنّها تمثّل العبودیة و التسلیم المحض للَّه، و بقرینة وظیفة النبی بتعلیمهم و تزکیتهم مُباشرة دون واسطة، إلی جانب تصریح أمیر المؤمنین علیه السلام بقیام النبی بهذه الوظیفة المهمّة، و بقرینة ما هو أهم من دعاء الأجداد و هو إرساء مقام الإمامة، فإنّ هؤلاء عُرفاء بفنون القرآن، و خبراء بفلسفة الأحکام، و بُصراء بأسرار الکتاب، و علماء بحکمة الخلیقة و الکون، و علیه فإنّنا نستطیع أن نقول بأنّ


1- سورة البقرة: الآیة 256.
2- سورة النحل: الآیة 44.
3- سورة ص: الآیة 29.
4- سورة الغاشیة الآیتان 21- 22.

ص: 86

الآیة الکریمة تفید أنّ هؤلاء زُعماء وقادة و فقهاء فی الدین، و عُلماء بتعالیم الإسلام، و خُبراء ببرامج و خطط القرآن، و عُرفاء بالسیاسة و النظم الاجتماعیّة و بکافّة خفایا و مغیبات العالم. فالآیة الشریفة بصدد بیان مقام و شخصیة الإمام و شرائط إمامة المسلمین من وجهة نظر القرآن الکریم. و علیه: فالفارق فی النتیجة هو أنّ النبیّ- المعلّم الأوّل- هو مربّی طائفة من بنی هاشم، و نتیجة هذا الأمر مفیدة للغایة و قیّمة، و نفس هذا النبی معلّم لعامّة الناس، إلّا أنّ نتیجة هذا الأمر تعتمد علی نفس المسلمین، و معلوم أنّ توقّع النبی من الطائفة الأُولی لا یمکن أن یکون کتوقّعه من عامّة الناس أبداً. و هذا ما أشار إلیه أمیر المؤمنین علی علیه السلام إذ قال: «لا یُقاس بآل محمّد صلی الله علیه و آله من هذه الأُمّة أحد، و لا یُسوّی بهم من جرت نعمتهم علیه أبداً، هم أساس الدین و عماد الیقین، إلیهم یفی ء الغالی، و بهم یلحق التالی، و لهم خصائص حقّ الولایة، و فیهم الوصیة و الوراثة»(1). و قال علیه السلام: «آل النبی علیه الصلاة و السّلام موضع سرّه و لجأ أمره و عیبة علمه و موئل حکمه و کهوف کتبه و حبال دینه، بهم أقام انحناء ظهره و أذهب ارتعاد فرائصه»(2).

فقول أمیر المؤمنین علیه السلام یفید أن لیس هنالک سوی أهل البیت الذین لهم الإحاطة بالدین، و هم عیبة علم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، و ملاذ المسلمین فی النوائب و المصائب، و هذا دلیل علی صحّة ما أوردناه سابقاً بشأن الآیات التی صرّحت بهذا الأمر، حیث أثبتنا حینها أنّ الأئمّة علیهم السلام و بفضل التعلیم المُباشر لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله لهم معرفة و اطّلاع کامل علی جمیع أسرار القرآن و کافّة شئون الإسلام و الحوادث الغیبیة و الخفایا الکونیة، کما یؤکّد علی أنّ تعلیمات النبی و إن کانت عامّة


1- نهج البلاغة لمحمّد عبده: 82- 83.
2- نهج البلاغة لمحمّد عبده: 82- 83.

ص: 87

و للمسلمین أن یغترفوا من هذه العلوم و المعارف القرآنیة و الأسرار الدینیة، غیر أنّه لا یمکن مقارنتهم قط بآل محمّد صلی الله علیه و آله، فهم معدن العلم و الحکمة، و إلیهم یفی ء الغالی و بهم یلحق التالی، و لا یستند أحد إلی علمه بشأن الدین إلّا أن یخرج عن الاعتدال أو یتخلّف عن قافلة المسلمین، و بناءً علی هذا فالإشکال السابق الذی یُطرح بشأن مزیة الأئمّة علیهم السلام لیس بوارد، حیث دلّتنا الآیات الکریمة علی فضلهم و سبب ترجیحهم.

فهرس الکتاب إلی هنا:

ما مرّ معنا لحد الآن بعض الأُسس المتینة فی الإمامة، نشیر إلی فهرسها بصورة مختصرة: 1- الدین الإسلامی دین خالد و علی هذا الدین أن یعتمد السبل التی من شأنها الإبقاء علی أبدیّته. 2- یقتضی حکم العقل أن یوفّر کلّ ذی هدف إذا أراد لهدفه الإتقان کافّة العلل و الأسباب التی تؤثّر فی تحقیق الهدف و ثباته، و لمّا أراد الحقّ الخلود للدین الإسلامی فبحکم العقل قد أعدّ موجباته، و بخلافه سینتقض الغرض، و تتصدّع عری الدین و اسس الإسلام. 3- لقد تکفّل الحقّ بنصب الأئمّة علی ضوء الآیات القرآنیة و الأخبار التی صرّحت بهذا الأمر، بغیة الحیلولة دون فناء الدین و بقاء کلمة التوحید، و إعداد العناصر و الأفراد الذین بلغوا قمّة الکمال الإنسانی و الذین یعدّون الخلق إلی العالم الأُخروی الأبدی. 4- الأئمّة علی ضوء تصریح و نصّ رسول اللَّه هم اثنا عشر، و قد أشرنا سابقاً إلی هذا الأمر، و سیأتی تفصیله فی المجلد الثانی من الکتاب.

ص: 88

5- لأئمّة الإسلام وظیفة فی زعامة الأُمّة و هدایتها، و هدفهم إقامة النظام الاجتماعی علی ضوء القرآن و السنّة النبویّة. 6- إمامة أئمّة الإسلام خالدة أبدیّة. 7- واجب الأُمّة تجاه هؤلاء الأئمّة هو الانقیاد و الطاعة و التسلیم، و ذلک بفضل مزایاهم فی کافّة شئون الزعامة و الإمامة. 8- الإمام کما یصفه أمیر المؤمنین و الإمام الحسین علیهما السلام من یقوم للَّه بهذه الوظیفة، و یعمل بالعدل و القسط و الانتصار للمظلوم و إنقاذ الضعفاء و إعمار البلاد و ضمان حقوق الأفراد، و إحیاء معالم الدین و سنن القرآن، و عدم الاغترار بالدنیا و زخارفها. و نخوض الآن فی شرائط الإمامة رغم اتّضاح هذا الأمر من خلال الأبحاث السابقة، و لکن قبل الدخول فی تفاصیل هذا الأمر، لا بدّ من التعرّض إلی:

سؤال یثیر الأسف:

لقد ذکرتم بأنّ القرآن الکریم أشار إلی مکانة و منزلة الإمام، و أنّه یستند فی تشکیله للحکومة إلی القرآن الذی یعتبر هو الدستور، و قلتم بأنّ القرآن یری الأئمّة هم زعماء الأُمّة الذین یقیمون حکم اللَّه و یعملون علی إحقاق حقوق الأُمّة و إعمار البلاد، و قلتم و قلتم ... و هنا یرد هذا السؤال الذی یثیر الأسی و الأسف، فإذا کان الإمام بهذه المنزلة التی رسمها القرآن و حدّد معالمها، لِمَ لم یصبح الأئمّة الأطهار زُعماء للُامّة؟ و إذا کانت وظیفة الإمام تکمن فی القیام من أجل ضمان مصالح المجتمع و بسط العدل و القسط فی ربوع البلاد، لما ذا لم ینهض أئمّة الإسلام و اعتزلوا الساحة، و لم یتزعّم أحد منهم الحکومة سوی أمیر المؤمنین علی علیه السلام؟

أ فلم ینصّبهم اللَّه أئمّة؟ و القرآن یدعو لقیام الحکومة الإسلامیة بزعامة هؤلاء

ص: 89

الصفوة! و هل هذا النصب الذی لم یکن له من یشغله و هذه الحکومة التی نهض بها من لیس لها بأهل! أ فلا یدعو هذا الأمر إلی أنّ ذلک النصب و التصریح بزعامة هؤلاء للحکومة کان لغواً و عبثاً؟

الجواب:

هذا السؤال مؤسف، مؤسف فی أنّه لِمَ لم یتزعّم أولیاء اللَّه الحکومة، فی حین وقعت بید بنی أُمیّة و بنی العباس! و هنا لا بدّ من القول بأنّ المراد لم یکن حتمیة تزعّم الصفوة للحکومة، بل کان الحدیث فی أنّ القرآن یری أنّ هذه الصفوة هی الجدیرة بمقام الإمامة و زعامة الحکومة الإسلامیة. هذا هو مشروع الإسلام و تخطیط القرآن، أمّا المنفّذ لهذا المشروع فهو الأُمّة، الأُمّة کانت موظّفة بإقصاء بنی أُمیّة عن الحکم و الانقیاد لأولیاء اللَّه من بنی هاشم، إلّا أنّها لم تفعل و لم تنفّذ الخطّة القرآنیة، کما ولّت ظهرها لسائر أحکام القرآن و تعالیم الإسلام، فهل یعتبر قانون تحریم المسکرات لغواً إذا ما تفشّت هذه المسکرات فی أوساط المجتمع؟ أم أنّ التحریم صائب لکن الأُمّة شقیة، مع ذلک لا بدّ من القول بأنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام قد نهضوا و قاموا و سیأتی الیوم الذی تشکّل فیه حکومة العدل الإلهی العالمیة، و سنترک تفاصیل هذا الأمر إلی المجلد الثانی، لیعلم حینها أنّ الأئمّة علیهم السلام قد نهضوا بالأمر ما استطاعوا إلی ذلک سبیلا، و قد شکّلوا الحکومة الحقّة أو کشفوا للآخرین عن معالمها، و أخیراً رسموا طریق الحقّ حتّی فی حکومة الآخرین ... سنتابع الإجابة عاجلًا.

ص: 90

ص: 91

قبسات من شرائط الإمامة

اشارة

هنالک عدّة أُمور من شأنها کشف النقاب عن شرائط الجهاز الحاکم و النهوض بمهمّة الزعامة و الإمامة مِن قبیل: خلود هذه الزعامة و اعتماد القرآن دستوراً للحکومة الإسلامیة، و إیصال الأُمّة إلی بغیتها و طموحها، و تحقیق أهدافها الإنسانیة العُلیا، و بسط العدل و القسط، و إشاعة مفاهیم الإیمان، و القضاء علی الفتن و المفاسد و الانحرافات، و تحقیق استقلال البلاد، و القیام بکلّ هذه الامور للَّه و فی اللَّه، و الابتعاد عن زخارف الدنیا و زبرجها و عدم الاغترار بها، و الشفقة و الرأفة بالرعیة، بحیث لا یسلب نملة جلباب شعیرة، کما قال أمیر المؤمنین علی علیه السلام(1) و الاغتمام و التألّم من الاعتداء علی حقوق المسلمین، إلی جانب ذلک نری ضرورة التعمّق فی القرآن الکریم من أجل الوقوف علی هذه الشرائط، و ما أورده علماء الکلام بهذا الشأن.


1- نهج البلاغة لمحمد عبده: 495.

ص: 92

خلاصة شرائط الإمامة:

1- العصمة 2- الأفضلیة و الأرجحیة 3- عدم الاشتمال علی الظلم و الشرک 4- العلم التامّ و الإحاطة بالقرآن و الأحکام الإسلامیة 5- الکرم 6- الزهد 7- الحلم 8- سداد الرأی 9- الفصاحة 10- الشجاعة 11- المروءة و الشهامة 12- طهارة المولد 13- سلامة البدن و عدم النقص فی الخلقة. هذه نبذة من الصفات التی ینبغی توفّرها فی الإمام، و هناک صفات أُخری یمکن إیجازها فی هذه العبارة: «أفضلیته فی جمیع الکمالات النفسیة علی سائر الأفراد و اشتماله علی کافّة الشرائط، و تمتّعه بالسلامة الجسمیة التامّة الخالیة من النقص و العیب».

بحث فی تفاصیل هذه الشرائط:

علل الزعامة: لا تعتبر الزعامة بطبعها أمراً تعاقدیاً و لو تقدّمت جماعة علی أُخری؛ فإنّ هناک عناصر توجب مثل هذا التقدّم، من قبیل التمتّع ببعض المزایا التی

ص: 93

تجعل البعض یتقدّم علی البعض الآخر الذی لا یتحلّی بمثل هذه المزایا، الأمر الذی یحتّم علی الفاقد اتّباع الواجد و الخضوع له. فلو کان هناک طفل أعقل و أفضل و أرأف و أکفأ من سائر الأطفال؛ فإنّه یلفت نظرهم إلیه و یُشار له بالبنان فی محلّته بما یجعله رئیساً لهم فی اللعب مثلًا. و لو کان هناک فی السوق فرد ذو کفاءة و درایة، و کان بعیداً عن الغشّ و التدلیس فی معاملاته و ذا أفکار تفید الآخرین فی التجارة، و یعتمد العفو و الشجاعة و الأخذ بید الضعفاء و إعانة الفقراء من أهل السوق، فممّا لا شکّ فیه أنّه سیصبح قدوة للآخرین الذین یرون أنفسهم مضطرّین لاتّباعه و اقتفاء أثره، و بالتالی سیحتلّ موقعاً یجعله مرشداً و هادیاً لزملائه فی العمل.

و هکذا سائر الموارد. و تصدق هذه القضیة بالنسبة للشرائط التی یری الإسلام إیجابها لنهوض بعض الأفراد بقیادة الامّة. و الذی نرید أن نخلص إلیه هو عدم وجود القیود المفروضة من قِبل الإسلام علی إشغال هذا المنصب، بل هنالک شرائط مطلوبة یقتضی الطبع السلیم و الفطرة الطاهرة توفّرها فی الإمام، فطبیعة فطرة الإنسان تقوده إلی اختیار مثل هؤلاء الأفراد الذین یتمتّعون بهذه المزایا.

سؤال:

یمکن أن یُطرح سؤال، و هو إذا کانت هذه الشرائط متوافرة فی شخص فمن الطبیعی علی الأُمّة أن تختاره زعیماً و لا تری لغیره مثل هذا المقام، فکیف اعتبرت- فیما مضی- قضیّة الإمامة انتصابیة، و أثبتَّ أنّ الإمامة من المناصب الإلهیة المرادفة للنبوّة و التی تتعیّن من خلال الوحی؟ فهل هناک من حاجة لهذا النصب الإلهی إذا کانت الشرائط المذکورة متوفّرة؟ فإنّه من الطبیعی لواجد هذه الشرائط أن ینتخبه الناس.

ص: 94

الجواب:

أوّلًا: کما قیل سابقاً فإنّ الانتخاب الصائب أمر فرضی، و لا یمکن لهذا الانتخاب أن یتحقّق فی المجتمعات التی یقودها الظلمة الذین یتلاعبون بمقدّرات الأُمّة، و هذا ما لمسناه فی التجربة الإسلامیة التی هبّ فیها الظلمة لحرفها عن مسارها الصحیح. ثانیاً: علی فرض إمکانیة حدوث الانتخاب الصائب فهناک مشکلة عویصة تکمن فی تعذّر تشخیص الأُمّة للفرد الجامع لهذه الشرائط، بل مثل هذا الأمر محال علی الأُمّة، بسبب ضعف قدرة تشخیصها، و لذلک کانت هذه المهمّة للَّه المحیط بکافّة خصائص الأفراد إِنَّ اللَّهَ بَصِیرٌ بِالْعِبادِ(1). و الآن لا بدّ أن أنّه نری هل تعرّض القرآن الکریم لهذه الشرائط المعتبرة فی الإمام؟ و علی فرض استعراض القرآن لهذه الشرائط، هل اعتبر النجاح و الموفقیّة کامنة فی هذه الشرائط؟ و بعبارة أُخری: هل یحکم القرآن بما تحکم به الفطرة بالنسبة لمقام الإمامة و یمضی هذا الحکم، أم یفرض إرادته فی هذا النصب بما لا ینسجم و العقل و الفطرة السلیمة؟

القرآن و شرائط الإمامة

قلنا- سابقاً- بأنّ إبراهیم علیه السلام قد أصبح إماماً بعد أن اجتاز الاختبارات السبع، و قد تمثّلت مواد الاختبار بامتلاک القدرة العمیقة من أجل الزعامة و المنطق القوی الاستدلالی و الشجاعة و الزهد و المروءة، و فی مقدّمتها الشجاعة فی مجابهة


1- سورة غافر: الآیة 44.

ص: 95

الأفکار السائدة القائمة علی أساس الجهل و الخرافة، فقد کان إبراهیم علیه السلام شدیداً فی التنمّر للحقّ مضحّیاً فی سبیل اللَّه. کلّ هذه الامور أعدّت إبراهیم علیه السلام للإمامة، حتّی أفاضها اللَّه علیه، و علیه فقصّة إبراهیم علیه السلام قد رکّزت علی شرائط الإمامة، مع ذلک سنحاول دراسة سائر الآیات الواردة بهذا الشأن.

ص: 96

ص: 97

أَ لَمْ تَرَ إِلَی الْمَلَإِ مِنْ بَنِی إِسْرائِیلَ مِنْ بَعْدِ مُوسی إِذْ قالُوا لِنَبِیٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِکاً نُقاتِلْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِیارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِیلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِیمٌ بِالظَّالِمِینَ. وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طالُوتَ مَلِکاً قالُوا أَنَّی یَکُونُ لَهُ الْمُلْکُ عَلَیْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْکِ مِنْهُ وَ لَمْ یُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَیْکُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِی الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ یُؤْتِی مُلْکَهُ مَنْ یَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ. وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَنْ یَأْتِیَکُمُ التَّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ بَقِیَّةٌ مِمَّا تَرَکَ آلُ مُوسی وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِکَةُ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ (سورة البقرة: الآیات 246- 248).

ص: 98

ص: 99

طلب قائد للجیش

تتحدّث هذه الآیات عن قصّة نبی من أنبیاء بنی إسرائیل، و طلب أتباعه منه بعث ملک و قائد من أجل استعادة الأراضی السلیبة، و نتعرّف فی هذه القصة علی شخص باسم طالوت الزعیم المصطفی من قِبل اللَّه، و جالوت الدکتاتور الغاشم، فقد نزح بنو إسرائیل عن وطنهم من جرّاء قهر جالوت و جبروته، و قد ترکوا أموالهم و أبناءهم فی قبضة جیش جالوت لیعیشوا بعیدین عن وطنهم، فسألوا نبیّهم أن یبعث لهم قائداً لمقاتلة جالوت و استعادة أراضیهم و العودة إلی دیارهم و أبنائهم فاستجاب لهم نبیّهم، فاصطفی لهم اللَّه طالوت قائداً. و لکن لم یصمد للقتال إلّا فئة قلیلة من تلک الجماعة العظیمة، و أخیراً تمکّنت تلک الفئة القلیلة بعد الاتّکال علی اللَّه و الصبر و الصمود من إلحاق الهزیمة بالعدو و الانتصار علیه. و نحاول الآن تسلیط الضوء علی هذه الآیات للوقوف علی بعض الأُمور: فقد طلبت جماعة عظیمة من نبیّها أن یختار لها قائداً من أجل التخلّص من الأسر و النزوح و خوض معرکة مقدّسة (فی سبیل اللَّه) فأراد ذلک النبی أن یعرف

ص: 100

مدی استعدادهم للقِتال، فطرح علیهم هذا السؤال: هل أنتم مستعدّون لخوض القتال إذا کُتب علیکم؟ فأجابوه جمیعاً: و ما لنا ألّا نُقاتل فی سبیل اللَّه، بعد أن فقدنا کلّ شی ء!

ملاحظة مهمّة:

لقد استعدّت تلک الجماعة و تأهّبت للقِتال من أجل استعادة وطنهم و تحریره من المحتلّین الظلمة، و قد فوّضوا لنبیّهم اختیار قائد یقودهم. و هنا ورد التعبیر عن هذه المعرکة بالقتال فی سبیل اللَّه، و علیه: فإنّ القتال من أجل استقلال البلاد و تطهیرها من دنس الأعداء یعتبر قتالًا فی سبیل اللَّه، و لمّا کان الهدف الأصلی فی مثل هذه المعارک إحیاء معالم الأنبیاء و معارف الدین و تحقق کلمة التوحید، فإنّ أبطال هذه المعرکة إنّما یُقاتلون فی سبیل اللَّه، و هذا هو سبیل المجد و العظمة و تنظیم شئون المجتمع و تحریره من براثن المستعمرین، أی أنّ المقاتلین و باتّکائهم علی اللَّه و القرب منه لا بدّ أن یکون هدفهم الأصلی هو تقویة الأسس الدینیة و التعالیم الإلهیة؛ و سیضاعف هذا الهدف من قدرتهم القتالیة بما یجعلهم یخرجون منتصرین من تلک المعرکة. و بناءً علی هذا لا ینبغی أن یقتصر دافع القتال علی استعادة الأراضی المحتلّة، و لا بدّ أن یکون الدافع الرئیسی هو القتال فی سبیل اللَّه، و هو الدافع الذی یتضمّن الاستقلال و التحریر أیضاً، و بالنتیجة فإنّ مثل هؤلاء المقاتلین سینتصرون و یهزمون الأعداء. إذن، فالاستقلال و النصر و طرد الأعداء لا یقتصر علی دافع حبّ الوطن فحسب، بل ینبغی أن یکون حبّ اللَّه هو الهدف، و الذی تتمکّن البشریة من خلاله تحقیق الانتصارات الباهرة و الحصول علی الاستقلال.

ص: 101

طالوت:

لقد استجاب النبی لطلب قومه، فسأل اللَّه ملکاً مقتدراً علیماً من أجل زعامة الجیش فی القتال. فبعث اللَّه طالوت ملکاً، فأخبر النبی قومه بأنّ أمیرهم المنَصَّب من قِبل اللَّه هو طالوت. أمّا طالوت فلم یکن من الطبقة المترفة الرفیعة فی المجتمع، و لم یکن ثریاً عزیزاً حسب الطرق المُتعارفة، بل کان ینتمی إلی طبقة فقیرة معدمة فی المجتمع، غیر أنّه کان قویاً لا یُضاهی فی العلم و الشجاعة، و قد زاده اللَّه بسطة فی العلم و الجسم، إلی جانب خبرته بفنون القِتال. و له قلب سلیم مملوء بحبّ اللَّه، و بالتالی فإنّ طالوت اصطفی من قِبل اللَّه من بین تلک الجماعة العظیمة للقیام بهذه الوظیفة الخطیرة، و هنا التفت النبی إلی قومه المبعدین عن وطنهم و الذین یئنّون من أسر نسائهم و فلذات أکبادهم لدی جالوت، و هم یعیشون القلق و الاضطراب من أجل استعادة وطنهم و الإطاحة بجالوت، فقال لهم: لقد بعث اللَّه لکم طالوت فهبّوا للقتال تحت إمرته. عادة ما تنصاع عامة الناس لمثل هؤلاء القادة، أمّا الطبقة المرفّهة و المتْرَفة الثریة التی تعتقد بأنّ الثروة تضفی علیهم جمالًا باطنیاً زائداً علی جمالهم الظاهری المزیّف، و حیث کانوا یمتلکون الأموال فهم یرون أنفسهم جامعین لکلّ شروط الکمال، و علیه فهم الذین ینبغی أن یتزعّموا البلاد و یأخذون بزمام الأُمور، و علی الجمیع أن یخضعوا لإرادتهم و ینصاعوا لأوامرهم، فوقفوا بوجه نبیّهم قائلین: ما ذا یعنی هذا الاختیار؟ أنّی یکون له الملک علینا و لم یؤت سعة من المال؟ هو لیس بغنی لیتزعّمنا و تکون له الإمرة علینا! أو لست إلی جانب زعامتنا یا رسول اللَّه؟ أو لیس رسالة الأنبیاء هی دعم الأغنیاء؟ أ و لیس الدین من إفرازات البنیة الفکریة للأغنیاء؟ و قد انبثقت دعوته لتأمین منافع و مصالح هذه الطبقة، فکیف تبرّر قضیة

ص: 102

انتخاب طالوت؟ نحن لا نراه لنا زعیماً، و لا نری له من مقام، و الزعامة و القیادة من حقوقنا المسلّمة، فلدینا الثروة و الأموال. هذه هی اللغة التی اعتمدها الأثریاء و الأغنیاء فی اعتراضهم علی الأمر. فأجابهم نبیّهم قائلًا: أنا رسول اللَّه و لا أنطق إلّا عن الوحی، و قد اختار اللَّه القادر الحکیم طالوتَ لإخلاصه ملکاً علیکم، فکیف ترون أنفسکم أحقّ بالإمامة و الزعامة من أجل خلاص وطنکم و إنقاذه من أیدی الظلمة، و الحال لیس لکم سوی مزیّة فارغة لا تقوی أن تمنحکم ما تریدون! کیف ترون لباس الزعامة یسعکم و لیس لکم من أفضلیة علی الآخرین سوی هذه الثروة المزیّفة؟! و هل للثراء من سبیل إلی الزعامة؟! فما العلاقة بین المال و الثروة و زعامة المجتمع! أمّا طالوت فهو جدیر بمقام الإمامة و الزعامة، لاشتماله علی شرائطها و مقوّماتها، فهو عالم مقتدر ذو بسطة و قدرة بدنیة تؤهّله للصمود أمام العدوّ، بل هو أشجع المقاتلین. إنّ إمامة الأُمّة و زعامة الجیش فی الحرب من أجل إحقاق حقوق الضُّعفاء إنّما تتطلّب فرداً عالماً، ملمّاً بفنون القتال، شجاعاً و مقداماً و متماسکاً أمام العدو، قادراً علی السیطرة علی الجیش و تحقیق النصر، و قد جُمعت کلّ هذه الصفات فی طالوت. طالوت الذی یمکنه أن یکون إماماً، بفضل اشتماله علی مقوّمات الإمامة، ینبغی أن یکون له الملک حتّی یحقّق الاستقلال، و یستعید الأراضی السلیبة، و یعید النساء و الأطفال إلی أحضان آبائهم، و یستردّ الأموال و الثروات التی نهبها الأعداء، و هذا هو الغرض من الزعامة و الإمامة، و إذا لم تکن هذه الأُمور متوفّرة فی الإمام فأنّی له حفظ استقلال البلاد و سیادتها و وحدة أراضیها و دحر العدوّ الطامع؟! فالملک للَّه، یؤتی ملکه من یشاء، و لیس لکلّ فرد التصرّف فی هذا الملک، و هو العالم بمَن یسعه القیام بمهمّة الإمامة و من هو أولی بها من غیره، و لیس بینکم

ص: 103

من هو أولی بها من طالوت. نعم، إنّ اللَّه یؤتی ملکه من تعلّقت به مشیئته، و تعلّق المشیئة لیس أمراً اعتباطیاً، فلم تتعلّق مشیئة اللَّه بطالوت عبثاً، و ما ذلک إلّا لإخلاصه و علمه الذی جعل اللَّه یختاره ملکاً و اماماً علی الناس.

خلاصة هذا البحث:

یمکن خلاصة ما مرّ من الدراسة المفصَّلة فی الآیة القرآنیة الشریفة:- وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طالُوتَ مَلِکاً قالُوا أَنَّی یَکُونُ لَهُ الْمُلْکُ عَلَیْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْکِ مِنْهُ وَ لَمْ یُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَیْکُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِی الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ یُؤْتِی مُلْکَهُ مَنْ یَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ. لم یستجب قوم بنی إسرائیل و خاصّة الملأ منهم لهذا النبیّ کعدم استجابة الغالبیة من الناس لدعوات الأنبیاء علیهم السلام، فاضطرّ ذلک النبی للإتیان بشاهد حیّ لتأیید صحّة قوله، و لیفهم الجمیع بأنّ لطالوت صلاحیة الملک و الإمامة، و لنفهم نحن أیضاً ما هو الشرط الآخر الذی ینبغی توفّره من أجل الإمامة و الشاهد الحیّ هو «التابوت».

التابوت:

وردت کلمة «التابوت» فی هذه القصّة القرآنیة، و الألف و اللام فی الکلمة تفید کون ذلک التابوت معرفة، أی کان معروفاً من قِبل بنی إسرائیل. و الذی نفهمه من القرآن أنّ ذلک التابوت کان یضمّ بعض الودائع- التی من شأنها إشعار بنی إسرائیل بالسکینة- و آثاراً ترکها موسی و هارون علیهما السلام، و یعبّر القرآن عن هذه الصورة بقوله: یَأْتِیَکُمُ التَّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ بَقِیَّةٌ مِمَّا تَرَکَ آلُ مُوسی وَ آلُ هارُونَ

ص: 104

. و قبل الخوض فی التفاصیل لا بدّ من القول بأنّ التابوت یعنی الوعاء و الصندوق. فقد ورد فی اللغة أنّ التبوت، کصبور: لغة فی التابوت(1). و قیل: هو صندوق التوراة من خشب(2). و أمّا الأُمور التی تستفاد من الآیة فهی: 1- أنّ ذلک الصندوق کان یضمّ ودائع و أمانات توجب سکینة الإنسان. 2- کانت تلک الودائع تحمل السکینة بعنایة اللَّه و لطفه. 3- نفهم من مناسبة الحکم و الموضوع- أی الشی ء الذی یؤدّی إلی سکینة بنی إسرائیل- أنّ ذلک الصندوق کان یضمّ بلا شکّ التوراة أو بعض آیاته، لأنّ التوراة التی من شأنها سکن و هدوء بنی إسرائیل. 4- یفهم من العبارة «و بقیة ...» أنّ ذلک الصندوق لم یضمّ التوراة لوحدها، بل کانت هناک الأشیاء التی تناقلتها أیدی أهل موسی و هارون من قبیل عصا موسی و ما شابه ذلک. 5- أنّ الصندوق قد نهب، و هو الأمر الذی جعل بنی إسرائیل یشعرون بالتذمّر؛ لأنّه کان یرمز لعظمتهم إبّان عصر موسی و هارون علیهما السلام، و واضح أنّ الصندوق قد سلب منهم بسبب عدم کفاءتهم، کما لیس لهم القدرة علی إعادته. 6- کان بنو إسرائیل مطّلعین علی أهمّیة ما یحمل من أسرار. 7- أنّ لکلِّ مَن یسعه الإتیان به جدارة زعامة الأُمّة و قیادتها. و لذلک اعتبر ذلک النبی أنّ أفضل دلیل علی کفاءة طالوت و أهلیته للملک تکمن فی إتیانه بذلک الصندوق، کما أنّ بنی إسرائیل سیقرّون بصلاحیة طالوت و الإذعان بعجزهم و عدم صلاحیتهم إذا ما قام طالوت بتلک الوظیفة الخطیرة، و خلاصة ما أوردناه قد ورد فی هذه الآیة الشریفة: وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ


1- تاج العروس 3: 25.
2- مجمع البحرین 1: 233.

ص: 105

أَنْ یَأْتِیَکُمُ التَّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ بَقِیَّةٌ مِمَّا تَرَکَ آلُ مُوسی وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِکَةُ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ. ثمّ إنّا و قد استفدنا من الآیة الکریمة ما ذکرناه و قلنا: إنّ ظاهر الآیة الشریفة تدلّ علی المطلوب، لکن مع غضّ النظر عن ذلک نشیر إلی روایة واردة حول تفسیر الآیة الشریفة.

حدیث أبی بصیر:

علی بن إبراهیم قال: حدّثنی أبی، عن النضر بن سوید، عن یحیی الحلبی، عن هارون بن خارجة، عن أبی بصیر، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «إنّ بنی إسرائیل بعد موت موسی عملوا بالمعاصی و غیّروا دین اللَّه و عتوا عن أمر ربّهم، و کان فیهم نبی یأمرهم و ینهاهم فلم یطیعوه، فسلّط اللَّه علیهم جالوت؛ و هو من القبط، فأذلّهم و قتل رجالهم و أخرجهم من دیارهم و أموالهم و استعبد نساءهم- إلی أن قال- فقال لهم نبیّهم: «إنّ آیة ملکه ...» و کان التابوت الذی أنزل اللَّه علی موسی فوضعته فیه امّه و ألقته فی الیمّ، فکان فی بنی إسرائیل معظّماً یتبرّکون به، فلمّا حضرت موسی الوفاة وضع فیه الألواح و درعه و ما کان عنده من آیات النبوّة و أودعه یوشع وصیّه، فلم یزل التابوت بینهم حتّی استخفّوا به، و کان الصبیان یلعبون به فی الطرقات، فلم یزل بنو إسرائیل فی عزّ و شرف ما دام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصی و استخفّوا بالتابوت رفعه اللَّه عنهم، فلمّا سألوا النبیّ بعث اللَّه تعالی طالوت علیهم ملکاً یُقاتل معهم ردّ اللَّه علیهم التابوت»(1). و نفهم من هذا الحدیث ما یلی: 1- اهتمّ القرآن الکریم اهتماماً کثیراً بقضیة الإمرة و الزعامة، و لیس لأیّ فرد النهوض بهذه المهمّة.


1- تفسیر القمّی 1: 81- 82، و عنه بحار الأنوار 13: 438 ح 4.

ص: 106

2- ینبغی أن یکون الزعیم الدینی عالماً و مقتدراً، أی یمتلک العلم و القدرة. 3- لا بدّ أن یکون بصیراً ملمّاً حتّی بفنون القتال. 4- یجب أن یتمتّع بقدرة بدنیة مرموقة. 5- لا بدّ أن یتحلّی بحنکة الزعامة. 6- یجب أن یرد میدان الحرب بنفسه إذا اقتضت ذلک مصالح الأُمّة. 7- لا بدّ أن یکون شجاعاً باسلًا فی الحروب. 8- یجب أن یحفظ استقلال البلاد و یستأصل جذور الاستعمار. 9- لا بدّ أن یعید إلی الأذهان أمجاد الماضی التی اعتراها النسیان. و علیه: فخلاصة الشروط التی یراها القرآن الکریم فی منصب الزعامة تتمثّل بالجدارة، العلم، القدرة، الخبرة بأوضاع المجتمع، سلامة الجسم، الإحاطة بفنون القتال، الشجاعة و الإقدام و التدبیر، کما یفهم من الآیات أنّ الزعامة منصب إلهی، و اللَّه هو الذی ینصّب الزعیم.

قولنا أم قول المفسّرین؟

نحن نقول بأنّ التابوت کان بید جیش جالوت، و کان باستطاعة طالوت أن یستعیده، و هذه العملیة المعقّدة کانت دلیلًا علی صلاحیّته لإمرة الجیش و الزعامة، إلّا أنّ القرآن الکریم یقول: یأتیکم التابوت. أ و لیست هذه العبارة تؤیّد تلک الطائفة من المفسّرین التی قالت بأنّ التابوت قد رفع إلی السماء و إنّ رجوعه من السماء معجزة تبیّن صحّة قول النبی بشأن إمرة طالوت؟ فقد جاء التابوت و رآه بنو إسرائیل فأذعنوا لزعامة طالوت و تأهّبوا للقتال، و هلّا کانت عبارة «و تحمله الملائکة» تؤیّد أقوال المفسّرین؟

ص: 107

الجواب:

یبدو أنّ هذا القول لیس بتام- و اللَّه أعلم- لأنّ عبارة «یأتیکم التابوت» «التابوت» فاعل للفعل «یأتی» دلیل علی أنّ القوم کانوا منزعجین جدّاً من فقدان التابوت الذی یحتوی آیات المجد و العظمة، و أنّهم کانوا یتطلّعون إلی الظفر به ثانیة.

و جملة «یأتیکم التابوت» تشعر بأنّ نبیّهم قد بشّرهم بعودة التابوت، حیث قال لهم: «یأتیکم التابوت فیه سکینة من ربّکم» و هذا وعد من نبیّهم لیس أکثر، أمّا القطعی فهو قول النبی الذی یستند إلی کفاءة طالوت بحیث قال: إنّ التابوت یأتیکم، و هو کاشف عن مدی جدارة و أهلیة طالوت، و هو الأمر الذی ینسجم و الدلالة علی زعامته، و إلّا فإنّ مجی ء التابوت من السماء لیس له من علاقة بکفاءة طالوت من قریب أو بعید، بل هو دلیل علی صدق نبیّ بنی إسرائیل، بینما نعلم أنّهم طالبوه بآیة بحقّ طالوت، لا آیة تثبت صحّة قوله. فالآیة واردة بشأن مَن یستعید التابوت. و بناءً علی هذا فإنّ العبارة «یأتیکم التابوت» وعد قطعی باسترداد التابوت من قبل طالوت الجدیر بهذه المهمّة، و الآیة اللاحقة تکشف أنّ هذا الأمل هو الذی دفعهم لقبول إمرته و التأهّب للقتال، و لذلک صدّر القرآن الجملة اللاحقة بالفاء «فلمّا فصل طالوت»، أی أنّهم استعدّوا لاسترداده علی ضوء ذلک الأمل. و قد نسب شیخ الطائفة- و هو أحد جهابذة الفقهاء و المحقّقین و المفسّرین- فی تفسیره المعروف «التبیان» هذا المعنی إلی ابن عباس، کما نقل عن الإمام الصادق علیه السلام فقال: «و قیل: إنّ التابوت کان فی أیدی أعداء بنی إسرائیل من العمالقة الذین غلبوهم علیه علی قول ابن عباس و وهب، و روی ذلک عن أبی عبد اللّه علیه السلام»(1).


1- التبیان فی تفسیر القرآن 2: 292.

ص: 108

و لا ینبغی أن یفهم من کلمة «و روی» التی أوردها الشیخ فی الروایة عن الصادق علیه السلام توحی بعدم الوثوق بها؛ لأنّ کلّ من له معرفة بتفسیر التبیان، یعلم أنّ عصر الشیخ رحمه الله کان یقتضی مثل هذه التعبیرات فی الروایات المعتبرة، فقد کان یحتاط و یفهم الآخرین بعدم انطواء تفسیره علی التعصّب، و لذلک کان یتعرّض فی تفسیره إلی أقوال العامّة و یحاکمها بأُسلوب علمی رصین بعیداً عن التعصّب. أمّا الروایة الأُخری التی تؤیّد ذلک، فما ورد فی تفسیر نور الثقلین عن عیون الأخبار، أنّ شامیّاً قد سأل أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی مسجد الکوفة عدّة أسئلة و منها: «یا أمیر المؤمنین أخبرنی عن یوم الأربعاء و تطیّرنا منه و ثقله و أیّ أربعاء هو؟ قال: آخر أربعاء فی الشهر و هو المحاق، و فیه قتل قابیل هابیل أخاه- إلی أن قال:- و یوم الأربعاء أخذت العمالقة التابوت(1). فالروایة واضحة بأنّ التابوت کان بید العمالقة(2)، إلّا أنّه کان فی السماء و استعاده طالوت.

زبدة الکلام:

اتّضح من هذه الآیات- مع الأخذ بنظر الاعتبار المؤیّدات و الروایات- أنّ الزعامة من وجهة نظر القرآن قائمة علی أساس بعض الشرائط، فالزعیم لا بدّ أن یمتلک العلم و التجارب المریرة فی الحیاة، لا بدّ أن یکون ذا قدرة بدنیة تؤهّله لإدارة


1- تفسیر نور الثقلین 2: 374، نقلًا عن عیون أخبار الرضا علیه السلام 1: 247.
2- نتیجة التحقیقات التی أوردناها تفید بما لا یقبل الشک أنّ التابوت کان بید العمالقة و جلاوزة جالوت الطاغی، و لعلّه یقال: لم یأت طالوت بالتابوت، بل کان ذلک آیة وقعت قبل التأهّب للقتال و دلیل من أجل تقبّل إمرة طالوت، أی أنّ اللَّه جعل الإتیان بالتابوت آیة لزعامة و إمرة طالوت حتّی تنصاع الأُمّة لأوامره، و ربّما کانت علاقة الحکم بالموضوع تتفق و هذا الأمر، و ذلک لأنّه ما لم یکن هناک اطمئنان لزعامة طالوت، سوف لن یکون هناک تأهّب للقتال، و علیه فمن الضروری حصول هذه الآیة ابتداء، و هذا لا یتنافی و عظمة التابوت من وجهة نظر بنی إسرائیل، و لا یخدش المراد بقضیة الإمامة استناداً للآیات الشریفة.

ص: 109

شئون الحکومة و الحفاظ علی استقلال البلاد، و ما إلی ذلک من الشرائط و المقومات التی ذکرناها کراراً و مراراً. و لکن قد یبرز هنا هذا السؤال: سؤال: أوّلًا: لقد ذکر القرآن الکریم هذه الشرائط بالنسبة للقیادة العسکریة، أی أنّ قائد الجیش ینبغی أن یکون صاحب رأی سدید و مقتدر و ذا قوّة بدنیّة و عالماً بفنون القتال. و لیس فی هذه الشرائط ما یدعو للغرابة، فجمیع العُقلاء و المفکّرین یتفقون علی هذا الأمر، إلّا أنّ البحث کان فی الإمامة. فکیف یستدلّ علیها بهذه الآیات؟ ثانیاً: القصّة واردة فی بنی إسرائیل و زعامة طالوت فی ذلک الزمان، فکیف یمکن تعمیمها لتشمل زعماء الإسلام فی أنّه لا بدّ أن یکونوا جامعین لهذه الشرائط؟

و إلّا للزم من ذلک أن نقول بکلّ شرط إلهی ورد فی زعامة موسی و أمثاله، بالنسبة لزعماء و أئمّة الإسلام! جواب: یمکن طرح هذا السؤال بصیغتین: 1- هل أنّ شرائط الإمامة فی بنی إسرائیل ذاتها فی الإسلام، و کلّ شرط للزعامة فی بنی إسرائیل لا بدّ أن نراه شرطاً فی الإسلام أیضاً؟ 2- تنطوی إمرة الجیش علی بعض الشرائط الطبیعیة و العقلائیة، و هذا ما أشارت إلیه الآیات الکریمة، فهل الإمامة کذلک فی أنّها تتوقّف علی الموازین العُقلائیة و الطبیعیة؟ أم أنّ تلک القیود مختصّة بقائد الجیش، فمثلًا قائد الجیش لا بدّ

ص: 110

أن یکون ذا قدرة بدنیة و إحاطة بفنون الحرب و القتال، فلم یکن طالوت علی ضوء الآیة أکثر من قائد للجیش. للردّ علی السؤال الأوّل نقول: النقطة الأُولی: أنّ أُصول الأدیان واحدة من حیث البنیة العقائدیة، و لیس هنالک من دین ناسخ لآخر من هذه الناحیة، فنسخ أُصول الدین لیس بمعقول، و لمّا کان الکلام عن النسخ، لا بأس ببحث هذه المسألة لتتّضح حقیقة الموضوع. النسخ: النسخ یعنی إزالة الشی ء و استبداله بآخر بحیث یحلّ الثانی بدل الأوّل، فالعرب تقول: «نسخت الشمس الظلّ» و «نسخ الشیب الشباب»(1). و علیه فهناک أمران معتبران فی مفهوم النسخ إلی جانب إزالة المنسوخ، و هما: 1) اعتبار ما یحلّ محلّ المنسوخ. 2) اعتبار النقل و التبدیل. و یؤیّد ما ذهبنا إلیه استعمال کلمة «المناسخة» فی باب الإرث، فکلّما مات وارث و حلّ محلّه وارث آخر، أو مات هذا الثانی و حلّ مکانه ثالث استعملت لفظة المناسخة بهذا الشأن، و نلاحظ هنا بأنّ وارثاً قد خلّف وارثاً آخر، و قد حدث انتقال و تبدیل فی الإرث من ید إلی أُخری. و قد عبّر القرآن بالتبدیل عن نسخه بعض الأحکام و الآیات، فقد قالت الآیة الشریفة: وَ إِذا بَدَّلْنا آیَةً مَکانَ آیَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما یُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْلَمُونَ(2). فالآیة الثانیة تزیل الاولی و تحلّ محلّها، و هذا هو النسخ.


1- انظر التبیان فی تفسیر القرآن 1: 393، مجمع البیان 1: 300.
2- سورة النحل: الآیة 101.

ص: 111

و علی کلّ حال، فی القرآن الکریم آیات ناسخة لآیات أُخری، و الآیة المنسوخة باقیة علی حالها مدوّنة فی القرآن، و النسخ لا یعنی إزالة صورتها من کونها آیة، فهی باقیة و محفوظة من حیث النزول، و لکن لم یعدّ لها من أثر، و فقدان الشی ء لأثره یعنی فی الواقع زواله و تساوی وجوده و عدمه ... إذن، فالنسخ لا یعنی شیئاً أکثر من زوال الأثر. و بعبارة أوضح: فإنّ نسخ الآیة هو عبارة عن إزالة حکمها و استبداله بحکم الآیة الثانیة «الناسخة». و نخلص من هذا إلی أنّ نسخ الآیات إنّما یقتصر علی الآیات المتعلّقة بالأحکام، و لا یسری هذا النسخ أبداً إلی الآیات التی تتعرّض إلی الحقائق المسلّمة التی لا یعتریها التغییر. أ فیمکن تصوّر النسخ بحقّ الآیة الشریفة اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ؟ أو یمکن زوال الحقائق الثابتة و الدائمة؟ و لمّا کانت الأدیان واحدة فی العقائد، و قد نهض جمیع الأنبیاء بمهمّة هدایة الامم لهذه العقائد، فإنّه یمکننا القول بأنّه لیس هنالک من دین ینسخ آخر من حیث الاصول العقائدیة، فالاعتقاد باللَّه و الثواب و العقاب و الحساب و صفات الجمال و الکمال إنّما هی من الحقائق المسلّمة التی تأبی التغییر و الزوال، و لذلک فإنّ النسخ إنّما یکون فی الشرائع. و بعبارة أُخری: لا بدّ من الإذعان بأنّ الدین الإسلامی لیس بناسخ لنبوّة و رسالة من کان قبله من الأنبیاء، بل القرآن ناسخ لشرائع سائر الأنبیاء، فهذا القرآن لا ینفکّ یؤکّد أنّ الکتاب السماوی الإسلامی مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ(1) مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ(2). مُصَدِّقُ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ(3). مُصَدِّقاً لِما مَعَکُمْ(4)


1- سورة البقرة: الآیة 89، 101.
2- سورة آل عمران: الآیة 81.
3- سورة الأنعام: الآیة 92.
4- سورة البقرة: الآیة 41؛ سورة النساء: الآیة 47.

ص: 112

مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ(1)، وَ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ التَّوْراةِ ...(2). و لکن لا ینبغی أن نغفل عن قضیة، و هی أنّ کلّ ما یقوله موسی و عیسی علیهما السلام بالنسبة للَّه، یقوله خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله، فالجمیع یصفون اللَّه بأنّه حکیم و قدیر و علیم و سمیع، غیر أنّ أُسلوب الأنبیاء یختلف فی معرفة حقیقة کون اللَّه حکیماً و سمیعاً و علیماً و ... لأنّ أتباع الرسل یختلفون فی درجة الفهم و الإدراک، بل حتّی الأنبیاء یختلفون فی مدی إدراکهم لجمیع المغیّبات تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ(3). فالأُمّة الإسلامیة قد بلغت آخر مراحل الفهم و الإدراک، و من الطبیعی أن تکون الحقائق التی تطرح علی هذه الأُمّة متعذّرة الفهم و الإدراک علی الامم الماضیة، و أنّ الحقائق و الإدراکات و الأنوار التی أفاضها اللَّه علی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لا یسع سائر الأنبیاء تحمّلها و استیعابها. فالحقائق فی کافّة الأدیان واحدة، غیر أنّ طرق التعرّف علیها متشعّبة، و کلّما تطوّرت العلوم و المعارف تعمّق هذا الفهم و الإدراک بالنسبة للحقائق، و لذلک یمکن القول بأنّ محمّد صلی الله علیه و آله قد سلک آخر مراحل التوحید، و للُامّة الإسلامیة فقط و بفضل التطوّر العلمی الذی تشهده أن تبلغ ما تشاء من الدرجات، فقد فتح الإسلام الباب علی مصراعیه أمام أتباعه، و لا یسعنا هُنا أن نخوض أکثر فی هذا المجال. و علی کلّ حال تتفق کافّة الأدیان فی أُصولها العقائدیة، و لیس هناک من نسخ بهذا الخصوص. و الإمامة و الزعامة جزء من أُصول الأدیان، حتّی أنّنا قلنا بأنّ الأنبیاء إنّما


1- سورة البقرة: الآیة 91.
2- سورة المائدة: الآیة 46.
3- سورة البقرة: الآیة 253.

ص: 113

یحرزون مقام الإمامة بعد اجتیازهم لعدد من الاختبارات و التمحیصات. و علیه: فالشرائط التی ینبغی توفّرها فی الإمام إن کانت معتبرة فی زعامة بنی إسرائیل فهی بطریق أولی واجبة التطبیق فی الإسلام. بعبارة اخری: إذا کان طالوت ینبغی أن ینصّب من قِبل اللَّه قائداً للجیش فقط، فإنّ أمیر المؤمنین علیه السلام الحاکم المطلق لعالم الإسلام یجب أن ینصّب أیضاً من جانب اللَّه و یقوم بوظیفة الإمامة، و إن کان شرط إمرة طالوت یتمثّل بالقدرة العلمیة، و الخبرة بفنون الحرب و القتال و الکفاءة و الجدارة، و حفظ استقلال بعض المناطق، فلا بدّ أن تتوفّر قمّة هذه الشرائط فی أمیر المؤمنین علی علیه السلام، و لا یمکن القول بأنّ الإسلام لا یلتفت لهذه الأُمور بدون اقتضاء و لا شرط، و أنّ إمام المسلمین سواءً کان عالماً أم لم یکن، کفوءاً أم لیس بکف ء و ما إلی ذلک لیست قضیة مهمّة من وجهة نظر الإسلام الذی یمثّل آخر مراحل السیر التکاملی للبشریة. و علیه: فقد اتّضحت النقطة الأُولی من الإجابة علی السؤال الأوّل، مع ذلک نواصل طرح النقطة الثانیة لیتّضح الأمر أکثر.

النقطة الثانیة:

یمکن تناول النقطة الثانیة من زاویتین: زاویة عمومیة و تحقیقیة بشأن قصص الأُمم المذکورة فی القرآن الکریم، و الهدف من هذا البحث هو التحقیق بشأن علّة سرد قصص الأُمم السالفة فی القرآن الکریم، و الوقوف علی الهدف العقلائی و المراد الأساسی الذی أراده الکتاب السماوی من طرح هذه القصص. و الزاویة الثانیة فی دراسة القصّة التی نحن بصددها و قصة طالوت و بنی

ص: 114

إسرائیل. و بالطبع فإنّ النتائج التی توصّلنا إلیها فی الزوایة الأُولی تعتبر مفیدة للحصول علی النتائج من الزاویة الثانیة، و کذلک فی الإجابة علی السؤال الأوّل. أمّا إذا أردنا أن نخوض بالتفصیل فی العنوان الأوّل فإنّ ذلک سیبعدنا عن البحث الأصلی «شرائط الإمامة من وجهة نظر القرآن» و لذلک سنمرّ سریعاً علی العنوان الأوّل.

العنوان الأوّل: قصص الأنبیاء و الامم الماضیة:

اشارة

لقد وردت قصص الأنبیاء کثیراً فی القرآن الکریم، و قد تکرّر بعضها، و لکن أصل القصّة لم یتکرّر فی الحقیقة، بل کان الاستنتاج متنوّع فی نقل الحوادث فی مختلف الموارد. و لا بدّ من القول بأنّ تعلیم الأُمّة الإسلامیة کان من الأهداف الأصیلة البارزة فی التعرّض لتأریخ الماضین، تعلیمهم السبل التی تؤدّی إلی السعادة و الشقاء، و إلفات النظر إلی ردود الفعل التی أبدتها الأُمم السالفة إزاء دعوة الأنبیاء و النتائج التی ترتبت علی کلّ ردّ فعل، إلی جانب تنبیه الأُمّة الإسلامیة إلی الاصول الروحیة و أُسلوب تفکیر سائر الامم، و لا سیّما أهل الکتاب و أوضاعهم الأخلاقیة. فمثلًا تعرّضت عدّة آیات من سورة البقرة إلی أوضاع أهل الکتاب و لا سیّما الیهود، لیقف المسلمون علی طبیعة أخلاقهم و اسلوب تفکیرهم و مدی العداء الذی یکنّونه للإسلام و القرآن، فلا یتّخذونهم أولیاء و یظهرون لهم المودّة أبداً، بل یکونوا علی حذر من هذه الأُمّة العنیدة و الخطرة. و علی هذا فإنّ هناک تعلیمات تجاه نوع من الأُصول المسلّمة التی تأبی التبدّل و التغیّر، و إلّا لو کانت مرنة یمکن أن تعتریها حالة التغییر، لما کانت من قبیل الأُصول الکلّیة التی ینبغی تعلیمها الأُمّة الإسلامیة؛ فهناک حقائق ذات دروس و عبر فی هذه القصص التی من شأنها خلق الإنسان الفاضل، فمثلًا إذا واجهتنا

ص: 115

بعض المبانی المصیریة للإنسان فی قصّة موسی فإنّه لا یمکننا أن نقول بأنّها مختصّة ببنی إسرائیل و الأُمّة الإسلامیة مستثناة من هذا الأمر، و لا یسعنا هنا إلّا أن نشیر إلی بعض هذه المبانی بصورة مختصرة و نترک الخوض فی تفاصیلها إلی أهل التفسیر. 1- یزعم أحبار الیهود أنّ لهم الجنّة خالصة دون أن ینازعهم أحد فیها، و إن کان و لا بدّ من عذاب النار فهی لن تطالهم سوی أیّام معدودة وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَیَّاماً مَعْدُودَةً(1). أمّا القرآن فقد ردّ بمنطق رصین علی هذا الزعم- الذی کان یبدیه المضلّون من أحبار الیهود بهدف التملّص من الإقرار بنبوّة محمّد صلی الله علیه و آله و الإسلام- فرفضه رفضاً قاطعاً و أثبت أنّهم من أصحاب النار و الشقاء الخالد یوم القیامة، و قد أوجز دلیله و برهانه الرصین فی هذه الآیة من سورة البقرة: بَلی مَنْ کَسَبَ سَیِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِیئَتُهُ فَأُولئِکَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ(2). فهم یغرون الناس و یغلقون علیهم کلّ المنافذ لیفعلوا ما شاءوا فلا خوف علیهم و لا هم یحزنون. و بناءً علی ما تقدّم فإنّ هؤلاء الناس سیملئون حیاتهم بالأعمال الشائنة و الأفعال التی تسوّد القلب و تنتهی بالإنسان إلی أدنی المراتب الحیوانیة، فهل لمثل هؤلاء الأفراد أن یبلغوا بعد ذلک السموّ الإنسانی؟ و هل لهم أن یتخلّصوا من طبائعهم العدوانیة؟ و هل لمثل هؤلاء الأفراد من حظّ یجعلهم یعیشون الحیاة الأُخرویة الهانئة؟ أم أنّهم سیذوقون وبال أمرهم لیکبّوا علی وجوههم فی النار من جرّاء أعمالهم القبیحة، و هل لهم إلّا الخلود فی النار؟ حقّاً لا یری العقل و الإنصاف لهؤلاء سوی عذاب النار خالدین فیها و بئس المصیر.


1- سورة البقرة: الآیة 80.
2- سورة البقرة: الآیة 81.

ص: 116

و بناءً علی هذا البرهان و الاستدلال الواضح فلا تزعموا أیّها الیهود و لا سیّما الأحبار بأنّ مأواکم الجنّة و لن تمسّکم النار إلّا أیّاماً معدودة، و اعلموا أنّ سیرتکم و نهجکم سیجعلکم خالدین فی النار، و هذا ما قدّمته أیدیکم فلم یکن فعلکم سوی حرف الناس عن الصراط المُستقیم، و تحریف الآیات و إنکار الحقائق التی أوردتها التوراة، و المتاجرة بالدین من أجل ضمان منافعکم و مصالحکم، و تظنّون أنّکم إنّما تنفّرون الناس من محمّد صلی الله علیه و آله لتستمرّوا فی رئاستکم و زعامتکم، و لم تفکّروا بعواقب أفعالکم حتّی رانت السیّئات و أحاطت بقلوبکم، فذوقوا النار التی أوقدتموها بأیدیکم خالدین فیها و بئس المصیر. إثر تعرّض القرآن لأحبار الیهود، اندفع الیهود لیقیّموا أدلّتهم فی عدم التسلیم للقرآن، و أنّ الجنّة خالصة لهم من دون الناس، و أنّهم لن یردوا النار، فما الذی یدعوهم للانصیاع لمحمد صلی الله علیه و آله، فجاءهم الردّ القرآنی الحاسم فی أنّ هذا الزعم باطل، و أنّکم تستحقون الخلود فی النار. أمّا أُسلوب الاستدلال الذی ساقه القرآن فقد کان: أنّ الإنسان إذا درج علی ارتکاب السیّئات و المعاصی فإنّها تغمسه فی هوی نفسه، بحیث لا تدع له مجالًا للعودة و الکفّ عن الذنوب، فتسیطر الظلمات علی قلبه حتّی تغلق کافّة منافذ العلم و العقل فیغرق فی مستنقع من البؤس و الشقاء، هذا هو الاستدلال الذی أقامه القرآن ضدّ أحبار الیهود لیخلص بالتالی إلی أنّ مأواهم النار خالدین فیها. و هنا نقول: هل أنّ هذا الأمر یقتصر علی الیهود؟ أم أنّه مبدأ کلّی للبشریة جمعاء؟ لا شکّ أنّ هذا الاستدلال یعدّ مبدأً کلّیاً و لا سیّما بالنسبة للأُمّة الإسلامیة، فالمصیر الذی لاقاه الیهود سیلقاه کلّ فرد مهما کان موقعه و دینه، إذا أوغل فی الذنوب و قضی عمره فی المعاصی و السیئات، ما لم یتب و یقلع عن تلک السیئات.

ص: 117

نعم، إنّ هذه المحاجّة القرآنیة لأحبار الیهود إنّما تهدف إلی تنبیه المسلمین، بل کلّ إنسان، إلی أصل مسلَّم من الأُصول التی تأبی التغییر، و تنبیه الأُمّة من أجل سلوک السبیل القویم للفوز بالآخرة و الابتعاد عن سبل الهلکة. و خلاصة هذا الأصل: أنّ الإنسان إذا اعتاد الذنوب و لم یلتفت إلی نفسه، و قضی عمره فی الأفعال القبیحة، فلن یکون مصیره سوی النار و الخلود فیها. 2- کان الیهود یسعون لإثبات أصالة دینهم و نفی الشرعیة عن دین النصاری من خلال تشبّثها بإبراهیم علیه السلام، و هذا ما کانت تدّعیه النصاری أیضاً وَ قالَتِ الْیَهُودُ لَیْسَتِ النَّصاری عَلی شَیْ ءٍ ...(1)، فردّت علیهم الآیة القرآنیة من سورة آل عمران قائلة: یا أَهْلَ الْکِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِی إِبْراهِیمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِیلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ(2). و قد أشارت آیة اخری صراحة إلی مفهوم هذه الآیة فقالت ما کانَ إِبْراهِیمُ یَهُودِیًّا وَ لا نَصْرانِیًّا وَ لکِنْ کانَ حَنِیفاً مُسْلِماً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ(3). فما الذی یمکن استنباطه من هذه الآیة؟ نفهم من هذه الآیة أنّ الیهودیّة و النصرانیّة قد تجاوزت أهداف موسی و عیسی، فأتباع موسی لیسوا بیهود، کما لا یمکن لأتباع عیسی أن یکونوا نصاری؛ لأنّ إبراهیم مسلم، لا یهودی و لا نصرانی. إذن، فالیهودیة و النصرانیة أسماء ابتدعها أهل الکتاب لأنفسهم، و هی تتنافی و التسلیم للَّه و سلوک الصراط المستقیم، و ما سبیل موسی و عیسی سوی الإخلاص و التسلیم و العبودیة للَّه، فقد قال عیسی علیه السلام: إِنَّ اللَّهَ رَبِّی وَ رَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِیمٌ(4). و لا نبالغ إذا قلنا بأنّ الآیة تلمّح إلی شرک الیهود و النصاری،


1- سورة البقرة: الآیة 113.
2- سورة آل عمران: الآیة 65.
3- سورة آل عمران: الآیة 67.
4- سورة آل عمران: الآیة 51.

ص: 118

فقد صرّحت قائلة وَ لکِنْ کانَ حَنِیفاً مُسْلِماً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ، و نترک الخوض فی التفاصیل إلی موضع آخر.

النتیجة:

الآیتان المذکورتان تعرّضتا للمحاجّة بین أهل الکتاب: الیهود و النصاری، کما اشترک القرآن فی هذه المحاجّة لیقول: لستم- الیهود و النصاری- تابعین لإبراهیم، و لیس لإبراهیم من ارتباط بکم، فطریق إبراهیم هو الصراط المُستقیم الذی یقود إلی الحقّ، و سبیل إبراهیم هو الإخلاص للَّه، و سبیل إبراهیم لا عوج فیه و لا انحراف، و أخیراً سبیل إبراهیم هو التسلیم للَّه و العبودیة له. و علیه: فهاتان الآیتان اللتان تتحدّثان عن محاجّة أهل الکتاب و أوردهما القرآن، إنّما الغرض منهما هو الالتفات إلی أصل مسلَّم أیضاً من قبل المسلمین، بل من قِبل کلّ إنسان. لا شکّ أنّ دعوة إبراهیم علیه السلام أصیلة، و الإسلام إنّما واصل دعوته فی عبودیة اللَّه. إذن محور النجاة و الصراط القویم یتمثّل فی سلوک النبیّ العظیم إبراهیم علیه السلام، و المسلمون ینبغی أن یلتفتوا إلی ما أورده القرآن بشأن إبراهیم، و یعلموا بأنّ المسلم هو إبراهیم علیه السلام، فإذا أراد أیّ فرد مسلم أن یکون خلیل الرحمن یجب أن یسلم للَّه و لا یری سواه، و لا یسلک سوی صراطه، و یصرف نفسه عن الدنیا و لا یکترث لزبرجها و زخرفها و أطماعها. کان هذان نموذجین من مئات النماذج التی ذکرها القرآن الکریم ضمن سرده لقصص الماضین علی أنّهما من الحقائق المسلّمة التی لا تختصّ بجماعة معینة، بل هی اصول ذات علاقة بمصیر البشریة جمعاء، و ذکرها فی القرآن دلیل علی عدم اقتصارها علی شخوص القصّة و أبطالها، بل من أجل لفت انتباه البشریة إلیها،

ص: 119

و هی من قبیل المبانی السامیة التی تبلغ بالإنسان السموّ و الکمال. بعبارة أوضح: أنّ القرآن عبارة عن اصول مسلَّمة، حیث أفرد هذا الکتاب السماوی قسماً منه لدراسة بعض الأُصول العلمیة الواقعیة التی ینبغی أن تبتنی علیها الحیاة الإنسانیّة العقلائیة، غیر أنّ هذه الأُصول قد وردت أحیاناً ضمن سیاق الآیات القرآنیة بصورة مباشرة، و أحیاناً اخری وردت ضمن سرد قصص الامم السالفة.

