اصول الفقه

اشارة

سرشناسه : مظفر، محمدرضا، 1904-1964م.

عنوان و نام پدیدآور : اصول الفقه / محمدرضا المظفر.

مشخصات نشر : قم: موسسه اسماعیلیان، 1373.

مشخصات ظاهری : 4 ج. ( در دو مجلد ).

شابک : دوره: 964-6397-06-9 ؛ دوره، چاپ هفدهم: 978-964-6397-06-4 ؛ ج.1 و 2: 964-6397-07-7 ؛ 2000 ریال (ج.1و 2، چاپ پنجم) ؛ 35000 ریال (ج.1و2، چاپ شانزدهم) ؛ 40000 ریال: ج.1و2، چاپ هفدهم: 978-964-6397-07-1 ؛ 55000 ریال (ج.1و2 ٬چاپ نوزدهم) ؛ ج. 3و4: 964-6397-08-5 ؛ 35000 ریال (ج.3و4، چا شانزدهم) ؛ 40000 ریال: ج.3و4، چاپ هفدهم: 978-964-6397-08-8 ؛ 55000 ریال: ج.3و4 ٬ چاپ نوزدهم 978-964-6397-06-4 :

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب در سال 1370 توسط همین ناشر به صورت دو جلد در یک مجلد منتشر گردیده است.

یادداشت : چاپ هفتم: 1374

یادداشت : ج.1و2 (چاپ پنجم: ؟13).

یادداشت : ج.1و2 (چاپ یازدهم: 1424ق. = 1382).

یادداشت : ج.1 تا 4 (چاپ شانزدهم: 1427ق. = 1385).

یادداشت : ج.1 تا 4 (چاپ نوزدهم: 1431ق.=1388).

یادداشت : ج.1 تا 4 ( چاپ هفدهم: 1428 ق. = 1386 ).

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره : BP159/8/م 6الف 6 1373

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : م 73-3984

ص :1

الجزء الأول

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِیمِ نحمده علی آلائه و نصلی علی خاتم النبیین محمد و آله الطاهرین المعصومین

المدخل

تعریف علم الأصول

(علم أصول الفقه هو علم یبحث فیه عن قواعد تقع نتیجتها فی طرق استنباط الحکم الشرعی) .مثاله أن الصلاة واجبة فی الشریعة الإسلامیة المقدسة و قد دل علی وجوبها من القرآن الکریم قوله تعالی وَ أَنْ أَقِیمُوا الصَّلاٰةَ إِنَّ الصَّلاٰةَ کٰانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ کِتٰاباً مَوْقُوتاً و لکن دلالة الآیة الأولی متوقفة علی ظهور صیغة الأمر نحو أَقِیمُوا هنا فی الوجوب و متوقفة أیضا علی أن ظهور القرآن حجة یصح الاستدلال به .و هاتان المسألتان یتکفل ببیانهما علم الأصول .فإذا علم الفقیه من هذا العلم أن صیغة الأمر ظاهرة فی الوجوب و أن ظهور القرآن حجة استطاع أن یستنبط من هذه الآیة الکریمة المذکورة أن الصلاة واجبة و هکذا فی کل حکم شرعی مستفاد من أی دلیل شرعی أو عقلی لا بد أن یتوقف استنباطه من الدلیل علی مسألة أو أکثر من مسائل هذا العلم

ص :5

الحکم واقعی و ظاهری و الدلیل اجتهادی و فقاهتی

ثم لا یخفی أن الحکم الشرعی الذی جاء ذکره فی التعریف السابق علی نحوین .1 أن یکون ثابتا للشیء بما هو فی نفسه فعل من الأفعال کالمثال المتقدم أعنی وجوب الصلاة فالوجوب ثابت للصلاة بما هی صلاة فی نفسها و فعل من الأفعال مع قطع النظر عن أی شیء آخر و یسمی مثل هذا الحکم الحکم الواقعی و الدلیل الدال علیه الدلیل الاجتهادی .2 أن یکون ثابتا للشیء بما أنه مجهول حکمه الواقعی کما إذا اختلف الفقهاء فی حرمة النظر إلی الأجنبیة أو وجوب الإقامة للصلاة فعند عدم قیام الدلیل علی أحد الأقوال لدی الفقیه یشک فی الحکم الواقعی الأولی المختلف فیه و لأجل ألا یبقی فی مقام العمل متحیرا لا بد له من وجود حکم آخر و لو کان عقلیا کوجوب الاحتیاط أو البراءة أو عدم الاعتناء بالشک و یسمی مثل هذا الحکم الثانوی الحکم الظاهری و الدلیل الدال علیه الدلیل الفقاهتی أو الأصل العملی .و مباحث الأصول منها ما یتکفل للبحث عما تقع نتیجته فی طریق استنباط الحکم الواقعی و منها ما یقع فی طریق الحکم الظاهری و یجمع الکل وقوعها فی طریق استنباط الحکم الشرعی علی ما ذکرناه فی التعریف

موضوع علم الأصول

إن هذا العلم غیر متکفل للبحث عن موضوع خاص بل یبحث عن موضوعات شتی تشترک کلها فی غرضنا المهم منه و هو استنباط الحکم

ص :6

الشرعی فلا وجه لجعل موضوع هذا العلم خصوص الأدلة الأربعة فقط و هی الکتاب و السنة و الإجماع و العقل أو بإضافة الاستصحاب أو بإضافة القیاس و الاستحسان کما صنع المتقدمون .و لا حاجة إلی الالتزام بأن العلم لا بد له من موضوع یبحث عن عوارضه الذاتیة فی ذلک العلم کما تسالمت علیه کلمة المنطقیین فإن هذا لا ملزم له و لا دلیل علیه

فائدته

أن کل متشرع یعلم أنه ما من فعل من أفعال الإنسان الاختیاریة إلا و له حکم فی الشریعة الإسلامیة المقدسة من وجوب أو حرمة أو نحوهما من الأحکام الخمسة و یعلم أیضا أن تلک الأحکام لیست کلها معلومة لکل أحد بالعلم الضروری بل یحتاج أکثرها لإثباتها إلی إعمال النظر و إقامة الدلیل أی إنها من العلوم النظریة .و علم الأصول هو العلم الوحید المدون للاستعانة به علی الاستدلال علی إثبات الأحکام الشرعیة ففائدته إذن الاستعانة علی الاستدلال للأحکام من أدلتها.

تقسیم أبحاثه

تنقسم مباحث هذا العلم إلی أربعة أقسام (1).

ص :7


1- وهذا التقسیم حدیث تنبه له شیخنا العظیم الشیخ محمد حسین الإصفهانی (قدس سره) المتوفی سنة 1361 أفاده فی دورة بحثه الأخیرة. وهو التقسیم الصحیح الذی یجمع مسائل علم الأصول ویدخل کل مسألة فی بابها. فمثلا: مبحث المشتق کان یعد من المقدمات وینبغی أن یعد من مباحث الألفاظ، ومقدمة الواجب ومسألة الإجزاء ونحوهما کانت تعد من مباحث الألفاظ، وهی من بحث الملازمات العقلیة... وهکذا.

1 مباحث الألفاظ و هی تبحث عن مدالیل الألفاظ و ظواهرها من جهة عامة نظیر البحث عن ظهور صیغة افعل فی الوجوب و ظهور النهی فی الحرمة و نحو ذلک .2 المباحث العقلیة و هی ما تبحث عن لوازم الأحکام فی أنفسها و لو لم تکن تلک الأحکام مدلولة للفظ کالبحث عن الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع و کالبحث عن استلزام وجوب الشیء لوجوب مقدمته المعروف هذا البحث باسم مقدمة الواجب و کالبحث عن استلزام وجوب الشیء لحرمة ضده المعروف باسم مسألة الضد و کالبحث عن جواز اجتماع الأمر و النهی و غیر ذلک .3 مباحث الحجة و هی ما یبحث فیها عن الحجیة و الدلیلیة کالبحث عن حجیة خبر الواحد و حجیة الظواهر و حجیة ظواهر الکتاب و حجیة السنة و الإجماع و العقل و ما إلی ذلک .4 مباحث الأصول العملیة و هی تبحث عن مرجع المجتهد عند فقدان الدلیل الاجتهادی کالبحث عن أصل البراءة و الاحتیاط و الاستصحاب و نحوها .فمقاصد الکتاب إذن أربعة و له خاتمة تبحث عن تعارض الأدلة و تسمی مباحث التعادل و التراجیح فالکتاب یقع فی خمسة أجزاء (1)إن شاء الله تعالی .و قبل الشروع لا بد من مقدمة یبحث فیها عن جملة من المباحث اللغویة التی لم یستوف البحث عنها فی العلوم الأدبیة أو لم یبحث عنها

ص :8


1- (1) وقد وضعه المؤلف - طاب مثواه - بعدئذ فی أربعة أجزاء، حیث ألحق مباحث التعادل والتراجیح فی الجزء الثالث ضمن مباحث الحجة، وقد أوضح أسباب ذلک فی مقدمة الجزء الثالث.

المقدمة تبحث عن أمور لها علاقة بوضع الألفاظ و استعمالها و دلالتها و فیها أربعة عشر مبحثا

1 حقیقة الوضع

لا شک أن دلالة الألفاظ علی معانیها فی أیة لغة کانت لیست ذاتیة کذاتیة دلالة الدخان مثلا علی وجود النار و إن توهم ذلک بعضهم لأن لازم هذا الزعم أن یشترک جمیع البشر فی هذه الدلالة مع أن الفارسی مثلا لا یفهم الألفاظ العربیة و لا غیرها من دون تعلم و کذلک العکس فی جمیع اللغات و هذا واضح .و علیه فلیست دلالة الألفاظ علی معانیها إلا بالجعل و التخصیص من واضع تلک الألفاظ لمعانیها و لذا تدخل الدلالة اللفظیة هذه فی الدلالة الوضعیة

2 من الواضع

و لکن من ذلک الواضع الأول فی کل لغة من اللغات قیل إن الواضع لا بد أن یکون شخصا واحدا یتبعه جماعة من البشر فی التفاهم بتلک اللغة و قیل و هو الأقرب إلی الصواب إن الطبیعة البشریة حسب القوة المودعة من الله تعالی فیها تقتضی إفادة مقاصد الإنسان بالألفاظ فیخترع من عند نفسه لفظا مخصوصا عند إرادة معنی مخصوص کما هو المشاهد من الصبیان عند أول أمرهم فیتفاهم مع الآخرین الذین

ص :9

یتصلون به و الآخرون کذلک یخترعون من أنفسهم ألفاظا لمقاصدهم و تتألف علی مرور الزمن من مجموع ذلک طائفة صغیرة من الألفاظ حتی تکون لغة خاصة لها قواعدها یتفاهم بها قوم من البشر و هذه اللغة قد تنشعب بین أقوام متباعدة و تتطور عند کل قوم بما یحدث فیها من التغییر و الزیادة حتی قد تنبثق منها لغات أخری فیصبح لکل جماعة لغتهم الخاصة .و علیه تکون حقیقة الوضع هو جعل اللفظ بإزاء المعنی و تخصیصه به و مما یدل علی اختیار القول الثانی فی الواضع أنه لو کان الواضع شخصا واحدا لنقل ذلک فی تاریخ اللغات و لعرف عند کل لغة واضعها

3 الوضع تعیینی و تعینی

ثم إن دلالة الألفاظ علی معانیها الأصل فیها أن تکون ناشئة من الجعل و التخصیص و یسمی الوضع حینئذ تعیینیا و قد تنشأ الدلالة من اختصاص اللفظ بالمعنی الحاصل هذا الاختصاص من الکثرة فی الاستعمال علی درجة من الکثرة أنه تالفة الأذهان علی وجه إذا سمع اللفظ ینتقل السامع منه إلی المعنی و یسمی الوضع حینئذ تعینیا

4 أقسام الوضع

لا بد فی الوضع من تصور اللفظ و المعنی لأن الوضع حکم علی المعنی و علی اللفظ و لا یصح الحکم علی الشیء إلا بعد تصوره و معرفته بوجه من الوجوه و لو علی نحو الإجمال لأن تصور الشیء قد یکون بنفسه و قد یکون بوجهه أی بتصور عنوان عام ینطبق علیه و یشار به إلیه

ص :10

إذ یکون ذلک العنوان العام مرآة و کاشفا عنه کما إذا حکمت علی شبح من بعید أنه أبیض مثلا و أنت لا تعرفه بنفسه أنه أی شیء هو و أکثر ما تعرف عنه مثلا أنه شیء من الأشیاء أو حیوان من الحیوانات فقد صح حکمک علیه بأنه أبیض مع أنک لم تعرفه و لم تتصوره بنفسه و إنما تصورته بعنوان أنه شیء أو حیوان لا أکثر و أشرت به إلیه و هذا ما یسمی فی عرفهم تصور الشیء بوجهه و هو کاف لصحة الحکم علی الشیء و هذا بخلاف المجهول محضا فإنه لا یمکن الحکم علیه أبدا .و علی هذا فإنه یکفینا فی صحة الوضع للمعنی أن نتصوره بوجهه کما لو کنا تصورناه بنفسه .و لما عرفنا أن المعنی لا بد من تصوره و أن تصوره علی نحوین فإنه بهذا الاعتبار و باعتبار ثان هو أن المعنی قد یکون خاصا أی جزئیا و قد یکون عاما أی کلیا نقول إن الوضع ینقسم إلی أربعة أقسام عقلیة 1 أن یکون المعنی المتصور جزئیا و الموضوع له نفس ذلک الجزئی أی إن الموضوع له معنی متصور بنفسه لا بوجهه و یسمی هذا القسم الوضع خاص و الموضوع له خاص .2 أن یکون المتصور کلیا و الموضوع له نفس ذلک الکلی أی إن الموضوع له کلی متصور بنفسه لا بوجهه و یسمی هذا القسم الوضع عام و الموضوع له عام .3 أن یکون المتصور کلیا و الموضوع له أفراد ذلک الکلی لا نفسه أی إن الموضوع له جزئی غیر متصور بنفسه بل بوجهه و یسمی هذا القسم الوضع عام و الموضوع له خاص .4 أن یکون المتصور جزئیا و الموضوع له کلیا لذلک الجزئی و یسمی هذا القسم الوضع خاص و الموضوع له عام .

ص :11

إذا عرفت هذه الأقسام المتصورة العقلیة فنقول لا نزاع فی إمکان الأقسام الثلاثة الأولی کما لا نزاع فی وقوع القسمین الأولین و مثال الأول الأعلام الشخصیة کمحمد و علی و جعفر و مثال الثانی أسماء الأجناس کماء و سماء و نجم و إنسان و حیوان .و إنما النزاع وقع فی أمرین الأول فی إمکان القسم الرابع و الثانی فی وقوع الثالث بعد التسلیم بإمکانه و الصحیح عندنا استحالة الرابع و وقوع الثالث و مثاله الحروف و أسماء الإشارة و الضمائر و الاستفهام و نحوها علی ما سیأتی

5 استحالة القسم الرابع

أما استحالة الرابع و هو الوضع الخاص و الموضوع له العام فنقول فی بیانه إن النزاع فی إمکان ذلک ناشئ من النزاع فی إمکان أن یکون الخاص وجها و عنوانا للعام و ذلک لما تقدم أن المعنی الموضوع له لا بد من تصوره بنفسه أو بوجهه لاستحالة الحکم علی المجهول و المفروض فی هذا القسم أن المعنی الموضوع له لم یکن متصورا و إنما تصور الخاص فقط و إلا لو کان متصورا بنفسه و لو بسبب تصور الخاص کان من القسم الثانی و هو الوضع العام و الموضوع له العام و لا کلام فی إمکانه بل فی وقوعه کما تقدم .فلا بد حینئذ للقول بإمکان القسم الرابع من أن نفرض أن الخاص یصح أن یکون وجها من وجوه العام و جهة من جهاته حتی یکون تصوره کافیا عن تصور العام بنفسه و مغنیا عنه لأجل أن یکون تصورا للعام بوجه .و لکن الصحیح الواضح لکل مفکر أن الخاص لیس من وجوه العام بل الأمر بالعکس من ذلک فإن العام هو وجه من وجوه الخاص و جهة من جهاته و لذا قلنا بإمکان القسم الثالث و هو الوضع العام و الموضوع له

ص :12

الخاص لأنا إذا تصورنا العام فقد تصورنا فی ضمنه جمیع أفراده بوجه فیمکن الوضع لنفس ذلک العام من جهة تصوره بنفسه فیکون من القسم الثانی و یمکن الوضع لأفراده من جهة تصورها بوجهها فیکون من الثالث بخلاف الأمر فی تصور الخاص فلا یمکن الوضع معه إلا لنفس ذلک الخاص و لا یمکن الوضع للعام لأنا لم نتصوره أصلا لا بنفسه بحسب الفرض و لا بوجهه إذ لیس الخاص وجها له و یستحیل الحکم علی المجهول المطلق

6 وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص و تحقیق المعنی الحرفی

اشارة

أما وقوع القسم الثالث فقد قلنا إن مثاله وضع الحروف و ما یلحق بها من أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات و الاستفهام و نحوها .و قبل إثبات ذلک لا بد من تحقیق معنی الحرف و ما یمتاز به عن الاسم فنقول الأقوال فی وضع الحروف و ما یلحق بها من الأسماء ثلاثة 1 أن الموضوع له فی الحروف هو بعینه الموضوع له فی الأسماء المسانخة لها فی المعنی فمعنی من الابتدائیة هو عین معنی کلمة الابتداء بلا فرق و کذا معنی علی معنی کلمة الاستعلاء و معنی فی معنی کلمة الظرفیة و هکذا .و إنما الفرق فی جهة أخری و هی أن الحرف وضع لأجل أن یستعمل فی معناه إذا لوحظ ذلک المعنی حالة و آلة لغیره أی إذا لوحظ المعنی غیر مستقل فی نفسه و الاسم وضع لأجل أن یستعمل فی معناه إذا لوحظ مستقلا فی نفسه .مثلا مفهوم الابتداء معنی واحد وضع له لفظان أحدهما لفظ الابتداء و الثانی کلمة من لکن الأول وضع له لأجل أن یستعمل فیه

ص :13

عند ما یلاحظه المستعمل مستقلا فی نفسه کما إذا قیل ابتداء السیر کان سریعا و الثانی وضع له لأجل أن یستعمل فیه عند ما یلاحظه المستعمل غیر مستقل فی نفسه کما إذا قیل سرت من النجف .فتحصل أن الفرق بین معنی الحرف و معنی الاسم أن الأول یلاحظه المستعمل حین الاستعمال آلة لغیره و غیره مستقل فی نفسه و الثانی یلاحظه حین الاستعمال مستقلا مع أن المعنی فی کلیهما واحد و الفرق بین وضعیهما إنما هو فی الغایة فقط .و لازم هذا القول أن الوضع و الموضوع له فی الحروف عامان و هذا القول منسوب إلی الشیخ الرضی نجم الأئمة و اختاره المحقق صاحب الکفایة 2 أن الحروف لم توضع لمعان أصلا بل حالها حال علامات الإعراب فی إفادة کیفیة خاصة فی لفظ آخر فکما أن علامة الرفع فی قولهم حدثنا زرارة تدل علی أن زرارة فاعل الحدیث کذلک من فی المثال المتقدم تدل علی أن النجف مبتدأ منها و السیر مبتدأ به .3 أن الحروف موضوعة لمعان مباینة فی حقیقتها و سنخها للمعانی الاسمیة فإن المعانی الاسمیة فی حد ذاتها معان مستقلة فی أنفسها و معانی الحروف لا استقلال لها بل هی متقومة بغیرها .و الصحیح هذا القول الثالث و یحتاج إلی توضیح و بیان إن المعانی الموجودة فی الخارج علی نحوین الأول ما یکون موجودا فی نفسه کزید الذی هو من جنس الجوهر و قیامه مثلا الذی هو من جنس العرض فإن کلا منهما موجود فی نفسه و الفرق أن الجوهر موجود فی نفسه لنفسه و العرض موجود فی نفسه لغیره .الثانی ما یکون موجودا لا فی نفسه کنسبة القیام إلی زید

ص :14

و الدلیل علی کون هذا المعنی لا فی نفسه أنه لو کان للنسب و الروابط وجودات استقلالیة للزم وجود الرابط بینها و بین موضوعاتها فننقل الکلام إلی ذلک الرابط و المفروض أنه موجود مستقل فلا بد له من رابط أیضا و هکذا ننقل الکلام إلی هذا الرابط فیلزم التسلسل و التسلسل باطل .فیعلم من ذلک أن وجود الروابط و النسب فی حد ذاته متعلق بالغیر و لا حقیقة له إلا التعلق بالطرفین .ثم إن الإنسان فی مقام إفادة مقاصده کما یحتاج إلی التعبیر عن المعانی المستقلة کذلک یحتاج إلی التعبیر عن المعانی غیر المستقلة فی ذاتها فحکمة الوضع تقتضی أن توضع بإزاء کل من القسمین ألفاظ خاصة و الموضوع بإزاء المعانی المستقلة هی الأسماء و الموضوع بإزاء المعانی غیر المستقلة هی الحروف و ما یلحق بها و هذه المعانی غیر المستقلة لما کانت علی أقسام شتی فقد وضع بإزاء کل قسم لفظ یدل علیه أو هیئة لفظیة تدل علیه .مثلا إذا قیل نزحت البئر فی دارنا بالدلو ففیه عدة نسب مختلفة و معان غیر مستقلة إحداها نسبة النزح إلی فاعله و الدال علیها هیئة الفعل للمعلوم و ثانیتها نسبته إلی ما وقع علیه أی مفعوله و هو البئر و الدال علیها هیئة النصب فی الکلمة و ثالثتها نسبته إلی المکان و الدال علیها کلمة فی و رابعتها نسبته إلی الآلة و الدال علیها لفظ الباء فی کلمة بالدلو .و من هنا یعلم أن الدال علی المعانی غیر المستقلة ربما یکون لفظا مستقلا کلفظة من و إلی و فی و ربما یکون هیئة فی اللفظ کهیئات المشتقات و الأفعال و هیئات الإعراب .

ص :15

النتیجة

فقد تحقق مما بیناه أن الحروف لها معان تدل علیها کالأسماء و الفرق أن المعانی الاسمیة مستقلة فی أنفسها و قابلة لتصورها فی ذاتها و إن کانت فی الوجود الخارجی محتاجة إلی غیرها کالأعراض و أما المعانی الحرفیة فهی معان غیر مستقلة و غیر قابلة للتصور إلا فی ضمن مفهوم آخر و من هنا یشبه کل أمر غیر مستقل بالمعنی الحرفی .

بطلان القولین الأولین

و علی هذا یظهر بطلان القول الثانی القائل إن الحروف لا معانی لها و کذلک القول الأول القائل إن المعنی الحرفی و الاسمی متحدان بالذات مختلفان باللحاظ و یرد هذا القول أیضا أنه لو صح اتحاد المعنیین لجاز استعمال کل من الحرف و الاسم فی موضع الآخر مع أنه لا یصح بالبداهة حتی علی نحو المجاز فلا یصح بدل قولنا زید فی الدار مثلا أن یقال زید الظرفیة الدار .و قد أجیب عن هذا الإیراد بأنه إنما لا یصح أحدهما فی موضع الآخر لأن الواضع اشترط ألا یستعمل لفظ الظرفیة إلا عند لحاظ معناه مستقلا و لا یستعمل لفظ فی إلا عند لحاظ معناه غیر مستقل و آلة لغیره و لکنه جواب غیر صحیح لأنه لا دلیل علی وجوب اتباع ما یشترطه الواضع إذا لم یکن اشتراطه یوجب اعتبار خصوصیة فی اللفظ و المعنی و علی تقدیر أن یکون الواضع ممن تجب طاعته فمخالفته توجب العصیان لا غلط الکلام

ص :16

زیادة إیضاح

إذ قد عرفت أن الموجودات (1)منها ما یکون مستقلا فی الوجود و منها ما یکون رابطا بین موجودین فاعلم أن کل کلام مرکب من کلمتین أو أکثر إذا ألقیت کلماته بغیر ارتباط بینها فإن کل واحد منها کلمة مستقلة فی نفسها لا ارتباط لها بالأخری و إنما الذی یربط بین المفردات و یؤلفها کلاما واحدا هو الحرف أو إحدی الهیئات الخاصة فأنت إذا قلت مثلا أنا کتب قلم لا یکون بین هذه الکلمات ربط و إنما هی مفردات صرفة منثورة أما إذا قلت کتبت بالقلم کان کلاما واحدا مرتبطا بعضه مع بعض مفهما للمعنی المقصود منه و ما حصل هذا الارتباط و الوحدة الکلامیة إلا بفضل الهیئة المخصوصة لکتبت و حرف الباء و أل .و علیه یصح أن یقال إن الحروف هی روابط المفردات المستقلة و المؤلفة للکلام الواحد و الموحدة للمفردات المختلفة شأنها شأن النسبة بین المعانی المختلفة و الرابطة بین المفاهیم غیر المربوطة فکما أن النسبة رابطة بین المعانی و مؤلفة بینها فکذلک الحرف الدال علیها رابط بین الألفاظ و مؤلف بینها .و إلی هذا(أشار سید الأولیاء أمیر المؤمنین علیه السلام بقوله المعروف فی تقسیم الکلمات:الاسم ما أنبأ عن المسمی و الفعل ما أنبأ عن حرکة

ص :17


1- ینبغی أن یقال للتوضیح: إن الموجودات علی أربعة أنحاء: موجود فی نفسه لنفسه بنفسه وهو واجب الوجود، وموجود فی نفسه لنفسه بغیره وهو الجوهر کالجسم والنفس، وموجود فی نفسه لغیره بغیره وهو العرض، وموجود فی غیره وهو أضعفها، وهو المعنی الحرفی المعبر عنه ب " الرابط ". فالأقسام الثلاثة الأولی الموجودات المستقلة، والرابع عداها الذی هو المعنی الحرفی الذی لا وجود له إلا وجود طرفیه.

المسمی و الحرف ما أوجد معنی فی غیره) فأشار إلی أن المعانی الاسمیة معان استقلالیة و معانی الحروف غیر مستقلة فی نفسها و إنما هی تحدث الربط بین المفردات و لم نجد فی تعاریف القوم للحرف تعریفا جامعا صحیحا مثل هذا التعریف

الوضع فی الحروف عام و الموضوع له خاص

إذا اتضح جمیع ما تقدم یظهر أن کل نسبة حقیقتها متقومة بطرفیها علی وجه لو قطع النظر عن الطرفین لبطلت و انعدمت فکل نسبة فی وجودها الرابط مباینة لأیة نسبة أخری و لا تصدق علیها و هی فی حد ذاتها مفهوم جزئی حقیقی .و علیه لا یمکن فرض النسبة مفهوما کلیا ینطبق علی کثیرین و هی متقومة بالطرفین و إلا لبطلت و انسلخت عن حقیقة کونها نسبة .ثم إن النسب غیر محصورة فلا یمکن تصور جمیعها للواضع فلا بد فی مقام الوضع لها من تصور معنی اسمی یکون عنوانا للنسب غیر المحصورة حاکیا عنها و لیس العنوان فی نفسه نسبة کمفهوم لفظ النسبة الابتدائیة المشار به إلی أفراد النسب الابتدائیة الکلامیة ثم یضع لنفس الأفراد غیر المحصورة التی لا یمکن التعبیر عنها إلا بعنوانها و بعبارة أخری إن الموضوع له هو النسبة الابتدائیة بالحمل الشائع و أما النسبة الابتدائیة بالحمل الأولی فلیست بنسبة حقیقة بل تکون طرفا للنسبة کما لو قلت الابتداء کان من هذا المکان .و من هذا یعلم حال أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات و نحوها فالوضع فی الجمیع عام و الموضوع له خاص

ص :18

7 الاستعمال حقیقی و مجازی

استعمال اللفظ فی معناه الموضوع له حقیقة و استعماله فی غیره المناسب له مجاز و فی غیر المناسب غلط و هذا أمر محل وفاق و لکنه وقع الخلاف فی الاستعمال المجازی فی أن صحته هل هی متوقفة علی ترخیص الواضع و ملاحظة العلاقات المذکورة فی علم البیان أو أن صحته طبعیة تابعة لاستحسان الذوق السلیم فکلما کان المعنی غیر الموضوع له مناسبا للمعنی الموضوع له و استحسنه الطبع صح استعمال اللفظ فیه و إلا فلا .و الأرجح القول الثانی لأنا نجد صحة استعمال الأسد فی الرجل الشجاع مجازا و إن منع منه الواضع و عدم صحة استعماله مجازا فی کریه رائحة الفم کما یمثلون و إن رخص الواضع و مؤید ذلک اتفاق اللغات المختلفة غالبا فی المعانی المجازیة فتری فی کل لغة یعبر عن الرجل الشجاع باللفظ الموضوع للأسد و هکذا فی کثیر من المجازات الشائعة عند البشر

8 الدلالة تابعة للإرادة

قسموا الدلالة إلی قسمین التصوریة و التصدیقیة 1 التصوریة و هی أن ینتقل ذهن الإنسان إلی معنی اللفظ بمجرد صدوره من لافظ و لو علم أن اللافظ لم یقصده کانتقال الذهن إلی المعنی الحقیقی عند استعمال اللفظ فی معنی مجازی مع أن المعنی الحقیقی لیس مقصودا للمتکلم و کانتقال الذهن إلی المعنی من اللفظ الصادر من الساهی أو النائم أو الغالط .2 التصدیقیة و هی دلالة اللفظ علی أن المعنی مراد للمتکلم

ص :19

فی اللفظ و قاصد لاستعماله فیه و هذه الدلالة متوقفة علی عدة أشیاء أولا علی إحراز کون المتکلم فی مقام البیان و الإفادة و ثانیا علی إحراز أنه جاد غیر هازل و ثالثا علی إحراز أنه قاصد لمعنی کلامه شاعر به و رابعا علی عدم نصب قرینة علی إرادة خلاف الموضوع له و إلا کانت الدلالة التصدیقیة علی طبق القرینة المنصوبة .و المعروف أن الدلالة الأولی التصوریة معلولة للوضع أی أن الدلالة الوضعیة هی الدلالة التصوریة و هذا هو مراد من یقول إن الدلالة غیر تابعة للإرادة بل تابعة لعلم السامع بالوضع .و الحق أن الدلالة تابعة للإرادة و أول من تنبه لذلک فیما نعلم الشیخ نصیر الدین الطوسی أعلی الله مقامه لأن الدلالة فی الحقیقة منحصرة فی الدلالة التصدیقیة و الدلالة التصوریة التی یسمونها دلالة لیست بدلالة و إن سمیت کذلک فإنه من باب التشبیه و التجوز لأن التصوریة فی الحقیقة هی من باب تداعی المعانی الذی یحصل بأدنی مناسبة فتقسیم الدلالة إلی تصدیقیة و تصوریة تقسیم الشیء إلی نفسه و إلی غیره .و السر فی ذلک أن الدلالة حقیقة کما فسرناها فی کتاب المنطق الجزء الأول بحث الدلالة هی أن یکشف الدال عن وجود المدلول فیحصل من العلم به العلم بالمدلول سواء کان الدال لفظا أو غیر لفظ .مثلا إن طرقة الباب یقال إنها دالة علی وجود شخص علی الباب طالب لأهل الدار باعتبار أن المطرقة موضوعة لهذه الغایة و تحلیل هذا المعنی أن سماع الطرقة یکشف عن وجود طالب قاصد للطلب فیحصل من العلم بالطرقة العلم بالطارق و قصده و لذلک یتحرک السامع إلی إجابته .لا أنه ینتقل ذهن السامع من تصور الطرقة إلی تصور شخص ما فإن هذا الانتقال قد یحصل بمجرد تصور معنی الباب أو الطرقة من دون أن

ص :20

یسمع طرقة و لا یسمی ذلک دلالة و لذا إن الطرقة لو کانت علی نحو مخصوص یحصل من حرکة الهواء مثلا لا تکون دالة علی ما وضعت له المطرقة و إن خطر فی ذهن السامع معنی ذلک .و هکذا نقول فی دلالة الألفاظ علی معانیها بدون فرق فإن اللفظ إذا صدر من المتکلم علی نحو یحرز معه أنه جاد فیه غیر هازل و أنه عن شعور و قصد و أن غرضه البیان و الإفهام و معنی إحراز ذلک أن السامع علم بذلک فإن کلامه یکون حینئذ دالا علی وجود المعنی أی وجوده فی نفس المتکلم بوجود قصدی فیکون علم السامع بصدور الکلام منه یستلزم علمه بأن المتکلم قاصد لمعناه لأجل أن یفهمه السامع و بهذا یکون الکلام دالا کما تکون الطرقة دالة و ینعقد بهذا للکلام ظهور فی معناه الموضوع له أو المعنی الذی أقیمت علی إرادته قرینة .و لذا نحن عرفنا الدلالة اللفظیة فی المنطق 1 26 بأنها هی کون اللفظ بحالة ینشأ من العلم بصدوره من المتکلم العلم بالمعنی المقصود به و من هنا سمی المعنی معنی أی المقصود من عناه إذا قصده .و لأجل أن یتضح هذا الأمر جیدا اعتبر باللافتات التی توضع فی هذا العصر للدلالة علی أن الطریق مغلوق مثلا أو أن الاتجاه فی الطریق إلی الیمین أو الیسار و نحو ذلک فإن اللافتة إذا کانت موضوعة فی موضعها اللائق علی وجه منظم بنحو یظهر منه أن وضعها لهدایة المستطرقین کان مقصودا لواضعها فإن وجودها هکذا یدل حینئذ علی ما یقصد منها من غلق الطریق أو الاتجاه أما لو شاهدتها مطروحة فی الطریق مهملة أو عند الکاتب یرسمها فإن المعنی المکتوب یخطر فی ذهن القارئ و لکن لا تکون دالة عنده علی أن الطریق مغلوقة أو أن الاتجاه کذا بل أکثر ما یفهم من ذلک أنها ستوضع لتدل علی هذا بعد ذلک لا أن لها الدلالة فعلا

ص :21

9 الوضع شخصی و نوعی

قد عرفت فی المبحث الرابع أنه لا بد فی الوضع من تصور اللفظ و المعنی و عرفت هناک أن المعنی تارة یتصوره الواضع بنفسه و أخری بوجهه و عنوانه فاعرف هنا أن اللفظ أیضا کذلک ربما یتصوره الواضع بنفسه و یضعه للمعنی کما هو الغالب فی الألفاظ فیسمی الوضع حینئذ شخصیا و ربما یتصوره بوجهه و عنوانه فیسمی الوضع نوعیا .و مثال الوضع النوعی الهیئات فإن الهیئة غیر قابلة للتصور بنفسها بل إنما یصح تصورها فی مادة من مواد اللفظ کهیئة کلمة ضرب مثلا و هی هیئة الفعل الماضی فإن تصورها لا بد أن یکون فی ضمن الضاد و الراء و الباء أو فی ضمن الفاء و العین و اللام فی فعل و لما کانت المواد غیر محصورة و لا یمکن تصور جمیعها فلا بد من الإشارة إلی أفرادها بعنوان عام فیضع کل هیئة تکون علی زنة فعل مثلا أو زنة فاعل أو غیرهما و یتوصل إلی تصور ذلک العام بوجود الهیئة فی إحدی المواد کمادة فعل التی جرت الاصطلاحات علیها عند علماء العربیة

10 وضع المرکبات

ثم الهیئة الموضوعة لمعنی تارة تکون فی المفردات کهیئات المشتقات التی تقدمت الإشارة إلیها و أخری فی المرکبات کالهیئة الترکیبیة بین المبتدإ و الخبر لإفادة حمل شیء علی شیء و کهیئة تقدم ما حقه التأخیر لإفادة الاختصاص و من هنا تعرف أنه لا حاجة إلی وضع الجمل و المرکبات فی إفادة معانیها زائدا علی وضع المفردات بالوضع الشخصی و الهیئات بالوضع النوعی کما قیل بل هو لغو محض و لعل من ذهب إلی وضعها أراد به وضع

ص :22

الهیئات الترکیبیة لا الجملة بأسرها بموادها و هیئاتها زیادة علی وضع أجزائها فیعود النزاع حینئذ لفظیا

11 علامات الحقیقة و المجاز

اشارة

قد یعلم الإنسان إما من طریق نص أهل اللغة أو لکونه نفسه من أهل اللغة أن لفظ کذا موضوع لمعنی کذا و لا کلام لأحد فی ذلک فإنه من الواضح أن استعمال اللفظ فی ذلک المعنی حقیقة و فی غیره مجاز .و قد یشک فی وضع لفظ مخصوص لمعنی مخصوص فلا یعلم أن استعماله فیه هل کان علی سبیل الحقیقة فلا یحتاج إلی نصب قرینة علیه أو علی سبیل المجاز فیحتاج إلی نصب القرینة و قد ذکر الأصولیون لتعیین الحقیقة من المجاز أی لتعیین أنه موضوع لذلک المعنی أو غیر موضوع طرقا و علامات کثیرة نذکر هنا أهمها

الأولی التبادر

دلالة کل لفظ علی أی معنی لا بد لها من سبب و السبب لا یخلو فرضه عن أحد أمور ثلاثة المناسبة الذاتیة و قد عرفت بطلانها أو العقلیة الوضعیة أو القرینة الحالیة أو المقالیة فإذا علم أن الدلالة مستندة إلی نفس اللفظ من غیر اعتماد علی قرینة فإنه یثبت أنها من جهة العلقة الوضعیة .و هذا هو المراد بقولهم التبادر علامة الحقیقة و المقصود من کلمة التبادر هو انسباق المعنی من نفس اللفظ مجردا عن کل قرینة .و قد یعترض علی ذلک بأن التبادر لا بد له من سبب و لیس هو إلا العلم بالوضع لأن من الواضح أن الانسباق لا یحصل من اللفظ إلی معناه

ص :23

فی أیة لغة لغیر العالم بتلک اللغة فیتوقف التبادر علی العلم بالوضع فلو أردنا إثبات الحقیقة و تحصیل العلم بالوضع بسبب التبادر لزم الدور المحال فلا یعقل علی هذا أن یکون التبادر علامة للحقیقة یستفاد منه العلم بالوضع و المفروض أنه مستفاد من العلم بالوضع .و الجواب أن کل فرد من أیة أمة یعیش معها لا بد أن یستعمل الألفاظ المتداولة عندها تبعا لها و لا بد أن یرتکز فی ذهنه معنی اللفظ ارتکازا یستوجب انسباق ذهنه إلی المعنی عند سماع اللفظ و قد یکون ذلک الارتکاز من دون التفات تفصیلی إلیه و إلی خصوصیات المعنی فإذا أراد الإنسان معرفة المعنی و تلک الخصوصیات و توجهت نفسه إلیه فإنه یفتش عما هو مرتکز فی نفسه من المعنی فینظر إلیه مستقلا عن القرینة فیری أن المتبادر من اللفظ الخاص ما هو من معناه الارتکازی فیعرف أنه حقیقة فیه .فالعلم بالوضع لمعنی خاص بخصوصیاته التفصیلیة أی الالتفات التفصیلی إلی الوضع و التوجه إلیه یتوقف علی التبادر و التبادر إنما هو موقوف علی العلم الارتکازی بوضع اللفظ لمعناه غیر الملتفت إلیه .و الحاصل أن هناک علمین أحدهما یتوقف علی التبادر و هو العلم التفصیلی و الآخر یتوقف التبادر علیه و هو العلم الإجمالی الارتکازی .هذا الجواب بالقیاس إلی العالم بالوضع و أما بالقیاس إلی غیر العالم به فلا یعقل حصول التبادر عنده لفرض جهله باللغة نعم یکون التبادر أمارة علی الحقیقة عنده إذا شاهد التبادر عند أهل اللغة یعنی أن الأمارة عنده تبادر غیره من أهل اللغة مثلا إذا شاهد الأعجمی من أصحاب اللغة العربیة انسباق أذهانهم من لفظ الماء المجرد عن القرینة إلی الجسم السائل البارد بالطبع فلا بد أن یحصل له العلم بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنی

ص :24

عندهم و علیه فلا دور هنا لأن علمه یتوقف علی التبادر و التبادر یتوقف علی علم غیره.

العلامة الثانیة عدم صحة السلب و صحته و صحة الحمل و عدمه
اشارة

ذکروا أن عدم صحة سلب اللفظ عن المعنی الذی یشک فی وضعه له علامة أنه حقیقة فیه و أن صحة السلب علامة علی أنه مجاز فیه .و ذکروا أیضا أن صحة حمل اللفظ علی ما یشک فی وضعه له علامة الحقیقة و عدم صحة الحمل علامة علی المجاز .و هذا ما یحتاج إلی تفصیل و بیان فلتحقیق الحمل و عدمه و السلب و عدمه نسلک الطرق الآتیة 1 نجعل المعنی الذی یشک فی وضع اللفظ له موضوعا و نعبر عنه بأی لفظ کان یدل علیه .ثم نجعل اللفظ المشکوک فی وضعه لذلک المعنی محمولا بما له من المعنی الارتکازی .ثم نجرب أن نحمل بالحمل الأولی اللفظ بما له من المعنی المرتکز فی الذهن علی ذلک اللفظ الدال علی المعنی المشکوک وضع اللفظ له و الحمل الأولی ملاکه الاتحاد فی المفهوم و التغایر بالاعتبار (1). و حینئذ إذا أجرینا هذه التجربة فإن وجدنا عند أنفسنا صحة الحمل و عدم صحة السلب علمنا تفصیلا بأن اللفظ موضوع لذلک المعنی و إن وجدنا عدم صحة الحمل و صحة السلب علمنا أنه لیس موضوعا لذلک المعنی بل یکون استعماله فیه مجازا .

ص :25


1- و قد شرحنا الحمل و أقسامه فی الجزء الأول من المنطق ص 76 . من الطبعة الثانیة .

2 إذا لم یصح عندنا الحمل الأولی نجرب أن نحمله هذه المرة بالحمل الشائع الصناعی الذی ملاکه الاتحاد وجودا و التغایر مفهوما .و حینئذ فإن صح الحمل علمنا أن المعنیین متحدان وجودا سواء کانت النسبة التساوی أو العموم من وجه (1)أو مطلقا و لا یتعین واحد منها بمجرد صحة الحمل و إن لم یصح الحمل و صح السلب علمنا أنهما متباینان 3 نجعل موضوع القضیة أحد مصادیق المعنی المشکوک وضع اللفظ له لا نفس المعنی المذکور ثم نجرب الحمل و ینحصر الحمل فی هذه التجربة بالحمل الشائع فإن صح الحمل علم منه حال المصداق من جهة کونه أحد المصادیق الحقیقیة لمعنی اللفظ الموضوع له سواء کان ذلک المعنی نفس المعنی المذکور أو غیره المتحد معه وجودا کما یستعلم منه حال الموضوع له فی الجملة من جهة شموله لذلک المصداق بل قد یستعلم منه تعیین الموضوع له مثلما إذا کان الشک فی وضعه لمعنی عام أو خاص کلفظ الصعید المردد بین أن یکون موضوعا لمطلق وجه الأرض أو لخصوص التراب الخالص فإذا وجدنا صحة الحمل و عدم صحة السلب بالقیاس إلی غیر التراب الخالص من مصادیق الأرض یعلم بالقهر تعیین وضعه لعموم الأرض .و إن لم یصح الحمل و صح السلب علم أنه لیس من أفراد الموضوع له و مصادیقه الحقیقیة و إذا کان قد استعمل فیه اللفظ فالاستعمال یکون مجازا إما فیه رأسا أو فی معنی یشمله و یعمه

ص :26


1- إنما یفرض العموم من وجه إذا کانت القضیة مهملة .
تنبیه

إن الدور الذی ذکر فی التبادر یتوجه إشکاله هنا أیضا و الجواب عنه نفس الجواب هناک لأن صحة الحمل و صحة السلب إنما هما باعتبار ما للفظ من المعنی المرتکز إجمالا فلا تتوقف العلامة إلا علی العلم الارتکازی و ما یتوقف علی العلامة هو العلم التفصیلی .هذا کله بالنسبة إلی العارف باللغة و أما الجاهل بها فیرجع إلی أهلها فی صحة الحمل و السلب و عدمهما کالتبادر

العلامة الثالثة الاطراد

و ذکروا من جملة علامات الحقیقة و المجاز الاطراد و عدمه فالاطراد علامة الحقیقة و عدمه علامة المجاز .و معنی الاطراد أن اللفظ لا تختص صحة استعماله بالمعنی المشکوک بمقام دون مقام و لا بصورة دون صورة کما لا یختص بمصداق دون مصداق .و الصحیح أن الاطراد لیس علامة للحقیقة لأن صحة استعمال اللفظ فی معنی بما له من الخصوصیات مرة واحدة تستلزم صحته دائما سواء کان حقیقة أم مجازا فالاطراد لا یختص بالحقیقة حتی یکون علامة لها

ص :27

12 الأصول اللفظیة

تمهید

اعلم أن الشک فی اللفظ علی نحوین 1 الشک فی وضعه لمعنی من المعانی .2 الشک فی المراد منه بعد فرض العلم بالوضع کأن یشک فی أن المتکلم أراد بقوله رأیت أسدا معناه الحقیقی أو معناه المجازی مع العلم بوضع لفظ الأسد للحیوان المفترس و بأنه غیر موضوع للرجل الشجاع .أما النحو الأول فقد کان البحث السابق معقودا لأجله لغرض بیان العلامات المثبتة للحقیقة أو المجاز أی المثبتة للوضع أو عدمه و هنا نقول إن الرجوع إلی تلک العلامات و أشباهها کنص أهل اللغة أمر لا بد منه فی إثبات أوضاع اللغة أیة لغة کانت و لا یکفی فی إثباتها أن نجد فی کلام أهل تلک اللغة استعمال اللفظ فی المعنی الذی شک فی وضعه له لأن الاستعمال کما یصح فی المعنی الحقیقی یصح فی المعنی المجازی و ما یدرینا لعل المستعمل اعتمد علی قرینة حالیة أو مقالیة فی تفهیم المعنی المقصود له فاستعمله فیه علی سبیل المجاز و لذا اشتهر فی لسان المحققین حتی جعلوه کقاعدة قولهم إن الاستعمال أعم من الحقیقة و المجاز .و من هنا نعلم بطلان طریقة العلماء السابقین لإثبات وضع اللفظ بمجرد وجدان استعماله فی لسان العرب کما وقع ذلک لعلم الهدی السید المرتضی قدس سره فإنه کان یجری أصالة الحقیقة فی الاستعمال بینما أن أصالة الحقیقة إنما تجری عند الشک فی المراد لا فی الوضع کما سیأتی .و أما النحو الثانی فالمرجع فیه لإثبات مراد المتکلم الأصول اللفظیة و هذا البحث معقود لأجلها فینبغی الکلام فیها من جهتین أولا فی ذکرها و ذکر مواردها .ثانیا فی حجیتها و مدرک حجیتها .

ص :28

أما من الجهة الأولی فنقول أهم الأصول اللفظیة ما یأتی .

1 أصالة الحقیقة

و موردها ما إذا شک فی إرادة المعنی الحقیقی أو المجازی من اللفظ بأن لم یعلم وجود القرینة علی إرادة المجاز مع احتمال وجودها فیقال حینئذ الأصل الحقیقة أی الأصل أن نحمل الکلام علی معناه الحقیقی فیکون حجة فیه للمتکلم علی السامع و حجة فیه للسامع علی المتکلم فلا یصح من السامع الاعتذار فی مخالفة الحقیقة بأن یقول للمتکلم لعلک أردت المعنی المجازی و لا یصح الاعتذار من المتکلم بأن یقول للسامع إنی أردت المعنی المجازی .

2 أصالة العموم

و موردها ما إذا ورد لفظ عام و شک فی إرادة العموم منه أو الخصوص أی شک فی تخصیصه فیقال حینئذ الأصل العموم فیکون حجة فی العموم علی المتکلم أو السامع .

3 أصالة الإطلاق

و موردها ما إذا ورد لفظ مطلق له حالات و قیود یمکن إرادة بعضها منه و شک فی إرادة هذا البعض لاحتمال وجود القید فیقال الأصل الإطلاق فیکون حجة علی السامع و المتکلم کقوله تعالی أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ فلو شک مثلا فی البیع أنه هل یشترط فی صحته أن ینشأ بألفاظ عربیة فإننا نتمسک بأصالة إطلاق البیع فی الآیة لنفی اعتبار هذا الشرط و التقیید به فنحکم حینئذ بجواز البیع بالألفاظ غیر العربیة .

ص :29

4 أصالة عدم التقدیر

و موردها ما إذا احتمل التقدیر فی الکلام و لیس هناک دلالة علی التقدیر فالأصل عدمه و یلحق بأصالة عدم التقدیر أصالة عدم النقل و أصالة عدم الاشتراط و موردهما ما إذا احتمل معنی ثان موضوع له اللفظ فإن کان هذا الاحتمال مع فرض هجر المعنی الأول و هو المسمی بالمنقول فالأصل عدم النقل و إن کان مع عدم هذا الفرض و هو المسمی بالمشترک فإن الأصل عدم الاشتراک فیحمل اللفظ فی کل منهما علی إرادة المعنی الأول ما لم یثبت النقل و الاشتراک أما إذا ثبت النقل فإنه یحمل علی المعنی الثانی و إذا ثبت الاشتراک فإن اللفظ یبقی مجملا لا یتعین فی أحد المعنیین إلا بقرینة علی القاعدة المعروفة فی کل مشترک .

5 أصالة الظهور

و موردها ما إذا کان اللفظ ظاهرا فی معنی خاص لا علی وجه النص فیه الذی لا یحتمل معه الخلاف بل کان یحتمل إرادة خلاف الظاهر فإن الأصل حینئذ أن یحمل الکلام علی الظاهر فیه .و فی الحقیقة إن جمیع الأصول المتقدمة راجعة إلی هذا الأصل لأن اللفظ مع احتمال المجاز مثلا ظاهر فی الحقیقة و مع احتمال التخصیص ظاهر فی العموم و مع احتمال التقیید ظاهر فی الإطلاق و مع احتمال التقدیر ظاهر فی عدمه فمؤدی أصالة الحقیقة نفس مؤدی أصالة الظهور فی مورد احتمال التخصیص و هکذا فی باقی الأصول المذکورة .فلو عبرنا بدلا عن کل من هذه الأصول بأصالة الظهور کان التعبیر صحیحا مؤدیا للغرض بل کلها یرجع اعتبارها إلی اعتبار أصالة الظهور فلیس عندنا فی الحقیقة إلا أصل واحد هو أصالة الظهور و لذا لو کان الکلام ظاهرا فی المجاز و احتمل إرادة الحقیقة انعکس الأمر و کان الأصل

ص :30

من اللفظ المجاز بمعنی أن الأصل الظهور و مقتضاه الحمل علی المعنی المجازی و لا تجری أصالة الحقیقة حینئذ و هکذا لو کان الکلام ظاهرا فی التخصیص أو التقیید .

حجیة الأصول اللفظیة

و هی الجهة الثانیة من البحث عن الأصول اللفظیة و البحث عنها یأتی فی بابه و هو باب مباحث الحجة و لکن ینبغی الآن أن نتعجل فی البحث عنها لکثرة الحاجة إلیها مکتفین بالإشارة فنقول إن المدرک و الدلیل فی جمیع الأصول اللفظیة واحد و هو تبانی العقلاء فی الخطابات الجاریة بینهم علی الأخذ بظهور الکلام و عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر کما لا یعتنون باحتمال الغفلة أو الخطإ أو الهزل أو إرادة الإهمال و الإجمال فإذا احتمل الکلام المجاز أو التخصیص أو التقیید أو التقدیر لا یوقفهم ذلک عن الأخذ بظاهره کما یلغون أیضا احتمال الاشتراک و النقل و نحوهما .و لا بد أن الشارع قد أمضی هذا البناء و جری فی خطاباته علی طریقتهم هذه و إلا لزجرنا و نهانا عن هذا البناء فی خصوص خطاباته أو لبین لنا طریقته لو کان له غیر طریقتهم طریقة خاصة یجب اتباعها و لا یجوز التعدی عنها إلی غیرها فیعلم من ذلک علی سبیل الجزم أن الظاهر حجة عنده کما هو عند العقلاء بلا فرق

13 الترادف و الاشتراک

اشارة

لا ینبغی الإشکال فی إمکان الترادف و الاشتراک بل فی وقوعهما فی اللغة العربیة فلا یصغی إلی مقالة من أنکرهما و هذه بین أیدینا اللغة العربیة و وقوعهما فیها واضح لا یحتاج إلی بیان .و لکن ینبغی أن نتکلم فی نشأتهما فإنه یجوز أن یکونا من وضع

ص :31

واضع واحد بأن یضع شخص واحد لفظین لمعنی واحد أو لفظا لمعنیین و یجوز أن یکونا من وضع واضعین متعددین فتضع قبیلة مثلا لفظا لمعنی و قبیلة أخری لفظا آخر لذلک المعنی أو تضع قبیلة لفظا لمعنی و قبیلة أخری ذلک اللفظ لمعنی آخر و عند الجمع بین هذه اللغات باعتبار أن کل لغة منها لغة عربیة صحیحة یجب اتباعها یحصل الترادف و الاشتراک .و الظاهر أن الاحتمال الثانی أقرب إلی واقع اللغة العربیة کما صرح به بعض المؤرخین للغة و علی الأقل فهو الأغلب فی نشأة الترادف و الاشتراک و لذا نسمع علماء العربیة یقولون لغة الحجاز کذا و لغة حمیر کذا و لغة تمیم کذا و هکذا فهذا دلیل علی تعدد الوضع بتعدد القبائل و الأقوام و الأقطار فی الجملة و لا تهمنا الإطالة فی ذلک .

استعمال اللفظ فی أکثر من معنی

و لا شک فی جواز استعمال اللفظ المشترک فی أحد معانیه بمعونة القرینة المعینة و علی تقدیر عدم القرینة یکون اللفظ مجملا لا دلالة له علی أحد معانیه .کما لا شبهه فی جواز استعماله فی مجموع معانیه بما هو مجموع المعانی غایة الأمر یکون هذا الاستعمال مجازا یحتاج إلی القرینة لأنه استعمال للفظ فی غیر ما وضع له .و إنما فی البحث و الخلاف فی جواز إرادة أکثر من معنی واحد من المشترک فی استعمال واحد علی أن یکون کل من المعانی مرادا من اللفظ علی حدة و کان اللفظ قد جعل للدلالة علیه وحده و للعلماء فی ذلک أقوال و تفصیلات کثیرة لا یهمنا الآن التعرض لها و إنما الحق عندنا عدم جواز مثل هذا الاستعمال .الدلیل أن استعمال أی لفظ فی معنی إنما هو بمعنی إیجاد ذلک

ص :32

المعنی باللفظ لکن لا بوجوده الحقیقی بل بوجوده الجعلی التنزیلی لأن وجود اللفظ وجود للمعنی تنزیلا فهو وجود واحد ینسب إلی اللفظ حقیقة أولا و بالذات و إلی المعنی تنزیلا ثانیا و بالعرض (1) فإذا أوجد المتکلم اللفظ لأجل استعماله فی المعنی فکأنما أوجد المعنی و ألقاه بنفسه إلی المخاطب فلذلک یکون اللفظ ملحوظا للمتکلم بل للسامع آلة و طریقا للمعنی و فانیا فیه و تبعا للحاظه و الملحوظ بالأصالة و الاستقلال هو المعنی نفسه .و هذا نظیر الصورة فی المرآة فإن الصورة موجودة بوجود المرآة و الوجود الحقیقی للمرآة و هذا الوجود نفسه ینسب إلی الصورة ثانیا و بالعرض فإذا نظر الناظر إلی الصورة فی المرآة فإنما ینظر إلیها بطریق المرآة بنظرة واحدة هی للصورة بالاستقلال و الأصالة و للمرآة بالآلیة و التبع فتکون المرآة کاللفظ ملحوظة تبعا للحاظ الصورة و فانیة فیها فناء العنوان فی المعنون (2).و علی هذا لا یمکن استعمال لفظ واحد إلا فی معنی واحد فإن استعماله فی معنیین مستقلا بأن یکون کل منهما مرادا من اللفظ کما إذا لم یکن إلا نفسه یستلزم لحاظ کل منهما بالأصالة فلا بد من لحاظ اللفظ فی آن واحد مرتین بالتبع و معنی ذلک اجتماع لحاظین فی آن واحد علی ملحوظ واحد أعنی به اللفظ الفانی فی کل من المعنیین و هو محال بالضرورة فإن الشیء الواحد لا یقبل إلا وجودا واحدا فی النفس فی آن واحد .

ص :33


1- 1) راجع عن توضیح الوجود اللفظی للمعنی الجزء الأول من المنطق ص 22 من الطبعة الثانیة للمؤلف.
2- 2) راجع عن توضیح فناء العنوان فی المعنون الجزء الأول من المنطق ص 55 من الطبعة الثانیة.

أ لا تری أنه لا یمکن أن یقع لک أن تنظر فی مرآة واحدة إلی صورة تسع المرآة کلها و تنظر فی نفس الوقت إلی صورة أخری تسعها أیضا إن هذا لمحال .و کذلک النظر فی اللفظ إلی معنیین علی أن یکون کل منهما قد استعمل فیه اللفظ مستقلا و لم یحک إلا عنه .نعم یجوز لحاظ اللفظ فانیا فی معنی فی استعمال ثم لحاظه فانیا فی معنی آخر فی استعمال ثان مثل ما تنظر فی المرآة إلی صورة تسعها ثم تنظر فی وقت آخر إلی صورة أخری تسعها .و کذا یجوز لحاظ اللفظ فی مجموع معنیین فی استعمال واحد و لو مجازا مثلما تنظر فی المرآة فی آن واحد إلی صورتین لشیئین مجتمعین و فی الحقیقة إنما استعملت اللفظ فی معنی واحد هو مجموع المعنیین و نظرت فی المرآة إلی صورة واحدة لمجموع الشیئین

.تنبیهان

الأول أنه لا فرق فی عدم جواز الاستعمال فی المعنیین بین أن یکونا حقیقیین أو مجازیین أو مختلفین فإن المانع و هو تعلق لحاظین بملحوظ واحد فی آن واحد موجود فی الجمیع فلا یختص بالمشترک کما اشتهر .الثانی ذکر بعضهم أن الاستعمال فی أکثر من معنی إن لم یجز فی المفرد یجوز فی التثنیة و الجمع بأن یراد من کلمة عینین مثلا فرد من العین الباصرة و فرد من العین النابعة فلفظ عین و هو مشترک قد استعمل حال التثنیة فی معنیین فی الباصرة و النابعة و هذا شأنه فی الإمکان و الصحة شأن ما لو أرید معنی واحد من کلمة عینین بأن یراد بها فردان من العین الباصرة مثلا فإذا صح هذا فلیصح ذاک بلا فرق .

ص :34

و استدل علی ذلک بما ملخصه أن التثنیة و الجمع فی قوة تکرار الواحد بالعطف فإذا قیل عینان فکأنما قیل عین و عین و إذ یجوز فی قولک عین و عین أن تستعمل أحدهما فی الباصرة و الثانیة فی النابعة فکذلک ینبغی أن یجوز فیما هو بقوتهما أعنی عینین و کذا الحال فی الجمع .و الصحیح عندنا عدم الجواز فی التثنیة و الجمع کالمفرد و الدلیل أن التثنیة و الجمع و إن کانا موضوعین لإفادة التعدد إلا أن ذلک من جهة وضع الهیئة فی قبال وضع المادة و هی أی المادة نفس لفظ المفرد الذی طرأت علیه التثنیة و الجمع فإذا قیل عینان مثلا فإن أرید من المادة خصوص الباصرة فالتعدد یکون فیها أی فردان منها و إن أرید منها خصوص النابعة مثلا فالتعدد یکون بالقیاس إلیها فلو أرید الباصرة و النابعة فلا بد أن یراد التعدد من کل منهما أی فرد من الباصرة و فرد من النابعة لکنه مستلزم لاستعمال المادة فی أکثر من معنی و قد عرفت استحالته .و أما أن التثنیة و الجمع فی قوة تکرار الواحد فمعناه أنها تدل علی تکرار أفراد المعنی المراد من المادة لا تکرار نفس المعنی المراد منها فلو أرید من استعمال التثنیة أو الجمع فردان أو فرد من طبیعتین أو طبائع متعددة لا یمکن ذلک أبدا إلا أن یراد من المادة المسمی بهذا اللفظ علی نحو المجاز فتستعمل المادة فی معنی واحد و هو معنی مسمی هذا اللفظ و إن کان مجازا نظیر الأعلام الشخصیة غیر القابلة لعروض التعداد علی مفاهیمها الجزئیة إلا بتأویل المسمی فإذا قیل محمدان فمعناه فردان من المسمی بلفظ محمد فاستعملت المادة و هی لفظ محمد فی مفهوم المسمی مجازا

ص :35

14 الحقیقة الشرعیة

اشارة

لا شک فی أنا نحن المسلمین نفهم من بعض الألفاظ المخصوصة کالصلاة و الصوم و نحوهما معانی خاصة شرعیة و نجزم بأن هذه المعانی حادثة لم یکن یعرفها أهل اللغة العربیة قبل الإسلام و إنما نقلت تلک الألفاظ من معانیها اللغویة إلی هذه المعانی الشرعیة .هذا لا شک فیه و لکن الشک وقع عند الباحثین فی أن هذا النقل وقع فی عصر الشارع المقدس علی نحو الوضع التعیینی أو التعینی فتثبت الحقیقة الشرعیة أو أنه وقع فی عصر بعده علی لسان أتباعه المتشرعة فلا تثبت الحقیقة الشرعیة بل الحقیقة المتشرعیة .و الفائدة من هذا النزاع تظهر فی الألفاظ الواردة فی کلام الشارع مجردة عن القرینة سواء کانت فی القرآن الکریم أم السنة فعلی القول الأول یجب حملها علی المعانی الشرعیة و علی الثانی تحمل علی المعانی اللغویة أو یتوقف فیها فلا تحمل علی المعانی الشرعیة و لا علی اللغویة بناء علی رأی من یذهب إلی التوقف فیما إذا دار الأمر بین المعنی الحقیقی و بین المجاز المشهور إذ من المعلوم أنه إذا لم تثبت الحقیقة الشرعیة فهذه المعانی المستحدثة تکون علی الأقل مجازا مشهورا فی زمانه صلی اللّٰه علیه و آله .و التحقیق فی المسألة أن یقال إن نقل تلک الألفاظ إلی المعانی المستحدثة إما بالوضع التعیینی أو التعینی أما الأول فهو مقطوع العدم لأنه لو کان لنقل إلینا بالتواتر أو بالآحاد علی الأقل لعدم الداعی إلی الإخفاء بل الدواعی متظافرة علی نقله مع أنه لم ینقل ذلک أبدا .و أما الثانی فهو مما ریب فیه بالنسبة إلی زمان إمامنا أمیر المؤمنین

ص :36

علیه السلام لأن اللفظ إذا استعمل فی معنی خاص فی لسان جماعة کثیرة زمانا معتدا به لا سیما إذا کان المعنی جدیدا یصبح حقیقة فیه بکثرة الاستعمال فکیف إذا کان ذلک عند المسلمین قاطبة فی سنین متمادیة .فلا بد إذن من حمل تلک الألفاظ علی المعانی المستحدثة فیما إذا تجردت عن القرائن فی روایات الأئمة علیهم السلام .نعم کونها حقیقة فیها فی خصوص زمان النبی صلی اللّٰه علیه و آله غیر معلوم و إن کان غیر بعید بل من المظنون ذلک و لکن الظن فی هذا الباب لا یغنی عن الحق شیئا غیر أنه لا أثر لهذا الجهل نظر إلی أن السنة النبویة غیر مبتلی بها إلا ما نقل لنا من طریق آل البیت علیهم السلام علی لسانهم و قد عرفت الحال فی کلماتهم أنه لا بد من حملها علی المعانی المستحدثة و أما القرآن المجید فأغلب ما ورد فیه من هذه الألفاظ أو کله محفوف بالقرائن المعینة لإرادة المعنی الشرعی فلا فائدة مهمة فی هذا النزاع بالنسبة إلیه .علی أن الألفاظ الشرعیة لیست علی نسق واحد فإن بعضها کثیر التداول کالصلاة و الصوم و الزکاة و الحج لا سیما الصلاة التی یؤدونها کل یوم خمس مرات فمن البعید جدا ألا تصبح حقائق فی معانیها المستحدثة بأقرب وقت فی زمانه صلی الله علیه و آله .

الصحیح و الأعم
اشارة

من ملحقات المسألة السابقة مسألة الصحیح و الأعم فقد وقع النزاع فی أن ألفاظ العبادات أو المعاملات أ هی أسام موضوعة للمعانی الصحیحة أو للأعم منها و من الفاسدة و قبل بیان المختار لا بد من تقدیم مقدمات

ص :37

الأولی أن هذا النزاع لا یتوقف علی ثبوت الحقیقة الشرعیة لأنه قد عرفت أن هذه الألفاظ مستعملة فی لسان المتشرعیة بنحو الحقیقة و لو علی نحو الوضع التعینی عندهم و لا ریب أن استعمالهم کان یتبع الاستعمال فی لسان الشارع سواء کان استعماله علی نحو الحقیقة أو المجاز .فإذا عرفنا مثلا أن هذه الألفاظ فی عرف المتشرعة کانت حقیقة فی خصوص الصحیح یستکشف منه أن المستعمل فیه فی لسان الشارع هو الصحیح أیضا مهما کان استعماله عنده أ حقیقة کان أم مجازا کما أنه لو علم أنها کانت حقیقة فی الأعم فی عرفهم کان ذلک أمارة علی کون المستعمل فیه فی لسانه هو الأعم أیضا و إن کان استعماله علی نحو المجاز .الثانیة أن المراد من الصحیحة من العبادة أو المعاملة هی التی تمت أجزاؤها و کملت شروطها و الصحیح إذن معناه تام الأجزاء و الشرائط فالنزاع یرجع هنا إلی أن الموضوع له خصوص تام الأجزاء و الشرائط من العبادة أو المعاملة أو الأعم منه و من الناقص .الثالثة أن ثمرة النزاع هی صحة رجوع القائل بالوضع للأعم المسمی بالأعمی إلی أصالة الإطلاق دون القائل بالوضع للصحیح المسمی بالصحیحی فإنه لا یصح له الرجوع إلی أصالة إطلاق اللفظ توضیح ذلک أن المولی إذا أمرنا بإیجاد شیء و شککنا فی حصول امتثاله بالإتیان بمصداق خارجی فله صورتان یختلف الحکم فیهما 1 أن یعلم صدق عنوان المأمور به علی ذلک المصداق و لکن یحتمل دخل قید زائد فی غرض المولی غیر متوفر فی ذلک المصداق کما إذا أمرنا المولی بعتق رقبة فإنه یعلم بصدق عنوان المأمور به علی الرقبة الکافرة و لکن یشک فی دخل وصف الإیمان فی غرض المولی فیحتمل أن یکون قیدا

ص :38

للمأمور به .فالقاعدة فی مثل هذا الرجوع إلی أصالة الإطلاق فی نفی اعتبار القید المحتمل اعتباره فلا یجب تحصیله بل یجوز الاکتفاء فی الامتثال بالمصداق المشکوک فیمتثل فی المثال لو أعتق رقبة کافرة .2 أن یشک فی صدق نفس عنوان المأمور به علی ذلک المصداق الخارجی کما إذا أمر المولی بالتیمم بالصعید و لا ندری أن ما عدا التراب هی یسمی صعیدا أو لا فیکون شکنا فی صدق الصعید علی غیر التراب و فی مثله لا یصح الرجوع إلی أصالة الإطلاق لإدخال المصداق المشکوک فی عنوان المأمور به لیکتفی به فی مقام الامتثال بل لا بد من الرجوع إلی الأصول العملیة مثل قاعدة الاحتیاط أو البراءة .و من هذا البیان تظهر ثمرة النزاع فی المقام الذی نحن فیه فإنه فی فرض الأمر بالصلاة و الشک فی أن السورة مثلا جزء للصلاة أم لا إن قلنا إن الصلاة اسم للأعم کانت المسألة من باب الصورة الأولی لأنه بناء علی هذا القول یعلم بصدق عنوان الصلاة علی المصداق الفاقد للسورة و إنما الشک فی اعتبار قید زائد علی المسمی فیتمسک حینئذ بإطلاق کلام المولی فی نفی اعتبار القید الزائد و هو کون السورة جزءا من الصلاة و یجوز الاکتفاء فی الامتثال بفاقدها .و إن قلنا إن الصلاة اسم للصحیح کانت المسألة من باب الصورة الثانیة لأنه عند الشک فی اعتبار السورة یشک فی صدق عنوان المأمور به أعنی الصلاة علی المصداق الفاقد للسورة إذ عنوان المأمور به هو الصحیح و الصحیح هو عنوان المأمور به فما لیس بصحیح لیس بصلاة فالفاقد للجزء المشکوک کما یشک فی صحته یشک فی صدق عنوان المأمور به علیه فلا یصح الرجوع إلی أصالة الإطلاق لنفی اعتبار جزئیة السورة حتی یکتفی

ص :39

بفاقدها فی مقام الامتثال بل لا بد من الرجوع إلی أصالة الاحتیاط أو أصالة البراءة علی خلاف بین العلماء فی مثله سیأتی فی بابه إن شاء الله تعالی

.المختار فی المسألة
اشارة

إذا عرفت ما ذکرنا من المقدمات فالمختار عندنا هو الوضع للأعم و الدلیل التبادر و عدم صحة السلب عن الفاسد و هما أمارتا الحقیقة کما تقدم.

وهم و دفع

.الوهم قد یعترض علی المختار فیقال إنه لا یمکن الوضع بإزاء الأعم لأن الوضع له یستدعی أن نتصور معنی کلیا جامعا بین أفراده و مصادیقه هو الموضوع له کما فی أسماء الأجناس و کذلک الوضع للصحیح یستدعی تصور کلی جامع بین مراتبه و أفراده .و لا شک أن مراتب الصلاة مثلا الفاسدة و الصحیحة کثیرة متفاوتة و لیس بینها قدر جامع یصح وضع اللفظ بإزائه .توضیح ذلک أن أی جزء من أجزاء الصلاة حتی الأرکان إذا فرض عدمه یصح صدق اسم الصلاة علی الباقی بناء علی القول بالأعم کما یصح صدقه مع وجوده و فقدان غیره من الأجزاء و علیه یکون کل جزء مقوما للصلاة عند وجوده غیر مقوم عند عدمه فیلزم التبدل فی حقیقة الماهیة بل یلزم التردید فیها عند وجود تمام الأجزاء لأن أی جزء منها لو فرض عدمه یبقی صدق الاسم علی حاله .و کل منهما أی التبدل و التردید فی الحقیقة الواحدة غیر معقول

ص :40

إذ إن کل ماهیة تفرض لا بد أن تکون متعینة فی حد ذاتها و إن کانت مبهمة من جهة تشخصاتها الفردیة و التبدل أو التردید فی ذات الماهیة معناه إبهامها فی حد ذاتها و هو مستحیل .الدفع أن هذا التبادل فی الأجزاء و تکثر مراتب الفاسدة لا یمنع من فرض قدر مشترک جامع بین الأفراد و لا یلزم التبدل و التردید فی ذات الحقیقة الجامعة بین الأفراد و هذا نظیر لفظ الکلمة الموضوع لما ترکب من حرفین فصاعدا و یکون الجامع بین الأفراد هو ما ترکب من حرفین فصاعدا مع أن الحروف کثیرة فربما تترکب الکلمة من الألف و الباء کأب و یصدق علیها أنها کلمة و ربما تترکب من حرفین آخرین مثل ید و یصدق علیها أنها کلمة و هکذا فکل حرف یجوز أن یکون داخلا و خارجا فی مختلف الکلمات مع صدق اسم الکلمة .و کیفیة تصحیح الوضع فی ذلک أن الواضع یتصور أولا جمیع الحروف الهجائیة ثم یضع لفظ الکلمة بإزاء طبیعة المرکب من اثنین فصاعدا إلی حد سبعة حروف مثلا و الغرض من التقیید بقولنا فصاعدا بیان أن الکلمة تصدق علی الأکثر من حرفین کصدقها علی المرکب من حرفین و لا یلزم التردید فی الماهیة فإن الماهیة الموضوع لها هی طبیعة اللفظ الکلی المترکب من حرفین فصاعدا و التبدل و التردید إنما یکون فی أجزاء أفرادها و قد یسمی ذلک بالکلی فی المعین أو الکلی المحصور فی أجزاء معینة و فی المثال أجزاؤه المعینة هی الحروف الهجائیة کلها .و علی هذا ینبغی أن یقاس لفظ الصلاة مثلا فإنه یمکن تصور جمیع أجزاء الصلاة فی مراتبها کلها و هی أی هذه الأجزاء معینة معروفة کالحروف الهجائیة فیضع اللفظ بإزاء طبیعة العمل المرکب من خمسة أجزاء منها مثلا فصاعدا فعند وجود تمام الأجزاء یصدق علی المرکب أنه

ص :41

صلاة و عند وجود بعضها و لو خمسة علی أقل تقدیر علی الفرض یصدق اسم الصلاة أیضا .بل الحق أن الذی لا یمکن تصور الجامع فیه هو خصوص المراتب الصحیحة و هذا المختصر لا یسع تفصیل ذلک

تنبیهان
1 لا یجری النزاع فی المعاملات بمعنی المسببات

إن ألفاظ المعاملات کالبیع و النکاح و الإیقاعات کالطلاق و العتق یمکن تصویر وضعها علی أحد نحوین 1 أن تکون موضوعة للأسباب التی تسبب مثل الملکیة و الزوجیة و الفراق و الحریة و نحوها و نعنی بالسبب إنشاء العقد و الإیقاع کالإیجاب و القبول معا فی العقود و الإیجاب فقط فی الإیقاعات و إذا کانت کذلک فالنزاع المتقدم یصح أن نفرضه فی ألفاظ المعاملات من کونها أسامی لخصوص الصحیحة أعنی تامة الأجزاء و الشرائط المؤثرة فی المسبب أو للأعم من الصحیحة و الفاسدة و نعنی بالفاسدة ما لا یؤثر فی المسبب إما لفقدان جزء أو شرط .2 أن تکون موضوعة للمسببات و نعنی بالمسبب نفس الملکیة و الزوجیة و الفراق و الحریة و نحوها و علی هذا فالنزاع المتقدم لا یصح فرضه فی المعاملات لأنها لا تتصف بالصحة و الفساد لکونها بسیطة غیر مرکبة من أجزاء و شرائط بل إنما تتصف بالوجود تارة و بالعدم أخری فهذا عقد البیع مثلا إما أن یکون واجدا لجمیع ما هو معتبر فی صحة العقد أو لا فإن کان الأول اتصف بالصحة و إن کان الثانی اتصف بالفساد و لکن الملکیة المسببة للعقد یدور أمرها بین الوجود و العدم لأنها توجد عند

ص :42

صحة العقد و عند فساده لا توجد أصلا لا أنها توجد فاسدة فإذا أرید من البیع نفس المسبب و هو الملکیة المنتقلة إلی المشتری فلا تتصف بالصحة و الفساد حتی یمکن تصویر النزاع فیها .

2 لا ثمرة للنزاع فی المعاملات إلا فی الجملة

قد عرفت أنه علی القول بوضع ألفاظ العبادات للصحیحة لا یصح التمسک بالإطلاق عند الشک فی اعتبار شیء فیها جزءا کان أو شرطا لعدم إحراز صدق الاسم علی الفاقد له و إحراز صدق الاسم علی الفاقد شرط فی صحة التمسک بالإطلاق .إلا أن هذا الکلام لا یجری فی ألفاظ المعاملات لأن معانیها غیر مستحدثة و الشارع بالنسبة إلیها کواحد من أهل العرف فإذا استعمل أحد ألفاظها فیحمل لفظه علی معناه الظاهر فیه عندهم إلا إذا نصب قرینة علی خلافه .فإذا شککنا فی اعتبار شیء عند الشارع فی صحة البیع مثلا و لم ینصب قرینة علی ذلک فی کلامه فإنه یصح التمسک بإطلاقه لدفع هذا الاحتمال حتی لو قلنا بأن ألفاظ المعاملات موضوعة للصحیح لأن المراد من الصحیح هو الصحیح عند العرف العام لا عند الشارع فإذا اعتبر الشارع قیدا زائدا علی ما یعتبره العرف کان ذلک قیدا زائدا علی أصل معنی اللفظ فلا یکون دخیلا فی صدق عنوان المعاملة الموضوعة حسب الفرض للصحیح علی المصداق المجرد عن القید و حالها فی ذلک حال ألفاظ العبادات لو کانت موضوعة للأعم .نعم إذا احتمل أن هذا القید دخیل فی صحة المعاملة عند أهل العرف أنفسهم أیضا فلا یصح التمسک بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال بناء علی القول بالصحیح کما هو شأن ألفاظ العبادات لأن الشک یرجع إلی

ص :43

الشک فی صدق عنوان المعاملة و أما علی القول بالأعم فیصح التمسک بالإطلاق لدفع الاحتمال .فتظهر ثمرة النزاع علی هذا فی ألفاظ المعاملات أیضا و لکنها ثمرة نادرة

ص :44

المقصد الأول مباحث الألفاظ

تمهید

المقصود من مباحث الألفاظ تشخیص ظهور الألفاظ من ناحیة عامة إما بالوضع أو بإطلاق الکلام لتکون نتیجتها قواعد کلیة تنقح صغریات أصالة الظهور التی سنبحث عن حجیتها فی المقصد الثالث و قد سبقت الإشارة إلیها .و تلک المباحث تقع فی هیئات الکلام التی یقع فیها الشک و النزاع سواء کانت هیئات المفردات کهیئة المشتق و الأمر و النهی أو هیئات الجمل کالمفاهیم و نحوها .أما البحث عن مواد الألفاظ الخاصة و بیان وضعها و ظهورها مع أنها تنقح أیضا صغریات أصالة الظهور فإنه لا یمکن ضبط قاعدة کلیة عامة فیها فلذا لا یبحث عنها فی علم الأصول و معاجم اللغة و نحوها هی المتکفلة بتشخیص مفرداتها .و علی أی حال فنحن نعقد مباحث الألفاظ فی سبعة أبواب 1 المشتق .2 الأوامر .3 النواهی .4 المفاهیم .5 العام و الخاص .6 المطلق و المقید .7 المجمل و المبین

ص :45

ص :46

الباب الأول المشتق

اشارة

ص :47

ص :48

اختلف الأصولیون من القدیم فی المشتق فی أنه حقیقة فی خصوص ما تلبس بالمبدإ فی الحال و مجاز فیما انقضی عنه التلبس أو أنه حقیقة فی کلیهما بمعنی أنه موضوع للأعم منهما .بعد اتفاقهم علی أنه مجاز فیما یتلبس بالمبدإ فی المستقل .ذهب المعتزلة و جماعة من المتأخرین من أصحابنا إلی الأول .و ذهب الأشاعرة و جماعة من المتقدمین من أصحابنا إلی الثانی .و الحق هو القول الأول و للعلماء أقوال أخر فیها تفصیلا بین هذین القولین لا یهمنا التعرض لها بعد اتضاح الحق فیما یأتی .و أهم شیء یعنینا فی هذه المسألة قبل بیان الحق فیها و هو أصعب ما فیها أن نفهم محل النزاع و موضع النفی و الإثبات و لأجل أن یتضح فی الجملة موضع الخلاف نذکر مثالا له فنقول إنه ورد کراهة الوضوء و الغسل بالماء المسخن بالشمس فمن قال بالأول لا بد ألا یقول بکراهتهما بالماء الذی برد و انقضی عنه التلبس لأنه عنده لا یصدق علیه حینئذ أنه مسخن بالشمس بل کان مسخنا و من قال بالثانی لا بد أن یقول بکراهتهما بالماء حال انقضاء التلبس أیضا لأنه عنده یصدق علیه أنه مسخن حقیقة بلا مجاز .و لتوضیح ذلک نذکر الآن أربعة أمور مذللة لتلک الصعوبة ثم نذکر القول المختار و دلیله

ص :49

1 ما المراد من المشتق المبحوث عنه

اعلم أن المشتق باصطلاح النحاة ما یقابل الجامد و مرادهم واضح و لکن لیس هو موضع النزاع هنا بل بین المشتق بمصطلح النحویین و بین المشتق المبحوث عنه عموم و خصوص من وجه .لأن موضع النزاع هنا یشمل کل ما یحمل علی الذات باعتبار قیام صفة فیها خارجة عنها تزول عنها و إن کان باصطلاح النحاة معدودا من الجوامد کلفظ الزوج و الأخ و الرق و نحو ذلک و من جهة أخری لا یشمل الفعل بأقسامه و لا المصدر و إن کانت تسمی مشتقات عند النحویین .و السر فی ذلک أن موضع النزاع هنا یعتبر فیه شیئان 1 أن یکون جاریا علی الذات بمعنی أنه یکون حاکیا عنها و عنوانا لها نحو اسم الفاعل و اسم المفعول و أسماء المکان و الآلة و غیرهما و ما شابه هذه الأمور من الجوامد و من أجل هذا الشرط لا یشمل هذا النزاع الأفعال و لا المصادر لأنها کلها لا تحکی عن الذات و لا تکون عنوانا لها و إن کانت تسند إلیها .2 ألا تزول الذات بزوال تلبسها بالصفة و نعنی بالصفة المبدأ الذی منه یکون انتزاع المشتق و اشتقاقه و یصح صدقه علی الذات بمعنی أن تکون الذات باقیة محفوظة لو زال تلبسها بالصفة فهی تتلبس بها تارة و لا تتلبس بها أخری و الذات تلک الذات فی کلا الحالین .و إنما نشترط ذلک فلأجل أن تتعقل انقضاء التلبس بالمبدإ مع بقاء الذات حتی یصح أن نتنازع فی صدق المشتق حقیقة علیها مع انقضاء حال التلبس بعد الاتفاق علی صدقه حقیقة علیها حال التلبس و إلا لو کانت الذات تزول بزوال التلبس لا یبقی معنی لفرض صدق المشتق علی الذات مع انقضاء

ص :50

حال التلبس لا حقیقة و لا مجازا .و علی هذا لو کان المشتق من الأوصاف التی تزول الذات بزوال التلبس بمبادئها فلا یدخل فی محل النزاع و إن صدق علیها اسم المشتق مثلما لو کان من الأنواع أو الأجناس أو الفصول بالقیاس إلی الذات کالناطق و الصاهل و الحساس و المتحرک بالإرادة .و اعتبر ذلک فی مثال کراهة الجلوس للتغوط تحت الشجرة المثمرة فإن هذا المثال یدخل فی محل النزاع لو زالت الثمرة عن الشجرة فیقال هل یبقی اسم المثمرة صادقا حقیقة علیها حینئذ فیکره الجلوس أو لا أما لو اجتثت الشجرة فصارت خشبة فإنها لا تدخل فی محل النزاع لأن الذات و هی الشجرة قد زالت بزوال الوصف الداخل فی حقیقتها فلا یتعقل معه بقاء وصف الشجرة المثمرة لها لا حقیقة و لا مجازا و أما الخشب فهو ذات أخری لم یکن فیما مضی قد صدق علیه بما أنه خشب وصف الشجرة المثمرة حقیقة إذ لم یکن متلبسا بما هو خشب بالشجرة ثم زال عنه التلبس .و بناء علی اعتبار هذین الشرطین یتضح ما ذکرناه فی صدر البحث من أن موضع النزاع فی المشتق یشمل کل ما کان جاریا علی الذات باعتبار قیام صفة خارجة عن الذات و إن کان معدودا من الجوامد اصطلاحا و یتضح أیضا عدم شمول النزاع للأفعال و المصادر .کما یتضح أن النزاع یشمل کل وصف جار علی الذات و لا یفرق فیه بین أن یکون مبدؤه من الأعراض الخارجیة المتأصلة کالبیاض و السواد و القیام و القعود أو من الأمور الانتزاعیة کالفوقیة و التحتیة و التقدم و التأخر

ص :51

أو من الأمور الاعتباریة المحضة کالزوجیة و الملکیة و الوقف و الحریة

2 جریان النزاع فی اسم الزمان

بناء علی ما تقدم قد یظن عدم جریان النزاع فی اسم الزمان لأنه قد تقدم أنه یعتبر فی جریانه بقاء الذات مع زوال الوصف مع أن زوال الوصف فی اسم الزمان ملازم لزوال الذات لأن الزمان متصرم الوجود فکل جزء منه یعدم بوجود الجزء اللاحق فلا تبقی ذات مستمرة فإذا کان یوم الجمعة مقتل زید مثلا فیوم السبت الذی بعده ذات أخری من الزمان لم یکن لها وصف القتل فیها و یوم الجمعة تصرم و زال کما زال نفس الوصف .و الجواب أن هذا صحیح لو کان لاسم الزمان لفظ مستقل مخصوص و لکن الحق أن هیئة اسم الزمان موضوعة لما هو یعم اسم الزمان و المکان و یشملهما معا فمعنی المضرب مثلا الذات المتصفة بکونها ظرفا للضرب و الظرف أعم من أن یکون زمانا أو مکانا و یتعین أحدهما بالقرینة و الهیئة إذا کانت موضوعة للجامع بین الظرفین فهذا الجامع یکفی فی صحة الوضع له و تعمیمه لما تلبس بالمبدإ و ما انقضی عنه أن یکون أحد فردیه یمکن أن یتصور فیه انقضاء المبدإ و بقاء الذات .و الخلاصة أن النزاع حینئذ یکون فی وضع أصل الهیئة التی تصلح للزمان و المکان لا لخصوص اسم الزمان و یکفی فی صحة الوضع للأعم إمکان الفرد المنقضی عنه المبدأ فی أحد أقسامه و إن امتنع الفرد الآخر

3 اختلاف المشتقات من جهة المبادئ

و قد یتوهم بعضهم أن النزاع هنا لا یجری فی بعض المشتقات الجاریة

ص :52

علی الذات مثل النجار و الخیاط و الطبیب و القاضی و نحو ذلک مما کان للحرف و المهن بل فی هذه من المتفق علیه أنه موضوع للأعم و منشأ الوهم أنا نجد صدق هذه المشتقات حقیقة علی من انقضی عنه التلبس بالمبدإ من غیر شک و ذلک نحو صدقها علی من کان نائما مثلا مع أن النائم غیر متلبس بالنجارة فعلا أو الخیاطة أو الطبابة أو القضاء و لکنه کان متلبسا بها فی زمان مضی و کذلک الحال فی أسماء الآلة کالمنشار و المقود و المکنسة فإنها تصدق علی ذواتها حقیقة مع عدم التلبس فعلا بمبادئها .و الجواب عن ذلک أن هذا التوهم منشؤه الغفلة عن معنی المبدإ المصحح لصدق المشتق فإنه یختلف باختلاف المشتقات لأنه تارة یکون من الفعلیات و أخری من الملکات و ثالثة من الحرف و الصناعات مثلا اتصاف زید بأنه قائم إنما یتحقق إذا تلبس بالقیام فعلا لأن القیام یؤخذ علی نحو الفعلیة مبدأ لوصف قائم و یفرض الانقضاء بزوال فعلیة القیام عنه و أما اتصافه بأنه عالم بالنحو أو أنه قاضی البلد فلیس بمعنی أنه یعلم ذلک فعلا أو أنه مشغول بالقضاء بین الناس فعلا بل بمعنی أن له ملکة العلم أو منصب القضاء فما دامت الملکة أو الوظیفة موجودتین فهو متلبس بالمبدإ حالا و إن کان نائما أو غافلا نعم یصح أن نتعقل الانقضاء إذا زالت الملکة أو سلبت عنه الوظیفة و حینئذ یجری النزاع فی أن وصف القاضی مثلا هل یصدق حقیقة علی من زال عنه منصب القضاء .و کذلک الحال فی مثل النجار و الخیاط و المنشار فلا یتصور فیها الانقضاء إلا بزوال حرفة النجارة و مهنة الخیاطة و شأنیة النشر فی المنشار .و الخلاصة أن الزوال و الانقضاء فی کل شیء بحسبه و النزاع فی المشتق إنما هو فی وضع الهیئات مع قطع النظر عن خصوصیات المبادئ المدلول علیها بالمواد التی تختلف اختلافا کثیرا

ص :53

4 استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس حقیقة
اشارة

اعلم أن المشتقات التی هی محل النزاع بأجمعها هی من الأسماء .و الأسماء مطلقا لا دلالة لها علی الزمان حتی اسم الفاعل و اسم المفعول فإنه کما یصدق العالم حقیقة علی من هو عالم فعلا کذلک یصدق حقیقة علی من کان عالما فیما مضی أو یکون عالما فیما یأتی بلا تجوز إذا کان إطلاقه علیه بلحاظ حال التلبس بالمبدإ کما إذا قلنا کان عالما أو سیکون عالما فإن ذلک حقیقة بلا ریب نظیر الجوامد لو تقول فیها مثلا الرماد کان خشبا أو الخشب سیکون رمادا فإذن إذا کان الأمر کذلک فما موقع النزاع فی إطلاق المشتق علی ما مضی علیه التلبس أنه حقیقة أو مجاز .نقول إن الإشکال و النزاع هنا إنما هو فیما إذا انقضی التلبس بالمبدإ و أرید إطلاق المشتق فعلا علی الذات التی انقضی عنها التلبس أی أن الإطلاق علیها بلحاظ حال النسبة و الإسناد الذی هو حال النطق غالبا کأن تقول مثلا زید عالم فعلا أی أنه الآن موصوف بأنه عالم لأنه کان فیما مضی عالما کمثال إثبات الکراهة للوضوء بالماء المسخن بالشمس سابقا بتعمیم لفظ المسخن فی الدلیل لما کان مسخنا .فتحصل مما ذکرناه ثلاثة أمور 1 أن إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس حقیقة مطلقا سواء کان بالنظر إلی ما مضی أو الحال أو المستقبل و ذلک بالاتفاق .2 أن إطلاقه علی الذات فعلا بلحاظ حال النسبة و الإسناد قبل زمان التلبس لأنه سیتلبس به فیما بعد مجاز بلا إشکال و ذلک بعلاقة الأول أو المشارفة و هذا متفق علیه أیضا .3 أن إطلاقه علی الذات فعلا أی بلحاظ حال النسبة و الإسناد

ص :54

لأنه کان متصفا به سابقا هو محل الخلاف و النزاع فقال قوم بأنه حقیقة و قال آخرون بأنه مجاز .

المختار

إذا عرفت ما تقدم من الأمور فنقول الحق أن المشتق حقیقة فی خصوص المتلبس بالمبدإ و مجاز فی غیره .و دلیلنا التبادر و صحة السلب عمن زال عنه الوصف فلا یقال لمن هو قاعد بالفعل إنه قائم و لا لمن هو جاهل بالفعل إنه عالم و ذلک لمجرد أنه کان قائما أو عالما فیما سبق نعم یصح ذلک علی نحو المجاز أو یقال إنه کان قائما أو عالما فیکون حقیقة حینئذ إذ یکون الإطلاق بلحاظ حال التلبس .و عدم تفرقة بعضهم بین الإطلاق بلحاظ حال التلبس و بین الإطلاق بلحاظ حال النسبة و الإسناد هو الذی أوهم القول بوضع المشتق للأعم إذ وجد أن الاستعمال یکون علی نحو الحقیقة فعلا مع أن التلبس قد مضی و لکنه غفل عن أن الإطلاق کان بلحاظ حال التلبس فلم یستعمله فی الحقیقة إلا فی خصوص المتلبس بالمبدإ لا فیما مضی عنه التلبس حتی یکون شاهدا له .ثم إنک قد عرفت فیما سبق أن زوال الوصف یختلف باختلاف المواد من جهة کون المبدإ أخذ علی نحو الفعلیة أو علی نحو الملکة أو الحرفة فمثل صدق الطبیب حقیقة علی من لا یتشاغل بالطبابة فعلا لنوم أو راحة أو أکل لا یکشف عن کون المشتق حقیقة فی الأعم کما قیل و ذلک لأن المبدأ فیه أخذ علی نحو الحرفة أو الملکة و هذا لم یزل تلبسه به حین النوم أو الراحة نعم إذا زالت الملکة أو الحرفة عنه کان إطلاق الطبیب علیه مجازا إذا لم یکن بلحاظ حال التلبس کما لو قیل هذا

ص :55

طبیبنا بالأمس بأن یکون قید بالأمس لبیان حال التلبس فإن هذا الاستعمال لا شک فی کونه علی نحو الحقیقة و قد سبق بیان ذلک

ص :56

الباب الثانی الأوامر

اشارة

و فیه بحثان فی مادة الأمر و صیغة الأمر و خاتمة فی تقسیمات الواجب

ص :57

ص :58

المبحث الأول مادة الأمر
اشارة

و هی کلمة الأمر المؤلفة من الحروف أ م ر و فیها ثلاث مسائل

1 معنی کلمة الأمر

قیل إن کلمة الأمر لفظ مشترک بین الطلب و غیره مما تستعمل فیه هذه الکلمة کالحادثة و الشأن و الفعل کما تقول جئت لأمر کذا أو شغلنی أمر أو أتی فلان بأمر عجیب .و لا یبعد أن تکون المعانی التی تستعمل فیها کلمة الأمر ما خلا الطلب ترجع إلی معنی واحد جامع بینها و هو مفهوم الشیء .فیکون لفظ الأمر مشترکا بین معنیین فقط الطلب و الشیء .و المراد من الطلب إظهار الإرادة و الرغبة بالقول أو الکتابة أو الإشارة أو نحو هذه الأمور مما یصح إظهار الإرادة و الرغبة و إبرازهما به (1)فمجرد الإرادة و الرغبة من دون إظهارها بمظهر لا تسمی طلبا و الظاهر أنه لیس کل طلب یسمی أمرا بل بشرط مخصوص سیأتی ذکره فی المسألة الثانیة فتفسیر الأمر بالطلب من باب تعریف الشیء بالأعم .و المراد من الشیء من لفظ الأمر أیضا لیس کل شیء علی الإطلاق فیکون تفسیره به من باب تعریف الشیء بالأعم أیضا فإن الشیء لا یقال

ص :59


1- والظاهر أن تفسیر بعض الاصولیین للفظ الامر بأنه (الطلب بالقول) لیس القصد منه أن لهم اصطلاحا مخصوصا فیه، بل باعتبار أنه أحد مصادیق المعنی. فان الامر کما یصدق علی الطلب بالقول یصدق علی الطلب بالکتابة أو الاشارة أو نحوهما.

له أمر إلا إذا کان من الأفعال و الصفات و لذا لا یقال رأیت أمرا إذا رأیت إنسانا أو شجرا أو حائطا و لکن لیس المراد من الفعل و الصفة المعنی الحدثی أی المعنی المصدری بل المراد منه نفس الفعل أو الصفة بما هو موجود فی نفسه یعنی لم یلاحظ فیه جهة الصدور من الفاعل و الإیجاد و هو المعبر عنه عند بعضهم بالمعنی الاسم المصدری أی ما یدل علیه اسم المصدر و لذا لا یشتق منه فلا یقال أمر یأمر آمر مأمور بالمعنی المأخوذ من الشیء و لو کان معنی حدثیا لاشتق منه .بخلاف الأمر بمعنی الطلب فإن المقصود منه المعنی الحدثی و جهة الصدور و الإیجاد و لذا یشتق منه فیقال أمر یأمر آمر مأمور و الدلیل علی أن لفظ الأمر مشترک بین معنیین الطلب و الشیء لا أنه موضوع للجامع بینهما .1 أن الأمر کما تقدم بمعنی الطلب یصح الاشتقاق منه و لا یصح الاشتقاق منه بمعنی الشیء و الاختلاف بالاشتقاق و عدمه دلیل علی تعدد الوضع .2 أن الأمر بمعنی الطلب یجمع علی أوامر و بمعنی الشیء علی أمور و اختلاف الجمع فی المعنیین دلیل علی تعدد الوضع

2 اعتبار العلو فی معنی الأمر

قد سبق أن الأمر یکون بمعنی الطلب و لکن لا مطلقا بل بمعنی طلب مخصوص و الظاهر أن الطلب المخصوص هو الطلب من العالی إلی الدانی فیعتبر فیه العلو فی الأمر .و علیه لا یسمی الطلب من الدانی إلی العالی أمرا بل یسمی استدعاء .

ص :60

و کذا لا یسمی الطلب من المساوی إلی مساویه فی العلو أو الحطة أمرا بل یسمی التماسا و إن استعلی الدانی أو المساوی و أظهر علوه و ترفعه و لیس هو بعال حقیقة .أما العالی فطلبه یکون أمرا و إن لم یکن متظاهرا بالعلو .کل هذا بحکم التبادر و صحة سلب الأمر عن طلب غیر العالی و لا یصح إطلاق الأمر علی الطلب من غیر العالی إلا بنحو العنایة و المجاز و إن استعلی

3 دلالة لفظ الأمر علی الوجوب

اختلفوا فی دلالة لفظ الأمر بمعنی الطلب علی الوجوب فقیل إنه موضوع لخصوص الطلب الوجوبی و قیل للأعم منه و من الطلب الندبی و قیل مشترک بینهما اشتراکا لفظیا و قیل غیر ذلک .و الحق عندنا أنه دال علی الوجوب و ظاهر فیه فیما إذا کان مجردا و عاریا عن قرینة علی الاستحباب و إحراز هذا الظهور بهذا المقدار کاف فی صحة استنباط الوجوب من الدلیل الذی یتضمن کلمة الأمر و لا یحتاج إلی إثبات منشإ هذا الظهور هل هو الوضع أو شیء آخر .و لکن من ناحیة علمیة صرفة یحسن أن نفهم منشأ هذا الظهور فقد قیل إن معنی الوجوب مأخوذ قیدا فی الموضوع له لفظ الأمر و قیل مأخوذ قیدا فی المستعمل فیه إن لم یکن مأخوذا فی الموضوع له .و الحق أنه لیس قیدا فی الموضوع له و لا فی المستعمل فیه بل منشأ هذا الظهور من جهة حکم العقل بوجوب طاعة الأمر فإن العقل یستقل بلزوم الانبعاث عن بعث المولی و الانزجار عن زجره قضاء لحق المولویة و العبودیة فبمجرد بعث المولی یجد العقل أنه لا بد للعبد من الطاعة و الانبعاث ما لم یرخص فی ترکه و یأذن فی مخالفته .

ص :61

فلیس المدلول للفظ الأمر إلا الطلب من العالی و لکن العقل هو الذی یلزم العبد بالانبعاث و یوجب علیه الطاعة لأمر المولی ما لم یصرح المولی بالترخیص و یأذن بالترک .و علیه فلا یکون استعماله فی موارد الندب مغایرا لاستعماله فی موارد الوجوب من جهة المعنی المستعمل فیه اللفظ فلیس هو موضوعا للوجوب بل و لا موضوعا للأعم من الوجوب و الندب لأن الوجوب و الندب لیسا من التقسیمات اللاحقة للمعنی المستعمل فیه اللفظ بل من التقسیمات اللاحقة للأمر بعد استعماله فی معناه الموضوع له

ص :62

المبحث الثانی صیغة الأمر
1 معنی صیغة الأمر

صیغة الأمر أی هیئته کصیغة افعل و نحوها (1)تستعمل فی موارد کثیرة منها البعث کقوله تعالی فَأَقِیمُوا الصَّلاٰةَ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و منها التهدید کقوله تعالی اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ .و منها التعجیز کقوله تعالی فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .و غیر ذلک من التسخیر و الإنذار و الترجی و التمنی و نحوها و لکن الظاهر أن الهیئة فی جمیع هذه المعانی استعملت فی معنی واحد لکن لیس هو واحدا من هذه المعانی لأن الهیئة مثل افعل شأنها شأن الهیئات الأخری وضعت لإفادة نسبة خاصة کالحروف و لم توضع لإفادة معان مستقلة فلا یصح أن یراد منها مفاهیم هذه المعانی المذکورة التی هی معان اسمیة .و علیه فالحق أنها موضوعة للنسبة الخاصة القائمة بین المتکلم و المخاطب و المادة و المقصود من المادة الحدث الذی وقع علیه مفاد الهیئة مثل الضرب و القیام و القعود فی اضرب و قم و اقعد و نحو ذلک و حینئذ

ص :63


1- المقصود بنحو صیغة أفعل: أیة صیغة وکلمة تؤدی مؤداها فی الدلالة علی الطلب والبعث، کالفعل المضارع المقرون بلام الامر أو المجرد منه إذا قصد به إنشاء الطلب نحو قولنا: (تصلی. تغتسل. أطلب منک کذا) أو جملة اسمیة نحو (هذا مطلوب منک) أو اسم فعل نحو: صه ومه ومهلا، وغیر ذلک.

ینتزع منها عنوان طالب و مطلوب منه و مطلوب .فقولنا اضرب یدل علی النسبة الطلبیة بین الضرب و المتکلم و المخاطب و معنی ذلک جعل الضرب علی عهدة المخاطب و بعثه نحوه و تحریکه إلیه و جعل الداعی فی نفسه للفعل .و علی هذا فمدلول هیئة الأمر و مفادها هو النسبة الطلبیة و إن شئت فسمها النسبة البعثیة لغرض إبراز جعل المأمور به أی المطلوب فی عهدة المخاطب و جعل الداعی فی نفسه و تحریکه و بعثه نحوه ما شئت فعبر غیر أن هذا الجعل أو الإنشاء یختلف فیه الداعی له من قبل المتکلم فتارة یکون الداعی له هو البعث الحقیقی و جعل الداعی فی نفس المخاطب لفعل المأمور به فیکون هذا الإنشاء حینئذ مصداقا للبعث و التحریک و جعل الداعی أو إن شئت فقل یکون مصداقا للطلب فإن المقصود واحد و أخری یکون الداعی له هو التهدید فیکون مصداقا للتهدید و یکون تهدیدا بالحمل الشائع و ثالثة یکون الداعی له هو التعجیز فیکون مصداقا للتعجیز و تعجیزا بالحمل الشائع و هکذا فی باقی المعانی المذکورة و غیرها .و إلی هنا یتجلی ما نرید أن نوضحه فإنا نرید أن نقول بنص العبارة إن البعث أو التهدید أو التعجیز أو نحوها لیست هی معانی لهیئة الأمر قد استعملت فی مفاهیمها کما ظنه القوم لا معانی حقیقیة و لا مجازیة .بل الحق أن المنشأ بها لیس إلا النسبة الطلبیة الخاصة و هذا الإنشاء یکون مصداقا لأحد هذه الأمور باختلاف الدواعی فیکون تارة بعثا بالحمل الشائع و أخری تهدیدا بالحمل الشائع و هکذا لا أن هذه المفاهیم مدلولة للهیئة و منشأة بها حتی مفهوم البعث و الطلب .و الاختلاط فی الوهم بین المفهوم و المصداق هو الذی جعل أولئک یظنون

ص :64

أن هذه الأمور مفاهیم لهیئة الأمر و قد استعملت فیها استعمال اللفظ فی معناه حتی اختلفوا فی أنه أیها المعنی الحقیقی الموضوع له الهیئة و أیها المعنی المجازی

2 ظهور الصیغة فی الوجوب
اشارة

اختلف الأصولیون فی ظهور صیغة الأمر فی الوجوب و فی کیفیته علی أقوال و الخلاف یشمل صیغة افعل و ما شابهها و ما بمعناها من صیغ الأمر .و الأقوال فی المسألة کثیرة و أهمها قولان أحدهما أنها ظاهرة فی الوجوب إما لکونها موضوعة فیه أو من جهة انصراف الطلب إلی أکمل الأفراد ثانیهما أنها حقیقة فی القدر المشترک بین الوجوب و الندب و هو أی القدر المشترک مطلق الطلب الشامل لهما من دون أن تکون ظاهرة فی أحدهما .و الحق أنها ظاهرة فی الوجوب و لکن لا من جهة کونها موضوعة للوجوب و لا من جهة کونها موضوعة لمطلق الطلب و أن الوجوب أظهر أفراده و شأنها فی ظهورها فی الوجوب شأن مادة الأمر علی ما تقدم هناک من أن الوجوب یستفاد من حکم العقل بلزوم إطاعة أمر المولی و وجوب الانبعاث عن بعثه قضاء لحق المولویة و العبودیة ما لم یرخص نفس المولی بالترک و یأذن به و بدون الترخیص فالأمر لو خلی و طبعه شأنه أن یکون من مصادیق حکم العقل بوجوب الطاعة .فیکون الظهور هذا لیس من نحو الظهورات اللفظیة و لا الدلالة هذه علی الوجوب من نوع الدلالات الکلامیة إذ صیغة الأمر کمادة الأمر لا تستعمل فی مفهوم الوجوب لا استعمالا حقیقیا و لا مجازیا لأن الوجوب

ص :65

کالندب أمر خارج عن حقیقة مدلولها و لا من کیفیاته و أحواله و تمتاز الصیغة عن مادة کلمة الأمر أن الصیغة لا تدل إلا علی النسبة الطلبیة کما تقدم فهی بطریق أولی لا تصلح للدلالة علی الوجوب الذی هو مفهوم اسمی و کذا الندب .و علی هذا فالمستعمل فیه الصیغة علی کلا الحالین الوجوب و الندب واحد لا اختلاف فیه و استفادة الوجوب علی تقدیر تجردها عن القرینة علی إذن الآمر بالترک إنما هو بحکم العقل کما قلنا إذ هو من لوازم صدور الأمر من المولی .و یشهد لما ذکرناه من کون المستعمل فیه واحدا فی مورد الوجوب و الندب ما جاء فی کثیر من الأحادیث من الجمع بین الواجبات و المندوبات بصیغة واحدة و أمر واحد أو أسلوب واحد مع تعدد الأمر و لو کان الوجوب و الندب من قبیل المعنیین للصیغة لکان ذلک فی الأغلب من باب استعمال اللفظ فی أکثر من معنی و هو مستحیل أو تأویله بإرادة مطلق الطلب البعید إرادته من مساق الأحادیث فإنه تجوز علی تقدیره لا شاهد له و لا یساعد علیه أسلوب الأحادیث الواردة .

تنبیهان

الأول ظهور الجملة الخبریة الدالة علی الطلب فی الوجوب .اعلم أن الجملة الخبریة فی مقام إنشاء الطلب شأنها شأن صیغة افعل فی ظهورها فی الوجوب کما أشرنا إلیه سابقا بقولنا صیغة افعل و ما شابهها .و الجملة الخبریة مثل قول یغتسل یتوضأ یصلی بعد السؤال عن شیء یقتضی مثل هذا الجواب و نحو ذلک .

ص :66

و السر فی ذلک أن المناط فی الجمیع واحد فإنه إذا ثبت البعث من المولی بأی مظهر کان و بأی لفظ کان فلا بد أن یتبعه حکم العقل بلزوم الانبعاث ما لم یأذن المولی بترکه .بل ربما یقال إن دلالة الجملة الخبریة علی الوجوب آکد لأنها فی الحقیقة إخبار عن تحقق الفعل بادعاء أن وقوع الامتثال من المکلف مفروغ عنه .الثانی ظهور الأمر بعد الحظر أو توهمه .قد یقع إنشاء الأمر بعد تقدم الحظر أی المنع أو عند توهم الحظر کما لو منع الطبیب المریض عن شرب الماء ثم قال له اشرب الماء أو قال ذلک عند ما یتوهم المریض أنه ممنوع منه و محظور علیه شربه .و قد اختلف الأصولیون فی مثل هذا الأمر أنه هل هو ظاهر فی الوجوب أو ظاهر فی الإباحة أو الترخیص فقط أی رفع المنع فقط من دون التعرض لثبوت حکم آخر من إباحة أو غیرها أو یرجع إلی ما کان علیه سابقا قبل المنع علی أقوال کثیرة .و أصح الأقوال هو الثالث و هو دلالتها علی الترخیص فقط .و الوجه فی ذلک أنک قد عرفت أن دلالة الأمر علی الوجوب إنما تنشأ من حکم العقل بلزوم الانبعاث ما لم یثبت الإذن بالترک و منه تستطیع أن تتفطن أنه لا دلالة للأمر فی المقام علی الوجوب لأنه لیس فیه دلالة علی البعث و إنما هو ترخیص فی الفعل لا أکثر .و أوضح من هذا أن نقول إن مثل هذا الأمر هو إنشاء بداعی الترخیص فی الفعل و الإذن به فهو لا یکون إلا ترخیصا و إذنا بالحمل الشائع و لا یکون بعثا إلا إذا کان الإنشاء بداعی البعث و وقوعه بعد الحظر أو توهمه قرینة علی عدم کونه بداعی البعث فلا یکون دالا علی الوجوب و عدم دلالته علی الإباحة بطریق أولی فیرجع فیه إلی دلیل آخر من أصل أو أمارة .

ص :67

مثاله قوله تعالی وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا فإنه أمر بعد الحظر عن الصید حال الإحرام فلا یدل علی وجوب الصید .نعم لو اقترن الکلام بقرینة خاصة علی أن الأمر صدر بداعی البعث أو لغرض بیان إباحة الفعل فإنه حینئذ یدل علی الوجوب أو الإباحة و لکن هذا أمر آخر لا کلام فیه فإن الکلام فی فرض صدور الأمر بعد الحظر أو توهمه مجردا عن کل قرینة أخری غیر هذه القرینة

ص :68

3 التعبدی و التوصلی
تمهید

کل متفقه یعرف أن فی الشریعة المقدسة واجبات لا تصح و لا تسقط أوامرها إلا بإتیانها قربیة إلی وجه الله تعالی .و کونها قربیة إنما هو بإتیانها بقصد امتثال أوامرها أو بغیره من وجوه قصد القربة إلی الله تعالی علی ما ستأتی الإشارة إلیها و تسمی هذه الواجبات العبادیات أو التعبدیات کالصلاة و الصوم و نحوها .و هناک واجبات أخری تسمی التوصلیات و هی التی تسقط أوامرها بمجرد وجودها و إن لم یقصد بها القربة کإنقاذ الغریق و أداء الدین و دفن المیت و تطهیر الثوب و البدن للصلاة و نحو ذلک .و للتعبدی و التوصلی تعریف آخر کان مشهورا عند القدماء و هو أن التوصلی ما کان الداعی للأمر به معلوما و فی قباله التعبدی و هو ما لم یعلم الغرض منه و إنما سمی تعبدیا لأن الغرض الداعی للمأمور لیس إلا التعبد بأمر المولی فقط و لکن التعریف غیر صحیح إلا إذا أرید به اصطلاح ثان للتعبدی و التوصلی فیراد بالتعبد التسلیم لله تعالی فیما أمر به و إن کان المأمور به توصلیا بالمعنی الأول کما یقولون مثلا نعمل هذا تعبدا و یقولون نعمل هذا من باب التعبد أی نعمل هذا من باب التسلیم لأمر الله و إن لم نعلم المصلحة فیه .و علی ما تقدم من بیان معنی التوصلی و التعبدی المصطلح الأول فإن علم حال واجب بأنه تعبدی أو توصلی فلا إشکال و إن شک فی ذلک فهل الأصل کونه تعبدیا أو توصلیا فیه خلاف بین الأصولیین و ینبغی

ص :69

لتوضیح ذلک و بیان المختار تقدیم أمور .

أ منشأ الخلاف و تحریره

إن منشأ الخلاف هنا هو الخلاف فی إمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر کالصلاة مثلا قیدا له علی نحو الجزء أو الشرط علی وجه یکون المأمور به المتعلق للأمر هو الصلاة المأتی بها بقصد القربة بهذا القید کقید الطهارة فیها إذ یکون المأمور به الصلاة عن طهارة لا الصلاة المجردة عن هذا القید من حیث هی هی .فمن قال بإمکان أخذ هذا القید و هو قصد القربة کان مقتضی الأصل عنده التوصلیة إلا إذا دل دلیل خاص علی التعبدیة کسائر القیود الأخری لما عرفت أن إطلاق کلام المولی حجة یجب الأخذ به ما لم یثبت التقیید فعند الشک فی اعتبار قید یمکن أخذه فی المأمور به فالمرجع أصالة الإطلاق لنفی اعتبار ذلک القید .و من قال باستحالة أخذ قید قصد القربة فلیس له التمسک بالإطلاق لأن الإطلاق لیس إلا عبارة عن عدم التقیید فیما من شأنه التقیید لأن التقابل بینهما من باب تقابل العدم و الملکة الملکة هی التقیید و عدمها الإطلاق و إذا استحالت الملکة استحال عدمها بما هو عدم ملکة لا بما هو عدم مطلق و هذا واضح لأنه إذا کان التقیید فی لسان الدلیل لا یستکشف منه إرادة الإطلاق فإن عدم التقیید یجوز أن یکون لاستحالة التقیید و یجوز أن یکون لعدم إرادة التقیید و لا طریق لإثبات الثانی بمجرد عدم ذکر القید وحده .و بعد هذا نقول إذا شککنا فی اعتبار شیء فی مراد المولی و ما تعلق

ص :70

به غرضه واقعا و لم یمکن له بیانه فلا محالة یرجع ذلک إلی الشک فی سقوط الأمر إذا خلا المأتی به من ذلک القید المشکوک و عند الشک فی سقوط الأمر أی فی امتثاله یحکم العقل بلزوم الإتیان به مع القید المشکوک کی ما یحصل له العلم بفراغ ذمته من التکلیف لأنه إذا اشتغلت الذمة بواجب یقینا فلا بد من إحراز الفراغ منه فی حکم العقل و هذا معنی ما اشتهر فی لسان الأصولیین من قولهم الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی .و هذا ما یسمی عندهم بأصل الاشتغال أو أصالة الاحتیاط .

ب محل الخلاف من وجوب قصد القربة

إن محل الخلاف فی المقام هو إمکان أخذ قصد امتثال الأمر فی المأمور به .و أما غیر قصد الامتثال من وجوه قصد القربة کقصد محبوبیة الفعل المأمور به الذاتیة باعتبار أن کل مأمور به لا بد أن یکون محبوبا للأمر و مرغوبا فیه عنده و کقصد التقرب إلی الله تعالی محضا بالفعل لا من جهة قصد امتثال أمره بل رجاء لرضاه و نحو ذلک من وجوه قصد القربة فإن کل هذه الوجوه لا مانع قطعا من أخذها قیدا للمأمور به و لا یلزم المحال الذی ذکروه فی أخذ قصد الامتثال علی ما سیأتی .و لکن الشأن فی أن هذه الوجوه هل هی مأخوذة فی المأمور به فعلا علی نحو لا تکون العبادة عبادة إلا بها .الحق أنه لم یؤخذ شیء منها فی المأمور به و الدلیل علی ذلک ما نجده من الاتفاق علی صحة العبادة کالصلاة مثلا إذا أتی بها بداعی أمرها مع عدم قصد الوجوه الأخری و لو کان غیر قصد الامتثال من وجوه القربة

ص :71

مأخوذا فی المأمور به لما صحت العبادة و لما سقط أمرها بمجرد الإتیان بداعی أمرها بدون قصد ذلک الوجه .فالخلاف إذن منحصر فی إمکان أخذ قصد الامتثال و استحالته .

ج الإطلاق و التقیید فی التقسیمات الأولیة للواجب

إن کل واجب فی نفسه له تقسیمات باعتبار الخصوصیات التی یمکن أن تلحقه فی الخارج مثلا الصلاة تنقسم فی ذاتها مع قطع النظر عن تعلق الأمر بها إلی 1 ذات سورة و فاقدتها .2 ذات تسلیم و فاقدته .3 صلاة عن طهارة و فاقدتها .4 صلاة مستقبل بها القبلة و غیر مستقبل بها .5 صلاة مع الساتر و بدونه .و هکذا یمکن تقسیمها إلی ما شاء الله من الأقسام بملاحظة أجزائها و شروطها و ملاحظة کل ما یمکن فرض اعتباره فیها و عدمه .و تسمی مثل هذه التقسیمات التقسیمات الأولیة لأنها تقسیمات تلحقها فی ذاتها مع قطع النظر عن فرض تعلق شیء بها و تقابلها التقسیمات الثانویة التی تلحقها بعد فرض تعلق شیء بها کالأمر مثلا و سیأتی ذکرها .فإذا نظرنا إلی هذه التقسیمات الأولیة للواجب فالحکم بالوجوب بالقیاس إلی کل خصوصیة منها لا یخلو فی الواقع من أحد احتمالات ثلاثة 1 أن یکون مقیدا بوجودها و یسمی بشرط شیء مثل شرط الطهارة و الساتر و الاستقبال و السورة و الرکوع و السجود و غیرها من أجزاء و شرائط بالنسبة إلی الصلاة .

ص :72

2 أن یکون مقیدا بعدمها و یسمی بشرط لا مثل شرط الصلاة بعدم الکلام و القهقهة و الحدیث إلی غیر ذلک من قواطع الصلاة .3 أن یکون مطلقا بالنسبة إلیهما أی غیر مقید بوجودها و لا بعدمها و یسمی لا بشرط مثل عدم اشتراط الصلاة بالقنوت فإن وجوبها غیر مقید بوجوده و لا بعدمه .هذا فی مرحلة الواقع و الثبوت و أما فی مرحلة الإثبات و الدلالة فإن الدلیل الذی یدل علی وجوب شیء إن دل علی اعتبار قید فیه أو علی اعتبار عدمه فذاک و إن لم یکن الدلیل متضمنا لبیان التقیید بما هو محتمل التقیید لا وجودا و لا عدما فإن المرجع فی ذلک هو أصالة الإطلاق إذا توفرت المقدمات المصححة للتمسک بأصالة الإطلاق علی ما سیأتی فی بابه و هو باب المطلق و المقید و بأصالة الإطلاق یستکشف أن إرادة المتکلم الأمر متعلقة بالمطلق واقعا أی أن الواجب لم یؤخذ بالنسبة إلی القید إلا علی نحو اللابشرط

د عدم إمکان الإطلاق و التقیید فی التقسیمات الثانویة للواجب

و الخلاصة أنه لا مانع من التمسک بالإطلاق لرفع احتمال التقیید فی التقسیمات الأولیة .ثم إن کل واجب بعد ثبوت الوجوب و تعلیق الأمر به واقعا ینقسم إلی ما یؤتی به فی الخارج بداعی أمره و ما یؤتی به لا بداعی أمره ثم ینقسم أیضا إلی معلوم الواجب و مجهوله .و هذه التقسیمات تسمی التقسیمات الثانویة لأنها من لواحق الحکم و بعد فرض ثبوت الوجوب واقعا إذ قبل تحقق الحکم لا معنی لفرض إتیان الصلاة مثلا بداعی أمرها لأن المفروض فی هذه الحالة لا أمر

ص :73

بها حتی یمکن فرض قصده و کذا الحال بالنسبة إلی العلم و الجهل بالحکم و فی مثل هذه التقسیمات یستحیل التقیید أی تقیید المأمور به لأن قصد امتثال الأمر مثلا فرع وجود الأمر فکیف یعقل أن یکون الأمر مقیدا به و لازمه أن یکون الأمر فرع قصد الأمر و قد کان قصد الأمر فرع وجود الأمر فیلزم أن یکون المتقدم متأخرا و المتأخر متقدما و هذا خلف أو دور .و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق أیضا لما قلنا سابقا أن الإطلاق من قبیل عدم الملکة بالقیاس إلی التقیید فلا یفرض إلا فی مورد قابل للتقیید و مع عدم إمکان التقیید لا یستکشف من عدم التقیید إرادة الإطلاق .