خلاصة الحدیث:

کان السؤال الأوّل هو هل أنّ شرائط الزعامة فی بنی إسرائیل هی ذاتها فی الإسلام، بحیث یجب أن نلتزم فی الزعامة الإسلامیة بکلّ شرط کان معتبراً فی زعامة بنی إسرائیل؟ و قد أجبنا علی هذا السؤال ضمن ذکر نقطتین: 1- أنّ اصول الأدیان واحدة من حیث جذورها العقائدیة و لا یعتریها التغییر أبداً، و لیس للنسخ من سبیل إلیها، و بدوره أقرّها القرآن و لم یبطلها. 2- وردت أغلب الحقائق القرآنیة مباشرة من خلال الآیات القرآنیة التی تلفت نظر المسلمین إلی الاهتمام و الالتزام بها، کما وردت بصورة غیر مباشرة من خلال سرد قصص الامم الماضیة.

نتیجة هاتین النقطتین:

تعدّ زعامة الأُمّة فی کافّة الأدیان من الوظائف التی نصّ علیها الحکیم العلیم، و علیه: فهی من اصول الأدیان و شرائطها مؤثّرة فی تحقیق و تثبیت أصل الإمامة، و من هنا فإنّ الشروط المذکورة فی زعامة بنی إسرائیل معتبرة هی الاخری فی

ص: 120

الإسلام أیضاً، إضافة إلی أنّ هذه الشروط من الحقائق المسلّمة التی لن تفقد أصالتها قط طیلة التأریخ البشری، کما أنّها تأبی الزوال و لا یعتریها التغییر و التبدّل. و نخلص من هذا إلی أنّ الشروط التی تضمّنتها قصّة طالوت بشأن الإمامة و الزعامة، یعتبرها القرآن من الصفات التی ینبغی أن یتّصف بها الزعیم، و بخلافه لا یعدّ زعیماً إسلامیاً.

العنوان الثانی لقصة طالوت:

لقد سبقت قصة طالوت بآیتین، حیث إنّ مفاد الآیات الثلاث لفت انتباه المسلمین و حثّهم علی القتال فی سبیل اللَّه و التعرّض للعناصر التی تجسد النصر و الغلبة فی هذا القتال، و لمّا کان البحث بالتفصیل لهذه الآیات الثلاث ینطوی علی نوع من الإطالة و الملل، فقد آلینا علی أنفسنا التعرض بصورة مقتضیة لما تضمّنته هذه الآیات من محاور رئیسیّة، ثمّ نعرج بعدها علی ذکر الآیات. فقد أکّدت هذه الآیات ثلاثة شروط أساسیة تقود إلی النصر فی خوض غمار الجهاد: الشرط الأوّل: هو الإذعان و الإیمان بأنّ الموت و الحیاة بید القدیر سبحانه، فالموت یدرکنا و اللَّه یقبض أرواحنا، سواء کنّا علی الفراش أو فی ساحات الوغی إن کانت هنالک من مصلحة. و إذا شاء لنا البقاء فلیس هنالک من موت، فقد تکون ساحة الحرب وادعة أمینة بینما یکون الفراش ممیتاً؛ و بناءً علی ما تقدّم فإنّ الفرار من الجهاد حرصاً علی الحیاة یعنی إیکال الفرار إلی أمر خارج عن الإرادة و الاختیار، و علی هذا الضوء فإنّ المؤمن سوف لن یفر البتة من میدان الحرب و یخوض القتال بعزم راسخ و إرادة فولاذیة بعد التوکّل علی اللَّه و القتال فی سبیله. الشرط الثانی: أنّ الجهاد قائم علی أساس الإنفاق و بذل الأموال و الأنفس،

ص: 121

و لا تتیسّر مجابهة العدو دون توفیر العدة و الاستعداد للمنازلة، و یتمثّل هذا الاستعداد و التجهیز من خلال إعداد الجنود المضحّین و المسلّحین و تفعیل هذا الاستعداد حیال العدو. الشرط الثالث: و یعدّ أساس الشروط، بل لا معنی للشرطین المذکورین دونه، و یتمثّل بالقائد المقتدر و الآمر الکفوء الذی یقود القتال بکلّ بسالة مستنداً إلی العلم و البصیرة و المعرفة التامّة بأسالیب القتال، بغیة تحقیق النصر الخاطف علی العدو بأقلّ التضحیات.

الآیات الثلاث:

أمّا الآیات الثلاث فقد وردت فی سورة البقرة، و هی:- 1- أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ خَرَجُوا مِنْ دِیارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْیاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَی النَّاسِ وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لا یَشْکُرُونَ(1). فالآیة تضمّنت ثلاثة أُمور مهمّة، و هی: الأوّل: إنّ الفرار خشیة من الموت لا یمنع من حلول الأجل. الثانی: إنّ الحیاة و الموت بید اللَّه لا بید أیّ أحد سواه. الثالث: إنّه لا ینبغی أن یضعف الإنسان مخافة الموت؛ لأنّ الحیاة و الموت بید اللَّه، و لیس للفکر من دور إزاء التقدیر، و فضل اللَّه و إحسانه هو الفاعل فی حیاة الإنسان و موته، فان کان الموت إحساناً فلا مناص منه و العکس صحیح. و علیه: ففی الآیة الکریمة براعة استهلالیة تهدف إلی إعداد المسلمین للجهاد و القتال فی سبیل اللَّه، و من هنا أردفت هذه الآیة بقوله سبحانه: وَ قاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ(2).


1- سورة البقرة: الآیة 243.
2- سورة البقرة: الآیة 244.

ص: 122

2- مَنْ ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَیُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً کَثِیرَةً وَ اللَّهُ یَقْبِضُ وَ یَبْصُطُ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ(1).

فالآیة تتابع الحثّ علی القتال «فی سبیل اللَّه» و قد تصدّرت ب «مَن» الاستفهامیة، و کأنّها تتحرّی الرجل الذی ینهض بهذه المسئولیّة الخطیرة لیمارسها بنجاح بعد أن یعدّ متطلّباتها. و علیه: فالآیة لیست فی مقام الحثّ علی الإقراض فحسب، فهی تهدف أمراً آخر إلی جانب ذلک، و هو أنّ المقرض هو الإنسان و المقترض هو اللَّه سبحانه، و کأنّ اللَّه مدّ یده إلی الإنسان سائله شیئاً. و من هنا فالذی یخلص من ذکر هذا الأمر فی آیة القتال أنّ الغرض الأصلی من هذا القرض هو أنّ بذل المال و النفس ینشد تحقیق هدف التوحید، و لذلک کان المقترض اللَّه، لأنّ بذل المال و النفس کان فی سبیل اللَّه، و نتیجة ذلک کلمة التوحید، فلو جعل الإنسان کلّ ما یملک وقفاً فی سبیل اللَّه فإنّ ثواب ذلک سیکون عوضاً مطلقاً لا متناهیاً. و بناءً علی ما تقدّم فإنّ الآیة الشریفة بسیاق الطلب تمثّل أعظم حثّ لإثرة المال و النفس فی سبیل اللَّه، و هو الحثّ و الترغیب الذی یغلق علی الإنسان کافّة طرق التعذیر من قبیل المرض و التمارض و الخوف و ما شابه ذلک. و الذی یؤیّد هذا الاستنباط بل دلیله هو أنّ أغلب الآیات التی تحدّثت عن القرضة الحسنة فی السور القرآنیة کالمائدة و التغابن و الحدید و المزمّل و غیرها من السور إنّما وردت کامتداد لآیات القتال فی سبیل اللَّه. 3- آیات قصة طالوت التی شرعت بالآیة: أَ لَمْ تَرَ إِلَی الْمَلَإِ مِنْ بَنِی إِسْرائِیلَ ...(2) و مرّ علینا تفصیلها، و لاحظنا الشرائط التی تضمّنتها الآیات بشأن


1- سورة البقرة: الآیتان 245- 246.
2- سورة البقرة: الآیتان 245- 246.

ص: 123

زعامة طالوت.

هذه الآیات الثلاث و هدفها:

قلنا: إنّ هذه الآیات تلفت انتباه المسلمین للقتال «فی سبیل اللَّه»، و قلنا: إنّ هذه الآیات التی تختزن النصر فی هذا القتال، و ترشد المسلمین إلی أنّ النصر یتقوّم بثلاثة عناصر: 1- ضرورة عدم خشیة الموت و وجوب الإیمان بأنّ الحیاة و الموت بید اللَّه، و علیه: فینبغی القتال و عدم الخوف. 2- یتطلّب القتال فی سبیل اللَّه إعداد القوی و التجهّز و التعاون علی مستوی المال و النفس. 3- أنّ الشرط الأساسی للنصر هو وجود القائد الکفوء، الذی یستطیع توظیف القوی الإنسانیة و تعبئتها علی الوجه الحسن، و علیه: فقصّة طالوت تکشف النقاب للمسلمین عن حقیقة و واقع، و تری ضرورة وجود القائد الجدیر الذی یحقّق النصر للمسلمین، الأمر الذی أفادته قصة طالوت فی إنشاد الإسلام لهذا الزعیم الرشید، القادر، العالم و الماهر لیستبسل المسلمین تحت رایته و یحقّقوا العزّة و الافتخار، و لا تفید الآیة کون الزعیم الإسرائیلی لا بدّ أن یکون زعیماً کفوءاً قط، بل رسمت هذه القصة صورة هذا القائد الکفوء لتلفت نظر المسلمین إلی الشرائط التی تکهّن بها القرآن فی القیادة، و لا نری أنفسنا بعد هذا الإیضاح بحاجة للقول: إنّ الدین الإسلامی لا ینسخ الأُصول المسلَّمة لسائر الأدیان، و حیث لم یکن ناسخاً فإنّ شرائط القیادة و الإمامة و إمرة الجیش فی سائر الأدیان قد روعیت فی الإسلام. و أمّا الإجابة علی السؤال الثانی: أنّ إمرة الجیش سنخ من الشرائط ... فلا بدّ أن نری هل المراد بالملک فی الآیة الشریفة إمارة الجیش فقط، أم أُرید بها معنی أوسع و لا بدّ من التعبیر عنه بالزعیم؟ فسّرنا ذلک فی المباحث السابقة

ص: 124

بأمیر الجیش أحیاناً و الزعیم أحیاناً اخری، و ذلک أنّهم سألوا ملکاً، و کان هدفهم فی ذلک السؤال زعامة الجیش و القتال فی سبیل اللَّه، و من هنا عبّرنا أحیاناً بأمیر الجیش، و بناءً علی ما تقدّم فإنّ هذا الملک هو الزعیم. و لذلک سوف لن یعود هنالک من مجال للسؤال فی أنّ آمر الجیش طبق الموازین الطبیعیة یجب أن یکون مقتدراً عالماً بفنون الحرب و القتال، فهل هذه الشرائط معتبرة فی الإمام؟ لأنّ الفرض کان یقوم علی أساس أنّ الملک هو الزعیم و الإمام، فالآیة الکریمة قد بیّنت شرط الزعامة و الإمامة بصورة شاملة مطلقة و بمعنی أوسع من إمارة الجیش.

دلیلنا:

دلیلنا علی أنّ المُراد بکلمة «الملک» ذلک المعنی الواسع- أی الإمام- هو اعتقاد الطبقة الاقطاعیة من بنی إسرائیل و النبلاء، بأنّهم أحقّ بالملک من غیرهم، و ذلک لأنّهم کانوا یرون أنّ الزعامة قضیة وراثیة، و لا ینبغی أن ینهض طالوت بهذه الزعامة؛ لأنّه ینتمی إلی طبقة فقیرة معدمة فی المجتمع لم تکن ذات سابقة فی الزعامة. و لذلک أوردنا برهانین أقامهما هؤلاء المعترضون علی نبیّهم: 1- الملک حقّ من حقوقنا و منحصر فی سلالتنا. 2- طالوت لا ینتمی إلی طبقة ثریة لیصبح زعیماً. القرآن بدوره فنّد هذه النظریة لیعلن أنّ الزعامة لیست قضیة وراثیة و لا ترتبط من قریب أو بعید بالغنی و الثراء، بل هی منصب إلهی، ینهض به من تتوفّر فیه شرائطه من قبیل القدرة و العلم و البسطة فی الجسم و البصیرة بأوضاع المجتمع. أضف إلی ما تقدّم أنّ الإسلام لا یری الزعامة منصباً شکلیّاً، بل هو مقام رسمی مهمّ تکون بموجبه کافّة مقدّرات المسلمین بید الزعیم، أی لا بدّ أن یکون

ص: 125

قائداً عالماً متفکّراً، محیطاً بالحلال و الحرام و أحکام القرآن و تعالیم الإسلام، و سائقاً الأُمّة إلی عبادة اللَّه و التمسّک بکتابه و سنّة رسوله، کما ینبغی أن یُعالج مشاکل الأُمّة، و إذا اقتضت المصلحة أن یخوض الحرب، کان هو القائد العام للقوّات المسلحة، الذی یمارس حضوره الشخصی فی جبهة القتال. و خلاصة القول: إنّ الإمام فی الوقت الذی یعتبر فیه الزعیم الدینی و العلمی للُامّة، فهو قائد للبلاد و آمر للجیش فی الحرب و قاضی فی المحکمة. و الآیة صریحة فی أنّ الملک و الزعیم قد یکون آمرا للجیش و قائداً عاماً للقوات المسلّحة أحیاناً. و علیه: فلیس هنالک ما یدعو لطرح السؤال الثانی لنجیب علیه. و لنفترض أنّ الآیة اقتصرت علی شرائط آمر الجیش و کان هذا هو المراد من الملک، و قد ذکرنا بأنّ الموازین الطبیعیة تقتضی أن یکون الآمر فرداً عالماً بفنون الحرب و القتال و مؤهّلًا لقیادة الجیش و قویاً و مقتدراً، و مع ذلک فینبغی لنا أن نلتزم بهذه الشرائط بالنسبة للإمام أیضاً؛ لأنّنا قلنا سابقاً: إنّ ولاة الأمر هم أئمّة لا بدّ من اتّباعهم و طاعتهم فی جمیع الأُمور السیاسیة و الاجتماعیّة و العسکریة. و بعبارة أُخری: فالأولی أن نقول بأنّ الإمام لا بدّ أن یشتمل علی هذه الشرائط؛ لأنّه لا یمکن أن یکون مطاعاً مطلقاً، و لیست فیه مثل هذه الشرائط، بینما إذا اشترک فی القتال کان هو القائد العام للقوّات، و علی الأُمراء اتّباعه و طاعة أوامره.

أمیر المؤمنین علیه السلام و آیات قصّة طالوت:

ما أوردناه سابقاً تفصیلًا لما قاله أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی روایة نقلها صاحب تفسیر نور الثقلین عن کتاب «الاحتجاج» للطبرسی. فقد قال علیه السلام: «اسمعوا ما أتلو

ص: 126

علیکم من کتاب اللَّه المُنزل علی نبیّه المرسل لتتّعظوا؛ فإنّه و اللَّه أبلغ عظة لکم، فانتفعوا بمواعظ اللَّه و ازدجروا عن معاصی اللَّه، فقد وعظکم بغیرکم، فقال لنبیّه صلی الله علیه و آله: أَ لَمْ تَرَ إِلَی الْمَلَإِ مِنْ بَنِی إِسْرائِیلَ ...، أیّها الناس إنّ لکم فی هذه الآیات عبرة؛ لتعلموا أنّ اللَّه جعل الخلافة و الإمرة من بعد الأنبیاء فی أعقابهم، و أنّه فضّل طالوت و قدّمه علی الجماعة باصطفائه إیّاه و زیادة بسطة فی العلم و الجسم، فهل تجدون اللَّه اصطفی بنی أُمیّة علی بنی هاشم. و زاد معاویة علَیَّ بسطة فی العلم و الجسم»(1). لقد وردت الآیة بشأن قوم من بعد موسی علیه السلام قالوا لرسولهم: ابعث لنا ملکاً نُقاتل فی سبیل اللَّه، فأجابهم نبیّهم: هل عسیتم إن کُتب علیکم القتال ألّا تُقاتلوا؟

فقالوا بصوت واحد: و ما لنا ألّا نُقاتل فی سبیل اللَّه و قد أُخرجنا من دیارنا و أبنائنا! و لکن ما إن کُتب علیهم القتال حتّی تراجعت هذه الجماعة التی أعربت عن استعدادها للقتال، و لم تصمد منهم إلّا فئة قلیلة فَلَمَّا کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِیلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِیمٌ بِالظَّالِمِینَ(2). أمّا ما نخلص إلیه من قول أمیر المؤمنین علیه السلام هو أنّ الخلافة و إدارة شئون البلاد قد جعلها اللَّه فی الأنبیاء و من بعدهم فی أعقابهم من الخلفاء الذین یمثّلون الامتداد الطبیعی لخطّ الرسالة، و أنّ قصّة طالوت عبرة للُامّة الإسلامیّة فی معرفة الإمام، و أنّها قد وضّحت وظیفة المسلمین تجاه الإمام، و أنّ اللَّه قد اختار طالوت من بین القوم لعبودیته الخالصة و حیازته لشرائط الإمامة. و أنّها قد أماطت اللثام عن کیفیة النهوض بالإمامة و زعامة الأُمّة، و أنّ بنی هاشم أولی بهذه الزعامة من بنی أُمیّة، و أن لیس هناک من بنی هاشم من هو أجدر بالإمامة من علی علیه السلام، و لیس


1- تفسیر نور الثقلین: 244 ح 970 عن الاحتجاج 1: 407- 408.
2- سورة البقرة: الآیة 246.

ص: 127

لمعاویة الذی یفتقر لشرائط الإمامة أن ینهض بهذه المسئولیة، و أخیراً نفهم من قول علی علیه السلام أنّ قضیة طالوت لیست قصّة روائیة، بل هی حادثة تهدف إلی تعریف المسلمین بشرائط الإمامة، و أنّ قصة طالوت موعظة للمسلمین فی أنّ الإمام هو الفرد الصالح، الکفوء، العلیم، القدیر الذی لا یُضاهیه أحد فی هذه الصفات، کما أنّ القرآن لا یری من جدیر بإمامة المسلمین سوی علی علیه السلام و أولاده؛ لأنّهم یمثّلون مصداقها التام، و قد جمعت فیهم شرائط و مقوّمات الإمامة.

ص: 128

ص: 129

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ* ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (سورة آل عمران، الآیتان 33- 34)

ص: 130

ص: 131

عود إلی شرائط الإمامة المستفادة من القرآن

آیة الاصطفاء

نتابع دراسة الآیات القرآنیة فی إطار التعرّف علی شرائط الإمامة: فقد ورد فی سورة آل عمران قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ* ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ. یقوم الاستدلال بهاتین الآیتین علی امور هی:

الأمر الأوّل:

لقد استعملت کلمة «الاصطفاء» علی أربعة أنحاء، حیث یختلف معناها فی کلّ قسم من هذه الأقسام، فأحیاناً تستعمل دون حرف، و اخری مع «من، علی و اللام» و الاصطفاء کما ذکرنا سابقاً علی وزن الافتعال، و أصلها من «صفو» بمعنی الخالص، فالاصطفاء هو الانتخاب و الاختیار الخالص. فإن استعملت بدون حرف کان معناها الخالص، و هکذا وردت فی سورة

ص: 132

آل عمران: یا مَرْیَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ(1) و الدلیل هو وحدة السیاق فی الآیة الشریفة، و إذا جاء معها الحرف «من» فهی تعنی الانتخاب من بین جماعة، و هذا ما نلمسه فی سورة فاطر: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا(2). أمّا إذا استعملت مع «علی» فإنّها تفید ترجیح المنتخب. فهی و إن اشترکت مع المعنی المُراد فی القسم الثانی؛ أی الانتخاب الخالص، إلّا أنّها تفرق عنه بأنّها تتضمن ترجیح المنتخب، و هذا ما ورد فی قصّة طالوت التی أشرنا إلیها آنفاً إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَیْکُمْ(3). و لذلک وردت استفهامیة فی سورة الصافّات أَصْطَفَی الْبَناتِ عَلَی الْبَنِینَ(4) أی لیس هنالک من ترجیح و انتخاب فی هذا الأمر.

رفع إشکال:

لقد تضمّن معنی «الاصطفاء» رفع إشکال من شأنه تشویش أذهان العوامّ، فقد صرّح القرآن بشأن مریم قائلًا: وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ(5). یعتقد البعض أنّ مریم مصطفاة علی کافّة نساء العالم، و الحال أنّ الآیة لا تفید أیّ اصطفاء بالنسبة لعامّة نساء العالم و لا امتیاز علیهنّ «أنت مصطفاة و ممتازة من بین نساء العالم». فهی لیست منتخبة علی جمیع النساء و لیس لها من امتیاز علی الجمیع، بل هی مصطفاة من بین نخبة النساء، و نعلم أنّ مریم من المصادیق العُلیا للنساء الجلیلات: مریم عابدة و مطهّرة، و هذا لا یتنافی و وجود سائر النساء الجلیلات الاخریات فی هذا الجنس البشری، و الکلام یختصّ بکونها


1- سورة آل عمران: الآیة 42.
2- سورة فاطر: الآیة 32.
3- سورة البقرة: الآیة 247.
4- سورة الصافّات: الآیة 153.
5- سورة آل عمران: الآیة 42.

ص: 133

منتخبة، و لا سیّما أنّ هذا الانتخاب و الترجیح یتعلّق بأمر غیر طبیعی، و هو الحمل دون وجود الزوج، فقد خلق اللَّه مریم علی درجة من الطهر و العفاف بحیث إنّ الأذهان لا تتصوّر أیّ طعن فی طهرها و عفافها من جرّاء هذا النوع من الحمل، و هناک روایة تؤیّد ما ذهبنا إلیه(1). الأمر الثانی: هل أنّ اصطفاء آدم و نوح و آل إبراهیم و آل عمران علی العالمین إلی الأبد علی ضوء الآیة إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ؟

الجواب:

ذکرنا سابقاً أنّ کلمة «الاصطفاء» إذا استعملت مع حرف الجرّ «علی» أفادت معنی الترجیح فی انتخاب فرد أو أکثر علی الآخرین، فمعنی الآیة أنّ اللَّه انتخب آدم و نوحاً و آل إبراهیم و آل عمران- الذین یمثّلون الصفوة- من بین سائر أفراد العالم. إذن، فالانتخاب من بین العالمین، و أنّ المنتخبین من أصفیاء العالم، لا أنّ الانتخاب علی جمیع العالم و أنّ للمنتخبین امتیاز علی العالم، و اللَّه أعلم. و یؤیّد ذلک المعنی الآیات من سورة الأنعام: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ کُلًّا هَدَیْنا وَ نُوحاً هَدَیْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَیْمانَ وَ أَیُّوبَ وَ یُوسُفَ وَ مُوسی وَ هارُونَ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ* وَ زَکَرِیَّا وَ یَحْیی وَ عِیسی وَ إِلْیاسَ کُلٌّ مِنَ الصَّالِحِینَ* وَ إِسْماعِیلَ وَ الْیَسَعَ وَ یُونُسَ وَ لُوطاً وَ کلًّا فَضَّلْنا عَلَی الْعالَمِینَ(2).


1- راجع مجمع البیان 2: 289 ذیل الآیة الشریفة« وَ اصْطَفَیکِ عَلَی نِسَاءِ الْعَالَمِینَ».
2- سورة الأنعام الآیات 84- 86.

ص: 134

و نعلم أنّ هؤلاء الأنبیاء لیسوا مصطفین علی العالم، و قد انتخبوا بالتفضیل الإلهی من بین العموم، و من أراد المزید فلیراجع تفسیر أحد الکاتِبَیْن(1).

جواب آخر:

قد یُقال بأنّ آدم و نوحاً و آل إبراهیم و آل عمران قد اصطفوا علی العالمین، إلّا أنّ هذا لا یعنی أنّ نوحاً مثلًا قد اصطُفِی علی جمیع العالمین. نعم، آدم و نوح و ...

مصطفون علی العالمین بمعنی عدم خروج آل الرسالة المصطفین من هؤلاء. المصطفی الأوّل هو آدم علیه السلام الذی اصطفاه اللَّه علی عالمه آنذاک، ثمّ نوح و هکذا آل إبراهیم و آل عمران، حیث إنّ کلّ واحد فی هذه الآل مصطفی علی عالم زمانه. و محمّد صلی الله علیه و آله النبی العربی و هو من آل إبراهیم مصطفی منذ زمان بعثته المُبارکة حتّی الأبد. و بعبارة أوضح: فإنّ المصطَفین علی عالم البشریة منذ بدء الخلیقة یبتدئون بآدم علیه السلام و یختتمون بآل إبراهیم علیه السلام بحیث إنّ کلّ واحد منهم مصطفی اللَّه علی أهل زمانه، حتّی ظهور النبی الأکرم صلی الله علیه و آله الذی یُعتبر مصطفی من قبل اللَّه منذ انطلاقة البعثة إلی الأبد ما دام عالم البشریة قائماً، فلیس هنالک من نبوّة لکافّة العالمین و فی کافّة أدوار التأریخ من غیر هؤلاء و إن اختصّ کلّ واحد منهم بزمانه، أمّا من حیث المجموع فهم المصطَفون علی العالمین علی مدی التأریخ، و اللَّه اعلم. أمّا مریم فهی تشتمل علی مزیة تمیّزها علی سائر النساء، و هی مزیة الحمل من دون الزوج، و هو الحمل الذی لا ینطوی علی أیّ مساس بعفّة مریم و طهرها. الأمر الثالث: من هم آل إبراهیم و آل عمران؟ جاء فی المنجد: «أنّ آل الرجل أهله، و لا یستعمل إلّا فی ما فیه شرف»(2) لا


1- تفسیر کلام الحقّ للشیخ شهاب الدین الإشراقی.
2- المنجد فی اللغة: 21، مادّة« آل».

ص: 135

کلّ أهل و أینما کانت کلمة «أهل» لتقیّد صفة المضاف إلی المضاف إلیه، فیُقال مثلًا:

«أهل العلم» أی الأفراد الذین یتّصفون بصفة العلم، و أهل قم، و حیث إنّ الآل هی صفوة الأهل فإنّ آل إبراهیم تعنی الخواصّ و الصفوة من أهل إبراهیم علیه السلام. لإبراهیم علیه السلام ولدان هما إسماعیل و إسحاق، و المُراد بآل إبراهیم خلفه و ولده المصطَفون من قِبل اللَّه، فهل هم الأنبیاء و المصطَفون من ذریّة إسماعیل و الأنبیاء من ذریّة إسحاق أیضاً؟ و لعمران ولدان هما عمران والد موسی علیه السلام و عمران والد مریم علیهما السلام، و ربّما کان المُراد بعمران التی أضیفت إلی الآل فی الآیة الکریمة والد مریم، فآل عمران فی هذه الحالة هم المصطفون من هذه الطائفة، و یؤیّد ذلک الآیات اللاحقة من هذه السورة المُبارکة التی ذکرت مریم مشیرة إلی أصالتها. کما یمکن أن تکون آل عمران شاملة للطائفتین؛ لأنّ کلمة عمران رغم أنّها اسم علم لکنّها تنطبق علی مسمّیین أیضاً، إلّا أنّ هذا الاحتمال لیس معتبراً علمیّاً.

مَنْ هُم آل إبراهیم؟

آل عمران کلّ واحد من الطائفتین أو الطائفة الخاصّة من والد مریم، أمّا آل إبراهیم فتقتصر علی ذریّة إسماعیل، لأنّ العطف دلیل علی المغایرة، و یؤیّد کون آل إبراهیم هم ذریّة إسماعیل قوله عزّ و جل فی الآیة 58 من سورة مریم: أُولئِکَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ مِنْ ذُرِّیَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّیَّةِ إِبْراهِیمَ وَ إِسْرائِیلَ فقد فصّل ذریّة إبراهیم عن ذریّة إسرائیل، فی حین أنّ إسرائیل هو یعقوب و هو من أولاد إسحاق بن إبراهیم. و من هنا یعلم بأنّ القرآن لم یرد بذرّیة إبراهیم سوی أولاد إسماعیل، و الدلیل الأوضح علی ذلک ما نحن بصدده من الآیة ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ لأنّ الذریّة

ص: 136

وردت بدل من آل إبراهیم و آل عمران، أی أنّ آل إبراهیم و آل عمران ذرّیة واحدة؛ لأنّ والد الآلین هو إبراهیم. أمّا بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ فمعناه انفصال و تفرّع البعض من ذریّة و البعض الآخر من ذریّة أُخری. و بعبارة أیسر: أنّ معنی العبارة رغم أنّ آل إبراهیم و آل عمران ذرّیة واحدة، غیر أنّ آل عمران من ولد و آل إبراهیم من ولد آخر، و علیه فآل عمران من یعقوب بن إسحاق و هو إسرائیل، و آل إبراهیم من إسماعیل بن إبراهیم.

هدف سامٍ:

لِمَ عبّر القرآن الکریم عن ذریّة إسماعیل بآل إبراهیم، و عن أولاد إسحاق بآل عمران؟ لعلّ المغزی فی هذا التعبیر رغم أنّ الاثنین هما آل إبراهیم، هو هدف سامٍ و بقصد إفادة مطلب أساسی. فآل إسحاق قد انقطعوا عن مقام النبوّة السامی و سیحلّ الیوم الذی یزول فیه دین إسحاق، و بالتالی فإنّ الدین الإسلامی العالمی سیستوعب جمیع القوانین السماویة. إذن، فالذرّیة الحقیقیة لإبراهیم الحافظة لهدفه السامی القائم علی أساس التوحید و التسلیم للَّه إنّما تنحصر فی ولد إسماعیل، و بالنهایة فإنّ النبی العربی محمّداً صلی الله علیه و آله هو الحافظ لدعوة إبراهیم علیه السلام، و قد لفت القرآن الأنظار لهذه الحقیقة، حیث قال: إِنَّ أَوْلَی النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ(1). و بناءً علی هذا یمکن القول بأنّ آل إبراهیم منحصرون فی الصفوة من ولد إسماعیل، إضافة إلی أنّ أتباع سائر الأدیان کالنصرانیة و الیهودیة قد أحدثوا من


1- سورة آل عمران: الآیة 68.

ص: 137

الخرافات و الخزعبلات و التحریفات فی الدین الأصیل لموسی و عیسی، بحیث زالت معالم الدین بالمرّة و لم یبق منه سوی الأوهام و الخرافات، و ذهبت الجهود المضنیة لإبراهیم علیه السلام و التوحید الخالص للَّه أدراج الریاح. و لذلک فصل الحقّ سبحانه عنوانی النصرانیة و الیهودیة عن أتباع عیسی و موسی علیهما السلام، و سلخ إبراهیم علیه السلام عنهما، فقال عزّ و جل: ما کانَ إِبْراهِیمُ یَهُودِیًّا وَ لا نَصْرانِیًّا وَ لکِنْ کانَ حَنِیفاً مُسْلِماً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ(1). و نوکل الخوض فی التفاصیل إلی محلّ آخر. الأمر الرابع: الأمر المهمّ الذی یمثّل الهدف الأساسی فی الآیة هو کیفیّة تعبیر القرآن الکریم، فقد نسب الاصطفاء لشخصین و طائفتین إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ. فقد ذکر اللَّه اسم هؤلاء المنتخبین من بین عباده، فالفرد المخلص الأوّل هو آدم، و الفرد المخلص الثانی هو نوح، و الطائفة الخالصة الأُولی هی آل إبراهیم، و الثانیة آل عمران. فنری اسم نوح قد ذکر بعد آدم رغم قدوم عدّة أنبیاء، کما اقتصر الحدیث علی آل عمران من بین آل إسحاق، فآدم أوّل أنبیاء اللَّه، و قد رکّز القرآن علیه حتّی أسهب فی الحدیث عنه فی سورة البقرة، کما أنّ لنوح عدّة مزایا، ربّما منها کونه یمثّل آدم الثانی بالنسبة للبشریة إثر انقراض البشریة فی زمانه و تجدید الحیاة ثانیة. أمّا السؤال المهمّ هنا هو لِمَ هذا الاهتمام بآل عمران؟ و لعلّ سبب ذلک یعود إلی ظهور أنبیاء عظام فی هذه الآل، بحیث ما زال أغلب الناس ینسب نفسه إلیهم، فمنهم موسی و عیسی علیهما السلام، و قد راعی القرآن جانب الاختصار فی تعبیره بآل عمران عن نبوّات ولد إسحاق، الأمر الذی یطول شرحه. و السؤال الأهمّ: ما السبب فی التعبیر بآل إبراهیم؟


1- سورة آل عمران: الآیة 67.

ص: 138

و کأنّ التعبیر بآل إبراهیم الذی یسلّط الضوء علی نبوّة إبراهیم- و بالالتفات لما ذکرنا من أنّ آل إبراهیم مختصّة بذریّة إسماعیل- یشیر إلی زعماء الإسلام و علی رأسهم زعامة محمّد المصطفی صلی الله علیه و آله و خلفه الأئمّة الأطهار علیهم السلام، فهم من آل إبراهیم، و أنّهم حقّاً جدیرون بهذا الانتساب، أی الانتساب بصفتهم آل إبراهیم إلی هذه الطائفة من زعماء الدین للعالم. و بناءً علی ما تقدّم فإنّ القرآن قد طرح أساس الزعامة العالمیة للبشریة منذ بدء الخلیقة علی الأرض حتّی انتهائها، فقد تزعّم آدم علیه السلام العالم فی بدایته، ثمّ تجدّد هذا الأساس من قبل نوح بعد انقراض البشریة فی الطوفان، کما أنّ الزعماء الأصلیین لعالم الأمس و الیوم و الغد هم آل عمران و آل إبراهیم. و أنّ زعیم طائفة آل إبراهیم فی العالم منذ ألف و ثلاثمائة و بضع سنوات قبل إلی القیامة هو محمّد صلی الله علیه و آله و من بعده زعماء الإسلام من آل محمّد و آل إبراهیم؛ و ذلک لأنّه کما ذکرنا سابقاً أنّ آل إبراهیم الذین ینتمون إلی ذریّة إسماعیل، و آل محمّد الذین ینتمون إلی آل إبراهیم لیسوا إلّا الصفوة من بنی هاشم.

هدف الآیة:

تهدف هذه الآیة إلی تثبیت أصالة الإسلام و أئمّة المسلمین، فقد أوضح القرآن بإعجازه فی آیة قصیرة زعامة العالم منذ نشوء الخلیقة إلی القیامة. فکما انتخب اللَّه آدم و نوحاً، فإنّه انتخب و اصطفی آل عمران و آل إبراهیم، و قد جمع الزعامة العالمیة فی ذانک النبیّین العظیمین و هاتین الطائفتین. و علیه: فإنّ عالم المسیحیة و الیهودیة و إن نظر إلی آدم و نوح و آل عمران علی أنّهم مصطَفون من قبل اللَّه، لا بدّ أن ینظر أیضاً إلی أنّ آل إبراهیم و أئمّة الإسلام- الذین ینسبون إلی محمّد- علی رأس هذه السلسلة من الزعماء، و مع هذا

ص: 139

الفارق و هو أنّ إبراهیم یمثّل منشأ التوحید الخالص، و أنّ استمرار هذا الهدف السامی سینتهی إلی ولد إسماعیل. و بناءً علی هذا فإنّ ذریّة إسماعیل هی الحافظة لمرکز التوحید الذی بناه إبراهیم و إسماعیل، و أنّ صفوة هذه الذریّة هم محمّد و آل محمّد.

نتیجة هذه الأبحاث:

کنّا نروم من هذه الأبحاث الدلالة التامّة للآیة علی الزعامة المطلقة لأئمة بنی هاشم، فالآیة تدلّ علی أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم الزعماء بلا منازع، کما دلّت ضمنیاً علی أنّ زعماء الإسلام و أئمّة الهدی مصطَفون من قِبل اللَّه، و أنّ البشریة تحتاج إلی أولیاء اللَّه من زعماء آل إبراهیم و الأئمّة الأطهار فی عرض النبوّة و کونهم یمثّلون الامتداد الحقیقی لهذه النبوّات. و فی الآیة دلالة ضمنیة فی أنّ هؤلاء الأئمّة إنّما یواصلون تحقیق هدف إبراهیم فی إشاعة التوحید و العبودیة الخالصة للَّه، و أنّهم صفوة مصطفاة علی غرار مصطفی الوحی من الأنبیاء، و أنّ اللَّه قد رجّحهم علی ما سواهم؛ لاشتمالهم علی الکمالات التی تمیّزهم عن غیرهم. إذن، فهؤلاء ممّن جمعت فیهم شرائط الإمامة من قبیل الطهارة و البصیرة بالأوضاع الاجتماعیّة و العلم بأسرار القرآن و الوحی و خفایا عالم الخلیقة، و بُعدهم عن الظلم و الشرک و الخرافات و الجهل، بل هم علی درجة من الاقتدار و العلم و الإحاطة بعالم الآخرة، بحیث اتّصفوا بجدارتهم و صلاحیتهم لزعامة و حفظ دعوة إبراهیم، و بالتالی فقد جمعوا ما یؤهّلهم لاصطفائهم من قِبل اللَّه علی الناس، فقد کانوا الصفوة الطاهرة التی اصطفاها اللَّه لزعامة الأُمّة.

ص: 140

الحسین علیه السلام و الآیة الکریمة:

لقد تلا الإمام الحسین علیه السلام هذه الآیة المبارکة: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً ...(1) لمّا برز ولده علی الأکبر للقتال. لقد سمعنا مقالة الإمام أو قرأناها فی المقاتل(2)، إلّا أنّنا لم نلتفت لسبب استشهاد الإمام علیه السلام بها، فقد طرح الإمام حقّانیته فی زعامة الأُمّة و الهدف من نهضته تجاه حکومة و زعامة یزید الفاجر، لیعلم الناس بأنّ حرکة الإمام و دعوته فی إمامة المسلمین إنّما تستند لمنطق القرآن الکریم.

و لیدرک العرب بأنّ القرآن الکریم هو الذی صرّح و نصّ علی زعامته، فإذا تعرّض إلی ما تعرّض له من جور یزید و ظلمه فلیس له من ذنب سوی ذلک! و لیعلم سلطة الیزیدیة الحاکمة و جلاوزتها بأنّ الحقّ مع الإمام، و أنّ الفرد المصطفی من آل إبراهیم لزعامة الأُمّة هو الإمام المظلوم سیّد الشهداء علیه السلام، و لیعلم الباحثون و المحقّقون الضالعون فی القرآن الکریم أنّ إمامة المسلمین إنّما تعیّن من قِبل اللَّه لا الشوری و الانتخابات. و لیعلم العالم بأنّ الحسین علیه السلام صفوة المخلصین للَّه الحائز علی شرائط إمامة المسلمین و الجدیر بهذا المنصب. هذه هی الحقائق التی رام الإمام إیصالها إلی الآخرین بتلاوته للآیة الشریفة.

الآیة المُبارکة و أحادیث الإمامیة:

لقد جمع الفیض الکاشانی- العالم و المحقق الجلیل- عدّة روایات مُعتبرة و أطلق علیها اسم «نوادر الأخبار فی ما یتعلّق باصول الدین». و من بینها روایة مفصّلة هی عبارة عن حدیث دار بین ابن عباس و أمیر المؤمنین علیه السلام بشأن وصیّة النبی صلی الله علیه و آله بعلی علیه السلام، جاء فیها: إنّ علیاً علیه السلام قال: قال لی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: «ثمّ أنت یا علیّ من أئمّة


1- سورة آل عمران: الآیة 33.
2- لواعج الأشجان، للعلّامة العاملی ص 136.

ص: 141

الهدی، و أولادک منک، فأنتم قادة الهدی و التقی، و الشجرة التی أنا أصلها و أنتم فرعها، فمن تمسّک بها فقد نجا، و من تخلّف عنها فقد هلک و هوی، و أنتم الذین أوجب اللَّه- تعالی- مودّتکم و ولایتکم، و الذین ذکرهم اللَّه فی کتابه و وصفهم لعباده، فقال عزّ و جلّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً ... فأنتم صفوة اللَّه من آدم و نوح و آل إبراهیم و آل عمران، و أنتم الاسرة من إسماعیل و العترة الهادیة من محمّد صلی الله علیه و آله»(1). فالحدیث الشریف أشار استناداً إلی الآیة الشریفة إلی عدّة أُمور، منها: أنّ علیّاً علیه السلام و ولده هم أئمّة الدین و زعماء الأُمّة و کهف الوری، و هم الفروع لشجرة الإسلام المُبارکة، و أنّ اللَّه هو الذی حباهم بهذه المقامات من بین آل إبراهیم، و قد استدلّ النبی صلی الله علیه و آله لاثبات هذه المقامات بالآیة الشریفة: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی. و بناءً علی ما تقدّم فإنّ آل إبراهیم لا یقتصرون علی محمّد صلی الله علیه و آله و ولد إبراهیم، بل الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم آل إبراهیم، و أنّ آل إبراهیم المصطَفون إنّما ینتهون إلی هذه السلسلة الجلیلة و العترة الهادیة. فقد استدلّ النبی صلی الله علیه و آله بهذه الآیة و قال: أنتم صفوة اللَّه من آدم و نوح و آل إبراهیم. فعلیّ و أولاده صفوة اللَّه، و لمّا کانوا کذلک فهم أهل الإمامة و الزعامة المتوفّرة فیهم شرائطها. و نفهم من ذلک أنّهم مبرّءون من کلّ عیب و نقص و جهل، بل لیس فی هذه الشجرة إلّا الإخلاص و الاصطفاء الإلهی، و هنا لا بدّ من القول بأنّ آل محمّد صلی الله علیه و آله یمثّلون قمّة السموّ و الکمال و الرفعة العلمیة و التقوی و الورع و الطهارة و کافّة الفضائل الإنسانیة، من قبیل الشجاعة و الإقدام و العلم و الزهد و الکرم و سائر الصفات؛ لأنّهم صفوة اللَّه.


1- تأویل الآیات الظاهرة 1: 106 ح 13، نوادر الأخبار: 126.

ص: 142

خلاصة الآیات و الروایات:

لقد تعرّضت هاتان الآیتان إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ.

إلی تأریخ الإنسان منذ ظهوره حتّی انقراضه، کما خاضتا بصورة مقتضبة فی زعامة البشریة و أبطالها من الصفوة الذین حازوا شرائطها حتّی تزعّم کلّ واحد منهم عالمه المعاصر، حیث ابتدأت هذه الزعامة بآدم علیه السلام و اختتمت بآل إبراهیم علیه السلام. و قد کانت خلاصة آل إبراهیم قد تمثّلت بالإمامة الإسلامیة التأریخیة لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله الذی اختتمت به النبوّة، و قد کان الهدف الأصیل لإبراهیم علیه السلام و استمرار دعوته قد تمثّل بظهور الصفوة من آل محمّد صلی الله علیه و آله، حیث لم تختتم الزعامة بالنبی صلی الله علیه و آله من آل إبراهیم، بل استمرّت فی عقبة من بعده من أهل بیت النبوّة الذین عیّنوا من قِبل اللَّه لمواصلة خطّ النبی صلی الله علیه و آله، و لم یکن هؤلاء سوی الأئمّة الهداة علیهم السلام، و لا یمثّل هذا الکلام استظهاراً للآیتین الکریمتین، بل هذا ما عهده الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام، إذ قال له: أنتم صفوة اللَّه من آدم و نوح و آل إبراهیم ... الذین خصّکم اللَّه بالآیة إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی. و علیه فزعماء المسلمین بعد النبی صلی الله علیه و آله هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام، و حیث کانوا الصفوة المختارة علی مدی التأریخ، کان لا بدّ من القول أنّهم مطهّرون مبرّءون من کلّ عیب و دنس، و هم فی مستوی الأنبیاء فی الإخلاص و الإحاطة بالغیب، بل لمّا کانوا استمراراً لهدف إبراهیم و زعماء الأُمّة إلی الأبد. ینبغی الإذعان بأنّهم الأعلم و الأقدر من سائر الزعامات علی مرّ العصور، و هم الجدیرون بتطبیق المبادئ الحقّة لرسالة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله. و علی ضوء ما تقدّم فقد اتّضحت شرائط الإمامة و صفاتها العالیة، و أنّ الأئمّة علیهم السلام هم خُلّص عباد اللَّه العالمون بأسرار الدنیا و الآخرة، البعیدون عن کلّ عیب و نقص، و المتّصفون بالزهد و الورع و التقوی و العلم و الشجاعة و السماحة،

ص: 143

فهم الصفوة المختارة من آل إبراهیم، إبراهیم رائد التوحید و العبودیة المحضة للَّه، بل هم صفوة اللَّه إلی الأبد و حملة علمه الذی لا یعرف الانقطاع.

ملاحظة:

الأُسلوب الذی درجنا علیه فی الکتاب یتمثّل بالدراسة و التحقیق فی القرآن الکریم من أجل إثبات أصالة الإمامة و شرائطها، فالنهج هو التعمّق فی الآیة من أجل التعرّف علی هذه الامور، الأمر الذی یجعل الکلام یطول أحیاناً شئنا أم أبینا، و قد تجنبنا التعرّض لسائر الآیات التی أوردها علماء الإسلام فی مصنّفاتهم بشأن الإمامة خشیة التطویل و الملل، و إلّا فهناک عدّة شواهد معتبرة بشأن الإمامة و شرائطها فی القرآن، و لعلّ من المفید التعرّض إلیها، غیر أنّ طریقتنا فی البحث ترکّزت علی لفت انتباه العلماء إلی المضامین القرآنیة. و هناک ملاحظة أُخری یجدر الالتفات إلیها، و هی أنّنا قد طرحنا سابقاً سؤالًا فی أنّ قیود الإمامة هل هی قیود مفروضة تنسجم و الفطرة السلیمة فی الإقرار بها أم لا؟ و قد اتّضحت الإجابة خلال الأبحاث، حیث کان البحث یختصّ بشرائط الإمامة من وجهة نظر القرآن، و هی الشرائط التی تستسیغها الفطرة السلیمة و العقل السلیم، بل أنّ العالم لیتعطّش إلی زعامة مثل هؤلاء الأئمّة، و لذلک لا نری حاجة لبحث هذا الأمر بصورة مستقلّة. و أمّا دراسة عدد الشرائط فلا نری له من ضرورة، و یبدو أنّ ما أشار إلیه القرآن کافٍ بهذا الشأن، و لذلک لم نتطرّق إلی هذه الشرائط بصورة مستقلّة، و هل أنّ القرآن صدّق أو لم یصدّق ما أورده علماء الکلام بهذا الخصوص. و نتناول الآن بالبحث فی علم الإمام.

ص: 144

ص: 145

علم الإمام علیه السلام

الزعامة فی الإسلام:

اتّضح ممّا مرّ سابقاً أنّ الزعامة فی الإسلام لیست ولیدة الاستفتاء و الصراعات السیاسیة و القفز علی المواقع من أجل السیطرة علی مقدّرات المسلمین، بل أنّ الرئاسة الإسلامیة منصب إلهی قد فوّضه اللَّه سبحانه فی إطار النظام الإسلامی المتکامل إلی الأئمّة الأطهار علیهم السلام بعد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، و أنّ اشتمالهم علی الشرائط جعلت اللَّه یفیض علیهم هذا المقام العظیم الذی لا یسع الآخرین النهوض به. کما أشرنا إلی طائفة من شرائط الإمامة، أمّا البحث المهمّ الذی یشغل الأذهان و یحظی باهتمام الجمیع فیکمن فی علم الإمام و الزعیم الإسلامی، الذی سنسلّط الضوء علیه فی هذا البحث، و هنا تواجهنا بعض الأسئلة بهذا الشأن، منها: 1- هل الإمام عالم بالغیب، أم أنّ هذا العلم مختصّ بالذات الإلهیة المقدّسة؟

و إن کان عالماً بالغیب، فما کیفیة هذا العلم، و هل یتوصّل إلی هذا العلم بمجرّد بلوغه مقام الإمامة بحیث یدرک الغیب و الخفاء، أم أنّه یعتمد بعض الوسائط لبلوغ مثل هذا العلم؟

ص: 146

و بعبارة أُخری: فهل مجرّد بلوغ ذلک المقام یستلزم الوصول إلی مقام معنوی رفیع بحیث لا یمکن أن یخفی علیه شی ء، أم هنالک من المغیّبات ما لیس له إلیها من سبیل رغم بلوغه ذلک المقام بغضّ النظر عن الوحی أو الإلهام أو سائر الوسائط؟ 2- هل تنحصر علوم زعماء الإسلام و أئمّة الأطهار علیهم السلام فی إطار العلم بالقرآن و الأحکام القرآنیة و التعالیم الإسلامیة فی حین لیس لهم مثل هذا العلم بالحوادث المستجدّة و مستقبل المسلمین و مصیر الإسلام، أم أنّ علمهم واسع شامل بخصوص القرآن و الأحکام و التعالیم الإسلامیة و مستقبل الامّة و ...؟ 3- هل للأئمة علم بما کان و بما یکون إلی یوم القیامة أم لا؟ و علی فرض وجود مثل هذا العلم، فهل علمهم بالأشیاء حضوری أم حصولی؟ و بعبارة أُخری: هل «إذا شاءوا علموا» کما یقول المتکلّمون بحیث لیس لهم مثل هذا العلم دون هذه المشیئة، أم أنّ علمهم فعلیّ بجمیع هذه الأشیاء؟ و نتناول الآن دراسة القسم الأوّل، أی علم غیب الأئمّة و الأنبیاء علیهم السلام من وجهة نظر القرآن الکریم.

القرآن و علم الأنبیاء علیهم السلام:

لیس لأیّ من الأنبیاء من إحاطة بأسرار الخلق و تعالیم الدین بصورة تلقائیة، و أنّهم إنّما یتعلّمون کلّ شی ء من خلال الوحی و النفحات الربّانیّة، و قد صرّح القرآن بتعلیمه آدم الأشیاء- ضمن سرد قصّته- و أنّ الملائکة أعربوا عن عجزهم العلم بالأشیاء دون رفدهم بها من اللَّه وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ* قالُوا سُبْحانَکَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا(1). و قال بشأن عیسی علیه السلام:


1- سورة البقرة: الآیة 31- 32.

ص: 147

وَ یُعَلِّمُهُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِیلَ(1). و قد ذکرنا سابقاً أنّ علم الأنبیاء علیهم السلام یستند إلی الوحی، بینما یستند الأوصیاء فی علمهم إلی الأنبیاء. و علیه: فهم لیسوا فقط لا یطّلعون علی الغیب تلقائیاً، بل حتّی علمهم بأسرار النبوّة إنّما هو من تعلیم اللَّه، حتّی علمهم بقصص الامم الماضیة و الأنبیاء لا یتأتّی من بذل الجهود و التعرّف علیها من خلال الطرق المتداولة.

و الوحی هو سبیلهم فی الإحاطة بهذه الامور، و قد أفصح القرآن الکریم کراراً عن هذه الحقیقة بشأن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فعلی سبیل المثال یستعرض القرآن قصّة یوسف من أجل استنباط بعض الدروس و العبر التی لم یکن النبیّ صلی الله علیه و آله علی علم بتلک الأحداث نَحْنُ نَقُصُّ عَلَیْکَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَیْنا إِلَیْکَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ کُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِینَ(2). و بناءً علی ما تقدّم فسبیل الأنبیاء إلی العلم هو الوحی، و بغضّ النظر عن الوحی فهم کسائر الناس فی التعرّف علی الحقائق و تشخیص الامور و التعامل مع الحوادث، کما یبدون أحیاناً دون الوحی أفراداً عادیین من حیث العلم ببعض الامور و کأنّهم لا یحسنون معرفة الأشیاء المحیطة بهم. فنوح علیه السلام- و هو من أنبیاء أولی العزم، و طبق النظرة الابتدائیة دون الاستناد إلی الوحی- یری صلاح ولده، فیستغیث باللَّه من أجل إنقاذه من بلاء الطوفان رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی(3)، فأتاه الخطاب الإلهی الحاسم الذی یتضمّن المنع عن مثل هذا الطلب قالَ یا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّی أَعِظُکَ أَنْ تَکُونَ مِنَ الْجاهِلِینَ(4).


1- سورة آل عمران: الآیة 48.
2- سورة یوسف: الآیة 3.
3- سورة هود: الآیة 45.
4- سورة هود: الآیة 46.

ص: 148

فلم یجد نوح بدّاً من الانصراف عن طلبه و الاستعاذة باللَّه من تکرار مثل هذه الطلبات، قالَ رَبِّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ أَنْ أَسْئَلَکَ ما لَیْسَ لِی بِهِ عِلْمٌ(1). إذن، فلیس هنالک من غبار یشوب هذه الحقیقة فی أنّ سبیل الأنبیاء إلی العلم هو الوحی، و لیس لهم من سبیل إلی الإحاطة بجمیع الحقائق دون ذلک الوحی، و لا یلزم علی النبی کونه نبیّاً أن یلمّ تلقائیاً بکافّة الامور الغیبیة و یحیط خبراً بجمیع الحوادث. و هذا هو الأمر الذی کشف القرآن عنه النقاب حین خاطب النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قائلًا: تِلْکَ مِنْ أَنْباءِ الْغَیْبِ نُوحِیها إِلَیْکَ ما کُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُکَ مِنْ قَبْلِ هذا(2). إذن، فلیس صحیحاً القول بأنّ النبیّ لکونه یشغل هذا المنصب الإلهی الرفیع یکون عالماً بالغیب بالذات، و أنّ مقام النبوّة سیزیل عنه کلّ حجب المجهول، و بعبارة اخری: النبوّة لیست وسیلة لعلم الغیب، بل النبیّ لا یستغنی فی کلّ آن عن الإفاضة الإلهیة فی إدراک المجاهیل، و هذا من الامور التی لا نقاش فیها، إلّا أنّنا حین نتتبّع القرآن و الآیات الواردة بشأن النبوّة نفهم أنّ البارئ سبحانه قد أفاض عنایاته الخاصّة علی صاحب هذا المقام، بما یجعله یقف علی جمیع الامور المجهولة و ماضی و مستقبل البشریة و الحوادث التی تواجهها فی مسیرتها، حیث اختصّ سبحانه بعض عباده بهذه الإحاطة، الأمر الذی یجعل صاحب مقام الزعامة الدینیة عالماً بالغیب. و إلیک طائفة من الآیات الواردة فی علم الغیب، و هنا یمکننا أن نقسّم الآیات الکریمة إلی ثلاث طوائف: 1- الآیات التی حصرت علم الغیب باللَّه.


1- سورة هود: الآیة 47.
2- سورة هود: الآیة 49.

ص: 149

2- الآیات التی تنفی عن الأنبیاء و النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله العلم بالغیب. 3- الآیات الدّالة علی إفاضة اللَّه لعلم الغیب علی أنبیائه. نکتفی بذکر نموذجین من الآیات الواردة فی القسم الأوّل: 1- قُلْ لا یَعْلَمُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَیْبَ إِلَّا اللَّهُ(1). 2- وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلَّا هُوَ(2). و من نماذج القسم الثانی من الآیات: 1- قُلْ لا أَقُولُ لَکُمْ عِنْدِی خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَیْبَ وَ لا أَقُولُ لَکُمْ إِنِّی مَلَکٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما یُوحی إِلَیَ(3). 2- قُلْ لا أَمْلِکُ لِنَفْسِی نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ کُنْتُ أَعْلَمُ الْغَیْبَ لَاسْتَکْثَرْتُ مِنَ الْخَیْرِ وَ ما مَسَّنِیَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِیرٌ وَ بَشِیرٌ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ(4). و أمّا نماذج القسم الثالث، فهی: 1- عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِیَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ(5). 2- وَ ما کانَ اللَّهُ لِیُطْلِعَکُمْ عَلَی الْغَیْبِ وَ لکِنَّ اللَّهَ یَجْتَبِی مِنْ رُسُلِهِ مَنْ یَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ(6).


1- سورة النمل: الآیة 65.
2- سورة الأنعام: الآیة 59.
3- سورة الأنعام: الآیة 50.
4- سورة الأعراف: الآیة 188.
5- سورة الجن: الآیة 26- 28.
6- سورة آل عمران: الآیة 179.

ص: 150

مفاد الطوائف الثلاث من الآیات:

1- علم الغیب بصورة تلقائیة مختصّ باللَّه، و اللَّه وحده العالم بالغیب بالذات و أنّ جمیع الامور حاضرة لدیه. 2- أنّ الأنبیاء لا تتکشّف لهم حجب الغیب بمجرّد بلوغهم النبوّة. 3- توضّح الطائفة الثالثة من الآیات حصر هذه القدرة فی اللَّه و نفی علم الغیب عن الأنبیاء، کما تشیر إلی ماهیة هذا الانحصار و ماهیة عدم اطّلاع النبی علی الغیب، فهی تشیر إلی أنّ اللَّه إنّما یفیض هذه القدرة علی رسله فقط، و أنّه قد حباهم بهذه الکرامة من بین الخلق فأطلعهم علی المغیَّبات، و علیه: فلیس للنبیّ تلقائیاً من علم بالغیب، و أنّ اللَّه یفیض هذه الکرامة علی أنبیائه بما یکشف لهم الحوادث الخفیّة و الحقائق المکنونة، و یُنیر لهم الظلمات من خلال الوحی، بل یمکن الجزم- علی ضوء الآیة 179 من سورة آل عمران- أنّ مقام الرسالة معناه العلم التامّ بالغیب، و أنّ عمل الرسول هو الاستخبار بعلم المغیَّبات، حیث یتمکّن بواسطة هذا العلم من قیادة الأُمّة و الأخذ بیدها إلی شاطئ الأمان و السعادة فی الدارین. و نخلص ممّا سبق إلی أنّ الفصل الممیّز للرسالة هو بلوغ الرسول منزلة تجعله عالماً بالغیب، فهل ینطق الرسول عمّا سوی الغیب؟ و هل کشف الحقائق المجهولة و إبانة أسرار الوجود، و إماطة اللثام عن مستقبل البشریة و مصیرها، و إزالة الحیرة و الاضطراب عن الأُمّة، و تعریفها بالحوادث إلی یوم القیامة، و ما ینتظرها فی ذلک الیوم، هی أشیاء اخری خارج ذلک العلم؟ و هل له ممارسة مثل هذه الأُمور بعیداً عن العلم بالغیب؟ نعم، إنّ بعض الرسل قد لا یبلغون کافّة مراحل کمال العلم الغیبی، فهم یتفاوتون فی تلقّی الإفاضات الإلهیة تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ(1)،


1- سورة البقرة: الآیة 253.

ص: 151

لکن لیس منهم من شذّ عن تلک الإفاضات و حرم منها، و لم تتح هذه الإفاضات بأکملها إلّا لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله و إن کان صلی الله علیه و آله- علی ضوء بعض النصوص القرآنیة- لیس مطّلعاً علی بعض الحوادث یَسْئَلُکَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ(1). فالنتیجة التی نخلص إلیها من مجموع الطوائف الثلاث هی أنّ الغیب الذاتی مختصّ بالحقّ تبارک و تعالی، و أنّ الوحی هو وسیلة الأنبیاء للتوصّل إلی هذا العلم، و لکی یتّضح الموضوع أکثر لا بدّ من تسلیط الضوء علی هاتین الآیتین: 1- الآیة: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلَّا هُوَ(2)، أولا یفهم من هذه الآیة انحصار العلم بالغیب بذات اللَّه تعالی؟ و نقول: لو کان المراد أنّه لیس هنالک أحد سوی اللَّه له علم بکیفیة أسرار الخلق و علم الغیب لکان من المناسب أن یحصر هذا العلم به سبحانه لا مفاتحه. 2- لقد وصف سبحانه فی بعض الآیات ذاته المقدّسة بعلّام الغیوب، أی عبّر بصیغة المبالغة، کما ورد ذلک فی الآیة أَ لَمْ یَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ یَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُیُوبِ(3). و هکذا عبّر بهذه الصیغة فی سائر الآیات، أ فلا یشعر هذا بأنّ العلم المقتصر علی الحقّ تعالی هو العلم بمعنی المبالغة؟

علم الأئمّة علیهم السلام:

لقد اتّضح لدینا لحدّ الآن أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله مَن یستمدّ علمه بالأشیاء من


1- سورة الأحزاب: الآیة 63.
2- سورة الأنعام: الآیة 59.
3- سورة التوبة: الآیة 78.

ص: 152

الإفاضات الغیبیة فهو عالم بالغیب، و لکن ما ذا بشأن الأئمّة؟ هل الأئمّة الأطهار علیهم السلام عالمون بالغیب أیضاً؟ و هل ورد فی القرآن ما یفید استنادهم إلی المدد الغیبی فی إمامتهم و اطّلاعهم علی المغیَّبات و لو عن طریق النبیّ صلی الله علیه و آله؟ لا شکّ أنّ علم الأئمّة علیهم السلام هو حصیلة إرشادات و توجیهات النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله، کما لا شکّ أیضاً أنّهم لا یستندون فی علمهم إلی الوحی، لکن لیس هنالک من شکّ أیضاً- و کما اتّضح من المباحث السابقة- فی أنّهم عیّنوا من قِبل اللَّه إلی جانب کون إمامتهم ممّا تقتضیه وظیفة مواصلة أهداف الرسالة، و تطبیق الأحکام الإسلامیة و تفصیل أسرار القرآن علاوة علی استخلافهم من جانب النبی صلی الله علیه و آله. و بعبارة أوضح: أنّ الإمامة من الأُصول الرئیسیّة للإسلام و کافّة الشرائع الإلهیة، و أنّ الإمام منصّب من قبل اللَّه للنهوض بأهداف الإسلام و زعامة الامّة و توجیهها فی مسیرتها الحیاتیة، و خلاصها من مصاعب الحیاة، و الأخذ بیدها إلی الصلاح و الفلاح، و هنا لا بدّ من معرفة: هل أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام عالمون بالغیب و الحوادث الخفیّة و تفاصیل الأُمور، أم أنّ علمهم یقتصر علی القرآن و الأحکام؟ قد ذکرنا آنفاً أنّ لهؤلاء الهداة إمامة الأُمّة بعد النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، و قد نصّت آیة الطاعة أَطِیعُوا اللَّهَ بولایتهم للأمر و تشکیل الحکومة الإسلامیة، فهل ینبغی أن یکون الحاکم الإسلامی عالماً بالغیب، و ما رأی القرآن الکریم بهذا الشأن؟

نقطة ضروریة:

لا ندَّعی فی هذه الأبحاث أنّ مفاد الآیات الکریمة- التی سنعرض لها لاحقاً- صریحة فی أنّ الإمام بالاستناد إلی الفیض الإلهی عالم بالغیب، بل ما تفیده الآیات الواردة بهذا الشأن، هو أنّ الأفراد الذین بیدهم مقدّرات المسلمین علی أنّهم

ص: 153

حکّام المسلمین و أئمّتهم لا بدّ أن تکون دعائم حکومتهم مستندة إلی الاستمداد الغیبی، و أنّهم یعتمدون علی العلم الغیبی الذی یفاض علیهم، و أنّ الإمام إنّما یُمارس زعامته بما یفیض اللَّه علیه، و حیث ثبت فی محلّه أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام هُم ولاة الأمر و الحکّام، فمن المفروغ منه أن تستند أسس حکومتهم إلی العلم الغیبی. و بعبارة اخری: أنّ الحکومة الإسلامیة و تدبیر الأُمور علی أساس الإطار الإسلامی و تصریف شئون القضاء و إدارة شئون البلاد و تعریف الأُمّة بوظائفها و کیفیّة التعامل معها و توجیهها و إرشادها، کلّ ذلک لا بدّ أن یستند إلی العلم الغیبی، و علیهم أن یبلغوا الأُمّة ما ألهمهم اللَّه من مکنون غیبه. و بناءً علی هذا فإنّ الحاکم الإسلامی إنّما یستند إلی العلم الغیبی فی حکومته و توجیهه و زعامته للُامّة، و لمّا کانت الحکومة الإسلامیة للأئمّة الأطهار علیهم السلام بعد النبیّ صلی الله علیه و آله کان لا بدّ من علمهم التامّ بالمغیَّبات و الحوادث الخفیّة و ما یواجه الإسلام و المسلمین خلال المسیرة. و استناداً لهاتین المقدّمتین- اللتین هما بمثابة الصغری و الکبری- یثبت أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام زعماء الدین مطّلعون علی الغیب، عالمون بالحوادث الواقعة و ما یمت بصلة لسعادة الامّة. أمّا کبری هذا الدلیل فهی الآیات التی سنتطرّق إلیها، و التی تفید استناد الحاکم الإسلامی لعلم الغیب، و أمّا صغراه فهی الآیات السابقة التی صرّحت بأصل الإمامة علی غرار أصل النبوّة، و أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام من بنی هاشم هم أُولو الأمر بعد النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله. و نخوض الآن فی الآیات التی تمثّل کبری الدلیل، أی الآیات التی تفید ضرورة استناد الحاکم الإسلامی فی شئون الحکومة إلی علم الغیب و کونه عالماً بالغیب.

ص: 154

الآیة الأُولی:

اشارة

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِما أَراکَ اللَّهُ وَ لا تَکُنْ لِلْخائِنِینَ خَصِیماً(1). واضح أنّ ما أری اللَّه نبیّه و أراده هو أن تکون حکومته و دعائمها قائمة علی أساس ذلک العلم بالمغیّبات، و قد ذکر کِبار المفسّرین من قبیل الشیخ الطوسی- المحقّق المعروف- فی سبب نزول الآیة أنّ الإخوة الثلاثة من بنی زریق و هم بشر و بشیر و مبشّر سرقوا سیفاً و درعاً و طعاماً من عمّ قتادة بن النعمان، فأتی قتادة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بطلب من عمّه لاسترداد تلک المسروقات، و قد کان قتادة وجیهاً محترماً لدی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؛ لأنّه شهد بدراً. فبعث السرّاق بأسیر بن عروة- و کان منطیقاً یشفع لهم عند النبی صلی الله علیه و آله، فسمع ابن عروة مقالة قتادة، فقال مُدافعاً:

یا رسول اللَّه صلی الله علیه و آله إنّ هؤلاء الإخوة من أشرافنا، فلا أری أن تأذن بأن یساء إلی المسلمین عندک، فحمل رسول اللَّه صلی الله علیه و آله علی قتادة و عنّفه علی اتّهاماته. و کان لا بدّ للنبی صلی الله علیه و آله من العمل بالظاهر من تعنیفه، لرمیه بعض المسلمین بالسرقة دون الإتیان بدلیل أو حجّة ... فترک قتادة المجلس حزیناً و رجع إلی عمّه مغموماً فقال:

لیتنی متّ و لم أقل للنبی صلی الله علیه و آله ما قلت(2). فنزلت الآیة لتطّلع النبیّ صلی الله علیه و آله علی الحقیقة و تحکم بخیانة الإخوة الثلاث و تطلب من النبیّ صلی الله علیه و آله أن یستند فی حکمه إلی العلم الواقعی، أی العلم بالمغیّبات، رغم کون ظاهر الأمر یقتضی بما قام به النبیّ صلی الله علیه و آله و یعنّف قتادة، إلّا أنّ اللَّه أشار علیه بالحکم استناداً إلی الغیب و ما أراه سبحانه و ألّا یدافع عن الخائن، فالذی یفیده سبب النزول أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله و بغضّ النظر عن الوحی لا یحیط ببعض الأُمور الجزئیة،


1- سورة النساء: الآیة 105.
2- تفسیر القمّی 1: 150- 151، التبیان فی تفسیر القرآن 3: 316- 317، مجمع البیان 3: 174- 175.

ص: 155

إلّا أنّه یطّلع علیها و علی تفاصیل سائر الحوادث من خلال الاستمداد من الغیب، فالغیب من شأنه أن یحدّد الخائن و السارق و البری ء. فلا یخفی شی ء علی الحاکم الإسلامی، و هو علیم بالأسرار الخفیّة، و أنّ اللَّه قد أراه ما تقوم به حکومته. و إذا تأمّلنا العبارة «ما أراک اللَّه» التی وردت بصیغة الماضی و طبّقناها علی هذه الواقعة، لإفادتنا عدم وجود أیّ شی ء مخفی و مستور علی النبی صلی الله علیه و آله، و هو علیم بالأشیاء بنبوّته المستندة إلی المدد الغیبی، فلیس هنالک من تردید بالنسبة إلی النبی صلی الله علیه و آله فی أنّ أولئک الإخوة الثلاث سارقون خائنون.

نظرة أعمق:

رغم أنّ الآیة الکریمة- بالالتفات إلی سبب النزول- مختصّة بحادثة مع النبی صلی الله علیه و آله، إلّا أنّ التعمّق فی الآیة یفید ضرورة استناد حکومة و زعامة الحاکم الإسلامی- الذی نصّبه اللَّه علی الخلق- إلی علم الغیب و ما یریه اللَّه و یکشف له من مکنونات الأُمور؛ لأنّ مفاد الآیة لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِما أَراکَ اللَّهُ- مع إلغاء خصوصیة هذا المورد- أنّ الحاکم الإسلامی لا یحکم إلّا بما یریه اللَّه و یرشده إلیه، و هذا ما یستلزم الاستنتاج بعلم الحاکم و الإمام بالمغیّبات و الحوادث الخفیّة، و لو کانت تلک الحادثة جزئیة و فی زمان خاصّ، و حیث نصّت الآیات السابقة علی أنّ الإمام خلیفة النبیّ صلی الله علیه و آله فی الحوادث الواقعة و زعامة الأُمّة و ولایة شئونها الإسلامیة فهو یتمتّع بما یتمتّع به النبی صلی الله علیه و آله من علم، و اللَّه أعلم.

الآیة الثانیة:

اشارة

رَبِّ قَدْ آتَیْتَنِی مِنَ الْمُلْکِ وَ عَلَّمْتَنِی مِنْ تَأْوِیلِ الْأَحادِیثِ(1).


1- سورة یوسف: الآیة 101.

ص: 156

الأحادیث بمعنی «الإخبار عن حوادث الزمان»، فالآیة تفید تعلیمه حوادث الزمان بتفاصیلها، أی العلم الغیبی.

منصب یوسف علیه السلام:

إنّ یوسف الصدّیق الذی واجه تلک المصائب و الویلات التی ملأت حیاته بالألم و المعاناة و الحرمان و الفِراق، و بعد أن أثبت خلوصه فی عبودیة اللَّه و کفایته حظی بشی ء من زعامة مصر و أصبح أمیناً لخزانتها، و حیث کان من أنبیاء اللَّه و قد جعله اللَّه فی ذلک المقام و فوّض إلیه إدارة الشئون المالیّة للبلاد، وجب أن یکون عالماً بخزائن الغیب و مکنوناته و حوادث الزمان و المرجع فی تلک الوقائع و الأحداث. و بناءً علی هذا فإنّ الحاکم و إن کان دون الزعیم العام و أوطأ درجة منه، فإن کان یشغل هذا المنصب من جانب اللَّه فهو عالم بالمغیّبات و الحوادث الخفیّة. و قد نبّه القرآن الکریم إلی قبس منه فی تأویل الأحلام و ارتداد یعقوب بصیراً(1)، و علیه: فإنّ الزعامة الإلهیة تتطلّب العلم بالمغیّبات و الإحاطة بالحوادث سواء کانت هذه الزعامة متمثّلة بیوسف علیه السلام، أم غیره من الزعماء الربّانیین، و ذلک لأنّ الآیة الکریمة صریحة فی أنّ مَن تصدّی للملک من قِبل اللَّه لا بدّ أن یکون ملمّاً باسلوب إدارة شئون البلاد و الاستمداد الغیبی.

الآیة الثالثة:

وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْکَ وَ الْحِکْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا یَشاءُ(2). یتّضح من التأمّل فی قصّة طالوت و جالوت- التی ذکرنا تفاصیلها سابقاً أنّ


1- سورة یوسف: الآیات 43- 49 و 96.
2- سورة البقرة: الآیة 251.

ص: 157

زعامة الامّة إنّما تفوّض إلی الصالحین من الأفراد ممّن تتوفّر فیهم شرائطها، من قبیل العلم و القدرة و ... و أنّ اللَّه هو الذی زوّد الملک بتلک القدرة العلمیة، حیث صرّحت الآیة قائلة: وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْکَ وَ الْحِکْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا یَشاءُ. و لعلّ فاعل «یشاء» ضمیر یعود إلی داود، أی أنّ اللَّه آتی داود کلّ ما شاء من العلم. و ربّما عاد الضمیر إلی «اللَّه» أی أنّ علم داود من اللَّه، و قد أفاض اللَّه ما شاء من العلم علی داود. علی کلّ حال فالمعنی المستفاد هو أنّ زعیم البلاد- الملک- ینبغی أن یکون عالماً بالمغیّبات محیطاً بالمکنونات، و أنّ زعامته لا تستند إلی الطرق و الجهود المتعارفة فی الحصول علی العلم، بل وسیلته فیها إفاضات الحقّ سبحانه فی الوقوف علی الأسرار، سواء کان هذا الزعیم داود، أو أیّ فرد آخر ینصّبه اللَّه.

الآیة الرابعة:

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَیْنا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِیتاءَ الزَّکاةِ وَ کانُوا لَنا عابِدِینَ(1). تری الآیة أنّ الإمامة منصب إلهی، کما تدلّ علی أنّ الإمام یتولّی الأمر بالاستمداد الغیبی، و الذی تفیده هذه الدلالة استناد الإمام فی زعامته إلی العلم الغیبی. و بناءً علی هذا فللأئمّة الأطهار علیهم السلام مثل هذا الامتیاز؛ لأنّهم مصطفون من قبل اللَّه، غایة ما فی الأمر أن لا سبیل إلی الوحی، و أمّا سائر السبل فمفتوحة.

ثمرة هذا البحث القرآنی:

لقد أصبح الأمر جلیّاً بأنّ أئمّة الإسلام إنّما یستندون إلی الغیب فی زعامتهم


1- سورة الأنبیاء: الآیة 73.

ص: 158

و أنّهم مطّلعون علی خفایا الأُمور، و لکن ما مدی هذا الاطّلاع و العلم، و کیف یتأتّی لهم هذا العلم؟ لا یمکن الاستدلال بهذه الآیات فی هذا الخصوص، و لکن ما یمکن الجزم بقوله هو أنّ علمهم بکیفیّة تؤدّی إلی هدایتهم إلی الصراط المُستقیم و إلی سبل السلام، و أن تکون هدایتهم صائبة صحیحة تماماً، فهم الهُداة إلی الحقّ و الحقائق المسلّمة، و ذلک بفعل استنادهم إلی الغیب، و لیس هنالک من سبیل إلی خطأ هذه الهدایة، و بالتالی فشل و هلاک الامّة أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلَّا أَنْ یُهْدی(1). کما نعلم من جانب آخر أنّ هؤلاء زعماء إلی الأبد، و قد تقدّم هذا البحث و ثبت فی حینه أنّ العالم الإسلامی لا بدّ أن یخضع- و إلی قیام الساعة- فی قیادته لمثل هؤلاء الزُّعماء. و بناءً علی هذه النتیجة و المقدّمتین فإنّ علمهم بالحوادث الخفیّة و ما ستواجهه الأُمّة الإسلامیة فی المستقبل، و لا سیّما الحوادث ذات الصلة بکیان الإسلام و المسلمین إنّما تثبت و توضّح أمرین، هما: 1) أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم الزعماء و القادة إلی الأبد. 2) أنّ زعامتهم و بالاستناد إلی المدد الغیبی و العنایة الإلهیة هی عین الصواب و التی تتضمّن الهدایة المطلقة إلی الحقّ. و أمّا ثمرة هاتین المقدّمتین؛ فهی أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام عالمون بالحوادث الخفیّة و ما ستواجهه الامة الإسلامیة إلی یوم القیامة، و ذلک لأنّه لا یمکنهم أن یکونوا زُعماء إلی الأبد ما لم یکونوا عالمین. و إن قُلنا بأنّهم زعماء إلی الأبد، و لکن لیس من الضروری أن یکونوا عالمین بجمیع الحوادث، فإنّ هذا ینقض الفرض


1- سورة یونس: الآیة 35.

ص: 159

القائل بأنّ زعامتهم هی عین الصواب. إذن، فالعلم و الاطّلاع من مستلزمات خلود زعامتهم. کما أنّ ملزوم هدایتهم المطابقة للواقع و البعیدة عن الفساد هو علمهم بجمیع الحوادث. و هنا یبرز هذا السؤال: أ یمکن أن تکون توجیهات و هدایة الزعیم صائبة و دون شائبة فی حین لیس له من علم بالحوادث، و أنّه یقود الأُمّة إلی سبل السلام و یهدیها إلی الصراط المستقیم حین تعترضها بعض الأحداث التی لم یتکهّن بها؟ کیف یمکن الاعتقاد بأنّ الأئمّة علیهم السلام هم الزعماء إلی الأبد، و أنّ الامّة تحذو حذوهم بینما یجهلون عواقب الامور و الأحداث! و کیف لنا أن نتصور أنّ هدایتهم عین الواقع إلی الأبد و هم جاهلون بالوقائع؟! و علیه: فإنّ افتراض عدم علم الأئمّة علیهم السلام إنّما یستلزم إنکار أصلین قرآنیین مسلّمین، و هما: 1- الزعامة الأبدیّة للإمام. 2- الهدایة الواقعیة التی تأبی الفساد أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلَّا أَنْ یُهْدی(1). فکأن مفهوم الآیة هو أنّ مَن یهدی إلی الحقّ و لیس للباطل من سبیل إلیه هو الإمام الأبدی، و الإمام الأبدی لن یخطئ؛ لأنّ الاتّباع ورد مطلقاً فی الآیة، و علیه: فالإمامة دائمة أیضاً، أمّا نفی العلم بالحوادث المستقبلیة عن الإمام الأبدی ذی الهدایة الواقعیة الصائبة إنّما هو مکابرة و جدل فارغ.

علائم الإمام علیه السلام:

بغضّ النظر عن الشرائط التی بحثت فی الآیات الماضیة التی تکشف النقاب عن علائم الإمام و شرائط الإمام من وجهة نظر القرآن الکریم، فقد اتّضحت


1- سورة یونس: الآیة 35.

ص: 160

الأبعاد العلمیة للإمام فی ما یلی: 1- أنّ الإمام یمارس زعامته من خلال الاعتماد علی الغیب. 2- الزعامة الروحیة- الأشمل من الإمامة و النبوّة- لیست سوی المعرفة بالغیب، و لم تجر المشیئة الإلهیة أن یطّلع الناس علی الغیب دون الوسیط العالم بسبل السعادة و الفلاح، بل لا یتحقّق هذا الهدف إلّا فی ظلّ صفوة ربّانیة، و هذه هی إرادة اللَّه فی أنّه «لا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ»(1). 3- أنّ أئمّة الدین عالمون بالغیب خبیرون بما حُجِب عن الأبصار. 4- هدایتهم بالنظر لاعتمادهم علی الغیب مطابقة للواقع تأبی الخطأ و الانحراف. 5- حدّ الهدایة و الإرشاد هو المسیرة التأریخیة للبشریة، و علیه: فهم عالمون بحوادث البشریة و عاقبتها. 6- کلّ هذه الامور من الفیوضات الغیبیة و العنایات الإلهیة، و إلّا فهم لا یتجاوزون الإمکان العلمی فی الحدود الإنسانیة.

التصدّی للانحراف:

لقد أشار القرآن فی أکثر من آیة إلی روح اللجاجة و العناد و عدم التسلیم التی تحکم روح الإنسان طیلة عصور الأنبیاء علیهم السلام، لکن أحیاناً یخرج عن حالة التسلیم الطبیعی لیقع فی مستنقع الضلال. فالقرآن یُشیر إلی هذا الأمر، و أنّ هناک طائفة لم تؤمن بنبوّة عیسی علیه السلام حتّی همّت بقتله، بینما ذهبت طائفة اخری و سلّمت لأُلوهیّة نبی اللَّه عیسی علیه السلام، و لذلک جهد القرآن فی محاربة هذه الأفکار الضالّة المنحرفة، و الواقع هو أنّ هذا الضلال الذی شمل ملایین النصاری الروم إنّما کان معلولًا


1- اقتباس من سورة الجنّ: الآیتان 26- 27.

ص: 161

لولادته من الامّ دون وجود الأب، أی الولادة من غیر المسیر الطبیعی الإنسانی، و قد رکّز القرآن الکریم علی أنّ الولادة الطبیعیة خاضعة لإرادة اللَّه تابعة لقدرته، و إن کان هناک من ولید دون أب؛ فإنّه لا یعنی أنّه خارج عن الولادة الإنسانیة الطبیعیة و أنّه فوق الإنسان الطبیعی، و ذلک لأنّ القدرة و الإرادة الإلهیة أعظم من هذه الأُمور، فاللَّه هو الذی یخلق من العدم، کما یخلق آدم من تراب، و علیه:

فعیسی علیه السلام لیس خارجاً عن دائرة الإمکان، فهو کسائر المخلوقات التی اکتسبتها المشیئة الإلهیة حقیقة الوجود.

هدف الآیات النافیة لعلم الغیب:

لا یبدو مستبعداً علی ضوء الآیات التی وردت بشأن علم النبیّ و أئمّة المسلمین أن یکون الهدف من نفی علم الغیب عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله هو الأمر المهمّ الذی ذکرناه سابقاً، فقد ترعرع النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی بیئة تتّصف بالجهل و الخرافة و آلاف العیوب و عدم التعرّف علی العالم الإنسانی، و قد سطع نوره فی ظلمات القلوب، فلعلّ هناک بعض الأفراد الذین یفقدون باصرتهم إثر ترکیزهم علی رؤیة الشمس، فقد کانت لشخصیة النبیّ صلی الله علیه و آله و قدرته العلمیة و سموّه و رفعته أثرها فی نفوس البعض الذی یخشی علیه من الاضطراب، کما یمکن أن یصل بعض المؤمنین إلی المغالاة فی الحقّ بالنسبة للنبی صلی الله علیه و آله؛ و بالتالی یُصابون بما اصیب به النصاری فیقولون بالوهیة محمّد صلی الله علیه و آله، و لهذا جهد القرآن علی إضفاء حالة الاعتدال لدی المسلمین و عدم الانحراف عن الصراط. و لذلک نری القرآن الکریم لا ینفک یؤکّد ما معناه أنّ محمّداً لیس إلّا بشراً مثل سائر الأفراد، کما أنّ شعار الإسلام الذی یکمن فی الشهادة قد تضمّن التأکید علی عبودیة محمّد للَّه «و أشهد أنّ محمّداً عبده و رسوله»، فالقرآن سعی من خلال نفیه

ص: 162

علم النبی صلی الله علیه و آله بالغیب لإبعاد التصوّر الذی قد یسود الأذهان بأنّه فوق البشر، و لا یغفلوا عن کونه عبداً من عبید اللَّه لیبلغ الوحی و الرسالة. و من هنا لا بدّ من القول بأنّ الآیات النافیة لعلم الغیب إنّما تجرّده من العلم الذاتی للغیب، فهو لیس بذاته محیط بالأسرار و الخفایا، لیتصوّر بأنّه إله فی الأرض، و أنّ اللَّه سبحانه بعنایته و لطفه و فیضه إنّما یرفع عنه حجب الغیب و یطلعه علی المکنونات، فالنبیّ صلی الله علیه و آله کالمرآة التی تعکس نور اللَّه سبحانه. و لذلک تطالعنا أیضاً- و فی إطار الهدف المذکور- بعض الآیات التی تسلبه القدرة الذاتیّة علی هدایة الامّة، بل أبعد من ذلک أنّ بعض الآیات سلبته بعض الأفعال الاختیاریة وَ ما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لکِنَّ اللَّهَ رَمی(1)، کما سلبته الهدایة إلی الصراط المُستقیم تحقیقاً لذلک الهدف إِنَّکَ لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لکِنَّ اللَّهَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ(2). نعم، لقد تنوّعت الأسالیب و الخطابات القرآنیة التی تروم تفادی الانحراف الفکری و الغلوّ فی شخص النبی صلی الله علیه و آله بفعل الکمالات العالیة التی اشتملت علیها شخصیته، و أحیاناً ترد بعض الآیات القرآنیة علی لسانه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ یُوحی إِلَیَ(3)، و کلّ ذلک بالطبع یهدف إلی عدم ضلالة القوم و تورّطهم کتورّط النصرانیة فی نسبتها المسیح للربوبیة، و إلّا فمحمد صلی الله علیه و آله لم یسلک وادیاً و لم یهد إلی سبیل إلّا من خلال الغیب، أو هناک تفسیر سوی الغیب لهذه الفصاحة القرآنیة و المعارف العلمیة و الحقائق الاجتماعیّة و السیاسیة و المدنیة و البلاغیة التی أتی بها بشر امّی؟


1- سورة الأنفال: الآیة 17.
2- سورة القصص: الآیة 56.
3- سورة الکهف: الآیة 110.

ص: 163

إذن، فحدیثه عن الغیب و کشفه الحجب إنّما یستند فیها إلی الحقّ سبحانه نور السموات و الأرض، و أمّا الآیات التی نفت علم الغیب عنه وَ لَوْ کُنْتُ أَعْلَمُ الْغَیْبَ لَاسْتَکْثَرْتُ مِنَ الْخَیْرِ وَ ما مَسَّنِیَ السُّوءُ(1) إنّما تنفی الغیب الذاتی للنبی صلی الله علیه و آله، و کأنّه یرید أن یقول بأنّی لا أعلم شیئاً إلّا ما أفاض علیّ الحکیم المطلق.

آیات أُخری:

نذکر هنا طائفة من الآیات التی تؤیّد ما ذهبنا إلیه سابقاً: 1- قُلْ إِنِّی لا أَمْلِکُ لَکُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً(2). 2- إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ وَ مَنْ یَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِینَ فِیها أَبَداً(3). 3- قُلْ إِنْ أَدْرِی أَ قَرِیبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ یَجْعَلُ لَهُ رَبِّی أَمَداً(4). 4- عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً(5). فالآیات تکشف عن عدم قدرة النبیّ صلی الله علیه و آله علی النهوض بالإنسان و إیصاله إلی مراحل الکمال بالاستناد إلی نفسه دون الاستمداد من الغیب الإلهی. إذن، لا شکّ فی أنّه لیس له من وسیلة إلی تربیة الأُمّة و إرشادها و إبلاغها رسالات السماء و قیمها سوی الاستناد إلی الغیب، و کلّ ما یأتی به إنّما هو الغیب،


1- سورة الأعراف: الآیة 188.
2- سورة الجنّ: الآیة 21.
3- سورة الجنّ: الآیة 23.
4- سورة الجنّ: الآیة 25.
5- سورة الجنّ: الآیتان 26- 27.

ص: 164

و لیس هنالک إلّا بعض النوادر التی لم یطّلع علیها النبیّ صلی الله علیه و آله من قبیل الساعة، و لعلّ مثل هذا الأمر خارج عن طاقة العقل البشری مهما کانت قوّته، و لیس ذلک إلّا إلی علّام الغیوب. نعم، إنّ هذه الآیات هی الأُخری واضحة فی نفی علم الغیب عن النبی صلی الله علیه و آله، فی الوقت الذی تصرّح فیه بأنّه إنّما یستند إلی الغیب الإلهی فی مسیرته الدینیة التربویة.

هدف الأئمّة من نفی العلم بالغیب:

هذا هو الأمر الذی واجه الأئمّة الأطهار علیهم السلام أیضاً، فقد کانوا یحدّثون بالأخبار الغیبیّة؛ ممّا حدا بالبعض إلی المغالاة، و لذلک نراهُم أحیاناً ینفون وقوفهم علی مثل هذا العلم. و نری من الأفضل أن نورد بعض النماذج التی ذکرها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أو الأئمّة علیهم السلام و التی تکشف عن مدی کمالهم و علمهم، ثمّ نتطرّق بعدها إلی تلک الأخبار التی تضمّنت نفیهم الانطواء علی ذلک العلم، و لا نری من حاجة للخوض فی المزید من الأخبار التی وردت عنهم، فنوکل هذا الأمر إلی الکتب الروائیة و التأریخیة التی شحنت بهذه الأخبار، و نکتفی بذکر بعض الأخبار التی وردت عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، ثمّ نورد عباراته بهذا الشأن بصفته متتبّعاً لا غرض له، إذ لیس هو من علی علیه السلام.

إخبار أمیر المؤمنین علیه السلام:

«أیُّها الناس فإنّی فقأتُ عین الفتنة ... فاسألونی قبل أن تفقدونی، فوالذی نفسی بیده لا تسألونی عن شی ء فیما بینکم و بین الساعة، و لا عن فئة تهدی مائة و تضلّ مائة إلّا أنبأتکم بناعقها و قائدها و سائقها، و مناخ رکابها، و محطّ رحالها،

ص: 165

و مَن یُقتل من أهلها قتلًا و من یموت منهم موتاً»(1). یقول ابن أبی الحدید: «روی أبو عمر محمّد بن عبد البرّ فی کتابه الاستیعاب عن جماعة من الرواة المحدّثین قالوا: لم یقل أحد من أصحاب رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: سلونی قبل أن تفقدونی إلّا علیّ بن أبی طالب. و قال: «روی شیخنا أبو جعفر الإسکافی فی کتابه نقض العثمانیة، عن علی بن الجعد، عن ابن شبرمة قال: لیس لأحد من الناس أن یقول علی المنبر: «سلونی إلّا علیّ بن أبی طالب علیه السلام». ثمّ خاض ابن أبی الحدید فی الامور الغیبیة التی أوردها أمیر المؤمنین علیه السلام فقال: «لقد أقسم علی باللَّه الذی نفسه بیده أنّهم لا یسألونه عن أمر یحدث بینهم و بین القیامة إلّا أخبرهم به، و أنّه ما صحّ من طائفة من الناس یهتدی بها مائة، و تضلّ بها مائة إلّا و هو مخبر لهم- إن سألوه- برعاتها و قائدها و سائقها، و مواضع نزول رکّابها و خیولها، و مَن یقتل منها قتلًا، و مَن یموت منها موتاً، و هذه الدعوی لیست منه علیه السلام ادّعاء الربوبیّة، و لا ادّعاء النبوّة، و لکنّه کان یقول: إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أخبره بذلک». ثمّ أراد أن یؤکّد أنّ ما قاله علیّ فی ادّعائه علم الغیب إنّما هو عین الصواب فقال: «و لقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلک علی صدق الدعوی المذکورة»(2). ثمّ قال: لقد حدث کلّ ما أُخبر عنه، فقد قال قبل موته بسنوات: کأنّی بالشقی و قد خضّب هذه بهذه، أی ضربة ابن ملجم، ثمّ أخبر عن قتل ابنه الحسین فی


1- نهج البلاغة لمحمد عبده: 233- 234.
2- طبعاً لا نحتاج إلی اختبار ما قاله أمیر المؤمنین علیه السلام و یشارکنا فی ذلک السنّة و نفس ابن أبی الحدید، و لکن لیس هنالک من سبیل لمن لا یعتقد بمقام علی سوی وقوع الحوادث طبقاً لما أخبر عنها.

ص: 166

کربلاء و استشهاد تلک العصابة معه(1)، و ما أحرانا أن نورد بعض الأخبار الغیبیة کما ذکرها ابن أبی الحدید، و الأفضل فی ذکر وصف المحبوب أن یأتی علی لسان الآخرین لا علی لسان المحبّ.

الأخبار الغیبیة لعلی علیه السلام:

1- الإخبار عن حکومة معاویة. 2- حکومة الحجّاج بن یوسف الثقفی. 3- قصّة الخوارج و معرکة النهروان. 4- إخبار بعض أصحابه بالقتل و الصلب. 5- قتاله للناکثین و القاسطین و المارقین. 6- عدد أصحابه الذین یهبّون لنصرته من الکوفة فی قتال أهل البصرة. 7- إخباره عن صلب عبد اللّه بن الزبیر و وصفه بأنّه رجل مخادع لا یظفر بما یرید و یتشبّث بالدین من أجل الدنیا. 8- الإخبار عن خروج الرایات السود من خراسان، و التصریح بأسماء بنی زریق من خراسان الذین یوالون حکومة بنی العباس. 9- إخباره عن بعض الزعماء من ذرّیته فی طبرستان، مثل الناصر و الداعی و غیرهما. 10- إخباره عن قتل النفس الزکیّة فی المدینة قرب موضع أحجار الزیت و الإخبار عن قتل أخیه عند باب حمزة بعد أن یظهر ثمّ یفشل. 11- قصّة إسماعیل بن جعفر بن محمّد علیهم السلام و وصفه بذی البداء و المسجّی بالرداء. و توضیح ذلک: أنّ بعض الروایات صرّحت بالبداء فی إمامة إسماعیل حیث


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7: 46- 48.

ص: 167

شاء اللَّه أن یتغیّر مسار الإمامة التی کانت إلیه- طبعاً ذکرنا مسألة البداء فی محلّها و لمّا حضرت إسماعیل الوفاة طرح أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد علیهم السلام علیه رداءً، ثمّ وضعه فی لحده مع عدد من کِبار الشیعة لیوقن الجمیع بموت إسماعیل. 12- إشارته إلی حکومة بنی بویه بقوله: یخرج من الدیلم من «بنی صیّاد»، یذکر أنّ والده کان یصید السمک و یبیعه، کما أخبر بأنّ بنی بویه یسیطرون علی الزوراء و یعزل الوزراء، و هنا قام له رجل فسأله: ما مدّة حکومتهم؟ فقال علیه السلام:

مائة عام أو أقلّ بقلیل. 13- إخباره عبد اللّه بن العباس بأنّ الحکومة ستئول إلی ولده، فقد ولد لابن عباس ولد یُدعی «علی» فأتی به إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فجعل شیئاً من لعابه فی فمه و مضغ تمرة فجعلها فی فمه و قال: خذه فإنّه أبو الملوک(1).

الروایات و علم غیب الأئمّة علیهم السلام:

تتّضح بجلاء الشخصیة العلمیة للإمام من خلال البحث فی الأخبار و الآیات القرآنیة فی أنّه لا ینطق سوی عن الغیب، و أنّ ذلک ممّا علّمه إیّاه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أو أفاضه علیه الحقّ تبارک و تعالی. فأدنی نظرة إلی القرآن تفید أنّ أهل البیت صفوة حظیت بعنایة اللَّه، الأمر الذی جعل بصیرتهم تخترق حجب الحوادث الکونیة، بل تقف علی کنه العالم و تحیط بأسرار القرآن و خفایا الحوادث و القصص المُستقبلیة، و أنّ القرآن قد رسم صورتهم العلمیة الحقیقیّة. ورد فی الخبر أنّ زرارة سأل الإمام الباقر علیه السلام عن الآیة: وَ کانَ رَسُولًا نَبِیًّا(2) الإمام ما منزلته؟ قال: «یسمع الصوت و لا یری و لا یعاین الملک» ثمّ استدلّ علیه السلام بقوله


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7: 48- 50.
2- سورة مریم: الآیتان 51 و 54.

ص: 168

تبارک و تعالی: «وَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِکَ مِن رَسُولٍ وَ لَا نَبِیٍّ وَ لَا مُحدَّثٍ»(1)،(2). و روی الحسن بن محبوب، عن الأحول، عن أبی جعفر الباقر علیه السلام فی الفرق بین الرسول و النبی و المحدّث قال: «أمّا المحدّث فهو الذی یحدّث فیسمع، و لا یعاین و لا یری فی منامه»(3). و أجاب الإمام الرضا علیه السلام الحسن بن العباس قائلًا: «و الإمام هو الذی یسمع الکلام و لا یری الشخص»(4). فمضمون هذه الروایات المتواترة یفید أنّ للإمام علیه السلام أُذُناً تجعله یطّلع علی الأسرار و الإحاطة العلمیة، و هذه غیر ظواهر الکتاب و تعلیم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله. أجل، فالقرآن یعتبر الأئمّة علیهم السلام شُهداء علی الناس یوم القیامة، و أنّی لهم الشهادة علی الآخرین ما لم یطّلعوا علی أعمالهم؟ فقد روی بریدة العجلی عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه تلا: لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النَّاسِ فقال: فرسول اللَّه صلی الله علیه و آله الشهید علینا بما بلّغنا عن اللَّه تبارک و تعالی، و نحن الشهداء علی الناس، فمن صدّق یوم القیامة صدّقناه و من کذّب کذّبناه»(5). فما الذی یفیده هذا الخبر؟ فالإمام شاهد علی الأعمال، و النبیّ شاهد علی الأئمّة علیهم السلام، النبیّ یشهد أنّه علّم الأئمّة الغیب و أوامر اللَّه، فالنبیّ شاهد و الأئمّة شهداء علی الناس فی محکمة العدل الإلهی، و أنّ أعمال الامّة لیست بخافیة علیهم، و علی هذا أ فلا ینبغی التصدیق بعلمهم بالغیب و کافّة الحوادث و أعمال الامّة؟


1- اقتباس من سورة الحج: الآیة 52.
2- الکافی 1: 176 باب الفرق بین الرسول و النبی و المحدّث ح 1. لم ترد فی القرآن کلمة« و لا محدّث». الأمر الذی یلزم أن یقال: إنّ هذا من باب تأویل الآیة.
3- الکافی 1: 176 باب الفرق بین الرسول و النبی و المحدّث ح 3.
4- الکافی 1: 176 باب الفرق بین الرسول و النبی و المحدّث ح 2.
5- الکافی 1: 191 الروایة الرابعة: باب أنّ الأئمّة شُهداء اللَّه علی خلقه ذ ح 4.

ص: 169

بحث مختصر حول آیة قرآنیة:

صرّحت آخر آیة من سورة الحج قائلة: وَ جاهِدُوا فِی اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمَّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النَّاسِ(1). فظاهر الآیة یفید أنّها خطاب لصفوة من زُعماء الدین، و یؤیّد ذلک: 1) عبارة هُوَ اجْتَباکُمْ التی تدلّ علی الاختیار و الامتیاز. 2) کلمة أَبِیکُمْ لأنّ إبراهیم هو أب الأئمّة الأطهار علیهم السلام لا جمیع المسلمین. 3) عبارة هُوَ سَمَّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ و ذلک لأنّ إبراهیم سأل اللَّه صفوة من ذرّیّته مسلمة منقادة للَّه، و قد تناولنا ذلک مسبقاً خلال شرح الآیة الکریمة رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ(2). و بناءً علی هذا فإنّ العبارة: لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النَّاسِ خطاب لزعماء الدین و لا سیّما الأئمّة الأطهار علیهم السلام، مضافاً إلی أنّ «الشاهد» غیر المدّعی و المنکر، فالمنکر أو المدّعی هم «الناس». و حقّاً لا بدّ أن یکون الشاهد أُناساً آخرین عالمین بأعمال کافّة الناس، و إذا تعاملنا مع کلمة «الناس» علی ظهورها فإنّها تعنی جمیع العالمین، فنستطیع القول بأنّه لیس هنالک عمل لأیّ فرد یخفی علی زعماء الدین و أئمّة المسلمین. و هکذا یتّضح- علی ضوء هذا الاستدلال- قول الإمام الباقر علیه السلام: «و نحن الشهداء علی الناس». نعم، فالأئمة الأطهار علیهم السلام هم الصفوة من وجهة نظر القرآن التی اختیرت من أجل زعامة الأُمّة: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا(3). قال سورة


1- سورة الحجّ: الآیة 78.
2- سورة البقرة: الآیة 128.
3- سورة فاطر: الآیة 32.

ص: 170

بن کلیب: قال الإمام أبو جعفر الباقر علیه السلام: «و اللَّه إنّا لخزّان اللَّه فی سمائه و أرضه، لا علی ذهب و لا علی فضّة إلّا علی علمه»(1). تسند هذه الروایة المعتبرة- التی تؤیّدها عشرات الروایات- إلی أبی جعفر الذی أسماه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بالباقر؛ لأنّه یبقر علم الأوّلین و الآخرین، و نری کیف أنّه یقسم ثمّ یؤکّد قسمه بحرف (إن) و حرف اللام: إنّا لخُزّان العلم! فهل علم اللَّه محدود؟

و علیه: فعلم الأئمّة علیهم السلام هو الآخر لیس بمحدود، فلو قلنا: إنّ جمیع الحوادث و ما خلف الحُجب معلومة عند أئمّة المسلمین، لما کان ذلک جزافاً، و لکن ینبغی التعامل مع هذا الأمر ببصیرة القلب للتعرّف علی خاصة عباد اللَّه. لقد جعل اللَّه الأئمّة علیهم السلام أنواراً و طهّر قلوبهم و أرواحهم، فهل من اجتماع بین الظلمة و النور؟ و هل لمن کان نوراً محضاً أن یکون جاهلًا؟ نعم، إنّما هم نور من ذلک النور، و لذلک أوجب القرآن الاقتداء بشعاع هذا النور: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِی أَنْزَلْنا(2). لقد قال الإمام الباقر علیه السلام- طبقاً لروایة أبی خالد الکابلی-: «النور و اللَّه الأئمّة من آل محمّد صلی الله علیه و آله إلی یوم القیامة، و هم و اللَّه نور اللَّه الذی أنزل، و هم و اللَّه نور اللَّه فی السموات و فی الأرض، و اللَّه یا أبا خالد لنور الإمام فی قلوب المؤمنین أنور من الشمس المضیئة بالنهار، و هم و اللَّه ینوّرون قلوب المؤمنین، و یحجب اللَّه- عزّ و جلّ- نورهم عمّن یشاء فتظلم قلوبهم، و اللَّه یا أبا خالد لا یحبّنا عبد و یتولّانا حتّی یطهّر اللَّه قلبه، و لا یطهّر اللَّه قلب عبد حتّی یسلّم لنا و یکون سلماً لنا، فإذا کان سلماً لنا سلّمه اللَّه من شدید الحساب و آمنه من فزع یوم القیامة الأکبر»(3).


1- الکافی 1: 192 باب أنّ الأئمّة علیهم السلام ولاة أمر اللَّه ح 2.
2- سورة التغابن: الآیة 8.
3- الکافی 1: 194 باب أنّ الأئمّة علیهم السلام نور اللَّه عزّ و جلّ ح 1.

ص: 171

علل الزعامة:

لقد تعرّضت الروایة السابقة إلی الفصول الممیّزة للإمامة فی الإسلام، کما أشارت إلی علل اتّباع زعامتهم و إمرتهم و أنّ زعامتهم نور إلی یوم القیامة، فهم زعماء إلی الأبد، و الامّة تستضی ء بنور علمهم علی الدوام، و الزعیم من یستطیع التغلّب علی المشاکل و الصعوبات و یبعث الأمل فی قلوب أفراد الامّة. فمثل الذین ینکرون علم الإمام التام کمثل خفافیش اللیل التی لا تطیق رؤیة الشمس، فلیس للقلوب المدنّسة و النفوس المریضة أن تدرک شأن الإمام، فمعرفة الإمام تتطلّب قلباً طاهراً، و لا یطهر القلب إلّا بتسلیمه و استسلامه لهذه الزعامة، و التسلیم لهم لا یتمّ إلّا من خلال الإقبال علیهم و الاستفادة من أفکارهم العظیمة و نهجهم القویم، الأمر الذی یبعث علی سعة الصدر و انشراح القلب، و هذا بدوره یمیط عن الإنسان رذائل الأخلاق و یحلّ عقد الحیاة و یبعث الأمل فی النفوس. و لا یرتجی من الزعیم سوی إیصال الأُمّة إلی کمالها المنشود و إزالة المشاکل عن طریقها، و طالما کانت هذه الامور متوفّرة فی الأئمّة الأطهار علیهم السلام، فهم قادة الدین و أئمّة الخلق لا محالة. و بناءً علی هذا فإنّ الإمام الباقر علیه السلام و بذکره للعلل السابقة قد لفت الانتباه إلی ضرورة زعامة آل محمّد صلی الله علیه و آله. و هو ذات الأمر الذی قاله الإمام الصادق علیه السلام للمفضّل بن عمر: کان أمیر المؤمنین علیه السلام باب اللَّه الذی لا یؤتی إلّا منه، و سبیله الذی من سلک بغیره هلک، و کذلک یجری لأئمة الهدی واحداً بعد واحد(1).


1- الکافی 1: 196 باب أنّ الأئمّة علیهم السلام هم أرکان الأرض ح 1. هذه الروایة ضعیفة السند، غیر أنّه هنالک عدّة روایات وردت بهذا المضمون فهی مؤیدة لهذه الروایة.

ص: 172

وحدة الموضوع:

کان البحث بشأن الأخبار و الآیات التی کشفت عن المرتبة العلمیة للأئمة علیهم السلام، و قد اتّضح لدینا خلال الأبحاث أنّ أئمّة المسلمین هم الصفوة من أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله الذین حظوا بلطف اللَّه و عنایته ببصیرة ثاقبة جعلتهم یقفون علی جمیع أسرار القرآن و خفایا الحوادث و مکنونات قصص الماضین و مصیر المسلمین، و للوقوف أکثر علی منزلتهم العلمیة نتابع ما ورد فی الخبر عن الإمام الباقر و الصادق علیهما السلام أنّهما قالا: قال أمیر المؤمنین علیه السلام: «علمتُ علم المنایا و البلایا و الأنساب و فصل الخطاب، فلم یفتنی ما سبقنی، و لم یعزب عنّی ما غاب عنّی»(1). و لا تقتصر هذه المنزلة علی علی علیه السلام، بل هی لجمیع الأئمّة علیهم السلام، فقد قال الإمام الرضا علیهم السلام: «عندنا علم البلایا و المنایا و أنساب العرب و مولد الإسلام»(2).

الذهول و الدهشة!!

لعلّ مثل هذه الکلمات أثارت اضطراب البعض و جعلته یشعر بالدهشة و الذهول، و لا غرو و لا عجب! إنّنا نری العجائب فی العالم و نشاهد الغرائب، إلّا أنّنا نمرّ مرّ الکِرام، فنری المرتاضین الذین جعلهم الارتیاض یصیبون فی بعض ما یتکهّنون و من خلف الحجب و الکوالیس یتحدّثون، أو نلتقی بعض الأفراد الورعین الذین یتحدّثون أحیاناً عن أسرار حیاتنا فلا نتعجّب ممّا یقولون. فقد فتحت بعض نوافذ العلم بوجه تلک الطائفة من المرتاضین إثر ریاضتهم و لو کانت بالباطل. و هذه الطائفة من العارفین السالکین حصلوا علی ذلک إثر اتّباعهم الحقّ و هجرهم الشهوات، فی


1- الکافی 1: 197- 198 باب أنّ الأئمّة علیهم السلام هم أرکان الأرض ح 2 و 3.
2- الکافی 1: 223 باب أنّ الأئمّة علیهم السلام ورثوا علم النبیّ ... ح 1.

ص: 173

حین تتلمذ الأئمّة الأطهار علیهم السلام فی مدرسة الرسالة، و قد نالوا الإخلاص فی العبودیة بدعوة إبراهیم علیه السلام، ثمّ جدّوا فی الورع و التقوی و التسلیم و الرضا و الجهاد فی الحقّ و طهارة المولد، حتّی حظوا بعنایة واهب العلم و العقل و النور، فهم تلامذة الوحی و معدن الرسالة و مختلف الملائکة. أ فمن العجب أن تکون للأئمة مثل تلک الرؤیة و البصیرة بحیث یرون جمیع الأشیاء و یحیطون بکافّة أسرار القرآن و مکنونات الخلقة و مصیر المسلمین؟

فإن کان القرآن صرّح بأنّهم شُهداء علی الناس، فمن الطبیعی أن یفیض علیهم الرحمن بحار العلم و محیطات الحلم و یزوّدهم بالبصر و البصیرة، بحیث لا یخفی علیهم شی ء. لقد ذهل عبد اللّه بن أبان الزیّات- الذی یتمتّع بمکانة خاصّة عند الإمام الرضا علیه السلام- حین قال له الإمام علیه السلام: «و اللَّه إنّ أعمالکم لتُعرض علیّ فی کلّ یوم و لیلة»(1). فلمّا أحسّ الإمام علیه السلام منه ذلک قال له: أ لم تقرأ الآیة وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللَّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ(2). و هنا التفت ابن الزیّات لیدرک القیمة الحقیقیة للإمام، و أن لیس هناک ما یدعو إلی الدهشة و العجب فی أن یفیض اللَّه علی عالم الوجود بمثل هؤلاء العِباد فیلبسهم من حلل الکرامة و العلم، و القرآن یقود إلی هذه الحقیقة. و قد ورد عن أمیر المؤمنین، و علی بن الحسین زین العابدین، و جعفر بن محمّد الصادق علیهم السلام، أنّهم قالوا: نحن شجرة النبوّة، و بیت الرحمة، و مفاتیح الحکمة، و معدن العلم، و موضع الرسالة، و مختلف الملائکة، و موضع سرّ اللَّه(3).


1- الکافی 1: 219 باب عرض الأعمال علی النبی صلی الله علیه و آله و الأئمّة علیهم السلام ح 4.
2- سورة التوبة: الآیة 105.
3- الکافی 1: 221 باب أنّ الأئمّة علیهم السلام معدن العلم و شجرة النبوّة ح 1- 3.

ص: 174

لقد شاء اللَّه لهذا البیت أن یرتفع، فقد رفع إبراهیم بیت اللَّه فسأله أن یرفع مقابل ذلک بیته بأن یُظهر تلک الصفوة التی تعیش التسلیم و الانقیاد و الطاعة و العبودیة للَّه، و قد استجاب اللَّه دعوته. و قد قال القرآن بهذا الشأن: فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللَّهِ(1). و قال الصادق علیه السلام: «إنّ اللَّه لا یجعل حجّة فی أرضه یُسأل عن شی ء فیقول: لا أدری»(2).

خلاصة هذا الفصل:

1- اعترف ابن أبی الحدید بعلم أمیر المؤمنین علیه السلام بحوادث المستقبل حتّی قال:

«و لقد امتحنّا إخباره فوجدناها موافقة، فاستدللنا بذلک علی صدق الدعوی المذکورة»(3). 2- تبیّن من مجموع الآیات و الروایات أنّ للأئمة علیهم السلام شخصیة بارزة فی العِلم لدرجة الإحاطة بالغیب و الحوادث إلی جانب التبحّر فی علم الکتاب و أسرار الدین، بحیث إنّ اللَّه جعلهم شهوداً علی أعمال الناس بنصّ القرآن، و لم یصطفیهم اللَّه إلّا لإخلاصهم و تسلیمهم و عبودیتهم له سبحانه، و هم عیبة علم اللَّه و نوره، الأمر الذی برّأهم من کلّ عیب و نقص و جهل، و هذا ما جعلهم یلهمون العلم بکافّة الحوادث و خفایا الخلیقة و الإحاطة بما کان و یکون، کما وقفنا علی حدیث الإمام الرضا علیه السلام حین قال: إنّ أعمال الناس تُعرض علیّ فی الیوم و اللیلة،


1- سورة النور: الآیتان 36- 37.
2- الکافی 1: 227 باب أنّ الأئمّة علیهم السلام عندهم جمیع الکُتب ح 1.
3- تقدّم فی ص 165.

ص: 175

مستدلّاً بجوابه لابن الزیّات بالآیة الشریفة: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللَّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ.

ثمرة هذه الخلاصة:

لیست هنالک من ثمرة لهذه الخلاصة سوی أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام إنّما ینظرون بنور خاص إلی العالم و بصیرة ثاقبة بالغیب و خبرة بمتطلّبات الأُمّة الإسلامیة و المسلمین إلی الأبد. و لعلّ هذه الامور قد تبادرت إلی أصحاب الأئمّة علیهم السلام لیؤمنوا بأنّ أئمّة الإسلام عالمون بالغیب، و یسرّنا هنا أن نستشهد علی ذلک بشاهد حیّ لتری کیف یفصح الإمام عن وقوفه علی علم الغیب فی الوقت الذی ینفیه عن نفسه.

روایة عمیقة:

وردت هذه الروایة فی أُصول الکافی فی باب «نادر فیه ذکر الغیب» عن سدیر، قد یبدو تردّد البعض فی سندها، إلّا أنّ متنها یشهد بصحّة صدورها، فقد قال: کنت أنا و أبو بصیر و یحیی البزّاز و داود بن کثیر فی مجلس أبی عبد اللّه علیه السلام، إذ خرج إلینا و هو مغضب، فلمّا أخذ مجلسه قال: «یا عجباً لأقوام یزعمون أنّا نعلم الغیب، لا یعلم الغیب إلّا اللَّه عزّ و جل، لقد هممتُ بضرب جاریتی فلانة فهربت منّی، فما علمت فی أیّ بیوت الدار هی. قال سدیر: فلمّا أن قام من مجلسه و صار فی منزله دخلت أنا و أبو بصیر و میسّر و قلنا له: جعلنا فداک سمعناک و أنت تقول کذا و کذا فی أمر جاریتک و نحن نعلم أنّک تعلم علماً کثیراً و لا ننسبک إلی علم الغیب؟ قال: فقال: یا سدیر أ لم تقرأ القرآن؟ قلت: بلی، قال: فهل وجدت فیما قرأت

ص: 176

من کتاب اللَّه عزّ و جلّ: قالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتابِ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ(1)، قال: قلت: جعلت فداک قد قرأته، قال: فهل عرفت الرجل، و هل علمت ما کان عنده من علم الکتاب؟ قال: قلت: أخبرنی به، قال:

قدر قطرة من الماء فی البحر الأخضر، فما یکون ذلک من علم الکتاب؟ قال: قلت:

جعلت فداک ما أقلّ هذا. فقال: یا سدیر ما أکثر هذا أن ینسبه اللَّه- عزّ و جلّ- إلی العلم اخبرک به، یا سدیر فهل وجدت فیما قرأت من کتاب اللَّه عزّ و جل أیضاً قُلْ کَفی بِاللَّهِ شَهِیداً بَیْنِی وَ بَیْنَکُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ، قال: قلت: قد قرأته جعلت فداک، قال: أ فمن عنده علم الکتاب کلّه أفهم، أَم من عنده علم الکتاب بعضه؟

قلت: لا، بل من عنده علم الکتاب کلّه. قال: فأومأ بیده إلی صدره و قال: علم الکتاب و اللَّه کلّه عندنا، علم الکتاب و اللَّه کلّه عندنا»(2). سدیر: هو سدیر بن حکیم المُکنّی بأبی الفضل من أصحاب الإمام السجّاد و الباقر و الصادق علیهم السلام، و قد اعتبرته کتب الرجال ثقة(3)، و کانت له منزلة عند الإمام علیه السلام. و قد حُبس فدعا له الإمام علیه السلام فخرج من السجن ببرکة الدعاء(4). داود بن کثیر: هو ابن خالد الرقّی، و من ثقات الأصحاب(5)، و قد قال الصادق علیه السلام: «أنزلوا داود الرقّی منّی منزلة المقداد من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله»(6) و عدّه الشیخ المفید فی إرشاده من ثقات أصحاب الإمام الکاظم علیه السلام، و قال: هو من خاصّته


1- سورة النمل، الآیة: 40.
2- الکافی 1: 257 باب نادر فیه ذکر الغیب ح 3.
3- معجم رجال الحدیث: 8/ 34- 37.
4- اختیار معرفة الرجال، المعروف ب« رجال الکشی»: 210 رقم 372.
5- معجم رجال الحدیث: 7/ 123.
6- مشیخة الفقیه، طریقه إلی داود الرقی، الاختصاص: 216.

ص: 177

و أهل الورع و العلم و الفقه من شیعته(1). أبو بصیر: هو لیث بن البُختری المرادی المُکنّی بأبی بصیر، و هو ممّن لا نقاش فی وثاقته، و هو من أصحاب الإمام الباقر و الصادق و الکاظم علیهم السلام، فإنّه و إن طعن فیه علماء الرجال باجتهاداتهم إلّا أنّه فی جلالة قدره روایة ذکرها محمّد بن قولویه القمی بسند معتبر عن أبی عبد اللّه علیه السلام، أنّ الصادق علیه السلام قال: «إنّ أصحاب أبی کانوا زیناً أحیاءً و أمواتاً، أعنی زرارة و محمّد بن مسلم، و منهم لیث المرادی و برید العجلی، هؤلاء القوّامون بالقسط، هؤلاء القوّامون بالقسط، هؤلاء السابقون السابقون أولئک المقربون(2). کان هؤلاء ثلاثة نفر ممّن حضر مجلس الإمام. أمّا الرابع و هو یحیی البزّاز فلم نعرفه، و یحتمل أن یکون الخزّاز، و هو من أصحاب الصادق و الکاظم علیهما السلام(3). فهؤلاء الرجال الذین حضروا مجلس الإمام الصادق علیه السلام هُم من کِبار الفُقهاء و العُلماء، و قد قارن الإمام منزلة داود بن کثیر بمنزلة المقداد لدی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، و الحال أنّ المقداد من کِبار صحابة النبی صلی الله علیه و آله. و هم ممّن وقف علی منزلة الإمام و الإذعان له بعلم الغیب، و هذا ما یفیده صدر الروایة.

شرح الروایة:

لقد تحاشی الإمام علیه السلام فی بدایة الروایة علمه بالغیب، و قد تنزّل عن مکانته بحیث صعب علیه العثور علی الجاریة فی إحدی غُرف الدار. و نعلم أنّ دار الإمام علیه السلام لم تکن من قَبیل ناطحات السحاب أو قصر الکرملن، بحیث إذا اختفی


1- الإرشاد للمفید: 2/ 247- 248.
2- اختیار معرفة الرجال المعروف ب« رجال الکشی»: 170 رقم 287 و ص 239 رقم 433.
3- رجال الشیخ الطوسی: 322 رقم 4807، معجم رجال الحدیث: 20/ 99 رقم 13614.

ص: 178

فیه فرد تعذّر حتّی علی جهاز المباحث العثور علیه، فقد کانت داراً مُتواضعة لا تضمّ إلّا عدّة غُرف. و کیف لا یقف الإمام علی مکانها إذا ما بحث عنها؟! إذن، فالعثور علیها علی ضوء المجاری الطبیعیة لم یکن قضیة صعبة، إلّا أنّ الإمام یعرب عن عجزه عن العثور علیها، فالقضیة طبق الظواهر لا تبدو مقبولة، و هذا هو الأمر الذی أذهل خواص الأصحاب. أمّا ذیل الروایة، فقد کان دلیلًا قاطعاً علی قدرة الإمام اللامتناهیة، فقد قال:

إنّ آصف بن برخیا قد أتی سلیمانَ بعرش بلقیس بتلک المسافة فی طرفة عین و لم یؤت من العلم إلّا قطرة من بحر، فهو عالم ببعض الکتاب، أو لیس لمن أوتی علم الکتاب کلّه أن یعثر علی تلک الجاریة التی لا تبعد عنه سوی بضعة أمتار؟ قطعاً هنالک مصلحة جعلت الإمام یصدّر الروایة بذلک العجز عن العثور علی الجاریة، و أنّی لداود أن یصدّق عجز الإمام علیه السلام عن العثور علی الجاریة؛ و هو الذی وصل ابن عمّه فی المدینة بذلک البعد الشاسع عن الإمام علیه السلام و قد أحسن إلیه خفیة، فلمّا حضر استقبله الإمام و أشاد بعمله!(1) و کیف یصدّق أبو بصیر عدم استطاعة الإمام العثور علی تلک الجاریة و قد بشّره حین دخوله الکوفة بولادة ابنه عیسی، و أنّ اللَّه سیرزقه ولَدین و بنتین غیره(2)! أجل هذه الشواهد و ما شابهها تؤکّد وجود بعض العلل و الدوافع التی جعلت الإمام علیه السلام ینفی عن نفسه فی صدر الروایة العلم بالغیب، و یکفی ذیل الروایة شاهداً علی ما نقول فی دحض صدرها. و علیه فلا بدّ من تحرّی الدوافع.


1- بصائر الدرجات: 429 ح 3 أمالی الطوسی: 3/ 4 ح 929، الخرائج و الجرائح: 2/ 612 ح 8، مناقب آل أبی طالب علیه السلام لابن شهرآشوب: 4/ 227، وسائل الشیعة: 16/ 111، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 101 ح 15.
2- دلائل الإمامة: 263 ح 193، الخرائج و الجرائح: 2/ 636 ح 37، کشف الغمّة: 2/ 190، المحجّة البیضاء: 4/ 261.

ص: 179

دوافع نفی الإمام علمه بالغیب الدافع الأوّل:

إنّ أهمّ دافع جعل الإمام علیه السلام یسلب عن نفسه العلم بالغیب، هو الظرف الخاصّ الذی عاشه الإمام فی ذلک الزمان و الذی شهد تفتّح آفاق العلم، لینهمک الإمام فی بیان أحکام الإسلام و حقائق القرآن و نشر العلم و تفادی کلّ ما من شأنه أن یحول دون القیام بهذه الوظائف. کان خلیفة زمانه الطاغیة السفّاح المنصور الدوانیقی الذی کان یتحیّن الفُرَص لقتل الإمام و إزالة هذه العقبة عن طریقه. کان الإمام شدید الحرض علی عدم اثارة مثل هذه المواضیع التی تؤلّب ذلک الجبّار الغاشم من أجل تصفیته و القضاء علیه، الأمر الذی یعنی الحیلولة دون نشر معارف الدین و الأحکام. فلو قال الإمام: أنا عالم بالغیب جدیر بالإمامة و الخلافة، لکان ذلک کافیاً لسلّ المنصور سیفه و قتله، و علیه فلا ینبغی أن یشیع هذا الأمر بین الأوساط الاجتماعیّة، و یکفی أن یعلم ذلک بعض خواصّه و حملة أسراره، و سوف لن تستطیع الغربان أن تحجب الشمس إلی الأبد، فلا بدّ للّیل أن ینجلی و لا بدّ للطوق أن ینکسر. و لنعد ثانیة إلی مجلس الإمام: لقد اجتمعت أُمّة عظیمة فی مجلس الإمام علیه السلام، و کلام الإمام یفید أنّ علمه بالغیب قد شاع فی المدینة، و أنّ الألسن تتناقل علم الإمام بالغیب، و قطعاً کان الأمر قد بلغ المنصور. فما أحسن هذه الفرصة التی تجعل الإمام یتصدّی للدفاع عن نفسه فیستدلّ بمثل بسیط یقنعهم بعدم علمه بالغیب، و لم یکن هنالک أعمق من ذلک المثال الذی اعتمده الإمام للقضاء علی تلک الشائعة. أنّی للإمام العلم بالغیب و هو الذی عجز عن العثور علی جاریة فی غرفة من غرف داره؟! لا شکّ أنّ ذلک الکلام سیؤثّر کثیراً و یؤتی أُکله، کما لا شکّ أنّ جلاوزة المنصور- الذین لم ینفکّوا عن تفتیش دار الإمام- سینقلون کلامه إلی المنصور

ص: 180

و سیسکن روعه و تهدأ فورته، ثمّ یتاح المجال من جدید أمام الإمام لمواصلة دروسه و نشر علمه. و بناءً علی ما تقدّم فلم یبق لصدور تلک الروایة من محملٍ سوی التقیّة، و لکن لم یبق لدی الإمام سوی الخواصّ من أصحابه و هم لیسوا بالمذاییع، فلم یعد للخوف من سبیل، فأبو بصیر و صحبه لیسوا من أعوان المنصور، بل هم من حملة العلم و رواة الحدیث و فقهاء الإسلام، و التحدّث إلیهم وظیفة شرعیة تأریخیة لا تدع للتقیّة من شأن، فیعمد الإمام هنا إلی إظهار مکنون علمه و الإفصاح عن مقامه علی ضوء القرآن، فحقیقة علمه لا یعزب عنها صغیر و لا کبیر فی هذا العالم فضلًا عن مکان تلک الجاریة. و هو لا یستطیع الإتیان بتلک الجاریة بحرکة فحسب بل یسخّر العالم بأسره، ما نفهمه من کلمات الإمام علیه السلام أنّه مطّلع علی کافّة أصناف العلم، و کیف لآصف بن برخیا الذی تجرّع قطرة من بحر علم الکتاب أن یفعل ما فعل، و یغیب عن علم الإمام شی ء و هو الذی یعوم فی بحر علوم الکتاب و محیطاته؟ و علی ضوء هذا التحقیق و التأمّل فی هذه الروایة التی تصرّح بعلم الإمام بکافّة الحوادث و تمتّعه بالقوّة و القدرة التامّة علی فعل الأفاعیل، فهل هنالک من ماء عکر یمهّد السبیل أمام بعض السذّج ممّن تأثروا بالوهابیة للاصطیاد فیه؟ و هل یسع أحد أن یقول لنا بعد ذلک: إنّکم من المغالین فی شخصیة الإمام؟ فهذا الإمام و قد عجز عن العثور علی جاریته!

الدافع الثانی:

أمّا الدافع الثانی الذی أغضب الإمام و جعله ینفی عنه علم الغیب فهو قضیة الإفراط أو التفریط و الغلوّ أو الإنکار، التی سیطرت علی أغلب الأفراد تجاه الإمام، و هذا ما یتوصّل إلیه بسهولة من سیاق الروایة، فی أنّ البعض قد أفرط

ص: 181

بالاعتقاد بعلم الإمام للغیب حتّی رآه أفضل من النبی صلی الله علیه و آله و بلغوا به حدّ الأُلوهیة، علی الرغم من أنّ محور الإمامة کان یهدف إلی تحقیق التوحید و إیصال الأُمّة إلی العبودیة الحقّة، فالإمام یمثّل العبودیة الخالصة للَّه، و جلّ سعیه هو ربط الأُمّة بمعبودها الأوحد و تطهیرها ممّا علق بها من الأوهام و الخرافات، و إلّا فلو قدر للُامّة أن تضلّ طریقها فی تعاملها مع الإمام فإنّ جهوده ستذهب أدراج الریاح، و هو الأمر الذی یأخذ مأخذه من الإمام و یجعل الغضب و التوتّر یسیطر علی جمیع کیانه، فیبدو أنّ دافع الإمام من نفیه لعلم الغیب عن نفسه و حصره بالقادر العلیم، إنّما یهدف إلی تثبیت الهدف المقدّس المُتبلور فی التوحید و إزالة الأفکار المنحرفة تجاه شخصیة الإمام. و لم یکن هناک من سبیل أمام الإمام سوی التنازل عن واقعه لیعلم الجمیع بأنّ الإمام الصادق علیه السلام إنسان کسائر الناس الذین نشئوا و ترعرعوا فی المدینة، فهو لیس بملک هبط من السماء أو عیسی علیه السلام الذی حلّ فیه روح القدس لیصبح ابن اللَّه!!! و قد اعتمد الإمام الأسلوب العلمی فی سبیل تهذیب أفکار الأُمّة، فینفی عن نفسه العلم بالغیب و یقتصر بهذا الأمر علی اللَّه تبارک و تعالی. و الأمر لیس ببدعة فهو یقتدی بالأُسلوب الذی نهجه القرآن، الذی یقتصر علم الغیب بذات اللَّه تعالی، بینما یتوصّل إلیه النبی صلی الله علیه و آله من خلال الوحی، و الإمام من خلال تعلیم الرسول له إلی جانب الإلهامات الربانیّة و الفیوضات الرحمانیة التی توصله إلیه. و لا یستبعد أن یکون الإمام قد استهلّ کلماته بنفی علم الغیب الذاتی تقیّة، فی حین أوکل الحدیث عن علمه بالغیب العرضی إلی مجلسه الذی یضمّ خواصّه و حملة أسراره، فقد کشف لهم النقاب عن مدی علمه و قدرته، ثمّ یسند ذلک لعلمه بالکتاب، و من المفروغ منه أنّ العلم بالکتاب لا یتسنّی دون المعلّم.