النتیجة

و إذا عرفنا هذه المقدمات یحسن بنا أن نرجع إلی صلب الموضوع فنقول قد اختلف الأصولیون فی أن الأصل فی الواجب إذا شک فی کونه تعبدیا أو توصلیا هل إنه تعبدی أو توصلی .ذهب جماعة إلی أن الأصل فی الواجبات أن تکون عبادیة إلا أن یقوم دلیل خاص علی عدم دخل قصد القربة فی المأمور به لأنه لا بد من الإتیان به تحصیلا للفراغ الیقینی مع عدم الدلیل علی الاکتفاء بدونه و لا یمکن التمسک بالإطلاق لنفیه حسب الفرض و قد تقدم ذلک فی الأمر الأول فتکون أصالة الاحتیاط هی المرجع هنا و هی تقتضی العبادیة .و ذهب جماعة إلی أن الأصل فی الواجبات أن تکون توصلیة لا لأجل التمسک بأصالة الإطلاق فی نفس الأمر و لا لأجل أصالة البراءة من اعتبار

ص :74

قید القربة بل نتمسک لذلک بإطلاق المقام .توضیح ذلک أنه لا ریب فی أن المأمور به إطلاقا و تقییدا یتبع الغرض سعة و ضیقا فإن کان القید دخیلا فی الغرض فلا بد من بیانه و أخذه فی المأمور به قیدا و إلا فلا .غیر أن ذلک فیما یمکن أخذه من القیود فی المأمور به کما فی التقسیمات الأولیة .أما ما لا یمکن أخذه فی المأمور به قیدا کالذی نحن فیه و هو قید قصد الامتثال فلا یصح من الآمر أن یتغافل عنه حیث لا یمکن أخذه قیدا فی الکلام الواحد المتضمن للأمر بل لا مناص له من اتباع طریقة أخری ممکنة لاستیفاء غرضه و لو بإنشاء أمرین أحدهما یتعلق بذات الفعل مجردا عن القید و الثانی یتعلق بالقید .مثلا لو فرض أن غرض المولی قائم بالصلاة المأتی بها بداعی أمرها فإنه إذا لم یمکن تقیید المأمور به بذلک فی نفس الأمر المتعلق بها لما عرفت من امتناع التقیید فی التقسیمات الثانویة فلا بد له أی الآمر لتحصیل غرضه أن یسلک طریقة أخری کأن یأمر أولا بالصلاة ثم یأمر ثانیا بإتیانها بداعی أمرها الأول مبینا ذلک بصریح العبارة .و هذان الأمران یکونان فی حکم أمر واحد ثبوتا و سقوطا لأنهما ناشئان من غرض واحد و الثانی یکون بیانا للأول فمع عدم امتثال الأمر الثانی لا یسقط الأمر الأول بامتثاله فقط و ذلک بأن یأتی بالصلاة مجردة عن قصد أمرها فیکون الأمر الثانی بانضمامه إلی الأول مشترکا مع التقیید فی النتیجة و إن لم یسم تقییدا اصطلاحا .إذا عرفت ذلک یقول المولی إذا أمر بشیء و کان فی مقام البیان

ص :75

و اکتفی بهذا الأمر و لم یلحقه بما یکون بیانا له فلم یأمر ثانیا بقصد الامتثال فإنه یستکشف منه عدم دخل قصد الامتثال فی الغرض و إلا لبینه بأمر ثان و هذا ما سمیناه بإطلاق المقام .و علیه فالأصل فی الواجبات کونها توصلیة حتی یثبت بالدلیل أنها تعبدیة

4 الواجب العینی و إطلاق الصیغة

(الواجب العینی ما یتعلق بکل مکلف و لا یسقط بفعل الغیر) کالصلاة الیومیة و الصوم و یقابله(الواجب الکفائی و هو المطلوب فیه وجود الفعل من أی مکلف کان فیسقط بفعل بعض المکلفین عن الباقی) کالصلاة عن المیت و تغسیله و دفنه و سیأتی فی تقسیمات الواجب ذکرهما .و فیما یتعلق فی مسألة تشخیص الظهور نقول إن دل الدلیل علی أن الواجب عینی أو کفائی فذاک و إن لم یدل فإن إطلاق صیغة افعل تقتضی أن یکون عینیا سواء أتی بذلک العمل شخص آخر أم لم یأت به فإن العقل یحکم بلزوم امتثال الأمر ما لم یعلم سقوطه بفعل الغیر .فالمحتاج إلی مزید البیان علی أصل الصیغة هو الواجب الکفائی فإذا لم ینصب المولی قرینة علی إرادته کما هو المفروض یعلم أن مراده الوجوب العینی

5 الواجب التعیینی و إطلاق الصیغة

(الواجب التعیینی هو الواجب بلا واجب آخر یکون عدلا له و بدیلا عنه فی عرضه)کالصلاة الیومیة و یقابله الواجب التخییری کخصال

ص :76

کفارة الإفطار العمدی فی صوم شهر رمضان المخیرة بین إطعام ستین مسکینا و صوم شهرین متتابعین و عتق رقبة و سیأتی فی الخاتمة توضیح الواجب التعیینی و التخییری .فإذا علم واجب أنه من أی القسمین فذاک و إلا فمقتضی إطلاق صیغة الأمر وجوب ذلک الفعل سواء أتی بفعل آخر أم لم یأت به فالقاعدة تقتضی عدم سقوطه بفعل شیء آخر لأن التخییر محتاج إلی مزید بیان مفقود

6 الواجب النفسی و إطلاق الصیغة

(الواجب النفسی هو الواجب لنفسه لا لأجل واجب آخر)کالصلاة الیومیة و یقابله الواجب الغیری کالوضوء فإنه إنما یجب مقدمة للصلاة الواجبة لا لنفسه إذ لو لم تجب الصلاة لما وجب الوضوء .فإذا شک فی واجب أنه نفسی أو غیری فمقتضی إطلاق تعلق الأمر به سواء وجب شیء آخر أم لا أنه واجب نفسی فالإطلاق یقتضی النفسیة ما لم تثبت الغیریة

7 الفور و التراخی

اختلف الأصولیون فی دلالة صیغة الأمر علی الفور و التراخی علی أقوال 1 أنها موضوعة للفور .2 أنها موضوعة للتراخی .3 أنها موضوعة لهما علی نحو الاشتراک اللفظی .4 أنها غیر موضوعة لا للفور و لا للتراخی و لا للأعم منهما بل

ص :77

لا دلالة لها علی أحدهما بوجه من الوجوه و إنما یستفاد أحدهما من القرائن الخارجیة التی تختلف باختلاف المقامات .و الحق هو الأخیر و الدلیل علیه ما عرفت من أن صیغة افعل إنما تدل علی النسبة الطلبیة کما أن المادة لم توضع إلا لنفس الحدث غیر الملحوظة معه شیء من خصوصیاته الوجودیة و علیه فلا دلالة لها لا بهیئتها و لا بمادتها علی الفور أو التراخی بل لا بد من دال آخر علی شیء منهما فإن تجردت عن الدال الآخر فإن ذلک یقتضی جواز الإتیان بالمأمور به علی الفور أو التراخی .هذا بالنظر إلی نفس الصیغة أما بالنظر إلی الدلیل الخارجی المنفصل فقد قیل بوجود الدلیل علی الفور فی جمیع الواجبات علی نحو العموم إلا ما دل علیه دلیل خاص ینص علی جواز التراخی فیه بالخصوص و قد ذکروا لذلک آیتین الأولی قوله تعالی فی سورة آل عمران 127 وَ سٰارِعُوا إِلیٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ و تقریب الاستدلال بها أن المسارعة إلی المغفرة لا تکون إلا بالمسارعة إلی سببها و هو الإتیان بالمأمور به لأن المغفرة فعل الله تعالی فلا معنی لمسارعة العبد إلیها و علیه فیکون الإسراع إلی فعل المأمور به واجبا لما مر من ظهور صیغة افعل فی الوجوب .الثانیة قوله تعالی فی سورة البقرة 143 و المائدة 53 فَاسْتَبِقُوا الْخَیْرٰاتِ فإن الاستباق بالخیرات عبارة أخری عن الإتیان بها فورا .و الجواب عن الاستدلال بکلتا الآیتین أن الخیرات و سبب المغفرة کما تصدق علی الواجبات تصدق علی المستحبات أیضا فتکون المسارعة و المسابقة شاملتین لما هما فی المستحبات أیضا و من البدیهی عدم وجوب المسارعة فیها کیف و هی یجوز ترکها رأسا و إذا کانتا شاملتین للمستحبات

ص :78

بعمومهما کان ذلک قرینة علی أن طلب المسارعة لیس علی نحو الإلزام فلا تبقی لهما دلالة علی الفوریة فی عموم الواجبات .بل لو سلمنا باختصاصهما فی الواجبات لوجب صرف ظهور صیغة افعل فیها فی الوجوب و حملها علی الاستحباب نظرا إلی أنا نعلم عدم وجوب الفوریة فی أکثر الواجبات فیلزم تخصیص الأکثر بإخراج أکثر الواجبات عن عمومها و لا شک أن الإتیان بالکلام عاما مع تخصیص الأکثر و إخراجه من العموم بعد ذلک قبیح فی المحاورات العرفیة و یعد الکلام عند العرف مستهجنا فهل تری یصح لعارف بأسالیب الکلام أن یقول مثلا بعت أموالی ثم یستثنی واحدا فواحدا حتی لا یبقی تحت العام إلا القلیل لا شک فی أن هذا الکلام یعد مستهجنا لا یصدر عن حکیم عارف .إذن لا یبقی مناص من حمل الآیتین علی الاستحباب

8 المرة و التکرار[1]

و اختلفوا أیضا فی دلالة صیغة افعل علی المرة و التکرار علی أقوال کاختلافهم فی الفور و التراخی و المختار هنا کالمختار هناک و الدلیل نفس الدلیل من عدم دلالة الصیغة لا بهیئتها و لا بمادتها علی المرة و لا التکرار

ص :79

لما عرفت من أنها لا تدل علی أکثر من طلب نفس الطبیعة من حیث هی فلا بد من دال آخر علی کل منهما .أما الإطلاق فإنه یقتضی الاکتفاء بالمرة و تفصیل ذلک أن مطلوب المولی لا یخلو من أحد وجوه ثلاثة و یختلف الحکم فیها من ناحیة جواز الاکتفاء و جواز التکرار 1 أن یکون المطلوب صرف وجود الشیء بلا قید و لا شرط بمعنی أنه یرید ألا یبقی مطلوبه معدوما بل یخرج من ظلمة العدم إلی نور الوجود لا أکثر و لو بفرد واحد و لا محالة حینئذ ینطبق المطلوب قهرا علی أول وجوداته فلو أتی المکلف بما أمر به أکثر من مرة فالامتثال یکون بالوجود الأول و یکون الثانی لغوا محضا کالصلاة الیومیة .2 أن یکون المطلوب الوجود الواحد بقید الوحدة أی بشرط ألا یزید علی أول وجوداته فلو أتی المکلف حینئذ بالمأمور به مرتین لا یحصل الامتثال أصلا کتکبیرة الإحرام للصلاة فإن الإتیان بالثانیة عقیب الأولی مبطل للأولی و هی تقع باطلة .3 أن یکون المطلوب الوجود المتکرر إما بشرط تکرره فیکون المطلوب هو المجموع بما هو مجموع فلا یحصل الامتثال بالمرة أصلا کرکعات الصلاة الواحدة و إما لا بشرط تکرره بمعنی أنه یکون المطلوب کل واحد من الوجودات کصوم أیام شهر رمضان فلکل مرة امتثالها الخاص .و لا شک أن الوجهین الأخیرین یحتاجان إلی بیان زائد علی مفاد الصیغة .فلو أطلق المولی و لم یقید بأحد الوجهین و هو فی مقام البیان کان إطلاقه دلیلا علی إرادة الوجه الأول و علیه یحصل الامتثال کما قلنا بالوجود الأول و لکن لا یضر الوجود الثانی کما أنه لا أثر له فی الامتثال و غرض المولی .

ص :80

و مما ذکرنا یتضح أن مقتضی الإطلاق جواز الإتیان بأفراد کثیرة معا دفعة واحدة و یحصل الامتثال بالجمیع فلو قال المولی تصدق علی مسکین فمقتضی الإطلاق جواز الاکتفاء بالتصدق مرة واحدة علی مسکین واحد و حصول الامتثال بالتصدق علی عدة مساکین دفعة واحدة و یکون امتثالا واحدا بالجمیع لصدق صرف الوجود علی الجمیع إذ الامتثال کما یحصل بالفرد الواحد یحصل بالأفراد المجتمعة بالوجود

9 هل یدل نسخ الوجوب علی الجواز

إذا وجب شیء فی زمان بدلالة الأمر ثم نسخ ذلک الوجوب قطعا فقد اختلفوا فی بقاء الجواز الذی کان مدلولا للأمر لأن الأمر کان یدل علی جواز الفعل مع المنع من ترکه فمنهم من قال ببقاء الجواز و منهم من قال بعدمه .و یرجع النزاع فی الحقیقة إلی النزاع فی مقدار دلالة نسخ الوجوب فإنه فیه احتمالین 1 أنه یدل علی رفع خصوص المنع من الترک فقط و حینئذ تبقی دلالة الأمر علی الجواز علی حالها لا یمسها النسخ و هو القول الأول و منشأ هذا أن الوجوب ینحل إلی الجواز و المنع من الترک و لا شأن فی النسخ إلا رفع المنع من الترک فقط و لا تعرض له لجنسه و هو الجواز أی الإذن فی الفعل .2 أنه یدل علی رفع الوجوب من أصله فلا یبقی لدلیل الوجوب شیء یدل علیه و منشأ هذا هو أن الوجوب معنی بسیط لا ینحل إلی جزءین فلا یتصور فی النسخ أنه رفع للمنع من الترک فقط .

ص :81

و المختار هو القول الثانی لأن الحق أن الوجوب أمر بسیط و هو الإلزام بالفعل و لازمه المنع من الترک کما أن الحرمة هی المنع من الفعل و لازمها الإلزام بالترک و لیس الإلزام بالترک الذی هو معناه وجوب الترک جزءا من معنی حرمة الفعل و کذلک المنع من الترک الذی معناه حرمة الترک لیس جزءا من معنی وجوب الفعل بل أحدهما لازم للآخر ینشأ منه تبعا له .فثبوت الجواز بعد النسخ للوجوب یحتاج إلی دلیل خاص یدل علیه و لا یکفی دلیل الوجوب فلا دلالة لدلیل الناسخ و لا لدلیل المنسوخ علی الجواز و یمکن أن یکون الفعل بعد نسخ وجوبه محکوما بکل واحد من الأحکام الأربعة الباقیة .و هذا البحث لا یستحق أکثر من هذا الکلام لقلة البلوی به و ما ذکرناه فیه الکفایة

10 الأمر بشیء من مرتین

إذا تعلق الأمر بفعل مرتین فهو یمکن أن یقع علی صورتین 1 أن یکون الأمر الثانی بعد امتثال الأمر الأول و حینئذ لا شبهة فی لزوم امتثاله ثانیا .2 أن یکون الأمر الثانی قبل امتثال الأمر الأول و حینئذ یقع الشک فی وجوب امتثاله مرتین أو کفایة المرة الواحدة فی الامتثال فإن کان الأمر الثانی تأسیسا لوجوب آخر تعین الامتثال مرة بعد أخری و إن کان تأکیدا للأمر الأول فلیس لهما إلا امتثال واحد و لتوضیح الحال و بیان الحق فی المسألة نقول إن هذا الفرض له أربع حالات

ص :82

الأولی أن یکون الأمران معا غیر معلقین علی شرط کأن یقول مثلا صل ثم یقول ثانیا صل فإن الظاهر حینئذ أن یحمل الأمر الثانی علی التأکید لأن الطبیعة الواحدة یستحیل تعلق الأمرین بها من دون امتیاز فی البین فلو کان الثانی تأسیسا غیر مؤکد للأول لکان علی الآمر تقیید متعلقه و لو بنحو مرة أخری فمن عدم التقیید و ظهور وحدة المتعلق فیهما یکون اللفظ فی الثانی ظاهرا فی التأکید و إن کان التأکید فی نفسه خلاف الأصل و خلاف ظاهر الکلام لو خلی و نفسه .الثانیة أن یکون الأمران معا معلقین علی شرط واحد کأن یقول المولی مثلا إن کنت محدثا فتوضأ ثم یکرر نفس القول ثانیا ففی هذه الحالة أیضا یحمل علی التأکید لعین ما قلناه فی الحالة الأولی بلا تفاوت .الثالثة أن یکون أحد الأمرین معلقا و الآخر غیر معلق کأن یقول مثلا اغتسل ثم یقول إن کنت جنبا فاغتسل ففی هذه الحالة أیضا یکون المطلوب واحدا و یحمل علی التأکید لوحدة المأمور به ظاهرا المانعة من تعلق الأمرین به غیر أن الأمر المطلق أعنی غیر المعلق یحمل إطلاقه علی المقید أعنی المعلق فیکون الثانی مقیدا لإطلاق الأول و کاشفا عن المراد منه .الرابعة أن یکون أحد الأمرین معلقا علی شیء و الآخر معلقا علی شیء آخر کان یقول مثلا إن کنت جنبا فاغتسل و یقول إن مسست میتا فاغتسل ففی هذه الحالة یحمل ظاهرا علی التأسیس لأن الظاهر أن المطلوب فی کل منهما غیر المطلوب فی الآخر و یبعد جدا حمله علی أن المطلوب واحد أما التأکید فلا معنی هنا و أما القول بالتداخل بمعنی الاکتفاء بامتثال واحد عن المطلوبین فهو ممکن و لکنه لیس من باب التأکید بل لا یفرض إلا بعد فرض التأسیس و أن هناک أمرین یمتثلان

ص :83

معا بفعل واحد .و لکن التداخل علی کل حال خلاف الأصل و لا یصار إلیه إلا بدلیل خاص کما ثبت فی غسل الجنابة أنه یجزی عن کل غسل آخر و سیأتی البحث عن التداخل مفصلا فی مفهوم الشرط

11 دلالة الأمر بالأمر علی الوجوب

إذا أمر المولی أحد عبیده أن یأمر عبده الآخر بفعل فهل هو أمر بذلک الفعل حتی یجب علی الثانی فعله علی قولین و هکذا یمکن فرضه علی نحوین 1 أن یکون المأمور الأول علی نحو المبلغ لأمر المولی إلی المأمور الثانی مثل أن یأمر رئیس الدولة وزیره أن یأمر الرعیة عنه بفعل و هذا النحو لا شک خارج عن محل الخلاف لأنه لا یشک أحد فی ظهوره فی وجوب الفعل علی المأمور الثانی و کل أوامر الأنبیاء بالنسبة إلی المکلفین من هذا القبیل .2 ألا یکون المأمور الأول علی نحو المبلغ بل هو مأمور أن یستقل فی توجیه الأمر إلی الثانی من قبل نفسه و علی نحو(قول الإمام علیه السلام:مرهم بالصلاة و هم أبناء سبع)یعنی الأطفال .و هذا النحو هو محل الخلاف و البحث و یلحق به ما لم یعلم الحال فیه أنه علی أی نحو من النحوین المذکورین .و المختار أن مجرد الأمر بالأمر ظاهر عرفا فی وجوبه علی الثانی .و توضیح ذلک أن الأمر بالأمر لا علی نحو التبلیغ یقع علی صورتین الأولی أن یکون غرض المولی یتعلق فی فعل المأمور الثانی

ص :84

و یکون أمره بالأمر طریقا للتوصل إلی حصول غرضه و إذا عرف غرضه أنه علی هذه الصورة یکون أمره بالأمر لا شک أمرا بالفعل نفسه .الثانیة أن یکون غرضه فی مجرد أمر المأمور الأول من دون أن یتعلق له غرض بفعل المأمور الثانی کما لو أمر المولی ابنه مثلا أن یأمر العبد بشیء و لا یکون غرضه إلا أن یعود ابنه علی إصدار الأوامر أو نحو ذلک فیکون غرضه فقط فی إصدار الأول أمره فلا یکون الفعل مطلوبا له أصلا فی الواقع .و واضح لو علم الثانی المأمور بهذا الغرض لا یکون أمر المولی بالأمر أمرا له و لا یعد عاصیا لمولاه لو ترکه لأن الأمر المتعلق لأمر المولی یکون مأخوذا علی نحو الموضوعیة و هو متعلق الغرض لا علی نحو الطریقیة لتحصیل الفعل من العبد المأمور الثانی .فإن قامت قرینة علی إحدی الصورتین المذکورتین فذاک و إن لم تقم قرینة فإن ظاهر الأوامر عرفا مع التجرد عن القرائن هو أنه علی نحو الطریقیة .فإذن الأمر بالأمر مطلقا یدل علی الوجوب إلا إذا ثبت أنه علی نحو الموضوعیة و لیس مثله یقع فی الأوامر الشرعیة

ص :85

ص :86

الخاتمة فی تقسیمات الواجب
اشارة

للواجب عدة تقسیمات لا بأس بالتعرض لها إلحاقا بمباحث الأوامر و إتماما للفائدة

1 المطلق و المشروط

إن الواجب إذا قیس وجوبه إلی شیء آخر خارج عن الواجب فهو لا یخرج عن أحد نحوین 1 أن یکون متوقفا وجوبه علی ذلک الشیء و هو أی الشیء مأخوذ فی وجوب الواجب علی نحو الشرطیة کوجوب الحج بالقیاس إلی الاستطاعة و هذا هو المسمی بالواجب المشروط لاشتراط وجوبه بحصول ذلک الشیء الخارج و لذا لا یجب الحج إلا عند حصول الاستطاعة .2 أن یکون وجوب الواجب غیر متوقف علی حصول ذلک الشیء الآخر کالحج بالقیاس إلی قطع المسافة و إن توقف وجوده علیه و هذا هو المسمی بالواجب المطلق لأن وجوبه مطلق غیر مشروط بحصول ذلک الشیء الخارج و منه الصلاة بالقیاس إلی الوضوء و الغسل و الساتر و نحوها .و من مثال الحج یظهر أنه و هو واجب واحد یکون واجبا مشروطا بالقیاس إلی شیء و واجبا مطلقا بالقیاس إلی شیء آخر فالمشروط و المطلق أمران إضافیان .

ص :87

ثم اعلم أن کل واجب هو واجب مشروط بالقیاس إلی الشرائط العامة و هی البلوغ و القدرة و العقل فالصبی و العاجز و المجنون لا یکلفون بشیء فی الواقع .و أما العلم فقد قیل إنه من الشروط العامة و الحق أنه لیس شرطا فی الوجوب و لا فی غیره من الأحکام بل التکالیف الواقعیة مشترکة بین العالم و الجاهل علی حد سواء نعم العلم شرط فی استحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف علی تفصیل یأتی فی مباحث الحجة و غیرها إن شاء الله تعالی و لیس هذا موضعه

2 المعلق و المنجز

لا شک أن الواجب المشروط بعد حصول شرطه یکون وجوبه فعلیا شأن الواجب المطلق فیتوجه التکلیف فعلا إلی المکلف و لکن فعلیة التکلیف تتصور علی وجهین 1 أن تکون فعلیة الوجوب مقارنة زمانا لفعلیة الواجب بمعنی أن یکون زمان الواجب نفس زمان الوجوب و یسمی هذا القسم الواجب المنجز کالصلاة بعد دخول وقتها فإن وجوبها فعلی و الواجب و هو الصلاة فعلی أیضا .2 أن تکون فعلیة الوجوب سابقة زمانا علی فعلیة الواجب فیتأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب و یسمی هذا القسم الواجب المعلق لتعلیق الفعل لا وجوبه علی زمان غیر حاصل بعد کالحج مثلا فإنه عند حصول الاستطاعة یکون وجوبه فعلیا کما قیل و لکن الواجب معلق علی حصول الموسم فإنه عند حصول الاستطاعة وجب الحج و لذا

ص :88

یجب علیه أن یهیئ المقدمات و الزاد و الراحلة حتی یحصل وقته و موسمه لیفعله فی وقته المحدد له .و قد وقع البحث و الکلام هنا فی مقامین الأول فی إمکان الواجب المعلق و المعروف عن صاحب الفصول القول بإمکانه و وقوعه و الأکثر علی استحالته و هو المختار و سنتعرض له إن شاء الله تعالی فی مقدمة الواجب مع بیان السر فی الذهاب إلی إمکانه و وقوعه و سنبین أن الواجب فعلا فی مثال الحج هو السیر و التهیئة للمقدمات و أما نفس أعمال الحج فوجوبها مشروط بحضور الموسم و القدرة علیها فی زمانه .و الثانی فی أن ظاهر الجملة الشرطیة فی مثل قولهم إذا دخل الوقت فصل هل إن الشرط شرط للوجوب فلا تجب الصلاة فی المثال إلا بعد دخول الوقت أو إنه شرط للواجب فیکون الواجب نفسه معلقا علی دخول الوقت فی المثال و أما الوجوب فهو فعلی مطلق .و بعبارة أخری هل إن القید شرط لمدلول هیئة الأمر فی الجزاء أو إنه شرط لمدلول مادة الأمر فی الجزاء .و هذا البحث یجری حتی لو کان الشرط غیر الزمان کما إذا قال المولی إذا تطهرت فصل .فعلی القول بظهور الجملة فی رجوع القید إلی الهیئة أی أنه شرط للوجوب یکون الواجب واجبا مشروطا فلا یجب تحصیل شیء من المقدمات قبل حصول الشرط و علی القول بظهورها فی رجوع القید إلی المادة أی أنه شرط للواجب یکون الواجب واجبا مطلقا فیکون الواجب فعلیا قبل حصول الشرط فیجب علیه تحصیل مقدمات المأمور به إذا علم بحصول الشرط فیما بعد .

ص :89

و هذا النزاع هو النزاع المعروف بین المتأخرین فی رجوع القید فی الجملة الشرطیة إلی الهیئة أو المادة و سیجیء تحقیق الحال فی موضعه إن شاء الله تعالی

3 الأصلی و التبعی

(الواجب الأصلی ما قصدت إفادة وجوبه مستقلا بالکلام) کوجوبی الصلاة و الوضوء المستفادین من قوله تعالی وَ أَقِیمُوا الصَّلاٰةَ و قوله تعالی فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ .(و الواجب التبعی ما لم تقصد إفادة وجوبه بل کان من توابع ما قصدت إفادته) و هذا کوجوب المشی إلی السوق المفهوم من أمر المولی بوجوب شراء اللحم من السوق فإن المشی إلیها حینئذ یکون واجبا لکنه لم یکن مقصودا بالإفادة من الکلام کما فی کل دلالة التزامیة فیما لم یکن اللزوم فیها من قبیل البین بالمعنی الأخص

4 التخییری و التعیینی

(الواجب التعیینی ما تعلق به الطلب بخصوصه و لیس له عدل فی مقام الامتثال) کالصلاة و الصوم فی شهر رمضان فإن الصلاة واجبة لمصلحة فی نفسها لا یقوم مقامها واجب آخر فی عرضها و قد عرفناه فیما سبق ص 69 بقولنا (هو الواجب بلا واجب آخر یکون عدلا له و بدیلا عنه فی عرضه) و إنما قیدنا البدیل فی عرضه لأن بعض الواجبات التعیینیة قد یکون لها بدیل فی طولها و لا یخرجها عن کونها واجبات تعیینیة کالوضوء مثلا الذی له بدیل فی طوله و هو التیمم لأنه إنما یجب إذا

ص :90

تعذر الوضوء و کالغسل بالنسبة إلی التیمم أیضا کذلک و کخصال الکفارة المرتبة نحو کفارة قتل الخطإ و هی العتق أولا فإن تعذر فصیام شهرین فإن تعذر فإطعام ستین مسکینا .(و الواجب التخییری ما کان له عدل و بدیل فی عرضه و لم یتعلق به الطلب بخصوصه) بل کان المطلوب هو أو غیره یتخیر بینهما المکلف و هو کالصوم الواجب فی کفارة إفطار شهر رمضان عمدا فإنه واجب و لکن یجوز ترکه و تبدیله بعتق رقبة أو إطعام ستین مسکینا .و الأصل فی هذا التقسیم أن غرض المولی ربما یتعلق بشیء معین فإنه لا مناص حینئذ من أن یکون هو المطلوب و المبعوث إلیه وحده فیکون واجبا تعیینیا و ربما یتعلق غرضه بأحد شیئین أو أشیاء لا علی التعیین بمعنی أن کلا منها محصل لغرضه فیکون البعث نحوها جمیعا علی نحو التخییر بینها .و کلا القسمین واقعان فی إراداتنا نحن أیضا فلا وجه للإشکال فی إمکان الواجب التخییری و لا موجب لإطالة الکلام .ثم إن أطراف الواجب التخییری إن کان بینها جامع یمکن التعبیر عنه بلفظ واحد فإنه یمکن أن یکون البعث فی مقام الطلب نحو هذا الجامع .فإذا وقع الطلب کذلک فإن التخییر حینئذ بین الأطراف یسمی عقلیا و هو لیس من الواجب التخییری المبحوث عنه فإن هذا یعد من الواجب التعیینی فإن کل واجب تعیینی کلی یکون المکلف مخیرا عقلا بین أفراده و التخییر یسمی حینئذ عقلیا مثاله قول الأستاذ لتلمیذه اشتر قلما الجامع بین أنواع الأقلام من قلم الحبر و قلم الرصاص و غیرهما فإن التخییر بین هذه الأنواع یکون عقلیا کما أن التخییر بین أفراد کل نوع یکون عقلیا أیضا .و إن لم یکن هناک جامع مثل ذلک کما فی مثال خصال الکفارة فإن

ص :91

البعث إما أن یکون نحو عنوان انتزاعی کعنوان أحد هذه الأمور أو نحو کل واحد منها مستقلا و لکن مع العطف بأو و نحوها مما یدل علی التخییر .فیقال فی النحو الأول مثلا أوجد أحد هذه الأمور و یقال فی النحو الثانی مثلا صم أو أطعم أو أعتق و یسمی حینئذ التخییر بین الأطراف شرعیا و هو المقصود من التخییر المقابل للتعیین هنا .ثم هذا التخییر الشرعی تارة یکون بین المتباینین کالمثال المتقدم و أخری بین الأقل و الأکثر کالتخییر بین تسبیحة واحدة و ثلاث تسبیحات فی ثلاثیة الصلاة الیومیة و رباعیتها علی قول و کما لو أمر المولی برسم خط مستقیم مثلا مخیرا فیه بین القصیر و الطویل .و هذا الأخیر أعنی التخییر بین الأقل و الأکثر إنما یتصور فیما إذا کان الغرض مترتبا علی الأقل بحده و یترتب علی الأکثر بحده أیضا أما لو کان الغرض مترتبا علی الأقل مطلقا و إن وقع فی ضمن الأکبر فالواجب حینئذ هو الأقل فقط و لا تکون الزیادة واجبة فلا یکون من باب الواجب التخییری بل الزیادة لا بد أن تحمل علی الاستحباب

5 العینی و الکفائی

تقدم ص 76(أن الواجب العینی ما یتعلق بکل مکلف و لا یسقط بفعل الغیر) و یقابله(الواجب الکفائی و هو المطلوب فیه وجوب الفعل من أی مکلف کان) فهو یجب علی جمیع المکلفین و لکن یکتفی بفعل بعضهم فیسقط عن الآخرین و لا یستحق العقاب بترکه .نعم إذا ترکوه جمیعا من دون أن یقوم به واحد فالجمیع منهم یستحقون العقاب کما یستحق الثواب کل من اشترک فی فعله .و أمثلة الواجب الکفائی کثیرة فی الشریعة منها تجهیز المیت و الصلاة

ص :92

علیه و منها إنقاذ الغریق و نحوه من التهلکة و منها إزالة النجاسة عن المسجد و منها الحرف و المهن و الصناعات التی بها نظام معایش الناس و منها طلب الاجتهاد و منها الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر .و الأصل فی هذا التقسیم أن المولی یتعلق غرضه بالشیء المطلوب له من الغیر علی نحوین 1 أن یصدر من کل واحد من الناس حینما تکون المصلحة المطلوبة تحصل من کل واحد مستقلا فلا بد أن یوجه الخطاب إلی کل واحد منهم علی أن یصدر من کل واحد عینا کالصوم أو الصلاة و أکثر التکالیف الشرعیة و هذا هو الواجب العینی .2 أن یصدر من أحد المکلفین لا بعینه حینما تکون المصلحة فی صدور الفعل و لو مرة واحدة من أی شخص کان فلا بد أن یوجه الخطاب إلی جمیع المکلفین لعدم خصوصیة مکلف دون مکلف و یکتفی بفعل بعضهم الذی یحصل به الغرض فیجب علی الجمیع بفرض الکفایة الذی هو الواجب الکفائی .و قد وقع الأقدمون من الأصولیین فی حیرة من أمر الوجوب الکفائی و تطبیقه علی القاعدة فی الوجوب الذی قوامه بل لازمه المنع من الترک إذ رأوا أن وجوبه علی الجمیع لا یتلاءم مع جواز ترکه بفعل بعضهم و لا وجوب بدون المنع من الترک لذا ظن بعضهم أنه لیس المکلف المخاطب فیه الجمیع بل البعض غیر المعین أی أحد المکلفین و ظن بعضهم أنه معین عند الله غیر معین عندنا و یتعین من یسبق إلی الفعل منهم فهو المکلف حقیقة إلی غیر ذلک من الظنون .و نحن لما صورناه بذلک التصویر المتقدم لا یبقی مجال لهذه الظنون فلا نشغل أنفسنا بذکرها و ردها و تدفع الحیرة بأدنی التفات لأنه إذا

ص :93

کان غرض المولی یحصل بفعل البعض فلا بد أن یسقط وجوبه عن الباقی إذ لا یبقی ما یدعو إلیه فهو إذن واجب علی الجمیع من أول الأمر و لذا یمنعون جمیعا من ترکه و یسقط بفعل بعضهم لحصول الغرض منه

6 الموسع و المضیق
اشارة

ینقسم الواجب باعتبار الوقت إلی قسمین موقت و غیر موقت ثم الموقت إلی موسع و مضیق ثم غیر الموقت إلی فوری و غیر فوری و لنبدأ بغیر الموقت مقدمة فنقول (غیر الموقت ما لم یعتبر فیه شرعا وقت مخصوص) و إن کان کل فعل لا تخلو عقلا من زمن یکون ظرفا له کقضاء الفائتة و إزالة النجاسة عن المسجد و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و نحو ذلک .و هو کما قلنا علی قسمین (فوری و هو ما لا یجوز تأخیره عن أول أزمنة إمکانه) کإزالة النجاسة عن المسجد و رد السلام و الأمر بالمعروف و(غیر فوری و هو ما یجوز تأخیره عن أول أزمنة إمکانه) کالصلاة علی المیت و قضاء الصلاة الفائتة و الزکاة و الخمس .(و الموقت ما اعتبر فیه شرعا وقت مخصوص) کالصلاة و الحج و الصوم و نحوها و هو لا یخلو عقلا من وجوه ثلاثة إما أن یکون فعله زائدا علی وقته المعین له أو مساویا له أو ناقصا عنه و الأول ممتنع لأنه من التکلیف بما لا یطاق .و الثانی لا ینبغی الإشکال فی إمکانه و وقوعه و هو المسمی المضیق کالصوم إذ فعله ینطبق علی وقته بلا زیادة و لا نقصان من طلوع الفجر إلی الغروب .

ص :94

و الثالث هو المسمی الموسع لأن فیه توسعة علی المکلف فی أول الوقت و فی أثنائه و آخره کالصلاة الیومیة و صلاة الآیات فإنه لا یجوز ترکه فی جمیع الوقت و یکتفی بفعله مرة واحدة فی ضمن الوقت المحدد له .و لا إشکال عند العلماء فی ورود ما ظاهره التوسعة فی الشریعة و إنما اختلفوا فی جوازه عقلا علی قولین إمکانه و امتناعه و من قال بامتناعه أول ما ورد علی الوجه الذی یدفع الإشکال عنده علی ما سیأتی .و الحق عندنا جواز الموسع عقلا و وقوعه شرعا .و منشأ الإشکال عند القائل بامتناع الموسع أن حقیقة الوجوب متقومة بالمنع من الترک کما تقدم فینافیه الحکم بجواز ترکه فی أول الوقت أو وسطه .و الجواب عنه واضح فإن الواجب الموسع فعل واحد و هو طبیعة الفعل المقید بطبیعة الوقت المحدود بحدین علی ألا یخرج الفعل عن الوقت فتکون الطبیعة بملاحظة ذاتها واجبة لا یجوز ترکها غیر أن الوقت لما کان یسع لإیقاعها فیه عدة مرات کان لها أفراد طولیة تدریجیة مقدرة الوجود فی أول الوقت و ثانیه و ثالثه إلی آخره فیقع التخییر العقلی بین الأفراد الطولیة کالتخییر العقلی بین الأفراد العرضیة للطبیعة المأمور بها فیجوز الإتیان بفرد و ترک الآخر من دون أن یکون جواز الترک له مساس فی نفس المأمور به و هو طبیعة الفعل فی الوقت المحدود فلا منافاة بین وجوب الطبیعة بملاحظة ذاتها و بین جواز ترک أفرادها عدا فرد واحد .و القائلون بالامتناع التجئوا إلی تأویل ما ظاهره التوسعة فی الشریعة فقال بعضهم بوجوبه فی أول الوقت و الإتیان به فی الزمان الباقی یکون من باب القضاء و التدارک لما فات من الفعل فی أول الوقت و قال آخر بوجوبه فی آخر الوقت و الإتیان به قبله من باب النفل یسقط به الغرض

ص :95

نظیر إیقاع غسل الجمعة فی یوم الخمیس و لیلة الجمعة و قیل غیر ذلک .و کلها أقوال متروکة عند علمائنا واضحة البطلان فلا حاجة إلی الإطالة فی ردها

هل یتبع القضاء الأداء

مما یتفرع عادة علی البحث عن الموقت مسألة تبعیة القضاء للأداء و هی من مباحث الألفاظ و تدخل فی باب الأوامر .و لکن أخر ذکرها إلی الخاتمة مع أن من حقها أن تذکر مثلها لأنها کما قلنا من فروع بحث الموقت عادة فنقول إن الموقت قد یفوت فی وقته إما لترکه عن عذر أو عن عمد و اختیار و إما لفساده لعذر أو لغیر عذر فإذا فات علی أی نحو من هذه الأنحاء فقد ثبت فی الشریعة وجوب تدارک بعض الواجبات کالصلاة و الصوم بمعنی أن یأتی بها خارج الوقت و یسمی هذا التدارک قضاء و هذا لا کلام فیه .إلا أن الأصولیین اختلفوا فی أن وجوب القضاء هل هو علی مقتضی القاعدة بمعنی أن الأمر بنفس الموقت یدل علی وجوب قضائه إذا فات فی وقته فیکون وجوب القضاء بنفس دلیل الأداء أو أن القاعدة لا تقتضی ذلک بل وجوب القضاء یحتاج إلی دلیل خاص غیر نفس دلیل الأداء و فی المسألة أقوال ثلاثة قول بالتبعیة مطلقا .و قول بعدمها مطلقا .و قول بالتفصیل بین ما إذا کان الدلیل علی التوقیت متصلا فلا تبعیة و بین ما إذا کان منفصلا فالقضاء تابع للأداء .

ص :96

و الظاهر أن منشأ النزاع فی المسألة یرجع إلی أن المستفاد من التوقیت هو وحدة المطلوب أو تعدده أی أن فی الموقت مطلوبا واحدا هو الفعل المقید بالوقت بما هو مقید أو مطلوبین و هما ذات الفعل و کونه واقعا فی وقت معین .فعلی الأول إذا فات الامتثال فی الوقت لم یبق طلب بنفس الذات فلا بد من فرض أمر جدید للقضاء بالإتیان بالفعل خارج الوقت و علی الثانی إذا فات الامتثال فی الوقت فإنما فات امتثال أحد الطلبین و هو طلب کونه فی الوقت المعین و أما الطلب بذات الفعل فباق علی حاله .و لذا ذهب بعضهم إلی التفصیل المذکور باعتبار أن المستفاد من دلیل التوقیت فی المتصل وحدة المطلوب فیحتاج القضاء إلی أمر جدید و المستفاد فی المنفصل تعدد المطلوب فلا یحتاج القضاء إلی أمر جدید و یکون تابعا للأداء .و المختار هو القول الثانی و هو عدم التبعیة مطلقا .لأن الظاهر من التقیید أن القید رکن فی المطلوب فإذا قال مثلا صم یوم الجمعة فلا یفهم منه إلا مطلوب واحد لغرض واحد و هو خصوص صوم هذا الیوم لا أن الصوم بذاته مطلوب و کونه فی یوم الجمعة مطلوب آخر .و أما فی مورد دلیل التوقیت المنفصل کما إذا قال صم ثم قال مثلا اجعل صومک یوم الجمعة فأیضا کذلک نظرا إلی أن هذا من باب المطلق و المقید فیجب فیه حمل المطلق علی المقید و معنی حمل المطلق علی المقید هو تقیید أصل المطلوب الأول بالقید فیکشف ذلک التقیید عن أن المراد بالمطلق واقعا من أول الأمر خصوص المقید فیصبح الدلیلان بمقتضی الجمع بینهما دلیلا واحدا لا أن المقید مطلوب آخر غیر المطلق و إلا کان معنی ذلک بقاء المطلق علی إطلاقه فلم یکن حملا و لم یکن جمعا بین

ص :97

الدلیلین بل یکون أخذا بالدلیلین .نعم یمکن أن یفرض و إن کان هذا فرضا بعید الوقوع فی الشریعة أن یکون دلیل التوقیت المنفصل مقیدا بالتمکن کأن یقول فی المثال اجعل صومک یوم الجمعة إن تمکنت أو کان دلیل التوقیت لیس فیه إطلاق یعم صورتی التمکن و عدمه و صورة التمکن هی القدر المتیقن منه فإنه فی هذا الفرض یمکن التمسک بإطلاق دلیل الواجب لإثبات وجوب الفعل خارج الوقت لأن دلیل التوقیت غیر صالح لتقیید إطلاق دلیل الواجب إلا فی صورة التمکن و مع الاضطرار إلی ترک الفعل فی الوقت یبقی دلیل الواجب علی إطلاقه .و هذا الفرض هو الذی یظهر من الکفایة لشیخ أساتذتنا الآخوند قدس سره و لکنه فرض بعید جدا علی أنه مع هذا الفرض لا یصدق الفوت و لا القضاء بل یکون وجوبه خارج الوقت من نوع الأداء

ص :98

الباب الثالث النواهی

اشارة

ص :99

ص :100

و فیه خمس مسائل

1 مادة النهی

(و المقصود بها کلمة النهی کمادة الأمر و هی عبارة عن طلب العالی من الدانی ترک الفعل) أو فقل علی الأصح(إنها عبارة عن زجر العالی للدانی عن الفعل و ردعه عنه) و لازم ذلک طلب الترک فیکون التفسیر الأول تفسیرا باللازم علی ما سیأتی توضیحه .و هی کلمة النهی ککلمة الأمر فی الدلالة علی الإلزام عقلا لا وضعا و إنما الفرق بینهما أن المقصود فی الأمر الإلزام بالفعل و المقصود فی النهی الإلزام بالترک .و علیه تکون مادة النهی ظاهرة فی الحرمة کما أن مادة الأمر ظاهرة فی الوجوب

2 صیغة النهی

المراد من صیغة النهی کل صیغة تدل علی طلب الترک .أو فقل علی الأصح کل صیغة تدل علی الزجر عن الفعل و ردعه عنه کصیغة لا تفعل أو إیاک أن تفعل و نحو ذلک .و المقصود بالفعل الحدث الذی یدل علیه المصدر و إن لم یکن أمرا وجودیا فیدخل فیها علی هذا نحو قولهم لا تترک الصلاة فإنها من صیغ النهی لا من صیغ الأمر کما أن قولهم اترک شرب الخمر تعد من صیغ الأمر لا من صیغ النهی و إن أدت مؤدی لا تشرب الخمر .و السر فی ذلک واضح فإن المدلول المطابقی لقولهم لا تترک هو الزجر و النهی عن ترک الفعل و إن کان لازمه الأمر بالفعل فیدل علیه بالدلالة الالتزامیة

ص :101

و المدلول المطابقی لقولهم اترک هو الأمر بترک الفعل و إن کان لازمه النهی عن الفعل فیدل علیه بالدلالة الالتزامیة

3 ظهور صیغة النهی فی التحریم

الحق أن صیغة النهی ظاهرة فی التحریم و لکن لا لأنها موضوعة لمفهوم الحرمة و حقیقة فیه کما هو المعروف بل حالها فی ذلک حال ظهور صیغة افعل فی الوجوب فإنه قد قلنا هناک إن هذا الظهور إنما هو بحکم العقل لا أن الصیغة موضوعة و مستعملة فی مفهوم الوجوب .و کذلک صیغة لا تفعل فإنها أکثر ما تدل علی النسبة الزجریة بین الناهی و المنهی عنه و المنهی فإذا صدرت ممن تجب طاعته و یجب الانزجار بزجره و الانتهاء عما نهی عنه و لم ینصب قرینة علی جواز الفعل کان مقتضی وجوب طاعة هذا المولی و حرمة عصیانه عقلا قضاء لحق العبودیة و المولویة عدم جواز ترک الفعل الذی نهی عنه إلا مع الترخیص من قبله .فیکون علی هذا نفس صدور النهی من المولی بطبعه مصداقا لحکم العقل بوجوب الطاعة و حرمة المعصیة فیکون النهی مصداقا للتحریم حسب ظهوره الإطلاقی لا أن التحریم الذی هو مفهوم اسمی وضعت له الصیغة و استعملت فیه .و الکلام هنا کالکلام فی صیغة افعل بلا فرق من جهة الأقوال و الاختلافات

4 ما المطلوب فی النهی

کل ما تقدم لیس فیه خلاف جدید غیر الخلاف الموجود فی صیغة افعل و إنما اختص النهی فی خلاف واحد و هو أن المطلوب فی النهی هل هو مجرد الترک أو کف النفس عن الفعل و الفرق بینهما أن المطلوب علی القول الأول

ص :102

أمر عدمی محض و المطلوب علی القول الثانی أمر وجودی لأن الکف فعل من أفعال النفس .و الحق هو القول الأول .و منشأ القول الثانی توهم هذا القائل أن الترک الذی معناه إبقاء عدم الفعل المنهی عنه علی حاله لیس بمقدور للمکلف لأنه أزلی خارج عن القدرة فلا یمکن تعلق الطلب به و المعقول من النهی أن یتعلق فیه الطلب بردع النفس و کفها عن الفعل و هو فعل نفسانی یقع تحت الاختیار .و الجواب عن هذا التوهم أن عدم المقدوریة فی الأزل علی العدم لا ینافی المقدوریة بقاء و استمرارا إذ القدرة علی الوجود تلازم القدرة علی العدم بل القدرة علی العدم علی طبع القدرة علی الوجود و إلا لو کان العدم غیر مقدور بقاء لما کان الوجود مقدورا فإن المختار القادر هو الذی إن شاء فعل و إن لم یشأ لم یفعل .و التحقیق أن هذا البحث ساقط من أصله فإنه کما أشرنا إلیه فیما سبق لیس معنی النهی هو الطلب حتی یقال إن المطلوب هو الترک أو الکف و إنما طلب الترک من لوازم النهی و معنی النهی المطابقی هو الزجر و الردع نعم الردع عن الفعل یلزمه عقلا طلب الترک کما أن البعث نحو الفعل فی الأمر یلزمه عقلا الردع عن الترک .فالأمر و النهی کلاهما یتعلقان بنفس الفعل رأسا فلا موقع للحیرة و الشک فی أن الطلب فی النهی یتعلق بالترک أو الکف

5 دلالة صیغة النهی علی الدوام و التکرار
اشارة

اختلفوا فی دلالة صیغة النهی علی التکرار أو المرة کالاختلاف فی صیغة افعل .

ص :103

و الحق هنا ما قلناه هناک بلا فرق فلا دلالة لصیغة لا تفعل لا بهیئتها و لا بمادتها علی الدوام و التکرار و لا علی المرة و إنما المنهی عنه صرف الطبیعة کما أن المبعوث نحوه فی صیغة افعل صرف الطبیعة .غیر أن بینهما فرقا من ناحیة عقلیة فی مقام الامتثال فإن امتثال النهی بالانزجار عن فعل الطبیعة و لا یکون ذلک إلا بترک جمیع أفرادها فإنه لو فعلها مرة واحدة ما کان ممتثلا و أما امتثال الأمر فیتحقق بإیجاد أول وجود من أفراد الطبیعة و لا تتوقف طبیعة الامتثال علی أکثر من فعل المأمور به مرة واحدة .و لیس هذا الفرق من أجل وضع الصیغتین و دلالتهما بل ذلک مقتضی طبع النهی و الأمر عقلا .

تنبیه

لم نذکر هنا ما اعتاد المؤلفون ذکره من بحثی اجتماع الأمر و النهی و دلالة النهی علی الفساد لأنهما داخلان فی المباحث العقلیة کما سیأتی و لیس هما من مباحث الألفاظ و کذلک بحث مقدمة الواجب و مسألة الضد و مسألة الإجزاء لیست من مباحث الألفاظ أیضا و سنذکر الجمیع فی المقصد الثانی المباحث العقلیة إن شاء الله تعالی

ص :104

الباب الرابع المفاهیم

اشارة

ص :105

ص :106

تمهید فی معنی کلمة المفهوم و فی النزاع فی حجیته و فی أقسامه فهذه ثلاثة مباحث

1 معنی کلمة المفهوم

تطلق کلمة المفهوم علی ثلاثة معان 1 المعنی المدلول للفظ الذی یفهم منه فیساوق کلمة المدلول سواء کان مدلولا لمفرد أو جملة و سواء کان مدلولا حقیقیا أو مجازیا .2 ما یقابل المصداق فیراد منه کل معنی یفهم و إن لم یکن مدلولا للفظ فیعم المعنی الأول و غیره .3 ما یقابل المنطوق و هو أخص من الأولین و هذا هو المقصود بالبحث هنا و هو اصطلاح أصولی یختص بالمدلولات الالتزامیة للجمل الترکیبیة سواء کانت إنشائیة أو إخباریة فلا یقال لمدلول المفرد مفهوم و إن کان من المدلولات الالتزامیة .أما المنطوق فمقصودهم منه ما یدل علیه نفس اللفظ فی حد ذاته علی وجه یکون اللفظ المنطوق حاملا لذلک المعنی و قالبا له فیسمی المعنی منطوقا تسمیة للمدلول باسم الدال و لذلک یختص المنطوق بالمدلول المطابقی فقط و إن کان المعنی مجازا قد استعمل فیه اللفظ بقرینة .و علیه فالمفهوم الذی یقابله ما لم یکن اللفظ حاملا له دالا علیه بالمطابقة و لکن یدل علیه باعتباره لازما لمفاد الجملة بنحو اللزوم البین بالمعنی الأخص (1).

ص :107


1- 1) راجع کتاب المنطق للمؤلف،الجزء الأول ص 79 عن معنی البین و أقسامه.

و لأجل هذا یختص المفهوم بالمدلول الالتزامی .مثاله قولهم إذا بلغ الماء کرا لا ینجسه شیء فالمنطوق فیه هو مضمون الجملة و هو عدم تنجس الماء البالغ کرا بشیء من النجاسات و المفهوم علی تقدیر أن یکون لمثل هذه الجملة مفهوم أنه إذا لم یبلغ کرا یتنجس .و علی هذا یمکن تعریفهما بما یلی (المنطوق هو حکم دل علیه اللفظ فی محل النطق)(و المفهوم هو حکم دل علیه اللفظ لا فی محل النطق) .و المراد من الحکم الحکم بالمعنی الأعم لا خصوص أحد الأحکام الخمسة و عرفوهما أیضا بأنهما حکم مذکور و حکم غیر مذکور و أنهما حکم لمذکور و حکم لغیر مذکور و کلها لا تخلو عن مناقشات طویلة الذیل و الذی یهون الخطب أنها تعریفات لفظیة لا یقصد منها الدقة فی التعریف و المقصود منها واضح کما شرحناه

2 النزاع فی حجیة المفهوم

لا شک أن الکلام إذا کان له مفهوم یدل علیه فهو ظاهر فیه فیکون حجة من المتکلم علی السامع و من السامع علی المتکلم کسائر الظواهر الأخری .إذن ما معنی النزاع فی حجیة المفهوم حینما یقولون مثلا هل مفهوم الشرط حجة أو لا .و علی تقدیره فلا یدخل هذا النزاع فی مباحث الألفاظ التی کان الغرض منها تشخیص الظهور فی الکلام و تنقیح صغریات حجیة الظهور بل ینبغی أن یدخل فی مباحث الحجة کالبحث عن حجیة الظهور و حجیة الکتاب و نحو

ص :108

ذلک .و الجواب أن النزاع هنا فی الحقیقة إنما هو فی وجود الدلالة علی المفهوم أی فی أصل ظهور الجملة فیه و عدم ظهورها و بعبارة أوضح النزاع هنا فی حصول المفهوم للجملة لا فی حجیته بعد فرض حصوله .فمعنی النزاع فی مفهوم الشرط مثلا أن الجملة الشرطیة مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل تدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط و هل هی ظاهرة فی ذلک .لا أنه بعد دلالتها علی هذا المفهوم و ظهورها فیه یتنازع فی حجیته فإن هذا لا معنی له و إن أوهم ذلک ظاهر بعض تعبیراتهم کما یقولون مثلا مفهوم الشرط حجة أم لا و لکن غرضهم ما ذکرنا .کما أنه لا نزاع فی دلالة بعض الجمل علی مفهوم لها إذا کانت لها قرینة خاصة علی ذلک المفهوم فإن هذا لیس موضع کلامهم بل موضوع الکلام و محل النزاع فی دلالة نوع تلک الجملة کنوع الجملة الشرطیة علی المفهوم مع تجردها عن القرائن الخاصة

3 أقسام المفهوم

ینقسم المفهوم إلی مفهوم الموافقة و مفهوم المخالفة (1 مفهوم الموافقة ما کان الحکم فی المفهوم موافقا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق) فإن کان الحکم فی المنطوق الوجوب مثلا کان فی المفهوم الوجوب أیضا و هکذا .کدلالة الأولویة فی مثل قوله تعالی فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ علی النهی عن الضرب و الشتم للأبوین و نحو ذلک مما هو أشد إهانة و إیلاما من التأفیف المحرم بحکم الآیة .

ص :109

و قد یسمی هذا المفهوم فحوی الخطاب و لا نزاع فی حجیة مفهوم الموافقة بمعنی دلالة الأولویة علی تعدی الحکم إلی ما هو أولی فی علة الحکم و له تفصیل کلام یأتی فی موضعه .(2 مفهوم المخالفة ما کان الحکم فیه مخالفا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق) و له موارد کثیرة وقع الکلام فیها نذکرها بالتفصیل و هی ستة 1 مفهوم الشرط .2 مفهوم الوصف .3 مفهوم الغایة .4 مفهوم الحصر .5 مفهوم العدد .6 مفهوم اللقب

ص :110

الأول مفهوم الشرط
تحریر محل النزاع

لا شک فی أن الجملة الشرطیة یدل منطوقها بالوضع علی تعلیق التالی فیها علی المقدم الواقع موقع الفرض و التقدیر و هی علی نحوین 1 أن تکون مسوقة لبیان موضوع الحکم أی أن المقدم هو نفس موضوع الحکم حیث یکون الحکم فی التالی منوطا بالشرط فی المقدم علی وجه لا یعقل فرض الحکم بدونه نحو قولهم إن رزقت ولدا فاختنه فإنه فی المثال لا یعقل فرض ختان الولد إلا بعد فرض وجوده و منه قوله تعالی وَ لاٰ تُکْرِهُوا فَتَیٰاتِکُمْ عَلَی الْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً فإنه لا یعقل فرض الإکراه علی البغاء إلا بعد فرض إرادة التحصن من قبل الفتیات .و قد اتفق الأصولیون علی أنه لا مفهوم لهذا النحو من الجملة الشرطیة لأن انتفاء الشرط معناه انتفاء موضوع الحکم فلا معنی للحکم بانتفاء التالی علی تقدیر انتفاء المقدم إلا علی نحو السالبة بانتفاء الموضوع و لا حکم حینئذ بالانتفاء بل هو انتفاء الحکم فلا مفهوم للشرطیة فی المثالین فلا یقال إن لم ترزق ولدا فلا تختنه و لا یقال إن لم یردن تحصنا فأکرهوهن علی البغاء .2 ألا تکون مسوقة لبیان الموضوع حیث یکون الحکم فی التالی منوطا بالشرط علی وجه یمکن فرض الحکم بدونه نحو قولهم إن أحسن صدیقک فأحسن إلیه فإن فرض الإحسان إلی الصدیق لا یتوقف عقلا علی فرض صدور الإحسان منه فإنه یمکن الإحسان إلیه أحسن أو لم یحسن .و هذا النحو الثانی من الشرطیة هو محل النزاع فی مسألتنا و مرجعه

ص :111

إلی النزاع فی دلالة الشرطیة علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط بمعنی أنه هل یستکشف من طبع التعلیق علی الشرط انتفاء نوع الحکم المعلق کالوجوب مثلا علی تقدیر انتفاء الشرط .و إنما قلنا نوع الحکم لأن شخص کل حکم فی القضیة الشرطیة أو غیرها ینتفی بانتفاء موضوعه أو أحد قیود الموضوع سواء کان للقضیة مفهوم أو لم یکن و فی مفهوم الشرطیة قولان أقواهما أنها تدل علی الانتفاء عند الانتفاء

.المناط فی مفهوم الشرط

إن دلالة الجملة الشرطیة علی المفهوم تتوقف علی دلالتها بالوضع أو بالإطلاق علی أمور ثلاثة مترتبة 1 دلالتها علی الارتباط و الملازمة بین المقدم و التالی .2 دلالتها زیادة علی الارتباط و الملازمة علی أن التالی معلق علی المقدم و مترتب علیه و تابع له فیکون المقدم سببا للتالی و المقصود من السبب هنا هو کل ما یترتب علیه الشیء و إن کان شرطا و نحوه فیکون أعم من السبب المصطلح فی فن المعقول .3 دلالتها زیادة علی ما تقدم علی انحصار السببیة فی المقدم بمعنی أنه لا سبب بدیل له یترتب علیه التالی .و توقف المفهوم للجملة الشرطیة علی هذه الأمور الثلاثة واضح لأنه لو کانت الجملة اتفاقیة أو کان التالی غیر مترتب علی المقدم أو کان مترتبا و لکن لا علی نحو الانحصار فیه فإنه فی جمیع ذلک لا یلزم من انتفاء المقدم انتفاء التالی .

ص :112

و إنما الذی ینبغی إثباته هنا هو أن الجملة ظاهرة فی هذه الأمور الثلاثة وضعا أو إطلاقا لتکون حجة فی المفهوم .و الحق ظهور الجملة الشرطیة فی هذه الأمور وضعا فی بعضها و إطلاقا فی البعض الآخر .1 أما دلالتها علی الارتباط و وجود العلقة اللزومیة بین الطرفین فالظاهر أنه بالوضع بحکم التبادر و لکن لا بوضع خصوص أدوات الشرط حتی ینکر وضعها لذلک بل بوضع الهیئة الترکیبیة للجملة الشرطیة بمجموعها و علیه فاستعمالها فی الاتفاقیة یکون بالعنایة و ادعاء التلازم و الارتباط بین المقدم و التالی إذا اتفقت لهما المقارنة فی الوجود .2 و أما دلالتها علی أن التالی مترتب علی المقدم بأی نحو من أنحاء الترتب فهو بالوضع أیضا و لکن لا بمعنی أنها موضوعة بوضعین وضع للتلازم و وضع آخر للترتب بل بمعنی أنها موضوعة بوضع واحد للارتباط الخاص و هو ترتب التالی علی المقدم .و الدلیل علی ذلک هو تبادر ترتب التالی علی المقدم عنها فإنها تدل علی أن المقدم وضع فیها موضع الفرض و التقدیر و علی تقدیر حصوله فالتالی حاصل عنده تبعا أی یتلوه فی الحصول أو فقل إن المتبادر منها لابدیة الجزاء عند فرض حصول الشرط و هذا لا یمکن أن ینکره إلا مکابر أو غافل فإن هذا هو معنی التعلیق الذی هو مفاد الجملة الشرطیة التی لا مفاد لها غیره و من هنا سموا الجزء الأول منها شرطا و مقدما و سموا الجزء الثانی جزاء و تالیا .فإذا کانت جملة إنشائیة أی أن التالی متضمن لإنشاء حکم تکلیفی أو وضعی فإنها تدل علی تعلیق الحکم علی الشرط فتدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط المعلق علیه الحکم .

ص :113

و إذا کانت جملة خبریة أی أن التالی متضمن لحکایة خبر فإنها تدل علی تعلیق حکایته علی المقدم سواء کان المحکی عنه خارجا و فی الواقع مترتبا علی المقدم فتتطابق الحکایة مع المحکی عنه کقولنا إن کانت الشمس طالعة فالنهار موجود أو مترتب علیه بأن کان العکس کقولنا إن کان النهار موجودا فالشمس طالعة أو کان لا ترتب بینهما کالمتضائفین فی مثل قولنا إن کان خالد ابنا لزید فزید أبوه .3 و أما دلالتها علی أن الشرط منحصر فبالإطلاق لأنه لو کان هناک شرط آخر للجزاء بدیل لذلک الشرط و کذا لو کان معه شیء آخر یکونان معا شرطا للحکم لاحتاج ذلک إلی بیان زائد إما بالعطف بأو فی الصورة الأولی أو العطف بالواو فی الصورة الثانیة لأن الترتب علی الشرط ظاهر فی أنه بعنوانه الخاص مستقلا هو الشرط المعلق علیه الجزاء فإذا أطلق تعلیق الجزاء علی الشرط فإنه یستکشف منه أن الشرط مستقل لا قید آخر معه و أنه منحصر لا بدیل و لا عدل له و إلا لوجب علی الحکیم بیانه و هو حسب الفرض فی مقام البیان .و هذا نظیر ظهور صیغة افعل بإطلاقها فی الوجوب التعینی و التعیینی .و إلی هنا تم لنا ما أردنا أن نذهب إلیه من ظهور الجملة الشرطیة فی الأمور التی بها تکون ظاهرة فی المفهوم .و علی کل حال إن ظهور الجملة الشرطیة فی المفهوم مما لا ینبغی أن یتطرق إلیه الشک إلا مع قرینة صارفة أو تکون واردة لبیان الموضوع .و یشهد لذلک استدلال إمامنا الصادق علیه السلام بالمفهوم (فی روایة أبی بصیر قال:سألت أبا عبد الله عن الشاة تذبح فلا تتحرک و یهراق منها دم کثیر عبیط فقال لا تأکل إن علیا کان یقول إذا رکضت الرجل أو طرفت العین فکل) فإن استدلال الإمام بقول علی علیه السلام لا یکون

ص :114

إلا إذا کان له مفهوم و هو إذا لم ترکض الرجل أو لم تطرف العین فلا تأکل

إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء
اشارة

و من لواحق مبحث مفهوم الشرط مسألة ما إذا وردت جملتان شرطیتان أو أکثر و قد تعدد الشرط فیهما و کان الجزاء واحدا و هذا یقع علی نحوین .1 أن یکون الجزاء غیر قابل للتکرار نحو التقصیر فی السفر فیما ورد(:إذا خفی الأذان فقصر و إذا خفیت الجدران فقصر) .2 أن یکون الجزاء قابلا للتکرار کما فی نحو إذا أجنبت فاغتسل إذا مسست میتا فاغتسل .أما النحو الأول فیقع فیه التعارض بین الدلیلین بناء علی مفهوم الشرط و لکن التعارض إنما هو بین مفهوم کل منهما مع منطوق الآخر کما هو واضح فلا بد من التصرف فیهما بأحد وجهین الوجه الأول أن نقید کلا من الشرطین من ناحیة ظهورهما فی الاستقلال بالسببیة ذلک الظهور الناشئ من الإطلاق کما سبق الذی یقابله التقیید بالعطف بالواو فیکون الشرط فی الحقیقة هو المرکب من الشرطین و کل منهما یکون جزء السبب و الجملتان تکونان حینئذ کجملة واحدة مقدمها المرکب من الشرطین بأن یکون مؤداهما هکذا إذا خفی الأذان و الجدران معا فقصر .و ربما یکون لهاتین الجملتین معا حینئذ مفهوم واحد و هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرطین معا أو أحدهما کما لو کانا جملة واحدة .

ص :115

الوجه الثانی أن نقیدهما من ناحیة ظهورهما فی الانحصار ذلک الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقیید بأو و حینئذ یکون الشرط أحدهما علی البدلیة أو الجامع بینهما علی أن یکون کل منهما مصداقا له و ذلک حینما یمکن فرض الجامع بینهما و لو کان عرفیا .و إذ یدور الأمر بین الوجهین فی التصرف فأیهما أولی هل الأولی تقیید ظهور الشرطیتین فی الاستقلال أو تقیید ظهورهما فی الانحصار قولان فی المسألة .و الأوجه علی الظاهر هو التصرف الثانی لأن منشأ التعارض بینهما هو ظهورهما فی الانحصار الذی یلزم منه الظهور فی المفهوم فیتعارض منطوق کل منهما مع مفهوم الآخر کما تقدم فلا بد من رفع الید عن ظهور کل منهما فی الانحصار بالإضافة إلی المقدار الذی دل علیه منطوق الشرطیة الأخری لأن ظهور المنطوق أقوی أما ظهور کل من الشرطیتین فی الاستقلال فلا معارض له حتی ترفع الید عنه .و إذا ترجح القول الثانی و هو التصرف فی ظهور الشرطین فی الانحصار یکون کل من الشرطین مستقلا فی التأثیر فإذا انفرد أحدهما کان له التأثیر فی ثبوت الحکم و إن حصلا معا فإن کان حصولهما بالتعاقب کان التأثیر للسابق و إن تقارنا کان الأثر لهما معا و یکونان کالسبب الواحد لامتناع تکرار الجزاء حسب الفرض .و أما النحو الثانی و هو ما إذا کان الجزاء قابلا للتکرار فهو علی صورتین 1 أن یثبت بالدلیل أن کلا من الشرطین جزء السبب و لا کلام حینئذ فی أن الجزاء واحد یحصل عند حصول الشرطین معا .

ص :116

2 أن یثبت من دلیل مستقل أو من ظاهر دلیل الشرط أن کلا من الشرطین سبب مستقل سواء کان للقضیة الشرطیة مفهوم أم لم یکن فقد وقع الخلاف فیما إذا اتفق وقوع الشرطین معا فی وقت واحد أو متعاقبین أن القاعدة أی شیء تقتضی هل تقتضی تداخل الأسباب فیکون لها جزاء واحد کما فی مثال تداخل موجبات الوضوء من خروج البول أو الغائط و النوم و نحوهما أم تقتضی عدم التداخل فیتکرر الجزاء بتکرار الشروط کما فی مثال تعدد وجوب الصلاة بتعدد أسبابه من دخول وقت الیومیة و حصول الآیات .أقول لا شبهة فی أنه إذا ورد دلیل خاص علی التداخل أو عدمه وجب الأخذ بذلک الدلیل .و أما مع عدم ورود الدلیل الخاص فهو محل الخلاف و الحق أن القاعدة فیه عدم التداخل .بیان ذلک أن لکل شرطیة ظهورین 1 ظهور الشرط فیها فی الاستقلال بالسببیة و هذا الظهور یقتضی أن یتعدد الجزاء فی الشرطیتین موضوعتی البحث فلا تتداخل الأسباب .2 ظهور الجزاء فیها فی أن متعلق الحکم فیه صرف الوجود و لما کان صرف الشیء لا یمکن أن یکون محکوما بحکمین فیقتضی ذلک أن یکون لجمیع الأسباب جزاء واحد و حکم واحد عند فرض اجتماعها فتتداخل الأسباب .و علی هذا فیقع التنافی بین هذین الظهورین فإذا قدمنا الظهور الأول لا بد أن نقول بعدم التداخل و إذا قدمنا الظهور الثانی لا بد أن نقول بالتداخل فأیهما أولی بالتقدیم و الأرجح أن الأولی بالتقدیم ظهور الشرط

ص :117

علی ظهور الجزاء لأن الجزاء لما کان معلقا علی الشرط فهو تابع له ثبوتا و إثباتا فإن کان واحدا کان الجزاء واحدا و إن کان متعددا کان متعددا و إذا کان المقدم متعددا حسب فرض ظهور الشرطیتین کان الجزاء تبعا له و علیه لا یستقیم للجزاء ظهور فی وحدة المطلوب فیخرج المقام عن باب التعارض بین الظهورین بل یکون الظهور فی التعداد رافعا للظهور فی الوحدة لأن الظهور فی الوحدة لا یکون إلا بعد فرض سقوط الظهور فی التعداد أو بعد فرض عدمه أما مع وجوده فلا ینعقد الظهور فی الوحدة .فالقاعدة فی المقام إذن هی عدم التداخل و هو مذهب أساطین العلماء الأعلام قدس الله أسرارهم .

تنبیهان

@

1 تداخل المسببات

إن البحث فی المسألة السابقة إنما هو عما إذا تعددت الأسباب فیتساءل فیها عما إذا کان تعددها یقتضی المغایرة فی الجزاء و تعدد المسببات بالفتح أو لا یقتضی فتتداخل الأسباب و ینبغی أن تسمی بمسألة تداخل الأسباب .و بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب هناک ینبغی أن یبحث أن تعدد المسببات إذا کانت تشترک فی الاسم و الحقیقة کالأغسال هل یصح أن یکتفی عنها بوجود واحد لها أو لا یکتفی .و هذه مسألة أخری غیر ما تقدم تسمی بمسألة تداخل المسببات و هی من ملحقات الأولی .و القاعدة فیها أیضا عدم التداخل .و السر فی ذلک أن سقوط الواجبات المتعددة واحد و إن أتی به بنیة

ص :118

امتثال الجمیع یحتاج إلی دلیل خاص کما ورد فی الأغسال بالاکتفاء بغسل الجنابة عن باقی الأغسال و ورد أیضا جواز الاکتفاء بغسل واحد عن أغسال متعددة و مع عدم ورود الدلیل الخاص فإن کل وجوب یقتضی امتثالا خاصا به لا یغنی عنه امتثال الآخر و إن اشترکت الواجبات فی الاسم و الحقیقة .نعم قد یستثنی من ذلک ما إذا کان بین الواجبین نسبة العموم و الخصوص من وجه و کان دلیل کل منهما مطلقا بالإضافة إلی مورد الاجتماع کما إذا قال مثلا تصدق علی مسکین و قال ثانیا تصدق علی ابن سبیل فجمع العنوانین شخص واحد بأن کان فقیرا و ابن سبیل فإن التصدق علیه یکون مسقطا للتکلیفین .

2 الأصل العملی فی المسألتین

أن مقتضی الأصل العملی عند الشک فی تداخل الأسباب هو التداخل لأن تأثیر السببین فی تکلیف واحد متیقن و إنما الشک فی تکلیف ثان زائد و الأصل فی مثله البراءة .و بعکسه فی مسألة تداخل المسببات فإن الأصل یقتضی فیه عدم التداخل کما مرت الإشارة إلیه لأنه بعد ثبوت التکالیف المتعددة بتعدد الأسباب یشک فی سقوط التکالیف الثابتة لو فعل فعلا واحدا و مقتضی القاعدة فی مثله الاشتغال بمعنی أن الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی فلا یکتفی بفعل واحد فی مقام الامتثال

ص :119

الثانی مفهوم الوصف
موضوع البحث

المقصود بالوصف هنا ما یعم النعت و غیره فیشمل الحال و التمییز و نحوهما مما یصلح أن یکون قیدا لموضوع التکلیف کما أنه یختص بما إذا کان معتمدا علی موصوف فلا یشمل ما إذا کان الوصف نفسه موضوعا للحکم نحو وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمٰا فإن مثل هذا یدخل فی باب مفهوم اللقب و السر فی ذلک أن الدلالة علی انتفاء الوصف لا بد فیها من فرض موضوع ثابت للحکم یقید بالوصف مرة و یتجرد عنه أخری حتی یمکن فرض نفی الحکم عنه .و یعتبر أیضا فی المبحوث عنه هنا أن یکون أخص من الموصوف مطلقا أو من وجه لأنه لو کان مساویا أو أعم مطلقا لا یوجب تضییقا و تقییدا فی الموصوف حتی یصح فرض انتفاء الحکم عن الموصوف عند انتفاء الوصف .و أما دخول الأخص من وجه فی محل البحث فإنما هو بالقیاس إلی مورد افتراق الموصوف عن الوصف ففی مثال فی الغنم السائمة زکاة یکون مفهومه لو کان له مفهوم عدم وجوب الزکاة فی الغنم غیر السائمة و هی المعلوفة و أما بالقیاس إلی مورد افتراق الوصف عن الموصوف فلا دلالة له علی المفهوم قطعا فلا یدل المثال علی عدم الزکاة فی غیر الغنم السائمة أو غیر السائمة کالإبل مثلا لأن الموضوع و هو الموصوف الذی هو الغنم فی المثال یجب أن یکون محفوظا فی المفهوم

ص :120

و لا یکون متعرضا لموضوع آخر لا نفیا و لا إثباتا .(فما عن بعض الشافعیة من القول بدلالة القضیة المذکورة علی عدم الزکاة فی الإبل المعلوفة لا وجه له قطعا) .

الأقوال فی المسألة و الحق فیها

لا شک فی دلالة التقیید بالوصف علی المفهوم عند وجود القرینة الخاصة و لا شک فی عدم الدلالة عند وجود القرینة علی ذلک مثلما إذا ورد الوصف مورد الغالب الذی یفهم منه عدم إناطة الحکم به وجودا و عدما نحو قوله تعالی وَ رَبٰائِبُکُمُ اللاّٰتِی فِی حُجُورِکُمْ فإنه لا مفهوم لمثل هذه القضیة مطلقا إذ یفهم منه أن وصف الربائب بأنها فی حجورکم لأنها غالبا تکون کذلک و الغرض منه الإشعار بعلة الحکم إذ إن اللاتی تربی فی الحجور تکون کالبنات .و إنما الخلاف عند تجرد القضیة عن القرائن الخاصة فإنهم اختلفوا فی أن مجرد التقیید بالوصف هل یدل علی المفهوم أی انتفاء حکم الموصوف عند انتفاء الوصف أو لا یدل نظیر الاختلاف المتقدم فی التقیید بالشرط و فی المسألة قولان و المشهور القول الثانی و هو عدم المفهوم .و السر فی الخلاف یرجع إلی أن التقیید المستفاد من الوصف هل هو تقیید لنفس الحکم أی أن الحکم منوط به أو أنه تقیید لنفس موضوع الحکم أو متعلق الموضوع باختلاف الموارد فیکون الموضوع أو متعلق الموضوع هو المجموع المؤلف من الموصوف و الوصف .فإن کان الأول فإن التقیید بالوصف یکون ظاهرا فی انتفاء الحکم عند انتفائه بمقتضی الإطلاق لأن الإطلاق یقتضی بعد فرض إناطة الحکم بالوصف انحصاره فیه کما قلنا فی التقیید بالشرط .و إن کان الثانی فإن التقیید لا یکون ظاهرا فی انتفاء الحکم عند

ص :121

انتفاء الوصف لأنه حینئذ یکون من قبیل مفهوم اللقب إذ إنه یکون التعبیر بالوصف و الموصوف لتحدید موضوع الحکم فقط لا أن الموضوع ذات الموصوف و الوصف قید للحکم علیه مثلما إذا قال القائل اصنع شکلا رباعیا قائم الزاویة متساوی الأضلاع فإن المفهوم منه أن المطلوب صنعه هو المربع فعبر عنه بهذه القیود الدالة علیه حیث یکون الموضوع هو مجموع المعنی المدلول علیه بالعبارة المؤلفة من الموصوف و الوصف و هی فی المثال شکل رباعی قائم الزوایا متساوی الأضلاع و هی بمنزلة کلمة مربع فکما أن جملة اصنع مربعا لا تدل علی الانتفاء عند الانتفاء کذلک ما هو بمنزلتها لا تدل علیه لأنه فی الحقیقة یکون من قبیل الوصف غیر المعتمد علی الموصوف .إذا عرفت ذلک فنقول إن الظاهر فی الوصف لو خلی و طبعه من دون قرینة أنه من قبیل الثانی أی أنه قید للموضوع لا للحکم فیکون الحکم من جهته مطلقا غیر مقید فلا مفهوم للوصف .و من هذا التقریر یظهر بطلان ما استدلوا به لمفهوم الوصف بالأدلة الآتیة 1 أنه لو لم یدل الوصف علی الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائدة فیه و الجواب أن الفائدة غیر منحصرة برجوعه إلی الحکم و کفی فائدة فیه تحدید موضوع الحکم و تقییده به .2 إن الأصل فی القیود أن تکون احترازیة .و الجواب أن هذا مسلم و لکن معنی الاحتراز هو تضییق دائرة الموضوع و إخراج ما عدا القید عن شمول شخص الحکم له و نحن نقول به و لیس هذا من المفهوم فی شیء لأن إثبات الحکم لموضوع لا ینفی ثبوت سنخ الحکم لما عداه کما فی مفهوم اللقب و الحاصل أن کون القید احترازیا لا یلزم إرجاعه قیدا للحکم .3 إن الوصف مشعر بالعلیة فیلزم إناطة الحکم به .

ص :122

و الجواب أن هذا الإشعار و إن کان مسلما إلا أنه ما لم یصل إلی حد الظهور لا ینفع فی الدلالة علی المفهوم .4 الاستدلال بالجمل التی ثبتت دلالتها علی المفهوم مثل(قوله صلی اللّٰه علیه و آله:مطل الغنی ظلم) .و الجواب أن ذلک علی تقدیره لا ینفع لأنا لا نمنع من دلالة التقیید بالوصف علی المفهوم أحیانا لوجود قرینة و إنما موضوع البحث فی اقتضاء طبع الوصف لو خلی و نفسه للمفهوم و فی خصوص المثال نجد القرینة علی إناطة الحکم بالغنی موجودة من جهة مناسبة الحکم و الموضوع فیفهم أن السبب فی الحکم بالظلم کون المدین غنیا فیکون مطله ظلما بخلاف المدین الفقیر لعجزه عن أداء الدین فلا یکون مطله ظلما

ص :123

الثالث مفهوم الغایة

إذا ورد التقیید بالغایة نحو و أتموا الصیام إلی اللیل و نحو کل شیء حلال حتی تعرف أنه حرام بعینه فقد وقع خلاف الأصولیین فیه من جهتین الجهة الأولی فی دخول الغایة فی المنطوق أی فی حکم المغیا فقد اختلفوا فی أن الغایة و هی الواقعة بعد أداة الغایة نحو إلی و حتی هل هی داخلة فی المغیا حکما أو خارجة عنه و إنما ینتهی إلیها المغیا موضوعا و حکما علی أقوال منها التفصیل بین کونها من جنس المغیا فتدخل فیه نحو صمت النهار إلی اللیل و بین کونها من غیر جنسه فلا تدخل کمثال کل شیء حلال و منها التفصیل بین کون الغایة واقعة بعد إلی فلا تدخل فیه و بین کونها واقعة بعد حتی فتدخل نحو کل السمکة حتی رأسها .و الظاهر أنه لا ظهور لنفس التقیید بالغایة فی دخولها فی المغیا و لا فی عدمه بل یتبع ذلک الموارد و القرائن الخاصة الحافة بالکلام .نعم لا ینبغی الخلاف فی عدم دخول الغایة فیما إذا کانت غایة للحکم کمثال کل شیء حلال فإنه لا معنی لدخول معرفة الحرام فی حکم الحلال .ثم إن المقصود من کلمة حتی التی یقع الکلام عنها هی حتی الجارة دون العاطفة و إن کانت تدخل علی الغایة أیضا لأن العاطفة یجب دخول ما بعدها فی حکم ما قبلها لأن هذا هو معنی العطف فإذا قلت مات الناس حتی الأنبیاء فإن معناه أن الأنبیاء ماتوا أیضا بل حتی العاطفة تفید أن الغایة هو الفرد الفائق علی سائر أفراد المغیا فی القوة أو

ص :124

الضعف فکیف یتصور ألا یکون المعطوف بها داخلا فی الحکم بل قد یکون هو الأسبق فی الحکم نحو مات کل أب حتی آدم .الجهة الثانیة فی مفهوم الغایة و هی موضوع البحث هنا فإنه قد اختلفوا فی أن التقیید بالغایة مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل یدل علی انتفاء سنخ الحکم عما وراء الغایة و من الغایة نفسها أیضا إذا لم تکن داخلة فی المغیا أو لا .فنقول إن المدرک فی دلالة الغایة علی المفهوم کالمدرک فی الشرط و الوصف فإذا کانت قیدا للحکم کانت ظاهرة فی انتفاء الحکم فیما وراءها و أما إذا کانت قیدا للموضوع أو المحمول فقط فلا دلالة لها علی المفهوم و علیه فما علم فی التقیید بالغایة أنه راجع إلی الحکم فلا إشکال فی ظهوره فی المفهوم مثل (قوله علیه السلام:کل شیء طاهر حتی تعلم أنه نجس)و کذلک مثال کل شیء حلال .و إن لم یعلم ذلک من القرائن فلا یبعد القول بظهور الغایة فی رجوعها إلی الحکم و أنها غایة للنسبة الواقعة قبلها و کونها غایة لنفس الموضوع أو نفس المحمول هو الذی یحتاج إلی البیان و القرینة .فالقول بمفهوم الغایة هو المرجح عندنا

ص :125

الرابع مفهوم الحصر
معنی الحصر الحصر له معنیان

1 القصر بالاصطلاح المعروف عند علماء البلاغة سواء کان من نوع قصر الصفة علی الموصوف نحو(:لا سیف إلا ذو الفقار و لا فتی إلا علی) أم من نوع قصر الموصوف علی الصفة نحو وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ . إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ .2 ما یعم القصر و الاستثناء الذی لا یسمی قصرا بالاصطلاح نحو فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّٰ قَلِیلاً و المقصود به هنا هو هذا المعنی الثانی .

اختلاف مفهوم الحصر باختلاف أدواته

إن مفهوم الحصر یختلف حاله باختلاف أدوات الحصر کما ستری فلذلک کان علینا أن نبحث عنها واحدة واحدة فنقول 1 إلا و هی تأتی لثلاثة وجوه 1 صفة بمعنی غیر .2 استثنائیة .3 أداة حصر بعد النفی .أما إلا الوصفیة فهی تقع وصفا لما قبلها کسائر الأوصاف الأخری فهی تدخل من هذه الجهة فی مفهوم الوصف فإن قلنا هناک إن للوصف

ص :126

مفهوما فهی کذلک و إلا فلا و قد رجحنا فیما سبق أن الوصف لا مفهوم له فإذا قال المقر مثلا فی ذمتی لزید عشرة دراهم إلا درهم بجعل إلا درهم وصفا فإنه یثبت فی ذمته تمام العشرة الموصوفة بأنها لیست بدرهم و لا یصح أن تکون استثنائیة لعدم نصب درهم و لا مفهوم لها حینئذ فلا تدل علی عدم ثبوت شیء آخر فی ذمته لزید .و أما إلا الاستثنائیة فلا ینبغی الشک فی دلالتها علی المفهوم و هو انتفاء حکم المستثنی منه عن المستثنی لأن إلا موضوعة للإخراج و هو الاستثناء و لازم هذا الإخراج باللزوم البین بالمعنی الأخص أن یکون المستثنی محکوما بنقیض حکم المستثنی منه و لما کان هذا اللزوم بینا ظن بعضهم أن هذا المفهوم من باب المنطوق .و أما أداة الحصر بعد النفی نحو(:لا صلاة إلا بطهور) فهی فی الحقیقة من نوع الاستثنائیة .فرع لو شککنا فی مورد أن کلمة إلا استثنائیة أو وصفیة مثل ما لو قال المقر لیس فی ذمتی لزید عشرة دراهم إلا درهم إذ یجوز فی المثال أن تکون إلا وصفیة و یجوز أن تکون استثنائیة فإن الأصل فی کلمة إلا أن تکون للاستثناء فیثبت فی ذمته فی المثال درهم واحد أما لو کانت وصفیة فإنه لا یثبت فی ذمته شیء لأنه یکون قد نفی العشرة الدراهم کلها الموصوفة تلک الدراهم بأنها لیست بدرهم .2 إنما و هی أداة حصر مثل کلمة إلا فإذا استعملت فی حصر الحکم فی موضوع معین دلت بالملازمة البینة علی انتفائه عن غیر ذلک الموضوع و هذا واضح .3 بل و هی للإضراب و تستعمل فی وجوه ثلاثة الأول للدلالة علی أن المضروب عنه وقع عن غفلة أو علی نحو

ص :127

الغلط و لا دلالة لها حینئذ علی الحصر و هو واضح .الثانی للدلالة علی تأکید المضروب عنه و تقریره نحو زید عالم بل شاعر و لا دلالة لها أیضا حینئذ علی الحصر .الثالث للدلالة علی الردع و إبطال ما ثبت أولا نحو أَمْ یَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جٰاءَهُمْ بِالْحَقِّ فتدل علی الحصر فیکون لها مفهوم و هذه الآیة الکریمة تدل علی انتفاء مجیئه بغیر الحق .4 و هناک هیئات غیر الأدوات تدل علی الحصر مثل تقدم المفعول نحو إِیّٰاکَ نَعْبُدُ وَ إِیّٰاکَ نَسْتَعِینُ و مثل تعریف المسند إلیه بلام الجنس مع تقدیمه نحو العالم محمد و إن القول ما قالت حذام و نحو ذلک مما هو مفصل فی علم البلاغة .فإن هذه الهیئات ظاهرة فی الحصر فإذا استفید منها الحصر فلا ینبغی الشک فی ظهورها فی المفهوم لأنه لازم للحصر لزوما بینا و تفصیل الکلام فیها لا یسعه هذا المختصر .و علی کل حال فإن کل ما یدل علی الحصر فهو دال علی المفهوم بالملازمة البینة

ص :128

الخامس مفهوم العدد

لا شک فی أن تحدید الموضوع بعدد خاص لا یدل علی انتفاء الحکم فیما عداه فإذا قیل صم ثلاثة أیام من کل شهر فإنه لا یدل علی عدم استحباب صوم غیر الثلاثة الأیام فلا یعارض الدلیل علی استحباب صوم أیام أخر .نعم لو کان الحکم للوجوب مثلا و کان التحدید بالعدد من جهة الزیادة لبیان الحد الأعلی فلا شبهة فی دلالته علی عدم وجوب الزیادة کدلیل صوم ثلاثین یوما من شهر رمضان و لکن هذه الدلالة من جهة خصوصیة المورد لا من جهة أصل التحدید بالعدد حتی یکون لنفس العدد مفهوم فالحق أن التحدید بالعدد لا مفهوم له

ص :129

السادس مفهوم اللقب

المقصود باللقب کل اسم سواء کان مشتقا أم جامدا وقع موضوعا للحکم کالفقیر فی قولهم أطعم الفقیر و کالسارق و السارقة فی قوله تعالی اَلسّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ .و معنی مفهوم اللقب نفی الحکم عما لا یتناوله عموم الاسم و بعد أن استشکلنا فی دلالة الوصف علی المفهوم فعدم دلالة اللقب أولی فإن نفس موضوع الحکم بعنوانه لا یشعر بتعلیق الحکم علیه فضلا عن أن یکون له ظهور فی الانحصار .نعم غایة ما یفهم من اللقب عدم تناول شخص الحکم لغیر ما یشمله عموم الاسم و هذا لا کلام فیه أما عدم ثبوت نوع الحکم لموضوع آخر فلا دلالة له علیه أصلا .و قد قیل إن مفهوم اللقب أضعف المفهومات

ص :130

خاتمة فی دلالة الاقتضاء و التنبیه و الإشارة
تمهید

یجری کثیرا علی لسان الفقهاء و الأصولیین ذکر دلالة الاقتضاء و التنبیه و الإشارة و لم تشرح هذه الدلالات فی أکثر الکتب الأصولیة المتعارفة و لذلک رأینا أن نبحث عنها بشیء من التفصیل لفائدة المبتدءین و البحث عنها یقع من جهتین الأولی فی مواقع هذه الدلالات الثلاث و أنها من أی أقسام الدلالة و الثانیة فی حجیتها

الجهة الأولی مواقع الدلالات الثلاث
اشارة

قد تقدم أن المفهوم هو مدلول الجملة الترکیبیة اللازمة للمنطوق لزوما بینا بالمعنی الأخص و یقابله المنطوق الذی هو مدلول ذات اللفظ بالدلالة المطابقیة .و لکن یبقی هناک من المدلولات ما لا یدخل فی المفهوم و لا فی المنطوق اصطلاحا کما إذا دل الکلام بالدلالة الالتزامیة (1)علی لفظ مفرد أو معنی مفرد لیس مذکورا فی المنطوق صریحا أو إذا دل الکلام علی مفاد جملة لازمة للمنطوق إلا أن اللزوم لیس علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص .فإن هذه کلها لا تسمی مفهوما و لا منطوقا إذن ما ذا تسمی هذه الدلالة فی

ص :131


1- المقصود من الدلالة الالتزامیة ما یعم الدلالة التضمنیة باصطلاح المناطقة باعتبار رجوع الدلالة التضمنیة إلی الالتزامیة لانها لا تتم الا حیث یکون معنی الجزء لازما للکل فتکون الدلالة من ناحیة الملازمة بینهما.

هذه المقامات .نقول الأنسب أن نسمی مثل هذه الدلالة علی وجه العموم الدلالة السیاقیة کما ربما یجری هذا التعبیر فی لسان جملة من الأساطین لتکون فی مقابل الدلالة المفهومیة و المنطوقیة .و المقصود بها علی هذا أن سیاق الکلام یدل علی المعنی المفرد أو المرکب أو اللفظ المقدر و قسموها إلی الدلالات الثلاث المذکورة الاقتضاء و التنبیه و الإشارة فلنبحث عنها واحدة واحدة

1 دلالة الاقتضاء

و هی أن تکون الدلالة مقصودة للمتکلم بحسب العرف و یتوقف صدق الکلام أو صحته عقلا أو شرعا أو لغة أو عادة علیها .مثالها(قوله صلی اللّٰه علیه و آله:لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام) فإن صدق الکلام یتوقف علی تقدیر الأحکام و الآثار الشرعیة لتکون هی المنفیة حقیقة لوجود الضرر و الضرار قطعا عند المسلمین فیکون النفی للضرر باعتبار نفی آثاره الشرعیة و أحکامه و مثله رفع عن أمتی ما لا یعلمون و ما اضطروا إلیه .مثال آخر(قوله علیه السلام:لا صلاة لمن جاره المسجد إلا فی المسجد) فإن صدق الکلام و صحته تتوقف علی تقدیر کلمة کاملة محذوفة لیکون النفی کمال الصلاة لا أصل الصلاة .مثال ثالث قوله تعالی وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ فإن صحته عقلا تتوقف علی تقدیر لفظ أهل فیکون من باب حذف المضاف أو علی تقدیر معنی أهل فیکون من باب المجاز فی الإسناد .مثال رابع قولهم أعتق عبدک عنی علی ألف فإن صحة هذا

ص :132

الکلام شرعا تتوقف علی طلب تملیکه أولا له بألف لأنه لا عتق إلا فی ملک فیکون التقدیر ملکنی العبد بألف ثم أعتقه عنی .مثال خامس قول الشاعر نحن بما عندنا و أنت بما عندک راض و الرأی مختلف فإن صحته لغة تتوقف علی تقدیر راضون خبرا للمبتدإ نحن لأن راض مفرد لا یصح أن یکون خبرا لنحن .و جمیع الدلالات الالتزامیة علی المعانی المفردة و جمیع المجازات فی الکلمة أو فی الإسناد ترجع إلی دلالة الاقتضاء .فإن قال قائل إن دلالة اللفظ علی معناه المجازی من الدلالة المطابقیة فکیف جعلتم المجاز من نوع دلالة الاقتضاء نقول له هذا صحیح و مقصودنا من کون الدلالة علی المعنی المجازی من نوع دلالة الاقتضاء هو دلالة نفس القرینة المحفوف بها الکلام علی إرادة المعنی المجازی من اللفظ لا دلالة نفس اللفظ علیه بتوسط القرینة .و الخلاصة أن المناط فی دلالة الاقتضاء شیئان الأول أن تکون الدلالة مقصودة و الثانی أن یکون الکلام لا یصدق أو لا یصح بدونها و لا یفرق فیها بین أن یکون لفظا مضمرا أو معنی مرادا حقیقیا أو مجازیا

2 دلالة التنبیه

و تسمی دلالة الإیماء أیضا و هی کالأولی فی اشتراط القصد عرفا و لکن من غیر أن یتوقف صدق الکلام أو صحته علیها و إنما سیاق الکلام ما یقطع معه بإرادة ذلک اللازم أو یستبعد عدم إرادته و بهذا تفترق عن دلالة الاقتضاء لأنها کما تقدم یتوقف صدق الکلام أو صحته علیها و لدلالة التنبیه موارد کثیرة نذکر أهمها

ص :133

1 ما إذا أراد المتکلم بیان أمر فنبه علیه بذکر ما یلازمه عقلا أو عرفا کما إذا قال القائل دقت الساعة العاشرة مثلا حیث تکون الساعة العاشرة موعدا له مع المخاطب لینبهه علی حلول الموعد المتفق علیه .أو قال طلعت الشمس مخاطبا من قد استیقظ من نومه حینئذ لبیان فوات وقت أداء صلاة الغداة أو قال إنی عطشان للدلالة علی طلب الماء .و من هذا الباب ذکر الخبر لبیان لازم الفائدة مثل ما لو أخبر المخاطب بقوله إنک صائم لبیان أنه عالم بصومه و من هذا الباب أیضا الکنایات إذا کان المراد الحقیقی مقصودا بالإفادة من اللفظ ثم کنی به عن شیء آخر .2 ما إذا اقترن الکلام بشیء یفید کونه علة للحکم أو شرطا أو مانعا أو جزءا أو عدم هذه الأمور فیکون ذکر الحکم تنبیها علی کون ذلک الشیء علة أو شرطا أو مانعا أو جزءا أو عدم کونه کذلک .مثاله قول المفتی أعد الصلاة لمن سأله عن الشک فی أعداد الثنائیة فإنه یستفاد منه أن الشک المذکور علة لبطلان الصلاة و للحکم بوجوب الإعادة .مثال آخر قوله علیه السلام کفر لمن قال له واقعت أهلی فی نهار شهر رمضان فإنه یفید أن الوقاع فی الصوم الواجب موجب للکفارة و مثال ثالث قوله بطل البیع لمن قال له بعت السمک فی النهر فیفهم منه اشتراط القدرة علی التسلیم فی البیع .و مثال رابع قوله لا تعید لمن سأل عن الصلاة فی الحمام فیفهم منه عدم مانعیة الکون فی الحمام للصلاة و هکذا 3 ما إذا اقترن الکلام بشیء یفید تعیین بعض متعلقات الفعل کما إذا قال القائل وصلت إلی النهر و شربت فیفهم من هذه المقارنة أن المشروب هو الماء و أنه من النهر و مثل ما إذا قال قمت و خطبت أی و خطبت قائما و هکذا .

ص :134

3 دلالة الإشارة

و یشترط فیها علی عکس الدلالتین السابقتین ألا تکون الدلالة مقصودة بالقصد الاستعمالی بحسب العرف و لکن مدلولها لازم لمدلول الکلام لزوما غیر بین أو لزوما بینا بالمعنی الأعم سواء استنبط المدلول من کلام واحد أم من کلامین .مثال ذلک دلالة الآیتین علی أقل الحمل و هما آیة وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً و آیة وَ الْوٰالِدٰاتُ یُرْضِعْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ حَوْلَیْنِ کٰامِلَیْنِ فإنه بطرح الحولین من ثلاثین شهرا یکون الباقی ستة أشهر فیعرف أنه أقل الحمل .و من هذا الباب دلالة وجوب الشیء علی وجوب مقدمته لأنه لازم لوجوب ذی المقدمة باللزوم البین بالمعنی الأعم و لذلک جعلوا وجوب المقدمة وجوبا تبعیا لا أصلیا لأنه لیس مدلولا للکلام بالقصد و إنما یفهم بالتبع أی بدلالة الإشارة

الجهة الثانیة حجیة هذه الدلالات

أما دلالة الاقتضاء و التنبیه فلا شک فی حجیتهما إذا کانت هناک دلالة و ظهور لأنه من باب حجیة الظواهر و لا کلام فی ذلک .و أما دلالة الإشارة فحجیتها من باب حجیة الظواهر محل نظر و شک لأن تسمیتها بالدلالة من باب المسامحة إذ المفروض أنها غیر مقصودة و الدلالة تابعة للإرادة و حقها أن تسمی إشارة و إشعارا فقط بغیر لفظ الدلالة فلیست هی من الظواهر فی شیء حتی تکون حجة من هذه الجهة .نعم هی حجة من باب الملازمة العقلیة حیث تکون ملازمة فیستکشف منها لازمها سواء کان حکما أم غیر حکم کالأخذ بلوازم إقرار المقر و إن لم یکن قاصدا لها أو کان منکرا للملازمة و سیأتی فی محله فی باب الملازمات العقلیة إن شاء الله تعالی

ص :135

ص :136

الباب الخامس العام و الخاص

اشارة

ص :137

ص :138

تمهید

العام و الخاص هما من المفاهیم الواضحة البدیهیة التی لا تحتاج إلی التعریف إلا لشرح اللفظ و تقریب المعنی إلی الذهن فلذلک لا محل لتعریفهما بالتعاریف الحقیقیة .و القصد من العام اللفظ الشامل بمفهومه لجمیع ما یصلح انطباق عنوانه علیه فی ثبوت الحکم له و قد یقال للحکم إنه عام أیضا باعتبار شموله لجمیع أفراد الموضوع أو المتعلق أو المکلف .و القصد من الخاص الحکم الذی لا یشمل إلا بعض أفراد موضوعه أو المتعلق أو المکلف أو أنه اللفظ الدال علی ذلک .و التخصیص هو إخراج بعض الأفراد عن شمول الحکم العام بعد أن کان اللفظ فی نفسه شاملا له لو لا التخصیص .و التخصص هو أن یکون اللفظ من أول الأمر بلا تخصیص غیر شامل لذلک الفرد غیر المشمول للحکم .

أقسام العام

ینقسم العام إلی ثلاثة أقسام باعتبار تعلق الحکم به 1(العموم الاستغراقی و هو أن یکون الحکم شاملا لکل فرد فرد) فیکون کل فرد وحده موضوعا للحکم و لکل حکم متعلق بفرد من الموضوع عصیان خاص نحو أکرم کل عالم .2(العموم المجموعی و هو أن یکون الحکم ثابتا للمجموع بما هو مجموع فیکون المجموع موضوعا واحدا) کوجوب الإیمان بالأئمة فلا یتحقق الامتثال إلا بالإیمان بالجمیع .3(العموم البدلی و هو أن یکون الحکم لواحد من الأفراد

ص :139

علی البدل) فیکون فرد واحد فقط علی البدل موضوعا للحکم فإذا امتثل فی واحد سقط التکلیف نحو أعتق أیة رقبة شئت .فإن قال قائل إن عد هذا القسم الثالث من أقسام العموم فیه مسامحة ظاهرة لأن البدلیة تنافی العموم إذ المفروض أن متعلق الحکم أو موضوعه لیس إلا فردا واحدا فقط .نقول فی جوابه فالعموم فی هذا القسم معناه عموم البدلیة أی صلاح کل فرد لأن یکون متعلقا أو موضوعا للحکم نعم إذا کان استفادة العموم من هذا القسم بمقتضی الإطلاق فهو یدخل فی المطلق لا فی العام .و علی کل حال إن عموم متعلق الحکم لأحواله و أفراده إذا کان متعلقا للأمر الوجوبی أو الاستحبابی فهو علی الأکثر من نوع العموم البدلی إذا عرفت هذا التمهید فینبغی أن نشرع فی تفصیل مباحث العام و الخاص فی فصول

1 ألفاظ العموم

لا شک أن للعموم ألفاظا تخصه دالة علیه إما بالوضع أو بالإطلاق بمقتضی مقدمات الحکمة و هی إما أن تکون ألفاظا مفردة مثل کل و ما فی معناها مثل جمیع و تمام و أی و دائما و إما أن تکون هیئات لفظیة کوقوع النکرة فی سیاق النفی أو النهی و کون اللفظ جنسا محلی باللام جمعا کان أو مفردا فلنتکلم عنها بالتفصیل 1 لفظة کل و ما فی معناها فإنه من المعلوم دلالتها بالوضع علی عموم مدخولها سواء کان عموما استغراقیا أو مجموعیا و إن العموم معناه الشمول لجمیع أفرادها مهما کان لها من الخصوصیات اللاحقة لمدخولها .2 وقوع النکرة فی سیاق النفی أو النهی فإنه لا شک فی دلالتها

ص :140

علی عموم السلب لجمیع أفراد النکرة عقلا لا وضعا لأن عدم الطبیعة إنما یکون بعدم جمیع أفرادها و هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان .3 الجمع المحلی باللام و المفرد المحلی بها لا شک فی استفادة العموم منهما عند عدم العهد و لکن الظاهر أنه لیس ذلک بالوضع فی المفرد المحلی باللام و إنما یستفاد بالإطلاق بمقتضی مقدمات الحکمة و لا فرق بینهما من جهة العموم فی استغراق جمیع الأفراد فردا فردا .و قد توهم بعضهم أن معنی استغراق الجمع المحلی و کل جمع مثل أکرم جمیع العلماء هو استغراق بلحاظ مراتب الجمع لا بلحاظ الأفراد فردا فردا فیشمل کل جماعة جماعة و یکون بمنزلة قول القائل أکرم جماعة جماعة فیکون موضوع الحکم کل جماعة علی حدة لا کل مفرد فإکرام شخص واحد لا یکون امتثالا للأمر و ذلک نظیر عموم التثنیة فإن الاستغراق فیها بملاحظة مصادیق التثنیة فیشمل کل اثنین اثنین فإذا قال أکرم کل عالمین فموضوع الحکم کل اثنین من العلماء لا کل فرد .و منشأ هذا التوهم أن معنی الجمع الجماعة کما أن معنی التثنیة الاثنین فإذا دخلت أداة العموم علیه دلت علی العموم بلحاظ کل جماعة جماعة کما إذا دخلت علی المفرد دلت علی العموم بلحاظ کل فرد فرد و علی التثنیة دلت علیه بلحاظ کل اثنین اثنین لأن أداة العموم تفید عموم مدخولها .و لکن هذا توهم فاسد للفرق بین التثنیة و الجمع لأن التثنیة تدل علی الاثنین المحدودة من جانب القلة و الکثرة بخلاف الجمع فإنه یدل علی ما هو محدود من جانب القلة فقط لأن أقل الجمع ثلاثة و أما من جانب الکثرة فغیر محدود أبدا فکل ما تفرض لذلک اللفظ المجموع من أفراد مهما کثرت فهی مرتبة من الجمع واحد و جماعة واحدة حتی لو أرید جمیع الأفراد بأسرها فإنها کلها مرتبة واحدة من الجمع لا مجموعة مراتب له .

ص :141

فیکون معنی استغراق الجمع عدم الوقوف علی حد خاص من حدود الجمع و مرتبة دانیة منه بل المقصود أعلی مراتبه فیذهب استغراقه إلی آخر الآحاد لا إلی آخر المراتب إذ لیس هناک بلحاظ جمیع الأفراد إلا مرتبة واحدة لا مراتب متعددة و لیس إلا حد واحد هو الحد الأعلی لا حدود متکثرة فهو من هذه الجهة کاستغراق المفرد معناه عدم الوقوف علی حد خاص فیذهب إلی آخر الآحاد .نعم الفرق بینهما إنما هو فی عدم الاستغراق فإن عدم استغراق المفرد یوجب الاقتصار علی واحد و عدم استغراق الجمع یوجب الاقتصار علی أقل الجمع و هو ثلاثة

2 المخصص المتصل و المنفصل

إن تخصیص العام علی نحوین 1 أن یقترن به مخصصه فی نفس الکلام الواحد الملقی من المتکلم کقولنا أشهد أن لا إله إلا الله و یسمی المخصص المتصل فیکون قرینة علی إرادة ما عدا الخاص من العموم و تلحق به بل هی منه القرینة الحالیة المکتنف بها الکلام الدالة علی إرادة الخصوص علی وجه یصح تعویل المتکلم علیها فی بیان مراده .2 ألا یقترن به مخصصه فی نفس الکلام بل یرد فی کلام آخر مستقل قبله أو بعده و یسمی المخصص المنفصل فیکون أیضا قرینة علی إرادة ما عدا الخاص من العموم کالأول .فإذن لا فرق بین القسمین من ناحیة القرینة علی مراد المتکلم و إنما الفرق بینهما من ناحیة أخری و هی ناحیة انعقاد الظهور فی العموم ففی المتصل لا ینعقد للکلام ظهور إلا فی الخصوص و فی المنفصل ینعقد ظهور العام فی

ص :142

عمومه غیر أن الخاص ظهوره أقوی فیقدم علیه من باب تقدیم الأظهر علی الظاهر أو النص علی الظاهر .و السر فی ذلک أن الکلام مطلقا العام و غیره لا یستقر له الظهور و لا ینعقد إلا بعد الانتهاء منه و الانقطاع عرفا علی وجه لا یبقی بحسب العرف مجال لإلحاقه بضمیمة تصلح لأن تکون قرینة تصرفه عن ظهوره الابتدائی الأولی و إلا فالکلام ما دام متصلا عرفا فإن ظهوره مراعی فإن انقطع من دون ورود قرینة علی خلافه استقر ظهوره الأول و انعقد الکلام علیه و إن لحقته القرینة الصارفة تبدل ظهوره الأول إلی ظهور آخر حسب دلالة القرینة و انعقد حینئذ علی الظهور الثانی و لذا لو کانت القرینة مجملة أو إن وجد فی الکلام ما یحتمل أن یکون قرینة أوجب ذلک عدم انعقاد الظهور الأول و لا یظهر آخر فیعود الکلام برمته مجملا .هذا من ناحیة کلیة فی کل کلام و مقامنا من هذا الباب لأن المخصص کما قلنا من قبیل القرینة الصارفة فالعام له ظهور ابتدائی أو بدوی فی العموم فیکون مراعی بانقطاع الکلام و انتهائه فإن لم یلحقه ما یخصصه استقر ظهوره الابتدائی و انعقد علی العموم و إن لحقته قرینة التخصیص قبل الانقطاع تبدل ظهوره الأول و انعقد له ظهور آخر حسب دلالة المخصص المتصل .إذن فالعام المخصص بالمتصل لا یستقر و لا ینعقد له ظهور فی العموم بخلاف المخصص بالمنفصل لأن الکلام بحسب الفرض قد انقطع بدون ورود ما یصلح للقرینة علی التخصیص فیستقر ظهوره الابتدائی فی العموم غیر أنه إذا ورد المخصص المنفصل یزاحم ظهور العام فیقدم علیه من باب أنه قرینة علیه کاشفة عن المراد الجدی

ص :143

3 هل استعمال العام فی المخصص مجاز

قلنا إن المخصص بقسمیه قرینة علی إرادة ما عدا الخاص من لفظ العموم فیکون المراد من العام بعض ما یشمله ظاهره فوقع الکلام فی أن هذا الاستعمال هل هو علی نحو المجاز أو الحقیقة و اختلف العلماء فیه علی أقوال کثیرة منها أنه مجاز مطلقا و منها أنه حقیقة مطلقا و منها التفصیل بین المخصص بالمتصل و بین المخصص بالمنفصل فإن کان التخصیص بالأول فهو حقیقة دون ما کان بالثانی و قیل بالعکس .و الحق عندنا هو القول الثانی أی أنه حقیقة مطلقا .الدلیل أن منشأ توهم القول بالمجاز أن أداة العموم لما کانت موضوعة للدلالة علی سعة مدخولها و عمومه لجمیع أفراده فلو أرید منه بعضه فقد استعملت فی غیر ما وضعت له فیکون الاستعمال مجازا و هذا التوهم یدفع بأدنی تأمل لأنه فی التخصیص بالمتصل کقولک مثلا أکرم کل عالم إلا الفاسقین لم تستعمل أداة العموم إلا فی معناها و هی الشمول لجمیع أفراد مدخولها غایة الأمر أن مدخولها تارة یدل علیه لفظ واحد مثل أکرم کل عادل و أخری یدل علیه أکثر من لفظ واحد فی صورة التخصیص فیکون التخصیص معناه أن مدخول کل لیس ما یصدق علیه لفظ عالم مثلا بل هو خصوص العالم العادل فی المثال و أما کل فهی باقیة علی ما لها من الدلالة علی العموم و الشمول لأنها تدل حینئذ علی الشمول لکل عادل من العلماء و لذا لا یصح أن یوضع مکانها کلمة بعض فلا یستقیم المعنی لو قلت أکرم بعض العلماء إلا الفاسقین و إلا لما صح الاستثناء کما لا یستقیم لو قلت أکرم بعض العلماء العدول فإنه لا یدل

ص :144

علی تحدید الموضوع کما لو کانت کل و الاستثناء موجودین .و الحاصل أن لفظة کل و سائر أدوات العموم فی مورد التخصیص لم تستعمل إلا فی معناها و هو الشمول .و لا معنی للقول بأن المجاز فی نفس مدخولها لأن مدخولها مثل کلمة عالم موضوع لنفس الطبیعة من حیث هی لا الطبیعة بجمیع أفرادها أو بعضها و إرادة الجمیع أو البعض إنما یکون من دلالة لفظ أخری ککل أو بعض فإذا قید مدخولها و أرید منه المقید بالعدالة فی المثال المتقدم لم یکن مستعملا إلا فی معناه و هو من له العلم و تکون إرادة ما عدا الفاسق من العلماء من دلالة مجموع القید و المقید من باب تعدد الدال و المدلول .و سیجیء إن شاء الله تعالی أن تقیید المطلق لا یوجب مجازا .هذا الکلام کله عن المخصص بالمتصل و کذلک الکلام عن المخصص بالمنفصل لأنا قلنا إن التخصیص بالمنفصل معناه جعل الخاص قرینة منفصلة علی تقیید مدخول کل بما عدا الخاص فلا تصرف فی أداة العموم و لا فی مدخولها و یکون أیضا من باب تعدد الدال و المدلول و لو فرض أن المخصص المنفصل لیس مقیدا لمدخول أداة العموم بل هو تخصیص للعموم نفسه فإن هذا لا یلزم منه أن یکون المستعمل فیه فی العام هو البعض حتی یکون مجازا بل إنما یکشف الخاص عن المراد الجدی من العام

4 حجیة العام المخصص فی الباقی

إذا شککنا فی شمول العام المخصص لبعض أفراد الباقی من العام بعد التخصیص فهل العام حجة فی هذا البعض فیتمسک بظاهر العموم لإدخاله فی حکم العام علی أقوال مثلا إذا قال المولی کل ماء

ص :145

طاهر ثم استثنی من العموم بدلیل متصل أو منفصل الماء المتغیر بالنجاسة و نحن احتملنا استثناء الماء القلیل الملاقی للنجاسة بدون تغییر فإذا قلنا بأن العام المخصص حجة فی الباقی نطرد هذا الاحتمال بظاهر عموم العام فی جمیع الباقی فنحکم بطهارة الماء الملاقی غیر المتغیر و إذا لم نقل بحجیته فی الباقی یبقی هذا الاحتمال معلقا لا دلیل علیه من العام فنلتمس له دلیلا آخر یقول بطهارته أو نجاسته .و الأقوال فی المسألة کثیرة منها التفصیل بین المخصص بالمتصل فیکون حجة فی الباقی و بین المخصص بالمنفصل فلا یکون حجة و قیل بالعکس و الحق فی المسألة هو الحجیة مطلقا لأن أساس النزاع ناشئ من النزاع فی المسألة السابقة و هی أن العام المخصص مجاز فی الباقی أم لا .و من قال بالمجاز یستشکل فی ظهور العام و حجیته فی جمیع الباقی من جهة أن المفروض أن استعمال العام فی تمام الباقی مجاز و استعماله فی بعض الباقی مجاز آخر أیضا فیقع النزاع فی أن المجاز الأول أقرب إلی الحقیقة فیکون العام ظاهرا فیه أو أن المجازین متساویان فلا ظهور فی أحدهما فإذا کان المجاز الأول هو الظاهر کان العام حجة فی تمام الباقی و إلا فلا یکون حجة .أما نحن الذین نقول بأن العام المخصص حقیقة کما تقدم ففی راحة من هذا النزاع لأنا قلنا إن أداة العموم باقیة علی ما لها من معنی الشمول لجمیع أفراد مدخولها فإذا خرج من مدخولها بعض الأفراد بالتخصیص بالمتصل أو المنفصل فلا تزال دلالتها علی العموم باقیة علی حالها و إنما مدخولها تتضیق دائرته بالتخصیص .فحکم العام المخصص حکم العام غیر المخصص فی ظهوره فی الشمول لکل ما یمکن أن یدخل فیه .

ص :146

و علی أی حال بعد القول بأن العام المخصص حقیقة فی الباقی علی ما بیناه لا یبقی شک فی حجیته فی الباقی و إنما یقع الشک علی تقدیر القول بالمجازیة فقد نقول إنه حجة فی الباقی علی هذا التقدیر و قد لا نقول لا أنه کل من یقول بالمجازیة یقول بعدم الحجیة کما توهم ذلک بعضهم

5 هل یسری إجمال المخصص إلی العام
اشارة

کان البحث السابق و هو حجیة العام فی الباقی فی فرض أن الخاص مبین لا إجمال فیه و إنما الشک فی تخصیص غیره مما علم خروجه عن الخاص .و علینا الآن أن نبحث عن حجیة العام فی فرض إجمال الخاص و الإجمال علی نحوین 1 الشبهة المفهومیة و هی فی فرض الشک فی نفس مفهوم الخاص بأن کان مجملا نحو(قوله علیه السلام:کل ماء طاهر إلا ما تغیر طعمه أو لونه أو ریحه) الذی یشک فیه أن المراد من التغیر خصوص التغیر الحسی أو ما یشمل التغیر التقدیری و نحو قولنا أحسن الظن إلا بخالد الذی یشک فیه أن المراد من خالد هو خالد بن بکر أو خالد بن سعد مثلا .2 الشبهة المصداقیة و هی فی فرض الشک فی دخول فرد من أفراد العام فی الخاص مع وضوح مفهوم الخاص بأن کان مبینا لا إجمال فیه کما إذا شک فی مثال الماء السابق أن ماء معینا أ تغیر بالنجاسة فدخل فی حکم الخاص أم لم یتغیر فهو لا یزال باقیا علی طهارته .و الکلام فی الشبهتین یختلف اختلافا بینا فلنفرد لکل منهما بحثا مستقلا

ص :147

أ الشبهة المفهومیة

الدوران فی الشبهة المفهومیة تارة یکون بین الأقل و الأکثر کالمثال الأول فإن الأمر دائر فیه بین تخصیص خصوص التغیر الحسی أو یعم التقدیری فالأقل هو التغیر الحسی و هو المتیقن و الأکثر هو الأعم منه و من التقدیری .و أخری یکون بین المتباینین کالمثال الثانی فإن الأمر دائر فیه بین تخصیص خالد بن بکر و بین خالد بن سعد و لا قدر متیقن فی البین .ثم علی کل من التقدیرین إما أن یکون المخصص متصلا أو منفصلا و الحکم فی المقام یختلف باختلاف هذه الأقسام الأربعة فی الجملة فلنذکرها بالتفصیل 1 2 فیما إذا کان المخصص متصلا سواء کان الدوران فیه بین الأقل و الأکثر أو بین المتباینین فإن الحق فیه أن إجمال المخصص یسری إلی العام أی أنه لا یمکن التمسک بأصالة العموم لإدخال المشکوک فی حکم العام .و هو واضح علی ما ذکرناه سابقا من أن المخصص المتصل من نوع قرینة الکلام المتصلة فلا ینعقد للعام ظهور إلا فیما عدا الخاص فإذا کان الخاص مجملا سری إجماله إلی العام لأن ما عدا الخاص غیر معلوم فلا ینعقد للعام ظهور فیما لم یعلم خروجه عن عنوان الخاص .3 فی الدوران بین الأقل و الأکثر إذا کان المخصص منفصلا فإن الحق فیه أن إجمال الخاص لا یسری إلی العام أی أنه یصح التمسک بأصالة العموم لإدخال ما عدا الأقل فی حکم العام و الحجة فیه واضحة

ص :148

بناء علی ما تقدم فی الفصل الثانی من أن العام المخصص بالمنفصل ینعقد له ظهور فی العموم و إذا کان یقدم علیه الخاص فمن باب تقدیم أقوی الحجتین فإذا کان الخاص مجملا فی الزائد علی القدر المتیقن منه فلا یکون حجة فی الزائد لأنه حسب الفرض مجمل لا ظهور له فیه و إنما تنحصر حجیته فی القدر المتیقن و هو الأقل .فکیف یزاحم العام المنعقد ظهوره فی الشمول لجمیع أفراده التی منها القدر المتیقن من الخاص و منها القدر الزائد علیه المشکوک دخوله فی الخاص فإذا خرج القدر المتیقن بحجة أقوی من العام یبقی القدر الزائد لا مزاحم لحجیة العام و ظهوره فیه .4 فی الدوران بین المتباینین إذا کان المخصص منفصلا فإن الحق فیه أن إجمال الخاص یسری إلی العام کالمخصص المتصل لأن المفروض حصول العلم الإجمالی بالتخصیص واقعا و إن تردد بین شیئین فیسقط العموم عن الحجیة فی کل واحد منهما و الفرق بینه و بین المخصص المتصل المجمل أنه فی المتصل یرتفع ظهور الکلام فی العموم رأسا و فی المنفصل المردد بین المتباینین ترتفع حجیة الظهور و إن کان الظهور البدوی باقیا فلا یمکن التمسک بأصالة العموم فی أحد المرددین .بل لو فرض أنها تجری بالقیاس إلی أحدهما فهی تجری أیضا بالقیاس إلی الآخر و لا یمکن جریانهما معا لخروج أحدهما عن العموم قطعا فیتعارضان و یتساقطان و إن کان الحق أن نفس وجود العلم الإجمالی یمنع من جریان أصالة العموم فی کل منهما رأسا لا أنها تجری فیهما فیحصل التعارض ثم التساقط

ص :149

ب الشبهة المصداقیة
اشارة

قلنا إن الشبهة المصداقیة تکون فی فرض الشک فی دخول فرد من أفراد ما ینطبق علیه العام فی المخصص مع کون المخصص مبینا لا إجمال فیه و إنما الإجمال فی المصداق فلا یدری أن هذا الفرد متصف بعنوان الخاص فخرج عن حکم العام أم لم یتصف فهو مشمول لحکم العام کالمثال المتقدم و هو الماء المشکوک تغیره بالنجاسة و کمثال الشک فی الید علی مال أنها ید عادیة أو ید أمانة فیشک فی شمول العام لها و هو(قوله صلی اللّٰه علیه و آله:علی الید ما أخذت حتی تؤدی)لأنها ید عادیة أو خروجها منه لأنها ید أمانة لما دل علی عدم ضمان ید الأمانة المخصص لذلک العموم .ربما ینسب إلی المشهور من العلماء الأقدمین القول بجواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة و لذا أفتوا فی مثال الید المشکوکة بالضمان و قد یستدل لهذا القول بأن انطباق عنوان العام علی المصداق المردد معلوم فیکون العام حجة فیه ما لم یعارض بحجة أقوی و أما انطباق عنوان الخاص علیه فغیر معلوم فلا یکون الخاص حجة فیه فلا یزاحم حجیة العام و هو نظیر ما قلناه فی المخصص المنفصل فی الشبهة المفهومیة عند الدوران بین الأقل و الأکثر .و الحق عدم جواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة فی المتصل و المنفصل معا .و دلیلنا علی ذلک أن المخصص لما کان حجة أقوی من العام فإنه موجب لقصر حکم العام علی باقی أفراده و رافع لحجیة العام فی بعض مدلوله و الفرد المشکوک مردد بین دخوله فیما کان العام حجة فیه و بین خروجه عنه

ص :150

مع عدم دلالة العام علی دخوله فیما هو حجة فیه فلا یکون العام حجة فیه بلا مزاحم کما قیل فی دلیلهم و لئن کان انطباق عنوان العام علیه معلوما فلیس هو معلوم الانطباق علیه بما هو حجة .و الحاصل أن هناک عندنا حجتین معلومتین حسب الفرض إحداهما العام هو حجة فیما عدا الخاص و ثانیتهما المخصص و هو حجة فی مدلوله و المشتبه مردد بین دخوله فی تلک الحجة أو هذه الحجة .و بهذا یظهر الفرق بین الشبهة المصداقیة و بین الشبهة المفهومیة فی المنفصل عند الدوران بین الأقل و الأکثر فإن الخاص فی الشبهة المفهومیة لیس حجة إلا فی الأقل و الزائد المشکوک لیس مشکوک الدخول فیما کان الخاص معلوم الحجیة فیه بل الخاص مشکوک أنه جعل حجة فیه أم لا و مشکوک الحجیة فی شیء لیس بحجة قطعا فی ذلک الشیء (1)و أما العام فهو حجة إلا فیما کان الخاص حجة فیه و علیه لا یکون الأکثر مرددا بین دخوله فی تلک الحجة أو هذه الحجة کالمصداق المردد بل هو معلوم أن الخاص لیس حجة فیه لمکان الشک فلا یزاحم حجیة العام فیه .و أما فتوی المشهور بالضمان فی الید المشکوکة أنها ید عادیة أو ید أمانة

ص :151


1- سیأتی فی (مباحث الحجة): ان قوام حجیة الشئ بالعلم، لانه انما یکون الشئ صالحا لان یحتج به المولی علی العبد إذا کان واصلا إلیه بالعلم، فالعلم مأخوذ فی موضوع الحجة فعند الشک فی حجیة شئ یرتفع موضوعها، فیعلم بعدم حجیته. ومعنی الشک فی حجیته احتمال أنه نصبه الشارع حجة واقعا علی تقدیر وصوله. وحیث لم یصل نقطع بعدم حجیته فعلا فیزول ذلک الاحتمال البدوی عند الالتفات إلی ذلک لا انه حین الشک فی الحجیة یقطع بعدم الحجیة والا للزم اجتماع الشک والقطع بشئ واحد فی آن واحد وهو محال.

فلا یعلم أنها لأجل القول بجواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة و لعل لها وجها آخر لیس المقام محل ذکره .