ص: 182

و بناءً علی هذا التعلیم و التعلّم من مصادر الغیب قد بلغ الإمام تلک الذروة من السموّ و الکمال، و علیه فلیس هنالک من تناقض بین صدر الروایة و ذیلها.

روایتان:

1- قال جابر: قال الإمام الباقر علیه السلام: ما یستطیع أحد أن یدّعی أنّ عنده جمیع القرآن کلّه ظاهره و باطنه غیر الأوصیاء(1). 2- قال عبد الأعلی مولی آل سام: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول: «و اللَّه إنّی لأعلم کتاب اللَّه من أوّله إلی آخره، کأنّه فی کفّی، فیه خبر السماء و خبر الأرض و خبر ما کان و خبر ما هو کائن. قال اللَّه عزّ و جل: «فیه تبیان کلّ شی ء(2)»(3).

ملاحظة:

لا ینبغی أن یتبادر إلی الذهن بأنّ القرآن المتداول غیر ذلک القرآن الذی کان آنذاک بید الأئمّة علیهم السلام، و أنّ الروایات تؤیّد مسألة التحریف، بل المقصود هذا القرآن مع کافّة التفسیرات و التأویلات و الأسرار و المکنونات، و قد کان ذلک القرآن الذی بید أمیر المؤمنین علیه السلام، فالروایتان تُشیران إلی مطلبین، هما: 1- معنی أنّ علم الکتاب عند الأئمّة، هو أنّ الأئمّة علیهم السلام محیطون بالکتاب السماوی بجمیع ما ینطوی علیه من حقائق و تأویل و تفسیر. 2- ما تتناقله الألسن و تؤیّده الروایات من أنّ الإمام عالم بما کان و ما یکون،


1- الکافی 1: 228 ح 2.
2- اقتباس من سورة النحل: الآیة: 89.
3- الکافی 1: 229 ح 4.

ص: 183

إنّما یعنی أنّ الکتاب الذی یعتمده الأئمّة علیهم السلام ینطوی علی کافّة الحوادث الماضیة و الآتیة و جمیع الحقائق، و أنّ علم الأئمّة إنّما یستند فی بعض عناصره إلی الإحاطة بهذا القرآن المفصّل.

تکرار و تذکیر:

لقد تعرّفنا من خلال الأبحاث التی أوردناها فی الروایات و الآیات علی علم الإمام علیه السلام، و لعلّ تکرار الدلیل- بصفته فهرسة للأُمور المذکورة سابقاً یمکنه أن یوضّح الجوانب العلمیة للإمام بصورة أفضل. و إلیک هذه الأدلّة:

الدلیل الأوّل:

الدلیل الأوّل علی علم الإمام و إحاطته بالمغیّبات هو أنّ الزعیم الإسلامی- الإمام- هو الفرد الذی یستند إلی الغیب فی زعامته، فلا بدّ أن تکون هناک صلة مباشرة له بمکنونات العالم و خفایاه و إفاضة الحقائق علیه، فإن کان الزعیم هو النبیّ فالإفاضة بواسطة الوحی، و إن کان الزعیم هو الإمام فبتعلیم النبی أو الطرق الاخری کالإلهام و العلم بتفصیلات الکتاب السماوی، و الذی سیأتی بیانه قریباً. و یمکن الاستشهاد ببعض الآیات لإثبات هذا الأمر: 1- إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِما أَراکَ اللَّهُ(1). 2- رَبِّ قَدْ آتَیْتَنِی مِنَ الْمُلْکِ وَ عَلَّمْتَنِی مِنْ تَأْوِیلِ الْأَحادِیثِ(2). 3- وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْکَ وَ الْحِکْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا یَشاءُ(3).


1- سورة النساء: الآیة 105.
2- سورة یوسف: الآیة 101.
3- سورة البقرة: الآیة 251.

ص: 184

4- وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَیْنا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِیتاءَ الزَّکاةِ وَ کانُوا لَنا عابِدِینَ(1). لقد أفادت هذه الآیات أنّ الزعیم هو صاحب الملک المصطفی من اللَّه و الذی یحظی بعنایته الخاصّة و إرشاده و توجیهه من أجل الإحاطة و العلم بالمغیّبات، و حیث ثبت فی محلّه أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم زُعماء الأُمّة إلی الأبد، فلا بدّ من الإذعان بأنّهم مشمولون بلطف اللَّه و فضله؛ لیتمکّنوا بزعامتهم من الأخذ بید الناس إلی السعادة و الفلاح، و یزیلوا بقدرتهم العلمیة ما یعترض سبیلهم من مشاکل و صعوبات و أزمات.

الدلیل الثانی:

دلّ القرآن الکریم علی أنّ زعماء الدین المنصّبون یسلکون الصراط المستقیم و یهدون إلیه أَ فَمَنْ یَهْدِی ... و أنّهم یهدون إلی الواقع الذی لا یتسلّل إلیه الخطأ و الزلل، و أنّ استهلال الآیة الکریمة بالاستفهام هو تقریر واضح بأنّ هدایة هؤلاء الزعماء مطابقة للواقع و تامّة کاملة لا یشوبها الخطأ، و استنتجنا أنّ من لوازم الهدایة الواقعیة الصائبة استناد الزعماء إلی العلم الغیبی و الإحاطة بالحوادث الخفیّة المحجوبة عن أنظار الناس، و علیه: فالأئمّة الأطهار زعماء کِرام من وجهة نظر القرآن، و الصواب ما یقولونه و لیس للخطأ من سبیل إلی زعامتهم، و لمّا کانت زعامتهم أبدیّة فإنّهم مطّلعون علی جمیع الأحداث إلی الأبد. و علی ضوء ذلک بحثنا روایة الإمام الباقر علیه السلام- التی قال فیها: «الإمام یسمع الصوت و لا یری و لا یعاین الملک»(2)- التی تفید استناد الإمام إلی الغیب فی زعامته.


1- سورة الأنبیاء: الآیة 73.
2- تقدمت فی ص 167.

ص: 185

الدلیل الثالث:

و یدور حول محور الاستنباط القرآنی أیضاً، حیث یفید القرآن وجود صفوة مجتباة من الناس تتمتّع برؤیة و بصیرة ثاقبة لآفاق العلم، و أنّ اللَّه قد أفاض علیهم من فضله و رحمته ما نوّر به قلوبهم، بحیث خرقوا الحُجب و أحاطوا بجمیع الأحداث و الأسرار. و کانت أهمّ آیة طالعتنا فی هذا الفصل هی الآیة الأخیرة من سورة الحجّ لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النَّاسِ(1) فقد کانت هذه الآیة إلی جانب القرائن الثلاث القطعیة صریحة فی أنّ المخاطب بها صفوة من أهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله أبناء إبراهیم الأئمّة الأطهار علیهم السلام و قد مرّ شرح ذلک. فالآیة تفید إبلاغ الوحی للنبی بآفاق الغیب، و هو ینقلها بدوره إلی الأئمّة بما لا یدع مجالًا للشکّ بعلمهم بأعمال الخلائق و الإدلاء بالشهادة علیهم فی محکمة العدل الإلهی. و قد تعرّضنا(2) لروایة الإمام الباقر علیه السلام التی تناولت الآیة الشریفة، و الروایة سالمة السند و لا بأس بذکر رجالها: علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن محمّد بن أبی عُمیر، عن ابن أذینة، عن برید العجلی قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام ... فالروایة موثوقة السند و الرواة من الثقات، و نوکل الخوض فی التفاصیل- الخارجة عن بحث الکتاب- إلی اصول الکافی باب «إنّ الأئمّة شُهداء علی خلقه». فقد جاء فی الروایة: قلت قوله تعالی: وَ جاهِدُوا فِی اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ، قال: إیّانا عنی و نحن المجتبون مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ إیّانا عنی خاصّة و


1- سورة الحجّ، الآیة: 78.
2- فی ص 168.

ص: 186

سَمَّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ اللَّه سمّانا المسلمین مِنْ قَبْلُ فی الکتب التی مضت وَ فِی هذا القرآن لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النَّاسِ(1) فرسول اللَّه صلی الله علیه و آله الشهید علینا بما بلّغنا عن اللَّه تبارک و تعالی، و نحن الشهداء علی الناس، فمن صدّق یوم القیامة صدّقناه، و من کذّب کذّبناه(2). فالأئمة علیهم السلام علی رؤیة واسعة و بصیرة ثاقبة بحیث لا تخفی علیهم خافیة من أعمال الناس، و ما هذه إلّا عنایة و رحمة إلهیة. و استناداً لما تقدّم یمکن الجزم بأنّ الأئمّة علیهم السلام عالمون بالغیب، محیطون بخفایا الحوادث، بصیرون بشئون الأُمّة، و هذا ما یستشفّ بوضوح من دلالة الآیة و لا سیّما من خلال تأییدها بقول الإمام. أمّا الآیة الأُخری التی تدلّ علی أنّ هذه الصفوة مشمولة بلطف اللَّه و عنایته فهی: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ(3). لقد مررنا سابقاً مرور الکِرام علی هذه الآیة، و هی تکشف بعمق عن مدی عظمة الإمام، بحیث خشینا من کثرة الاستعراض فیها أن نکون فی زمرة «فمنهم ظالم لنفسه».

دراسة الآیة:

سبقت هذه الآیة بقوله سبحانه: وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ مِنَ الْکِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِیرٌ بَصِیرٌ* ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا(4). نفهم من الآیة أنّ المُراد بالکتاب هو «القرآن»؛ لأنّ


1- سورة الحجّ: الآیة 78.
2- الکافی 1: 191 ح 4.
3- سورة فاطر: الآیة 32.
4- سورة فاطر: الآیتان 31- 32.

ص: 187

الخطاب للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله و الکتاب الذی أوحی إلیه هو القرآن، ثمّ شرعت الآیة الثانیة بقوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ، فالکتاب هو القرآن، و التعریف إشارة إلی ذلک الکتاب العزیز، ثمّ حرف عطف یفید التراخی و ظهور الثانی بعد الأوّل، فالمعنی ثمّ أودعنا القرآن تلک الطائفة المصطفاة من العباد، و بناءً علی هذا فإنّ وارثی الکتاب و حافظی الوحی السماوی هم صفوة مختارة من عباد اللَّه.

عباد، أم صفوة مصطفاة من العباد؟

هل أودع الکتاب صفوة مصطفاة من العباد، أم کافّة العباد؟ بعبارة اخری:

هل الکتاب إرث عامّ تتولّی جمیع الأُمّة مسئولیة حفظه و تطبیق تعالیمه و أحکامه فهو ودیعة عامّة، أم تقتصر هذه الوظیفة و المسئولیة علی صفوة خاصّة مصطفاة من بین خلّص العِباد؟ ما الذی نفهمه من قوله تعالی: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا؟ لا نشکّ أنّ هذه الوظیفة الخطیرة إنّما ینهض بها المصطفون؛ لأنّ الآیة تفید نقل الکتاب إلی نخبة من العباد لا جمیعهم.

مَنْ هُم المصطفون من العباد؟

ذکرنا سابقاً أنّ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا هم صفوة مختارة من بین العباد لإخلاصهم و تسلیمهم و عبودیتهم المحضة للَّه و خلوّهم من کلّ عیب و نقص، و قلنا فی حینه: إنّ هذه الصفوة هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام. و لا یسعنا إلّا أن نذکر دلیلًا واضحاً فی إثبات هذا الأمر بغیة طمأنة الآخرین.

الدلیل الدامغ:

تبیّن ممّا أوردناه بشأن الآیة 32 و 33 من سورة آل عمران

ص: 188

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ أنّ الذی یکون علی رأس سلسلة آل إبراهیم فی آخر الزمان من التأریخ البشری هو الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله و من بعده الأئمّة الأطهار علیهم السلام، فالآیة کاشفة عن الصفوة المختارة «المصطَفین» و لا بدّ من القول علی ضوء هذا المصداق: الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا أنّها لا تعنی سوی أئمّة الدین، و أنّ هذه الآیة هی المفسّرة و الحاکمة علمیاً علی الآیة التی نحن بصددها، أی أنّها تفصح عن أنّ مصداق الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام. و هنا لا بدّ من التأکید علی أنّها خاصّة فی الأئمّة علیهم السلام فقط؛ لأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله و إن کان من ذرّیة آل إبراهیم، إلّا أنّ الآیة 30 قد حدّدت وضعه، و الآیة اللاحقة تعیّن الصفوة المختارة بعد النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله. سؤال: إذا کان الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فما مناسبة اختتام الآیة بقوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أی أنّ بعض هؤلاء المصطفین ظلمة، فهل یظلم الأئمّة أنفسهم؟ جواب: الضمیر فی «منهم» یعود إلی العباد لا إلی المصطفین، و یؤیّده کلام المحقّق الطوسی فی تفسیره للآیة فی إطار إثباته لرجوع الضمیر «منهم» إلی العباد، حیث قال: «لأنّ من اصطفاه اللَّه لا یکون ظالماً لنفسه»(1)، إذن فهل من الممکن فرض کون المصطفین ظالمین لأنفسهم؟(2).


1- تفسیر التبیان 8: 394.
2- قد تبدو کلمة« عبادنا» واسعة تشمل کافّة عباد الحق تعالی، إلّا أنّ إضافة العباد إلی ضمیر الجمع« نا» تفید خصوصیة معیّنة:« عبادنا»، فلا یستبعد القول بأنّها طائفة واسعة من أهل الرسالة و التی تستوعب« أهل البیت»، و من ینکر ذلک فلا یسعه أن ینکر روایتین بل عدّة روایات بهذا الشأن. فمعنی الآیة بتفسیر الأئمّة الأطهار علیهم السلام: أورثنا الکتاب صفوة من عبادنا من أهل البیت، إلّا أنّ أهل البیت علی ثلاث طوائف: طائفة تظلم نفسها و هی التی تتجاهل نسبها و تقلّد نخبتها من هذه الطائفة، فهذه لا تکون من الأئمّة الأطهار، و طائفة معتدلة، و ثالثة سابقة بالخیرات هادیة فی حرکتها و هی تلک النخبة. هذا هو المراد من الآیة بالاستناد إلی الأحادیث المُعتبرة، و لکن نظرة اخری إلی القرآن تفید أنّ الآیة الکریمة دراسة لجماعة واسعة باسم« عبادنا» و هم أهل البیت، و أنّ الکتاب ورّث فیهم، و هم علی طائفتین: 1- النخبة 2- سائر الطائفة، فالنخبة هُم الأئمّة الأطهار علیهم السلام، و جمیع بنی هاشم هم سائر الطائفة، فهم قد یظلمون أنفسهم و لکن لیس علی الدوام و الشاهد هو الآیة اللاحقة جَنَّاتُ عَدْنٍ یَدْخُلُونَهَا یُحَلَّوْنَ فِیهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِیهَا حَرِیرٌ. و علی فرض أنّ هذا الکلام خلاف ظاهر الآیة و أنّ کلمة« عبادنا» تشمل جمیع المسلمین، لکن مع هذا الفرض و هو أنّ« المصطفین من عبادنا» لیس سوی أهل بیت الرسالة الأئمّة الأطهار علیهم السلام، و قد لاحظتم شرح ذلک، حیث کان الاستدلال مبتنیاً علی کلمة« المصطَفین من العباد» لا کلمة عبادنا.

ص: 189

إذن، فالمقصود «بالعباد» جماعة أشمل و أوسع من أهل البیت، لا المصطفین من أهل البیت، و یؤیّد ذلک عدّة روایات.

وارث الکتاب الکریم:

أئمّة الدین هم وارثو الکتاب، و أئمّة الإسلام هم صفوة العباد، المبرّءون من کلّ عیب و نقص و دنس، الذین خصّهم اللَّه بعنایته و لطفه، فأودعهم القرآن بأسراره و مکنوناته و خفیّاته، إلی جانب تعلیمهم من قبل ربیب الوحی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فهم یرون الحقائق کما یراها رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، و قد أفاض علیهم نوره، فهو معلّم أمیر المؤمنین علیه السلام الذی علّمه ألف باب من العلم، فکان علیه السلام هو الأُذن الواعیة التی لا یعزب عنها شی ء حتّی قال فیه: «إنّک تسمع ما أسمع و تری ما أری، إلّا أنّک لست بنبیّ»(1).


1- نهج البلاغة لمحمّد عبده: 437.

ص: 190

الآیة الأُخری التی کشفت عن علم الإمام بالغیب هی: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللَّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلی عالِمِ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(1).

کیف یعلم الجمیع؟!

کیف یعلم جمیع المسلمین بسیرة المنافقین أو خفایا بعض الناس؟ اللَّه عالم الغیب و الشهادة و الذی یکشف الأعمال و یریها من یقوم بها فیضعها نصب أعینهم، فالأعمال التی تصدر من الناس- و علی ضوء ذیل الآیة- لا بدّ أن تکون الأعمال و الأفعال الخفیّة، إلّا أنّنا نعلم أنّه لا یمکن للجمیع الاطّلاع علی هذه الخفایا، و هنا لا بدّ من القول بوجود عدّة معدودة من المؤمنین- مضافاً إلی اللَّه و رسوله- تمتلک رؤیة ثاقبة تجعلها تخترق الحُجب و تطّلع علی الخفاء، فلا بدّ أن نعرف من هی هذه العدّة المعدودة من المؤمنین؟ قال المحقّق الطوسی فی تفسیره التبیان: هؤلاء هم الأئمّة الأطهار علیهم السلام، و قد جاء فی الخبر أنّ أعمال الامّة تعرض کلّ یوم اثنین و خمیس علی النبی صلی الله علیه و آله و الأئمّة علیهم السلام(2)، و هذا ما أشار إلیه الإمام الرضا علیه السلام لابن الزیّات(3). إذن، فالآیة الکریمة تری للأئمة رؤیة ثاقبة کالتی لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله و التی تمکّنهم من الإحاطة بالخفیات. و أدنی تأمّل فی صدر الآیة و ذیلها یقود إلی أنّ تلک العدّة المعیّنة من المؤمنین عالمة بالغیب و الشهادة أیضاً، فقد ورد لفظ الجلالة فی أوّل الآیة دون قید ثمّ أردف بالرسول، و هؤلاء المؤمنین فی طول لفظ الجلالة فی الاطّلاع علی


1- سورة التوبة: الآیة 105.
2- تفسیر التبیان: 5/ 295.
3- تقدّم فی ص 173.

ص: 191

خفایا الناس، أمّا ذیل الآیة فقد ورد لفظ الجلالة متّصفاً بعالم الغیب و الشهادة، و هذا العالم هو اللَّه الذی ذکر فی صدر الآیة، و علیه: فکما أنّ اللَّه عالم الغیب فإنّ رسول اللَّه و بعنایة الحقّ سبحانه فی طول هذه المزیة الإلهیة الذاتیة- لأنّها وردت فی طول اللَّه فی الآیة- یتمتّع بإفاضة علم الغیب علیه، و لیست هنالک من الأعمال ما یخفی علیه، ثمّ کان المؤمنون فی طول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، الأئمّة الأطهار الذین یطّلعون الخفاء بلطف اللَّه فیقفون علی أعمال العِباد، و اللَّه أعلم.

الشواهد الحیّة!!!

هل یمکن أن نحصر علم الأئمّة فی دائرة أحکام و تعالیم القرآن رغم هذه الشواهد الحیّة و الدلالات القرآنیة بعلمهم المطلق و إحاطتهم بالخفایا و الأسرار، فلا نراهم أبعد شأناً من المجتهد الذی یستنبط الأحکام الشرعیة من القرآن؟! أم لا بدّ أن نذعن إلی سعة علمهم و إحاطتهم بکافّة الحوادث؛ لأنّ الزمان و المکان لیس من شأنهما أن یکونا حجاباً یحول دون رؤیتهم لباطن الامور، و هل یصعب علی هؤلاء الزعماء الخالدین المطهّرین من الرجس و الدنس و العلماء بالکتاب و الشهداء علی أعمال العباد و حفظة القرآن و أمناء الوحی، أن یتکهّنوا بالحوادث و الوقائع التی تهدّد بالخطر کیان الإسلام و المسلمین؟ و هل کان الإمام الحسین علیه السلام المظلوم الذی هبّ للدفاع عن الرسالة غافلًا عمّا ستئول إلیه الامور فی کربلاء، و لم یکن یمتلک رؤیة واضحة لحرکته و انطلاقته التأریخیة من المدینة إلی کربلاء! لا ننوی الإجابة علی هذه الأسئلة و نترک ذلک للإخوة القرّاء الأعزّاء، لیتحفونا بجوابهم علی ضوء ما واکبناه من أحداث سابقة.

طرق الأئمّة علیهم السلام فی الحصول علی العلم:

لقد اتّضح من الأبحاث السابقة أنّ الإمام عالم بالغیب، و أنّه یستمد علمه

ص: 192

الغیبی من خلال المدد الإلهی الذی یدعی بالإفاضة الرحمانیة، کما اتّضح لدینا أیضاً أنّ الزعامة الدائمة الهادیة إلی الصراط المستقیم لا یمکنها أن تکون غیر محیطة بالحوادث و الوقائع التی یواجهها المسلمون و الإسلام طیلة التأریخ، و ذلک لأنّها إذا کانت جاهلة بهذه الحوادث فإنّها ستشقّ عصا المسلمین و تفرّق صفوفهم و تعرّض الکیان الإسلامی للتصدّع و الانهیار، و تحیل القرآن الکریم- هذا الکتاب الذی یتضمّن سعادة الامم و الشعوب علی مرّ العصور- إلی کتاب لا یبقی منه سوی شکله و رسمه، بینما وعد الحقّ بخلود هذا الکتاب العزیز و أنّه محفوظ حتّی عن سقوط أحد حروفه، فکیف یتعامل أئمّة الدین و زعماء المسلمین مع الأحداث بما یقود إلی تلک النتیجة المؤسفة! أو لا یتعرّض الإسلام إلی الإبادة و الزوال من قِبل الأعداء الذین یتربّصون به الدوائر، و الذین لا یرقبون فی المسلمین إلّاً و لا ذِمَّة؟ لا شکّ أنّ هذا السقوط و الزوال حتمی و تصدّع القرآن قطعی لو لم یکن الأئمّة الأطهار علیهم السلام عالمین بحوادث الدهر، فی حین قطع القرآن علی نفسه قضیة بقائه و دیمومته إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ(1)، و بشّر من جانب آخر بانتصار حکومة العدل الإلهی التی ستنشر قیم العدل و الفضیلة فی کافّة أرجاء المعمورة، فقال عزّ من قائل: وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ(2). و هنا یُطالعنا هذا السؤال: إذا کانت زعامة الأُمّة من قِبل هؤلاء الأئمّة الذین لهم مثل هذا العلم و الدرایة و أنّهم یبلغون بالامّة کمالها المنشود، فکیف یتّجه الإسلام نحو الضعف و الافول؟ و قد قال القرآن الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ أو یدبّ الضعف فی صفوف المسلمین فی ظلّ زعامة اولئک الأئمّة؟ و ناهیک عمّا


1- سورة الحجر: الآیة 9.
2- سورة القصص: الآیة 5.

ص: 193

تقدّم؛ فإنّ اللَّه هو الذی أنزل القرآن و تکفّل بحفظه، فهو لن یصبح کتاباً عادیاً أبداً؟ و نقول فی الجواب: إنّ الإسلام لا یتّجه إلی الضعف و الافول لو کان الأئمّة الأطهار علیهم السلام هم الذین ینهضون بالأمر، فهم عالمون بصیرون، و هدایتهم- لو امتثلت- فسوف تؤدّی إلی قوّة شوکة الإسلام و المسلمین، غیر أنّ الخطّة التی رسمها القرآن الحکیم لم تطبَّق، و انحطاط المسلمین کان نتیجة طبیعیة لتنحیة أولئک الزعماء، و هذا ما أرادت أن تُشیر إلیه الآیة فی أنّ هذا الضعف ناشئ عن إقصاء الأئمّة، و أنّ الإسلام سیستعید قوّته مستقبلًا، و هذا لا یتسنّی إلّا فی ظلّ حکومة أتقیاء الدهر و علی رأسهم إمام العصر و الزمان- أرواحنا و أرواح العالمین له الفداء- الذی سیبعث الحیاة من جدید حین تکون السیادة فی حکومته للقرآن و تعالیمه الحقّة، ستکون الدنیا آنذاک متعطّشة لحکومة العدل القرآنی، و التفاصیل فی المجلّد الثانی.

أمیر المؤمنین علیه السلام و الآیة الکریمة:

قال علی علیه السلام «لتعطفنّ الدنیا علینا بعد شماسها عطف الضروس علی ولدها»، و تلا عقب ذلک وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ ...(1). لقد أبان الإمام بهذه العبارة منزلة الإمام، کما أفصح عن دافع ظهور حکومة العدل القرآنی، فی حین اتّضحت دلالة الآیة فی حلول الیوم الذی سیشهد حاکمیة الإسلام بزعامة الإمام. ما أشقی الامّة حین ولّت ظهرها لهذه الصفوة و أبعدتها عن الزعامة! و لکن سوف لن یکون بوسعها إقصاء مُعزّها الذی سیأخذ بیدها و یفیض علیها برکات الدنیا و الآخرة حین تعلن وفاءها و وقوفها إلی جانبه. نعم، انحطاط المسلمین کان معلولًا لعدم انصیاعهم لزعامة أولیاء اللَّه من تلک


1- نهج البلاغة لمحمد عبده: 704 حکم 210.

ص: 194

الصفوة، لا إلی عدم العلم بحوادث التأریخ. و کأنّ السائل أراد بالسؤال أن یشیر إلی علّة الضعف التی أفرزتها افتقار الزعامة لمقوّماتها و شرائطها. و عوداً علی بدء فقد اتّضح أیضاً أنّ الإمام بصفته الزعیم الأبدی، عالم بکافّة الوقائع و الحقائق و الأسرار و السیر نحو الجمال و الکمال. و هنا لا بدّ من الإذعان بأنّ بصیرتهم هی عین الواقع التی تأبی الخطأ و الانحراف، فقد شعّت أنوار قلوبهم باللَّه نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الذی لم یجعل للظلمة من سبیل إلی قلوبهم، فقد طهرت حتّی لم تتمکّن هذه الحُجب من الوقوف بوجهها. و اتّضح أیضاً بأنّ الإمام طالما کان الحاکم الإسلامی و الزعیم المطلق؛ فإنّ حکومته متقوّمة بالغیب الذی یشمل حتّی الحوادث الشخصیة البسیطة، کما تبیّن أنّ الکتاب السماوی- القرآن- قد استودعه اللَّه الأئمّة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا. و قد تکفّل القرآن ببیان أنّ المراد من هذا الإرث هو استنارة قلوب الأئمّة بنور القرآن: قُلْ کَفی بِاللَّهِ شَهِیداً بَیْنِی وَ بَیْنَکُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ(1)، و قد قال الإمام الصادق علیه السلام: «و عندنا و اللَّه علم الکتاب کلّه»(2)، کما فهمنا أنّ آصف بن برخیا بنصّ الآیة الکریمة قد أوتی بعض العلم بالکتاب، فانطوی علی تلک القدرة و القوّة العلمیة، فما بالک بمن اوتی العلم بالکتاب کلّه! فی حین لا زال البعض یعیش القلق الفکری و یتساءل: هل یتجاوز علم الإمام حدّ استنباط آیات الأحکام؟ و أخیراً وقفنا علی إحاطتهم بأعمال العباد، و أنّه لا یعزب عن علمهم مثقال ذرّة من تلک الأفعال، و أنّهم الشهداء علی الناس یوم القیامة فی محکمة العدل «فمن


1- سورة الرعد: الآیة 43.
2- الکافی 1: 229 باب أنّه لم یجمع القرآن کلّه إلّا الأئمّة، و أنّهم یعلمون علمه کلّه ح 5.

ص: 195

صدّق صدّقناه یوم القیامة، و من کذّب کذّبناه یوم القیامة»(1)، فإذا أنکر منکر عمله، نادوه: صه فقد کنّا مطّلعین علی عملک، کما علمنا بأنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ربیب الوحی قد أفاض علیهم علومه مضافاً إلی ما خصّهم اللَّه به من عنایته و فضله و أفاض علیهم من لطفه و رحمته. کانت هذه نماذج من علم الإمام، و القرآن هو الشاهد علی هذه العلوم، و لنا الآن أن نلتمس سبل هذه العلوم دون اللجوء إلی أقوال تلامذة الوحی، فما مصدر علم الإمام؟

المعلّم الأوّل:

لقد ذکرنا خلال الأبحاث السابقة أنّ النبیّ أو الإمام لا یدرک جمیع الأشیاء بنبوّته أو إمامته، بل هم لا یستغنون فی کلّ آن عن الفیض الإلهی، فالنبوّة و الإمامة لا تجعله بمجرّدها عالماً بکلّ شی ء. إذن، فهذا العلم الجمّ الذی یملکه الإمام لا بدّ أن یکون قد تعلّمه فی مدرسة، و قد مرّ علینا أنّ الإفاضة هی وسیلة الإمام فی علمه، فاللَّه هو الذی یفیض و یتلطّف بأئمة الدین زعماء المسلمین، و قد قلنا بأنّه یحکم بما یریه اللَّه لِتَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ بِما أَراکَ اللَّهُ(2)، و أنّهم بعنایة اللَّه صفوة عابدة مخلصة عالمة بالکتاب ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا ...(3)، و بیّنا أیضاً بأنّ یوسف کان مُنَصَّباً من قِبَل اللَّه رغم نهوضه بأمر دون الزعامة العامّة، و أنّه معلَّم منه:

وَ عَلَّمْتَنِی مِنْ تَأْوِیلِ الْأَحادِیثِ(4).


1- الکافی 1: 190 باب أنّ الأئمّة شهداء اللَّه عزّ و جلّ علی خلقه ح 2.
2- سورة النساء: الآیة 105.
3- سورة فاطر: الآیة 32.
4- سورة یوسف: الآیة 101.

ص: 196

و الذی نرید أن نخلص إلیه هو أنّ المعلّم الأوّل للإمام هو العلیم المطلق، و ما ذلک إلّا لإخلاصه و تسلیمه و انقیاده المطلق للحقّ، فیحظی بالعنایة الإلهیة و الفضل الربّانی لیتغلّب علی ما یعترضه فی مسیرته من حوادث و أحداث.

المعلّم الثانی:

المعلّم الثانی للإمام هو رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، فقد قلنا سابقاً بأنّ دعوة إبراهیم و إسماعیل کانت لأجل ظهور صفوة صالحة فی ذرّیّتهم تتربّی فی مدرسة الرسالة، و کانت نتیجة الدعوة أن تولّی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بشخصه تعلیم علی علیه السلام و تربیته منذ نعومة أظفاره.

و قد صرّحت بذلک آیات سورة البقرة وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ(1). و هو ما أشار إلیه الإمام الصادق علیه السلام استناداً إلی الآیة، فقال: «لم یعلّم اللَّه محمّداً صلی الله علیه و آله علماً إلّا و أمره أن یعلّمه علیاً علیه السلام»(2). و بناءً علی ما تقدّم فالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله هو المعلّم الثانی للإمام.

الإمام الصادق علیه السلام و علم الإمام:

سأل الحارث بن المغیرة الإمام الصادق علیه السلام عن مصدر علم الإمام، فأجاب علیه السلام: «وراثة من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و من علیّ علیه السلام». فقال الحارث: إنّا نتحدّث أنّه یقذف فی قلوبکم و ینکت فی آذانکم صلی الله علیه و آله، قال علیه السلام: «أو ذاک»(3). أی أنّ الإمام ملهم و تلمیذ مدرسة النبی صلی الله علیه و آله و الإمام علی علیه السلام، و قد مرّ(4) علینا قول الباقر علیه السلام أنّ الإمام یسمع الصوت و لا یری و لا یعاین الملک»(5).


1- سورة البقرة: الآیة 127.
2- الکافی 1: 263 باب أنّ اللَّه عزّ و جلّ لم یعلّم نبیّه علماً إلّا أمره ... ح 1.
3- الکافی 1: 264 باب جهات علوم الأئمّة علیهم السلام ح 2.
4- فی ص 167.
5- الکافی 1: 176 باب الفرق بین الرسول و النبیّ و المحدّث، ح 1.

ص: 197

القرآن و علم الإمام علیه السلام:

أمّا أفضل طرق علم الإمام فالقرآن الکریم، و قلنا: إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله مکلّف بتعلیم أئمّة الإسلام، و بالطبع فقد اقتصر هذا التعلیم المباشر علی أمیر المؤمنین علیه السلام، إلّا أنّنا نعلم بأنّ القرآن الذی جمعه الإمام علیه السلام لم یقتصر علی الکتاب المُنزل، بل ضمّ إلیه جمیع الأسرار القرآنیة و التفسیر و التأویل و أسباب النزول و کافّة الأحکام، فقد کان علی علیه السلام یسطّر ما یتلو علیه النبی صلی الله علیه و آله، و أنّ هذا القرآن کانت تتناقله الأئمّة دون أن تصل إلیه ید الآخرین، و هو الآن بید قائم آلم محمّد صلی الله علیه و آله إمام العصر و الزمان. و من هنا تتبیّن أهمّیة و عظمة هذا الکتاب الذی انطوی علی جمیع الحقائق و الأحکام و أسرار القرآن- الأعم من التأویل و التنزیل- و الذی أملاه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله علی أمیر المؤمنین علیه السلام و لم تصل إلیه ید عامّة الأُمّة، و کیف أنّه یتجاوز المکنونات و المجهولات؟! هذه نبذة من الطرق التی تکشف عن علم الإمام و إحاطته بالمجاهیل، و من أراد المزید فلیراجع کتاب أصول الکافی لثقة الإسلام الکلینی، أو کتب عُلماء الکلام بهذا المجال لیقف من خلال الأحادیث و الأخبار علی مصادر علم الإمام علیه السلام.

أسئلة و أجوبة:

طرحت عدّة أسئلة فی المباحث السابقة من قبیل: 1- هل للإمام علیه السلام علم بالغیب أم لا؟ الجواب: نعم، هو عالم بالغیب، و لکن من خلال الوحی أو الإلهام أو شرح اللَّه

ص: 198

لصدرهم بما یزیل عنهم الحُجب فینظرون إلی حقائق الأشیاء، و هذا العلم الجمّ من لوازم الزعامة الخالدة، و لا بدّ للحاکم الإسلامی من الاستناد إلی الغیب فی حکومته. 2- هل مجرّد بلوغ النبوّة أو الإمامة یجعلهم یدرکون الغیب؟ الجواب: کلّا، فانّ مجرّد الإمامة لا تستلزم هذا الأمر، فهم مقیّدون لا یعلمون دون عنایة الحقّ و لطفه، إلّا أنّ سنّة اللَّه جرت فی أنّ أئمّة الإسلام أن یحیطوا بکافّة الأسرار بفضل الإفاضة الرحمانیة. 3- هل تنحصر علوم زعماء الدین و أئمّة المسلمین فی إطار القرآن و أحکام الإسلام دون الحوادث الواقعة و مصیر المسلمین و مستقبل الإسلام؟ الجواب: أفادت الدراسات و الأبحاث السابقة أنّ علم الإمام لا ینحصر بالقرآن و أحکام الإسلام، و لا بدّ أن یحیط الزعیم بالحوادث و لا سیّما تلک المرتبطة بکیان الإسلام و المجتمع الإسلامی. 4- هل الأئمّة علیهم السلام عالمون بما کان و ما یکون؟ الجواب: أشرنا باختصار إلی هذا الأمر، و قد أوضحته الروایات التی صرّحت بأنّ عندهم المصحف بإملاء رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و خطّ أمیر المؤمنین علیه السلام، و الذی یحتوی علی جمیع الحقائق و الأسرار و امور التأویل و التنزیل کما ورد فی القرآن الکریم: تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ(1) فلا بدّ من الإذعان بأنّهم عالمون بما کان و ما یکون. و لا نری المقام یسع للخوض فی بیان المقصود بما کان و ما یکون. 5- هل علم الإمام علیه السلام بالأشیاء حضوریّ، أم حصولی؟ الجواب: لا نری من جدوی فی إطالة الکلام بهذا الشأن رغم إصرار البعض فی مؤلّفاتهم علی أنّ علم الإمام حضوری، فما عند الإمام من العلم هو الإفاضة و العنایة، و ما یهمّنا هو التأکّد من علمه مهما کانت کیفیّته ما لم یستلزم أمراً غیر معقول.


1- سورة النحل: الآیة 89.

ص: 199

العلم الشائی:

هذا اصطلاح أورده علماء الکلام فی أنّ الإمام علیه السلام عالم بکلّ شی ء و لکن بالعلم الشائی، أی متی شاء علم و إلّا فلا. و بعبارة اخری: فإنّ عنان العلم بید الإمام بمجرّد أن یرید العلم یعلمه. و لا ندری من أین لعلماء الکلام هذا الاعتقاد، و کیف یستدلّون علیه؟ فإن کان الدلیل الأخبار، فإنّنا تتبّعنا الأخبار التی اعتبرت العلم متوقّفاً علی المشیئة، فإذا هی ثلاثة أخبار فی اصول الکافی- التی تهتمّ بمثل هذه الأحادیث و الأخبار- و هی لا تنفع المتکلّمین بهذا الشأن.

إیضاح:

هنالک أمران ینبغی توفّرهما من أجل صحّة الاحتجاج و الاستدلال بأیّة روایة، و هما: 1- الوثوق بصدور الروایة عن الإمام علیه السلام. 2- دلالة نصّ الحدیث علی المُراد بصورة واضحة و لو من بعض القرائن. و ممّا یؤسف له أنّ الروایات الواردة بهذا الشأن فی باب «أنّ الأئمّة علیهم السلام إذا شاءوا أن یعلموا علموا» لیست أکثر من ثلاث، و هی تفتقر إلی السند و إلی الدلالة التی قال بها بعض المتکلّمین، بل یمکن القول بأنّها روایتان؛ لأنّ رجال السند بعد ابن مسکان متحد فی روایتین، و ینتهی السند إلی أبی ربیع الشامی الذی روی عن الصادق علیه السلام. عبارة الروایة الأُولی: «إنّ الإمام إذا شاء أن یعلم علم»(1) بینما عبارة الروایة


1- الکافی 1: 258 ح 1.

ص: 200

الثانیة التی متحد فی السند مع الأُولی «إنّ الإمام إذا شاء أن یعلم أُعلم»(1) و عبارة الروایة الثالثة «إذا أراد الإمام أن یعلم شیئاً أعلمه اللَّه ذلک»(2). و بالتمعّن فی نصّ الروایة الثالثة و الثانیة تری أنّ کلمة «علم» فی الروایة الأُولی بضمّ العین و تشدید اللّام فهی صیغة مجهولة من باب التفعیل لا بمعنی «یعلم»، و لذلک فمفادها واحد، و هو أنّ الإمام علیه السلام متی شاء أن یعلم یعلّمه اللَّه و یفیض علیه «أعلمه اللَّه ذلک». و علیه: فإن کان مستند هذا البعض من المتکلّمین بالعلم الشائی هذه الروایة، کان لا بدّ من القول بأنّ الروایات الثلاث لا تنطبق علی العنوان المذکور فی کلام المُتکلّمین، و إن کانت هناک روایات اخری فإنّنا لم نعثر علیها. و بغض النظر عمّا مضی فإنّ سند الروایة ضعیف، و یمکن القول بأنّ الروایات الثلاث دالّة علی أنّ علم الإمام إفاضته، و متی غاب عنهم شی ء تلطّف اللَّه علیهم و کشفه لهم. و هنا نأتی إلی اختتام البحث و التحقیق بشأن الإمامة و شرائطها و لا سیّما علم الإمام. و هنا لا بدّ من القول بأنّ بحث الإمامة لیس من الأبحاث السهلة، فمعرفة الإمام تتطلّب رؤیة ثاقبة و افق واسع، و أنّی للقلوب الملوّثة أن تدرک شأن الإمام، فقد قال الإمام الرضا علیه السلام: «إنّ الإمامة أجلّ قدراً و أعظم شأناً و أعلی مکاناً و أمنع جانباً و أبعد غوراً من أن یبلغها الناس بعقولهم»(3).


1- الکافی 1: 258 ح 2.
2- الکافی 1: 258 ح 3.
3- الکافی 1: 199 باب نادر جامع فی فضل الإمام و صفاته ح 1.

ص: 201

علم الإمام سیّد الشهداء علیه السلام بحادثة کربلاء

اشارة

اتّضح لدینا سابقاً بأنّ الإمام عالم و محیط بکلّ حادثة فی المسیرة التأریخیة للمسلمین و إلی الأبد، و علیه: فلم یعد هنالک من معنی للتساؤل عن أنّ سیّد الشهداء علیه السلام کان عالماً بمصیره فی کربلاء و سبی نسائه أم لا، فهذا السؤال مثل من یسأل عن شُعاع الشمس هل یصل إلی ذلک المکان و هو یری بأُمّ عینیه نورها الذی یضی ء کلّ شی ء! تری ما العمل و قد طرح هذا المبحث منذ القدم لدی العقلاء و المفکّرین؟ الأمر الذی جعلنا نتصدّی للخوض فی مثل هذه المباحث، و لعلّ مثل هذه العُقد و الشبهات قد تسلّلت إلی الکتاب المعروف: «شهید جاوید» و الحقّ أنّ المؤلّف قد اعتمد نهجاً جدیداً فی طرحه لأبعاد تلک الواقعة، غیر أنّه أخطأ فی بعض الاستنتاجات و قراءة الأحداث، و هذا ما دفعنا لأن نخصّص هذا الفصل لنقد محتوی و مضمون هذا الکتاب، و لا یسعنا إلّا أن نذعن ببراعة الکتاب سوی خاتمته التی طرحت هذا السؤال: هل کان الإمام الحسین علیه السلام یعلم بأنّه سیُقتل فی

ص: 202

کربلاء أم لا؟ فی حین فرغنا من إثبات علم الإمام بالغیب و أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قد قال لعلی علیه السلام: «إنّک تسمع ما أسمع و تری ما أری إلّا أنّک لستَ بنبیّ»(1). و لمّا کان مؤلّف الکتاب من الباحثین و قد ناشد الجمیع تذکیره بالهفوات التی ربّما استبطنها الکتاب، و قد دوّن عنوانه بغیة استلام الرسائل فی هذا المجال، رأینا أنفسنا إتحافه ببعض الامور المتعلّقة بالکتاب من خلال هذا الکتاب الذی بین أیدینا- لا عن طریق الرسائل- فلعلّ کتابه خلّف هاجساً من القلق و الاضطراب لدی الرأی العام. آملین أن یعید المؤلّف النظر فی الطبعات الأُخری لیتلافی ما فرط منه فی ما سبق، سائلین الإخوة المحقّقین و الباحثین التماس العذر لنا فی ما یبدر منّا من زلل و تذکیرنا به رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا أَوْ أَخْطَأْنا(2).

ثلاثة أخطاء رئیسیة:

1- إنکار علم الإمام علیه السلام بشهادته فی هذه الحرکة. 2- تضرّر الإسلام و المسلمین إثر حادثة کربلاء و شهادة الإمام علیه السلام. 3- لم تکن ثورة الإمام علیه السلام سوی دفاعاً عن النفس.

الخطأ الرئیسی الأوّل:

رغم تصریح مؤلّف کتاب «شهید جاوید»- فی الصفحة السادسة من کتابه- بأنّ الإمام کان یعلم بأنّه سیُقتل فی آخر الأمر، إلّا أنّ مبانی الکتاب و اسسه قائمة علی أساس إنکار علم الإمام بشهادته فی هذه الحرکة و سبی نسائه و عیالاته،


1- الطرائف لابن طاوس: 415، و قد تقدّم عن نهج البلاغة فی ص 189.
2- سورة البقرة: الآیة 286.

ص: 203

بحیث لو جرّد الکتاب من هذا المحور لاکتسب صبغة اخری، فالإصرار علی إنکار رؤیا الإمام علیه السلام و أمره من قبل النبی صلی الله علیه و آله: «یا حسین اخرج إلی العراق ...»(1) و حدیث امّ سلمة و حوار محمّد بن الحنفیة، و التردید فی دلالة الروایة الصحیحة الواردة فی کامل الزیارات بأنّ الإمام علیه السلام قال: «مَن لحق بی استشهد ...»(2) و قوله علیه السلام: «هاهنا و اللَّه محطّ رحالنا و مسفک دمائنا ...»(3) و تلاوته لخطبته المعروفة «خُطّ الموت علی ولد آدم ...»(4) فی مکّة، أو خدشه فی دلالة الخطبة «کأنّی بأوصالی ...»(5) أو عدم التعرّض لها، کلّ هذه الامور قائمة علی أساس الإنکار، غایة ما فی الأمر أنّه یتعرّض لها من زاویة اخری، بینما یبقی الهدف الأصلی متمثِّلًا بإنکار علم الإمام بشهادته، و لا نری هذا الکلام جدیداً، فقد تعرّض أرباب المقاتل و أجابوا بما فیه الکفایة، إلّا أنّنا لم نلمس مثل هذه الشبهات و الشکوک فی الکتب التی تعرّضت لحادثة کربلاء. بالطبع یمکن أن ترد مثل هذه الأُمور فی بعض الأوساط الأُخری التی لیس لها معرفة تُذکر بهذا الشأن و تجهل مقام الإمام، إلّا أنّ هذا الأمر یبدو أنّه یحمل نوعاً من الغرابة بالنسبة لعالم التشیّع الذی تثقّف و فَهِم أفکار و ملابسات هذه الحادثة الخالدة.

الخطأ الرئیسی الثانی:

لقد اعترف المؤلّف- بالتلویح أو التصریح- بأنّ حادثة کربلاء و شهادة الإمام الحسین علیه السلام قد أدّت إلی الإضرار بالإسلام و المسلمین.


1- الملهوف لابن طاوس: 128، ینابیع المودّة 3: 60.
2- کامل الزیارات: 157 ح 195، و عنه بحار الأنوار 45: 87 ح 23.
3- الملهوف لابن طاوس: 139، الاحادیث الغیبیة 2: 309.
4- کشف الغمّة 2: 29، و عنه بحار الأنوار 44: 366- 367.
5- کشف الغمّة 2: 29، و عنه بحار الأنوار 44: 366- 367.

ص: 204

الخطأ الرئیسی الثالث:

یفید التأمّل فی الکتاب المذکور أنّه لم تکن هنالک من دوافع لثورة الإمام سوی الدفاع عن النفس، و ذلک لأنّ الإمام و بمجرّد أن یئس من النصر و الإصلاح و رأی نفسه فی قبضة العدوّ لم یکن له بُدّ من الدفاع عن نفسه. نعم، هذه هی أهمّ الأخطاء التی ارتکبها صاحب الکتاب، و لا یسعنا الخوض فی سائر الأخطاء التی لا ترتبط بمنهج هذا الکتاب. و نخوض الآن فی مناقشة الخطأ الأوّل و الثانی، و سیتّضح لدینا من خلال البحث الجواب علی الخطأ الثالث، و لذلک فلا حاجة لعنوان مستقلّ.

الکتاب و الخطأ الأوّل:

اشارة

1- یستنتج من البحث الوارد بشأن دوافع الثورة بأنّ «الإمام ثار من أجل إنشاء الحکومة الإسلامیة، و هذا هو الهدف الأصلی و الواقعی فی حرکته نحو الکوفة، و ذلک لأنّ کافّة الظروف کانت ممهّدة لنیل النصر». و یمکن القول بأنّ الهدف الأصلی للکتاب قد تبلور فی هذا الأمر، أی إنشاء الحکومة الإسلامیة و القضاء علی حکومة یزید، و لسنا الآن بصدد دراسة هذه القضیة، و سنتّفق و الکاتب فی أنّ هدف الإمام کان یتمثّل بالأخذ بزمام الامور، إلّا أنّه ذکر فی الصفحة السادسة من الکتاب «أنّ الإمام کان یعلم بأنّه سیُقتل فکیف له بذلک العسکر الذی رافقه أن یطیح بحکومة یزید». و بناءً علی هذا فلا یمکن الجمع من وجهة نظر الکاتب بین العزم الراسخ بالإطاحة بحکومة یزید، و العلم بالشهادة فی تلک النهضة، فهناک تباین بین الأمرین. فقد ظنّ بعدم إمکانیة تحقیق الإمام للهدف و تعبئة الجهود من أجله، بینما کان یعلم بأنّه سیُقتل دون نیل ذلک الهدف، و حیث کان الهدف الذی رکّز علیه

ص: 205

الإمام علیه السلام من وجهة نظر الکاتب هو إنشاء الحکومة، فلم یجد بدّاً من التنکّر لقضیة علم الإمام علیه السلام بقتله فی هذه النهضة، و لا نرید أن نقول بأنّ هذا الفصل من الکتاب صرّح بنفی علم الإمام بشهادته، بل حیث توصّل الکاتب إلی أنّ علم الإمام بشهادته فی هذه الحرکة یتنافی و هدف الکتاب فی قیام الإمام من أجل الإطاحة بحکومة یزید و إنشاء الحکومة الإسلامیة، فلم یکن أمامه من سبیل سوی إنکار علم الإمام بشهادته فی هذه الحرکة، و هذا هو الأساس الذی ابتنی علیه الکتاب. 2- لقد تنکّر الکتاب لکافّة الأدلّة التی تفید- بغضّ النظر عن الأدلّة العامّة التی تصرّح بالعلم المطلق لکلّ إمام- علم الإمام علیه السلام بشهادته فی هذه الحرکة، فهو إمّا کان یطعن فیها من حیث السند و الاعتبار أو یناقشها من حیث الدلالة، و هنا لا یجب أن ننسی أنّ المؤلّف قال: لم یخرج الإمام من أجل الشهادة أبداً، ففنّد کلّ ما یفید هذا الأمر، فمثلًا علّق علی عبارة الإمام علیه السلام: «من لحق بی استشهد» فقال: لا تعنی هذه العبارة أنّ کلّ مَن یلحق بی یُقتل، فی حین لا یفهم العرف و اللغة سوی ذلک، بل یری أنّ المعنی: مَن یلحق بی إنّما یتعرّض إلی الأخطار و الشهادة، أَ وَ لا یعنی بهذا أنّه ینکر علم الإمام بما سیقع فی کربلاء؟ و بالطبع لا ارید أن أقول بأنّ کافّة الأدلّة قطعیة السند تأریخیاً، رغم القول بصحّتها من قبل کبار أرباب المقاتل، بل أقول: إنّ کلّ ما بدر من المؤلّف کان اجتهاداً فی التأریخ و لیس من التأریخ فی شی ء، و لم یهدف سوی إنکار علم الإمام علیه السلام بشهادته فی هذه الحرکة. 3- کیف لنا أن نفترض عدم تنکّر المؤلّف لعلم الإمام بشهادته، و هو الذی أورد عنواناً تساءل فیه عن قتل الإمام هل کان بنفع الإسلام أم بضرره، ثمّ یذهب صریحاً- و سیأتی ذلک فی مناقشة الخطأ الرئیسی الثانی- إلی أنّ قتل الإمام علیه السلام و حادثة کربلاء و سبی عیالات أهل البیت إنّما شکّلت ضرراً علی الإسلام، حیث

ص: 206

ذهب أیضاً إلی أنّ القول بالعلم یستلزم الاعتراف بإقدام الإمام علیه السلام علی عمل لم یتضمّن سوی ضرر الإسلام و المسلمین، لو کان الإمام عالماً بما ارتکب و ما یتنافی و الإسلام، و علیه: فلا مفرّ للمؤلّف من الاعتقاد بعدم علم الإمام بشهادته فی تلک النهضة. و بعبارة أوضح: یعتقد المؤلّف بأنّ حادثة کربلاء قد أضرّت بالإسلام- سیأتی الردّ قریباً- و علی هذا الأساس کان لا بدّ له من التنکّر لعلم الإمام بما سیجری فی تلک الحادثة، و إلّا لما ارتکب ذلک الفعل الذی أدّی إلی ضرر الإسلام، و علیه: فلم یکن للإمام علم، و إلّا کان متعمّداً- و العیاذ باللَّه- للإضرار بالإسلام. 4- یفهم من الأدلّة التی ساقها المؤلّف فی إطار حرکة الإمام الحسین علیه السلام إلی الکوفة و إنشاء الحکومة الإسلامیة، أنّ الإمام لم یکن ملتفتاً إلی الأحداث و الوقائع التی ستنطوی علیها حادثة کربلاء. فقد صرّح فی ص 55 قائلًا: «علی ضوء المعادلات الطبیعیة- و المقصود بالمعادلات الطبیعیة هنا بقرینة العبارات السابقة و اللاحقة: إعداد العدّة و العدد و شعبیة الإمام و نصرة الکوفة له و ...- فإنّ الإمام کان یأمل بتحقیق النصر فی هذه المعرکة و الإطاحة بحکومة یزید». و لنا هنا أن نسأله: هل یمکن الجمع بین الأمل- الذی یمثّل إحدی الصفات الإنسانیة- و العلم بالشهادة فی هذه النهضة؟ هل یمکن القول بأنّه کان یأمل بالإطاحة بحکومة یزید و الأخذ بزمام السلطة، کما کان عالماً بأنّه سیُقتل قبل وصوله إلی الکوفة؟ کأن نقول مثلًا بأنّ مسافراً انطلق من مدینة قم و هو یأمل بأنّه سیصل طهران فی نفس ذلک الیوم، کما أنّه موقن بأنّه سیموت فی حادثة اصطدام خلال الطریق قبل أن یبلغ طهران. أجل، لا یمکن الجمع بین العلم بالشهادة فی هذه الحرکة، و الأمل التامّ بالنصر الذی یتمثّل بالإطاحة بحکومة یزید.

ص: 207

و لعلّ هناک من یقول: إذن، فأنتم تتّفقون مع مَن یقول: إنّ الإمام إنّما خرج من أجل القتل، لا بقصد الاتّجاه إلی الکوفة و القضاء علی زعامة الفاسق یزید؟ و للإجابة علی هذا الزعم نقول: لا ننوی فعلًا الدخول فی ماهیة قضیة کربلاء و نبدی بعض و جهات النظر بهذا الخصوص، بل إنّما نرید الإشارة إلی الأخطاء التی ارتکبها مؤلّف کتاب شهید جاوید، کما نرید أن نقول بأنّ أساس الکتاب إنّما وُضع علی أساس إنکار علم الإمام علیه السلام بالشهادة فی هذه الحرکة، و لکن لا بأس بالإجابة علی ذلک الزعم الموهوم. فقد استبطنت حکومة یزید الزائفة عدّة خطط و برامج خطیرة، فلم یکد المسلمون یتنفّسون الصعداء إبّان عصر الاستبداد و الطغیان الذی شهدته حکومة معاویة، حتّی رأی المسلمون هذا الفاسق شارب الخمر و قد تربّع علی عرش السلطة، السلطة التی جعلت المسلمین یذوقون الأمرین من هذا الفتی الطائش- یزید-، و قد أخذ الظلم مأخذه من الناس بالشکل الذی جعلهم یرفعون أصواتهم و یصرخون بوجه الظلم و یطلبون النجدة من الرجل الصالح الجدیر بزعامة الامّة و إمامتها و یرون فیه أملهم المنشود. أمّا الإمام من جانبه فقد کان عالماً بحکومة یزید التی لا ترید سوی زعزعة أرکان الإسلام و محو آثار القرآن، و أنّها ستنشد یوماً:

لعبت هاشم بالملک فلاخبرٌ جاء و لا وحیٌ نزل(1)

و ستجدّد مفاخر الجاهلیة و تقضّ مضاجع الدین، الأمر الذی یجعل الإمام ینهض لممارسة وظیفته تلبیة لدعوة الامّة، و هی الوظیفة التی ینهض بها کلّ إمام حسب الظروف و الشرائط، فلم یکن ینبغی للإمام الحسین علیه السلام أن یصمّ آذانه عن


1- روضة الواعظین: 191، الاحتجاج 2: 122 رقم 173، الملهوف: 215.

ص: 208

سماع صراخ المظلومین، و لذلک أعلن عن عزمه علی خلاص الإسلام و الامّة من مخالب یزید، حتّی لا یتفوّه أحد بأنّ الامّة استغاثت بالإمام و لم یجبها و تهرّب من ممارسة وظیفته و مسئولیته! کان هذا الأمر یتطلّب توفیر بعض المقدّمات من قَبیل الحرکة نحو الکوفة لیعلن للعالم بأنّی لن أخلد إلی السکون و الراحة. نعم، فالسبیل الذی سلکه یزید و العلم الذی یعلمه الإمام لم یجعل أمامه من سبیل سوی القیام و الثورة، هذا من جانب، و من جانب آخر فقد کان عالماً عارفاً أنّه لن یحقّق هدفه و یُنهی حکومة یزید و یقیم الحکومة الإسلامیة، بل إنّ سبیل التضحیة و الفداء هو الذی سیسقی شجرة الدین التی جفّت عروقها خلال سنوات حکم معاویة، و أنّ تضحیته ستنفخ الروح من جدید فی جسد الإسلام الذی أصبح جثّة هامدة بلا حرکة، و کان یعلم جیداً بأنّه سیتمکّن بهذه التضحیة من أداء دینه للإسلام، و ستتحقّق مقولة جدّه الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله «حسینٌ منّی و أنا من حسین»(1). إذن، فالانطلاق نحو الکوفة لزعامة الأُمّة کان من أجل کَمّ الأفواه التی فتحت آنذاک و ستفتح الیوم و غدا، علی أنّ السبیل کان ممهّداً و الظروف مناسبة فَلِمَ لَمْ ینهض الإمام الحسین علیه السلام غیر أنّ العلم بالشهادة و الذی یجعل الهدف یکمن فی کربلاء لم یکن یصدّ الإمام عن القیام و الثورة، فالإمام کان یعلم بأنّه سیُقتل فی هذه الحادثة- و هذا ما سنشیر إلیه لاحقاً- و لکن لا بدّ من الانطلاق نحو الکوفة و تمهید المقدّمات لکی لا تخرج النهضة عن دائرة العقلائیة و الحسابات التقلیدیة، رغم علمه بأنّه سوف لن یصل الکوفة. إذن، فالإمام رام بهذه الحرکة إفهام العالم بأنّه قام من أجل إحیاء الإسلام و إنقاذ الامّة المظلومة من قبضة حکومة یزید، و أنّه سیُقتل إثر هذا القیام، و لم یکن


1- کامل الزیارات: 116 ح 126، و عنه بحار الأنوار 43: 270.

ص: 209

للُامّة أن تدرک مغزی هذا القیام ما لم ینطلق صوب الکوفة، أمّا الإمام فقد کان علی علم بأنّه لن یصل الکوفة. و هنا یبرز هذا السؤال: إذا کان الإمام یعلم بأنّه سیُقتل قبل الوصول إلی الکوفة و الظفر بإنشاء الحکومة الإسلامیة- الحسینیة- فلما ذا قام و نهض بالأمر؟

وَ لِمَ سلّم أهل بیته للقتل طواعیة حیث لم یکن هنالک من احتمال و لو واحد بالمائة بالغلبة و النصر؟ و الجواب: لم یکن الأخذ بزمام الأُمور و السیطرة علی الحکومة هو الهدف الواقعی للإمام؛ لأنّ الإمام کان یعلم بعدم إمکانیة تحقّق هذا الأمر، و أنّه سوف لن یبقی حیّاً قبل أن یصل الکوفة، بل کان هدفه الأصلی إحیاء الإسلام، و تطبیق القرآن، و إبقاء عزّة المسلمین و شریعة خاتم النبیّین صلی الله علیه و آله، و إزالة البدعة و إحیاء السنّة، و لیس هنالک من سبیل سوی الشهادة لتحقیق هذا الهدف العظیم- و هذا ما سنتعرّض له فی مناقشة الخطأ الرئیسی الثانی- و هذه المهمّة کانت تشکّل وظیفة من وظائف الإمامة التی کان علی الإمام السعی للقیام بها، و أن یُحمل رأسه علی الرماح من أجل رفعة الإسلام العزیز. و علی العموم لیست هنالک من منافاة بین الحرکة نحو الکوفة و تلبیة دعوة الامّة و إعداد مقدّمات النهضة، و بین علم الإمام بالشهادة، و ذلک لأنّ الغرض الأصلی هو إفشال مخطّطات یزید و إحیاء الإسلام، و لم یکن من سبیل لذلک سوی القتال المستمیت فی کربلاء حتّی الشهادة، و لم یکن یعلم بهذا الأمر سوی الإمام علیه السلام، و أنّ هذا الهدف العظیم إنّما یتحقّق فی ظلّ الشهادة لا الحکومة. أمّا حرکة الإمام باتّجاه الکوفة إنّما کان یهدف منها توضیح أسباب قتل الإمام، و لیعلم العالم بأسره أنّ الإمام ثار من أجل إنقاذ الامّة الإسلامیة و الحیلولة دون اضمحلال و محو الدین من قبل حکومة یزید و أنّه قُتل فی هذا السبیل.