تنبیه

فی جواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة إذا کان المخصص لبیا المقصود من المخصص اللبی ما یقابل اللفظی کالإجماع و دلیل العقل اللذین هما دلیلان و لیسا من نوع الألفاظ فقد نسب إلی الشیخ المحقق الأنصاری قدس سره جواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة مطلقا إذا کان المخصص لبیا و تبعه جماعة من المتأخرین عنه .(و ذهب المحقق شیخ أساتذتنا صاحب الکفایة قدس سره إلی التفصیل بین ما إذا کان المخصص اللبی مما یصح أن یتکل علیه المتکلم فی بیان مراده بأن کان عقلیا ضروریا فإنه یکون کالمتصل فلا ینعقد للعام ظهور فی العموم فلا مجال للتمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة و بین ما إذا لم یکن کذلک کما إذا لم یکن التخصیص ضروریا علی وجه یصح أن یتکل علیه المتکلم فإنه لا مانع من التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة لبقاء العام علی ظهوره و هو حجة بلا مزاحم .و استشهد علی ذلک بما ذکره من الطریقة المعروفة و السیرة المستمرة المألوفة بین العقلاء کما إذا أمر المولی منهم عبده بإکرام جیرانه و حصل القطع للعبد بأن المولی لا یرید إکرام من کان عدوا له من الجیران فإن العبد لیس له ألا یکرم من یشک فی عداوته و للمولی أن یؤاخذه علی عدم إکرامه و لا یصح منه الاعتذار بمجرد احتمال العداوة لأن بناء العقلاء و سیرتهم هی ملاک حجیة أصالة الظهور فیکون ظهور العام فی هذا المقام حجة

ص :152

بمقتضی بناء العقلاء .و زاد علی ذلک بأنه یستکشف من عموم العام للفرد المشکوک أنه لیس فردا للخاص الذی علم خروجه من حکم العام و مثل له بعموم قوله لعن الله بنی فلان قاطبة المعلوم منه خروج من کان مؤمنا منهم فإن شک فی إیمان شخص یحکم بجواز لعنه للعموم و کل من جاز لعنه لیس مؤمنا فینتج من الشکل الأول هذا الشخص لیس مؤمنا) .هذا خلاصة رأی صاحب الکفایة قدس سره و لکن شیخنا المحقق الکبیر النائینی أعلی الله مقامه لم یرتض هذا التفصیل و لا إطلاق رأی الشیخ قدس سره بل ذهب إلی تفصیل آخر .(و خلاصته أن المخصص اللبی سواء کان عقلیا ضروریا یصح أن یتکل علیه المتکلم فی مقام التخاطب أو لم یکن کذلک بأن کان عقلیا نظریا أو إجماعا فإنه کالمخصص اللفظی کاشف عن تقیید المراد الواقعی فی العام من عدم کون موضوع الحکم الواقعی باقیا علی إطلاقه الذی یظهر فیه العام فلا مجال للتمسک بالعام فی الفرد المشکوک بلا فرق بین اللبی و اللفظی لأن المانع من التمسک بالعام مشترک بینهما و هو انکشاف تقیید موضوع الحکم واقعا و لا یفرق فی هذه الجهة بین أن یکون الکاشف لفظیا أو لبیا .و استثنی من ذلک ما إذا کان المخصص اللبی لم یستکشف منه تقیید موضوع الحکم واقعا بأن کان العقل إنما أدرک ما هو ملاک حکم الشارع واقعا أو قام الإجماع علی کونه ملاکا لحکم الشارع کما إذا أدرک العقل أو قام الإجماع علی أن ملاک لعن بنی فلان هو کفرهم فإن ذلک لا یوجب تقیید موضوع الحکم لأن الملاک لا یصلح لتقیید بل من العموم یستکشف وجود الملاک فی جمیعهم فإذا شک فی وجود الملاک فی فرد یکون عموم الحکم کاشفا عن وجوده فیه نعم لو علم بعدم وجود الملاک فی فرد یکون

ص :153

الفرد نفسه خارجا کما لو أخرجه المولی بالنص علیه لا أنه یکون کالمقید لموضوع العام .و أما سکوت المولی عن بیانه فهو إما لمصلحة أو لغفلة إذا کان من الموالی العادیین .نعم لو تردد الأمر بین أن یکون المخصص کاشفا عن الملاک أو مقیدا لعنوان العام فإن التفصیل الذی ذکره صاحب الکفایة یکون وجیها .و الحاصل أن المخصص إن أحرزنا أنه کاشف عن تقیید موضوع العام فلا یجوز التمسک بالعموم فی الشبهة المصداقیة أبدا و إن أحرزنا أنه کاشف عن ملاک الحکم فقط من دون تقیید فلا مانع من التمسک بالعموم بل یکون کاشفا عن وجود الملاک فی المشکوک و إن تردد أمره و لم یحرز کونه قیدا أو ملاکا فإن کان حکم العقل ضروریا یمکن الاتکال علیه فی التفهیم فیلحق بالقسم الأول و إن کان نظریا أو إجماعا لا یصح الاتکال علیه فیلحق بالقسم الثانی فیتمسک بالعموم لجواز أن یکون الفرد المشکوک قد أحرز المولی وجود الملاک فیه مع احتمال أن ما أدرکه العقل أو قام علیه الإجماع من قبیل الملاکات) .هذا کله حکایة أقوال علمائنا فی المسألة و إنما أطلت فی نقلها لأن هذه المسألة حادثة أثارها شیخنا الأنصاری قدس سره مؤسس الأصول الحدیث و اختلف فیها أساطین مشایخنا و نکتفی بهذا المقدار دون بیان ما نعتمد علیه من الأقوال لئلا نخرج عن الغرض الذی وضعت له الرسالة .و بالاختصار أن ما ذهب إلیه الشیخ هو الأولی بالاعتماد و لکن مع تحریر لقوله علی غیر ما هو المعروف عنه (1)

ص :154


1- وتوضیح ذلک: ان کل عام ظاهر فی العموم لا بد أن یتضمن ظهورین. 1 - ظهوره فی عدم منافاة أیة صفة من الصفات أو أی عنوان من العناوین لحکمه. 2 - ظهوره فی عدم وجود المنافی أیضا. أی أنه ظاهر فی عدم المنافاة وعدم المنافی معه. فان معنی ظهور عموم (أکرم جیرانی) - مثلا -: أنه لیس هناک صفة أو عنوان ینافی الحکم بوجوب اکرام الجیران، نحو صفة العداوة أو الفسق أو نحو ذلک، کما أن معناه أیضا أنه لیس یوجد فی الجیران من فیه صفة أو عنوان ینافی الحکم بوجوب اکرامه. وهذا واضح لا غبار فیه. فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور فی العموم مخصص منفصل لفظی، کما لو قال فی المثال المتقدم: (لا تکرم الاعداء من جیرانی)، فان هذا المخصص لا شک فی أنه لا یکون ظاهرا فی أمرین: 1 - ان صفة العداوة منافیة لوجوب الاکرام: 2 - ان فی الجیران من هو علی صفة العداوة فعلا أو یتوقع منه أن یکون عدوا، والا لو لم یوجد العدو ولا یتوقع فیهم لکان هذا التخصیص لغوا وعبثا لا یصدر من الحکیم. وعلی ذلک فیکون المخصص اللفظی مزاحما للعام فی الظهورین معا، فیسقط عن الحجیة فیهما معا. فإذا شککنا فی فرد من الجیران أنه عدو أم لا، فلا مجال فیه للتمسک بالعام فی الحاقه بحکمه، لسقوط العام عن حجیته فی شموله له، إذ یکون هذا الفرد مرددا بین دخوله فیما اصبح العام حجة فیه وبین دخوله فیما کان الخاص حجة فیه. أما لو کان هناک مخصص لبی، کما لو حکم العقل - مثلا - بأن العداوة تنافی وجوب الاکرام، فان هذا الحکم من العقل لا یتوقف علی أن یکون هناک أعداء بالفعل أو متوقعون، بل العقل یحکم بهذا الحکم سواء کان هناک أعداء أم لم یکونوا أبدا، إذ لا مجال للقول بأنه لو لم یکن هناک أعداء لکان حکم العقل لغوا وعبثا، کما هو واضح بأدنی تأمل والتفات. وعلیه، فالحکم العقلی هذا لا یزاحم الظهور الثانی العام، أعنی ظهوره فی عدم المنافی، فظهوره الثانی هذا یبقی بلا مزاحم. فإذا شککنا فی فرد من الجیران أنه عدو أم لا فلا مانع من التمسک بالعام فی ادخاله فی حکمه، لانه لا یکون هذا الفرد مرددا بین دخوله فی هذه الحجة أو هذه الحجة، إذ المخصص اللبی حسب الفرض لا یقتضی وجود المنافی ولیس حجة فیه، أما العام فهو حجة فیه بلا مزاحم.
6 لا یجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص

لا شک فی أن بعض عمومات القرآن الکریم و السنة الشریفة ورد لها

ص :155

مخصصات منفصلة شرحت المقصود من تلک العمومات و هذا معلوم من طریقة صاحب الشریعة و الأئمة الأطهار علیهم الصلاة و السلام حتی قیل ما من عام إلا و قد خص و لذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا برأیهم فی الأحکام لأن فی الکتاب المجید و السنة عاما و خاصا و مطلقا و مقیدا و هذه الأمور لا تعرف إلا من طریق آل البیت علیهم السلام

ص :156

و هذا ما أوجب التوقف فی التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص و الیأس من وجود المخصص لجواز أن یکون هذا العام من العمومات التی لها مخصص موجود فی السنة أو فی الکتاب لم یطلع علیه من وصل إلیه العام و قد نقل عدم الخلاف بل الإجماع علی عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص و الیأس .و هو الحق و السر فی ذلک واضح لما قدمناه لأنه إذا کانت طریقة الشارع فی بیان مقاصده تعتمد علی القرائن المنفصلة لا یبقی اطمئنان بظهور العام فی عمومه فإنه یکون ظهورا بدویا و للشارع الحجة علی المکلف إذا قصر فی الفحص عن المخصص .أما إذا بذل وسعه و فحص عن المخصص فی مظانه حتی حصل له الاطمئنان بعدم وجوده فله الأخذ بظهور العام و لیس للشارع حجة علیه فیما لو کان هناک مخصص واقعا لم یتمکن المکلف من الوصول إلیه عادة بالفحص بل للمکلف أن یحتج فیقول إنی فحصت عن المخصص فلم أظفر به و لو کان مخصص هناک کان ینبغی بیانه علی وجه لو فحصنا عنه عادة لوجدناه فی مظانه و إلا فلا حجة فیه علینا .و هذا الکلام جار فی کل ظهور فإنه لا یجوز الأخذ به إلا بعد الفحص عن القرائن المنفصلة فإذا فحص المکلف و لم یظفر بها فله أن یأخذ بالظهور و یکون حجة علیه .و من هنا نستنتج قاعدة عامة تأتی فی محلها و نستوفی البحث عنها إن شاء الله تعالی و المقام من صغریاتها و هی أن أصالة الظهور لا تکون حجة إلا بعد الفحص و الیأس عن القرینة أما بیان مقدار الفحص الواجب هو الذی یوجب الیأس علی نحو القطع

ص :157

بعدم القرینة أو علی نحو الظن الغالب و الاطمئنان بعدمها فذلک موکول إلی محله و المختار کفایة الاطمئنان و الذی یهون الخطب فی هذه العصور المتأخرة أن علماءنا قدس الله تعالی أرواحهم قد بذلوا جهودهم علی تعاقب العصور فی جمع الأخبار و تبویبها و البحث عنها و تنقیحها فی کتب الأخبار و الفقه حتی أن الفقیه أصبح الآن یسهل علیه الفحص عن القرائن بالرجوع إلی مظانها المهیأة فإذا لم یجدها بعد الفحص یحصل له القطع غالبا بعدمها

7 تعقیب العام بضمیر یرجع إلی بعض أفراده

قد یرد عام ثم ترد بعده جملة فیها ضمیر یرجع إلی بعض أفراد العام بقرینة خاصة مثل قوله تعالی وَ الْمُطَلَّقٰاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ إلی قوله وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِی ذٰلِکَ فإن المطلقات عامة للرجعیات و غیرها و لکن الضمیر فی بعولتهن یراد به خصوص الرجعیات فمثل هذا الکلام یدور فیه الأمر بین مخالفتین للظاهر إما 1 مخالفة ظهور العام فی العموم بأن یجعل مخصوصا بالبعض الذی یرجع إلیه الضمیر و إما 2 مخالفة ظهور الضمیر فی رجوعه إلی ما تقدم علیه من المعنی الذی دل علیه اللفظ بأن یکون مستعملا علی سبیل الاستخدام فیراد منه البعض و العام یبقی علی دلالته علی العموم فأی المخالفتین أولی وقع الخلاف علی أقوال ثلاثة الأول أن أصالة العموم هی المقدمة فیلتزم بالمخالفة الثانیة .الثانی أن أصالة عدم الاستخدام هی المقدمة فیلتزم بالمخالفة الأولی .الثالث عدم جریان الأصلین معا و الرجوع إلی الأصول العملیة .أما عدم جریان أصالة العموم فلوجود ما یصلح أن یکون قرینة فی الکلام

ص :158

و هو عود الضمیر علی البعض فلا ینعقد ظهور العام فی العموم .و أما أن أصالة عدم الاستخدام لا تجری فلأن الأصول اللفظیة یشترط فی جریانها کما سبق أول الکتاب أن یکون الشک فی مراد المتکلم فلو کان المراد معلوما کما فی المقام و کان الشک فی کیفیة الاستعمال فلا تجری قطعا .و الحق أن أصالة العموم جاریة و لا مانع منها لأنا ننکر أن یکون عود الضمیر إلی بعض أفراد العام موجبا لصرف ظهور العموم إذ لا یلزم من تعین البعض من جهة مرجعیة الضمیر بقرینة أن یتعین إرادة البعض من جهة حکم العام الثابت له بنفسه لأن الحکم فی الجملة المشتملة علی الضمیر غیر الحکم فی الجملة المشتملة علی العام و لا علاقة بینهما فلا یکون عود الضمیر علی بعض العام من القرائن التی تصرف ظهوره عن عمومه و اعتبر ذلک فی المثال فلو قال المولی العلماء یجب إکرامهم ثم قال و هم یجوز تقلیدهم و أرید من ذلک العدول بقرینة فإنه واضح فی هذا المثال أن تقیید الحکم الثانی بالعدول لا یوجب تقیید الحکم الأول بذلک بل لیس فیه إشعار به و لا یفرق فی ذلک بین أن یکون التقیید بمتصل کما فی مثالنا أو بمنفصل کما فی الآیة

8 تعقیب الاستثناء لجمل متعددة

قد ترد عمومات متعددة فی کلام واحد ثم یتعقبها استثناء فی آخرها فیشک حینئذ فی رجوع الاستثناء لخصوص الجملة الأخیرة أو لجمیع الجمل مثاله قوله تعالی وَ الَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِینَ جَلْدَةً وَ لاٰ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِکَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِینَ تٰابُوا فإنه یحتمل أن یکون هذا الاستثناء من الحکم الأخیر فقط و هو فسق هؤلاء و یحتمل أن یکون استثناء منه و من الحکم بعدم قبول

ص :159

شهادتهم و الحکم بجلدهم الثمانین و اختلف العلماء فی ذلک علی أربعة أقوال 1 ظهور الکلام فی رجوع الاستثناء إلی خصوص الجملة الأخیرة و إن کان رجوعه إلی غیر الأخیرة ممکنا و لکنه یحتاج إلی قرینة علیه .2 ظهوره فی رجوعه إلی جمیع الجمل و تخصیصها بالأخیرة فقط هو الذی یحتاج إلی الدلیل .3 عدم ظهوره فی واحد منهما و إن کان رجوعه إلی الأخیرة متیقنا علی کل حال أما ما عدا الأخیرة فتبقی مجملة لوجود ما یصلح للقرینة فلا ینعقد لها ظهور فی العموم فلا تجری أصالة العموم فیها .4 التفصیل بین ما إذا کان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبة لم یتکرر ذکره و قد ذکر فی صدر الکلام مثل قولک أحسن إلی الناس و احترمهم و اقض حوائجهم إلا الفاسقین و بین ما إذا کان الموضوع متکررا ذکره لکل جملة کالآیة الکریمة المتقدمة و إن کان الموضوع فی المعنی واحدا فی الجمیع .فإن کان من قبیل الأول فهو ظاهر فی رجوعه إلی الجمیع لأن الاستثناء إنما هو من الموضوع باعتبار الحکم و الموضوع لم یذکر إلا فی صدر الکلام فقط فلا بد من رجوع الاستثناء إلیه فیرجع إلی الجمیع و إن کان من قبیل الثانی فهو ظاهر فی الرجوع إلی الأخیرة لأن الموضوع قد ذکر فیها مستقلا فقد أخذ الاستثناء محله و یحتاج تخصیص الجمل السابقة إلی دلیل آخر مفقود بالفرض فیتمسک بأصالة عمومها و أما ما قیل إن المقام من باب اکتناف الکلام بما یصلح لأن یکون قرینة فلا ینعقد للجمل الأولی ظهور فی العموم فلا وجه له لأنه لما کان المتکلم حسب الفرض قد کرر الموضوع بالذکر و اکتفی باستثناء واحد و هو یأخذ محله بالرجوع إلی الأخیرة فلو أراد إرجاعه إلی الجمیع لوجب أن ینصب قرینة علی ذلک و إلا

ص :160

کان مخلا ببیانه .و هذا القول الرابع هو أرجح الأقوال و به یکون الجمع بین کلمات العلماء فمن ذهب إلی القول برجوعه إلی خصوص الأخیرة فلعله کان ناظرا إلی مثل الآیة المبارکة التی تکرر فیها الموضوع و من ذهب إلی القول برجوعه إلی الجمیع فلعله کان ناظرا إلی الجمل التی لم یذکر فیها الموضوع إلا فی صدر الکلام فیکون النزاع علی هذا لفظیا و یقع التصالح بین المتنازعین

9 تخصیص العام بالمفهوم

المفهوم ینقسم کما تقدم إلی الموافق و المخالف فإذا ورد عام و مفهوم أخص مطلقا فلا کلام فی تخصیص العام بالمفهوم إذا کان مفهوما موافقا مثاله قوله تعالی أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فإنه عام یشمل کل عقد یقع باللغة العربیة و غیرها فإذا ورد دلیل علی اعتبار أن یکون العقد بصیغة الماضی فقد قیل إنه یدل بالأولویة علی اعتبار العربیة فی العقد لأنه لما دل علی عدم صحة العقد بالمضارع من العربیة فلئن لم یصح من لغة أخری فمن طریق أولی و لا شک أن مثل هذا المفهوم إن ثبت فإنه یخصص العام المتقدم لأنه کالنص أو أظهر من عموم العام فیقدم علیه .و أما التخصیص بالمفهوم المخالف فمثاله قوله تعالی إِنَّ الظَّنَّ لاٰ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً الدال بعمومه علی عدم اعتبار کل ظن حتی الظن الحاصل من خبر العادل و قد وردت آیة أخری هی إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا الدالة بمفهوم الشرط علی جواز الأخذ بخبر غیر الفاسق بغیر تبین .

ص :161

فهل یجوز تخصیص ذلک العام بهذا المفهوم المخالف قد اختلفوا علی أقوال فقد قیل بتقدیم العام و لا یجوز تخصیصه بهذا المفهوم و قیل بتقدیم المفهوم و قیل بعدم تقدیم أحدهما علی الآخر فیبقی الکلام مجملا و فصل بعضهم تفصیلات کثیرة یطول الکلام علیها .و السر فی هذا الخلاف أنه لما کان ظهور المفهوم المخالف لیس من القوة بحیث یبلغ درجة ظهور المنطوق أو المفهوم الموافق وقع الکلام فی أنه أقوی من ظهور العام فیقدم علیه أو أن العام أقوی فهو المقدم أو أنهما متساویان فی درجة الظهور فلا یقدم أحدهما علی الآخر أو أن ذلک یختلف باختلاف المقامات .و الحق أن المفهوم لما کان أخص من العام حسب الفرض فهو قرینة عرفا علی المراد من العام و القرینة تقدم علی ذی القرینة و تکون مفسرة لما یراد من ذی القرینة و لا یعتبر أن یکون ظهورها أقوی من ظهور ذی القرینة نعم لو فرض أن العام کان نصا فی العموم فإنه یکون هو قرینة علی المراد من الجملة ذات المفهوم فلا یکون لها مفهوم حینئذ و هذا أمر آخر

10 تخصیص الکتاب العزیز بخبر الواحد

یبدو من الصعب علی المبتدئ أن یؤمن لأول وهلة بجواز تخصیص العام الوارد فی القرآن الکریم بخبر الواحد نظرا إلی أن الکتاب المقدس إنما هو وحی منزل من الله لا ریب فیه و الخبر ظنی یحتمل فیه الخطأ و الکذب فکیف یقدم علی الکتاب و لکن سیرة العلماء من القدیم علی العمل بخبر الواحد إذا کان مخصصا للعام القرآنی بل لا تجد علی الأغلب خبرا معمولا به من بین الأخبار التی بأیدینا فی المجامیع إلا و هو مخالف لعام أو مطلق فی القرآن و لو مثل عمومات الحل و نحوها بل علی الظاهر

ص :162

إن مسألة تقدیم الخبر الخاص علی الآیة القرآنیة العامة من المسائل المجمع علیها من غیر خلاف بین علمائنا فما السر فی ذلک مع ما قلناه .نقول لا ریب فی أن القرآن الکریم و إن کان قطعی السند فیه متشابه و محکم نص علی ذلک القرآن نفسه و المحکم نص و ظاهر و الظاهر منه عام و مطلق کما لا ریب أیضا فی أنه ورد کلام النبی و الأئمة علیهم الصلاة و السلام ما یخصص کثیرا من عمومات القرآن و ما یقید کثیرا من مطلقاته و ما یقوم قرینة علی صرف جملة من ظواهره و هذا قطعی لا یشک فیه أحد .فإن کان الخبر قطعی الصدور فلا کلام فی ذلک و إن کان غیر قطعی الصدور و قد قام الدلیل القطعی علی أنه حجة شرعا لأنه خبر عادل مثلا و کان مضمون الخبر أخص من عموم الآیة القرآنیة فیدور الأمر بین أن نطرح الخبر بمعنی أن نکذب راویه و بین أن نتصرف بظاهر القرآن لأنه لا یمکن التصرف بمضمون الخبر لأنه نص أو أظهر و لا بسند القرآن لأنه قطعی .و مرجع ذلک إلی الدوران فی الحقیقة بین مخالفة الظن بصدق الخبر و بین مخالفة الظن بعموم الآیة أو فقل یدور الأمر بین طرح دلیل حجیة الخبر و بین طرح أصالة العموم فأی الدلیلین أولی بالطرح و أیهما أولی بالتقدیم .فنقول لا شک أن الخبر صالح لأن یکون قرینة علی التصرف فی ظاهر الکتاب لأنه بدلالته ناظر و مفسر لظاهر الکتاب بحسب الفرض و علی العکس من ظاهر الکتاب فإنه غیر صالح لرفع الید عن دلیل حجیة الخبر لأنه لا علاقة له فیه من هذه الجهة حسب الفرض حتی یکون ناظرا إلیه و مفسرا له فالخبر لسانه لسان المبین للکتاب فیقدم علیه و لیس

ص :163

الکتاب بظاهره بصدد بیان دلیل حجیة الخبر حتی یقدم علیه .و إن شئت فقل إن الخبر بحسب الفرض قرینة علی الکتاب و الأصل الجاری فی القرینة و هو هنا أصالة عدم کذب الراوی مقدم علی الأصل الجاری فی ذی القرینة و هو هنا أصالة العموم

11 الدوران بین التخصیص و النسخ
اشارة

اعلم أن العام و الخاص المنفصل یختلف حالهما من جهة العلم بتاریخهما معا أو بتاریخ أحدهما أو الجهل بهما معا فقد یقال فی بعض الأحوال بتعیین أن یکون الخاص ناسخا للعام أو منسوخا له أو مخصصا إیاه و قد یقع الشک فی بعض الصور و لتفصیل الحال نقول إن الخاص و العام من ناحیة تاریخ صدورهما لا یخلوان من خمس حالات فإما أن یکونا معلومی التاریخ أو مجهولی التاریخ أو أحدهما مجهولا و الآخر معلوما هذه ثلاث صور ثم المعلوم تاریخهما إما أن یعلم تقارنهما عرفا أو یعلم تقدم العام أو یعلم تأخر العام فتکون الصور خمسا

الصورة الأولی

إذا کانا معلومی التاریخ مع العلم بتقارنهما عرفا فإنه لا مجال لتوهم النسخ فیهما .

الصورة الثانیة

إذا کانا معلومی التاریخ مع تقدم العام فهذه علی صورتین 1 أن یکون ورود الخاص قبل العمل بالعام و الظاهر أنه لا إشکال

ص :164

حینئذ فی حمله علی التخصیص بغیر کلام إما لأن النسخ لا یکون قبل وقت العمل بالمنسوخ کما قیل و إما لأن الأولی فیه التخصیص کما سیأتی فی الصورة الآتیة .2 أن یکون وروده بعد وقت العمل بالعام و هذه الصورة هی أشکل الصور و هی التی وقع فیها الکلام فی أن الخاص یجب أن یکون ناسخا أو یجوز أن یکون مخصصا و لو فی بعض الحالات و مع الجواز یتکلم حینئذ فی أن الحمل علی التخصیص هو الأولی أو الحمل علی النسخ .فالذی یذهب إلی وجوب أن یکون الخاص ناسخا فهو ناظر إلی أن العام لما ورد و حل وقت العمل به بحسب الفرض فتأخیر الخاص عن وقت العمل لو کان مخصصا و مبینا لعموم العام یکون من باب تأخیر البیان عن وقت الحاجة و هو قبیح من حکیم لأن فیه إضاعة للأحکام و لمصالح العباد بلا مبرر فوجب أن یکون ناسخا للعام و العام باق علی عمومه یجب العمل به إلی حین ورود الخاص فیجب العمل ثانیا علی طبق الخاص .و أما من ذهب إلی جواز کونه مخصصا فلعله ناظر إلی أن العام یجوز أن یکون واردا لبیان حکم ظاهری صوری لمصلحة اقتضت کتمان الحکم الواقعی و لو مصلحة التقیة أو مصلحة التدرج فی بیان الأحکام کما هو المعلوم من طریقة النبی صلی اللّٰه علیه و آله فی بیان أحکام الشریعة مع أن الحکم الواقعی التابع للمصالح الواقعیة الثابتة للأشیاء بعناوینها الأولیة إنما هو علی طبق الخاص فإذا جاء الخاص یکون کاشفا عن الحکم الواقعی فیکون مبینا للعام و مخصصا له و أما الحکم العام الذی ثبت أولا ظاهرا و صورة إن کان قد ارتفع و انتهی أمده فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه و لیس هو من باب النسخ .و إذا جاز أن یکون العام واردا علی هذا النحو من بیان الحکم ظاهرا

ص :165

و صورة فإن ثبت ذلک کان الخاص مخصصا أی کان کاشفا عن الواقع قطعا و إن ثبت أنه فی صدد بیان الحکم الواقعی التابع للمصالح الواقعیة الثابتة للأشیاء بعناوینها الأولیة فلا شک فی أنه یتعین کون الخاص ناسخا له .و أما لو دار الأمر بینهما إذ لم یقم دلیل علی تعیین أحدهما فأیهما أرجح فی الحمل فنقول الأقرب إلی الصواب هو الحمل علی التخصیص .و الوجه فیه أن أصالة العموم بما هی لا تثبت أکثر من أن ما یظهر من العام هو المراد الجدی للمتکلم و لا شک أن الحکم الصوری الذی نسمیه بالحکم الظاهری کالواقع مراد جدی للمتکلم لأنه مقصود بالتفهیم فالعام لیس ظاهرا إلا فی أن المراد الجدی هو العموم سواء کان العموم حکما واقعیا أو صوریا أما أن الحکم واقعی فلا یقتضیه الظهور أبدا حتی یثبت بأصالة العموم لا سیما أن المعلوم من طریقة صاحب الشریعة هو بیان العمومات مجردة عن قرائن التخصیص و یکشف المراد الواقعی منها بدلیل منفصل حتی اشتهر القول بأنه ما من عام إلا و قد خص کما سبق .و علیه فلا دلیل من أصالة العموم علی أن الحکم واقعی حتی نلتجئ إلی الحمل علی النسخ بل إرادة الحکم الواقعی من العام علی ذلک الوجه یحتاج إلی مئونة بیان زائدة أکثر من ظهور العموم و لأجل هذا قلنا إن الحمل علی التخصیص أقرب إلی الصواب من الحمل علی النسخ و إن کان کل منهما ممکنا .

الصورة الثالثة

إذا کانا معلومی التاریخ مع تقدم الخاص فهذه أیضا علی صورتین 1 أن یرد العام قبل وقت العمل بالخاص فلا ینبغی الإشکال فی

ص :166

کون الخاص مخصصا .2 أن یرد بعد وقت العمل بالخاص فلا مجال لتوهم وجوب الحمل علی النسخ من جهة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة لأنه من باب تقدیم البیان قبل وقت الحاجة و لا قبح فیه أصلا و مع ذلک قیل بلزوم الحمل علی النسخ و لعل نظر هذا القائل إلی أن أصالة العموم جاریة و لا مانع منها إلا احتمال أن یکون الخاص المتقدم مخصصا و قرینة علی العام و لکن أیضا یحتمل أن یکون منسوخا بالعام فلا یحرز أنه من باب القرینة .و لا شک أن الخاص المنفصل إنما یقدم علی العام لأنه أقوی الحجتین و قرینة علیه و مع هذا الاحتمال لا یکون الخاص المنفصل أقوی فی الظهور من العام .قلت الأصوب أن یحمل علی التخصیص کالصورة السابقة لما تقدم من أن العام لا یدل علی أکثر من أن المراد جدی و لا یدل فی نفسه علی أن الحکم واقعی تابع للمصالح الواقعیة الثابتة للأشیاء بعناوینها الأولیة .و إنما یکون العام ناسخا للخاص إذا کانت دلالته علی هذا النحو و إلا فالعمومات الواردة فی الشریعة علی الأغلب لیست کذلک و أما احتمال النسخ فلا یقلل من ظهور الخاص فی نفسه قطعا کما لا یرفع حجیته فیما هو ظاهر فیه فلا یخرجه عن کونه صالحا لتخصیص العام فیقدم علیه لأنه أقوی فی نفسه ظهورا .بل یمکن أن یقال إن العام اللاحق للخاص لا ینعقد له ظهور فی العموم إلا بدویا بالنسبة إلی من لا یعلم بسبق الخاص لجواز أن یعتمد المتکلم فی بیان مراده علی سبقه فیکون المخصص السابق کالمخصص المتصل أو کالقرینة الحالیة فلا یکون العام ظاهرا فی العموم حتی یتوهم أنه ظاهر فی

ص :167

ثبوت الحکم الواقعی .

الصورتان الرابعة و الخامسة

إذا کانا مجهولی التاریخ أو أحدهما فقط کان مجهولا فإنه یعلم الحال فیهما مما تقدم فیحمل علی التخصیص بلا کلام و لا وجه لتوهم النسخ لا سیما بعد أن رجحنا التخصیص فی جمیع الصور و هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان

ص :168

الباب السادس المطلق و المقید

اشارة

ص :169

ص :170

و فیه ست مسائل

المسألة الأولی معنی المطلق و المقید

عرفوا(المطلق بأنه ما دل علی معنی شائع فی جنسه) و یقابله المقید و هذا التعریف قدیم بحثوا عنه کثیرا و أحصوا علیه عدة مؤاخذات یطول شرحها و لا فائدة فی ذکرها ما دام أن الغرض من مثل هذا التعریف هو تقریب المعنی الذی وضع له اللفظ لأنه من التعاریف اللفظیة .و الظاهر أنه لیس للأصولیین اصطلاح خاص فی لفظی المطلق و المقید بل هما مستعملان بما لهما من المعنی فی اللغة فإن المطلق مأخوذ من الإطلاق و هو الإرسال و الشیوع و یقابله التقیید تقابل الملکة و عدمها و الملکة التقیید و الإطلاق عدمها و قد تقدم ص 70 .غایة الأمر أن إرسال کل شیء بحسبه و ما یلیق به فإذا نسب الإطلاق و التقیید إلی اللفظ کما هو المقصود فی المقام فإنما یراد ذلک بحسب ما له من دلالة علی المعنی فیکونان وصفین للفظ باعتبار المعنی .و من موارد استعمال لفظ المطلق نستطیع أن نأخذ صورة تقریبیة لمعناه فمثلا عند ما نعرف أن العلم الشخصی و المعرف بلام العهد لا یسمیان مطلقین باعتبار معناهما لأنه لا شیوع و لا إرسال فی شخص معین لا ینبغی أن نظن أنه لا یجوز أن یسمی العلم الشخصی مطلقا فإنه إذا قال الآمر أکرم محمدا و عرفنا أن لمحمد أحوالا مختلفة و لم یقید الحکم بحال من الأحوال نستطیع أن نعرف أن لفظ محمد هنا أو هذا الکلام بمجموعه یصح أن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال و إن لم یکن له شیوع باعتبار

ص :171

معناه الموضوع له إذن للأعلام الشخصیة و المعرف بلام العهد إطلاق فلا یختص المطلق بما له معنی شائع فی جنسه کاسم الجنس و نحوه .و کذلک عند ما نعرف أن العام لا یسمی مطلقا فلا ینبغی أن نظن أنه لا یجوز أن یسمی مطلقا أبدا لأنا نعرف أن ذلک إنما هو بالنسبة إلی أفراده أما بالنسبة إلی أحوال أفراده غیر المفردة فإنه لا مضایقة فی أن نسمیه مطلقا .إذن لا مانع من شمول تعریف المطلق المتقدم و هو ما دل علی معنی شائع فی جنسه للعام باعتبار أحواله لا باعتبار أفراده .و علی هذا فمعنی المطلق هو شیوع اللفظ و سعته باعتبار ما له من المعنی و أحواله و لکن لا علی أن یکون ذلک الشیوع مستعملا فیه اللفظ کالشیوع المستفاد من وقوع النکرة فی سیاق النفی و إلا کان الکلام عاما لا مطلقا

المسألة الثانیة الإطلاق و التقیید متلازمان

أشرنا إلی أن التقابل بین الإطلاق و التقیید من باب تقابل الملکة و عدمها لأن الإطلاق هو عدم التقیید فیما من شأنه أن یقید فیتبع الإطلاق التقیید فی الإمکان أی أنه إذا أمکن التقیید فی الکلام و فی لسان الدلیل أمکن الإطلاق و لو امتنع استحال الإطلاق بمعنی أنه لا یمکن فرض استکشاف الإطلاق و إرادته من کلام المتکلم فی مورد لا یصح التقیید بل یکون مثل هذا الکلام لا مطلقا و لا مقیدا و إن کان فی الواقع أن المتکلم لا بد أن یرید أحدهما و قد تقدم مثاله فی بحث التوصلی و التعبدی ص 75 إذ قلنا إن امتناع تقیید الأمر بقصد الامتثال یستلزم امتناع إطلاقه بالنسبة إلی هذا القید و ذکرنا هناک کیف یمکن استکشاف إرادة الإطلاق بإطلاق المقام

ص :172

لا بإطلاق الکلام الواحد

المسألة الثالثة الإطلاق فی الجمل

الإطلاق لا یختص بالمفردات کما یظهر من کلمات الأصولیین إذ مثلوا للمطلق باسم الجنس و علم الجنس و النکرة بل یکون فی الجمل أیضا کإطلاق صیغة افعل الذی یقتضی استفادة الوجوب العینی و التعیینی و النفسی فإن الإطلاق فیها إنما هو من نوع إطلاق الجملة و مثله إطلاق الجملة الشرطیة فی استفادة الانحصار فی الشرط .و لکن محل البحث فی المسائل الآتیة خصوص الألفاظ المفردة و لعل عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار أن لیس هناک ضابط کلی لمطلقاتها و إن کان الأصح أن بحث مقدمات الحکمة یشملها و قد بحث عن إطلاق بعض الجمل فی مناسباتها کإطلاق صیغة افعل و الجملة الشرطیة و نحوها

المسألة الرابعة هل الإطلاق بالوضع
اشارة

لا شک فی أن الإطلاق فی الأعلام بالنسبة إلی الأحوال کما تقدمت الإشارة إلیه لیس بالوضع بل إنما یستفاد من مقدمات الحکمة .و کذلک إطلاق الجمل و ما شابهها أیضا لیس بالوضع بل بمقدمات الحکمة و هذا لا خلاف فیه .و إنما الذی وقع فیه البحث هو أن الإطلاق فی أسماء الأجناس و ما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدمات الحکمة أی أن أسماء الأجناس هل هی موضوعة لمعانیها بما هی شائعة و مرسلة علی وجه یکون الإرسال أی الإطلاق مأخوذا فی المعنی الموضوع له اللفظ کما نسب إلی المشهور من القدماء

ص :173

قبل سلطان العلماء أو أنها موضوعة لنفس المعانی بما هی و الإطلاق یستفاد من دال آخر و هو نفس تجرد اللفظ من القید إذا کانت مقدمات الحکمة متوفرة فیه و هذا القول الثانی أول من صرح به فیما نعلم سلطان العلماء فی حاشیته علی معالم الأصول و تبعه جمیع من تأخر عنه إلی یومنا هذا .و علی القول الأول یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا و علی القول الثانی یکون حقیقة .و الحق ما ذهب إلیه سلطان العلماء بل قیل إن نسبة القول الأول إلی المشهور مشکوک فیها و لتوضیح هذا القول و تحقیقه ینبغی بیان أمور ثلاثة تنفع فی هذا الباب (1) و فی غیر هذا الباب و بها تکشف للطالب ما وقع للعلماء الأعلام من اختلاف فی التعبیر بل فی الرأی و النظر و هذه الأمور التی ینبغی بیانها هی کما یلی

1 اعتبارات الماهیة

المشهور أن للماهیة ثلاثة اعتبارات إذا قیست إلی ما هو خارج عن ذاتها کما إذا قیست الرقبة إلی الإیمان عند الحکم علیها بحکم ما کوجوب العتق و هی 1 أن تعتبر الماهیة مشروطة بذلک الأمر الخارج و تسمی حینئذ الماهیة بشرط شیء کما إذا کان یجب عتق الرقبة المؤمنة أی بشرط کونها مؤمنة .

ص :174


1- وقد اضطررنا إلی الخروج عن الطریقة التی رسمناها لانفسنا فی هذا الکتاب فی الاختصار. ونعتقد أن الطالب المبتدئ الذی ینتهی إلی هنا یکون علی استعداد کاف لفهم هذه الابحاث. واضطررنا لهذا البحث باعتبار ماله من حاجة ماسة فی فهم الطالب لکثیر من الابحاث التی قد ترد علیه فیما یأتی.

2 أن تعتبر مشروطة بعدمه و تسمی الماهیة بشرط لا (1)کما إذا کان القصر واجبا فی الصلاة علی المسافر غیر العاصی فی سفره أی بشرط عدم کونه عاصیا لله فی سفره فأخذ عدم العصیان قیدا فی موضوع الحکم .3 ألا تعتبر مشروطة بوجوده و لا بعدمه و تسمی الماهیة لا بشرط کوجوب الصلاة علی الإنسان باعتبار کونه حرا مثلا فإن الحریة غیر معتبرة لا بوجودها و لا بعدمها فی وجوب الصلاة لأن الإنسان بالنظر إلی الحریة فی وجوب الصلاة علیه غیر مشروط بالحریة و لا بعدمها فهو لا بشرط بالقیاس إلیها .و یسمی هذا الاعتبار الثالث اللابشرط القسمی فی قبال اللابشرط المقسمی الآتی ذکره و إنما سمی قسمیا لأنه قسم فی مقابل القسمین الأولیین أی البشرط شیء و البشرط لا و هذا ظاهر لا بحث فیه .ثم إن لهم اصطلاحین آخرین معروفین 1 قولهم الماهیة المهملة .2 قولهم الماهیة لا بشرط مقسمی .أ فهذان اصطلاحان و تعبیران لمدلول واحد أو هما اصطلاحان مختلفان فی المعنی .و الذی یلجئنا إلی هذا الاستفسار ما وقع من الارتباک فی التعبیر عند کثیر من مشایخنا الأعلام فقد یظهر من بعضهم أنهما اصطلاحان لمعنی واحد کما هو ظاهر کفایة الأصول تبعا لبعض الفلاسفة الأجلاء .

ص :175


1- وقد تقال (الماهیة بشرط لا شئ) ویقصدون بذلک الماهیة المجردة علی وجه یکون کل ما یقارنها یعتبر زائدا علیها.

و لکن التحقیق لا یساعد علی ذلک بل هما اصطلاحان مختلفان و هذا جوابنا علی الاستفسار .و توضیح ذلک أنه من المتسالم علیه الذی لا اختلاف فیه و لا اشتباه أمران الأول أن المقصود من الماهیة المهملة الماهیة من حیث هی أی نفس الماهیة بما هی مع قطع النظر عن جمیع ما عداها فیقتصر النظر علی ذاتها و ذاتیاتها .الثانی أن المقصود من الماهیة لا بشرط مقسمی الماهیة المأخوذة لا بشرط التی تکون مقسما للاعتبارات الثلاثة المتقدمة و هی أی الاعتبارات الثلاثة الماهیة بشرط شیء و بشرط لا و لا بشرط قسمی و من هنا سمی مقسما و إذا ظهر ذلک فلا یصح أن یدعی أن الماهیة بما هی تکون بنفسها مقسما للاعتبارات الثلاثة و ذلک لأن الماهیة لا تخلو من حالتین و هذا أن ینظر إلیها بما هی هی غیر مقیسة إلی ما هو خارج عن ذاتها و أن ینظر إلیها مقیسة إلی ما هو خارج عن ذاتها و لا ثالث لهما .و فی الحالة الأولی تسمی الماهیة المهملة کما هو مسلم و فی الثانیة لا یخلو حالها من أحد الاعتبارات الثلاثة و علی هذا فالملاحظة الأولی مباینة لجمیع الاعتبارات الثلاثة و تکون قسیمة لها فکیف یصح أن تکون مقسما لها و لا یصح أن یکون الشیء مقسما لاعتبارات نقیضه لأن الماهیة من حیث هی کما اتضح معناها ملاحظتها غیر مقیسة إلی الغیر و الاعتبارات الثلاثة ملاحظتها مقیسة إلی الغیر .علی أن اعتبار الماهیة غیر مقیسة اعتبار ذهنی له وجود مستقل فی الذهن فکیف یکون مقسما لوجودات ذهنیة أخری مستقلة و المقسم یجب أن یکون

ص :176

موجودا بوجود أحد أقسامه و لا یعقل أن یکون له وجود فی مقابل وجودات الأقسام و إلا کان قسیما لها لا مقسما .و علیه فنحن نسلم أن الماهیة المهملة معناها اعتبارها لا بشرط و لکن لیس هو المصطلح علیه باللابشرط المقسمی فإن لهم فی لا بشرط علی هذا ثلاثة اصطلاحات 1 لا بشرط أی شیء خارج عن الماهیة و ذاتیاتها و هی الماهیة بما هی هی التی یقصر فیها النظر علی ذاتها و ذاتیاتها و هی الماهیة المهملة .2 لا بشرط مقسمی و هو الماهیة التی تکون مقسما للاعتبارات الثلاثة أی الماهیة المقیسة إلی ما هو خارج عن ذاتها و المقصود بلا بشرط هنا لا بشرط شیء من الاعتبارات الثلاثة أی لا بشرط اعتبار البشرط شیء و اعتبار البشرط لا و اعتبار اللابشرط لا أن المراد بلا بشرط هنا لا بشرط مطلقا من کل قید و حیثیة و لیس هذا اعتبارا ذهنیا فی قبال هذه الاعتبارات بل لیس له وجود فی عالم الذهن إلا بوجود واحد من هذه الاعتبارات و لا تعین له مستقل غیر تعیناتها و إلا لما کان مقسما .3 لا بشرط قسمی و هو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهیة المقیسة إلی ما هو خارج عن ذاتها .فاتضح أن الماهیة المهملة شیء و اللابشرط المقسمی شیء آخر کما اتضح أیضا أن الثانی لا معنی لأن یجعل من اعتبارات الماهیة علی وجه یثبت حکم للماهیة باعتباره أو یوضح له لفظ بحسبه

2 اعتبار الماهیة عند الحکم علیها

و اعلم أن الماهیة إذا حکم علیها فإما أن یحکم علیها بذاتیاتها و إما أن یحکم علیها بأمر خارج عنها و لا ثالث لهما .

ص :177

و علی الأول فهو علی صورتین 1 أن یکون الحکم بالحمل الأولی و ذلک فی الحدود التامة خاصة 2 أن یکون بالحمل الشائع و ذلک عند الحکم علیها ببعض ذاتیاتها کالجنس وحده أو الفصل وحده و علی کلا الصورتین فإن النظر إلی الماهیة مقصور علی ذاتیاتها غیر متجاوز فیه إلی ما هو خارج عنها و هذا لا کلام فیه .و علی الثانی فإنه لا بد من ملاحظتها مقیسة إلی ما هو خارج عنها فتخرج بذلک عن مقام ذاتها وحدها من حیث هی أی عن تقررها الذاتی الذی لا ینظر فیه إلا إلی ذاتها و ذاتیاتها و هذا واضح لأن قطع النظر عن کل ما عداها لا یجتمع مع الحکم علیها بأمر خارج عن ذاتها لأنهما متناقضان .و علیه لو حکم علیها بأمر خارج عنها و قد لوحظت مقیسة إلی هذا الغیر فلا بد أن تکون معتبرة بأحد الاعتبارات الثلاثة المتقدمة إذ یستحیل أن یخلو الواقع من أحدها کما تقدم و لا معنی لاعتبارها باللابشرط المقسمی لما تقدم أنه لیس هو تعینا مستقلا فی قبال تلک التعینات بل هو مقسم لها .ثم إن هذا الغیر أی الأمر الخارج عن ذاتها الذی لوحظت الماهیة مقیسة إلیه لا یخلو إما أن یکون نفس المحمول أو شیئا آخر فإن کان هو المحمول فیتعین أن تؤخذ الماهیة بالقیاس إلیه لا بشرط قسمی لعدم صحة الاعتبارین الآخرین أما أخذها بشرط شیء أی بشرط المحمول فلا یصح ذلک دائما لأنه یلزم أن تکون القضیة ضروریة دائما لاستحالة انفکاک المحمول عن الموضوع بشرط المحمول علی أن أخذ المحمول فی الموضوع یلزم منه حمل الشیء علی نفسه و تقدمه علی نفسه و هو مستحیل إلا إذا کان هناک تغایر بحسب

ص :178

الاعتبار کحمل الحیوان الناطق علی الإنسان فإنهما متغایران باعتبار الإجمال و التفصیل .و أما أخذها بشرط لا أی بشرط عدم المحمول فلا یصح لأنه یلزم التناقض فإن الإنسان بشرط عدم الکتابة یستحیل حمل الکتابة علیه .و إن کان هذا الغیر الخارج هو غیر المحمول فیجوز أن تکون الماهیة حینئذ مأخوذة بالقیاس إلیه بشرط شیء کجواز تقلید المجتهد بشرط العدالة أو بشرط لا کوجوب صلاة الظهر یوم الجمعة بشرط عدم وجود الإمام أو لا بشرط کجواز السلام علی المؤمن مطلقا بالقیاس إلی العدالة مثلا أی لا بشرط وجودها و لا بشرط عدمها کما یجوز أن تکون مهملة غیر مقیسة إلی شیء غیر محمولها .و لکن قد یستشکل فی کل ذلک بأن هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارات ذهنیة لا موطن لها إلا الذهن فلو تقیدت الماهیة بأحدها عند ما تؤخذ موضوعا للحکم للزم أن تکون جمیع القضایا ذهنیة عدا حمل الذاتیات التی قد اعتبرت فیها الماهیة من حیث هی و لبطلت القضایا الخارجیة و الحقیقیة مع أنها عمدة القضایا بل لاستحال فی التکالیف الامتثال لأن ما هو موطنه الذهن یمتنع إیجاده فی الخارج .و هذا الإشکال وجیه لو کان الحکم علی الموضوع بما هو معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة علی وجه یکون الاعتبار قیدا فی الموضوع أو نفسه هو الموضوع و لکن لیس الأمر کذلک فإن الموضوع فی کل تلک القضایا هو ذات الماهیة المعتبرة و لکن لا بقید الاعتبار بمعنی أن الموضوع فی بشرط شیء الماهیة المقترنة بذلک الشیء لا المقترنة بلحاظه و اعتباره و فی بشرط لا الماهیة المقترنة بعدمه لا بلحاظ عدمه و فی لا بشرط الماهیة غیر الملاحظ

ص :179

معها الشیء و لا عدمه لا الملاحظة بعدم لحاظ الشیء و عدمه و إلا لکانت الماهیة معتبرة فی الجمیع بشرط شیء فقط أی بشرط اللحاظ و الاعتبار .نعم هذه الاعتبارات هی المصححة لموضوعیة الموضوع علی الوجه اللازم الذی یقتضیه واقع الحکم لا أنها مأخوذة قیدا فیه حتی تکون جمیع القضایا ذهنیة و لو کان الأمر کذلک لکان الحکم بالذاتیات أیضا قضیة ذهنیة لأن اعتبار الماهیة من حیث هی أیضا اعتبار ذهنی .و مما یقرب ما قلناه من کون الاعتبار مصححا لموضوعیة الموضوع لا مأخوذا فیه مع أنه لا بد منه عند الحکم بشیء أن کل موضوع و محمول لا بد من تصوره فی مقام الحمل و إلا لاستحال الحمل و لکن هذه اللابدیة لا تجعل التصور قیدا للموضوع أو المحمول و إنما التصور هو المصحح للحمل و بدونه لا یمکن الحمل .و کذلک عند استعمال اللفظ فی معناه لا بد من تصور اللفظ و المعنی و لکن التصور لیس قیدا للفظ و لا للمعنی فلیس اللفظ دالا بما هو متصور فی الذهن و إن کانت دلالته فی ظرف التصور و لا المعنی مدلولا بما هو متصور و إن کانت مدلولیته فی ظرف تصوره و یستحیل أن یکون التصور قیدا للفظ أو المعنی و مع ذلک لا یصح الاستعمال بدونه فالتصور مقوم للاستعمال لا للمستعمل فیه و لا للفظ و کذلک هو مقوم للحمل و مصحح له لا للمحمول و لا للمحمول علیه .و علی هذا یتضح ما نحن بصدد بیانه و هو أنه إذا أردنا أن نضع اللفظ للمعنی لا یعقل أن نقصر اللحاظ علی ذات المعنی بما هو هو مع قطع النظر عن کل ما عداه لأن الوضع من المحمولات الواردة علیه فلا بد أن یلاحظ المعنی حینئذ مقیسا إلی ما هو خارج عن ذاته فقد یؤخذ بشرط

ص :180

شیء و قد یؤخذ بشرط لا و قد یؤخذ لا بشرط و لا یلزم أن یکون الموضوع له هو المعنی بما له من الاعتبار الذهنی بل الموضوع له نفس المعتبر و ذاته لا بما هو معتبر و الاعتبار مصحح للوضع .

3 الأقوال فی المسألة

قلنا فیما سبق أن المعروف عن قدماء الأصحاب أنهم یقولون بأن أسماء الأجناس موضوعة للمعانی المطلقة علی وجه یکون الإطلاق قیدا للموضوع له فلذلک ذهبوا إلی أن استعماله فی المقید مجاز و قد صور هذا القول علی نحوین الأول أن الموضوع له المعنی بشرط الإطلاق علی وجه یکون اعتباره من باب اعتباره بشرط شیء .الثانی أن الموضوع له المعنی المطلق أی المعتبر لا بشرط .و قد أورد علی هذا القول بتصویریه کما تقدم بأنه یلزم علی کلا التصویرین أن یکون الموضوع له موجودا ذهنیا فتکون جمیع القضایا ذهنیة فلو جعل اللفظ بما له من معناه موضوعا فی القضیة الخارجیة أو الحقیقیة وجب تجریده عن هذا القید الذهنی فیکون مجازا دائما فی القضایا المتعارفة و هذا یکذبه الواقع .و لکن نحن قلنا إن هذا الإیراد إنما یتوجه إذا جعل الاعتبار قیدا فی الموضوع له أما لو جعل الاعتبار مصححا للوضع فلا یلزم هذا الإیراد کما سبق .هذا قول القدماء و أما المتأخرون ابتداء من سلطان العلماء رحمه الله فإنهم جمیعا اتفقوا علی أن الموضوع له ذات المعنی لا المعنی المطلق حتی

ص :181

لا یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا و هذا القول بهذا المقدار من البیان واضح و لکن العلماء من أساتذتنا اختلفوا فی تأدیة هذا المعنی بالعبارات الفنیة مما أوجب الارتباک علی الباحث و إغلاق طریق البحث فی المسألة .لذلک التجأنا إلی تقدیم المقدمتین السابقتین لتوضیح هذه الاصطلاحات و التعبیرات الفنیة التی وقعت فی عباراتهم و اختلفوا فیها علی أقوال 1 منهم من قال إن الموضوع له هو الماهیة المهملة المبهمة أی الماهیة من حیث هی .2 و منهم من قال إن الموضوع له الماهیة المعتبرة باللابشرط المقسمی .3 و منهم من جعل التعبیر الأول نفس التعبیر الثانی .4 و منهم من قال إن الموضوع له ذات المعنی لا الماهیة المهملة و لا الماهیة المعتبرة باللابشرط المقسمی و لکنه ملاحظ حین الوضع باعتبار اللابشرط القسمی علی أن یکون هذا الاعتبار مصححا للموضوع لا قیدا للموضوع له و علیه یکون هذا القول نفس قول القدماء علی التصویر الثانی إلا أنه لا یلزم منه أن یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا .و لکن المنسوب إلی القدماء أنهم یقولون بأنه مجاز فی المقید فینحصر قولهم فی التصویر الأول علی تقدیر صحة النسبة إلیهم .و یتضح حال هذه التعبیرات أو الأقوال من المقدمتین السابقتین فإنه یعرف منهما أولا أن الماهیة بما هی هی غیر الماهیة باعتبار اللابشرط المقسمی لأن النظر فیها علی الأول مقصور علی ذاتها و ذاتیاتها بخلافه علی الثانی إذ تلاحظ مقیسة إلی الغیر و بهذا یظهر بطلان القول الثالث .ثانیا أن الوضع حکم من الأحکام و هو محمول علی الماهیة خارج

ص :182

عن ذاتها و ذاتیاتها فلا یعقل أن یلاحظ الموضوع له بنحو الماهیة بما هی هی لأنه لا تجتمع ملاحظتها مقیسة إلی الغیر و ملاحظتها مقصورة علی ذاتها و ذاتیاتها و بهذا یظهر بطلان القول الأول .ثالثا أن اللابشرط المقسمی لیس اعتبارا مستقلا فی قبال الاعتبارات الثلاثة لأن المفروض أنه مقسم لها و لا تحقق للمقسم إلا بتحقق أحد أنواعه کما تقدم فکیف یتصور أن یحکم باعتبار اللابشرط المقسمی بل لا معنی لهذا علی ما تقدم توضیحه و بهذا یظهر بطلان القول الثانی .فتعین القول الرابع و هو أن الموضوع له ذات المعنی و لکنه حین الوضع یلاحظ المعنی بنحو اللابشرط القسمی و هو یطابق القول المنسوب إلی القدماء علی التصویر الثانی کما أشرنا إلیه فلا اختلاف و یقع التصالح بین القدماء و المتأخرین إذا لم یثبت عن القدماء أنهم یقولون إنه مجاز فی المقید و هو مشکوک فیه .بیان هذا القول الرابع أن ذات المعنی لما أراد الواضع أن یحکم علیه بوضع لفظ له فمعناه أنه قد لاحظه مقیسا إلی الغیر فهو فی هذا الحال لا یخرج عن کونه معتبرا بأحد الاعتبارات الثلاثة للماهیة و إذ یراد تسریة الوضع لذات المعنی بجمیع أطواره و حالاته و قیوده لا بد أن یعتبر علی نحو اللابشرط القسمی و لا منافاة بین کون الموضوع له ذات المعنی و بین کون ذات المعنی ملحوظا فی مرحلة الوضع بنحو اللابشرط القسمی لأن هذا اللحاظ و الاعتبار الذهنی کما تقدم صرف طریق إلی الحکم علی ذات المعنی و هو المصحح للموضوع له و حین الاستعمال فی ذات المعنی لا یجب أن یکون المعنی ملحوظا بنحو اللابشرط القسمی بل یجوز أن یعتبر بأی اعتبار کان ما دام الموضوع له ذات المعنی فیجوز فی مرحلة الاستعمال أن یقصر النظر علی نفسه و یلاحظه بما هو هو و یجوز أن یلاحظه مقیسا إلی الغیر

ص :183

فیعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة و ملاحظة ذات المعنی بنحو اللابشرط القسمی حین الوضع تصحیحا له لا توجب أن تکون قیدا للموضوع له .و علیه فلا یکون الموضوع له موجودا ذهنیا إذا کان له اعتبار اللابشرط القسمی حین الوضع لأنه لیس الموضوع له هو المعتبر بما هو معتبر بل ذات المعتبر کما أن استعماله فی المقید لا یکون مجازا لما تقدم أنه یجوز أن یلاحظ ذات المعنی حین الاستعمال مقیسا إلی الغیر فیعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة التی منها اعتباره بشرط شیء و هو المقید

المسألة الخامسة مقدمات الحکمة
اشارة

لما ثبت أن الألفاظ موضوعة لذات المعانی لا للمعانی بما هی مطلقة فلا بد فی إثبات أن المقصود من اللفظ هو المطلق لتسریة الحکم إلی تمام الأفراد و المصادیق من قرینة خاصة أو قرینة عامة تجعل الکلام فی نفسه ظاهرا فی إرادة الإطلاق .و هذه القرینة العامة إنما تحصل إذا توفرت جملة مقدمات تسمی مقدمات الحکمة و المعروف أنها ثلاث الأولی إمکان الإطلاق و التقیید بأن یکون متعلق الحکم أو موضوعه قبل فرض تعلق الحکم به قابلا للانقسام فلو لم یکن قابلا للقسمة إلا بعد فرض تعلق الحکم به کما فی باب قصد القربة فإنه یستحیل فیه التقیید فیستحیل فیه الإطلاق کما تقدم فی بحث التعبدی و التوصلی و هذا واضح .الثانیة عدم نصب قرینة علی التقیید لا متصلة و لا منفصلة لأنه مع القرینة المتصلة لا ینعقد ظهور للکلام إلا فی المقید و مع المنفصلة

ص :184

ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق و لکنه یسقط عن الحجیة لقیام القرینة المقدمة علیه و الحاکمة فیکون ظهوره ظهورا بدویا کما قلنا فی تخصیص العموم بالخاص المنفصل و لا تکون للمطلق الدلالة التصدیقیة الکاشفة عن مراد المتکلم بل الدلالة التصدیقیة إنما هی علی إرادة التقیید واقعا .الثالثة أن یکون المتکلم فی مقام البیان فإنه لو لم یکن فی هذا المقام بأن کان فی مقام التشریع فقط أو کان فی مقام الإهمال إما رأسا أو لأنه فی صدد بیان حکم آخر فیکون فی مقام الإهمال من جهة مورد الإطلاق و سیأتی مثاله فإنه فی کل ذلک لا ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق أما فی مقام التشریع بأن کان فی مقام بیان الحکم لا للعمل به فعلا بل لمجرد تشریعه فیجوز ألا یبین تمام مراده مع أن الحکم فی الواقع مقید بقید لم یذکره فی بیانه انتظارا لمجیء وقت العمل فلا یحرز أن المتکلم فی صدد بیان جمیع مراده و کذلک إذا کان المتکلم فی مقام الإهمال رأسا فإنه لا ینعقد معه ظهور فی الإطلاق کما لا ینعقد للکلام ظهور فی أی مرام و مثله ما إذا کان فی صدد حکم آخر مثل قوله تعالی فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ الوارد فی مقام بیان حل صید الکلاب المعلمة من جهة کونه میتة و لیس هو فی مقام بیان مواضع الإمساک أنها تتنجس فیجب تطهیرها أم لا فلم یکن هو فی مقام بیان هذه الجهة فلا ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق من هذه الجهة .و لو شک فی أن المتکلم فی مقام البیان أو الإهمال فإن الأصل العقلائی یقتضی بأن یکون فی مقام البیان فإن العقلاء کما یحملون المتکلم علی أنه ملتفت غیر غافل و جاد غیر هازل عند الشک فی ذلک کذلک یحملونه علی أنه فی مقام البیان و التفهیم لا فی مقام الإهمال و الإیهام .

ص :185

و إذا تمت هذه المقدمات الثلاث فإن الکلام المجرد عن القید یکون ظاهرا فی الإطلاق و کاشفا عن أن المتکلم لا یرید المقید و إلا لو کان قد أراده واقعا لکان علیه البیان و المفروض أنه حکیم ملتفت جاد غیر هازل و هو فی مقام البیان و لا مانع من التقیید حسب الفرض و إذا لم یبین و لم یقید کلامه فیعلم أنه أراد الإطلاق و إلا لکان مخلا بغرضه .فاتضح من ذلک أن کل کلام صالح للتقیید و لم یقیده المتکلم مع کونه حکیما ملتفتا جادا و فی مقام البیان و التفهیم فإنه یکون ظاهرا فی الإطلاق و یکون حجة علی المتکلم و السامع .

تنبیهان
القدر المتیقن فی مقام التخاطب

الأول(أن الشیخ المحقق صاحب الکفایة قدس سره أضاف إلی مقدمات الحکمة مقدمة أخری غیر ما تقدم و هی ألا یکون هناک قدر متیقن فی مقام التخاطب و المحاورة و إن کان لا یضر وجود القدر المتیقن خارجا فی التمسک بالإطلاق و مرجع ذلک إلی أن وجود القدر المتیقن فی مقام المحاورة یکون بمنزلة القرینة اللفظیة علی التقیید فلا ینعقد للفظ ظهور فی الإطلاق مع فرض وجوده) و لتوضیح البحث نقول إن کون المتکلم فی مقام البیان یتصور علی نحوین 1 أن یکون المتکلم فی صدد بیان تمام موضوع حکمه بأن یکون غرض المتکلم یتوقف علی أن یبین للمخاطب و یفهمه ما هو تمام الموضوع

ص :186

و أن ما ذکره هو تمام موضوعه لا غیره .2 أن یکون المتکلم فی صدد بیان تمام موضوع الحکم واقعا و لو لم یفهم المخاطب أنه تمام الموضوع فلیس له غرض إلا بیان ذات موضوع الحکم بتمامه حتی یحصل من المکلف الامتثال و إن لم یفهم المکلف تفصیل الموضوع بحدوده .فإن کان المتکلم فی مقام البیان علی النحو الأول فلا شک فی أن وجود القدر المتیقن فی مقام المحاورة لا یضر فی ظهور المطلق فی إطلاقه فیجوز التمسک بالإطلاق لأنه لو کان القدر المتیقن المفروض هو تمام الموضوع لوجب بیانه و ترک البیان اتکالا علی وجود القدر المتیقن إخلال بالغرض لأنه لا یکون مجرد ذلک بیانا لکونه تمام الموضوع .و إن کان المتکلم فی مقام البیان علی النحو الثانی فإنه یجوز أن یکتفی بوجود القدر المتیقن فی مقام التخاطب لبیان تمام موضوعه واقعا ما دام أنه لیس له غرض إلا أن یفهم المخاطب ذات الموضوع بتمامه لا بوصف التمام أی أن یفهم ما هو تمام الموضوع بالحمل الشائع و بذلک یحصل التبلیغ للمکلف و یمتثل فی الموضوع الواقعی لأنه هو المفهوم عنده فی مقام المحاورة و لا یجب فی مقام الامتثال أن یفهم أن الذی فعله هو تمام الموضوع أو الموضوع أعم منه و من غیره .مثلا لو قال المولی اشتر اللحم و کان القدر المتیقن فی مقام المحاورة هو لحم الغنم و کان هو تمام موضوعه واقعا فإن وجود هذا القدر المتیقن کاف لانبعاث المکلف و شرائه للحم الغنم فیحصل موضوع حکم المولی فلو أن المولی لیس له غرض أکثر من تحقیق موضوع حکمه فیجوز له الاعتماد علی القدر المتیقن لتحقیق غرضه و لبیانه

ص :187

و لا یحتاج إلی أن یبین أنه تمام الموضوع أما لو کان غرضه أکثر من ذلک بأن کان غرضه أن یفهم المکلف تحدید الموضوع بتمامه فلا یجوز له الاعتماد علی القدر المتیقن و إلا لکان مخلا بغرضه فإذا لم یبین و أطلق الکلام استکشف أن تمام موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتیقن و غیره .إذا عرف هذا التقریر فینبغی أن نبحث عما ینبغی للأمر أن یکون بصدد بیانه هل إنه علی النحو الأول أو الثانی .و الذی یظهر من الشیخ صاحب الکفایة أنه لا ینبغی من الأمر أکثر من النحو الثانی نظرا إلی أنه إذا کان بصدد بیان موضوع حکمه حقیقة کفاه ذلک لتحصیل مطلوبه و هو الامتثال و لا یجب علیه مع ذلک بیان أنه تمام الموضوع .نعم إذا کان هناک قدر متیقن فی مقام المحاورة و کان تمام الموضوع هو المطلق فقد یظن المکلف أن القدر المتیقن هو تمام الموضوع و أن المولی أطلق کلامه اعتمادا علی وجوده فإن المولی دفعا لهذا الوهم یجب علیه أن یبین أن المطلق هو تمام موضوعه و إلا کان مخلا بغرضه .و من هذا ینتج أنه إذا کان هناک قدر متیقن فی مقام المحاورة و أطلق المولی و لم یبین أنه تمام الموضوع فإنه یعرف منه أن موضوعه هو القدر المتیقن .هذا خلاصة ما ذهب إلیه فی الکفایة مع تحقیقه و توضیحه و لکن شیخنا النائینی رحمه الله علی ما یظهر من التقریرات لم یرتضیه و الأقرب إلی الصحة ما فی الکفایة و لا نطیل بذکر هذه المناقشة و الجواب عنها

ص :188

الانصراف

التنبیه الثانی اشتهر أن انصراف الذهن من اللفظ إلی بعض مصادیق معناه أو بعض أصنافه یمنع من التمسک بالإطلاق و إن تمت مقدمات الحکمة مثل انصراف المسح فی آیتی التیمم و الوضوء إلی المسح بالید و بباطنها خاصة .و الحق أن یقال إن انصراف الذهن إن کان ناشئا من ظهور اللفظ فی المقید بمعنی أن نفس اللفظ ینصرف منه المقید لکثرة استعماله فیه و شیوع إرادته منه فلا شک فی أنه حینئذ لا مجال للتمسک بالإطلاق لأن هذا الظهور یجعل اللفظ بمنزلة المقید بالتقیید اللفظی و معه لا ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق حتی یتمسک بأصالة الإطلاق التی هی مرجعها فی الحقیقة إلی أصالة الظهور .و أما إذا کان الانصراف غیر ناشئ من اللفظ بل کان من سبب خارجی کغلبة وجود الفرد المنصرف إلیه أو تعارف الممارسة الخارجیة له فیکون مألوفا قریبا إلی الذهن من دون أن یکون للفظ تأثیر فی هذا الانصراف کانصراف الذهن من لفظ الماء فی العراق مثلا إلی ماء دجلة أو الفرات فالحق أنه لا أثر لهذا الانصراف فی ظهور اللفظ فی إطلاقه فلا یمنع من التمسک بأصالة الإطلاق لأن هذا الانصراف قد یجتمع مع القطع بعدم إرادة المقید بخصوصه من اللفظ و لذا یسمی هذا الانصراف باسم الانصراف البدوی لزواله عند التأمل و مراجعة الذهن .و هذا کله واضح لا ریب فیه و إنما الشأن فی تشخیص الانصراف أنه من أی النحوین فقد یصعب التمییز أحیانا بینهما للاختلاط علی الإنسان

ص :189

فی منشإ هذا الانصراف و ما أسهل دعوی الانصراف علی لسان غیر المتثبت و قد لا یسهل إقامة الدلیل علی أنه من أی نوع .فعلی الفقیه أن یتثبت فی مواضع دعوی الانصراف و هو یحتاج إلی ذوق عال و سلیقة مستقیمة و قلما تخلو آیة کریمة أو حدیث شریف فی مسألة فقهیة عن انصرافات تدعی و هنا تظهر قیمة التضلع باللغة و فقهها و آدابها و هو باب یکثر الابتلاء به و له الأثر الکبیر فی استنباط الأحکام من أدلتها .أ لا تری أن المسح فی الآیتین ینصرف إلی المسح بالید و کون هذا الانصراف مستندا إلی اللفظ لا شک فیه و ینصرف أیضا إلی المسح بخصوص باطن الید و لکن قد یشک فی کون هذا الانصراف مستندا إلی اللفظ فإنه غیر بعید أنه ناشئ من تعارف المسح بباطن الید لسهولته و لأنه مقتضی طبع الإنسان فی مسحه و لیس له علاقة باللفظ و لذا أن جملة من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر الید عند تعذر المسح بباطنها تمسکا بإطلاق الآیة و لا معنی للتمسک بالإطلاق لو کان للفظ ظهور فی المقید و أما عدم تجویزهم للمسح بظاهر الید عند الاختیار فلعله للاحتیاط إذ إن المسح بالباطن هو القدر المتیقن و المفروض حصول الشک فی کون هذا الانصراف بدویا فلا یطمأن کل الاطمئنان بالتمسک بالإطلاق عند الاختیار و طریق النجاة هو الاحتیاط بالمسح بالباطن

المسألة السادسة المطلق و المقید المتنافیان

معنی التنافی بین المطلق و المقید أن التکلیف فی المطلق لا یجتمع و التکلیف فی المقید مع فرض المحافظة علی ظهورهما معا أی أنهما یتکاذبان فی ظهورهما مثل قول الطبیب مثلا اشرب لبنا ثم یقول اشرب لبنا

ص :190

حلوا و ظاهر الثانی تعیین شرب الحلو منه و ظاهر الأول جواز شرب غیر الحلو حسب إطلاقه .و إنما یتحقق التنافی بین المطلق و المقید إذا کان التکلیف فیهما واحدا کالمثال المتقدم فلا یتنافیان لو کان التکلیف فی أحدهما معلقا علی شیء و فی الآخر معلقا علی شیء آخر کما إذا قال الطبیب فی المثال إذا أکلت فاشرب لبنا و عند الاستیقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا و کذلک لا یتنافیان لو کان التکلیف فی المطلق التزامیا و فی المقید علی نحو الاستحباب ففی المثال لو وجب أصل شرب اللبن فإنه لا ینافیه رجحان الحلو منه باعتبار أحد أفراد الواجب و کذا لا یتنافیان لو فهم من التکلیف فی المقید أنه تکلیف فی وجود ثان غیر المطلوب من التکلیف الأول کما إذا فهم فی المقید فی المثال طلب شرب اللبن الحلو ثانیا بعد شرب لبن ما .إذا فهمت ما سقناه لک من معنی التنافی فنقول لو ورد فی لسان الشارع مطلق و مقید متنافیان سواء تقدم أو تأخر و سواء کان مجیء المتأخر بعد وقت العمل بالمتقدم أو قبله فإنه لا بد من الجمع بینهما إما بالتصرف فی ظهور المطلق فیحمل علی المقید أو بالتصرف فی المقید علی وجه لا ینافی الإطلاق فیبقی ظهور المطلق علی حاله .و ینبغی البحث هنا فی أنه أی التصرفین أولی بالأخذ فنقول هذا یختلف باختلاف الصور فیهما فإن المطلق و المقید إما أن یکونا مختلفین فی الإثبات أو النفی و إما أن یکونا متفقین .الأول أن یکونا مختلفین فلا شک حینئذ فی حمل المطلق علی المقید لأن المقید یکون قرینة علی المطلق فإذا قال اشرب اللبن ثم قال لا تشرب اللبن الحامض فإنه یفهم منه أن المطلوب هو شرب اللبن الحلو و هذا لا یفرق فیه بین أن یکون إطلاق المطلق بدلیا نحو قوله

ص :191

أعتق رقبة و بین أن یکون شمولیا مثل قوله فی الغنم زکاة المقید بقوله لیس فی الغنم المعلوفة زکاة .الثانی أن یکونا متفقین و له مقامان المقام الأول أن یکون الإطلاق بدلیا و المقام الثانی أن یکون شمولیا .فإن کان الإطلاق بدلیا فإن الأمر فیه یدور بین التصرف فی ظاهر المطلق بحمله علی المقید و بین التصرف فی ظاهر المقید و المعروف أن التصرف الأول هو الأولی لأنه لو کانا مثبتین مثل قوله أعتق رقبة مؤمنة فإن المقید ظاهر فی أن الأمر فیه للوجوب التعیینی فالتصرف فیه إما بحمله علی الاستحباب أی أن الأمر بعتق الرقبة المؤمنة بخصوصها باعتبار أنها أفضل الأفراد أو بحمله علی الوجوب التخییری أی أن الأمر بعتق الرقبة المؤمنة باعتبار أنها أحد أفراد الواجب لا لخصوصیة فیها حتی خصوصیة الأفضلیة .و هذان التصرفان و إن کانا ممکنین لکن ظهور المقید فی الوجوب التعیینی مقدم علی ظهور المطلق فی إطلاقه لأن المقید صالح لأن یکون قرینة للمطلق و لعل المتکلم اعتمد علیه فی بیان مرامه و لو فی وقت آخر لا سیما مع احتمال أن المطلق الوارد کان محفوفا بقرینة متصلة غابت عنا فیکون المقید کاشفا عنها .و إن کان الإطلاق شمولیا مثل قوله فی الغنم زکاة و قوله فی الغنم السائمة زکاة فلا تتحقق المنافاة بینهما حتی یجب التصرف فی أحدهما لأن وجوب الزکاة فی الغنم السائمة بمقتضی الجملة الثانیة لا ینافی وجوب الزکاة فی غیر السائمة إلا علی القول بدلالة التوصیف علی المفهوم و قد عرفت أنه لا مفهوم للوصف و علیه فلا منافاة بین الجملتین لنرفع بها عن إطلاق المطلق

ص :192

الباب السابع المجمل و المبین

اشارة

ص :193

ص :194

و فیه مسائل

1 معنی المجمل و المبین

(عرفوا المجمل اصطلاحا بأنه ما لم تتضح دلالته)و یقابله المبین و قد ناقشوا هذا التعریف بوجوه لا طائل فی ذکرها و المقصود من المجمل علی کل حال ما جهل فیه مراد المتکلم و مقصوده إذا کان لفظا و ما جهل فیه مراد الفاعل و مقصوده إذا کان فعلا و مرجع ذلک إلی أن المجمل هو اللفظ أو الفعل الذی لا ظاهر له و علیه یکون المبین ما کان له ظاهر یدل علی مقصود قائله أو فاعله علی وجه الظن أو الیقین فالمبین یشمل الظاهر و النص معا .و من هذا البیان نعرف أن المجمل یشمل اللفظ و الفعل و اصطلاحا و إن قیل إن المجمل اصطلاحا مختص بالألفاظ و من باب التسامح یطلق علی الفعل و معنی کون الفعل مجملا أن یجهل وجه وقوعه کما لو توضأ الإمام علیه السلام مثلا بحضور واحد یتقی منه أو یحتمل أنه یتقیه فیحتمل أن وضوءه وقع علی وجه التقیة فلا یستکشف مشروعیة الوضوء علی الکیفیة التی وقع علیها و یحتمل أنه وقع علی وجه الامتثال للأمر الواقعی فیستکشف منه مشروعیته و مثل ما إذا فعل الإمام شیئا فی الصلاة کجلسة الاستراحة مثلا فلا یدری أن فعله کان علی وجه الوجوب أو الاستحباب فمن هذه الناحیة یکون مجملا و إن کان من ناحیة دلالته علی جواز الفعل فی مقابل الحرمة یکون مبینا .و أما اللفظ فإجماله یکون لأسباب کثیرة قد یتعذر إحصاؤها (1) فإذا

ص :195


1- 1) راجع بحث المغالطات اللفظیة من الجزء الثالث من کتاب المنطق للمؤلف ص 143 تجد ما یعینک علی إحصاء أسباب إجمال اللفظ.

کان مفردا فقد یکون إجماله لکونه لفظا مشترکا و لا قرینة علی أحد معانیه کلفظ عین و کلمة تضرب المشترکة بین المخاطب و الغائبة و المختار المشترک بین اسم الفاعل و اسم المفعول .و قد یکون إجماله لکونه مجازا أو لعدم معرفة عود الضمیر فیه الذی هو من نوع مغالطة المماراة مثل قول القائل لما سئل عن فضل أصحاب النبی صلی اللّٰه علیه و آله فقال من بنته فی بیته و کقول عقیل أمرنی معاویة أن أسب علیا ألا فالعنوه .و قد یکون الإجمال لاختلال الترکیب کقوله و ما مثله فی الناس إلا مملکا أبو أمه حی أبوه یقاربه و قد یکون الإجمال لوجود ما یصلح للقرینة کقوله تعالی مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَی الْکُفّٰارِ الآیة فإن هذا الوصف فی الآیة یدل علی عدالة جمیع من کان مع النبی من أصحابه إلا أن ذیل الآیة وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِیماً صالح لأن یکون قرینة علی أن المراد بجملة و الذین معه بعضهم لا جمیعهم فتصبح الآیة مجملة من هذه الجهة .و قد یکون الإجمال لکون المتکلم فی مقام الإهمال و الإجمال إلی غیر ذلک من موارد الإجمال مما لا فائدة کبیرة فی إحصائه و تعداده هنا .ثم اللفظ قد یکون مجملا عند شخص مبینا عند شخص آخر ثم المبین قد یکون فی نفسه مبینا و قد یکون مبینا بکلام آخر یوضح المقصود منه

ص :196

2 المواضع التی وقع الشک فی إجمالها
اشارة

لکل من المجمل و المبین أمثلة من الآیات و الروایات و الکلام العربی لا حصر لها و لا تخفی علی العارف بالکلام إلا أن بعض المواضع قد وقع الشک فی کونها مجملة أو مبینة و المتعارف عند الأصولیین أن یذکروا بعض الأمثلة من ذلک لشحذ الذهن و التمرین و نحن نذکر بعضها اتباعا لهم و لا تخلو من فائدة للطلاب المبتدءین .فمنها قوله تعالی وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمٰا .فقد ذهب جماعة إلی أن هذه الآیة من المجمل المتشابه إما من جهة لفظ القطع باعتبار أنه یطلق علی الإبانة و یطلق علی الجرح کما یقال لمن جرح یده بالسکین قطعها کما یقال لمن أبانها کذلک و إما من جهة لفظ الید باعتبار أن الید تطلق علی العضو المعروف کله و علی الکف إلی أصول الأصابع و علی العضو إلی الزند و إلی المرفق فیقال مثلا تناولت بیدی و إنما تناول بالکف بل بالأنامل فقط .و الحق أنها من ناحیة لفظ القطع لیست مجملة لأن المتبادر من لفظ القطع هو الإبانة و الفصل و إذا أطلق علی الجرح فباعتبار أنه أبان قسما من الید فتکون المسامحة فی لفظ الید عند وجود القرینة لا أن القطع استعمل فی مفهوم الجرح فیکون المراد فی المثال من الید بعضها کما تقول تناولت بیدی و فی الحقیقة إنما تناولت ببعضها .و أما من ناحیة الید فإن الظاهر أن اللفظ لو خلی و نفسه یستفاد منه إرادة تمام العضو المخصوص و لکنه غیر مراد یقینا فی الآیة فیتردد بین المراتب العدیدة من الأصابع إلی المرافق لأنه بعد فرض عدم إرادة تمام

ص :197

العضو لم تکن ظاهرة فی واحدة من هذه المراتب فتکون الآیة مجملة فی نفسها من هذه الناحیة و إن کانت مبینة بالأحادیث عن آل البیت علیهم السلام الکاشفة عن إرادة القطع من أصول الأصابع .و منها(قوله صلی اللّٰه علیه و آله:لا صلاة إلا بفاتحة الکتاب) و أمثاله من المرکبات التی تشتمل علی کلمة لا التی لنفی الجنس نحو(:لا صلاة إلا بطهور) و(:لا بیع إلا فی ملک) و(:لا صلاة لمن جاره المسجد إلا فی المسجد) و(:لا غیبة لفاسق)و(:لا جماعة فی نافلة)و نحو ذلک .فإن النافی فی مثل هذه المرکبات موجه ظاهرا لنفس الماهیة و الحقیقة .و قالوا إن إرادة نفی الماهیة متعذر فیها فلا بد أن یقدر بطریق المجاز وصف للماهیة هو المنفی حقیقة نحو الصحة و الکمال و الفضیلة و الفائدة و نحو ذلک و لما کان المجاز مرددا بین عدة معان کان الکلام مجملا و لا قرینة فی نفس اللفظ تعین واحدا منها فإن نفی الصحة لیس بأولی من نفی الکمال أو الفضیلة و لا نفی الکمال بأولی من نفی الفائدة و هکذا .و أجاب بعضهم بأن هذا إنما یتم إذا کانت ألفاظ العبادات و المعاملات موضوعة للأعم فلا یمکن فیها نفی الحقیقة و أما إذا قلنا بالوضع للصحیح فلا یتعذر نفی الحقیقة بل هو المتعین علی الأکثر فلا إجمال .و أما فی غیر الألفاظ الشرعیة مثل قولهم لا علم إلا بعمل فمع عدم القرینة یکون اللفظ مجملا إذ یتعذر نفی الحقیقة .أقول و الصحیح فی توجیه البحث أن یقال إن لا فی هذه المرکبات لنفی الجنس فهی تحتاج إلی اسم و خبر علی حسب ما تقتضیه القواعد

ص :198

النحویة و لکن الخبر محذوف حتی فی مثل لا غیبة لفاسق فإن لفاسق ظرف مستقر متعلق بالخبر المحذوف .و هذا الخبر المحذوف لا بد له من قرینة سواء کان کلمة موجود أو صحیح أو مفید أو کامل أو نافع أو نحوها و لیس هو مجازا فی واحد من هذه الأمور التی یصح تقدیرها .و القصد أنه سواء کان المراد نفی الحقیقة أو نفی الصحة و نحوها فإنه لا بد من تقدیر خبر محذوف بقرینة و إنما یکون مجملا إذا تجرد عن القرینة و لکن الظاهر أن القرینة حاصلة علی الأکثر و هی القرینة العامة فی مثله فإن الظاهر من نفی الجنس أن المحذوف فیه هو لفظ موجود و ما بمعناه من نحو لفظ ثابت و متحقق .فإذا تعذر تقدیر هذا اللفظ العام لأی سبب کان فإن هناک قرینة موجودة غالبا و هی مناسبة الحکم و الموضوع فإنها تقتضی غالبا تقدیر لفظ خاص مناسب مثل لا علم إلا بعمل فإن المفهوم منه أنه لا علم نافع و المفهوم من نحو لا غیبة لفاسق لا غیبة محرمة و المفهوم من نحو لا رضاع بعد فطام لا رضاع سائغ و من نحو لا جماعة فی نافلة لا جماعة مشروعة و من نحو لا إقرار لمن أقر بنفسه علی الزنا لا إقرار نافذ أو معتبر و من نحو لا صلاة إلا بطهور بناء علی الوضع للأعم لا صلاة صحیحة و من نحو لا صلاة لحاقن لا صلاة کاملة بناء علی قیام الدلیل علی أن الحاقن لا تفسد صلاته و هکذا .و هذه القرینة و هی قرینة مناسبة الحکم للموضوع لا تقع تحت ضابطة معینة و لکنها موجودة علی الأکثر و یحتاج إدراکها إلی ذوق سلیم .

ص :199

تنبیه و تحقیق

لیس من البعید أن یقال إن المحذوف فی جمیع مواقع لا التی هی لنفی الجنس هو کلمة موجود أو ما هو بمعناها غایة الأمر أنه فی بعض الموارد تقوم القرینة علی عدم إرادة نفی الوجود و التحقق حقیقة فلا بد حینئذ من حملها علی نفی التحقق ادعاء و تنزیلا بأن ننزل الموجود منزلة المعدوم باعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فیه أو المتوقع منه یعنی یدعی أن الموجود الخارجی لیس من أفراد الجنس الذی تعلق به النفی تنزیلا و ذلک لعدم حصول الأثر المطلوب منه فمثل لا علم إلا بعمل معناه أن العلم بلا عمل کلا علم إذ لم تحصل الفائدة المترقبة منه و مثل لا إقرار لمن أقر بنفسه علی الزنا معناه أن إقراره کلا إقرار باعتبار عدم نفوذه علیه و مثل لا سهو لمن کثر علیه السهو معناه أن سهوه کلا سهو باعتبار عدم ترتب آثار السهو علیه من سجود أو صلاة أو بطلان الصلاة .هذا إذا کان النفی من جهة تکوین الشیء و أما إذا کان النفی راجعا إلی عالم التشریع فإن کان النفی متعلقا بالفعل دل نفیه علی عدم ثبوت حکمه فی الشریعة مثل(:لا رهبانیة فی الإسلام) فإن معنی عدم ثبوتها عدم تشریع الرهبانیة و أنه غیر مرخص بها و مثل لا غیبة لفاسق فإن معنی عدم ثبوتها عدم حرمة غیبة الفاسق و کذلک نحو و لا غش فی الإسلام و لا عمل فی الصلاة و لا رفث و لا فسوق و لا جدال فی الحج و لا جماعة فی نافلة فإن کل ذلک معناه عدم مشروعیة هذه الأفعال .و إن کان النفی متعلقة بعنوان یصح انطباقه علی الحکم فیدل النفی علی عدم تشریع حکم ینطبق علیه هذا العنوان کما فی قوله(:لا حرج فی الدین)و(:لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام) .

ص :200

و علی کل حال فإن مثل هذه الجمل و المرکبات لیست مجملة فی حد أنفسها و قد یتفق لها أن تکون مجملة إذا تجردت عن القرینة التی تعین أنها لنفی تحقق الماهیة حقیقة أو لنفیها ادعاء و تنزیلا .و منها مثل قوله تعالی حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهٰاتُکُمْ و قوله تعالی أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الْأَنْعٰامِ مما أسند الحکم فیه کالتحریم و التحلیل إلی العین .فقد قال بعضهم بإجمالها نظرا إلی أن إسناد التحریم و التحلیل لا یصح إلا إلی الأفعال الاختیاریة أما الأعیان فلا معنی لتعلق الحکم بها بل یستحیل و لذا تسمی الأعیان موضوعات للأحکام کما أن الأفعال تسمی متعلقات .و علیه فلا بد أن یقدر فی مثل هذه المرکبات فعل تصح إضافته إلی العین المذکورة فی الجملة و یصح أن یکون متعلقا للحکم ففی مثل الآیة الأولی یقدر کلمة نکاح مثلا و فی الثانیة أکل و فی مثل وَ أَنْعٰامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهٰا یقدر رکوبها و فی مثل اَلنَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّٰهُ یقدر قتلها و هکذا .و لکن الترکیب فی نفسه لیس فیه قرینة علی تعیین نوع المحذوف فیکون فی حد نفسه مجملا فلا یدری فیه هل إن المقدر کل فعل تصح إضافته إلی العین المذکورة فی الجملة و یصح تعلق الحکم به أو إن المقدر فعل مخصوص کما قدرناه فی الأمثلة المتقدمة .و الصحیح فی هذا الباب أن یقال إن نفس الترکیب مع قطع النظر عن ملاحظة الموضوع و الحکم و عن أیة قرینة خارجیة هو فی نفسه یقتضی الإجمال لو لا أن الإطلاق یقتضی تقدیر کل فعل صالح للتقدیر إلا إذا قامت قرینة خاصة علی تعیین نوع الفعل المقدر و غالبا لا یخلو مثل هذا الترکیب

ص :201

من وجود القرینة الخاصة و لو قرینة مناسبة الحکم و الموضوع و یشهد لذلک أنا لا نتردد فی تقدیر الفعل المخصوص فی الأمثلة المذکورة فی صدر البحث و مثیلاتها و ما ذلک إلا لما قلناه من وجود القرینة الخاصة و لو مناسبة الحکم و الموضوع .و یشبه أن یکون هذا الباب نظیر باب لا المحذوف خبرها ألهمنا الله تعالی الصواب و دفع عنا الشبهات و هدانا الصراط المستقیم

ص :202

ص :203

ص :204

الجزء الثانی

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

المقصد الثانی الملازمات العقلیة

تمهید

اشارة

من الأدلة علی الحکم الشرعی عند الأصولیین الإمامیة العقل إذ یذکرون أن الأدلة علی الأحکام الشرعیة الفرعیة أربعة الکتاب و السنة و الإجماع و العقل .و سیأتی فی مباحث الحجة وجه حجیة العقل أما هنا فإنما یبحث عن تشخیص صغریات ما یحکم به العقل المفروض أنه حجة أی یبحث هنا عن مصادیق أحکام العقل الذی هو دلیل علی الحکم الشرعی و هذا نظیر البحث فی المقصد الأول مباحث الألفاظ عن مصادیق أصالة الظهور التی هی حجة و حجیتها إنما یبحث عنها فی مباحث الحجة .و توضیح ذلک أن هنا مسألتین 1 أنه إذا حکم العقل علی شیء أنه حسن شرعا أو یلزم فعله شرعا أو یحکم علی شیء أنه قبیح شرعا أو یلزم ترکه شرعا بأی طریق من الطرق التی سیأتی بیانها هل یثبت بهذا الحکم العقلی حکم الشرع أی أنه من حکم العقل هذا هل یستکشف منه أن الشارع واقعا قد حکم بذلک و مرجع ذلک إلی أن حکم العقل هذا هل هو حجة أو لا و هذا البحث

ص :205

کما قلنا إنما یذکر فی مباحث الحجة و لیس هنا موقعه و سیأتی بیان إمکان حصول القطع بالحکم الشرعی من غیر الکتاب و السنة و إذا حصل کیف یکون حجة .2 أنه هل للعقل أن یدرک بطریق من الطرق أن هذا الشیء مثلا حسن شرعا أو قبیح أو یلزم فعله أو ترکه عند الشارع یعنی أن العقل بعد إدراکه لحسن الأفعال أو لزومها و لقبح الأشیاء أو لزوم ترکها فی أنفسها بأی طریق من الطرق هل یدرک مع ذلک أنها کذلک عند الشارع و هذا المقصد الثانی الذی سمیناه بحث الملازمات العقلیة عقدناه لأجل بیان ذلک فی مسائل علی النحو الذی سیأتی إن شاء الله تعالی و یکون فیه تشخیص صغریات حجیة العقل المبحوث عنها فی المقصد الثالث مباحث الحجة ثم لا بد قبل تشخیص هذه الصغریات فی مسائل من ذکر أمرین یتعلقان بالأحکام العقلیة مقدمة للبحث نستعین بها علی المقصود و هما

1 أقسام الدلیل العقلی[1]

إن الدلیل العقلی أو فقل ما یحکم به العقل الذی یثبت به الحکم الشرعی ینقسم إلی قسمین ما یستقل به العقل و ما لا یستقل به .

ص :206

و بتعبیر آخر نقول إن الأحکام العقلیة علی قسمین مستقلات و غیر مستقلات و هذه التعبیرات کثیرا ما تجری علی ألسنة الأصولیین و یقصدون بها المعنی الذی سنوضحه و إن کان قد یقولون إن هذا ما یستقل به العقل و لا یقصدون هذا المعنی بل یقصدون به معنی آخر و هو ما یحکم به العقل بالبداهة و إن کان لیس من المستقلات العقلیة بالمعنی الآتی .و علی کل حال فإن هذا التقسیم یحتاج إلی شیء من التوضیح فنقول إن العلم بالحکم الشرعی کسائر العلوم لا بد له من علة لاستحالة وجود الممکن بلا علة و علة العلم التصدیقی لا بد أن تکون من أحد أنواع الحجة الثلاثة القیاس أو الاستقراء أو التمثیل و لیس الاستقراء مما یثبت به الحکم الشرعی و هو واضح و التمثیل لیس بحجة عندنا لأنه هو القیاس المصطلح علیه عند الأصولیین الذی هو لیس من مذهبنا .فیتعین أن تکون العلة للعلم بالحکم الشرعی هی خصوص القیاس باصطلاح المناطقة و إذا کان کذلک فإن کل قیاس لا بد أن یتألف من مقدمتین سواء کان استثنائیا أو اقترانیا .و هاتان المقدمتان قد تکونان معا غیر عقلیتین فالدلیل الذی یتألف منهما یسمی دلیلا شرعیا فی قبال الدلیل العقلی و لا کلام لنا فی هذا القسم هنا .و قد تکون کل منهما أو إحداهما عقلیة أی مما یحکم العقل به من غیر اعتماد علی حکم شرعی فإن الدلیل الذی یتألف منهما یسمی عقلیا و هو علی قسمین

ص :207

1 أن تکون المقدمتان معا عقلیتین کحکم العقل بحسن شیء أو قبحه ثم حکمه بأنه کل ما حکم به العقل حکم به الشرع علی طبقه و هو القسم الأول من الدلیل العقلی و هو قسم المستقلات العقلیة .2 أن تکون إحدی المقدمتین غیر عقلیة و الأخری عقلیة کحکم العقل بوجوب المقدمة عند وجوب ذیها فهذه مقدمة عقلیة صرفة و ینضم إلیها حکم الشرع بوجوب ذی المقدمة و إنما یسمی الدلیل الذی یتألف منهما عقلیا فلأجل تغلیب جانب المقدمة العقلیة و هذا هو القسم الثانی من الدلیل العقلی و هو قسم غیر المستقلات العقلیة و إنما سمی بذلک لأنه من الواضح أن العقل لم یستقل وحده فی الوصول إلی النتیجة بل استعان بحکم الشرع فی إحدی مقدمتی القیاس

2 لما ذا سمیت هذه المباحث بالملازمات العقلیة
اشارة

المراد بالملازمة العقلیة هنا هو حکم العقل بالملازمة بین حکم الشرع و بین أمر آخر سواء کان حکما عقلیا أو شرعیا أو غیرهما مثل الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری الذی یلزمه عقلا سقوط الأمر الاختیاری لو زال الاضطراری فی الوقت أو خارجه علی ما سیأتی ذلک فی مبحث الإجزاء .و قد یخفی علی الطالب لأول وهلة الوجه فی تسمیة مباحث الأحکام العقلیة بالملازمات العقلیة لا سیما فیما یتعلق بالمستقلات العقلیة و لذلک وجب علینا أن نوضح ذلک فنقول 1 أما فی المستقلات العقلیة فیظهر بعد بیان المقدمتین اللتین یتألف منهما الدلیل العقلی و هما مثلا

ص :208

الأولی العدل یحسن فعله عقلا و هذه قضیة عقلیة صرفة هی صغری القیاس و هی من المشهورات التی تطابقت علیها آراء العقلاء التی تسمی الآراء المحمودة و هذه قضیة تدخل فی مباحث علم الکلام عادة و إذا بحث عنها هنا فمن باب المقدمة للبحث عن الکبری الآتیة .الثانیة کل ما یحسن فعله عقلا یحسن فعله شرعا و هذه قضیة عقلیة أیضا یستدل علیها بما سیأتی فی محله و هی کبری للقیاس و مضمونها الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع و هذه الملازمة مأخوذة من دلیل عقلی فهی ملازمة عقلیة و ما یبحث عنه فی علم الأصول فهو هذه الملازمة و من أجل هذه الملازمة تدخل المستقلات العقلیة فی الملازمات العقلیة .و لا ینبغی أن یتوهم الطالب أن هذه الکبری معناها حجیة العقل بل نتیجة هاتین المقدمتین هکذا العدل یحسن فعله شرعا و هذا الاستنتاج بدلیل عقلی و قد ینکر المنکر أنه یلزم شرعا ترتیب الأثر علی هذا الاستنتاج و الاستکشاف و سنذکر إن شاء الله تعالی فی حینه الوجه فی هذا الإنکار الذی مرجعه إلی إنکار حجیة العقل .و الحاصل نحن نبحث فی المستقلات العقلیة عن مسألتین إحداهما الصغری و هی بیان المدرکات العقلیة فی الأفعال الاختیاریة أنه أیها ینبغی فعله و أیها لا ینبغی فعله ثانیهما الکبری و هی بیان أن ما یدرکه العقل هل لا بد أن یدرکه الشرع أی یحکم علی طبق ما یحکم به العقل و هذه هی المسألة الأصولیة التی هی من الملازمات العقلیة .و من هاتین المسألتین نهیئ موضوع مبحث حجیة العقل .2 و أما فی غیر المستقلات العقلیة فأیضا یظهر الحال فیها بعد بیان المقدمتین اللتین یتألف منهما الدلیل العقلی و هما مثلا

ص :209

الأولی هذا الفعل واجب أو هذا المأتی به مأمور به فی حال الاضطرار فمثل هذه القضایا تثبت فی علم الفقه فهی شرعیة .الثانیة کل فعل واجب شرعا یلزمه عقلا وجوب مقدمته شرعا أو یلزمه عقلا حرمة ضده شرعا أو کل مأتی به و هو مأمور به حال الاضطرار یلزمه عقلا الإجزاء عن المأمور به حال الاختیار و هکذا .فإن أمثال هذه القضایا أحکام عقلیة مضمونها الملازمة العقلیة بین ما یثبت شرعا فی القضیة الأولی و بین حکم شرعی آخر و هذه الأحکام العقلیة هی التی یبحث عنها فی علم الأصول و من أجل هذا تدخل فی باب الملازمات العقلیة .

الخلاصة

و من جمیع ما ذکرنا یتضح أن المبحوث عنه فی الملازمات العقلیة هو إثبات الکبریات العقلیة التی تقع فی طریق إثبات الحکم الشرعی سواء کانت الصغری عقلیة کما فی المستقلات العقلیة أو شرعیة کما فی غیر المستقلات العقلیة .أما الصغری فدائما یبحث عنها فی علم آخر غیر علم الأصول کما أن الکبری یبحث عنها فی علم الأصول و هی عبارة عن ملازمة حکم الشرع لشیء آخر بالملازمة العقلیة سواء کان ذلک الشیء الآخر حکما شرعیا أم حکما عقلیا أم غیرهما و النتیجة من الصغری و الکبری هاتین تقع صغری لقیاس آخر کبراه حجیة العقل و یبحث عن هذه الکبری فی مباحث الحجة .و علی هذا فینحصر بحثنا هنا فی بابین باب المستقلات العقلیة و باب غیر المستقلات العقلیة فنقول

ص :210

الباب الأول المستقلات العقلیة

اشارة

ص :211

ص :212

تمهید

@

اشارة

الظاهر انحصار المستقلات العقلیة التی یستکشف منها الحکم الشرعی فی مسألة واحدة و هی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین و علیه یجب علینا أن نبحث عن هذه المسألة من جمیع أطرافها بالتفصیل لا سیما أنه لم یبحث عنها فی کتب الأصول الدارجة فنقول وقع البحث هنا فی أربعة أمور متلاحقة 1 أنه هل تثبت للأفعال مع قطع النظر عن حکم الشارع و تعلق خطابه بها أحکام عقلیة من حسن و قبح أو إن شئت فقل هل للأفعال حسن و قبح بحسب ذواتها و لها قیم ذاتیة فی نظر العقل قبل فرض حکم الشارع علیها أو لیس لها ذلک و إنما الحسن ما حسنه الشارع و القبیح ما قبحه و الفعل مطلقا فی حد نفسه من دون حکم الشارع لیس حسنا و لا قبیحا .و هذا هو الخلاف الأصیل بین الأشاعرة و العدلیة و هو مسألة التحسین و التقبیح العقلیین المعروفة فی علم الکلام و علیها تترتب مسألة الاعتقاد بعدالة الله و غیرها و إنما سمیت العدلیة عدلیة لقولهم بأنه تعالی عادل بناء علی مذهبهم فی ثبوت الحسن و القبح العقلیین .و نحن نبحث عن هذه المسألة هنا باعتبارها من المبادئ لمسألتنا الأصولیة کما أشرنا إلی ذلک فیما سبق .2 أنه بعد فرض القول بأن للأفعال فی حد أنفسها حسنا و قبحا هل یتمکن العقل من إدراک وجوه الحسن و القبح مستقلا عن تعلیم الشارع و بیانه أو لا و علی تقدیر تمکنه هل للمکلف أن یأخذ به بدون بیان الشارع

ص :213

و تعلیمه أو لیس له ذلک إما مطلقا أو فی بعض الموارد .و هذه المسألة هی إحدی نقط الخلاف المعروفة بین الأصولیین و جماعة من الأخباریین و فیها تفصیل من بعضهم علی ما یأتی و هی أیضا لیست من مباحث علم الأصول و لکنها من المبادئ لمسألتنا الأصولیة الآتیة لأنه بدون القول بأن العقل یدرک وجوه الحسن و القبح لا تتحقق عندنا صغری القیاس التی تکلمنا عنها سابقا .و لا ینبغی أن یخفی علیکم أن تحریر هذه المسألة سببه المغالطة التی وقعت لبعضهم و إلا فبعد تحریر المسألة الأولی علی وجهها الصحیح کما سیأتی لا یبقی مجال لهذا النزاع فانتظر توضیح ذلک فی محله القریب .3 أنه بعد فرض أن للأفعال حسنا و قبحا و أن العقل یدرک الحسن و القبح یصح أن ننتقل إلی التساؤل عما إذا کان العقل یحکم أیضا بالملازمة بین حکمه و حکم الشرع بمعنی أن العقل إذا حکم بحسن شیء أو قبحه هل یلزم عنده عقلا أن یحکم الشارع علی طبق حکمه .و هذه هی المسألة الأصولیة المعبر عنها بمسألة الملازمة التی وقع فیها النزاع فأنکر الملازمة جملة من الأخباریین و بعض الأصولیین کصاحب الفصول .4 أنه بعد ثبوت الملازمة و حصول القطع بأن الشارع لا بد أن یحکم علی طبق ما حکم به العقل فهل هذا القطع حجة شرعا .و مرجع هذا النزاع ثلاث نواح الأولی فی إمکان أن ینفی الشارع حجیة هذا القطع و ینهی عن الأخذ به .الثانیة بعد فرض إمکان نفی الشارع حجیة القطع هل نهی عن الأخذ بحکم العقل و إن استلزم القطع(کقول الإمام علیه السلام:إن دین

ص :214

الله لا یصاب بالعقول) علی تقدیر تفسیره بذلک .و النزاع فی هاتین الناحیتین وقع مع الأخباریین جلهم أو کلهم .الثالثة بعد فرض عدم إمکان نفی الشارع حجیة القطع هل معنی حکم الشارع علی طبق حکم العقل هو أمره و نهیه أو أن حکمه معناه إدراکه و علمه بأن هذا الفعل ینبغی فعله أو ترکه و هو شیء آخر غیر أمره و نهیه فإثبات أمره و نهیه یحتاج إلی دلیل آخر و لا یکفی القطع بأن الشارع حکم بما حکم به العقل .و علی کل حال فإن الکلام فی هذه النواحی سیأتی فی مباحث الحجة المقصد الثالث و هو النزاع فی حجیة العقل و علیه فنحن نتعرض هنا للمباحث الثلاثة الأولی و نترک المبحث الرابع بنواحیه إلی المقصد الثالث

ص :215

المبحث الأول التحسین و التقبیح العقلیان
اشارة

اختلف الناس فی حسن الأفعال و قبحها هل إنهما عقلیان أو شرعیان بمعنی أن الحاکم بهما العقل أو الشرع .فقالت الأشاعرة لا حکم للعقل فی حسن الأفعال و قبحها و لیس الحسن و القبح عائدا إلی أمر حقیقی حاصل فعلا قبل ورود بیان الشارع بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن و ما قبحه الشارع فهو قبیح فلو عکس الشارع القضیة فحسن ما قبحه و قبح ما حسنه لم یکن ممتنعا و انقلب الأمر فصار القبیح حسنا و الحسن قبیحا و مثلوا لذلک بالنسخ من الحرمة إلی الوجوب و من الوجوب إلی الحرمة (1).و قالت العدلیة إن للأفعال قیما ذاتیة عند العقل مع قطع النظر عن حکم الشارع فمنها ما هو حسن فی نفسه و منها ما هو قبیح فی نفسه و منها ما لیس له هذان الوصفان و الشارع لا یأمر إلا بما هو حسن و لا ینهی إلا عما هو قبیح فالصدق فی نفسه حسن و لحسنه أمر الله تعالی به لا أنه أمر الله تعالی به فصار حسنا و الکذب فی نفسه قبیح و لذلک نهی الله تعالی عنه لا أنه نهی عنه فصار قبیحا .هذه خلاصة الرأیین و اعتقد عدم اتضاح رأی الطرفین بهذا البیان و لا تزال نقط غامضة فی البحث إذا لم نبینها بوضوح لا نستطیع أن نحکم لأحد الطرفین و هو أمر ضروری مقدمة للمسألة الأصولیة و لتوقف وجوب المعرفة علیه .

ص :216


1- هذا التصویر لمذهب الاشاعرة منقول عن شرح القوشجی للتجرید.

فلا بد من بسط البحث بأوسع مما أخذنا علی أنفسنا من الاختصار فی هذا الکتاب لأهمیة هذا الموضوع من جهة و لعدم إعطائه حقه من التنقیح فی أکثر الکتب الکلامیة و الأصولیة من جهة أخری .و أکلفکم قبل الدخول فی هذا البحث بالرجوع إلی ما حررته فی الجزء الثالث من المنطق ص 17-23 عن القضایا المشهورات لتستعینوا به علی ما هنا .و الآن أعقد البحث هنا فی أمور

1 معنی الحسن و القبح و تصویر النزاع فیهما

إن الحسن و القبح لا یستعملان بمعنی واحد بل لهما ثلاث معان فأی هذه المعانی هو موضوع النزاع فنقول أولا قد یطلق الحسن و القبح و یراد بهما الکمال و النقص و یقعان وصفا بهذا المعنی للأفعال الاختیاریة و لمتعلقات الأفعال فیقال مثلا العلم حسن و التعلم حسن و بضد ذلک یقال الجهل قبیح و إهمال التعلم قبیح و یراد بذلک أن العلم و التعلم کمال للنفس و تطور فی وجودها و أن الجهل و إهمال التعلم نقصان فیها و تأخر فی وجودها .و کثیر من الأخلاق الإنسانیة حسنها و قبحها باعتبار هذا المعنی فالشجاعة و الکرم و الحلم و العدالة و الإنصاف و نحو ذلک إنما حسنها باعتبار أنها کمال للنفس و قوة فی وجودها و کذلک أضدادها قبیحة لأنها نقصان فی وجود النفس و قوتها و لا ینافی ذلک أنه یقال للأولی حسنة و للثانیة قبیحة باعتبار معنی آخر من المعنیین الآتیین .و لیس للأشاعرة ظاهرا نزاع فی الحسن و القبح بهذا المعنی بل جملة منهم یعترفون بأنهما عقلیان لأن هذه من القضایا الیقینیات التی وراءها واقع خارجی تطابقه علی ما سیأتی .

ص :217

ثانیا أنهما قد یطلقان و یراد بهما الملاءمة للنفس و المنافرة لها و یقعان وصفا بهذا المعنی أیضا للأفعال و متعلقاتها من أعیان و غیرها .فیقال فی المتعلقات هذا المنظر حسن جمیل هذا الصوت حسن مطرب هذا المذوق حلو حسن و هکذا .و یقال فی الأفعال نوم القیلولة حسن الأکل عند الجوع حسن و الشرب بعد العطش حسن و هکذا .و کل هذه الأحکام لأن النفس تلتذ بهذه الأشیاء و تذوقها لملاءمتها لها و بضد ذلک یقال فی المتعلقات و الأفعال هذا المنظر قبیح ولولة النائحة قبیحة النوم علی الشبع قبیح و هکذا و کل ذلک لأن النفس تتألم أو تشمئز من ذلک .فیرجع معنی الحسن و القبح فی الحقیقة إلی معنی اللذة و الألم أو فقل إلی معنی الملاءمة للنفس و عدمها ما شئت فعبر فإن المقصود واحد .ثم إن هذا المعنی من الحسن و القبح یتسع إلی أکثر من ذلک فإن الشیء قد لا یکون فی نفسه ما یوجب لذة أو ألما و لکنه بالنظر إلی ما یعقبه من أثر تلتذ به النفس أو تتألم منه یسمی أیضا حسنا أو قبیحا بل قد یکون الشیء فی نفسه قبیحا تشمئز منه النفس کشرب الدواء المر و لکنه باعتبار ما یعقبه من الصحة و الراحة التی هی أعظم بنظر العقل من ذلک الألم الوقتی یدخل فیما یستحسن کما قد یکون الشیء بعکس ذلک حسنا تلتذ به النفس کالأکل اللذیذ المضر بالصحة و لکن ما یعقبه من مرض أعظم من اللذة الوقتیة یدخل فیما یستقبح .و الإنسان بتجاربه الطویلة و بقوة تمییزه العقلی یستطیع أن یصنف الأشیاء و الأفعال إلی ثلاثة أصناف ما یستحسن و ما یستقبح و ما لیس له هاتان المزیتان و یعتبر هذا التقسیم بحسب ما له من الملاءمة و المنافرة و لو بالنظر إلی الغایة القریبة أو البعیدة التی هی قد تسمو عند العقل علی

ص :218

ما له من لذة وقتیة أو ألم وقتی کمن یتحمل المشاق الکثیرة و یقاسی الحرمان فی سبیل طلب العلم أو الجاه أو الصحة أو المال و کمن یستنکر بعض اللذات الجسدیة استکراها لشؤم عواقبها .و کل ذلک یدخل فی الحسن و القبح بمعنی الملائم و غیر الملائم (قال القوشجی فی شرحه للتجرید عن هذا المعنی و قد یعبر عنهما أی الحسن و القبح بالمصلحة و المفسدة فیقال الحسن ما فیه مصلحة و القبیح ما فیه مفسدة و ما خلا منهما لا یکون شیئا منهما) .و هذا راجع إلی ما ذکرنا و لیس المقصود أن للحسن و القبح معنی آخر بمعنی ما له المصلحة أو المفسدة غیر معنی الملاءمة و المنافرة فإن استحسان المصلحة إنما یکون للملاءمة و استقباح المفسدة للمنافرة .و هذا المعنی من الحسن و القبح أیضا لیس للأشاعرة فیه نزاع بل هما عندهم بهذا المعنی عقلیان أی مما قد یدرکه العقل من غیر توقف علی حکم الشرع و من توهم أن النزاع بین القوم فی هذا المعنی فقد ارتکب شططا و لم یفهم کلامهم .ثالثا أنهما یطلقان و یراد بهما المدح و الذم و یقعان وصفا بهذا المعنی للأفعال الاختیاریة فقط و معنی ذلک أن الحسن ما استحق فاعله علیه المدح و الثواب عند العقلاء کافة و القبیح ما استحق علیه فاعله الذم و العقاب عندهم کافة .و بعبارة أخری إن الحسن ما ینبغی فعله عند العقلاء أی إن العقل عند الکل یدرک أنه ینبغی فعله و القبیح ما ینبغی ترکه عندهم أی إن العقل عند الکل یدرک أنه لا ینبغی فعله أو ینبغی ترکه .و هذا الإدراک للعقل هو معنی حکمه بالحسن و القبح و سیأتی توضیح هذه النقطة فإنها مهمة جدا فی الباب .و هذا المعنی الثالث هو موضوع النزاع فالأشاعرة أنکروا أن یکون

ص :219

للعقل إدراک و ذلک من دون الشروع و خالفتهم العدلیة فأعطوا للعقل هذا الحق من الإدراک .تنبیه و مما یجب أن یعلم هنا أن الفعل الواحد قد یکون حسنا أو قبیحا بجمیع المعانی الثلاثة کالتعلم و الحلم و الإحسان فإنها کمال للنفس و ملائمة لها باعتبار ما لها من نفع و مصلحة و مما ینبغی أن یفعلها الإنسان عند العقلاء .و قد یکون الفعل حسنا بأحد المعانی قبیحا أو لیس بحسن بالمعنی الآخر کالغناء مثلا فإنه حسن بمعنی الملاءمة للنفس و لذا یقولون عنه أنه غذاء للروح (1)و لیس حسنا بالمعنی الأول أو الثالث فإنه لا یدخل عند العقلاء بما هم عقلاء فیما ینبغی أن یفعل و لیس کمالا للنفس و إن کان هو کمالا للصوت بما هو صوت فیدخل فی المعنی الأول للحسن من هذه الجهة و مثله التدخین أو ما تعتاده النفس من المسکرات و المخدرات فإن هذه حسنة بمعنی الملاءمة فقط و لیست کمالا للنفس و لا مما ینبغی فعلها عند العقلاء بما هم عقلاء

2 واقعیة الحسن و القبح فی معانیه و رأی الأشاعرة

إن الحسن بالمعنی الأول أی الکمال و کذا مقابله أی القبح أمر واقعی خارجی لا یختلف باختلاف الأنظار و الأذواق و لا یتوقف علی وجود من یدرکه و یعقله بخلاف الحسن بالمعنیین الأخیرین .و هذا ما یحتاج إلی التوضیح و التفصیل فنقول 1 أما الحسن بمعنی الملاءمة و کذا ما یقابله فلیس له فی نفسه بإزاء فی الخارج یحاذیه و یحکی عنه و إن کان منشؤه قد یکون أمرا

ص :220


1- کان هذا التعبیر یرید أن یحاول قائلوه به دعوی أن الغناء کمال للنفس فی سماعه وهو مغالطة وایهام منهم.

خارجیا کاللون و الرائحة و الطعم و تناسق الأجزاء و نحو ذلک .بل حسن الشیء یتوقف علی وجود الذوق العام أو الخاص فإن الإنسان هو الذی یتذوق المنظور أو المسموع أو المذوق بسبب ما عنده من ذوق یجعل هذا الشیء ملائما لنفسه فیکون حسنا عنده أو غیر ملائم فیکون قبیحا عنده فإذا اختلفت الأذواق فی الشیء کان حسنا عند قوم قبیحا عند آخرین و إذا اتفقوا فی ذوق عام کان ذلک الشیء حسنا عندهم جمیعا أو قبیحا کذلک .و الحاصل أن الحسن بمعنی الملائم لیس صفة واقعیة للأشیاء کالکمال و لیس واقعیة هذه الصفة إلا إدراک الإنسان و ذوقه فلو لم یوجد إنسان یتذوق و لا من یشبهه فی ذوقه لم تکن للأشیاء فی حد أنفسها حسن بمعنی الملاءمة .و هذا مثل ما یعتقده الرأی الحدیث فی الألوان إذ یقال إنها لا واقع لها بل هی تحصل من انعکاسات أطیاف الضوء علی الأجسام ففی الظلام حیث لا ضوء لیست هناک ألوان موجودة بالفعل بل الموجود حقیقة أجسام فیها صفات حقیقیة هی منشأ لانعکاس الأطیاف عند وقوع الضوء علیها و لیس کل واحد من الألوان إلا طیفا أو أطیافا فأکثر ترکبت .و هکذا نقول فی حسن الأشیاء و جمالها بمعنی الملاءمة و الشیء الواقعی فیها ما هو منشأ الملاءمة فی الأشیاء کالطعم و الرائحة و نحوهما الذی هو کالصفة فی الجسم إذ تکون منشأ لانعکاس أطیاف الضوء .کما أن نفس اللذة و الألم أیضا أمران واقعیان و لکن لیسا هما الحسن و القبح اللذان لیسا هما من صفات الأشیاء و اللذة و الألم من صفات النفس المدرکة للحسن و القبح .2 و أما الحسن بمعنی ما ینبغی أن یفعل عند العقل فکذلک لیس له واقعیة إلا إدراک العقلاء أو فقل تطابق آراء العقلاء و الکلام فیه

ص :221

کالکلام فی الحسن بمعنی الملاءمة و سیأتی تفصیل معنی تطابق العقلاء علی المدح و الذم أو إدراک العقل للحسن و القبح .و علی هذا فإن کان غرض الأشاعرة من إنکار الحسن و القبح إنکار واقعیتهما بهذا المعنی من الواقعیة فهو صحیح و لکن هذا بعید عن أقوالهم لأنه لما کانوا یقولون بحسن الأفعال و قبحها بعد حکم الشارع فإنه یعلم منه أنه لیس غرضهم ذلک لأن حکم الشارع لا یجعل لهما واقعیة و خارجیة کیف و قد رتبوا علی ذلک بأن وجوب المعرفة و الطاعة لیس بعقلی بل شرعی و إن کان غرضهم إنکار إدراک العقل کما هو الظاهر من أقوالهم فسیأتی تحقیق الحق فیه و أنهم لیسوا علی صواب فی ذلک

3 العقل العملی و النظری

إن المراد من العقل إذ یقولون إن العقل یحکم بحسن الشیء أو قبحه بالمعنی الثالث من الحسن و القبح هو العقل العملی فی مقابل العقل النظری .و لیس الاختلاف بین العقلین إلا بالاختلاف بین المدرکات فإن کان المدرک بالفتح مما ینبغی أن یفعل أولا یفعل مثل حسن العدل و قبح الظلم فیسمی إدراکه عقلا عملیا و إن کان المدرک مما ینبغی أن یعلم مثل قولهم الکل أعظم من الجزء الذی لا علاقة له بالعمل فیسمی إدراکه عقلا نظریا .و معنی حکم العقل علی هذا لیس إلا إدراک أن الشیء مما ینبغی أن یفعل أو یترک و لیس للعقل إنشاء بعث و زجر و لا أمر و نهی إلا بمعنی أن هذا الإدراک یدعو العقل إلی العمل أی یکون سببا لحدوث الإرادة فی نفسه للعمل و فعل ما ینبغی .إذن المراد من الأحکام العقلیة هی مدرکات العقل العملی و آراؤه .

ص :222

و من هنا تعرف أن المراد من العقل المدرک للحسن و القبح بالمعنی الأول أن المراد به هو العقل النظری لأن الکمال و النقص مما ینبغی أن یعلم لا مما ینبغی أن یعمل نعم إذا أدرک العقل کمال الفعل أو نقصه فإنه یدرک معه أنه ینبغی فعله أو ترکه فیستعین العقل العملی بالعقل النظری أو فقل یحصل العقل العملی فعلا بعد حصول العقل النظری .و کذا المراد من العقل المدرک للحسن و القبح بالمعنی الثانی هو العقل النظری لأن الملاءمة و عدمها أو المصلحة و المفسدة مما ینبغی أن یعلم و یستتبع ذلک إدراک أنه ینبغی الفعل أو الترک علی طبق ما علم .و من العجیب(ما جاء فی جامع السعادات ج 1 ص 59 المطبوع بالنجف سنة 1368 إذ یقول ردا علی الشیخ الرئیس خریت هذه الصناعة إن مطلق الإدراک و الإرشاد إنما هو من العقل النظری فهو بمنزلة المشیر الناصح و العقل العملی بمنزلة المنفذ لإشاراته) .و هذا منه خروج عن الاصطلاح و ما ندری ما یقصد من العقل العملی إذا کان الإرشاد و النصح للعقل النظری و لیس هناک عقلان فی الحقیقة کما قدمنا بل هو عقل واحد و لکن الاختلاف فی مدرکاته و متعلقاته و للتمییز بین الموارد یسمی تارة عملیا و أخری نظریا و کأنه یرید من العقل العملی نفس التصمیم و الإرادة للعمل و تسمیة الإرادة عقلا وضع جدید فی اللغة

4 أسباب حکم العقل العملی بالحسن و القبح

إن الإنسان إذ یدرک أن الشیء ینبغی فعله فیمدح فاعله أو لا ینبغی فعله فیذم فاعله لا یحصل له هذا الإدراک جزافا و اعتباطا و هذا شأن کل ممکن حادث بل لا بد له من سبب و سببه بالاستقراء أحد أمور خمسة نذکرها هنا لنذکر ما یدخل منها فی محل النزاع فی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین فنقول

ص :223

الأول أن یدرک أن هذا الشیء کمال للنفس أو نقص لها فإن إدراک العقل لکماله أو نقصه یدفعه للحکم بحسن فعله أو قبحه کما تقدم قریبا تحصیلا لذلک الکمال أو دفعا لذلک النقص .الثانی أن یدرک ملائمة الشیء للنفس أو عدمها إما بنفسه أو لما فیه من نفع عام أو خاص فیدرک حسن فعله أو قبحه تحصیلا للمصلحة أو دفعا للمفسدة .و کل من هذین الإدراکین أعنی إدراک الکمال أو النقص و إدراک الملاءمة أو عدمها یکون علی نحوین 1 أن یکون الإدراک لواقعة جزئیة خاصة فیکون حکم الإنسان بالحسن و القبح بدافع المصلحة الشخصیة و هذا الإدراک لا یکون بقوة العقل لأن العقل شأنه إدراک الأمور الکلیة لا الأمور الجزئیة بل إنما یکون إدراک الأمور الجزئیة بقوة الحس أو الوهم أو الخیال و إن کان مثل هذا الإدراک قد یستتبع مدحا أو ذما لفاعله و لکن هذا المدح أو الذم لا ینبغی أن یسمی عقلیا بل قد یسمی بالتعبیر الحدیث عاطفیا لأن سببه تحکیم العاطفة الشخصیة و لا بأس بهذا التعبیر .2 أن یکون الإدراک لأمر کلی فیحکم الإنسان بحسن الفعل لکونه کمالا للنفس کالعلم و الشجاعة أو لکونه فیه مصلحة نوعیة کمصلحة العدل لحفظ النظام و بقاء النوع الإنسانی فهذا الإدراک إنما یکون بقوة العقل بما هو عقل فیستتبع مدحا من جمیع العقلاء .و کذا فی إدراک قبح الشیء باعتبار کونه نقصا للنفس کالجهل أو لکونه فیه مفسدة نوعیة کالظلم فیدرک العقل بما هو عقل ذلک و یستتبع ذما من جمیع العقلاء فهذا المدح و الذم إذا تطابقت علیه جمیع آراء العقلاء باعتبار تلک المصلحة أو المفسدة النوعیتین أو باعتبار ذلک الکمال أو النقص النوعیین فإنه یعتبر من الأحکام العقلیة التی هی موضع النزاع .

ص :224

و هو معنی الحسن و القبح العقلیین الذی هو محل النفی و الإثبات .و تسمی هذه الأحکام العقلیة العامة الآراء المحمودة و التأدیبات الصلاحیة و هی من قسم القضایا المشهورات التی هی قسم برأسه فی مقابل القضایا الضروریات فهذه القضایا غیر معدودة من قسم الضروریات کما توهمه بعض الناس و منهم الأشاعرة کما سیأتی فی دلیلهم و قد أوضحت ذلک فی الجزء الثالث من المنطق فی مبادی القیاسات فراجع .و من هنا یتضح لکم جیدا أن العدلیة إذ یقولون بالحسن و القبح العقلیین یریدون أن الحسن و القبح من الآراء المحمودة و القضایا المشهورة المعدودة من التأدیبات الصلاحیة و هی التی تطابقت علیها آراء العقلاء بما هم عقلاء .و القضایا المشهورة لیس لها واقع وراء تطابق الآراء أی أن واقعها ذلک فمعنی حسن العدل أو العلم عندهم أن فاعله ممدوح لدی العقلاء و معنی قبح الظلم و الجهل أن فاعله مذموم لدیهم (1).و یکفینا شاهدا علی ما نقول من دخول أمثال هذه القضایا فی المشهورات الصرفة التی لا واقع لها إلا الشهرة و أنها لیست من قسم الضروریات (ما قاله الشیخ الرئیس فی منطق الإشارات و منها الآراء المسماة بالمحمودة و ربما خصصناها باسم الشهرة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة و هی آراء لو خلی الإنسان و عقله المجرد و وهمه و حسه و لم یؤدب بقبول قضایاها و الاعتراف بها لم یقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حکمنا بأن سلب مال الإنسان قبیح و أن الکذب قبیح لا ینبغی أن یقدم علیه) .و هکذا وافقه شارحها العظیم الخواجة نصیر الدین الطوسی الثالث و من أسباب الحکم بالحسن و القبح الخلق الإنسانی الموجود

ص :225


1- ولا ینافی هذا ان العلم حسن من جهة أخری وهی جهة کونه کمالا للنفس والجهل قبیح لکونه نقصانا.