ص: 210

و لعلّ الإدراک الحقیقی لفلسفة حرکة الإمام و الوظیفة التی قام بها قد یتعذّر علی الناس لو کان الإمام قال منذ بدایة حرکته: إنّما انطلق إلی الأرض التی سأُقتل فیها، کما سیتعذّر علیهم إدراک کیفیة قیام الإمام بهدف إحیاء الإسلام، أمّا الإمام فکان یعلم شخصیاً بأنّ السبیل الوحید للانتصار و زعزعة سلطة یزید و إحیاء الإسلام إنّما یکمن بالشهادة و التضحیة بالغالی و النفیس. نعم، جرت عادة الأئمّة المعصومین علیهم السلام باعتماد بعض الأُمور من أجل إفهام الناس بعض الحقائق و الوقائع، فقد رقد الإمام علی علیه السلام فی الفِراش بعد أن ضُرب فی محراب عبادته، فهو کان یعلم بأنّ ضربة ابن ملجم قاتلة، و قد کشف النقاب عن جمیع تفاصیلها قُبیل وقوعها، و لکن کیف له أن یفهم الآخرین بأنّ تلک الضربة قاتلة؟ لا شکّ فی أنّه لیس هنالک من سبیل سوی استدعاء الطبیب لفحصه و إبداء وجهة نظره بهذا الشأن، فلولا فحص الطبیب و تشخیصه بأنّ الضربة قاتلة و لا أمل فی الحیاة، فلعلّ هناک من یتساءل لو کان علیّ علیه السلام راجع الأطباء و قدّموا له العلاج و الدواء فلربما تماثل للشّفاء و نجی من الموت، و هذا هو جواب أولئک الذین یلتبس علیهم الأمر فیقولون: إذا کان علی یعلم بأنّه سیفارق الدنیا إثر ضربة ابن ملجم و أنّه میّت لا محالة، فَلِمَ أخضع نفسه لإشراف و فحص الطبیب؟ و لمَ استعدّ لتلقّی العلاج؟ أ و لیس هذا دلیلًا علی عدم علمه علیه السلام بأنّه سیموت إثر هذه الضربة، فعلی علیه السلام کان یعلم أن لا جدوی من العلاج و أنّه سیُفارق الحیاة، و لکن کیف له أن یفهم الآخرین هذا الأمر و لا سیّما عوام الناس؟ فهل هناک سوی السبیل الذی سلکه الإمام علیه السلام؟ و هذا ما یصدق علی واقعة کربلاء و حرکة الإمام نحو الکوفة، الأمر الذی سنتعرّض له لاحقاً. 5- یتّضح من الإجابة التی أوردناها علی السؤال فی النقطة الرابعة أن لیس هناک أیّة منافاة عقلیة و عقلائیة بین أساس النهضة من أجل الإطاحة بحکومة

ص: 211

یزید و العلم بالشهادة فی هذه النهضة من أجل تحقیق هذا الهدف. أمّا المؤلّف- و بغضّ النظر عن العلم بالشهادة فی هذه الحرکة- فلم یجد من سبیل للجمع بین تحقیق الهدف و أساس النهضة، فظنّ أنّ فرض صحّة هذه الحرکة إنّما تتأتّی إذا غضضنا الطرف عن علم الإمام علیه السلام بحادثة کربلاء، ثمّ یستنتج علی هذا الأساس أنّ الإمام لا یستطیع أن یطیح بحکومة یزید من خلال هذا الطریق، فکیف تأهّب لمثل هذه الحرکة، فالقیام و النهضة لم تعدّ عملیة عُقلائیة! و علیه: فیری المؤلّف أنّنا إذا أردنا أن نسند الثورة لهذا الأساس وجب علینا أن نغضّ النظر عن علم الإمام، و لمّا أجبنا علی هذا السؤال الوارد بهذا الشأن، فإنّنا نری أنّ المؤلّف لم یستطع أو لم یرد أن یشخّص الطریق الصحیح، فان استند إلی مبناه فی أنّ الهدف هو إسقاط حکومة یزید و الأمل بالنصر و إنشاء الحکومة الإسلامیة، وجب علیه القول بعدم علم الإمام بما ستئول إلیه الأحداث، أو أن یتراجع عن قوله: من أنّ الهدف هو إسقاط حکومة یزید. و نخلص من هذا إلی أنّ الإذعان بالعلم یستلزم نسف کلّ ما ورد فی الکتاب، إلّا أنّنا نعتقد أنّ الهدف کان یتمثّل بالإطاحة بحکومة الظلم و الجور إلی جانب تلبیته لدعوة الامّة المتعطّشة إلی الحریة و حکومة العدل، کما کان عالماً بالأحداث، و فی ظلّ هذا الأمر یتحقّق الهدف، لکن لیس فی ظِلّ إنشاء الحکومة، بل بواسطة التضحیة، و هذه حقیقة معنویة و وظیفة إلهیّة کانت معلومة منذ البدایة، و قد قلّد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و أمیر المؤمنین علیه السلام حسیناً علیه السلام هذه المسئولیة التأریخیة و قَبلها بکلّ رحابة صدر. و بناءً علی هذا ینبغی علی المؤلّف الذی ظنّ بأنّ السبیل العقلائی لهذه النهضة یقوم علی أساس غضّ النظر عن علم الإمام، و بالنظر إلی الکلمات و الخطب التی أوردها الإمام بشأن علمه بشهادته؛ فإنّ الکتاب یکون قد نقض أو نسف تماماً،

ص: 212

و إلّا فلا خیار آخر سوی الاعتراف بعدم علم الإمام علیه السلام. 6- لقد تبیّن من خلال الأدلّة السابقة أنّ المؤلّف- و أساس الکتاب- لا یمکنه أن یقول بعلم الإمام بشهادته فی هذه الحرکة، إلّا أنّنا لم ندّعِ تصریح المؤلّف بإنکار علم الإمام. 1) قال المؤلّف فی ص 290 و 291- بعد الاتّفاق الذی حصل بین الحرّ بن یزید و الإمام-: «لزم الإمام میسرة الطریق و انطلق» ثمّ أضاف المؤلّف: «فلو سأله أصحابه أین ننطلق؟ ما مصیر هذه الحرکة؟ أین سنحلّ؟ ما ذا سنفعل؟ هل هناک من مشاکل ستواجهنا؟ لا یسع الإمام أن یقدّم من جواب سوی القول: «لا ندری علی ما تتصرّف بنا و بهم الامور»، فهل یسع المؤلّف بعد التصریح بنفی علم الإمام بالأحداث و المصیر أن یقول: لقد غضضنا الطرف عن علم الإمام و معرفته بالامور، فما الحاجة هنا لغضّ الطرف، فالإمام علیه السلام قد رأی نفسه فی قبضة العدوّ، و لم یکن له سوی الاتّجاه نحو میسرة الطریق بعد رفض العدوّ لاقتراحه بالرجوع، کما تزعم بأنّ الإمام أخذ یلتفت شیئاً فشیئاً أنّه سوف لن یظفر بهدفه المقدّس، فکیف نغضّ الطرف عن علمه رغم علمه و معرفته! لقد غضضت طرفک حین تعذّر علیک الجمع بین العلم و تحقّق الهدف، أمّا و قد انعدم الأمل و لاحت بوادر انتصار یزید، و ذلک لأنّه وقع فی قبضة العدوّ قبل أن یدخل الکوفة و یتّصل بقواعده الجماهیریة، و قد أغلق حتّی طریق الرجوع بوجهه! فهل غضّ طرفه عن علم الإمام فی ظلّ هذه الظروف، و الجملة التی ذکرتها- و التی تفید عدم اطّلاع الإمام- استندت فیها علی ما ورد فی الکتاب التأریخی الفلانی، فهل بقی من طریق عقلائی لغضّ الطرف عن العلم!! نعتقد بأنّ هذه الجملة لیست تفید عدم علم الإمام بما ستئول إلیه الأحداث فی کربلاء فحسب، بل تفید أیضاً أنّ الإمام لم یشعر- و العیاذ باللَّه- بأدنی خطر من

ص: 213

هذه الحادثة المروّعة الخطیرة، و هو الوقوع فی قبضة الحرّ و جیشه المتعطّش للدماء. لعلّ المؤلّف یقول: أین أوردنا اسم الإمام فی جواب علی سؤال؟ نقول: لیس هنالک من جواب علی تلک الأسئلة سوی تلک العبارة. أمّا جوابنا علی السؤال فنقول: علی مَن یطرح الأصحاب أسئلتهم؟ لیس لهم سوی الإمام، أضف إلی ذلک فإنّک نقلت تلک العبارة من تأریخ الطبری، فالتاریخ المذکور ینسب هذه العبارة صراحة إلی الإمام، و هی صریحة بعدم علمه بحادثة کربلاء. و ربّما قال المؤلّف: نعم، لقد استندت إلی تأریخ الطبری فی نقل تلک العبارة، ثمّ تبعته فی قضیة عدم اعتقاده بعلم الإمام بالحادثة. فنقول: أوّلًا: هل یصحّ الاستدلال بالتأریخ فی المسائل العقائدیة المرتبطة تماماً بعلم الکلام، و التی ینبغی التوصّل إلیها من خلال الأدلّة العقلیة أو الأدلّة النقلیة الموثّقة! فعلم الإمام، بالحوادث المستقبلیة من المواضیع العقائدیة، و لیس للتأریخ أن یبدی وجهة نظره بهذا الشأن سلباً أو إیجاباً. ثانیاً: تأریخ الطبری لیس وحیاً مُنزلًا، فهل کلّ ما ورد فیه موثوقاً معتمداً علیه و إن خالف أقوال کِبار محدّثی الشیعة و مؤرّخیهم؟ نعم، تأریخ الطبری قد اشتمل علی ما لا یحصی من الأخبار الموضوعة، و إذا أردت التأکّد فإلیک ما أورده العلّامة الأمینی صاحب الغدیر بشأن بعض تجنّیات هذا التأریخ، فقد قال العلّامة- فی الجلد الثامن ص 457- 460- حین تعرّض الطبری فی تأریخه إلی تأریخ أبی ذرّ قال: فی هذه السنة- أعنی السنة الثلاثون- کان ما ذکر من أمر أبی ذر و معاویة، و إشخاص معاویة إیّاه من الشام إلی المدینة، ثمّ ذکر أسباباً دعت معاویة لنفیه، و لا

ص: 214

أرغب بالتعرّض لها «فأمّا العاذرون معاویة فی ذلک فإنّهم ذکروا فی ذلک قصّة»، ثمّ یخوض الطبری فی ذکر تلک القصص، ثمّ یضیف العلّامة الأمینی قائلًا: «ما الذی دفع الطبری للاقتصار علی ذکر القصص التی تعذر معاویة، بینما یتحفّظ عن ذکر العلل و الأسباب التی أوردها الآخرون و التی تصوّر بشاعة هذا العمل؟ فهل کان له من هدف سوی إعذار معاویة و إثبات حسن صنیعه؟ فَلِمَ لَمْ ینقل الحقائق المتعلّقة بهذه الحادثة، و الحال أنّها مرتبطة بواقع تأریخ الامّة الإسلامیة، لقد ظنّ بأنّ هذه الحقائق ستبقی مستورة إلی الأبد و قد غفل عن وضوحها فی کتب الحدیث و زوایا التأریخ» ثمّ قال الأمینی: «لقد شوّه الطبری تأریخه بالمکاتبات التی نقلها السرّی الکذّاب الوضّاع عن شعیب، عن سیف، و ذلک لأنّ السرّی اسم لفردین معروفین بالکذب و وضع الأحادیث، و شعیب- علی ضوء المختصّین بعلم الرجال کابن عدی و الذهبی- مجهول، و سیف ضعیف و متروک و ساقط من الاعتبار، بل متّهم بالزندقة من قِبل الحفّاظ و أرباب الجرح و التعدیل، لقد نقل الطبری ما یربو علی السبعمائة روایة- و التی تعادل عدّة مجلّدات من تأریخه- عن السرّی، عن شعیب، عن سیف، و غرضه هو إخفاء الحقائق التی وقعت منذ سنة 11 ه حتّی سنة 37 ه، أی عصر الخلفاء الثلاثة». ثمّ یخوض العلّامة الأمینی بالتفصیل فی هذه الروایات و الحوادث المتعلّقة بکلّ سنة فی ذلک العصر. أمّا غرضنا من نقل أقوال العلّامة الأمینی هو أنّه کیف یسعنا اعتبار تأریخ الطبری سنداً تأریخیاً قاطعاً و نذعن من خلاله بعدم علم الإمام علیه السلام بحادثة کربلاء و ما آلت إلیه الأحداث!! ثالثاً: لقد نقلت فی هذا التأریخ- کما سیأتی لاحقاً- بعض القصص التی تفید علی نحو الجزم علم الإمام بشهادته فی هذه الحرکة، فلم لم تتبع هذه الامور فی

ص: 215

تأریخ الطبری!! 2- قال المؤلّف- فی ص 290-: «یا لها من فاجعة! فی أن یمنح الإمام أصحابه حالة السکینة و الطمأنینة فی ظلّ تلک الأوضاع المزریة التی عصفت بهم، ثمّ یتّجه بهم فی تلک الصحراء الطویلة العریضة إلی موضع لم یتکهّن به». و هنا نسأل المؤلّف: «یتّجه بهم إلی موضع لم یتکهّن به» ما ذا تعنی هذه العبارة؟

أَ وَ لا تعنی أنّ الإمام لا یدری أین یذهب، و لا یعلم بأنّ ذلک الموضع هو کربلاء؟

فإذا کان کذلک فهل یمکن التصدیق بأنّ الإمام عالم بأنّه سیحلّ فی کربلاء، حقّاً أنّ مثل هذه الحیرة لا تلیق بشأن الإمام العالِم بکلّ شی ء و لا سیّما تفاصیل و جزئیات حادثة کربلاء، فهذه الامور لا تقود بالتالی إلّا إلی الحطّ من المنزلة العلمیّة للإمام علیه السلام، لِمَ هبطت بمقام الإمام الی هذه الدرجة بعد تغلیف العبارات بهالة من التراجیدیا و الغمّ؟ فی حین تعتقد بأنّ کتابک قد أدّی إلی رفعة مقام الإمام و تقول:

«إنّ هذا الکتاب لیس فقط لم یقلّل من شأن مقام الإمام، بل قد رفع مقام الإمام بشهادة العلماء إلی درجة أرفع ممّا کانت تتصوّره عامّة الناس». فهل افتراض عدم العلم و الاطّلاع ترفع منزلة الإمام؟ و هل الحیرة و التردید من قِبل الإمام دفعت أولئک العُلماء للإدلاء بتلک الشهادة؟ و هل عوامّ الامّة فقط یرون الإمام عالماً عارفاً؟ لا یسعنا هنا إلّا أن نناشدک بأن تعتبرنا جزءاً من عوامّ الامّة. 3- قال فی ص 301- بعد أن نقل شیئاً یسیراً عن نزول الإمام و صحبه فی کربلاء-: «لقد تذکّر الإمام حدیث والده أمیر المؤمنین علیه السلام بشأن هذه الأرض، حیث قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام للحسین- حین کان له من العمر ثلاث و ثلاثین سنة-: سیُقتل هنا ثلّة من أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله و قد ابتلیت ثلّة منهم الیوم بهذه الأرض». أو لیست تلک العدّة المعدودة من أهل البیت التی تحدّث عنها أمیر

ص: 216

المؤمنین علیه السلام هم الحسین علیه السلام و أهل بیته؟ أَ وَ لا ینطبق ذلک الحدیث الذی ذکره أمیر المؤمنین علیه السلام قبل أربع و عشرین سنة بشأن قتل عدّة معدودة من أهل البیت فی ذلک الموضع علی الحسین علیه السلام و أهل بیته؟ لقد نقل الحسین علیه السلام ذلک الحدیث إلی صحبه، و بالطبع فإنّه علیه السلام کان یحتمل بأنّه هو المعنیّ بالکلام، فجعل یستعدّ و صحبه لذلک البلاء. و الذی نخلص إلیه من عبارات هذه الصفحة من کتاب المؤلّف الذی أثار مثل هذه الاستفهامات: 1- أنّ الإمام الحسین علیه السلام حین بلغ کربلاء و حاصره العدوّ، تذکّر ما قاله أمیر المؤمنین علیه السلام: إنّ صفوة من أهل البیت تقتل فی هذا الموضع. 2- لقد أورد أمیر المؤمنین علیه السلام عبارته بضمیر الغائب «هم» فی قوله: «مهراق دمائهم ...»(1) و رغم کون الحسین علیه السلام معه إلّا أنّه لم یعتقد بأنّه المعنیّ بذلک الحدیث. 3- لم یتذکّر الإمام علیه السلام حدیث أمیر المؤمنین علیه السلام طیلة مسیره حتّی حلّ فی کربلاء و حاصره العدو. 4- حین تذکّر الإمام علیه السلام ذلک الحدیث، خشی أن یکون هو و صحبه المصداق للعبارة: «مهراق دمائهم» و رغم جمیع القرائن و الشواهد من قبیل حدیث أمیر المؤمنین علیه السلام بشأن تلک الأرض، و قرینة نزول الإمام فیها، و محاولة قتله من قِبَل یزید، و المعاملة الفِضّة لعبید اللَّه بن زیاد و محاصرته للإمام علیه السلام، و ما قاله الفرزدق حین التقاه، و مئات القرائن الاخری، فإنّ الإمام تذکّر توّاً حین نزل فی تلک الأرض أن یکون هو و صحبه المقصودین بذلک الحدیث الذی أورده أمیر المؤمنین علیه السلام قبل أربع و عشرین سنة، فرجع الإمام إلی نفسه و أحسَّ بالخطر الذی


1- اختیار معرفة الرجال، المعروف ب« رجال الکشی»: 19 ح 46، و عنه بحار الأنوار 22: 386 ح 27، الأحادیث الغیبیة 2: 164- 165، و یأتی مفصّلًا فی ص 259.

ص: 217

یواجهه، فی حین لم تکن کلّ تلک القرائن و الشواهد سبباً لیقین الإمام علیه السلام، أمّا عبارته: «هاهنا و اللَّه محطّ رِحالنا ...» فقد نسبت إلیه من قِبل ابن الأعثم المشهور بالکذب. أمّا العبارات المنمّقة التی اعتمدها المؤلّف- فی هاتین الصفحتین من الکتاب- فهی لا تفید کون الإمام لا یعلم بقتله فی هذه الحادثة، و لم یستطع تشخیص الواقعة فحسب، بل وردها علی أساس الاحتمال. و هنا نقول: کیف یقرّ المؤلّف بعلم الإمام بالشهادة منذ انطلاقته، و الحال کانت هذه هی النتیجة لدراسة الصفحتین المذکورتین؟ و لعلّ المؤلّف یقول: إنّی لا أنکر التفات الإمام لهذا الأمر، بل أقول: إنّه لم یطلق هذه العبارة: «هاهنا و اللَّه محطّ رِحالنا ...» و قد نسبها إلیه الکذّاب ابن الأعثم. فأقول: أوّلًا: ما أوردناه هو نتیجة التحقیقات فی ص 301. و ثانیاً: لِمَ التعرّض إلی مقولة ابن الأعثم و الإصرار علی إثبات عدم صحّتها؟

التعرّض لذلک لا یکون إلّا لأنّ المؤلّف قد التفت إلی عدم العلم، و أراد بتضعیف هذه العبارة أن یزعزع أساس علم الإمام، و یخلص بالتالی إلی أنّ الإمام علیه السلام لم یقل:

«هاهنا مسفک دمائنا»، أضف إلی ذلک علی فرض أنّ ابن الأعثم کذّاب وضّاع، فهل لنا أن نرمیه بالکذب فی الخبر الذی ینقله عن الإمام إذا کان مخالفاً لبعض الواقعیات حسب بعض القرائن؟ و هل هذا هو الاسلوب الذی ینهجه المؤلّف فی استنباطه للأحکام الشرعیة؟ مثلًا إذا کانت روایة دون سند، أو کان بعض رواتها من یخدش فیهم، إلّا أنّ الروایة موافقة لروایة موثوقة، فهل تسقط هذه الروایة من الاعتبار؟ هنالک ما لا یحصی من القرائن التی تجعل من الطبیعی نسب عبارة «هاهنا و اللَّه محطّ رِحالنا» إلی الإمام، و فرض کذب ابن الأعثم فی سائر الموارد لا یعتبر

ص: 218

دلیلًا علی صحّة هذه المقولة، و لیس هنالک ما یدعو إلی تکذیب ابن الأعثم فی إیراده لمقولة تنسجم و سائر الموازین العلمیة و القرائن الخارجیة، و لا یسعنا إلّا أن نردّ إصرار المؤلّف علی التکذیب إلی مبدئه الأساسی القائم علی إنکار علم الإمام بمقتله فی هذه الحادثة. و من المناسب هنا أن نشیر إلی نقطتین: النقطة الاولی: تری الشیعة الإمامیّة أن لا فرق بین الأئمّة الطاهرین علیهم السلام فی جمیع الامتیازات و الفضائل، فهم متشابهون فی القدرة و العلم و ما إلی ذلک من الصفات، و هنا نطرح هذا السؤال: ما الفرق بین أمیر المؤمنین و الحسین علیهما السلام؟ فإذا کان أمیر المؤمنین علیه السلام عالماً بواقعة کربلاء، فما الذی یدعونا للقول بعدم علم الإمام الحسین علیه السلام بها، بحیث یکون هناک فارق فی العلم بین الإمامین؟ و لعلّ هناک من یقول: أوّلًا: لقد نقل أمیر المؤمنین علیه السلام هذه المقولة کروایة أو حکایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، فما الضیر ألّا یکون الإمام الحسین علیه السلام قد سمعها من النبی صلی الله علیه و آله؟ ثانیاً: لقد تطرّق أمیر المؤمنین علیه السلام إجمالًا لهذه الحادثة، و لعلّه لم یقف علی تفاصیلها و لا یعلم أنّها بشأن ولده الحسین علیه السلام. فنقول فی الجواب: أوّلًا: لم یتعرّض لها المؤلّف کروایة أو حکایة عن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، بل اعتمدها المؤلّف کنقل آخر من قبیل کونها نبوءة لأمیر المؤمنین علیه السلام فقط. ثانیاً: یفید ظاهر الکتاب أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کان مطّلعاً علی تفاصیل الواقعة و أنّها بشأن ولده الحسین علیه السلام، و فی هذه الحالة یبقی سؤالنا قائماً: کیف نقول بالفارق بین إمامین مفترضی الطاعة فنثبت لأحدهما من العلم ما لیس للآخر؟! النقطة الثانیة: من المسلَّم لدیک أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قد أشار إجمالًا فی معرکة صفّین إلی هذه الواقعة و لم یصرّح بشی ء بخصوص ولده الحسین علیه السلام، فی حین

ص: 219

أفادت المصادر و الروایات أنّه صرّح باسم ولده الحسین علیه السلام و بحضوره، و قد وردت أغلب هذه الروایات فی کتاب البحار للعلّامة المجلسی رضی الله عنه فی المجلّد الأربع و الأربعین ص 252- 266، و نکتفی هنا بذکر روایة واحدة تدحض قضیة الإجمال: فقد قال العلّامة المجلسی رضی الله عنه: «و روی فی بعض الکتب المعتبرة عن لوط بن یحیی(1) عن عبد اللّه بن قیس قال: کنت مع مَن غزا مع أمیر المؤمنین علیه السلام فی صفّین و قد أخذ أبو أیّوب الأعور السلمی الماء و حرزه عن الناس، فشکا المسلمون العطش، فأرسل فوارس علی کشفه فانحرفوا خائبین، فضاق صدره، فقال له ولده الحسین علیه السلام: أمضی إلیه یا أبتاه؟ فقال: امضِ یا ولدی، فمضی مع فوارس فهزم أبا أیّوب عن الماء، و بنی خیمته و حطّ فوارسه، و أتی إلی أبیه و أخبره، فبکی علی علیه السلام، فقیل له: ما یبکیک یا أمیر المؤمنین و هذا أوّل فتح ببرکة الحسین علیه السلام؟

فقال: ذکرت أنّه سیُقتل عطشاناً بطفّ کربلاء حتّی ینفر فرسه و یحمحم ...»(2). و لعلّ المؤلّف یقول: لیس هناک من منافاة بین هذه الروایة و ما ذکرته، فقد قلت بأنّ أمیر المؤمنین علیه السلام لم یتطرّق إلی ذکر الحسین علیه السلام خلال مروره بأرض کربلاء متوجّهاً إلی صفّین، و لعلّه صرّح بذلک حین المعرکة، فأقول: لو سلّمنا ذلک، فالتصریح بالاسم خلال المعرکة هل یبقی هنالک من مجال للإجمال، أو لیس التصریح موضحاً للإجمال؟

نتیجة الأدلّة:

کانت الأدلّة السابقة نماذج تثبت عدم إمکانیة تصدیق المؤلّف لعلم


1- لوط بن یحیی هو أبو مخنف الذی یروی عنه الطبری، و قد أدرک زمان الإمام الصادق علیه السلام.
2- بحار الأنوار 44: 266 ح 23.

ص: 220

الإمام علیه السلام بشهادته فی هذه الحادثة، الأمر الذی دوّن من أجله الکتاب. و بالالتفات إلی ما أوردناه سابقاً فلعلّ هنالک من یقول بأحد الموضوعین التالیین:

الموضوع الأوّل:

لقد ألّف کتاب شهید جاوید بغضّ النظر عن علم الإمام علیه السلام بالشهادة فی هذه النهضة، و هو عبارة عن دراسة دقیقة تثبت نهضة الإمام علی أسس عقلائیة و منطقیة من خلال المعادلات الطبیعیة.

الموضوع الثانی:

قد یُقال: و هل العلم بالشهادة فی هذه النهضة من ضروریات المذهب بحیث یدعو إنکاره إلی مثل هذه الضجّة؟ فما الضیر ألّا یکون الإمام عالماً بموضوع قد یکون من المسلّمات؟!

جواب الموضوع الأوّل:

1- إذا کان هناک انسجام بین الدراسة التی تناولها الکتاب و علم الإمام، و رأیتم أنّها لیست منسجمة فحسب، بل بالتوجّه إلی ما ذکر من أنّ علم الإمام یمکن جمعه مع الحرکة المنطقیة و العقلائیة للإمام، فما الحاجة لصرف النظر هذا؟ فی الواقع یعتبر صرف النظر هذا اعترافاً صریحاً یتعذّر معه الجمع بین الکتاب و علم الإمام، و أنّ مضمون الکتاب قد دوّن علی أساس عدم علم الإمام. 2- یمکن افتراض موضوع «غضّ النظر عن العلم» من وجهة نظر المباحث العلمیة و الدراسات العقلیة السائدة بین العلماء، أمّا من ناحیة الامّة فلا یمکن

ص: 221

قبوله؛ لأنّ الکتاب إنّما دوّن لغرض استفادتها، فلیس للُامّة أن تغضّ النظر عن علم الإمام و تدرس المباحث دون الأخذ بنظر الاعتبار ذلک العلم. 3- أین ذکر الادّعاء بغضّ النظر عن علم الإمام بشهادته فی النهضة من مباحث الکتاب أو مقدّمته، فی حین لم ینس الکاتب الإشارة إلی المواضیع التی لیست بذات أهمّیة، أو لا یستحق موضوع علم الإمام علیه السلام بشهادته فی هذه النهضة و الذی تعتقد به الامّة الإسلامیة إذا غضّ الکتاب طرفه عن ذکره بحیث دوّن بما یتنافی و ذلک العلم من ذکر تلمیح أو تصریح فی أوّل صفحة من الکتاب؟ 4- هل من فائدة تُذکر لکتاب أسّس بنیانه علی فرض غیر صحیح و مخالف للواقع؟ یمکن أن یُقال: إنّ فائدته کما ذکرنا فی الصفحة السادسة هو دراسة النهضة الحسینیّة علی المستوی العالمی غیر الشیعی إلی جانب نفعه لأهل الإیمان من خلاله اعتماده الموازین العُقلائیة. و الجواب: لو أذعنّا لهذا الزعم، کان لا بدّ أن ینشر الکتاب بإحدی لغات العالم الحیّة و یقتصر علی العالم البعید عن التشیّع، و لا ینبغی أن یطّلع علیه العالم الشیعی فتجرح مشاعره، و للزم من ذلک أن یقول: إنّنا نقدّم هذا الکتاب للعالم غیر الإسلامی، بدلًا من العبارة التی ذکرها فی ص 7: «إنّنا نقدّم هذا الکتاب إلی المجتمع الإسلامی و غیر الإسلامی بصفته فرضیة تأریخیة حول نهضة الإمام الحسین علیه السلام».

جواب الموضوع الثانی:

لا بأس هنا من الالتفات إلی بعض المواضیع المهمّة و إن تعرّضنا لشرحها آنفاً: 1) هل یقتصر علم الأئمّة الأطهار علیهم السلام علی أحکام الإسلام و تعالیم الدین و قوانین الشرع بالاستناد إلی الاجتهاد فی القرآن الکریم و سنّة النبی صلی الله علیه و آله، أم أنّهم

ص: 222

مفسّرون للقرآن و لهم معرفة تامّة بالغیب و أسرار و بطون القرآن و الأحکام و السنّة النبویّة؟ 2) هل الإمام عالم بالموضوعات و تفاصیلها أم لا؟ و الاعتقاد بهذا الأمر جزء من ضروریات المذهب أم لا؟ و هل الموضوعات علی درجة واحدة، أم هنالک فوارق بینها؟ 3) إذا افترضنا عدم علم الإمام بالموضوعات، و لم یکن الاعتقاد بهذا الأمر من ضروریات الدین، فهل الإمام الحسین علیه السلام کان عالماً بوقائع حادثة کربلاء فی نهضته أم لا؟ هذه أسئلة یبدو أنّ دراستها و تحقیقها فی غایة الأهمّیة، و أهمّها هو السؤال الثالث الذی یجب دراسته حتّی تنکشف حقیقة الأمر و یزال الالتباس عن ذهنیّة الامّة المسلمة المناصرة لرسالة الإمام و إبعاد الشبهات عن نهضة سیّد الشهداء علیه السلام، التی- لا سمح اللَّه- ستؤدّی إلی التقلیل من أهمّیة مقام الولایة. و إلیک جواب السؤال الثالث:

جواب السؤال الثالث:

أوّلًا: إذا افترضنا جدلًا بعدم علم الأئمّة الأطهار علیهم السلام بالحوادث و الموضوعات، و قلنا من وجهة نظر المبانی الدینیّة: إنّ الاعتقاد به لیس ضروریّاً، و لکن لا یمکن هنا إنکار حقیقة، و هی أنّه لا یمکن إخضاع کافّة الموضوعات لمقیاس واحد، فإذا افترضنا أنّ الإمام لا یعلم اسم الشخص الفلانی، أو أین تقع الأرض الفلانیة، أو وجود الکهرباء، فهذه الامور لا تمتّ بصلة من قریب أو بعید إلی أساس الإسلام و مصیر الامّة الإسلامیة. و لکن هل لنا أن نفترض عدم علم الإمام بالموضوعات التی ترتبط ارتباطاً وثیقاً بسعادة المسلمین و حیاتهم و تؤثّر

ص: 223

مباشرة علی المسیرة الإسلامیة؟ و هل یمکننا القول بصراحة بأنّه لا یجب أن یحیط الإمام علیه السلام علماً بمثل هذه الامور؟ بالاستناد إلی هذا التفکیک فی الموضوعات، یبدو من الواضح ضرورة الاعتقاد من وجهة نظر الدین بأنّ مثل هذه الحوادث لیست بخافیة علی الإمام علیه السلام و إلّا تعرّض کیان الإسلام إلی خطر السقوط و الزوال، و علیه: فلا یمکن إصدار نفس الحکم بشأن کافّة الموضوعات. فإن قُلنا أیضاً بعدم امتلاکنا للدلیل علی علم الإمام بهذه الحوادث و تشخیصه لها، فإنّنا لا بدّ أن نعتقد بأنّ إمکان خطأ الإمام فی تشخیصه لمثل هذه الحوادث من شأنه أن یسدّد بعض الضربات الموجعة إلی الإسلام و المسلمین، فهل تجب طاعة و اتّباع مثل هذا الإمام؟ أولا تنصرف الآیة أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ(1) إلی شی ء آخر؟ أو لا تجب طاعة اولی الأمر فی الحوادث؟ هل تجب الطاعة للولی الذی یجوز علیه الخطأ؟ و الآن نسأل هذا السؤال: واقعة کربلاء مِصداق لأیّ من الحوادث و الموضوعات المذکورة آنفاً؟ هل هذه الواقعة المأساویة أمر جزئی لا مساس له بالإسلام و العالم الإسلامی؟ و هل کانت مصادمة عادیّة بین زعیم صالح و زعیم جبّار؟ أم أنّها کانت حادثة جوهریة ذات تأثیر بالغ علی مصیر الإسلام؟ الجواب واضح تماماً، فلا شکّ أنّ حادثة کربلاء کانت حادثة بالغة الخطورة علی الإسلام و المسلمین، و علی ضوء ما أوردناه فإنّ علم الإمام علیه السلام بهذه الحادثة یبدو منطقیاً تماماً، کیف ینسب الجهل إلی الإمام و أنّه ورد میداناً لم یتکهّن به حتّی سبّب ذلک ضرراً علی الإسلام حسب رأی البعض! و کیف یحمل یزید وزر تلک الاضرار و الخسائر؟! و کیف تجب طاعة الإمام فی هذه الحرکة التی لم یکن


1- سورة النساء: الآیة 59.

ص: 224

یعلم بعاقبتها؟! یری المؤلّف أنّ الإمام لم یکن علی علم بعاقبة تلک الأُمور! ثمّ حذا حذو الطبری فی أنّه لو سُئل: أین نذهب؟ أین سننزل؟ ما عاقبة هذا الأمر؟ لما أجابهم إلّا بالقول: «لا ندری علی ما تتصرّف بنا و بهم الأُمور». کما یری المؤلّف أنّ عاقبة الأمر لم تکن سوی تلک الخسارة العظیمة التی سدّدها یزید الفاسق إلی الإسلام و المسلمین. إذن، فهو یعتقد بأنّ الإمام قد ارتکب عملًا لا عن علم انطوی علی تلک النتیجة الخاسرة، إلّا أن الخسارة یتحمّلها یزید و هو المسئول عنها! و علی هذا فإنّ الأفراد الذین تخلّفوا عن الرکب و علی ضوء ذلک المصیر معذورون فی ترکهم الإمام! هل هنالک من مسئولیة تقع علی عبید اللَّه بن الحرّ الجعفی! طبعاً لیس أمامنا من سبیل سوی الإذعان باطّلاع الإمام علیه السلام و علمه بکافّة تفاصیل الحوادث.

طریق مغلق؟!

لعلّ هنالک من یسألنا: لم تحشرون أنفسکم فی طریق مسدود، فأنتم تقولون بأنّ الإمام علیه السلام کان عالماً بعاقبة النهضة، فإذا کان الأمر کذلک فکیف یلقی بنفسه فی تلک التهلکة الممیتة؟ کیف أقدم الإمام علی تلک الحادثة و لم یتریّث رغم إضرارها بالإسلام و المسلمین؟ لِمَ لَمْ یستجب لنصائح ابن عباس و محمّد بن الحنفیة؟ و لِمَ لَمْ یتمکّن من التقی الإمام فی مسیره عن ثنی الإمام عن عزمه؟ فنقول فی الجواب: أوّلًا: أنّ حادثة کربلاء لیس فقط لم تضرّ بالإسلام و المسلمین، بل- سنثبت فی الفصل القادم إن شاء اللَّه- أنّ هذه الحادثة کانت الخطوة الاولی لاستعادة الإسلام حیویّته، کما کانت الضربة الموجعة التی وجّهت لحکومة یزید الغاشمة.

ص: 225

و علیه: فالنهضة الحسینیة کانت اللبنة الأساس لإقامة الحیاة الإنسانیة القائمة علی أساس مفردات العزّة و الکرامة و الشجاعة و رفعة الإسلام و المسلمین. و من هنا فإنّ طاعة الإمام علیه السلام واجبة علی کلّ مسلم و إنسان حرّ غیور، و التخلّف عنه و عدم الالتحاق به یعدّ أسوأ أنواع إلقاء النفس فی التهلکة و القضاء علی کیان الإسلام و المسلمین، و الموت معه هو الموت من أجل العدل و الحریة و الإسلام و القرآن و التوحید. فحرکة الحسین علیه السلام أنصع صفحة ذهبیة فی التأریخ علّمت الناس دروس التضحیة و الکفاح، و فضحت أسالیب الأعداء و ما یضمرون من شرٍّ و عدوان للإسلام، و لذلک فإنّ عزمه الذی یستند فیه إلی المصلحة الإسلامیة التی رسمها له الحقّ و النبیّ و أمیر المؤمنین لم یکن لیضعف لأقوال ابن عباس و أمثاله، فهؤلاء لا یعلمون خطورة وظیفة الحسین علیه السلام؟ أمّا الإمام علیه السلام فقد کان یعلم أین یتّجه و ما ذا سیحدث. ثانیاً: هناک بعض الأسناد و الوثائق التأریخیة التی استدلّ بها المؤلّف، و نذکرها بأجمعها: 1) لقد نقل الطبری فی تاریخه عن أبی مخنف لقاء الإمام لزهیر بن القین و قال:

«قال زهیر لصحبه حین رجع من عند الإمام: مَن أَحبّ منکم أن یتبعنی، و إلّا فإنّه آخر العهد. إنّی سأُحدّثکم حدیثاً: غزونا بلنجر ففتح اللَّه علینا و أصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلی: أ فرحتم بما فتح اللَّه علیکم و أصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال لنا: إذا أدرکتم شباب آل محمّد فکونوا أشدّ فرحاً بقتالکم معهم بما أصبتم من الغنائم، فأمّا أنا فإنّی أستودعکم اللَّه، قال: ثمّ و اللَّه ما زال فی أوّل القوم حتّی قُتل»(1). إنّ هذا النقل من الطبری جدیر بالتأمّل، فهو موثوق تماماً من حیث السند؛


1- تاریخ الطبری 4: 299.

ص: 226

لأنّه یروی عن أبی مخنف الذی یری البعض أنّه یأبی الخدش و الطعن، و زهیر هو ذلک الرجل الذی کان یتحاشی لقاء الإمام حین رجع من مکّة بعد أن أدّی مراسم الحجّ، إلّا أنّه التقی الإمام صدفة، کان زهیر یأبی لقاء الإمام و الالتحاق برکبه، فما الذی سمعه خلال ذلک اللقاء؟ و ما ذا رأی؟ حتّی یعود إلی خیمته و یودّع صحبه، أو لم یکن یدرک بأنّه سیرد میداناً یحصل فیه علی الشهادة؟ أ لم یذکّره الإمام علیه السلام بتلک القصّة و یبیّن له حقیقة الأمر؟ أ فقال له الإمام علیه السلام: إذا وقفت إلی جانبی فإنّی لأرجو أن أنتصر و أستولی علی الکوفة و ستصبح من أعیانها و أشرافها فی الحکومة؟ لو کان هذا ما قاله الإمام لزهیر لما ودّع قومه و قال: إنّه آخر العهد، فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد أخبره بواقع الأمر. إذن، فالإمام کان عالماً بعواقب الأُمور و قد أخبر بها زهیر و وعده بالشهادة، و هذا هو الأمر الوحید الذی من شأنه تفسیر حدیث زهیر، و لم یکتف الرجل بهذا المقدار، بل تطرّق إلی معرکة بلنجر و حدیث سلمان، و علیه: فسلمان کان یعلم بهذه الحادثة أیضاً، سلمان الفارسی(1) الذی تربّی علی ید رسول اللَّه صلی الله علیه و آله. و لا ارید أن أقول بأنّ سلمان کان علی علم بکلّ تفاصیل الحادثة، إلّا أنّه کان علی یقین بتلک الواقعة المریرة علی الحسین علیه السلام، و کان یعلم أنّ زهیراً أیضاً سیشارک فیها، و کان زهیر أیضاً علی یقین بأنّ المراد بالحدیث کربلاء و شهادته هناک. فهل ما زال الإمام یفکّر بتحقیق النصر و القضاء علی الحکومة الظاهریة لیزید و تسلّم مقالید الحکم؟ فسلمان کان یعلم بتلک الحادثة التی سیحصل فیها زهیر علی الشهادة دفاعاً عن إمام الإسلام و المسلمین، بینما لیس للحسین علیه السلام مثل هذا العلم و تفاصیل الحرکة مجهولة بالنسبة له، و لیس لدیه ما یقوله سوی: «لا ندری علی ما تتصرّف بنا و بهم الامور».


1- ذکر ابن الأثیر فی الکامل 4: 42 أنّه سلمان الفارسی، و کذا المفید فی الإرشاد 2: 73 و غیرهما.

ص: 227

2- نقل ابن الأثیر فی الکامل حادثتین، و سنورد عباراته ثمّ نناقشها، فقد قال: «فلمّا أتی الحسین خبر قتل أخیه من الرضاعة- فی منزل زُبالة- و مسلم بن عقیل- فی منزل الثعلبیة- أعلم الناس ذلک و قال: قد خذلنا شیعتنا، فمن أحبّ أن ینصرف فلینصرف لیس علیه منّا ذمام، فتفرّقوا یمیناً و شمالًا حتّی بقی فی أصحابه الذین جاءوا معه من مکّة، و إنّما فعل ذلک لأنّه علم أنّ الأعراب ظنّوا أنّه یأتی بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله فأراد أن یعلموا علامَ یقدمون. ثمّ سار حتّی نزل بطن العقبة، فلقیه رجل من العرب فقال له: أنشدک اللَّه لما انصرفت، فو الله ما تقدم إلّا علی الأسنّة و حدّ السیوف، فإنّ هؤلاء الذین بعثوا إلیک لو کانوا کفوک مئونة القِتال وطّئوا لک الأشیاء فقدمت علیهم لکان ذلک رأیاً، فأمّا علی هذه الحال التی تذکر، فلا أری أن تفعل، فقال: إنّه لا یخفی علیّ ما ذکرت، و لکنّ اللَّه- عزّ و جل- لا یغلب علی أمره، ثمّ ارتحل منها»(1). فالذی نخلص إلیه هو أنّ الإمام علیه السلام لم یشعر بأیّ تردّد حین أخبر بقتل رسوله مسلم بن عقیل و لم تضعف إرادته، ثمّ یواصل مسیرته رغم تصریحه بعدم وجود جیش لنصرته فی الکوفة و أنّ أشیاعه لم یفوا بعهودهم، فهل یفهم من کلامه علیه السلام:

«خذلنا شیعتنا» أنّ البعض قد تخلّی عن نصرتنا؟ أم قصده زال مرکز ثقلنا و لم نعد نمتلک القوّة الشعبیة الموالیة هناک؟ و ما إن سمع البعض مقالة الإمام حتّی تفرّقوا یمیناً و شمالًا، فهل بقی من أمل بالنصر فلم تقطع الصلة لحدّ الآن بین القیادة و الجیش؟

أ فلا یعنی رفع البیعة و التخییر بالبقاء و الانسحاب أنّ باب النصر قد أُغلق؟ فلِمَ واصل الإمام حرکته و لم یتردّد حتّی بلغ کربلاء! لِمَ رجع مَن التحق به فی الطریق ممّن یبحثون عن الطعام الدسم، بینما واکبه من انطلق معه من مکّة ممّن سمع خطبته


1- الکامل لابن الأثیر 4: 43.

ص: 228

«خُطّ الموت ...»(1) و قد أُحیطوا علماً بالحوادث و الوقائع التی لم تزیدهم سوی قوّة و صلابة؟ أ وَ لا یعنی انصراف ذلک النفر استحالة النصر و بقاء أولئک الأصحاب لعلمهم منذ البدایة بتلک الحادثة المروّعة؟ ثمّ أخذت الأخبار المحزنة تتقاطر علیهم، حتّی إذا بلغوا العقبة، انبری لهم ذلک الرجل العربی البلیغ الذی صوّر للإمام أوضاع الکوفة «أنشدک اللَّه لما انصرفت فو الله ما تقدم إلّا علی الأسنّة و حدّ السیوف ...» إلّا أنّ هذا الکلام المنطقی لم یکن له أدنی أثر علی إرادة الإمام حتی قال: «و لکن اللَّه عزّ و جلّ لا یغلب علی أمره»، أی هناک وظیفة لا بدّ أن أقوم بها و لیس لی من إرادة مقابل إرادة اللَّه، فهل ما زال الإمام علیه السلام لا یعلم عواقب الامور راجیاً النصر و تشکیل الحکومة الإسلامیة فیواصل مسیرته، أم کان هناک شی ء آخر یدفع الحسین علیه السلام؟ لقد ردّ الإمام علیه السلام علی ذلک الرجل: أنّه لا یخفی علینا ما ذکرت إلّا أن طریقنا لا یعرف الرجوع، و لیس لی سوی التسلیم للحقّ، فاللَّه لا یغلب علی أمره. فهنالک رسالة مُلقاة علی عاتقی و لا بدّ لی من النهوض بها، أولم یتحدّث الإمام عن مشیئة اللَّه؟ أ فلم یکن عالماً بشهادته؟ الشهادة التی أرادها اللَّه لحسین علیه السلام فتقبّلها بقبول حسن. نعم، لم یکن هناک من شی ء خافیاً علی الحسین علیه السلام، و لم یکن هناک من عامل یمکنه أن یثنی الإمام عن عزمه، حیث نراه یحثّ الخطی بعد ذلک الحوار لیواصل مسیرته و یقوم بوظیفته. 3- أورد ابن الأثیر فی الکامل قصّة الأفراد الأربعة الذین أتوا الإمام علیه السلام من الکوفة و التقوه فی «عذیب الهجانات» فقال بعد أن ذکر التفاصیل: «فقال لهم الحسین: أخبرونی خبر الناس خلفکم، فقال له مجمع بن عبد اللّه العائذی و هو


1- یأتی فی ص 232.

ص: 229

أحدهم: أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، و ملئت غرائره فهم ألْبٌ واحد علیک، و أمّا سائر الناس فإنّ قلوبهم تهوی إلیک و سیوفهم غداً مشهورة علیک، و سألهم عن رسوله قیس بن مُسهر، فأخبروه بقتله و ما کان منه، فترقرقت عیناه بالدموع و لم یملک دمعته، ثمّ قرأ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلًا(1)، اللّهمّ اجعل لنا و لهم الجنّة، و اجمع بیننا و بینهم فی مستقرّ رحمتک و غائب مذخور ثوابک»(2). فالذی نخلص إلیه من هذا الحوار و استشهاد الإمام علیه السلام بالآیة، هو أنّ الإمام أشار إلی هدفه فی إحقاق الحقّ و إجابة دعوة أهل الکوفة، فقد کان أوّل سؤال سأله أولئک الأفراد هو خبر أهل الکوفة و حالتهم الروحیة، هل هم متأهّبون لدخولنا؟ إلّا أنّ إجابتهم کانت مثبّطة، فقد وقفت الآلاف التی بعثت لک برسائلها إلی جانب العدوّ، فالأشراف قد أعظمت رشوتهم، أمّا الضُّعفاء فهُم متعطّشون لبسط العدل و القسط، و لکن لیس لدیهم القدرة علی اتّخاذ القرار فی المجتمعات الفاسدة، فالضعف المالیّ و الحرمان و ضعف الإرادة تجعلهم خاضعین لإرادة الدولة، فهم مع الإمام قلباً و ضدّه سیفاً، فإذا قلنا: ما زال الإمام حتّی فی ظلّ هذه الظروف یأمل بتحقیق النصر، لا نری أیّ منطق و عقل یوافقنا علی ذلک، مع ذلک لم تتزلزل إرادة الإمام علیه السلام و لم ینثنِ عن عزمه و مواصلة مسیرته. و من هنا یعلم بأنّ هناک هدفاً أسمی یسعی الإمام إلی تحقیقه، فالإمام علیه السلام لم یقترح علی الحرّ الریاحی الرجوع و الانصراف، فی حین لم یکن الحرّ یعلم بهدف الإمام، و أولئک القادمون من الکوفة کانوا یظنّون أیضاً بأنّ الحسین علیه السلام إنّما یروم السیطرة علی الکوفة، و لذلک أشاروا علیه بالانصراف، بینما کان الإمام عالماً بما


1- سورة الأحزاب: الآیة 23.
2- الکامل لابن الأثیر 4: 49- 50.

ص: 230

أخبره رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و أمیر المؤمنین علیه السلام و لذلک حین یخبر بشهادة قیس یتلو فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ. فمنشأ هذه الأسئلة و تلاوة الآیة هو ما ذکرناه من غرض الإمام علیه السلام فی إسقاط حکومة الجور و الظلم و إعلام العالم بأنّنا نرید تطبیق القرآن و أحکام الإسلام، و لذلک عزمنا علی الإطاحة بهذه الزعامة الفاسقة، فإن قتلنا فذنبنا هو أنّنا نرید إعلاء کلمة اللَّه. و إنّا لعالمون بأنّنا لا نتمکّن من تحقیق أهدافنا سوی بالقتال و الشهادة، فقد سأل أربعة أفراد من أهل الخبرة- أجوبتهم تدلّ علی أنّهم من أهل الخبرة- لیدلوا بشهادتهم علی عدم استعداد أهل الکوفة و جیشها لمواکبة مسیرة الإمام فلا من عدد و لا عدّة، و بالنتیجة لتعلم الدنیا بأنّ الحسین علیه السلام لبّی دعوة الامّة، فی حین لم تصمد الامّة و تمارس وظیفتها و هو فقط الذی واصل مسیرته حتّی الشهادة، و ما زال هدفه لم یتحقّق إلّا بالشهادة التی أخبرها به جدّه و أبوه. إذن، فالدافع من السؤال عن أهل الکوفة إقرار خبراء الاجتماع بالأوضاع الاجتماعیّة التی یعیشها أولئک الناس و استماتتهم فی الدفاع عن حکومة یزید حتّی لا تصدر محکمة التأریخ أحکامها جزافاً، و تعلم بأنّ هنالک علّة لم تدع الإمام ینصرف عن مواصلة حرکته، العلّة التی لا یعرفها الناس بینما یعلمها الإمام، و التی یکشف السؤال عن قیس و تلاوة الآیة سرّها فی عدم تسلیم الإمام و الانسحاب من المیدان و القتال حتی الشهادة، و ما إن یتلو الإمام الآیة حتّی یبتهل «اللهمّ اجعل لنا و لهم الجنّة». 4- جاء فی الإرشاد للمفید: «روی سالم بن أبی حفصة قال: قال عمر بن سعد للحسین علیه السلام: یا أبا عبد اللّه إنّ قِبلنا ناساً سفهاء یزعمون أنّی أقتلک، فقال له الحسین علیه السلام: إنّهم لیسوا بسفهاء و لکنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عینی ألّا تأکل من برّ

ص: 231

العراق بعدی إلّا قلیلًا»(1). فالقصّة مثیرة حقّاً، کیف أخبر هؤلاء الناس بقضیة عمر بن سعد؟ لِمَ طُرح ابن سعد کقاتل للإمام الحسین؟ کان سلوک عمر یوحی بصلاح ظاهره، فلم یکن آنذاک ما یشیر إلی اقترافه هذه الجریمة البشعة، فکیف اتّفق الناس علی أنّه قاتل الحسین؟ فهل ذلک سوی ما قاله أمیر المؤمنین علیه السلام لأبیه سعد بن أبی وقّاص؟

و کانت مقالة علی درجة من الجزم بحیث کان الجمیع ینادیه بقاتل الحسین حین یروه فی الأزِقّة و الأسواق، حقّاً لیس هناک شی ء آخر، فسیأتی الیوم الذی یرتکب فیه هذا الفرد- الذی لا یفارق زیفاً الجماعة- تلک الجریمة و یسوّد وجه التأریخ. أمّا عمر بن سعد فقد کان مطمئناً لنفسه بحیث یهزأ بکلّ مَن یتفوّه بذلک الکلام، و لا یراه إلّا سفیه خفیف العقل، حتّی ظنّ بأنّ اللغط قد کثر و أنّه لم یطق التحمّل فیحدّث الإمام علیه السلام بذلک الحدیث: «إنّ قِبلنا ناساً سُفهاء» کیف لی أن أکون قاتلًا؟ و لم أُقارف أیّ جرم لحدّ الآن! فهل هذا إلّا منطق السفه و السخف؟ أمّا الإمام علیه السلام فردّ علیه قائلًا: «هؤلاء لیسوا سُفهاء بل حلماء»، یعلمون قاتل إمامهم، و یرون تلطّخ یدک بدمی. هذا هو الحوار بین الإمام الحسین علیه السلام و عمر بن سعد منذ زمان بعید عن الطف، فالإمام یصدّق ما قالوه، و یفهم قاتله بأنّه عالم بما ستئول إلیه الأحداث، و لو کانت الامّة تعلم هذه الامور علی نحو الإجمال فإنّ الحسین علیه السلام محیط بالتفاصیل، فیخبره بما ینتظره. فالعراق مذبحی و میدان صولتک. و ستقدم علی قتلی طمعاً بدنیا الریّ إلّا أنّک لا تبلغ ما ترجو. إنّک لن تعمّر بعدی و ستدخل النار بقتلی. و لک أن تری- عزیزی القارئ- ما أورده مؤلّف کتاب «شهید جاوید» و له


1- الإرشاد 2: 132.

ص: 232

نفسه أن یراه، هذا الحوار بین الحسین و عمر بن سعد، فقد کان علیه السلام عالماً بتفاصیل واقعة کربلاء، فالامّة کانت تعلم بأنّ الحسین علیه السلام یقتل فی المعرکة و قاتله عمر بن سعد، أمّا الحسین علیه السلام فقد کان یعلم دافع عمر بن سعد من قتله، کما کان یعلم بأنّ ابن سعد سوف لن یظفر ببغیته، فهل یمکن بعد هذا أن تزعم بأنّ الإمام لم یکن یعلم بتلک الحادثة؟ أو أنّه یعلم بشهادته و لکن لیس فی هذه النهضة؟ فکلّ هذه الأسرار عرضها الحسین لعمر بن سعد ثمّ قال بأنّه لم یکن یعلم، حتّی حین اقترب من کربلاء بحیث لو سُئل: أین نذهب، و ما ذا سیحصل، و أین سننزل و ما العاقبة؟

لأجاب: «لا ندری علی ما تتصرّف بنا و بهم الامور؟!» أو نقول: احتمل الأصحاب أخیراً حین وردوا کربلاء أنّ المعنیّ بقول أمیر المؤمنین علیه السلام أنّ المقتول من أهل البیت بکربلاء هو الحسین علیه السلام».

5- خطبة «خُطّ الموت ...»

«خُطّ الموت علی ولد آدم مخطّ القلادة علی جید الفتاة، و ما أولهنی إلی اشتیاق أسلافی اشتیاق یعقوب إلی یوسف، و خُیِّر لی مصرع أنا لاقیه، کأنّی بأوصالی تقطّعها عُسلان الفلوات بین النواویس و کربلاء، فیملأن منّی أکراشاً جوفاً و أجربة سغبا، لا محیص عن یوم خُطّ بالقلم، رضا اللَّه رضانا أهل البیت، نصبر علی بلائه، و یوفّینا اجور الصابرین، لن تشذّ عن رسول اللَّه لحمته، بل هی مجموعة له فی حظیرة القدس، تقرّبهم عینه و ینجز بهم وعده، من کان باذلًا فینا مهجته و موطّناً علی لقاء اللَّه نفسه، فلیرحل معنا، فإنّی راحل مصبحاً إن شاء اللَّه»(1). أ فلا تفید هذه العبارة «کأنّی بأوصالی ...» التی أوردها الإمام فی


1- الملهوف لابن طاوس: 126، مثیر الأحزان: 41، کشف الغمّة 2: 29، و عنها بحار الأنوار 44: 366- 367.

ص: 233

مکّة- حسب ما نقل فی اللهوف- علم الإمام بمصیره؟ و إضافة إلی ذلک، أ لا تکشف عن مکان مصرعه و شهادته؟ قد یُقال بأنّ الإمام إنّما أورد هذه الخطبة فی یوم عاشوراء حین أصبحت شهادته حتمیة، لا أنّه أوردها فی مکّة فنقول: لعلّ الإمام علیه السلام أورد خطبتین: أحدهما حسب نقل اللهوف فی مکة، و الاخری حسب مقتل الخوارزمی(1) فی کربلاء، و لعلّ الاختلاف فی المضمون یؤیّد ما ذهبنا إلیه، و کما ترد نفس المضامین و الألفاظ مع قلیل من التغییر فی القرآن و نهج البلاغة؛ فإنّ هذا الأمر یفید مقصوداً آخر یختلف عن السابق، و لعلّ خطبة الإمام علیه السلام تکرّرت من أجل إفادة مقصد خاصّ، کما یمکننا القول بأنّ الخطبة واحدة و قد أوردت فی مکّة، و هنالک عدّة امور للترجیح منها:- 1) تصریح صاحب اللهوف بإیراد الخطبة فی مکّة، بینما لا یصرّح الخوارزمی بإیرادها فی عاشوراء، بل أوردها ضمن أحداث عاشوراء. 2) ما المرجّح لنقل الخوارزمی علی نقل اللهوف، بحیث یمیل المؤلّف إلی صدورها فی عاشوراء؟ بل الترجیح للّهوف حیث نقل المحقّق الجلیل و الفقیه الکبیر و المحدّث الشامخ المرحوم الحاج المیرزا محمّد أرباب الإشراقی فی کتابه القیّم «الأربعین الحسینیة» أنّ هذه الخطبة قد رُویت عن عدد کثیر من عُلماء الإمامیة و منهم السید بن طاوس فی کتاب اللهوف و الشیخ جعفر بن محمّد المعروف بابن نما و الشیخ علی بن عیسی فی کتاب کشف الغمّة، و قد صرّح الجمیع بأنّ الإمام علیه السلام هذه الخطبة حین عزم علی الخروج من مکّة إلی العراق.


1- « أیُّها الناس خطّ الموت علی بنی آدم کمخطّ القلادة علی جید الفتاة، و ما أولعنی بالشوق إلی أسلافی اشتیاق یعقوب إلی یوسف؛ و إنّ لی مصرعاً أنا لاقیه کأنّی أنظر إلی أوصالی تقطّعها وحوش الفلوات غبراً و عفراً، قد ملأت منّی أکراشها، رضا اللَّه رضانا أهل البیت، نصبر علی بلائه لیوفّینا أجور الصابرین، لن تشذّ عن رسول اللَّه لحمته و عترته، و لن تفارقه أعضاءه، و هی مجموعة له فی حظیرة القدس تقرّ بها عینه، و تنجز له فیه عدته.( مقتل الحسین علیه السلام للخوارزمی 2: 8).

ص: 234

3- یحکم الذوق السلیم و المعرفة بالفصاحة العربیة بأنّ عبارة اللهوف أفصح و أقدم من عبارة الخوارزمی، فإسنادها إلی الإمام أنسب، کما أنّ ابن طاوس صرّح بأنّ الخطبة قد وردت فی مکّة، و لا یسع المؤلّف إلّا أن یقول بأنّ العبارة التی وردت فی اللهوف «فإنّی راحل مصبحاً» دلیل علی أنّ الخطبة أو البعض منها «مَن کان باذلًا مهجته»- التی وردت فی اللهوف و لم ترد فی الخوارزمی- لم ترد فی مکّة، و ذلک لأنّ حرکة الإمام علیه السلام کانت عند زوال یوم الترویة لا صباحاً، إضافة إلی أنّ الحرکة لم تقرّر قبل لیلة، بل بحکم الجبر و الاضطرار فإنّ الإمام عزم علی الحرکة فجأة، و لم تکن هناک من وقفة بین العزم و الحرکة. و نقول فی الجواب: لیس هناک من منافاة بین الحرکة عند الزوال و کلمة «مصبحاً»؛ لأنّ هذه الکلمة کثیرة الاستعمال بمعنی «غداً» و من أین یعلم أنّ الإمام علیه السلام لم یعزم علی الحرکة عند ما رأی نفسه مضطرّاً؟ بل کان الإمام مستعدّاً للإتیان بمناسک الحجّ و التوجّه إلی عرفة، و لم یکن هنالک أیّ قرار مسبق بالحرکة إلی العراق قبل زوال یوم الترویة، لقد نقلت أنت هذا الموضوع من إرشاد المفید و الطبری، و الحال أنّه: أوّلًا: فی قبال المفید قدس سره و الطبری هناک عدد کبیر من العلماء و الفضلاء- ممّن ذکرناهم سابقاً- صرّحوا بأنّ العزم علی الحرکة کان منذ اللیلة التی سبقتها، و لیس هنالک ما یدعونا لاعتماد نقل المفید و إهمال نقل اللهوف و سائر المشاهیر. ثانیاً: ما یفیده الإرشاد و تأریخ الطبری أنّ حرکة الإمام کانت عند زوال یوم الترویة بعد الخروج من الإحرام، و لیس هنالک من تعرّض إلی وقت العزم علی الحرکة و زمان الخروج من مکّة، بل نقل الطبری عن أبی مخنف أنّ حسیناً لمّا أجمع المسیر إلی الکوفة أتاه عبد اللّه بن عباس فقال: یا ابن عمّ، أُشیع بین الناس أنّک ذاهب إلی العراق؟ فأجابه علیه السلام: لقد عزمت علی المسیر منذ الیوم أو یومین إن شاء

ص: 235

اللَّه. فتکلّم ابن عباس عن هذا الأمر و انصرف، ثمّ عاد إلیه عند اللیل أو الغد و أبدی له نصائحه بالانصراف عن هذا السفر(1). أ وَ لا تصرّح هذه القصّة- التی نقلها الطبری عن أبی مخنف- بأنّ العزم علی الحرکة کان قبل یوم أو یومین؟ فلما ذا نقول: کانت الحرکة مفاجأة و قد دفعه الاضطرار إلی ذلک، حیث کان قصده الأساسی الإتیان بمناسک الحجّ، و علیه: یمکن الجمع بین إیراد الخطبة فی اللیل مع الحرکة صباحاً و العزم علیها، و هذا ما حصل فی الواقع، و ذلک لأنّه عزم علی الحرکة فی اللیل و أورد الخطبة. سؤال: إذا کان الإمام علیه السلام عازماً علی الحرکة قبل یوم أو یومین و کان یعلم أنّه لا یتوقّف فی مکّة حتّی إتمام مناسک الحجّ، فلِمَ أحرم للحجّ و اتّجه إلی عرفة؟ جوابه: أنّ عمل الإمام علیه السلام هذا یستند إلی مصلحة، و رغم أنّه قرّر الحرکة و کان یعلم بعدم أدائه لکافّة أعمال الحجّ، کان من الضروری أن یحرم للحجّ و ینضمّ إلی الجماعة الإسلامیّة فی تلک المراسم، ثمّ یبدّل إحرام الحجّ عمرة لیعلم الناس أن لیس هنالک من حصانة له فی ظلّ هذه الحکومة الغاشمة، و لیس له أمن فی الحرم الآمن الذی تؤمن فیه الحیوانات، و هکذا یکشف الإمام علیه السلام عن بعض خطط هذه الحکومة و مؤامراتها و التی تهدف إلی إحیاء العهد الجاهلی، و لتعلم الأجیال الإسلامیة القادمة بسلب أمن الحرم من قبل هذه الحکومة، و أنّها لم تمهله حتّی لأداء مناسک الحجّ. أضف إلی ذلک أنّه لیس من المعلوم أنّ الإمام علیه السلام أحرم للحجّ،


1- تاریخ الطبری 4: 287.

ص: 236

بل یستفاد من روایاتنا و کذلک تأریخ الطبری(1) أنّه أحرم للعمرة، و لم یکن قد عزم علی الحجّ منذ البدایة. أجل، فإنّ هذا الکلام یفید عدم التردید فی خطبة «خطّ الموت ...» حسب نقل اللهوف.