فی کل إنسان علی اختلافهم فی أنواعه نحو خلق الکرم و الشجاعة فإن وجود هذا الخلق یکون سببا لإدراک أن أفعال الکرم مثلا مما ینبغی فعلها فیمدح فاعلها و أفعال البخل مما ینبغی ترکها فیذم فاعلها .و هذا الحکم من العقل قد لا یکون من جهة المصلحة العامة أو المفسدة العامة و لا من جهة الکمال للنفس أو النقص بل بدافع الخلق الموجود .و إذا کان هذا الخلق عاما بین جمیع العقلاء یکون هذا الحسن و القبح مشهورا بینهم تتطابق علیه آراؤهم و لکن إنما یدخل فی محل النزاع إذا کان الخلق من جهة أخری فیه کمال للنفس أو مصلحة عامة نوعیة فیدعو ذلک إلی المدح و الذم و یجب الرجوع فی هذا القسم إلی ما ذکرته من الخلقیات فی المنطق ج 3 ص 20 لتعرف توجیه قضاء الخلق الإنسانی بهذه المشهورات .الرابع و من أسباب الحکم بالحسن و القبح الانفعال النفسانی نحو الرقة و الرحمة و الشفقة و الحیاء و الأنفة و الحمیة و الغیرة إلی غیر ذلک من انفعالات النفس التی لا یخلو منها إنسان غالبا .فنری الجمهور یحکم بقبح تعذیب الحیوان اتباعا لما فی الغریزة من الرقة و العطف و الجمهور یمدح من یعین الضعفاء و المرضی و یعنی برعایة الأیتام و المجانین بل الحیوانات لأنه مقتضی الرحمة و الشفقة و یحکم بقبح کشف العورة و الکلام البذیء لأنه مقتضی الحیاء و یمدح المدافع عن الأهل و العشیرة و الوطن و الأمة لأنه مقتضی الغیرة و الحمیة إلی غیر ذلک من أمثال هذه الأحکام العامة بین الناس .و لکن هذا الحسن و القبح لا یعدان حسنا و قبحا عقلیین بل ینبغی أن یسمیا عاطفیین أو انفعالیین و تسمی القضایا هذه عند المنطقیین بالانفعالیات .و لأجل هذا لا یدخل هذا الحسن و القبح فی محل النزاع مع الأشاعرة و لا

ص :226

نقول نحن بلزوم متابعة الشرع للجمهور فی هذه الأحکام لأنه لیس للشارع هذه الانفعالات بل یستحیل وجودها فیه لأنها من صفات الممکن و إنما نحن نقول بملازمة حکم الشارع لحکم العقل بالحسن و القبح فی الآراء المحمودة و التأدیبات الصلاحیة علی ما سیأتی فباعتبار أن الشارع من العقلاء بل رئیسهم بل خالق العقل فلا بد أن یحکم بحکمهم بما هم عقلاء و لکن لا یجب أن یحکم بحکمهم بما هم عاطفیون و لا نقول إن الشارع یتابع الناس فی أحکامهم متابعة مطلقة .الخامس و من الأسباب العادة عند الناس کاعتیادهم احترام القادم مثلا بالقیام له و احترام الضیف بالطعام فیحکمون لأجل ذلک بحسن القیام للقادم و إطعام الضیف .و العادات العامة کثیرة و متنوعة فقد تکون العادة تختص بأهل بلد أو قطر أو أمة و قد تعم جمیع الناس فی جمیع العصور أو فی عصر فتختلف لأجل ذلک القضایا التی یحکم بها بحسب العادة فتکون مشهورة عند القوم الذین لهم تلک العادة دون غیرهم .و کما یمدح الناس المحافظین علی العادات العامة یذمون المستهینین بها سواء کانت العادة حسنة من ناحیة عقلیة أو عاطفیة أو شرعیة أو سیئة قبیحة من إحدی هذه النواحی فتراهم یذمون من یرسل لحیته إذا اعتادوا حلقها و یذمون الحلیق إذا اعتادوا إرسالها و تراهم یذمون من یلبس غیر المألوف عندهم لمجرد أنهم لم یعتادوا لبسه بل ربما یسخرون به أو یعدونه مارقا .و هذا الحسن و القبح أیضا لیسا عقلیین بل ینبغی أن یسمیا عادیین

ص :227

لأن منشأهما العادة و تسمی القضایا فیهما فی عرف المناطقة العادیات و لذا لا یدخل أیضا هذا الحسن و القبح فی محل النزاع و لا نقول نحن أیضا بلزوم متابعة الشارع للناس فی أحکامهم هذه لأنهم لم یحکموا فیها بما هم عقلاء بل بما هم معتادون أی بدافع العادة .نعم بعض العادات قد تکون موضوعا لحکم الشارع مثل حکمه بحرمة لباس الشهرة أی اللباس غیر المعتاد لبسه عند الناس و لکن هذا الحکم لا لأجل المتابعة لحکم الناس بل لأن مخالفة الناس فی زیهم علی وجه یثیر فیهم السخریة و الاشمئزاز فیه مفسدة موجبة لحرمة هذا اللباس شرعا و هذا شیء آخر غیر ما نحن فیه .فتحصل من جمیع ما ذکرنا و قد أطلنا الکلام لغرض کشف الموضوع کشفا تاما أنه لیس کل حسن و قبح بالمعنی الثالث موضوعا للنزاع مع الأشاعرة بل خصوص ما کان سببه إدراک کمال الشیء أو نقصه علی نحو کلی و ما کان سببه إدراک ملائمته أو عدمها علی نحو کلی أیضا من جهة مصلحة نوعیة أو مفسدة نوعیة فإن الأحکام العقلیة الناشئة من هذه الأسباب هی أحکام للعقلاء بما هم عقلاء و هی التی ندعی فیها أن الشارع لا بد أن یتابعهم فی حکمهم و بهذا تعرف ما وقع من الخلط فی کلام جملة من الباحثین عن هذا الموضوع

5 معنی الحسن و القبح الذاتیین

إن الحسن و القبح بالمعنی الثالث ینقسمان إلی ثلاثة أقسام 1 ما هو علة للحسن و القبح و یسمی الحسن و القبح فیه

ص :228

بالذاتیین مثل العدل و الظلم و العلم و الجهل فإن العدل بما هو عدل لا یکون إلا حسنا أبدا أی إنه متی ما صدق عنوان العدل فإنه لا بد أن یمدح علیه فاعله عند العقلاء و یعد عندهم محسنا و کذلک الظلم بما هو ظلم لا یکون إلا قبیحا أی إنه متی ما صدق عنوان الظلم فإن فاعله مذموم عندهم و یعد مسیئا .2 ما هو مقتض لهما و یسمی الحسن و القبح فیه بالعرضیین مثل تعظیم الصدیق و تحقیره فإن تعظیم الصدیق لو خلی و نفسه فهو حسن ممدوح علیه و تحقیره کذلک قبیح لو خلی و نفسه و لکن تعظیم الصدیق بعنوان أنه تعظیم الصدیق یجوز أن یکون قبیحا مذموما کما إذا کان سببا لظلم ثالث بخلاف العدل فإنه یستحیل أن یکون قبیحا مع بقاء صدق عنوان العدل کذلک تحقیر الصدیق بعنوان أنه تحقیر له یجوز أن یکون حسنا ممدوحا علیه کما إذا کان سببا لنجاته و لکن یستحیل أن یکون الظلم حسنا مع بقاء صدق عنوان الظلم .3 ما لا علیة له و لا اقتضاء فیه فی نفسه للحسن و القبح أصلا و إنما قد یتصف بالحسن تارة إذا انطبق علیه عنوان حسن کالعدل و قد یتصف بالقبح أخری إذا انطبق علیه عنوان قبیح کالظلم و قد لا ینطبق علیه عنوان أحدهما فلا یکون حسنا و لا قبیحا کالضرب مثلا فإنه حسن للتأدیب و قبیح للتشفی و لا حسن و لا قبیح کضرب غیر ذی الروح .و معنی کون الحسن أو القبح ذاتیا أن العنوان المحکوم علیه بأحدهما بما هو فی نفسه و فی حد ذاته یکون محکوما به لا من جهة اندراجه تحت عنوان آخر فلا یحتاج إلی واسطة فی اتصافه بأحدهما .و معنی کونه مقتضیا لأحدهما أن العنوان لیس فی حد ذاته متصفا به

ص :229

بل بتوسط عنوان آخر و لکنه لو خلی و طبعه کان داخلا تحت العنوان الحسن أو القبیح أ لا تری أن تعظیم الصدیق لو خلی و نفسه یدخل تحت عنوان العدل الذی هو حسن فی ذاته أی بهذا الاعتبار تکون له مصلحة نوعیة عامة أما لو کان سببا لهلاک نفس محترمة کان قبیحا لأنه یدخل حینئذ بما هو تعظیم الصدیق تحت عنوان الظلم و لا یخرج عن عنوان کونه تعظیما للصدیق .و کذلک یقال فی تحقیر الصدیق فإنه لو خلی و نفسه یدخل تحت عنوان الظلم الذی هو قبیح بحسب ذاته أی بهذا الاعتبار تکون له مفسدة نوعیة عامة فلو کان سببا لنجاة نفس محترمة کان حسنا لأنه یدخل حینئذ تحت عنوان العدل و لا یخرج عن عنوانه کونه تحقیرا للصدیق .و أما العناوین من القسم الثالث فلیست فی حد ذاتها لو خلیت و أنفسها داخلة تحت عنوان حسن أو قبیح فلذلک لا تکون لها علیة و لا اقتضاء .و علی هذا یتضح معنی العلیة و الاقتضاء هنا فإن المراد من العلیة أن العنوان بنفسه هو تمام موضوع حکم العقلاء بالحسن أو القبح و المراد من الاقتضاء أن العنوان لو خلی و طبعه یکون داخلا فیما هو موضوع لحکم العقلاء بالحسن أو القبح و لیس المراد من العلیة و الاقتضاء ما هو معروف من معناهما أنه بمعنی التأثیر و الإیجاد فإنه من البدیهی أنه لا علیة و لا اقتضاء لعناوین الأفعال فی أحکام العقلاء إلا من باب علیة الموضوع لمحموله

6 أدلة الطرفین

بتقدیم الأمور السابقة نستطیع أن نواجه أدلة الطرفین بعین بصیرة لنعطی الحکم العادل لأحدهما و نأخذ النتیجة المطلوبة و نحن نبحث عن ذلک فی

ص :230

عدة مواد فنقول 1 إنا ذکرنا أن قضیة الحسن و القبح من القضایا المشهورات و أشرنا إلی ما کنتم درستموه فی الجزء الثالث من المنطق من أن المشهورات قسم یقابل الضروریات الست کلها و منه نعرف المغالطة فی دلیل الأشاعرة و هو أهم أدلتهم إذ یقولون لو کانت قضیة الحسن و القبح مما یحکم به العقل لما کان فرق بین حکمه فی هذه القضیة و بین حکمه بأن الکل أعظم من الجزء و لکن الفرق موجود قطعا إذ الحکم الثانی لا یختلف فیه اثنان مع وقوع الاختلاف فی الأول و هذا الدلیل من نوع القیاس الاستثنائی قد استثنی فیه نقیض التالی لینتج نقیض المقدم .و الجواب عنه أن المقدمة الأولی و هی الجملة الشرطیة ممنوعة و منعها یعلم مما تقدم آنفا لأن قضیة الحسن و القبح کما قلنا من المشهورات و قضیة أن الکل أعظم من الجزء من الأولیات الیقینیات فلا ملازمة بینهما و لیس هما من باب واحد حتی یلزم من کون القضیة الأولی مما یحکم به العقل ألا یکون فرق بینهما و بین القضیة الثانیة و ینبغی أن نذکر جمیع الفروق بین المشهورات هذه و بین الأولیات لیکون أکثر وضوحا بطلان قیاس إحداهما علی الأخری و الفارق من وجوه ثلاثة الأول أن الحاکم فی قضایا التأدیبات العقل العملی و الحاکم فی الأولیات العقل النظری .الثانی أن القضیة التأدیبیة لا واقع لها إلا تطابق آراء العقلاء و الأولیات لها واقع خارجی .الثالث أن القضیة التأدیبیة لا یجب أن یحکم بها کل عاقل لو خلی

ص :231

و نفسه و لم یتأدب بقبولها و الاعتراف بها کما قال الشیخ الرئیس علی ما نقلناه من عبارته فیما سبق فی الأمر الثانی و لیس کذلک القضیة الأولیة التی یکفی تصور طرفیها فی الحکم فإنه لا بد ألا یشذ عاقل فی الحکم بها لأول وهلة .2 و من أدلتهم علی إنکار الحسن و القبح العقلیین إن قالوا إنه لو کان ذلک عقلیا لما اختلف حسن الأشیاء و قبحها باختلاف الوجوه و الاعتبارات کالصدق إذ یکون مرة ممدوحا علیه و أخری مذموما علیه إذا کان فیه ضرر کبیر و کذلک الکذب بالعکس یکون مذموما علیه و ممدوحا علیه إذا کان فیه نفع کبیر کالضرب و القیام و القعود و نحوها مما یختلف حسنه و قبحه .و الجواب عن هذا الدلیل و أشباهه یظهر مما ذکرناه من أن حسن الأشیاء و قبحها علی أنحاء الثلاثة فما کان ذاتیا لا یقع فیه اختلاف فإن العدل بما هو عدل لا یکون قبیحا أبدا و کذلک الظلم بما هو ظلم لا یکون حسنا أبدا أی إنه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح و ما دام عنوان الظلم صادقا فهو مذموم و أما ما کان عرضیا فإنه یختلف بالوجوه و الاعتبارات فمثلا الصدق إن دخل تحت عنوان العدل کان ممدوحا و إن دخل تحت عنوان الظلم کان قبیحا و کذلک الکذب و ما ذکر من الأمثلة .و الخلاصة أن العدلیة لا یقولون بأن جمیع الأشیاء لا بد أن تتصف بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا حتی یلزم ما ذکر من الإشکال .3 و قد استدل العدلیة علی مذهبهم بما خلاصته أنه من المعلوم ضرورة حسن الإحسان و قبح الظلم عند کل عاقل من غیر اعتبار شرع فإن ذلک یدرکه حتی منکر الشرائع .و أجیب عنه بأن الحسن و القبح فی ذلک بمعنی الملاءمة و المنافرة أو

ص :232

بمعنی صفة الکمال و النقص و هو مسلم لا نزاع فیه و أما بالمعنی المتنازع فیه فإنا لا نسلم جزم العقلاء به .و نحن نقول إن من یدعی ضرورة حکم العقلاء بحسن الإحسان و قبح الظلم یدعی ضرورة مدحهم لفاعل الإحسان و ذمهم لفاعل الظلم و لا شک فی أن هذا المدح و الذم من العقلاء ضروریان لتواتره عن جمیع الناس و منکره مکابر و الذی یدفع العقلاء لهذا کما قدمنا شعورهم بأن العدل کمال للعادل و ملائمته لمصلحة النوع الإنسانی و بقائه و شعورهم بنقص الظلم و منافرته لمصلحة النوع الإنسانی و بقائه .4 و استدل العدلیة أیضا بأن الحسن و القبح لو کانا لا یثبتان إلا من طریق الشرع فهما لا یثبتان أصلا حتی من طریق الشرع .و قد صور بعضهم هذه الملازمة علی النحو الآتی إن الشارع إذا أمر بشیء فلا یکون حسنا إلا إذا مدح مع ذلک الفاعل علیه و إذا نهی عن شیء فلا یکون قبیحا إلا إذا ذم الفاعل علیه و من أین تعرف أنه یجب أن یمدح الشارع فاعل المأمور به و یذم فاعل المنهی عنه إلا إذا کان ذلک واجبا عقلا فتوقف حسن المأمور به و قبح المنهی عنه علی حکم العقل و هو المطلوب .ثم لو ثبت أن الشارع مدح فاعل المأمور به و ذم فاعل المنهی عنه و المفروض أن مدح الشارع ثوابه و ذمه عقابه فمن أین نعرف أنه صادق فی مدحه و ذمه إلا إذا ثبت أن الکذب قبیح عقلا یستحیل علیه فیتوقف ثبوت الحسن و القبح شرعا علی ثبوتهما عقلا فلو لم یکن لهما ثبوت عقلا فلا ثبوت لهما شرعا .و قد أجاب بعض الأشاعرة عن هذا التصویر بأنه یکفی فی کون الشیء

ص :233

حسنا أن یتعلق به الأمر و فی کونه قبیحا أن یتعلق به النهی و الأمر و النهی حسب الفرض ثابتان وجدانا و لا حاجة إلی فرض ثبوت مدح و ذم من الشارع .و هذا الکلام فی الحقیقة یرجع إلی أصل النزاع فی معنی الحسن و القبح فیکون الدلیل و جوابه صرف دعوی و مصادرة علی المطلوب لأن المستدل یرجع قوله إلی أنه یجب المدح و الذم عقلا لأنهما واجبان فی اتصاف الشیء بالحسن و القبح و المجیب یرجع قوله إلی أنهما لا یجبان عقلا لأنهما غیر واجبین فی الحسن و القبح .و الأحسن تصویر الدلیل علی وجه آخر فنقول إنه من المسلم عند الطرفین وجوب طاعة الأوامر و النواهی الشرعیة و کذلک وجوب المعرفة و هذا الوجوب عند الأشاعرة وجوب شرعی حسب دعواهم فنقول لهم من أین یثبت هذا الوجوب لا بد أن یثبت بأمر من الشارع فننقل الکلام إلی هذا الأمر فنقول لهم من أین تجب طاعة هذا الأمر فإن کان هذا الوجوب عقلیا فهو المطلوب و إن کان شرعیا أیضا فلا بد له من أمر و لا بد له من طاعة فننقل الکلام إلیه و هکذا نمضی إلی غیر النهایة و لا نقف حتی ننتهی إلی طاعة وجوبها عقلی لا تتوقف علی أمر الشارع و هو المطلوب .بل ثبوت الشرائع من أصلها یتوقف علی التحسین و التقبیح العقلیین و لو کان ثبوتها من طریق شرعی لاستحال ثبوتها لأنا ننقل الکلام إلی هذا الطریق الشرعی فیتسلسل إلی غیر النهایة .و النتیجة أن ثبوت الحسن و القبح شرعا یتوقف علی ثبوتهما عقلا

ص :234

المبحث الثانی إدراک العقل للحسن و القبح

بعد ما تقدم من ثبوت الحسن و القبح العقلیین فی الأفعال فقد نسب بعضهم إلی جماعة الأخباریین علی ما یظهر من کلمات بعضهم إنکار أن یکون للعقل حق إدراک ذلک الحسن و القبح فلا یثبت شیء من الحسن و القبح الواقعیین بإدراک العقل .و الشیء الثابت قطعا عنهم علی الإجمال القول بعدم جواز الاعتماد علی شیء من الإدراکات العقلیة فی إثبات الأحکام الشرعیة و قد فسر هذا القول بأحد وجوه ثلاثة (1)حسب اختلاف عبارات الباحثین منهم 1 إنکار إدراک العقل للحسن و القبح الواقعیین و هذه هی مسألتنا التی عقدنا لها هذا المبحث الثانی .2 بعد الاعتراف بثبوت إدراک العقل إنکار الملازمة بینه و بین حکم الشرع و هذه هی المسألة الآتیة فی المبحث الثالث .3 بعد الاعتراف بثبوت إدراک العقل و ثبوت الملازمة إنکار وجوب إطاعة الحکم الشرعی الثابت من طریق العقل و مرجع ذلک إلی إنکار حجیة

ص :235


1- سیأتی أن هناک وجها رابعا لحمل کلامهم علیه بما أولنا به رأی صاحب الفصول الآتی، وهو انکار ادراک العقل لملاکات الاحکام الشرعیة. وهو وجه وجیه سیأتی بیانه وتأییده وبه تحل عقدة النزاع ویقع التصالح بین الطرفین.

العقل و سیأتی البحث عن ذلک فی الجزء الثالث من هذا الکتاب مباحث الحجة .و علیه فإن أرادوا التفسیر الأول بعد الاعتراف بثبوت الحسن و القبح العقلیین فهو کلام لا معنی له لأنه قد تقدم أنه لا واقعیة للحسن و القبح بالمعنی المتنازع فیه مع الأشاعرة و هو المعنی الثالث إلا إدراک العقلاء لذلک و تطابق آرائهم علی مدح فاعل الحسن و ذم فاعل القبیح علی ما أوضحناه فیما سبق .و إذا اعترفوا بثبوت الحسن و القبح بهذا المعنی فهو اعتراف بإدراک العقل و لا معنی للتفکیک بین ثبوت الحسن و القبح و بین إدراک العقل لهما إلا إذا جاز تفکیک الشیء عن نفسه نعم إذا فسروا الحسن و القبح بالمعنیین الأولین جاز هذا التفکیک و لکنهما لیسا موضع النزاع عندهم .و هذا الأمر واضح لا یحتاج إلی أکثر من هذا البیان بعد ما قدمناه فی المبحث الأول

المبحث الثالث ثبوت الملازمة العقلیة بین حکم العقل و حکم الشرع
اشارة

و معنی الملازمة العقلیة هنا علی ما تقدم أنه إذا حکم العقل بحسن شیء أو قبحه هل یلزم عقلا أن یحکم الشرع علی طبقه و هذه هی المسألة الأصولیة التی تخص علمنا و کل ما تقدم من الکلام کان کالمقدمة لها و قد قلنا سابقا إن الأخباریین فسر کلامهم فی أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة الذی یظهر من کلام بعضهم بإنکار هذه الملازمة و أما الأصولیون فقد أنکرها منهم صاحب الفصول و لم نعرف له موافقا

ص :236

و سیأتی توجیه کلامهم و کلام الأخباریین .و الحق أن الملازمة ثابتة عقلا فإن العقل إذا حکم بحسن شیء أو قبحه أی إنه إذا تطابقت آراء العقلاء جمیعا بما هم عقلاء علی حسن شیء لما فیه من حفظ النظام و بقاء النوع أو علی قبحه لما فیه من الإخلال بذلک فإن الحکم هذا یکون بادی رأی الجمیع فلا بد أن یحکم الشارع بحکمهم لأنه منهم بل رئیسهم فهو بما هو عاقل بل خالق العقل کسائر العقلاء لا بد أن یحکم بما یحکمون و لو فرضنا أنه لم یشارکهم فی حکمهم لما کان ذلک الحکم بادی رأی الجمیع و هذا خلاف الفرض .و بعد ثبوت ذلک ینبغی أن نبحث هنا عن مسألة أخری و هی أنه لو ورد من الشارع أمر فی مورد حکم العقل کقوله تعالی أَطِیعُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ فهذا الأمر من الشارع هل هو أمر مولوی أی أنه أمر منه بما هو مولی أو أنه أمر إرشادی أی أنه أمر لأجل الإرشاد إلی ما حکم به العقل أی أنه أمر منه بما هو عاقل و بعبارة أخری أن النزاع هنا فی أن مثل هذا الأمر من الشارع هل هو أمر تأسیسی و هذا معنی أنه مولوی أو أنه أمر تأکیدی و هو معنی أنه إرشادی .لقد وقع الخلاف فی ذلک و الحق أنه للإرشاد حیث یفرض أن حکم العقل هذا کاف لدعوة المکلف إلی الفعل الحسن و اندفاع إرادته للقیام به فلا حاجة إلی جعل الداعی من قبل المولی ثانیا بل یکون عبثا و لغوا بل هو مستحیل لأنه یکون من باب تحصیل الحاصل .و علیه فکل ما یرد فی لسان الشرع من الأوامر فی موارد المستقلات العقلیة لا بد أن یکون تأکیدا لحکم العقل لا تأسیسا .نعم لو قلنا بأن ما تطابقت علیه آراء العقلاء هو استحقاق المدح و الذم فقط علی وجه لا یلزم منه استحقاق الثواب و العقاب من قبل المولی أو أنه

ص :237

یلزم منه ذلک بل هو عینه (1)و لکن لا یدرک ذلک کل أحد فیمکن ألا یکون نفس إدراک استحقاق المدح و الذم کافیا لدعوة کل أحد إلی الفعل إلا للأفذاذ من الناس فلا یستغنی أکثر الناس عن الأمر من المولی المترتب علی موافقته الثواب و علی مخالفته العقاب فی مقام الدعوة إلی الفعل و انقیاده فإذا ورد أمر من المولی فی مورد حکم العقل المستقل فلا مانع من حمله علی الأمر المولوی إلا إذا استلزم منه محال التسلسل کالأمر بالطاعة و الأمر بالمعرفة بل مثل هذه الموارد لا معنی لأن یکون الأمر فیها مولویا لأنه لا یترتب علی موافقته و مخالفته غیر ما یترتب علی متعلق المأمور به نظیر الأمر بالاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی .

توضیح و تعقیب

و الحق أن الالتزام بالتحسین و التقبیح العقلیین هو نفس الالتزام بتحسین الشارع و تقبیحه وفقا لحکم العقلاء لأنه من جملتهم لا أنهما شیئان أحدهما یلزم الآخر و إن توهم ذلک بعضهم .و لذا تری أکثر الأصولیین و الکلامیین لم یجعلوهما مسألتین بعنوانین بل لم یعنونوا إلا مسألة واحدة هی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین .و علیه فلا وجه للبحث عن ثبوت الملازمة بعد فرض القول بالتحسین و التقبیح و أما نحن فإنما جعلنا الملازمة مسألة مستقلة فللخلاف الذی وقع

ص :238


1- الحق کما - صرح بذلک کثیر من العلماء المحققین - أن معنی استحقاق المدح لیس إلا استحقاق الثواب ومعنی استحقاق الذم لیس الا استحقاق العقاب، بمعنی أن المراد من المدح ما یعم الثواب لان المراد بالمدح المجازاة بالخیر، والمراد من الذم ما یعم العقاب لان المراد به المکافأة بالشر. ولذا قالوا: ان مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه، وأرادوا به هذا المعنی.

فیها بتوهم التفکیک .و من العجیب ما عن صاحب الفصول رحمه الله من إنکاره للملازمة مع قوله بالتحسین و التقبیح العقلیین و کأنه ظن أن کل ما أدرکه العقل من المصالح و المفاسد و لو بطریق نظری أو من غیر سبب عام من الأسباب المتقدم ذکرها یدخل فی مسألة التحسین و التقبیح و أن القائل بالملازمة یقول بالملازمة أیضا فی مثل ذلک .و لکن نحن قلنا إن قضایا التحسین و التقبیح هی القضایا التی تطابقت علیها آراء العقلاء کافة بما هم عقلاء و هی بادی رأی الجمیع و فی مثلها نقول بالملازمة لا مطلقا فلیس کل ما أدرکه العقل من أی سبب کان و لو لم تتطابق علیه الآراء أو تطابقت و لکن لا بما هم عقلاء یدخل فی هذه المسألة .و قد ذکرنا نحن سابقا أن ما یدرکه العقل من الحسن و القبح بسبب العادة أو الانفعال و نحوهما و ما یدرکه لا من سبب عام للجمیع لا یدخل فی موضوع مسألتنا .و نزید هذا بیانا و توضیحا هنا فنقول إن مصالح الأحکام الشرعیة المولویة التی هی نفسها ملاکات أحکام الشارع لا تندرج تحت ضابط نحن ندرکه بعقولنا إذ لا یجب فیها أن تکون هی بعینها المصالح العمومیة المبنی علیها حفظ النظام العام و إبقاء النوع التی هی أعنی هذه المصالح العمومیة مناطات الأحکام العقلیة فی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین .و علی هذا فلا سبیل للعقل بما هو عقل إلی إدراک جمیع ملاکات الأحکام الشرعیة فإذا أدرک العقل المصلحة فی شیء أو المفسدة فی آخر و لم یکن إدراکه مستندا إلی إدراک المصلحة أو المفسدة العامتین اللتین یتساوی فی إدراکهما جمیع العقلاء فإنه أعنی العقل لا سبیل له إلی الحکم

ص :239

بأن هذا المدرک یجب أن یحکم به الشارع علی طبق حکم العقل إذ یحتمل أن هناک ما هو مناط لحکم الشارع غیر ما أدرکه العقل أو أن هناک مانعا یمنع من حکم الشارع علی طبق ما أدرکه العقل و إن کان ما أدرکه مقتضیا لحکم الشارع .و لأجل هذا نقول إنه لیس کل ما حکم به الشرع یجب أن یحکم به العقل و إلی هذا یرمی(قول إمامنا الصادق علیه السلام:إن دین الله لا یصاب بالعقل) و لأجل هذا أیضا نحن لا نعتبر القیاس و الاستحسان من الأدلة الشرعیة علی الأحکام .و علی هذا التقدیر فإن کان ما أنکره صاحب الفصول و الأخباریون من الملازمة هی الملازمة فی مثل تلک المدرکات العقلیة التی هی لیست من المستقلات العقلیة التی تطابقت علیها آراء العقلاء بما هم عقلاء فإن إنکارهم فی محله و هم علی حق فیه لا نزاع لنا معهم فیه و لکن هذا أمر أجنبی عن الملازمة المبحوث عنها فی المستقلات العقلیة .و إن کان ما أنکروه هی مطلق الملازمة حتی فی المستقلات العقلیة کما قد یظهر من بعض تعبیراتهم فهم لیسوا علی حق فیما أنکروا و لا مستند لهم .و علی هذا فیمکن التصالح بین الطرفین بتوجیه کلام الأخباریین و صاحب الفصول بما یتفق و ما أوضحناه و لعله لا یأباه بعض کلامهم

ص :240

الباب الثانی غیر المستقلات العقلیة

اشارة

ص :241

ص :242

تمهید

@

اشارة

سبق أن قلنا إن المراد من غیر المستقلات العقلیة هو ما لم یستقل العقل به وحده فی الوصول إلی النتیجة بل یستعین بحکم شرعی (1)فی إحدی مقدمتی القیاس و هی الصغری و المقدمة الأخری و هی الکبری الحکم العقلی الذی هو عبارة عن حکم العقل بالملازمة عقلا بین الحکم فی المقدمة الأولی و بین حکم شرعی آخر .مثاله حکم العقل بالملازمة بین وجوب ذی المقدمة شرعا و بین وجوب المقدمة شرعا .و هذه الملازمة العقلیة لها عدة موارد وقع فیها البحث و صارت موضعا للنزاع و نحن ذاکرون هنا أهم هذه المواضع فی مسائل

ص :243


1- قلنا (یستعین بحکم شرعی) ولم نقل (ان المقدمة شرعیة) لتعمیم بحث غیر المستقلات العقلیة لمسألة الاجزاء، فان صغری مسألة الاجزاء هکذا: (هذا الفعل اتیان بالمأمور به شرعا) والحکم بأن الفعل اتیان بالمأمور به یستعان فیه بالحکم الشرعی وهو الامر المفروض ثبوته.
المسألة الأولی الإجزاء[1]
تصدیر

لا شک فی أن المکلف إذا فعل بما أمر به مولاه علی الوجه المطلوب أی أتی بالمطلوب علی طبق ما أمر به جامعا لجمیع ما هو معتبر فیه من الأجزاء أو الشرائط شرعیة أو عقلیة فإن هذا الفعل منه یعتبر امتثالا لنفس ذلک الأمر سواء کان الأمر اختیاریا واقعیا أو اضطراریا أو ظاهریا .و لیس فی هذا خلاف أو یمکن أن یقع فیه الخلاف و کذا لا شک و لا خلاف فی أن هذا الامتثال علی تلک الصفة یجزئ و یکتفی به عن امتثال آخر لأن المکلف حسب الفرض قد جاء بما علیه من التکلیف علی الوجه المطلوب و کفی .و حینئذ یسقط الأمر الموجه إلیه لأنه قد حصل بالفعل ما دعا إلیه و انتهی أمده و یستحیل أن یبقی بعد حصول غرضه و ما کان قد دعا إلیه لانتهاء أمد دعوته بحصول غایته الداعیة إلیه إلا إذا جوزنا المحال و هو حصول المعلول بلا علة (1).

ص :244


1- وإذا صح أن یقال شئ فی هذا الباب فلیس فی أجزاء المأتی به والاکتفاء بأمتثال الامر، فان هذا قطعی کما قلنا فی المتن - وانما الذی یصح أن یقال ویبحث عنه ففی جواز الامتثال مرة أخری بدلا عن الامتثال الاول علی وجه یلغی الامتثال الاول ویکتفی بالثانی. وهو خارج عن مسألة الاجزاء، ویعبر عنه فی لسان الاصولیین بقولهم: (تبدیل الامتثال بالامتثال). وقد یتصور الطالب ان هذا لا مانع منه عقلا، بأن یتصور أن هناک حالة منتظرة بعد الامتثال الاول، بمعنی أن نتصور أن الغرض من الامر لم یحصل بمجرد الامتثال الاول فلا یسقط عنده الامر، بل یبقی مجال لامتثاله ثانیا، لا سیما إذا کان الامتثال الثانی أفضل. ویساعد علی هذا التصویر انه قد ورد فی الشریعة ما یؤید ذلک بظاهره مثل ما ورد فی باب اعادة من صلی فرادی عند حضور الجماعة: (ان الله تعالی یختار أحبهما إلیه). والحق عدم جواز تبدیل الامتثال بامتثال آخر، لان الاتیان بالمأمور به بحدوده وقیوده علة تامة لحصول الغرض، فلا تبقی حالة منتظرة بعد الامتثال الاول فیسقط الامر لانتهاء أمده کما قلنا فی المتن. أما ما ورد فی جواز ذلک فیحمل علی استحباب الاعادة بامر آخر ندبی، وینبغی أن یحمل قوله علیه السلام (یختار أحبهما إلیه) علی أن المراد یختار ذلک فی مقام عطاء الثواب والاجر، لا فی مقام امتثال الامر الوجوبی بالصلاة وان الامتثال یقع بالثانی.

و إنما وقع الخلاف أو یمکن أن یقع فی مسألة الإجزاء فیما إذا کان هناک أمران أمر أولی واقعی لم یمتثله المکلف إما لتعذره علیه أو لجهله به و أمر ثانوی إما اضطراری فی صورة تعذر الأول و إما ظاهری فی صورة الجهل بالأول فإنه إذا امتثل المکلف هذا الأمر الثانوی الاضطراری أو الظاهری ثم زال العذر و الاضطرار أو زال الجهل و انکشف الواقع صح الخلاف فی کفایة ما أتی به امتثالا للأمر الثانی عن امتثال الأمر الأول و إجزائه عنه إعادة فی الوقت و قضاء فی خارجه .و لأجل هذا عقدت هذه المسألة مسألة الإجزاء .و حقیقتها هو البحث عن ثبوت الملازمة عقلا بین الإتیان بالمأمور

ص :245

به بالأمر الاضطراری أو الظاهری و بین الإجزاء و الاکتفاء به عن امتثال الأمر الأولی الاختیاری الواقعی .و قد عبر بعض علماء الأصول المتأخرین عن هذه المسألة بقوله هل الإتیان بالمأمور به علی وجهه یقتضی الإجزاء أو لا یقتضی .و المراد من الاقتضاء فی کلامه الاقتضاء بمعنی العلیة و التأثیر أی أنه هل یلزم عقلا من الإتیان بالمأمور به سقوط التکلیف شرعا أداء و قضاء .و من هنا تدخل هذه المسألة فی باب الملازمات العقلیة علی ما حررنا البحث فی صدر هذا المقصد عن المراد بالملازمة العقلیة و لا وجه لجعلها من باب مباحث الألفاظ لأن ذلک لیس من شئون الدلالة اللفظیة .و علینا أن نعقد البحث فی مقامین الأول فی إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراری الثانی فی إجزاء المأمور به بالأمر الظاهری

المقام الأول الأمر الاضطراری

وردت فی الشریعة المطهرة أوامر لا تحصی تختص بحال الضرورات و تعذر امتثال الأوامر الأولی أو بحال الحرج فی امتثالها مثل التیمم و وضوء الجبیرة و غسلها و صلاة العاجز عن القیام أو القعود و صلاة الغریق .و لا شک فی أن الاضطرار ترتفع به فعلیة التکلیف لأن الله تعالی لا یکلف نفسا إلا وسعها و قد ورد فی(الحدیث النبوی المشهور الصحیح:رفع عن أمتی ما اضطروا إلیه) .غیر أن الشارع المقدس حرصا علی بعض العبادات لا سیما الصلاة التی لا تترک بحال أمر عباده بالاستعاضة عما اضطروا إلی ترکه بالإتیان

ص :246

ببدل عنه فأمر مثلا بالتیمم بدلا عن الوضوء أو الغسل و قد جاء(فی الحدیث:یکفیک عشر سنین) و أمر بالمسح علی الجبیرة بدلا عن غسل بشرة العضو فی الوضوء و الغسل و أمر بالصلاة من جلوس بدلا عن الصلاة من قیام و هکذا فیما لا یحصی من الأوامر الواردة فی حال اضطرار المکلف و عجزه عن امتثال الأمر الأولی الاختیاری أو فی حال الحرج فی امتثاله .و لا شک فی أن هذه الأوامر الاضطراریة هی أوامر واقعیة حقیقیة ذات مصالح ملزمة کالأوامر الأولیة و قد تسمی الأوامر الثانویة تنبیها علی أنها واردة لحالات طارئة ثانویة علی المکلف و إذا امتثلها المکلف أدی ما علیه فی هذا الحال و سقط عنه التکلیف بها .و لکن یقع البحث و التساؤل فیما لو ارتفعت تلک الحالة الاضطراریة الثانویة و رجع المکلف إلی حالته الأولی من التمکن من أداء ما کان علیه واجبا فی حالة الاختیار فهل یجزئه ما کان قد أتی به فی حال الاضطرار أو لا یجزئه بل لا بد له من إعادة الفعل فی الوقت أداء إذا کان ارتفاع الاضطرار قبل انتهاء وقت الفعل و کنا قلنا بجواز البدار (1)أو إعادته خارج الوقت قضاء إذا کان ارتفاع الاضطرار بعد الوقت .إن هذا أمر یصح فیه الشک و التساؤل و إن کان المعروف بین الفقهاء فی فتاویهم القول بالإجزاء مطلقا أداء و قضاء .غیر أن إطباقهم علی القول بالإجزاء لیس مستندا إلی دعوی أن البدیهیة العقلیة تقضی به لأنه هنا یمکن تصور عدم الإجزاء بلا محذور عقلی أعنی یمکننا أن نتصور عدم الملازمة بین الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری

ص :247


1- لانه إذا لم یجز البدار، فان ابتدر فعمله باطل فکیف یجزئ، وان لم یبتدر فلا یبقی مجال لزوال العذر فی الوقت حتی یتصور الاداء.

و بین الإجزاء به عن الأمر الواقعی الاختیاری .توضیح ذلک أنه لا إشکال فی أن المأتی به فی حال الاضطرار أنقص من المأمور به حال الاختیار و القول بالإجزاء فیه معناه کفایة الناقص عن الکامل مع فرض حصول التمکن من أداء الکامل فی الوقت أو خارجه .و لا شک فی أن العقل لا یری بأسا بالأمر بالفعل ثانیا بعد زوال الضرورة تحصیلا للکامل الذی قد فات منه بل قد یلزم العقل بذلک إذا کان فی الکامل مصلحة ملزمة لا یفی بها الناقص و لا یسد مسد الکامل فی تحصیلها .و المقصود الذی نرید أن نقوله بصریح العبارة أن الإتیان بالناقص لیس بالنظرة الأولی مما یقتضی عقلا الإجزاء عن الکامل .فلا بد أن یکون ذهاب الفقهاء إلی الإجزاء لسر هناک إما لوجود ملازمة بین الإتیان بالناقص و بین الإجزاء عن الکامل و إما لغیر ذلک من الأسباب فیجب أن نتبین ذلک فنقول هناک وجوه أربعة تصلح أن تکون کلها أو بعضها مستندا للقول بالإجزاء نذکرها کلها 1 أنه من المعلوم أن الأحکام الواردة فی حال الاضطرار واردة للتخفیف علی المکلفین و التوسعة علیهم فی تحصیل مصالح التکالیف الأصلیة الأولیة یُرِیدُ اللّٰهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لاٰ یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ .و لیس من شأن التخفیف و التوسعة أن یکلفهم ثانیا بالقضاء أو الأداء و إن کان الناقص لا یسد مسد الکامل فی تحصیل کل مصلحته الملزمة .2 أن أکثر الأدلة الواردة فی التکالیف الاضطراریة مطلقة مثل قوله تعالی فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً أی أن ظاهرها بمقتضی الإطلاق الاکتفاء بالتکلیف الثانی لحال الضرورة و أن التکلیف منحصر فیه و لیس وراءه تکلیف آخر فلو أن الأداء أو القضاء واجبان أیضا لوجب البیان و التنصیص علی ذلک و إذ لم یبین ذلک علم أن الناقص یجزئ عن أداء الکامل

ص :248

أداء و قضاء لا سیما مع ورود مثل(قوله علیه السلام:إن التراب یکفیک عشر سنین) .3 أن القضاء بالخصوص إنما یجب فیما إذا صدق الفوت و یمکن أن یقال إنه لا یصدق الفوت فی المقام لأن القضاء إنما یفرض فیما إذا کانت الضرورة مستمرة فی جمیع وقت الأداء و علی هذا التقدیر لا أمر بالکامل فی الوقت و إذا لم یکن أمر فقد یقال إنه لا یصدق بالنسبة إلیه فوت الفریضة إذ لا فریضة .و أما الأداء فإنما یفرض فیما یجوز البدار به و قد ابتدر المکلف حسب الفرض إلی فعل الناقص فی الأزمنة الأولی من الوقت ثم زالت الضرورة قبل انتهاء الوقت و نفس الرخصة فی البدار لو ثبتت تشیر إلی مسامحة الشارع فی تحصیل الکامل عند التمکن و إلا لفرض علیه الانتظار تحصیلا للکامل .4 إذا کنا قد شککنا فی وجوب الأداء و القضاء و المفروض أن وجوبهما لم ننفه بإطلاق و نحوه فإن هذا شک فی أصل التکلیف و فی مثله تجری أصالة البراءة القاضیة بعدم وجوبهما .فهذه الوجوه الأربعة کلها أو بعضها أو نحوها هی سر حکم الفقهاء بالإجزاء قضاء و أداء و القول بالإجزاء علی هذا أمر لا مفر منه و یتأکد ذلک فی الصلاة التی هی العمدة فی الباب

ص :249

المقام الثانی الأمر الظاهری
تمهید
اشارة

للحکم الظاهری اصطلاحان أحدهما ما تقدم فی أول الجزء الأول ص 6 و هو المقابل للحکم الواقعی و إن کان الواقعی مستفادا من الأدلة الاجتهادیة الظنیة فیختص الظاهری بما ثبت بالأصول العملیة و ثانیهما کل حکم ثبت ظاهرا عند الجهل بالحکم الواقعی الثابت فی علم الله تعالی فیشمل الحکم الثابت بالأمارات و الأصول معا فیکون الحکم الظاهری بالمعنی الثانی أعم من الأول .و هذا المعنی الثانی العام هو المقصود هنا بالبحث فالأمر الظاهری ما تضمنه الأصل أو الأمارة .ثم إنه لا شک فی أن الأمر الواقعی فی موردی الأصل و الأمارة غیر منجز علی المکلف بمعنی أنه لا عقاب علی مخالفته بسبب العمل بالأمارة و الأصل لو اتفق مخالفتهما له لأنه من الواضح أن کل تکلیف غیر واصل إلی المکلف بعد الفحص و الیأس غیر منجز علیه ضرورة أن التکلیف إنما یتنجز بوصوله بأی نحو من أنحاء الوصول و لو بالعلم الإجمالی .هذا کله لا کلام فیه و سیأتی فی مباحث الحجة تفصیل الحدیث عنه و إنما الذی یحسن أن نبحث عنه هنا فی هذا الباب هو أن الأمر الواقعی المجهول لو انکشف فیه بعد ذلک خطأ الأمارة أو الأصل و قد عمل المکلف حسب الفرض علی خلافه اتباعا للأمارة الخاطئة أو الأصل المخالف للواقع فهل یجب علی المکلف امتثال الأمر الواقعی فی الوقت أداء و فی خارج الوقت قضاء أو إنه لا یجب شیء علیه بل یجزی ما أتی به علی طبق

ص :250

الأمارة أو الأصل و یکتفی به .ثم إن العمل علی خلاف الواقع کما سبق تارة یکون بالأمارة و أخری بالأصل ثم الانکشاف علی نحوین انکشاف علی نحو الیقین و انکشاف بمقتضی حجة معتبرة فهذه أربع صور .و لاختلاف البحث فی هذه الصور مع اتفاق صورتین منها فی الحکم و هما صورتا الانکشاف بحجة معتبرة مع العمل علی طبق الأمارة و مع العمل بمقتضی الأصل نعقد البحث فی ثلاث مسائل

1 الإجزاء فی الأمارة مع انکشاف الخطإ یقینا

إن قیام الأمارة تارة یکون فی الأحکام کقیام الأمارة علی وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة حال الغیبة بدلا عن صلاة الجمعة و أخری فی الموضوعات کقیام البینة علی طهارة ثوب صلی به أو ماء توضأ منه ثم بانت نجاسته .و المعروف عند الإمامیة عدم الإجزاء مطلقا فی الأحکام و الموضوعات أما فی الأحکام فلأجل اتفاقهم علی مذهب التخطئة أی أن المجتهد یخطئ و یصیب لأن لله تعالی أحکاما ثابتة فی الواقع یشترک فیها العالم و الجاهل أی إن الجاهل مکلف بها کالعالم غایة الأمر أنها غیر منجزة بالفعل بالنسبة إلی الجاهل القاصر (1)حین جهله و إنما یکون معذورا فی المخالفة

ص :251


1- الجاهل القاصر من لم یتمکن من الفحص أو فحص فلم یعثر. ویقابله المقصر، وهو بعکسه. والاحکام منجزة بالنسبة إلی المقصر لحصول العلم الاجمالی بها عنده، والعلم منجز للاحکام وإن کان اجمالیا فلا یکون معذورا. بل الاحتمال وحده بالنسبة إلیه یکون منجزا وسیأتی البحث عن ذلک فی (مباحث الحجة).

لو اتفقت له باتباع الأمارة إذ لا تکون الأمارة عندهم إلا طریقا محضا لتحصیل الواقع .و مع انکشاف الخطإ لا یبقی مجال للعذر بل یتنجز الواقع حینئذ فی حقه من دون أن یکون قد جاء بشیء یسد مسده و یغنی عنه .و لا یصح القول بالإجزاء إلا إذا قلنا إنه بقیام الأمارة علی وجوب شیء تحدث فیه مصلحة ملزمة علی أن تکون هذه المصلحة وافیة بمصلحة الواقع یتدارک بها مصلحة الواجب الواقعی فتکون الأمارة مأخوذة علی نحو الموضوعیة للحکم ضرورة أنه مع هذا الفرض یکون ما أتی به علی طبق الأمارة مجزیا عن الواقع لأنه قد أتی بما یسد مسده و یغنی عنه فی تحصیل مصلحة الواقع .و لکن هذا معناه التصویب المنسوب إلی المعتزلة أی أن أحکام الله تعالی تابعة لآراء المجتهدین و إن کانت له أحکام واقعیة ثابتة فی نفسها فإنه یکون علیه کل رأی أدی إلیه نظر المجتهد قد أنشأ الله تعالی علی طبقه حکما من الأحکام و التصویب بهذا المعنی قد اجتمعت الإمامیة علی بطلانه و سیأتی البحث عنه فی مباحث الحجة .و أما القول بالمصلحة السلوکیة أی أن نفس متابعة الأمارة فیه مصلحة ملزمة یتدارک بها ما فات من مصلحة الواقع و إن لم تحدث مصلحة فی نفس الفعل الذی أدت الأمارة إلی وجوبه فهذا قول لبعض الإمامیة لتصحیح جعل الطرق و الأمارات فی فرض التمکن من تحصیل العلم علی ما سیأتی بیانه فی محله إن شاء الله تعالی .و لکنه علی تقدیر صحة هذا القول لا یقتضی الإجزاء أیضا لأنه علی فرضه تبقی مصلحة الواقع علی ما هی علیه عند انکشاف خطإ الأمارة فی الوقت أو فی خارجه .

ص :252

توضیح ذلک أن المصلحة السلوکیة المدعاة هی مصلحة تدارک الواقع باعتبار أن الشارع لما جعل الأمارة فی حال تمکن المکلف من تحصیل العلم بالواقع فإنه قد فوت علیه الواقع فلا بد من فرض تدارکه بمصلحة تکون فی نفس اتباع الأمارة و اللازم من المصلحة التی یتدارک بها الواقع أن تقدر بقدر ما فات من الواقع من مصلحة لا أکثر و عند انکشاف الخطإ فی الوقت لم یفت من مصلحة الواقع إلا مصلحة فضیلة أول الوقت و عند انکشاف الخطإ فی خارج الوقت لم تفت إلا مصلحة الوقت أما مصلحة أصل الفعل فلم تفت من المکلف لإمکان تحصیلها بعد الانکشاف فما هو الملزم للقول بحصول مصلحة یتدارک بها أصل مصلحة الفعل حتی یلزم الإجزاء .و أما فی الموضوعات فالظاهر أن المعروف عندهم أن الأمارة فیها قد أخذت علی نحو الطریقیة کقاعدة الید و الصحة و سوق المسلمین و نحوها فإن أصابت الواقع فذاک و إن أخطأت فالواقع علی حاله و لا تحدث بسببها مصلحة یتدارک بها مصلحة الواقع غایة الأمر أن المکلف معها معذور عند الخطإ و شأنها فی ذلک شأن الأمارة فی الأحکام .و السر فی حملها علی الطریقیة هو أن الدلیل الذی دل علی حجیة الأمارة فی الأحکام هو نفسه دل علی حجیتها فی الموضوعات بلسان واحد فی الجمیع لا أن القول بالموضوعیة هنا یقتضی محذور التصویب المجمع علی بطلانه عند الإمامیة کالأمارة فی الأحکام و علیه فالأمارة فی الموضوعات أیضا لا تقتضی الإجزاء بلا فرق بینها و بین الأمارة فی الأحکام

ص :253

2 الإجزاء فی الأصول مع انکشاف الخطإ یقینا

لا شک فی أن العمل بالأصل إنما یصح إذا فقد المکلف الدلیل الاجتهادی علی الحکم فیرجع إلیه باعتباره وظیفة للجاهل لا بد منها للخروج من الحیرة .فالأصل فی حقیقته وظیفة للجاهل الشاک ینتهی إلیه فی مقام العمل إذ لا سبیل له غیر ذلک لرفع الحیرة و علاج حالة الشک .ثم إن الأصل علی قسمین 1 أصل عقلی و المراد منه ما یحکم به العقل و لا یتضمن جعل حکم ظاهری من الشارع کالاحتیاط و قاعدة التخییر و البراءة العقلیة التی مرجعها إلی حکم العقل بنفی العقاب بلا بیان فهی لا مضمون لها إلا رفع العقاب لا جعل حکم بالإباحة من الشارع .2 أصل شرعی و هو المجعول من الشارع فی مقام الشک و الحیرة فیتضمن جعل حکم ظاهری کالاستصحاب و البراءة الشرعیة التی مرجعها إلی حکم الشارع بالإباحة و مثلها أصالة الطهارة و الحلیة .إذا عرفت ذلک فنقول أولا إن بحث الإجزاء لا یتصور فی قاعدة الاحتیاط مطلقا سواء کانت عقلیة أو شرعیة لأن المفروض فی الاحتیاط هو العمل بما یحقق امتثال التکلیف الواقعی فلا یتصور فیه تفویت المصلحة .و ثانیا کذلک لا یتصور بحث الإجزاء فی الأصول العقلیة الأخری کالبراءة و قاعدة التخییر لأنها حسب الفرض لا تتضمن حکما ظاهریا حتی یتصور فیها الإجزاء و الاکتفاء بالمأتی به عن الواقع بل إن مضمونها هو سقوط العقاب و المعذوریة المجردة .و علیه فینحصر البحث فی خصوص الأصول الشرعیة عدا الاحتیاط

ص :254

کالاستصحاب و أصالة البراءة و الحلیة و أصالة الطهارة .و هی لأول وهلة لا مجال لتوهم الإجزاء فیها لا فی الأحکام و لا فی الموضوعات فإنها أولی من الأمارات فی عدم الإجزاء باعتبار أنها کما ذکرنا فی صدر البحث وظیفة عملیة یرجع إلیها الجاهل الشاک لرفع الحیرة فی مقام العمل و العلاج الوقتی أما الواقع فهو علی واقعیته فیتنجز حین العلم به و انکشافه و لا مصلحة فی العمل بالأصل غیر رفع الحیرة عند الشک فلا یتصور فیه مصلحة وافیة یتدارک بها مصلحة الواقع حتی یقتضی الإجزاء و الاکتفاء به عن الواقع .و لذا أفتی علماؤنا المتقدمون بعدم الإجزاء فی الأصول العملیة .و مع هذا فقد قال قوم من المتأخرین بالإجزاء منهم شیخنا صاحب الکفایة و تبعه تلمیذه أستاذنا الشیخ محمد حسین الأصفهانی و لکن ذلک فی خصوص الأصول الجاریة لتنقیح موضوع التکلیف و تحقیق متعلقه کقاعدة الطهارة و أصالة الحلیة و استصحابهما دون الأصول الجاریة فی نفس الأحکام .و منشأ هذا الرأی عنده اعتقاده بأن دلیل الأصل فی موضوعات الأحکام موسع لدائرة الشرط أو الجزء المعتبر فی موضوع التکلیف و متعلقه بأن یکون مثل(قوله علیه السلام:کل شیء نظیف حتی تعلم أنه قذر) یدل علی أن کل شیء قبل العلم بنجاسته محکوم بالطهارة و بالحکم بالطهارة حکم بترتیب آثارها و إنشاء لأحکامها التکلیفیة و الوضعیة التی منها الشرطیة فتصح الصلاة بمشکوک الطهارة کما تصح بالطاهر الواقعی .و یلزم من ذلک أن یکون الشرط فی الصلاة حقیقة أعم من الطهارة الواقعیة و الطهارة الظاهریة .و إذا کان الأمر کذلک فإذا انکشف الخلاف لا یکون ذلک موجبا

ص :255

لانکشاف فقدان العمل لشرطه بل یکون بالنسبة إلیه من قبیل ارتفاعه من حین ارتفاع الجهل فلا یتصور حینئذ معنی لعدم الإجزاء بالنسبة إلی ما أتی به حین الشک و المفروض أن ما أتی به یکون واجدا لشرطه المعتبر فیه تحقیقا باعتبار أن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعیة و الظاهریة حین الجهل فلا یکون فیه انکشاف للخلاف و لا فقدان للشرط .و قد ناقشه شیخنا المیرزا النائینی بعده مناقشات یطول ذکرها و لا یسعها هذا المختصر و الموضوع من المباحث الدقیقة التی هی فوق مستوی کتابنا

3 الإجزاء فی الأمارات و الأصول مع انکشاف الخطإ بحجة معتبرة

و هذه أهم مسألة فی الإجزاء من جهة عموم البلوی بها للمکلفین فإن المجتهدین کثیرا ما یحصل لهم تبدل فی الرأی بما یوجب فساد أعمالهم السابقة ظاهرا و بتبعهم المقلدون لهم و المقلدون أیضا قد ینتقلون من تقلید شخص إلی تقلید شخص آخر یخالف الأول فی الرأی بما یوجب فساد الأعمال السابقة .فنقول فی هذه الأحوال إنه بعد قیام الحجة المعتبرة اللاحقة بالنسبة إلی المجتهد أو المقلد لا إشکال فی وجوب الأخذ بها فی الوقائع اللاحقة غیر المرتبطة بالوقائع السابقة .و لا إشکال أیضا فی معنی الوقائع السابقة التی لا یترتب علیها أثر أصلا فی الزمن اللاحق .و إنما الإشکال فی الوقائع اللاحقة المرتبطة بالوقائع السابقة مثل ما لو انکشف الخطأ اجتهادا أو تقلیدا فی وقت العبادة و قد عمل بمقتضی الحجة السابقة أو انکشف الخطأ فی خارج الوقت و کان عمله مما یقضی کالصلاة و مثل ما لو تزوج زوجة بعقد غیر عربی اجتهادا أو تقلیدا ثم

ص :256

قامت الحجة عنده علی اعتبار اللفظ العربی و الزوجة لا تزال موجودة .فإن المعروف فی الموضوعات الخارجیة عدم الإجزاء .أما فی الأحکام فقد قیل بقیام الإجماع علی الإجزاء لا سیما فی الأمور العبادیة کالمثال الأول المتقدم .و لکن العمدة فی الباب أن نبحث عن القاعدة ما ذا تقتضی هنا هل تقتضی الإجزاء أو لا تقتضیه و الظاهر أنها لا تقتضی الإجزاء .و خلاصة ما ینبغی أن یقال أن من یدعی الإجزاء لا بد أن یدعی أن المکلف لا یلزمه فی الزمان اللاحق إلا العمل علی طبق الحجة الأخیرة التی قامت عنده و أما عمله السابق فقد کان علی طبق حجة ماضیة علیه فی حینها و لکن یقال له إن التبدل الذی حصل له إما أن یدعی أنه تبدل فی الحکم الواقعی أو تبدل فی الحجة علیه و لا ثالث لهما .أما دعوی التبدل فی الحکم الواقعی فلا إشکال فی بطلانها لأنها تستلزم القول بالتصویب و هو ظاهر .و أما دعوی التبدل فی الحجة فإن أراد أن الحجة الأولی هی حجة بالنسبة إلی الأعمال السابقة و بالنظر إلی وقتها فقط فهذا لا ینفع فی الإجزاء بالنسبة إلی الأعمال اللاحقة و آثار الأعمال السابقة و إن أراد أن الحجة الأولی هی حجة مطلقا حتی بالنسبة إلی الأعمال اللاحقة و آثار الأعمال السابقة فالدعوی باطلة قطعا .لأنه فی تبدل الاجتهاد ینکشف بحجة معتبرة أن المدرک السابق لم یکن حجة مطلقا حتی بالنسبة إلی أعماله اللاحقة أو أنه تخیله حجة و هو لیس بحجة لا أن المدرک الأول حجة مطلقا و هذا الثانی حجة أخری و کذلک الکلام فی تبدل التقلید فإن مقتضی التقلید الثانی هو انکشاف بطلان الأعمال الواقعة علی طبق التقلید الأول فلا بد من ترتیب

ص :257

الأثر علی طبق الحجة الفعلیة فإن الحجة السابقة أی التقلید الأول کلا حجة بالنسبة إلی الآثار اللاحقة و إن کانت حجة علیه فی وقته و المفروض عدم التبدل فی الحکم الواقعی فهو باق علی حاله فیجب العمل علی طبق الحجة الفعلیة و ما تقتضیه .فلا إجزاء إلا إذا ثبت الإجماع علیه .و تفصیل الکلام فی هذا الموضوع یحتاج إلی سعة من القول فوق مستوی هذا المختصر .

تنبیه فی تبدل القطع

لو قطع المکلف بأمر خطإ فعمل علی طبق قطعه ثم بان له یقینا خطؤه فإنه لا ینبغی الشک فی عدم الإجزاء و السر واضح لأنه عند القطع الأول لم یفعل ما یستوفی مصلحة الواقع بأی وجه من وجوه الاستیفاء فکیف یسقط التکلیف الواقعی لأنه فی الحقیقة لا أمر موجه إلیه و إنما کان یتخیل الأمر .و علیه فیجب امتثال الواقع فی الوقت أداء و فی خارجه قضاء .نعم لو أن العمل الذی قطع بوجوبه کان من باب الاتفاق محققا لمصلحة الواقع فإنه لا بد أن یکون مجزیا و لکن هذا أمر آخر اتفاقی لیس من جهة کونه مقطوع الوجوب

ص :258

المسألة الثانیة مقدمة الواجب
تحریر النزاع

کل عاقل یجد من نفسه أنه إذا وجب علیه شیء و کان حصوله یتوقف علی مقدمات فإنه لا بد له من تحصیل تلک المقدمات لیتوصل إلی فعل ذلک الشیء بها .و هذا الأمر بهذا المقدار لیس موضعا للشک و النزاع و إنما الذی وقع موضعا للشک و جری فیه النزاع عند الأصولیین هو أن هذه اللابدیة العقلیة للمقدمة التی لا یتم الواجب إلا بها هل یستکشف منها اللابدیة شرعا أیضا یعنی أن الواجب هل یلزم عقلا من وجوبه الشرعی وجوب مقدمته شرعا أو فقل علی نحو العموم کل فعل واجب عند مولی من الموالی هل یلزم منه عقلا وجوب مقدمته أیضا عند ذلک المولی .و بعبارة رابعة أکثر وضوحا أن العقل لا شک یحکم بوجوب مقدمة الواجب أی یدرک لزومها و لکن هل یحکم أیضا بأنها واجبة أیضا عند من أمر بما یتوقف علیها .و علی هذا البیان فالملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع هی موضع البحث فی هذه المسألة .

مقدمة الواجب من أی قسم من المباحث الأصولیة

و إذا اتضح ما تقدم فی تحریر النزاع نستطیع أن نفهم أنه فی أی قسم من أقسام المباحث الأصولیة ینبغی أن تدخل هذه المسألة و توضیح ذلک

ص :259

أن هذه الملازمة علی تقدیر القول بها تکون علی أنحاء ثلاثة إما ملازمة غیر بینة أو بینة بالمعنی الأعم أو بینة بالمعنی الأخص (1).فإن کانت هذه الملازمة فی نظر القائل بها غیر بینة أو بینة بالمعنی الأعم فإثبات اللازم و هو وجوب المقدمة شرعا لا یرجع إلی دلالة اللفظ أبدا بل إثباته إنما یتوقف علی حجیة هذا الحکم العقلی بالملازمة و إذا تحققت هناک دلالة فهی من نوع دلالة الإشارة (2)و علی هذا فیجب أن تدخل المسألة فی بحث الملازمات العقلیة غیر المستقلة و لا یصح إدراجها فی مباحث الألفاظ .و إن کانت هذه الملازمة فی نظر القائل بها ملازمة بینة بالمعنی الأخص فإثبات اللازم یکون لا محالة بالدلالة اللفظیة و هی الدلالة الالتزامیة خاصة و الدلالة الالتزامیة من الظواهر التی هی حجة .و لعله لأجل هذا أدخلوا هذه المسألة فی مباحث الألفاظ و جعلوها من مباحث الأوامر بالخصوص و هم علی حق فی ذلک إذا کان القائل بالملازمة لا یقول بها إلا لکونها ملازمة بینة بالمعنی الأخص و لکن الأمر لیس کذلک .إذن یمکننا أن نقول إن هذه المسألة ذات جهتین باختلاف الأقوال فیها یمکن أن تدخل فی مباحث الألفاظ علی بعض الأقوال و یمکن أن تدخل فی الملازمات العقلیة علی البعض الآخر .

ص :260


1- راجع عن معنی الملازمة و أقسامها الثلاثة الجزء الأول من المنطق للمؤلف ص 79 الطبعة الثانیة.
2- راجع دلالة الاشارة الجزء الاول ص 135، فانه ذکرنا هناک أن دلالة الاشارة لیست من الظواهر فلا تدخل فی حجیة الظهور، وانما حجیتها - علی تقدیره - من باب الملازمة العقلیة.

و لکن لأجل الجمع بین الجهتین ناسب إدخالها فی الملازمات العقلیة کما صنعنا لأن البحث فیها علی کل حال فی ثبوت الملازمة غایة الأمر أنه علی أحد الأقوال تدخل صغری لحجیة الظهور کما تدخل صغری لحجیة العقل و علی القول الآخر تتمحض فی الدخول صغری لحجیة العقل .و الجامع بینهما هو جعلها صغری لحجیة العقل .

ثمرة النزاع

إن ثمرة النزاع المتصورة أولا و بالذات لهذه المسألة هی استنتاج وجوب المقدمة شرعا بالإضافة إلی وجوبها العقلی الثابت و هذا المقدار کاف فی ثمرة المسألة الأصولیة لأن المقصود من علم الأصول هو الاستعانة بمسائله علی استنباط الأحکام من أدلتها .و لکن هذه ثمرة غیر عملیة باعتبار أن المقدمة بعد فرض وجوبها العقلی و لابدیة الإتیان بها لا فائدة فی القول بوجوبها شرعا أو بعدم وجوبها إذ لا مجال للمکلف أن یترکها بحال ما دام هو بصدد امتثال ذی المقدمة .و علیه فالبحث عن هذه المسألة لا یکون بحثا عملیا مفیدا بل یبدو لأول وهلة أنه لغو من القول لا طائل تحته مع أن هذه المسألة من أشهر مسائل هذا العلم و أدقها و أکثرها بحثا .و من أجل هذا أخذ بعض الأصولیین المتأخرین یفتشون عن فوائد عملیة لهذا البحث غیر ثمرة أصل الوجوب و فی الحقیقة أن کل ما ذکروه من ثمرات لا تسمن و لا تغنی من جوع .راجع عنها المطولات إن شئت .فیا تری هل کان البحث عنها کله لغوا و هل من الأصح أن نترک

ص :261

البحث عنها نقول لا .إن للمسألة فوائد علمیة کثیرة إن لم تکن لها فوائد عملیة و لا یستهان بتلک الفوائد کما ستری ثم هی ترتبط بکثیر من المسائل ذات الشأن العملی فی الفقه کالبحث عن الشرط المتأخر و المقدمات المفوتة و عبادیة بعض المقدمات کالطهارات الثلاث مما لا یسع الأصولی أن یتجاهلها و یغفلها و هذا کله لیس بالشیء القلیل و إن لم تکن هی من المسائل الأصولیة .و لذا تجد أن أهم مباحث مسألتنا هی هذه الأمور المنوه عنها و أمثالها أما نفس البحث عن أصل الملازمة فیکاد یکون بحثا علی الهامش بل آخر ما یشغل بال الأصولیین .هذا و نحن اتباعا لطریقتهم نضع التمهیدات قبل البحث عن أصل المسألة فی أمور تسعة

1 الواجب النفسی و الغیری

تقدم فی الجزء الأول 77 معنی الواجب النفسی و الغیری و یجب توضیحهما الآن فإنه هنا موضع الحاجة لبحثهما لأن الوجوب الغیری هو نفس وجوب المقدمة علی تقدیر القول بوجوبها .و علیه فنقول فی تعریفهما (الواجب النفسی ما وجب لنفسه لا لواجب آخر)(الواجب الغیری ما وجب لواجب آخر) .و هذان التعریفان أسد التعریفات لهما و أحسنها و لکن یحتاجان إلی بعض من التوضیح فإن قولنا ما وجب لنفسه قد یتوهم منه المتوهم لأول نظره أن

ص :262

العبارة تعطی أن معناها أن یکون وجوب الشیء علة لنفسه فی الواجب النفسی و ذلک بمقتضی المقابلة لتعریف الواجب الغیری إذ یستفاد منه أن وجوب الغیر علة لوجوبه کما علیه المشهور و لا شک فی أن هذا محال فی الواجب النفسی إذ کیف یکون الشیء علة لنفسه .و یندفع هذا التوهم بأدنی تأمل فإن ذلک التعبیر عن الواجب النفسی صحیح لا غبار علیه و هو نظیر تعبیرهم عن الله تعالی بأنه واجب الوجود لذاته فإن غرضهم منه أن وجوده لیس مستفادا من الغیر و لا لأجل الغیر کالممکن لا أن معناه أنه معلول لذاته و کذلک هنا نقول فی الواجب النفسی فإن معنی ما وجب لنفسه أن وجوبه غیر مستفاد من الغیر و لا لأجل الغیر فی قبال الواجب الغیری الذی وجوبه لأجل الغیر لا أن وجوبه مستفاد من نفسه .و بهذا یتضح معنی تعریف الواجب الغیری ما وجب لواجب آخر فإن معناه أن وجوبه لأجل الغیر و تابع للغیر لکونه مقدمة لذلک الغیر الواجب و سیأتی فی البحث الآتی توضیح معنی التبعیة هذه لیتجلی لنا المقصود من الوجوب الغیری فی الباب

2 معنی التبعیة فی الوجوب الغیری

قد شاع فی تعبیراتهم کثیرا قولهم إن الواجب الغیری تابع فی وجوبه لوجوب غیره و لکن هذا التعبیر مجمل جدا لأن التبعیة فی الوجوب یمکن أن تتصور لها معانی أربعة فلا بد من بیانها و بیان المعنی المقصود منها هنا فنقول 1 أن یکون معنی الوجوب التبعی هو الوجوب بالعرض و معنی

ص :263

ذلک أنه لیس فی الواقع إلا وجوب واحد حقیقی و هو الوجوب النفسی ینسب إلی ذی المقدمة أولا و بالذات و إلی المقدمة ثانیا و بالعرض و ذلک نظیر الوجوب بالنسبة إلی اللفظ و المعنی حینما یقال المعنی موجود باللفظ فإن المقصود بذلک أن هناک وجودا واحدا حقیقیا ینسب إلی اللفظ أولا و بالذات و إلی المعنی ثانیا و بالعرض .و لکن هذا الوجه من التبعیة لا ینبغی أن یکون هو المقصود من التبعیة هنا لأن المقصود من الوجوب الغیری وجوب حقیقی آخر یثبت للمقدمة غیر وجوب ذیها النفسی بأن یکون لکل من المقدمة و ذیها وجوب قائم به حقیقة و معنی التبعیة فی هذا الوجه أن الوجوب الحقیقی واحد و یکون الوجوب الثانی وجوبا مجازیا علی أن هذا الوجوب بالعرض لیس وجوبا یزید علی اللابدیة العقلیة للمقدمة حتی یمکن فرض النزاع فیه نزاعا عملیا .2 أن یکون معنی التبعیة صرف التأخر فی الوجود فیکون ترتب الوجوب الغیری علی الوجوب النفسی نظیر ترتب أحد الوجودین المستقلین علی الآخر بأن یفرض البعث الموجه للمقدمة بعثا مستقلا و لکنه بعد البعث نحو ذیها مرتب علیه فی الوجود فیکون من قبیل الأمر بالحج المرتب وجودا علی حصول الاستطاعة و من قبیل الأمر بالصلاة بعد حصول البلوغ أو دخول الوقت .و لکن هذا الوجه من التبعیة أیضا لا ینبغی أن یکون هو المقصود هنا فإنه لو کان ذلک هو المقصود لکان هذا الوجوب للمقدمة فی الحقیقة وجوبا نفسیا آخر فی مقابل وجوب ذی المقدمة و إنما یکون وجوب ذی المقدمة له السبق فی الوجود فقط و هذا ینافی حقیقة المقدمیة فإنها لا تکون إلا موصلة إلی ذی المقدمة فی وجودها و فی وجوبها معا .3 أن یکون معنی التبعیة ترشح الوجوب الغیری من الوجوب

ص :264

النفسی لذی المقدمة علی وجه یکون معلولا له و منبعثا منه انبعاث الأثر من مؤثره التکوینی کانبعاث الحرارة من النار .و کأن هذا الوجه من التبعیة هو المقصود للقوم و لذا قالوا بأن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذیها إطلاقا و اشتراطا لمکان هذه المعلولیة لأن المعلول لا یتحقق إلا حیث تتحقق علته و إذا تحققت العلة لا بد من تحققه بصورة لا یتخلف عنها و أیضا عللوا امتناع وجوب المقدمة قبل وجوب ذیها بامتناع وجود المعلول قبل وجود علته .و لکن هذا الوجه لا ینبغی أن یکون هو المقصود من تبعیة الوجوب الغیری و إن اشتهر علی الألسنة لأن الوجوب النفسی لو کان علة للوجوب الغیری فلا یصح فرضه إلا علة فاعلیة تکوینیة دون غیرها من العلل فإنه لا معنی لفرضه علة صوریة أو مادیة أو غائیة و لکن فرضه علة فاعلیة أیضا باطل جزما لوضوح أن العلة الفاعلیة الحقیقیة للوجوب هو الأمر لأن الأمر فعل الآمر .و الظاهر أن السبب فی اشتهار معلولیة الوجوب الغیری هو أن شوق الأمر للمقدمة هو الذی یکون منبعثا من الشوق إلی ذی المقدمة لأن الإنسان إذا اشتاق إلی فعل شیء اشتاق بالتبع إلی فعل کل ما یتوقف علیه و لکن الشوق إلی فعل الشیء من الغیر لیس هو الوجوب و إنما الشوق إلی فعل الغیر یدفع الآمر إلی الأمر به إذا لم یحصل ما یمنع من الأمر به فإذا صدر منه الأمر و هو أهل له انتزع منه الوجوب .و الحاصل لیس الوجوب الغیری معلولا للوجوب النفسی فی ذی المقدمة و لا ینتهی إلیه فی سلسلة العلل و إنما ینتهی الوجوب الغیری فی سلسلة علله إلی الشوق إلی ذی المقدمة إذا لم یکن هناک مانع لدی الآمر من الأمر بالمقدمة لأن الشوق علی کل حال لیس علة تامة إلی فعل ما یشتاق

ص :265

إلیه فتذکر هذا فإنه سینفعک فی وجوب المقدمة المفوتة و فی أصل وجوب المقدمة فإنه بهذا البیان سیتضح کیف یمکن فرض وجوب المقدمة المفوتة قبل وجوب ذیها و بهذا البیان سیتضح أیضا کیف إن المقدمة مطلقا لیست واجبة بالوجوب المولوی .4 أن یکون معنی التبعیة هو ترشح الوجوب الغیری من الوجوب النفسی و لکن لا بمعنی أنه معلول له بل بمعنی أن الباعث للوجوب الغیری علی تقدیر القول به هو الواجب النفسی باعتبار أن الأمر بالمقدمة و البعث نحوها إنما هو لغایة التوصل إلی ذیها الواجب و تحصیله فیکون وجوبها وصلة و طریقا إلی تحصیل ذیها و لو لا أن ذیها کان مرادا للمولی لما أوجب المقدمة و یشیر إلی هذا المعنی من التبعیة تعریفهم للواجب الغیری بأنه ما وجب لواجب آخر أی لغایة واجب آخر و لغرض تحصیله و التوصل إلیه فیکون الغرض من وجوب المقدمة علی تقدیر القول به هو تحصیل ذیها الواجب .و هذا المعنی هو الذی ینبغی أن یکون معنی التبعیة المقصودة فی الوجوب الغیری و یلزمها أن یکون الوجوب الغیری تابعا لوجوبها إطلاقا و اشتراطا .و علیه فالوجوب الغیری وجوب حقیقی و لکنه وجوب تبعی توصلی آلی و شأن وجوب المقدمة شأن نفس المقدمة فکما أن المقدمة بما هی مقدمة لا یقصد فاعلها إلا التوصل إلی ذیها کذلک وجوبها إنما هو للتوصل إلی تحصیل ذیها کالآلة الموصلة التی لا تقصد بالأصالة و الاستقلال .و سر هذا واضح فإن المولی بناء علی القول بوجوب المقدمة إذا أمر بذی المقدمة فإنه لا بد له لغرض تحصیله من المکلف أن یدفعه و یبعثه نحو مقدماته فیأمره بها توصلا إلی غرضه .

ص :266

فیکون البعث نحو المقدمة علی هذا بعثا حقیقیا لا أنه یتبع البعث إلی ذیها علی وجه ینسب إلیها بالعرض کما فی الوجه الأول و لا أنه یبعثه ببعث مستقل لنفس المقدمة و لغرض فیها بعد البعث نحو ذیها کما فی الوجه الثانی و لا أن البعث نحو المقدمة من آثار البعث نحو ذیها علی وجه یکون معلولا له کما فی الوجه الثالث .و سیأتی تتمة للبحث فی المقدمات المفوتة

3 خصائص الوجوب الغیری

بعد ما اتضح معنی التبعیة فی الوجوب الغیری تتضح لنا خصائصه التی بها یمتاز عن الوجوب النفسی و هی أمور 1 إن الواجب الغیری کما لا بعث استقلالی له کما تقدم لا إطاعة استقلالیة له و إنما إطاعته کوجوبه لغرض التوصل إلی ذی المقدمة بخلاف الواجب النفسی فإنه واجب لنفسه و یطاع لنفسه .2 إنه بعد أن قلنا إنه لا إطاعة استقلالیة للوجوب الغیری و إنما إطاعته کوجوبه لصرف التوصل إلی ذی المقدمة فلا بد ألا یکون له ثواب علی إطاعته (1)غیر الثواب الذی یحصل علی إطاعة وجوب ذی المقدمة کما لا عقاب علی عصیانه غیر العقاب علی عصیان وجوب ذی المقدمة و لذا نجد أن

ص :267


1- یری السید الجلیل المحقق الخوئی ان المقدمة أمر قابل لان یأتی به الفاعل مضافا به إلی المولی، فیترتب علی فعلها الثواب إذا أتی بها کذلک. ولا ملازمة عنده بین ترتب الثواب علی عمل وعدم استحقاق العقاب علی ترکه، ولا یفرق فی ذلک بین القول بوجوب المقدمة وعدمه. وهو رأی وجیه باعتبار ان فعل المقدمة یعد مشروعا فی امتثال ذیها.

من ترک الواجب بترک مقدماته لا یستحق أکثر من عقاب واحد علی نفس الواجب النفسی لا أنه یستحق عقابات متعددة بعدد مقدماته المتروکة .و أما ما ورد فی الشریعة من الثواب علی بعض المقدمات مثل ما ورد من الثواب علی المشی علی القدم إلی الحج أو زیارة الحسین علیه السلام و أنه فی کل خطوة کذا من الثواب فینبغی علی هذا أن یحمل علی توزیع ثواب نفس العمل علی مقدماته باعتبار أن أفضل الأعمال أحمزها و کلما کثرت مقدمات العمل و زادت صعوبتها کثرت حمازة العمل و مشقته فینسب الثواب إلی المقدمة مجازا ثانیا و بالعرض باعتبار أنها السبب فی زیادة مقدار الحمازة و المشقة فی نفس العمل فتکون السبب فی زیادة الثواب لا أن الثواب علی نفس المقدمة .و من أجل أنه لا ثواب علی المقدمة استشکلوا فی استحقاق الثواب علی فعل بعض المقدمات کالطهارات الثلاث الظاهر منه أن الثواب علی نفس المقدمة بما هی و سیأتی حله إن شاء الله تعالی .3 إن الوجوب الغیری لا یکون إلا توصلیا أی لا یکون فی حقیقته عبادیا و لا یقتضی فی نفسه عبادیة المقدمة إذ لا یتحقق فیه قصد الامتثال علی نحو الاستقلال کما قلنا فی الخاصة الأولی أنه لا إطاعة استقلالیة له بل إنما یؤتی بالمقدمة بقصد التوصل إلی ذیها و إطاعة أمر ذیها فالمقصود بالامتثال به نفس أمر ذیها .و من هنا استشکلوا فی عبادیة بعض المقدمات کالطهارات الثلاث و سیأتی حله إن شاء الله تعالی .4 إن الوجوب الغیری تابع لوجوب ذی المقدمة إطلاقا و اشتراطا و فعلیة و قوة قضاء لحق التبعیة کما تقدم و معنی ذلک أنه کل ما هو شرط فی وجوب ذی المقدمة فهو شرط فی وجوب المقدمة و ما لیس بشرط لا یکون شرطا لوجوبها کما أنه کلما تحقق وجوب ذی المقدمة تحقق معه

ص :268

وجوب المقدمة و علی هذا قیل یستحیل تحقق وجوب فعلی للمقدمة قبل تحقق وجوب ذیها لاستحالة حصول التابع قبل حصول متبوعه أو لاستحالة حصول المعلول قبل حصول علته بناء علی أن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذیها .و من هنا استشکلوا فی وجوب المقدمة قبل زمان ذیها فی المقدمات المفوتة کوجوب الغسل مثلا قبل الفجر لإدراک الصوم علی طهارة حین طلوع الفجر فعدم تحصیل الغسل قبل الفجر یکون مفوتا للواجب فی وقته و لهذا سمیت مقدمة مفوتة باعتبار أن ترکها قبل الوقت یکون مفوتا للواجب فی وقته فقالوا بوجوبها قبل الوقت مع أن الصوم لا یجب قبل وقته فکیف تفرض فعلیة وجوب مقدمته و سیأتی إن شاء الله تعالی حل هذا الإشکال فی بحث المقدمات المفوتة

4 مقدمة الوجوب

قسموا المقدمة إلی قسمین مشهورین 1 مقدمة الوجوب و تسمی المقدمة الوجوبیة و هی ما یتوقف علیها نفس الوجوب بأن تکون شرطا للوجوب علی قول مشهور و قیل إنها تؤخذ فی الواجب علی وجه تکون مفروضة التحقق و الوجود علی قول آخر و مع ذلک تسمی مقدمة الوجوب و مثالها الاستطاعة بالنسبة إلی الحج و کالبلوغ و العقل و القدرة بالنسبة إلی جمیع الواجبات و یسمی الواجب بالنسبة إلیها الواجب المشروط .2 مقدمة الواجب و تسمی المقدمة الوجودیة و هی ما یتوقف علیها وجود الواجب بعد فرض عدم تقیید الوجوب بها بل یکون الوجود

ص :269

بالنسبة إلیها مطلقا و لا تؤخذ بالنسبة إلیه مفروضة الوجود بل لا بد من تحصیلها مقدمة لتحصیله کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة و السفر بالنسبة إلی الحج و نحو ذلک و یسمی الواجب بالنسبة إلیها الواجب المطلق .راجع عن الواجب المشروط و المطلق الجزء الأول ص 87 .و المقصود من ذکر هذا التقسیم بیان أن محل النزاع فی مقدمة الواجب هو خصوص القسم الثانی أعنی المقدمة الوجودیة دون المقدمة الوجوبیة .و السر واضح لأنه إذا کانت المقدمة الوجودیة مأخوذة علی أنها مفروضة الحصول فلا معنی لوجوب تحصیلها فإنه خلف فلا یجب تحصیل الاستطاعة لأجل الحج بل إن اتفق حصول الاستطاعة وجب الحج عندها و ذلک نظیر الفوت فی(قوله علیه السلام:اقض ما فات کما فات) فإنه لا یجب تحصیله لأجل امتثال الأمر بالقضاء بل إن اتفق الفوت وجب القضاء

5 المقدمة الداخلیة

تنقسم المقدمة الوجودیة إلی قسمین داخلیة و خارجیة .1 المقدمة الداخلیة هی جزء الواجب المرکب کالصلاة .و إنما اعتبروا الجزء مقدمة فباعتبار أن المرکب متوقف فی وجوده علی أجزائه فکل جزء فی نفسه هو مقدمة لوجود المرکب کتقدم الواحد علی الاثنین .و إنما سمیت داخلیة فلأجل أن الجزء داخل فی قوام المرکب و لیس للمرکب وجود مستقل غیر نفس وجود الأجزاء .2 المقدمة الخارجیة و هی کل ما یتوقف علیه الواجب و له وجود مستقل خارج عن وجود الواجب .و الغرض من ذکر هذا التقسیم هو بیان أن النزاع فی مقدمة الواجب

ص :270

هل یشمل المقدمة الداخلیة أو أن ذلک یختص بالخارجیة .و لقد أنکر جماعة شمول النزاع للداخلیة و سندهم فی هذا الإنکار أحد أمرین الأول إنکار المقدمیة للجزء رأسا باعتبار أن المرکب نفس الأجزاء بالأسر فکیف یفرض توقف الشیء علی نفسه .الثانی بعد تسلیم أن الجزء مقدمة و لکن یستحیل اتصافه بالوجوب الغیری ما دام أنه واجب بالوجوب النفسی لأن المفروض أنه جزء الواجب بالوجوب النفسی و لیس المرکب إلا أجزاءه بالأسر فینبسط الواجب علی الأجزاء و حینئذ لو وجب الجزء بالوجوب الغیری أیضا لاتصف الجزء بالوجوبین .و قد اختلفوا فی بیان وجه استحالة اجتماع الوجوبین و لا یهمنا بیان الوجه فیه بعد الاتفاق علی الاستحالة .و لما کان هذا البحث لا تتوقع منه فائدة عملیة حتی مع فرض الفائدة العملیة فی مسألة وجوب المقدمة مع أنه بحث دقیق یطول الکلام حوله فنحن نطوی عنه صفحا محیلین الطالب إلی المطولات إن شاء

6 الشرط الشرعی

إن المقدمة الخارجیة تنقسم إلی قسمین عقلیة و شرعیة .1 المقدمة العقلیة هی کل أمر یتوقف علیه وجود الواجب توقفا واقعیا یدرکه العقل بنفسه من دون استعانة بالشرع کتوقف الحج علی قطع المسافة .2 المقدمة الشرعیة هی کل أمر یتوقف علیه الواجب توقفا

ص :271

لا یدرکه العقل بنفسه بل یثبت ذلک من طریق الشرع کتوقف الصلاة علی الطهارة و استقبال القبلة و نحوهما و یسمی هذا الأمر أیضا الشرط الشرعی باعتبار أخذه شرطا و قیدا فی المأمور به عند الشارع مثل(قوله علیه السلام:لا صلاة إلا بطهور) المستفاد منه شرطیة الطهارة للصلاة .و الغرض من ذکر هذا التقسیم بیان أن النزاع فی مقدمة الواجب هل یشمل الشرط الشرعی .و لقد ذهب بعض أعاظم مشایخنا علی ما یظهر من بعض تقریرات درسه إلی أن الشرط الشرعی کالجزء لا یکون واجبا بالوجوب الغیری و سماه مقدمة داخلیة بالمعنی الأعم باعتبار أن التقیید لما کان داخلا فی المأمور به و جزءا له (1)فهو واجب بالوجوب النفسی و لما کان انتزاع التقیید إنما یکون من القید أی منشأ انتزاعه هو القید و الأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ انتزاعه إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلا بوجود منشإ انتزاعه فیکون الأمر النفسی المتعلق بالتقیید متعلقا بالقید و إذا کان القید واجبا نفسیا فکیف یکون مرة أخری واجبا بالوجوب الغیری .و لکن هذا کلام لا یستقیم عند شیخنا المحقق الأصفهانی رحمه الله و قد ناقشه فی مجلس بحثه بمناقشات مفیدة و هو علی حق فی مناقشاته أما أولا فلأن هذا القید المفروض دخوله فی المأمور به لا یخلو

ص :272


1- ان الفرق بین الجزء والشرط هو أنه فی الجزء یکون التقیید والقید معا داخلین فی المأمور به، وأما فی الشرط فالتقیید فقط یکون داخلا والقید یکون خارجا، یعنی أن التقیید یکون جزءا تحلیلیا للمأمور به إذ یکون المأمور به - فی المثال - هو الصلاة بما هی مقیدة بالطهارة، أی ان المأمور به هو المرکب من ذات الصلاة والتقیید بوصف الطهارة. فذات الصلاة جزء تحلیلی والتقیید جزء تحلیلی آخر.

إما أن یکون دخیلا فی أصل الغرض من المأمور به و إما أن یکون دخیلا فی فعلیة الغرض منه و لا ثالث لهما .فإن کان من قبیل الأول فیجب أن یکون مأمورا به بالأمر النفسی و لکن بمعنی أن متعلق الأمر لا بد أن یکون الخاص بما هو خاص و هو المرکب من المقید و القید فیکون القید و التقیید معا داخلین و السر فی ذلک واضح لأن الغرض یدعو بالأصالة إلی إرادة ما هو واف بالغرض و ما یفی بالغرض حسب الفرض هو الخاص بما هو خاص أی المرکب من المقید و القید لا أن الخصوصیة تکون خصوصیة فی المأمور به المفروغ عن کونه مأمورا به لأن المفروض أن ذات المأمور به ذی الخصوصیة لیس وحده دخیلا فی الغرض و علی هذا فیکون هذا القید جزءا من المأمور به کسائر أجزائه الأخری و لا فرق بین جزء و جزء فی کونه من جملة المقدمات الداخلیة فتسمیة مثل هذا الجزء بالمقدمة الداخلیة بالمعنی الأعم بلا وجه بل هو مقدمة داخلیة بقول مطلق کما لا وجه لتسمیته بالشرط .و إن کان من قبیل الثانی فهذا هو شأن الشرط سواء کان شرطا شرعیا أو عقلیا و مثل هذا لا یعقل أن یدخل فی حیز الأمر النفسی لأن الغرض کما قلنا لا یدعو بالأصالة إلا إلی إرادة ذات ما یفی بالغرض و یقوم به فی الخارج و أما ما له دخل فی تأثیر السبب أی فی فعلیة الغرض فلا یدعو إلیه الغرض فی عرض ذات السبب بل الذی یدعو إلی إیجاد شرط التأثیر لا بد أن یکون غرضا تبعیا یتبع الغرض الأصلی و ینتهی إلیه .و لا فرق بین الشرط الشرعی و غیره فی ذلک و إنما الفرق أن الشرط الشرعی لما کان لا یعلم دخله فی فعلیة الغرض إلا من قبل المولی کالطهارة و الاستقبال و نحوهما بالنسبة إلی الصلاة فلا بد أن ینبه المولی علی اعتباره و لو بأن یأمر به إما بالأمر المتعلق بالمأمور به أی یأخذه قیدا فیه کأن یقول

ص :273

مثلا صل عن طهارة أو بأمر مستقل کأن یقول مثلا تطهر للصلاة و علی جمیع الأحوال لا تکون الإرادة المتعلقة به فی عرض إرادة ذات السبب حتی یکون مأمورا به بالأمر النفسی بل الإرادة فیه تبعیة و کذا الأمر به .فإن قلتم علی هذا یلزم سقوط الأمر المتعلق بذات السبب الواجب إذا جاء به المکلف من دون الشرط قلت من لوازم الاشتراط عدم سقوط الأمر بالسبب بفعله من دون شرطه و إلا کان الاشتراط لغوا و عبثا .و أما ثانیا فلو سلمنا دخول التقیید فی الواجب علی وجه یکون جزءا منه فإن هذا لا یوجب أن یکون نفس القید و الشرط الذی هو حسب الفرض منشأ لانتزاع التقیید مقدمة داخلیة بل هو مقدمة خارجیة فإن وجود الطهارة مثلا یوجب حصول تقیید الصلاة بها فتکون مقدمة خارجیة للتقیید الذی هو جزء حسب الفرض و هذا یشبه المقدمات الخارجیة لنفس أجزاء المأمور به الخارجیة فکما أن مقدمة الجزء لیست بجزء فکذلک مقدمة التقیید لیست جزءا .و الحاصل أنه لما فرضتم فی الشرط أن التقیید داخل و هو جزء تحلیلی فقد فرضتم معه أن القید خارج فکیف تفرضونه مرة أخری أنه داخل فی المأمور به المتعلق بالمقید

7 الشرط المتأخر

لا شک فی أن من الشروط الشرعیة ما هو متقدم فی وجوده زمانا علی المشروط کالوضوء و الغسل بالنسبة إلی الصلاة و نحوها بناء علی أن الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقی إلی حین الصلاة .و منها ما هو مقارن للمشروط فی وجوده زمانا کالاستقبال و طهارة اللباس للصلاة .

ص :274

و إنما وقع الشک فی الشرط المتأخر أی أنه هل یمکن أن یکون الشرط الشرعی متأخرا فی وجوده زمانا عن المشروط أو لا یمکن .و من قال بعدم إمکانه قاس الشرط الشرعی علی الشرط العقلی فإن المقدمة العقلیة یستحیل فیها أن تکون متأخرة عن ذی المقدمة لأنه لا یوجد الشیء إلا بعد فرض وجود علته التامة المشتملة علی کل ما له دخل فی وجوده لاستحالة وجود المعلول بدون علته التامة و إذا وجد الشیء فقد انتهی فأیة حاجة له تبقی إلی ما سیوجد بعد .و منشأ هذا الشک و البحث ورود بعض الشروط الشرعیة التی ظاهرها تأخرها فی الوجود عن المشروط و ذلک مثل الغسل اللیلی للمستحاضة الکبری الذی هو شرط عند بعضهم لصوم النهار السابق علی اللیل و من هذا الباب إجازة بیع الفضولی بناء علی أنها کاشفة عن صحة البیع لا ناقلة .و لأجل ما ذکرنا من استحالة الشرط المتأخر فی العقلیات اختلف العلماء فی الشرط الشرعی اختلافا کثیرا جدا فبعضهم ذهب إلی إمکان الشرط المتأخر فی الشرعیات و بعضهم ذهب إلی استحالته قیاسا علی الشرط العقلی کما ذکرنا آنفا و الذاهبون إلی الاستحالة أولوا ما ورد فی الشریعة بتأویلات کثیرة یطول شرحها .و أحسن ما قیل فی توجیه إمکان الشرط المتأخر فی الشرعیات ما عن بعض مشایخنا الأعاظم قدس سره فی بعض تقریرات درسه و خلاصته (إن الکلام تارة یکون فی شرط المأمور به و أخری فی شرط الحکم سواء کان تکلیفیا أم وضعیا) .أما فی شرط المأمور به فإن مجرد کونه شرطا شرعیا للمأمور به لا مانع منه لأنه لیس معناه إلا أخذه قیدا فی المأمور به علی أن تکون الحصة

ص :275

الخاصة من المأمور به هی المطلوبة و کما یجوز ذلک فی الأمر السابق و المقارن فإنه یجوز فی اللاحق بلا فرق نعم إذا رجع الشرط الشرعی إلی شرط واقعی کرجوع شرط الغسل اللیلی للمستحاضة إلی أنه رافع للحدث فی النهار فإنه یکون حینئذ واضح الاستحالة کالشرط الواقعی بلا فرق .و سر ذلک أن المطلوب لما کان هو الحصة الخاصة من طبیعی المأمور به فوجود القید المتأخر لا شأن له إلا الکشف عن وجود تلک الحصة فی ظرف کونها مطلوبة و لا محذور فی ذلک إنما المحذور فی تأثیر المتأخر فی المتقدم و أما فی شرط الحکم سواء کان الحکم تکلیفیا أم وضعیا فإن الشرط فیه معناه أخذ مفروض الوجود و الحصول فی مقام جعل الحکم و إنشائه و کونه مفروض الوجود لا یفرق فیه بین أن یکون متقدما أو مقارنا أو متأخرا کأن یجعل الحکم فی الشرط المتأخر علی الموضوع المقید بقید أخذ مفروض الوجود بعد وجود الموضوع .و یتقرب ذلک إلی الذهن بقیاسه علی الواجب المرکب التدریجی الحصول فإن التکلیف فی فعلیته فی الجزء الأول و ما بعده یبقی مراعی إلی أن یحصل الجزء الأخیر من المرکب و قد بقیت إلی حین حصول کمال الأجزاء شرائط التکلیف من الحیاة و القدرة و نحوهما .و هکذا یفرض الحال فیما نحن فیه فإن الحکم فی الشرط المتأخر یبقی فی فعلیته مراعی إلی أن یحصل الشرط الذی أخذ مفروض الحصول فکما أن الجزء الأول من المرکب التدریجی الواجب فی فرض حصول جمیع الأجزاء یکون واجبا و فعلی الوجوب من أول الأمر لا أن فعلیته تکون بعد حصول جمیع الأجزاء و کذا باقی الأجزاء لا تکون فعلیتها بعد حصول الجزء الأخیر بل حین حصولها و لکن فی فرض حصول الجمیع فکذلک ما نحن فیه یکون الواجب المشروط بالشرط المتأخر فعلی الوجوب من أول الأمر فی فرض

ص :276

حصول الشرط فی ظرفه لا أن فعلیته تکون متأخرة حین الشرط .هذا خلاصة رأی شیخنا المعظم و لا یخلو عن مناقشة و البحث عن الموضوع بأوسع مما ذکرنا لا یسعه هذا المختصر

8 المقدمات المفوتة

ورد فی الشریعة المطهرة وجوب بعض المقدمات قبل زمان ذیها فی الموقتات کوجوب قطع المسافة للحج قبل حلول أیامه و وجوب الغسل من الجنابة للصوم قبل الفجر و وجوب الوضوء أو الغسل علی قول قبل وقت الصلاة عند العلم بعدم التمکن منه بعد دخول وقتها و هکذا .و تسمی هذه المقدمات باصطلاحهم المقدمات المفوتة باعتبار أن ترکها موجب لتفویت الواجب فی وقته کما تقدم .و نحن نقول لو لم یحکم الشارع المقدس بوجوب مثل هذه المقدمات فإن العقل یحکم بلزوم الإتیان بها لأن ترکها موجب لتفویت الواجب فی ظرفه و یحکم أیضا بأن التارک لها یستحق العقاب علی الواجب فی ظرفه بسبب ترکها .و لأول وهلة یبدو أن هذین الحکمین العقلیین الواضحین لا ینطبقان علی القواعد العقلیة البدیهیة فی الباب من جهتین .أما أولا فلأن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذیها علی أی نحو فرض من أنحاء التبعیة لا سیما إذا کان من نحو تبعیة المعلول لعلته علی ما هو المشهور فکیف یفرض الواجب التابع فی زمان سابق علی زمان فرض الوجوب المتبوع .و أما ثانیا فلأنه کیف یستحق العقاب علی ترک الواجب بترک مقدمته قبل حضور وقته مع أنه حسب الفرض لا وجوب له فعلا و أما فی ظرفه

ص :277

فینبغی أن یسقط وجوبه لعدم القدرة علیه بترک مقدمته و القدرة شرط عقلی فی الوجوب .و لأجل التوفیق بین هاتیک البدیهیات العقلیة التی یبدو کأنها متعارضة و إن کان یستحیل التعارض فی الأحکام العقلیة و بدیهیات العقل حاول جماعة من أعلام الأصولیین المتأخرین تصحیح ذلک بفرض انفکاک زمان الوجوب عن زمان الواجب و تقدمه علیه إما فی خصوص الموقتات أو فی مطلق الواجبات علی اختلاف المسالک و بذلک یحصل لهم التوفیق بین تلکم الأحکام العقلیة لأنه حینما یفرض تقدم وجوب ذی المقدمة علی زمانه فلا مانع من فرض وجوب المقدمة قبل وقت الواجب و کان استحقاق العقاب علی ترک الواجب علی القاعدة لأن وجوبه کان فعلیا حین ترک المقدمة .أما کیف یفرض تقدم زمان الوجوب علی زمان الواجب و بأی مناط فهذا ما اختلفت فیه الأنظار و المحاولات .(فأول المحاولین لحل هذه الشبهة فیما یبدو صاحب الفصول الذی قال بجواز تقدم زمان الوجوب علی طریقة الواجب المتعلق الذی اخترعه کما أشرنا إلیه فی الجزء الأول ص 88 و ذلک فی خصوص الموقتات بفرض أن الوقت فی الموقتات وقت للواجب فقط لا للوجوب أی أن الوقت لیس شرطا و قیدا للوجوب بل هو قید للواجب فالوجوب علی هذا الفرض متقدم علی الوقت و لکن الواجب معلق علی حضور وقته و الفرق بین هذا النوع و بین الواجب المشروط هو أن التوقف فی المشروط للوجوب و فی المعلق للفعل و علیه لا مانع من فرض وجوب المقدمة قبل زمان ذیها .و لکن نقول علی تقدیر إمکان فرض تقدم زمان الوجوب علی زمان الواجب فإن فرض رجوع القید إلی الواجب لا إلی الوجوب یحتاج إلی دلیل

ص :278

و نفس ثبوت وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان وجوب ذیها لا یکون وحده دلیلا علی ثبوت الواجب المعلق لأن الطریق فی تصحیح وجوب المقدمة المفوتة لا ینحصر فیه کما سیأتی بیان الطریق الصحیح) .و المحاولة الثانیة ما نسب إلی الشیخ الأنصاری من رجوع القید فی جمیع شرائط الوجوب إلی المادة و إن اشتهر القول برجوعها إلی الهیئة سواء کان الشرط هو الوقت أو غیره کالاستطاعة للحج و القدرة و البلوغ و العقل و نحوها من الشرائط العامة لجمیع التکالیف و معنی ذلک أن الوجوب الذی هو مدلول الهیئة فی جمیع الواجبات مطلق دائما غیر مقید بشرط أبدا و کل ما یتوهم من رجوع القید إلی الوجوب فهو راجع فی الحقیقة إلی الواجب الذی هو مدلول المادة غایة الأمر أن بعض القیود مأخوذة فی الواجب علی وجه یکون مفروض الحصول و الوقوع کالاستطاعة بالنسبة إلی الحج و مثل هذا لا یجب تحصیله و یکون حکمه حکم ما لو کان شرطا للوجوب و بعضها لا یکون مأخوذا علی وجه یکون مفروض الحصول بل یجب تحصیله توصلا إلی الواجب لأن الواجب یکون هو المقید بما هو مقید بذلک القید .و علی هذا التصویر فالوجوب یکون دائما فعلیا قبل مجیء وقته و شأنه فی ذلک شأن الوجوب علی القول بالواجب المعلق لا فرق بینهما فی الموقتات بالنسبة إلی الوقت فإذا کان الواجب استقبالیا فلا مانع من وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذیها .و المحاولة الثالثة ما نسب إلی بعضهم من أن الوقت شرط للوجوب لا للواجب کما فی المحاولتین الأولیین و لکنه مأخوذ فیه علی نحو الشرط المتأخر و علیه فالوجوب یکون سابقا علی زمان الواجب نظیر القول بالمعلق فیصح فرض وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذیها لفعلیة الوجوب قبل زمانه فتجب مقدمته .

ص :279

و کل هذه المحاولات مذکورة فی کتب الأصول المطولة و فیها مناقشات و أبحاث طویلة لا یسعها هذا المختصر و مع الغض عن المناقشة فی إمکانها فی أنفسها لا دلیل علیها إلا ثبوت وجوب المقدمة قبل زمان ذیها إذ کل صاحب محاولة منها یعتقد أن التخلص من إشکال وجوب المقدمة قبل زمان ذیها ینحصر فی المحاولة التی یتصورها فالدلیل الذی یدل علی وجوب المقدمة المفوتة قبل وقت الواجب لا محالة یدل عنده علی محاولته .و الذی أعتقده أنه لا موجب لکل هذه المحاولات لتصحیح وجوب المقدمة قبل زمان ذیها فإن الصحیح کما أفاده شیخنا الأصفهانی رحمه الله أن وجوب المقدمة لیس معلولا لوجوب ذیها و لا مترشحا منه فلیس هناک إشکال فی وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذیها حتی نلتجئ إلی إحدی هذه المحاولات لفک الإشکال و کل هذه الشبهة إنما جاءت من هذا الفرض و هو فرض معلولیة وجوب المقدمة لوجوب ذیها و هو فرض لا واقع له أبدا و إن کان هذا القول یبدو غریبا علی الأذهان المشبعة بفرض أن وجوب ذی المقدمة علة لوجوب المقدمة بل نقول أکثر من ذلک إنه یجب فی المقدمة المفوتة أن یتقدم وجوبها علی وجوب ذیها إذا کنا نقول بأن مقدمة الواجب واجبة و إن کان الحق و سیأتی عدم وجوبها مطلقا و البیان عدم معلولیة وجوب المقدمة لوجوب ذیها نذکر أن الأمر فی الحقیقة هو فعل الأمر سواء کان الأمر نفسیا أم غیریا فالأمر هو العلة الفاعلیة له دون سواه و لکن کل أمر إنما یصدر عن إرادة الآمر لأنه فعله الاختیاری و الإرادة بالطبع مسبوقة بالشوق إلی فعل المأمور به أی أن الآمر لا بد أن یشتاق أولا إلی فعل الغیر علی أن یصدر من الغیر فإذا اشتاقه لا بد أن یدعو الغیر و یدفعه و یحثه علی الفعل فیشتاق إلی الأمر به و إذا لم یحصل مانع من الأمر فلا محالة یشتد الشوق إلی الأمر حتی یبلغ

ص :280

الإرادة الحتمیة فیجعل الداعی فی نفس الغیر للفعل المطلوب و ذلک بتوجیه الأمر نحوه .هذا حال کل مأمور به و من جملته مقدمة الواجب فإنه إذا ذهبنا إلی وجوبها من قبل المولی لا بد أن نفرض حصول الشوق أولا فی نفس الأمر إلی صدورها من المکلف غایة الأمر أن هذا الشوق تابع للشوق إلی فعل ذی المقدمة و منبثق منه لأن المختار إذا اشتاق إلی تحصیل شیء و أحبه اشتاق و أحب بالتبع کل ما یتوقف علیه ذلک الشیء علی نحو الملازمة بین الشوقین و إذا لم یکن هناک مانع من الأمر بالمقدمات حصلت لدی الأمر ثانیا الإرادة الحتمیة التی تتعلق بالأمر بها فیصدر حینئذ الأمر .إذا عرفت ذلک فإنک تعرف أنه إذا فرض أن المقدمة متقدمة بالوجود الزمانی علی ذیها علی وجه لا یحصل ذوها فی ظرفه و زمانه إلا إذا حصلت هی قبل حلول زمانه کما فی أمثلة المقدمات المفوتة فإنه لا شک فی أن الآمر یشتاقها أن تحصل فی ذلک الزمان المتقدم و هذا الشوق بالنسبة إلی المقدمة یتحول إلی الإرادة الحتمیة بالأمر إذ لا مانع من البعث نحوها حینئذ و المفروض أن وقتها قد حان فعلا فلا بد أن یأمر بها فعلا أما ذو المقدمة فحسب الفرض لا یمکن البعث نحوه و الأمر به قبل وقته لعدم حصول ظرفه فلا أمر قبل الوقت و إن کان الشوق إلی الأمر به حاصل حینئذ و لکن لا یبلغ مبلغ الفعلیة لوجود المانع .و الحاصل أن الشوق إلی ذی المقدمة و الشوق إلی المقدمة حاصلان قبل وقت ذی المقدمة و الشوق الثانی منبعث و منبثق من الشوق الأول و لکن الشوق إلی المقدمة یؤثر أثره و یصیر إرادة حتمیة لعدم وجود ما یمنع من الأمر دون الشوق إلی ذی المقدمة لوجود المانع من الأمر .و علی هذا فتجب المقدمة المفوتة قبل وجوب ذیها و لا محذور فیه

ص :281

بل هو أمر لا بد منه و لا یصح أن یقع غیر ذلک .و لا تستغرب ذلک فإن هذا أمر مطرد حتی بالنسبة إلی أفعال الإنسان نفسه فإنه إذا اشتاق إلی فعل شیء اشتاق إلی مقدماته تبعا و لما کانت المقدمات متقدمة بالوجود زمانا علی ذیها فإن الشوق إلی المقدمات یشتد حتی یبلغ درجة الإرادة الحتمیة المحرکة للعضلات فیفعلها مع أن ذی المقدمة لم یحن وقته بعد و لم تحصل له الإرادة الحتمیة المحرکة للعضلات و إنما یمکن أن تحصل له الإرادة الحتمیة إذا حان وقته بعد طی المقدمات .فإرادة الفاعل التکوینیة للمقدمة متقدمة زمانا علی إرادة ذیها و علی قیاسها الإرادة التشریعیة فلا بد أن تحصل للمقدمة المتقدمة زمانا قبل أن تحصل لذیها المتأخر زمانا فیتقدم الوجوب الفعلی للمقدمة علی الوجوب الفعلی لذیها زمانا علی العکس مما اشتهر و لا محذور فیه بل هو المتعین و هذا حال کل متقدم بالنسبة إلی المتأخر فإن الشوق یصیر شیئا فشیئا قصدا و إرادة کما فی الأفعال التدریجیة الوجود .و قد تقدم معنی تبعیة وجوب المقدمة لوجوب ذیها فلا نعید و قلنا إنه لیس معناه معلولیته لوجوب ذی المقدمة و تبعیته له وجودا کما اشتهر علی لسان الأصولیین .فإن قلت إن وجوب المقدمة کما سبق تابع لوجوب ذی المقدمة إطلاقا و اشتراطا و لا شک فی أن الوقت علی الرأی المعروف شرط لوجوب ذی المقدمة فیجب أن یکون أیضا وجوب المقدمة مشروطا به قضاء لحق التبعیة .قلت إن الوقت علی التحقیق لیس شرطا للوجوب بمعنی أنه دخیل فی مصلحة الأمر کالاستطاعة بالنسبة إلی وجوب الحج و إن کان دخیلا فی مصلحة المأمور به و لکنه لا یتحقق البعث قبله فلا بد أن

ص :282

یؤخذ مفروض الوجوب بمعنی عدم الدعوة إلیه لأنه غیر اختیاری للمکلف .أما عدم تحقق وجوب الموقت قبل الوقت فلامتناع البعث قبل الوقت .و السر واضح لأن البعث حتی البعث الجعلی منه یلازم الانبعاث إمکانا و وجودا فإذا أمکن الانبعاث أمکن البعث و إلا فلا و إذ یستحیل الانبعاث قبل الوقت استحال البعث نحوه حتی الجعلی و من أجل هذا نقول بامتناع الواجب المعلق لأنه یلازم انفکاک الانبعاث عن البعث .و هذا بخلاف المقدمة قبل وقت الواجب فإنه یمکن الانبعاث نحوها فلا مانع من فعلیة البعث بالنظر إلیها لو ثبت فعدم فعلیة الوجوب قبل زمان الواجب إنما هو لوجود المانع لا لفقدان الشرط و هذا المانع موجود فی ذی المقدمة قبل وقته مفقود فی المقدمة .و یتفرع علی هذا فرع فقهی و هو أنه حینئذ لا مانع فی المقدمة المفوتة العبادیة کالطهارات الثلاث من قصد الوجوب فی النیة قبل وقت الواجب لو قلنا بأن مقدمة الواجب واجبة .و الحاصل أن العقل یحکم بلزوم الإتیان بالمقدمة المفوتة قبل وقت ذیها و لا مانع عقلی من ذلک .هذا کله من جهة إشکال انفکاک وجوب المقدمة عن وجوب ذیها و أما من جهة إشکال استحقاق العقاب علی ترک الواجب بترک مقدمته مع عدم فعلیة وجوبه فیعلم دفعه مما سبق فإن التکلیف بذی المقدمة الموقت یکون تام الاقتضاء و إن لم یصر فعلیا لوجود المانع و هو عدم حضور وقته .و لا ینبغی الشک فی أن دفع التکلیف مع تمامیة اقتضائه تفویت لغرض المولی المعلوم الملزم و هذا یعد ظلما فی حقه و خروجا عن زی الرقیة و تمردا علیه فیستحق علیه العقاب و اللوم من هذه الجهة و إن لم یکن فیه مخالفة

ص :283

للتکلیف الفعلی المنجز .و هذا لا یشبه دفع مقتضی التکلیف کعدم تحصیل الاستطاعة للحج فإن مثله لا یعد ظلما و خروجا عن زی الرقیة و تمردا علی المولی لأنه لیس فیه تفویت لغرض المولی المعلوم التام الاقتضاء و المدار فی استحقاق العقاب هو تحقق عنوان الظلم للمولی القبیح عقلا

9 المقدمة العبادیة

ثبت بالدلیل أن بعض المقدمات الشرعیة لا تقع مقدمة إلا إذا وقعت علی وجه عبادی و ثبت أیضا ترتب الثواب علیها بخصوصها و مثالها منحصر فی الطهارات الثلاث الوضوء و الغسل و التیمم .و قد سبق فی الأمر الثانی الإشکال فیها من جهتین من جهة أن الواجب الغیری لا یکون إلا توصلیا فکیف یجوز أن تقع المقدمة بما هی مقدمة عبادة و من جهة ثانیة أن الواجب الغیری بما هو واجب غیری لا استحقاق للثواب علیه .و فی الحقیقة إن هذا الإشکال لیس إلا إشکالا علی أصولنا التی أصلناها للواجب الغیری فنقع فی حیرة فی التوفیق بین ما فهمناه عن الواجب الغیری و بین عبادیة هذه المقدمات الثابتة عبادیتها و إلا فکون هذه المقدمات عبادیة یستحق الثواب علیها أمر مفروغ عنه لا یمکن رفع الید عنه .فإذن لا بد لنا من تصحیح ما أصلناه فی الواجب الغیری بتوجیه عبادیة المقدمة علی وجه یلائم توصلیة الأمر الغیری و قد ذهبت الآراء أشتاتا فی توجیه ذلک .و نحن نقول علی الاختصار إنه من التیقن الذی لا ینبغی أن یتطرق إلیه الشک من أحد أن الصلاة مثلا ثبت من طریق الشرع توقف صحتها

ص :284

علی إحدی الطهارات الثلاث و لکن لا تتوقف علی مجرد أفعالها کیف ما اتفق وقوعها بل إنما تتوقف علی فعل الطهارة إذا وقع علی الوجه العبادی أی إذا وقع متقربا به إلی الله تعالی فالوضوء العبادی مثلا هو الشرط و هو المقدمة التی تتوقف صحة الصلاة علیها .و علیه لا بد أن یفرض الوضوء عبادة قبل فرض تعلق الأمر الغیری به لأن الأمر الغیری حسب ما فرضناه إنما یتعلق بالوضوء العبادی بما هو عبادة لا بأصل الوضوء بما هو فلم تنشأ عبادیته من الأمر الغیری حتی یقال إن عبادیته لا تلائم توصلیة الأمر الغیری بل عبادیته لا بد أن تکون مفروضة التحقق قبل فرض تعلق الأمر الغیری به و من هنا یصح استحقاق الثواب علیه لأنه عبادة فی نفسه .و لکن ینشأ من هذا البیان إشکال آخر و هو أنه إذا کانت عبادیة الطهارات غیر ناشئة من الأمر الغیری فما هو الأمر المصحح لعبادیتها و المعروف أنه لا یصح فرض العبادة عبادة إلا بتعلق أمر بها لیمکن قصد امتثاله لأن قصد امتثال الأمر هو المقوم لعبادیة العبادة عندهم و لیس لها فی الواقع إلا الأمر الغیری فرجع الأمر بالأخیر إلی الغیری لتصحیح عبادیتها .علی أنه یستحیل أن یکون الأمر الغیری هو المصحح لعبادیتها لتوقف عبادیتها حینئذ علی سبق الأمر الغیری و المفروض أن الأمر الغیری متأخر عن فرض عبادیتها لأنه إنما تعلق بها بما هی عبادة فیلزم تقدم المتأخر و تأخر المتقدم و هو خلف محال أو دور علی ما قیل .و قد أجیب عن هذه الشبهة بوجوه کثیرة .و أحسنها فیما أری بناء علی ثبوت الأمر الغیری أی وجوب مقدمة الواجب و بناء علی أن عبادیة العبادة لا تکون إلا بقصد الأمر المتعلق بها

ص :285

هو أن المصحح لعبادیة الطهارات هو الأمر النفسی الاستحبابی لها فی حد ذاتها السابق علی الأمر الغیری بها و هذا الاستحباب باق حتی بعد فرض الأمر الغیری و لکن لا بحد الاستحباب الذی هو جواز الترک إذ المفروض أنه قد وجب فعلها فلا یجوز ترکها و لیس الاستحباب إلا مرتبة ضعیفة بالنسبة إلی الوجوب فلو طرأ علیه الوجوب لا ینعدم بل یشتد وجوده فیکون الوجوب استمرارا له کاشتداد السواد و البیاض من مرتبة ضعیفة إلی مرتبة أقوی و هو وجود واحد مستمر و إذا کان الأمر کذلک فالأمر الغیری حینئذ یدعو إلی ما هو عبادة فی نفسه فلیست عبادیتها متأتیة من الأمر الغیری حتی یلزم الإشکال .و لکن هذا الجواب علی حسنه غیر کاف بهذا المقدار من البیان لدفع الشبهة و سر ذلک أنه لو کان المصحح لعبادیتها هو الأمر الاستحبابی النفسی بالخصوص لکان یلزم ألا تصح هذه المقدمات إلا إذا جاء بها المکلف بقصد امتثال الأمر الاستحبابی فقط مع أنه لا یفتی بذلک أحد و لا شک فی أنها تقع صحیحة لو أتی بها بقصد امتثال أمرها الغیری بل بعضهم اعتبر قصده فی صحتها بعد دخول وقت الواجب المشروط بها .فنقول إکمالا للجواب إنه لیس مقصود المجیب من کون استحبابها النفسی مصححا لعبادیتها أن المأمور به بالأمر الغیری هو الطهارة المأتی بها بداعی امتثال الأمر الاستحبابی کیف و هذا المجیب قد فرض عدم بقاء الاستحباب بحده بعد ورود الأمر الغیری فکیف یفرض أن المأمور به هو المأتی به بداعی امتثال الأمر الاستحبابی .بل مقصود المجیب أن الأمر الغیری لما کان متعلقه هو الطهارة بما هی عبادة و لا یمکن أن تکون عبادیتها ناشئة من نفس الأمر الغیری بما هو

ص :286

أمر غیری فلا بد من فرض عبادیتها لا من جهة الأمر الغیری و بفرض سابق علیه و لیس هو إلا الأمر الاستحبابی النفسی المتعلق بها و هذا یصحح عبادیتها قبل فرض تعلق الأمر الغیری بها و إن کان حین توجه الأمر الغیری لا یبقی ذلک الاستحباب بحده و هو جواز الترک و لکن لا تذهب بذلک عبادیتها لأن المناط فی عبادیتها لیس جواز الترک کما هو واضح بل المناط مطلوبیتها الذاتیة و رجحانها النفسی و هی باقیة بعد تعلق الأمر الغیری .و إذا صح تعلق الأمر الغیری بها بما هی عبادة و اندکاک الاستحباب فیه بمعنی أن الأمر الغیری یکون استمرارا لتلک المطلوبیة فإنه حینئذ لا یبقی إلا الأمر الغیری صالحا للدعوة إلیها و یکون هذا الأمر الغیری نفسه أمرا عبادیا غایة الأمر أن عبادیته لم تجئ من أجل نفس کونه أمرا غیریا بل من أجل کونه امتدادا لتلک المطلوبیة النفسیة و ذلک الرجحان الذاتی الذی حصل من ناحیة الأمر الاستحبابی النفسی السابق .و علیه فینقلب الأمر الغیری عبادیا و لکنها عبادیة بالعرض لا بالذات حتی یقال إن الأمر الغیری توصلی لا یصلح للعبادیة .و من هنا لا یصح الإتیان بالطهارة بقصد الاستحباب بعد دخول الوقت للواجب المشروط بها لأن الاستحباب بحده قد اندک فی الأمر الغیری فلم یعد موجودا حتی یصح قصده .نعم یبقی أن یقال إن الأمر الغیری إنما یدعو إلی الطهارة الواقعة علی وجه العبادة لأنه حسب الفرض متعلقه هو الطهارة بصفة العبادة لا ذات الطهارة و الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به فکیف صح أن یؤتی بذات العبادة بداعی امتثال أمرها الغیری و لا أمر غیری بذات العبادة .و لکن ندفع هذا الإشکال بأن نقول إذا کان الوضوء مثلا

ص :287

مستحبا نفسیا فهو قابل لأن یتقرب به من المولی و فعلیة التقرب تتحقق بقصد الأمر الغیری المندک فیه الأمر الاستحبابی و بعبارة أخری قد فرضنا الطهارات عبادات نفسیة فی مرتبة سابقة علی الأمر الغیری المتعلق بها و الأمر الغیری إنما یدعو إلی ذلک فإذا جاء المکلف بها بداعی الأمر الغیری المندک فیه الاستحباب و المفروض لیس هناک أمر موجود غیره صح التقرب به و وقعت عبادة لا محالة فیتحقق ما هو شرط الواجب و مقدمته .هذا کله بناء علی ثبوت الأمر الغیری بالمقدمة و بناء علی أن مناط عبادیة العبادة هو قصد الأمر المتعلق بها .و کلا المبنیین نحن لا نقول بهما .أما الأول فسیأتی فی البحث الآتی الدلیل علی عدم وجوب مقدمة الواجب فلا أمر غیری أصلا .و أما الثانی فلأن الحق أنه یکفی فی عبادیة الفعل ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا إلیه تعالی غایة الأمر أن العبادات قد ثبت أنها توقیفیة فما لم یثبت رضا المولی بالفعل و حسن الانقیاد و قصد وجه الله بالفعل لا یصح الإتیان بالفعل عبادة بل یکون تشریعا محرما و لا یتوقف ذلک علی تعلق أمر المولی بنفس الفعل علی أن یکون أمرا فعلیا من المولی و لذا قیل یکفی فی عبادیة العبادة حسنها الذاتی و محبوبیتها الذاتیة للمولی حتی لو کان هناک مانع من توجه الأمر الفعلی بها .و إذا ثبت ذلک فنقول فی تصحیح عبادیة الطهارات إن فعل المقدمة بنفسه یعد شروعا فی امتثال ذی المقدمة الذی هو حسب الفرض فی المقام عبادة فی نفسه مأمور بها .فیکون الإتیان بالمقدمة بنفسه یعد امتثالا للأمر النفسی بذی المقدمة

ص :288

العبادی و یکفی فی عبادیة الفعل کما قلنا ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا إلیه تعالی مع عدم ما یمنع من التعبد به و لا شک فی أن قصد الشروع بامتثال الأمر النفسی بفعل مقدماته قاصدا بها التوصل إلی الواجب النفسی العبادی یعد طاعة و انقیادا للمولی .و بهذا تصحح عبادیة المقدمة و إن لم نقل بوجوبها الغیری و لا حاجة إلی فرض طاعة الأمر الغیری .و من هنا یصح أن تقع کل مقدمة عبادة و یستحق علیها الثواب بهذا الاعتبار و إن لم تکن فی نفسها معتبرا فیها أن تقع علی وجه العبادة کتطهیر الثوب مثلا مقدمة للصلاة أو کالمشی حافیا مقدمة للحج أو الزیارة غایة الأمر أن الفرق بین المقدمات العبادیة و غیرها أن غیر العبادیة لا یلزم فیها أن تقع علی وجه قربی بخلاف المقدمات المشروط فیها أن تقع عبادة کالطهارات الثلاث .و یؤید ذلک ما ورد من الثواب علی بعض المقدمات و لا حاجة إلی التأویل الذی ذکرناه سابقا فی الأمر الثالث من أن الثواب علی ذی المقدمة یوزع علی المقدمات باعتبار دخالتها فی زیادة حمازة الواجب فإن ذلک التأویل مبنی علی فرض ثبوت الأمر الغیری و أن عبادیة المقدمة و استحقاق الثواب علیها لا ینشئان إلا من جهة الأمر الغیری اتباعا للمشهور المعروف بین القوم .فإن قلت إن الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به فلا یعقل أن یکون الأمر بذی المقدمة داعیا بنفسه إلی المقدمة إلا إذا قلنا بترشح أمر آخر منه بالمقدمة فیکون هو الداعی و لیس هذا الأمر الآخر المترشح إلا الأمر الغیری فرجع الإشکال جذعا .قلت نعم الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به و لکنا لا ندعی أن الأمر بذی المقدمة هو الذی یدعو إلی المقدمة بل نقول إن العقل هو الداعی إلی

ص :289

فعل المقدمة توصلا إلی فعل الواجب و سیأتی أن هذا الحکم العقلی لا یستکشف منه ثبوت أمر غیری من المولی و لا یلزم أن یکون هناک أمر بنفس المقدمة لتصحیح عبادیتها و یکون داعیا إلیها .و الحاصل أن الداعی إلی فعل المقدمة هو حکم العقل و المصحح لعبادیتها شیء آخر هو قصد التقرب بها و یکفی فی التقرب بها إلی الله أن یأتی بها بقصد التوصل إلی ما هو عبادة لا أن الداعی إلی فعل المقدمة هو نفس المصحح لعبادیتها و لا أن المصحح لعبادیة العبادة منحصر فی قصد الأمر المتعلق بها و قد سبق توضیح ذلک .و علیه فإن کانت المقدمة ذات الفعل کالتطهیر من الخبث فالعقل لا یحکم إلا بإتیانها علی أی وجه وقعت و لکن لو أتی بها المکلف متقربا بها إلی الله توصلا إلی العبادة صح و وقعت علی صفة العبادیة و استحق علیها الثواب و إن کانت المقدمة عملا عبادیا کالطهارة من الحدث فالعقل یلزم بالإتیان بها کذلک و المفروض أن المکلف متمکن من ذلک سواء کان هناک أمر غیری أم لم یکن و سواء کانت المقدمة فی نفسها مستحبة أم لم تکن فلا إشکال من جمیع الوجوه فی عبادیة الطهارات

ص :290

النتیجة مسألة مقدمة الواجب و الأقوال فیها

بعد تقدیم تلک التمهیدات التسعة نرجع إلی أصل المسألة و هو البحث عن وجوب مقدمة الواجب الذی قلنا إنه آخر ما یشغل بال الأصولیین .و قد عرفت فی مدخل المسألة موضع البحث فیها ببیان تحریر النزاع و هو کما قلنا الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع إذ قلنا إن العقل یحکم بوجوب مقدمة الواجب أی إنه یدرک لزومها و لکن وقع البحث فی أنه هل یحکم أیضا بأن المقدمة واجبة أیضا عند من أمر بما یتوقف علیها لقد تکثرت الأقوال جدا فی هذه المسألة علی مرور الزمن نذکر أهمها و نذکر ما هو الحق منها و هی 1 القول بوجوبها مطلقا .2 القول بعدم وجوبها مطلقا و هو الحق و سیأتی دلیله .3 التفصیل بین السبب فلا یجب و بین غیره کالشرط و عدم المانع و المعد فیجب .4 التفصیل بین السبب و غیره أیضا و لکن بالعکس أی یجب السبب دون غیره .5 التفصیل بین الشرط الشرعی فلا یجب بالوجوب الغیری باعتبار أنه واجب بالوجوب النفسی نظیر جزء الواجب و بین غیره فیجب بالوجوب الغیری و هو القول المعروف عن شیخنا المحقق النائینی .6 التفصیل بین الشرط الشرعی و غیره أیضا و لکن بالعکس أی

ص :291

یجب الشرط الشرعی بالوجوب المقدمی دون غیره .7 التفصیل بین المقدمة الموصلة أی التی یترتب علیها الواجب النفسی فتجب و بین المقدمة غیر الموصلة فلا تجب و هو المذهب المعروف لصاحب الفصول .8 التفصیل بین ما قصد به التوصل من المقدمات فیقع علی صفة الوجوب و بین ما لم یقصد به ذلک فلا یقع واجبا و هو القول المنسوب إلی الشیخ الأنصاری .9 التفصیل المنسوب إلی صاحب المعالم الذی أشار إلیه فی مسألة الضد و هو اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذیها فلا تکون المقدمة واجبة علی تقدیر عدم إرادته .10 التفصیل بین المقدمة الداخلیة أی الجزء فلا تجب و بین المقدمة الخارجیة فتجب .و هناک تفصیلات أخری عند المتقدمین لا حاجة إلی ذکرها .و قد قلنا إن الحق فی المسألة کما علیه جماعة (1)من المحققین المتأخرین القول الثانی و هو عدم وجوبها مطلقا .و الدلیل علیه واضح بعد ما قلناه ص 32 من أنه فی موارد حکم العقل بلزوم الشیء علی وجه یکون حکما داعیا للمکلف إلی فعل الشیء لا یبقی مجال للأمر المولوی فإن هذه المسألة من ذلک الباب من جهة العلة .

ص :292


1- أول من تنبه إلی ذلک وأقام علیه البرهان بالاسلوب الذی ذکرناه - فیما أعلم - استاذنا المحقق الاصفهانی قدس الله نفسه الزکیة، وقد عضد هذا القول السید الجلیل المحقق الخوئی دام ظله. وکذلک ذهب إلی هذا القول وأوضحه سیدنا المحقق الحکیم دام ظله فی حاشیته علی الکفایة.

و ذلک لأنه إذا کان الأمر بذی المقدمة داعیا للمکلف إلی الإتیان بالمأمور به فإن دعوته هذه لا محالة بحکم العقل تحمله و تدعوه إلی الإتیان بکل ما یتوقف علیه المأمور به تحصیلا له .و مع فرض وجود هذا الداعی فی نفس المکلف لا تبقی حاجة إلی داع آخر من قبل المولی مع علم المولی حسب الفرض بوجود هذا الداعی لأن الأمر المولوی سواء کان نفسیا أم غیریا إنما یجعله المولی لغرض تحریک المکلف نحو فعل المأمور به إذ یجعل الداعی فی نفسه حیث لا داع .بل یستحیل فی هذا الفرض جعل الداعی الثانی من المولی لأنه یکون من باب تحصیل الحاصل .و بعبارة أخری إن الأمر بذی المقدمة لو لم یکن کافیا فی دعوة المکلف إلی الإتیان بالمقدمة فأی أمر بالمقدمة لا ینفع و لا یکفی للدعوة إلیها بما هی مقدمة و مع کفایة الأمر بذی المقدمة لتحریکه إلی المقدمة و للدعوة إلیها فأیة حاجة تبقی إلی الأمر بها من قبل المولی بل یکون عبثا و لغوا بل یمتنع لأنه تحصیل للحاصل .و علیه فالأوامر الواردة فی بعض المقدمات یجب حملها علی الإرشاد و بیان شرطیة متعلقها للواجب و توقفه علیها کسائر الأوامر الإرشادیة فی موارد حکم العقل و علی هذا یحمل(قوله علیه السلام:إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور و الصلاة) .و من هذا البیان نستحصل علی النتیجة الآتیة أنه لا وجوب غیری أصلا و ینحصر الوجوب المولوی بالواجب النفسی فقط فلا موقع إذن لتقسیم الواجب إلی النفسی و الغیری .فلیحذف ذلک من سجل الأبحاث الأصولیة

ص :293

المسألة الثالثة مسألة الضد
تحریر محل النزاع

اختلفوا فی أن الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضده أو لا یقتضی علی أقوال .و لأجل توضیح محل النزاع و تحریره نشرح مرادهم من الألفاظ التی وردت علی لسانهم فی تحریر النزاع هذا و هی علی ثلاثة 1 الضد فإن مرادهم من هذه الکلمة مطلق المعاند و المنافی فیشمل نقیض الشیء أی إن الضد عندهم أعم من الأمر الوجودی و العدمی و هذا اصطلاح خاص للأصولیین فی خصوص هذا الباب و إلا فالضد مصطلح فلسفی یراد به فی باب التقابل خصوص الأمر الوجودی الذی له مع وجودی آخر تمام المعاندة و المنافرة و له معه غایة التباعد .و لذا قسم الأصولیون الضد إلی ضد عام و هو الترک أی النقیض و ضد خاص و هو مطلق المعاند الوجودی .و علی هذا فالحق أن تنحل هذه المسألة إلی مسألتین موضوع إحداهما الضد العام و موضوع الأخری الضد الخاص لا سیما مع اختلاف الأقوال فی الموضوعین .2 الاقتضاء و یراد به لابدیة ثبوت النهی عن الضد عند الأمر بالشیء إما لکون الأمر یدل علیه بإحدی الدلالات الثلاث المطابقة و التضمن

ص :294

و الالتزام و إما لکونه یلزمه عقلا النهی عن الضد من دون أن یکون لزومه بینا بالمعنی الأخص حتی یدل علیه بالالتزام .فالمراد من الاقتضاء عندهم أعم من کل ذلک .3 النهی و یراد به النهی المولوی من الشارع و إن کان تبعیا کوجوب المقدمة الغیری التبعی و النهی معناه المطابقی کما سبق فی مبحث النواهی ج 1 ص 103 هو الزجر و الردع عما تعلق به و فسره المتقدمون بطلب الترک و هو تفسیر بلازم معناه و لکنهم فرضوه کأن ذلک هو معناه المطابقی و لذا اعترض بعضهم علی ذلک فقال إن طلب الترک محال فلا بد أن یکون المطلوب الکف و هکذا تنازعوا فی أن المطلوب بالنهی الترک أو الکف و لا معنی لنزاعهم هذا إلا إذا کانوا قد فرضوا أن معنی النهی هو الطلب فوقعوا فی حیرة فی أن المطلوب به أی شیء هو الترک أو الکف .و لو کان المراد من النهی هو طلب الترک کما ظنوا لما کان معنی لنزاعهم فی الضد العام فإن النهی عنه معناه علی حسب ظنهم طلب ترک ترک المأمور به و لما کان نفی النفی إثباتا فیرجع معنی النهی عن الضد العام إلی معنی طلب فعل المأمور به فیکون قولهم الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده العام تبدیلا للفظ بلفظ آخر بمعناه و یکون عبارة أخری عن القول بأن الأمر بالشیء یقتضی نفسه و ما أشد سخف مثل هذا البحث .و لعله لأجل هذا التوهم أی توهم أن النهی معناه طلب الترک ذهب بعضهم إلی عینیة الأمر بالشیء للنهی عن الضد العام .و بعد بیان هذه الأمور الثلاثة فی تحریر محل النزاع یتضح موضع

ص :295

النزاع و کیفیته أن النزاع معناه یکون أنه إذا تعلق أمر بشیء هل إنه لا بد أن یتعلق نهی المولی بضده العام أو الخاص فالنزاع یکون فی ثبوت النهی المولوی عن الضد بعد فرض ثبوت الأمر بالشیء و بعد فرض ثبوت النهی فهناک نزاع آخر فی کیفیة إثبات ذلک .و علی کل حال فإن مسألتنا کما قلنا تنحل إلی مسألتین إحداهما فی الضد العام و الثانیة فی الضد الخاص فینبغی البحث عنهما فی بابین

1 الضد العام

لم یکن اختلافهم فی الضد العام من جهة أصل الاقتضاء و عدمه فإن الظاهر أنهم متفقون علی الاقتضاء و إنما اختلافهم فی کیفیته فقیل إنه علی نحو العینیة أی إن الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام فیدل علیه حینئذ بالدلالة المطابقیة .و قیل إنه علی نحو الجزئیة فیدل علیه بالدلالة التضمنیة باعتبار أن ینحل إلی طلب الشیء مع المنع من الترک فیکون المنع من الترک جزءا تحلیلیا فی معنی الوجوب .و قیل إنه علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص فیدل علیه بالدلالة الالتزامیة .و قیل إنه علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأعم أو غیر البین فیکون اقتضاؤه له عقلیا صرفا .و الحق أنه لا یقتضیه بأی نحو من أنحاء الاقتضاء أی أنه لیس هناک نهی مولوی عن الترک یقتضیه نفس الأمر بالفعل علی وجه یکون هناک نهی

ص :296

مولوی وراء نفس الأمر بالفعل .و الدلیل علیه أن الوجوب سواء کان مدلولا لصیغة الأمر أو لازما عقلیا لها کما هو الحق لیس معنی مرکبا بل هو معنی بسیط وجدانی هو لزوم الفعل و لازم کون الشیء واجبا المنع من ترکه .و لکن هذا المنع اللازم للوجوب لیس منعا مولویا و نهیا شرعیا بل هو منع عقلی تبعی من غیر أن یکون هناک من الشارع منع و نهی وراء نفس الوجوب و سر ذلک واضح فإن نفس الأمر بالشیء علی وجه الوجوب کاف فی الزجر عن ترکه فلا حاجة إلی جعل للنهی عن الترک من الشارع زیادة علی الأمر بذلک الشیء .فإن کان مراد القائلین بالاقتضاء فی المقام أن نفس الأمر بالفعل یکون زاجرا عن ترکه فهو مسلم بل لا بد منه لأن هذا هو مقتضی الوجوب و لکن لیس هذا هو موضع النزاع فی المسألة بل موضع النزاع هو النهی المولوی زائدا علی الأمر بالفعل و إن کان مرادهم أن هناک نهیا مولویا عن الترک یقتضیه الأمر بالفعل کما هو موضع النزاع فهو غیر مسلم و لا دلیل علیه بل هو ممتنع .و بعبارة أوضح و أوسع إن الأمر و النهی متعاکسان بمعنی أنه إذا تعلق الأمر بشیء فعلی طبع ذلک یکون نقیضه بالتبع ممنوعا منه و إلا لخرج الواجب عن کونه واجبا إذا تعلق النهی بشیء فعلی طبع ذلک یکون نقیضه بالتبع مدعوا إلیه و إلا لخرج المحرم عن کونه محرما و لکن لیس معنی هذه التبعیة فی الأمر أن یتحقق فعلا نهی مولوی عن ترک المأمور به بالإضافة إلی الأمر المولوی بالفعل کما أنه لیس معنی هذه التبعیة فی النهی أن یتحقق فعلا أمر مولوی بترک المنهی عنه بالإضافة إلی النهی المولوی عن الفعل .

ص :297

و السر ما قلناه أن نفس الأمر بالشیء کاف فی الزجر عن ترکه کما أن نفس النهی عن الفعل کاف للدعوة إلی ترکه بلا حاجة إلی جعل جدید من المولی فی المقامین بل لا یعقل الجعل الجدید کما قلنا فی مقدمة الواجب حذو القذة بالقذة فراجع .و لأجل هذه التبعیة الواضحة اختلط الأمر علی کثیر من المحررین لهذه المسألة فحسبوا أن هناک نهیا مولویا عن ترک المأمور به وراء الأمر بالشیء اقتضاه الأمر علی نحو العینیة أو التضمن أو الالتزام أو اللزوم العقلی .کما حسبوا هناک فی مبحث النهی أن معنی النهی هو الطلب إما للترک أو الکف و قد تقدمت الإشارة إلی ذلک فی تحریر النزاع .و هذان التوهمان فی النهی و الأمر من واد واحد و علیه فلیس هناک طلب للترک وراء الردع عن الفعل فی النهی و لا نهی عن الترک وراء طلب الفعل فی الأمر .نعم یجوز للأمر بدلا من الأمر بالشیء أن یعبر عنه بالنهی عن الترک کأن یقول مثلا بدلا عن قوله صل لا تترک الصلاة و یجوز له بدلا من النهی عن الشیء أن یعبر عنه بالأمر بالترک کأن یقول مثلا بدلا عن قوله لا تشرب الخمر اترک شرب الخمر فیؤدی التعبیر الثانی فی المقامین مؤدی التعبیر الأول المبدل منه أی إن التعبیر الثانی یحقق الغرض من التعبیر الأول .فإذا کان مقصود القائل بأن الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام هذا المعنی أی أن أحدهما یصح أن یوضع موضع الآخر و یحل محله فی أداء غرض الآمر فلا بأس به و هو صحیح و لکن هذا غیر العینیة المقصودة فی المسألة علی الظاهر

ص :298

2 الضد الخاص
اشارة

إن القول باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضده الخاص یبتنی و یتفرع علی القول باقتضائه للنهی عن ضده العام .و لما ثبت حسب ما تقدم أنه لا نهی مولوی عن الضد العام فبالطریق الأولی نقول إنه لا نهی مولوی عن الضد الخاص لما قلنا من ابتنائه و تفرعه علیه .و علی هذا فالحق أن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده مطلقا سواء کان عاما أو خاصا .أما کیف یبتنی القول بالنهی عن الضد الخاص علی القول بالنهی عن الضد العام و یتفرع علیه فهذا ما یحتاج إلی شیء من البیان فنقول إن القائلین بالنهی عن الضد الخاص لهم مسلکان لا ثالث لهما و کلاهما یبتنیان و یتفرعان علی ذلک

الأول مسلک التلازم

و خلاصته أن حرمة أحد المتلازمین تستدعی و تستلزم حرمة ملازمه الآخر و المفروض أن فعل الضد الخاص یلازم ترک المأمور به أی الضد العام کالأکل مثلا الملازم فعله لترک الصلاة المأمور بها و عندهم أن الضد العام محرم منهی عنه و هو ترک الصلاة فی المثال فیلزم علی هذا أن یحرم الضد الخاص و هو الأکل فی المثال فابتنی النهی عن الضد الخاص بمقتضی هذا المسلک علی ثبوت النهی عن الضد العام .أما نحن فلما ذهبنا إلی أنه لا نهی مولوی عن الضد العام فلا موجب

ص :299

لدینا من جهة الملازمة المدعاة للقول بکون الضد الخاص منهیا عنه بنهی مولوی لأن ملزومه لیس منهیا عنه حسب التحقیق الذی مر .علی أنا نقول ثانیا بعد التنازل عن ذلک و التسلیم بأن الضد العام منهی عنه إن هذا المسلک لیس صحیحا فی نفسه یعنی أن کبراه غیر مسلمة و هی أن حرمة أحد المتلازمین تستلزم ملازمه الآخر فإنه لا یجب اتفاق المتلازمین فی الحکم لا فی الوجوب و لا الحرمة و لا غیرهما من الأحکام ما دام أن مناط الحکم غیر موجود فی الملازم الآخر نعم القدر المسلم فی المتلازمین أنه لا یمکن أن یختلفا فی الوجوب و الحرمة علی وجه یکون أحدهما واجبا و الآخر محرما لاستحالة امتثالهما حینئذ من المکلف فیستحیل التکلیف من المولی بهما فإما أن یحرم أحدهما أو یجب الآخر و یرجع ذلک إلی باب التزاحم الذی سیأتی التعرض له .و بهذا تبطل شبهة الکعبی المعروفة التی أخذت قسطا وافرا من أبحاث الأصولیین إذا کان مبناها هذه الملازمة المدعاة فإنه نسب إلیه القول بنفی المباح بدعوی أن کل ما یظن من الأفعال أنه مباح فهو واجب فی الحقیقة لأن فعل کل مباح ملازم قهرا لواجب و هو ترک محرم واحد من المحرمات علی الأقل

الثانی مسلک المقدمیة

و خلاصته دعوی أن ترک الضد الخاص مقدمة لفعل المأمور به ففی المثال المتقدم یکون ترک الأکل مقدمة لفعل الصلاة و مقدمة الواجب واجبة فیجب ترک الضد الخاص .و إذا وجب ترک الأکل حرم ترکه أی ترک ترک الأکل لأن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن الضد العام و إذا حرم ترک ترک الأکل فإن معناه حرمة فعله لأن نفی النفی إثبات فیکون الضد الخاص منهیا عنه

ص :300

هذا خلاصة مسلک المقدمیة و قد رأیت کیف ابتنی النهی عن الضد الخاص علی ثبوت النهی عن الضد العام .و نحن إذ قلنا بأنه لا نهی مولوی عن الضد العام فلا یحرم ترک ترک الضد الخاص حرمة مولویة أی لا یحرم فعل الضد الخاص فثبت المطلوب علی أن مسلک المقدمیة غیر صحیح من وجهین آخرین أحدهما أنه بعد التنزل عما تقدم و تسلیم حرمة الضد العام فإن هذا المسلک کما هو واضح یبتنی علی وجوب مقدمة الواجب و قد سبق أن أثبتنا أنها لیست واجبة بوجوب مولوی و علیه لا یکون ترک الضد الخاص واجبا بالوجوب الغیری المولوی حتی یحرم فعله .ثانیهما أنا لا نسلم أن ترک الضد الخاص مقدمة لفعل المأمور به و هذه المقدمیة أعنی مقدمیة الضد الخاص لا تزال مثارا للبحث عند المتأخرین حتی أصبحت من المسائل الدقیقة المطولة و نحن فی غنی عن البحث عنها بعد ما تقدم .و لکن لحسم مادة الشبهة لا بأس بذکر خلاصة ما یرفع المغالطة فی دعوی مقدمیة ترک الضد فنقول إن المدعی لمقدمیة ترک الضد لضده تبتنی دعواه علی أن عدم الضد من باب عدم المانع بالنسبة إلی الضد الآخر للتمانع بین الضدین أی لا یمکن اجتماعهما معا و لا شک فی أن عدم المانع من المقدمات لأنه من متممات العلة فإن العلة التامة کما هو معروف تتألف من المقتضی و عدم المانع .فیتألف دلیله من مقدمتین 1 الصغری أن عدم الضد من باب عدم المانع لضده لأن الضدین متمانعان .

ص :301

2 الکبری أن عدم المانع من المقدمات .فینتج من الشکل الأول أن عدم الضد من المقدمات لضده و هذه الشبهة إنما نشأت من أخذ کلمة المانع مطلقة فتخیلوا أن لها معنی واحدا فی الصغری و الکبری فانتظم عندهم القیاس الذی ظنوه منتجا بینما أن الحق أن التمانع له معنیان و معناه فی الصغری غیر معناه فی الکبری فلم یتکرر الحد الأوسط فلم یتألف قیاس صحیح .بیان ذلک أن التمانع تارة یراد منه التمانع فی الوجود و هو امتناع الاجتماع و عدم الملاءمة بین الشیئین و هو المقصود من التمانع بین الضدین إذ هما لا یجتمعان فی الوجود و لا یتلاءمان و أخری یراد منه التمانع فی التأثیر و إن لم یکن بینهما تمانع و تناف فی الوجود و هو الذی یکون بین المقتضیین لأثرین متمانعین فی الوجود إذ یکون المحل غیر قابل إلا لتأثیر أحد المقتضیین فإن المقتضیین حینئذ یتمانعان فی تأثیرهما فلا یؤثر أحدهما إلا بشرط عدم المقتضی الآخر و هذا هو المقصود من المانع فی الکبری فإن المانع الذی یکون عدمه شرطا لتأثیر المقتضی هو المقتضی الآخر الذی یقتضی ضد أثر الأول و عدم المانع إما لعدم وجوده أصلا أو لعدم بلوغه مرتبة الغلبة علی الآخر فی التأثیر .و علیه فنحن نسلم أن عدم الضد من باب عدم المانع و لکنه عدم المانع فی الوجود و ما هو من المقدمات عدم المانع فی التأثیر فلم یتکرر الحد الأوسط فلا نستنتج من القیاس أن عدم الضد من المقدمات .و أعتقد أن هذا البیان لرفع المغالطة فیه الکفایة للمتنبه و إصلاح هذا البیان بذکر بعض الشبهات فیه و دفعها یحتاج إلی سعة من القول لا تتحملها الرسالة و لسنا بحاجة إلی نفی المقدمة لإثبات المختار بعد ما قدمناه

ص :302

ثمرة المسألة

إن ما ذکروه من الثمرات لهذه المسألة مختص بالضد الخاص فقط و أهمها و العمدة فیها هی صحة الضد إذا کان عبادة علی القول بعدم الاقتضاء و فساده علی القول بالاقتضاء .بیان ذلک أنه قد یکون هناک واجب أی واجب کان عبادة أو غیر عبادة و ضده عبادة و کان الواجب أرجح فی نظر الشارع من ضده العبادی فإنه لمکان التزاحم بین الأمرین للتضاد بین متعلقیهما و الأول أرجح فی نظر الشارع لا محالة یکون الأمر الفعلی المنجز هو الأول دون الثانی .و حینئذ فإن قلنا بأن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص فإن الضد العبادی یکون منهیا عنه فی الفرض و النهی فی العبادة یقتضی الفساد فإذا أتی به وقع فاسدا و إن قلنا بأن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده الخاص فإن الضد العبادی لا یکون منهیا عنه فلا مقتضی لفساده .و أرجحیة الواجب علی ضده الخاص العبادی یتصور فی أربعة موارد 1 أن یکون الضد العبادی مندوبا و لا شک فی أن الواجب مقدم علی المندوب کاجتماع الفریضة مع النافلة فإنه بناء علی اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضده لا یصح الاشتغال بالنافلة مع حلول وقت الفریضة و لا بد أن تقع النافلة فاسدة نعم لا بد أن تستثنی من ذلک نوافل الوقت لورود الأمر بها فی خصوص وقت الفریضة کنافلتی الظهر و العصر .و علی هذا فمن کان علیه قضاء الفوائت لا تصح منه النوافل مطلقا بناء علی النهی عن الضد بخلاف ما إذا لم نقل بالنهی عن الضد فإن عدم جواز فعل النافلة حینئذ یحتاج إلی دلیل خاص .2 أن یکون الضد العبادی واجبا و لکنه أقل أهمیة عند الشارع من

ص :303

الأول کما فی مورد اجتماع إنقاذ نفس محترمة من الهلکة مع الصلاة الواجبة .3 أن یکون الضد العبادی واجبا أیضا و لکنه موسع الوقت و الأول مضیق و لا شک فی أن المضیق مقدم علی الموسع و إن کان الموسع أکثر أهمیة منه مثاله اجتماع قضاء الدین الفوری مع الصلاة فی سعة وقتها و إزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة فی سعة الوقت .4 أن یکون الضد العبادی واجبا أیضا و لکنه مخیر و الأول واجب معین و لا شک فی أن المعین مقدم علی المخیر و إن کان المخیر أکثر أهمیة منه لأن المخیر له بدل دون المعین مثاله اجتماع سفر منذور فی یوم معین مع خصال الکفارة فلو ترک المکلف السفر و اختار الصوم من خصال الکفارة فإن کان الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده کان الصوم منهیا عنه فاسدا .هذه خلاصة بیان ثمرة المسألة مع بیان موارد ظهورها و لکن هذا المقدار من البیان لا یکفی فی تحقیقها فإن تربتها و ظهورها یتوقف علی أمرین الأول القول بأن النهی فی العبادة یقتضی فسادها حتی النهی الغیری التبعی لأنه إذا قلنا بأن النهی مطلقا لا یقتضی فساد العبادة أو خصوص النهی التبعی لا یقتضی الفساد فلا تظهر الثمرة أبدا و هو واضح لأن الضد العبادی حینئذ یکون صحیحا سواء قلنا بالنهی عن الضد أم لم نقل .و الحق أن النهی فی العبادة یقتضی فسادها حتی النهی الغیری علی الظاهر و سیأتی تحقیق ذلک فی موضعه إن شاء الله تعالی .و استعجالا فی بیان هذا الأمر نشیر إلیه إجمالا فنقول إن أقصی ما یقال فی عدم اقتضاء النهی التبعی للفساد هو أن النهی التبعی لا یکشف عن وجود مفسدة فی المنهی عنه و إذا کان الأمر کذلک فالمنهی عنه باق علی ما هو علیه من مصلحة بلا مزاحم لمصلحته فیمکن التقرب فیه إذا کان عبادة بقصد تلک المصلحة المفروضة فیه .

ص :304

و هذا لیس بشیء و إن صدر من بعض أعاظم مشایخنا لأن المدار فی القرب و البعد فی العبادة لیس علی وجود المصلحة و المفسدة فقط فإنه من الواضح أن المقصود من القرب و البعد من المولی القرب و البعد المعنویان تشبیها بالقرب و البعد المکانیین و ما لم یکن الشیء مرغوبا فیه للمولی فعلا لا یصلح للتقرب به إلیه و مجرد وجود مصلحة فیه لا یوجب مرغوبیته له مع فرض نهیه و تبعیده .و بعبارة أخری لا وجه للتقرب إلی المولی بما أبعدنا عنه و المفروض أن النهی التبعی نهی مولوی و کونه تبعیا لا یخرجه عن کونه زجرا و تنفیرا و تبعیدا عن الفعل و إن کان التبعید لمفسدة فی غیره أو لفوات مصلحة الغیر نعم لو قلنا بأن النهی عن الضد لیس نهیا مولویا بل هو نهی یقتضیه العقل الذی لا یستکشف منه حکم الشرع کما اخترناه فی المسألة فإن هذا النهی العقلی لا یقتضی تبعیدا عن المولی إلا إذا کشف عن مفسدة مبغوضة للمولی و هذا شیء آخر لا یقتضیه حکم العقل فی نفسه .الثانی أن صحة العبادة و التقرب لا یتوقف علی وجود الأمر الفعلی بها بل یکفی فی التقرب بها إحراز محبوبیتها الذاتیة للمولی و إن لم یکن هناک أمر فعلی بها لمانع .أما إذا قلنا بأن عبادیة العبادة لا تتحقق إلا إذا کانت مأمورا بها بأمر فعلی فلا تظهر هذه الثمرة أبدا لأنه قد تقدم أن الضد العبادی سواء کان مندوبا أو واجبا أقل أهمیة أو موسعا أو مخیرا لا یکون مأمورا به فعلا لمکان المزاحمة بین الأمرین و مع عدم الأمر به لا یقع عبادة صحیحة و إن قلنا بعدم النهی عن الضد .و الحق هو الأول أی أن عبادیة العبادة لا تتوقف علی تعلق الأمر بها فعلا بل إذا أحرز أنها محبوبة فی نفسها للمولی مرغوبة لدیه فإنه یصح التقرب بها إلیه و إن لم یأمر بها فعلا لمانع لأنه کما أشرنا إلی ذلک فی

ص :305

مقدمة الواجب ص 285 یکفی فی عبادیة الفعل ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا به إلیه مع عدم ما یمنع من التعبد به من کون فعله تشریعا أو کونه منهیا عنه و لا تتوقف عبادیته علی قصد امتثال الأمر کما مال إلیه صاحب الجواهر قدس سره .هذا(و قد یقال فی المقام نقلا عن المحقق الثانی تغمده الله برحمته إن هذه الثمرة تظهر حتی مع القول بتوقف العبادة علی تعلق الأمر بها و لکن ذلک فی خصوص التزاحم بین الواجبین الموسع و المضیق و نحوهما دون التزاحم بین الأهم و المهم المضیقین .و السر فی ذلک أن الأمر فی الموسع إنما یتعلق بصرف وجود الطبیعة علی أن یأتی به المکلف فی أی وقت شاء من الوقت الوسیع المحدد له أما الأفراد بما لها من الخصوصیات الوقتیة فلیست مأمورا بها بخصوصها و الأمر بالمضیق إذا لم یقتض النهی عن ضده فالفرد المزاحم له من أفراد ضده الواجب الموسع لا یکون مأمورا به لا محالة من أجل المزاحمة و لکنه لا یخرج بذلک عن کونه فردا من الطبیعة المأمور بها .و هذا کاف فی حصول امتثال الأمر بالطبیعة لأن انطباقها علی هذا الفرد المزاحم قهری فیتحقق به الامتثال قهرا و یکون مجزیا عقلا عن امتثال الطبیعة فی فرد آخر لأنه لا فرق من جهة انطباق الطبیعة المأمور بها بین فرد و فرد .و بعبارة أوضح أنه لو کان الوجوب فی الواجب الموسع ینحل إلی وجوبات متعددة بتعدد أفراده الطولیة الممکنة فی مدة الوقت المحدد علی وجه یکون التخییر بینها شرعیا فلا محالة لا أمر بالفرد المزاحم للواجب المضیق و لا أمر آخر یصححه فلا تظهر الثمرة و لکن الأمر لیس کذلک فإنه لیس فی الواجب الموسع إلا وجوب واحد یتعلق بصرف وجود الطبیعة غیر أن الطبیعة لما کانت لها أفراد طولیة متعددة یمکن انطباقها علی کل واحد منها فلا محالة یکون المکلف مخیرا عقلا بین الأفراد أی یکون مخیرا بین

ص :306

أن یأتی بالفعل فی أول الوقت أو ثانیه أو ثالثه و هکذا إلی آخر الوقت و ما یختاره من الفعل فی أی وقت یکون هو الذی ینطبق علیه المأمور به و إن امتنع أن یتعلق الأمر به بخصوصه لمانع بشرط أن یکون المانع من غیر جهة نفس شمول الأمر المتعلق بالطبیعة له بل من جهة شیء خارج عنه و هو المزاحمة مع المضیق فی المقام) .هذا خلاصة توجیه ما نسب إلی المحقق الثانی فی المقام و لکن شیخنا المحقق النائینی لم یرتضه لأنه یری أن المانع من تعلق الأمر بالفرد المزاحم یرجع إلی نفس شمول الأمر المتعلق بالطبیعة له یعنی أنه یری أن الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها لا تنطبق علی الفرد المزاحم و لا تشمله و انطباق الطبیعة بما هی مأمور بها علی الفرد المزاحم لا ینفع و لا یکفی فی امتثال الأمر بالطبیعة و السر فی ذلک واضح فإنا إذ نسلم أن التخییر بین أفراد الطبیعة تخییر عقلی نقول إن التخییر إنما هو بین أفراد الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها فالفرد المزاحم خارج عن نطاق هذه الأفراد التی بینها التخییر .أما أن الفرد المزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها فلأن الأمر إنما یتعلق بالطبیعة المقدورة للمکلف بما هی مقدورة لأن القدرة شرط فی المأمور به مأخوذة فی الخطاب لا أنها شرط عقلی محض و الخطاب فی نفسه عام شامل فی إطلاقه للأفراد المقدورة و غیر المقدورة .بیان ذلک أن الأمر إنما هو لجعل الداعی فی نفس المکلف و هذا المعنی بنفسه یقتضی کون متعلقه مقدورا لاستحالة جعل الداعی إلی ما هو ممتنع .فیعلم من هذا أن القدرة مأخوذة فی متعلق الأمر و یفهم ذلک من نفس الخطاب بمعنی أن الخطاب لما کان یقتضی القدرة علی متعلقه فتکون سعة دائرة المتعلق علی قدر سعة دائرة القدرة علیه لا تزید و لا تنقص أی تدور سعته و ضیقه مدار سعة القدرة و ضیقها .و علی هذا فلا یکون الأمر شاملا لما هو ممتنع من الأفراد إذ یکون

ص :307

المطلوب به الطبیعة بما هی مقدورة و الفرد غیر المقدور خارج عن أفرادها بما هی مأمور بها .نعم لو کان اعتبار القدرة بملاک قبح تکلیف العاجز فهی شرط عقلی لا یوجب تقیید متعلق الخطاب لأنه لیس من اقتضاء نفس الخطاب فیکون متعلق الأمر هی الطبیعة بما هی لا بما هی مقدورة و إن کان بمقتضی حکم العقل لا بد أن یقید الوجوب بها فالفرد المزاحم علی هذا هو أحد أفراد الطبیعة بما هی التی تعلق بها کذلک .و تشیید ما أفاده أستاذنا و مناقشته یحتاج إلی بحث أوسع لسنا بصدده الآن راجع عنه تقریرات تلامذته

الترتب

و إذ امتد البحث إلی هنا فهناک مشکلة فقهیة تنشأ من الخلاف المتقدم لا بد من التعرض لها بما یلیق بهذه الرسالة .و هی أن کثیرا من الناس نجدهم یحرصون بسبب تهاونهم علی فعل بعض العبادات المندوبة فی ظرف وجوب شیء هو ضد للمندوب فیترکون الواجب و یفعلون المندوب کمن یذهب للزیارة أو یقیم مأتم الحسین علیه السلام و علیه دین واجب الأداء کما نجدهم یفعلون بعض الواجبات العبادیة فی حین أن هناک علیهم واجبا أهم فیترکونه أو واجبا مضیق الوقت مع أن الأول موسع فیقدمون الموسع علی المضیق أو واجبا معینا مع أن الأول مخیر فیقدمون المخیر علی المعین و هکذا .و یجمع الکل تقدیم فعل المهم العبادی علی الأهم فإن المضیق أهم من الموسع و المعین أهم من المخیر کما أن الواجب أهم من المندوب و من الآن

ص :308

سنعبر بالأهم و المهم و نقصد ما هو أعم من ذلک کله .فإذا قلنا بأن صحة العبادة لا تتوقف علی وجود أمر فعلی متعلق به و قلنا بأنه لا نهی عن الضد أو النهی عنه لا یقتضی الفساد فلا إشکال و لا مشکلة لأن فعل المهم العبادی یقع صحیحا حتی مع فعلیة الأمر بالأهم غایة الأمر یکون المکلف عاصیا بترک الأهم من دون أن یؤثر ذلک علی صحة ما فعله من العبادة .و إنما المشکلة فیما إذا قلنا بالنهی عن الضد و أن النهی یقتضی الفساد أو قلنا بتوقف صحة العبادة علی الأمر بها کما هو المعروف عن الشیخ صاحب الجواهر قدس سره فإن أعمالهم هذه کلها باطلة و لا یستحقون علیها ثوابا لأنه إما منهی عنها و النهی یقتضی الفساد و إما لا أمر بها و صحتها تتوقف علی الأمر .فهل هناک طریقة لتصحیح فعل المهم العبادی مع وجود الأمر بالأهم .ذهب جماعة إلی تصحیح العبادة فی المهم بنحو الترتب بین الأمرین الأمر بالأهم و الأمر بالمهم مع فرض القول بعدم النهی عن الضد و أن صحة العبادة تتوقف علی وجود الأمر (1).و الظاهر أن أول من أسس هذه الفکرة و تنبه لها المحقق الثانی و شید أرکانها السید المیرزا الشیرازی کما أحکمها و نقحها شیخنا المحقق النائینی طیب الله مثواهم .و هذه الفکرة و تحقیقها من أروع ما انتهی إلیه البحث الأصولی تصویرا و عمقا .

ص :309


1- أما نحن الذین نقول بأن صحة العبادة لا تتوقف علی وجود الامر فعلا وان الامر بالشئ لا یقتضی النهی عن ضده - ففی غنی عن القول بالترتب لتصحیح العبادة فی مقام المزاحمة بین الضدین الاهم والمهم کما تقدم.

و خلاصة فکرة الترتب أنه لا مانع عقلا من أن یکون الأمر بالمهم فعلیا عند عصیان الأمر بالأهم فإذا عصی المکلف و ترک الأهم فلا محذور فی أن یفرض الأمر بالمهم حینئذ إذ لا یلزم منه طلب الجمع بین الضدین کما سیأتی توضیحه .و إذا لم یکن مانع عقلی من هذا الترتب فإن الدلیل یساعد علی وقوعه و الدلیل هو نفس الدلیلین المتضمنین للأمر بالمهم و الأمر بالأهم و هما کافیان لإثبات وقوع الترتب .و علیه ففکرة الترتب و تصحیحها یتوقف علی شیئین رئیسین فی الباب أحدهما إمکان الترتب فی نفسه و ثانیهما الدلیل علی وقوعه .أما الأول و هو إمکانه فی نفسه فبیانه أن أقصی ما یقال فی إبطال الترتب و استحالته هو دعوی لزوم المحال منه و هو فعلیة الأمر بالضدین فی آن واحد لأن القائل بالترتب یقول بإطلاق الأمر بالأهم و شموله لصورتی فعل الأهم و ترکه ففی حال فعلیة الأمر بالمهم و هو حال ترک الأهم یکون الأمر بالأهم فعلیا علی قوله و الأمر بالضدین فی آن واحد محال .و لکن هذه الدعوی عند القائل بالترتب باطلة لأن قوله الأمر بالضدین فی آن واحد محال فیه مغالطة ظاهرة فإن قید فی آن واحد یوهم أنه راجع إلی الضدین فیکون محالا إذ یستحیل الجمع بین الضدین بینما هو فی الحقیقة راجع إلی الأمر و لا استحالة فی أن یأمر المولی فی آن واحد بالضدین إذا لم یکن المطلوب الجمع بینهما فی آن واحد لأن المحال هو الجمع بین الضدین لا الأمر بهما فی آن واحد و إن لم یستلزم الجمع بینهما .أما أن قید فی آن واحد راجع إلی الأمر لا إلی الضدین فواضح لأن المفروض أن الأمر بالمهم مشروط بترک الأهم فالخطاب الترتبی لیس فقط لا یقتضی الجمع بین الضدین بل یقتضی عکس ذلک لأنه فی حال اشتغال

ص :310

المکلف بامتثال الأمر بالأهم و إطاعته لا أمر فی هذا الحال إلا بالأهم و نسبة المهم إلیه حینئذ کنسبة المباحات إلیه و أما فی حال ترک الأهم و الاشتغال بالمهم فإن الأمر بالأهم نسلم أنه یکون فعلیا و کذلک الأمر بالمهم و لکن خطاب المهم حسب الفرض مشروط بترک الأهم و خلو الزمان منه ففی هذا الحال المفروض یکون الأمر بالمهم داعیا للمکلف إلی فعل المهم فی حال ترک الأهم فکیف یکون داعیا إلی الجمع بین الأهم و المهم فی آن واحد .و بعبارة أوضح إن إیجاب الجمع لا یمکن أن یتصور إلا إذا کان هناک مطلوبان فی عرض واحد علی وجه لو فرض إمکان الجمع بینهما لکان کل منهما مطلوبا و فی الترتب لو فرض محالا إمکان الجمع بین الضدین فإنه لا یکون المطلوب إلا الأهم و لا یقع المهم فی هذا الحال علی صفة المطلوبیة أبدا لأن طلبه حسب الفرض مشروط بترک الأهم فمع فعله لا یکون مطلوبا و أما الثانی و هو الدلیل علی وقوع الترتب و أن الدلیل هو نفس دلیلی الأمرین فبیانه أن المفروض أن لکل من الأهم و المهم حسب دلیل کل منهما حکما مستقلا مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بینهما کما أن المفروض أن دلیل کل منهما مطلق بالقیاس إلی صورتی فعل الآخر و عدمه .فإذا وقع التزاحم بینهما اتفاقا فبحسب إطلاقهما یقتضیان إیجاب الجمع بینهما و لکن ذلک محال فلا بد أن ترفع الید عن إطلاق أحدهما و لکن المفروض أن الأهم أولی و أرجح و لا یعقل تقدیم المرجوح علی الراجح و المهم علی الأهم فیتعین رفع الید عن إطلاق دلیل الأمر بالمهم فقط و لا یقتضی ذلک رفع الید عن أصل دلیل المهم لأنه إنما نرفع الید عنه من جهة تقدیم إطلاق الأهم لمکان المزاحمة بینهما و أرجحیة الأهم و الضرورات إنما تقدر بقدرها .و إذا رفعنا الید عن إطلاق دلیل المهم مع بقاء أصل الدلیل فإن معنی ذلک اشتراط خطاب المهم بترک الأهم و هذا هو معنی الترتب المقصود .

ص :311

و الحاصل أن معنی الترتب المقصود هو اشتراط الأمر بالمهم بترک الأهم و هذا الاشتراط حاصل فعلا بمقتضی الدلیلین مع ضم حکم العقل بعدم إمکان الجمع بین امتثالهما معا و بتقدیم الراجح علی المرجوح الذی لا یرفع إلا إطلاق دلیل المهم فیبقی أصل دلیل الأمر بالأهم علی حاله فی صورة ترک الأهم فیکون الأمر الذی یتضمنه الدلیل مشروطا بترک الأهم .و بعبارة أوضح إن دلیل المهم فی أصله مطلق یشمل صورتین صورة فعل الأهم و صورة ترکه و لما رفعنا الید عن شموله لصورة فعل الأهم لمکان المزاحمة و تقدیم الراجح فیبقی شموله لصورة ترک الأهم بلا مزاحم و هذا معنی اشتراطه بترک الأهم .فیکون هذا الاشتراط مدلولا لدلیلی الأمرین معا بضمیمة حکم العقل و لکن هذه الدلالة من نوع دلالة الإشارة راجع عن مضی دلالة الإشارة الجزء الأول ص 135 .هذه خلاصة فکرة الترتب علی علاتها و هناک فیها جوانب تحتاج إلی مناقشة و إیضاح ترکناها إلی المطولات و قد وضع لها شیخنا المحقق النائینی خمس مقدمات لسد ثغورها راجع عنها تقریرات تلامذته

ص :312

المسألة الرابعة اجتماع الأمر و النهی
تحریر محل النزاع

و اختلف الأصولیون من القدیم فی أنه هل یجوز اجتماع الأمر و النهی فی واحد أو لا یجوز .ذهب إلی الجواز أغلب الأشاعرة و جملة من أصحابنا أولهم الفضل بن شاذان علی ما هو المعروف عنه و علیه جماعة من محققی المتأخرین و ذهب إلی الامتناع أکثر المعتزلة و أکثر أصحابنا .و کأن المسألة فیما یبدو من عنوانها من الأبحاث التافهة إذ لا یمکن أن نتصور النزاع فی إمکان اجتماع الأمر و النهی فی واحد حتی لو قلنا بعدم امتناع التکلیف بالمحال کما تقوله الأشاعرة لأن التکلیف هنا نفسه محال و هو الأمر و النهی بشیء واحد و امتناع ذلک من أوضح الواضحات و هو محل وفاق بین الجمیع .إذن فکیف صح هذا النزاع من القوم و ما معناه .و الجواب أن التعبیر باجتماع الأمر و النهی من خداع العناوین فلا بد من توضیح مقصودهم من البحث بتوضیح الکلمات الواردة فی هذا العنوان و هی کلمة الاجتماع الواحد الجواز ثم ینبغی أن نبحث أیضا عن قید آخر لتصحیح النزاع و هو قید المندوحة الذی أضافه بعض المؤلفین و هو علی حق و علیه نقول

ص :313

1 الاجتماع و المقصود منه هو الالتقاء الاتفاقی بین المأمور به و المنهی عنه فی شیء واحد و لا یفرض ذلک إلا حیث یفرض تعلق الأمر بعنوان و تعلق النهی بعنوان آخر لا ربط له بالعنوان الأول و لکن قد یتفق نادرا أن یلتقی العنوانان فی شیء واحد و یجتمعا فیه و حینئذ یجتمع أی یلتقی الأمر و النهی .و لکن هذا الاجتماع و الالتقاء بین العنوانین علی نحوین 1 أن یکون اجتماعا موردیا یعنی أنه لا یکون هنا فعل واحد مطابقا لکل من العنوانین بل یکون هنا فعلان تقارنا و تجاورا فی وقت واحد أحدهما یکون مطابقا لعنوان الواجب و ثانیهما مطابقا لعنوان المحرم مثل النظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصلاة فلا النظر هو مطابق عنوان الصلاة و لا الصلاة مطابق عنوان النظر إلی الأجنبیة و لا هما ینطبقان علی فعل واحد .فإن مثل هذا الاجتماع الموردی لم یقل أحد بامتناعه و لیس هو داخلا فی مسألة الاجتماع هذه فلو جمع المکلف بینهما بأن نظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصلاة فقد عصی و أطاع فی آن واحد و لا تفسد صلاته .2 أن یکون اجتماعا حقیقیا و إن کان ذلک فی النظر العرفی و فی بادئ الرأی یعنی أنه فعل واحد یکون مطابقا لکل من العنوانین کالمثال المعروف الصلاة فی المکان المغصوب .فإن مثل هذا المثال هو محل النزاع فی مسألتنا المفروض فیه أنه لا ربط لعنوان الصلاة المأمور به بعنوان الغصب المنهی عنه و لکن قد یتفق للمکلف صدفة أن یجمع بینهما بأن یصلی فی مکان مغصوب فیلتقی العنوان المأمور به و هو الصلاة مع العنوان المنهی عنه و هو الغصب و ذلک فی الصلاة المأتی بها فی مکان مغصوب فیکون هذا الفعل الواحد مطابقا لعنوان الصلاة و لعنوان الغصب معا و حینئذ إذا اتفق ذلک للمکلف فإنه

ص :314

یکون هذا الفعل الواحد داخلا فیما هو مأمور به من جهة فیقتضی أن یکون المکلف مطیعا للأمر ممتثلا و داخلا فیما هو منهی عنه من جهة أخری فیقتضی أن یکون المکلف عاصیا به مخالفا .2 الواحد و المقصود منه الفعل الواحد باعتبار أن له وجودا واحدا یکون ملتقی و مجمعا للعنوانین فی مقابل المتعدد بحسب الوجود کالنظر إلی الأجنبیة و الصلاة فإن وجود أحدهما غیر وجود الآخر فإن الاجتماع فی مثل هذا یسمی الاجتماع الموردی کما تقدم .و الفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا کان ملتقی للعنوانین فإن التقاء العناوین فیه لا یخلو من حالتین إحداهما أن یکون الالتقاء بسبب ماهیته الشخصیة و ثانیهما أن یکون الالتقاء بسبب ماهیته الکلیة کأن یکون الکلی نفسه مجمعا للعنوانین کالکون الکلی الذی ینطبق علیه أنه صلاة و غصب .و علیه فالمقصود من الواحد فی المقام الواحد فی الوجود فلا معنی لتخصیص النزاع بالواحد الشخصی .و بما ذکرنا یظهر خروج الواحد بالجنس عن محل الکلام و المراد به ما إذا کان المأمور به و المنهی عنه متغایرین وجودا و لکنهما یدخلان تحت ماهیة واحدة کالسجود لله و السجود للصنم فإنهما واحد بالجنس باعتبار أن کلا منهما داخل تحت عنوان السجود و لا شک فی خروج ذلک عن محل النزاع .3 الجواز و المقصود منه الجواز العقلی أی الإمکان المقابل للامتناع و هو واضح و یصح أن یراد منه الجواز العقلی المقابل للقبح العقلی و هو قد یرجع إلی الأول باعتبار أن القبیح ممتنع علی الله تعالی .و الجواز له معان أخر کالجواز المقابل للوجوب و الحرمة الشرعیین

ص :315

و الجواز بمعنی الاحتمال و کلها غیر مرادة قطعا .إذا عرفت تفسیر هذه الکلمات الثلاث الواردة فی عنوان المسألة یتضح لک جیدا تحریر النزاع فیها فإن حاصل النزاع فی المسألة یکون أنه فی مورد التقاء عنوانی المأمور به و المنهی عنه فی واحد وجودا هل یجوز اجتماع الأمر و النهی .و معنی ذلک أنه هل یصح أن یبقی الأمر متعلقا بذلک العنوان المنطبق علی ذلک الواحد و یبقی النهی کذلک متعلقا بالعنوان المنطبق علی ذلک الواحد فیکون المکلف مطیعا و عاصیا معا فی الفعل الواحد .أو أنه یمتنع ذلک و لا یجوز فیکون ذلک المجتمع للعنوانین إما مأمورا به فقط أو منهیا عنه فقط أی أنه إما أن یبقی الأمر علی فعلیته فقط فیکون المکلف مطیعا لا غیر أو یبقی النهی علی فعلیته فقط فیکون المکلف عاصیا لا غیر .و القائل بالجواز لا بد أن یستند فی قوله إلی أحد رأیین 1 أن یری أن العنوان بنفسه هو متعلق التکلیف و لا یسری الحکم إلی المعنون فانطباق عنوانین علی فعل واحد لا یلزم منه أن یکون ذلک الواحد متعلقا للحکمین فلا یمتنع الاجتماع أی اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهی عنه فی واحد لأنه لا یلزم منه اجتماع نفس الأمر و النهی فی واحد .2 أن یری أن المعنون علی تقدیر تسلیم أنه هو متعلق الحکم حقیقة لا العنوان یکون متعددا واقعا إذا تعدد العنوان لأن تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون بالنظر الدقیق الفلسفی ففی الحقیقة و إن کان فعل واحد فی ظاهر الحال صار مطابقا للعنوانین هناک معنونان کل واحد منهما مطابق لأحد العنوانین فیرجع اجتماع الوجوب و الحرمة بالدقة العقلیة إلی الاجتماع

ص :316

الموردی الذی قلنا إنه لا بأس فیه من الاجتماع .و علی هذا فلیس هناک واحد بحسب الوجود یکون مجمعا بین العنوانین فی الحقیقة بل ما هو مأمور به فی وجوده غیر ما هو منهی عنه فی وجوده و لا تلزم سرایة الأمر إلی ما تعلق به النهی و لا سرایة النهی إلی ما تعلق به الأمر فیکون المکلف فی جمعه بین العنوانین مطیعا و عاصیا فی آن واحد کالناظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصلاة .و بهذا یتضح معنی القول بجواز اجتماع الأمر و النهی و فی الحقیقة لیس هو قولا باجتماع الأمر و النهی فی واحد بل إما أنه یرجع إلی القول باجتماع عنوان المأمور به و المنهی عنه فی واحد دون أن یکون هناک اجتماع بین الأمر و النهی و إما أن یرجع إلی القول بالاجتماع الموردی فقط فلا یکون اجتماع بین الأمر و النهی و لا بین المأمور به و المنهی عنه .و أما القائل بالامتناع فلا بد أن یذهب إلی أن الحکم یسری من العنوان إلی المعنون و أن تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون فإنه لا یمکن حینئذ بقاء الأمر و النهی معا و توجههما متعلقین بذلک المعنون الواحد بحسب الوجود لأنه یلزم اجتماع نفس الأمر و النهی فی واحد و هو مستحیل فإما أن یبقی الأمر و لا نهی أو یبقی النهی و لا أمر .و لقد أحسن صاحب المعالم فی تحریر النزاع إذ عبر بکلمة التوجه بدلا عن کلمة الاجتماع فقال الحق امتناع توجه الأمر و النهی إلی شیء واحد

المسألة من الملازمات العقلیة غیر المستقلة

و من التقریر المتقدم لبیان محل النزاع یظهر کیف إن المسألة هذه ینبغی أن تدخل فی الملازمات العقلیة غیر المستقلة فإن معنی القول بالامتناع هو

ص :317

تنقیح صغری الکبری العقلیة القائلة بامتناع اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد حقیقی .توضیح ذلک أنه إذا قلنا بأن الحکم یسری من العنوان إلی المعنون و أن تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون فإنه یتنقح عندنا موضوع اجتماع الأمر و النهی فی واحد الثابتین شرعا فیقال علی نهج القیاس الاستثنائی هکذا إذا التقی عنوان المأمور به و المنهی عنه فی واحد بسوء الاختیار فإن بقی الأمر و النهی فعلیین معا فقد اجتمع الأمر و النهی فی واحد و هذه هی الصغری و مستند هذه الملازمة فی الصغری هو سرایة الحکم من العنوان إلی المعنون و أن تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون و إنما تفرض هذه الملازمة حیث یفرض ثبوت الأمر و النهی شرعا بعنوانیهما .ثم نقول و لکنه یستحیل اجتماع الأمر و النهی فی واحد و هذه هی الکبری و هذه الکبری عقلیة تثبت فی غیر هذه المسألة .و هذا القیاس استثنائی قد استثنی فیه نقیض التالی فیثبت به نقیض المقدم و هو عدم بقاء الأمر و النهی فعلیین معا .و أما بناء علی الجواز فیخرج هذا المورد مورد الالتقاء عن أن یکون صغری لتلک الکبری العقلیة .و لا یجب فی کون المسألة أصولیة من المستقلات العقلیة و غیرها أن تقع صغری للکبری العقلیة علی تقدیر جمیع الأقوال بل یکفی أن تقع صغری علی أحد الأقوال فقط .فإن هذا شأن جمیع المسائل الأصولیة المتقدمة اللفظیة و العقلیة أ لا تری أن المباحث اللفظیة کلها لتنقیح صغری أصالة الظهور مع أن المسألة لا تقع صغری لأصالة الظهور علی جمیع الأقوال فیها کمسألة دلالة صیغة افعل

ص :318

علی الوجوب فإنه علی القول بالاشتراک اللفظی أو المعنوی لا یبقی لها ظهور فی الوجوب أو غیره .و لا وجه لتوهم کون هذه المسألة فقهیة أو کلامیة أو أصولیة لفظیة و هو واضح بعد ما قدمناه من شرح تحریر النزاع و بعد ما ذکرناه سابقا فی أول هذا الجزء من مناط کون المسألة الأصولیة من باب غیر المستقلات العقلیة .

مناقشة الکفایة فی تحریر النزاع

و بعد ما حررناه من بیان النزاع فی المسألة یتضح ابتناء القول بالجواز فیها علی أحد رأیین إما القول بأن متعلق الأحکام هی نفس العنوانات دون معنوناتها و إما القول بأن تعدد العنوان یستدعی تعدد المعنون .فتکون مسألة تعدد المعنون بتعدد العنوان و عدم تعدده حیثیة تعلیلیة فی مسألتنا و من المبادئ التصدیقیة لها علی أحد احتمالین لا أنها هی نفس محل النزاع فی الباب فإن البحث هنا لیس إلا عن نفس الجواز و عدمه کما عبر بذلک کل من بحث هذه المسألة من القدیم .و من هنا تتجلی المناقشة فیما أفاده فی کفایة الأصول فی رجوع محل البحث هنا إلی البحث عن استدعاء تعدد العنوان لتعدد المعنون و عدمه .فإنه فرق عظیم بین ما هو محل النزاع و بین ما یبتنی علیه النزاع فی أحد احتمالین فلا وجه للخلط بینهما و إرجاع أحدهما إلی الآخر و إن کان فی هذه المسألة لا بد للأصولی من البحث عن أن تعدد العنوان هل یوجب تعدد المعنون باعتبار أن هذا البحث لیس مما یذکر فی موضع آخر .

ص :319

قید المندوحة

ذکرنا فیما سبق أن بعضهم قید النزاع هنا بأن تکون هناک مندوحة فی مقام الامتثال و معنی المندوحة أن یکون المکلف متمکنا من امتثال الأمر فی مورد آخر غیر مورد الاجتماع .و نظر إلی ذلک کل من قید موضع النزاع بما إذا کان الجمع بین العنوانین بسوء اختیار المکلف .و إنما قید بها موضع النزاع للاتفاق بین الطرفین علی عدم جواز الاجتماع فی صورة عدم وجود المندوحة و ذلک فیما إذا انحصر امتثال الأمر فی مورد الاجتماع لا بسوء اختیار المکلف .و السر واضح فإنه عند الانحصار تستحیل فعلیة التکلیفین لاستحالة امتثالهما معا لأنه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصی النهی و إن ترکه فقد عصی الأمر فیقع التزاحم حینئذ بین الأمر و النهی .و ظاهر أن اعتبار قید المندوحة لازم لما ذکرناه إذ لیس النزاع جهتیا کما ذهب إلیه صاحب الکفایة أی من جهة کفایة تعدد العنوان فی تعدد المعنون و عدمه و إن لم یجز الاجتماع من جهة أخری حتی لا نحتاج إلی هذا القید .بل النزاع کما تقدم هو فی جواز الاجتماع و عدمه من أیة جهة فرضت و لیس جهتیا و علیه فما دام النزاع غیر واقع فی الجواز فی صورة عدم المندوحة فهذه الصورة لا تدخل فی محل النزاع فی مسألتنا .فوجب إذن تقیید عنوان المسألة بقید المندوحة کما صنع بعضهم .

ص :320

الفرق بین بابی التعارض و التزاحم و مسألة الاجتماع

من المسائل العویصة مشکلة التفرقة بین باب التعارض و باب التزاحم ثم بینهما و بین مسألة الاجتماع و لا بد من بیان الفرق بینها لتنکشف جیدا حقیقة النزاع فی مسألتنا مسألة الاجتماع .وجه الإشکال فی التفرقة أنه لا شبهة فی أن من موارد التعارض بین الدلیلین ما إذا کان بین دلیلی الأمر و النهی عموم و خصوص من وجه و ذلک من أجل العموم من وجه بین متعلقی الأمر و النهی أی العموم من وجه الذی یقع بین عنوان المأمور به و عنوان المنهی عنه بینما أن التزاحم بین الوجوب و الحرمة من موارده أیضا العموم من وجه بین الأمر و النهی من هذه الجهة و کذلک مسألة الاجتماع موردها منحصر فیما إذا کان بین عنوانی المأمور به و المنهی عنه عموم من وجه .فیتضح أنه مورد واحد و هو مورد العموم من وجه بین متعلقی الأمر و النهی یصح أن یکون موردا للتعارض و باب التزاحم و مسألة الاجتماع فما المائز و الفارق .فنقول إن العموم من وجه إنما یفرض بین متعلقی الأمر و النهی فیما إذا کان العنوانان یلتقیان فی فعل واحد سواء کان العنوان بالنسبة إلی الفعل من قبیل العنوان و معنونه أو من قبیل الکلی و فرده (1)و هذا بدیهی .

ص :321


1- انما یفرض العموم من وجه بین العنوانین إذا لم یکن الاجتماع بینهما اجتماعا موردیا بل کان اجتماعا حقیقیا: ونعنی بالاجتماع الحقیقی أن یکون فعل واحد ینطبق علیه العنوانان علی وجه یصح فی کل منهما أن یکون حاکیا عنه ومرآة له وان کان منشأ کل من العنوانین مباینا فی وجوده بالدقة العقلیة لمنشأ العنوان الآخر. ولکن انطباق العناوین علی فرد واحد لا یجب فیه أن یکون من قبیل انطباق الکلی علی فرده، أی لا یجب أن یکون المعنون فردا للعنوان ومن حقیقته، لان المعنون کما یجوز أن یکون من حقیقة العنوان یجوز أن یکون من حقیقة أخری وإنما الذهن یجعل من العنوان حاکیا ومرآة عن ذلک المعنون کمفهوم الوجود الذی هو عنوان لحقیقة الوجود مع أنه لیس من حقیقته، ومثله مفهوم الجزئی الذی هو عنوان للجزئی الحقیقی ولیس هو بجزئی بل کلی، وکذا مفهوم الحرب والنسبة وهکذا.

و لکن العنوان المأخوذ فی متعلق الخطاب من جهة عمومه علی نحوین 1 أن یکون ملحوظا فی الخطاب فانیا فی مصادیقه علی وجه یسع جمیع الأفراد بما لها من الکثرات و الممیزات فیکون شاملا فی سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحکوم بالحکم الآخر فیعد فی حکم المتعرض لحکم خصوص موضع الالتقاء و لو من جهة کون موضع الالتقاء متوقع الحدوث علی وجه یکون من شأنه أن ینبه علیه المتکلم فی خطابه فیکون أخذ العنوان علی وجه یسع جمیع الأفراد بما لها من الکثرات و الممیزات لهذا الغرض من التنبیه و نحوه و لا نضایقک أن تسمی مثل هذا العموم العموم الاستغراقی کما صنع بعضهم .و المقصود أن العنوان إذا أخذ فی الخطاب علی وجه یسع جمیع الأفراد

ص :322

بما لها من الکثرات و الممیزات یکون فی حکم المتعرض لحکم کل فرد من أفراده فیکون نافیا بالدلالة الالتزامیة لکل حکم مناف لحکمه .2 أن یکون العنوان ملحوظا فی الخطاب فانیا فی مطلق الوجود المضاف إلی طبیعة العنوان من دون ملاحظة کونه علی وجه یسع جمیع الأفراد أی لم تلاحظ فیه الکثرات و الممیزات فی مقام الأمر بوجود الطبیعة و لا فی مقام النهی عن وجود الطبیعة الأخری فیکون المطلوب فی الأمر و المنهی عنه فی النهی صرف وجود الطبیعة و لتسم مثل هذا العموم العموم البدلی کما صنع بعضهم .فإن کان العنوان مأخوذا فی الخطاب علی النحو الأول فإن موضع الالتقاء یکون العام حجة فیه کسائر الأفراد الأخری بمعنی أن یکون متعرضا بالدلالة الالتزامیة لنفی أی حکم آخر مناف لحکم العام بالنسبة إلی الأفراد و خصوصیات المصادیق .و فی هذه الصورة لا بد أن یقع التعارض بین دلیلی الأمر و النهی فی مقام الجعل و التشریع لأنهما یتکاذبان بالنسبة إلی موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزامیة فی کل منهما علی نفی الحکم الآخر بالنسبة إلی موضع الالتقاء .و التحقیق أن التعارض بین العامین من وجه إنما یقع بسبب دلالة کل منهما بالدلالة الالتزامیة علی انتفاء حکم الآخر و من أجلها یتکاذبان و إلا فالدلالتان المطابقیتان بأنفسهما فی العامین من وجه لا یتکاذبان فلا یتعارضان ما لم یلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفی مدلول الأخری فلیس التنافی بین المدلولین المطابقین إلا تنافیا بالعرض لا بالذات .و من هنا یعلم أن هذا الفرض و هو فرض کون العنوان مأخوذا فی الخطاب علی النحو الأول ینحصر فی کونه موردا للتعارض بین الدلیلین و لا تصل النوبة إلی فرض التزاحم بین الحکمین فیه و لا إلی النزاع فی

ص :323

جواز اجتماع الأمر و النهی و عدمه لأن مقتضی القاعدة فی باب التعارض هو تساقط الدلیلین عن حجیتهما بالنسبة إلی مورد الالتقاء فلا یجوز فیه الوجوب و لا الحرمة و لا یفرض التزاحم أو مسألة النزاع فی جواز الاجتماع إلا حیث یفرض شمول الدلیلین لمورد الالتقاء و بقاء حجیتهما بالنسبة إلیه أی إنه لم یکن تعارض بین الدلیلین فی مقام الجعل و التشریع .و إن کان العنوان مأخوذا علی النحو الثانی فهو مورد التزاحم أو مسألة الاجتماع و لا یقع بین الدلیلین تعارض حینئذ و ذلک مثل قوله صل و قوله لا تغصب باعتبار أنه لم یلاحظ فی کل من خطاب الأمر و النهی الکثرات و الممیزات علی وجه یسع العنوان جمیع الأفراد و إن کان نفس العنوان فی حد ذاته و إطلاقه شاملا لجمیع الأفراد فإنه فی مثله یکون الأمر متعلقا بصرف وجود الطبیعة للصلاة و امتثاله یکون بفعل أی فرد من الأفراد فلم یکن ظاهرا فی وجوب الصلاة حتی فی مورد الغصب علی وجه یکون دالا بالدلالة الالتزامیة علی انتفاء حکم آخر فی هذا المورد لیکون نافیا لحرمة الغصب فی المورد و کذلک النهی یکون متعلقا بصرف طبیعة الغصب فلم یکن ظاهرا فی حرمة الغصب حتی فی مورد الصلاة علی وجه یکون دالا بالدلالة الالتزامیة علی انتفاء حکم آخر فی هذا المورد لیکون نافیا لوجوب الصلاة .و فی مثل هذین الدلیلین إذا کانا علی هذا النحو یکون کل منهما أجنبیا فی عموم عنوان متعلق الحکم فیه عن عنوان متعلق الحکم الآخر أی إنه غیر متعرض بدلالته الالتزامیة لنفی الحکم الآخر فلا یتکاذبان فی مقام الجعل و التشریع .فلا یقع التعارض بینهما إذ لا دلالة التزامیة لکل منهما علی نفی الحکم الآخر فی مورد الالتقاء و لا تعارض بین الدلالتین المطابقیتین بما هما لأن المفروض أن المدلول المطابقی من کل منهما هو الحکم المتعلق بعنوان أجنبی فی نفسه

ص :324

عن العنوان المتعلق للحکم الآخر .و حینئذ إذا صادف أن ابتلی المکلف بجمعهما علی نحو الاتفاق فحاله لا یخلو عن أحد أمرین إما أن تکون له مندوحة من الجمع بینهما و لکنه هو الذی جمع بینهما بسوء اختیاره و تصرفه و إما أن لا تکون له مندوحة من الجمع بینهما .فإن کان الأول فإن المکلف حینئذ یکون قادرا علی امتثال کل من التکلیفین فیصلی و یترک الغصب و قد یصلی و یغصب فی فعل آخر .فإذا جمع بینهما بسوء اختیاره بأن صلی فی مکان مغصوب فهنا یقع النزاع فی جواز الاجتماع بین الأمر و النهی فإن قلنا بالجواز کان مطیعا و عاصیا فی آن واحد و إن قلنا بعدم الجواز فإنه إما أن یکون مطیعا لا غیر إذا رجحنا جانب الأمر أو عاصیا لا غیر إذا رجحنا جانب النهی لأنه حینئذ یقع التزاحم بین التکلیفین فیرجع فیه إلی أقوی الملاکین .و إن کان الثانی فإنه لا محالة یقع التزاحم بین التکلیفین الفعلیین لأنه حسب الفرض لا معارضة بین الدلیلین فی مقام الجعل و الإنشاء بل المنافاة وقعت من عدم قدرة المکلف علی التفریق بین الامتثالین فیدور الأمر حینئذ بین امتثال الأمر و بین امتثال النهی إذ لا یمکنه من امتثالهما معا من جهة عدم المندوحة .هذا هو الحق الذی ینبغی أن یعول علیه فی سر التفریق بین بابی التعارض و التزاحم و بینهما و بین مسألة الاجتماع فی مورد العموم من وجه بین متعلقی الخطابین خطاب الوجوب و الحرمة و لعله یمکن استفادته من مطاوی کلماتهم و إن کانت عباراتهم تضیق عن التصریح بذلک بل اختلفت کلمات أعلام أساتذتنا رضوان الله علیهم فی وجه التفریق .

ص :325

(فقد ذهب صاحب الکفایة إلی أنه لا یکون المورد من باب الاجتماع إلا إذا أحرز فی کل واحد من متعلقی الإیجاب و التحریم مناط حکمه مطلقا حتی فی مورد التصادق و الاجتماع و أما إذا لم یحرز مناط کل من الحکمین فی مورد التصادق مع العلم بمناط أحد الحکمین بلا تعیین فالمورد یکون من باب التعارض للعلم الإجمالی حینئذ بکذب أحد الدلیلین الموجب للتنافی بینهما عرضا) .هذا خلاصة رأیه رحمه الله فجعل إحراز مناط الحکمین فی مورد الاجتماع و عدمه هو المناط فی التفرقة بین مسألة الاجتماع و باب التعارض بینما أن المناط عندنا فی التفرقة بینهما هو دلالة الدلیلین بالدلالة الالتزامیة علی نفی الحکم الآخر و عدمها فمع هذه الدلالة یحصل التکاذب بین الدلیلین فیتعارضان و بدونها لا تعارض فیدخل المورد فی مسألة الاجتماع .و یمکن دعوی التلازم بین المسلکین فی الجملة لأنه مع تکاذب الدلیلین من ناحیة دلالتهما الالتزامیة لا یحرز وجود مناط الحکمین فی مورد الاجتماع کما أنه مع عدم تکاذبهما یمکن إحراز وجود المناط لکل من الحکمین فی مورد الاجتماع بل لا بد من إحراز مناط الحکمین بمقتضی إطلاق الدلیلین فی مدلولهما المطابقی .و أما(شیخنا النائینی فقد ذهب إلی أن مناط دخول المورد فی باب التعارض أن تکون الحیثیتان فی العامین من وجه حیثیتین تعلیلیتین لأنه حینئذ یتعلق الحکم فی کل منهما بنفس ما یتعلق به فیتکاذبان و أما إذا کانتا تقییدیتین فلا یقع التعارض بینهما و یدخلان حینئذ فی مسألة الاجتماع مع المندوحة و فی باب التزاحم مع عدم المندوحة) .و نحن نقول فی الحیثیتین التقییدیتین إذا کان بین الدلالتین تکاذب من أجل دلالتهما الالتزامیة علی نفی الحکم الآخر علی نحو ما فصلناه فإن

ص :326

التعارض بینهما لا محالة واقع و لا تصل النوبة فی هذا المورد للدخول فی مسألة الاجتماع .و لنا مناقشة معه فی صورة الحیثیة التعلیلیة یطول شرحها و لا یهم التعرض لها الآن و فیما ذکرناه الکفایة و فوق الکفایة للطالب المبتدئ

ص :327

الحق فی المسألة

بعد ما قدمنا من توضیح تحریر النزاع و بیان موضع النزاع نقول إن الحق فی المسألة هو الجواز .و قد ذهب إلی ذلک جمع من المحققین المتأخرین .و سندنا یبتنی علی توضیح و اختیار ثلاثة أمور مترتبة أولا أن متعلق التکلیف سواء کان أمرا أو نهیا لیس هو المعنون أی الفرد الخارجی للعنوان بما له من الوجود الخارجی فإنه یستحیل ذلک بل متعلق التکلیف دائما و أبدا هو العنوان علی ما سیأتی توضیحه .و اعتبر ذلک بالشوق فإن الشوق یستحیل أن یتعلق بالمعنون لأنه إما أن یتعلق به حال عدمه أو حال وجوده و کل منهما لا یکون أما الأول فیلزم تقوم الموجود بالمعدوم و تحقق المعدوم بما هو معدوم لأن المشتاق إلیه له نوع من التحقق بالشوق إلیه و هو محال واضح و أما الثانی فلأنه یکون الاشتیاق إلیه تحصیلا للحاصل و هو محال .فإذن لا یتعلق الشوق بالمعنون لا حال وجوده و لا حال عدمه .مضافا إلی أن الشوق من الأمور النفسیة و لا یعقل أن یتشخص ما فی النفس بدون متعلق ما کجمیع الأمور النفسیة کالعلم و الخیال و الوهم و الإرادة و نحوها و لا یعقل أن یتشخص بما هو خارج عن أفق النفس من الأمور العینیة فلا بد أن یتشخص بالشیء المشتاق إلیه بما له من الوجود العنوانی الفرضی و هو المشتاق إلیه أولا و بالذات و هو الموجود بوجود الشوق لا بوجود آخر وراء الشوق و لکن لما کان یؤخذ العنوان

ص :328

بما هو حاک و مرآة عما فی الخارج أی عن المعنون فإن المعنون یکون مشتاقا إلیه شأنیا و بالعرض نظیر العلم فإنه لا یعقل أن یتشخص بالأمر الخارجی و المعلوم بالذات دائما و أبدا هو العنوان الموجود بوجود العلم و لکن بما هو حاک و مرآة عن المعنون و أما المعنون لذلک العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فیه .و فی الحقیقة إنما یتعلق الشوق بشیء إذا کان له جهة وجدان و جهة فقدان فلا یتعلق بالمعدوم من جمیع الجهات و لا بالموجود من جمیع الجهات و جهة الوجدان فی المشتاق إلیه هو العنوان الموجود بوجود الشوق فی أفق النفس باعتبار ما له من وجود عنوانی فرضی و جهة الفقدان فی المشتاق إلیه هو عدمه الحقیقی فی الخارج و معنی الشوق إلیه هو الرغبة فی إخراجه من حد الفرض و التقدیر إلی حد الفعلیة و التحقیق .و إذا کان الشوق علی هذا النحو فکذلک حال الطلب و البعث بلا فرق فیکون حقیقة طلب الشیء هو تعلقه بالعنوان لإخراجه من حد الفرض و التقدیر إلی حد الفعلیة و التحقیق .ثانیا أنا لما قلنا بأن متعلق التکلیف هو العنوان لا المعنون لا نعنی أن العنوان بما له من الوجود الذهنی یکون متعلقا للطلب فإن ذلک باطل بالضرورة لأن مثار الآثار و متعلق الغرض و الذی تترتب علیه المصلحة و المفسدة هو المعنون لا العنوان .بل نعنی أن المتعلق هو العنوان حال وجوده الذهنی لا أنه بما له من الوجود الذهنی أو بما هو مفهوم و معنی تعلقه بالعنوان حال وجوده الذهنی أنه یتعلق به نفسه باعتبار أنه مرآة عن المعنون و فان فیه فتکون التخلیة فیه عن الوجود الذهنی عین التخلیة به .ثالثا أنا إذ نقول إن المتعلق للتکلیف هو العنوان بما هو مرآة

ص :329

عن المعنون و فان فیه لا نعنی أن المتعلق الحقیقی للتکلیف هو المعنون و أن التکلیف یسری من العنوان إلی المعنون باعتبار فنائه فیه کما قیل فإن ذلک باطل بالضرورة أیضا لما تقدم أن المعنون یستحیل أن یکون متعلقا للتکلیف بأی حال من الأحوال و هو محال حتی لو کان بتوسط العنوان فإن توسط العنوان لا یخرجه عن استحالة تعلق التکلیف به .بل نعنی و نقول إن الصحیح أن متعلق التکلیف هو العنوان بما هو مرآة و فان فی المعنون علی أن یکون فناؤه فی المعنون هو المصحح لتعلق التکلیف به فقط إذ إن الغرض إنما یقوم بالمعنون المفنی فیه لا أن الفناء یجعل التکلیف ساریا إلی المعنون و متعلقا به و فرق کبیر بین ما هو مصحح لتعلق التکلیف بشیء و بین ما هو بنفسه متعلق التکلیف و عدم التفرقة بینهما هو الذی أوهم القائلین بأن التکلیف یسری إلی المعنون باعتبار فناء العنوان فیه و لا یزال هذا الخلط بین ما هو بالذات و ما هو بالعرض مثار کثیر من الاشتباهات التی تقع فی علمی الأصول و الفلسفة و الفناء و الآلیة فی الملاحظة هو الذی یوقع الاشتباه و الخلط فیعطی ما للعنوان للمعنون و بالعکس .و إذا عسر علیک تفهم ما نرمی إلیه فاعتبر ذلک فی مثال الحرف حینما نحکم علیه بأنه لا یخبر عنه فإن عنوان الحرف و مفهومه اسم یخبر عنه کیف و قد أخبر عنه بأنه لا یخبر عنه و لکن إنما صح الإخبار عنه بذلک فباعتبار فنائه فی المعنون لأنه هو الذی له هذه الخاصیة و یقوم به الغرض من الحکم و مع ذلک لا یجعل ذلک کون المعنون و هو الحرف الحقیقی موضوعا للحکم حقیقة أولا و بالذات فإن الحرف الحقیقی یستحیل أن یکون موضوعا للحکم و طرفا للنسبة بأی حال من الأحوال و لو بتوسط شیء کیف و حقیقته النسبة و الربط و خاصته أنه لا یخبر عنه و علیه فالمخبر عنه أولا و بالذات هو عنوان الحرف لکن لا بما هو مفهوم موجود فی الذهن فإنه بهذا الاعتبار

ص :330

یخبر عنه بل بما هو فان فی المعنون و حاک عنه فالمصحح للإخبار عنه بأن لا یخبر عنه هو فناؤه فی معنونه فیکون الحرف الحقیقی المعنون مخبرا عنه ثانیا و بالعرض و إن کان الغرض من الحکم إنما یقوم بالمفنی فیه و هو الحرف الحقیقی .و علی هذا یتضح جلیا کیف أن دعوی سرایة الحکم أولا و بالذات من العنوان إلی المعنون منشؤها الغفلة بین ما هو المصحح للحکم علی موضوع باعتبار قیام الغرض بذلک المصحح فیجعل الموضوع عنوانا حاکیا عنه و بین ما هو الموضوع للحکم القائم به الغرض فالمصحح للحکم شیء و المحکوم علیه و المجعول موضوعا شیء آخر و من العجیب أن تصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفن فی المعقول .نعم إذا کان القائل بالسرایة یقصد أن العنوان یؤخذ فانیا فی المعنون و حاکیا عنه و أن الغرض إنما یقوم بالمعنون فذلک حق و نحن نقول به و لکن ذلک لا ینفعه فی الغرض الذی یهدف إلیه لأنا نقول بذلک من دون أن نجعل متعلق التکلیف نفس المعنون و إنما یکون متعلقا له ثانیا و بالعرض کالمعلوم بالعرض کما أشرنا إلیه فیما سبق فإن العلم إنما یتعلق بالمعلوم بالذات و یتقوم به و لیس هو إلا العنوان الموجود بوجود علمی و لکن باعتبار فنائه فی معنونه یقال للمعنون إنه معلوم و لکنه فی الحقیقة هو معلوم بالعرض لا بالذات و هذا الفناء هو الذی یخیل للناظر أن المتعلق الحقیقی للعلم هو المعنون و لقد أحسنوا فی تعریف العلم بأنه حصول صورة الشیء لدی العقل لا حصول نفس الشیء فالمعلوم بالذات هو الصورة و المعلوم بالعرض نفس الشیء الذی حصلت صورته لدی العقل .و إذا ثبت ما تقدم و اتضح ما رمینا إلیه من أن متعلق التکلیف أولا و بالذات

ص :331

هو العنوان و أن المعنون متعلق له بالعرض یتضح لک الحق جلیا فی مسألتنا مسألة اجتماع الأمر و النهی و هو أن الحق جواز الاجتماع .و معنی جواز الاجتماع أنه لا مانع من أن یتعلق الإیجاب بعنوان و یتعلق التحریم بعنوان آخر و إذا جمع المکلف بینهما صدفة بسوء اختیاره فإن ذلک لا یجعل الفعل الواحد المعنون لکل من العنوانین متعلقا للإیجاب و التحریم إلا بالعرض و لیس ذلک بمحال فإن المحال إنما هو أن یکون الشیء الواحد بذاته متعلقا للإیجاب و التحریم .و علیه فیصح أن یقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهة باعتبار انطباق العنوان المأمور به علیه و عصیانا للنهی من جهة أخری باعتبار انطباق عنوان المنهی عنه و لا محذور فی ذلک ما دام أن ذلک الفعل الواحد لیس بنفسه و بذاته یکون متعلقا للأمر و للنهی لیکون ذلک محالا بل العنوانان الفانیان هما المتعلقان للأمر و النهی غایة الأمر أن تطبیق العنوان المأمور به علی هذا الفعل یکون هو الداعی إلی إتیان الفعل و لا فرق بین فرد و فرد فی انطباق العنوان علیه فالفرد الذی ینطبق علیه العنوان المنهی عنه کالفرد الخالی من ذلک فی کون کل منهما ینطبق علیه العنوان المأمور به بلا جهة خلل فی الانطباق .و لا فرق فی ذلک بین أن یکون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون أو لم یکن ما دام أن المعنون لیس هو متعلق التکلیف بالذات .نعم لو کان العنوان مأخوذا فی المأمور به و المنهی عنه علی وجه یسع جمیع الأفراد حتی موضع الاجتماع و هو الفرد الذی ینطبق علیه العنوانان و لو کان ذلک من جهة إطلاق الدلیل فإنه حینئذ تکون لکل من الدلیلین الدلالة الالتزامیة علی نفی حکم الآخر فی موضع الالتقاء فیتکاذبان و علیه یقع التعارض بینهما و یخرج المورد عن مسألة الاجتماع کما سبق بیان

ص :332

ذلک مفصلا .کما أنه لو کانت القدرة علی الفعل مأخوذة فی متعلق الأمر علی وجه یکون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور فإن عنوان المأمور به حینئذ لا یسع و لا یعم الفرد غیر المقدور فلا ینطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به علی موضع الاجتماع و لا یکون هذا الفرد غیر المقدور شرعا من أفراد الطبیعة بما هی مأمور بها .بخلاف ما إذا کانت القدرة مصححة فقط لتعلق التکلیف بالعنوان فإن عنوان المأمور به یکون مقدورا علیه و لو بالقدرة علی فرد واحد من أفراده .و لهذا قلنا إنه لو انحصر تطبیق المأمور به فی خصوص موضع الاجتماع کما فی مورد عدم المندوحة یقع التزاحم بین الحکمین فی موضع الاجتماع لأنه لا یصح تطبیق المأمور به علی هذا الفرد و هو موضع الاجتماع إلا إذا لم یکن النهی فعلیا کما لا یصح تطبیق عنوان المنهی عنه علیه إلا إذا لم یکن الأمر فعلیا فلا بد من رفع الید عن فعلیة أحد الحکمین و تقدیم الأهم منهما .و لقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا إلی أن القدرة مأخوذة فی متعلق التکلیف باعتبار أن الخطاب بالتکلیف نفسه یقتضی ذلک لأن الأمر إنما هو لتحریک المکلف نحو الفعل علی أن یصدر منه بالاختیار و هذا نفسه یقتضی کون متعلقه مقدورا لامتناع جعل الداعی نحو الممتنع و إن کان الامتناع من ناحیة شرعیة .و لکننا لم نتحقق صحة هذه الدعوی لأن صحة التکلیف بطبیعة الفعل لا تتوقف علی أکثر من القدرة علی صرف وجود الطبیعة و لو بالقدرة علی فرد من أفرادها فالعقل هو الذی یحکم بلزوم القدرة فی متعلق التکلیف و ذلک لا یقتضی القدرة علی کل فرد من أفراد الطبیعة إلا إذا قلنا بأن التکلیف یتعلق بالأفراد أولا و بالذات و قد تقدم توضیح فساد هذا الوهم

ص :333

تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون

بعد ما تقدم من البیان من أن التکلیف إنما یتعلق بالعنوان بما هو مرآة عن أفراده لا بنفس الأفراد فإن القول بالجواز لا یتوقف علی القول بأن تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون کما أشرنا إلیه فیما سبق لأنه سواء کان المعنون متعددا بتعدد العنوان أو غیر متعدد فإن ذلک لا یرتبط بمسألتنا نفیا و إثباتا ما دام أن المعنون لیس متعلقا للتکلیف أبدا و علی کل حال فالحق هو الجواز تعدد المعنون أو لم یتعدد .و لو سلمنا جدلا بأن التکلیف یتعلق بالمعنون باعتبار سرایة التکلیف من العنوان إلی المعنون کما هو المعروف فإن الحق أنه لا یجب تعدد المعنون بتعدد العنوان فقد یتعدد و قد لا یتعدد فلیس هناک قاعدة عامة تقضی بأن نحکم بأن تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون کما تکلف بتنقیحها بعض أعاظم مشایخنا و کأن نظره الشریف یرمی إلی أن العامین من وجه یمتنع صدقهما علی شیء واحد من جهة واحدة و إلا لما کانا عامین من وجه فلا بد أن یفرض هناک جهتان موجودتان فی المجمع إحداهما هو الواجب و ثانیتهما هو المحرم فیکون الترکیب بین الحیثیتین ترکیبا انضمامیا لا اتحادیا إلا إذا کانت الحیثیتان المفروضتان تعلیلیتین لا تقییدیتین فإن الواجب و المحرم علی هذا الفرض یکونان شیئا واحدا و هو ذات المحیث بهاتین الحیثیتین و حینئذ یقع التعارض بین دلیلی العامین و یخرج المورد عن مسألتنا .و فی هذا التقریر ما لا یخفی علی الفطن أما أولا فإن العنوان بالنسبة إلی معنونه تارة یکون منتزعا منه باعتبار ضم حیثیة زائدة علی الذات مباینة لها ماهیة و وجودا کالأبیض بالقیاس إلی الجسم فإن صدق الأبیض علیه باعتبار عروض

ص :334

صفة البیاض علیه الخارجة عن مقام ذاته و أخری یکون منتزعا منه باعتبار نفس ذاته بلا ضم حیثیة زائدة علی الذات کالأبیض بالقیاس إلی نفس البیاض فإن نفس البیاض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبیض منه بلا حاجة إلی ضم بیاض آخر إلیه لأنه بنفس ذاته أبیض لا ببیاض آخر و مثل ذلک صفات الکمال لذات واجب الوجود فإنها منتزعة من مقام نفس الذات لا بضم حیثیة أخری زائدة علی الذات .و علیه فلا یجب فی کل عنوان منتزع أن یکون انتزاعه من الذات باعتبار ضم حیثیة زائدة علی الذات .و أما ثانیا فإن العنوان لا یجب فیه أن یکون کاشفا عن حقیقة متأصلة علی وجه یکون انطباق العنوان أو مبدؤه علیه من باب انطباق الکلی علی فرده بل من العناوین ما هو مجعول و معتبر لدی العقل لصرف الحکایة و الکشف عن المعنون من دون أن یکون بإزائه فی الخارج حقیقة متأصلة مثل عنوان العدم و الممتنع بل مثل عنوان الحرف و النسبة فإنه لا یجب فی مثله فرض حیثیة متأصلة ینتزع منها العنوان و مثل هذا العنوان المعتبر قد یکون عاما یصح انطباقه علی حقائق متعددة من دون أن یکون بإزائه حیثیة واقعیة غیر تلک الحقائق المتأصلة و لعل عنوان الغصب من هذا الباب فی انطباقه علی الصلاة التی تتألف من حقائق متباینة و علی غیرها من سائر التصرفات فکل تصرف فی مال الغیر بدون رضاه غصب مهما کانت حقیقة ذلک التصرف و من أیة مقولة کانت .

ثمرة المسألة

من الواضح ظهور ثمرة النزاع فیما إذا کان المأمور به عبادة فإنه بناء علی القول بالامتناع و ترجیح جانب النهی کما هو المعروف تقع

ص :335

العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة و العمد بالجمع بین المأمور به و المنهی عنه کما هو المفروض فی المسألة لأنه لا أمر مع ترجیح جانب النهی و لیس هناک فی ذات المأتی به ما یصلح للتقرب به مع فرض النهی الفعلی لامتناع التقرب بالمبعد و إن کان ذات المأتی به مشتملا علی المصلحة الذاتیة و قلنا بکفایة قصد المصلحة الذاتیة فی صحة العبادة .نعم إذا وقع الجمع بین المأمور به و المنهی عنه عن جهل بالحرمة قصورا لا تقصیرا أو عن نسیان و کان قد أتی بالفعل علی وجه القربة فالمشهور أن العبادة تقع صحیحة و لعل الوجه فیه هو القول بکفایة رجحانها الذاتی و اشتمالها علی المصلحة الذاتیة فی التقرب بها مع قصد ذلک و إن لم یکن الأمر فعلیا و قیل إنه لا یبقی مصحح فی هذه الصورة للعبادة فتقع فاسدة نظرا إلی أن دلیلی الوجوب و الحرمة علی القول بالامتناع یصبحان متعارضین و إن لم یکونا فی حد أنفسهما متعارضین فإذا قدم جانب النهی فکما لا یبقی أمر کذلک لا یحرز وجود المقتضی له و هو المصلحة الذاتیة فی المجمع إذ تخصیص دلیل الأمر بما عدا المجمع یجوز أن یکون لوجود المانع فی المجمع عن شمول الأمر له و یجوز أن یکون لانتفاء المقتضی للأمر فلا یحرز وجود المقتضی .هذا بناء علی الامتناع و تقدیم جانب النهی و أما بناء علی الامتناع و تقدیم جانب الأمر فلا شبهة فی وقوع العبادة صحیحة إذ لا نهی حتی یمنع من صحتها لا سیما إذا قلنا بتعارض الدلیلین بناء علی الامتناع فإنه لا یحرز معه المفسدة الذاتیة فی المجمع .و کذلک الحق هو صحة العبادة إذا قلنا بالجواز فإنه کما جاز توجیه الأمر و النهی إلی عنوانین مختلفین مع التقائهما فی المجمع فقلنا بجواز الاجتماع فی مقام التشریع فکذلک نقول لا مانع من الاجتماع فی مقام الامتثال

ص :336

أیضا کما أشرنا إلیه فی تحریر محل النزاع حتی لو کان المعنون للعنوانین واحدا وجودا و لم یوجب تعدد العنوان تعدده لما عرفت سابقا من أن المعنون لا یقع بنفسه متعلقا للتکلیف لا قبل وجوده و لا بعد وجوده و إنما یکون الداعی إلی إتیان الفعل هو تطبیق العنوان المأمور به علیه الذی لیس بمنهی عنه لا أن الداعی إلی إتیانه تعلق الأمر به ذاته فیکون المکلف فی فعل واحد بالجمع بین عنوانی الأمر و النهی مطیعا للآمر من جهة انطباق العنوان المأمور به و عاصیا من جهة انطباق العنوان المنهی عنه نظیر الاجتماع الموردی کما تقدم توضیحه فی تحریر محل النزاع .و قیل إن الثمرة فی مسألتنا هو إجراء أحکام المتعارضین علی دلیلی الأمر و النهی بناء علی الامتناع و إجراء أحکام التزاحم بینهما بناء علی الجواز و لکن إجراء أحکام التزاحم بینهما بناء علی الجواز إنما یلزم إذا کان القائل بالجواز إنما یقول بالجواز فی مقام الجعل و الإنشاء دون مقام الامتثال بل یمتنع الاجتماع فی مقام الامتثال و حینئذ لا محالة یقع التزاحم بین الأمر و النهی أما إذا قلنا بالجواز فی مقام الامتثال أیضا کما أوضحناه فلا موجب للتزاحم بین الحکمین مع وجود المندوحة بل یکون مطیعا عاصیا فی فعل واحد کالاجتماع الموردی بلا فرق إذ لا دوران حینئذ بین امتثال الأمر و امتثال النهی

ص :337

اجتماع الأمر و النهی مع عدم المندوحة

تقدم الکلام کله فی اجتماع الأمر و النهی فیما إذا کانت هناک مندوحة من الجمع بین المأمور به و المنهی عنه و قد جمع المکلف بینهما فی فعل واحد بسوء اختیاره و یلحق به ما کان الجمع بینهما عن غفلة أو جهل و قد ذهبنا إلی جواز الاجتماع فی مقامی الجعل و الامتثال .و بقی الکلام فی اجتماعهما مع عدم المندوحة و ذلک بأن یکون المکلف مضطرا إلی هذا الجمع بینهما و الاضطرار علی نحوین الأول أن یکون بدون سبق اختیار للمکلف فی الجمع کمن اضطر لإنقاذ غریق إلی التصرف فی أرض مغصوبة فیکون تصرفه فی الأرض واجبا من جهة إنقاذ الغریق و حراما من جهة التصرف فی المغصوب .فإنه فی هذا الفرض لا بد أن یقع التزاحم بین الواجب و الحرام فی مقام الامتثال إذ لا مندوحة للمکلف حسب الفرض فلا بد فی مقام إطاعة الأمر بإنقاذ الغریق من الجمع لانحصار امتثال الواجب فی هذا الفرد المحرم فیدور الأمر بین أن یعصی الأمر أو یعصی النهی .و فی مثله یرجع إلی أقوی الملاکین فإن کان ملاک الأمر أقوی کما فی المثال المذکور قدم جانب الأمر و یسقط النهی عن الفعلیة و إن کان ملاک النهی أقوی قدم جانب النهی کمن انحصر عنده إنقاذ حیوان محترم من الهلکة بهلاک إنسان .تنبیه مما یلحق بهذا الباب و یتفرع علیه ما لو اضطر إلی ارتکاب فعل محرم لا بسوء اختیاره ثم اضطر إلی الإتیان بالعبادة علی وجه یکون

ص :338

ذلک الفعل المحرم مصداقا لتلک العبادة بمعنی أنه اضطر إلی الإتیان بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الذی قد اضطر إلیه و مثاله المحبوس فی مکان مغصوب فیضیق علیه وقت الصلاة و لا یسعه الإتیان بها خارج المکان المغصوب .فهل فی هذا الفرض یجب علیه الإتیان بالعبادة و تقع صحیحة أو لا نقول لا ینبغی الشک فی أن عبادته علی هذا التقدیر تقع صحیحة لأنه مع الاضطرار إلی فعل الحرام لا تبقی فعلیة للنهی لاشتراط القدرة فی التکلیف فالأمر لا مزاحم لفعلیته فیجب علیه أداء الصلاة و لا بد أن تقع حینئذ صحیحة .نعم یستثنی من ذلک ما لو کان دلیل الأمر و دلیل النهی متعارضین بأنفسهما من أول الأمر و قد رجحنا جانب النهی بأحد مرجحات باب التعارض فإنه فی هذه الصورة لا وجه لوقوع العبادة صحیحة لأن العبادة لا تقع صحیحة إلا إذا قصد بها امتثال الأمر الفعلی بها إن کان أو قصد بها الرجحان الذاتی قربة إلی الله تعالی و المفروض أنه هنا لا أمر فعلی لعدم شمول دلیله بما هو حجة لمورد الاجتماع لأن المفروض تقدیم جانب النهی و قیل إن النهی إذا زالت فعلیته من جهة الاضطرار لم یبق مانع من التمسک بعموم الأمر .و هذه غفلة ظاهرة فإن دلیل الأمر بما هو حجة لا یکون شاملا لمورد الاجتماع لمکان التعارض بین الدلیلین و تقدیم دلیل النهی فإذا اضطر المکلف إلی فعل المنهی عنه لا یلزم منه أن یعود دلیل الأمر حجة فی مورد الاجتماع مرة ثانیة و إنما یتصور أن یعود الأمر فعلیا إذا کان تقدیم النهی من باب التزاحم فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعلیا .و أما الرجحان الذاتی فإنه بعد فرض التعارض بین الدلیلین و تقدیم جانب النهی لا یکون الرجحان محرزا فی مورد الاجتماع لأن عدم شمول

ص :339

دلیل الأمر بما هو حجة لمورد الاجتماع یحتمل فیه وجهان وجود المانع مع بقاء الملاک و انتفاء المقتضی و هو الملاک فلا یحرز وجود الملاک حتی یصح قصده متقربا به إلی الله تعالی .الثانی أن یکون الاضطرار بسوء الاختیار کمن دخل منزلا مغصوبا متعمدا فبادر إلی الخروج تخلصا من استمرار الغصب فإن هذا التصرف بالمنزل فی الخروج لا شک فی أنه تصرف غصبی أیضا و هو مضطر إلی ارتکابه للتخلص من استمرار فعل الحرام و کان اضطراره إلیه بمحض اختیاره إذ دخل المنزل غاصبا باختیاره .و تعرف هذه المسألة فی لسان المتأخرین بمسألة التوسط فی المغصوب و الکلام یقع فیها من ناحیتین 1 فی حرمة هذا التصرف الخروجی أو وجوبه .2 فی صحة الصلاة المأتی بها حال الخروج .

حرمة الخروج من المغصوب أو وجوبه

أما الناحیة الأولی فقد تعددت الأقوال فیها فقیل بحرمة التصرف الخروجی فقط و قیل بوجوبه فقط و لکن یعاقب فاعله و قیل بوجوبه فقط و لا یعاقب فاعله و قیل بحرمته و وجوبه معا و قیل لا هذا و لا ذاک و مع ذلک یعاقب علیه .فینبغی أن نبحث عن وجه القول بالحرمة و عن وجه القول بالوجوب لیتضح الحق فی المسألة و هو القول الأول .بالدخول فهو قبل أن یدخل منهی عن کل تصرف فی المغصوب حتی هذا التصرف الخروجی لأنه کان متمکنا من ترکه بترک الدخول

ص :340

و من یقول بعدم حرمته فإنه یقول به لأنه یجد أن هذا المقدار من التصرف مضطر إلیه سواء خرج الغاصب أو بقی فیمتنع علیه ترکه و مع فرض امتناع ترکه کیف یبقی علی صفة الحرمة .و لکنا نقول له إن هذا الامتناع هو الذی أوقع نفسه فیه بسوء اختیاره و کان متمکنا من ترکه بترک الدخول و الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار فهو مخاطب من أول الأمر بترک التصرف حتی یخرج فالخروج فی نفسه بما هو تصرف داخل من أول الأمر فی أفراد العنوان المنهی عنه أی أن العنوان المنهی عنه و هو التصرف بمال الغیر بدون رضاه یسع فی عمومه کل تصرف متمکن من ترکه حتی الخروج و امتناع ترک هذا التصرف بسوء اختیاره لا یخرجه عن عموم العنوان و نحن لا نقول کما سبق أن المعنون بنفسه هو متعلق الخطاب حتی یقال لنا إنه یمتنع تعلق الخطاب بالممتنع ترکه و إن کان الامتناع بسوء الاختیار .و أما وجه الوجوب فقد قیل إن الخروج واجب نفسی باعتبار أن الخروج معنون بعنوان التخلص عن الحرام و التخلص عن الحرام فی نفسه عنوان حسن عقلا و واجب شرعا و قد نسب هذا الوجه إلی الشیخ الأعظم الأنصاری أعلی الله تعالی مقامه علی ما یظهر من تقریرات درسه .و قیل إن الخروج واجب غیری کما یظهر من بعض التعبیرات فی تقریرات الشیخ أیضا باعتبار أنه مقدمة للتخلص من الحرام و هو الغصب الزائد الذی کان یتحقق لو لم یخرج .و الحق أنه لیس بواجب نفسی و لا غیری .أما أنه لیس بواجب نفسی فلأنه أولا أن التخلص عن الشیء بأی معنی فرض عنوان مقابل لعنوان

ص :341

الابتلاء به بدیل له لا یجتمعان و هما من قبیل الملکة و عدمها و هذا واضح .و حینئذ نقول له ما مرادک من التخلص الذی حکمت علیه بأنه عنوان حسن .إن کان المراد به التخلص من أصل الغصب فهو بالخروج أی الحرکات الخروجیة مبتل بالغصب لا أنه متخلص منه لأنه تصرف بالمغصوب .و إن کان المراد به التخلص من الغصب الزائد الذی یقع لو لم یخرج فهو لا ینطبق علی الحرکات الخروجیة و ذلک لأن التخلص لما کان مقابلا للابتلاء بدیلا له کما قدمنا فالزمان الذی یصلح أن یکون زمانا للابتلاء لا بد أن یکون هو الذی یصدق علیه عنوان التخلص مع أن زمان الحرکات الخروجیة سابق علی زمان الغصب الزائد علیها لو لم یخرج فهو فی حال الحرکات الخروجیة لا مبتل بالغصب الزائد و لا متخلص منه بل الغاصب مبتل بالغصب من حین دخوله إلی حین خروجه و بعد خروجه یصدق علیه أنه متخلص من الغصب و ثانیا أن التخلص لو کان عنوانا یصدق علی الخروج فلا ینبغی أن یراد من الخروج نفس الحرکات الخروجیة بل علی تقدیره ینبغی أن یراد منه ما تکون الحرکات الخروجیة مقدمة له أو بمنزلة المقدمة فلا ینطبق إذن عنوان التخلص علی التصرف بالمغصوب المحرم کما یرید أن یحققه هذا القائل .و السر واضح فإن الخروج یقابل الدخول و لما کان الدخول عنوانا للکون داخل الدار المسبوق بالعدم فلا بد أن یکون الخروج بمقتضی المقابلة عنوانا للکون خارج الدار المسبوق بالعدم أما نفس التصرف بالمغصوب بالحرکات الخروجیة التی منها یکون الخروج فهو مقدمة أو شبه المقدمة للخروج لا نفسه .

ص :342

و ثالثا لو سلمنا أن التخلص عنوان ینطبق علی الحرکات الخروجیة فلا نسلم بوجوبه النفسی لأن التخلص عن الحرام لیس هو إلا عبارة أخری عن ترک الحرام و ترک الحرام لیس واجبا نفسیا علی وجه یکون ذا مصلحة نفسیة فی مقابل المفسدة النفسیة فی الفعل نعم هو مطلوب بتبع النهی عن الفعل و قد تقدم ذلک فی مبحث النواهی فی الجزء الأول و فی مسألة الضد فی الجزء الثانی فکما أن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده العام أی نقیضه و هو الترک کذلک أن النهی عن الشیء لا یقتضی الأمر بضده العام أی نقیضه و هو الترک و لذا قلنا فی مبحث النواهی إن تفسیر النهی بطلب الترک کما وقع للقوم لیس فی محله و إنما هو تفسیر للشیء بلازم المعنی العقلی فإن مقتضی الزجر عن الفعل طلب ترکه عقلا لا علی أن یکون الترک ذا مصلحة نفسیة فی مقابل مفسدة الفعل و کذلک فی الأمر فإن مقتضی الدعوة إلی الفعل الزجر عن ترکه عقلا لا علی أن یکون الترک ذا مفسدة نفسیة فی مقابل مصلحة الفعل بل لیس فی النهی إلا مفسدة الفعل و لیس فی الأمر إلا مصلحة الفعل .و أما أن الخروج لیس بواجب غیری فلأنه أولا قد تقدم أن مقدمة الواجب لیست بواجبة علی تقدیر القول بأن التخلص واجب نفسی .و ثانیا أن الخروج الذی هو عبارة عن الحرکات الخروجیة فی مقصود هذا القائل لیس مقدمة لنفس التخلص عن الحرام بل علی التحقیق إنما هو مقدمة للکون فی خارج الدار و الکون فی خارج الدار ملازم لعنوان التخلص عن الحرام لا نفسه و لا یلزم من فرض وجوب التخلص فرض وجوب لازمه فإن المتلازمین لا یجب أن یشترکا فی الحکم کما تقدم فی مسألة الضد .

ص :343

و إذا لم یجب الکون خارج الدار کیف تجب مقدمته .و ثالثا لو سلمنا أن التخلص واجب نفسی و أنه نفس الکون خارج الدار فتکون الحرکات الخروجیة مقدمة له و أن مقدمة الواجب واجبة لو سلمنا کل ذلک فإن مقدمة الواجب إنما تکون واجبة حیث لا مانع من ذلک کما لو کانت محرمة فی نفسها کرکوب المرکب الحرام فی طریق الحج فإنه لا یقع علی صفة الوجوب و إن توصل به إلی الواجب و هنا الحرکات الخروجیة تقع علی صفة الحرمة کما قدمنا باعتبار أنها من أفراد الحرام و هو التصرف بالمغصوب فلا تقع علی صفة الوجوب من باب المقدمة .فإن قلت إن المقدمة المحرمة إنما لا تقع علی صفة الوجوب حیث لا تکون منحصرة و أما مع انحصار التوصل بها إلی الواجب فإنه یقع التزاحم بین حرمتها و وجوب ذیها لأن الأمر یدور حینئذ بین امتثال الوجوب و بین امتثال الحرمة فلو کان الوجوب أهم قدم علی حرمة المقدمة فتسقط حرمتها و هنا الأمر کذلک فإن المقدمة منحصرة و الواجب و هو ترک الغصب الزائد أهم .قلت هذا صحیح لو کان الدوران لم یقع بسوء اختیار المکلف فإنه حینئذ یکون الدوران فی مقام التشریع و أما لو کان الدوران واقعا بسوء اختیار المکلف کما هو مفروض فی المقام فإن المولی فی مقام التشریع قد استوفی غرضه من أول الأمر بالنهی عن الغصب مطلقا و لا دوران فیه حتی یقال یقبح من المولی تفویت غرضه الأهم .و إنما الدوران وقع فی مقام استیفاء الغرض استیفاء خارجیا بسبب سوء اختیار المکلف بعد فرض أن المولی من أول الأمر قبل أن یدخل المکلف فی المحل المغصوب قد استوفی کل غرضه فی مقام التشریع إذ نهی عن کل تصرف بالمغصوب فلیس هناک تزاحم فی مقام التشریع فالمکلف یجب

ص :344

علیه أن یترک الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب و نفس الحرکات الخروجیة تکون أیضا محرمة یستحق علیها العقاب لأنها من أفراد ما هو منهی عنه و قد وقع فی هذا المحذور و الدوران بسوء اختیاره .

صحة الصلاة حال الخروج

و أما الناحیة الثانیة و هی صحة الصلاة حال الخروج فإنها تبتنی علی اختیار أحد الأقوال فی الناحیة الأولی .فإن قلنا بأن الخروج یقع علی صفة الوجوب فقط فإنه لا مانع من الإتیان بالصلاة حالته سواء ضاق وقتها أم لم یضق و لکن بشرط ألا یستلزم أداء الصلاة تصرفا زائدا علی الحرکات الخروجیة فإن هذا التصرف الزائد حینئذ یقع محرما منهیا عنه .فإذا استلزم أداء الصلاة تصرفا زائدا فإن کان الوقت ضیقا فلا بد أن یؤدی الصلاة حال الخروج و لا بد أن یقتصر منها علی أقل الواجب فیصلی إیماء بدل الرکوع و السجود .و إن کان الوقت متسعا لأدائها بعد الخروج وجب أن ینتظر بها إلی ما بعد الخروج .و إن قلنا بوقوع الخروج علی صفة الحرمة فإنه مع سعة الوقت لا بد أن یؤدیها بعد الخروج سواء استلزمت تصرفا زائدا أم لم تستلزم و مع ضیق الوقت یقع التزاحم بین الحرام الغصبی و الصلاة الواجبة و الصلاة لا تترک بحال فیجب أداؤها مع ترک ما یستلزم منها تصرفا زائدا فیصلی إیماء للرکوع و السجود و یقرأ ماشیا فیترک الاطمئنان الواجب و هکذا .و إن قلنا بعدم وقوع الخروج علی صفة الحرمة و لا صفة الوجوب فلا مانع من أداء الصلاة حال الخروج إذا لم تستلزم تصرفا زائدا حتی مع سعة الوقت علی النحو الذی تقدم

ص :345

المسألة الخامسة دلالة النهی علی الفساد
تحریر محل النزاع

هذه المسألة من أمهات المسائل الأصولیة التی بحثت من القدیم و لأجل تحریر محل النزاع فیها و توضیحه علینا أن نشرح الألفاظ الواردة فی عنوانها و هی کلمة الدلالة النهی الفساد .و لا بد من ذکر المراد من الشیء المنهی عنه أیضا لأنه مدلول علیه بکلمة النهی إذ النهی لا بد له من متعلق .إذن ینبغی البحث عن أربعة أمور 1 الدلالة فإن ظاهر اللفظة یعطی أن المراد منها الدلالة اللفظیة و لعله لأجل هذا الظهور البدوی أدرج بعضهم هذه المسألة فی مباحث الألفاظ و لکن المعروف أن مرادهم منها ما یؤدی إلیه لفظ الاقتضاء حسب ما یفهم من بحثهم المسألة و جملة من الأقوال فیها لا سیما المتأخرون من الأصولیین .و علیه فیکون المراد من الدلالة خصوص الدلالة العقلیة و حینئذ یکون المقصود من النزاع البحث عن اقتضاء طبیعة النهی عن الشیء فساد المنهی عنه عقلا و من هنا یعلم أنه لا یشترط فی النهی أن یکون مستفادا من دلیل لفظی و فی الحقیقة یکون النزاع هنا عن ثبوت الملازمة العقلیة بین النهی عن الشیء و فساده أو عن الممانعة و المنافرة عقلا بین النهی عن الشیء و صحته لا فرق بین التعبیرین .و لأجل هذا أدرجنا نحن هذه المسألة فی قسم الملازمات العقلیة .

ص :346

نعم قد یدعی بعضهم أن هذه الملازمة علی تقدیر ثبوتها من نوع الملازمات البینة بالمعنی الأخص و حینئذ یکون اللفظ الدال بالمطابقة علی النهی دالا بالدلالة الالتزامیة علی فساد المنهی عنه فیصح أن یراد من الدلالة ما هو أعم من الدلالة اللفظیة و العقلیة .و نحن نقول هذا صحیح علی هذا القول و لا بأس بتعمیم الدلالة إلی اللفظیة و العقلیة فی العنوان حینئذ و لکن النزاع مع هذا القائل أیضا یقع فی الملازمة العقلیة قبل فرض الدلالة اللفظیة الالتزامیة فالبحث معه أیضا یرجع إلی البحث عن الاقتضاء العقلی فالأولی أن یراد من الدلالة فی العنوان الاقتضاء العقلی فإنه یجمع جمیع الأقوال و الاحتمالات لا سیما أن البحث یشمل کل نهی و إن لم یکن مستفادا من دلیل لفظی .و العبارة تکون أکثر استقامة لو عبر عن عنوان المسألة بما عبر به صاحب الکفایة قده بقوله اقتضاء النهی الفساد فأبدل کلمة الدلالة بکلمة الاقتضاء و لکن نحن عبرنا بما جرت علیه عادة القدماء فی عنوان المسألة متابعة لهم .2 النهی إن کلمة النهی ظاهرة کما تقدم فی الجزء الأول ص 101 فی خصوص الحرمة و قلنا هناک إن الظهور لیس من جهة الوضع بل بمقتضی حکم العقل أما نفس الکلمة من جهة الوضع فهی تشتمل النهی التحریمی و النهی التنزیهی أی الکراهة و لعل کلمة النهی فی مثل عنوان المسألة لیس فیها ما یقتضی عقلا ظهورها فی الحرمة فلا بأس من تعمیم النهی فی العنوان لکل من القسمین بعد أن کان النزاع قد وقع فی کل منهما .و کذلک کلمة النهی بإطلاقها ظاهرة فی خصوص الحرمة النفسیة دون الغیریة و لکن النزاع أیضا وقع فی کل منهما فإذن ینبغی تعمیم کلمة

ص :347

النهی فی العنوان للتحریمی و التنزیهی و للنفسی و الغیری کما صنع صاحب الکفایة قده و شیخنا النائینی قده جزم باختصاص النهی فی عنوان المسألة بخصوص التحریمی النفسی لأنه یجزم بأن التنزیهی لا یقتضی الفساد و کذا الغیری .و الذی ینبغی أن یقال له أن الاختیار شیء و عموم النزاع فی المسألة شیء آخر فإن اختیارکم بأن النهی التنزیهی و الغیری لا یقتضیان الفساد لیس معناه اتفاق الکل علی ذلک حتی یکون النزاع فی المسألة مختصا بما عداهما و المفروض أن هناک من یقول بأن النهی التنزیهی و الغیری یقتضیان الفساد .فتعمیم کلمة النهی فی العنوان هو الأولی .3 الفساد إن الفساد کلمة ظاهرة المعنی و المراد منها ما یقابل الصحة تقابل العدم و الملکة علی الأصح لا تقابل النقیضین و لا تقابل الضدین .و علیه فما له قابلیة أن یکون صحیحا یصح أن یتصف بالفساد و ما لیس له ذلک لا یصح وصفه بالفساد .و صحة کل شیء بحسبه فمعنی صحة العبادة مطابقتها لما هو المأمور به من جهة تمام أجزائها و جمیع ما هو معتبر فیها (1)و معنی فسادها عدم مطابقتها له من جهة نقصان فیها و لازم عدم مطابقتها لما هو مأمور به عدم سقوط الأمر و عدم سقوط الأداء و القضاء .و معنی صحة المعاملة مطابقتها لما هو المعتبر فیها من أجزاء و شرائط و نحوها و معنی فسادها عدم مطابقتها لما هو معتبر فیها و لازم عدم مطابقتها

ص :348


1- هذا بناء علی اعتبار الامر فی عبادیة العبادة، أما إذا قلنا بکفایة الرجحان الذاتی فی عبادیتها إذا قصدها متقربا بها إلی الله تعالی - کما هو الصحیح - فیکون معنی صحة العبادة ما هو أعم من مطابقتها لما هو مأمور به ومن مطابقتها لما هو راجح ذاتا وان لم یکن هناک أمر.

عدم ترتب أثرها المرغوب فیه علیها من نحو النقل و الانتقال فی عقد البیع و الإجارة و من نحو العلقة الزوجیة فی عقد النکاح و هکذا .4 متعلق النهی لا شک فی أن متعلق النهی هنا یجب أن یکون مما یصح أن یتصف بالصحة و الفساد لیصح النزاع فیه و إلا فلا معنی لأن یقال مثلا إن النهی عن شرب الخمر یقتضی الفساد أو لا یقتضی .و علیه فلیس کل ما هو متعلق للنهی یقع موضعا للنزاع فی هذه المسألة بل خصوص ما یقبل وصفی الصحة و الفساد و هذا واضح .ثم إن متعلق النهی یعم العبادة و المعاملة اللتین یصح وصفهما بالفساد فلا اختصاص للمسألة بالعبادة کما ربما ینسب إلی بعضهم .و إذا اتضح المقصود من الکلمات التی وردت فی العنوان یتضح المقصود من النزاع و محله هنا فإنه یرجع إلی النزاع فی الملازمة العقلیة بین النهی عن الشیء و فساده فمن یقول بالاقتضاء فإنما یقول بأن النهی یستلزم عقلا فساد متعلقه و قد یقول مع ذلک بأن اللفظ الدال علی النهی دال علی فساد المنهی عنه بالدلالة الالتزامیة و من یقول بعدمه إنما یقول بأن النهی عن الشیء لا یستلزم عقلا فساده .أو فقل إن النزاع هنا یرجع إلی النزاع فی وجود الممانعة و المنافرة عقلا بین کون الشیء صحیحا و بین کونه منهیا عنه أی أنه هل هناک مانعة جمع بین صحة الشیء و النهی عنه أو لا .و لأجل هذا تدخل هذه المسألة فی بحث الملازمات العقلیة کما صنعناه .و لما کان البحث یختلف کثیرا فی کل واحدة من العبادة و المعاملة عقدوا البحث فی موضعین العبادة و المعاملة فینبغی البحث عن کل منهما مستقلا فی مبحثین

ص :349

المبحث الأول النهی عن العبادة

المقصود من العبادة التی هی محل النزاع فی المقام العبادة بالمعنی الأخص أی خصوص ما یشترط فی صحتها قصد القربة أو فقل هی خصوص الوظیفة التی شرعها الله تعالی لأجل التقرب بها إلیه .و لا یشمل النزاع العبادة بالمعنی الأعم مثل غسل الثوب من النجاسة لأنه و إن صح أن یقع عبادة متقربا به إلی الله تعالی لا یتوقف حصول أثره المرغوب فیه و هو زوال النجاسة علی وقوعه قریبا فلو فرض وقوعه منهیا عنه کالغسل بالماء المغصوب فإنه یقع به الامتثال و یسقط الأمر به فلا یتصور وقوعه فاسدا من أجل تعلق النهی به .نعم إذا وقع محرما منهیا عنه فإنه لا یقع عبادة متقربا به إلی الله تعالی فإذا قصد من الفساد هذا المعنی فلا بأس فی أن یقال إن النهی عن العبادة بالمعنی الأعم یقتضی الفساد فإن من یدعی الممانعة بین الصحة و النهی یمکن أن یدعی الممانعة بین وقوع غسل الثوب صحیحا أی عبادة متقربا به إلی الله تعالی و بین النهی عنه .و لیس معنی العبادة هنا أنها ما کانت متعلقة للأمر فعلا لأنه مع فرض تعلق النهی بها فعلا لا یعقل فرض تعلق الأمر بها أیضا و لیس ذلک کباب اجتماع الأمر و النهی الذی فرض فیه تعلق النهی بعنوان غیر العنوان الذی تعلق به الأمر فإنه إن جاز هناک اجتماع الأمر و النهی فلا یجوز هنا لعدم تعدد العنوان و إنما العنوان الذی تعلق به الأمر هو نفسه صار متعلقا للنهی .و علی هذا فلا بد أن یراد بالعبادة المنهی عنها ما کانت طبیعتها متعلقة للأمر و إن لم تکن شاملة بما هی مأمور بها لما هو متعلق النهی أو ما

ص :350

کانت من شأنها أن یتقرب بها لو تعلق بها أمر و بعبارة أخری جامعة أن یقال إن المقصود بالعبادة هنا هی الوظیفة التی لو شرعها الشارع لشرعها لأجل التعبد بها و إن لم یتعلق بها أمر فعلی لخصوصیة المورد .ثم إن النهی عن العبادة یتصور علی أنحاء أحدها أن یتعلق النهی بأصل العبادة کالنهی عن صوم العیدین و صوم الوصال و صلاة الحائض و النفساء و ثانیها أن یتعلق بجزئها کالنهی عن قراءة سورة من سور العزائم فی الصلاة و ثالثها أن یتعلق بشرطها أو بشرط جزئها کالنهی عن الصلاة باللباس المغصوب أو المتنجس و رابعها أن یتعلق بوصف ملازم لها أو لجزئها کالنهی عن الجهر بالقراءة فی موضع الإخفات و النهی عن الإخفات فی موضع الجهر .و الحق أن النهی عن العبادة یقتضی الفساد سواء کان نهیا عن أصلها أو جزئها أو شرطها أو وصفها للتمانع الظاهر بین العبادة التی یراد بها التقرب إلی الله تعالی و مرضاته و بین النهی عنها المبعد عصیانه عن الله و المثیر لسخطه فیستحیل التقرب بالمبعد و الرضا بما یسخطه و یستحیل أیضا التقرب بما یشتمل علی المبعد المبغوض المسخط له أو بما هو متقید بالمبعد أو بما هو موصوف بالمبعد .و من الواضح أن المقصود من القرب و البعد من المولی القرب و البعد المعنویان و هما یشبهان القرب و البعد المکانیین فکما یستحیل التقرب المکانی بما هو مبعد مکانا کذلک یستحیل التقرب المعنوی بما هو مبعد معنی .و نحن إذ نقول ذلک فی النهی عن الجزء و الشرط و الوصف نقول به لا لأجل أن النهی عن هذه الأمور یسری إلی أصل العبادة و أن ذلک واسطة فی الثبوت أو واسطة فی العروض کما قیل و لا لأجل أن جزء العبادة و شرطها عبادة فإذا فسد الجزء و الشرط استلزم فسادهما فساد المرکب و المشروط .

ص :351

بل نحن لا نستند فی قولنا فی الجزء و الشرط و الوصف إلی ذلک لأنه لا حاجة إلی مثل هذه التعلیلات و لا تصل النوبة إلیها بعد ما قلناه من أنه یستحیل التقرب بما یشتمل علی المبعد أو بما هو مقید أو موصوف بالمبعد کما یستحیل التقرب بنفس المبعد بلا فرق .علی أن فی هذه التعلیلات من المناقشة ما لا یسعه هذا المختصر و لا حاجة إلی مناقشتها بعد ما ذکرناه .هذا کله فی النهی النفسی أما النهی الغیری المقدمی فحکمه حکم النفسی بلا فرق کما أشرنا إلی ذلک فی ما تقدم ص 304 .فإنه أشرنا هناک إلی الوجه الذی ذکره بعض أعاظم مشایخنا قدس سره للفرق بینهما بأن النهی الغیری لا یکشف عن وجود مفسدة و حزازة فی المنهی عنه فیبقی المنهی عنه علی ما کان علیه من المصلحة الذاتیة بلا مزاحم لها من مفسدة للنهی فیمکن التقرب به بقصد تلک المصلحة الذاتیة المفروضة بخلاف النهی النفسی الکاشف عن المفسدة و الحزازة فی المنهی عنه المانعة من التقرب به .و قد ناقشناه هناک بأن التقرب و الابتعاد لیسا یدوران مدار المصلحة و المفسدة الذاتیتین حتی یتم هذا الکلام بل کما ذکرناه هناک أن الفعل المبعد عن المولی فی حال کونه مبعدا لا یعقل أن یکون متقربا به إلیه کالتقرب و الابتعاد المکانیین و النهی و إن کان غیریا یوجب البعد و مبغوضیة المنهی عنه و إن لم یشتمل علی مفسدة نفسیة .و یبقی الکلام فی النهی التنزیهی أی الکراهة فالحق أیضا أنه یقتضی الفساد کالنهی التحریمی لنفس التعلیل السابق من استحالة التقرب بما هو مبعد بلا فرق غایة الأمر أن مرتبة البعد فی التحریمی أشد و أکثر منها فی التنزیهی کاختلاف مرتبة القرب فی موافقة الأمر الوجوبی و الاستحبابی .