المؤلّف و الإقرار بالعلم:

نفترض- مماشاة للمؤلّف- أنّ هناک تقطیعاً فی الخطبة و أنّ الإمام علیه السلام لم یورد «من کان باذلًا فینا مهجته» فی مکّة، إلّا أنّه یتّفق معنا فی أنّ هذه العبارة «و کأنّی بأوصالی ...» قد أوردها فی مکّة، و هنا نسأل المؤلّف: أو لا تدلّ هذه العبارة علی شهادة الإمام فی هذه الحرکة؟ أو لا تکشف أیضاً عن موضع الشهادة؟ هل هناک


1- 1- جاء فی کتاب وسائل الشیعة ج 14 ص 310 عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن محمّد بن إسماعیل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عیسی، عن إبراهیم بن عمر الیمانی، عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه سُئل عن رجل خرج فی أشهر الحجّ معتمراً ثمّ خرج إلی بلاده، قال: لا بأس، و إن حجّ من عامه ذلک و أفرد الحجّ فلیس علیه دم، و إنّ الحسین بن علیّ علیهما السلام خرج یوم الترویة إلی العراق و کان معتمراً. 2- و عنه، عن أبیه، عن إسماعیل بن مرار، عن یونس، عن معاویة بن عمّار، قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام: من أین افترق المتمتّع و المعتمر؟ فقال: إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ، و المعتمر إذا فرغ منها ذهب حیث شاء و قد اعتمر الحسین علیه السلام فی ذی الحجّة ثمّ راح یوم الترویة إلی العراق و الناس یروحون إلی منی، و لا بأس بالعمرة فی ذی الحجّة لمن لا یرید الحجّ. 3- فی تاریخ الطبری 4: 289 أنّه و روی أبو مخنف أنّ الحسین علیه السلام طاف عند الظهر بالبیت و بین الصفا و المروة و قصّ من شعره و حلّ من عمرته، ثمّ توجّه نحو الکوفة. نعم، یشمّ من عبارة المفید فی الإرشاد 2: 67، أنّ الحسین علیه السلام أحرم للحجّ ثمّ أبدلها للعمرة، و لکن لا اعتبار لهذه الروایة أمام الروایات المذکورة، فإحرام الإمام علیه السلام کان للعمرة و لم یبدأ بمناسک الحجّ، و قد حصل مراد الإمام علیه السلام، لأنّ عدم الاشتراک فی مراسم الحجّ لمن أقام أشهراً فی مکّة و لا تستغرق المناسک سوی بضعة أیّام یفید إبرازه لموقفه حیال الجهاز الحاکم و فضح سیاسة یزید القائمة علی أساس انتهاک الحرمات و سلب الحرم الإلهی أمنه، فأفهم علیه السلام الامّة أنّ یزید و بدلًا من إحیاء شعائر اللَّه و تعظیمها یهدف ترویع ابن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی مرکز التوحید لا لذنبٍ سوی اتّباعه للحقّ و القرآن.

ص: 237

من معنی لأن یقول الإمام فی عاشوراء: «کأنّی بأوصالی تقطّعها عسلان الفلوات بین النواویس و کربلاء؟!» أو لیست العبارة تکهّن و نبوءة عن أمر خفیّ سیحدث قریباً بین النواویس و کربلاء؟ و هنا نسأل: أو لا تدلّ هذه العبارة علی علم الإمام علیه السلام؟ لو کانت هذه الحادثة ستقع بعد عشر سنوات فهل یصحّ من الإمام أن یطلق الآن فی حرکته عبارة «کأنّی بأوصالی ...»؟ بل هل یعقل إطلاق مثل هذه العبارة فی هذا الوقت؟ إذا کان الأمر کذلک فإنّ لسان حال الإمام هو أنّی سأتّجه إلی الکوفة من أجل الإطاحة بحکومة یزید، و لا أدری هل سأحقّق هذا الهدف أم لا؟، إلّا أنّی أرجو النصر، أیّها الناس- الذین تهبّون لنصرتی- اعلموا بأنّی سأُقتل بعد عشر سنوات فی کربلاء. نحن لا یسعنا أن نتأمّل خطبة الإمام علیه السلام بهذا الشکل، فکیف تقیّم أنت الخطبة؟ علی کلّ حال؛ فإنّ خطبة «خُطّ الموت ...» قد أوردت فی مکّة، و قد صرّحت بذلک روایة اللهوف الموثوقة، و أنّ الإمام قد قال فی مکّة: «و کأنّی بأوصالی ...» التی تفید علم الإمام التامّ بحادثة کربلاء، و السلام علی من اتّبع الهدی. 6- قال المُفید فی الإرشاد: «روی سفیان بن عیینة، عن علیّ بن یزید، عن علیّ بن الحسین علیهما السلام قال: خرجنا مع الحسین علیه السلام فما نزل منزلًا و لا ارتحل منه إلّا ذکر یحیی بن زکریا و قتله، و قال یوماً: و من هوان الدنیا علی اللَّه أنّ رأس یحیی بن زکریا أُهدی إلی بغیّ من بغایا بنی إسرائیل»(1). فالروایة تکشف عن حرارة مستعرة داخل الإمام قد ملأت قلبه الشریف حزناً و ألماً حین یصوّر قتل یحیی، کما ألّمت هذه الکلمات قلب ولده علی بن


1- الإرشاد للمفید 2: 132.

ص: 238

الحسین. کان الإمام عالماً بمصیره ناعیاً نفسه فی هذه الحرکة، و لکن کیف له بالتصریح علناً و علی بن الحسین و زینب الکبری یسمعان ما یقول؟ و ما عساه أن یفعل و الحادثة وشیکة الوقوع. فالإمام علیه السلام یری میدان کربلاء و قد أحاط به جیش عبید اللَّه بن زیاد و هم متعطّشون للارتواء من دمه الطاهر، کما یری سهام الغدر التی ستصوّب إلی نحر ولده الرضیع و سائر الفتیة الذین یضرّجون عمّا قریب بدمائهم، بل یری حوافر الخیل التی ترضّ صدره ثمّ یحزّ رأسه و یُهدی من العراق إلی الشام إلی باغٍ من بُغاة بنی امیة. لیت شعری ما ذا عسی الإمام أن یفعل، فإن أماط اللثام و صوّر الأحداث تعالت الأصوات بالنحیب و البُکاء الذی یرقّ له قلبه، و إن فضّل السکوت فلا مناص من حرکة تلک القافلة التی ستُواجه تلک الأحداث المروّعة دون أن تکون قد تصوّرتها و تأهّبت لها، و لم یکن من اسلوب یمکن اتّباعه بهذا الشأن سوی ذلک الذی اعتمده الإمام، فلم یکن أن تسیر القافلة غافلة عمّا سیواجهها، لا بدّ من لفت انتباه القافلة لتلک الأحداث لیستعدّ البعض للقتال الذی تطیح دونه الرءوس، کما تتأهّب النساء للسبی و الأسر. فکیف یبدأ و ما ذا یقول؟ لیس هنالک أفضل من التذکیر بحادثة النبیّ یحیی التی من شأنها علاج هذه المشکلة. نعم، بإمکان حادثة یحیی علیه السلام أن تکون الفصل الأوّل من قصّة حادثة الطفّ، و هل نذکر تلک الحادثة جملة واحدة و نلفت النظر إلی تکرار حوادث التأریخ؟ کلّا.

فالقول مرّة واحدة قد لا یؤتی أُکله و لا بدّ أن أثیر تلک الحادثة فی عدّة منازل، لیعلم الرکب و یستعدّ لتلقّی الأخبار المؤلمة التی سمعتها من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و أمیر المؤمنین علیه السلام فقد آن أوانها. و هنا نتساءل لما ذا لا یتحدّث هذا الزعیم الذی ینهض بمسئولیة إمرة الجیش

ص: 239

و قیادته من أجل تحقیق النصر، عن معارک الإسلام و الانتصارات الباهرة التی حقّقها جدّه و أبوه فی تلک المعارک، لم لا یتحدّث عن معرکة الجمل؟ لو کان یأمل بالنصر لکان من المناسب الحدیث عن تلک المعارک لا عن حادثة یحیی! الإمام علیه السلام یمثّل قمّة الأدب و البلاغة، و علیه أن یتکلّم بما ینسجم و مقتضی الحال، لو کان هناک من أمل بالغلبة و النصر؛ فإنّ مقتضی الحال یتطلّب من الإمام التحدّث عن قضیة أبناء الطلقاء عند فتح مکّة و کسر شوکة أبی سفیان، لیشتدّ عزم الأصحاب فی خوض المعرکة، فیزید ابن ذلک المدحور المهزوم فی معارک الإسلام. إذن، فإثارة الإمام لحادثة یحیی تفید شیئاً آخر یجعل الحسین علیه السلام یحثّ الخُطی لاستقباله. نعم، هذه هی الطریقة التی تجعل سید الشهداء علیه السلام یحطّم حاجز الصمت و یخرج من تلک الحیرة العظیمة، و لذلک یتکلّم خلال المسیرة عن الموت و الشهادة إلی صحبه، ثمّ أخذ الإمام یخوض فی التفاصیل أکثر فأکثر کلّما اقترب من أرض کربلاء. فقد نقل مثلًا رؤیاه إلی ولده علیّ بن الحسین و هو یسترجع کثیراً، ثمّ أخبره بأنّه سمع منادیاً ینادی «القوم یسیرون و المنایا تسری إلیهم»(1). و نری أنّ الإمام إنّما یهدف من هذه الکلمات إلی إعداد صحبه و لا سیّما أهل بیته إلی ما سیواجههم من حوادث، و لذلک یردّ علیه «لا نبالی نموت محقّین»(2).

نعم، کان الإمام علیه السلام یعلن عن هذه الأحداث رغم أنّ المسافة کانت بعیدة نسبیاً عن یوم عاشوراء و أرض کربلاء. علی کلّ حال أدرک الجمیع أنّه آن الأوان لتلک الروایات و الأحادیث و الأخبار التی صرّح بها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله و أمیر المؤمنین علیه السلام. ثمّ تحدّث الإمام عن الموت أیضاً حین التقی الحرّ بن یزید- طبق نقل الطبری


1- تاریخ الطبری 4: 308.
2- تاریخ الطبری 4: 308.

ص: 240

فی ذی حُسم و عذیب الهجانات بعد وصول رسالة عبید اللَّه إلی الحر(1). و تأکیده علی التضییق علی الحسین حسب نقل اللهوف. فقال: «فإنّی لا أری الموت إلّا سعادة، و الحیاة مع الظالمین إلّا برما»(2). نعم کان محور الکلام هو الموت، فقد قال فی مکّة: «کأنّی بأوصالی تقطّعها عسلان الفلوات» و یتکلّم خلال مسیرته عن شهادة یحیی بن زکریا، و یمرّ بقصر بنی مقاتل فیخبر ولده علیّاً برؤیاه و حدیثه عن الشهادة. و یواصل حدیثه عن الشهادة فی عذیب الهجانات وذی حُسم. فلمّا دخل کربلاء أخبرهم عن مصارعهم و قال: «هاهنا و اللَّه محطّ رحالنا و مسفک دمائنا»(3). ولیت شعری لما ذا یصرّ البعض علی أنّ ابن الأعثم الکاذب هو الذی نسبها إلی الحسین علیه السلام. و علی فرض کذب ابن الأعثم، فإن نسب إلی الإمام عبارة تؤیّدها جمیع القرائن القطعیة و الشواهد، فهل نصّ علی أنّ الإمام لم یقلها حتّی و لو کانت قریبة من حادثة عاشوراء التی زعمتم بأنّ شهادته أصبحت فیها حتمیة!. أیّها المؤلّف العزیز ناشدتک اللَّه أن تعید النظر فی ما أوردت و لا تفرّط بالحسین علیه السلام، فلیس لنا من عزّة و عظمة سوی فی الحسین علیه السلام، لیس لنا من سبیل لإیقاظ الامّة سوی الحسین علیه السلام، کما لیست لنا من مجالس یمکنها النهوض بأهداف الإسلام سوی مجالس الحسین علیه السلام. فالعنصر المقتدر الذی من شأنه حشد الطاقات و صهرها فی بوتقة واحدة و هو أبو الأحرار سید الشهداء علیه السلام. لیس هناک من ملاذ لما نواجه من مخاطر و صعاب فی حرکتنا الإسلامیة سوی مصائب الحسین علیهما السلام، بل


1- تاریخ الطبری: 4/ 305.
2- الملهوف لابن طاوس: 138.
3- نفس المصدر: 139.

ص: 241

لیس لنا من سبیل إلی النصر و دحر العدوّ سوی الحسین علیه السلام، و کلّ من تخلّف عن الحسین علیه السلام فلن یشمّ رائحة النصر «مَن لم یلحق بی لم یدرک الفتح و السلام»(1) فالشعار الحسینی حیّ فی جمیع الضمائر و لا یقتصر علی بنی هاشم و مَن خوطب فی زمانه، فالحسین علیه السلام مظهر الحرّیة و رفض الظلم و الجور، الحسین علیه السلام ثورة مفعمة بالدم تجری من عیون عشّاقه و موالیه. ثالثاً: الأحادیث التی وصلتنا عن أهل بیت الرسالة علیه السلام بشأن نهضة الحسین و علمه بشهادته، نکتفی بذکر طائفة منها:

الحدیث الأوّل:

الحدیث الذی نقله الشیخ محمّد بن یعقوب الکلینی فی کتابه الکافی، المعتبر السند المؤیّد من قِبل العلّامة المرحوم المجلسی فی کتابه «مرآة العقول»(2) و هذا نصّه: محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضریس الکناسی قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول- و عنده اناس من أصحابه-:

«عجبت من قوم یتولّونا، و یجعلونا أئمّة و یصفون أنّ طاعتنا مفترضة علیهم کطاعة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، ثمّ یکسرون حجّتهم و یخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فینقصونا حقّنا و یعیبون ذلک علی من أعطاه اللَّه برهان حقّ معرفتنا و التسلیم لأمرنا؛ أ ترون أنّ اللَّه تبارک و تعالی افترض طاعة أولیائه علی عباده ثمّ یخفی عنهم أخبار السماوات و الأرض، و یقطع عنهم موادّ العلم فیما یرد علیهم ممّا فیه قوام دینهم؟! فقال له حمران: جعلت فداک أ رأیت ما کان من أمر قیام علی بن أبی طالب


1- یأتی فی ص 247.
2- مرآة العقول 3: 131 ح 4.

ص: 242

و الحسن و الحسین علیهم السلام و خروجهم و قیامهم بدین اللَّه عزّ ذکره، و ما اصیبوا من قتل الطواغیت إیّاهم و الظفر بهم حتّی قتلوا و غلبوا؟ فقال أبو جعفر علیه السلام: یا حمران إنّ اللَّه تبارک و تعالی قد کان قدّر ذلک علیهم و قضاه و أمضاه و حتمه علی سبیل الاختیار(1) ثمّ أجراه، فبتقدّم علم إلیهم من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قام علی و الحسن و الحسین علیهم السلام و بعلم صمت من صمت منّا، و لو أنّهم یا حمران حیث نزل بهم ما نزل من أمر اللَّه- عزّ و جل- و إظهار الطواغیت علیهم سألوا اللَّه- عزّ و جل- أن یدفع عنهم ذلک، و ألحّوا علیه فی طلب إزالة ملک الطواغیت و ذهاب ملکهم، إذن لأجابهم و دفع ذلک عنهم، ثمّ کان انقضاء مدّة الطواغیت و ذهاب ملکهم أسرع من سلک منظوم انقطع فتبدّد، و ما کان ذلک الذی أصابهم یا حمران لذنب اقترفوه، و لا لعقوبة معصیة خالفوا اللَّه فیها، و لکن لمنازل و کرامة من اللَّه أراد أن یبلغوها، فلا تذهبنّ بک المذاهب فیهم»(2).

مناقشة الحدیث:

لا یسع المقام الخوض فی تفاصیل هذا الحدیث المعتبر الوارد عن الإمام الباقر علیه السلام، و سنقتصر علی الإشارة إلی بعض النقاط المهمة: 1- تعتبر ولایة الأئمّة الأطهار علیهم السلام من القضایا المسلّمة لدی شیعة أهل البیت علیهم السلام و أنصارهم. 2- تجب طاعة الأئمّة علی المسلمین کوجوب طاعتهم لرسول اللَّه صلی الله علیه و آله، فطاعتهم و طاعته من سنخ واحد. 3- لا تجب طاعتهم لکونهم قرابة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، بل کونهم زُعماء یتحلّون


1- فی نسخة اخری:« الاختبار».
2- الکافی 1: 261- 262 باب أنّ الأئمّة علیهم السلام یعلمون علم ما کان ... ح 4.

ص: 243

بکافّة الصفات و الشرائط اللازمة لإمامة الامّة، و فی مقدّمة هذه الشرائط العلم و الإحاطة التامّة بکافّة الموضوعات و الحوادث و الوقائع ذات الصلة بحیاة الامّة الإسلامیة و سبل سعادتها و فلاحها. و من هنا یتبیّن أنّ هؤلاء الزعماء- المتمثّلین بالأئمّة الأطهار علیهم السلام- لا بدّ أن یکونوا عالمین بجمیع خفایا الحوادث و الامور المتعلّقة بمصیر الإسلام و المسلمین، و اللَّه سبحانه هو الذی یفیض علیهم- برحمته- هذه العلوم. 4- لم تکن نهضة أمیر المؤمنین و الحسن و الحسین علیهم السلام نهضة قائمة علی أساس الجبر و الاضطرار، و لم یخوضوا المعارک مرغمین، بل کلّ ذلک یجری وفق خطّة مدروسة معلومة سلفاً، و قد قلّدهم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله هذه المسئولیة، إلی جانب اطّلاعهم علی التفاصیل. و علیه: فالقیام وظیفة لبعضهم، قد حمّلهم إیّاها رسول اللَّه صلی الله علیه و آله عن البارئ سبحانه و تعالی، و ذلک لأنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله: ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحی(1) فمن قام من الأئمّة علیهم السلام کان عالماً بعواقب الأمر غیر متفاجئ بها، و قد کلّف بهذه الوظیفة رغم علمه بما ستجرّه علیه من مصائب و ویلات، و لم یتحمّلوا هذه الحوادث المریرة إکراهاً، بل کانوا مُختارین فی أصل نهضتهم و تحمّل تبعاتها، و هم یرون الشهادة کمالًا لهم تجعلهم یقتفون أثر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فی السموّ و التکامل و بلوغ ذروة الإنسانیة. و الآن نطرح هذا السؤال: أ و لیس الإمام الحسین علیه السلام هو أحد هؤلاء الزعماء؟

فقد عدّه الحدیث السابق فی مصافّ أمیر المؤمنین و سائر الأئمّة علیهم السلام، أولم تکن کربلاء من الحوادث المرتبطة بمصیر الإسلام و المسلمین؟ إذن، فبنصّ الحدیث لا بدّ أن یکون الإمام عالماً بکافّة تفاصیل حادثة کربلاء، و بنصّ الحدیث فإنّ قیام الإمام یستند إلی علم سابق، ذکره رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و کلّف به الإمام علیه السلام. و هذا غیر ما


1- سورة النجم: الآیتان 3- 4.

ص: 244

ذکرنا من أنّ الإمام یقتصر فی علمه بالشهادة علی ما أخبره به رسول اللَّه صلی الله علیه و آله. و بناءً علی هذا فلو ناقشنا الرؤیا التی نقلت عن ابن الأعثم(1)، فإنّ مضمون هذا الحدیث إزاء وظیفة الإمام هو نفس المضمون «یا حسین اخرج إلی العراق» مع الفارق فی الإجمال و التفصیل، بل یمکن القول بأنّ قیام الإمام علیه السلام کان بوحی من اللَّه بفعل إخبار النبی صلی الله علیه و آله، کما فهمنا من الحدیث أنّ قیام الحسین علیه السلام لم یکن اضطراراً بل جری وفق خطّة مدروسة و علم سابق، کما فهمنا أنّ سکوت بعض الأئمّة علیهم السلام کان یستند لهذه الرسالة و الوظیفة. فمن اعتقد بغیر هذا لا یسعه أن یعقل مضمون الحدیث بلزوم طاعة أئمّة الدین، و هذا ما تطرّقنا إلیه سابقاً، فکیف نعتقد بأنّ الإمام مفترض الطاعة فی حین نعترف بخطئه فی التشخیص أو وقوع الحوادث علی عکس ما کان یتصوّر؟ کیف یجب اتّباع الإمام علی مثل عبید اللَّه الحر الجعفی بینما کان یعتقد بأنّ مسلم کان ینتظر هزیمة منکرة. نعم الإمام علیه السلام لا یخطأ فی تشخیصه أبداً و هو عالم بکلّ خفایا الأحداث.

الحدیث الثانی:

و هو الحدیث الذی نقله الشیخ جعفر بن محمّد بن قولویه المتوفّی عام 368 ه. ق- استاذ الشیخ المفید رضی الله عنه- فی کتابه «کامل الزیارات»، و الکتاب المذکور أحد کتب الإمامیّة المهمّة الذی یحظی باعتماد علماء الحدیث و المتخصّصین بعلم


1- لا یخفی أنّ المحور الأصلی هو بحث أسس و مبانی کتاب« شهید جاوید» و لذلک لم نبحث الامور الجزئیة من قَبیل هل أنّ ابن الأعثم موثوق فی نقله أم لا، و لذلک فإنّ فرض المناقشة فی نقل رؤیاه لا یعنی أنّنا نؤیّد المناقشة، بل أنّ هذا الفرض لیس بدلیل علی الانسجام مع الکتاب؛ لأنّه خارج عن الحدود الأصلیة فی الکتاب المذکور.

ص: 245

الروایة، و هو یصرّح فی مقدّمة الکتاب بأنّه لا یورد إلّا الموثوق من الأفراد، و لذلک استدلّ کبار فقهاؤنا بهذه الروایات. و إلیک نصّ الحدیث: قال: حدّثنی أبی رحمه الله و محمّد بن الحسین، عن سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد، عن علی بن الحکم، عن أبیه، عن أبی الجارود، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «إنّ الحسین علیه السلام خرج من مکّة قبل الترویة بیوم، فشیّعه عبد اللّه بن الزبیر فقال: یا أبا عبد اللّه لقد حضر الحج و تدعه و تأتی العراق، فقال: یا ابن الزبیر لأن ادفن بشاطئ الفرات أحبّ إلیّ من أن ادفن بفناء الکعبة»(1).

وقفة مع الحدیث:

لقد شعر عبد اللّه بن الزبیر بالذهول و الدهشة من حرکة الإمام إبّان الحجّ فسأله: هذه مناسک الحجّ التی حضرها المسلمون من أکناف الدنیا و أطرافها، فما الذی حدث لیترک الإمام- و هو الأعرف أکثر من غیره بمنزلة الحجّ و عظمة تلک المواقف- الحجاز و یتحرّک صوب العراق؟! و لا سیّما أنّ الإمام علیه السلام قد توقّف قبل عدّة شهور فی مکّة و لا تستغرق مناسک الحجّ وقتاً طویلًا. طبعاً، عبد اللّه بن الزبیر یعلم أفضل من غیره أنّ الإمام لا یتخلّی عبثاً عن ذلک الأمر، و لا بدّ أن یکون هنالک دافع أشدّ قوّة جعله یحثّ الخطی لإدراک ما خفی کنهه، و لعلّه أعتقد بل جزم أن لیس هنالک ما یدعو لحرکة الإمام سوی الشعور بالخطر المحدق به، إلّا أنّه کان یرغب بسماع القضیة من الإمام و هل أنّ الخطر واقع عن قریب لا محالة؟ و أنّ الإمام یمکن أن یتعرّض إلی الاغتیال فی جوف الکعبة؟

لقد شعر الإمام بما یجول فی فکر ابن الزبیر فأجابه علی الفور: أنّ مصرعی فی کربلاء «شاطئ الفرات» لا حرم الکعبة الأمن.


1- کامل الزیارات: 151 ح 184، و عنه بحار الأنوار 45: 86 ح 18.

ص: 246

سؤال: لعلّ هناک من یسأل: من أین فهمتم أنّ الحدیث یتضمّن الإخبار بشهادة الإمام فی کربلاء؟ فلم یقل الإمام سوی أنّه سیستشهد و أنّ الشهادة فی کربلاء أحبّ إلیه من اللجوء إلی الکعبة؟ فهل هناک من منافاة بین هذا الأمر و عدم حدوث واقعة کربلاء أو وقوعها بعد سنوات؟ الجواب: لقد لفت الإمام انتباه ابن الزبیر فی جوابه إلی وقوع حادثة، و کأنّه أراد أن یقول علیه السلام: هناک حادثة لا مفرّ منها، و لا أرغب أن تقع هذه الحادثة فی بیت اللَّه، بل سأتّجه لمواجهتها هناک. سؤال آخر: لم یتّضح ممّا قلت سوی أنّ هناک حادثة لا مفرّ منها، إلّا أنّ إمکان وقوعها فی مکّة لم یزل، و هذا ما یفهم تلویحاً من جواب الإمام، و لنا أن نسأل هنا:

هل الإمام علیه السلام موقن من قتله فی کربلاء رغم احتمالیة وقوع الحادثة فی مکّة؟ الجواب: لا یرید الإمام أن یقول: إنّی أحتمل أن تقع هذه الحادثة فی مکّة، بل أراد أن یفهم ابن الزبیر بأنّ جلاوزة یزید یترصّدونه و هم عازمون علی قتله، و هو لیس بغافل عن دسائسهم، و لذلک فهو یختار کربلاء من أجل الفوز بالشهادة و إحباط مخطّطاتهم، و إلّا لو کان الإمام یحتمل وقوعها فی مکّة أو مئات المناطق الاخری، لم ینتخب شاطئ الفرات من بین جمیع هذه الاحتمالات، أضف إلی ذلک أنّه قد أعلن بأنّی أحبّ أن ادفن فی الفرات رغم بعده مئات الأمیال، و ما ذا یعنی بإخباره عن هذا المکان غیر المتوقّع؟ إذن، فذکر اسم شاطئ الفرات و الرغبة الشدیدة للاستشهاد فیه لا یفید إلّا وقوع حادثة مأساویة حتمیّة هناک، ثمّ تصبح تلک المنطقة موضع مرقده الشریف.

الحدیث الثالث:

الحدیث الذی نقله الشیخ الثقة جعفر بن محمّد بن قولویه أیضاً فی کتاب

ص: 247

«کامل الزیارات»، و قد ذکرنا سابقاً أنّ أحادیث هذا الکتاب معتبرة و موثوقة لا یمکن الطعن فی سندها. قال: حدّثنی أبی رحمه الله و جماعة مشایخی عن سعد بن عبد اللّه، عن علی بن إسماعیل بن عیسی و محمّد بن الحسین بن أبی الخطاب عن محمّد بن عمرو بن سعید الزیّات، عن عبد اللّه بن بکیر، عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «کتب الحسین بن علی من مکّة إلی محمّد بن علی: بسم اللَّه الرحمن الرحیم من الحسین بن علی إلی محمّد بن علی و مَن قِبله من بنی هاشم، أمّا بعد فإنّ من لحق بی استشهد، و من لم یلحق بی لم یدرک الفتح و السلام»(1). و قد نقل صاحب کتاب «بصائر الدرجات» عن الإمام الصادق علیه السلام نظیر هذه الروایة، حدّثنا أیّوب بن نوح، عن صفوان بن یحیی، عن مروان بن إسماعیل، عن حمزة بن حمران، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: ذکرنا خروج الحسین و تخلف ابن الحنفیة عنه، قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام: «یا حمزة إنّی سأُحدّثک فی هذا بحدیث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسین لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاس و کتب: بسم اللَّه الرحمن الرحیم من الحسین بن علی بن أبی طالب إلی بنی هاشم، أمّا بعد فإنّه من لحق بی منکم استشهد معی، و من تخلّف لم یبلغ الفتح و السلام»(2).

ما ینبغی الالتفات إلیه فی الحدیثین:

1- ما ذا یفهم من کلمة «استشهد»؟ 2- الرسالة إلی محمّد بن الحنفیة و سائر بنی هاشم هل تتضمّن الإخبار


1- کامل الزیارات: 157 ح 195، و عنه بحار الأنوار 45: 87 ح 23.
2- بصائر الدرجات: 502، و عنه إثبات الهداة 2: 577 ح 18 و عن کامل الزیارات و الملهوف: 28 و مختصر بصائر الدرجات: 42 ح 25، و فی بحار الأنوار 42: 81 ح 12 عنه و عن مناقب آل أبی طالب علیهم السلام لابن شهرآشوب 4: 76.

ص: 248

باستشهاد کلّ من یقف فی صفّ المجاهدین، أم شهادة من یلتحق فیما بعد بالإمام من بنی هاشم؟ 3- کیف یمکن الجمع بین هذه الرسالة و عدم قتل طائفة من بنی هاشم؟ 1) کلمة «استشهد»: کلمة «استشهد» بصیغة المجهول، و إن کانت بصیغة المعلوم فهی تعنی طلب الشهادة، و قد وردت بالمعنی الأخیر فی آیتین من القرآن، الاولی فی سورة البقرة وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِیدَیْنِ مِنْ رِجالِکُمْ(1). و الاخری فی سورة النساء فَاسْتَشْهِدُوا عَلَیْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْکُمْ(2). و إن جاءت بصیغة المجهول بمعنی القتل و الشهادة فی سبیل اللَّه. و فی المنجد استشهد: «قتل فی سبیل اللَّه»(3) و لعلّ مناسبة اللفظ لهذا المعنی الوارد فی الآیات القرآنیة «قَتیل فی سبیل اللَّه» هو الشهود و درک المحضر الربوبی للحقّ جلّ جلاله، و الشهید لا یموت أبداً، بل یحیا فی شهادته یفیض حیاة و حیویة. و لا یبعد القول بأنّ الشهداء لا برزخ لهم، بل تبدأ آخر مراحل حیاتهم الملکوتیّة بمجرّد موت الجسد. و هذه هی الحقیقة التی ظهرت فی میدان کربلاء، فهذا علی الأکبر ینادی أباه الحسین فی لحظة الوداع قائلًا: «هذا جدّی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قد سقانی بکأسه الأوفی»(4). و علی کلّ حال کلمة «استشهد» فی عبارة الإمام علیه السلام ظاهرة بمعنی القتل فی سبیل اللَّه، و صرف المعنی عن هذا الظهور- دون مسوّغ- إنّما یتعارض و العرف السائد فی المکالمات و المحاورات المتداولة فی الأزقّة و الأسواق، و فی حالة الشکّ فی


1- سورة البقرة: الآیة 282.
2- سورة النساء، الآیة: 15.
3- المنجد فی اللغة: 406.
4- بحار الأنوار 45: 44.

ص: 249

أنّ المراد المعنی الحقیقی للشهادة أم المعنی المجازی بمعنی التعرّض للشهادة؟ فیوجد أصل مسلّم یسمّی أصالة الحقیقة حیث یعیّن و یشخّص المعنی الحقیقی، ناهیک عن عدم صحة صرف الکلمة إلی المعنی المجازی دون وجود علاقة، و العلاقة التی یمکن تصوّرها هنا هی علاقة المشارفة، و علاقة المشارفة تکون فی الموارد التی یکون تحقّقها شیئاً قطعیاً تقریباً. و لا تطلق علاقة المشارفة علی الأشیاء التی یکون وقوعها علی نحو الاحتمال. و علیه فلیس هنالک من دلیل علی صحّة استعمال «استشهد» بمعنی التعرّض للشهادة و احتمالها.

دلیل آخر:

لو کانت «استشهد» بمعنی احتمال الشهادة لکانت عبارة الإمام توضیحاً للواضح؛ لأنّ احتمال الشهادة قائم بالنسبة لکلّ فرد یقوم ضدّ الحکومة الظالمة و الحاکم الغاشم، و یهدف إلی الإطاحة بالحکومة و إنشاء الحکومة الإسلامیة، و لأنّ مثل هذا القیام إنّما یصحبه صِدام عسکری یؤدّی إلی حالة القتل و الاقتتال. إذن، فلو کانت «استشهد» بمعنی إمکانیة الشهادة، فهذا المعنی لیس بخافٍ علی محمّد بن الحنفیة و بنی هاشم و لا یحتاج إلی تذکیر الإمام، و علیه: فلیس أمامنا من سبیل سوی القول بأنّ «استشهد» إنّما تعنی الشهادة الحتمیة، و الإخبار الذی صدر عن الإمام علیه السلام کان إخباراً عن أمر مخفی و مصیر مجهول. 2- ما ذا نفهم من العبارة «مَن لحق بی استشهد». هل المراد أن کلّ من یلحق بنا یُقتل؟ أم أنّ العبارة إخبار بشهادة قوم علی الخصوص؟ لا یمکننا أن نقبل الاحتمال الأوّل، و ذلک للأسباب التالیة: 1- لو کان الأمر کذلک فلو افترضنا التحاق جمیع أهل المدینة و مکّة و الکوفة

ص: 250

و البصرة و سائر المدن بقافلة الإمام، فإنّهم سیُقتلون، و الحال لا یمکن تصوّر هذا المعنی أبداً. 2- یلزم من هذا الاحتمال أن یستشهد جمیع أفراد رکب الحسین علیه السلام بما فیهم الصبیة و النساء و الکهول، بینما لم یُقتل من النساء و الصبیة سوی ثلاث أو أقلّ، و علیه: نسأل مؤلّف کتاب «شهید جاوید» لما ذا یستدلّ بتجاوز المعنی الحقیقی لکلمة «استشهد» بسبب بقاء عشرة أفراد من الأصحاب و بنی هاشم؟ بل الشاهد الأفضل هو بقاء جمیع النسوة و ... و من هنا یتّضح أنّ معنی الحدیث لیس إخبار الإمام علیه السلام بمعنی أنّ جمیع الرکب و من یلحق به سیستشهد حتی یعترض علی المعنی الحقیقی، بل المعنی هو أنّ کلّ مَن یلحق بنا من بنی هاشم سکنة المدینة سیُقتل و یستشهد. و الواقع أنّ هذا الإخبار یختصّ فقط بمحمّد بن الحنفیة و بنی هاشم من أهل المدینة ممّن لم یلتحق بالإمام حین حرکته، و بالطبع فإنّ الأفراد الذین أرادوا أن یلحقوا منهم إنّما کانوا أفراداً بالغین مکلّفین، و الدلیل علی ذلک: 1- ما ورد فی روایة بصائر الدرجات التی أردفت عبارة «من لحق بی» بکلمة «منکم» أی کلّ من یلحق بی منکم یا بنی هاشم فإنّه ینال الشهادة، إذن فالخبر فی بنی هاشم و کلمة «منکم» مختصّة بهم. 2- ما ورد فی کامل الزیارات حول هذه الروایة، أنّ الرسالة من الحسین إلی محمّد بن الحنفیة و سائر بنی هاشم، أی هؤلاء هم المرادون بالرسالة، فهل یسعنا بعد ذلک أن نقول بأنّ الخبر وارد بشأن جمیع الناس؟!

نتیجة البحث:

نخلص ممّا سبق إلی أنّ العبارة «من لحق بی استشهد» تدلّ علی شهادة کلّ من

ص: 251

بقی من بنی هاشم فی المدینة إن التحق برکب الحسین علیه السلام، و علیه: فعدم قتل أمثال:

غلام عبد الرحمن بن عبد ربّه، و الضحّاک بن عبد اللّه المشرقی، و عقبة بن سمعان، و العشرة الذین ذکرهم صاحب کتاب «شهید جاوید» لا یقدح بأصالة معنی الإخبار الغیبی للإمام، و کان الاحری بالمؤلّف أن یتأمّل أکثر و یری أنّ هذا الإخبار لم یشمل أولئک الأفراد من بنی هاشم الذین لحقوا به منذ البدایة، فالرسالة قد کتبت من مکّة کما ورد فی حدیث کامل الزیارات أو أثناء الخروج من المدینة کما صرّحت روایة بصائر الدرجات. و علی کلّ حال الرسالة واردة بشأن الأفراد الذین لم یکونوا مع الرکب و یمکنهم اللحاق به فی ما بعد. إذن فالإمام علیه السلام لم یخبر عن شهادة الأفراد من بنی هاشم الذین لم یتخلّفوا عن الرکب و واکبوا الإمام منذ بدایة الأمر.

مفاد الروایتین:

کلّ مَن التحق بی من بنی هاشم- سکنة المدینة- حین الحرکة سیُقتل فی سبیل اللَّه و سبیل التوحید، و من تخلّف عنّی لأیّ من الأسباب لم یدرک الفتح، و علیه: یمکن القول بأنّ الهدف الأصلی للإمام علیه السلام لا یقتصر علی الإخبار بعاقبة الملتحقین فحسب، بل فی نفس الوقت الذی ورد الإخبار من أنّ طریقنا هو الشهادة؛ فإنّه کان ینطوی علی تحریض بنی هاشم سکنة المدینة علی اتّباع الإمام من أجل نیل الدرجات الرفیعة: لا یظفر المتخلّفون بشی ء و لمن صحبنی الجنّة و الشهادة، فقوموا و انهضوا یا بنی هاشم لتنالوا الشهادة فی هذه النهضة العظیمة. و هذا ما جعل الإمام الصادق علیه السلام، و فی هذه الروایة یصرّح خاصّة بعدم استقامة تخلّف محمّد بن الحنفیة و یصفه بأنّه حرم من درک السعادة؛ لأنّ الذی یفهم

ص: 252

من عبارة الإمام الحسین علیه السلام هو أنّ من لحق بی فاز بالشهادة، هذه السعادة الکبری التی تُعتبر فرصة ذهبیة لا تسنح دائماً للإنسان، و قد حرم ابن الحنفیة نفسه من هذه النعمة العظیمة. و علی ضوء ما تقدّم لنا أنّ نطرح هذا السؤال: هل تقدح عدم شهادة اولئک الأفراد العشرة- علی فرض الصحّة- بالخبر الغیبی للإمام علیه السلام؟ إذا قال الإمام علیه السلام:

کلّ من لحق بنا من بنی هاشم فی المدینة فإنّه یستشهد، فهل هذا القول لا ینسجم و عدم شهادة اولئک الأفراد العشرة؟ لنضطرّ لحمل کلمة «استشهد» علی معناها المجازی فی احتمال الشهادة؟

3- الجمع بین الرسالة و عدم قتل جماعة:

اتّضح ممّا مرّ سابقاً أنّ عدم استشهاد جماعة من أصحاب الإمام- علی فرض الصحّة- لا یضرّ بصحّة إخبار الإمام، و ذلک لأنّ إخبار الإمام مختصّ ببنی هاشم من سکنة المدینة الذین لم یلحقوا برکب الإمام منذ بدایة الأمر، و لم یکن أحد ممّن لم یستشهد من بنی هاشم من المتخلّفین، بل کانوا ممّن لحقوا برکبه منذ البدایة، و لقد کان بإمکان مؤلّف کتاب «شهید جاوید» أن یأتی بشاهد أفضل لحمل الروایة علی معناها المجازی، و هو أنّ الإمام زین العابدین علیه السلام کان فی القافلة و لم یستشهد. إذن، لِمَ یذکر بعض الأفراد الذین لم تتّضح أوضاعهم؟ و جوابنا علی السؤال هو أنّ الإخبار الغیبی مختصّ بجماعة معیّنة.

افتراض آخر:

نفرض أنّ رسالة الحسین علیه السلام تشمل عامّة بنی هاشم و لا تختصّ بالمتخلّفین، و علی ضوء هذا الفرض یکون الجمع بین الروایة و عدم شهادة البعض من بنی

ص: 253

هاشم- و فی مقدّمتهم علی بن الحسین علیهما السلام- بهذا الشکل: مَن تبقی من ذریّة الإمام الحسن هم: 1- عمرو بن الحسن. 2- زید بن الحسن. 3- الحسن بن الحسن. أمّا عمرو بن الحسن؛ فإنّه و إن قال المفید بعدم قتله فی الإرشاد و أبو الفرج فی مقاتل الطالبیین(1)، إلّا أنّ الطبری صرّح بأنّه لم یقتل لکونه صبیّاً، و من المعلوم أنّ رسالة الإمام کانت موجّهة للمکلّفین دون غیرهم. و علیه: فعدم قتل عمرو لا یطعن بالخبر الغیبی للإمام علیه السلام. و أمّا زید بن الحسن، فبناءً علی المشهور کما ذکر المحدّث القمی رحمه الله أنّه لم یکن ملازماً لعمّه فی حرکته إلی العراق(2). و أمّا الحسن بن الحسن ففیه خلاف، فلم یعدّه الطبری من القتلی لصغر سنّه(3)، أمّا المفید فقال فی الإرشاد: «حضر مع عمّه الحسین علیه السلام الطفّ، فلمّا قتل الحسین و أسر الباقون من أهله، جاءه أسماء بن خارجة فانتزعه من بین الأسری و قال: و اللَّه لا یوصل إلی ابن خولة أبداً، فقال عمر بن سعد: دعوا لأبی حسّان ابن اخته»(4). و علی کلّ حال فإنّ الحسن المثنّی رغم بلوغه و تکلیفه لم یستشهد، و هو الفرد الوحید البالغ مع علی بن الحسین الذی لم یقتل من بنی هاشم، فلو کانت الرسالة موجّهة لعامّة بنی هاشم، لا بدّ أن نقول بأنّ قصد الإمام علیه السلام: أنّ سبیلنا هو الشهادة،


1- مقاتل الطالبیّین: 119.
2- منتهی الآمال: 459.
3- تاریخ الطبری 4: 359.
4- الإرشاد للمفید 2: 25.

ص: 254

و علیه: فمن نجی فلیس ذلک بمستبعد. بعبارة اخری لیس هناک من منافاة بین الخطاب العام فی اللحاظ العام باستثناء فرد أو فردین. إذن، ففحوی رسالة الإمام: قافلتنا تتّجه إلی میدان الحرب و القتال الذی سیخوضه الغیاری و الأحرار من أجل الدفاع عن الحقّ، هؤلاء الغیاری شهداء أدرکوا الحقّ، و من لم یقم و یُدافع عن القرآن لا ینبغی أن یرجو أیّ نصرٍ آخر.

الحدیث الرابع:

قال ابن قولویه فی کامل الزیارات أیضاً: حدّثنی أبی رضی الله عنه و علی بن الحسین جمیعاً، عن سعد بن عبد اللّه، عن محمّد بن أبی الصهبان، عن عبد الرحمن بن أبی نجران، عن عاصم بن حمید، عن فضیل الرسان، عن أبی سعید عقیصا قال: سمعت الحسین بن علی علیهما السلام و خلا به عبد اللّه بن الزبیر و ناجاه طویلًا، قال: ثمّ أقبل الحسین بوجهه إلیهم و قال: «إنّ هذا یقول لی: کن حماماً من حمام الحرم، و لأن اقتل و بینی و بین الحرم باع أحبّ إلی من أن اقتل و بینی و بینه شبر، و لأن اقتل بالطفّ أحبّ إلیّ من أن اقتل بالحرم»(1).

تحقیق مختصر:

یری ابن الزبیر أنّ الخطر محدق بالإمام، و هذا ما طرحه علی الإمام، غیر أنّه یظنّ بأنّ الحرم من شأنه أن یدفع عنه هذا الخطر، و هذا ما عبّر عنه بقوله: کن حماماً من حمام الحرم، حیث یتمتّع الحمام بالأمن فی الحرم، و ابن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله أولی بهذا الأمان. إذن فالبقاء فی ذلک الموضع المقدّس هو السبیل الأخیر للأمان من المخاطر.


1- کامل الزیارات: 151 ح 182، و عنه بحار الأنوار 45: 85 ح 16.

ص: 255

أمّا الإمام علیه السلام فیرفض هذه النظریة و یطلع ابن الزبیر علی حتمیة وقوع حادثة دون أن یُعرف للمکان من معنی فی الحرم أم فی موضع آخر. فقد اتّفقت کلمة الظلمة علی قتلی و لیس بإمکان حتی الحرم أن یمنحنی الأمان، و لیس من الصواب أن أستجب لوقوع هذه الحادثة فی الحرم الإلهی و أنتهک حرمته، بل أنا حریص علی عدم انتهاک حرمته و لو علی بعد شبر، و علیه:

فسأغادر الحرم سریعاً لأدفع بهذه الحادثة الحتمیة إلی کربلاء و أضرّج تربتها بدمی، إنّی لأحب أن أستقبل هذه الحادثة التی لا مناص منها فی الطفّ، إنّی لأرغب بالشهادة فی سبیل اعتلاء الحقّ و کلمة الإسلام علی ید الجبابرة فَلِمَ لا أستشهد فی کربلاء؟ هذه خلاصة من الحوار الذی دار بین الإمام علیه السلام و ابن الزبیر، و نبذة عن نظریة الإمام بشأن الحرکة و الحادثة الحتمیة، فهل یسعنا القول بأنّ الإمام کان یرجو النصر بفعل وجود الجیش الکوفی المقتدر و القوات الشعبیة؟ لم اختار الإمام کربلاء من بین سائر مئات الأماکن و المواضع المحتملة؟ هناک مسافة شاسعة تمتدّ لمئات الأمیال بین مکّة و کربلاء، إمکان وقوع هذه الحادثة علی بعد شبر من الحرم حتّی کربلاء قائم. إذن، فهناک مئات الأماکن التی یحتمل فیها وقوع مثل هذه الحادثة، لم اختار الإمام علیه السلام من بینها ذلک المکان الذی لا یخالج ذهن أیّ فرد؟ لم تکن کربلاء آنذاک أکثر من أرض عادیة، و کان لا بدّ أن تقع- علی ضوء الأوضاع الطبیعیة- تلک الحادثة فی الکوفة التی تمثّل آنذاک مرکز الخلافة، فلِمَ أحبّ الحسین علیه السلام أن یدفن جسده الطاهر فی کربلاء؟ لقد أشار علیه السلام إلی موضع بعید عن الأذهان، الأمر الذی یکشف أنّ الإمام کان مطّلعاً علی تفاصیل الحادثة و ما سیواجهه فیها من مصیر.

فوا أسفاه، ینبری أحدهم لیصرّح أو یحتمل بأنّ الإمام لم یکن عالماً بتلک الأحداث. اللهمّ اجعل فی قلوبنا نوراً و بصراً و فهماً و علماً.

ص: 256

زبدة الکلام:

شاهدنا أنّ أغلب التواریخ المعتبرة و الأحادیث الموثّقة کانت أدلّة قطعیة و شواهد حیّة علی علم الإمام علیه السلام بشهادته فی حرکته إلی الکوفة، الکوفة التی لم یکن من المقدّر لها أن تشهد انهیار حکومة یزید و سقوطها بید الإمام، إلّا أنّنا نرید أن نختصر الکلام، و إلّا فهناک التواریخ المعتبرة و الأحادیث المستفیضة من الفریقین بشأن علم الإمام علیه السلام بحادثة کربلاء، الحادثة الشدیدة الصلة و الحاسمة فی مصیر الإسلام و حیاة المسلمین. و الحق أنّنا نشعر بالخجل بالتحدّث عن علم الإمام علیه السلام و الدفاع عن حریم الإمامة فی عش آل محمّد (قم المقدّسة) المدینة التی شیّدت قبل ألف عام علی دعائم مدرسة أهل البیت علیهم السلام حتّی وصفها أئمّة الهدی بالمرکز الذی یفیض بعلومهم علی العالم، بل نعتوها بأنّها حرم أهل البیت. یعترینا الخجل أن نهدر وقتنا فی التحدّث عن أمر بمثابة الشمس فی رابعة النهار.

نعم، نشعر بالخجل من أنّ الإمام علیه السلام مصباح الهدی و سفینة النجاة و خلیفة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله ممّن أمر بطاعته و ولایته، فی حین یطالعنا من یتفوّه بأنّ الإمام زجّ بلا علم فی حادثة مثّلت جوهر الإسلام و ارتبطت مباشرة باستقامة الدین، الخجل الذی یدعونا إلی الصمت الذی لا یفرزه سوی الحیرة و الذهول و الدهشة! إلّا أنّه الصمت و السکوت الذی یتضمّن الإشارة إلی بعض الأدلّة الواردة بشأن علم الإمام علیه السلام: 1) جاء فی الکامل لابن الأثیر أنّ عمر بن عبد الرحمن نصح الإمام و حذّره من الحرکة إلی الکوفة، فجزاه الإمام خیراً و قال: «و مهما یُقضَ من أمر یکن أخذتُ برأیک أو ترکته»(1). 2) قصّة ورود أبی بکر الحارث بن هشام علی الإمام، فقال له الإمام علیه السلام:

«جزاک اللَّه خیراً یا ابن عمّ فقد أجهدک رأیک، و مهما یقضِ اللَّه یکن» فقال: إنّا للَّه


1- الکامل لابن الأثیر 4: 37.

ص: 257

و عند اللَّه نحتسب یا أبا عبد اللّه(1). 3) علی ما نقل أرباب المقاتل أنّ عبد اللّه بن عمر جاء لوداع الإمام فی مکّة فقال «استودعک اللَّه من قتیل»(2). 4) قال صاحب مجمع البحرین: «روی أنّه علیه السلام اشتری النواحی التی فیها قبره من أهل نینوی و الغاضریة بستّین ألف درهم، و تصدّق بها علیهم، و شرط علیهم أن یُرشدوا إلی قبره و یضیّفوا مَن زاره ثلاثة أیّام»(3)، فهل اشتری الإمام تلک الأرض بعد القتل؟ و هل کان عالماً بمرقده أم لا؟ 5) کتب العلّامة المرحوم السید محسن الأمین العاملی صاحب أعیان الشیعة فی مقتله لواعج الأشجان: «و جاءه عبد اللّه بن عباس و عبد اللَّه بن الزبیر، فأشارا علیه بالإمساک عن المسیر إلی الکوفة، فقال لهما: إنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قد أمرنی بأمر و أنا ماض فیه، فخرج ابن عبّاس و هو یقول: وا حسیناه»(4). کان الإمام علیه السلام ینهض بمسئولیة خطیرة کلّفه بها رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، إذن فحقیقة الأمر شی ء آخر، و لم تکن دعوة أهل الکوفة و آراء خبرائها تشکّل الدوافع الحقیقیة لهذه الحرکة، و لذلک فهم ابن عباس أنّ السبیل الذی ینتهجه الإمام لا رجعة فیه! 6) قال الأمینی- فی نفس الصفحة من الکتاب المذکور-: «ثمّ جاءه عبد اللّه بن عمر فأشار علیه بصلح أهل الضلال و حذّره من القتل و القتال، فقال له: یا أبا عبد الرحمن أما علمت أنّ من هوان الدنیا علی اللَّه أنّ رأس یحیی بن زکریا أهدی إلی بغیّ من بغایا بنی إسرائیل- إلی أن قال:- و أیم اللَّه لو کنت فی جحر هامة من هذه الهوامّ لاستخرجونی حتّی یقتلونی، و اللَّه لیعتدنّ علیّ کما اعتدت الیهود فی


1- مروج الذهب 3: 56.
2- انظر لواعج الأشجان: 74، بحار الأنوار 44: 313.
3- مجمع البحرین 3: 1560، مادّة« کربل».
4- لواعج الأشجان: 72.

ص: 258

السبت، و اللَّه لا یدعونی حتّی یستخرجوا هذه العلقة من جوفی، فإذا فعلوا ذلک سلّط علیهم من یذلّهم حتی یکونوا أذلّ من فرام(1) المرأة»(2). فعبد اللَّه یتوقّع حادثة و یقرّ الإمام توقّعه و یفشی له الأسرار. نعم، کلّ من تحدّث عن الشهادة فإنّ الإمام علیه السلام کان یؤیّد حدیثه و یبیّن المأساة التی ستقع من خلال التصریح أو التلویح، فهل نقول هنا أیضاً بأنّ الإمام قد انطلق راجیاً للسفر من مکّة و لم یتبدّل هذا الرجاء یأساً حتّی أواخر حیاته الشریفة، اللهمّ إلّا للحظات قبل شهادته؟ هل هذه هی نتیجة التحقیقات؟ و هل مثل هذا الحکم حصیلة للتأمّل و التمعّن فی الأدلّة و الأخبار؟ هل هذه الصورة ولیدة التفکیر الصحیح؟ و هل هذه الأفکار نابعة من إدراک للحقائق؟ هل هذه الامور من شأنها رفع مقام الإمام علیه السلام؟ هل مثل هذا الکتاب یعدّ خدمة للعلم و المعرفة؟ و هل هذه الأفکار ستقضی علی الشبهات؟ و هل و هل ...

نترک الإجابة إلی الضمائر الحیّة و العقول البعیدة عن التقعقع و التعصّب.

شهادة الإمام فی کربلاء علی لسان أهل البیت علیهم السلام و أتباعهم:

لقد ابتلّت تربة کربلاء بدموع علی بن أبی طالب علیهم السلام لخمس و عشرین سنة قبل وقوع الحادثة، و لم ینس مسجد الکوفة حدیث أمیر المؤمنین علیه السلام لسعد بن أبی وقّاص فی أنّ ولده المشئوم سیقتل ابنه الحسین علیه السلام(3). أمّا النبی صلی الله علیه و آله فقد صدع قبل ولادة یزید قائلًا: «مالی و لیزید لا بارک اللَّه فیه، اللهمّ العن یزید»(4). و ابن عبّاس هو الذی نقل حدیث النبی صلی الله علیه و آله، فکان یعلم علی سبیل الجزم بحادثة


1- الفرام- بالفاء المفتوحة- : خرقة الحیض.
2- لواعج الأشجان: 72- 73.
3- کامل الزیارات: 155 ح 191، الأمالی للصدوق: 196 مجلس 28 ح 207، و عنهما بحار الأنوار 42: 146 ح 6 و ج 44: 256 ح 5.
4- مثیر الأحزان لابن نما الحلّی: 22، و عنه بحار الأنوار 44: 266 ح 24.

ص: 259

کربلاء و غطرسة یزید، و من المُسلّم به أنّه تذکّر قول رسول اللَّه صلی الله علیه و آله فحذّر الإمام. نعم، لم تکن حادثة کربلاء خافیة علی من کان یرتاد أهل بیت النبوّة علیهم السلام، بل کانت هناک عدّة روایات أسهمت کلّ واحدة منها فی إزاحة الستار عن بعض مجریات تلک الحادثة بحیث یری المتتبّع أنّ هذه الحادثة قد بیّنت بجزئیّاتها و تفاصیلها من قِبل رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و أمیر المؤمنین علیه السلام، و علیه کان أهل البیت علیه السلام و أنصارهم عارفین بتفاصیل هذه الحادثة فنقلوها لنا، إذن فهل یعقل القول بأنّها کانت خافیة علی شخص الإمام علیه السلام؟ یظنّ البعض أنّ الإمام الحسین علیه السلام لم یکن یعلم المراد بالفتیة الذین قال فیهم أمیر المؤمنین علیه السلام حین مرّ بکربلاء فی معرکة صفّین: «هاهنا مناخ رکابهم، و موضع رحالهم، و هاهنا مهراق دمائهم، فتیة من آل محمّد صلی الله علیه و آله یُقتلون بهذه العرصة ...»(1) و لم یکن یعلم متی یُقتلون؟! و حیث ذکرهم أمیر المؤمنین علیه السلام بضمیر الجمع الغائب «هم»، فقد رأی الحسین علیه السلام فی میدان کربلاء ذلک الیوم أنّه المصداق علی سبیل التردید! فقد ذکر المؤلّف فی ص 301 «فهل اولئک الفتیة من آل محمّد التی أخبر عنها أمیر المؤمنین علیه السلام هُم الحسین علیه السلام و أهل بیته؟ أ فلا ینطبق الخبر الذی ذکره علی علیه السلام قبل أربع و عشرین سنة علی الحسین و أهل بیته؟». یا له من ظنّ فاسد! ما هی الصورة التی رسمها هؤلاء للإمام حتّی یتحدّثوا عنه بهذا الشکل! لو لم یکن إماماً بل کان فرداً عادیاً کمحمد بن الحنفیة و سمع هذا الکلام من أبیه و قد واجه عسکر یزید فهل لنا أن ننسب ابن الحنفیة إلی التردید؟! نعم، هنا یکمن الخطأ، حیث ظنّ بأنّ إخبار أمیر المؤمنین علیه السلام عن تلک الحادثة فی معرکة صفّین قد اقتصر علی تلک العبارة، رغم أنّه رأی أنّ هذا الکلام


1- دلائل النبوّة لأبی نعیم 2: 581 ح 530، ذخائر العقبی: 174، الریاض النضرة 3: 201، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ 2: 761، الخصائص الکبری للسیوطی 2: 214.

ص: 260

لوحده یکفی فی العلم بجمیع الحادثة بالنسبة لأیّ فرد عادیّ فضلًا عن الإمام علیه السلام. کلّا، لیس الأمر کذلک، فقد تحدّث علی علیه السلام فی معرکة صفّین بهذا الشأن و قد ذکر حسیناً صراحة و العطش الذی یصیبه حین یستشهد فی أرض کربلاء حتّی لا ینبری لاحقاً مَن یقول: فهل ینطبق حدیث الوالد علی الولد أم لا؟ و قد مرّت(1) علینا روایة العلّامة المجلسی فی البحار التی أشارت إلی بُکاء علی علیه السلام علی ولده الحسین علیه السلام، الذی سیموت فی کربلاء عطشاناً. فهل قول علی علیه السلام فی میدان المعرکة فی تلک اللحظة الحسّاسة کان همساً فی اذن الراوی و لم یسمعه إلّا عبد اللّه بن قیس، أم أنّها أخبار قالها علی علیه السلام وسط المیدان عن تلک الحادثة؟ أو لا نفهم من هذه الروایة و أمثالها أنّ حادثة کربلاء کانت حدیث الساعة و لم یکن من یتردّد علی أهل البیت بعیداً عن تلک الأخبار فضلًا عن أهل الدار. فهل من المعقول أن نعترف أوّلًا- علی ضوء الروایات القطعیّة- أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قد أخبر بشهادة الحسین علیه السلام، و کان الحسین قد سمع الخبر منذ طفولیّته. ثمّ نثبت بعد ذلک من خلال مباحث الکتاب أنّه علیه السلام لم یکن عالماً باستشهاده؟ أمّا الروایات الموثوقة التی وردت فی کتاب بحار الأنوار فقد صرّحت بأنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قد صرّح باسم الحسین علیه السلام فی معرکة صفّین، حتّی روی ابن عباس أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام حین مرّ بکربلاء بکی بکاءً شدیداً و قال: «ما لی و لآل أبی سفیان! مالی و لآل حرب حزب الشیطان و أولیاء الکفر!- ثمّ التفت إلی ولده الحسین علیه السلام و قال:- صبراً یا أبا عبد اللّه، فقد لقی أبوک منهم مثل الذی تلقی منهم»(2) فهل لأحد أن یقول بعد ذلک: إنّ الحسین علیه السلام احتمل حین وصل کربلاء أنّه المقصود بقول أبیه علیه السلام؟ و لا یسعنا هنا إلّا أن نخوض فی بعض التواریخ:


1- فی ص 219.
2- بحار الأنوار 44: 252 ح 2 عن أمالی الصدوق: 694، مجلس 87 ح 951، و کمال الدین: 532 ب 48 ح 1.

ص: 261

فقد نقل مؤلّف کتاب القاموس- من الکتب الرجالیة الموثّقة الذی طبع أخیراً قصّة عند ذکر اسم حبیب، و قد ذکرت هذه القصّة فی سائر کتب التأریخ و الرجال- أنّه «روی الکشّی عن جبرئیل بن أحمد، عن محمّد بن عبد اللّه بن مهران، عن أحمد بن النصر عن عبد اللّه بن یزید الأسدی، عن فضیل بن الزبیر، قال: مرّ میثم التمار و حبیب بن مظاهر بمجلس بنی أسد و هما فارسان، فجعلا یتحدّثان حتّی قال حبیب:

لکأنّی بشیخ أصلع قد صلب فی حبّ أهل بیت نبیّه علیهم السلام ... فقال میثم: و إنّی لأعرف رجلًا أحمر له ظفیرتان یخرج لینصر ابن بنت نبیّه صلی الله علیه و آله، فیقتل و یجال برأسه بالکوفة»(1). لقد أصیب مجلس بنی أسد بالذهول لما سمعوا من حوار هذین الولیّین حتّی أجمعت کلمتهم علی أنّهم لم یروا أکذب منهما! و هنا وصل رشید الهجری فسأل عن میثم و حبیب، فقال له بنو أسد: کانا هنا، ثمّ أخبروه بما سمعوه منهما، فقال رشید:

لقد قالا حقّاً، إلّا أنّ میثم نسی أن یقول و یزید: من یأتی برأس حبیب مائة درهم! فما کان من أهل المجلس إلّا أن قالوا: إنّ رشید أکذبهما!(2)

بُکاء محمّد بن الحنفیة:

نقل الطبری عن أبی مخنف: أنّ الحسین بن علی أقبل بأهله و محمد بن الحنفیة بالمدینة، قال: فبلغه خبر و هو یتوضّأ فی طست قال: فبکی حتی سمعت وَکَفَ دموعه فی الطست(3). و لنا أن نسأل: مِمَّ بُکاء ابن الحنفیة؟ لو کان یأمل النصر کالإمام! لم یکن لذلک الخبر أن یبکیه، فالقضیة قضیة فتح و نصر و التحاق بالقوی الشعبیة الموالیة فی الکوفة، و لیس فی الأمر ما یدعو إلی البُکاء!


1- اختیار معرفة الرجال، المعروف ب« رجال الکشی»: 78 رقم 133.
2- قاموس الرجال 3: 96 رقم 1768، و ما ذکر نقل بالمضمون.
3- تاریخ الطبری 4: 297.

ص: 262

نعم، بکاء ابن الحنفیّة إعلام للمؤلّف الذی اعتقد أنّ الإمام علیه السلام سوف لن یسقط حکومة یزید، بل سیتعرّض لظلم جیش الکوفة، و هذه هی کربلاء التی ستستضیف الإمام! بُکاء محمّد بن الحنفیة تذکیر بحادثة یعرفها کافّة قرابة أهل البیت، أ فیکون الإمام غافلًا عنها لا عِلمَ له بها؟! لقد کانت قصّة کربلاء و فصولها الدمویة أشهر لا تحتاج إلی بیان، و قد ذکرنا سابقاً أنّ التحاق زهیر بن القین کان بسبب حدیث سلمان الفارسی أو الباهلی، حیث أورد الطبری و ابن أثیر أنّ سلمان بشّر زهیراً بإدراکه لشباب آل محمّد، و ذلک الیوم هو یوم فرح بالنسبة لزهیر.

حدیث رائع:

قال مؤلّف کتاب الأربعین الحسینیّة: «ما رواه فی الکامل بسنده عن الباقر علیه السلام قال: لمّا همّ الحسین علیه السلام بالشخوص من المدینة أقبلت نساء بنی عبد المطلب فاجتمعن للنیاحة حتّی مشی فیهنّ الحسین علیه السلام، فقال: أنشدکنّ اللَّه أن تبدین هذا الأمر معصیة للَّه و لرسوله، فقالت له نساء بنی عبد المطلب: فلمن نستبقی النیاحة و البُکاء فهو عندنا کیوم مات فیه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و علی و فاطمة و رقیّة و زینب و امّ کلثوم، فننشدک اللَّه جعلنا اللَّه فداک من الموت»(1). إنّ الحسین علیه السلام قرّر الخروج إلی مکّة فما معنی اجتماع الهاشمیات من نساء بنی عبد المطلب للنیاحة و البُکاء! یخرج إلی مکّة لتنظیم الجیش و القیادة بغیة الحرکة إلی الکوفة و بالتالی السیطرة علی الحکومة، و مثل هذه الحرکة ینبغی أن تدخل الفرح و السرور علی الهاشمیات و أهل بیت الرسالة، فقد تمهّدت الأرضیة المناسبة لقیام الحکومة، فما هذا البُکاء!


1- الأربعین الحسینیّة: 57 ح 6 عن کامل الزیارات: 195 ح 275.

ص: 263

نعم، إنهنّ یعلمن أنّ الإمام علیه السلام إنّما یتّجه نحو مصرعه الذی لیس فیه أیّ أمل بالنصر- النصر الذی یقول به مؤلّف «شهید جاوید»: لقد سمعن من رسول اللَّه صلی الله علیه و آله سرّاً أنّ ولده الحسین علیه السلام سیُقتل فی کربلاء. نعم، لم یطقن سماع حرکة الإمام و لم یتمالکن أنفسهنّ، أمّا الإمام فقد خاطبهنّ: أنشدکنّ اللَّه أن تبدین هذا الأمر فهو معصیة للَّه و لرسوله، و هل لمثل هذه النصیحة أن تسکّن من روع تلک القلوب الوالهة المضطربة و العیون العبری لنساء الرسالة! فهنّ نساء و قلوبهنّ تنبض بحبّ الحسین علیه السلام، و یعلمن أنّ هذه الحرکة ستعید مرارة رحیل رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و شهادة أمیر المؤمنین علیه السلام و غربة الزهراء علیها السلام، فأجبنه و الدموع جاریة علی خدودهنّ: إنّنا نعلم أن لا رجعة من هذه الحرکة. نعم، یمکن أن یهدأ روعنا و تسکن فورتنا إن جعلنا اللَّه فداک لتنجو من الموت. فهل یسعنا بعد هذا أن نقول بأنّ الإمام لبّی دعوة الناس أملًا فی النصر، أم لا بدّ من القول أنّه انطلق أملًا فی انتصار الإسلام من خلال الشهادة.

السرّ الأکبر:

لقد وردت حادثة کربلاء فی سائر الأدیان، و لا أُرید أن أخوض فی هذا المجال، إلّا أنّی أکتفی بما أورده الطبری بهذا المجال، قال: «حدّثنی العلاء بن أبی عائشة قال:

حدّثنی رأس الجالوت، عن أبیه قال: ما مررت بکربلاء إلّا و أنا أرکض دابّتی حتّی أخلف المکان، قال: قلت: لِمَ؟ قال: کنّا نتحدّث أنّ ولد نبیّ مقتول فی ذلک المکان.

قال: و کنت أخاف أن أکون أنا، فلمّا قُتل الحسین قلنا: هذا الذی نتحدّث»(1). فهل یسعنا- أیّها القُرّاء الأعزاء- أن نقول بأنّ الإمام لم یکن عالماً بحادثة کربلاء و حین بلغ کربلاء احتمل ... بینما یتحدّث الآخرون عن هذه النهضة و أنّ کربلاء ستضمّخ بدم الحسین علیه السلام؟!


1- تاریخ الطبری 4: 296.

ص: 264

الکتاب و الخطأ الرئیسی الثانی:

اشارة

الخطأ الرئیسی الثانی الذی ارتکبه مؤلّف کتاب «شهید جاوید» هو الضرر الذی ألحقته حادثة کربلاء بالإسلام، و نورد هنا بعض نماذج الکتاب التی تفید هذا المعنی: 1- قال فی جوابه لما قاله محبّ الدین الخطیب من أنّ حرکة الحسین بن علی علیهما السلام قد حاقت خسارة بالحسین و الإسلام و المسلمین إلی یوم القیامة:

«حکومة یزید لا الحسین بن علی علیهما السلام هی التی وجّهت تلک الضربة للإسلام».

و علیه: فهو یقرّ بموضوع الخسارة، إلّا أنّه ینسبها فقط إلی یزید. 2- لوّح فی النقاط 1، 2، 3- فی عنوان «هل کان قتل الإمام علیه السلام بنفع الإسلام أم لا- إلی أنّ قتل الحسین علیه السلام لم یکن له أثر مطلوب علی الإسلام، و قال: لقد قویت شوکة بنی أُمیّة و ظنّوا أنّ النفع الوحید الذی جناه الإسلام هو أنّ حکومة یزید أصبحت ضعیفة لبضعة أیّام إثر قتل الإمام الحسین علیه السلام. 3- قال فی ص 378 «و إذا کان المراد هو أنّ الشیعة قد انتظمت بقتل الإمام فلا بدّ من القول بأنّ الشیعة قد قویت شوکتهم من جانب بعد شهادة الإمام الحسین علیه السلام، و ضعفت من جانب آخر ... إلی آخره، ثمّ تابع هذا الموضوع فی ص 379. 4- ثمّ قال فی ص 382- فی بحث بعنوان زبدة الکلام-: «لا یمکن قبول الفکرة القائلة بأنّ الإسلام قد انتعش بقتل الحسین علیه السلام» و لا یمکنه أن یقول: مرادی أنّ قتل الحسین علیه السلام أدّی إلی الإضرار بالإسلام، من حیث إنّ الجریمة قد ارتکبت من قِبل قاتلی الحسین علیه السلام؛ لأنّنا لا نری عاقلًا ینکر أنّ قتل الحسین علیه السلام ضرر جسیم و جریمة لا تُغتفر، بل مرادک أنّ حادثة کربلاء و قتل الحسین علیه السلام کانت ضرراً علی الإسلام، و هذا ما أوردته فی ردّک علی محبّ الدین فی الدفاع عن هذا الضرر بأنّ

ص: 265

یزید قد وجّه هذه الضربة للإسلام، فهل یمکن نسبة قتل الإمام لنفسه؟ حتّی نتّهم یزید فی مقام تبرئتنا للإمام، و علیه: فقصدک من قتل الإمام شهادته و أنّ تلک الشهادة کانت بضرر الإسلام، حیث قلت: یزید هو الذی أضرّ بالإسلام. و الشاهد الآخر ما ذکرته فی قولک: «لا نفهم ما یُقال من أنّ الإسلام قد استعاد حیاته بقتل الحسین علیه السلام»؛ لأنّک لم تفترض الضرر من أجل نفس القتل، بل من أجل القتل و حادثة کربلاء، و هذا ما صرّحت به فی ص 383 حین قلت: «لا یسعنا أن ندرک هذا الأمر، فکیف للإسلام بالاستقرار و التماسک فی فقدانه لزعیمه و ناصره». فالتعبیر کان بالفقدان، و الفقدان غیر القتل، و علی هذا الضوء فقد ألغیت فریضة الجهاد بالکامل؛ لأنّ المعرکة لا تستتبع دسومة، و غالباً ما یؤدّی الجهاد إلی إزهاق أرواح القادة الصلحاء، أو لیس فقدان مثل هؤلاء القادة یضرّ بالإسلام؟ فَلِمَ الجهاد؟ و لعلّ هناک من یقول فی الجواب: إنّ فقدان مثل هؤلاء القادة هو دفاع عن الإسلام و هذا الدفاع مفید. نعم، قد نقول فی الجواب: إنّ الهدف هو الدفاع، و لکنّه یتطلّب التضحیة فلا یتحقّق إلّا فی فقدان الزعماء الصلحاء، الدفاع هو الذی یروی شجرة الإسلام و یبقی علی حیاتها، و علیه: فالإسلام یمکن أن یستعید حیاته بقتل الإمام الحسین علیه السلام، و هذا لیس بممتنع، لنتساءل لاحقاً هل تحقّق هذا الإمکان؟ نعم لقد تحقّق هذا الأمر، شریطة أن لا یقتصر بالنظر علی عصر حکومة بنی أُمیّة و بنی العباس، فالحادثة- و کما سنتطرّق إلیها لاحقاً- قد انطوت منذ یومها الأوّل علی آثار قیّمة و فوائد جمّة. 5- قال فی ص 393- 394 تحت عنوان ذلّة الامّة: «و هنا لا بدّ من القول بأنّ الامّة الإسلامیة بعد قتل الحسین علیه السلام أصبحت أکثر ذلّة و خضوعاً تجاه

ص: 266

حکومة یزید». و واضح أنّ هذه العبارة تُفید أنّ نهضة الحسین و شهادته قد أذلّت الإسلام، غیر أنّ الإمام علیه السلام لا ذنب له. نعم، الواقع أنّه لا یمکن إنکار تجبّر یزید و تنامی شوکته عدّة أیّام بُعید الحادثة، إلّا أنّها لم تجلب الذلّ و الهوان علی الناس، بل کانت الامّة تعیش حالة من الذلّ و الهوان التی تبددت بفضل تضحیة الحسین علیه السلام و دمه الشریف. هذه بعض النماذج من عبارات الکتاب الذی یعتقد مؤلّفه کالآخرین بأنّ حادثة کربلاء کانت خسارة.

حادثة کربلاء نفخت الروح فی جسد الإسلام:

من المُسلّم به أنّ الإسلام أو أیّ قانون یهدف إلی إشاعة الحرّیات و المساواة و إیصال الإنسان إلی الکمال إنّما یرتطم ببعض العوائق و العراقیل المؤلمة، التی لا یمکن تفادیها البتّة فی هذه المسیرة الشاقّة. فالقوانین الإلهیة القائمة علی أساس العدل و العلم و مساواة الضعیف بالقوی و کون الجمیع سواسیة فی الحقوق و الواجبات، لا مناص لها من الاصطدام بمصالح الطغاة من أصحاب الطمع و الشهوة و العناد و الجهل. فهذه القوانین السماویة لا تنسجم و الشهوات الطائشة و القدرة الزائفة و العاتیة التی تسحق الضعفاء و التی تستند إلی هضم حقوق الامّة و التلاعب بمقدّراتها، و علیه: فالمعرکة بین الطرفین قائمة علی قدم و ساق.

الجهاد فی الإسلام:

یسعی الإسلام بادئ الأمر- و علی هامش الحریة الفکریة و الإرادة فی العمل- فی التزام منهج الوعظ و النصح للأعداء أملًا فی إعادتهم إلی جادّة الصواب،

ص: 267

إلّا أنّ البعض لا یستجیب لمثل هذا الاسلوب و یوغل فی الغیّ و العدوان، و هذا ما تلمسه بوضوح فی القرآن الکریم فی سرده لقصص الأنبیاء مع اممهم، ثمّ یندفع هؤلاء الأفراد أبعد من ذلک لیخطّطوا لتفنید تعالیم الأنبیاء و نظمهم الاجتماعیّة، و بالتالی إرعاب الامّة و زعزعة دعائم الأدیان و الشرائع. فإذا ما أغلقت جمیع الأبواب بوجه الدین و غاب الأمل فی هدایتهم، کان لا مناص له من اللجوء إلی القوّة و بروز فلسفة الجهاد بالأموال و الأنفس. نعم، لقد بنی الدین علی العفو و الرحمة و التساهل و المرونة، إلّا أنّ هذه المفردة مؤطّرة بأطر لا ینبغی أن تتجاوز حدودها، و هذا ما عبّرت عنه الآیة الشریفة:

وَدَّ کَثِیرٌ مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ لَوْ یَرُدُّونَکُمْ مِنْ بَعْدِ إِیمانِکُمْ کُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّی یَأْتِیَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ(1). إذن، فالجهاد فی الإسلام وسیلة من أجل الدفاع عن حیاض الدین و تحریر الامّة من براثن القوی السلطویة الغاشمة، بل الجهاد من الفرائض الواجبة التی یتوقّف علیها وجود الإسلام و المسلمین. أمّا الأمر الذی ینبغی الالتفات إلیه هو أنّ الدفاع یشمل کافّة الوسائل و لا یقتصر علی القتل، لا بدّ من القیام مهما کانت النتائج، و من الخطأ الاعتقاد بأنّ الإسلام أکّد علی قتل الکفّار، ففی قتلهم نفع الإسلام و أنّ فقدان الأولیاء ضرر و القتل فیهم لیس بمطلوب. فهذا القرآن یتبنّی مواقف الشهداء و یشید بهم و یصرّح بدرجاتهم، فالشهید قیمة حیّة، و الشهید من یقتل دفاعاً عن الدین. إذن فالقتل من أجل الدفاع


1- سورة البقرة: الآیة 109.

ص: 268

مطلوب، وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْواتاً(1) فهل الآیة الکریمة تأمر بالقتل أم تحضّ علی الشهادة فی سبیل اللَّه و إشاعة التوحید و العبودیة؟ نعم، الشهادة محبوبة لدی اللَّه و القرآن، لیس هنالک من سبیل للظفر بشی ء دون ضریبة، فالبذرة تدفن نفسها فی التراب لتصبح شجرة، و ذلک یقتل لتحیا امّة و تنعم بالحرّیة و السعادة، و لذلک تری أولیاء اللَّه توّاقون للشهادة، فعدمهم یمنحهم و یمنح الآخرین الوجود، فأملهم الدائم «و قتلًا فی سبیلک»(2)، کما تراهم یتسابقون إلی الموت فی المعارک و قد مشی إلیه بعضهم عن علم بالشهادة. أجل، أولیاء اللَّه یعشقون الشهادة، فشجرة الإسلام قد تتطلّب أحیاناً سقیها بالدماء، و هذا أمیر المؤمنین علیه السلام یُصرّح فی عهده الذی عهده إلی مالک الأشتر: «و أن یختم لی و لک بالسعادة و الشهادة»(3). لا یسع البعض أن یستوعبوا حیاة الإسلام و تنامی شوکته بسبب فقدان زعمائه و حماته، فهذا القول لا ینطوی سوی علی إنکار فلسفة الحروب و المعارک، و هل الحرب لعبة أو نزهة فلمَ الأمر بالجهاد؟ لِمَ کان الرسول یشترک بنفسه فی المعارک؟ لِمَ برز علی بن أبی طالب علیه السلام لعمرو بن عبد ودّ؟ و لِمَ ضُرّج أولیاء اللَّه کعمّار بن یاسر بدمائهم فی معرکة صفّین؟ و لِمَ کان الشهداء فی مصاف الأنبیاء؟ لِمَ کان الحسین علیه السلام یأذن لفتیته فی القتال؟ لِمَ کلّف أخیراً ذلک الصبی الذی لم یکن له سوی ثلاث عشرة سنة بالقتال؟ یُقال: دفاعاً عن الإسلام، فنقول: إذا کانت هذه عاقبة الدفاع عن الإسلام بحیث یؤدّی إلی فقدان الإمام فهذه هی وظیفته، و الإسلام عزیز منیع بهذه الوظیفة. أو لم یُقتل أنبیاء بنی إسرائیل


1- سورة آل عمران: الآیة 169.
2- إقبال الأعمال 1: 143، قطعة من دعاء لیالی شهر رمضان.
3- نهج البلاغة لمحمد عبده: 625.

ص: 269

وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِیاءَ بِغَیْرِ حَقٍ(1)، أولم یفکّر الأنبیاء بأنّ فی قتلهم ضرراً علی المسیرة، کان علیهم أن یسلکوا سبیلًا لا یؤدّی إلی فقدانهم، فیبقی الدین عزیزاً بحیاتهم و وجودهم، لکنّا نعلم بأنّهم خاطروا بأنفسهم و وقفوا بوجه المشرکین و الکافرین حتّی ضحّوا بأنفسهم. لا یمکن افتراض الحسین علیه السلام إماماً ظاهریاً للمسلمین، و أنّه مبسوط الید لیخلص إلی نتیجة مفادها: عدم إدراک و قبول إحیاء الإسلام بفقدان الزعیم، فالحسین علیه السلام لو هادن یزید لما عاد إماماً، و لو أکبّ مسیرة یزید و أضفی الشرعیة علیها، فهل فی مثل هذا الإمام نفع للإسلام؟ و هل من سبیل أمام الإمام لو لم یهادن و یداهن سوی الشهادة؟ لقد کان عزم یزید أن یبایعه الحسین علیه السلام لتکون النتیجة اضمحلال الدین، و إلّا حمل إلیه رأسه الشریف، الأمر الذی لا یجعل لحیاة الإمام من نفع للإسلام. من هنا کانت وظیفة الإمام التی تکمن فی إحیاء الإسلام و الدفاع عن الحقّ تعنی التضحیة و عدم مسایرة حکومة بنی امیّة، و سقی شجرة الإسلام بالدماء الطاهرة الزکیة.

بنفسه اشتری حیاة الدین فیا لَها من ثمنٍ ثمین(2)

لقد ظنّ بأنّ حرکة الحسین علیه السلام کانت تتجه صوب الکوفة و الأخذ بزمام الامور و السیطرة علی الحکومة، و هذا الهدف لا ینسجم و العلم بالشهادة، بل لم یکن الإمام یظنّ بأنّه یرد کربلاء و یقتل فیها، و ذلک لأنّ هذه الشهادة لم تکن لصالح الإسلام، بینما لیس هناک من منافاة عقلائیة بین الحرکة إلی الکوفة و العلم بالشهادة، کان عنوان الحرکة هو الکوفة و الأخذ بزمام الامور، کی لا ینبری


1- سورة النساء: الآیة 155.
2- من مراثی آیة اللَّه الکمپانی.

ص: 270

أحدهم و یتخرّص بأنّ الامّة تأهّبت لامامة الحسین علیه السلام فرفضها، و لا یتسرّب الشکّ إلی النفوس بأنّ الزعامة لو کانت حقّاً ثابتاً له لما رفضها، فقرّر الإمام أن یخرج إلی الکوفة من أجل إحیاء الإسلام، فقد ماتت السُنّة و أُحییت البدعة، و لما کان یعلم بشهادته و عدم درک هدفه، استعدّ للتضحیة و الفِداء، أمّا الکوفة و مقاومة حکومة یزید لیکتب فی التأریخ بأنّ الحسین علیه السلام ثار من أجل إحیاء الإسلام و إمامة الامّة و إنقاذها من بؤسها و شقائها، و هذا ما سیؤدّی إلی قتله و فوزه بلقب سیّد الشهداء علیه السلام، و لو صرّح الإمام بأنّی أذهب لُاقتل فی کربلاء، لما استطاع التأریخ أن یصیب فی تقییم الحادثة و أنّ الهدف هو إحیاء الإسلام، فی حین یعلم الإمام أنّ هذا الهدف لا یتحقّق إلّا فی ظلّ التضحیة و الشهادة.

المعطیات الخالدة للحادثة:

لقد فتحت حادثة کربلاء منذ انبثاقها الباب علی مصراعیه أمام انبعاث الإسلام من جدید، أمّا وقوع الحادثة فقد أفرز حقّانیة الحسین و کونه الإمام الحقّ، و بطلان حکومة یزید و کونه إمام الضلالة الذی یهدف إلی القضاء علی الإسلام، لقد جهدت الأجهزة الإعلامیة لحکومة معاویة و ابنه یزید علی تقدیم الإمام کفرد خارجی لا یمت بصلة إلی الدین، و قد تفاجأ أهل الشام لخبر قتل أمیر المؤمنین علیه السلام فی محراب العبادة، لیتساءلوا مع أنفسهم: أ فیصلّی علی حتّی یُقتل فی المحراب! کان معاویة ینفق الأموال الطائلة دون حساب من أجل وضع الأحادیث ضدّ أهل البیت علیهم السلام، فی حین أثبت الحسین علیه السلام فی کربلاء أنّ أهل البیت أصحاب حقّ، و قد بلغوا کربلاء مظلومین للدفاع عن الدین، یزید شارب الخمور و هو الفاسق عبد الدنیا و الشهوة، الذی لا یتحرّج عن سفک دم الرضیع، و یعمد بعد

ص: 271

القتل و الفتک إلی إحراق خیام النساء و سلبهنّ ما علیهنّ، لقد أحبطت حادثة کربلاء فی أوائل أیّامها کافّة دعایات معاویة، کما أفهمت عسکر یزید أنّ الحسین علیه السلام ضحیّة شهوات یزید و الحقد الدفین لعلی علیه السلام. لقد کشفت خطبه ذلک الیوم عن کمالات الإمام علیه السلام، عن ولایته و إمامته و صلاحیته و زعامته و علمه و درایته و شجاعته و فصاحته و تضحیته و حقّه، بما لا یدع مجالًا لرواسب دعایات الجهاز الأموی. و هذا یزید الذی جیّش الجیوش و شقّ وحدة الامّة الإسلامیة فی قتاله للحسین علیه السلام! بحیث اندفع البعض لقتاله و هو «یتقرّب إلی اللَّه بدمه»! إلّا أنّ نفس الحادثة و الخطابات الحماسیة للإمام أزالت الإبهام و الغموض و أوضحت الأمر، بما جعل بعض عسکر یزید یلتحق برکب الإمام، و یرتفع صوت البعض الآخر بالاعتراض و الاستنکار. لقد أثبت الحسین علیه السلام فی ذلک الیوم أنّ الباغی هو یزید، کان لا ینفکّ عن إیراد خطبه و کلماته التی عرّت التیار الأموی و کشفت زیفه للناس، الذین لیس لهم سبیل سوی تصدیق ما کان یقوله الإمام. لقد اذعن العدوّ لصحّة ما أورده الإمام علیه السلام: «إنّ علیّاً کان أوّلهم إسلاماً، و أعلمهم علماً، و أعظمهم حلماً، و أنّه ولیّ کلّ مؤمن و مؤمنة»(1). و هو الذی هتف عالیاً أنّ رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قال: «الحسن و الحسین سیّدا شباب أهل الجنّة»(2). و أخیراً هو الذی جعل العدوّ یشهد بأنّ حسیناً إنّما یقتل ثأراً من علی علیه السلام و هو الذی جعل الحرّ بن یزید الریاحی یعیش الخیار بین الجنّة و النار فیلتحق برکب الحسین علیه السلام.


1- الأمالی للصدوق: 223 مجلس 30 قطعة من ح 239، و عنه بحار الأنوار 44: 318 قطعة من ح 1.
2- مسند أحمد بن حنبل 4: 8 ح 10999 و ص 125 ح 11954 و ص 129 ح 11618.

ص: 272

إذن، فقد ذهبت أدراج الریاح جمیع تلک المدّة المدیدة من الدعایات المسمومة خلال المرحلة الاولی من حادثة کربلاء، ثمّ اتّضح ظلم یزید و جوره، و ما زالت الحادثة الحسینیّة إلی یومنا هذا تدمع العیون و تجدّد الأحزان کلّ عام کما تجنّد الطاقات و تعبّئها باتجاه العدل و الحرّیة.

النظرة السطحیة:

قد یظنّ البعض بأنّ حادثة کربلاء قد ضاعفت قدرة بنی امیّة، و أنّ فقدان القائد قد أدخل الیأس علی قلوب الناس، کما أدّت بعیالات الحسین علیه السلام إلی الأسر و السبی، دون الالتفات إلی أنّ هذه الحادثة قد هزّت عرش یزید و قلبت خططه و أفکاره رأساً علی عقب، فکلّنا نعلم أنّ یزید قد هَمّ بتقویض صرح الإسلام و هدم معالم الدین، و کان یتحیّن الفرص للثأر من بدر و حنین، فی حین دفعت کربلاء بیزید لأن یتظاهر بالدین و یلقی باللائمة علی ابن مرجانة فی تعجیله بقتل الحسین علیه السلام.

یأس الامّة:

أمّا الامّة فلم تشعر بالیأس بقدر ما عاشت حالة من الثورة و الغلیان و الغضب و النقمة، الأمر الذی تمخّض عن قیام المختار، و لم تستطع الزعامة الغاشمة مواصلة حکومتها إلّا بقوّة الحدید و النار. نعم، لقد آتت تلک الحادثة أُکُلها منذ لحظاتها الاولی، ثمّ أعقبتها تلک الحملة الإعلامیة التی قادها أهل البیت بعد الحادثة بیومین، لتشهد الکوفة من جدید الهدیر العلوی المدوّی علی لسان کریمته زینب الکبری، ففضحت یزید و أسقطت الأقنعة عن وجهه الکریه، کیف یزعم أنّ سبی زینب لم یکن من ضمن أهداف

ص: 273

الإمام علیه السلام؟ یا له من زعم أجوف؛ ما الذی حدا بالإمام لاصطحاب النسوة و هو یعلم بقتله فی کربلاء؟ لیس هنالک ما یدعو إلی القلق فیما لو بقین فی الحرم المکّی الآمن؟ ألا یشعر الإمام بالقلق علی عیالاته بالإتیان بهنّ إلی کربلاء و هو یعلم بقتله، فهل هنالک مثل هذا القلق لو بقین فی مکّة؟ لو بقین فی مکّة لما کان لهنّ من ملاذ بینما یتمتعن بالحصانة السیاسیة لو رافقن الحسین علیه السلام!! أو لم یبق ابن عباس و محمّد بن الحنفیة فی مکّة أو المدینة؟ لو لم یکن الأسر و السبی من ضمن الأهداف، أ فلا یعتبر الحسین علیه السلام مُقصّراً؟ فالحسین علیه السلام کان یعلم بأنّه مقتول، أ فلم یحتمل أنّ ذلک القتل سیؤدّی إلی سبی عیالاته؟ و علی فرض هذا الاحتمال فهل هو احتمال منجّز؟ اللهمّ إلّا أن یُقال: إنّ الإمام لم یکن قد تکهّن بعاقبة الأمر! طبعاً إن کنت ممّن یؤمن بأنّ الإمام معصوم بعید عن الزلل و الخطأ فکیف تحلّ هذا الإشکال؟ و کیف توفّق بین هذه التناقضات؟ نفترض أنّک تعتقد بأنّ الإمام لم یکن عالماً بعاقبة الأمر منذ البدایة، و لکن حین اعترضه الحرّ و قد اتّضحت عواقب الامور کما ذکرت فلِمَ لَمْ یقترح رجوع نسائه؟ هل کان الحرّ مأموراً بتسلیم عیالات الحسین علیه السلام إلی عبید اللَّه أیضاً؟ لو کان الحسین علیه السلام اقترح علی الحرّ رجوع عیالاته أ لم یکن ذلک کافیاً فی قبول عذر الحرّ عند عبید اللَّه؟ لقد أقررت بعذره حیث قلت: لو ترک الحرّ الإمامَ یرجع لما آخذه عبید اللَّه، فلم لم یقترح الإمام رجوع عیالاته؟ و لما شعر بأنّ الخطر قد أحدق به- کما زعمت- فهل الإصرار علی اصطحاب أولئک الأعزّة یُفید عدم التنبؤ بوقوع الأحداث؟ إذن لا یمکن القول بأنّ الأسر لم یکن من الأهداف المرسومة، بل من المتیقّن کان جزءاً مکمِّلًا للشهادة، فکان لا بدّ لتلک القافلة من القیام بمهمّتها الإعلامیّة. فوظیفة الحسین علیه السلام التضحیة من أجل الإسلام، بینما کانت مهمّة زینب تکمن

ص: 274

فی تغطیة وقائع کربلاء و التعریف بشخص الإمام و فضح یزید و الحیلولة دون ضیاع دم الإمام و سائر الشهداء.

خطبة زینب الکبری:

لقد فهمت الامّة من خطبة زینب فی الکوفة أنّ حکومة یزید إنّما استهدفت القضاء علی الإسلام و محو آثار الرسالة، و قد حال الحسین علیه السلام بدمه الشریف دون هذا الهدف، فالحسین علیه السلام لم یمت، فهو قتیل فی سبیل اللَّه وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ(1) بل یزید هو الذی قتل و قذف بنفسه فی الهاویة، فالإسلام باق و یزید زائل. و هذا هو المنطق الذی نهجه علی بن الحسین علیه السلام فی مسجد الشام، لمّا سمع الأذان و أقرّ الشهادة الثانیة بلحمه و دمه و جسمه و کلّ شی ء فی جسده، لیثبت حیاته من خلال حیاة الرسالة و الشهادة بالنبوّة لجدّه رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، و لم یفلح یزید فی محوه للرسالة، و علیه: فقد کانت حادثة کربلاء- منذ انعقاد نطفتها و مروراً بأحداثها و ما أعقبها من سبی و أسر- عنصر فاعل یفیض حیویّة علی الإسلام.

المنطق الغاشم:

طبعاً، یمکن لمنطق القوّة- الذی یستند إلی القمع و کَمّ الأفواه و التلویح بالحدید و النار- أن یشیع الخوف و الهلع و الرعب و الاضطراب کسحابة فی سماء الامّة، إلّا أنّ فجر الحریة و العدالة إنّما یشقّ لا محالة عباب هذه السحب الزائفة، فینهض حماة الدین لیحطّموا تلک القوی الفارغة. و عوداً علی بدء فإنّ المؤلّف قد ساء فهم وجود الإمام و عدمه، فقد افترض


1- سورة آل عمران: الآیة 169.

ص: 275

أنّ الإمام لو کان حیّاً و أصبح زعیماً للمسلمین و دارت القیادة الإسلامیّة حول محوره، لساد العدل و القسط ربوع العالم الإسلامی، و بالتالی لتحقّقت حکومة العدل التی نتطلّع إلی تشکیلها من قِبل إمام العصر و الزمان عجّل اللَّه تعالی فرجه الشریف، فتزول الفرقیة الطارئة علی الدین و لا تبقی إلّا الطائفة الإمامیة الحقّة التی تمثّل الدین، و حین افترض فقدان الإمام و عدمه ظنّ بأنّ هذا العدم یتضمّن زوال کلّ شی ء بما فیه الإسلام و استفحال الظلم و الجور و الطغیان الیزیدی! و علیه: فیخلص من خلال الفرضین إلی أنّ شهادة الإمام قد أدّت إلی ضرر عظیم لحق بالإسلام العزیز. و هنا یکمن الخطأ الذی ارتکبه المؤلّف فی إطلاق العنان لخیاله فی أن یسرح و یمرح کما یشاء. لنفترض أنّ الحسین علیه السلام قد انتصر- عسکریاً- علی یزید و تولّی الحکم، فهل ستسود الأحکام الإسلامیة و التعالیم القرآنیة حقّاً علی جمیع أنحاء المعمورة، بحیث یشهد العالم الإسلامی المترامی الأطراف اندحار الجهل و الاضطراب و الظلم و الفوضی و سیادة العدل و المواساة و المساواة و الأمن و الاستقرار و ...؟ لا نعتقد بأنّ الأمر کذلک. و بالطبع فإنّ هذا لیس بمتعذّر علی الإمام الحسین علیه السلام فی أن یملأ العالم بهذه المفاهیم السامیة، إلّا أنّ هذا الأمل مشروط باندحار الأشقیاء و الجهّال و الطغاة و إزالة کافّة العراقیل التی تعترض سبیل الإمام، و لا نری لحدّ الآن مَن تمکّن من مثل هؤلاء الزعماء من اجتثاث جذور الظلم و الجور و إبادة صروح الجهل و الحمق و تطهیر المجتمع من دنس الأرذال و الأوباش و الأشقیاء و إخضاعهم لمنطقهم و سلطنتهم. فأیّ من أنبیاء اللَّه طبّق مثل هذه المفاهیم و الأهداف؟ هل استطاع موسی علیه السلام بیده البیضاء و عصاه أن یخلق من بنی إسرائیل مجتمعاً دینیاً متطوّراً و یجتثّ جذور الوثنیة و السامریة؟ فلم تجفّ أرجلهم من الماء حتّی طلبوا من موسی علیه السلام أن یجعل

ص: 276

لهم إلهاً کما کان للآخرین، و فی نهایة الأمر یخبر القرآن عنهم بقوله: وَ ضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْکَنَةُ(1). و هذا نبیّ الإسلام أعظم زعیم عرفه العالم الإنسانی، فرغم جهوده الجبّارة و نجاحه فی نشر رسالة السماء فی أنحاء العالم، إلّا أنّه لم یستطع أن یجعل الإسلام بکماله و تمامه هو الحاکم المطلق للعالم. هل استطاع نبیّ الإسلام إبّان حیاته أن یضع الأئمّة الأطهار علیهم السلام صراحة فی مواقعهم؟ نعم، بعد کلّ تلک المدّة من الزعامة و الجهود المضنیة فی رفع مستوی الامّة و تعویدها علی ممارسات الدین و مفاهیمه و ربطها بعجلة الحضارة و الرقیّ و التمدّن و إنقاذها من الجهل و الوثنیة و التعنّت و التعصّب و المنطق الغاشم لأمثال أبی سفیان و صنمیة أمثال أبی جهل، طرح أواخر حیاته الشریفة قضیة الغدیر التی صرّحت بخلافة علی علیه السلام، فأطلق ذلک الرجل الذی کان قربه- و قد تغذّی علی مفاهیم الإسلام- عبارته المعروفة «إنّ الرجل لیهجر»(2)! هل استطاع الإسلام آنذاک اجتثاث جذور الیهود؟ هل استقطب إلیه النصاری؟ هل استطاع إفهام تلک البشارة الصریحة و المیثاق الغلیظ الذی اشتملت علیه التوراة و الإنجیل بشأن نبوّة محمّد صلی الله علیه و آله و یجعلهم یذعنون لصحّة ما یقول؟ و هل استطاع النبی صلی الله علیه و آله أن یخضع کافّة تلک الحکومات الجبّارة لحکومته و یجعلها تنضوی تحت لواء الإسلام؟ و هذا أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام، أ لم یتزعّم الامّة و یأخذ بزمام الامور؟ أ لم تندفع إلیه الجماهیر و تضطرّه لقبول الخلافة؟ و علیه: فقد امتلک الجیش الجرّار و الإمکانات و ما من شأنه أن یجعل الحکومة تطبّق الأهداف القرآنیة


1- سورة البقرة: الآیة 61.
2- مسند أحمد 1: 760 ح 3336.

ص: 277

المقدّسة، أمّا زعامته و علمه بأوضاع العالم الإسلامی و شجاعته و اقتداره و ارتشافه من ثدی الوحی و تتلمّذه علی ید الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله فحدّث و لا حرج، و لکن أ لم تشهد هذه الزعامة منذ انبثاقها ذلک التمرّد و العصیان، و لا سیّما من أولئک الذین لم یروق لهم عدل علی علیه السلام، فرفعوا لواء المعارضة حتّی زجّوا بالإمام إلی میادین القتال، فکانت أوّلها معرکة الجمل، أ لم یقل القرآن: وَ قَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَ(1) فهل قرّت عائشة فی بیتها أم تزعّمت العسکر لقتال علی علیه السلام، فخاطبها بکلّ حزن و أسی «أ هکذا أمرک رسول اللَّه صلی الله علیه و آله؟»(2). و أخیراً رأینا کیف امتدت زعامة معاویة و اتّسعت رقعتها و مدی الدماء الزکیّة التی أُریقت من أجل تلک الزعامة. و الذی نرید أن نخلص إلیه هو بطلان تصوّر الموفّقیة و النجاح التامّ لأئمّة الدین فی الزعامة، و لو تزعّم الحسین علیه السلام الأمر لعانی ما عانی منه من قبله من الزعماء الربّانیین.

سر عدم النجاح:

لا شکّ أنّ السرّ فی عدم موفقیّة هؤلاء القادة هو أنّ الامّة لیست توّاقة جمیعها للعدالة، کما أنّ الأفکار هی الاخری لیست مطهّرة من الشوائب، فسنّة اللَّه لم تجر بأن تبقی البشریة علی فطرتها و لا تتأثّر بعوامل الانحراف، بل غالباً ما تسیطر الشهوات و الأطماع و الخرافات و الجهل علی العقول، و هذه هی العناصر التی تهدّد الحکومات، و لذلک لیس لقوانین السماء حکومة عادلة موفّقة تماماً من أجل بسط العدل و القسط، فهی لا تستطیع أن تقطع دابر المخلّین بالأمن و الاستقرار و تحول


1- سورة الأحزاب: الآیة 33.
2- المناقب للخوارزمی: 189، مناقب آل أبی طالب لابن شهرآشوب 3: 161، و عنه بحار الأنوار 32: 182.

ص: 278

دون جهلهم و أنانیّتهم، بل هذا هو حال الأکثریة دائماً، القوانین السماویة تتضمّن کافّة مفاهیم العدل و الکمال و الجلال، إلّا أنّها لا تفرض مفاهیمها علی الناس قسراً، فهی تطرح مشاریعها علی الناس «وَ مَن شَاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَن شَاءَ فَلْیَکْفُرْ»(1)، و لا یلومنّ إلّا نفسه. إنّ هدف الأنبیاء هو جمع الناس علی الدین و العبادة التی تکفل الفلاح و السعادة، إلّا أنّ هذا الهدف لم یدخل حیّز التطبیق أبداً: یا حَسْرَةً عَلَی الْعِبادِ ما یَأْتِیهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا کانُوا بِهِ یَسْتَهْزِؤُنَ(2). فالدین الإسلامی الذی جاء لتکامل الإنسان إنّما یمتلک الجهاز القیادی الکامل الذی لا یألو جهداً فی إشاعة مفاهیم القرآن، إلّا أنّهم و بدءاً برسول اللَّه صلی الله علیه و آله و أمیر المؤمنین علیه السلام إنّما اصطدموا بجمّ من الحوادث التی تعرقل مشاریعهم و أهدافهم، و قد بلغت هذه الحوادث ذروتها حتّی صوّرها أمیر المؤمنین علیه السلام:

«فصبرت و فی العین قذی و فی الحلق شجا»(3). و حین تدافعت الامّة لإمارته، و لم یکن له بدّاً من قبولها رغم نفرته منها قال:

«لو لا حضور الحاضر و قیام الحجّة بوجود الناصر و ما أخذ اللَّه علی العلماء أن لا یقارّوا علی کظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقیت حبلها علی غاربها ...»(4) أ لم ینتصر المسلمون فی ظلّ قائدته، و یتّسع نور الإسلام فی أطراف الدنیا؟ أو یمکن تصوّر تقاعس الإمام عن القیام بوظیفته فی الزعامة؟ الواقع هو أنّ الدافع الذی کان یقف وراء رفض الإمام علیه السلام للزعامة هو علمه بهذه الصدور التی ملأت حقداً و غیضاً و طمعاً، فما أکثر أمثال طلحة و الزبیر و معاویة، و لم تکن سیرة علی علیه السلام


1- اقتباس من سورة الکهف: الآیة 29.
2- سورة یس: الآیة 30.
3- نهج البلاغة: 83.
4- نهج البلاغة: 90.

ص: 279

تنسجم و تأمین الطلبات اللامشروعة، و لذلک کان یعلم بأنّ هذه الخلافة التی تطالبه بالتزام جانب الحقّ و العدل و تطبیق الأحکام الإسلامیة و المفاهیم القرآنیة ستؤلّب علیه أعداء الدین، و بغضّ النظر عن کلّ ذلک فقد قبل الخلافة و سار بالعدل و ربط الامّة بدینها و قرآنها إلّا أنّ ثمن ذلک کان باهضاً. و خلاصة القول هو أنّه لا ینبغی أن یظنّ المؤلف بأنّ الحسین علیه السلام لو أطاح بحکومة یزید و أخذ بزمام الامور فإنّه سیتمکّن تماماً من إشاعة الحریة و الفضیلة و مفاهیم القرآن و بسط العدل و القسط و المساواة و الإنصاف، فلو انتصر الحسین علیه السلام و اندحر یزید، فهناک مئات الأفراد من أمثال یزید الذین تلبّسوا بلباس الإسلام، و هذا لیس ذنب الأئمّة صلی الله علیه و آله، بل ذنب هؤلاء المهووسین الذین یمثّلون عقبة کئودة فی طریق أئمّة الدین و زعماء المسلمین. و ما علیک إلّا أن تتأمّل صرخات الحسین علیه السلام یوم عاشوراء، کان نداء مظلومیّة الإمام: علامَ تقاتلوننی، ما ذنبی؟ أو یکون ذنبی فی دعوتکم لی و رسائلکم التی وردتنی أن أقدم علینا فلیس لنا من إمام، فقدمت إلیکم؟ لقد صوّرتم برسائلکم مدی الظلم و الجور بما یجعلنی لا أتریّث فی القدوم إلیکم، أولم یر المؤلّف أنّ جواب هذه الصرخات المظلومة کان قد تمثّل بالتهلیل و التصفیر و السخریة و السبّ و الشتم.

فغدوا حیاری لا یرون لوعظه سوی الأسنّة و الرماح جواباً(1)

فلیوقن المؤلّف العزیز بأنّ الإمام علیه السلام حتّی لو فتح الکوفة، لما واجه من أولئک الأقزام سوی ذلک الجواب، طبعاً ستقف الطائفة المؤمنة الغیورة إلی جانب الحسین علیه السلام و تهبّ للدفاع عنه، غیر أنّ ناهبی بیت المال و قطّاع الطرق و اللصوص


1- أعیان الشیعة 7: 26، و القصیدة بکاملها للسیّد رضا بن هاشم الرضوی الموسوی اللکهنوی.

ص: 280

سوف لن یقفوا مکتوفی الأیدی. إذن، فالصورة الاولی التی رسمها المؤلّف- و التی تمثّل حلماً لذیذاً- لا یمکن قبولها بأیّ شکل من الأشکال.

الصورة الثانیة:

نرید أن نری هل أنّ حادثة کربلاء و فقدان القائد و وقوع الامّة فی قبضة یزید کانت ضرراً علی الإسلام أم نفعاً؟ و لو کانت نفعاً فهل نبارک للأفراد الذین صنعوا هذه الحادثة المؤلمة، أم لا بدّ أن ندینهم و نلعنهم إلی یوم القیامة؟ لقد أشرنا باختصار إلی أنّ حادثة کربلاء قد انطلقت لصالح الإسلام منذ ولادتها، و قد فشلت کافّة مخططات معاویة و مؤامراته و أمواله الطائلة التی أنفقها فی إطار معاداة علیّ و أهل بیت النبوّة و الرسالة علیهم السلام، و کان الفضل فی ذلک لرکب الأسری و السبایا الذی خاطب الرأی العام فی کلّ مکان و فضح یزید و کشف مظلومیة الحسین علیه السلام، و الأهمّ من ذلک ما لعبته هذه الحادثة آنذاک من دور فی التسلّل إلی أفکار یزید، فیزید کان عازماً- منذ الیوم الأوّل لتربّعه علی عرش السلطة- علی القضاء علی الإسلام و إبادة القرآن، و التذکیر و الاعتزاز بعصر الآباء و الأجداد، و التغنّی بالأصنام و الأوثان، فکان شعاره المشئوم.

لَعبت هاشمُ بالملک فلاخَبَرٌ جاءَ و لا وَحیٌ نَزَل(1)

إلّا أنّ یزید نفسه قد استوقف تنفیذ هذه الخطّة بصورة موقّتة، و قد علم بأنّ علیه أن یتحمّل الضربات تلو الضربات و ینتظر زعزعة حکمه إذا أراد أن یقضی علی الإسلام و یقتل الحسین علیه السلام، و لا شکّ أنّ ذلک التوقّف کان معلولًا لحادثة


1- تقدم فی ص 207.

ص: 281

کربلاء و قافلة الأسری. و إذا أردت أن تقف علی هذا المعنی فتأمّل ما قاله یزید بعد شهادة الحسین علیه السلام و هو یقارن بینه و بین الإمام: «فلعمری ما أحد یؤمن باللَّه و الیوم الآخر یری لرسول اللَّه فینا عدلًا و لا ندّاً»(1). لا شکّ أنّ یزید ینطق بذلک خداعاً، فهو لا یؤمن برسول اللَّه صلی الله علیه و آله إلّا أنّ الحادثة اضطرّته إلی ذلک لیثنی علی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، و إلّا فقد أنشد:

لعبت هاشمٌ بالملک فلاخَبَرٌ جاءَ و لا وحیٌ نَزَلْ

لَستُ من خَندف إن لم أنتقم من بنی أحمد ما کان فَعَل(2)

نعم، کلّما قام زُعماء الدین و إن قتلوا و من معهم من أتباعهم فإنّ أهدافهم و مشاریعهم دخلت حیّز العمل و التطبیق، غایة ما فی الأمر أنّ ذلک یستتبع التضحیة و الفداء و فقد الأحبّة، و إلّا فالشهادة هی تحقیق الهدف، لقد استشهد الحسین علیه السلام إحیاءً للسنّة، و حقّاً کان إحیاؤها بشهادته، لو لم ینهض الإمام و یتحمّل بصبر تلک المصائب و قتل الأحبّة و سبی النساء، لما بقی من الإسلام إلّا اسمه، و من القرآن إلّا رسمه و لعلا صرح یزید و عبید اللَّه و تحطّم صرح الدین، نهضة الحسین علیه السلام و تضحیاته العظیمة هی التی حالت دون بلورة خطط یزید، بل نهضة الحسین علیه السلام فضحت حکومة بنی امیّة و عرفت الامّة بشخصیة یزید، و نهضة الإمام الحسین علیه السلام أثبتت أصالة الإسلام و حفظت القرآن. و هذا غیض من فیض آثار تلک الشهادة فی أوائل واقعة کربلاء الألیمة.

معطیات الحادثة بعد وقوعها:

ربّما لا ینضب الحدیث فی هذا المجال، فالمدرسة الحسینیة مدرسة الحریة


1- تاریخ الطبری 4: 355.
2- تقدم فی ص 207.

ص: 282

و التحرّر، و کلّ ثائر فی الإسلام إنّما یستصغر شأنه و دمه مقارنة بالحسین علیه السلام و استمداداً للعزم منه. المدرسة الحسینیة مدرسة الشرف و الشجاعة و المساواة و التضحیة من أجل إنماء شجرة الإسلام، لقد تعلّم شهداء المدرسة الإسلامیة دروس الفداء و التضحیة من هذا الرجل الربّانی أبی الأحرار و الثورة، و التأمّل فی الحدیث القائل بأنّ کلّ مسجد إنّما بنی بفضل دم شهید سفک لا یفید سوی الإقرار و الشهادة علی صحّة هذا الحدیث، فما المساجد و المعابد التی تشکّل مراکز العبودیة إلّا قبسات من شعاع الحسین علیه السلام و تضحیاته الحسام، لقد استشهد الحسین علیه السلام، أمّا الإسلام فقد التقط أنفاسه و تجدّدت حیاته. نعم، إنّما أحرقت خیام الحسین علیه السلام لتُقام خیام الإسلام التی تنشر معارف الدین و أحکام القرآن إلی یوم القیامة، لقد أصبح الحسین علیه السلام و الإسلام الیوم بمثابة «الصورة و المادّة» و صار الحسین علیه السلام هو الفصل الممیّز للإسلام.

الحسین علیه السلام و الإسلام:

لا یسع الأحرار من محقّقی الأدیان و مفکّریها فی بحثهم لحقیقة الدین إلّا من خلال الإمام الباذل لمهجته، و قد تعرّفت الدنیا الیوم و من خلال دراستها لحادثة کربلاء علی منهج الإسلام و مفاهیم هذا الدین الحنیف، فکانت برکة بطلها هذا التشیّع الذی ساد و ما زال یسود کافّة بقاع الأرض، فقد عاش المذهب الاثنا عشری ردحاً من الزمن حیاته خلف الحُجب و لم یستطع الأئمّة الأطهار علیهم السلام من التعرّض علناً لمسألة من مسائله علی أساس فقههم دون اللجوء إلی التقیّة و الحذر من العدوّ، بینما غدا ببرکة الحسین علیه السلام مذهباً رسمیاً یظهر ملایین البشر من خلاله تشیّعهم لیمارسوا حیاتهم و تعالیمهم بالانضواء تحت لواء الإمام الصادق علیه السلام زعیم المذهب.

ص: 283

و بالطبع، لا یمکن أن تورق ثمار هذه الشجرة التی نبتت عروقها من دم الحسین علیه السلام علی مدی الزمن القریب، و لا ینبغی الظنّ بأنّ صرخة الإمام کانت من أجل إنقاذ تلک الثلّة فی ذلک الزمان المحدود، أ فلا تعلمون أنّ الإمام علیه السلام عظیم و عملاق و علی سعة من الفکر بحیث یستوعب ملیارات الأفراد علی مدی تقادم الزمان، و هذا سرّ تسطیره لتلک الحادثة. ولیت شعری أیّ منطق هذا الذی دعا المؤلّف للخوض فی فوائد حادثة کربلاء فی ذلک الزمان؟ لیخلص إلی أنّها أدّت إلی زیادة شوکة یزید و حبس الأنفاس فی الصدور و ذلّة الامّة و هوانها تجاه السلطة الأمویّة الغاشمة! فإذا کان الأمر کذلک، فقل قتال أمیر المؤمنین علیه السلام لمعاویة فی صفّین قد أذلّ المسلمین و سبّب هوانهم، و علی ضوء استنتاجک فإنّ صفّین وجّهت صفعة أقوی للإسلام، و جرّت علیه الضرر الأکبر إذا ما نظرت إلی عدد القتلی و فقدان الأولیاء و ظهور فتنة الخوارج، و أخیراً تفاقم قدرة معاویة و استحکام خلافته دون منازع!! و هنا یمکنک القول بأنّ علیاً علیه السلام قد خاض قتال معاویة قسراً، و لم یکن جهاده ابتدائیاً بل کان دفاعاً عن النفس! و لنا أن نسأل: أ لیس علیّ إماماً مفترض الطاعة و مصوناً عن الخطأ و عالماً بالأحداث؟ أ فَلَم یتّجه لقتال معاویة عالماً عامداً؟ بلی، یبدو أنّ الأمر لم یتمّ لصالح الإمام و قد تمکّن معاویة من اعتماد البدعة و الخداع، و لکن ما نتیجة الأمر؟ أ لم یکن قتال معاویة ضروریاً؟ کیف نقیم الأحکام التی یصدرها التأریخ الیوم بشأن معاویة؟ ما عاقبة معاویة؟ کیف ینظر العالم لعلی علیه السلام؟ کیف تری قبر معاویة و المرقد المطهّر لعلی علیه السلام، ما ذا یقول القرآن بشأن علیّ علیه السلام؟ هل حفظ علیّ الإسلام أم قضی علیه؟ لو هادن الإمام حکومة

ص: 284

معاویة أ کانت تنشب معرکة صفّین؟ و لو صغی الإمام لنصیحة المغیرة بن شعبة أ کان یسع معاویة فی تلک الفرصة المقتضبة أن یطالب بدم عثمان؟ ما ذا دهی علی علیه السلام لیجیب المغیرة بهذه القوّة «لا أستعمل معاویة یومین»(1)، کما ردّ علی اقتراح ابن عباس بالإبقاء مؤقّتاً علی معاویة فی الشام: «و اللَّه لا أعطیه إلّا السیف»(2).

و أخیراً ما ذا قال لشبث بن ربعی حین بعثه مع سعد بن قیس الهمدانی و جماعة إلی معاویة و إقراره بطاعة الإمام علیه السلام، فسأله ابن ربعی: و إن لم ینزل علی طاعتک فهل أنت مولیه؟ فقال علیه السلام: «إنَّکَ لَا تُسِمعُ الْمَوْتَی وَ لَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِینَ» الخ(3)(4). إذن، فلم تکن معرکة صفّین خارجة عن علم الإمام، فالإمام یعلم أنّه لو أطلق العنان لمعاویة فی الشام لما فکّر قط بالمطالبة بدم عثمان، الذی کان معاویة حریصاً تماماً علی سفکه، و رغم هذا العلم و الاطّلاع لم یکن علی علیه السلام مستعدّاً للإبقاء و لو لیومین علی مهادنة ذلک الجبّار الغاشم المعادی للإسلام و المسلمین، الذی شیّد قصره علی جماجم الضُّعفاء و المحرومین و هضمهم حقوقهم و نهب أموالهم و استباح بیت مالهم. نعم، الذنب ذنب معاویة الذی لم یذعن للحقّ و ینقاد له. فلو قلنا بعدم علم الحسین علیه السلام بحادثة کربلاء و أنّها أضرّت بالإسلام و قد اضطرّ الإمام فیها للدفاع عن نفسه، وجب علینا أن نرسم مثل هذه الصورة الزائفة لکافّة معارک أمیر المؤمنین علیه السلام و بعض حروب و غزوات النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله!! و لا یسعنا هنا أن نقول إلّا ما قاله الحسین علیه السلام: «فعلی الإسلام السلام»(5).


1- الکامل لابن الأثیر 3: 197.
2- الکامل لابن الأثیر 3: 197.
3- سورة النمل: الآیة: 80- 81.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 4: 14- 22.
5- الملهوف: 99، و عنه بحار الأنوار 44: 326.

ص: 285

إلّا أنّ الضمائر الحیّة و الأفکار الحرّة لا تتعاطف قطّ و هذه الصورة الفارغة، فالدنیا برمّتها تری الیوم أنّ حیاة الإسلام و عزّة المسلمین مرهونة بتلک النهضة الکبری و تضحیة اولئک الفتیة و سبی تلک الصفوة. نعم، کان الأسر من الأهداف المرسومة للنهضة، و التضحیة و الفِداء منتهی طموحها، و فی قتل أبی الفضل العباس دروس و عِبَر فی تعلیم الإخاء و الفضل و الإباء، و ما زالت و ستبقی هذه الحادثة تدمع العیون و تبکی القلوب، و إلی جانب هذه الدموع بحار من المحبّة و الرحمة التی یسبح فیها المجتمع الشیعی، و الحسین علیه السلام بطل الحریة و العدالة هو الذی شقّ عباب هذا البحر و جعل أمواجه تفیض غیرة و حرصاً علی بناء الدین و تماسک قواعده. نعم، هذا غیض من فیض من معطیات نهضة الحسین علیه السلام و حادثة کربلاء الملحمیة، التی تتضاءل لدیها الأفکار و تجفّ الأقلام. سؤال: لو کانت لحادثة کربلاء مثل هذه المعطیات، و قد أدّت إلی قوّة شوکة الإسلام و انهیار دعائم الظلم و الجور، لم اصطلح الأئمّة علیهم السلام علیها بالمصیبة؟ فقد ورد فی زیارة عاشوراء «یا لها من مصیبة ما أعظمها و أعظم رزیّتها فی الإسلام»(1). جواب: طبعاً مصیبتها فی أنّها لِمَ حدثت و أَوْدت بحیاة هؤلاء الفتیة و بتلک الطریقة البشعة التی تدمی القلوب، أمّا ثمرتها فلولا وقوعها لما بقی للإسلام الیوم من أثر، و بتعبیر أوضح: مرض عضال ممیت، و قد شخّص الطبیب علاجه بقطع الساق


1- کامل الزیارات: 330 ح 556.

ص: 286

الیسری للمریض و بخلافه یموت، فما عسی أن یشعر به والد المریض و والدته؟

لیس سوی الحزن و السرور، فالحزن لقطع ساق ولدهم و السرور لعدم موته، فشجرة الإسلام کانت تشهد الذیول و التآکل بسبب حکومات الجور و الفساد، و قد اجتهد یزید و عبید اللَّه علی اقتلاع شجرة الإسلام المبارکة، و لیس هناک من وسیلة لحفظها سوی دم الحسین علیه السلام، کانت هذه الأفکار لا تفارق ذهن الإمام التی جعلته یتّجه لعدّة لیال إلی قبر رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، لیس هنالک من سبیل سوی «لا أری الموت إلّا سعادة»(1) و إلّا مات الإسلام، آنذاک ستقطع تلک الأیادی الأثیمة التی تنوی العبث بعروق شجرة الإسلام، و هنا تبلورت حادثة کربلاء، و علی الإمام أن یُمارس دوره فی هذه التربة. و لم تکن هذه الفکرة مقتصرة علی الإمام علیه السلام، فقد تکهّن بها مسبقاً، لا بدّ أن تشهد هذه التربة سفک الدماء المقدّسة لُاولئک الفتیة، لیستعید الإسلام حیویّته، فلتسفک الدماء، و لیقف یزید عند حدّه. و یشاهد امناء الإسلام و حماة العقیدة- الأئمّة الأطهار علیهم السلام- هذه الصورة، فهم مسرورون لبقاء القرآن و دیمومة الإسلام، و فی ذات الوقت محزونون لهذه الحادثة و المصاب الجلل. لِمَ بلغت الامور بالإسلام فی ظلّ هذه الحکومات الفاسدة هذا المأزق، و لم تعد هنالک من وسیلة لعلاجه و بعث الحیاة فیه سوی سفک دم الحسین علیه السلام؟ لم کان الثمن دم هؤلاء الصبیة و بتلک الطریقة المروّعة؟ لِمَ کربلاء؟ فالحادثة مصیبة و أعظم مصیبة، و هل من مصیبة أعظم من تلقّی الإسلام للضربات تلو الضربات أو الحیلولة دونها بإراقة دماء الطهر و العفّة و الفضیلة بأیدی السفّاحین المتعطّشین للدماء؟ إذن، فکربلاء إذا نظر إلیها من تلک الزاویة فهی مصیبة جلل، إلّا أنّها بالنظر إلی هذه الزاویة فتح و انتصار، یوم سرور الإسلام الذی التقط أنفاسه إثر هذه


1- حلیة الأولیاء 2: 39، و عنه مناقب آل أبی طالب لابن شهرآشوب 4: 68.

ص: 287

الحادثة. إذن، یمکن النظر إلی هذه الحادثة من زاویتین: 1- النظر إلیها من ذلک الجانب الفاسد الذی یسدّد الضربات الموجعة و المؤلمة، و التی لا یمکن تفادیها إلّا من خلال تضحیة الإمام! 2- النظر إلی المعطیات الدائمة التی أفرزتها النهضة و تمخّضت عنها تلک الحادثة. فالحادثة علی ضوء النظرة الاولی مصیبة و رزیّة، بینما علی أساس النظرة الثانیة نعمة و سلامة، و علیه: فالأئمّة علیهم السلام إنّما یستندون إلی النظرة الاولی- لا الثانیة- فی وصفهم لتلک الحادثة بالمصیبة. و علیه: فلا منافاة بین نعتها بالمصیبة من قبل الإمام مع تلک المعطیات التی لم تفرزها سوی طبیعة تلک الحادثة، و أمّا علی ضوء النظرة الثانیة فکربلاء لوحة عشق تفیض عذوبة و رقّة و نوراً، ستسطع أشعّته إلی الأبد، و قد أشرقت فی أُفقها شمس الإمام لتُنیر کلّ دیاجیر الظلام، الأمر الذی یجعل الأئمّة علیهم السلام ینظرون إلیها بعین الفرح و السرور. و لا بأس هنا بسماع الکلمات الناطقة باسم أهل البیت، مخدّرة حیدر و بطلة کربلاء و زعیمة رکب الاساری، و هی تذکّر الامّة بصولات علی علیه السلام و خطبه فی الکوفة، و لا عجب فقد رضعت هی الاخری من ثدی الوحی، الأمر الذی جعل لها مکانة خاصّة عند الحسین علیه السلام، لقد تمثّل الملعون یزید بأشعار ابن الزبعری مسروراً بدرک ثأره من تلک المعارک و لا سیّما موقعة بدر، علی أنّه قتل القوم من ساداته و عدله ببدر فاعتدل، فلمّا سمعت زینب مقالته ردّت علیه قائلة بعد أن حمدت اللَّه و أثنت علیه: «أ ظننتَ یا یزید حیث أَخَذْتَ علینا أقطار الأرض و آفاق السماء فأصبحنا، نُساق کما تُساق الأُساری، أنّ بنا علی اللَّه هواناً، و بک علیه کرامة؟ و أنّ ذلک لعظم

ص: 288

خطرک عنده، ... فشمخت بأنفک، و نظرت فی عطفک جذلًا مسروراً، حین رأیت الدنیا لک مستوسقة و الامور لک متّسقة، و حین صفا لک ملکنا و سلطاننا، مهلًا مهلًا! أ نسیتَ قوله تعالی: وَ لا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِینٌ(1) ... و سع سَعْیَکَ و ناصِبْ جَهدک، فو الله لا تمحونّ ذکرنا، و لا تمیت وحینا، و لا تدرک أمدنا، و لا ترضی عنک عارها، و هل رأیک إلّا فندا، و أیّامک إلّا عددا، و جمعک إلّا بددا، یوم ینادی المنادی: ألا لعنة اللَّه علی الظالمین»(2). و نلاحظ کیف نظرت ربیبة علی علیه السلام من خلال اعتماد الزاویة الثانیة للحادثة، لتمیط اللثام عن وجه یزید و نیّاته المبیَّنة للإسلام و القرآن، فهی تبطل تصوّره الفاسد بالقضاء علی الإسلام، و تقول له: هل یمکن إماتة الوحی، فلیس للقرآن من زوال ما دام فی أهل البیت عرق ینبض، إنّ الحسین علیه السلام هو الذی قضی علیک و أفشل مخطّطاتک. و علیه: فمراد الأئمّة علیهم السلام بکون الحادثة مصیبة هو ما مرّ سابقاً، و إلّا فحادثة کربلاء کانت بمثابة الدم الذی یجری فی العروق بالنسبة للإسلام و القرآن.

الکتاب و الخطأ الرئیسی الثالث

اشارة

الکتاب و الخطأ الرئیسی الثالث(3)

الدفاع الشخصی! السلام المشرِّف! الاقتراحات الثلاث! لا یمکن أن تکون ثمرة الدفاع عن النفس هی الشهادة من أجل إحیاء الإسلام و القرآن، و لیس


1- سورة آل عمران: الآیة 178.
2- الملهوف: 215- 218، و عنه بحار الأنوار 45: 133- 135.
3- ألمحنا سابقاً إلی عدم ضرورة إفراد بحث لمناقشة هذا الخطأ، علی أنّ الردّ علیه إنّما یتّضح من الإجابة علی الخطأین الماضیین، و لکن لا بأس بإلقاء المزید من الضوء علی هذا الموضوع لأهمّیته.

ص: 289

هنالک من مصدر صریح صحیح بشأن السلام المشرّف! کما أنّ ذلک الصلح لیس بمشرّف! و لا یعقل اقتراح مثل هذا السلام من قِبل الإمام! کتب المؤلّف فی ص 204- 205: «حین حُوصر الإمام من قِبل قوّات عبید اللَّه بن زیاد، بعث بکتاب إلی عمر بن سعد یخبره فیه بالرغبة بالاجتماع به لیلًا ... عقدت الجلسة السّریّة بین الإمام و ابن سعد ... و قد استغرقت الجلسة وقتاً طویلًا ... و لم یعلم من تلک المفاوضات سوی ثلاثة اقتراحات تقدّم بها الإمام، و من شأن قبول أیّ واحد منها إقرار الصلح و السلام! ابن سعد من جانبه أعرب عن ارتیاحه لاقتراحات الإمام، فبعث بکتابه إلی عبید اللَّه بن زیاد ... و قد کانت اقتراحات الإمام تحمل کلّ معانی الخیر و السلام، بحیث کان لها أثر بالغ علی ابن زیاد ... و کتب فی ص 206 تحت عنوان «تقریر غلام جاهل»: «روی عن عقبة بن سمعان- أحد غلمان قافلة الإمام الحسین علیه السلام- أنّه قال: لم یقترح الإمام الحسین علی ابن سعد سوی الرجوع إلی الحجاز.

ملاحظة:

کانت هذه هی العبارات التی سطّرها مؤلّف کتاب «شهید جاوید» بشأن السلام المشرِّف. و هنا نسأل المؤلّف: ما مرادک باقتراحات الإمام الثلاثة و التی أسمیتها فی الصفحات اللاحقة بالصلح المشرِّف؟ و هل یمکن صدور مثل هذه الاقتراحات من الإمام؟ و هل یُسمّی ذلک الصلح بالمشرّف(1)؟

ما هی الاقتراحات الثلاث؟

ما ذا یقصد المؤلّف بالاقتراحات الثلاث؟ لِمَ لَمْ یذکرها؟!


1- شهید جاوید: 251.