ص :352

و هذا الفرق لا یوجب تفاوتا فی استحالة التقرب بالمبعد و لأجل هذا حمل الأصحاب الکراهة فی العبادة علی أقلیة الثواب مع ثبوت صحتها شرعا لو أتی بها المکلف لا الکراهة الحکمیة الشرعیة و معنی حمل الکراهة علی أقلیة الثواب أن النهی الوارد فیها یکون مسوقا لبیان هذا المعنی و بداعی الإرشاد إلی أقلیة الثواب و لیس مسوقا لبیان الحکم التکلیفی المقابل للأحکام الأربعة الباقیة بداعی الزجر عن الفعل و الردع عنه .و علیه فلو أحرز بدلیل خاص أن النهی بداعی الزجر التنزیهی أو لم یحرز من دلیل خاص صحة العبادة المکروهة فلا محالة لا نقول بصحة العبادة المنهی عنها بالنهی التنزیهی .هذا فیما إذا کان النهی التنزیهی عن نفس عنوان العبادة أو جزئها أو شرطها أو وصفها أما لو کان النهی عن عنوان آخر غیر عنوان المأمور به کما لو کان بین المنهی عنه و المأمور به عموم و خصوص من وجه فإن هذا المورد یدخل فی باب الاجتماع و قد قلنا هناک بجواز الاجتماع فی الأمر و النهی التحریمی فضلا عن الأمر و النهی التنزیهی و لیس هو من باب النهی عن العبادة إلا إذا ذهبنا إلی امتناع الاجتماع فیدخل فی مسألتنا .تنبیه إن النهی الذی هو موضع النزاع و الذی قلنا باقتضائه الفساد فی العبادة هو النهی بالمعنی الظاهر من مادته و صیغته أعنی ما یتضمن حکما تحریمیا أو تنزیهیا بأن یکون إنشاؤه بداعی الردع و الزجر .أما النهی بداع آخر کداعی بیان أقلیة الثواب أو داعی الإرشاد إلی مانعیة الشیء مثل النهی عن لبس جلد المیتة فی الصلاة أو نحو ذلک من الدواعی فإنه لیس موضع النزاع فی مسألتنا و لا یقتضی الفساد بما هو نهی إلا أن یتضمن اعتبار شیء فی المأمور به فمع فقد ذلک الشیء لا ینطبق المأتی به علی المأمور به فیقع فاسدا کالنهی بداعی الإرشاد إلی مانعیة شیء

ص :353

فیستفاد منه أن عدم ذلک الشیء یکون شرطا فی المأمور به و لکن هذا شیء آخر لا یرتبط بمسألتنا فإن هذا یجزی حتی فی الواجبات التوصلیة فإن فقد أحد شروطها یوجب فسادها

المبحث الثانی النهی عن المعاملة

إن النهی فی المعاملة علی نحوین کالنهی عن العبادة فإنه تارة یکون النهی بداعی بیان مانعیة الشیء المنهی عنه أو بداع آخر مشابه له و أخری یکون بداعی الردع و الزجر من أجل مبغوضیة ما تعلق به النهی و وجود الحزازة فیه .فإن کان الأول فهو خارج عن مسألتنا کما تقدم فی التنبیه السابق إذ لا شک فی أنه لو کان النهی بداعی الإرشاد إلی مانعیة الشیء فی المعاملة فإنه یکون دالا علی فسادها عند الإخلال لدلالة النهی علی اعتبار عدم المانع فیها فتخلفه تخلف للشرط المعتبر فی صحتها و هذا لا ینبغی أن یختلف فیه اثنان .و إن کان الثانی فإن النهی إما أن یکون عن ذات السبب أی عن العقد الإنشائی أو فقل عن التسبیب به لإیجاد المعاملة کالنهی عن البیع وقت النداء لصلاة الجمعة فی قوله تعالی إِذٰا نُودِیَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلیٰ ذِکْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَیْعَ و إما أن یکون عن ذات المسبب أی عن نفس وجود المعاملة کالنهی عن بیع الآبق و بیع المصحف .فإن کان النهی علی النحو الأول أی عن ذات السبب فالمعروف أنه لا یدل علی فساد المعاملة إذا لم تثبت المنافاة لا عقلا و لا عرفا بین مبغوضیة العقد و التسبیب به و بین إمضاء الشارع له بعد أن کان العقد مستوفیا لجمیع

ص :354

الشروط المعتبرة فیه بل ثبت خلافها کحرمة الظهار التی لم تناف ترتب الأثر علیه من الفراق .و إن کان النهی علی النحو الثانی أی عن المسبب فقد ذهب جماعة من العلماء إلی أن النهی فی هذا القسم یقتضی الفساد .و أقصی ما یمکن تعلیل ذلک بما ذکره بعض أعاظم مشایخنا من أن صحة کل معاملة مشروطة بأن یکون العاقد مسلطا علی المعاملة فی حکم الشارع غیر محجور علیه من قبله من التصرف فی العین التی تجری علیها المعاملة و نفس النهی عن المسبب یکون معجزا مولویا للمکلف عن الفعل و رافعا لسلطنته علیه فیختل به ذلک الشرط المعتبر فی صحة المعاملة فلا محالة یترتب علی ذلک فسادها .هذا غایة ما یمکن أن یقال فی بیان اقتضاء النهی عن المسبب لفساد المعاملة و لکن التحقیق أن یقال إن استناد الفساد إلی النهی إنما یصح أن یفرض و یتنازع فیه فیما إذا کان العقد بشرائطه موجودا حتی بشرائط المتعاقدین و شرائط العوضین و أنه لیس فی البین إلا المبغوضیة الصرفة المستفادة من النهی و حینئذ یقع البحث فی أن هذه المبغوضیة هل تنافی صحة المعاملة أو لا تنافیها .أما إذا کان النهی دالا علی اعتبار شیء فی المتعاقدین و العوضین أو العقد مثل النهی عن أن یبیع السفیه و المجنون و الصغیر الدال علی اعتبار العقل و البلوغ فی البائع و کالنهی عن بیع الخمر و المیتة و الآبق و نحوها الدال علی اعتبار إباحة المبیع و التمکن من التصرف منه و کالنهی عن العقد بغیر العربیة مثلا الدال علی اعتبارها فی العقد فإن هذا النهی فی کل ذلک لا شک فی کونه دالا علی فساد المعاملة لأن هذا النهی فی الحقیقة یرجع إلی القسم الأول الذی ذکرناه و هو ما کان النهی بداعی الإرشاد إلی

ص :355

اعتبار شیء فی المعاملة و قد تقدم أن هذا لیس موضع الکلام من منافاة نفس النهی بداعی الردع و الزجر لصحة المعاملة .فالعمدة هو الکلام فی هذه المنافاة و لیس من دلیل علیها حتی تثبت الملازمة بین النهی و فساد المعاملة و کون النهی عن المسبب یکون معجزا مولویا للمکلف عن الفعل و رافعا لسلطنته علیه فإن معنی ذلک أن النهی فی المعاملة شأنه أن یدل علی اختلال شرط فی المعاملة بارتکاب المنهی عنه و هذا لا کلام لنا فیه .و فی هذا القدر من البحث فی هذه المسألة الکفایة وفقنا الله تعالی لمراضیه

ص :356

ص :357

ص :358

ص :359

ص :360

الجزء الثالث

اشارة

ص :1

ص :2

ص :3

ص :4

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِیمِ

المقصد الثالث مباحث الحجة

تمهید

إن مقصودنا من هذا البحث و هو مباحث الحجة تنقیح ما یصلح أن یکون دلیلا و حجة علی الأحکام الشرعیة لنتوصل إلی الواقع من أحکام الله تعالی .فإن أصبنا بالدلیل ذلک الواقع کما أردنا فذلک هو الغایة القصوی و إن أخطأناه فنحن نکون معذورین غیر معاقبین فی مخالفة الواقع .و السر فی کوننا معذورین عند الخطإ هو لأجل أننا قد بذلنا جهدنا و قصاری وسعنا فی البحث عن الطرق الموصلة إلی الواقع من أحکام الله تعالی حتی ثبت لدینا علی سبیل القطع أن هذا الدلیل المعین کخبر الواحد مثلا قد ارتضاه الشارع لنا طریقا إلی أحکامه و جعله حجة علیها .فالخطأ الذی نقع فیه إنما جاء من الدلیل الذی نصبه و ارتضاه لنا لا من قبلنا .و سیأتی بیان کیف نکون معذورین و کیف یصح وقوع الخطإ فی الدلیل المنصوب حجة مع أن الشارع هو الذی نصبه و جعله حجة .

ص :5

و لا شک فی أن هذا المقصد هو غایة الغایات من مباحث علم أصول الفقه و هو العمدة فیها لأنه هو الذی یحصل کبریات مسائل المقصدین السابقین الأول و الثانی فإنه لما کان یبحث فی المقصد الأول عن تشخیص صغریات الظواهر اللفظیة (1)فإنه فی هذا المقصد یبحث عن حجیة مطلق الظواهر اللفظیة بنحو العموم فتتألف الصغری من نتیجة المقصد الأول .و الکبری من نتیجة هذا المقصد لیستنتج من ذلک الحکم الشرعی فیقال مثلا صیغة افعل ظاهرة فی الوجوب الصغری و کل ظاهر حجة الکبری فینتج صیغة افعل حجة فی الوجوب النتیجة .فإذا وردت صیغة افعل فی آیة أو حدیث استنتج من ذلک وجوب متعلقها .و هکذا یقال فی المقصد الثانی إذ یبحث فیه عن تشخیص صغریات أحکام العقل و فی هذا المقصد یبحث عن حجیة حکم العقل فتتألف منهما صغری و کبری .و قد أوضحنا کل ذلک فی تمهید المقصدین فراجع .و علیه فلا بد أن نستقصی فی بحثنا عن کل ما قیل أو یمکن أن یقال باعتباره و حجیته لنستوفی البحث و لنعذر عند الله تعالی فی اتباع ما یصح اتباعه و طرح ما لا یثبت اعتباره .

ص :6


1- ان بعض مشایخنا الاعاظم قدس سره التزم فی المسألة الاصولیة أنها یجب أن تقع کبری فی القیاس الذی یستنبط منه الحکم الشرعی وجعل ذلک مناطا فی کون المسألة أصولیة، ووجه المسائل الاصولیة علی هذا النحو. وهو فی الحقیقة لزوم ما لا یلزم وقد أوضحنا الحقیقة هنا وفیما سبق.

و ینبغی لنا أیضا من باب التمهید و المقدمة أن نبحث عن موضوع هذا المقصد و عن معنی الحجیة و خصائصها و المناط فیها و کیفیة اعتبارها و ما یتعلق بذلک فنضع المقدمة فی عدة مباحث کما نضع المقصد فی عدة أبواب

ص :7

ص :8

المقدمة و فیها مباحث

موضوع المقصد الثالث

من التمهید المتقدم فی بیان المقصود من مباحث الحجة یتبین لنا أن الموضوع لهذا المقصد الذی یبحث فیه عن لواحق ذلک الموضوع و محمولاته هو کل شیء یصلح أن یدعی ثبوت الحکم الشرعی به لیکون دلیلا و حجة علیه .فإن استطعنا فی هذا المقصد أن نثبت بدلیل قطعی (1)أن هذا الطریق مثلا حجة أخذنا به و رجعنا إلیه لإثبات الأحکام الشرعیة و إلا طرحناه و أهملناه و بصریح العبارة نقول إن الموضوع لهذا المقصد فی الحقیقة هو ذات الدلیل بما هو فی نفسه لا بما هو دلیل .و أما محمولاته و لواحقه التی نفحصها و نبحث عنها لإثباتها له فهی کون ذلک الشیء دلیلا و حجة فإما أن نثبت ذلک أو ننفیه .

ص :9


1- سیأتی فی المبحث السادس بیان انه لماذا یجب أن یکون ثبوت حجیة الدلیل بالدلیل القطعی ولا یکفی الدلیل الظنی.

و لا یصح أن نجعل موضوعه الدلیل بما هو دلیل أو الحجة بما هی حجة أی بصفة کونه دلیلا و حجة کما نسب ذلک إلی المحقق القمی أعلی الله مقامه فی قوانینه إذ جعل موضوع أصل علم الأصول الأدلة الأربعة بما هی أدلة .و لو کان الأمر کما ذهب إلیه رحمه الله لوجب أن تخرج مسائل هذا المقصد کلها عن علم الأصول لأنها تکون حینئذ من مبادیه التصوریة لا من مسائله و ذلک واضح لأن البحث عن حجیة الدلیل یکون بحثا عن أصل وجود الموضوع و ثبوته الذی هو مفاد کان التامة لا بحثا عن لواحق الموضوع الذی هو مفاد کان الناقصة و المعروف عند أهل الفن أن البحث عن وجود الموضوع أی موضوع کان سواء کان موضوع العلم أو موضوع أحد أبوابه و مسائله معدود من مبادئ العلم التصوریة لا من مسائله .و لکن هنا ملاحظة ینبغی التنبیه علیها فی هذا الصدد و هی أن تخصیص موضوع علم الأصول بالأدلة الأربعة کما فعل الکثیر من مؤلفینا یستدعی أن یلتزموا بأن الموضوع هو الدلیل بما هو دلیل کما فعل صاحب القوانین و ذلک لأن هؤلاء لما خصصوا الموضوع بهذه الأربعة فإنما خصصوه بها لأنها معلومة الحجیة عندهم فلا بد أنهم لاحظوها موضوعا للعلم بما هی أدلة لا بما هی هی و إلا لجعلوا الموضوع شاملا لها و لغیرها مما هو غیر معتبر عندهم کالقیاس و الاستحسان و نحوهما و ما کان وجه لتخصیصها بالأدلة الأربعة .و حینئذ لا مخرج لهم من الإشکال المتقدم و هو لزوم خروج عمدة مسائل علم الأصول عنه .و علی هذا یتضح أن مناقشة صاحب الفصول لصاحب القوانین لیست فی محلها لأن دعواه هذه لا بد من الالتزام بها بعد الالتزام بأن الموضوع

ص :10

خصوص الأدلة الأربعة و إن لزم علیه إشکال خروج أهم المسائل عنه .و لو کان الموضوع هی الأدلة بما هی هی کما ذهب إلیه صاحب الفصول لما کان معنی لتخصیصه بخصوص الأربعة و لوجب تعمیمه لکل ما یصلح أن یبحث عن دلیلیته و إن ثبت بعد البحث أنه لیس بدلیل .و الخلاصة أنه إما أن نخصص الموضوع بالأدلة الأربعة فیجب أن نلتزم بما التزم به صاحب القوانین فتخرج مباحث هذا المقصد الثالث عن علم الأصول و إما أن نعمم الموضوع کما هو الصحیح لکل ما یصلح أن یدعی أنه دلیل فلا یختص بالأربعة و حینئذ یصح أن نلتزم بما التزم به صاحب الفصول و تدخل مباحث هذا المقصد فی مسائل العلم .فالالتزام بأن الموضوع هی الأربعة فقط ثم الالتزام بأنها بما هی هی لا یجتمعان .و هذا أحد الشواهد علی تعمیم موضوع علم الأصول لغیر الأدلة الأربعة و هو الذی نرید إثباته هنا و قد سبقت الإشارة إلی ذلک ص 6 من الجزء الأول و النتیجة أن الموضوع الذی یبحث عنه فی هذا المقصد هو کل شیء یصلح أن یدعی أنه دلیل و حجة .فیعمم البحث کل ما یقال إنه حجة فیدخل فیه البحث عن حجیة خبر الواحد و الظواهر و الشهرة و الإجماع المنقول و القیاس و الاستحسان و نحو ذلک بالإضافة إلی البحث عن أصل الکتاب و السنة و الإجماع و العقل .فما ثبت أنه حجة من هذه الأمور أخذنا به و ما لم یثبت طرحناه .کما یدخل فیه أیضا البحث عن مسألة التعادل و التراجیح لأن البحث فیها فی الحقیقة عن تعیین ما هو حجة و دلیل من بین المتعارضین فتکون المسألة من مسائل مباحث الحجة .

ص :11

و نحن جعلناها فی الجزء الأول ص 8 خاتمة لعلم الأصول اتباعا لمنهج القوم و رأینا الآن العدول عن ذلک رعایة لواقعها و للاختصار

معنی الحجة

1 الحجة لغة کل شیء یصلح أن یحتج به علی الغیر .و ذلک بأن یکون به الظفر علی الغیر عند الخصومة معه و الظفر علی الغیر علی نحوین إما بإسکاته و قطع عذره و إبطاله .و إما بأن یلجئه علی عذر صاحب الحجة فتکون الحجة معذرة له لدی الغیر .2 و أما الحجة فی الاصطلاح العلمی فلها معنیان أو اصطلاحان أما عند المناطقة و معناها کل ما یتألف من قضایا تنتج مطلوبا أی مجموع القضایا المترابطة التی یتوصل بتألیفها و ترابطها إلی العلم بالمجهول سواء کان فی مقام الخصومة مع أحد أم لم یکن و قد یطلقون الحجة أیضا علی نفس الحد الأوسط فی القیاس .ب ما عند الأصولیین و معناها عندهم حسب تتبع استعمالها کل شیء یثبت متعلقه و لا یبلغ درجة القطع .أی لا یکون سببا للقطع بمتعلقه و إلا فمع القطع یکون القطع هو الحجة و لکن هو حجة بمعناها اللغوی أو قل بتعبیر آخر الحجة کل شیء یکشف عن شیء آخر و یحکی عنه علی وجه یکون مثبتا له .و نعنی بکونه مثبتا له أن إثباته یکون بحسب الجعل من الشارع

ص :12

المکلف بعنوان أنه هو الواقع و إنما یصح ذلک و یکون مثبتا له فبضمیمة الدلیل علی اعتبار ذلک الشیء الکاشف الحاکی و علی أنه حجة من قبل الشارع .و سیأتی إن شاء الله تعالی تحقیق معنی الجعل للحجیة و کیف یثبت الحکم بالحجة .و علی هذا فالحجة بهذا الاصطلاح لا تشمل القطع أی أن القطع لا یسمی حجة بهذا المعنی بل بالمعنی اللغوی لأن طریقیة القطع کما سیأتی ذاتیة غیر مجعولة من قبل أحد .و تکون الحجة بهذا المعنی الأصولی مرادفة لکلمة الأمارة .کما أن کلمة الدلیل و کلمة الطریق تستعملان فی هذا المعنی فیکونان مرادفتین لکلمة الأمارة و الحجة أو کالمترادفتین .و علیه فلک أن تقول فی عنوان هذا المقصد بدل کلمة مباحث الحجة مباحث الأمارات .أو مباحث الأدلة .أو مباحث الطرق و کلها تؤدی معنی واحد .و مما ینبغی التنبیه علیه فی هذا الصدد أن استعمال کلمة الحجة فی المعنی الذی تؤدیه کلمة الأمارة مأخوذ من المعنی اللغوی من باب تسمیة الخاص باسم العام نظرا إلی أن الأمارة مما یصح أن یحتج المکلف بها إذا عمل بها و صادفت مخالفة الواقع فتکون معذرة له کما أنه مما یصح أن یحتج بها المولی علی المکلف إذا لم یعمل بها و وقع فی مخالفة الحکم الواقعی فیستحق العقاب علی المخالفة

ص :13

3 مدلول کلمة الأمارة و الظن المعتبر

بعد أن قلنا إن الأمارة مرادفة لکلمة الحجة باصطلاح الأصولیین .ینبغی أن ننقل الکلام إلی کلمة الأمارة لنسقط بعض استعمالاتها کما سنستعملها بدل کلمة الحجة فی المباحث الآتیة فنقول إنه کثیرا ما یجری علی ألسنة الأصولیین إطلاق کلمة الأمارة علی معنی ما تؤدیه کلمة الظن و یقصدون من الظن الظن المعتبر أی الذی اعتبره الشارع و جعله حجة و یوهم ذلک أن الأمارة و الظن المعتبر لفظان مترادفان یؤدیان معنی واحدا مع أنهما لیسا کذلک .و فی الحقیقة أن هذا تسامح فی التعبیر منهم علی نحو المجاز فی الاستعمال لا أنه وضع آخر لکلمة الأمارة و إنما مدلول الأمارة الحقیقی هو کل شیء اعتبره الشارع لأجل أنه یکون سببا للظن کخبر الواحد و الظواهر .و المجاز هنا إما من جهة إطلاق السبب علی مسببه فیسمی الظن المسبب أمارة .و إما من جهة إطلاق المسبب علی سببه فتسمی الأمارة التی هی سبب للظن ظنا فیقولون الظن المعتبر و الظن الخاص و الاعتبار و الخصوصیة أنما هما لسبب الظن .و منشأ هذا التسامح فی الإطلاق هو أن السر فی اعتبار الأمارة و جعلها حجة و طریقا هو إفادتها للظن دائما أو علی الأغلب و یقولون للثانی الذی یفید الظن علی الأغلب الظن النوعی علی ما سیأتی بیانه

ص :14

4 الظن النوعی

و معنی الظن النوعی أن الأمارة تکون من شأنها أن تفید الظن عند غالب الناس و نوعهم و اعتبارها عند الشارع أنما یکون من هذه الجهة فلا یضر فی اعتبارها و حجیتها ألا یحصل منها ظن فعلی للشخص الذی قامت عنده الأمارة بل تکون حجة عند هذا الشخص أیضا حیث إن دلیل اعتبارها دل علی أن الشارع إنما اعتبرها حجة و رضی بها طریقا لأن من شأنها أن تفید الظن و إن لم یحصل الظن الفعلی منها لدی بعض الأشخاص .ثم لا یخفی علیک أنا قد نعبر فیما یأتی تبعا للأصولیین فنقول الظن الخاص أو الظن المعتبر أو الظن الحجة و أمثال هذه التعبیرات و المقصود منها دائما سبب الظن أعنی الأمارة المعتبرة و إن لم تفد ظنا فعلیا فلا یشتبه علیک الحال

5 الأمارة و الأصل العملی

و اصطلاح الأمارة لا یشمل الأصل العملی کالبراءة و الاحتیاط و التخییر و الاستصحاب بل هذه الأصول تقع فی جانب و الأمارة فی جانب آخر مقابل له فإن المکلف إنما یرجع إلی الأصول إذا افتقد الأمارة أی إذا لم تقم عنده الحجة علی الحکم الشرعی الواقعی علی ما سیأتی توضیحه و بیان السر فیه .و لا ینافی ذلک أن هذه الأصول أیضا قد یطلق علیها أنها حجة فإن إطلاق الحجة علیها لیس بمعنی الحجة فی باب الأمارات بل بالمعنی اللغوی باعتبار أنها معذرة للمکلف إذا عمل بها و أخطأ الواقع و یحتج بها المولی

ص :15

علی المکلف إذا خالفها و لم یعمل بها ففوت الواقع المطلوب .و لأجل هذا جعلنا باب الأصول العملیة بابا آخر مقابل باب مباحث الحجة .و قد أشیر فی تعریف الأمارة إلی خروج الأصول العملیة بقولهم یثبت متعلقه لأن الأصول العملیة لا تثبت متعلقاتها لأنه لیس لسانها لسان إثبات الواقع و الحکایة عنه و إنما هی فی حقیقتها مرجع للمکلف فی مقام العمل عند الحیرة و الشک فی الواقع و عدم ثبوت حجة علیه و غایة شأنها أنها تکون معذرة للمکلف .و من هنا اختلفوا فی الاستصحاب أنه أمارة أو أصل باعتبار أن له شأن الحکایة عن الواقع و إحرازه فی الجملة لأن الیقین السابق غالبا ما یورث الظن ببقاء المتیقن فی الزمان اللاحق و لأن حقیقته کما سیأتی فی موضعه البناء علی الیقین السابق بعد الشک کأن المتیقن السابق لم یزل و لم یشک فی بقائه و لأجل هذا سمی الاستصحاب عند من یراه أصلا أصلا محرزا .فمن لاحظ فی الاستصحاب جهة ما له من إحراز و أنه یوجب الظن و اعتبر حجیته من هذه الجهة عده من الأمارات و من لاحظ فیه أن الشارع إنما جعله مرجعا للمکلف عند الشک و الحیرة و اعتبر حجیته من جهة دلالة الأخبار علیه عده من جملة الأصول و سیأتی إن شاء الله تعالی شرح ذلک فی محله مع بیان الحق فیه

ص :16

6 المناط فی إثبات حجیة الأمارة

مما یجب أن نعرفه قبل البحث و التفتیش عن الأمارات التی هی حجة المناط فی إثبات حجیة الأمارة و أنه بأی شیء یثبت لنا أنها حجة یعول علیها و هذا هو أهم شیء تجب معرفته قبل الدخول فی المقصود فنقول إنه لا شک فی أن الظن بما هو ظن لا یصح أن یکون هو المناط فی حجیة الأمارة و لا یجوز أن یعول علیه فی إثبات الواقع لقوله تعالی إِنَّ الظَّنَّ لاٰ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً و قد ذم الله تعالی فی کتابه المجید من یتبع الظن بما هو ظن کقوله إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ یَخْرُصُونَ و قال تعالی قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّٰهِ تَفْتَرُونَ .و فی هذه الآیة الأخیرة بالخصوص قد جعل ما أذن به أمرا مقابلا للافتراء علیه فما لم یأذن به لا بد أن یکون افتراء بحکم المقابلة بینهما فلو نسبنا الحکم إلی الله تعالی من دون إذن منه فلا محالة یکون افتراء محرما مذموما بمقتضی الآیة و لا شک فی أن العمل بالظن و الالتزام به علی أنه من الله و مثبت لأحکامه یکون من نوع نسبة الحکم إلیه من دون إذن منه فیدخل فی قسم الافتراء المحرم .و علی هذا التقریر فالقاعدة تقتضی أن الظن بما هو ظن لا یجوز العمل علی مقتضاه و لا الأخذ به لإثبات أحکام الله مهما کان سببه لأنه لا یغنی من الحق شیئا فیکون خرصا باطلا و افتراء محرما .هذا مقتضی القاعدة الأولیة فی الظن بمقتضی هذه الآیات الکریمة و لکن لو ثبت بدلیل قطعی و حجة یقینیة أن الشارع قد جعل ظنا خاصا من

ص :17

سبب مخصوص طریقا لأحکامه و اعتبره حجة علیها و ارتضاه أمارة یرجع إلیها و جوز لنا الأخذ بذلک السبب المحقق للظن فإن هذا الظن یخرج عن مقتضی تلک القاعدة الأولیة إذ لا یکون خرصا و تخمینا و لا افتراء .و خروجه من القاعدة یکون تخصیصا بالنسبة إلی آیة النهی عن اتباع الظن و یکون تخصصا بالنسبة إلی آیة الافتراء لأنه یکون حینئذ من قسم ما أذن الله تعالی به و ما أذن به لیس افتراء .و فی الحقیقة أن الأخذ بالظن المعتبر الذی ثبت علی سبیل القطع بأنه حجة لا یکون أخذا بالظن بما هو ظن و إن کان اعتباره عند الشارع من جهة کونه ظنا بل یکون أخذا بالقطع و الیقین ذلک القطع الذی قام علی اعتبار ذلک السبب للظن و سیأتی أن القطع حجة بذاته لا یحتاج إلی جعل من أحد .و من هنا یظهر الجواب عما شنع به جماعة من الأخباریین علی الأصولیین من أخذهم ببعض الأمارات الظنیة الخاصة کخبر الواحد و نحوه .إذ شنعوا علیهم بأنهم أخذوا بالظن الذی لا یغنی من الحق شیئا .و قد فاتهم أن الأصولیین إذ أخذوا بالظنون الخاصة لم یأخذوا بها من جهة أنها ظنون فقط بل أخذوا بها من جهة أنها معلومة الاعتبار علی سبیل القطع بحجیتها فکان أخذهم بها فی الحقیقة أخذا بالقطع و الیقین لا بالظن و الخرص و التخمین .و لأجل هذا سمیت الأمارات المعتبرة بالطرق العلمیة نسبة إلی العلم القائم علی اعتبارها و حجیتها لأن حجیتها ثابتة بالعلم .إلی هنا یتضح ما أردنا أن نرمی إلیه و هو أن المناط فی إثبات حجیة الأمارات و مرجع اعتبارها و قوامه ما هو .إنه العلم القائم علی اعتبارها و حجیتها فإذا لم یحصل العلم

ص :18

بحجیتها و الیقین بإذن الشارع بالتعویل علیها و الأخذ بها لا یجوز الأخذ بها و إن أفادت ظنا غالبا لأن الأخذ بها یکون حینئذ خرصا و افتراء علی الله تعالی .و لأجل هذا قالوا یکفی فی طرح الأمارة أن یقع الشک فی اعتبارها أو فقل علی الأصح یکفی ألا یحصل العلم باعتبارها فإن نفس عدم العلم بذلک کاف فی حصول العلم بعدم اعتبارها أی بعدم جواز التعویل علیها و الاستناد إلیها و ذلک کالقیاس و الاستحسان و ما إلیهما و إن أفادت ظنا قویا .و لا نحتاج فی مثل هذه الأمور إلی الدلیل علی عدم اعتبارها و عدم حجیتها بل بمجرد عدم حصول القطع بحجیة الشیء یحصل القطع بعدم جواز الاستناد إلیه فی مقام العمل و بعدم صحة التعویل علیه فیکون القطع مأخوذا فی موضوع حجیة الأمارة .و یتحصل من ذلک کله أن أماریة الأمارة و حجیة الحجة أنما تحصل و تتحقق بوصول علمها إلی المکلف و بدون العلم بالحجیة لا معنی لفرض کون الشیء أمارة و حجة و لذا قلنا إن مناط إثبات الحجة و قوامها العلم فهو مأخوذ فی موضوع الحجیة فإن العلم تنتهی إلیه حجیة کل حجة .و لزیادة الإیضاح لهذا الأمر و لتمکین النفوس المبتدئة من الاقتناع بهذه الحقیقة البدیهیة نقول من طریق آخر لإثباتها أولا إن الظن بما هو ظن لیس حجة بذاته .و هذه مقدمة واضحة قطعیة و إلا لو کان الظن حجة بذاته لما جاز النهی عن اتباعه و العمل به و لو فی بعض الموارد علی نحو الموجبة الجزئیة

ص :19

لأن ما هو بذاته حجة یستحیل النهی عن الأخذ به کما سیأتی فی حجیة القطع المبحث الآتی و لا شک فی وقوع النهی عن اتباع الظن فی الشریعة الإسلامیة المطهرة و یکفی فی إثبات ذلک قوله تعالی إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ثانیا إذا لم یکن الظن حجة بذاته فحجیته تکون عرضیة أی أنها تکون مستفادة من الغیر .فننقل الکلام إلی ذلک الغیر المستفادة منه حجیة الظن .فإن کان هو القطع فذلک هو المطلوب .و إن لم یکن قطعا فما هو .و لیس یمکن فرض شیء آخر غیر نفس الظن فإنه لا ثالث لهما یمکن فرض حجیته .و لکن الظن الثانی القائم علی حجیة الظن الأول أیضا لیس حجة بذاته إذ لا فرق بین ظن و ظن من هذه الناحیة .فننقل الکلام إلی هذا الظن الثانی و لا بد أن تکون حجیته أیضا مستفادة من الغیر فما هو ذلک الغیر فإن کان هو القطع فذلک هو المطلوب .و إن لم یکن قطعا فظن ثالث .فننقل الکلام إلی هذا الظن الثالث فیحتاج إلی ظن رابع .و هکذا إلی غیر النهایة و لا ینقطع التسلسل إلا بالانتهاء إلی ما هو حجة بذاته و لیس هو إلا العلم .ثالثا فانتهی الأمر بالأخیر إلی العلم فتم المطلوب .و بعبارة أسد و أخصر نقول إن الظن لما کانت حجیته لیست ذاتیة فلا تکون إلا بالعرض و کل

ص :20

ما بالعرض لا بد أن ینتهی إلی ما هو بالذات و لا مجاز بلا حقیقة .و ما هو حجة بالذات لیس إلا العلم .فانتهی الأمر بالأخیر إلی العلم .و هذا ما أردنا إثباته و هو أن قوام الأمارة و المناط فی إثبات حجیتها هو العلم فإنه تنتهی إلیه حجیة کل حجة لأن حجیته ذاتیة

7 حجیة العلم ذاتیة

کررنا فی البحث السابق القول بأن حجیة العلم ذاتیة و وعدنا ببیانها و قد حل هنا الوفاء بالوعد فنقول قد ظهر مما سبق معنی کون الشیء حجیته ذاتیة فإن معناه أن حجیته منبعثة من نفس طبیعة ذاته فلیست مستفادة من الغیر و لا تحتاج إلی جعل من الشارع و لا إلی صدور أمر منه باتباعه بل العقل هو الذی یکون حاکما بوجوب اتباع ذلک الشیء .و ما هذا شأنه لیس هو إلا العلم .(و لقد أحسن الشیخ العظیم الأنصاری قده مجلی هذه الأبحاث فی تعلیل وجوب متابعة القطع (1)فإنه بعد أن ذکر أنه لا إشکال فی وجوب متابعة القطع و العمل علیه ما دام موجودا علل ذلک بقوله لأنه بنفسه طریق إلی الواقع و لیست طریقیته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفیا) .

ص :21


1- مما یجب التنبیه علیه أن المراد من العلم هنا هو (القطع) أی الجزم الذی لا یحتمل الخلاف، ولا یعتبر فیه أن یکون مطابقا للواقع فی نفسه، وإن کان فی نظر القاطع لا یراه الا مطابقا للواقع، فالقطع الذی هو حجة تجب متابعته أعم من الیقین والجهل المرکب. یعنی أن المبحوث عنه هو العلم جهة أنه جزم لا یحتمل الخلاف عند القاطع.

و هذا الکلام فیه شیء من الغموض بعد أن اختلفت تعبیرات الأصولیین من بعده فنقول لبیانه إن هنا شیئین أو تعبیرین أحدهما وجوب متابعة القطع و الأخذ به .ثانیهما طریقیة القطع للواقع فما المراد من کون القطع حجة بذاته .هل المراد أن وجوب متابعته أمر ذاتی له کما وقع فی تعبیرات بعض الأصولیین المتأخرین أم أن المراد أن طریقیته ذاتیة .و إنما صح أن یسأل هذا السؤال فمن أجل قیاسه علی الظن حینما نقول إنه حجة فإن فیه جهتین 1 جهة طریقیته للواقع فحینما نقول إن حجیته مجعولة نقصد أن طریقیته مجعولة لأنها لیست ذاتیة له لوجود احتمال الخلاف .فالشارع یجعله طریقا إلی الواقع بإلغاء احتمال الخلاف کأنه لم یکن فتتم بذلک طریقیته الناقصة لیکون کالقطع فی الإیصال إلی الواقع و هذا المعنی هو المجعول للشارع .2 جهة وجوب متابعته فحینما نقول إنه حجة نقصد أن الشارع أمر بوجوب متابعة ذلک الظن و الأخذ به أمرا مولویا فینتزع من هذا الأمر أن هذا الظن موصل إلی الواقع و منجز له فیکون المجعول هذا الوجوب و یکون هذا معنی حجیة الظن و إذا کان هذا حال الظن فالقطع ینبغی أن یکون له أیضا هاتان الجهتان فنلاحظهما حینما نقول مثلا إن حجیته ذاتیة إما من جهة کونه طریقا بذاته و إما من جهة وجوب متابعته لذاته .و لکن فی الحقیقة أن التعبیر بوجوب متابعة القطع لا یخلو عن مسامحة ظاهرة منشؤها ضیق العبارة عن المقصود إذ یقاس علی الظن و السر فی ذلک واضح لأنه لیس للقطع متابعة مستقلة غیر الأخذ بالواقع

ص :22

المقطوع به فضلا عن أن یکون لهذه المتابعة وجوب مستقل غیر نفس وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به أی وجوب طاعة الواقع المنکشف بالقطع من وجوب أو حرمة أو نحوهما إذ لیس وراء انکشاف الواقع شیء ینتظره الإنسان فإذا انکشف الواقع له فلا بد أن یأخذ به .و هذه اللابدیة لابدیة عقلیة (1) منشؤها أن القطع بنفسه طریق إلی الواقع و علیه فیرجع التعبیر بوجوب متابعة القطع إلی معنی کون القطع بنفسه طریقا إلی الواقع و أن نفسه نفس انکشاف الواقع فالجهتان فیه جهة واحدة فی الحقیقة .و هذا هو السر فی تعلیل الشیخ الأنصاری رحمه الله لوجوب متابعته بکونه طریقا بذاته و لم یتعرض فی التعلیل لنفس الوجوب و من أجل هذا رکز البحث کله علی طریقیته الذاتیة .و یظهر لنا حینئذ أنه لا معنی لأن یقال فی تعلیل حجیته الذاتیة إن وجوب متابعته أمر ذاتی له .و إذا اتضح ما تقدم وجب علینا توضیح معنی کون القطع طریقا ذاتیا و هو کل البحث عن حجیة القطع و ما وراءه من الکلام فکله فضول و علیه فنقول تقدم أن القطع حقیقته انکشاف الواقع لأنه حقیقة نوریة محضة لا غطش فیها و لا احتمال للخطإ یرافقها فالعلم نور لذاته نور لغیره فذاته نفس الانکشاف لا أنه شیء له الانکشاف .و قد عرفتم فی مباحث الفلسفة أن الذات و الذاتی یستحیل جعله بالجعل التألیفی لأن جعل شیء لشیء أنما یصح أن یفرض فیما یمکن فیه التفکیک

ص :23


1- هذه اللابدیة العقلیة هی نفس وجوب الطاعة الذی هو وجوب عقلی. لانه داخل فی الآراء المحمودة التی تتطابق علیها آراء العقلاء بما هم عقلاء، کما شرحناه فی الجزء الثانی.

بین المجعول و المجعول له و واضح أنه یستحیل التفکیک بین الشیء و ذاته أی بین الشیء و نفسه و لا بینه و بین ذاتیاته .و هذا معنی قولهم المشهور الذاتی لا یعلل و إنما المعقول من جعل القطع هو جعله بالجعل البسیط أی خلقه و إیجاده .و علیه فلا معنی لفرض جعل الطریقیة للقطع جعلا تألیفیا بأی نحو فرض للجعل سواء کان جعلا تکوینیا أم جعلا تشریعیا فإن ذلک مساوق لجعل القطع لنفس القطع و جعل الطریق لذات الطریق .و علی تقدیر التنزل عن هذا و قلنا مع من قال إن القطع شیء له الطریقیة و الکاشفیة عن الواقع کما وقع فی تعبیرات بعض الأصولیین المتأخرین عن الشیخ فعلی الأقل تکون الطریقیة من لوازم ذاته التی لا تنفک عنه کالزوجیة بالنسبة إلی الأربعة و لوازم الذات کالذات یستحیل أیضا جعلها بالجعل التألیفی علی ما هو الحق و إنما یکون جعلها بنفس جعل الذات جعلا بسیطا لا بجعل آخر وراء جعل الذات و قد أوضحنا ذلک فی مباحث الفلسفة .و إذا استحال جعل الطریقیة للقطع استحال نفیها عنه لأنه کما یستحیل جعل الذات و لوازمها یستحیل نفی الذات و لوازمها عنها و سلبها بالسلب التألیفی .بل نحن إنما نعرف استحالة جعل الذات و الذاتی و لوازم الذات بالجعل التألیفی لأنا نعرف أولا امتناع انفکاک الذات عن نفسها و امتناع انفکاک لوازمها عنها کما تقدم بیانه .علی أن نفی الطریقیة عن القطع یلزم منه التناقض بالنسبة إلی القاطع و فی نظره فإنه مثلا حینما یقطع بأن هذا الشیء واجب یستحیل علیه أن یقطع ثانیا بأن هذا القطع لیس طریقا موصلا إلی الواقع فإن معنی هذا

ص :24

أن یقطع ثانیا بأن ما قطع بأنه واجب لیس بواجب مع فرض بقاء قطعه الأول علی حاله .و هذا تناقض بحسب نظر القاطع و وجدانه یستحیل أن یقع منه حتی لو کان فی الواقع علی خطإ فی قطعه الأول و لا یصح هذا إلا إذا تبدل قطعه و زال و هذا شیء آخر غیر ما نحن فی صدده .و الحاصل أن اجتماع القطعین بالنفی و الإثبات محال کاجتماع النفی و الإثبات بل یستحیل فی حقه حتی احتمال أن قطعه لیس طریقا إلی الواقع فإن هذا الاحتمال مساوق لانسلاخ القطع عنده و انقلابه إلی الظن فما فرض أنه قطع لا یکون قطعا و هو خلف محال .و هذا الکلام لا ینافی أن یحتمل الإنسان أو یقطع أن بعض علومه علی الإجمال غیر المعین فی نوع خاص و لا فی زمن من الأزمنة کان علی خطإ فإنه بالنسبة إلی کل قطع فعلی بشخصه لا یتطرق إلیه الاحتمال بخطائه و إلا لو اتفق له ذلک لانسلخ عن کونه قطعا جازما .نعم لو احتمل خطأ أحد علوم محصورة و معینة فی وقت واحد فإنه لا بد أن تنسلخ کلها عن کونها اعتقادا جازما فإن بقاء قطعه فی جمیعها مع تطرق احتمال خطإ واحد منها لا علی التعیین لا یجتمعان .و الخلاصة أن القطع یستحیل جعل الطریقیة له تکوینا و تشریعا و یستحیل نفیها عنه مهما کان السبب الموجب له .و علیه فلا یعقل التصرف بأسبابه کما نسب ذلک إلی بعض الأخباریین من حکمهم بعدم تجویز الأخذ بالقطع إذا کان سببه من مقدمات

ص :25

عقلیة و قد أشرنا إلی ذلک فی الجزء الثانی ص 214 .و کذلک لا یمکن التصرف فیه من جهة الأشخاص بأن یعتبر قطع شخص و لا یعتبر قطع آخر کما قیل بعدم الاعتبار بقطع القطاع قیاسا علی کثیر الشک الذی حکم شرعا بعدم الاعتبار بشکه فی ترتب أحکام الشک .و کذلک لا یمکن التصرف فیه من جهة الأزمنة و لا من جهة متعلقه بأن یفرق فی اعتباره بین ما إذا کان متعلقه الحکم فلا یعتبر و بین ما إذا کان متعلقه موضوع الحکم أو متعلقه فیعتبر .فإن القطع فی کل ذلک طریقیته ذاتیة غیر قابلة للتصرف فیها بوجه من الوجوه و غیر قابلة لتعلق الجعل بها نفیا و إثباتا و إنما الذی یصح و یمکن أن یقع فی الباب هو إلفات نظر الخاطئ فی قطعه إلی الخلل فی مقدمات قطعه فإذا تنبه إلی الخلل فی سبب قطعه فلا محالة أن قطعه سیتبدل إما إلی احتمال الخلاف أو إلی القطع بالخلاف و لا ضیر فی ذلک و هذا واضح

8 موطن حجیة الأمارات

قد أشرنا فی مبحث الإجزاء الجزء الثانی ص 252 س 19 إلی أن جعل الطرق و الأمارات یکون فی فرض التمکن من تحصیل العلم و أحلنا بیانه إلی محله و هذا هو محله فنقول إن غرضنا من ذلک القول هو أننا إذ نقول إن أمارة حجة کخبر الواحد مثلا فإنما نعنی أن تلک الأمارة مجعولة حجة مطلقا أی أنها فی نفسها حجة مع قطع النظر عن کون الشخص الذی قامت عنده تلک الأمارة متمکنا من تحصیل العلم بالواقع أو غیر متمکن منه فهی حجة یجوز الرجوع إلیها لتحصیل الأحکام مطلقا حتی فی موطن یمکن فیه أن یحصل

ص :26

القطع بالحکم لمن قامت عنده الأمارة أی کان باب العلم بالنسبة إلیه مفتوحا .فمثلا إذا قلنا بحجیة خبر الواحد فإنا نقول إنه حجة حتی فی زمان یسع المکلف أن یرجع إلی المعصوم رأسا فیأخذ الحکم منه مشافهة علی سبیل الیقین فإنه فی هذا الحال لو کان خبر الواحد حجة یجوز للمکلف أن یرجع إلیه و لا یجب علیه أن یرجع إلی المعصوم .و علی هذا فلا یکون موطن حجیة الأمارات فی خصوص مورد تعذر حصول العلم أو امتناعه أی لیس فی خصوص مورد انسداد باب العلم بل الأعم من ذلک فیشمل حتی موطن التمکن من تحصیل العلم و انفتاح بابه .نعم مع حصول العلم بالواقع فعلا لا یبقی موضع للرجوع إلی الأمارة بل لا معنی لحجیتها حینئذ لا سیما مع مخالفتها للعلم لأن معنی ذلک انکشاف خطائها .و من هنا کان هذا الأمر موضع حیرة الأصولیین و بحثهم إذ للسائل کما سیأتی أن یسأل کیف جاز أن تفرضوا صحة الرجوع إلی الأمارات الظنیة مع انفتاح باب العلم بالأحکام إذ قد یوجب سلوکها تفویت الواقع عند خطائها و لا یحسن من الشارع أن یأذن بتفویت الواقع مع التمکن من تحصیله بل ذلک قبیح یستحیل فی حقه .و لأجل هذا السؤال المحرج سلک الأصولیون عدة طرق للجواب عنه و تصحیح جعل حجیة الأمارات و سیأتی بیان هذه الطرق و الصحیح منها فی البحث 12 ص 36 .و غرضنا من ذکر هذا التنبیه هو أن هذا التصحیح شاهد علی ما أردنا الإشارة إلیه هنا من أن موطن حجیة الأمارات و موردها ما هو أعم من فرض التمکن من تحصیل العلم و انفتاح بابه و من فرض انسداد بابه .و من هنا نعرف وجه المناقشة فی استدلال بعضهم علی حجیة خبر

ص :27

الواحد بالخصوص بدلیل انسداد باب العلم کما صنع صاحب المعالم فإنه لما کان المقصود إثبات حجیة خبر الواحد فی نفسه حتی مع فرض انفتاح باب العلم لا یبقی معنی للاستدلال علی حجیته بدلیل الانسداد .علی أن دلیل الانسداد أنما یثبت فیه حجیة مطلق الظن من حیث هو ظن کما سیأتی بیانه فلا یثبت به حجیة ظن خاص بما هو ظن خاص .نعم استدل بعضهم علی حجیة خبر الواحد بدلیل الانسداد الصغیر و لا یبعد صحة ذلک و یعنون به انسداد باب العلم فی خصوص الأخبار التی بأیدینا التی نعلم علی الإجمال بأن بعضها موصل إلی الواقع و محصل له و لا یتمیز الموصل إلی الواقع من غیره مع انحصار السنة فی هذه الأخبار التی بأیدینا .و حینئذ نلتجئ إلی الاکتفاء بما یفید الظن و الاطمئنان من هذه الأخبار و هذا ما نعنیه بخبر الواحد و الفرق بین دلیل الانسداد الکبیر و الصغیر أن الکبیر هو انسداد باب العلم فی جمیع الأحکام من جهة السنة و غیرها و الصغیر هو انسداد باب العلم بالسنة مع انفتاح باب العلم فی الطرق الأخری و المفروض أنه لیس لدینا إلا هذه الأخبار التی لا یفید أکثرها العلم و بعضها حجة قطعا و موصل إلی الواقع

9 الظن الخاص و الظن المطلق

تکرر منا التعبیر بالظن الخاص و الظن المطلق و هو اصطلاح للأصولیین المتأخرین فینبغی بیان ما یعنون بهما فنقول 1 یراد من الظن الخاص کل ظن قام دلیل قطعی علی حجیته و اعتباره بخصوصه غیر دلیل الانسداد الکبیر .

ص :28

و علیه فیکون المراد منه الأمارة التی هی حجة مطلقا حتی مع انفتاح باب العلم و یسمی أیضا الطریق العلمی نسبة إلی العلم باعتبار قیام العلم علی حجیته کما تقدم .2 یراد من الظن المطلق کل ظن قام دلیل الانسداد الکبیر علی حجیته و اعتباره .فیکون المراد منه الأمارة التی هی حجة فی خصوص حالة انسداد باب العلم و العلمی أی انسداد باب نفس العلم بالأحکام و باب الطرق العلمیة المؤدیة إلیها .و نحن فی هذا المختصر لا نبحث إلا عن الظنون الخاصة فقط أما الظنون المطلقة فلا نتعرض لها لثبوت حجیة جملة من الأمارات المغنیة عندنا عن فرض انسداد باب العلم و العلمی فلا تصل النوبة إلی هذا الفرض حتی نبحث عن دلیل الانسداد لإثبات حجیة مطلق الظن .و لکن بعد أن انتهینا إلی هنا ینبغی ألا یخلو هذا المختصر من الإشارة إلی مقدمات دلیل الانسداد علی نحو الاختصار تنویرا لذهن الطالب فنقول

10 مقدمات دلیل الانسداد

إن الدلیل المعروف بدلیل الانسداد یتألف من مقدمات أربع إذا تمت یترتب علیها حکم العقل بلزوم العمل بما قام علیه الظن فی الأحکام أی ظن کان عدا الظن الثابت فیه علی نحو القطع عدم جواز العمل به کالقیاس مثلا .و نحن نذکر بالاختصار هذه المقدمات 1 المقدمة الأولی دعوی انسداد باب العلم و العلمی فی معظم

ص :29

أبواب الفقه فی عصورنا المتأخرة عن عصر أئمتنا علیهم السلام و قد علمت أن أساس المقدمات کلها هی هذه المقدمة و هی دعوی قد ثبت عندنا عدم صحتها لثبوت انفتاح باب الظن الخاص بل العلم فی معظم أبواب الفقه .فانهار هذا الدلیل من أساسه .2 المقدمة الثانیة أنه لا یجوز إهمال امتثال الأحکام الواقعیة المعلومة إجمالا و لا یجوز طرحها فی مقام العمل .و إهمالها و طرحها یقع بفرضین إما بأن نعتبر أنفسنا کالبهائم و الأطفال لا تکلیف علینا .و إما بأن نرجع إلی أصالة البراءة و أصالة عدم التکلیف فی کل موضع لا یعلم وجوبه و حرمته و کلا الفرضین ضروری البطلان .3 المقدمة الثالثة أنه بعد فرض وجوب التعرض للأحکام المعلومة إجمالا فإن الأمر لتحصیل فراغ الذمة منها یدور بین حالات أربع لا خامسة لها أ تقلید من یری انفتاح باب العلم .ب الأخذ بالاحتیاط فی کل مسألة .ج الرجوع إلی الأصل العملی الجاری فی کل مسألة من نحو البراءة و الاحتیاط و التخییر و الاستصحاب حسبما یقتضیه حال المسألة .د الرجوع إلی الظن فی کل مسألة فیها ظن بالحکم و فیما عداها یرجع إلی الأصول العملیة .و لا یصح الأخذ بالحالات الثلاث الأولی فتتعین الرابعة .أما الأولی و هی تقلید الغیر فی انفتاح باب العلم فلا یجوز لأن المفروض أن المکلف یعتقد بالانسداد فکیف یصح له الرجوع إلی من یعتقد بخطائه و أنه علی جهل .و أما الثانیة و هی الأخذ بالاحتیاط فإنه یلزم منه العسر و الحرج

ص :30

الشدیدان بل یلزم اختلال النظام لو کلف جمیع المکلفین بذلک .و أما الثالثة و هی الأخذ بالأصل الجاری فلا یصح أیضا لوجود العلم الإجمالی بالتکالیف و لا یمکن ملاحظة کل مسألة علی حدة غیر منظمة إلی غیرها من المسائل الأخری المجهولة الحکم و الحاصل أن وجود العلم الإجمالی بوجود المحرمات و الواجبات فی جمیع المسائل المشکوکة الحکم یمنع من إجراء أصل البراءة و الاستصحاب و لو فی بعضها .4 المقدمة الرابعة أنه بعد أن أبطلنا الرجوع إلی الحالات الثلاث ینحصر الأمر فی الرجوع إلی الحالة الرابعة فی المسائل التی یقوم فیها الظن و فیها یدور الأمر بین الرجوع إلی الطرف الراجح فی الظن و بین الرجوع إلی الطرف المرجوح أی الموهوم و لا شک فی أن الأخذ بطرف المرجوح ترجیح للمرجوح علی الراجح و هو قبیح عقلا .و علیه فیتعین الأخذ بالظن ما لم یقطع بعدم جواز الأخذ به کالقیاس .و هو المطلوب .و فی فرض الظن المقطوع بعدم حجیته یرجع إلی الأصول العملیة کما یرجع إلیها فی المسائل المشکوکة التی لا یقوم فیها ظن أصلا .و لا ضیر حینئذ بالرجوع إلی الأصول العملیة لانحلال العلم الإجمالی بقیام الظن فی معظم المسائل الفقهیة إلی علم تفصیلی بالأحکام التی قامت علیها الحجة و شک بدوی فی الموارد الأخری فتجری فیها الأصول .هذه خلاصة مقدمات دلیل الانسداد و فیها أبحاث دقیقة طویلة الذیل لا حاجة لنا بها و یکفی ما ذکرناه عنها بالاختصار

ص :31

11 اشتراک الأحکام بین العالم و الجاهل

قام إجماع الإمامیة علی أن أحکام الله تعالی مشترکة بین العالم و الجاهل بها أی أن حکم الله ثابت لموضوعه فی الواقع سواء علم به المکلف أم لم یعلم فإنه مکلف به علی کل حال .فالصلاة مثلا واجبة علی جمیع المکلفین سواء علموا بوجوبها أم جهلوه فلا یکون العلم دخیلا فی ثبوت الحکم أصلا .و غایة ما نقوله فی دخالة العلم فی التکلیف دخالته فی تنجز الحکم التکلیفی بمعنی أنه لا یتنجز علی المکلف علی وجه یستحق علی مخالفته العقاب إلا إذا علم به سواء کان العلم تفصیلیا أو إجمالیا (1)أو قامت لدیه حجة معتبرة علی الحکم تقوم مقام العلم .فالعلم و ما یقوم مقامه یکون علی ما هو التحقیق شرطا لتنجز التکلیف لا علة تامة خلافا للشیخ الآخوند صاحب الکفایة قدس سره فإذا لم یحصل العلم و لا ما یقوم مقامه بعد الفحص و الیأس لا یتنجز علیه التکلیف الواقعی یعنی لا یعاقب المکلف لو وقع فی مخالفته عن جهل و إلا لکان العقاب علیه عقابا بلا بیان و هو قبیح عقلا و سیأتی إن شاء الله تعالی فی أصل البراءة شرح ذلک .و فی قبال هذا القول زعم من یری أن الأحکام أنما تثبت لخصوص العالم بها أو من قامت عنده الحجة فمن لم یعلم بالحکم و لم تقم لدیه الحجة علیه لا حکم فی حقه حقیقة و فی الواقع .

ص :32


1- سیأتی فی الجزء الرابع ان شاء الله تعالی مدی تأثیر العلم الاجمالی فی تنجیز الاحکام الواقعیة.

و من هؤلاء من یذهب إلی تصویب المجتهد إذ یقول إن کل مجتهد مصیب و سیأتی بیانه فی محله إن شاء الله تعالی فی هذا الجزء .و عن الشیخ الأنصاری أعلی الله مقامه و عن غیره أیضا کصاحب الفصول رحمه الله أن أخبارنا متواترة معنی فی اشتراک الأحکام بین العالم و الجاهل و هو کذلک .و الدلیل علی هذا الاشتراک مع قطع النظر عن الإجماع و تواتر الأخبار واضح و هو أن نقول 1 إن الحکم لو لم یکن مشترکا لکان مختصا بالعالم به إذ لا یجوز أن یکون مختصا بالجاهل به و هو واضح .2 و إذا ثبت أنه مختص بالعالم فإن معناه تعلیق الحکم علی العلم به .3 و لکن تعلیق الحکم علی العلم به محال لأنه یلزم منه الخلف .4 إذن یتعین أن یکون مشترکا بین العالم و الجاهل .بیان لزوم الخلف أنه لو کان الحکم معلقا علی العلم به کوجوب الصلاة مثلا فإنه یلزمه بل هو نفس معنی التعلیق عدم الوجوب لطبیعی الصلاة إذ الوجوب یکون حسب الفرض للصلاة المعلومة الوجوب بما هی معلومة الوجوب بینما أن تعلق العلم بوجوب الصلاة لا یمکن فرضه إلا إذا کان الوجوب متعلقا بطبیعی الصلاة فما فرضناه متعلقا بطبیعی الصلاة لم یکن متعلقا بطبیعیها بل بخصوص معلوم الوجوب .و هذا هو الخلف المحال .و ببیان آخر فی وجه استحالة تعلیق الحکم علی العلم به نقول إن تعلیق الحکم علی العلم به یستلزم منه المحال و هو استحالة العلم بالحکم و الذی یستلزم منه المحال محال فیستحیل نفس الحکم .و ذلک لأنه قبل حصول العلم لا حکم حسب الفرض فإذا أراد

ص :33

أن یعلم یعلم بما ذا .فلا یعقل حصول العلم لدیه بغیر متعلق مفروض الحصول .و إذا استحال حصول العلم استحال حصول الحکم المعلق علیه لاستحالة ثبوت الحکم بدون موضوعه و هو واضح .و علی هذا فیستحیل تقیید الحکم بالعلم به و إذا استحال ذلک تعین أن یکون الحکم مشترکا بین العالم و الجاهل أی بثبوته واقعا فی صورتی العلم و الجهل و إن کان الجاهل القاصر معذورا أی أنه لا یعاقب علی المخالفة .و هذا شیء آخر غیر نفس عدم ثبوت الحکم فی حقه .و لکنه قد یستشکل فی استکشاف اشتراک الأحکام فی هذا الدلیل بما تقدم منا فی الجزء الأول ص 73 و 173 من أن الإطلاق و التقیید متلازمان فی مقام الإثبات لأنهما من قبیل العدم و الملکة فإذا استحال التقیید فی مورد استحال معه الإطلاق أیضا فکیف إذن نستکشف اشتراک الأحکام من إطلاق أدلتها لامتناع تقییدها بالعلم و الإطلاق کالتقیید محال بالنسبة إلی قید العلم فی أدلة الأحکام .(و قد أصر شیخنا النائینی أعلی الله مقامه علی امتناع الإطلاق فی ذلک و قال بما محصله أنه لا یمکن أن نحکم بالاشتراک من نفس أدلة الأحکام بل لا بد لإثباته من دلیل آخر سماه متمم الجعل علی أن یکون الاشتراک من باب نتیجة الإطلاق کاستفادة تقیید الأمر العبادی بقصد الامتثال من دلیل ثان متمم للجعل علی أن یکون ذلک من باب نتیجة التقیید و کاستفادة تقیید وجوب الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام بالعلم بالوجوب من دلیل آخر متمم للجعل علی أن یکون ذلک أیضا من باب نتیجة التقیید .و قال بما خلاصته یمکن استفادة الإطلاق فی المقام من الأدلة التی

ص :34

ادعی الشیخ الأنصاری تواترها فتکون هی المتممة للجعل) .أقول و یمکن الجواب عن الإشکال المذکور بما محصله أن هذا الکلام صحیح لو کانت استفادة اشتراک الأحکام متوقفة علی إثبات إطلاق أدلتها بالنسبة إلی العالم بها غیر أن المطلوب الذی ینفعنا هو نفس عدم اختصاص الأحکام بالعالم علی نحو السالبة المحصلة فیکون التقابل بین اشتراک الأحکام و اختصاصها بالعالم من قبیل تقابل السلب و الإیجاب لا من باب تقابل العدم و الملکة لأن المراد من الاشتراک نفس عدم الاختصاص بالعالم .و هذا السلب یکفی فی استفادته من أدلة الأحکام من نفس إثبات امتناع الاختصاص و لا یحتاج إلی مئونة زائدة لإثبات الإطلاق أو إثبات نتیجة الإطلاق بمتمم الجعل من إجماع أو أدلة أخری لأنه من نفس امتناع التقیید نعلم أن الحکم مشترک لا یختص بالعالم .نعم یتم ذلک الإشکال لو کان امتناع التقیید لیس إلا من جهة بیانیة و فی مرحلة الإنشاء فی دلیل نفس الحکم و إن کان واقعه یمکن أن یکون مقیدا أو مطلقا مع قطع النظر عن أدائه باللفظ فإنه حینئذ لا یمکن بیانه بنفس دلیله الأول فنحتاج إلی استکشاف الواقع المراد من دلیل آخر نسمیه متمم الجعل و لأجل ذلک نسمیه بالمتمم للجعل فتحصل لنا نتیجة الإطلاق أو نتیجة التقیید من دون أن یحصل تقیید أو إطلاق المفروض أنهما مستحیلان کما کان الحال فی تقیید الوجوب بقصد الامتثال فی الواجب التعبدی .أما لو کان نفس الحکم واقعا مع قطع النظر عن أدائه بأیة عبارة کانت کما فیما نحن فیه یستحیل تقییده سواء أدی ذلک ببیان واحد أو ببیانین أو بألف بیان فإن واقعه لا محالة ینحصر فی حالة واحدة و هو أن یکون فی نفسه شاملا لحالتی وجود القید المفروض و عدمه .

ص :35

و علیه فلا حاجة فی مثله إلی استکشاف الاشتراک من نفس إطلاق دلیله الأول و لا من دلیل ثان متمم للجعل و لا نمانع أن نسمی ذلک نتیجة الإطلاق إذا حلا لکم هذا التعبیر .و یبقی الکلام حینئذ فی وجه تقیید وجوب الجهر و الإخفات و القصر و الإتمام بالعلم مع فرض امتناعه حتی بمتمم الجعل و المفروض أن هذا التقیید ثابت فی الشریعة فکیف تصححون ذلک فنقول إنه لما امتنع تقیید الحکم بالعلم فلا بد أن نلتمس توجیها لهذا الظاهر من الأدلة و ینحصر التوجیه فی أن نفرض أن یکون هذا التقیید من باب إعفاء الجاهل بالحکم فی هذین الموردین عن الإعادة و القضاء و إسقاطهما عنه اکتفاء بما وقع کإعفاء الناسی و إن کان الوجوب واقعا غیر مقید بالعلم .و الإعادة و القضاء بید الشارع رفعهما و وضعهما .و یشهد لهذا التوجیه أن بعض الروایات فی البابین عبرت بسقوط الإعادة عنه (کالروایة عن أبی جعفر علیه السلام فیمن صلی فی السفر أربعا:إن کانت قرئت علیه آیة التقصیر و فسرت له فصلی أربعا أعاد و إن لم یکن قرئت علیه و لم یعلمها فلا إعادة)

12 تصحیح جعل الأمارة

بعد ما ثبت أن جعل الأمارة یشمل فرض انفتاح باب العلم مع ما ثبت من اشتراک الأحکام بین العالم و الجاهل تنشأ شبهة عویصة فی صحة جعل الأمارة قد أشرنا إلیها فیما سبق ص 27 و هی أنه فی فرض التمکن من تحصیل الواقع و الوصول إلیه کیف جاز أن یأذن الشارع باتباع الأمارة الظنیة و هی حسب الفرض تحتمل الخطأ

ص :36

المفوت للواقع و الإذن فی تفویته قبیح عقلا لأن الأمارة لو کانت دالة علی جواز الفعل مثلا و کان الواقع هو الوجوب أو الحرمة فإن الإذن باتباع الأمارة فی هذا الفرض یکون إذنا بترک الواجب أو فعل الحرام مع أن الفعل لا یزال باقیا علی وجوبه الواقعی أو حرمته الواقعیة مع تمکن المکلف من الوصول إلی معرفة الواقع حسب الفرض و لا شک فی قبح ذلک من الحکیم .و هذه الشبهة هی التی ألجأت بعض الأصولیین إلی القول بأن الأمارة مجعولة علی نحو السببیة إذ عجزوا عن تصحیح جعل الأمارة علی نحو الطریقیة التی هی الأصل فی الأمارة علی ما سیأتی من شرح ذلک قریبا .و الحق معهم إذا نحن عجزنا عن تصحیح جعل الأمارة علی نحو الطریقیة لأن المفروض أن الأمارة قد ثبتت حجیتها قطعا فلا بد أن یفرض حینئذ فی قیام الأمارة أو فی اتباعها مصلحة یتدارک بها ما یفوت من مصلحة الواقع علی تقدیر خطئها حتی لا یکون إذن الشارع بتفویت الواقع قبیحا ما دام أن تفویته له یکون لمصلحة أقوی و أجدی أو مساویة لمصلحة الواقع فینشأ علی طبق مؤدی الأمارة حکم ظاهری بعنوان أنه الواقع إما أن یکون مماثلا للواقع عند الإصابة أو مخالفا له عند الخطإ .و نحن بحمد الله تعالی نری أن الشبهة یمکن دفعها علی تقدیر الطریقیة فلا حاجة إلی فرض السببیة .و الوجه فی دفع الشبهة أنه بعد أن فرضنا أن القطع قام علی أن الأمارة الکذائیة کخبر الواحد حجة یجوز اتباعها مع التمکن من تحصیل العلم فلا بد أن یکون الإذن من الشارع العالم بالحقائق الواقعیة لأمر علم به و غاب عنا علمه و لا یخرج هذا الأمر عن أحد شیئین لا ثالث لهما و کل منهما جائز عقلا لا مانع منه .

ص :37

1 أن یکون قد علم بأن إصابة الأمارة للواقع مساویة لإصابة العلوم التی تتفق للمکلفین أو أکثر منها بمعنی أن العلوم التی یتمکن المکلفون من تحصیلها یعلم الشارع بأن خطأها سیکون مساویا لخطإ الأمارة المجعولة أو أکثر خطأ منها .2 أن یکون قد علم بأن فی عدم جعل أمارات خاصة لتحصیل الأحکام و الاقتصار علی العلم تضییقا علی المکلفین و مشقة علیهم لا سیما بعد أن کانت تلک الأمارات قد اعتادوا سلوکها و الأخذ بها فی شئونهم الخاصة و أمورهم الدنیویة و بناء العقلاء کلهم کان علیها .و هذا الاحتمال الثانی قریب إلی التصدیق جدا فإنه لا نشک فی أن تکلیف کل واحد من الناس بالرجوع إلی المعصوم أو الأخبار المتواترة فی تحصیل جمیع الأحکام أمر فیه ما لا یوصف من الضیق و المشقة لا سیما أن ذلک علی خلاف ما جرت علیه طریقتهم فی معرفة ما یتعلق بشئونهم الدنیویة .و علیه فمن القریب جدا أن الشارع إنما رخص فی اتباع الأمارات الخاصة فلغرض تسهیل الأخذ بأحکامه و الوصول إلیها و مصلحة التسهیل من المصالح النوعیة المتقدمة فی نظر الشارع علی المصالح الشخصیة التی قد تفوت أحیانا علی بعض المکلفین عند العمل بالأمارة لو أخطأت و هذا أمر معلوم من طریقة الشریعة الإسلامیة التی بنیت فی تشریعها علی التیسیر و التسهیل .و علی التقدیرین و الاحتمالین فإن الشارع فی إذنه باتباع الأمارة طریقا إلی الوصول إلی الواقع من أحکامه لا بد أن یفرض فیه أنه قد تسامح فی التکالیف الواقعیة عند الخطإ الأمارة أی أن الأمارة تکون معذرة للمکلف فلا یستحق العقاب فی مخالفة الحکم کما لا یستحق ذلک عند المخالفة فی خطإ القطع لا أنه بقیام الأمارة یحدث حکم آخر ثانوی بل شأنها فی هذه

ص :38

الجهة شأن القطع بلا فرق .و لذا أن الشارع فی الموارد التی یرید فیها المحافظة علی تحصیل الواقع علی کل حال أمر باتباع الاحتیاط و لم یکتف بالظنون فیها و ذلک کموارد الدماء و الفروج

13 الأمارة طریق أو سبب

قد أشرنا فی البحث السابق إلی مذهبی السببیة و الطریقیة فی الأمارة و قد عقدنا هذا البحث لبیان هذا الخلاف .فإن ذلک من الأمور التی وقعت أخیرا موضع البحث و الرد و البدل عند الأصولیین فاختلفوا فی أن الأمارة هل هی حجة مجعولة علی نحو الطریقیة أو أنها حجة مجعولة علی نحو السببیة أی أنها طریق أو سبب .و المقصود من کونها طریقا أنها مجعولة لتکون موصلة فقط إلی الواقع للکشف عنه فإن أصابته فإنه یکون منجزا بها و هی منجزة له و إن أخطأته فإنها حینئذ تکون صرف معذر للمکلف فی مخالفة الواقع .و المقصود من کونها سببا أنها تکون سببا لحدوث مصلحة فی مؤداها تقاوم تفویت مصلحة الأحکام الواقعیة علی تقدیر الخطإ فینشئ الشارع حکما ظاهریا علی طبق ما أدت إلیه الأمارة .و الحق أنها مأخوذة علی نحو الطریقیة .و السر فی ذلک واضح بعد ما تقدم فإن القول بالسببیة کما قلنا مترتب علی القول بالطریقیة یعنی أن منشأ قول من قال بالسببیة هو العجز عن تصحیح جعل الطرق علی نحو الطریقیة فیلتجئ إلی فرض السببیة .أما إذا أمکن تصحیح الطریقیة فلا یبقی دلیل علی السببیة و یتعین کون

ص :39

الأمارة طریقا محضا لأن الطریقیة هی الأصل فیها .و معنی أن الطریقیة هی الأصل أن طبع الأمارة لو خلیت و نفسها یقتضی أن تکون طریقا محضا إلی مؤداها لأن لسانها التعبیر عن الواقع و الحکایة و الکشف عنه علی أن العقلاء إنما یعتبرونها و یستقر بناؤهم علیها فلأجل کشفها عن الواقع و لا معنی لأن یفرض فی بناء العقلاء أنه علی نحو السببیة و بناء العقلاء هو الأساس الأول فی حجیة الأمارة کما سیأتی .نعم إذا منع مانع عقلی من فرض الأمارة طریقا من جهة الشبهة المتقدمة أو نحوها فلا بد أن تخرج علی خلاف طبعها و نلتجئ إلی فرض السببیة .و لما کنا دفعنا الشبهة فی جعلها علی نحو الطریقیة فلا تصل النوبة إلی التماس دلیل علی سببیتها أو طریقیتها إذ لا موضع للتردید و الاحتمال لنحتاج إلی الدلیل .هذا و قد یلتمس الدلیل علی السببیة من نفس دلیل حجیة الأمارة بأن یقال إن دلیل الحجیة لا شک یدل علی وجوب اتباع الأمارة و لما کانت الأحکام تابعة لمصالح و مفاسد فی متعلقاتها فلا بد أن یکون فی اتباع الأمارة مصلحة تقتضی وجوب اتباعها و إن کانت علی خطإ فی الواقع و هذه هی السببیة بعینها .أقول و الجواب عن ذلک واضح فإنا نسلم أن الأحکام تابعة للمصالح و المفاسد و لکن لا یلزم فی المقام أن یکون فی نفس اتباع الأمارة مصلحة بل یکفی أن ینبعث الوجوب من نفس مصلحة الواقع فیکون جعل وجوب اتباع الأمارة لغرض تحصیل مصلحة الواقع بل یجب أن یکون الحال فیها کذلک لأنه لا شک أن الغرض من جعل الأمارة هی الوصول بها إلی الواقع فالمحافظة علی الواقع و الوصول إلیه هو الباعث علی جعل الأمارة لغرض تنجیزه و تحصیله فیکون الأمر باتباع الأمارة طریقا إلی تحصیل

ص :40

الواقع .و لذا نقول إذا لم تصب الواقع لا تکلیف هناک و لا تدارک لما فات من الواقع و ما هی إلا المعذریة فی مخالفته و رفع العقاب علی المخالفة لا أکثر و هذه المعذریة تقتضیها نفس الرخصة فی اتباع الأمارة التی قد تخطئ .و علی هذا فلیس لهذا الأمر الطریقی المتعلق باتباع الأمارة بما هو أمر طریقی مخالفة و لا موافقة لأنه فی الحقیقة لیس فیه جعل للداعی إلی الفعل الذی هو مؤدی الأمارة مستقلا عن الأمر الواقعی و إنما هو جعل للأمارة منجزة للأمر الواقعی فهو موجب لدعوة الأمر الواقعی فلا بعث حقیقی فی مقابل البعث الواقعی فلا تکون له مصلحة إلا مصلحة الواقع و لا طاعة غیر طاعة الواقع إذ لا بعث فیه إلا بعث الواقع

14 المصلحة السلوکیة

(ذهب الشیخ الأنصاری قدس سره إلی فرض المصلحة السلوکیة فی الأمارات لتصحیح جعلها کما تقدمت الإشارة إلی ذلک فی مبحث الإجزاء الجزء الثانی ص 252 و حمل علیه کلام الشیخ الطوسی فی العدة و العلامة فی النهایة) .و إنما ذهب إلی هذا الفرض لأنه لم یتم عنده تصحیح جعل الأمارة علی نحو الطریقیة المحضة و وجد أیضا أن القول بالسببیة المحضة یستلزم القول بالتصویب المجمع علی بطلانه عند الإمامیة فسلک طریقا وسطا لا یذهب به إلی الطریقیة المحضة و لا إلی السببیة المحضة و هو أن یفرض المصلحة فی نفس سلوک الأمارة و تطبیق العمل علی ما أدت إلیه و بهذه المصلحة یتدارک ما یفوت من مصلحة الواقع عند الخطإ فتکون الأمارة من ناحیة

ص :41

لها شأن الطریقیة إلی الواقع و من ناحیة أخری لها شأن السببیة .و غرضه من فرض المصلحة السلوکیة أن نفس سلوک طریق الأمارة و الاستناد إلیها فی العمل بمؤداها فیه مصلحة تعود لشخص المکلف یتدارک بها ما یفوته من مصلحة الواقع عند الخطإ من دون أن یحدث فی نفس المؤدی أی فی ذات الفعل و العمل مصلحة حتی تستلزم إنشاء حکم آخر غیر الحکم الواقعی علی طبق ما أدت إلیه الأمارة الذی هو نوع من التصویب (1).(قال رحمه الله فی رسائله فیما قال و معنی وجوب العمل علی طبق الأمارة وجوب ترتیب أحکام الواقع علی مؤداها من دون أن تحدث فی الفعل مصلحة علی تقدیر مخالفة الواقع) .و لا ینبغی أن یتوهم أن القول بالمصلحة السلوکیة هی نفس ما ذکرناه فی أحد وجهی تصحیح الطریقیة من فرض مصلحة التسهیل لأن الغرض من القول بالمصلحة السلوکیة أن تحدث مصلحة فی سلوک الأمارة تعود تلک المصلحة لشخص المکلف لتدارک ما یفوته من مصلحة الواقع بینما أن

ص :42


1- ان التصویب الباطل علی ما بینه الشیخ علی نحوین: (الاول) ما ینسب إلی الاشاعرة وهو أن یفرض أن لا حکم ثابتا فی نفسه یشترک فیه العالم والجاهل، بل الشارع ینشئ أحکامه علی طبق ما تؤدی إلیه آراء المجتهدین. (الثانی) ما ینسب إلی المعتزلة وهو أن تکون هناک أحکام واقعیة ثابتة فی نفسها یشترک فیها العالم والجاهل. ولکن لرأی المجتهد أثرا فی تبدل عنوان موضوع الحکم أو متعلقه، فتحدث علی وفق ما أدی إلیه رأیه

غرضنا من مصلحة التسهیل مصلحة نوعیة قد لا تعود لشخص من قامت عنده الأمارة و تلک المصلحة النوعیة مقدمة فی مقام المزاحمة عند الشارع علی مصلحة الواقع التی قد تفوت علی شخص المکلف .و إذا اتضح الفرق بینهما نقول إن القول بالمصلحة السلوکیة و فرضها یأتی بالمرتبة الثانیة للقول بمصلحة التسهیل یعنی أنه إذا لم تثبت عندنا مصلحة التسهیل أو قلنا بعدم تقدیم المصلحة النوعیة علی المصلحة الشخصیة و لم یصح عندنا أیضا احتمال مساواة خطإ الأمارات للعلوم فإنا نلتجئ إلی ما سلکه الشیخ من المصلحة السلوکیة إذا استطعنا تصحیحها فرارا من الوقوع فی التصویب الباطل .و أما نحن فإذ ثبت عندنا أن هناک مصلحة التسهیل فی جعل الأمارة تفوق المصالح الشخصیة و مقدمة علیها عند الشارع أصبحنا فی غنی عن فرض المصلحة السلوکیة .علی أن المصلحة السلوکیة إلی الآن لم نتحقق مراد الشیخ منها و لم نجد الوجه لتصحیحها فی نفسها فإن فی عبارته شیئا من الاضطراب و الإیهام و کفی أن یقع فی بعض النسخ زیادة کلمة الأمر علی قوله إلا أن العمل علی طبق تلک الأمارة فتصیر العبارة هکذا إلا أن الأمر بالعمل فلا یدری مقصوده هل إنه فی نفس العمل مصلحة سلوکیة أو فی الأمر به .و قیل إن هذا التصحیح وقع من بعض تلامذته إذ أوکل إلیه أمر تصحیح العبارة بعد مناقشات تلامیذه لها فی مجلس البحث .و علی کل حال فإن الظاهر أن الفارق عنده بین السببیة المحضة و بین المصلحة السلوکیة بمقتضی عبارته قبل التصحیح المذکور أن المصلحة علی الأول تکون قائمة بذات الفعل و علی الثانی قائمة بعنوان آخر هو السلوک فلا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل .

ص :43

و لکننا لم نتعقل هذا الفارق المذکور لأنه إنما یتم إذا استطعنا أن نتعقل لعنوان السلوک عنوانا مستقلا فی وجوده عن ذات الفعل لا ینطبق علیه و لا یتحد معه حتی لا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل و تصویر هذا فی غایة الإشکال و لعل هذا هو السر فی مناقشة تلامیذه له فحمل بعضهم علی إضافة کلمة الأمر لیجعل المصلحة تعود إلی نفس الأمر لا إلی متعلقه فلا یقع التزاحم بین المصلحتین .وجه الإشکال أولا أننا لا نفهم من عنوان السلوک و الاستناد إلی الأمارة إلا عنوانا للفعل الذی تؤدی إلیه الأمارة بأی معنی فسرنا السلوک و الاستناد إذ لیس للسلوک و متابعة الأمارة وجود آخر مستقل غیر نفس وجود الفعل المستند إلی الأمارة .نعم إذا أردنا من الاستناد إلی الأمارة معنی آخر و هو الفعل القصدی من النفس فإن له وجودا آخر غیر وجود الفعل لأنه فعل قلبی جوانحی لا وجود له إلا وجودا قصدیا و لکنه من البعید جدا أن یکون ذلک غرض الشیخ من السلوک لأن هذا الفعل القلبی أنما یصح أن یفرض وجوبه ففی خصوص الأمور العبادیة و لا معنی للالتزام بوجوب القصد فی جمیع أفعال الإنسان المستند فعلها إلی الأمارة .ثانیا علی تقدیر تسلیم اختلافهما وجودا فإن قیام المصلحة بشیء أنما یدعو إلی تعلق الأمر به لا بشیء آخر غیره وجودا و إن کانا متلازمین فی الوجود فمهما فرضنا من معنی للسلوک و إن کان بمعنی الفعل القلبی فإنه إذا کانت المصلحة المقتضیة للأمر قائمة به فکیف یصح توجیه الأمر إلی ذات الفعل و المفروض أن له وجودا آخر لم تقم به المصلحة .و أما إضافة کلمة الأمر علی عبارة الشیخ فهی بعیدة جدا عن مراده و عباراته الأخری

ص :44

15 الحجیة أمر اعتباری أو انتزاعی

من الأمور التی وقعت موضع البحث أیضا عند المتأخرین مسألة أن الحجیة هل هی من الأمور الاعتباریة المجعولة بنفسها و ذاتها أو أنها من الانتزاعیات التی تنتزع من المجعولات .و هذا النزاع فی الحجیة فرع فی الحقیقة عن النزاع فی أصل الأحکام الوضعیة و هذا النزاع فی خصوص الحجیة علی الأقل لم أجد له ثمرة عملیة فی الأصول .علی أن هذا النزاع فی أصله غیر محقق و لا مفهوم لأن لکلمتی الاعتباریة و الانتزاعیة مصطلحات کثیرة فی بعضها تکون الکلمتان متقابلتین و فی البعض الآخر متداخلتین و تفصیل ذلک یخرجنا عن وضع الرسالة .و نکتفی أن نقول علی سبیل الاختصار إن الذی یظهر من أکثر کلمات المتنازعین فی المسألة أن المراد من الأمر الانتزاعی هو المجعول ثانیا و بالعرض فی مقابل المجعول أولا و بالذات بمعنی أن الإیجاد و الجعل الاعتباری ینسب أولا و بالذات إلی شیء هو المجعول حقیقة ثم ینسب الجعل ثانیا و بالعرض إلی شیء آخر فالمجعول الأول هو الأمر الاعتباری و الثانی هو الأمر الانتزاعی .فیکون هناک جعل واحد ینسب إلی الأول بالذات و إلی الثانی بالعرض لا أنه هناک جعلان و اعتباران ینسب أحدهما إلی شیء ابتداء و ینسب ثانیهما إلی آخر بتبع الأول فإن هذا لیس مراد المتنازعین قطعا .فیقال فی الملکیة مثلا التی هی من جملة موارد النزاع أن المجعول أولا و بالذات هو إباحة تصرف الشخص بالشیء المملوک فینتزع منها أنه

ص :45

مالک أی أن الجعل ینسب ثانیا و بالعرض إلی الملکیة فالملکیة یقال لها إنها مجعولة بالعرض و یقال لها إنها منتزعة من الإباحة هذا إذا قیل إن الملکیة انتزاعیة أما إذا قیل إنها اعتباریة فتکون عندهم هی المجعولة أولا و بالذات للشارع أو العرف .و علی هذا فإذا أرید من الانتزاعی هذا المعنی فالحق أن الحجیة أمر اعتباری و کذلک الملکیة و الزوجیة و نحوها من الأحکام الوضعیة .و شأنها فی ذلک شأن الأحکام التکلیفیة المسلم فیها أنها من الاعتباریات الشرعیة .توضیح ذلک أن حقیقة الجعل هو الإیجاد و الإیجاد علی نحوین 1 ما یراد منه إیجاد الشیء حقیقة فی الخارج و یسمی الجعل التکوینی أو الخلق .2 ما یراد منه إیجاد الشیء اعتبارا و تنزیلا و ذلک بتنزیله منزلة الشیء الخارجی الواقعی من جهة ترتیب أثر من آثاره أو لخصوصیة فیه من خصوصیات الأمر الواقعی و یسمی الجعل الاعتباری أو التنزیلی .و لیس له واقع إلا الاعتبار و التنزیل و إن کان نفس الاعتبار أمرا واقعیا حقیقیا لا اعتباریا .مثلا حینما یقال زید أسد فإن الأسد مطابقة الحقیقی هو الحیوان المفترس المخصوص و هو طبعا مجعول و مخلوق بالجعل و الخلق التکوینی و لکن العرف یعتبرون الشجاع أسدا فزید أسد اعتبارا و تنزیلا من قبل العرف من جهة ما فیه من خصوصیة الشجاعة کالأسد الحقیقی .و من هذا المثال یظهر کیف أن الأحکام التکلیفیة اعتبارات شرعیة لأن الأمر حینما یرید من شخص أن یفعل فعلا ما فبدلا أن یدفعه بیده مثلا لیحرکه نحو العمل ینشئ الأمر بداعی جعل الداعی فی دخیلة نفس المأمور فیکون

ص :46

هذا الإنشاء للأمر دفعا و تحریکا اعتباریا تنزیلا له منزلة الدفع الخارجی بالید مثلا و کذلک النهی زجر اعتباری تنزیلا له منزلة الردع و الزجر الخارجی بالید مثلا .و کذلک یقال فی حجیة الأمارة المجعولة فإن القطع لما کان موصلا إلی الواقع حقیقة و طریقا بنفسه إلیه فالشارع یعتبر الأمارة الظنیة طریقا إلی الواقع تنزیلا لها منزلة القطع بالواقع بإلغاء احتمال الخلاف فتکون الأمارة قطعا اعتباریا و طریقا تنزیلیا .و متی صح و أمکن أن تکون الحجیة هی المعتبرة أولا و بالذات فما الذی یدعو إلی فرضها مجعولة ثانیا و بالعرض حتی تکون أمرا انتزاعیا إلا أن یریدوا من الانتزاعی معنی آخر و هو ما یستفاد من دلیل الحکم علی نحو الدلالة الالتزامیة کأن تستفاد الحجیة للأمارة من الأمر باتباعها مثل ما لو قال الإمام علیه السلام صدق العادل الذی یدل بالدلالة الالتزامیة علی حجیة خبر العادل و اعتباره عند الشارع .و هذا المعنی للانتزاعی صحیح و لا مانع من أن یقال للحجیة إنها أمر انتزاعی بهذا المعنی و لکنه بعید عن مرامهم لأن هذا المعنی من الانتزاعیة لا یقابل الاعتباریة بالمعنی الذی شرحناه .و علی کل حال فدعوی انتزاعیة الحجیة بأی معنی للانتزاعی لا موجب لها لا سیما أنه لم یتفق ورود أمر من الشارع باتباع أمارة من الأمارات فی جمیع ما بأیدینا من الآیات و الروایات حتی یفرض أن الحجیة منتزعة من ذلک الأمر .هذا کل ما أردنا بیانه من المقدمات قبل الدخول فی المقصود و الآن نشرع فی البحث عن المقصود و هو تشخیص الأدلة التی هی حجة علی الأحکام الشرعیة من قبل الشارع المقدس و نضعها فی أبواب

ص :47

ص :48

الباب الأول الکتاب العزیز

اشارة

ص :49

ص :50

تمهید

إن القرآن الکریم هو المعجزة الخالدة لنبینا محمد صلی اللّٰه علیه و آله و الموجود بأیدی الناس بین الدفتین هو الکتاب المنزل إلی الرسول بالحق لا ریب فیه هدی و رحمة وَ مٰا کٰانَ هٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ یُفْتَریٰ مِنْ دُونِ اللّٰهِ .فهو إذن الحجة القاطعة بیننا و بینه تعالی التی لا شک و لا ریب فیها و هو المصدر الأول لأحکام الشریعة الإسلامیة بما تضمنته آیاته من بیان ما شرعه الله للبشر و أما ما سواه من سنة أو إجماع أو عقل فإلیه ینتهی و من منبعه یستقی .و لکن الذی یجب أن یعلم أنه قطعی الحجة من ناحیة الصدور فقط لتواتره عند المسلمین جیلا بعد جیل و أما من ناحیة الدلالة فلیس قطعیا کله لأن فیه متشابها و محکما .ثم المحکم منه ما هو نص أی قطعی الدلالة .و منه ما هو ظاهر تتوقف حجیته علی القول بحجیة الظواهر .و من الناس من لم یقل بحجیة ظاهرة خاصة و إن کانت الظواهر حجة .ثم إن فیه ناسخا و منسوخا عاما و خاصا و مطلقا و مقیدا و مجملا و مبینا و کل ذلک لا یجعله قطعی الدلالة فی کثیر من آیاته .و من أجل ذلک وجب البحث عن هذه النواحی لتکمیل حجیته و أهم ما یجب البحث عنه من ناحیة أصولیة فی أمور ثلاثة 1 فی حجیة ظواهره و هذا بحث ینبغی أن یلحق بمباحث الظواهر الآتیة فلنرجئه إلی هناک .2 فی جواز تخصیصه و تقییده بحجة أخری کخبر الواحد و نحوه

ص :51

و قد تقدم البحث عنه فی الجزء الأول ص 162 .3 فی جواز نسخه و البحث عن ذلک لیس فیه کثیر فائدة فی الفقه کما ستعرف و مع ذلک ینبغی ألا یخلو کتابنا من الإشارة إلیه بالاختصار فنقول

نسخ الکتاب العزیز
حقیقة النسخ

(النسخ اصطلاحا رفع ما هو ثابت فی الشریعة من الأحکام و نحوها)و المراد من الثبوت فی الشریعة الثبوت الواقعی الحقیقی فی مقابل الثبوت الظاهری بسبب الظهور اللفظی و لذلک فرفع الحکم الثابت بظهور العموم أو الإطلاق بالدلیل المخصص أو المقید لا یسمی نسخا بل یقال له تخصیص أو تقیید أو نحوهما باعتبار أن هذا الدلیل الثانی المقدم علی ظهور الدلیل الأول یکون قرینة علیه و کاشفا عن المراد الواقعی للشارع فلا یکون رافعا للحکم إلا ظاهرا و لا رفع فیه للحکم حقیقة بخلاف النسخ .و من هنا یظهر الفرق الحقیقی بین النسخ و بین التخصیص و التقیید .و سیأتی مزید إیضاح لهذه الناحیة فی جواب الاعتراضات علی النسخ .و قولنا من الأحکام و نحوها فلبیان تعمیم النسخ للأحکام التکلیفیة و الوضعیة و لکل أمر بید الشارع رفعه و وضعه بالجعل التشریعی بما هو شارع .و علیه فلا یشمل النسخ الاصطلاحی المجعولات التکوینیة التی بیده رفعها و وضعها بما هو خالق الکائنات .

ص :52

و بهذا التعبیر یشمل النسخ نسخ تلاوة القرآن الکریم علی القول به باعتبار أن القرآن من المجعولات الشرعیة التی ینشئها الشارع بما هو شارع و إن کان لنا کلام فی دعوی نسخ التلاوة من القرآن لیس هذا موضع تفصیله و لکن بالاختصار نقول إن نسخ التلاوة فی الحقیقة یرجع إلی القول بالتحریف لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدلیل القطعی سواء کان نسخا لأصل التلاوة أو نسخا لها و لما تضمنته من حکم معا و إن کان فی القرآن الکریم ما یشعر بوقوع نسخ التلاوة کقوله تعالی وَ إِذٰا بَدَّلْنٰا آیَةً مَکٰانَ آیَةٍ وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا یُنَزِّلُ قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مُفْتَرٍ و قوله تعالی مٰا نَنْسَخْ مِنْ آیَةٍ أَوْ نُنْسِهٰا نَأْتِ بِخَیْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا و لکن لیستا صریحتین بوقوع ذلک و لا ظاهرتین و إنما أکثر ما تدل الآیتان علی إمکان وقوعه

إمکان نسخ القرآن

قد وقعت عند بعض الناس شبهات فی إمکان أصل النسخ ثم فی إمکان نسخ القرآن خاصة و تنویرا للأذهان نشیر إلی أهم الشبه و دفعها فنقول أ قیل إن المرفوع فی النسخ إما حکم ثابت أو ما لا ثبات له و الثابت یستحیل رفعه و ما لا ثبات له لا حاجة إلی رفعه و علی هذا فلا بد أن یئول النسخ بمعنی رفع مثل الحکم لا رفع عینه أو بمعنی انتهاء أمد الحکم .و الجواب أنا نختار الشق الأول و هو أن المرفوع ما هو ثابت و لکن لیس معنی رفع الثابت رفعه بما هو علیه من حالة الثبوت و حین فرض ثبوته حتی یکون ذلک مستحیلا بل هو من باب إعدام الموجود و لیس إعدام الموجود بمستحیل .

ص :53

و الأحکام لما کانت مجعولة علی نحو القضایا الحقیقیة فإن قوام الحکم یکون بفرض الموضوع موجودا و لا یتوقف علی ثبوته خارجا تحقیقا فإذا أنشئ الحکم کذلک فهو ثابت فی عالم التشریع و الاعتبار بثبوت الموضوع فرضا و لا یرتفع إلا برفعه تشریعا و هذا هو معنی رفع الحکم الثابت و هو النسخ .2 و قیل إن ما أثبته الله من الأحکام لا بد أن یکون لمصلحة أو مفسدة فی متعلق الحکم و ما له مصلحة فی ذاته لا ینقلب فیکون ذا مفسدة و کذلک العکس و إلا لزم انقلاب الحسن قبیحا و القبیح حسنا و هو محال .و حینئذ یستحیل النسخ لأنه یلزم منه هذا الانقلاب المستحیل أو عدم حکمه الناسخ أو جهله بوجه الحکمة و الأخیران مستحیلان بالنسبة إلی الشارع المقدس .و الجواب واضح بعد معرفة ما ذکرناه فی الجزء الثانی فی المباحث العقلیة من معانی الحسن و القبیح فإن المستحیل انقلاب الحسن و القبیح الذاتیین و لا معنی لقیاسهما علی المصالح و المفاسد التی تتبدل و تتغیر بحسب اختلاف الأحوال و الأزمان و لا یبعد فی أن یکون الشیء ذا مصلحة فی زمان ذا مفسدة فی زمان آخر و إن کان لا یعلم ذلک إلا من قبل الشارع العالم المحیط بحقائق الأشیاء و هذا غیر معنی الحسن و القبح اللذین نقول فیهما إنه یستحیل فیهما الانقلاب .مضافا إلی أن الأشیاء تختلف فیها وجوه الحسن و القبح باختلاف الأحوال مما لم یکن الحسن و القبح فیه ذاتیین کما تقدم هناک .و إذا کان الأمر کذلک فمن الجائز أن یکون الحکم المنسوخ کان ذا مصلحة ثم زالت فی الزمان الثانی فنسخ أو کان ینطبق علیه عنوان حسن ثم زال عنه العنوان فی الزمان الثانی فنسخ .

ص :54

فهذه هی الحکمة فی النسخ .3 و قیل إذا کان النسخ کما قلتم لأجل انتهاء أمد المصلحة فینتهی أمد الحکم بانتهائها فإنه و الحال هذه إما أن یکون الشارع الناسخ قد علم بانتهاء أمد المصلحة من أول الأمر و إما أن یکون جاهلا به .لا مجال للثانی لأن ذلک مستحیل فی حقه تعالی و هو البداء الباطل المستحیل فیتعین الأول و علیه فیکون الحکم فی الواقع موقتا و إن أنشأه الناسخ مطلقا فی الظاهر و یکون الدلیل علی النسخ فی الحقیقة مبینا و کاشفا عن مراد الناسخ .و هذا هو معنی التخصیص غایة الأمر یکون تخصیصا بحسب الأوقات لا الأحوال فلا یکون فرق بین النسخ و التخصیص إلا بالتسمیة .و الجواب نحن نسلم أن الحکم المنسوخ ینتهی أمده فی الواقع و الله عالم بانتهائه و لکن لیس معنی ذلک أنه موقت أی مقید إنشاء بالوقت بل هو قد أنشئ علی طبق المصلحة مطلقا علی نحو القضایا الحقیقیة فهو ثابت ما دامت المصلحة کسائر الأحکام المنشأة علی طبق مصالحها فلو قدر للمصلحة أن تستمر لبقی الحکم مستمرا غیر أن الشارع لما علم بانتهاء أمد المصلحة رفع الحکم و نسخه .و هذا نظیر أن یخلق الله الشیء ثم یرفعه بإعدامه و لیس معنی ذلک أن یخلقه موقتا علی وجه یکون التوقیت قیدا للخلق و المخلوق بما هو مخلوق و إن علم به من الأول أن أمده ینتهی .و من هنا یظهر الفرق جلیا بین النسخ و التخصیص فإنه فی التخصیص یکون الحکم من أول الأمر أنشئ مقیدا و مخصصا و لکن اللفظ کان عاما بحسب الظاهر فیأتی الدلیل المخصص فیکون کاشفا عن المراد لا أنه

ص :55

مزیل و رافع لما هو ثابت فی الواقع و أما فی النسخ فإنه لما أنشئ الحکم مطلقا فمقتضاه أن یدوم لو لم یرفعه النسخ فالنسخ یکون محوا لما هو ثابت یَمْحُوا اللّٰهُ مٰا یَشٰاءُ وَ یُثْبِتُ لا أن الدوام و الاستمرار مدلول لظاهر الدلیل بحسب إطلاقه و عمومه و المنشأ فی الواقع الحکم الموقت ثم یأتی الدلیل الناسخ فیکشف عن المراد من الدلیل الأول و یفسره بل الدوام من اقتضاء نفس ثبوت الحکم من دون أن یکون لفظ دلیل الحکم دالا علیه بعموم أو إطلاق .یعنی أن الحکم المنشأ لو خلی و طبعه مع قطع النظر عن دلالة دلیله لدام و استمر ما لم یأت ما یزیله و یرفعه کسائر الموجودات التی تقتضی بطبیعتها الاستمرار و الدوام .4 و قیل إن کلام الله تعالی قدیم و القدیم لا یتصور رفعه و الجواب بعد تسلیم هذا الفرض و هو قدم کلام الله (1)فإن هذا یختص بنسخ التلاوة فلا یکون دلیلا علی بطلان أصل النسخ مع أنه قد تقدم من نص القرآن الکریم ما یدل علی إمکان نسخ التلاوة و إن لم یکن صریحا فی وقوعه کقوله تعالی وَ إِذٰا بَدَّلْنٰا آیَةً مَکٰانَ آیَةٍ فهو إما أن یدل علی أن کلامه تعالی غیر قدیم أو أن القدیم یمکن رفعه .مضافا إلی أنه لیس معنی نسخ التلاوة رفع أصل الکلام بل رفع تبلیغه و قطع علاقة المکلفین بتلاوته

ص :56


1- ان قدم الکلام فی الله یرتبط بمسألة الکلام النفسی وأن من صفات الله تعالی
وقوع نسخ القرآن و أصالة عدم النسخ

هذا هو الأمر الذی یهمنا إثباته من ناحیة أصولیة و لا شک فی أنه قد أجمع علماء الأمة الإسلامیة علی أنه لا یصح الحکم بنسخ آیة من القرآن إلا بدلیل قطعی سواء کان النسخ بقرآن أیضا أو بسنة أو بإجماع .کما أنه مما أجمع علیه العلماء أیضا أن فی القرآن الکریم ناسخا و منسوخا و کل هذا قطعی لا شک فیه .و لکن الذی هو موضع البحث و النظر تشخیص موارد الناسخ و المنسوخ فی القرآن و إذا لم یحصل القطع بالنسخ بطل موضع الاستدلال علیه بالأدلة الظنیة للإجماع المتقدم .و أما ما ثبت فیه النسخ منه علی سبیل الجزم فهو موارد قلیلة جدا لا تهمنا کثیرا من ناحیة فقهیة استدلالیة لمکان القطع فیها .و علی هذا فالقاعدة الأصولیة التی ننتفع بها و نستخلصها هنا هی أن الناسخ إن کان قطعیا أخذنا به و اتبعناه و إن کان ظنیا فلا حجة فیه و لا یصح الأخذ به لما تقدم من الإجماع علی عدم جواز الحکم بالنسخ إلا بدلیل قطعی .و لذا أجمع الفقهاء من جمیع طوائف المسلمین علی أن الأصل عدم النسخ عند الشک فی النسخ و إجماعهم هذا لیس من جهة ذهابهم إلی حجیة الاستصحاب کما ربما یتوهمه بعضهم بل حتی من لا یذهب إلی حجیة الاستصحاب یقول بأصالة عدم النسخ و ما ذلک إلا من جهة هذا الإجماع علی اشتراط العلم فی ثبوت النسخ

ص :57

ص :58

الباب الثانی السنة

اشارة

ص :59

ص :60

تمهید

(السنة فی اصطلاح الفقهاء قول النبی أو فعله أو تقریره)و منشأ هذا الاصطلاح أمر النبی صلی اللّٰه علیه و آله باتباع سنته فغلبت کلمة السنة حینما تطلق مجردة عن نسبتها إلی أحد علی خصوص ما یتضمن بیان حکم من الأحکام من النبی صلی اللّٰه علیه و آله سواء کان ذلک بقول أو فعل أو تقریر علی ما سیأتی من ذکر مدی ما یدل الفعل و التقریر علی بیان الأحکام .أما فقهاء الإمامیة بالخصوص فلما ثبت لدیهم أن المعصوم من آل البیت یجری قوله مجری قول النبی من کونه حجة علی العباد واجب الاتباع فقد توسعوا فی اصطلاح السنة إلی ما یشمل قول کل واحد من المعصومین أو فعله أو تقریره(فکانت السنة باصطلاحهم قول المعصوم أو فعله أو تقریره) .و السر فی ذلک أن الأئمة من آل البیت علیهم السلام لیسوا هم من قبیل الرواة عن النبی و المحدثین عنه لیکون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات فی الروایة بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالی علی لسان النبی لتبلیغ الأحکام الواقعة فلا یحکمون إلا عن الأحکام الواقعیة عند الله تعالی کما هی و ذلک من طریق الإلهام کالنبی من طریق الوحی أو من طریق التلقی من المعصوم قبله (کما قال مولانا أمیر المؤمنین علیه السلام:علمنی رسول الله صلی اللّٰه علیه و آله ألف باب من العلم ینفتح لی من کل باب ألف باب) .و علیه فلیس بیانهم للأحکام من نوع روایة السنة و حکایتها و لا من نوع الاجتهاد فی الرأی و الاستنباط من مصادر التشریع بل هم أنفسهم مصدر للتشریع فقولهم سنة لا حکایة السنة و أما ما یجیء علی لسانهم

ص :61

أحیانا من روایات و أحادیث عن نفس النبی صلی اللّٰه علیه و آله فهی إما لأجل نقل النص عنه کما یتفق فی نقلهم لجوامع کلمة و إما لأجل إقامة الحجة علی الغیر و إما لغیر ذلک من الدواعی .و أما إثبات إمامتهم و أن قولهم یجری مجری قول الرسول صلی اللّٰه علیه و آله فهو بحث یتکفل به علم الکلام .و إذا ثبت أن السنة بما لها من المعنی الواسع الذی عندنا هی مصدر من مصادر التشریع الإسلامی فإن حصل علیها الإنسان بنفسه بالسماع من نفس المعصوم و مشاهدته فقد أخذ الحکم الواقعی من مصدره الأصلی علی سبیل الجزم و الیقین من ناحیة السند کالأخذ من القرآن الکریم ثقل الله الأکبر و الأئمة من آل البیت ثقله الأصغر .أما إذا لم یحصل ذلک لطالب الحکم الواقعی کما فی العهود المتأخرة عن عصرهم فإنه لا بد له فی أخذ الأحکام من أن یرجع بعد القرآن الکریم إلی الأحادیث التی تنقل السنة إما من طریق التواتر أو من طریق أخبار الآحاد علی الخلاف الذی سیأتی فی مدی حجیة أخبار الآحاد .و علی هذا فالأحادیث لیست هی السنة بل هی الناقلة لها و الحاکیة عنها و لکن قد تسمی بالسنة توسعا من أجل کونها مثبتة لها .و من أجل هذا یلزمنا البحث عن الأخبار فی باب السنة لأنه یتعلق ذلک بإثباتها و نعقد الفصل فی مباحث أربعة

1 دلالة فعل المعصوم

لا شک فی أن فعل المعصوم بحکم کونه معصوما یدل علی إباحة الفعل علی الأقل کما أن ترکه لفعل یدل علی عدم وجوبه علی الأقل .

ص :62

و لا شک فی أن هذه الدلالة بهذا الحد أمر قطعی لیس موضعا للشبهة بعد ثبوت عصمته .ثم نقول بعد هذا إنه قد یکون لفعل المعصوم من الدلالة ما هو أوسع من ذلک و ذلک فیما إذا صدر منه الفعل محفوفا بالقرینة کأن یحرز أنه فی مقام بیان حکم من الأحکام أو عبادة من العبادات کالوضوء و الصلاة و نحوهما فإنه حینئذ یکون لفعله ظهور فی وجه الفعل من کونه واجبا أو مستحبا أو غیر ذلک حسبما تقتضیه القرینة .و لا شبهه فی أن هذا الظهور حجة کظواهر الألفاظ بمناط واحد و کم استدل الفقهاء علی حکم أفعال الوضوء و الصلاة و الحج و غیرها و کیفیاتها بحکایة فعل النبی أو الإمام فی هذه الأمور .کل هذا لا کلام و لا خلاف لأحد فیه .و إنما وقع الکلام للقوم فی موضعین 1 فی دلالة فعل المعصوم المجرد عن القرائن علی أکثر من إباحة الفعل فقد قال بعضهم إنه یدل بمجرده علی وجوب الفعل بالنسبة إلینا و قیل یدل علی استحبابه و قیل لا دلالة له علی شیء منهما أی أنه لا یدل علی أکثر من إباحة الفعل فی حقنا .و الحق هو الأخیر لعدم ما یصلح أن یجعل له مثل هذه الدلالة .و قد یظن ظان أن قوله تعالی فی سورة الأحزاب 21 لَقَدْ کٰانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کٰانَ یَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْیَوْمَ الْآخِرَ یدل علی وجوب التأسی و الاقتداء ب رسول الله صلی اللّٰه علیه و آله فی أفعاله و وجوب الاقتداء بفعله یلزم منه وجوب کل فعل یفعله فی حقنا و إن کان بالنسبة إلیه لم یکن واجبا إلا ما دل الدلیل الخاص علی عدم وجوبه فی حقنا و قیل إنه إن لم تدل الآیة علی وجوب الاقتداء فعلی الأقل تدل علی حسن الاقتداء

ص :63

به و استحبابه .(و قد أجاب العلامة الحلی عن هذا الوهم فأحسن کما نقل عنه إذ قال إن الأسوة عبارة عن الإتیان بفعل الغیر لأنه فعله علی الوجه الذی فعله فإن کان واجبا تعبدنا بإیقاعه واجبا و إن کان مندوبا تعبدنا بإیقاعه مندوبا و إن کان مباحا تعبدنا باعتقاد إباحته) .و غرضه قدس سره من التعبد باعتقاد إباحته فیما إذا کان مباحا لیس مجرد الاعتقاد حتی یرد علیه کما فی الفصول بأن ذلک أسوة فی الاعتقاد لا الفعل بل یرید کما هو الظاهر من صدر کلامه أن معنی الأسوة فی المباح هو أن نتخیر فی الفعل أو الترک أی لا نلتزم بالفعل و لا بالترک إذ الأسوة فی کل شیء بحسب ما له من الحکم فلا تتحقق الأسوة فی المباح بالنسبة إلی الإتیان بفعل الغیر إلا بالاعتقاد بالإباحة .ثم نزید علی ما ذکره العلامة فنقول إن الآیة الکریمة لا دلالة لها علی أکثر من رجحان الأسوة و حسنها فلا نسلم دلالتها علی وجوب التأسی مضافا إلی أن الآیة نزلت فی واقعة الأحزاب فهی واردة مورد الحث علی التأسی به فی الصبر علی القتال و تحمل مصائب الجهاد فی سبیل الله فلا عموم لها بلزوم التأسی أو حسنه فی کل فعل حتی الأفعال العادیة و لیس معنی هذا أننا نقول بأن المورد یقید المطلق أو یخصص العام بل إنما نقول إنه یکون عقبه فی إتمام مقدمات الحکمة للتمسک بالإطلاق فهو یضر بالإطلاق من دون أن یکون له ظهور فی التقیید کما نبهنا علی ذلک فی أکثر من مناسبة .و الخلاصة أن دعوی دلالة هذه الآیة الکریمة علی وجوب فعل ما یفعله النبی مطلقا أو استحبابه مطلقا بالنسبة إلینا بعیدة کل البعد عن التحقیق .و کذلک دعوی دلالة الآیات الآمرة بإطاعة الرسول أو باتباعه علی وجوب

ص :64

کل ما یفعله فی حقنا فإنها أوهن من أن نذکرها لردها .2 فی حجیة فعل المعصوم بالنسبة إلینا فإنه قد وقع کلام للأصولیین فی أن فعله إذا ظهر وجهه أنه علی نحو الإباحة أو الوجوب أو الاستحباب مثلا هل هو حجة بالنسبة إلینا أی أنه هل یدل علی اشتراکنا معه و تعدیه إلینا فیکون مباحا لنا کما کان مباحا له أو واجبا علینا کما کان واجبا علیه و هکذا .و منشأ الخلاف أن النبی صلی اللّٰه علیه و آله اختص بأحکام لا تتعدی إلی غیره و لا یشترک معه باقی المسلمین مثل وجوب التهجد فی اللیل و جواز العقد علی أکثر من أربع زوجات و کذلک له من الأحکام ما یختص بمنصب الولایة العامة فلا تکون لغیر النبی أو الإمام باعتبار أنه أولی بالمؤمنین من أنفسهم .فإن علم أن الفعل الذی وقع من المعصوم أنه من مختصاته فلا شک فی أنه لا مجال لتوهم تعدیه إلی غیره و إن علم عدم اختصاصه به بأی نحو من أنحاء الاختصاص فلا شک فی أنه یعم جمیع المسلمین فیکون فعله حجة علینا هذا کله لیس موضع الکلام .و إنما موضع الشبهة فی الفعل الذی لم یظهر حاله فی کونه من مختصاته أو لیس من مختصاته و لا قرینة تعین أحدهما فهل هذا بمجرده کاف للحکم بأنه من مختصاته أو للحکم بعمومه للجمیع أو أنه غیر کاف فلا ظهور له أصلا فی کل من النحوین .وجوه بل أقوال و الأقرب هو الوجه الثانی .و الوجه فی ذلک أن النبی بشر مثلنا له ما لنا و علیه ما علینا و هو مکلف من الله تعالی بما کلف به الناس إلا ما قام الدلیل الخاص علی اختصاصه ببعض الأحکام إما من جهة شخصه بذاته و إما من جهة منصب الولایة فما لم یخرجه الدلیل فهو کسائر الناس فی التکلیف هذا مقتضی

ص :65

عموم أدلة اشتراکه معنا فی التکلیف فإذا صدر منه فعل و لم یعلم اختصاصه به فالظاهر فی فعله أن حکمه فیه حکم سائر الناس فیکون فعله حجة علینا و حجة لنا لا سیما مع ما دل علی عموم حسن التأسی به .و لا نقول ذلک من جهة قاعدة الحمل علی الأعم الأغلب فإنا لا نری حجیة مثل هذه القاعدة فی کل مجالاتها و إنما ذلک من باب التمسک بالعام فی الدوران فی التخصیص بین الأقل و الأکثر

2 دلالة تقریر المعصوم

المقصود من تقریر المعصوم أن یفعل شخص بمشهد المعصوم و حضوره فعلا فیسکت المعصوم عنه مع توجهه إلیه و علمه بفعله و کان المعصوم بحالة یسعه تنبیه الفاعل لو کان مخطئا و السعة تکون من جهة عدم ضیق الوقت عن البیان و من جهة عدم المانع منه کالخوف و التقیة و الیأس من تأثیر الإرشاد و التنبیه و نحو ذلک .فإن سکوت المعصوم عن ردع الفاعل أو عن بیان شیء حول الموضوع لتصحیحه یسمی تقریرا للفعل أو إقرارا علیه أو إمضاء له ما شئت فعبر .و هذا التقریر إذا تحقق بشروطه المتقدمة فلا شک فی أنه یکون ظاهرا فی کون الفعل جائزا فیما إذا کان محتمل الحرمة کما أنه یکون ظاهرا فی کون الفعل مشروعا صحیحا فیما إذا کان عبادة أو معاملة لأنه لو کان فی الواقع محرما أو کان فیه خلل لکان علی المعصوم نهیه عنه و ردعه إذا کان الفاعل عالما عارفا بما یفعل و ذلک من باب الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و لکان علیه بیان الحکم و وجه الفعل إذا کان الفاعل جاهلا بالحکم و ذلک من باب وجوب تعلیم الجاهل .

ص :66

و یلحق بتقریر الفعل التقریر لبیان الحکم کما لو بین شخص بمحضر المعصوم حکما أو کیفیة عبادة أو معاملة و کان بوسع المعصوم البیان فإن سکوت الإمام یکون ظاهرا فی کونه إقرارا علی قوله و تصحیحا و إمضاء له .و هذا کله واضح لیس فیه موضع للخلاف

3 الخبر المتواتر

إن الخبر علی قسمین رئیسین خبر متواتر و خبر واحد .(و المتواتر ما أفاد سکون النفس سکونا یزول معه الشک و یحصل الجزم القاطع من أجل إخبار جماعة یمتنع تواطؤهم علی الکذب و یقابله خبر الواحد فی اصطلاح الأصولیین و إن کان المخبر أکثر من واحد و لکن لم یبلغ المخبرون حد التواتر) .و قد شرحنا حقیقة التواتر فی کتاب المنطق الجزء الثالث ص 10 فراجع .و الذی ینبغی ذکره هنا أن الخبر قد یکون له وسائط کثیرة فی النقل کالأخبار التی تصلنا عن الحوادث القدیمة فإنه یجب لیکون الخبر متواترا موجبا للعلم أن تتحقق شروط التواتر فی کل طبقة طبقة من وسائط الخبر و إلا فلا یکون الخبر متواترا فی الوسائط المتأخرة لأن النتیجة تتبع أخس المقدمات .و السر فی ذلک واضح لأن الخبر ذا الوسائط یتضمن فی الحقیقة عدة أخبار متتابعة إذ إن کل طبقة تخبر عن خبر الطبقة السابقة علیها فحینما یقول جماعة حدثنا جماعة عن کذا بواسطة واحدة مثلا فإن خبر الطبقة الأولی الناقلة لنا یکون فی الحقیقة خبرها لیس عن نفس الحادثة بل عن خبر

ص :67

الطبقة الثانیة عن الحادثة و کذلک إذا تعددت الوسائط إلی أکثر من واحدة فهذه الوسائط هی خبر عن خبر حتی تنتهی إلی الواسطة الأخیرة التی تنقل عن نفس الحادثة فلا بد أن تکون الجماعة الأولی خبرها متواترا عن خبر متواتر عن متواتر و هکذا إذ کل خبر من هذه الأخبار له حکمه فی نفسه و متی اختل شرط التواتر فی طبقة واحدة خرج الخبر جملة عن کونه متواترا و صار من أخبار الآحاد .و هکذا الحال فی أخبار الآحاد فإن الخبر الصحیح ذا الوسائط إنما یکون صحیحا إذا توفرت شروط الصحة فی کل واسطة من وسائطه و إلا فالنتیجة تتبع أخس المقدمات

ص :68

4 خبر الواحد
اشارة

(إن خبر الواحد و هو ما لا یبلغ حد التواتر من الأخبار)قد یفید علما و إن کان المخبر شخصا واحدا و ذلک فیما إذا احتف خبره بقرائن توجب العلم بصدقه و لا شک فی أن مثل هذا الخبر حجة و هذا لا بحث لنا فیه لأنه مع حصول العلم تحصل الغایة القصوی إذ لیس وراء العلم غایة فی الحجیة و إلیه تنتهی حجیة کل حجة کما تقدم .و أما إذا لم یحتف بالقرائن الموجبة للعلم بصدقه و إن احتف بالقرائن الموجبة للاطمئنان إلیه دون مرتبة العلم فقد وقع الخلاف العظیم فی حجیته و شروط حجیته و الخلاف فی الحقیقة عند الإمامیة بالخصوص یرجع إلی الخلاف فی قیام الدلیل القطعی علی حجیة خبر الواحد و عدم قیامه و إلا فمن المتفق علیه عندهم أن خبر الواحد بما هو خبر مفید للظن الشخصی أو النوعی لا عبرة به لأن الظن فی نفسه لیس حجة عندهم قطعا فالشأن کل الشأن عندهم فی حصول هذا الدلیل القطعی و مدی دلالته .فمن ینکر حجیة خبر الواحد کالسید الشریف المرتضی و من اتبعه إنما ینکر وجود هذا الدلیل القطعی و من یقول بحجیته کالشیخ الطوسی و باقی العلماء یری وجود الدلیل القاطع و لأجل أن یتضح ما نقول ننقل نص أقوال الطرفین فی ذلک .(قال الشیخ الطوسی فی العدة ج 1 ص 44 من عمل بخبر الواحد فإنما یعمل به إذا دل دلیل علی وجوب العمل به إما من الکتاب أو السنة أو الإجماع فلا یکون قد عمل بغیر علم) .

ص :69

(و صرح بذلک السید المرتضی فی الموصلیات حسبما نقله عنه الشیخ ابن إدریس فی مقدمة کتابه السرائر فقال لا بد فی الأحکام الشرعیة من طریق یوصل إلی العلم إلی أن قال و لذلک أبطلنا فی الشریعة العمل بأخبار الآحاد لأنها لا توجب علما و لا عملا و أوجبنا أن یکون العمل تابعا للعلم لأن خبر الواحد إذا کان عدلا فغایة ما یقتضیه الظن بصدقه و من ظننت صدقه یجوز أن یکون کاذبا .و أصرح منه قوله بعد ذلک و العقل لا یمنع من العبادة بالقیاس و العمل بخبر الواحد و لو تعبد الله تعالی بذلک لساغ و لدخل فی باب الصحة لأن عبادته بذلک توجب العلم الذی لا بد أن یکون العمل تابعا له) .و علی هذا فیتضح أن المسلم فیه عند الجمیع أن خبر الواحد لو خلی و نفسه لا یجوز الاعتماد علیه لأنه لا یفید إلا الظن الذی لا یغنی من الحق شیئا و إنما موضع النزاع هو قیام الدلیل القطعی علی حجیته .و علی هذا فقد وقع الخلاف فی ذلک علی أقوال کثیرة فمنهم من أنکر حجیته مطلقا و قد حکی هذا القول عن السید المرتضی و القاضی و ابن زهرة و الطبرسی و ابن إدریس و ادعوا فی ذلک الإجماع و لکن هذا القول منقطع الآخر فإنه لم یعرف موافق لهم بعد عصر ابن إدریس إلی یومنا هذا .و منهم من قال إن الأخبار المدونة فی الکتب المعروفة لا سیما الکتب الأربعة مقطوعة الصدق و هذا ما ینسب إلی جماعة من متأخری الأخباریین (قال الشیخ الأنصاری تعقیبا علی ذلک و هذا قول لا فائدة فی بیانه و الجواب عنه إلا التحرز عن حصول هذا الوهم لغیرهم کما حصل لهم و إلا فمدعی القطع لا یلزم بذکر ضعف مبنی قطعه) .

ص :70

و أما القائلون بحجیة خبر الواحد فقد اختلفوا أیضا فبعضهم یری أن المعتبر من الأخبار هو کل ما فی الکتب الأربعة بعد استثناء ما کان فیها مخالفا للمشهور و بعضهم یری أن المعتبر بعضها و المناط فی الاعتبار عمل الأصحاب کما یظهر ذلک من المنقول عن المحقق فی المعارج و قیل المناط فیه عدالة الراوی أو مطلق وثاقته أو مجرد الظن بالصدور من غیر اعتبار صفة فی الراوی إلی غیر ذلک من التفصیلات .و المقصود لنا الآن بیان إثبات حجیته بالخصوص فی الجملة فی مقابل السلب الکلی ثم ننظر فی مدی دلالة الأدلة علی ذلک فالعمدة أن ننظر أولا فی الأدلة التی ذکروها من الکتاب و السنة و الإجماع و بناء العقلاء ثم فی مدی دلالتها

أ أدلة حجیة خبر الواحد من الکتاب العزیز
تمهید

لا یخفی أن من یستدل علی حجیة خبر الواحد بالآیات الکریمة لا یدعی بأنها نص قطعی الدلالة علی المطلوب و إنما أقصی ما یدعیه أنها ظاهرة فیه .و إذا کان الأمر کذلک فقد یشکل الخصم بأن الدلیل علی حجیة الحجة یجب أن یکون قطعیا کما تقدم فلا یصح الاستدلال بالآیات التی هی ظنیة الدلالة لأن ذلک استدلال بالظن علی حجیة الظن و لا ینفع کونها قطعیة الصدور .و لکن الجواب عن هذا الوهم واضح لأنه قد ثبت بالدلیل القطعی حجیة ظواهر الکتاب العزیز کما سیأتی فالاستدلال بها ینتهی بالأخیر إلی العلم فلا یکون استدلالا بالظن علی حجیة الظن .

ص :71

و نحن علی هذا المبنی نذکر الآیات التی ذکروها علی حجیة خبر الواحد فنکتفی بإثبات ظهورها فی المطلوب .