ص: 290

الاقتراحات الثلاث علی ضوء نقل الطبری (ج 4 ص 313) و الکامل لابن الأثیر (ج 4 ص 54) هی عبارة عن: 1- الرجوع إلی مکّة أو المدینة. 2- أن یضع الإمام یده بید یزید لیری فیه ما یشاء. 3- یسیروا به إلی أیّ ثغر. هذه هی اقتراحات الإمام علیه السلام- من وجهة نظر أعداء الإمام- هل یری المؤلّف أنّ هذه هی الاقتراحات الثلاث، أم هناک غیرها؟ طبعاً لا یقصد سواها، و الدلیل ما أورده من قرائن فی کلامه من قَبیل: أنّ الإمام فاوض عمر بن سعد، و تقییم ابن سعد للمفاوضات و أنّها إیجابیة، و قد وافقه علیها عبید اللَّه. نعم، هذه هی القرائن؛ لأنّ عمر بن سعد المراوغ و عبید اللَّه بن زیاد- ابن الزنا- یریان أنّ ذلّة الإمام مفیدة، و أوضح جمیع تلک القرائن هی الهوامش التی ذکرها المؤلّف عن کتاب الطبری و الکامل لابن الأثیر المختصّة بالصلح و الاقتراحات الثلاث. و بناءً علی ما تقدّم فهذا هو مراد المؤلّف بالاقتراحات الثلاث- التی ذکرت بصورة مبهمة و غامضة فی الکتاب-، إلّا أنّ الأهمّ هو أنّ المؤلّف کان فی مقام إثبات صحّة إسناد تلک الاقتراحات إلی الإمام، فأراد أن یقول بأنّ الإمام علیه السلام قد طرح مثل هذه الاقتراحات من أجل الصلح، و لا یقتصر هذا الکلام علی الطبری و ابن الأثیر، بل إنّ المؤلّف یقول بأنّ هذا النقل صحیح، و أنّ الإمام قد أجری المفاوضات مع عمر بن سعد بتلک المقترحات من أجل إحلال السلام، و ذلک لأنّ المؤلّف شدّد علی متابعة عقبة بن سمعان علی أنّه غلام جاهل، لا اطّلاع له، و هو غلام مُطیع، و قلّما یقوم الغلمان الذین تقتصر وظائفهم علی الطاعة و الخدمة بنقل

ص: 291

وقائع المفاوضات السرّیّة، و لیس لعقبة من ذنب فی هذه الحملة الشعواء و الاستخفاف سوی أنّه قال: «صحبت حسیناً فخرجت معه من المدینة إلی مکّة، و من مکّة إلی العراق و لم أفارقه حتّی قتل، و لیس من مخاطبته الناس کلمة بالمدینة و لا بمکّة و لا فی الطریق و لا فی العراق و لا فی عسکر إلی یوم مقتله إلّا و قد سمعتها، ألا و اللَّه ما أعطاهم ما یتذاکر الناس و ما یزعمون من أن یضع یده فی ید یزید بن معاویة، و لا أن یسیّروه إلی ثغر من ثغور المسلمین، و لکنّه قال: دعونی فلأذهب فی هذه الأرض العریضة حتّی ننظر ما یصیر أمر الناس»(1). أضف إلی ذلک فإنّ المؤلّف یستدلّ بعبارة للحرّ یوم عاشوراء من أجل البرهنة علی استدلاله و عدم اطّلاع عقبة. إذن، لا بدّ من الجزم بأنّ قصد المؤلّف من الاقتراحات المبهمة هو تلک الاقتراحات، و قد أیقن بصدورها من الإمام علیه السلام، و أنّ هذا ما قاله الإمام لابن سعد و صدق الطبری و ابن الأثیر فی نقلهما. جدیر بالذکر أنّ المفاوضات مع ابن سعد کانت فی الیوم السابع لثلاث قبل عاشوراء حسب قول الطبری و ابن الأثیر، بحیث سدّت شریعة الماء علی الحسین علیه السلام، و لم یعد هنالک من أمل بالنصر، و لا یستبعد أن یکون الإمام قد عقد جلسة سرّیّة مع عمر بن سعد لیلة عاشوراء.

ملاحظة:

تضمّنت الصفحات (213، 214، 215) ثلاثة امور مطلوبة من قِبل الإمام: 1- الطلب الأوّل للإمام: إنشاء الحکومة الإسلامیة و ... 2- الطلب الثانی- بعد الیأس من إنشاء الحکومة و الشعور بالفشل-: الصلح


1- تاریخ الطبری 4: 313، الکامل لابن الأثیر 4: 54 باختلاف.

ص: 292

المشرِّف، و هذا طلب اضطراری قطعاً. 3- الطلب الثالث: الدفاع عن النفس بحکم الضرورة و الاضطرار. ما ذا یقصد المؤلّف بالصلح المشرّف؟ هل هی الاقتراحات الثلاث من قِبل الإمام الحسین علیه السلام علی عمر بن سعد؟ نقول بقوّة: لیس سوی ذلک، لأنّ الطلب الثانی بعد الیأس من النصر، و الیأس من النصر- حسب زعم المؤلّف- حصل عند مفاوضة عمر بن سعد بشأن الصلح؛ لأنّه یقول: «یبدو أنّ هذا الأمر طبیعی جدّاً، حیث سعی الإمام فی مفاوضاته السرّیّة الاولی أن یقنع عمر بن سعد بالالتحاق بمعسکره و الانطلاق معاً إلی الکوفة». و علیه: فالیأس المطلق من النصر کان حین حُوصر الإمام علیه السلام من قِبل جیش عبید اللَّه بقیادة عمر بن سعد و لم یعد هنالک من أمل. و هنا تتّضح حقیقة الطلب الثانی للإمام الذی یسمّی بالصلح المشرِّف، و یمکن تسمیته بالطلب الاضطراری، و هذا الصلح هو فی الواقع المقترحات الثلاث التی نقلها ابن الأثیر و الطبری. و لمّا کان المؤلّف یعتقد بأنّ هذه المقترحات صدرت من الإمام حین الیأس من النصر، فلا بدّ أن یعتبر الصلح المشرف هو هذه المقترحات الثلاث التی تمثّل الطلب الثانی للإمام!! أمّا الشهادة فهی الطلب الثالث للإمام علیه السلام، و یوضّح المؤلّف هذه العبارة قائلًا:

«أی بعد أن رفض أعوان یزید اقتراح الصلح و أیقن الإمام بأنّه إذا استسلم سیُقتل ذلیلًا کما فُعل بمسلم بن عقیل، لم یکن من الإمام لمّا تعرّض لهجوم الأعداء سوی الدفاع عن نفسه حتّی استشهد». «رفض أعوان یزید الصلح» یعنی لو وضع الإمام یده بید یزید فإنّ ذلک لا یروق لأعوان یزید، و لمّا رفضوا استسلم الإمام دون قید أو شرط- العیاذ باللَّه-،

ص: 293

لقد رأی أنّ قتله حتمیّ؛ لأنّه إن استسلم فهو مقتول أیضاً، آنذاک دفعه الاضطرار لقتالهم حتّی نال الشهادة. هذه خلاصة أفکار المؤلّف حول الشهادة، و أسمینا هذه المعرکة دفاعاً عن النفس، و بناءً علی زعمه هذا، لم یکن قتل الإمام فی کربلاء أکثر من دفاع عن النفس، و أیّ دفاع؟ دفاع بعد الاستسلام و الذلّة- نعوذ باللَّه- التی لم تَرق لأعوان یزید.

تکرار:

لقد اتّضحت أفکار المؤلّف بشأن صلح الإمام و الاضطرار إلی الدفاع فی یوم عاشوراء، مع ذلک نعرض بصورة سریعة إلی آراء المؤلّف. کانت نهضة الحسین علیه السلام تهدف إلی الإطاحة بحکومة یزید و الأخذ بزمام الامور، و قد فشلت هذه النهضة رغم استنادها إلی بعض العناصر المعتمدة، و ذلک لأنّ الآمال تبدّدت و تحوّلت إلی یأس، و لا سیّما بعد مفاوضة عمر بن سعد و اقتراح الإمام علیه سرّاً الالتحاق بصفّه و الانطلاق نحو السیطرة علی الکوفة. إذ ذاک تغیّرت خطّة الإمام، فاقترح الصلح سرّاً علی عمر بن سعد. کانت بنود الصلح تتضمّن ثلاث مقترحات و للحکومة العمل بأیّ منها: أمّا أن یسمح للإمام بالعودة إلی المدینة! أو أن یضع یده الشریفة بید یزید! هذه هی المقترحات المشرّفة التی لا تتنافی و شأن الإمام! إلّا أنّ عمر بن سعد رغم اعتباره مفاوضة الحسین علیه السلام مفیدة و رغم موافقة ابن زیاد بعد اطّلاعه علی الأمر من قِبل ابن سعد، إلّا أنّ القوّة الحاکمة رفضت اقتراحات الإمام، و لم یتمکّن الإمام بحسن نیّته من حسم المشکلة. لقد فشلت خطّة السلام المقترحة من قِبل الإمام، و علیه: فلا بدّ من اختیار الطریق الثالث. و هل هنالک سوی إظهار العجز و الاستسلام؟ هذه هی الفکرة التی

ص: 294

خطرت علی ذهن الإمام، إلّا أنّ هذه الفکرة لیست صحیحة، فأبن بنت رسول اللَّه صلی الله علیه و آله قد رأی بعینه بأنّ مسلم بن عقیل قد قُتل رغم استسلامه، و علیه:

فإذا استسلم هو قتل! فهل من سبیل سوی الدفاع عن النفس إلی آخر قطرة دم؟ أم یستسلم للقتل بهذه السهولة دون الدفاع عن نفسه! إذن لو کان الإمام علیه السلام یری خلاصه فی الاستسلام لما قاتل! قاتل حیث لم یکن من سبیل سوی القتال! قاتل دفاعاً عن نفسه! و مرادنا من «الدفاع عن النفس» الذی یقول به مؤلّف «شهید جاوید» هو هذا المعنی کما تثبته دراساته و تأمّلاته لحادثة کربلاء و قتال الإمام الحسین علیه السلام!! و لا ندری أ نردّ علی هذه الترّهات أم نترک ذلک للإخوة القرّاء الأعزاء. و نری أن نردّ عسی المؤلّف المحترم یتدارک ما فرط من أمره و یطهّر کتابه من تلک الشوائب. إلّا أنّنا سنردّ بصورة مختصرة.

هل للإمام أکثر من هدف؟

لیس للإمام علیه السلام فی نهضته أکثر من هدف، واحد، و هو إحیاء الحقّ و إزهاق الباطل. بعبارة أُخری: إحیاء سیرة النبی و سنّته و إماتة البدع و الشهوات التی تلاعبت بمصیر المسلمین باسم الدین، و هذا ما جری کِراراً و مِراراً علی لسان الإمام فی خطبه التی أوردها خلال حرکته، کانت نهضة الإمام علیه السلام تهدف إلی إیقاف الظالمین عند حدودهم و إزالة آثار الفساد و الانحراف، و إشاعة مفاهیم القرآن فی الحلال و الحرام، و الوقوف بوجه الحکومات الجائرة من عبدة الأهواء و الشهوات، و إنقاذ المسلمین من براثن حکومة یزید الفاجر، هذا هو هدف الإمام. و لتسلیط المزید من الضوء علی هدف الإمام، نری من الضروری التعرّف علی بعض خطب الإمام علیه السلام خلال المسیرة.

ص: 295

قال الإمام علیه السلام مخاطباً أصحابه و عسکر الحرّ فی «البیضة»: «ألا و إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشیطان، و ترکوا طاعة الرحمن، و أظهروا الفساد، و عطّلوا الحدود، و استأثروا بالفی ء؛ و أحلّوا حرام اللَّه و حرّموا حلاله، و أنا أحقّ من غیّر ....»(1). و خطب فی «ذی حُسم» فقال: «أ لا ترون أنّ الحقّ لا یُعمل به، و أنّ الباطل لا یُتناهی عنه، لیرغب المؤمن فی لقاء اللَّه محقّاً، فإنّی لا أری الموت إلّا شهادة و لا الحیاة مع الظالمین إلّا برماً»(2). فقد اتّضحت بجلاء خلال هاتین الخطبتین دوافع النهضة، و هدف الإمام منها، فلیس للإمام علیه السلام سوی هدف واحد، و لم یخطّط سوی من أجل تحقیق هذا الهدف، و خطّته قتال السلطة الیزیدیة الحاکمة حتّی الموت و نیل الشهادة و اختیار مجاورة الرحمن. إذن، فالهدف واحد، و الخطّة اللازمة لتحقیق هذا الهدف لا بدّ أن تکون واحدة أیضاً، و هی «القتال حتّی الشهادة» فالخطبتان کانتا إجابة لذلک السؤال. و هنا یبرز هذا السؤال: لم تُسفر هذه الدراسة إلّا عن نتیجة واحدة، و هی أنّ هدف الإمام من هذه النهضة هو الوقوف بوجه الفساد و الانحراف و إحیاء سنّة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، إلّا أنّ الإمام اعتمد ثلاثة مشاریع من أجل تحقیق هذا الهدف: 1) السیطرة علی الحکومة، 2) الصلح المشرِّف!، 3) الدفاع! فلو سیطر الإمام علی الحکومة لظفر ببغیته، و إلّا فالصلح المشرِّف، ثمّ إعادة تنظیم القوّة و الاستعداد من جدید للقتال، فإن لم یکن ذلک فالدفاع عن النفس حتّی نیل الشهادة. إذن فقد کان للإمام علیه السلام ثلاث خطط من أجل تحقیق هدف واحد، ألا و هو إحیاء السُنّة و إماتة البدعة.


1- تاریخ الطبری 4: 304.
2- تاریخ الطبری 4: 305.

ص: 296

جواب: هل من عبارة بشأن الصلح فی خطب الإمام علیه السلام؟ و هل یفکّر فی الصلح- و لو بصورة موقّتة- من یقول: إنّ حکومة یزید لزمت طاعة الشیطان و ترکت طاعة الرحمن، و أظهرت الفساد و عطّلت الحدود، و أحلّت حرام اللَّه و حرّمت حلاله؟

و أیّ صلح هذا؟ الصلح المشین! و لو قال هذا الإمام الهمام: أنا مستعدّ لأن أضع یدی بید یزید و أسلّم لکلّ ما یرید! فهل هذا صلح أم ذلّة؟ و هل یفکّر فی الصلح کوسیلة لتحقیق الهدف من تصدح حنجرته «هیهات منّا الذلّة»؟ و بناءً علی ما تقدّم من مفاد الخطبتین فإنّ الإمام کان قد عقد العزم علی القتال حتّی الشهادة التی لا یراها إلّا سعادة، و علیه: فلم یعد هنالک من معنی و مفهوم للصلح فی قاموس النهضة الحسینیة.

الصلح المشرِّف!

إنّ الخطبتین المذکورتین و إن کانتا کافیتین لأن نقول- بصفتنا غلمان الحسین و جریاً علی ما قاله غلامه عقبة بن سمعان- بأنّ نسبة مثل هذا الصلح إلی الإمام کذب محض، مع ذلک نقف أکثر عند هذا الصلح لنؤدّی وظیفتنا کغلمان للإمام الحسین علیه السلام. لا ندری لِمَ اصطلح المؤلّف علی الاستسلام دون قید أو شرط بالصلح المشرِّف، فهل الاقتراحات الثلاث- التی استندتَ فیها إلی الطبری و لم یسمح لک کذبها و زیفها بذکرها تعنی استسلام الإمام علیه السلام لیزید لیفعل ما یحلو له؟ فهل للإمام أن یُصالح من ینعته بشارب الخمور و المتجاهر بالفسق و ناهب بیت المال و عبد الشیطان و المشرِّع لما یخالف القرآن؟ و هل هذا صلح مشرِّف! و هل یتقدّم الإمام علیه السلام إلی مثل هذا الصلح و هو القائل: أُرید أن آمر بالمعروف

ص: 297

و أنهی عن المنکر و أسیر بسیرة جدّی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و أبی علیّ بن أبی طالب علیه السلام(1)؟ و هل یعقل أن یُصالح الإمام علیه السلام من یتفوّه.

لعبت هاشم بالملک فلا خبر جاء و لا وحی نزل(2)

و هو یهدّد بالقضاء علی الدین و القرآن و المسلمین و محمّد صلی الله علیه و آله؟ نحن لا نری معقولیة صدور مثل هذا الصلح عن الإمام، و نسأل من یقول: إنّ الإمام أراد أن یدّخر القوی لیوظّفها فی المستقبل بما ینفع الإسلام. أیّ قوی هذه؟

هل المراد بها القوی التی و اکبت الإمام فی مسیرته إلی کربلاء بما فیها النساء و الصبیة و الکهول کمسلم بن عوسجة و حبیب بن مظاهر؟ أم قوّات الکوفة الشعبیة! الکوفة التی یشهد المؤلّف بأنّها واقعة فی قبضة عبید اللَّه، أم القوّات التی ستتشکّل لاحقاً؟ و هل هنالک من أمل فی تشکیل قوّات من شأنها القتال فی سبیل اللَّه إلی جانب الإمام بعد انسحابه إلی أحد الثغور- طبق البند الثالث المقترح- و ذلک الضغط الشدید و الهوّة بین الإمام و الامّة و الیأس و السیطرة التامّة لعبید اللَّه بن زیاد علی العراق، الذی یمثِّل مرکز ثقل أنصار أهل البیت علیهم السلام؟ و الإمام یستریح قلیلًا و یلتقط أنفاسه و یضع یده بید یزید و یتنزّه فی قصوره الفخمة ریثما تنتظم القوّات الشعبیة فیشنّ حملته ضدّ حکومة یزید! هل هذه التصوّرات معقولة؟ و هل یفکّر مصباح الهدی- الإمام- بهذه الطریقة و لیتوصّل بالتالی إلی «الصلح الاضطراری»؟ نعم، هذا لیس بصلح معقول و لا یمکن نسبته إلی ابن بنت رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و الاصطلاح علیه بالصلح المشرِّف. و بغضّ النظر عمّا مضی فهل من سند لهذا


1- بحار الأنوار 44: 329- 330.
2- تقدّم فی ص 207

ص: 298

الصلح المقترح؟ نعم، سنده الکامل لابن الأثیر و تأریخ الطبری، أمّا عبارة الکامل فهی: «ثمّ بعث الحسین إلی عمر بن سعد عمرو بن قرظة أن القنی اللیلة بین عسکری و عسکرک، فخرج إلیه عمر فاجتمعا و تحادثا طویلًا و قد استغرقت المفاوضات السرّیّة للطرفین وقتاً طویلًا، و کثر حدیث الناس، فکان الظنّ الغالب هو أنّ الإمام طلب من عمر بن سعد نصرته ... نعم، لقد ظنّت الأکثریة ذلک، و هنا قال فرد مجهول: لا، فقد اقترح الإمام علی عمر ثلاث مقترحات علی أن یقبل أحدها» فهل لنقل ابن الأثیر هذا سند؟ و هل یعتمد نفس ابن الأثیر علی نقل فرد مجهول غیر معروف ظنّ أنّ اقتراح الإمام علیه السلام علی عمر کان ذلک الصلح المشرّف، و لمزید من الاطمئنان نورد عبارة الکامل حیث قال: «و قیل: بل قال له: اختاروا منّی واحدة من ثلاث: إمّا أن أرجع ... و إمّا أن أضع یدی فی ید یزید ... و إمّا أن تسیروا بی إلی أیّ ثغر ...»(1). و یلتفت أهل العلم إلی أنّ نقل حدیث الشخصیات العلمیة أو التأریخیة أو السیاسیة لا یقال فیه أبداً «قیل» بل یقال: «قال»، و إذا ذکر فی موضع کلمة «قیل» فإنّ ذلک دلیل علی عدم الاعتناء بحدیثه و أنّه مجهول بحیث لا یذکر اسمه، و لمّا عبّر ابن الأثیر ب «قیل» فإنّ الشخص الذی ظنّ أنّ حدیث الإمام علیه السلام مع عمر بن سعد کان یتمثّل بالاقتراحات الثلاث ممّن لا یمکن الاعتماد علی ظنّه و الاعتناء بحدیثه، و لا یمکن أن یحظی باهتمام حتّی مؤلّف کتاب الکامل فضلًا عن الباحثین و المحقّقین. و بغضّ النظر عن هذا، أ لم یکذّب عقبة بن سمعان- الغلام الخاصّ للإمام علیه السلام- هذا الاقتراح، و قد نقل عنه الطبری و الکامل أنّه قال: فو الله ما أعطاهم ما یتذاکر الناس أنّه یضع یده فی ید یزید و لا أن یسیّره إلی ثغر من ثغور المسلمین ...


1- الکامل لابن الأثیر 4: 54.

ص: 299

و لا یمکن القول أنّ عقبة- الذی کان غلاماً للإمام علیه السلام- لم یکن مطّلعاً علی الأوضاع؛ لأنّ هذا الغلام حامل الأسرار، و یفهم من کلامه أنّه کان معتمداً من قِبل الإمام، و أنّه لم یفارق مولاه خلال مسیره من المدینة حتّی یوم شهادته. و إذا قیل: لقد أشار الحرّ بن یزید الریاحی ضمن اعتراضه علی ابن سعد إلی هذا الاقتراح، و یتبیّن أنّ الحرّ کان مطّلعاً أیضاً، و اطّلاعه مقدّم علی الاطّلاع الهشّ للغلام عقبة بن سمعان. فنقول: أوّلًا: أنّ الحرّ لا یقول بأنّ الإمام طرح مثل هذا الاقتراح علی عمر بن سعد و أعوان یزید، بل خاطب الناس قائلًا: «أ لا تقبلون من الحسین خصلة من هذه الخِصال التی عرضها علیکم ...»(1). و ثانیاً: لم یرد ذکر للمقترحات. ثالثاً: لا یعلم هل کانت ثلاث مقترحات أم أکثر. و رابعاً: أشار الحرّ فی حدیثه إلی خطبة الإمام علیه السلام بالناس، فسمعه الحرّ یقول:

«لا و اللَّه لا أعطیهم بیدی اعطاء الذلیل ...»(2). و علیه: فلا یمکن القول بأنّ الخِصال التی ذکرها الحرّ هی تلک الاقتراحات علی عمر بن سعد، و أنّه کان مطّلعاً علی الصلح المشرِّف، و لا یمکننا رفض قول عقبة بن سمعان بتکذیب هذا الصلح المشرّف، بحجّة کونه غلاماً، فهل کونه غلاماً ذنب یدعو إلی عدم الوثوق بإخباره و نقله؟ و خامساً: یقوی الظن بأنّ الخصال التی أوردها الحرّ فی حدیثه هی تلک الاستفهامات التی طرحها الإمام من قَبیل: أ لم تکتبوا إلیّ رسائلکم؟ أ لستُ ابن


1- الکامل لابن الأثیر 4: 54، تاریخ الطبری 4: 313.
2- الکامل لابن الأثیر 4: 64.

ص: 300

بنت نبیّکم؟ أ لستُ سید شباب أهل الجنّة؟ أ لم یقل جدّی: «الحسن و الحسین سیّدا شباب أهل الجنّة»؟ أ تطلبونی بمال أخذته؟ أم دم سفکته؟(1) هذه الخِصال التی لو صدّقوا واحدةً منها و کانت لهم ذرّة من ضمیر، لما صوّب أهل الکوفة سهامهم و حِرابهم إلی الإمام، و لما تمکّن بعد ذلک عبید اللَّه و عمر بن سعد من مواجهة أبی الفضل العباس و لیوث کربلاء. و لذلک نری الحرّ یلتفت إلی نفس هذا الأمر فیقول فی آخر حدیثه: «أ لا تقبلون من حسین خصلة من هذه الخصال التی عرض علیکم فیعافیکم اللَّه من حربه و قتاله؟ ... إذ دعوتموه حتّی إذا أتاکم أسلمتموه، و زعمتم أنّکم قاتلو أنفسکم دونه ثمّ عدوتم علیه لتقتلوه»(2). و علیه: فهو یلقی بالتبعة علی جیش الکوفة الذی أراده الإمام عوناً فتحوّل إلی فرعون لموسی کربلاء: الحسین علیه السلام. سؤال: لعلّ هناک من یقول بأنّه لیس من الصواب الاستناد إلی ابن الأثیر فی تلک المقترحات، و حتی ابن الأثیر لا یعتقد بأنّ الإمام طرح تلک الاقتراحات، غیر أنّ سندنا تأریخ الطبری، فقد نقل الطبری عن أبی مخنف، عن عدد من المحدّثین أنّ الإمام طرح المقترح الفلانی علی عمر بن سعد. جواب: أوّلًا: کانت مفاوضات الإمام علیه السلام- حتّی بقول الطبری(3)- مع عمر بن سعد


1- انظر مقتل الحسین علیه السلام لأبی مخنف( وقعة الطف): 206- 207.
2- مقتل الحسین لأبی مخنف( وقعة الطف): 215.
3- تاریخ الطبری 4: 312- 313.

ص: 301

سرّیّة، و لا یمکن التنبّؤ بکنهها إلّا من خلال الحدس و الظنّ، و لو استند الدلیل إلی الحدس فقد اعتباره، علاوة علی ذلک فقد قال الطبری: ظن أغلب الناس أنّ الإمام لم یطرح أکثر من اقتراح علی عمر بن سعد. و ثانیاً: رغم أنّ الطبری ینقل عن أبی مخنف، و هذا عن عدد من المحدّثین فی أنّ مقترحات الإمام علیه السلام ثلاث، إلّا أنّ نفس أبی مخنف- علی قول الطبری- روی عن عقبة بن سمعان: «ألا و اللَّه ما أعطاهم ما یتذاکر الناس، و ما یزعمون من أن یضع یده فی ید یزید بن معاویة، و لا أن یسیّروه إلی ثغر من ثغور المسلمین، و لکنّه قال: دعونی فلأذهب فی هذه الأرض العریضة حتّی ننظر ما یصیر أمر الناس»(1)، أمّا ما شاع بین الناس من الاقتراحات الثلاث فهی ظنون لا أساس لها. و ثالثاً: الطبری هو الآخر نقل حدسیات الناس و کذلک قول المحدّثین و کلام عقبة بن سمعان، أ فلا یدلّ هذا النقل علی عدم اعتناء الطبری بقول المحدّثین؟ بل دلیل علی عدم إصداره حکماً یعتقد به. و إذا غضضنا الطرف عن هذا، فما الذی یفیده نقل الطبری؟ هل یفید أکثر من کون المفاوضات کانت سرّیّة و أنّ الناس أبدت ظنونها و حدسها بهذا المجال؟ فقد قال البعض: إنّ الإمام لم یتقدّم بأکثر من اقتراح واحد، و قال البعض الآخر: بل کانت ثلاث اقتراحات، و لعلّ هذا رأی الأکثریة، کما أشار إلی ذلک عقبة بن سمعان، فقد صرّح بأنّها لم تکن سوی شائعات جوفاء لا أساس لها، و لم یقل الإمام علیه السلام سوی: «دعونی فلأذهب ...». و علی هذا الضوء أ لا یمکن الظنّ بأنّه لیس هنالک من سند لقول المحدّثین عن العامّة التی نقل عنها أبو مخنف سوی ظنّ الناس و حدسهم البعید عن مفاوضات الإمام علیه السلام و عمر بن سعد؟ و علیه: فهل یمکن الاستدلال بقول المحدّثین؟ و هل لهذا


1- تاریخ الطبری 4: 313.

ص: 302

القول من اعتبار حتّی من وجهة نظر أبی مخنف؟ إذن، فتاریخ الطبری لیس من شأنه أن یفیدکم و لا یمکنکم جعله دلیلًا للاستنباط، و بغضّ النظر عن هذا، و لنفرض أنّ الطبری یعتقد بأنّ الإمام قد اقترح البنود الثلاث، فهل یمکن الاستناد إلی قول الطبری فی أن نقول: «یوجد هنا بعض المطالب المسلّمة ... الرابع: أنّ الإمام تقدّم بثلاثة اقتراحات لو طبّق أیّ واحد منها لتمّ عقد الصلح دون تردید؟ ...». أ و لیس قول الطبری یتعارض و قول ابن الأثیر؟ الذی قال: و قیل: بل قال له:

اختاروا منّی ... أی أنّ المحدّثین لم یقولوا، و لم یکن ذلک شائعاً بین الناس فی أنّ الإمام قاله، بل هذا قول مجهول. إذن لا یمکن الاستدلال بقول الطبری طالما کان متعارضاً مع کلام ابن الأثیر.

الأهمّ من کلّ هذه الأقوال:

الأهمّ من کلّ ما ذکر روحیة الإمام علیه السلام و هدفه المقدّس و عزمه الفولاذی و رسالته التأریخیة و علمه الثاقب بمصیر الامور و شوقه للقاء اللَّه و وظیفته الربّانیة، کزعیم للُامّة و خطبه الملحمیة: «لا و اللَّه لا أعطیهم بیدی اعطاء الذلیل ...»(1). «هیهات منّا الذلّة»(2). «إنّ اللَّه لا یغلب علی أمره ...»(3). «و کأنّی و أوصالی یتقطّعها عسلان الفلوات بین النواویس و کربلا»(4).


1- مقتل الحسین علیه السلام لأبی مخنف( وقعة الطف): 209.
2- تحف العقول: 241، الاحتجاج 2: 99، مثیر الأحزان: 55.
3- الإرشاد للمفید: 2/ 76، و عنه بحار الأنوار 44: 375.
4- مثیر الأحزان: 41.

ص: 303

«من لحقَ بی استشهد»(1). «هاهنا و اللَّه محطّ رکابنا و سفک دمائنا ...»(2). کلّ هذه الشواهد و مئات القرائن الاخری تدعو إلی الجزم بأنّ الإمام علیه السلام لم یتقدّم قطّ بتلک المقترحات الثلاث إلی حکومة یزید الخزی و العار، و لا سیّما أنّ الإمام علیه السلام أعرف من الجمیع بمدی إصرار یزید علی حزّ رأسه و ابن مرجانة الذی غالباً ما کان ینادیه الإمام بابن الزانیة! و رغم کلّ ذلک، فإذا کان هناک من یشعر بالتردید فإنّا نقول له- و فرض المحال لیس بمحال-: لو کان هناک من اقتراح فإنّما طرح علی الناس بهدف إتمام الحجّة و کشف النقاب عن روحیة أهل الکوفة المتعطّشة لإراقة الدماء و إفهام الدنیا بأنّ الإمام لا یحمل سوی رسالة الصلح و السلام التی اندفع إلیها بکلّ ما أُوتی من قوّة، إلی الحدّ الذی جعله یقدّم مثل هذه التنازلات حرصاً علی سلامة الامّة و عدم سفک دمائها، فی حین لم تجبه حکومة الجبابرة و کانت مصرّة علی قتله، و إلّا فکیان الإمام علیه السلام کان مفعماً بصرخات «هیهات منّا الذلّة». سؤال: ربما کان هناک من یقول: المراد بالصلح المشرِّف هو ذلک الاقتراح ذکره عقبة بن سمعان، فی أنّ الإمام قال لهم: «دعونی فلأذهب فی هذه الأرض العریضة».

و قد أورد الإمام مثل هذا الاقتراح یوم عاشوراء، و إذا تجاهل المؤلّف قول عقبة، فلیس له أن ینکر مثل هذا المضمون الذی صرّح به الإمام علیه السلام یوم عاشوراء.


1- کامل الزیارات: 157 ح 195.
2- الملهوف: 139.

ص: 304

إذن، فالصلح المشرِّف هو هذا الاقتراح. و لا بدّ من القول بأنّه مشرّف لکون الإمام لا یرضی بالقِتال و إراقة الدماء. جواب: کان الاقتراح علی الناس لا أعوان الحکومة، بینما حدیث المؤلّف عن الصلح کان علی أساس مفاوضة أعوان الحکومة، فقد کتب المؤلّف فی ص 215: «و بعد أن رفض أعوان الحکومة عقد الصلح ...» أ و لیس الصلح الذی رفضه أعوان الحکومة هو تلک المقترحات الثلاث؟ إذن، فهذا الصلح لم یکن ذلک المقترح الذی نقله عقبة بن سمعان. نعم، لو تحدّث الإمام علیه السلام إلی الناس، کان لا بدّ من القول حقّاً أنّ هذا حدیث الإمام و اقتراحه علی الناس، و هو جدیر بأن یُسمّی بالصلح المشرّف، و ذلک لأنّه مشروع یحول دون إراقة الدماء و یکشف عن حرص الإمام علیه السلام علی سلامة الامّة، رغم علمنا أنّ تلک الامّة لیس لها و لا لدمائها من قیمة و اعتبار من وجهة نظر الإسلام، غیر أنّ رأفة الإمام علیه السلام و رحمته و حلمه لم تدعه یسمح بإراقة دماء حتّی تلک العصبة المراوغة الکاذبة الغادرة، و الحقّ أنّ هذا الصلح لما کان یهدف إلی سلامة الامّة فهو صلح مشرّف لا ذلّة فیه، کما یمکن القول فی نفس الوقت أنّه اقتراح لترک المخاصمة و کاشف عن عظمة الإمام، و لکن و علی أساس ما ذکر سابقاً، لا یمکنه أن یکون کاشفاً عن الإرادة الجدیّة للإمام بمصالحة الامّة، و ذلک لأنّ الإمام یعلم أنّ هذه الامّة مغلوبة علی أمرها و لیس لها من إرادة، فهی حفنة جنود تزجّ بنفسها جهلًا بالمعرکة أملًا فی الحصول علی حطام الدنیا و ما یمنّیهم به أسیادهم، و لیس للجندی من حقّ فی اتّخاذ القرار أو المشارکة فی مفاوضات الصلح و ما شاکل ذلک- طبعاً هذا فی الأنظمة غیر الإسلامیة، و إلّا فهو صاحب قرار فی الإسلام علی ضوء

ص: 305

المقرّرات و الضوابط الإسلامیة- کما کان الإمام عالماً بشهادته، و هذا العلم یمنعنا من القول بأنّ إرادة الإمام علیه السلام الحقیقیة کانت الدعوة إلی المصالحة. و بناءً علی هذا فإنّ طرح الاقتراح بهذه الجدیّة لم یکن وارداً، فلا یمکن للإمام علیه السلام أن یُطالب جدّیاً بإخلاء سبیله، و لعلّ مراده هدف أسمی من ذلک، کأن یُفهم العالم أنّنا لسنا طلّاب حرب، و أنّنا حریصون علی الصلح و السلام إلی أبعد الحدود و هذا ما أبلغنا به الامّة، إلّا أنّ دعوتنا لم تلق آذاناً صاغیة، و حتّی لا ینبری أحد لیقول: لِمَ ألقی الإمام بنفسه فی التهلکة؟ لیس للإمام من عداء لأحد من أبناء الامّة و قد حلّ علیها ضیفاً بعد أن دعته، رغم علمه بعاقبة هذه الضیافة التی ستکون مائدتها رءوس یطاح بها و دم عزیز یُسفک، فهذا ما أوصاه به جدّه و أبوه من إجابة دعوة الناس. إذن، فالهدف الرئیسی للإمام علیه السلام هو إعلان الصلح و السلام و إماطة اللثام عن نیّات السوء التی یبیّتها یزید و مردة الکوفة، و إلّا فالحسین علیه السلام کان یعلم بأنّ جیش عبید اللَّه بن زیاد کان مسلوب الإرادة، و حتّی لو افترض لهم ثمّة إرادة، مع ذلک کانوا من المردة و الغدرة الفجرة الذین هبّوا لضیافة ابن بنت رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بتلک الطریقة اللئیمة، کان الإمام علیه السلام عالماً بأنّ تربة کربلاء ستشهد ذلک النزیف الدموی الطاهر، و علیه: فاقتراح الإمام لم یکن سوی تعبیراً عن حبّه و حرصه علی الإنسانیّة، و بیان ذلّة و دناءة جیش ابن زیاد، و إتمام الحجّة علی مَن شهد فصول ذلک المشهد الدامی فی صحراء کربلاء.

ثورة الإمام علیه السلام لیست دفاعاً عن النفس

قیل: إنّ الهدف الذی یحظی باهتمام الإمام بالدرجة الثانیة هو الصلح، و حیث فشل الصلح فیأتی دور الاستسلام و وضع الید بید یزید و ... و رفض من قبل

ص: 306

أعوان یزید، فقد انبثق الهدف الثالث: «الدفاع» و قال المؤلّف فی وصفه للدفاع:

«أیقن الإمام بأنّه إذا استسلم فسیُقتل بنفس الطریقة الذلیلة التی قُتل بها مسلم بن عقیل، و علیه: فلیس له من سبیل أمام هجوم الأعداء سوی الدفاع ...». إنّا و إن أوردنا هذه العبارة سابقاً إلّا أنّنا نروم من تکرارها، لتسهیل الوقوف علی بعض الامور، فالعبارة تُفید أنّ عملیة الدفاع قد ظهرت بعد فشل مشروع الاستسلام و هجوم العدو. و علیه: فالدفاع جاء بعد سلسلة من الفشل و الهزیمة، الفشل فی تزعّم الامور و السیطرة علی الکوفة و الفشل فی تحقیق الصلح المشرّف، و الفشل فی التسلیم إلی العدوّ، و بالتالی عزم العدو علی قتل الإمام علیه السلام!! فهل مثل هذا الدفاع مشرّف؟ و هل هذا الدفاع المشرّف شهادة؟ أم دفاع عن النفس؟ بعبارة اخری: هل أنّ شهادة الإمام کانت بهدف إحیاء الإسلام و إماتة البدع و تحریر الامّة من براثن الطغاة؟ أم أفرزته الضرورة و الاضطرار بعد فشل مشروع الاستسلام؟ و لو لم یدافع فما ذا عساه أن یفعل؟ لا یسعنا أن نسمّی مثل هذه الشهادة سوی الدفاع عن النفس، و نعتقد أنّ الإمام بری ء من مثل هذه النهضة و الثورة، و نری أنّ هناک خطّة عظیمة وراء قتل الحسین علیه السلام فی کربلا، خطّة مدروسة سلفاً جری بها القلم، و علی الإمام علیه السلام تنفیذها شاء أم أبی فی کربلاء، و علیه أن یتضرّج بدمه فداءً للقرآن و الإسلام. فقد قال الباقر علیه السلام: «یا حمران إنّ اللَّه- تبارک و تعالی- قد کان قدّر ذلک علیهم و قضاه»(1). أمّا الدفاع عن النفس فلا یعنی سوی الاضطرار للقتل؛ لأنّه من المفروض أنّ الإمام حتّی إذا استسلم فإنّه سوف یُقتل، و لم یکن قد تکهّن بعاقبة الحرکة حتّی زُجّ به فی کربلاء زجّاً!! إذ ذاک لا بدّ من إبطال کافّة کلمات الإمام- و العیاذ باللَّه- التی


1- الکافی 1: 262 باب أنّ الأئمّة یعلمون علم ما کان ... ح 4.

ص: 307

قالها علیه السلام من قبیل: «لا أری الموت إلّا سعادة و الحیاة مع الظالمین إلّا برماً»(1). و قوله فی ذی حسم حین اقترب من کربلاء: «أ لا ترون أنّ الحقّ لا یعمل به و أنّ الباطل لا یُتناهی عنه، لیرغب المؤمن فی لقاء اللَّه محقّاً، فإنّی لا أری الموت إلّا سعادة ...»(2). هذا هو الهدف الذی جعل الإمام علیه السلام یُقاتل حتّی الموت و یضحّی بالغالی و النفیس من أجل الشهادة. الشهادة من أجل أهدافه السامیة، لا من أجل الدفاع عن النفس، الإمام یرید نفسه لهدفه، للإبقاء علی اسم رسول اللَّه صلی الله علیه و آله و حفظ القرآن و الدفاع عن المظلومین و الوقوف بوجه الظالمین، هذه الأهداف أعزّ علی الإمام من نفسه، فهو القائل: «أ لا ترون أنّ الحقّ لا یُعمل به و أنّ الباطل لا یتناهی عنه، فلیرغب المؤمن فی لقاء ربّه» لیس هنالک من معنی للحیاة فی قاموس الإمام علیه السلام إذا ساد الباطل وضاع الحقّ. إذن، فهدف الإمام علیه السلام منذ البدایة هو الشهادة من أجل الحقّ، و مَن شکّ فلیراجع تاریخ الطبری(3) لیری کیف أعلن الإمام عزمه فی ذی الحسم علی الشهادة، و لا نری أیّ عقل سلیم یقول بأنّ الإمام إنّما قرّر هذه الشهادة یوم عاشوراء بعد أن فشلت جمیع مشاریعه الاستسلامیة و ذلک الذلّ و الهوان فی مهادنة یزید، أملًا فی الحصول علی بضعة أیّام، فالإمام علیه السلام صمّم علی الشهادة مسبقاً؛ و هو الذی قال فی مکّة: «و کأنّی و أوصالی یتقطّعها عسلان الفلوات بین النواویس و کربلا»(4). و قد بلغ به العزم و الإرادة درجة جعلته لم یکترث لنصح ابن عباس و ابن


1- الملهوف: 138، و عنه بحار الأنوار 44: 381.
2- تاریخ الطبری 4: 305، و فیه: شهادة بدل« سعادة».
3- تاریخ الطبری 4: 305.
4- تقدم فی ص 302.

ص: 308

الحنفیة و سائر بنی هاشم، کما لم یزحزحه عن موقفه ما أشار به علیه عبد اللّه بن الزبیر و عبد اللَّه بن عمر، إلی جانب تحذیر عبد اللّه بن جعفر و منع عبد اللّه بن المطیع الإمامَ من الحرکة، إضافة إلی آراء العارفین بأوضاع الکوفة الذین أوجزوا له حالة أهل الکوفة بأنّ «سیوفهم علیه»(1). فلم تتمکّن کلّ هذه المحاولات الواقعیة من ثنی الإمام عن عزمه، فواصل مسیرته و هو یقول: «إنّ اللَّه لا یغلب علی أمره»(2) و لمّا بلغ موضع «البیضة» خطب الناس و عسکر الحرّ بن یزید و کشف النقاب عن أهدافه، فأیقن الحرّ بعد ما رأی من عزم الإمام علیه السلام و شدّة حملته علی یزید و أذنابه أنّه مقتول لا محالة، فحذّره الحرّ بعد أن لمس استعداد الإمام علیه السلام للتضحیة و القِتال، أراد الحرّ أن یخوّف الإمام بالموت، و هل یهاب الموت مثل الإمام؟ ثمّ أنشده الإمام ذلک الشعر الذی ارتجز به الأوسی لابن عمّه حین همّ بنصرة رسول اللَّه صلی الله علیه و آله:

سأمضی و ما بالموت عار علی الفتی إذا ما نوی خیراً و جاهد مُسلما(3)

نعم، فقد جرت عادة أئمتنا علیهم السلام علی تذکیر الناس بالموت، و لیس لنصح المشفقین و لا خوف المرعوبین و لا تهدید الجبّارین أن یثنیهم عن عادتهم، فهم ممّن یستبشرون بالموت و الشهادة، الموت من أجل حیاة القرآن و الإسلام، الموت من أجل بقاء اسم صاحب الرسالة محمّد صلی الله علیه و آله، و إذا کان حالهم هکذا فکیف یزعم المؤلّف أنّ شهادته لم تکن سوی الدفاع عن النفس، و خاصّة حین یئس تماماً من الحیاة و أغلقت علیه جمیع منافذها! إنّنا نلهج بخطاب الإمام علیه السلام: یا أبا الأحرار، یا قبلة الثوّار، یا مصباح الهدی


1- بحار الأنوار 44: 364.
2- تقدّم فی ص 302.
3- الکامل لابن الأثیر 4: 49.

ص: 309

و سفینة النجاة، یا محیی القرآن و السنّة، مدرستک مدرسة الجهاد و التضحیة و الشجاعة و القیم الإنسانیة، مدرسة التوحید و الإخلاص و العبودیة، مدرسة العلم و الحلم و السماحة و الزهد و العزّة و الکرامة و نصرة المظلوم و دحر الظالم. و أنت تخاطب الإمام؛ یا عصارة الکمال، أیّها الربّانی، یا أبا الأحرار، و یا أیّها المجاهد ... و علیه: فنحن متّفقون و إیّاک فی أنّه أبو الأحرار و الجهاد و الثورة. و لکن الاتّفاق هذا هل من شأنه أن یستمرّ؟ طبعاً لا، إنّ هذا الاتّفاق یجعلنا و إیّاک نقف علی مفترق طرق، فأنت تضیف مخاطباً الإمام بأنّک لم تکن علی علم بحادثة کربلا، و هذا ما أوقع عیالاتک فی الأسر دون علم، أنت الإمام الرءوف العطوف إلّا أنّ کربلاءک أضرّت بالإسلام و أذاقت صحبک الذلّ و الهوان! و هذا لیس ذنبک بل ذنب یزید، یا أبا الأحرار لقد استسملت لعساکر یزید بعد أن یئست من النصر، و رأیت کثرة عدّة و عدد عدوّک و خانتک القوّات الموالیة، فاقترحت وضع یدک بید یزید، و رغم هذه الذلّة و الهوان لم یوافقک یزید، بل کنت مستعدّاً لرکوب العار لو أیقنت بعدم القتل و لم یکن أمامک أیّها الثائر سوی الدفاع عن نفسک العزیزة لا من أجل وظیفة سماویة أو مهمّة إنسانیة علّک تنجو من الموت. أمّا نحن فنقول: یا حسین، یا أبا الأحرار، یا قبلة الثوّار، یا مدافِعاً عن القرآن، یا محرّر المظلومین، یا باب نجاة الامّة، و یا مصباح الهدی أنت الحرّ الذی نهضت عن علم و درایة من أجل کسر القیود و الأغلال التی کُبِّل بها الناس، و إیصالهم إلی السموّ و الکمال، و إنقاذ المظلومین من نیر المستکبرین یزید و أعوانه الملعونین، و قد اجتهدتَ فی تحقیق أهدافک حتّی آثرت التضحیة و الشهادة و سبی أهل بیتک علی الحیاة التی اعتبرتها بَرَماً. لقد نهضت بالأمر من أجل إحیاء السنّة و إماتة البدعة و لم یکن همّک سوی الحقّ، فلم تنفک

ص: 310

عن تردید «أ لا ترون أنّ الحقّ لا یُعمل به» فکأنّی بک تقول: ما أصنع بالحیاة هی خالیة من مفردات الحقّ و القرآن و الإسلام؟ لقد سطّرت بدمک الزکی ملحمة لم و لن یشهد التأریخ مثیلًا لها، لتبقی صرخاتک تدوّی فی نفوس الثوّار، و لیردّد من خلفک المؤمنون «لا نری الموت إلّا سعادة» و لینهضوا بالأمر أینما طالعهم عدم العمل بالحقّ و التناهی عن الباطل. فالموت من أجل الإسلام لیس بموت، و کیف تموت امّة تحیا فی أعماقها روح محمّد و علیّ و الحسین علیهم السلام، ستبقی کعبة تزورک الثوّار و هی تلهج بقلوبها و مشاعرها قبل لسانها: نشهد أنّک جاهدتَ فی اللَّه حقّ جهاده و صبرت علی الأذی فی جنبه و استنقذت العِباد من الجهالة و حَیرة الضلالة. و نشهد أنّک نور اللَّه الذی لم یطفأ و لن یطفأ أبداً، و أنّک وجه اللَّه الذی لم یهلک و لن یهلک أبداً. و هذا لیس صوتنا بل صوت القرآن الحکیم: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ(1). و أخیراً نرجو من جمیع الإخوة القرّاء أن ینظروا بعین العفو و الصفح لما کان قد بدر منّا من زلل و خطأ و أن یتحفونا بما لدیهم من آراء و مقترحات من شأنها خدمة الإسلام و المسلمین، کما نودّ أن نلفت انتباه الإخوة إلی أنّنا کنّا ننوی أن نجعل بحث «آیة التطهیر» من ضمن مباحث هذا الکتاب إلّا أنّنا تحاشینا زیادة حجم الکتاب عن الحدّ المتعارف، و قد قمنا بطبع هذا البحث بصورة مستقلّة لیطّلع علیها القرّاء الأعزّاء. و ما توفیقی إلّا باللَّه العزیز، علیه توکّلتُ و إلیه أُنیب.


1- سورة آل عمران: الآیة 196.

ص: 311

الإشراقی- اللنکرانی

ص: 312

مصادر التحقیق

1- اثبات الهداة، لمحمد بن الحسن بن علی بن محمد بن الحسین، المعروف بالحرّ العاملی (1033- 1104) المطبعة العلمیّة، قم، 1404 ه. 2- الأحادیث الغیبیّة، تألیف و نشر مؤسّسة المعارف الإسلامیّة، قم، الطبعة الاولی، 1415. 3- الاحتجاج، لأبی منصور أحمد بن علی بن أبی طالب الطبرسی (من أعلام القرن السادس) دار الاسوة، قم، الطبعة الثالثة، 1422 ه. 4- الاختصاص، لأبی عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان العُکبری البغدادی، المعروف بالشیخ المفید (336- 412) دار المفید، بیروت، الطبعة الثانیة، 1414 ه. 5- اختیار معرفة الرجال، المعروف برجال الکشی، لشیخ الطائفة أبی جعفر محمد بن الحسن بن علیّ الطوسی (385- 460) جامعة مشهد، 1348 ش. 6- الإرشاد فی معرفة حجج اللَّه علی العباد، لأبی عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان العُکبری البغدادی، المعروف بالشیخ المفید (336- 412) مؤسّسة آل البیت علیهم السلام، بیروت، الطبعة الثانیة، 1414 ه. 7- إعلام الوری بأعلام الهدی، لأمین الإسلام أبو علی الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسی (م 548) مؤسّسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، قم، الطبعة الاولی، 1417 ه.

ص: 313

8- أعیان الشیعة، للسیّد محسن بن عبد الکریم بن علیّ بن محمد الأمین الحسینی العاملی (1281- 1371) دار التعاریف، بیروت، الطبعة الخامسة، 1420 ه. 9- إقبال الأعمال، للسیّد رضیّ الدین علیّ بن موسی بن جعفر بن طاوس (589- 664) نشر مکتبة الإعلام الإسلامی، قم، الطبعة الثانیة، 1419 ه. 10- الأمالی، للشیخ الصدوق أبی جعفر محمد بن علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی (م 381) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الاولی، 1417 ه. 11- الأمالی، لشیخ الطائفة أبی جعفر محمد بن الحسن بن علیّ بن الحسن الطوسی (385- 460) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الاولی، 1414 ه. 12- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار علیهم السلام، للعلّامة المولی محمد باقر بن محمد تقی المجلسی (1037- 1110، 1111) دار الکتب الإسلامیة، طهران. 13- بصائر الدرجات فی فضائل آل محمد علیهم السلام، لأبی جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفّار (م 290) مکتبة آیة اللَّه المرعشی النجفی، قم المقدّسة، 1404 ه. 14- تاج العروس، لأبی الفیض محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الزبیدی الحسینی، الملقّب بمرتضی (1145- 1205) دار الفکر، بیروت، 1414 ه. 15- تاریخ الأمم و الملوک (تاریخ الطبری)، لأبی جعفر محمد بن جریر الطبری (224- 310) مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1357 ه. 16- تأویل الآیات الظاهرة فی فضائل العترة الطاهرة، للسید شرف الدین علیّ الحسینی الأسترابادی النجفی، (من مفاخر أعلام القرن العاشر) مؤسّسة الإمام المهدی علیه السلام، قم المقدّسة، الطبعة الاولی، 1407 ه. 17- التبیان فی تفسیر القرآن، لشیخ الطائفة أبی جعفر محمد بن الحسن بن علی بن الحسن الطوسی (385- 460) مؤسّسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت بالافست عن مکتبة الأمین فی النجف الأشرف. 18- تحف العقول عن آل الرسول صلی الله علیه و آله، لأبی محمد الحسن بن علیّ بن الحسین بن شعبة الحرّانی الحلبی (من أعلام القرن الرابع) مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الخامسة، 1417 ه. 19- تفسیر العیّاشی، لأبی النضر محمد بن مسعود بن محمد بن عیّاش السلمی السمرقندی، المعروف

ص: 314

بالعیّاشی (من أعلام القرن الثالث الهجری) المکتبة العلمیّة الإسلامیّة، طهران، الطبعة الاولی، 1381 ه. 20- تفسیر القرآن العظیم، لأبی الفداء إسماعیل بن عمر بن کثیر الدمشقی الشافعی، المعروف بابن کثیر (700- 774) دار المعرفة، بیروت، الطبعة الاولی، 1406 ه. 21- تفسیر القمی، لأبی الحسن علیّ بن إبراهیم بن هاشم القمّی (من أعلام قرنی 3 و 4) مطبعة النجف، النجف، 1386 ه. الطبعة الثانیة، بیروت، 1387 ه. 22- تفسیر فرات، لأبی القاسم فرات بن إبراهیم الکوفی (من أعلام الغیبة الصغری) مؤسّسة الطباعة و النشر لوزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامی، طهران، الطبعة الاولی، 1410 ه. 23- تفسیر کنز الدقائق، لمیرزا محمد المشهدی ابن محمد رضا بن إسماعیل بن جمال الدین القمّی (م حدود 1125) مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1407- 1413 ه. 24- تفسیر المنار، لمحمد رشید بن رضا بن محمد بن محمد بن علیّ القلمونی (1282- 1354) تقریراً لأبحاث استاذه محمد عبده بن حسن خیر اللَّه (1266- 1323) دار المعرفة، بیروت، الطبعة الثانیة بالافست عن الطبعة الاولی بمطبعة المنار، 1342 ه. 25- تفسیر نور الثقلین، لعبد علی بن جمعة العروسی العویزی (م 1112) تحقیق هاشم الرسولی المحلاتی. المطبعة العلمیّة، قم، 1383 ه. 26- حلیة الأولیاء، لأحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن إسحاق بن موسی بن مهران المهرانی، المعروف ب «أبو نعیم الأصبهانی» (336- 430) دار الکتب العلمیّة، بیروت. 27- الخرائج و الجرائح، لأبی الحسین سعید بن عبد اللّه بن الحسین بن هبة اللَّه بن الحسن، الشهیر ب «قطب الدین الراوندی» (م 573) مؤسّسة الإمام المهدی علیه السلام، قم المقدّسة، الطبعة الاولی، 1409 ه. 28- الخصائص الکبری، لجلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر بن محمد السیوطی المصری الشافعی (849- 911) دار الکتب العلمیّة، بیروت، الطبعة الاولی، 1405 ه. 29- دلائل الإمامة، لأبی جعفر محمد بن جریر بن رستم الطبری (من أعلام القرن الخامس الهجری) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الاولی، 1413 ه. 30- دلائل النبوّة، لأحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن إسحاق بن موسی بن مهران المهرانی، المعروف ب «أبو نعیم الأصبهانی (336- 430) دار النفائس، بیروت، الطبعة الثانیة، 1406 ه.

ص: 315

31- ذخائر العقبی فی مناقب ذوی القربی، لمحبّ الدین أبی العبّاس أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن أبی بکر بن محمد بن إبراهیم الطبری (615- 694) مکتبة الصحابة، جدّة، مکتبة التابعین، القاهرة، الطبعة الاولی، 1415 ه. 32- رجال الطوسی، لشیخ الطائفة أبی جعفر محمد بن الحسن بن علیّ الطوسی (385- 463) مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1415 ه. 33- روضة الواعظین، لأبی جعفر الشهید محمد بن الحسن بن علیّ بن أحمد بن علی بن یوسف الفتّال النیسابوری، المشتهر بابن الفتّال (م 508) مطبعة الحکمة، قم. 34- الریاض النضرة، لمحبّ الدین أبی العبّاس أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن أبی بکر بن محمد بن إبراهیم الطبری (615- 694) دار الکتب العلمیّة، بیروت. 35- شرح نهج البلاغة، لعبد الحمید بن هبة اللَّه بن محمد بن محمد بن الحسین المدائنی، المعروف بابن أبی الحدید (586- 655) مؤسّسة إسماعیلیان، قم. 36- الطرائف فی معرفة مذاهب الطوائف، لرضیّ الدین أبی القاسم علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن أحمد، المعروف بابن طاوس (589- 664) مطبعة الخیّام، قم، 1400 ه. 37- علل الشرائع، لأبی جعفر محمد بن علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی، المعروف بالشیخ الصدوق (م 381) المکتبة الحیدریّة و مطبعتها، النجف، 1385 ه. 38- عیون أخبار الرضا علیه السلام، لأبی جعفر محمد بن علیّ بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی (م 381) دار العلم، قم، 1377 ه. 39- فرائد الاصول، المعروف ب الرسائل، للشیخ مرتضی بن محمد أمین الأنصاری (1214- 1281) تراث الشیخ الأعظم، قم، الطبعة الاولی، 1419 ه. 40- الفصول المهمّة فی معرفة الأئمة علیهم السلام، لعلیّ بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه المالکی المکّی، الشهیر بابن الصبّاغ (784- 855) دار الحدیث، قم، الطبعة الاولی، 1422 ه. 41- الفقیه (من لا یحضره الفقیه) و مشیخته، للشیخ الصدوق أبی جعفر محمد بن علی بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی، (م 381) دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الخامسة، 1390 ه. 42- قاموس الرجال، للشیخ محمد تقی بن کاظم بن محمد علی بن جعفر التستری، مؤسّسة النشر

ص: 316

الإسلامی، قم، الطبعة الثانیة، 1410 ه. 43- الکافی، لثقة الإسلام أبی جعفر محمد بن یعقوب بن إسحاق الکلینی الرازی، دار الکتب الإسلامیّة، طهران، الطبعة الثالثة، 1388- 1389 ه. 44- کامل الزیارات، لأبی القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسی بن قولویه القمّی (م 368) نشر الفقاهة، قم، الطبعة الاولی، 1417 ه. 45- الکامل فی التاریخ، لعزّ الدین أبی الحسن علی بن محمد بن محمد بن عبد الکریم بن عبد الواحد الشیبانی، المعروف بابن الأثیر (555- 630) دار صادر، بیروت، 1385 ه. 46- کشف الغمّة فی معرفة الأئمّة علیهم السلام، لبهاء الدین علیّ بن عیسی بن أبی الفتح الإربلی (م 693) المطبعة العلمیّة، قم، بالافست عن مکتبة بنی هاشم، تبریز، 1381 ه. 47- کفایة الأثر فی النصّ علی الأئمّة الاثنی عشر، لأبی القاسم علیّ بن محمد بن علیّ الخزّاز القمّی الرازی (من أعلام القرن الرابع) انتشارات بیدار، مطبعة الخیّام، قم، 1401 ه. 48- کمال الدین و تمام النعمة، لأبی جعفر محمد بن علی بن الحسین بن موسی بن بابویه القمّی، المعروف بالشیخ الصدوق (م 381) مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الثالثة، 1416 ه. 49- لواعج الأشجان فی مقتل الحسین علیه السلام، للسید محسن بن عبد الکریم بن علی بن محمد الأمین الحسینی العاملی (1281- 1371) نشر مکتبة بصیرتی، قم. 50- مثیر الأحزان، لنجم الدین محمد بن جعفر بن أبی البقاء هبة اللَّه بن نما بن علی بن حمدون الحلّی (567- 645) مؤسّسة الإمام المهدی علیه السلام، قم المقدّسة، الطبعة الثالثة، 1406 ه. 51- مجمع البحرین، للشیخ فخر الدین بن محمد علیّ بن أحمد بن طریح الرماحی النجفی، المشهور بالطریحی (979- 1085) مؤسّسة البعثة، الطبعة الاولی، 1414 ه. 52- مجمع البیان فی تفسیر القرآن، لأمین الإسلام أبی علی الفضل بن الحسن الطبرسی (حوالی 470- 548) دار الفکر، بیروت، 1414 ه. 53- محجة البیضاء فی تهذیب الأحیاء، لمحمد بن المرتضی المدعو بالمولی محسن الکاشانی، المعروف بالفیض (1007- 1091) مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الرابعة، 1417 ه. 54- مختصر بصائر الدرجات، لأبی محمد الحسن بن سلیمان بن محمد بن خالد الحلّی (من أعلام

ص: 317

القرن الثامن الهجری) دار المفید، بیروت، الطبعة الاولی، 1423 ه. 55- مرآة العقول فی شرح أخبار آل الرسول، للعلّامة المولی محمد باقر بن محمد تقی المجلسی (1037- 1110، 1111) دار الکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الاولی، 1407 ه. 56- المراجعات، للسید عبد الحسین شرف الدین یوسف بن إسماعیل الموسوی (1290- 1377) تحقیق حسین الراضی، الجمعیّة الإسلامیة، بیروت، الطبعة الثانیة، 1402 ه. 57- مروج الذهب، لأبی الحسن علی بن الحسین بن علی المسعودی (م 346) دار الهجرة، قم، الطبعة الثانیة، 1404 ه. 58- المسند، لأبی عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشیبانی (164- 241)، دار الفکر، بیروت، الطبعة الثانیة، 1414 ه. 59- مقاتل الطالبییّن، لعلیّ بن الحسین بن محمد بن أحمد بن الهیثم بن عبد الرحمن، المعروف بأبی الفرج الأصبهانی (284- 356) منشورات الشریف الرضی، قم، الطبعة الثانیة، 1416 ه. 60- معجم رجال الحدیث، للسید أبی القاسم بن علی أکبر بن هاشم الموسوی الخوئی (1317- 1413) مرکز نشر آثار الشیعة، قم، الطبعة الرابعة، 1410 ه. 61- مقتل الحسین علیه السلام (وقعة الطف)، للمؤرّخ لوط بن یحیی بن سعید بن مخنف بن سلیم الأزدی (م 158) مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1367 ش. 62- الملهوف علی قتلی الطفوف، للسیّد رضی الدین أبی القاسم علیّ بن سعد الدین أبی ابراهیم موسی بن جعفر بن محمد بن أحمد بن محمد بن طاوس (589- 664) دار الاسوة، قم، الطبعة الاولی، 1414 ه. 63- المناقب، للحافظ أبو المؤیّد الموفّق بن أحمد بن محمد البکری المکّی الحنفی، المعروف ب أخطب خوارزم (484- 568) مکتبة نینوی الحدیث، طهران 64- مناقب آل أبی طالب علیهم السلام، لأبی جعفر محمّد بن علیّ بن شهرآشوب السروی المازندرانی (م 588) انتشارات علّامة، المطبعة العلمیّة، قم. 65- منتهی الآمال، للشیخ عباس القمّی (1294- 1359)، مؤسّسة النشر الإسلامی، قم، الطبعة الاولی، 1415 ه.

ص: 318

66- المنجد فی اللغة و الأعلام، لویس معلوف، مؤسّسة انتشارات دار العلم، قم، الطبعة الاولی، 1382 ش. 67- المیزان فی تفسیر القرآن، للعلّامة السید محمد حسین الطباطبائی (1321- 1403) مؤسّسة مطبوعاتی إسماعیلیان، قم، الطبعة الثالثة، 1393 ه. 68- نهج البلاغة من کلام مولانا أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، تحقیق الشیخ محمد عبده، الناشر سفارة الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة فی دمشق. 69- نوادر الأخبار، للعلّامة محمد بن مرتضی المعروف بالمولی محسن، و المشهور بالفیض الکاشانی (1007- 1091) مؤسّسة مطالعات و تحقیقات فرهنگی، طهران، 1370 ش. 70- وسائل الشیعة (تفصیل وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة)، للشیخ محمد بن الحسن الحرّ العاملی (1033- 1104) مؤسّسة آل البیت علیهم السلام، قم، الطبعة الاولی، 1409- 1412 ه. 71- ینابیع المودّة لذوی القربی، للشیخ سلیمان بن إبراهیم القندوزی الحنفی (1220- 1294) مطبعة الاسوة، قم، الطبعة الاولی، 1416 ه.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.