الآیة الأولی آیة النبأ

و هی قوله تعالی فی سورة الحجرات 6 إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلیٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِینَ .و قد استدل بهذه الآیة الکریمة من جهة مفهوم الوصف و من جهة مفهوم الشرط و الذی یبدو أن الاستدلال بها من جهة مفهوم الشرط کاف فی المطلوب .و تقریب الاستدلال یتوقف علی شرح ألفاظ الآیة أولا فنقول 1 التبین إن لهذه المادة معنیین الأول بمعنی الظهور فیکون فعلها لازما فنقول تبین الشیء إذا ظهر و بان و منه قوله تعالی حَتّٰی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ حَتّٰی یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .و الثانی بمعنی الظهور علیه یعنی العلم به و استکشافه أو التصدی للعلم به و طلبه فیکون فعلها متعدیا فتقول تبینت الشیء إذا علمته أو إذا تصدیت للعلم به و طلبته و علی المعنی الثانی و هو التصدی للعلم به یتضمن معنی التثبت فیه و التأنی فیه لکشفه و إظهاره و العلم به .و منه قوله تعالی فی سورة النساء 94 إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِی سَبِیلِ اللّٰهِ فَتَبَیَّنُوا و من أجل هذا قرئ بدل فَتَبَیَّنُوا فتثبتوا و منه کذلک هذه الآیة التی نحن بصددها إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا و کذلک قرئ فیها فتثبتوا فإن هذه القراءة مما تدل علی أن المعنیین و هما التبین و التثبت متقاربان .2 أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ یظهر من کثیر من التفاسیر أن هذا

ص :72

المقطع من الآیة کلام مستأنف جاء لتعلیل وجوب التبین و تبعهم علی ذلک بعض الأصولیین الذین بحثوا هذه الآیة هنا .و لأجل ذلک قدروا لکلمة فَتَبَیَّنُوا مفعولا فقالوا مثلا معناه فتبینوا صدقه من کذبه کما قدروا لتحقیق نظم الآیة و ربطها لتصلح هذه الفقرة أن تکون تعلیلا کلمة تدل علی التعلیل بأن قالوا معناها خشیة أن تصیبوا قوما بجهالة أو حذار أن تصیبوا أو لئلا تصیبوا قوما و نحو ذلک .و هذه التقدیرات کلها تکلف و تمحل لا تساعد علیها قرینة و لا قاعدة عربیة و من العجیب أن یؤخذ ذلک بنظر الاعتبار و یرسل إرسال المسلمات .و الذی أرجحه أن مقتضی سیاق الکلام و الاتساق مع أصول القواعد العربیة أن یکون قوله أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً مفعولا لتبینوا فیکون معناه فتثبتوا و احذروا إصابة قوم بجهالة .و الظاهر أن قوله تعالی فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ یکون کنایة عن لازم معناه و هو عدم حجیة خبر الفاسق لأنه لو کان حجة لما دعا إلی الحذر من إصابة قوم بجهالة عند العمل به ثم من الندم علی العمل به .3 الجهالة اسم مأخوذ من الجهل أو مصدر ثان له قال عنها أهل اللغة الجهالة أن تفعل فعلا بغیر العلم ثم هم فسروا الجهل بأنه المقابل للعلم عبروا عنه تارة بتقابل التضاد و أخری بتقابل النقیض و إن کان الأصح فی التعبیر العلمی أنه من تقابل العدم و الملکة .و الذی یبدو لی من تتبع استعمال کلمة الجهل و مشتقاتها فی أصول اللغة العربیة أن إعطاء لفظ الجهل معنی یقابل العلم بهذا التحدید الضیق لمعناه جاء مصطلحا جدیدا عند المسلمین فی عهدهم لنقل الفلسفة الیونانیة إلی العربیة الذی استدعی تحدید معانی کثیر من الألفاظ و کسبها إطارا

ص :73

یناسب الأفکار الفلسفیة و إلا فالجهل فی أصل اللغة کان یعطی معنی یقابل الحکمة و التعقل و الرویة فهو یؤدی تقریبا معنی السفه أو الفعل السفهی عند ما یکون عن غضب مثلا و حماقة و عدم بصیرة و علم .و علی کل حال هو بمعناه الواسع اللغوی یلتقی مع معنی الجهل المقابل للعلم الذی صار مصطلحا علمیا بعد ذلک و لکنه لیس هو إیاه و علیه فیکون معنی الجهالة أن تفعل فعلا بغیر حکمة و تعقل و رویة الذی لازمه عادة إصابة عدم الواقع و الحق .إذا عرفت هذه الشروح لمفردات الآیة الکریمة یتضح لک معناها و ما تؤدی إلیه من دلالة علی المقصود فی المقام أنها تعطی أن النبأ من شأنه أن یصدق به عند الناس و یؤخذ به من جهة أن ذلک من سیرتهم و إلا فلما ذا نهی عن الأخذ بخبر الفاسق من جهة أنه فاسق فأراد تعالی أن یلفت أنظار المؤمنین إلی أنه لا ینبغی أن یعتمدوا کل خبر من أی مصدر کان بل إذا جاء به فاسق ینبغی ألا یؤخذ به بلا ترو و إنما یجب فیه أن یتثبتوا أن یصیبوا قوما بجهالة أی بفعل ما فیه سفه و عدم حکمه قد یضر بالقوم و السر فی ذلک أن المتوقع من الفاسق ألا یصدق فی خبره فلا ینبغی أن یصدق و یعمل بخبره .فتدل الآیة بحسب المفهوم علی أن خبر العادل یتوقع منه الصدق فلا یجب فیه الحذر و التثبت من إصابة قوم بجهالة و لازم ذلک أنه حجة .و الذی نقوله و نستفیده و له دخل فی استفادة المطلوب من الآیة أن النبأ فی مفروض الآیة مما یعتمد علیه عند الناس و تعارفوا الأخذ به بلا تثبت و إلا لما کانت حاجة للأمر فیه بالتبین فی خبر الفاسق إذا کان النبأ من جهة

ص :74

ما هو نبأ لا یعمل به الناس .و لما علقت الآیة وجوب التبین و التثبت علی مجیء الفاسق یظهر منه بمقتضی مفهوم الشرط أن خبر العادل لیس له هذا الشأن بل الناس لهم أن یبقوا فیه علی سجیتهم من الأخذ به و تصدیقه من دون تثبت و تبین لمعرفة صدقه من کذبه من جهة خوف إصابة قوم بجهالة و طبعا لا یکون ذلک إلا من جهة اعتبار خبر العادل و حجیته لأن المترقب منه الصدق فیکشف ذلک عن حجیة قول العادل عند الشارع و إلغاء احتمال الخلاف فیه .و الظاهر أن بهذا البیان للآیة یرتفع کثیر من الشکوک التی قیلت علی الاستدلال بها علی المطلوب فلا نطیل فی ذکرها و ردها

الآیة الثانیة آیة النفر

و هی قوله تعالی فی سورة التوبة 123 وَ مٰا کٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ .إن الاستدلال بهذه الآیة الکریمة علی المطلوب یتم بمرحلتین من البیان 1 الکلام فی صدر الآیة وَ مٰا کٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً تمهیدا للاستدلال فإن الظاهر من هذه الفقرة نفی وجوب النفر علی المؤمنین کافة (1)و المراد من النفر بقرینة باقی الآیة النفر إلی الرسول للتفقه فی الدین لا النفر إلی الجهاد و إن کانت الآیات التی قبلها واردة فی الجهاد فإن

ص :75


1- یستفید بعضهم من الآیة النهی عن نفر الکافة. وهی استفادة بعیدة جدا ولیست کلمة (ما) من أدوات النهی. إذن لیس لهذه الآیة أکثر من الدلالة علی نفی الوجوب.

ذلک وحده غیر کاف لیکون قرینة مع ظهور باقی الآیة فی النفر إلی التعلم و التفقه إن الکلام الواحد یفسر بعضه بعضا .و هذه الفقرة إما جملة خبریة یراد بها إنشاء نفی الوجوب فتکون فی الحقیقة جملة إنشائیة و إما جملة خبریة یراد بها الإخبار جدا عن عدم وقوعه من الجمیع إما لاستحالته عادة أو لتعذره اللازم له عدم وجوب النفر علیهم جمیعا فتکون دالة بالدلالة الالتزامیة علی عدم جعل مثل هذا الوجوب من الشارع و علی کلا الحالین فهی تدل علی عدم تشریع وجوب النفر علی کل واحد واحد إما إنشاء أو إخبارا .و لکن لیس من شأن الشارع بما هو شارع أن ینفی وجوب شیء إنشاء أو إخبارا إلا إذا کان فی مقام رفع توهم الوجوب لذلک الشیء أو اعتقاده و اعتقاد وجوب النفر أمر متوقع لدی العقلاء لأن التعلم واجب عقلی علی کل أحد و تحصیل الیقین فیه المنحصر عادة فی مشافهة الرسول أیضا واجب عقلی فحق أن یعتقد المؤمنون بوجوب النفر إلی الرسول شرعا لتحصیل المعرفة بالأحکام .و من جهة أخری فإنه مما لا شبهة فیه أن نفر جمیع المؤمنین فی جمیع أقطار الإسلام إلی الرسول لأخذ الأحکام منه بلا واسطة کلما عنت حاجة و عرضت لهم مسألة أمر لیس عملیا من جهات کثیرة فضلا عما فیه من مشقة عظیمة لا توصف بل هو مستحیل عادة .إذا عرفت ذلک فنقول إن الله تعالی أراد بهذه الفقرة و الله العالم أن یرفع عنهم هذه الکلفة و المشقة برفع وجوب النفر رحمة بالمؤمنین و لکن هذا التخفیف لیس معناه أن یستلزم رفع أصل وجوب التفقه بل الضرورات تقدر بقدرها و لا شک أن التخفیف یحصل برفع الوجوب علی کل واحد واحد فلا بد من علاج لهذا الأمر اللازم تحقیقه علی کل حال و هو التعلم

ص :76

بتشریع طریقة أخری للتعلم غیر طریقة التعلم الیقینی من نفس لسان الرسول و قد بینت بقیة الآیة هذا العلاج و هذه الطریقة و هو قوله تعالی فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ و التفریع بالفاء شاهد علی أن هذا علاج متفرع علی نفی وجوب النفر علی الجمیع .و من هذا البیان یظهر أن هذه الفقرة صدر الآیة لها الدخل الکبیر فی فهم الباقی من الآیة الذی هو موضع الاستدلال علی حجیة خبر الواحد و قد أغفل هذه الناحیة المستدلون بهذه الآیة علی المطلوب فلم یوجهوا الارتباط بین صدر الآیة و بقیتها للاستدلال بها علی نحو ما یأتی .2 الکلام عن نفس موقع الاستدلال من الآیة علی حجیة خبر الواحد المتفرع هذا الموقع علی صدرها لمکان فاء التفریع .إنه تعالی بعد أن بین عدم وجوب النفر علی کل واحد واحد تخفیفا علیهم حرضهم علی اتباع طریقة أخری بدلالة لو لا التی هی للتحضیض و الطریقة هی أن ینفر قسم من کل قوم لیرجعوا إلی قومهم فیبلغونهم الأحکام بعد أن یتفقهوا فی الدین و یتعلموا الأحکام و هو فی الواقع خیر علاج لتحصیل التعلیم بل الأمر منحصر فیه .فالآیة الکریمة بمجموعها تقرر أمرا عقلیا و هو وجوب المعرفة و التعلم و إذ تعذرت المعرفة الیقینیة بنفر کل واحد إلی النبی لیتفقه فی الدین فلم یجب رخص الله تعالی لهم لتحصیل تلک الغایة أعنی التعلم بأن ینفر طائفة من کل فرقة و الطائفة المتفقه هی التی تتولی حینئذ تعلیم الباقین من قومهم بل إنه لم یکن قد رخصهم فقط بذلک و إنما أوجب علیهم أن ینفر طائفة من کل قوم و یستفاد الوجوب من لو لا التحضیضیة و من الغایة من النفر و هو التفقه لإنذار القوم الباقین لأجل أن یحذروا من العقاب مضافا إلی أن أصل التعلم واجب عقلی کما قررنا .

ص :77

کل ذلک شواهد ظاهرة علی وجوب تفقه جماعة من کل قوم لأجل تعلیم قومهم الحلال و الحرام و یکون ذلک طبعا وجوبا کفائیا .و إذا استفدنا وجوب تفقه کل طائفة من کل قوم أو تشریع ذلک بالترخیص فیه علی الأقل لغرض إنذار قومهم إذا رجعوا إلیهم فلا بد أن نستفید من ذلک أن نقلهم للأحکام قد جعله الله تعالی حجة علی الآخرین و إلا لکان تشریع هذا النفر علی نحو الوجوب أو الترخیص لغوا بلا فائدة بعد أن نفی وجوب النفر علی الجمیع بل لو لم یکن نقل الأحکام حجة لما بقیت طریقة لتعلم الأحکام تکون معذرة للمکلف و حجة له أو علیه .و الحاصل أن رفع وجوب النفر علی الجمیع و الاکتفاء بنفر قسم منهم لیتفقهوا فی الدین و یعلموا الآخرین هو بمجموعه دلیل واضح علی حجیة نقل الأحکام فی الجملة و إن لم یستلزم العلم الیقینی لأن الآیة من ناحیة اشتراط الإنذار بما یوجب العلم مطلقة فکذلک تکون مطلقة من ناحیة قبول الإنذار و التعلیم و إلا کان هذا التدبیر الذی شرعه الله لغوا و بلا فائدة و غیر محصل للغرض الذی من أجله کان النفر و تشریعه .هکذا ینبغی أن تفهم الآیة الکریمة فی الاستدلال علی المطلوب و بهذا البیان یندفع کثیر مما أورد علی الاستدلال بها للمطلوب .و ینبغی ألا یخفی علیکم أنه لا یتوقف الاستدلال بها علی أن یکون نفر الطائفة من کل قوم واجبا بل یکفی ثبوت أن هذه الطریقة مشرعة من قبل الله و إن کان بنحو الترخیص بها لأن نفس تشریعها یستلزم تشریع حجیة نقل الأحکام من المتفقه فلذلک لا تبقی حاجة إلی التطویل فی استفادة الوجوب .کما أن الاستدلال بها لا یتوقف علی کون الحذر عند إنذار النافرین المتفقهین واجبا و استفادة ذلک من لعل أو من أصل حسن الحذر بل الأمر بالعکس فإن نفس جعل حجیة قول النافرین المتفقهین المستفاد من الآیة یکون

ص :78

دلیلا علی وجوب الحذر .نعم یبقی شیء و هو أن الواجب أن ینفر من کل فرقة طائفة و الطائفة ثلاثة فأکثر أو أکثر من ثلاثة و حینئذ لا تشمل الآیة خبر الشخص الواحد أو الاثنین و لکن یمکن دفع ذلک بأنه لا دلالة فی الآیة علی أنه یجب فی الطائفة أن ینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم مجتمعین بشرط الاجتماع فالآیة من هذه الناحیة مطلقة و بمقتضی إطلاقها یکون خبر الواحد لو انفرد بالأخبار حجة أیضا یعنی أن العموم فیها أفرادی لا مجموعی

تنبیه

إن هذه الآیة الکریمة تدل أیضا علی وجوب قبول فتوی المجتهد بالنسبة إلی العامی کما دلت علی وجوب قبول خبر الواحد و ذلک ظاهر لأن کلمة التفقه عامة للطرفین (و قد أفاد ذلک شیخنا النائینی قدس سره کما فی تقریرات بعض الأساطین من تلامذته فإنه قال إن التفقه فی العصور المتأخرة و إن کان هو استنباط الحکم الشرعی بتنقیح جهات ثلاث الصدور و جهة الصدور و الدلالة و من المعلوم أن تنقیح الجهتین الأخیرتین مما یحتاج إلی إعمال النظر و الدقة إلا أن التفقه فی الصدر الأول لم یکن محتاجا إلا إلی إثبات الصدور لیس إلا لکن اختلاف محقق التفقه باختلاف الأزمنة لا یوجب اختلافا فی مفهومه فکما أن العارف بالأحکام الشرعیة بإعمال النظر و الفکر یصدق علیه الفقیه کذلک العارف بها من دون إعمال النظر و الفکر یصدق علیه الفقیه حقیقة) .و بمقتضی عموم التفقه فإن الآیة الکریمة أیضا تدل علی وجوب الاجتهاد فی العصور المتأخرة عن عصور المعصومین وجوبا کفائیا بمعنی أنه یجب علی کل قوم أن ینفر منهم طائفة فیرحلوا لتحصیل التفقه و هو

ص :79

الاجتهاد لینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم کما تدل أیضا بالملازمة التی سبق ذکرها علی حجیة قول المجتهد علی الناس الآخرین و وجوب قبول فتواه علیهم .

الآیة الثالثة آیة حرمة الکتمان

و هی قوله تعالی فی سورة البقرة 159 إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَیِّنٰاتِ وَ الْهُدیٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَیَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِی الْکِتٰابِ أُولٰئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ .وجه الاستدلال بها یشبه الاستدلال بآیة النفر فإنه لما حرم الله تعالی کتمان البینات و الهدی وجب أن یقبل قول من یظهر البینات و الهدی و یبینه للناس و إن کان ذلک المظهر و المبین واحدا لا یوجب قوله العلم و إلا لکان تحریم الکتمان لغوا و بلا فائدة لو لم یکن قوله حجة مطلقا .و الحاصل أن هناک ملازمة عقلیة بین وجوب الإظهار و وجوب القبول و إلا لکان وجوب الإظهار لغوا و بلا فائدة و لما کان وجوب الإظهار لم یشترط فیه أن یکون الإظهار موجبا للعلم فکذلک لازمه و هو وجوب القبول لا بد أن یکون مطلقا من هذه الناحیة غیر مشترط فیه بما یوجب العلم و علی هذا الأساس من الملازمة قلنا بدلالة آیة النفر علی حجیة خبر الواحد و حجیة فتوی المجتهد .و لکن الإنصاف أن الاستدلال لا یتم بهذه الآیة الکریمة بل هی أجنبیة جدا عما نحن فیه لأن ما نحن فیه و هو حجیة خبر الواحد أن یظهر المخبر شیئا لم یکن ظاهرا و یعلم ما تعلم من أحکام غیر معلومة للآخرین کما فی آیة النفر فإذا وجب التعلیم و الإظهار وجب قبوله علی الآخرین و إلا کان وجوب التعلیم و الإظهار لغوا و أما هذه الآیة فهی واردة

ص :80

فی مورد کتمان ما هو ظاهر و بین للناس جمیعا بدلیل قوله تعالی مِنْ بَعْدِ مٰا بَیَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِی الْکِتٰابِ لا إظهار ما هو خفی علی الآخرین .و الغرض أن هذه الآیة واردة فی مورد ما هو بین واجب القبول سواء کتم أم أظهر لا فی مورد یکون قبوله من جهة الإظهار حتی تکون ملازمة بین وجوب القبول و حرمة الکتمان فیقال لو لم یقبل لما حرم الکتمان و بهذا یظهر الفرق بین هذه الآیة و آیة النفر .و ینسق علی هذه الآیة باقی الآیات الأخر التی ذکرت للاستدلال بها علی المطلوب فلا نطیل بذکرها

ص :81

ب دلیل حجیة خبر الواحد من السنة

من البدیهی أنه لا یصح الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بنفس خبر الواحد فإنه دور ظاهر بل لا بد أن تکون الأخبار المستدل بها علی حجیة معلومة الصدور من المعصومین إما بتواتر أو قرینة قطعیة .و لا شک فی أنه لیس فی أیدینا من الأخبار ما هو متواتر بلفظه فی هذا المضمون و إنما کل ما قیل هو تواتر الأخبار معنی فی حجیة خبر الواحد إذا کان ثقة مؤتمنا فی الروایة کما رآه الشیخ الحر صاحب الوسائل و هذه دعوی غیر بعیدة فإن المتتبع یکاد یقطع جازما بتواتر الأخبار فی هذا المعنی بل هی بالفعل متواترة لا ینبغی أن یعتری فیها الریب للمصنف (1).و قد ذکر الشیخ الأنصاری قدس الله نفسه طوائف من الأخبار یحصل بانضمام بعضها إلی بعض العلم بحجیة خبر الواحد الثقة المأمون من الکذب فی الشریعة و أن هذا أمر مفروغ عنه عند آل البیت علیهم السلام .و نحن نشیر إلی هذه الطوائف علی الإجمال و علی الطالب أن یرجع إلی الوسائل کتاب القضاء و إلی رسائل الشیخ فی حجیة خبر الواحد للاطلاع علی تفاصیلها الطائفة الأولی ما ورد فی الخبرین المتعارضین فی الأخذ بالمرجحات کالأعدل و الأصدق و المشهور ثم التخییر عند التساوی و سیأتی

ص :82


1- إن الشیخ صاحب الکفایة لم یتضح له تواتر الاخبار معنی، وإنما أقصی ما اعترف به (أنها متواترة اجمالا) وغرضه من التواتر الاجمالی هو العلم بصدور بعضها عنهم علیهم السلام یقینا. وتسمیة ذلک بالتواتر مسامحة ظاهرة.

ذکر بعضها فی باب التعادل و التراجیح و لو لا أن خبر الواحد الثقة حجة لما کان معنی لفرض التعارض بین الخبرین و لا معنی للترجیح بالمرجحات المذکورة و التخییر عند عدم المرجح کما هو واضح .الطائفة الثانیة ما ورد فی إرجاع آحاد الرواة إلی آحاد أصحاب الأئمة علیهم السلام علی وجه یظهر فیه عدم الفرق فی الإرجاع بین الفتوی و الروایة مثل إرجاعه علیه السلام إلی زرارة بقوله (:إذا أردت حدیثا فعلیک بهذا الجالس یشیر بذلک إلی زرارة)(و مثل قوله علیه السلام:لما قال له عبد العزیز بن المهدی ربما أحتاج و لست ألقاک فی کل وقت أ فیونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم دینی قال نعم)(قال الشیخ الأعظم و ظاهر هذه الروایة أن قبول قول الثقة کان أمرا مفروغا عنه عند الراوی فسأل عن وثاقة یونس لیرتب علیه أخذ المعالم منه) .إلی غیر ذلک من الروایات التی تنسق علی هذا المضمون و نحوه .الطائفة الثالثة ما دل علی وجوب الرجوع إلی الرواة و الثقات و العلماء (مثل قوله علیه السلام:و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا فإنهم حجتی علیکم و أنا حجة الله علیهم)إلی ما شاء الله من الروایات فی أمثال هذا المعنی .الطائفة الرابعة ما دل علی الترغیب فی الروایة و الحث علیها و کتابتها و إبلاغها مثل الحدیث النبوی المستفیض بل المتواتر (:من حفظ علی أمتی أربعین حدیثا بعثه الله فقیها عالما یوم القیامة) الذی لأجله صنف کثیر من العلماء الأربعینیات (:و مثل قوله علیه السلام للراوی اکتب و بث علمک فی بنی عمک فإنه یأتی زمان هرج لا یأنسون إلا بکتبهم) إلی غیر ذلک من الأحادیث .

ص :83

الطائفة الخامسة ما دل علی ذم الکذب علیهم و التحذیر من الکذابین علیهم فإنه لو لم یکن الأخذ بأخبار الآحاد أمرا معروفا بین المسلمین لما کان مجال للکذب علیهم و لما کان مورد للخوف من الکذب علیهم و لا التحذیر من الکذابین لأنه لا أثر للکذب لو کان خبر الواحد علی کل حال غیر مقبول عند المسلمین .(قال الشیخ الأعظم بعد نقله لهذه الطوائف من الأخبار و هو علی حق فیما قال إلی غیر ذلک من الأخبار التی یستفاد من مجموعها رضا الأئمة بالعمل بالخبر و إن لم یفد القطع و قد ادعی فی الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة إلا أن القدر المتیقن منها هو خبر الثقة الذی یضعف فیه احتمال الکذب علی وجه لا یعتنی به العقلاء و یقبحون التوقف فیه لأجل ذلک الاحتمال کما دل علیه ألفاظ الثقة و المأمون و الصادق و غیرها الواردة فی الأخبار المتقدمة و هی أیضا منصرف إطلاق غیرها .و أضاف و أما العدالة فأکثر الأخبار المتقدمة خالیة عنها بل و فی کثیر منها التصریح بخلافه)

ص :84

ج دلیل حجیة خبر الواحد من الإجماع

حکی جماعة کبیرة تصریحا و تلویحا الإجماع من قبل علماء الإمامیة علی حجیة خبر الواحد إذا کان ثقة مأمونا فی نقله و إن لم یفد خبره العلم و علی رأس الحاکین للإجماع شیخ الطائفة الطوسی أعلی الله مقامه فی کتابه العدة ج 1 ص 47 لکنه اشترط فیما اختاره من الرأی و حکی علیه الإجماع أن یکون خبر الواحد واردا من طریق أصحابنا القائلین بالإمامة و کان ذلک مرویا عن النبی أو عن الواحد من الأئمة و کان ممن لا یطعن فی روایته و یکون سدیدا فی نقله و تبعه علی ذلک فی التصریح بالإجماع السید رضی الدین بن طاوس و العلامة الحلی فی النهایة و المحدث المجلسی فی بعض رسائله کما حکی ذلک عنهم الشیخ الأعظم فی الرسائل .و فی مقابل ذلک حکی جماعة أخری إجماع الإمامیة علی عدم الحجیة و علی رأسهم السید الشریف المرتضی أعلی الله درجته و جعله بمنزلة القیاس فی کون ترک العمل به معروفا من مذهب الشیعة و تبعه علی ذلک الشیخ ابن إدریس فی السرائر و نقل کلاما للسید المرتضی فی المقدمة و انتقد فی أکثر من موضع فی کتابه الشیخ الطوسی فی عمله بخبر الواحد و کرر تبعا للسید قوله إن خبر الواحد لا یوجب علما و لا عملا و کذلک نقل عن الطبرسی صاحب مجمع البیان تصریحه فی نقل الإجماع علی عدم العمل بخبر الواحد .و الغریب فی الباب وقوع مثل هذا التدافع بین نقل الشیخ و السید عن إجماع الإمامیة مع أنهما متعاصران بل الأول تلمذ علی الثانی و هما الخبیران العالمان بمذهب الإمامیة و لیس من شأنهما أن یحکیا مثل هذا

ص :85

الأمر بدون تثبت و خبره کاملة .فلذلک وقع الباحثون فی حیرة عظیمة من أجل التوفیق بین نقلیهما (و قد حکی الشیخ الأعظم فی الرسائل وجوها للجمع مثل أن یکون مراد السید المرتضی من خبر الواحد الذی حکی الإجماع علی عدم العمل به هو خبر الواحد الذی یرویه مخالفونا و الشیخ یتفق معه علی ذلک و قیل یجوز أن یکون مراده من خبر الواحد ما یقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ فی الأصول المعمول بها عند جمیع خواص الطائفة و حینئذ یتقارب مع الشیخ فی الحکایة عن الإجماع و قیل یجوز أن یکون مراد الشیخ من خبر الواحد خبر الواحد المحفوف بالقرائن المفیدة للعلم بصدقه فیتفق حینئذ نقله مع نقل السید .و هذه الوجوه من التوجیهات قد استحسن الشیخ الأنصاری منها الأول ثم الثانی و لکنه یری أن الأرجح من الجمیع ما ذکره هو من الوجه (1)و أکد علیه أکثر من مرة فقال و یمکن الجمع بینهما بوجه أحسن و هو أن مراد السید من العلم الذی ادعاه فی صدق الأخبار هو مجرد الاطمئنان فإن المحکی عنه فی تعریف العلم أنه ما اقتضی سکون النفس و هو الذی ادعی بعض الأخباریین أن مرادنا من العلم بصدور الأخبار هو هذا المعنی لا الیقین الذی لا یقبل الاحتمال رأسا فمراد الشیخ من تجرد هذه الأخبار عن القرائن تجردها عن القرائن الأربع التی ذکرها أولا و هی موافقة الکتاب و السنة و الإجماع و الدلیل العقلی و مراد السید من القرائن التی ادعی فی عبارته المتقدمة (2) احتفاف أکثر الأخبار بها هی الأمور الموجبة

ص :86


1- ذکر المحقق الاشتیانی فی حاشیته علی الرسائل فی هذا الموقع أن هذا الوجه من التوجیه سبق إلیه بعض أفاضل المتأخرین وهو المحقق النراقی صاحب المناهج، ونقل نص عبارته.
2- غرضه من عبارته المتقدمة عبارته التی نقلها فی السرائر عن السید وقد نقلها الشیخ الاعظم فی الرسائل.

للوثوق بالراوی أو بالروایة بمعنی سکون النفس بهما و رکونها إلیهما .ثم قال و لعل هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بین کلامی الشیخ و السید خصوصا مع ملاحظة تصریح السید فی کلامه بأن أکثر الأخبار متواترة أو محفوفة و تصریح الشیخ فی کلامه المتقدم بإنکار ذلک) .هذا ما أفاده الشیخ الأنصاری فی توجیه کلام هذین العلمین و لکنی لا أحسب أن السید المرتضی یرتضی بهذا الجمع لأنه صرح فی عبارته المنقولة فی مقدمة السرائر بأن مراده من العلم القطع الجازم (قال اعلم أنه لا بد فی الأحکام الشرعیة من طریق یوصل إلی العلم بها لأنه متی لم نعلم الحکم و نقطع بالعلم علی أنه مصلحة جوزنا کونه مفسدة .و أصرح منه (1)قوله بعد ذلک و لذلک أبطلنا فی الشریعة العمل بأخبار الآحاد لأنها لا توجب علما و لا عملا و أوجبنا أن یکون العمل تابعا للعلم لأن خبر الواحد إذا کان عدلا فغایة ما یقتضیه الظن لصدقه و من ظننت صدقه یجوز أن یکون کاذبا و إن ظننت به الصدق فإن الظن لا یمنع من التجویز فعاد الأمر فی العمل بأخبار الآحاد إلی أنه إقدام علی ما لا نأمن من کونه فسادا أو غیر صلاح) .هذا و یحتمل احتمالا بعیدا أن السید لم یرد من التجویز الذی قال عنه أنه لا یمنع منه الظن کل تجویز حتی الضعیف الذی لا یعتنی به العقلاء و یجتمع مع اطمئنان النفس بل أراد منه التجویز الذی لا یجتمع مع اطمئنان النفس و یرفع الأمان بصدق الخبر و إنما قلنا إن هذا الاحتمال

ص :87


1- إنما قلت اصرح منه، لانه یحتمل فی العبارة المتقدمة أنه یرید من العلم ما یعم العلم بالحکم والعلم بمشروعیة الطریق إلیه وإن کان الطریق فی نفسه ظنیا. وهذا الاحتمال لا یتطرق إلی عبارته الثانیة.

بعید لأنه یدفعه أن السید حصر فی بعض عباراته ما یثبت الأحکام عند من نأی عن المعصومین أو وجد بعدهم حصره فی خصوص الخبر المتواتر المفضی إلی العلم و إجماع الفرقة المحقة لا غیرهما .و أما تفسیره للعلم بسکون النفس فهذا تفسیر شائع فی عبارات المتقدمین و منهم الشیخ نفسه فی العدة و الظاهر أنهم یریدون من سکون النفس الجزم القاطع لا مجرد الاطمئنان و إن لم یبلغ القطع کما هو متعارف التعبیر به فی لسان المتأخرین .نعم لقد عمل السید المرتضی علی خلاف ما أصله هنا و کذلک ابن إدریس الذی تابعه فی هذا القول لأنه کان کثیرا ما یأخذ بأخبار الآحاد الموثوقة المرویة فی کتب أصحابنا و من العسیر علیه و علی غیره أن یدعی تواترها جمیعا أو احتفافها بقرائن توجب القطع بصدورها و علی ذلک جرت استنباطاته الفقهیة و کذلک ابن إدریس فی السرائر و لعل عمله هذا یکون قرینة علی مراده من ذلک الکلام و مفسرا له علی نحو ما احتمله الشیخ الأنصاری .و علی کل حال سواء استطعنا تأویل کلام السید بما یوافق کلام الشیخ أو لم نستطع فإن دعوی الشیخ إجماع الطائفة علی اعتبار خبر الواحد الموثوق به المأمون من الکذب و إن لم یکن عادلا بالمعنی الخاص و لم یوجب قوله العلم القاطع دعوی مقبولة و مؤیدة یؤیدها عمل جمیع العلماء من لدن الصدر الأول إلی الیوم حتی نفس السید و ابن إدریس کما ذکرنا بل السید نفسه اعترف فی بعض کلامه بعمل الطائفة بأخبار الآحاد إلا أنه ادعی أنه لما کان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجردة کعدم عملهم بالقیاس

ص :88

فلا بد من عمل موارد عملهم علی الأخبار المحفوفة بالقرائن (قائلا لیس ینبغی أن یرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع علیها و یقصد بالأمور المعلومة عدم عملهم بالظنون إلی ما هو مشتبه و ملتبس و مجمل و یقصد بالمشتبه المجمل وجه عملهم بأخبار الآحاد و قد علم کل موافق و مخالف أن الشیعة الإمامیة تبطل القیاس فی الشریعة حیث لا یؤدی إلی العلم و کذلک نقول فی أخبار الآحاد) .و نحن نقول للسید المرتضی صحیح أن المعلوم من طریقة الشیعة الإمامیة عدم عملهم بالظنون بما هی ظنون و لکن خبر الواحد الثقة المأمون و ما سواه من الظنون المعتبرة کالظواهر إذا کانوا قد عملوا بها فإنهم لم یعملوا بها إلا لأنها ظنون قام الدلیل القاطع علی اعتبارها و حجیتها فلم یکن العمل بها عملا بالظن بل یکون بالأخیر عملا بالعلم .و علیه فنحن نقول معه إنه لا بد فی الأحکام الشرعیة من طریق یوصل إلی العلم بها لأنه متی لم نعلم الحکم و نقطع بالعلم علی أنه مصلحة جوزنا کونه مفسدة و خبر الواحد الثقة المأمون لما ثبت اعتباره فهو طریق یوصل إلی العلم بالأحکام و نقطع بالعلم علی حد تعبیره علی أنه مصلحة لا نجوز کونه مفسدة .(و یؤید أیضا دعوی الشیخ للإجماع قرائن کثیرة ذکر جملة منها الشیخ الأنصاری فی الرسائل منها ما ادعاه الکشی من إجماع العصابة علی تصحیح ما یصح عن جماعة فإنه من المعلوم أن معنی التصحیح المجمع علیه هو عد خبره صحیحا بمعنی عملهم به لا القطع بصدوره إذ الإجماع وقع علی التصحیح لا علی الصحة و منها دعوی النجاشی أن مراسیل ابن أبی عمیر مقبولة عند الأصحاب و هذه العبارة من النجاشی تدل دلالة

ص :89

صریحة علی عمل الأصحاب بمراسیل مثل ابن أبی عمیر لا من أجل القطع بالصدور بل لعلمهم أنه لا یروی أو لا یرسل إلا عن ثقة) إلی غیر ذلک من القرائن التی ذکرها الشیخ الأنصاری من هذا القبیل .و علیک بمراجعة الرسائل فی هذا الموضوع فقد استوفت البحث أحسن استیفاء و أجاد فیها الشیخ فیما أفاد و ألت بالموضوع من جمیع أطرافه کعادته فی جمیع أبحاثه و قد ختم البحث بقوله السدید (و الإنصاف أنه لم یحصل فی مسألة یدعی فیها الإجماع من الإجماعات المنقولة و الشهرة العظیمة و الأمارات الکثیرة الدالة علی العمل ما حصل فی هذه المسألة فالشاک فی تحقق الإجماع فی هذه المسألة لا أراه یحصل له الإجماع فی مسألة من المسائل الفقهیة اللهم إلا فی ضروریات المذهب .و أضاف لکن الإنصاف أن المتیقن من هذا کله الخبر المفید للاطمئنان لا مطلق الظن) و نحن له من المؤیدین جزاه الله خیر ما یجزی العلماء العاملین

ص :90

د دلیل حجیة خبر الواحد من بناء العقلاء

أنه من المعلوم قطعا الذی لا یعتریه الریب استقرار بناء العقلاء طرا و اتفاق سیرتهم العملیة علی اختلاف مشاربهم و أذواقهم علی الأخذ بخبر من یثقون بقوله و یطمئنون إلی صدقه و یأمنون کذبه و علی اعتمادهم فی تبلیغ مقاصدهم علی الثقات و هذه السیرة العملیة جاریة حتی فی الأوامر الصادرة من ملوکهم و حکامهم و ذوی الأمر منهم .و سر هذه السیرة أن الاحتمالات الضعیفة المقابلة ملغیة بنظرهم لا یعتنون بها فلا یلتفتون إلی احتمال تعمد الکذب من الثقة کما لا یلتفتون إلی احتمال خطائه و اشتباهه أو غفلته .و کذلک أخذهم بظواهر الکلام و ظواهر الأفعال فإن بناءهم العملی علی إلغاء الاحتمالات الضعیفة المقابلة و ذلک من کل ملة و نحلة .و علی هذه السیرة العملیة قامت معایش الناس و انتظمت حیاة البشر و لولاها لاختل نظامهم الاجتماعی و لسادهم الاضطراب لقلة ما یوجب العلم القطعی من الأخبار المتعارفة سندا و متنا .و المسلمون بالخصوص کسائر الناس جرت سیرتهم العملیة علی مثل ذلک فی استفادة الأحکام الشرعیة من القدیم إلی یوم الناس هذا لأنهم متحدوا المسلک و الطریقة مع سائر البشر کما جرت سیرتهم بما هم عقلاء علی ذلک فی غیر الأحکام الشرعیة .أ لا تری هل کان یتوقف المسلمون من أخذ أحکامهم الدینیة من أصحاب النبی صلی اللّٰه علیه و آله أو من أصحاب الأئمة علیهم السلام الموثوقین عندهم .و هل تری هل یتوقف المقلدون الیوم و قبل الیوم فی العمل بما یخبرهم

ص :91

الثقات عن رأی المجتهد الذی یرجعون إلیه .و هل تری تتوقف الزوجة فی العمل بما یحکیه لها زوجها الذی تطمئن إلی خبره عن رأی المجتهد فی المسائل التی تخصها کالحیض مثلا .و إذا ثبتت سیرة العقلاء من الناس بما فیهم المسلمون علی الأخذ بخبر الواحد الثقة فإن الشارع المقدس متحد المسلک معهم لأنه منهم بل هو رئیسهم فلا بد أن نعلم بأنه متخذ لهذه الطریقة العقلائیة کسائر الناس ما دام أنه لم یثبت لنا أن له فی تبلیغ الأحکام طریقا خاصا مخترعا منه غیر طریق العقلاء و لو کان له طریق خاص قد اخترعه غیر مسلک العقلاء لأذاعه و بینه للناس و لظهر و اشتهر و لما جرت سیرة المسلمین علی طبق سیرة باقی البشر .و هذا الدلیل قطعی لا یداخله الشک لأنه مرکب من مقدمتین قطعیتین 1 ثبوت بناء العقلاء علی الاعتماد علی خبر الثقة و الأخذ به .2 کشف هذا البناء منهم عن موافقة الشارع لهم و اشتراکه معهم لأنه متحد المسلک معهم .(قال شیخنا النائینی قده کما فی تقریرات تلمیذه الکاظمی قده ج 3 ص 69 و أما طریقة العقلاء فهی عمدة أدلة الباب بحیث لو فرض أنه کان سبیل إلی المناقشة فی بقیة الأدلة فلا سبیل إلی المناقشة فی الطریقة العقلائیة القائمة علی الاعتماد علی خبر الثقة و الاتکال علیه فی محاوراتهم) .و أقصی ما قیل فی الشک فی هذا الاستدلال هو أن الشارع لئن کان متحد المسلک مع العقلاء فإنما یستکشف موافقته لهم و رضاه بطریقتهم إذا لم یثبت الردع منه عنها .و یکفی فی الردع الآیات الناهیة عن اتباع الظن و ما وراء العلم التی

ص :92

ذکرناها سابقا فی البحث السادس من المقدمة لأنها بعمومها تشمل خبر الواحد غیر المفید للعلم .و قد عالجنا هذا الأمر فیما یتعلق بشمول هذه الآیات الناهیة للاستصحاب فی الجزء الرابع مبحث الاستصحاب فقلنا إن هذه الآیات غیر صالحة للردع عن الاستصحاب الذی جرت سیرة العقلاء علی الأخذ به لأن المقصود من النهی عن اتباع غیر العلم النهی عنه إذ یراد به إثبات الواقع کقوله تعالی إِنَّ الظَّنَّ لاٰ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً بینما أنه لیس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع و الحق بل هو أصل و قاعدة عملیة یرجع إلیها فی مقام العمل عند الشک فی الواقع و الحق فیخرج الاستصحاب عن عموم هذه الآیات موضوعا .و هذا العلاج طبعا لا یجری فی مثل خبر الواحد لأن المقصود به کسائر الأمارات الأخری إثبات الواقع و تحصیل الحق .و لکن مع ذلک نقول إن خبر الواحد خارج عن عموم هذه الآیات تخصصا کالظواهر التی أیضا حجیتها مستندة إلی بناء العقلاء علی ما سیأتی .(و ذلک بأن یقال حسبما أفاده أستاذنا المحقق الأصفهانی قدس سره فی حاشیته علی الکفایة ج 3 ص 14 قال إن لسان النهی عن اتباع الظن و أنه لا یغنی من الحق شیئا لیس لسان التعبد بأمر علی خلاف الطریقة العقلائیة بل من باب إیکال الأمر إلی عقل المکلف من جهة أن الظن بما هو ظن لا مسوغ للاعتماد علیه و الرکون إلیه فلا نظر فی الآیات الناهیة إلی ما استقرت علیه سیرة العقلاء بما هم عقلاء علی اتباعه من أجل کونه خبر الثقة و لذا کان الرواة یسألون عن وثاقة الراوی للفراغ عن لزوم اتباع روایته بعد فرض وثاقته)(أو یقال حسبما أفاده شیخنا النائینی قدس سره علی ما فی تقریرات

ص :93

الکاظمی قدس سره ج 3 ص 69 قال إن الآیات الناهیة عن العمل بالظن لا تشمل خبر الثقة لأن العمل بخبر الثقة فی طریقة العقلاء لیس من العمل بما وراء العلم بل هو من أفراد العلم لعدم التفات العقلاء إلی مخالفة الخبر للواقع لما قد جرت علی ذلک طباعهم و استقرت علیه عادتهم فهو خارج عن العمل بالظن موضوعا فلا تصلح أن تکون الآیات الناهیة عن العمل بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة بل الردع یحتاج إلی قیام الدلیل علیه بالخصوص) .و علی کل حال لو کانت هذه الآیات صالحة للردع عن مثل خبر الواحد و الظواهر التی جرت سیرة العقلاء علی العمل بها و منهم المسلمون لعرف ذلک بین المسلمین و انکشف لهم و لما أطبقوا علی العمل بها و جرت سیرتهم علیه .فهذا دلیل قطعی علی عدم صلاحیة هذه الآیات للردع عن العمل بخبر الواحد فلا نطیل بذکر الدور الذی أشکلوا به فی المقام و الجواب عنه و إن شئت الاطلاع فراجع الرسائل و کفایة الأصول

ص :94

الباب الثالث الإجماع

اشارة

ص :95

ص :96

الإجماع أحد معانیه فی اللغة الاتفاق .
اشارة

(و المراد منه فی الاصطلاح اتفاق خاص .و هو إما اتفاق الفقهاء من المسلمین علی حکم شرعی .أو اتفاق أهل الحل و العقد من المسلمین علی الحکم .أو اتفاق أمة محمد علی الحکم) .علی اختلاف التعریفات عندهم .و مهما اختلفت هذه التعبیرات فإنها علی ما یظهر ترمی إلی معنی جامع بینها (و هو اتفاق جماعة لاتفاقهم شأن فی إثبات الحکم الشرعی) .و لذا استثنوا من المسلمین سواد الناس و عوامهم لأنهم لا شأن لآرائهم فی استکشاف الحکم الشرعی و إنما هم تبع للعلماء و لأهل الحل و العقد .و علی کل حال فإن هذا الإجماع بما له من هذا المعنی قد جعله الأصولیون من أهل السنة أحد الأدلة الأربعة أو الثلاثة علی الحکم الشرعی فی مقابل الکتاب و السنة .أما الإمامیة فقد جعلوه أیضا أحد الأدلة علی الحکم الشرعی و لکن من ناحیة شکلیة و اسمیة فقط مجاراة للنهج الدراسی فی أصول الفقه عند السنیین أی إنهم لا یعتبرونه دلیلا مستقلا فی مقابل الکتاب و السنة بل إنما یعتبرونه إذا کان کاشفا عن السنة أی عن قول المعصوم فالحجیة و العصمة لیستا للإجماع بل الحجة فی الحقیقة هو قول المعصوم الذی یکشف عنه الإجماع عند ما تکون له أهلیة هذا الکشف .و لذا توسع الإمامیة فی إطلاق کلمة الإجماع علی اتفاق جماعة قلیلة لا یسمی اتفاقهم فی الاصطلاح إجماعا باعتبار أن اتفاقهم یکشف کشفا قطعیا عن قول المعصوم فیکون له حکم الإجماع بینما لا یعتبرون الإجماع

ص :97

الذی لا یکشف عن قول المعصوم و إن سمی إجماعا بالاصطلاح و هذه نقطة خلاف جوهریة فی الإجماع ینبغی أن نجلیها و نلتمس الحق فیها فإن لها کل الأثر فی تقییم الإجماع من جهة حجیته .و لأجل أن نتوصل إلی الغرض المقصود لا بد من توجیه بعض الأسئلة لأنفسنا لنلتمس الجواب علیها .أولا من أین انبثق للأصولیین القول بالإجماع فجعلوه حجة و دلیلا مستقلا علی الحکم الشرعی فی مقابل الکتاب و السنة .ثانیا هل المعتبر عند من یقول بالإجماع اتفاق جمیع الأمة أو اتفاق جمیع العلماء فی عصر من العصور أو بعض منهم یعتد به و من هم الذین یعتد بأقوالهم .

أما السؤال الأول

فإن الذی یثیره فی النفس و یجعلها فی موضع الشک فیه أن إجماع الناس جمیعا علی شیء أو إجماع أمة من الأمم بما هو إجماع و اتفاق لا قیمة علمیة له فی استکشاف حکم الله لأنه لا ملازمة بینه و بین حکم الله فالعلم به لا یستلزم العلم بحکم الله بأی وجه من وجوه الملازمة .نعم الشیء الذی یجب ألا یفوتنا التنبیه علیه فی الباب أنا قد قلنا فیما سبق فی الجزء الثانی و سیأتی أن تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء فی القضایا المشهورة العملیة التی نسمیها الآراء المحمودة و التی تتعلق بحفظ النظام و النوع یستکشف به الحکم الشرعی لأن الشارع من العقلاء بل رئیسهم و هو خالق العقل فلا بد أن یحکم بحکمهم .و لکن هذا التطابق لیس من نوع الإجماع المقصود بل هو نفس الدلیل العقلی الذی نقول بحجیته فی مقابل الکتاب و السنة و الإجماع و هو من باب التحسین و التقبیح العقلیین الذی ینکره هؤلاء الذاهبون إلی حجیة

ص :98

الإجماع .أما إجماع الناس الذی لا یدخل فی تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء فلا سبیل إلی اتخاذه دلیلا علی الحکم الشرعی لأن اتفاقهم قد یکون بدافع العادة أو العقیدة أو الانفعال النفسی أو الشبهة أو نحو ذلک و کل هذه الدوافع من خصائص البشر لا یشارکهم الشارع فیها لتنزهه عنها فإذا حکموا بشیء بأحد هذه الدوافع لا یجب أن یحکم الشارع بحکمهم فلا یستکشف من اتفاقهم علی حکم بما هو اتفاق أن هذا الحکم واقعا هو حکم الشارع .و لو أن إجماع الناس بما هو إجماع کیف ما کان و بأی دافع کان هو حجة و دلیل لوجوب أن یکون إجماع الأمم الأخری غیر المسلمة أیضا حجة و دلیلا و لا یقول بذلک واحد ممن یری حجیة الإجماع .إذن کیف اتخذ الأصولیون إجماع المسلمین بالخصوص حجة و ما الدلیل لهم علی ذلک و للجواب عن هذا السؤال علینا أن نرجع القهقری إلی أول إجماع اتخذ دلیلا فی تاریخ المسلمین أنه الإجماع المدعی علی بیعه أبی بکر خلیفة للمسلمین فإنه إذ وقعت البیعة له و المفروض أنه لا سند لها من طریق النص القرآنی و السنة النبویة اضطروا إلی تصحیح شرعیتها من طریق الإجماع فقالوا أولا إن المسلمین من أهل المدینة أو أهل الحل و العقد منهم أجمعوا علی بیعته .و ثانیا إن الإمامة من الفروع لا من الأصول .و ثالثا إن الإجماع حجة فی مقابل الکتاب و السنة أی إنه دلیل ثالث غیر الکتاب و السنة .ثم منه توسعوا فاعتبروه دلیلا فی جمیع المسائل الشرعیة الفرعیة

ص :99

و سلکوا لإثبات حجیته ثلاثة مسالک الکتاب و السنة و العقل و من الطبیعی ألا یجعلوا الإجماع من مسالکه لأنه یؤدی إلی إثبات الشیء بنفسه و هو دور باطل .أما مسلک الکتاب فآیات استدلوا بها لا تنهض دلیلا علی مقصودهم و أولاها بالذکر آیة سبیل المؤمن و هی قوله تعالی سورة النساء 114 وَ مَنْ یُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدیٰ وَ یَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰی وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِیراً فإنها توجب اتباع سبیل المؤمنین فإذا أجمع المؤمنون علی حکم فهو سبیلهم فیجب اتباعه و بهذه الآیة تمسک الشافعی علی ما نقل عنه .(و یکفینا فی رد الاستدلال بها ما استظهره الشیخ الغزالی منها إذ قال (1) الظاهر أن المراد بها أن من یقاتل الرسول و یشاقه و یتبع غیر سبیل المؤمنین فی مشایعته و نصرته و دفع الأعداء عنه نوله ما تولی فکأنه لم یکتف بترک المشاقة حتی تنضم إلیه متابعة سبیل المؤمنین من نصرته و الذب عنه و الانقیاد له فیما یأمر و ینهی .ثم قال و هذا هو الظاهر السابق إلی الفهم) و هو کذلک کما استظهره أما الآیات الأخری فقد اعترف الغزالی کغیره فی عدم ظهورها فی حجیة الإجماع فلا نطیل بذکرها و مناقشة الاستدلال بها .و أما مسلک السنة فهی أحادیث رواها بما یؤدی مضمون الحدیث (:لا تجتمع أمتی علی الخطإ)و قد ادعوا تواترها معنی فاستنبطوا منها عصمة الأمة الإسلامیة من الخطإ و الضلالة فیکون إجماعها کقول المعصوم حجة و مصدرا مستقلا لمعرفة حکم الله .و هذه الأحادیث علی تقدیر التسلیم بصحتها و أنها توجب العلم

ص :100


1- 1) المستصفی ج 1 ص 111.

لتواترها معنی لا تنفع فی تصحیح دعواهم لأن المفهوم من اجتماع الأمة کل الأمة لا بعضها فلا یثبت بهذه الأحادیث عصمة البعض من الأمة بینما أن مقصودهم من الإجماع إجماع خصوص الفقهاء أو أهل الحل و العقد فی عصر من العصور بل خصوص الفقهاء المعروفین بل خصوص المعروفین من فقهاء طائفة خاصة و هی طائفة أهل السنة بل یکتفون باتفاق جماعة یطمئنون إلیهم کما هو الواقع فی بیعة السقیفة .فأنی لنا أن نحصل علی إجماع جمیع الأمة بجمیع طوائفها و أشخاصها فی جمیع العصور إلا فی ضروریات الدین مثل وجوب الصلاة و الزکاة و نحوهما و هذه ضروریات الدین لیست من نوع الإجماع المبحوث عنه و لا تحتاج فی إثبات الحکم بها إلی القول بحجیة الإجماع .و أما مسلک العقل الذی عبر عنه بعضهم بالطریق المعنوی فغایة ما یقال فی توجیهه أن الصحابة إذا قضوا بقضیة و زعموا أنهم قاطعون بها فلا یقطعون بها إلا عن مستند قاطع و إذا کثروا کثرة تنتهی إلی حد التواتر فالعادة تحیل علیهم قصد الکذب و تحیل علیهم الغلط فقطعهم فی غیر محل القطع محال فی العادة و التابعون و تابعوا التابعین إذا قطعوا بما قطع به الصحابة فیستحیل فی العادة أن یشذ عن جمیعهم الحق مع کثرتهم .و مثل هذا الدلیل یصح أن یناقش فیه بأن إجماعهم هذا إن کان یعلم بسببه قول المعصوم فلا شک فی أن هذا علم قطعی بالحکم الواقعی فیکون حجة لأنه قطع بالنسبة و لا کلام لأحد فیه لأن هذا الإجماع یکون من طرق إثبات السنة .و أما إذا لم یعلم بسببه قول المعصوم کما هو المقصود من فرض الإجماع حجة مستقلة و دلیلا فی مقابل الکتاب و السنة فإن قطع المجمعین مهما کانوا لئن کان یستحیل فی العادة قصدهم الکذب فی ادعاء القطع کما

ص :101

فی الخبر المتواتر فإنه لا یستحیل فی حقهم الغفلة أو الاشتباه أو الغلط کما لا یستحیل أن یکون إجماعهم بدافع العادة أو العقیدة أو أی دافع من الدوافع الأخری التی أشرنا إلیها سابقا .و لأجل ذلک اشترطنا فی التواتر الموجب للعلم ألا یتطرق إلیه احتمال خطإ المخبرین فی فهم الحادثة و اشتباههم کما شرحناه فی کتاب المنطق الجزء الثالث ص 10 .و لا عجب فی تطرق احتمال الخطإ فی اتفاق الناس علی رأی بل تطرق الاحتمال إلی ذلک أکثر من تطرقه إلی الاتفاق فی النقل لأن أسباب الاشتباه و الغلط فیه أکثر .ثم إن هذا الطریق العقلی أو المعنوی لو تم فأی شیء یخصصه بخصوص الصحابة أو المسلمین أو علماء طائفة خاصة من دون باقی الناس و سائر الأمم إلا إذا ثبت من دلیل آخر اختصاص المسلمین أو بعض منهم بمزیة خاصة لیست للأمم الأخری و هی العصمة من الخطإ فإذا علی التقدیر لا یکون الدلیل علی الإجماع إلا هذا الدلیل الذی یثبت العصمة للأمة المسلمة أو بعضها لا الطریق العقلی المدعی و هذا رجوع إلی المسلک الأول و الثانی و لیس هو مسلکا مستقلا عنها .و بالختام نقول إذا کانت هذه المسالک الثلاثة لم تتم لنا أدلة علی حجیة الإجماع من أصله من جهة أنه إجماع فلا یظهر للإجماع قیمة من ناحیة کونه حجة و مصدرا للتشریع الإسلامی مهما بالغ الناس فی الاعتماد علیه و إنما یصح الاعتماد علیه إذا کشف لنا عن قول المعصوم فیکون حینئذ کالخبر المتواتر الذی تثبت به السنة و سیأتی البحث عن ذلک

ص :102

و أما السؤال الثانی

فالذی یثیره أن ظاهر تلک المسالک الثلاثة المتقدمة یقضی بأن الحجة أنما هو إجماع الأمة کلها أو جمیع المؤمنین بدون استثناء فمتی ما شذ واحد منهم أی کان فلا یتحقق الإجماع الذی قام الدلیل علی حجیته فإنه مع وجود المخالف و إن کان واحدا لا یحصل القطع بحجیة إجماع من عداه مهما کان شأنهم لأن العصمة علی تقدیر ثبوتها بالأدلة المتقدمة أنما ثبتت لجمیع الأمة لا لبعضها .و لکن ما توقعوه من ذهابهم إلی حجیة الإجماع هو إثبات شرعیة بیعه أبی بکر لم یحصل لهم لأنه قد ثبت من طریق التواتر مخالفة علی علیه السلام و جماعة کبیرة من بنی هاشم و باقی المسلمین و لئن التجأ أکثرهم بعد ذلک إلی البیعة فإنه بقی منهم من لم یبایع حتی مات مثل سعد بن عبادة قتیل الجن .و لأجل هذه المفارقة بین أدلة الإجماع و واقعة الذی أرادوا تصحیحه کثرت الأقوال فی هذا الباب لتوجیهها فقال مالک علی ما نسب إلیه إن الحجة هو إجماع أهل المدینة فقط و قال قوم الحجة إجماع أهل الحرمین مکة و المدینة و المصرین الکوفة و البصرة و قال قوم المعتبر إجماع أهل الحل و العقد و قال بعض المعتبر إجماع الفقهاء الأصولیین خاصة و قال بعض الاعتبار بإجماع أکثر المسلمین و اشترط بعض فی المجمعین أن یحققوا عدد التواتر و قال آخرون الاعتبار بإجماع الصحابة فقط دون غیرهم ممن جاءوا بعد عصرهم کما نسب ذلک إلی داود و شیعته إلی غیر ذلک من الأقوال التی یطول ذکرها المنقولة فی جملة من کتب الأصول .

ص :103

و کل هذه الأقوال تحکمات لا سند لها و لا دلیل و لا ترفع الغائلة من تلک المفارقة الصارخة و الذی دفع أولئک القائلین بتلک المقالات أمور وقعت فی تاریخ بیعة الخلفاء یطول شرحها أرادوا تصحیحها بالإجماع .هذه هی الجذور العمیقة للمسألة التی أوقعت القائلین بحجیة الإجماع فی حیص و بیص لتصحیحه و توجیهه و إلا فتلک المسالک الثلاثة إن سلمت لا تدل علی أکثر من حجیة إجماع الکل بدون استثناء فتخصیص حجیته ببعض الأمة دون بعض بلا مخصص نعم المخصص هو الرغبة فی إصلاح أصل المذهب و المحافظة علیه علی کل حال

ص :104

الإجماع عند الإمامیة

إن الإجماع بما هو إجماع لا قیمة علمیة له عند الإمامیة ما لم یکشف عن قول المعصوم کما تقدم وجهه فإذا کشف علی نحو القطع عن قوله فالحجة فی الحقیقة هو المنکشف لا الکاشف فیدخل حینئذ فی السنة و لا یکون دلیلا مستقلا فی مقابلها .و قد تقدم أنه لم تثبت عندنا عصمة الأمة عن الخطإ و إنما أقصی ما یثبت عندنا من اتفاق الأمة أنه یکشف عن رأی من له العصمة فالعصمة فی المنکشف لا فی الکاشف .و علی هذا فیکون الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر الکاشف بنحو القطع عن قول المعصوم فکما أن الخبر المتواتر لیس بنفسه دلیلا علی الحکم الشرعی رأسا بل هو دلیل علی الدلیل علی الحکم فکذلک الإجماع لیس بنفسه دلیلا بل هو دلیل علی الدلیل .غایة الأمر أن هناک فرقا بین الإجماع و الخبر المتواتر إن الخبر دلیل لفظی علی قول المعصوم أی إنه یثبت به نفس کلام المعصوم و لفظه فیما إذا کان التواتر للفظ أما الإجماع فهو دلیل قطعی علی نفس رأی المعصوم لا علی لفظ خاص له لأنه لا یثبت به فی أی حال أن المعصوم قد تلفظ بلفظ خاص معین فی بیانه للحکم .و لأجل هذا یسمی الإجماع بالدلیل اللبی نظیر الدلیل العقلی یعنی أنه یثبت بهما نفس المعنی و المضمون من الحکم الشرعی الذی هو کاللب بالنسبة إلی اللفظ الحاکی عنه الذی هو کالقشر له .و الثمرة بین الدلیل اللفظی و اللبی تظهر فی المخصص إذا کان لبیا أو

ص :105

لفظیا علی ما ذکره الشیخ الأنصاری کما تقدم فی الجزء الأول ص 152 لذهابه إلی جواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة إذا کان المخصص لبیا دون ما إذا کان لفظیا .و إذا کان الإجماع حجة من جهة کشفه عن قول المعصوم فلا یجب فیه اتفاق الجمیع بغیر استثناء کما هو مصطلح أهل السنة علی مبناهم بل یکفی اتفاق کل من یستکشف من اتفاقهم قول المعصوم کثروا أم قلوا إذا کان العلم باتفاقهم یستلزم العلم بقول المعصوم کما صرح بذلک جماعة من علمائنا .(قال المحقق فی المعتبر ص 6 بعد أن أناط حجیة الإجماع بدخول المعصوم فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما کان حجة و لو حصل فی اثنین کان قولهما حجة) .(و قال السید المرتضی علی ما نقل عنه إذا کان علة کون الإجماع حجة کون الإمام فیهم فکل جماعة کثرت أو قلت کان الإمام فی أقوالها فإجماعها حجة) .إلی غیر ذلک من التصریحات المنقولة عن جماعة کثیرة من علمائنا و لکن سیأتی أنه علی بعض المسالک فی الإجماع لا بد من إحراز اتفاق الجمیع .و علی هذا فیکون تسمیة اتفاق جماعة من علماء الإمامیة بالإجماع مسامحة ظاهرة فإن الإجماع حقیقة عرفیة فی اتفاق جمیع العلماء المسلمین علی حکم شرعی و لا یلزم من کون مثل اتفاق الجماعة القلیلة حجة أن یصح تسمیتها بالإجماع و لکن قد شاع هذا التسامح فی لسان الخاصة من علماء الإمامیة علی وجه أصبح لهم اصطلاح آخر فیه فیراد من الإجماع عندهم کل اتفاق یستکشف منه قول المعصوم سواء کان اتفاق الجمیع أو البعض فیعم القسمین .و الخلاصة التی نرید أن ننص علیها و تعنینا من البحث أن الإجماع أنما

ص :106

یکون حجة إذا علم بسببه علی سبیل القطع قول المعصوم فما لم یحصل العلم بقوله و إن حصل الظن منه فلا قیمة له عندنا و لا دلیل علی حجیة مثله .أما کیف یستکشف من الإجماع علی سبیل القطع قول المعصوم فهذا ما ینبغی البحث عنه و قد ذکروا لذلک طرقا أنهاها المحقق الشیخ أسد الله التستری فی رسالته فی المواسعة و المضایقة علی ما نقل عنه إلی اثنتی عشرة طریقا و نحن نکتفی بذکر الطرق المعروفة و هی ثلاث بل أربع 1 طریقة الحس و بها یسمی الإجماع الإجماع الدخولی و تسمی الطریقة التضمنیة و هی الطریقة المعروفة عند قدماء الأصحاب التی اختارها السید المرتضی و جماعة سلکوا مسلکه .و حاصلها أن یعلم بدخول الإمام فی ضمن المجمعین علی سبیل القطع من دون أن یعرف بشخصه من بینهم .و هذه الطریقة أنما تتصور إذا استقصی الشخص المحصل للإجماع بنفسه و تتبع أقوال العلماء فعرف اتفاقهم و وجد من بینها أقوالا متمیزة معلومة لأشخاص مجهولین حتی حصل له العلم بأن الإمام من جملة أولئک المتفقین أو یتواتر لدیه النقل عن أهل بلد أو عصر فعلم أن الإمام کان من جملتهم و لم یعلم قوله بعینه من بینهم فیکون من نوع الإجماع المنقول بالتواتر .و من الواضح أن هذه الطریقة لا تتحقق غالبا إلا لمن کان موجودا فی عصر الإمام أما بالنسبة إلی العصور المتأخرة فبعیدة التحقق لا سیما فی الصورة الأولی و هی السماع من نفس الإمام .و قد ذکروا أنه لا یضر فی حجیة الإجماع علی هذه الطریقة مخالفة معلوم النسب و إن کثروا ممن یعلم أنه غیر الإمام بخلاف مجهول النسب علی وجه یحتمل أنه الإمام فإنه فی هذه الصورة لا یتحقق العلم

ص :107

بدخول الإمام فی المجمعین .2 طریقة قاعدة اللطف و هی أن یستکشف عقلا رأی المعصوم من اتفاق من عداه من العلماء الموجودین فی عصره خاصة أو فی العصور المتأخرة مع عدم ظهور ردع من قبله لهم بأحد وجوه الردع الممکنة خفیة أو ظاهرة إما بظهوره نفسه أو بإظهار من یبین الحق فی المسألة فإن قاعدة اللطف کما اقتضت نصب الإمام و عصمته تقتضی أیضا أن یظهر الإمام الحق فی المسألة التی یتفق المفتون فیها علی خلاف الحق و إلا للزم سقوط التکلیف بذلک الحکم أو إخلال الإمام بأعظم ما وجب علیه و نصب لأجله و هو تبلیغ الأحکام المنزلة .و هذه الطریقة هی التی اختارها الشیخ الطوسی و من تبعه بل یری انحصار استکشاف قول الإمام من الإجماع فیها و ربما یستظهر من کلام السید المرتضی المنقول فی العدة عنه فی رد هذه الطریقة کونها معروفة قبل الشیخ أیضا .و لازم هذه الطریقة عدم قدح المخالفة مطلقا سواء کانت من معلوم النسب أو مجهوله مع العلم بعدم کونه الإمام و لم یکن معه برهان یدل علی صحة فتواه .و لازم هذه الطریقة أیضا عدم کشف الإجماع إذا کان هناک آیة أو سنة قطعیة علی خلاف المجمعین و إن لم یفهموا دلالتها علی الخلاف إذ یجوز أن یکون الإمام قد اعتمد علیها فی تبلیغ الحق .3 طریقة الحدس و هی أن یقطع بکون ما اتفق علیه الفقهاء الإمامیة وصل إلیهم من رئیسهم و إمامهم یدا بید فإن اتفاقهم مع کثرة اختلافهم فی أکثر المسائل یعلم منه أن الاتفاق کان مستندا إلی رأی إمامهم لا عن اختراع للرأی من تلقاء أنفسهم اتباعا للأهواء أو استقلالا بالفهم

ص :108

کما یکون ذلک فی اتفاق اتباع سائر ذوی الآراء و المذاهب فإنه لا نشک فیها أنها مأخوذة من متبوعهم و رئیسهم الذی یرجعون إلیه .و الذی یظهر أنه قد ذهب إلی هذه الطریقة أکثر المتأخرین و لازمها أن الاتفاق ینبغی أن یقع فی جمیع العصور من عصر الأئمة إلی العصر الذی نحن فیه لأن اتفاق أهل عصر واحد مع مخالفة من تقدم یقدح فی حصول القطع بل یقدح فیه مخالفة معلوم النسب ممن یعتد بقوله فضلا عن مجهول النسب .4 طریقة التقریر و هی أن یتحقق الإجماع بمرأی و مسمع من المعصوم مع إمکان ردعهم ببیان الحق لهم و لو بإلقاء الخلاف بینهم فإن اتفاق الفقهاء علی حکم و الحال هذه یکشف عن إقرار المعصوم لهم فیما رأوه و تقریرهم علی ما ذهبوا إلیه فیکون ذلک دلیلا علی أن ما اتفقوا علیه هو حکم الله واقعا .و هذه الطریقة لا تتم إلا مع إحراز جمیع شروط التقریر التی قد تقدم الکلام علیها فی مبحث السنة و مع إحراز جمیع الشروط لا شک فی استکشاف موافقة المعصوم بل بیان الحکم من شخص واحد بمرأی و مسمع من المعصوم مع إمکان ردعه و سکوته عنه یکون سکوته تقریرا کاشفا عن موافقته و لکن المهم أن یثبت لنا أن الإجماع فی عصر الغیبة هل یتحقق فیه إمکان الردع من الإمام و لو بإلقاء الخلاف أو هل یجب علی الإمام بیان الحکم الواقعی و الحال هذه و سیأتی ما ینفع فی المقام هذه خلاصة ما قیل من الوجوه المعروفة فی استنتاج قول الإمام من الإجماع و قد یحصل للإنسان المتتبع لأقوال العلماء المحصل لإجماعهم بعض

ص :109

الوجوه دون البعض أی لا یجب فی کل إجماع أن یبتنی علی وجه واحد من هذه الوجوه و إن کان السید المرتضی یری انحصاره فی الطریقة الأولی الطریقة التضمنیة أی الإجماع الدخولی و الشیخ الطوسی یری انحصاره فی الطریقة الثانیة طریقة قاعدة اللطف .و علی کل حال فإن الإجماع أنما یکون حجة إذا کشف کشفا قطعیا عن قول المعصوم من أی سبب کان و علی أیة طریقة حصل فلیس من الضروری أن نفرض حصوله من طریقة مخصوصة من هذه الطرق أو نحوها بل المناط حصول القطع بقول المعصوم .و التحقیق أنه یندر حصول القطع بقول المعصوم من الإجماع المحصل ندرة لا تبقی معها قیمة لأکثر الإجماعات التی نحصلها بل لجمیعها بالنسبة إلی عصور الغیبة و تفصیل ذلک أن نقول ببرهان السبر و التقسیم إن المجمعین إما أن یکون رأیهم الذی اتفقوا علیه بغیر مستند و دلیل أو عن مستند و دلیل .لا یصح الفرض الأول لأن ذلک مستحیل عادة فی حقهم و لو جاز ذلک فی حقهم فلا تبقی قیمة لآرائهم حتی یستکشف منها الحق .فیتعین الفرض الثانی و هو أن یکون لهم مدرک خفی علینا و ظهر لهم .و مدارک الأحکام منحصرة عند الإمامیة فی أربعة الکتاب و السنة و الإجماع و الدلیل العقلی و لا یصح أن یکون مدرکهم ما عدا السنة من هذه الأربعة أما الکتاب فإنما لا یصح أن یکون مدرکهم فلأجل أن القرآن

ص :110

الکریم بین أیدینا مقروء و مفهوم فلا یمکن فرض آیة منه خفیت علینا و ظهرت لهم و لو فرض أنهم فهموا من آیة شیئا خفی علینا وجهه فإن فهمهم لیس حجة علینا فاجتماعهم لو استند إلی ذلک لا یکون موجبا للقطع بالحکم الواقعی أو موجبا لقیام الحجة علینا فلا ینفع مثل هذا الإجماع .و أما الإجماع فواضح أنه لا یصح أن یکون مدرکا لهم لأن هذا الإجماع الذی صار مدرکا للإجماع ننقل الکلام إلیه أیضا فنسأل عن مدرکه فلا بد أن ینتهی إلی غیره من المدارک الأخری .و أما الدلیل العقلی فأوضح لأنه لا یتصور هناک قضیة عقلیة یتوصل بها إلی حکم شرعی کانت مستورة علینا و ظهرت لهم ضرورة أنه لا بد فی القضیة العقلیة التی یتوصل بها إلی الحکم الشرعی أن تتطابق علیها جمیع آراء العقلاء و إلا فلا یصح التوصل بها إلی الحکم الشرعی فلو أن المجمعین کانوا قد تمسکوا بقضیة عقلیة لیست بهذه المثابة فلا تبقی قیمة لآرائهم حتی یستکشف منها الحق و موافقة الإمام لأنهم یکونون کمن لا مدرک لهم .فانحصر مدرکهم فی جمیع الأحوال فی السنة .و الإسناد إلی السنة یتصور علی وجهین 1 أن یسمع المجمعون أو بعضهم الحکم من المعصوم مشافهة أو یرون فعله أو تقریره و هذا بالنسبة إلی عصرنا لا سبیل فیه حتی إلی الظن به فضلا عن القطع و إن احتمل إمکان مشافهة بعض الأبدال من العلماء للإمام .بل الحال کذلک حتی بالنسبة إلی من هم فی عصر المعصومین أی إنه لا یحصل القطع فیه لنا بمشافهتهم للمعصوم لاحتمال أنهم استندوا إلی روایة وثقوا بها و إن کان احتمال المشافهة قریبا جدا بل هی مظنونة .علی أنه لا مجال بالنسبة إلینا لتحصیل إجماع الفقهاء الموجودین

ص :111

فی تلک العصور إذ لیست آراؤهم مدونة و کل ما دونوه هی الأحادیث التی ذکروها فی أصولهم المعروفة بالأصول الأربعمائة .2 أن یستند المجمعون إلی روایة عن المعصوم و لا مجال فی هذا الإجماع لإفادته القطع بالحکم أو کشفه عن الحجة الشرعیة من جهة السند و الدلالة معا أما من جهة السند فلاحتمال أن المجمعین کانوا متفقین علی اعتبار الخبر الموثق أو الحسن فمن لا یری حجیتهما لا مجال له فی الاستناد إلی مثله فمن أین یحصل لنا العلم بأنهم استندوا إلی ما هو حجة باتفاق الجمیع .و أما من جهة الدلالة فلاحتمال أن یکون ذلک الخبر المفروض لو فرض أنه حجة من جهة السند لیس نصا فی الحکم و لا ینفع أن یکون ظاهرا عندهم فی الحکم فإن ظهور دلیل عند قوم لا یستلزم أن یکون ظاهرا لدی کل أحد و فهم قوم لیس حجة علی غیرهم أ لا تری أن المتقدمین اشتهر عندهم استفادة النجاسة من أخبار البئر و اشتهر عند المتأخرین عکس ذلک ابتداء من العلامة الحلی فلعل الخبر الذی کان مدرکا لهم لیس ظاهرا عندنا لو اطلعنا علیه .إذا عرفت ذلک ظهر لک أن الإجماع لا یستلزم القطع بقول المعصوم عدا الإجماع الدخولی و هو بالنسبة إلینا غیر عملی .و أما القول بأن قاعدة اللطف تقتضی أن یکون الإمام موافقا لرأی المجمعین و إن استند المجمعون إلی خبر الواحد الذی ربما لا تثبت لنا حجیته من جهة السند أو الدلالة لو اطلعنا علیه فإننا لم نتحقق جریان هذه القاعدة فی المقام وفاقا لما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری و غیره بالرغم من تعویل الشیخ الطوسی و أتباعه علیها لأن السبب الذی یدعو إلی اختفاء الإمام و احتجاب نفعه مع ما فیه من تفویت لأعظم المصالح النوعیة للبشر هو نفسه

ص :112

قد یدعو إلی احتجاب حکم الله عند إجماع العلماء علی حکم مخالف للواقع لا سیما إذا کان الإجماع من أهل عصر واحد و لا یلزم من ذلک إخلال الإمام بالواجب علیه و هو تبلیغ الأحکام لأن الاحتجاب لیس من سببه .و علی هذا فمن أین یحصل لنا القطع بأنه لا بد للإمام من إظهار الحق فی حال غیبته عند حصول إجماع مخالف للواقع .و للمشکک أن یزید علی ذلک فیقول لما ذا لا تقتضی هذه القاعدة أن یظهر الإمام الحق حتی فی صورة الخلاف لا سیما أن بعض المسائل الخلافیة قد یقع فیها أکثر الناس فی مخالفة الواقع بل لو أحصینا المسائل الخلافیة فی الفقه التی هی الأکثر من مسائله لوجدنا أن کثیرا من الناس لا محالة واقعون فی مخالفة الواقع فلما ذا لا یجب علی الإمام هنا تبلیغ الأحکام لیقل الخلاف أو ینعدم و به نجاة المؤمنین من الوقوع فی مخالفة الواقع .و إذا جاء الاحتمال لا یبقی مجال لاستلزام الإجماع القطع بقول المعصوم من جهة قاعدة اللطف .و أما مسلک الحدس فإن عهدة دعواه علی مدعیها و لیس من السهل حصول القطع للإنسان فی ذلک إلا أن یبلغ الاتفاق درجة یکون الحکم فیه من ضروریات الدین أو المذهب أو قریبا من ذلک عند ما یحرز اتفاق جمیع العلماء فی جمیع العصور بغیر استثناء فإن مثل هذا الاتفاق یستلزم عادة موافقته لقول الإمام و إن کان مستند المجمعین خبر الواحد أو الأصل .و کذلک یلحق بالحدس مسلک التقریر و نحوه مما هو من هذا القبیل .و علی کل حال لم تبق لنا ثقة بالإجماع فیما بعد عصر الإمام فی استفادة قول الإمام علی سبیل القطع و الیقین

ص :113

الإجماع المنقول

إن الإجماع فی الاصطلاح ینقسم إلی قسمین 1 الإجماع المحصل و المقصود به الإجماع الذی یحصله الفقیه بنفسه بتتبع أقوال أهل الفتوی و هو الذی تقدم البحث عنه .2 الإجماع المنقول و المقصود به الإجماع الذی لم یحصله الفقیه بنفسه و إنما ینقله له من حصله من الفقهاء سواء کان النقل له بواسطة أم بوسائط .ثم النقل تارة یقع علی نحو التواتر و هذا حکمه حکم المحصل من جهة الحجیة .و أخری یقع علی نحو خبر الواحد و إذا أطلق قول الإجماع المنقول فی لسان الأصولیین فالمراد منه هذا الأخیر .و قد وقع الخلاف بینهم فی حجیته علی أقوال .و لکن الذی یظهر أنهم متفقون علی حجیة نقل الإجماع الدخولی و هو الإجماع الذی یعلم فیه من حال الناقل أنه تتبع فتاوی من نقل اتفاقهم حتی المعصوم فیدخل المعصوم فی جملة المجمعین و ینبغی أن یتفقوا علی ذلک لأنه لا یشترط فی حجیة خبر الواحد معرفة المعصوم تفصیلا حین سماع الناقل منه و هذا الناقل حسب الفرض قد نقل عن المعصوم بلا واسطة و إن لم یعرفه بالتفصیل .غیر أن الإجماع الدخولی مما یعلم عدم وقوع نقله لا سیما فی العصور المتأخرة عن عصر الأئمة بل لم یعهد من الناقلین للإجماع من ینقله علی

ص :114

هذا الوجه و یدعی ذلک .و علیه فموضع الخلاف منحصر فی حجیة الإجماع المنقول غیر الإجماع الدخولی و هو کما قلنا علی أقوال 1 أنه حجة مطلقا لأنه خبر واحد .2 أنه لیس بحجة مطلقا لأنه لا یدخل فی أفراد خبر الواحد من جهة کونه حجة .3 التفصیل بین نقل إجماع جمیع الفقهاء فی جمیع العصور الذی یعلم فیه من طریق الحدس قول المعصوم فیکون حجة و بین غیره من الإجماعات المنقولة التی یستکشف منها بقاعدة اللطف أو نحوها قول المعصوم فلا یکون حجة و إلی هذا التفصیل مال الشیخ الأنصاری الأعظم .و سر الخلاف فی المسألة یکمن فی أن أدلة خبر الواحد من جهة أنها تدل علی وجوب التعبد بالخبر لا تشمل کل خبر عن أی شیء کان بل مختصة بالخبر الحاکی عن حکم شرعی أو عن ذی أثر شرعی لیصح أن یتعبدنا الشارع به و إلا فالمحکی بالخبر إذا لم یکن حکما شرعیا أو ذا أثر شرعی لا معنی للتعبد به فلا یکون مشمولا لأدلة حجیة خبر الواحد .و من المعلوم أن الإجماع المنقول غیر الإجماع الدخولی أنما المحکی به بالمطابقة نفس أقوال العلماء و أقوال العلماء فی أنفسها بما هی أقوال علماء لیست حکما شرعیا و لا ذات أثر شرعی .و علیه فنقل أقوال العلماء من جهة کونها أقوال علماء لا یصح أن یکون مشمولا لأدلة خبر الواحد و إنما یصح أن یکون مشمولا لها إذا کشف هذا النقل عن الحکم الصادر عن المعصوم لیصح التعبد به .

ص :115

إذا عرفت ذلک فنقول إن ثبت لدینا أنه یکفی فی صحة التعبد بالخبر هو کشفه علی أی نحو کان من الکشف عن الحکم الصادر من المعصوم و لو باعتبار الناقل نظرا إلی أنه لا یعتبر فی حجیة الخبر حکایة نص ألفاظ المعصوم لأن المناط معرفة حکمه و لذا یجوز النقل بالمعنی فالإجماع المنقول الذی هو موضع البحث یکون حجة مطلقا لأنه کاشف و حاک عن الحکم باعتقاد الناقل فیکون مشمولا لأدلة حجیة الخبر .و أما إن ثبت لدینا أن المناط فی صحة التعبد بالخبر أن یکون حاکیا عن الحکم من طریق الحس أی یجب أن یکون الناقل قد سمع بنفسه الحکم من المعصوم و لذا لا تشمل أدلة حجیة الخبر فتوی المجتهد و إن کان قاطعا بالحکم مع أن فتواه فی الحقیقة حکایة عن الحکم بحسب اجتهاده فالإجماع المنقول الذی هو موضع البحث لیس بحجة مطلقا .و أما لو ثبت أن الإخبار عن حدس اللازم للإخبار عن حس یصح التعبد به لأن حکمه حکم الإخبار عن حس بلا فرق فإن التفصیل المتقدم فی القول الثالث یکون هو الأحق و إذا اتضح لدینا سر الخلاف فی المسألة بقی علینا أن نفهم أی وجه من الوجوه المتقدمة هو الأولی بالتصدیق و الأحق بالاعتماد فنقول أولا إن أدلة خبر الواحد جمیعها من آیات و روایات و بناء عقلاء أقصی دلالتها أنها تدل علی وجوب تصدیق الثقة و تصویبه فی نقله لغرض التعبد بما ینقل و لکنها لا تدل علی تصویبه فی اعتقاده .بیان ذلک أن معنی تصدیق الثقة هو البناء علی واقعیة نقله و واقعیة النقل تستلزم واقعیة المنقول بل واقعیة النقل عین واقعیة المنقول فالقطع

ص :116

بواقعیة النقل لا محالة یستلزم القطع بواقعیة المنقول و کذلک البناء علی واقعیة النقل یستلزم البناء علی واقعیة المنقول .و علیه فإذا کان المنقول حکما أو ذا أثر شرعی صح البناء علی الخبر و التعبد به بالنظر إلی هذا المنقول أما إذا کان المنقول اعتقاد الناقل کما لو أخبر شخص عن اعتقاده بحکم فغایة ما یقتضی البناء علی تصدیق نقله هو البناء علی واقعیة اعتقاده الذی هو المنقول و الاعتقاد فی نفسه لیس حکما و لا ذا أثر شرعی أما صحة اعتقاده و مطابقته للواقع فذلک شیء آخر أجنبی عنه لأن واقعیة الاعتقاد لا تستلزم واقعیة المعتقد به یعنی أننا قد نصدق المخبر عن اعتقاده فی أن هذا هو اعتقاده واقعا لکن لا یلزمنا أن نصدق بأن ما اعتقده صحیح و له واقعیة .و من هنا نقول إنه إذا أخبر شخص بأنه سمع الحکم من المعصوم صح أن نبنی علی واقعیة نقله تصدیقا له بمقتضی أدلة حجیة الخبر لأن ذلک یستلزم واقعیة المنقول و هو الحکم إذ لم یمکن التفکیک بین واقعیة النقل و واقعیة المنقول أما إذا أخبر عن اعتقاده بأن المعصوم حکم بکذا فلا یصح البناء علی واقعیة اعتقاده تصدیقا له بمقتضی أدلة حجیة الخبر لأن البناء علی واقعیة اعتقاده تصدیقا له لا یستلزم البناء علی واقعیة معتقده فیجوز التفکیک بینهما .فتحصل أن أدلة خبر الواحد أنما تدل علی أن الثقة مصدق و یجب تصویبه فی نقله و لا تدل علی تصویبه فی رأیه و اعتقاده و حدسه و لیس هناک أصل عقلائی یقول إن الأصل فی الإنسان أو الثقة خاصة أن یکون مصیبا فی رأیه و حدسه و اعتقاده .ثانیا بعد أن ثبت أن أدلة حجیة الخبر لا تدل علی تصویب الناقل فی رأیه و حدسه فنقول لو أن ما أخبر به الناقل للإجماع یستلزم فی نظر

ص :117

المنقول إلیه الحکم الصادر من المعصوم و إن لم یکن فی نظر الناقل مستلزما لذلک فهل هذا أیضا غیر مشمول لأدلة حجیة الخبر .الحق أنه ینبغی أن یکون مشمولا لها لأن الأخذ به حینئذ لا یکون من جهة تصدیق الناقل فی رأیه و ربما کان الناقل لا یری الاستلزام بل لا یکون الأخذ به إلا من جهة تصدیقه فی نقله لأنه لما کان المنقول و هو الإجماع یستلزم فی نظر المنقول إلیه الحکم الصادر من المعصوم فالأخذ به و البناء علی صحة نقله یستلزم البناء علی صدور الحکم فیصح التعبد به بلحاظ هذه الجهة .بل أن الخبر عن فتاوی الفقهاء یکون فی نظر المنقول إلیه ملزوما للخبر عن رأی المعصوم و حینئذ یکون هذا الخبر الثانی اللازم للخبر الأول هو المشمول لأدلة حجیة الخبر لا سیما إذا کان فی نظر الناقل أیضا مستلزما و لا نحتاج بعدئذ إلی تصحیح شمولها للخبر الأول الملزوم بلحاظ استلزامه للحکم یعنی أن الخبر عن الإجماع یکون دالا بالدلالة الالتزامیة علی صدور الحکم من المعصوم فیکون من ناحیة المدلول الالتزامی و هو الإخبار عن صدور الحکم حجة مشمولا لأدلة حجیة الخبر و إن لم یکن من جهة المدلول المطابقی حجة مشمولا لها لأن الدلالة الالتزامیة غیر تابعة للدلالة المطابقیة من ناحیة الحجیة و إن کانت تابعة لها ثبوتا إذ لا دلالة التزامیة إلا مع فرض الدلالة المطابقیة و لکن لا تلازم بینهما فی الحجیة .و إذا اتضح لک ما شرحناه یتضح لک أن الأولی التفصیل فی الإجماع المنقول بین ما إذا کان کاشفا عن الحکم فی نظر المنقول إلیه لو کان هو المحصل له فیکون حجة و بین ما إذا کان کاشفا عن الحکم فی نظر الناقل فقط دون المنقول إلیه فلا یکون حجة لما تقدم أن أدلة خبر الواحد لا تدل علی تصدیق الناقل فی نظره و رأیه .و لعله إلی هذا التفصیل یرمی الشیخ الأعظم فی تفصیله الذی أشرنا إلیه سابقا

ص :118

الباب الرابع الدلیل العقلی

اشارة

ص :119

ص :120

قد مضی فی الجزء الثانی البحث مستوفی عن الملازمات العقلیة لتشخیص صغریات حجیة العقل أی لتعیین القضایا العقلیة التی یتوصل بها إلی الحکم الشرعی و بیان ما هو الدلیل العقلی الذی یکون حجة .و قد حصرناها هناک فی قسمین رئیسین الأول حکم العقل بالحسن و القبح و هو قسم المستقلات العقلیة و الثانی حکمه بالملازمة بین حکم الشرع و حکم آخر و هو قسم غیر المستقلات العقلیة .و وعدنا هناک ببیان وجه حجیة الدلیل العقلی و الآن قد حل الوفاء بالوعد و لکن قبل بیان وجه الحجیة لا بد من الکرة بأسلوب جدید إلی البحث عن تلک القضایا العقلیة لغرض بیان الآراء فیها و بیان وجه حصرها و تعیینها فیما ذکرناه فنقول إن علماءنا الأصولیین من المتقدمین حصروا الأدلة علی الأحکام الشرعیة فی الأربعة المعروفة التی رابعها الدلیل العقلی بینما أن بعض علماء أهل السنة أضافوا إلی الأربعة المذکورة القیاس و نحوه علی اختلاف آرائهم و من هنا نعرف أن المراد من الدلیل العقلی ما لا یشمل مثل القیاس فمن ظن من الأخباریین فی الأصولیین أنهم یریدون منه ما یشمل القیاس لیس فی موضعه و هو ظن تأباه تصریحاتهم فی عدم الاعتبار بالقیاس و نحوه .و مع ذلک فإنه لم یظهر لی بالضبط ما کان یقصد المتقدمون من علمائنا بالدلیل العقلی حتی أن الکثیر منهم لم یذکره من الأدلة أو لم یفسره أو فسره بما لا یصلح أن یکون دلیلا فی قبال الکتاب و السنة .

ص :121

(و أقدم نص وجدته ما ذکره الشیخ المفید المتوفی سنة 413 فی رسالته الأصولیة التی لخصها الشیخ الکراجکی (1) فإنه لم یذکر الدلیل العقلی من جملة أدلة الأحکام و إنما ذکر أن أصول الأحکام ثلاثة الکتاب و السنة النبویة و أقوال الأئمة علیهم السلام ثم ذکر أن الطرق الموصلة إلی ما فی هذه الأصول ثلاثة اللسان و الأخبار و أولها العقل و قال عنه و هو سبیل إلی معرفة حجیة القرآن و دلائل الأخبار) و هذا التصریح کما تری أجنبی عما نحن فی صدده .(ثم یأتی بعده تلمیذه الشیخ الطوسی المتوفی سنة 460 فی کتابه العدة الذی هو أول کتاب مبسط فی الأصول فلم یصرح بالدلیل العقلی فضلا عن أن یشرحه أو یفرد له بحثا و کل ما جاء فیه فی آخر فصل منه أنه بعد أن قسم المعلومات إلی ضروریة و مکتسبة و المکتسب إلی عقلی و سمعی ذکر من جملة أمثلة الضروری العلم بوجوب رد الودیعة و شکر المنعم و قبح الظلم و الکذب ثم ذکر فی معرض کلامه أن القتل و الظلم معلوم بالعقل قبحه و یرید من قبحه تحریمه و ذکر أیضا أن الأدلة الموجبة للعلم فبالعقل یعلم کونها أدلة و لا مدخل للشرع فی ذلک)(و أول من وجدته من الأصولیین یصرح بالدلیل العقلی الشیخ ابن إدریس المتوفی 598 فقال فی السرائر ص 2 فإذا فقدت الثلاثة یعنی الکتاب و السنة و الإجماع فالمعتمد عند المحققین التمسک بدلیل العقل فیها) و لکنه لم یذکر المراد منه .(ثم یأتی المحقق الحلی المتوفی 676 فیشرح المراد منه فیقول فی کتابه المعتبر ص 6 بما ملخصه

ص :122


1- 1) راجع تألیفه کنز الفوائد ص 186 المطبوع علی الحجر فی إیران سنة 1322 ه.

و أما الدلیل العقلی فقسمان أحدهما ما یتوقف فیه علی الخطاب و هو ثلاثة لحن الخطاب و فحوی الخطاب و دلیل الخطاب و ثانیهما ما ینفرد العقل بالدلالة علیه و یحصره فی وجوه الحسن و القبح بما لا یخلو من المناقشة فی أمثلته) (و یزید علیه الشهید الأول المتوفی 786 فی مقدمة کتابه الذکری فیجعل القسم الأول ما یشمل الأنواع الثلاثة التی ذکرها المحقق و ثلاثة أخری و هی مقدمة الواجب و مسألة الضد و أصل الإباحة فی المنافع و الحرمة فی المضار و یجعل القسم الثانی ما یشمل ما ذکره المحقق و أربعة أخری و هی البراءة الأصلیة و ما لا دلیل علیه و الأخذ بالأقل عند التردید بینه و بین الأکثر و الاستصحاب) .و هکذا ینهج هذا النهج جماعة آخرون من المؤلفین فی حین أن الکتب الدراسیة المتداولة مثل المعالم و الرسائل و الکفایة لم تبحث هذا الموضوع و لم تعرف الدلیل العقلی و لم تذکر مصادیقه إلا إشارات عابرة فی ثنایا الکلام .و من تصریحات المحقق و الشهید الأول یظهر أنه لم تتجل فکرة الدلیل العقلی فی تلک العصور فوسعوا فی مفهومه إلی ما یشمل الظواهر اللفظیة مثل لحن الخطاب و هو أن تدل قرینة عقلیة علی حذف لفظ و فحوی الخطاب و یعنون به مفهوم الموافقة و دلیل الخطاب و یعنون به مفهوم المخالفة و هذه کلها تدخل فی حجیة الظهور و لا علاقة لها بدلیل العقل المقابل للکتاب و السنة .و کذلک الاستصحاب فإنه أصل عملی قائم برأسه کما بحثه المتقدمون فی مقابل دلیل العقل .(و الغریب فی الأمر أنه حتی مثل المحقق القمی المتوفی سنة 1231 نسق

ص :123

علی مثل هذا التفسیر لدلیل العقل فأدخل فیه الظواهر مثل المفاهیم بینما هو نفسه عرفه بأنه حکم عقلی یوصل به إلی الحکم الشرعی و ینتقل من العلم بالحکم العقلی إلی العلم بالحکم الشرعی (1)) .و أحسن من رأیته قد بحث الموضوع بحث الموضوع بحثا مفیدا معاصره العلامة السید محسن الکاظمی فی کتابه المحصول و کذلک تلمیذه المحقق صاحب الحاشیة علی المعالم الشیخ محمد تقی الأصفهانی الذی نسج علی منواله و إن کان فیما ذکره بعض الملاحظات لا مجال لذکرها و مناقشتها هنا .و علی کل حال فإن إدخال المفاهیم و الاستصحاب و نحوها فی مصادیق الدلیل العقلی لا یناسب جعله دلیلا فی مقابل الکتاب و السنة و لا یناسب تعریفه بأنه ما ینتقل من العلم بالحکم العقلی إلی العلم بالحکم الشرعی .و بسبب عدم وضوح المقصود من الدلیل العقلی انتحی الأخباریون باللائمة علی الأصولیین إذ یأخذون بالعقل حجة علی الحکم الشرعی و لکنهم أنفسهم أیضا لم یتضح مقصودهم فی التزهید بالعقل و هل تراهم یحکمون غیر عقولهم فی التزهید بالعقول .(و یتجلی لنا عدم وضوح المقصود من الدلیل العقلی ما ذکره الشیخ المحدث البحرانی فی حدائقه و هذا نص عبارته (2) المقام الثالث فی دلیل العقل و فسره بعض بالبراءة و الاستصحاب و آخرون قصروه علی الثانی و ثالث فسره بلحن الخطاب و فحوی الخطاب و دلیل الخطاب و رابع بعد البراءة الأصلیة و الاستصحاب بالتلازم بین الحکمین المندرج فیه مقدمة الواجب و استلزام الأمر بالشیء النهی عن ضده الخاص و الدلالة الالتزامیة).

ص :124


1- 1) راجع أول الجزء الثانی من کتاب القوانین.
2- 2) الجزء الأول ص 40 طبع النجف.

ثم تکلم عن کل منها فی مطالب عدا التلازم بین الحکمین لم یتحدث عنه و لم یذکر من الأقوال حکم العقل فی مسألة الحسن و القبح بینما أن حکم العقل المقصود الذی ینبغی أن یجعل دلیلا هو خصوص التلازم بین الحکمین و حکم العقل فی الحسن و القبح و ما نقله من الأقوال لم یکن دقیقا کما سبق بیان بعضها .و کیف ما کان فالذی یصلح أن یکون مرادا من الدلیل العقلی المقابل للکتاب و السنة هو کل حکم للعقل یوجب القطع بالحکم الشرعی و بعبارة ثانیة هو کل قضیة عقلیة یتوصل بها إلی العلم القطعی بالحکم الشرعی و قد صرح بهذا المعنی جماعة من المحققین المتأخرین .و هذا أمر طبیعی لأنه إذا کان الدلیل العقلی مقابلا للکتاب و السنة لا بد ألا یعتبر حجة إلا إذا کان موجبا للقطع الذی هو حجة بذاته فلذلک لا یصح أن یکون شاملا للظنون و ما لا یصلح للقطع بالحکم من المقدمات العقلیة .و لکن هذا التحدید بهذا المقدار لا یزال مجملا و قد وقع خلط و خبط عظیمان فی فهم هذا الأمر و لأجل أن ترفع جمیع الشکوک و المغالطات و الأوهام لا بد لنا من توضیح الأمر بشیء من البسط لوضع النقاط علی الحروف کما یقولون فنقول 1 إنه قد تقدم ج 2 ص 222 أن العقل ینقسم إلی عقل نظری و عقل عملی و هذا التقسیم باعتبار ما یتعلق به الإدراک فالمراد من العقل النظری إدراک ما ینبغی أن یعلم أی إدراک الأمور التی لها واقع و المراد من العقل العملی إدراک ما ینبغی أن

ص :125

یعمل أی حکمه بأن هذا الفعل ینبغی فعله أو لا ینبغی فعله .2 إنه ما المراد من العقل الذی نقول إنه حجة من هذین القسمین إن کان المراد العقل النظری فلا یمکن أن یستقل بإدراک الأحکام الشرعیة ابتداء أی لا طریق للعقل أن یعلم من دون الاستعانة بالملازمة أن هذا الفعل حکمه کذا عند الشارع و السر فی ذلک واضح لأن أحکام الله توقیفیة فلا یمکن العلم بها إلا من طریق السماع من مبلغ الأحکام المنصوب من قبله تعالی لتبلیغها ضرورة أن أحکام الله لیست من القضایا الأولیة و لیست مما تنالها المشاهدة بالبصر و نحوه من الحواس الظاهرة بل الباطنة و لیست أیضا مما تنالها التجربة و الحدس و إذا کانت کذلک فکیف یمکن العلم بها من غیر طریق السماع من مبلغها و شأنها فی ذلک شأن سائر المجعولات التی یضعها البشر کاللغات و الخطوط و الرموز و نحوها .و کذلک ملاکات الأحکام کنفس الأحکام لا یمکن العلم بها إلا من طریق السماع من مبلغ الأحکام لأنه لیس عندنا قاعدة مضبوطة نعرف بها أسرار أحکام الله و ملاکاتها التی أنیطت بها الأحکام عنده (1) و الظن لا یغنی من الحق شیئا .و علی هذا فمن نفی حجیة العقل و قال إن الأحکام سمعیة لا تدرک بالعقول فهو علی حق إذا أراد من ذلک ما أشرنا إلیه و هو نفی استقلال العقل النظری من إدراک الأحکام و ملاکاتها و لعل بعض منکری الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع قصد هذا المعنی کصاحب الفصول و جماعة من الأخباریین و لکن خانه التعبیر عن مقصوده و إذا کان هذا مرادهم فهو أجنبی عما نحن بصدده من کون الدلیل العقلی حجة یتوصل به إلی الحکم الشرعی

ص :126


1- 1) راجع ما تقدم[ج 2 ص 239].

إننا نقصد من الدلیل العقلی حکم العقل النظری بالملازمة بین الحکم الثابت شرعا أو عقلا و بین حکم شرعی آخر کحکمه بالملازمة فی مسألة الإجزاء و مقدمة الواجب و نحوهما و کحکمه باستحالة التکلیف بلا بیان اللازم منه حکم الشارع بالبراءة و کحکمه بتقدیم الأهم فی مورد التزاحم بین الحکمین المستنتج منه فعلیه حکم الأهم عند الله و کحکمه بوجوب مطابقة حکم الله لما حکم به العقلاء فی الآراء المحمودة .فإن هذه الملازمات و أمثالها أمور حقیقیة واقعیة یدرکها العقل النظری بالبداهة أو بالکسب لکونها من الأولیات و الفطریات التی قیاساتها معها أو لکونها تنتهی إلیها فیعلم بها العقل علی سبیل الجزم .و إذا قطع العقل بالملازمة و المفروض أنه قاطع بثبوت الملزوم فإنه لا بد أن یقطع بثبوت اللازم و هو أی اللازم حکم الشارع و مع حصول القطع فإن القطع حجة یستحیل النهی عنه بل به حجیة کل حجة کما سبق بیانه ص 16 .و علیه فهذه الملازمات العقلیة هی کبریات القضایا العقلیة التی بضمها إلی صغریاتها یتوصل بها إلی الحکم الشرعی و لا أظن أحدا بعد التوجه إلیها و الالتفات إلی حقیقتها یستطیع إنکارها إلا السوفسطائیین الذین ینکرون الوثوق بکل معرفة حتی المحسوسات .و لا أظن أن هذه القضایا العقلیة هی مقصود من أنکر حجیتها من الأخباریین و غیرهم و إن أوهمت بعض عباراتهم ذلک لعدم التمییز بین نقاط البحث .و إذا عرفت ذلک تعرف أن الخلط فی المقصود من إدراک العقل النظری و عدم التمییز بین ما یدرکه من الأحکام ابتداء و ما یدرکه منها بتوسط الملازمة هو سبب المحنة فی هذا الاختلاف و سبب المغالطة التی وقع فیها

ص :127

بعضهم إذ نفی مطلقا إدراک العقل لحکم الشارع و حجیته قائلا إن أحکام الله توقیفیة لا مسرح للعقول فیها و غفل عن أن هذا التعلیل أنما یصلح لنفی إدراکه للحکم ابتداء و بالاستقلال و لا یصلح لنفی إدراکه للملازمة المستتبع لعلمه بثبوت اللازم و هو الحکم .3 هذا کله إذا أرید من العقل العقل النظری .و أما لو أرید به العقل العملی فکذلک لا یمکن أن یستقل فی إدراک أن هذا ینبغی فعله عند الشارع أو لا ینبغی بل لا معنی لذلک لأن هذا الإدراک وظیفة العقل النظری باعتبار أن کون هذا الفعل ینبغی فعله عند الشارع بالخصوص أو لا ینبغی من الأمور الواقعیة التی تدرک بالعقل النظری لا بالعقل العملی و إنما کل ما للعقل العملی من وظیفة هو أن یستقل بإدراک أن هذا الفعل فی نفسه مما ینبغی فعله أو لا ینبغی مع قطع النظر عن نسبته إلی الشارع المقدس أو إلی أی حاکم آخر یعنی أن العقل العملی یکون هو الحاکم فی الفعل لا حاکیا عن حاکم آخر .و إذا حصل للعقل العملی هذا الإدراک جاء العقل النظری عقیبه فقد یحکم بالملازمة بین حکم العقل العملی و حکم الشارع و قد لا یحکم و لا یحکم بالملازمة إلا فی خصوص مورد مسألة التحسین و التقبیح العقلیین أی خصوص القضایا المشهورات التی تسمی الآراء المحمودة و التی تطابقت علیها آراء العقلاء کافة بما هم عقلاء .و حینئذ بعد حکم العقل النظری بالملازمة یستکشف حکم الشارع علی سبیل القطع لأنه بضم المقدمة العقلیة المشهورة التی هی من الآراء المحمودة التی یدرکها العقل العملی إلی المقدمة التی تتضمن الحکم بالملازمة التی یدرکها

ص :128

العقل النظری یحصل للعقل النظری العلم بأن الشارع له هذا الحکم لأنه حینئذ یقطع باللازم و هو الحکم بعد فرض قطعه بثبوت الملزوم و الملازمة .و من هنا قلنا سابقا إن المستقلات العقلیة تنحصر فی مسألة واحدة و هی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین لأنه لا یشارک الشارع حکم العقل العملی إلا فیها أی أن العقل النظری لا یحکم بالملازمة إلا فی هذا المورد خاصة (1)

وجه حجیة العقل

4 إذا عرفت ما شرحناه و هو أن العقل النظری یقطع باللازم أعنی حکم الشارع بعد قطعه بثبوت الملزوم الذی هو حکم الشرع أو العقل و بعد فرض قطعه بالملازمة نشرع فی بیان وجه حجیة العقل فنقول لقد انتهی الأمر بنا فی البحث السابق إلی أن الدلیل العقلی ما أوجب القطع بحکم الشارع و إذا کان الأمر کذلک فلیس ما وراء القطع حجة فإنه تنتهی إلیه حجیة کل حجة لأنه کما تقدم ص 21 هو حجة بذاته و لا یعقل سلخ الحجیة عنه .و هل تثبت الشریعة إلا بالعقل و هل یثبت التوحید و النبوة إلا بالعقل و إذا سلخنا أنفسنا عن حکم العقل فکیف نصدق برسالة و کیف نؤمن بشریعة بل کیف نؤمن بأنفسنا و اعتقاداتها و هل العقل إلا ما عبد به الرحمن و هل یعبد الدیان إلا به أن التشکیک فی حکم العقل سفسطة لیس وراءها سفسطة نعم کل

ص :129


1- 1) راجع البحث الرابع فی أسباب حکم العقل العملی ج 2 ص 223 فما بعدها لتعرف السر فی التخصیص بالآراء المحمودة.

ما یمکن الشک فیه هو الصغریات أعنی ثبوت الملازمات فی المستقلات العقلیة أو فی غیر المستقلات العقلیة و نحن إنما نتکلم فی حجیة العقل لإثبات الحکم الشرعی بعد ثبوت تلک الملازمات و قد شرحنا فی الجزء الثانی مواقع کثیرة من تلک الملازمات فأثبتنا بعضها فی مثل المستقلات العقلیة و نفینا بعضا آخر فی مثل مقدمة الواجب و مسألة الضد أما بعد ثبوت الملازمة و ثبوت الملزوم فأی معنی للشک فی حجیة العقل أو الشک فی ثبوت اللازم و هو حکم الشارع .و لکن مع کل هذا وقع الشک لبعض الأخباریین فی هذا الموضوع فلا بد من تجلیته لکشف المغالطة فنقول قد أشرنا فی الجزء الثانی ص 214 إلی هذا النزاع و قلنا إن مرجع هذا النزاع إلی ثلاث نواح و ذلک حسب اختلاف عباراتهم الأولی فی إمکان أن ینفی الشارع حجیة هذا القطع و قد اتضح لنا ذلک بما شرحناه فی حجیة القطع الذاتیة ص 21 من هذا الجزء فارجع إلیه لتعرف استحالة النهی عن اتباع القطع .الثانیة بعد فرض إمکان حجیة القطع هل نهی الشارع عن الأخذ بحکم العقل و قد ادعی ذلک جملة من الأخباریین الذین وصل إلینا کلامهم مدعین أن الحکم الشرعی لا یتنجز و لا یجوز الأخذ به إلا إذا ثبت من طریق الکتاب و السنة .أقول و مرد هذه الدعوی فی الحقیقة إلی دعوی تقیید الأحکام الشرعیة بالعلم بها من طریق الکتاب و السنة و هذا خیر ما یوجه به کلامهم و لکن قد سبق الکلام مفصلا فی مسألة اشتراک الأحکام بین العالم و الجاهل ص 33 من هذا الجزء فقلنا إنه یستحیل تعلق الأحکام علی العلم بها مطلقا فضلا عن تقییدها بالعلم الناشئ من سبب خاص و هذه الاستحالة

ص :130

ثابتة حتی لو قلنا بإمکان نفی حجیة القطع لما قلناه من لزوم الخلف کما شرحناه هناک .و أما ما ورد عن آل البیت علیهم السلام من نحو قولهم (:إن دین الله لا یصاب بالعقول) فقد ورد فی قباله مثل قولهم (:إن لله علی الناس حجتین حجة ظاهرة و حجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل و الأنبیاء و الأئمة علیهم السلام و أما الباطنة فالعقول (1)) و الحل لهذا التعارض الظاهری بین الطائفتین هو أن المقصود من الطائفة الأولی بیان عدم استقلال العقل فی إدراک الأحکام و مدارکها فی قبال الاعتماد علی القیاس و الاستحسان لأنها واردة فی هذا المقام أی أن الأحکام و مدارک الأحکام لا تصاب بالعقول بالاستقلال و هو حق کما شرحناه سابقا و من المعلوم أن مقصود من یعتمد علی الاستحسان فی بعض صوره هو دعوی أن للعقل أن یدرک الأحکام مستقلا و یدرک ملاکاتها و مقصود من یعتمد علی القیاس هو دعوی أن للعقل أن یدرک ملاکات الأحکام فی المقیس علیه لاستنتاج الحکم فی المقیس و هذا معنی الاجتهاد بالرأی و قد سبق أن هذه الإدراکات لیست من وظیفة العقل النظری و لا العقل العملی لأن هذه أمور لا تصاب إلا من طریق السماع من مبلغ الأحکام .و علیه فهذه الطائفة من الأخبار لا مانع من الأخذ بها علی ظواهرها لأنها واردة فی مقام معارضة الاجتهاد بالرأی و لکنها أجنبیة عما نحن بصدده و عما نقوله فی القضایا العقلیة التی یتوصل بها إلی الحکم الشرعی کما أنها أجنبیة عن الطائفة الثانیة من الأخبار التی تثنی علی العقل و تنص علی أنه حجة الله الباطنة لأنها تثنی علی العقل فیما هو من وظیفته أن یدرکه لا علی الظنون و الأوهام و لا علی ادعاءات إدراک ما لا یدرکه العقل

ص :131


1- 1) راجع کتاب العقل من أصول الکافی.و هو أول کتبه.

بطبیعته .الناحیة الثالثة بعد فرض عدم إمکان نفی الشارع حجیة القطع و النهی عنه یجب أن نتساءل عن معنی حکم الشارع علی طبق حکم العقل و الجواب الصحیح عن هذا السؤال عند هؤلاء أن یقال إن معناه إدراک الشارع و علمه بأن هذا الفعل ینبغی فعله أو ترکه لدی العقلاء و هذا شیء آخر غیر أمره و نهیه و النافع هو أن نستکشف أمره و نهیه فیحتاج إثبات أمره و نهیه إلی دلیل آخر سمعی و لا یکفی فیه ذلک الدلیل العقلی الذی أقصی ما یستنتج منه أن الشارع عالم بحکم العقلاء أو أنه حکم بنفس ما حکم به العقلاء فلا یکون منه أمر مولوی أو نهی مولوی .أقول و هذه آخر مرحلة لتوجیه مقالة منکری حجیة العقل و هو توجیه یختص بالمستقلات العقلیة و لهذا التوجیه صورة ظاهریة یمکن أن تنطلی علی المبتدئین أکثر من تلک التوجیهات فی المراحل السابقة و هذا التوجیه ینطوی علی إحدی دعویین 1 دعوی إنکار الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع و قد تقدم تفنیدها فی الجزء الثانی ص 236 فلا نعید .2 الدعوی التی أشرنا إلیها هناک فی آخر ص 237 من الجزء الثانی و توضیحها أن ما تطابقت علیها آراء العقلاء هو استحقاق المدح و الذم فقط و المدح و الذم غیر الثواب و العقاب فاستحقاقهما لا یستلزم استحقاق الثواب و العقاب من قبل المولی و الذی ینفع فی استکشاف حکم الشارع هو الثانی و لا یکفی الأول .و لو فرض أنا صححنا الاستلزام للثواب و العقاب فإن ذلک لا یدرکه کل أحد و لو فرض أنه أدرکه کل أحد فإن ذلک لیس کافیا للدعوة إلی

ص :132

الفعل إلا عند الفذ من الناس و علی أی تقدیر فرض فلا یستغنی أکثر الناس عن توجیه الأمر من المولی أو النهی منه فی مقام الدعوة إلی الفعل أو الزجر عنه .و إذا کان نفس إدراک الحسن و القبح غیر کاف فی الدعوة و المفروض لم یقم دلیل سمعی علی الحکم فلا نستطیع أن نحکم بأن الشارع له أمر و نهی علی طبق حکم العقل قد اکتفی عن بیانه اعتمادا علی إدراک العقل لیکون حکم العقل کاشفا عن حکمه لاحتمال ألا یکون للشارع حکم مولوی علی طبق حکم العقل حینئذ و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال لأن المدار علی القطع فی المقام .و الجواب أنه قد أشرنا فی الحاشیة ج 2 ص 238 إلی ما یفند الشق الأول من هذه الدعوة الثانیة إذ قلنا الحق أن معنی استحقاق المدح لیس إلا استحقاق الثواب و معنی استحقاق الذم لیس إلا استحقاق العقاب لا أنهما شیئان أحدهما یستلزم الآخر لأن حقیقة المدح و المقصود منه هو المجازاة بالخیر لا المدح باللسان و حقیقة الذم و المقصود منه هو المجازاة بالشر لا الذم باللسان و هذا المعنی هو الذی یحکم به العقل و لذا قال المحققون من الفلاسفة إن مدح الشارع ثوابه و ذمه عقابه و أرادوا هذا المعنی .بل بالنسبة إلی الله تعالی لا معنی لفرض استحقاق المدح و الذم اللسانیین عنده بل لیست مجازاته بالخیر إلا الثواب و لیست مجازاته بالشر إلا العقاب .و أما الشق الثانی من هذه الدعوی فالجواب عنه أنه لما کان المفروض أن المدح و الذم من القضایا المشهورات التی تتطابق علیها آراء العقلاء کافة فلا بد أن یفرض فیه أن یکون صالحا لدعوة کل واحد من الناس و من

ص :133

هنا نقول إنه مع هذا الفرض یستحیل توجیه دعوة مولویة من الله تعالی ثانیا لاستحالة جعل الداعی مع فرض وجود ما یصلح للدعوة عند المکلف إلا من باب التأکید و لفت النظر و لذا ذهبنا هناک إلی أن الأوامر الشرعیة الواردة فی موارد حکم العقل مثل وجوب الطاعة و نحوها یستحیل فیها أن تکون أوامر تأسیسیة أی مولویة بل هی أوامر تأکیدیة أی إرشادیة .و أما إن هذا الإدراک لا یدعو إلا الفذ من الناس فقد یکون صحیحا و لکن لا یضر فی مقصودنا لأنه لا نقصد من کون حکم العقل داعیا أنه داع بالفعل لکل أحد بل إنما نقصد و هو النافع لنا أنه صالح للدعوة .و هذا شأن کل داع حتی الأوامر المولویة فإنه لا یترقب منها إلا صلاحیتها للدعوة لا فعلیة الدعوة لأنه لیس قوام کون الأمر أمرا من قبل الشارع أو من قبل غیره فعلیه دعوته لجمیع المکلفین بل الأمر فی حقیقته لیس هو إلا جعل ما یصلح أن یکون داعیا یعنی لیس المجعول فی الأمر فعلیه الدعوة و علیه فلا یضر فی کونه صالحا للدعوة عدم امتثال أکثر الناس

ص :134

الباب الخامس حجیة الظواهر

اشارة

ص :135

ص :136

تمهیدات

1 تقدم فی الجزء الأول ص 45 أن الغرض من المقصد الأول تشخیص ظواهر بعض الألفاظ من ناحیة عامة و الغایة منه کما ذکرنا تنقیح صغریات أصالة الظهور و طبعا إنما یکون ذلک فی خصوص الموارد التی وقع فیها الخلاف بین الناس .و قلنا إننا سنبحث عن الکبری و هی حجیة أصالة الظهور فی المقصد الثالث و قد حل بحمد الله تعالی موضع البحث عنها .2 إن البحث عن حجیة الظواهر من توابع البحث عن الکتاب و السنة أعنی أن الظواهر لیست دلیلا قائما بنفسه فی مقابل الکتاب و السنة بل إنما تحتاج إلی إثبات حجیتها لغرض الأخذ بالکتاب و السنة فهی من متممات حجیتهما إذ من الواضح أنه لا مجال للأخذ بهما من دون أن تکون ظواهرهما حجة و النصوص التی هی قطعیة الدلالة أقل القلیل فیهما .3 تقدم أن الأصل حرمة العمل بالظن ما لم یدل دلیل قطعی علی حجیته و الظواهر من جملة الظنون فلا بد من التماس دلیل قطعی علی حجیتها لیصح التمسک بظواهر الآیات و الأخبار و سیأتی بیان هذا الدلیل .4 إن البحث عن الظهور یتم بمرحلتین الأولی فی أن هذا اللفظ المخصوص ظاهر فی هذا المعنی المخصوص أم غیر ظاهر و المقصد الأول کله متکفل بالبحث عن ظهور بعض الألفاظ التی وقع الخلاف فی ظهورها کالأوامر و النواهی و العموم و الخصوص و الإطلاق و التقیید و هی فی الحقیقة من بعض صغریات أصالة الظهور .

ص :137

الثانیة فی أن اللفظ الذی قد أحرز ظهوره هل هو حجة عند الشارع فی ذلک المعنی فیصح أن یحتج به المولی علی المکلفین و یصح أن یحتج به المکلفون .و البحث عن هذه المرحلة الثانیة هو المقصد الذی عقد من أجله هذا الباب و هو الکبری التی إذا ضممناها إلی صغریاتها یتم لنا الأخذ بظواهر الآیات و الروایات .5 إن المرحلة الأولی و هی تشخیص صغریات أصالة الظهور تقع بصورة عامة فی موردین الأول فی وضع اللفظ للمعنی المبحوث عنه فإنه إذا أحرز وضعه له لا محالة یکون ظاهرا فیه نحو وضع صیغة افعل للوجوب و الجملة الشرطیة لما یستلزم المفهوم إلی غیر ذلک .الثانی فی قیام قرینة عامة أو خاصة علی إرادة المعنی من اللفظ و الحاجة إلی القرینة إما فی مورد إرادة غیر ما وضع له اللفظ و إما فی مورد اشتراک اللفظ فی أکثر من معنی و مع فرض وجود القرینة لا محالة یکون اللفظ ظاهرا فیما قامت علیه القرینة سواء کانت القرینة متصلة أو منفصلة .و إذا اتضحت هذه التمهیدات فینبغی أن نتحدث عما یهم من کل من المرحلتین فی مباحث مفیدة فی الباب

ص :138

طرق إثبات الظواهر

إذا وقع الشک فی الموردین السابقین فهناک طرق لمعرفة وضع الألفاظ و معرفة القرائن العامة منها أن یتتبع الباحث بنفسه استعمالات العرب و یعمل رأیه و اجتهاده إذا کان من أهل الخبرة باللسان و المعرفة بالنکات البیانیة و نظیر ذلک ما استنبطناه ج 1 ص 60 من أن کلمة الأمر لفظ مشترک بین ما یفید معنی الشیء و الطلب و ذلک بدلالة اختلاف اشتقاق الکلمة بحسب المعنیین و اختلاف الجمع فیها بحسبهما .و منها أن یرجع إلی علامات الحقیقة و المجاز کالتبادر و أخواته و قد تقدم الکلام عن هذه العلامات ج 1 ص 23 27 .و منها أن یرجع إلی أقوال علماء اللغة و سیأتی بیان قیمة أقوالهم .و هناک أصول اتبعها بعض القدماء لتعیین وضع الألفاظ أو ظهوراتها فی موارد تعارض أحوال اللفظ و الحق أنه لا أصل لها مطلقا لأنه لا دلیل علی اعتبارها و قد أشرنا إلی ذلک فیما تقدم ج 1 ص 28 .و هی مثل ما ذهبوا إلیه من أصالة عدم الاشتراک فی مورد الدوران بین الاشتراک و بین الحقیقة و المجاز و مثل أصالة الحقیقة لإثبات وضع اللفظ عند الدوران بین کونه حقیقة أو مجازا .

ص :139

أما إنه لا دلیل علی اعتبارها فلأن حجیة مثل هذه الأصول لا بد من استنادها إلی بناء العقلاء و المسلم من بنائهم هو ثبوته فی الأصول التی تجری لإثبات مرادات المتکلم دون ما یجری لتعیین وضع الألفاظ و القرائن و لا دلیل آخر فی مثلها غیر بناء العقلاء

ص :140

حجیة قول اللغوی

إن أقوال اللغویین لا عبرة بأکثرها فی مقام استکشاف وضع الألفاظ لأن أکثر المدونین للغة همهم أن یذکروا المعانی التی شاع استعمال اللفظ فیها من دون کثیر عنایة منهم بتمییز المعانی الحقیقیة من المجازیة إلا نادرا عدا الزمخشری فی کتابه أساس اللغة و عدا بعض المؤلفات فی فقه اللغة .و علی تقدیر أن ینص اللغویون علی المعنی الحقیقی فإن أفاد نصهم العلم بالوضع فهو و إلا فلا بد من التماس الدلیل علی حجیة الظن الناشئ من قولهم و قیل فی الاستدلال علیه وجوه من الأدلة لا بأس بذکرها و ما عندنا فیها أولا قیل الدلیل الإجماع .و ذلک لأنه قائم علی الأخذ بقول اللغوی بلا نکیر من أحد و إن کان اللغوی واحدا .أقول و أنی لنا بتحصیل هذا الإجماع العملی المدعی بالنسبة إلی جمیع الفقهاء و علی تقدیر تحصیله فأنی لنا من إثبات حجیة مثله و قد تقدم البحث مفصلا عن منشإ حجیة الإجماع و لیس هو مما یشمل هذا المقام بما هو حجة لأن المعصوم لا یرجع إلی نصوص أهل اللغة حتی یستکشف من الإجماع موافقته فی هذه المسألة أی رجوعه إلی أهل اللغة عملا .

ص :141

ثانیا قیل الدلیل بناء العقلاء .لأن من سیرة العقلاء بناؤهم العملی علی الرجوع إلی أهل الخبرة الموثوق بهم فی جمیع الأمور التی یحتاج فی معرفتها إلی خبره و إعمال الرأی و الاجتهاد کالشئون الهندسیة و الطبیة و منها اللغات و دقائقها و من المعلوم أن اللغوی معدود من أهل الخبرة فی فنه و الشارع لم یثبت منه الردع عن هذه السیرة العملیة فیستکشف من ذلک موافقته لهم و رضاه بها .أقول إن بناء العقلاء أنما یکون حجة إذا کان یستکشف منه علی نحو الیقین موافقة الشارع و إمضاؤه لطریقتهم و هذا بدیهی و لکن نحن نناقش إطلاق المقدمة المتقدمة القائلة إن موافقة الشارع لبناء العقلاء تستکشف من مجرد عدم ثبوت ردعه عن طریقتهم بل لا یحصل هذا الاستکشاف إلا بأحد شروط ثلاثة کلها غیر متوفرة فی المقام 1 ألا یکون مانع من کون الشارع متحد المسلک مع العقلاء فی البناء و السیرة فإنه فی هذا الفرض لا بد أن یستکشف أنه متحد المسلک معهم بمجرد عدم ثبوت ردعه لأنه من العقلاء بل رئیسهم و لو کان له مسلک ثان لبینه و لعرفناه و لیس هذا مما یخفی .و من هذا الباب الظواهر و خبر الواحد فإن الأخذ بالظواهر و الاعتماد علیها فی التفهیم مما جرت علیها سیرة العقلاء و الشارع لا بد أن یکون متحد المسلک معهم لأنه لا مانع من ذلک بالنسبة إلیه و هو منهم بما هم عقلاء و لم یثبت منه ردع و کذلک یقال فی خبر الواحد الثقة فإنه لا مانع من أن یکون الشارع متحد المسلک مع العقلاء فی الاعتماد علیه فی تبلیغ الأحکام و لم یثبت منه الردع .أما الرجوع إلی أهل الخبرة فلا معنی لفرض أن یکون الشارع متحد

ص :142

المسلک مع العقلاء فی ذلک لأنه لا معنی لفرض حاجته إلی أهل الخبرة فی شأن من الشئون حتی یمکن فرض أن تکون له سیرة عملیة فی ذلک لا سیما فی اللغة العربیة .2 إذا کان هناک مانع من أن یکون الشارع متحد المسلک مع العقلاء فلا بد أن یثبت لدینا جریان السیرة العملیة حتی فی الأمور الشرعیة بمرأی و مسمع من الشارع فإذا لم یثبت حینئذ الردع منه یکون سکوته من قبیل التقریر لمسلک العقلاء و هذا مثل الاستصحاب فإنه لما کان مورده الشک فی الحالة السابقة فلا معنی لفرض اتحاد الشارع فی المسلک مع العقلاء بالأخذ بالحالة السابقة إذ لا معنی لفرض شکه فی بقاء حکمه و لکن لما کان الاستصحاب قد جرت السیرة فیه حتی فی الأمور الشرعیة و لم یثبت ردع الشارع عنه فإنه یستکشف منه إمضاؤه لطریقتهم .أما الرجوع إلی أهل الخبرة فی اللغة فلم یعلم جریان السیرة العقلائیة فی الأخذ بقول اللغوی فی خصوص الأمور الشرعیة حتی یستکشف من عدم ثبوت ردعه رضاه بهذه السیرة فی الأمور الشرعیة .3 إذا انتفی الشرطان المتقدمان فلا بد حینئذ من قیام دلیل خاص قطعی علی رضا الشارع و إمضائه للسیرة العملیة عند العقلاء و فی مقامنا لیس عندنا هذا الدلیل بل الآیات الناهیة عن اتباع الظن کافیة فی ثبوت الردع عن هذه السیرة العملیة .ثالثا قیل الدلیل حکم العقل .لأن العقل یحکم بوجوب رجوع الجاهل إلی العالم فلا بد أن یحکم الشارع بذلک أیضا إذ إن هذا الحکم العقلی من الآراء المحمودة التی تطابقت علیها آراء العقلاء و الشارع منهم بل رئیسهم و بهذا الحکم العقلی أوجبنا رجوع العامی إلی المجتهد فی التقلید غایة الأمر أنا اشترطنا

ص :143

فی المجتهد شروطا خاصة کالعدالة و الذکورة لدلیل خاص و هذا الدلیل الخاص غیر موجود فی الرجوع إلی قول اللغوی لأنه فی الشئون الفقهیة لم یحکم العقل إلا برجوع الجاهل إلی العالم الموثوق به من دون اعتبار عدالة أو نحوها کالرجوع إلی الأطباء و المهندسین و لیس هناک دلیل خاص یشترط العدالة أو نحوها فی اللغوی کما ورد فی المجتهد .أقول و هذا الوجه أقرب الوجوه فی إثبات حجیة قول اللغوی و لم أجد الآن ما یقدح به

ص :144

الظهور التصوری و التصدیقی

قیل إن الظهور علی قسمین تصوری و تصدیقی .1 الظهور التصوری الذی ینشأ من وضع اللفظ لمعنی مخصوص و هو عبارة عن دلالة مفردات الکلام علی معانیها اللغویة أو العرفیة و هو تابع للعلم بالوضع سواء کان فی الکلام أو فی خارجه قرینة علی خلافه أو لم تکن .2 الظهور التصدیقی الذی ینشأ من مجموع الکلام و هو عبارة عن دلالة جملة الکلام علی ما یتضمنه من المعنی فقد تکون دلالة الجملة مطابقة لدلالة المفردات و قد تکون مغایرة لها کما إذا احتف الکلام بقرینة توجب صرف مفاد جملة الکلام عما یقتضیه مفاد المفردات و الظهور التصدیقی یتوقف علی فراغ المتکلم من کلامه فإن لکل متکلم أن یلحق بکلامه ما شاء من القرائن فما دام متشاغلا بالکلام لا ینعقد لکلامه الظهور التصدیقی .و یستتبع هذا الظهور التصدیقی ظهور ثان تصدیقی و هو الظهور بأن هذا هو مراد المتکلم و هذا هو المعین لمراد المتکلم فی نفس الأمر فیتوقف علی عدم القرینة المتصلة و المنفصلة لأن القرینة مطلقا تهدم هذا الظهور بخلاف الظهور التصدیقی الأول فإنه لا تهدمه القرینة المنفصلة .أقول و نحن لا نتعقل هذا التقسیم بل الظهور قسم واحد و لیس هو إلا دلالة اللفظ علی مراد المتکلم و هذه الدلالة هی التی نسمیها

ص :145

الدلالة التصدیقیة و هی أن یلزم من العلم بصدور اللفظ من المتکلم العلم بمراده من اللفظ أو یلزم منه الظن بمراده و الأول یسمی النص و یختص الثانی باسم الظهور .و لا معنی للقول بأن اللفظ ظاهر ظهورا تصوریا فی معناه الموضوع له و قد سبق فی الجزء الأول ص 21 بیان حقیقة الدلالة و أن ما یسمونه بالدلالة التصوریة لیست بدلالة و إنما کان ذلک منهم تسامحا فی التعبیر بل هی من باب تداعی المعانی فلا علم و لا ظن فیها بمراد المتکلم فلا دلالة فلا ظهور و إنما کان خطور و الفرق بعید بینهما .و أما تقسیم الظهور التصدیقی إلی قسمین فهو تسامح أیضا لأنه لا یکون الظهور ظهورا إلا إذا کشف عن المراد الجدی للمتکلم إما علی نحو الیقین أو الظن فالقرینة المنفصلة لا محالة تهدم الظهور مطلقا نعم قبل العلم بها یحصل للمخاطب قطع بدوی أو ظن بدوی یزولان عند العلم بها فیقال حینئذ قد انعقد للکلام ظهور علی خلاف ما تقتضیه القرینة المنفصلة و هذا کلام شائع عند الأصولیین راجع ج 1 ص 143 و فی الحقیقة أن غرضهم من ذلک الظهور الابتدائی البدوی الذی یزول عند العلم بالقرینة المنفصلة لا أنه هناک ظهوران ظهور لا یزول بالقرینة المنفصلة و ظهور یزول بها و لا بأس أن یسمی هذا الظهور البدوی الظهور الذاتی و تسمیته بالظهور مسامحة علی کل حال .و علی کل حال سواء سمیت الدلالة التصوریة ظهورا أم لم تسم و سواء سمی الظن البدوی ظهورا أم لم یسم فإن موضع الکلام فی حجیة الظهور هو الظهور الکاشف عن مراد المتکلم بما هو کاشف و إن کان کشفا نوعیا

ص :146

وجه حجیة الظهور
اشارة

إن الدلیل علی حجیة الظاهر منحصر فی بناء العقلاء و الدلیل یتألف من مقدمتین قطعیتین علی نحو ما تقدم فی الدلیل علی حجیة خبر الواحد من طریق بناء العقلاء و تفصیلهما هنا أن نقول .المقدمة الأولی أنه من المقطوع به الذی لا یعتریه الریب أن أهل المحاورة من العقلاء قد جرت سیرتهم العملیة و تبانیهم فی محاوراتهم الکلامیة علی اعتماد المتکلم علی ظواهر کلامه فی تفهیم مقاصده و لا یفرضون علیه أن یأتی بکلام قطعی فی مطلوبه لا یحتمل الخلاف و کذلک تبعا لسیرتهم الأولی تبانوا أیضا علی العمل بظواهر کلام المتکلم و الأخذ بها فی فهم مقاصده و لا یحتاجون فی ذلک إلی أن یکون کلامه نصا فی مطلوبه لا یحتمل الخلاف .فلذلک یکون الظاهر حجة للمتکلم علی السامع یحاسبه علیه و یحتج به علیه لو حمله علی خلاف الظاهر و یکون أیضا حجة للسامع علی المتکلم یحاسبه علیه و یحتج به علیه لو ادعی خلاف الظاهر و من أجل هذا یؤخذ المرء بظاهر إقراره و یدان به و إن لم یکن نصا فی المراد .المقدمة الثانیة أن من المقطوع به أیضا أن الشارع المقدس لم یخرج فی محاوراته و استعماله للألفاظ عن مسلک أهل المحاورة من العقلاء فی تفهیم مقاصده بدلیل أن الشارع من العقلاء بل رئیسهم فهو متحد المسلک معهم و لا مانع من اتحاده معهم فی هذا المسلک و لم یثبت من

ص :147

قبله ما یخالفه .و إذا ثبتت هاتان المقدمتان القطعیتان لا محالة یثبت علی سبیل الجزم أن الظاهر حجة عند الشارع حجة له علی المکلفین و حجة معذرة للمکلفین .هذا و لکن وقعت لبعض الناس شکوک فی عموم کل من المقدمتین لا بد من التعرض لها و کشف الحقیقة فیها .أما المقدمة الأولی فقد وقعت عدة أبحاث فیها 1 فی أن تبانی العقلاء علی حجیة الظاهر هل یشترط فیه حصول الظن الفعلی بالمراد .2 فی أن تبانیهم هل یشترط فیه عدم الظن بخلاف الظاهر .3 فی أن تبانیهم هل یشترط فیه جریان أصالة عدم القرینة .4 فی أن تبانیهم هل هو مختص بمن قصد إفهامه فقط أو یعم غیرهم فیکون الظاهر حجة مطلقا .و أما المقدمة الثانیة فقد وقع البحث فیها فی حجیة ظواهر الکتاب العزیز بل قیل إن الشارع ردع عن الأخذ بظواهر الکتاب فلم یکن متحد المسلک فیه مع العقلاء و هذه المقالة منسوبة إلی الأخباریین و علیه فینبغی البحث عن کل واحد واحد من هذه الأمور فنقول

1 اشتراط الظن الفعلی بالوفاق

قیل لا بد فی حجیة الظاهر من حصول ظن فعلی بمراد المتکلم و إلا فهو لیس بظاهر یعنی أن المقوم لکون الکلام ظاهرا حصول الظن الفعلی للمخاطب بالمراد منه و إلا فلا یکون ظاهرا بل یکون مجملا .أقول من المعلوم أن الظهور صفة قائمة باللفظ و هو کونه بحالة

ص :148

یکون کاشفا عن مراد المتکلم و دالا علیه و الظن بما هو ظن أمر قائم بالسامع لا باللفظ فکیف یکون مقوما لکون اللفظ ظاهرا و إنما أقصی ما یقال أنه یستلزم الظن فمن هذه الجهة یتوهم أن الظن یکون مقوما لظهوره .و فی الحقیقة أن المقوم لکون الکلام ظاهرا عند أهل المحاورة هو کشفه الذاتی عن المراد أی کون الکلام من شأنه أن یثیر الظن عند السامع بالمراد منه و إن لم یحصل ظن فعلی للسامع لأن ذلک هو الصفة القائمة بالکلام المقومة لکونه ظاهرا عند أهل المحاورة و المدرک لحجیة الظاهر لیس إلا بناء العقلاء فهو المتبع فی أصل الحجیة و خصوصیاتها أ لا تری لا یصح للسامع أن یحتج بعدم حصول الظن الفعلی عنده من الظاهر إذا أراد مخالفته مهما کان السبب لعدم حصول ظنه ما دام أن اللفظ بحالة من شأنه أن یثیر الظن لدی عامة الناس .و هذا ما یسمی بالظن النوعی فیکتفی به فی حجیة الظاهر کما یکتفی به فی حجیة خبر الواحد کما تقدم و إلا لو کان الظن الفعلی معتبرا فی حجیة الظهور لکان کل کلام فی آن واحد حجة بالنسبة إلی شخص غیر حجة بالنسبة إلی شخص آخر و هذا ما لا یتوهمه أحد و من البدیهی أنه لا یصح ادعاء أن الظاهر لکی یکون حجة لا بد أن یستلزم الظن الفعلی عند جمیع الناس بغیر استثناء و إلا فلا یکون حجة بالنسبة إلی کل أحد

2 اعتبار عدم الظن بالخلاف

قیل إن لم یعتبر الظن بالوفاق فعلی الأقل یعتبر ألا یحصل ظن بالخلاف .(قال الشیخ صاحب الکفایة فی رده و الظاهر أن سیرتهم علی اتباعها أی الظواهر من غیر تقیید بإفادتها الظن فعلا و لا بعدم الظن کذلک

ص :149

علی خلافها ضرورة أنه لا مجال للاعتذار من مخالفتها بعدم إفادتها الظن بالوفاق و لا بوجود الظن بالخلاف) .أقول إن کان منشأ الظن بالخلاف أمر یصح فی نظر العقلاء الاعتماد علیه فی التفهیم فإنه لا ینبغی الشک فی أن مثل هذا الظن یضر فی حجیة الظهور بل علی التحقیق لا یبقی معه ظهور للکلام حتی یکون موضعا لبناء العقلاء لأن الظهور یکون حینئذ علی طبق ذلک الأمر المعتمد علیه فی التفهیم حتی لو فرض أن ذلک الأمر لیس بأمارة معتبرة عند الشارع لأن الملاک فی ذلک بناء العقلاء .و أما إذا کان منشأ الظن لیس مما یصح الاعتماد علیه فی التفهیم عند العقلاء فلا قیمة لهذا الظن من ناحیة بناء العقلاء علی اتباع الظاهر لأن الظهور قائم فی خلافه و لا ینبغی الشک فی عدم تأثیر مثله فی تبانیهم علی حجیة الظهور و الظاهر أن مراد الشیخ صاحب الکفایة من الظن بالخلاف هذا القسم الثانی فقط لا ما یعم القسم الأول .و لعل مراد القائل باعتبار عدم الظن بالخلاف هو القسم الأول فقط لا ما یعم القسم الثانی فیقع التصالح بین الطرفین

3 أصالة عدم القرینة

(ذهب الشیخ الأعظم فی رسائله إلی أن الأصول الوجودیة مثل أصالة الحقیقة و أصالة العموم و أصالة الإطلاق و نحوها التی هی کلها أنواع لأصالة الظهور ترجع کلها إلی أصالة عدم القرینة بمعنی أن أصالة الحقیقة ترجع إلی أصالة عدم قرینة المجاز و أصالة العموم إلی أصالة عدم المخصص

ص :150

و هکذا و الظاهر أن غرضه من الرجوع أن حجیة أصالة الظهور إنما هی من جهة بناء العقلاء علی حجیة أصالة عدم القرینة)(و ذهب الشیخ صاحب الکفایة إلی العکس من ذلک أی أنه یری أن أصالة عدم القرینة هی التی ترجع إلی أصالة الظهور یعنی أن العقلاء لیس لهم إلا بناء واحد و هو البناء علی أصالة الظهور و هو نفسه بناء علی أصالة عدم القرینة لا أنه هناک بناءان عندهم بناء علی أصالة عدم القرینة و بناء آخر علی أصالة الظهور و البناء الثانی بعد البناء الأول و متوقف علیه و لا أن البناء علی أصالة الظهور مرجع حجیته و معناه إلی البناء علی أصالة عدم القرینة) .أقول الحق أن الأمر لا کما أفاده الشیخ الأعظم و لا کما أفاده صاحب الکفایة فإنه لیس هناک أصل عند العقلاء غیر أصالة الظهور یصح أن یقال له أصالة عدم القرینة فضلا عن أن یکون هو المرجع لأصالة الظهور أو أن أصالة الظهور هی المرجع له .بیان ذلک أنه عند الحاجة إلی إجراء أصالة الظهور لا بد أن یحتمل أن المتکلم الحکیم أراد خلاف ظاهر کلامه و هذا الاحتمال لا یخرج عن إحدی صورتین لا ثالثة لهما الأولی أن یحتمل إرادة خلاف الظاهر مع العلم بعدم نصب قرینة من قبله لا متصلة و لا منفصلة و هذا الاحتمال إما من جهة احتمال الغفلة عن نصب القرینة أو احتمال قصد الإیهام أو احتمال الخطإ أو احتمال قصد الهزل أو لغیر ذلک فإنه فی هذه الموارد یلزم المتکلم بظاهر کلامه فیکون حجة علیه و یکون حجة له أیضا علی الآخرین و لا تسمع منه دعوی الغفلة و نحوها و کذلک لا تسمع من الآخرین دعوی احتمالهم للغفلة

ص :151

و نحوها و هذا معنی أصالة الظهور عند العقلاء أی أن الظهور هو الحجة عندهم کالنص بإلغاء کل تلک الاحتمالات .و من الواضح أنه فی هذه الموارد لا موقع لأصالة عدم القرینة سالبة بانتفاء الموضوع لأنه لا احتمال لوجودها حتی نحتاج إلی نفیها بالأصل .فلا موقع إذن فی هذه الصورة للقول برجوع أصالة الظهور إلی هذا الأصل و لا للقول برجوعه إلی أصالة الظهور .الثانیة أن یحتمل إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال نصب قرینة خفیت علینا فإنه فی هذه الصورة یکون موقع لتوهم جریان أصالة عدم القرینة و لکن فی الحقیقة أن معنی بناء العقلاء علی أصالة الظهور کما تقدم أنهم یعتبرون الظهور حجة کالنص بإلغاء احتمال الخلاف أی احتمال کان و من جملة الاحتمالات التی تلغی إن وجدت احتمال نصب القرینة و حکمه حکم احتمال الغفلة و نحوها من جهة أنه احتمال ملغی و منفی لدی العقلاء .و علیه فالمنفی عند العقلاء هو الاحتمال لا أن المنفی وجود القرینة الواقعیة لأن القرینة الواقعیة غیر الواصلة لا أثر لها فی نظر العقلاء و لا تضر فی الظهور حتی یحتاج إلی نفیها بالأصل بینما أن معنی أصالة عدم القرینة لو کانت البناء علی نفی وجود القرینة لا البناء علی نفی احتمالها و البناء علی نفی الاحتمال هو معنی البناء علی أصالة الظهور لیس شیئا آخر .و إذا اتضح ذلک یکون واضحا لدینا أنه لیس للعقلاء فی هذه الصورة الثانیة أیضا أصل یقال له أصالة عدم القرینة حتی یقال برجوعه إلی أصالة الظهور أو برجوعها إلیه سالبة بانتفاء الموضوع .و الخلاصة أنه لیس لدی العقلاء إلا أصل واحد هو أصالة الظهور

ص :152

و لیس لهم إلا بناء واحد و هو البناء علی إلغاء کل احتمال ینافی الظهور من نحو احتمال الغفلة أو الخطإ أو تعمد الإیهام أو نصب القرینة علی الخلاف أو غیر ذلک فکل هذه الاحتمالات إن وجدت ملغیة فی نظر العقلاء و لیس معنی إلغائها إلا اعتبار الظهور حجة کأنه نص لا احتمال معه بالخلاف لا أنه هناک لدی العقلاء أصول متعددة و بناءات مترتبة مترابطة کما ربما یتوهم حتی یکون بعضها متقدما علی بعض أو بعضها یساند بعضا .نعم لا بأس بتسمیة إلغاء احتمال الغفلة بأصالة عدم الغفلة من باب المسامحة و کذلک تسمیة إلغاء احتمال القرینة بأصالة عدمها و هکذا فی کل تلک الاحتمالات و لکن لیس ذلک إلا تعبیرا آخر عن أصالة الظهور و لعل من یقول برجوع أصالة الظهور إلی أصالة عدم القرینة أو بالعکس أراد هذا المعنی من أصالة عدم القرینة و حینئذ لو کان هذا مرادهم لکان کل من القولین صحیحا و لکان مآلهما واحدا فلا خلاف

4 حجیة الظهور بالنسبة إلی غیر المقصودین بالإفهام

(ذهب المحقق القمی فی قوانینه إلی عدم حجیة الظهور بالنسبة إلی من لم یقصد إفهامه بالکلام و مثل لغیر المقصودین بالإفهام بأهل زماننا و أمثالهم الذین لم یشافهوا بالکتاب العزیز و بالسنة نظرا إلی أن الکتاب العزیز لیست خطاباته موجهة لغیر المشافهین و لیس هو من قبیل تألیفات المصنفین التی یقصد بها إفهام کل قارئ لها و أما السنة فبالنسبة إلی الأخبار الصادرة عن المعصومین فی مقام الجواب عن سؤال السائلین لا یقصد منها إلا إفهام السائلین دون سواهم) .أقول إن هذا القول لا یستقیم و قد ناقشه کل من جاء بعده من

ص :153

المحققین و خلاصة ما ینبغی مناقشته به أن یقال إن هذا کلام مجمل غیر واضح فما الغرض من نفی حجیة الظهور بالنسبة إلی غیر المقصود إفهامه .1 إن کان الغرض أن الکلام لا ظهور ذاتی له بالنسبة إلی هذا الشخص فهو أمر یکذبه الوجدان .2 و إن کان الغرض کما قیل فی توجیه کلامه دعوی أنه لیس للعقلاء بناء علی إلغاء احتمال القرینة فی الظواهر بالنسبة إلی غیر المقصود بالإفهام فهی دعوی بلا دلیل بل المعروف فی بناء العقلاء عکس ذلک (قال الشیخ الأنصاری فی مقام رده إنه لا فرق فی العمل بالظهور اللفظی و أصالة عدم الصارف عن الظاهر بین من قصد إفهامه و من لم یقصد) .3 و إن کان الغرض کما قیل فی توجیه کلامه أیضا أنه لما کان من الجائز عقلا أن یعتمد المتکلم الحکیم علی قرینة غیر معهودة و لا معروفة إلا لدی من قصد إفهامه فهو احتمال لا ینفیه العقل لأنه لا یقبح من الحکیم و لا یلزم نقض غرضه إذا نصب قرینة تخفی علی غیر المقصودین بالإفهام و مثل هذه القرینة الخفیة علی تقدیر وجودها لا یتوقع من غیر المقصود بالإفهام أن یعثر علیها بعد الفحص .فهو کلام صحیح فی نفسه إلا أنه غیر مرتبط بما نحن فیه أی لا یضر بحجیة الظهور ببناء العقلاء .و توضیح ذلک أن الذی یقوم حجیة الظهور هو نفی احتمال القرینة ببناء العقلاء لا نفی احتمالها بحکم العقل و لا ملازمة بینهما أی أنه إذا کان احتمال القرینة لا ینفیه العقل فلا یلزم منه عدم نفیه ببناء العقلاء النافع فی حجیة الظهور بل الأمر أکثر من أن یقال إنه لا ملازمة بینهما فإن الظهور لا یکون ظهورا إلا إذا کان هناک احتمال للقرینة غیر منفی بحکم العقل و إلا لو کان احتمالها منفیا بحکم العقل کان الکلام نصا لا ظاهرا .

ص :154

و علی نحو العموم نقول لا یکون الکلام ظاهرا لیس بنص قطعی فی المقصود إلا إذا کان مقترنا باحتمال عقلی أو احتمالات عقلیة غیر مستحیلة التحقق مثل احتمال خطإ المتکلم أو غفلته أو تعمده للإیهام لحکمة أو نصبه لقرینة تخفی علی الغیر أو لا تخفی ثم لا یکون الظاهر حجة إلا إذا کان البناء العملی من العقلاء علی إلغاء مثل هذه الاحتمالات أی عدم الاعتناء بها فی مقام العمل بالظاهر .و علیه فالنفی الادعائی العملی للاحتمالات هو المقوم لحجیة الظهور لا نفی الاحتمالات عقلا من جهة استحالة تحقق المحتمل فإنه إذا کانت الاحتمالات مستحیلة التحقق لا تکون محتملات و یکون الکلام حینئذ نصا لا نحتاج فی الأخذ به إلی فرض بناء العقلاء علی إلغاء الاحتمالات .و إذا اتضح ذلک نستطیع أن نعرف أن هذا التوجیه المذکور للقول بالتفصیل فی حجیة الظهور لا وجه له فإنه أکثر ما یثبت به أن نصب القرینة الخفیة بالنسبة إلی من لم یقصد إفهامه أمر محتمل غیر مستحیل التحقق لأنه لا یقبح من الحکیم أن یصنع مثل ذلک فالقرینة محتملة عقلا و لکن هذا لا یمنع من أن یکون البناء العملی من العقلاء علی إلغاء مثل هذا الاحتمال سواء أمکن أن یعثر علی هذه القرینة بعد الفحص لو کانت أم لا یمکن .4 ثم علی تقدیر تسلیم الفرق فی حجیة الظهور بین المقصود بالإفهام و بین غیره فالشأن کل الشأن فی انطباق ذلک علی واقعنا بالنسبة إلی الکتاب العزیز و السنة أما الکتاب العزیز فإنه من المعلوم لنا أن التکالیف التی یتضمنها عامة لجمیع المکلفین و لا اختصاص لها بالمشافهین و بمقتضی عمومها یجب ألا تقترن بقرائن تخفی علی غیر المشافهین بل لا شک فی أن المشافهین لیسوا

ص :155

وحدهم المقصودین بالإفهام بخطابات القرآن الکریم .و أما السنة فإن الأحادیث الحاکیة لها علی الأکثر تتضمن تکالیف عامة لجمیع المکلفین أو المقصود بها إفهام الجمیع حتی غیر المشافهین و قلما یقصد بها إفهام خصوص المشافهین فی بعض الجوابات علی أسئلة خاصة و إذا قصد ذلک فإن التکلیف فیها لا بد أن یعم غیر السائل بقاعدة الاشتراک و مقتضی الأمانة فی النقل و عدم الخیانة من الراوی المفروض فیه ذلک أن ینبه علی کل قرینة دخیلة فی الظهور و مع عدم بیانها منه یحکم بعدمها

5 حجیة ظواهر الکتاب

نسب إلی جماعة من الأخباریین القول بعدم حجیة ظواهر الکتاب العزیز و أکدوا أنه لا یجوز العمل بها من دون أن یرد بیان و تفسیر لها من طریق آل البیت علیهم السلام .أقول إن القائلین بحجیة ظواهر الکتاب 1 لا یقصدون حجیة کل ما فی الکتاب و فیه آیات محکمات و أخر متشابهات بل المتشابهات لا یجوز تفسیرها بالرأی و لکن التمییز بین المحکم و المتشابه لیس بالأمر العسیر علی الباحث المتدبر إذا کان هذا ما یمنع من الأخذ بالظواهر التی هی من نوع المحکم .2 لا یقصدون أیضا بالعمل بالمحکم من آیاته جواز التسرع بالعمل به من دون فحص کامل عن کل ما یصلح لصرفه عن الظهور فی الکتاب و السنة من نحو الناسخ و المخصص و المقید و قرینة المجاز .3 لا یقصدون أیضا أنه یصح لکل أحد أن یأخذ بظواهره و إن لم تکن له سابقة معرفة و علم و دراسة لکل ما یتعلق بمضمون آیاته فالعامی و شبه العامی لیس له أن یدعی فهم ظواهر الکتاب و الأخذ بها .

ص :156

و هذا أمر لا اختصاص له بالقرآن الکریم بل هذا شأن کل کلام یتضمن المعارف العالیة و الأمور العلمیة و هو یتوخی الدقة فی التعبیر أ لا تری أن لکل علم أهلا یرجع إلیهم فی فهم مقاصد کتب ذلک العلم و أن له أصحابا یؤخذ منهم آراء ما فیه من مؤلفات مع أن هذه الکتب و المؤلفات لها ظواهر تجری علی قوانین الکلام و أصول اللغة و سنن أهل المحاورة هی حجة علی المخاطبین بها و هی حجة علی مؤلفیها و لکن لا یکفی للعامی أن یرجع إلیها لیکون عالما بها یحتج بها أو یحتج بها علیه بغیر تلمذة علی أحد أهلها و لو فعل ذلک هل تراه لا یؤنب علی ذلک و لا یلام و کل ذلک لا یسقط ظواهرها عن کونها حجة فی نفسها و لا یخرجها عن کونها ظواهر یصح الاحتجاج بها .و علی هذا فالقرآن الکریم إذ نقول إنه حجة علی العباد فلیس معنی ذلک أن ظواهره کلها هی حجة بالنسبة إلی کل أحد حتی بالنسبة إلی من لم یتزود بشیء من العلم و المعرفة .و حینئذ نقول لمن ینکر حجیة ظواهر الکتاب ما ذا تعنی من هذا الإنکار .1 إن کنت تعنی هذا المعنی الذی تقدم ذکره و هو عدم جواز التسرع بالأخذ بها من دون فحص عما یصلح لصرفها عن ظواهرها و عدم جواز التسرع بالأخذ بها من کل أحد فهو کلام صحیح و هو أمر طبیعی فی کل کلام عال رفیع و فی کل مؤلف فی المعارف العالیة و لکن قلنا إنه لیس معنی ذلک إن ظواهره مطلقا لیست بحجة بالنسبة إلی کل أحد .2 و إن کنت تعنی الجمود علی خصوص ما ورد من آل البیت علیهم السلام علی وجه لا یجوز التعرض لظواهر القرآن و الأخذ بها مطلقا فیما

ص :157

لم یرد فیه بیان من قبلهم حتی بالنسبة إلی من یستطیع فهمه من العارفین بمواقع الکلام و أسالیبه و مقتضیات الأحوال مع الفحص عن کل ما یصلح للقرینة أو ما یصلح لنسخه فإنه أمر لا یثبته ما ذکروه له من أدلة .کیف و قد ورد عنهم علیهم السلام إرجاع الناس إلی القرآن الکریم مثل ما ورد من الأمر بعرض الأخبار المتعارضة علیه بل ورد عنهم ما هو أعظم من ذلک و هو عرض کل ما ورد عنهم علی القرآن الکریم کما ورد عنهم الأمر برد الشروط المخالفة للکتاب فی أبواب العقود و وردت عنهم أخبار خاصة دالة علی جواز التمسک بظواهره (:نحو قوله علیه السلام لزرارة لما قال له من أین علمت أن المسح ببعض الرأس فقال علیه السلام لمکان الباء و یقصد الباء من قوله تعالی وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ ) فعرف زرارة کیف یستفید الحکم من ظاهر الکتاب .ثم إذا کان یجب الجمود علی ما ورد من أخبار بیت العصمة فإن معنی ذلک هو الأخذ بظواهر أقوالهم لا بظواهر الکتاب و حینئذ ننقل الکلام إلی نفس أخبارهم حتی فیما یتعلق منها بتفسیر الکتاب فنقول هل یکفی لکل أحد أن یرجع إلی ظواهرها من دون تدبر و بصیرة و معرفة و من دون فحص عن القرائن و اطلاع علی کل ما له دخل فی مضامینها .بل هذه الأخبار لا تقل من هذه الجهة عن ظواهر الکتاب بل الأمر فیها أعظم لأن سندها یحتاج إلی تصحیح و تنقیح و فحص و لأن جملة منها منقول بالمعنی و ما ینقل بالمعنی لا یحرز فیه نص ألفاظ المعصوم و تعبیره و لا مراداته و لا یحرز فی أکثرها أن النقل کان لنص الألفاظ .و أما ما ورد من النهی عن التفسیر بالرأی مثل النبوی المشهور

ص :158

(:من فسر القرآن برأیه فلیتبوأ مقعده من النار) فالجواب عنه أن التفسیر غیر الأخذ بالظاهر و الأخذ بالظاهر لا یسمی تفسیرا علی أن مقتضی الجمع بینها و بین تلک الأخبار المجوزة للأخذ بالکتاب و الرجوع إلیه حمل التفسیر بالرأی إذا سلمنا أنه یشمل الأخذ بالظاهر علی معنی التسرع بالأخذ به بالاجتهادات الشخصیة من دون فحص و من دون سابق معرفة و تأمل و دراسة کما یعطیه التعلیل فی بعضها بأن فیه ناسخا و منسوخا و عاما و خاصا .مع أنه فی الکتاب العزیز من المقاصد العالیة ما لا ینالها إلا أهل الذکر و فیه ما یقصر عن الوصول إلی إدراکه أکثر الناس و لا یزال تنکشف له من الأسرار ما کان خافیا علی المفسرین کلما تقدمت العلوم و المعارف مما یوجب الدهشة و یحقق إعجازه من هذه الناحیة .و التحقیق أن فی الکتاب العزیز جهات کثیرة من الظهور تختلف ظهورا و خفاء و لیست ظواهره من هذه الناحیة علی نسق واحد بالنسبة إلی أکثر الناس و کذلک کل کلام و لا یخرج الکلام بذلک عن کونه ظاهرا یصلح للاحتجاج به عند أهله بل قد تکون الآیة الواحدة لها ظهور من جهة لا یخفی علی کل أحد و ظهور آخر یحتاج إلی تأمل و بصیرة فیخفی علی کثیر من الناس .و لنضرب لذلک مثلا قوله تعالی إِنّٰا أَعْطَیْنٰاکَ الْکَوْثَرَ فإن هذه الآیة الکریمة ظاهرة فی أن الله تعالی قد أنعم علی نبیه محمد صلی اللّٰه علیه و آله بإعطائه الکوثر و هذا الظهور بهذا المقدار لا شک فیه لکل أحد و لکن لیس کل الناس فهموا المراد من اَلْکَوْثَرَ فقیل المراد به نهر فی الجنة و قیل المراد القرآن و النبوة و قیل المراد به ابنته الزهراء علیها السلام و قیل غیر ذلک و لکن من یدقق فی السورة یجد أن فیها قرینة علی المراد منه و هی الآیة التی بعدها إِنَّ شٰانِئَکَ هُوَ الْأَبْتَرُ و الأبتر الذی لا

ص :159

عقب له فإنه بمقتضی المقابلة یفهم منها أن المراد الإنعام علیه بکثرة العقب و الذریة و کلمة اَلْکَوْثَرَ لا تأبی عن ذلک فإن فوعل تأتی للمبالغة فیراد بها المبالغة فی الکثرة و الکثرة نماء العدد فیکون المعنی إنا أعطیناک الکثیر من الذریة و النسل و بعد هذه المقارنة و وضوح معنی الکوثر یکون للآیة ظهور یصح الاحتجاج به و لکنه ظهور بعد التأمل و التبصر و حینئذ ینکشف صحة تفسیر کلمة اَلْکَوْثَرَ بفاطمة لانحصار ذریته الکثیرة من طریقها لا علی أن تکون الکلمة من أسمائها

ص :160

الباب السادس الشهرة

اشارة

ص :161

ص :162

إن الشهرة لغة تتضمن معنی ذیوع الشیء و وضوحه و منه قولهم شهر فلان سیفه و سیف مشهور .(و قد أطلقت باصطلاح أهل الحدیث علی کل خبر کثر راویه علی وجه لا یبلغ حد التواتر) و الخبر یقال له حینئذ مشهور کما قد یقال له مستفیض .(و کذلک یطلقون الشهرة باصطلاح الفقهاء علی ما لا یبلغ درجة الإجماع من الأقوال فی المسألة الفقهیة فهی عندهم لکل قول کثر القائل به فی مقابل القول النادر) و القول یقال له مشهور کما أن المفتین الکثیرین أنفسهم یقال لهم مشهور فیقولون ذهب المشهور إلی کذا و قال المشهور بکذا و هکذا .و علی هذا فالشهرة فی الاصطلاح علی قسمین 1 الشهرة فی الروایة و هی کما تقدم عبارة عن شیوع نقل الخبر من عدة رواة علی وجه لا یبلغ حد التواتر و لا یشترط فی تسمیتها بالشهرة أن یشتهر العمل بالخبر عند الفقهاء أیضا فقد یشتهر و قد لا یشتهر و سیأتی فی مبحث التعادل و التراجیح أن هذه الشهرة من أسباب ترجیح الخبر علی ما یعارضه من الأخبار فیکون الخبر المشهور حجة من هذه الجهة .2 الشهرة فی الفتوی و هی کما تقدم عبارة عن شیوع الفتوی عند الفقهاء بحکم شرعی و ذلک بأن یکثر المفتون علی وجه لا تبلغ الشهرة درجة الإجماع الموجب للقطع بقول المعصوم .فالمقصود بالشهرة إذن ذیوع الفتوی الموجبة للاعتقاد بمطابقتها

ص :163

للواقع من غیر أن یبلغ درجة القطع .و هذه الشهرة فی الفتوی علی قسمین من جهة وقوع البحث عنها و النزاع فیها (الأول أن یعلم فیها أن مستندها خبر خاص موجود بین أیدینا و تسمی حینئذ الشهرة العملیة) و سیأتی فی باب التعادل و التراجیح البحث عما إذا کانت هذه الشهرة العملیة موجبة لجبر الخبر الضعیف من جهة السند و البحث أیضا عما إذا کانت موجبة لجبر الخبر غیر الظاهر من جهة الدلالة .(الثانی ألا یعلم فیها أن مستندها أی شیء هو فتکون شهرة فی الفتوی مجردة سواء کان هناک خبر علی طبق الشهرة و لکن لم یستند إلیها المشهور أو لم یعلم استنادهم إلیه أم لم یکن خبر أصلا و ینبغی أن تسمی هذه بالشهرة الفتوائیة) .و هی أعنی الشهرة الفتوائیة موضوع بحثنا هنا الذی لأجله عقدنا هذا الباب فقد قیل (1)إن هذه الشهرة حجة علی الحکم الذی وقعت علیه الفتوی من جهة کونها شهرة فتکون من الظنون الخاصة کخبر الواحد و قیل لا دلیل علی حجیتها و هذا الاختلاف بعد الاتفاق علی أن فتوی مجتهد واحد أو أکثر ما لم تبلغ الشهرة لا تکون حجة علی مجتهد آخر و لا یجوز التعویل علیها و هذا معنی ما ذهبوا إلیه من عدم جواز التقلید أی بالنسبة إلی من یتمکن من الاستنباط .

ص :164


1- نسب إلی الشهید الاول ترجیحه هذا القول ونقله عن بعض الاصحاب من دون أن یذکر اسمه. ونسب أیضا إلی المحقق الخوانساری اختیار هذا القول وعزی کذلک إلی صاحب المعالم. ولکن الشهرة علی خلافهم.

و الحق أنه لا دلیل علی حجیة الظن الناشئ من الشهرة مهما بلغ من القوة و إن کان المسلم به أن الخبر الذی عمل به المشهور حجة و لو کان ضعیفا من ناحیة السند کما سیأتی بیانه فی محله و قد ذکروا لحجیة الشهرة جملة من الأدلة کلها مردودة .

الدلیل الأول أولویتها من خبر العادل

قیل إن أدلة حجیة خبر الواحد تدل علی حجیة الشهرة بمفهوم الموافقة نظرا إلی أن الظن الحاصل من الشهرة أقوی غالبا من الظن الحاصل من خبر الواحد حتی العادل فالشهرة أولی بالحجیة من خبر العادل .و الجواب أن هذا المفهوم أنما یتم إذا أحرزنا علی نحو الیقین أن العلة فی حجیة خبر العادل هو إفادته الظن لیکون ما هو أقوی ظنا أولی بالحجیة و لکن هذا غیر ثابت فی وجه حجیة خبر الواحد إذا لم یکن الثابت عدم اعتبار الظن الفعلی .

الدلیل الثانی عموم تعلیل آیة النبإ

و قیل إن عموم التعلیل فی آیة النبإ أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ یدل علی اعتبار مثل الشهرة لأن الذی یفهم من التعلیل أن الإصابة من الجهالة هی المانع من قبول خبر الفاسق بلا تبین فیدل علی أن کل ما یؤمن معه من الإصابة بجهالة فهو حجة یجب الأخذ به و الشهرة کذلک .و الجواب أن هذا لیس تمسکا بعموم التعلیل علی تقدیر تسلیم أن هذه الفقرة من الآیة واردة مورد التعلیل و قد تقدم بیان ذلک فی أدلة حجیة خبر الواحد بل هذا الاستدلال تمسک بعموم نقیض التعلیل و لا دلالة فی الآیة علی نقیض التعلیل بالضرورة لأن هذه الآیة نظیر نهی الطبیب عن بعض الطعام لأنه حامض مثلا فإن هذا التعلیل لا یدل علی أن کل

ص :165

ما هو لیس بحامض یجوز أو یجب أکله و کذلک هنا فإن حرمة العمل بنبإ الفاسق بدون تبین لأنه یستلزم الإصابة بجهالة لا تدل علی وجوب الأخذ بکل ما یؤمن فیه ذلک و ما لا یستلزم الإصابة بجهالة و أما دلالتها علی خصوص حجیة خبر الواحد العادل فقد استفدناه من طریق آخر و هو طریق مفهوم الشرط علی ما تقدم شرحه لا من طریق عموم نقیض التعلیل .و بعبارة أخری أن أکثر ما تدل الآیة فی تعلیلها علی أن الإصابة بجهالة مانع عن تأثیر المقتضی لحجیة الخبر و لا تدل علی وجود المقتضی للحجیة فی کل شیء آخر حیث لا یوجد فیه المانع حتی تکون دالة علی حجیة مثل الشهرة المفقود فیها المانع أو نقول إن فقدان المانع عن الحجیة فی مثل الشهرة لا یستلزم وجود المقتضی فیها للحجیة و لا تدل الآیة علی أن کل ما لیس فیه مانع ففیه المقتضی موجود .

الدلیل الثالث دلالة بعض الأخبار

قیل إن بعض الأخبار دالة علی اعتبار الشهرة مثل مرفوعة زرارة (:قال زرارة قلت جعلت فداک یأتی عنکم الخبران و الحدیثان المتعارضان فبأیهما نعمل قال علیه السلام خذ بما اشتهر بین أصحابک و دع الشاذ النادر قلت یا سیدی هما معا مشهوران مأثوران عنکم قال خذ بما یقوله أعدلهما إلی آخر الخبر) .و الاستدلال بهذه المرفوعة من وجهتین الأول أن المراد من الموصول فی قوله بما اشتهر مطلق المشهور بما هو مشهور لا خصوص الخبر فیعم المشهور بالفتوی لأن

ص :166

الموصول من الأسماء المبهمة التی تحتاج إلی ما یعین مدلولها و المعین لمدلول الموصول هی الصلة و هنا و هی قوله اشتهر تشمل کل شیء اشتهر حتی الفتوی .الثانی أنه علی تقدیر أن یراد من الموصول خصوص الخبر فإن المفهوم من المرفوعة إناطة الحکم بالشهرة فتدل علی أن الشهرة بما هی شهرة توجب اعتبار المشتهر فیدور الحکم معها حیثما دارت فالفتوی المشتهرة أیضا معتبرة کالخبر المشهور .و الجواب أما عن الوجه الأول فبأن الموصول کما یتعین المراد منه بالصلة کذلک یتعین بالقرائن الأخری المحفوفة به و الذی یعینه هنا السؤال المتقدم علیه إذ السؤال وقع عن نفس الخبر و الجواب لا بد أن یطابق السؤال و هذا نظیر ما لو سئلت أی إخوتک أحب إلیک فأجبت من کان أکبر منی فإنه لا ینبغی أن یتوهم أحد أن الحکم فی هذا الجواب یعم کل من کان أکبر منک و لو کان من غیر إخوتک .و أما عن الوجه الثانی فبأنه بعد وضوح إرادة الخبر من الموصول یکون الظاهر من الجملة تعلیق الحکم علی الشهرة فی خصوص الخبر فیکون المناط فی الحکم شهرة الخبر بما أنها شهرة الخبر لا الشهرة بما هی و إن کانت منسوبة لشیء آخر .و کذلک یقاس الحال فی مقبولة ابن حنظلة الآتیة فی باب التعادل و التراجیح .

تنبیه

من المعروف عن المحققین من علمائنا أنهم لا یجرءون علی مخالفة المشهور إلا مع دلیل قوی و مستند جلی یصرفهم عن المشهور بل ما زالوا یحرصون علی موافقة المشهور و تحصیل دلیل یوافقه و لو کان الدال علی غیره أولی

ص :167

بالأخذ و أقوی فی نفسه و ما ذلک من جهة التقلید للأکثر و لا من جهة قولهم بحجیة الشهرة و إنما منشأ ذلک إکبار المشهور من آراء العلماء لا سیما إذا کانوا من أهل التحقیق و النظر .و هذه طریقة جاریة فی سائر الفنون فإن مخالفة أکثر المحققین فی کل صناعة لا تسهل إلا مع حجة واضحة و باعث قوی لأن المنصف قد یشک فی صحة رأیه مقابل المشهور فیجوز علی نفسه الخطأ و یخشی أن یکون رأیه عن جهل مرکب لا سیما إذا کان قول المشهور هو الموافق للاحتیاط

ص :168

الباب السابع السیرة

اشارة

ص :169

ص :170

(المقصود من السیرة کما هو واضح استمرار عادة الناس و تبانیهم العملی علی فعل شیء أو ترک شیء) .و المقصود بالناس إما جمیع العقلاء و العرف العام من کل ملة و نحلة فیعم المسلمین و غیرهم و تسمی السیرة حینئذ السیرة العقلائیة و التعبیر الشائع عند الأصولیین المتأخرین تسمیتها ببناء العقلاء .و إما جمیع المسلمین بما هم مسلمون أو خصوص أهل نحلة خاصة منهم کالإمامیة مثلا و تسمی السیرة حینئذ سیرة المتشرعة أو السیرة الشرعیة أو السیرة الإسلامیة .و ینبغی التنبیه علی حجیة کل من هذین القسمین لاستکشاف الحکم الشرعی فیما جرت علیه السیرة و علی مدی دلالة السیرة فنقول

1 حجیة بناء العقلاء

لقد تکلمنا أکثر من مرة فیما سبق من هذا الجزء عن بناء العقلاء و استدللنا به علی حجیة خبر الواحد و حجیة الظواهر و قد أشبعنا الموضوع بحثا فی مسألة حجیة قول اللغوی ص 141 من هذا الجزء .و هناک قلنا إن بناء العقلاء لا یکون دلیلا إلا إذا کان یستکشف منه علی نحو الیقین موافقة الشارع و إمضاؤه لطریقة العقلاء لأن الیقین تنتهی إلیه حجیة کل حجة .و قلنا هناک إن موافقة الشارع لا تستکشف علی نحو الیقین إلا بأحد

ص :171

شروط ثلاثة و نذکر خلاصتها هنا بأسلوب آخر من البیان فنقول إن السیرة إما أن ینتظر فیها أن یکون الشارع متحد المسلک مع العقلاء إذ لا مانع من ذلک .و إما ألا ینتظر ذلک لوجود مانع من اتحاده معهم فی المسلک کما فی الاستصحاب .فإن کان الأول فإن ثبت من الشارع الردع عن العمل بها فلا حجیة فیها قطعا .و إن لم یثبت الردع منه فلا بد أن یعلم اتحاده فی المسلک معهم لأنه أحد العقلاء بل رئیسهم فلو لم یرتضها و لم یتخذها مسلکا له کسائر العقلاء لبین ذلک و لردعهم عنها و لذکر لهم مسلکه الذی یتخذه بدلا عنها لا سیما فی الأمارات المعمول بها عند العقلاء کخبر الواحد الثقة و الظواهر و إن کان الثانی فإما أن یعلم جریان سیرة العقلاء فی العمل بها فی الأمور الشرعیة کما فی الاستصحاب .و إما ألا یعلم ذلک کما فی الرجوع إلی أهل الخبرة فی إثبات اللغات .فإن کان الأول فنفس عدم ثبوت ردعه کاف فی استکشاف موافقته لهم لأن ذلک مما یعنیه و یهمه فلو لم یرتضها و هی بمرأی و مسمع منه لردعهم عنها و لبلغهم بالردع بأی نحو من أنحاء التبلیغ فبمجرد عدم ثبوت الردع منه نعلم بموافقته ضرورة أن الردع الواقعی غیر الواصل لا یعقل أن یکون ردعا فعلیا و حجة .و بهذا نثبت حجیة مثل الاستصحاب ببناء العقلاء لأنه لما کان مما بنی علی العمل به العقلاء بما فیهم المسلمون و قد أجروه فی الأمور الشرعیة بمرأی و مسمع من الإمام و المفروض أنه لم یکن هناک ما یحول دون إظهار

ص :172

الردع و تبلیغه من تقیة و نحوها فلا بد أن یکون الشارع قد ارتضاه طریقه فی الأمور الشرعیة .و إن کان الثانی أی لم یعلم ثبوت السیرة فی الأمور الشرعیة فإنه لا یکفی حینئذ فی استکشاف موافقة الشارع عدم ثبوت الردع منه إذ لعله ردعهم عن إجرائها فی الأمور الشرعیة فلم یجروها أو لعلهم لم یجروها فی الأمور الشرعیة من عند أنفسهم فلم یکن من وظیفة الشارع أن یردع عنها فی غیر الأمور الشرعیة لو کان لا یرتضیها فی الشرعیات و علیه فلأجل استکشاف رضا الشارع و موافقته علی إجرائها فی الشرعیات لا بد من إقامة دلیل خاص قطعی علی ذلک .و بعض السیر من هذا القبیل قد ثبت عن الشارع إمضاؤه لها مثل الرجوع إلی أهل الخبرة عند النزاع فی تقدیر قیم الأشیاء و مقادیرها نظیر القیمیات المضمونة بالتلف و نحوه و تقدیر قدر الکفایة فی نفقة الأقارب و نحو ذلک .أما ما لم یثبت فیها دلیل خاص کالسیرة فی الرجوع إلی أهل الخبرة فی اللغات فلا عبرة بها و إن حصل الظن منها لأن الظن لا یغنی عن الحق شیئا کما تقدم ذلک هناک

ص :173

2 حجیة سیرة المتشرعة

إن السیرة عند المتشرعة من المسلمین علی فعل شیء أو ترکه هی فی الحقیقة من نوع الإجماع بل هی أرقی أنواع الإجماع لأنها إجماع عملی من العلماء و غیرهم و الإجماع فی الفتوی إجماع قولی و من العلماء خاصة .و السیرة علی نحوین تارة یعلم فیها أنها کانت جاریة فی عصور المعصومین علیهم السلام حتی یکون المعصوم أحد العاملین بها أو یکون مقررا لها و أخری لا یعلم ذلک أو یعلم حدوثها بعد عصورهم .فإن کانت علی النحو الأول فلا شک فی أنها حجة قطعیة علی موافقة الشارع فتکون بنفسها دلیلا علی الحکم کالإجماع القولی الموجب للحدس القطعی برأی المعصوم و بهذا تختلف (1) عن سیرة العقلاء فإنها أنما تکون حجة إذا ثبت من دلیل آخر إمضاء الشارع لها و لو من طریق عدم ثبوت الردع من قبله کما سبق .و إن کانت علی النحو الثانی فلا نجد مجالا للاعتماد علیها فی استکشاف موافقة المعصوم علی نحو القطع و الیقین کما قلنا فی الإجماع و هی نوع منه بل هی دون الإجماع القولی فی ذلک کما سیأتی وجهه (قال الشیخ الأعظم فی کتاب البیع فی مبحث المعاطاة (2) و أما ثبوت السیرة و استمرارها علی التوریث یقصد توریث ما یباع معاطاة فهی کسائر

ص :174


1- 1) راجع حاشیة شیخنا الأصفهانی علی مکاسب الشیخ ص 25.
2- 2) المکاسب ص 83 طبع تبریز سنة 1375.

سیراتهم الناشئة من المسامحة و قلة المبالاة فی الدین مما لا یحصی فی عباداتهم و معاملاتهم کما لا یخفی) .و من الواضح أنه یعنی من السیرة هذا النحو الثانی و السر فی عدم الاعتماد علی هذا النحو من السیرة هو ما نعرف من أسلوب نشأة العادات عند البشر و تأثیر العادات علی عواطف الناس أن بعض الناس المتنفذین أو المغامرین قد یعمل شیئا استجابة لعادة غیر إسلامیة أو لهوی فی نفسه أو لتأثیرات خارجیة نحو تقلید الأغیار أو لبواعث انفعالات نفسیة مثل حب التفوق علی الخصوم أو إظهار عظمة شخصه أو دینه أو نحو ذلک و یأتی آخر فیقلد الأول فی عمله و یستمر العمل فیشیع بین الناس من دون أن یحصل من یردعهم عن ذلک لغفلة أو لتسامح أو لخوف أو لغلبة العاملین فلا یصغون إلی من ینصحهم أو لغیر ذلک .و إذا مضت علی العمل عهود طویلة یتلقاه الجیل بعد الجیل فیصبح سیرة المسلمین و ینسی تاریخ تلک العادة و إذا استقرت السیرة یکون الخروج علیها خروج علی العادات المستحکمة التی من شأنها أن تتکون لها قدسیة و احترام لدی الجمهور فیعدون مخالفتها من المنکرات القبیحة و حینئذ یتراءی أنها عادة شرعیة و سیرة إسلامیة و أن المخالف لها مخالف لقانون الإسلام و خارج علی الشرع .و یشبه أن یکون من هذا الباب سیرة تقبیل الید و القیام احتراما للقادم و الاحتفاء بیوم النوروز و زخرفة المساجد و المقابر و ما إلی ذلک من عادات اجتماعیة حادثة .و کل من یغتر بهذه السیرات و أمثالها فإنه لم یتوصل إلی ما توصل إلیه الشیخ الأنصاری الأعظم من إدراک سر نشأة العادات عند الناس علی طول الزمن و إن لکل جیل من العادات فی السلوک و الاجتماع و المعاملات

ص :175

و المظاهر و الملابس ما قد یختلف کل الاختلاف عن عادات الجیل الآخر هذا بالنسبة إلی شعب واحد و قطر واحد فضلا عن الشعوب و الأقطار بعضها مع بعض و التبدل فی العادات غالبا یحدث بالتدریج فی زمن طویل قد لا یحس به من جری علی أیدیهم التبدیل .و لأجل هذا لا نثق فی السیرات الموجودة فی عصورنا أنها کانت موجودة فی العصور الإسلامیة الأولی و مع الشک فی ذلک فأجدر بها ألا تکون حجة لأن الشک فی حجیة الشیء کاف فی وهن حجیته إذ لا حجة إلا بعلم

3 مدی دلالة السیرة

إن السیرة عند ما تکون حجة فأقصی ما تقتضیه أن تدل علی مشروعیة الفعل و عدم حرمته فی صورة السیرة علی الفعل أو تدل علی مشروعیة الترک و عدم وجوب الفعل فی صورة السیرة علی الترک .أما استفادة الوجوب من سیرة الفعل و الحرمة من سیرة الترک فأمر لا تقتضیه نفس السیرة بل کذلک الاستحباب و الکراهة لأن العمل فی حد ذاته مجمل لا دلالة له علی أکثر من مشروعیة الفعل أو الترک .نعم المداومة و الاستمرار علی العمل من قبل جمیع الناس المتشرعین قد یستظهر منها استحبابه لأنه یدل ذلک علی استحسانه عندهم علی الأقل و لکن یمکن أن یقال إن الاستحسان له ربما ینشأ من کونه أصبح عادة لهم و العادات من شأنها أن یکون فاعلها ممدوحا مرغوبا فیه لدی الجمهور و تارکها مذموما عندهم فلا یوثق إذن فیما جرت علیه السیرة بأن المدح للفاعل و الذم للتارک کانا من ناحیة شرعیة .و الغرض أن السیرة بما هی سیرة لا یستکشف وجوب الفعل و لا استحبابه فی سیرة الفعل و لا یستکشف منها حرمة الفعل و لا کراهته فی

ص :176

سیرة الترک .نعم هناک بعض الأمور یکون لازم مشروعیتها وجوبها و إلا لم تکن مشروعة و ذلک مثل الأمارة کخبر الواحد و الظواهر فإن السیرة علی العمل بالأمارة لما دلت علی مشروعیة العمل بها فإن لازمه أن یکون واجبا لأنه لا یشرع العمل بها و لا یصلح إلا إذا کانت حجة منصوبة من قبل الشارع لتبلیغ الأحکام و استکشافها و إذا کانت حجة وجب العمل بها قطعا لوجوب تحصیل الأحکام و تعلمها فینتج من ذلک أنه لا یمکن فرض مشروعیة العمل بالأمارة مع فرض عدم وجوبه

ص :177

ص :178

الباب الثامن القیاس

اشارة

ص :179

ص :180

تمهید

إن القیاس علی ما سیأتی تحدیده و بیان موضع البحث فیه من الأمارات التی وقعت فیها معرکة الآراء بین الفقهاء .و علماء الإمامیة تبعا لآل البیت علیهم السلام أبطلوا العمل به و من الفرق الأخری أهل الظاهر المعروفین بالظاهریة أصحاب داود بن خلف إمام أهل الظاهر و کذلک الحنابلة لم یکن یقیمون له وزنا .و أول من توسع فیه فی القرن الثانی أبو حنیفة رأس القیاسیین و قد نشط فی عصره و أخذ به الشافعیة و المالکیة و لقد بالغ به جماعة فقدموه علی الإجماع بل غلا آخرون فردوا الأحادیث بالقیاس و ربما صار بعضهم یؤول الآیات بالقیاس .و من المعلوم عند آل البیت علیهم السلام أنهم لا یجوزون العمل به و قد شاع عنهم(:أن دین الله لا یصاب بالعقول) و(:أن السنة إذا قیست محق الدین) بل شنوا حربا شعواء لا هوادة فیها علی أهل الرأی و قیاسهم ما وجدوا للکلام متسعا و مناظرات الإمام الصادق علیه السلام معهم معروفة لا سیما مع أبی حنیفة و قد رواها حتی أهل السنة(:إذ قال له فیما رواه ابن حزم (1) اتق الله و لا تقس فإنا نقف غدا بین یدی الله فنقول قال الله و قال رسوله و تقول أنت و أصحابک سمعنا و رأینا) .و الذی یبدو أن المخالفین لآل البیت الذین سلکوا غیر طریقهم و لم یعجبهم أن یستقوا من منبع علومهم أعوزهم العلم بأحکام الله و ما جاء به

ص :181


1- 1) إبطال القیاس ص 71 مطبعة جامعة دمشق 1379.

الرسول صلی اللّٰه علیه و آله فالتجئوا إلی أن یصطنعوا الرأی و الاجتهادات الاستحسانیة للفتیاء و القضاء بین الناس بل حکموا الرأی و الاجتهاد حتی فیما یخالف النص أو جعلوا ذلک عذرا مبررا لمخالفة النص کما فی قصة تبریر الخلیفة الأول لفعله خالد بن الولید فی قتل مالک بن نویرة و قد خلا بزوجته لیلة قتله فقال عنه إنه اجتهد فأخطأ و ذلک لما أراد الخلیفة عمر بن الخطاب أن یقاد به و یقام علیه الحد (1).و کان الرأی و القیاس غیر واضح المعالم عند من کان یأخذ به من الصحابة و التابعین حتی بدأ البحث فیه لترکیزه و توسعة الأخذ به فی القرن الثانی علی ید أبی حنیفة و أصحابه ثم بعد أن أخذت الدولة العباسیة تساند أهل القیاس و بعد ظهور النقاد له انبری جماعة من علمائهم لتحدید معالمه و توسیع أبحاثه و وضع القیود و الاستدراکات له حتی صارفنا قائما بنفسه .و نحن یهمنا منه البحث عن موضع الخلاف فیه و حجیته فنقول

ص :182


1- 1) راجع کتاب«السقیفة»للمؤلف ص 17،الطبعة الثالثة.
1 تعریف القیاس

(إن خیر التعریفات للقیاس فی رأینا أن یقال هو إثبات حکم فی محل بعلة لثبوته فی محل آخر بتلک العلة) و المحل الأول و هو المقیس یسمی فرعا و المحل الثانی و هو المقیس علیه یسمی أصلا و العلة المشترکة تسمی جامعا .و فی الحقیقة أن القیاس عملیة من المستدل أی القائس لغرض استنتاج حکم شرعی لمحل لم یرد فیه نص بحکمه الشرعی إذ توجب هذه العملیة عنده الاعتقاد یقینا أو ظنا بحکم الشارع .و العملیة القیاسیة هی نفس حمل الفرع علی الأصل فی الحکم الثابت للأصل شرعا فیعطی القائس حکما للفرع مثل حکم الأصل فإن کان الوجوب أعطی له الوجوب و إن کان الحرمة فالحرمة و هکذا .و معنی هذا الإعطاء أن یحکم بأن الفرع ینبغی أن یکون محکوما عند الشارع بمثل حکم الأصل للعلة المشترکة بینهما و هذا الإعطاء أو الحکم هو الذی یوجب عنده الاعتقاد بأن للفرع مثل ما للأصل من الحکم عند الشارع و یکون هذا الإعطاء أو الحکم أو الإثبات أو الحمل ما شئت فعبر دلیلا عنده علی حکم الله فی الفرع .و علیه فالدلیل هو الإثبات الذی هو نفس عملیة الحمل و إعطاء الحکم للفرع من قبل القائس .و نتیجة الدلیل هو الحکم بأن الشارع قد حکم فعلا علی هذا

ص :183

الفرع بمثل حکم الأصل .فتکون هذه العملیة من القائس دلیلا علی حکم الشارع لأنها توجب اعتقاده الیقینی أو الظنی بأن الشارع له هذا الحکم .و بهذا التقریر یندفع الاعتراض علی مثل هذا التعریف بأن الدلیل و هو الإثبات نفسه نتیجة الدلیل بینما أنه یجب أن یکون الدلیل مغایرا للمستدل علیه .وجه الدفع أنه اتضح بذلک البیان أن الإثبات فی الحقیقة و هو عملیة الحمل عمل القائس و حکمه لا حکم الشارع و هو الدلیل و أما المستدل علیه فهو حکم الشارع علی الفرع و إنما حصل للقائس هذا الاستدلال لحصول الاعتقاد له بحکم الشارع من تلک العملیة القیاسیة التی أجراها .و من هنا یظهر أن هذا التعریف أفضل التعریفات و أبعدها عن المناقشات و أما تعریفه بالمساواة بین الفرع و الأصل فی العلة أو نحو ذلک فإنه تعریف بمورد القیاس و لیست المساواة قیاسا .و علی کل حال لا یستحق الموضوع الإطالة بعد أن کان المقصود من القیاس واضحا

2 أرکان القیاس

بما تقدم من البیان یتضح أن للقیاس أربعة أرکان 1 الأصل و هو المقیس علیه المعلوم ثبوت الحکم له شرعا .2 الفرع و هو المقیس المطلوب إثبات الحکم له شرعا .3 العلة و هی الجهة المشترکة بین الأصل و الفرع التی اقتضت

ص :184

ثبوت الحکم و تسمی جامعا .4 الحکم و هو نوع الحکم الذی ثبت للأصل و یراد إثباته للفرع .و قد وقعت أبحاث عن کل من هذه الأرکان مما لا یهمنا التعرض لها إلا فیما یتعلق بأصل حجیته و ما یرتبط بذلک و بهذا الکفایة

ص :185

3 حجیة القیاس
اشارة

إن حجیة کل أمارة تناط بالعلم و قد سبق بیان ذلک فی هذا الجزء أکثر من مرة فالقیاس کباقی الأمارات لا یکون حجة إلا فی صورتین لا ثالث لهما 1 أن یکون بنفسه موجبا للعلم بالحکم الشرعی .2 أن یقوم دلیل قاطع علی حجیته إذا لم یکن بنفسه موجبا للعلم و حینئذ لا بد من بحث موضوع حجیة القیاس من الناحیتین فنقول

1 هل القیاس یوجب العلم

أن القیاس نوع من التمثیل المصطلح علیه فی المنطق راجع المنطق للمؤلف 2 147 149 و قلنا هناک إن التمثیل من الأدلة التی لا تفید إلا الاحتمال لأنه لا یلزم من تشابه شیئین فی أمر بل فی عدة أمور أن یتشابها من جمیع الوجوه و الخصوصیات .نعم إذا قویت وجوه الشبه بین الأصل و الفرع و تعددت یقول فی النفس الاحتمال حتی یکون ظنا و یقرب من الیقین و القیافة من هذا الباب و لکن کل ذلک لا یغنی عن الحق شیئا .غیر أنه إذا علمنا بطریقة من الطرق أن جهة المشابهة علة تامة لثبوت الحکم فی الأصل عند الشارع ثم علمنا أیضا بأن هذه العلة التامة موجودة بخصوصیاتها فی الفرع فإنه لا محالة یحصل لنا علی نحو الیقین استنباط أن مثل هذا الحکم ثابت فی الفرع کثبوته فی الأصل

ص :186

لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة و یکون من القیاس المنطقی البرهانی الذی یفید الیقین .و لکن الشأن کل الشأن فی حصول الطریق لنا إلی العلم بأن الجامع علة تامة للحکم الشرعی و قد سبق ص 126 من هذا الجزء أن ملاکات الأحکام لا مسرح للعقول أو لا مجال للنظر العقلی فیها فلا تعلم إلا من طریق السماع من مبلغ الأحکام الذی نصبه الله تعالی مبلغا و هادیا و الغرض من کون الملاکات لا مسرح للعقول فیها أن أصل تعلیل الحکم بالملاک لا یعرف إلا من طریق السماع لأنه أمر توقیفی أما نفس وجود الملاک فی ذاته فقد یعرف من طریق الحس و نحوه لکن لا بما هو علة و ملاک کالإسکار فإن کونه علة للتحریم فی الخمر لا یمکن معرفته من غیر طریق التبلیغ بالأدلة السمعیة أما وجود الإسکار فی الخمر و غیره من المسکرات فأمر یعرف بالوجدان و لکن لا ربط لذلک بمعرفة کونه هو الملاک فی التحریم فإنه لیس هذا من الوجدانیات .و علی کل حال فإن السر فی أن الأحکام و ملاکاتها لا مسرح للعقول فی معرفتها واضح لأنها أمور توقیفیة من وضع الشارع کاللغات و العلامات و الإشارات التی لا تعرف إلا من قبل واضعیها و لا تدرک بالنظر العقلی إلا من طریق الملازمات العقلیة القطعیة التی تکلمنا عنها فیما تقدم فی بحث الملازمات العقلیة فی الجزء الثانی و فی دلیل العقل من هذا الجزء و القیاس لا یشکل ملازمة عقلیة بین حکم المقیس علیه و حکم المقیس .نعم إذا ورد نص من قبل الشارع فی بیان علة الحکم فی المقیس علیه فإنه یصح الاکتفاء به فی تعدیة الحکم إلی المقیس بشرطین الأول أن نعلم بأن العلة المنصوصة تامة یدور معها الحکم أینما دارت و الثانی أن نعلم بوجودها فی المقیس .

ص :187

و الخلاصة أن القیاس فی نفسه لا یفید العلم بالحکم لأنه لا یتکفل ثبوت الملازمة بین حکم المقیس علیه و حکم المقیس و یستثنی منه منصوص العلة بالشرطین اللذین تقدما و فی الحقیقة أن منصوص العلة لیس من نوع القیاس کما سیأتی بیانه و کذلک قیاس الأولویة .و لأجل أن یتضح الموضوع أکثر نقول إن الاحتمالات الموجودة فی کل قیاس خمسة و مع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بین حکم الأصل و حکم الفرع و لا یمکن رفع هذه الاحتمالات إلا بورود النص من الشارع و الاحتمالات هی 1 احتمال أن یکون الحکم فی الأصل معللا عند الله بعلة أخری غیر ما ظنه القائس بل یحتمل علی مذهب هؤلاء ألا یکون الحکم معللا عند الله بشیء أصلا لأنهم لا یرون الأحکام الشرعیة معللة بالمصالح و المفاسد و هذا من مفارقات آرائهم فإنهم إذا کانوا لا یرون تبعیة الأحکام للمصالح و المفاسد فکیف یؤکدون تعلیل الحکم الشرعی فی المقیس علیه بالعلة التی یظنونها بل کیف یحصل لهم الظن بالتعلیل .2 احتمال أن هناک وصفا آخر ینضم إلی ما ظنه القائس علة بأن یکون المجموع منهما هو العلة للحکم لو فرض أن القائس أصاب فی أصل التعلیل .3 احتمال أن یکون القائس قد أضاف شیئا أجنبیا إلی العلة الحقیقیة لم یکن له دخل فی الحکم فی المقیس علیه .4 احتمال أن یکون ما ظنه القائس علة إن کان مصیبا فی ظنه لیس هو الوصف المجرد بل بما هو مضاف إلی موضوعه أعنی الأصل

ص :188

لخصوصیة فیه مثال ذلک لو علم بأن الجهل بالثمن علة موجبة شرعا فی إفساد البیع و أراد أن یقیس علی البیع عقد النکاح إذا کان المهر فیه مجهولا فإنه یحتمل أن یکون الجهل بالعوض الموجب لفساد البیع هو الجهل بخصوص العوض فی البیع لا مطلق الجهل بالعوض من حیث هو جهل بالعوض لیسری الحکم إلی کل معاوضة حتی فی مثل الصلح المعاوضی و النکاح باعتبار أنه یتضمن معنی المعاوضة عن البضع .5 احتمال أن تکون العلة الحقیقة لحکم المقیس علیه غیر موجودة أو غیر متوفرة بخصوصیاتها فی المقیس .و کل هذه الاحتمالات لا بد من دفعها لیحصل لنا العلم بالنتیجة و لا یدفعها إلا الأدلة السمعیة الواردة عن الشارع .و قیل من الممکن تحصیل العلم بالعلة بطریق برهان السبر و التقسیم و برهان السبر و التقسیم عبارة عن عد جمیع الاحتمالات الممکنة ثم یقام الدلیل علی نفی واحد واحد حتی ینحصر الأمر فی واحد منها فیتعین فیقال مثلا حرمة الربا فی البر إما أن تکون معللة بالطعم أو بالقوت أو بالکیل و الکل باطل ما عدا الکیل فیتعین التعلیل به .أقول من شرط برهان السبر و التقسیم لیکون برهانا حقیقیا أن تحصر المحتملات حصرا عقلیا من طریق القسمة الثنائیة (1) التی تتردد بین

ص :189


1- 1) کتاب المنطق للمؤلف 1-106-108 الطبعة الثانیة.

النفی و الإثبات .و ما یذکر من الاحتمالات فی تعلیل الحکم الشرعی لا تعدو أن تکون احتمالات استطاع القائس أن یحتملها و لم یحتمل غیرها لا أنها مبنیة علی الحصر العقلی المردد بین النفی و الإثبات .و إذا کان الأمر کذلک فکل ما یفرضه من الاحتمالات یجوز أن یکون وراءها احتمالات لم یتصورها أصلا و من الاحتمالات أن تکون العلة اجتماع محتملین أو أکثر مما احتمله القائس و من الاحتمالات أن یکون ملاک الحکم شیئا آخر خارجا عن أوصاف المقیس علیه لا یمکن أن یهتدی إلیه القائس مثل التعلیل فی قوله تعالی سورة النساء 160 فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِینَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا عَلَیْهِمْ طَیِّبٰاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فإن الظاهر من الآیة أن العلة فی تحریم الطیبات عصیانهم لا أوصاف تلک الأشیاء .بل من الاحتمالات عند هذا القائس الذی لا یری تبعیة الأحکام للمصالح و المفاسد أن الحکم لا ملاک و لا علة له فکیف یمکن أن یدعی حصر العلل فیما احتمله و قد لا تکون له علة .و علی کل حال فلا یمکن أن یستنتج من مثل السبر و التقسیم هنا أکثر من الاحتمال و إذا تنزلنا فأکثر ما یحصل منه الظن .فرجع الأمر بالأخیر إلی الظن و أن الظن لا یغنی من الحق شیئا و فی الحقیقة أن القائلین بالقیاس لا یدعون إفادته العلم بل أقصی ما یتوقعونه إفادته للظن غیر أنهم یرون أن مثل هذا الظن حجة و فی البحث الآتی نبحث عن أدلة حجیته

ص :190

2 الدلیل علی حجیة القیاس الظنی
اشارة

بعد أن ثبت أن القیاس فی حد ذاته لا یفید العلم بقی علینا أن نبحث عن الأدلة علی حجیة الظن الحاصل منه لیکون من الظنون الخاصة المستثناة من عموم الآیات الناهیة عن اتباع الظن کما صنعنا فی خبر الواحد و الظواهر فنقول أما نحن الإمامیة ففی غنی عن هذا البحث لأنه ثبت لدینا علی سبیل القطع من طریق آل البیت علیهم السلام عدم اعتبار هذا الظن الحاصل من القیاس فقد تواتر عنهم النهی عن الأخذ بالقیاس و أن دین الله لا یصاب بالعقول فلا الأحکام فی أنفسها تصیبها العقول و لا ملاکاتها و عللها .علی أنه یکفینا فی إبطال القیاس أن نبطل ما تمسکوا به لإثبات حجیته من الأدلة لنرجع إلی عمومات النهی عن اتباع الظن و ما وراء العلم .أما غیرنا من أهل السنة الذین ذهبوا إلی حجیته فقد تمسکوا بالأدلة الأربعة الکتاب و السنة و الإجماع و العقل و لا بأس أن نشیر إلی نماذج من استدلالاتهم لنری أن ما تمسکوا به لا یصلح لإثبات مقصودهم فنقول

الدلیل من الآیات القرآنیة

منها قوله تعالی الحشر 59 فَاعْتَبِرُوا یٰا أُولِی الْأَبْصٰارِ بناء علی تفسیر الاعتبار بالعبور و المجاوزة و القیاس عبور و مجاوزة من

ص :191

الأصل إلی الفرع .و فیه أن الاعتبار هو الاتعاظ لغة و هو الأنسب بمعنی الآیة الواردة فی الذین کفروا من أهل الکتاب إذ قذف الله فی قلوبهم الرعب یخربون بیوتهم بأیدیهم و أیدی المؤمنین و أین هی من القیاس الذی نحن فیه (و قال ابن حزم فی کتابه إبطال القیاس ص 30 و محال أن یقول لنا فَاعْتَبِرُوا یٰا أُولِی الْأَبْصٰارِ و یرید القیاس ثم لا یبین لنا فی القرآن و لا فی الحدیث أی شیء نقیس و لا متی نقیس و لا علی أی نقیس و لو وجدنا ذلک لوجب أن نقیس ما أمرنا بقیاسه حیث أمرنا و حرم علینا أن نقیس ما لا نص فیه جملة و لا نتعدی حدوده) .و منها قوله تعالی یس 36 قٰالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظٰامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ باعتبار أن الآیة تدل علی مساواة النظیر للنظیر بل هی استدلال بالقیاس لإفحام من ینکر إحیاء العظام و هی رمیم و لو لا أن القیاس حجة لما صح الاستدلال فیها .و فیه أن الآیة لا تدل علی هذه المساواة بین النظیرین کنظیرین فی أیة جهة کانت کما أنها لیست استدلالا بالقیاس و إنما جاءت لرفع استغراب المنکرین للبعث إذ یتخیلون العجز عن إحیاء الرمیم فأرادت الآیة أن تثبت الملازمة بین القدرة علی إنشاء العظام و إیجادها لأول مرة بلا سابق وجود و بین القدرة علی إحیائها من جدید بل القدرة علی الثانی أولی و إذا ثبتت الملازمة و المفروض أن الملزوم و هو القدرة علی إنشائها أول مرة موجود مسلم فلا بد أن یثبت اللازم و هو القدرة علی إحیائها و هی رمیم و أین هذا من القیاس .و لو صح أن یراد من الآیة القیاس فهو نوع من قیاس الأولویة المقطوعة و أین هذا من قیاس المساواة المطلوب إثبات حجیته و هو الذی

ص :192

یبتنی علی ظن المساواة فی العلة .و قد استدلوا بآیات أخر مثل قوله تعالی فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ و التشبث بمثل هذه الآیات لا یعدو أن یکون من باب تشبث الغریق بالطحلب کما یقولون .

الدلیل من السنة

رووا عن النبی صلی اللّٰه علیه و آله أحادیث لتصحیح القیاس لا تنهض حجة لهم و لا بأس أن نذکر بعضها کنموذج عنها فنقول منها(:الحدیث المأثور عن معاذ أن رسول الله صلی اللّٰه علیه و آله بعثه قاضیا إلی الیمن و قال له فیما قال بما ذا تقضی إذا لم تجد فی کتاب الله و لا فی سنة رسول الله قال معاذ أجتهد رأیی و لا آلو فقال صلی اللّٰه علیه و آله الحمد لله الذی وفق رسول الله لما یرضی رسول الله) .قالوا قد أقر النبی الاجتهاد بالرأی و اجتهاد الرأی لا بد من رده إلی أصل و إلا کان رأیا مرسلا و الرأی المرسل غیر معتبر فانحصر الأمر بالقیاس .و الجواب أن الحدیث مرسل لا حجة فیه لأن راویه و هو الحارث بن عمرو ابن أخی المغیرة بن شعبة رواه عن أناس من أهل حمص ثم الحارث هذا نفسه مجهول لا یدری أحد من هو و لا یعرف له غیر هذا الحدیث .ثم إن الحدیث معارض بحدیث آخر (1)فی نفس الواقعة إذ جاء فیه(:لا تقضین و لا تفضلن إلا بما تعلم و إن أشکل علیک أمر فقف حتی تتبینه أو تکتب إلی) فأجدر بذلک الحدیث أن یکون موضوعا علی

ص :193


1- 1) راجع تعلیقة الناشر لکتاب إبطال القیاس لابن حزم ص 15.

الحارث أو منه .مضافا إلی أنه لا حصر فیما ذکروا فقد یراد من الاجتهاد بالرأی استفراغ الوسع فی الفحص عن الحکم و لو بالرجوع إلی العمومات أو الأصول و لعله یشیر إلی ذلک قوله و لا آلو .و منها(:حدیث الخثعمیة التی سألت رسول الله صلی اللّٰه علیه و آله عن قضاء الحج عن أبیها الذی فاتته فریضة الحج أ ینفعه ذلک فقال صلی اللّٰه علیه و آله لها أ رأیت لو کان علی أبی دین فقضیته أ کان ینفعه ذلک قالت نعم قال فدین الله أحق بالقضاء) .قالوا فألحق الرسول دین الله بدین الآدمی فی وجوب القضاء و هو عین القیاس .و الجواب أنه لا معنی للقول بأن الرسول أجری القیاس فی حکمه بقضاء الحج و هو المشرع المتلقی الأحکام من الله تعالی بالوحی فهل کان لا یعلم بحکم قضاء الحج فاحتاج أن یستدل علیه بالقیاس ما لکم کیف تحکمون .و إنما المقصود من الحدیث علی تقدیر صحته تنبیه الخثعمیة علی تطبیق العام علی ما سألت عنه و هو أعنی العام وجوب قضاء کل دین إذ خفی علیها أن الحج مما یعد من الدیون التی یجب قضاؤها عن المیت و هو أولی بالقضاء لأنه دین الله .و لا شک فی أن تطبیق العام علی مصادیقه المعلومة لا یحتاج إلی تشریع جدید غیر تشریع نفس العام لأن الانطباق قهری و لیس هو من نوع القیاس .و لا ینقضی العجب ممن یذهب إلی عدم وجوب قضاء الحج و لا الصوم کالحنفیة و یقول دین الناس أحق بالقضاء ثم یستدل بهذا الحدیث

ص :194

علی حجیة القیاس .و منها(:حدیث بیع الرطب بالتمر فإن رسول الله صلی اللّٰه علیه و آله سئل أ ینقص الرطب إذا یبس فلما أجیب بنعم قال فلا إذن) .و الجواب أن هذا الحدیث علی تقدیر صحته یشبه حدیث الخثعمیة فإن المقصود منه التنبیه علی تطبیق العام علی أحد مصادیقه الخفیة و لیس هو من القیاس فی شیء .و کذلک یقال فی أکثر الأحادیث المرویة فی الباب .علی أنها بجملتها معارضة بأحادیث أخر یفهم منها النهی عن الأخذ بالرأی من دون الرجوع إلی الکتاب و السنة

الدلیل من الإجماع

و الإجماع هو أهم دلیل عندهم و علیه معولهم فی هذه المسألة و الغرض منه إجماع الصحابة .و یجب الاعتراف بأن بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأی و أکثروا بل حتی فیما خالف النص تصرفا فی الشریعة باجتهاداتهم و الإنصاف أن ذلک لا ینبغی أن ینکر من طریقتهم و لکن کما سبق إن أوضحناه لم تکن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم من کونها علی نحو القیاس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة و لم یعرف عنهم علی أی أساس کانت اجتهاداتهم أ کانت تأویلا للنصوص أو جهلا بها أو استهانة بها ربما کان بعض هذا أو کله من بعضهم .و فی الحقیقة إنما تطور البحث عن الاجتهاد بالرأی فی تنویعه و خصائصه فی القرن الثانی و الثالث کما سبق بیانه فمیزوا بین القیاس و الاستحسان

ص :195

و المصالح المرسلة .و من الاجتهادات قول عمر بن الخطاب متعتان کانتا علی عهد رسول الله أنا محرمهما و معاقب علیهما و منها جمعه الناس لصلاة التراویح و منها إلغاؤه فی الأذان حی علی خیر العمل فهل کان ذلک من القیاس أو من الاستحسان المحض .لا ینبغی أن یشک مثل هذه الاجتهادات لیست من القیاس فی شیء و کذلک کثیر من الاجتهادات عندهم .(و علیه فابن حزم علی حق إذا کان یقصد إنکار أن یکون القیاس سابقا معروفا بحدوده فی اجتهادات الصحابة حینما قال فی کتابه إبطال القیاس ص 5 ثم حدث القیاس فی القرن الثانی فقال به بعضهم و أنکره سائرهم و تبرءوا منه و قال فی کتابه الأحکام 7 177 إنه بدعة حدث فی القرن الثانی ثم فشا و ظهر فی القرن الثالث) أما إذا أراد إنکار أصل الاجتهادات بالرأی من بعض الصحابة و هو لا یرید ذلک قطعا فهو إنکار لأمر ضروری متواتر عنهم .و قد ذکر الغزالی فی کتاب المستصفی 2 58 62 کثیرا من مواضع اجتهادات الصحابة برأیهم و لکن لم یستطع أن یثبت أنها علی نحو القیاس إلا لأنه لم یروجها لتصحیحها إلا بالقیاس و تعلیل النص و لیس هو منه إلا من باب حسن الظن لا أکثر و أکثرها لا یصح تطبیقها علی القیاس .و علی کل حال فالشأن کل الشأن فی تحقیق إجماع الأمة و الصحابة علی الأخذ بالقیاس و نحن نمنعه أشد المنع .أما أولا فلما قلناه قریبا أنه لم یثبت أن اجتهاداتهم کانت من نوع القیاس بل فی بعضها ثبت عکس ذلک کاجتهادات عمر بن الخطاب المتقدمة و مثلها اجتهاد عثمان فی حرق المصاحف و نحو ذلک .

ص :196

و أما ثانیا فإن استعمال بعضهم للرأی سواء کان مبنیا علی القیاس أو علی غیره لا یکشف عن موافقة الجمیع(کما قال ابن حزم (1) فأنصف أین وجدتم هذا الإجماع و قد علمتم أن الصحابة ألوف لا تحفظ الفتیاء عنهم فی أشخاص المسائل إلا عن مائة و نیف و ثلاثین نفرا منهم سبعة مکثرون و ثلاثة عشر نفسا متوسطون و الباقون مقلون جدا تروی عنهم المسألة و المسألتان حاشا المسائل التی تیقن إجماعهم علیها (2)کالصلوات و صوم رمضان فأین الإجماع علی القول بالرأی) .و الغرض الذی نرمی إلیه أنه لا ینکر ثبوت الاجتهاد بالرأی عند جملة من الصحابة کأبی بکر و عمر و عثمان و زید بن ثابت بل ربما من غیرهم و إنما الذی ینکر أن یکون ذلک بمجرده محققا لإجماع الأمة أو الصحابة و اتفاق الثلاثة أو العشرة بل العشرین لیس إجماعا مهما کانوا .نعم أقصی ما یقال فی هذا الصدد أن الباقین سکتوا و سکوتهم إقرار فیتحقق الإجماع .و لکن یجاب عن ذلک أن السکوت لا نسلم أنه یحقق الإجماع لأنه لا یدل علی الإقرار إلا من المعصوم بشروط الإقرار و السر فی ذلک أن السکوت فی حد ذاته مجمل فیه عند غیر المعصوم أکثر من وجه واحد و احتمال إذ قد ینشأ من الخوف أو الجبن أو الخجل أو المداهنة أو عدم العنایة ببیان الحق أو الجهل بالحکم الشرعی أو وجهه أو عدم وصول نبإ الفتیاء إلیهم إلی ما شاء الله من هذه الاحتمالات التی لا دافع لها بالنسبة

ص :197


1- 1) إبطال القیاس ص 19.
2- هذه لیست من المسائل الاجماعیة بل هذه من ضروریات الدین. وقد تقدم أن الاخذ بها لیس أخذا بالاجماع.

إلی غیر المعصوم و قد یجتمع فی شخص واحد أکثر من سبب واحد للسکوت عن الحق و من الاحتمالات أیضا أن یکون قد أنکر بعض الناس و لکن لم یصل نبأ الإنکار إلینا و دواعی إخفاء الإنکار و خفائه کثیرة لا تحد و لا تحصر .و أما ثالثا فإن سکوت الباقین غیر مسلم و یکفی لإبطال الإجماع إنکار شخص واحد له شأن فی الفتیا إذ لا یتحقق معه اتفاق الجمیع فکیف إذا کان المنکرون أکثر من واحد و قد ثبت تخطئة القول بالرأی عن ابن عباس و ابن مسعود و أضرابهما بل روی ذلک حتی عن عمر بن الخطاب (1)إیاکم و أصحاب الرأی فإنهم أعداء السنن أعیتهم الأحادیث أن یحفظوها فقالوا بالرأی فضلوا و أضلوا و إن کنت أظن أن هذه الروایة موضوعة علیه لثبوت أنه فی مقدمة أصحاب أهل الرأی مع أن أسلوب بیان الروایة بعید عن النسبة إلیه و إلی عصره .و علی کل حال لا شیء أبلغ فی الإنکار من المجاهرة بالخلاف و الفتوی بالضد و هذا قد کان من جماعة کما قلنا بل زاد بعضهم کابن عباس و ابن مسعود إن انتهی إلی ذکر المباهلة و التخویف من الله تعالی و هل شیء أبلغ فی الإنکار من هذا فأین الإجماع .و نحن یکفینا إنکار علی بن أبی طالب علیه السلام و هو المعصوم الذی یدور معه الحق کیف ما دار کما فی الحدیث النبوی المعروف و إنکاره معلوم من طریقته (و قد رووا عنه قوله:لو کان الدین بالرأی لکان المسح علی باطن الخف أولی من ظاهره) و هو یرید بذلک إبطال القول بجواز المسح علی الخف الذی لا مدرک له إلا القیاس أو الاستحسان

ص :198


1- 1) إبطال القیاس ص 58 و المستصفی 2-61.
الدلیل من العقل

لم یذکر أکثر الباحثین عن القیاس دلیلا عقلیا علی حجیته (1)غیر أن جملة منهم ذکر له وجوها أحسنها فیما أحسب ما سنذکره مع أنه من أوهن الاستدلالات .الدلیل أنا نعلم قطعا بأن الحوادث لا نهایة لها .و نعلم قطعا أنه لم یرد النص فی جمیع الحوادث لتناهی النصوص و یستحیل أن یستوعب المتناهی ما لا یتناهی .إذن فیعلم أنه لا بد من مرجع لاستنباط الأحکام لتلافی النواقص من الحوادث و لیس هو إلا القیاس .و الجواب صحیح أن الحوادث الجزئیة غیر متناهیة و لکن لا یجب فی کل حادثة جزئیة أن یرد نص من الشارع بخصوصها بل یکفی أن تدخل فی أحد العمومات و الأمور العامة محدودة متناهیة لا یمتنع ضبطها و لا یمتنع استیعاب النصوص لها .علی أن فیه مناقشات أخری لا حاجة بذکرها

4 منصوص العلة و قیاس الأولویة
اشارة

ذهب بعض علمائنا کالعلامة الحلی إلی أنه یستثنی من القیاس الباطل ما کان منصوص العلة و قیاس الأولویة فإن القیاس فیهما حجة و بعض قال لا إن الدلیل الدال علی حرمة الأخذ بالقیاس شامل للقسمین و لیس

ص :199


1- قال الشیخ الطوسی فی العدة 2 / 84: (فأما من أثبته فاختلفوا فمنهم من أثبته عقلا وهم شذاذ غیر محصلین).

هناک ما یوجب استثناءهما .و الصحیح أن یقال إن منصوص العلة و قیاس الأولویة هما حجة و لکن لا استثناء من القیاس لأنهما فی الحقیقة لیسا من نوع القیاس بل هما من نوع الظواهر فحجیتهما من باب حجیة الظهور و هذا ما یحتاج إلی البیان فنقول

منصوص العلة

أما منصوص العلة فإن فهم من النص علی العلة أن العلة عامة علی وجه الاختصاص لها بالمعلل الذی هو کالأصل فی القیاس فلا شک فی أن الحکم یکون عاما شاملا للفرع مثل ما لو قال حرم الخمر لأنه مسکر فیفهم منه حرمة النبیذ لأنه مسکر أیضا و أما إذا لم یفهم منه ذلک فلا وجه لتعدیة الحکم إلی الفرع إلا بنوع من القیاس الباطل مثل ما لو قیل هذا العنب حلو لأن لونه أسود فإنه لا یفهم منه أن کل ما لونه أسود حلو بل العنب الأسود خاصة حلو .و فی الحقیقة أنه بظهور النص فی کون العلة عامة ینقلب موضوع الحکم من کونه خاصا بالمعلل إلی کون موضوعه کل ما فیه العلة فیکون الموضوع عاما یشمل المعلل الأصل و غیره و یکون المعلل من قبیل المثال للقاعدة العامة .لا أن موضوع الحکم هو خصوص المعلل الأصل و نستنبط منه الحکم فی الفرع من جهة العلة المشترکة حتی یکون المدرک مجرد الحمل و القیاس کما فی الصورة الثانیة أی التی لم یفهم فیها عموم العلة .و لأجل هذا نقول إن الأخذ بالحکم فی الفرع فی الصورة الأولی یکون من باب الأخذ بظاهر العموم و لیس هو من القیاس فی شیء لیکون

ص :200

القول بحجیة التعلیل استثناء من عمومات النهی عن القیاس .مثال ذلک(قوله علیه السلام فی صحیحة ابن بزیع:ماء البئر واسع لا یفسده شیء لأن له مادة) فإن المفهوم منه أی الظاهر منه أن کل ماء له مادة واسع لا یفسده شیء و أما ماء البئر فإنما هو أحد مصادیق الموضوع العام للقاعدة فیشمل الموضوع بعمومه کلا من ماء البئر و ماء الحمام و ماء العیون و ماء حنفیة الإسالة و غیرها فالأخذ بهذا الحکم و تطبیقه علی هذه الأمور غیر ماء البئر لیس أخذا بالقیاس بل هو أخذ بظهور العموم و الظهور حجة .هذا و فی عین الوقت لما کنا لا نستظهر من هذه الروایة شمول العلة لأن له مادة لکل ما له مادة و إن لم یکن ماء مطلقا فإن الحکم و هو الاعتصام من التنجس لا نعدیه إلی الماء المضاف الذی له مادة إلا بالقیاس و هو لیس بحجة .و من هنا یتضح الفرق بین الأخذ بالعموم فی منصوص العلة و الأخذ بالقیاس فلا بد من التفرقة بینهما فی کل علة منصوصة لئلا یقع الخلط بینهما و من أجل هذا الخلط بینهما یکثر العثار فی تعرف الموضوع للحکم .و بهذا البیان و التفریق بین الصورتین یمکن التوفیق بین المتنازعین فی حجیة منصوص العلة فمن یراه حجة یراه فیما إذا کان له ظهور فی عموم العلة و من لا یری حجیته یراه فیما إذا کان الأخذ به أخذا به علی نهج القیاس .و الخلاصة أن المدار فی منصوص العلة أن یکون له ظهور فی عموم الموضوع لغیر ما له الحکم أی المعلل الأصل فإنه عموم من جملة الظواهر التی هی حجة و لا بد حینئذ أن تکون حجیته علی مقدار ما له من الظهور فی العموم فإذا أردنا تعدیته إلی غیر ما یشمله ظهور العموم فإن التعدیة

ص :201

لا محالة تکون من نوع الحمل و القیاس الذی لا دلیل علیه بل قام الدلیل علی بطلانه

قیاس الأولویة

أما قیاس الأولویة فهو نفسه الذی یسمی مفهوم الموافقة الذی تقدمت الإشارة إلیه 1 109 و قلنا هناک إنه یسمی فحوی الخطاب کمثال الآیة الکریمة فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ الدالة بالأولویة علی النهی عن الشتم و الضرب و نحوهما .و تقدم فی هذا الجزء ص 123 أن هذا من الظواهر فهو حجة من أجل کونه ظاهرا من اللفظ لا من أجل کونه قیاسا حتی یکون استثناء من عموم النهی عن القیاس و إن أشبه القیاس و لذلک سمی بقیاس الأولویة و القیاس الجلی .و من هنا لا یفرض مفهوم الموافقة إلا حیث یکون للفظ ظهور بتعدی الحکم إلی ما هو أولی فی علة الحکم کآیة التأفیف المتقدمة و منه دلالة الإذن بسکنی الدار علی جواز التصرف بمرافقها بطریق أولی و یقال لمثل هذا فی عرف الفقهاء إذن الفحوی و منه الآیة الکریمة فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ الدالة بالأولویة علی ثبوت الجزاء علی عمل الخیر الکثیر .و بالجملة إنما تأخذ بقیاس الأولویة إذا کان یفهم ذلک من فحوی الخطاب إذ یکون للکلام ظهور بالفحوی فی ثبوت الحکم فیما هو أولی فی علة الحکم فیکون حجة من باب الظواهر و من أجل هذا عدوه من المفاهیم و سموه مفهوم الموافقة .أما إذا لم یکن ذلک مفهوما من فحوی الخطاب فلا یسمی ذلک مفهوما

ص :202

بالاصطلاح و لا تکفی مجرد الأولویة وحدها فی تعدیة الحکم إذ یکون من القیاس الباطل .و یشهد لذلک ما ورد من النهی عن مثله (فی صحیحة أبان بن تغلب عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام (1):قال أبان قلت له ما تقول فی رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة کم فیها قال عشر من الإبل قلت قطع اثنتین (2)قال عشرون قلت قطع ثلاثا قال ثلاثون قلت قطع أربعا قال عشرون قلت سبحان الله یقطع ثلاثا فیکون علیه ثلاثون و یقطع أربعا فیکون علیه عشرون إن هذا کان یبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممن قاله و نقول الذی جاء به شیطان فقال مهلا یا أبان هذا حکم رسول الله صلی اللّٰه علیه و آله إن المرأة تعاقل (3)الرجل إلی ثلث الدیة فإذا بلغت الثلث رجعت إلی النصف یا أبان إنک أخذتنی بالقیاس و السنة إذا قیست محق الدین) .فهنا فی هذا المثال لم یکن فی المسألة خطاب یفهم منه فی الفحوی من

ص :203


1- 1) الکافی 7-299 طبع طهران بالحروف سنة 1379.
2- فی النسخة المطبوعة (اثنین).
3- تعاقل: توازن. وفی النسخة المطبوعة (تقابل) - وأحسبه من تصحیح الناشر اشتباها.

جهة الأولویة تعدیة الحکم إلی غیر ما تضمنه الخطاب حتی یکون من باب مفهوم الموافقة و إنما الذی وقع من أبان قیاس مجرد لم یکن مستنده فیه إلا جهة الأولویة إذ تصور بمقتضی القاعدة العقلیة الحسابیة أن الدیة تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الأصابع فإذا کان فی قطع الثلاث ثلاثون من الإبل فلا بد أن یکون فی قطع الأربع أربعون لأن قطع الأربع قطع للثلاث و زیادة و لکن أبان کان لا یدری أن المرأة دیتها نصف دیة الرجل شرعا فیما یبلغ ثلث الدیة فما زاد و هی مائة من الإبل .و الخلاصة أنا نقول ببطلان قیاس الأولویة إذا کان الأخذ به لمجرد الأولویة أما إذا کان مفهوما من التخاطب بالفحوی من جهة الأولویة فهو حجة من باب الظواهر فلا یکون قیاسا مستثنی من القیاس الباطل

ص :204

تنبیه الاستحسان و المصالح المرسلة و سد الذرائع

بقی من الأدلة المعتبرة عند جملة من علماء السنة الاستحسان و المصالح المرسلة و سد الذرائع .و هی إن لم ترجع إلی ظواهر الأدلة السمعیة أو الملازمات العقلیة لا دلیل علی حجیتها بل هی أظهر أفراد الظن المنهی عنه و هی دون القیاس من ناحیة الاعتبار .و لو أردنا إخراجها من عمومات حرمة العمل بالظن لا یبقی عندنا ما یصلح لانطباق هذه العمومات علیه مما یستحق الذکر فیبقی النهی عن الظن بلا موضوع و من البدیهی عدم جواز تخصیص الأکثر .علی أنه قد أوضحنا فیما سبق فی الدلیل العقلی أن الأحکام و ملاکاتها لا یستقل العقل بإدراکها ابتداء أی لیس من الممکن للعقول أن تنالها ابتداء من دون السماع من مبلغ الأحکام أو بالملازمة العقلیة و شأنها فی ذلک شأن جمیع المجعولات کاللغات و الإشارات و العلامات و نحوها فإنه لا معنی للقول بأنها تعلم من طریق عقلی مجرد سواء کان من طریق بدیهی أم نظری .و لو صح للعقل هذا الأمر لما کان هناک حاجة لبعثة الرسل و نصب الأئمة إذ یکون حینئذ کل ذی عقل متمکنا بنفسه من معرفة أحکام الله تعالی و یصبح کل مجتهد نبیا أو إماما و من هنا تعرف السر فی إصرار

ص :205

أصحاب الرأی علی قولهم بأن کل مجتهد مصیب و قد اعترف الإمام الغزالی (1)بأنه لا یمکن إثبات حجیة القیاس إلا بتصویب کل مجتهد و زاد علی ذلک قوله بأن المجتهد و إن خالف النص فهو مصیب و أن الخطأ غیر ممکن فی حقه .و من أجل ما ذکرناه من عدم إمکان إثبات حجیة مثل هذه الأدلة رأینا الاکتفاء بذلک عن شرح هذه الأدلة و مرادهم منها و مناقشة أدلتهم و نحیل الطلاب علی محاضرات مدخل الفقه المقارن التی ألقاها أستاذ المادة فی کلیة الفقه الأخ السید محمد تقی الحکیم فإن فیها الکفایة

ص :206


1- 1) المستصفی 2-57.

الباب التاسع التعادل و التراجیح

اشارة

ص :207

ص :208

تمهید

عنون الأصولیون من القدیم هذه المسألة بعنوانها المذکور .و مرادهم من کلمة التعادل تکافؤ الدلیلین المتعارضین فی کل شیء یقتضی ترجیح أحدهما علی الآخر .و مرادهم من کلمة التراجیح جمع ترجیح علی خلاف القیاس فی جمع المصدر إذ جمعه ترجیحات و المقصود منه المصدر بمعنی الفاعل أی المرجح .و إنما جاءوا به علی صیغة الجمع دون التعادل لأن المرجحات بین الدلیلین المتعارضین متعددة و التعادل لا یکون إلا فی فرض واحد و هو فرض فقدان کل المرجحات .و الغرض من هذا البحث بیان أحکام التعادل بین الدلیلین المتعارضین و بیان أحکام المرجحات لأحدهما علی الآخر .و من هنا نعرف أن الأنسب أن تعنون المسألة بعنوان التعارض بین الأدلة لأن التعادل و الترجیح بین الأدلة أنما یفرض فی مورد التعارض بینهما غیر أنه لما کان هم الأصولیین فی البحث و غایتهم منه معرفة کیفیة العمل بالأدلة المتعارضة عند تعادلها و ترجیحها عنونوها بما ذکرناه .و هذه المسألة کما ذکرناه سابقا ألیق شیء بها مباحث الحجة لأن نتیجتها تحصیل الحجة علی الحکم الشرعی عند التعارض بین الأدلة .و قبل الشروع فی بیان أحکام التعارض ینبغی فی

ص :209

المقدمة
اشارة

بیان أمور یحتاج إلیها مثل حقیقة التعارض و شروطه و قیاسه بالتزاحم و الحکومة و الورود و مثل القواعد العامة فی الباب فنقول

1 حقیقة التعارض

التعارض مصدر من باب التفاعل الذی یقتضی فاعلین و لا یقع إلا من جانبین فیقال تعارض الدلیلان و لا تقول تعارض الدلیل و تسکت .و علیه فلا بد من فرض دلیلین کل منهما یعارض الآخر .و معنی المعارضة أن کلا منهما إذا تمت مقومات حجیته یبطل الآخر و یکذبه و التکاذب إما أن یکون فی جمیع مدلولاتهما و نواحی الدلالة فیهما و إما فی بعض النواحی علی وجه لا یصح فرض بقاء حجیة کل منهما مع فرض بقاء حجیة الآخر و لا یصح العمل بها معا .فمرجع التعارض فی الحقیقة إلی التکاذب بین الدلیلین فی ناحیة ما أی أن کلا منهما یکذب الآخر و لا یجتمعان علی الصدق .هذا هو المعنی الاصطلاحی للتعارض و هو مأخوذ من عارضه أی جانبه و عدل عنه .

2 شروط التعارض

و لا یتحقق هذا المعنی من التعارض إلا بشروط سبعة هی مقومات التعارض نذکرها لتتضح حقیقة التعارض و مواقعه

ص :210

1 ألا یکون أحد الدلیلین أو کل منهما قطعیا لأنه لو کان أحدهما قطعیا فإنه یعلم منه کذب الآخر و المعلوم کذبه لا یعارض غیره و أما القطع بالمتنافیین فی نفسه أمر مستحیل لا یقع .2 ألا یکون الظن الفعلی معتبرا فی حجیتهما معا لاستحالة حصول الظن الفعلی بالمتکاذبین کاستحالة القطع بهما نعم یجوز أن یعتبر فی أحدهما المعین الظن الفعلی دون الآخر .3 أن یتنافی مدلولاهما و لو عرضا و فی بعض النواحی لیحصل التکاذب بینهما سواء کان التنافی فی مدلولهما المطابقی أو التضمنی أو الالتزامی و الجامع فی ذلک أن یؤدیا إلی ما لا یمکن تشریعه و یمتنع جعله فی نفس الأمر و لو کان هذا الامتناع لأمر خارج عن نفس مدلولهما کما فی تعارض دلیل وجوب صلاة الجمعة مع دلیل وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة فإن الدلیلین فی نفسهما لا تکاذب بینهما إذ لا یمتنع اجتماع وجوب صلاتین فی وقت واحد و لکن لما علم من دلیل خارج أنه لا تجب إلا صلاة واحدة فی الوقت الواحد فإنهما یتکاذبان حینئذ بضمیمة هذا الدلیل الثالث الخارج عنهما و علی هذا یمکن تحدید الضابط للتعارض بأن یقال الضابط فی التعارض امتناع اجتماع مدلولیهما فی الوعاء المناسب لهما إما من ناحیة تکوینیة أو من ناحیة تشریعیة .أو یقال بعبارة جامعة الضابط فی التعارض تکاذب الدلیلین علی وجه یمتنع اجتماع صدق أحدهما مع صدق الآخر .و من هنا یعلم أن التعارض لیس وصفا للمدلولین کما قیل بل

ص :211

المدلولان یوصفان بأنهما متنافیان لا متعارضان و إنما التعارض وصف للدلیلین بما هما دلیلان علی أمرین متنافیین لا یجتمعان لأن امتناع صدق الدلیلین معا و تکاذبهما إنما ینشأ من تنافی المدلولین .و لأجل هذا(قال صاحب الکفایة التعارض هو تنافی الدلیلین أو الأدلة بحسب الدلالة و مقام الإثبات) فحصر التعارض فی مقام الإثبات و مرحلة الدلالة .4 أن یکون کل من الدلیلین واجدا لشرائط الحجیة بمعنی أن کلا منهما لو خلی و نفسه و لم یحصل ما یعارضه لکان حجة یجب العمل بموجبه و إن کان أحدهما لا علی التعیین بمجرد التعارض یسقط عن الحجیة بالفعل .و السر فی ذلک واضح فإنه لو کان أحدهما غیر واجد لشرائط الحجیة فی نفسه لا یصلح أن یکون مکذبا لما هو حجة و إن کان منافیا له فی مدلوله فلا یکون معارضا له لما قلنا من أن التعارض وصف للدالین بما هما دالان فی مقام الإثبات و إذ لا إثبات فیما هو غیر حجة فلا یکذب ما فیه الإثبات .إذن لا تعارض بین الحجة و اللاحجة کما لا تعارض بین اللاحجتین .و من هنا یتضح أنه لو کان هناک خبر مثلا غیر واجد لشرائط الحجة و اشتبه بما هو واجد لها فإن الخبرین لا یدخلان فی باب التعارض فلا تجری علیهما أحکامه و قواعده و إن کان من جهة العلم بکذب أحدهما حالهما حال المتعارضین نعم فی مثل هذین الخبرین تجری قواعد العلم الإجمالی .5 ألا یکون الدلیلان متزاحمین فإن للتعارض قواعد غیر قواعد التزاحم علی ما یأتی و إن کان المتعارضان یشترکان مع المتزاحمین فی جهة

ص :212

واحدة و هی امتناع اجتماع الحکمین فی التحقیق فی موردهما و لکن الفرق فی جهة الامتناع فإنه فی التعارض من جهة التشریع فیتکاذب الدلیلان و فی التزاحم من جهة الامتثال فلا یتکاذبان و لا بد من إفراد بحث مستقل فی بیان الفرق کما سیأتی .6 ألا یکون أحد الدلیلین حاکما علی الآخر .7 ألا یکون أحدهما واردا علی الآخر .و سیأتی أن الحکومة و الورود یرفعان التعارض و التکاذب بین الدلیلین و لا بد من إفراد بحث عنهما أیضا فإنه أمر أساسی فی تحقیق التعارض و فهمه .

3 الفرق بین التعارض و التزاحم

تقدم فی 2-321 بیان الحق الذی ینبغی أن یعول علیه فی سر التفرقة بین بابی التعارض و التزاحم ثم بینهما و بین باب اجتماع الأمر و النهی .و خلاصته أن التعارض فی خصوص مورد العامین من وجه إنما یحصل حیث تکون لکل منهما دلالة التزامیة علی نفی حکم الآخر فی مورد الاجتماع بینهما فیتکاذبان من هذه الجهة و أما إذا لم یکن للعامین من وجه مثل هذه الدلالة الالتزامیة فلا تعارض بینهما إذ لا تکاذب بینهما فی مقام الجعل و التشریع .و حینئذ أی حینما یفقدان تلک الدلالة الالتزامیة لو امتنع علی المکلف أن یجمع بینهما فی الامتثال لأی سبب من الأسباب فإن الأمر فی مقام الامتثال یدور بینهما بأن یمتثل إما هذا أو ذاک و هنا یقع التزاحم بین الحکمین و طبعا إنما یفرض ذلک فیما إذا کان الحکمان إلزامیین .

ص :213

و من أجل هذا قلنا فی الشرط الخامس من شروط التعارض أن امتناع اجتماع الحکمین فی التحقق إذا کان فی مقام التشریع دخل الدلیلان فی باب التعارض لأنهما حینئذ یتکاذبان أما إذا کان الامتناع فی مقام الامتثال دخلا فی باب التزاحم إذ لا تکاذب حینئذ بین الدلیلین .و هذا هو الفرق الحقیقی بین باب التعارض و باب التزاحم فی أی مورد یفرض .و ینبغی ألا یغیب عن بال الطالب أنه حینما ذکرنا العامین من وجه فقط فی مقام التفرقة بین البابین کما تقدم فی الجزء الثانی لم نذکره لأجل اختصاص البابین بالعامین من وجه بل لأن العامین من وجه موضع شبهه عدم التفرقة بین البابین ثم بینهما و بین باب اجتماع الأمر و النهی و قد سبق تفصیل ذلک هناک فراجع .و علیه فالضابط فی التفرقة بین البابین کما أشرنا إلیه أکثر من مرة هو أن الدلیلین یکونان متعارضین إذا تکاذبا فی مقام التشریع و یکونان متزاحمین إذا امتنع الجمع بینهما فی مقام الامتثال مع عدم التکاذب فی مقام التشریع .و فی تعارض الأدلة قواعد للترجیح ستأتی و قد عقد هذا الباب لأجلها و ینحصر الترجیح فیها بقوة السند أو الدلالة .و أما التزاحم فله قواعد أخری تتصل بالحکم نفسه و لا ترتبط بالسند أو الدلالة و لا ینبغی أن یخلو کتابنا من الإشارة إلیها و هذه خیر مناسبة لذکرها فنقول

4 تعادل و تراجیح المتزاحمین

لا شک فی أنه إذا تعادل المتزاحمان فی جمیع جهات الترجیح الآتیة فإن الحکم فیهما هو التخییر و هذا أمر محل اتفاق و إن وقع الخلاف

ص :214

فی تعادل المتعارضین أنه یقتضی التساقط أو التخییر علی ما سیأتی .و فی الحقیقة أن هذا التخییر أنما یحکم به العقل و المراد به العقل العملی بیان ذلک أنه بعد فرض عدم إمکان الجمع فی الامتثال بین الحکمین المتزاحمین و عدم جواز ترکهما معا و لا مرجح لأحدهما علی الآخر حسب الفرض و یستحیل الترجیح بلا مرجح فلا مناص من أن یترک الأمر إلی اختیار المکلف نفسه إذ یستحیل بقاء التکلیف الفعلی فی کل منهما و لا موجب لسقوط التکلیف فیهما معا و هذا الحکم العقلی مما تطابقت علیه آراء العقلاء .و من هذا الحکم العقلی یستکشف حکم الشرع علی طبق هذا الحکم العقلی کسائر الأحکام العقلیة القطعیة لأن هذا من باب المستقلات العقلیة التی تبتنی علی الملازمات العقلیة المحضة .مثاله إذا دار الأمر بین إنقاذ غریقین متساویین من جمیع الجهات لا ترجیح لأحدهما علی الآخر شرعا من جهة وجوب الإنقاذ فإنه لا مناص للمکلف من أن یفعل أحدهما و یترک الآخر فهو علی التخییر عقلا بینهما المستکشف منه رضی الشارع بذلک و موافقته علی التخییر .إذا عرفت ذلک فیکون من المهم جدا أن نعرف ما هی المرجحات فی باب التزاحم و من الواضح أنه لا بد أن تنتهی کلها إلی أهمیة أحد الحکمین عند الشارع فالأهم عنده هو الأرجح فی التقدیم و لما کانت الأهمیة تختلف جهتها و منشؤها فلا بد من بیان تلک الجهات و هی تستکشف بأمور نذکرها علی الاختصار 1 أن یکون أحد الواجبین لا بدل له مع کون الواجب الآخر المزاحم

ص :215

له ذا بدل سواء کان البدل اختیاریا کخصال الکفارة أو اضطراریا کالتیمم بالنسبة إلی الوضوء و کالجلوس بالنسبة إلی القیام فی الصلاة .و لا شک فی أن ما لا بدل له أهم مما له البدل قطعا عند المزاحمة و إن کان البدل اضطراریا لأن الشارع قد رخص فی ترک ذی البدل إلی بدله الاضطراری عند الضرورة و لم یرخص فی ترک ما لا بدل له و لا شک فی أن تقدیم ما لا بدل له جمع بین التکلیفین فی الامتثال دون صورة تقدیم ذی البدل فإن فیه تفویتا للأول بلا تدارک .2 أن یکون أحد الواجبین مضیقا أو فوریا مع کون الواجب الآخر المزاحم له موسعا فإن المضیق أو الفوری أهم من الموسع قطعا کدوران الأمر بین إزالة النجاسة عن المسجد و إقامة الصلاة فی سعة وقتها و هذا الثانی ینسق علی الأول لأن الموسع له بدل طولی اختیاری دون المضیق و الفوری فتقدیم المضیق أو الفوری جمع بین التکلیفین فی الامتثال دون تقدیم الموسع فإن فیه تفویتا للتکلیف بالمضیق أو الفوری بلا تدارک .و مثله ما لو دار الأمر بین المضیق و الفوری کدوران الأمر بین الصلاة فی آخر وقتها و إزالة النجاسة عن المسجد فإن الصلاة مقدمة إذ لا تدارک لها .3 أن یکون أحد الواجبین صاحب الوقت المختص دون الآخر و کان کل منهما مضیقا کما لو دار الأمر بین أداء الصلاة الیومیة فی آخر وقتها و بین صلاة الآیات فی ضیق وقتها لأن الوقت لما کان مختصا بالیومیة فهی أولی به عند مزاحمتها بما لا اختصاص له فی أصل تشریعه بالوقت المعین و إنما اتفق حصول سببه فی ذلک الوقت و تضیق وقت أدائه و مسألة تقدیم الیومیة علی صلاة الآیات إذا تضیق وقتهما معا أمر إجماعی متفق علیه و لا

ص :216

منشأ له إلا أهمیة ذات الوقت المختص المفهومة من بعض الروایات .4 أن یکون أحد الواجبین وجوبه مشروطا بالقدرة الشرعیة دون الآخر و المراد من القدرة الشرعیة هی القدرة المأخوذة فی لسان الدلیل شرطا للوجوب کالحج المشروط وجوبه بالاستطاعة و نحوه .و مع فرض المزاحمة بینه و بین واجب آخر وجوبه غیر مشروط بالقدرة لا یحصل العلم بتحقق ما هو شرط فی الوجوب لاحتمال أن مزاحمته للواجب الآخر تکون سالبة للقدرة المعتبرة فی الوجوب و مع عدم الیقین بحصول شروط الوجوب لا یحصل الیقین بأصل التکلیف فلا یزاحم ما کان وجوبه منجزا معلوما .و لو قال قائل إن کل واجب مشروط وجوبه بالقدرة عقلا إذن فالواجب الآخر أیضا مشروط بالقدرة فأی فرق بینهما فالجواب نحن نسلم باشتراط کل واجب بالقدرة عقلا لکنه لما لم تؤخذ القدرة فی الواجب الآخر فی لسان الدلیل فهو من ناحیة الدلالة اللفظیة مطلق و إنما العقل هو الذی یحکم بلزوم القدرة و یکفی فی حصول شرط القدرة العقلیة نفس تمکن المکلف من فعله و لو مع فرض المزاحمة إذ لا شک فی أن المکلف فی فرض المزاحمة قادر و متمکن من فعل هذا الواجب المفروض و ذلک بترک الواجب المزاحم له المشروط بالقدرة الشرعیة .و الخلاصة أن الواجب الآخر وجوبه منجز فعلی لحصول شرطه و هو القدرة العقلیة بخلاف مزاحمة المشروط لما ذکرنا من احتمال أن ما أخذ فی الدلیل قدرة خاصة لا تشمل هذه القدرة الحاصلة عند المزاحمة فلا یحرز تنجزه و لا تعلم فعلیته .و علیه فیرتفع التزاحم بین الوجوبین من رأس و یخلو الجو للواجب

ص :217

المطلق و إن کان مشروطا بالقدرة العقلیة .5 أن یکون أحد الواجبین مقدما بحسب زمان امتثاله علی الآخر کما لو دار الأمر بین القیام للرکعة المتقدمة و بین القیام لرکعة بعدها فی فرض کون المکلف عاجزا عن القیام للرکعتین معا متمکنا من إحداهما فقط .فإنه فی هذا الفرض یکون المتقدم مستقر الوجوب فی محله لحصول القدرة الفعلیة بالنسبة إلیه فإذا فعله انتفت القدرة الفعلیة بالنسبة إلی المتأخر فلا یبقی له مجال .و لا فرق فی هذا الفرض بین ما إذا کانا معا مشروطین بالقدرة الشرعیة أو مطلقین معا أما لو اختلفا فإن المطلق مقدم علی المشروط بالقدرة الشرعیة و إن کان زمان فعله متأخرا .6 أن یکون أحد الواجبین أولی عند الشارع فی التقدیم من غیر تلک الجهات المتقدمة .و الأولویة تعرف إما من الأدلة و إما من مناسبة الحکم للموضوع و إما من معرفة ملاکات الأحکام بتوسط الأدلة السمعیة و من أجل ذلک فإن الأولویة تختلف باختلاف ما یستفاد من هذه الأمور و لا ضابط عام یمکن الرجوع إلیه عند الشک فمن تلک الأولویة ما إذا کان فی الحکم الحفاظ علی بیضة الإسلام فإنه أولی بالتقدیم من کل شیء فی مقام المزاحمة .و منها ما کان یتعلق بحقوق الناس فإنه أولی من غیره من التکالیف الشرعیة المحضة أی التی لا علاقة لها بحقوق غیر المکلف بها .و منها ما کان من قبیل الدماء و الفروج فإنه یحافظ علیه أکثر من غیره لما هو المعروف عند الشارع المقدس من الأمر بالاحتیاط الشدید فی أمرها فلو دار الأمر بین حفظ نفس المؤمن و حفظ ماله فإن حفظ نفسه

ص :218

مقدم علی حفظ ماله قطعا .و منها ما کان رکنا فی العبادة فإنه مقدم علی ما لیس له هذه الصفة عند المزاحمة کما لو وقع التزاحم فی الصلاة بین أداء القراءة و الرکوع فإن الرکوع مقدم علی القراءة و إن کان زمان امتثاله متأخرا عن القراءة .و علی مثل هذه فقس و أمثالها کثیر لا یحصی کما لو دار الأمر بین الصلح بین المؤمنین بالکذب و بین الصدق و فیه الفتنة بینهم فإن الصلح مقدم علی الصدق و هذا معروف من ضرورة الشرع الإسلامی .و مما ینبغی أن یعلم فی هذا الصدد أنه لو احتمل أهمیة أحد المتزاحمین فإن الاحتیاط یقتضی تقدیم محتمل الوهمیة و هذا الحکم العقلی بالاحتیاط یجری فی کل مورد یدور فیه الأمر بین التعیین و التخییر فی الواجبات .و علیه فلا یجب إحراز أهمیة أحد المتزاحمین بل یکفی الاحتمال و هذا أصل ینفع کثیرا فی الفروع الفقهیة فاحتفظ به .

5 الحکومة و الورود
اشارة

و هذا البحث من مبتکرات الشیخ الأنصاری رحمه الله و قد فتح به بابا جدیدا فی الأسلوب الاستدلالی و لئن نشأ هذا الاصطلاح فی عصره من قبل غیره کما یبدو من التعبیر بالحکومة و الورود فی جواهر الکلام فإنه لم یکن بهذا التحدید و السعة اللذین انتهی إلیهما الشیخ .و کان رحمه الله علی ما ینقل عنه یصرح بأن أساطین الفقه المتقدمین لم یغفلوا عن مغزی ما کان یرمی إلیه و إن لم یبحثوه بصریح القول و لا بهذا المصطلح .و اللفتة الکریمة منه کانت فی ملاحظته لنوع من الأدلة إذ وجد أن

ص :219

من حقها أن تقدم علی أدلة أخری فی حین أنها لیست بالنسبة إلیها من قبیل الخاص و العام بل قد یکون بینهما العموم من وجه و لا یوجب هذا التقدیم سقوط الأدلة الأخری عن الحجیة و لا تجری بینهما قواعد التعارض لأنه لم یکن بینهما تکاذب بحسب لسانهما من ناحیة أدائیة و لا منافاة یعنی أن لسان أحدهما لا یکذب الآخر و لا یبطله بل أحدهما المعین من حقه بحسب لسانه و أدائه لمعناه و عنوانه أن یکون مقدما علی الآخر تقدیما لا یستلزم بطلان الآخر و لا تکذیبه و لا صرفه عن ظهوره .و هذا هو العجیب فی الأمر و الجدید علی الباحثین و ذلک مثل تقدیم أدلة الأمارة علی أدلة الأصول العملیة بلا إسقاط لحجیة الثانیة و لا صرف لظهورها .و المعروف أن أحد اللامعین من تلامذته (1)التقی به فی درس الشیخ صاحب الجواهر قبل أن یتعرف علیه و قبل أن یعرف الشیخ بین الناس و سأله سؤال امتهان و اختبار عن سر تقدیم دلیل علی آخر جاء ذکرهما فی الدرس المذکور فقال له إنه حاکم علیه قال و ما الحکومة فقال له یحتاج إلی أن تحضر درسی ستة أشهر علی الأقل لتفهم معنی الحکومة .و من هنا ابتدأت علاقة التلمیذ بأستاذه .إن موضوعا یحتاج إلی درس ستة أشهر و إن کان فیه نوع من المبالغة کم یحتاج إلی البسط فی البیان فی التألیف بینما أن الشیخ فی کتبه لم یوفه حقه من البیان إلا بعض الشیء فی التعادل و التراجیح و بعض اللقطات المتفرقة فی غضون کتبه و لذا بقی الموضوع متأرجحا فی

ص :220


1- قیل هو مرزا حبیب الله الرشتی.

کتب الأصولیین من بعده و إن کان مقصودهم و مقصوده أصبح واضحا عند أهل العلم فی العصور المتأخرة .و لا یسع هذا المختصر شرح هذا الأمر شرحا کافیا و إنما نکتفی بالإشارة إلی خلاصة ما توصلنا إلیه من فهم معنی الحکومة و فهم معنی أخیها الورود قدر الإمکان فنقول

1 الحکومة

إن الذی نفهمه من مقصودهم فی الحکومة هو(أن یقدم أحد الدلیلین علی الآخر تقدیم سیطرة و قهر من ناحیة أدائیة) و لذا سمیت بالحکومة .فیکون تقدیم الدلیل الحاکم علی المحکوم لیس من ناحیة السند و لا من ناحیة الحجیة بل هما علی ما هما علیه من الحجیة بعد التقدیم أی إنهما بحسب لسانهما و أدائهما لا یتکاذبان فی مدلولهما فلا یتعارضان و إنما التقدیم کما قلنا من ناحیة أدائیة بحسب لسانهما و لکن لا من جهة التخصیص و لا من جهة الورود الآتی معناه .فأی تقدیم للدلیل علی الآخر بهذه القیود فهو یسمی حکومة .و هذا فی الحقیقة هو الضابط لها فلذلک وجب توضیح الفرق بینها و بین التخصیص من جهة ثم بینها و بین الورود من جهة أخری لیتضح معناها بعض الوضوح .أما الفرق بینها و بین التخصیص فنقول إن التخصیص لیکون تخصیصا لا بد أن یفرض فیه الدلیل الخاص منافیا فی مدلوله للعام و لأجل هذا یکونان متعارضین متکاذبین بحسب لسانهما بالنسبة إلی موضوع الخاص غیر أنه لما کان الخاص أظهر من العام فیجب أن یقدم علیه لبناء العقلاء علی العمل بالخاص فیستکشف منه أن المتکلم الحکیم لم یرد العموم من العام

ص :221

و إن کان ظاهر اللفظ العموم و الشمول لحکم العقل بقبح ذلک من الحکیم مع فرض العمل بالخاص عند أهل المحاورة من العقلاء .و علیه فالتخصیص عبارة عن الحکم بسلب حکم العام عن الخاص و إخراج الخاص عن عموم العام مع فرض بقاء عموم لفظ العام شاملا للخاص بحسب لسانه و ظهوره الذاتی .أما الحکومة فی بعض مواردها هی کالتخصیص بالنتیجة من جهة خروج مدلول أحد الدلیلین عن عموم مدلول الآخر و لکن الفرق فی کیفیة الإخراج فإنه فی التخصیص إخراج حقیقی مع بقاء الظهور الذاتی للعموم فی شموله و فی الحکومة إخراج تنزیلی علی وجه لا یبقی ظهور ذاتی للعموم فی الشمول بمعنی أن الدلیل الحاکم یکون لسانه تحدید موضوع الدلیل المحکوم أو محموله تنزیلا و ادعاء فلذلک یکون الحاکم متصرفا فی عقد الوضع أو عقد الحمل فی الدلیل المحکوم .و نستعین علی بیان الفرق بالمثال فنقول لو قال الأمر عقیب أمره بإکرام العلماء لا تکرم الفاسق فإن القول الثانی یکون مخصصا للأول لأنه لیس مفاده إلا عدم وجوب إکرام الفاسق مع بقاء صفة العالم له أما لو قال عقیب أمره الفاسق لیس بعالم فإنه یکون حاکما علی الأول لأن مفاده إخراج الفاسق عن صفة العالم تنزیلا بتنزیل الفسق منزلة الجهل أو علم الفاسق بمنزلة عدم العلم و هذا تصرف فی عقد الوضع فلا یبقی عموم لفظ العلماء شاملا للفاسق بحسب هذا الادعاء و التنزیل و بالطبع لا یعطی له حینئذ حکم العلماء من وجوب الإکرام و نحوه .و مثاله فی الشرعیات(قوله علیه السلام:لا شک لکثیر الشک)و نحوه مثل نفی شک المأموم مع حفظ الإمام و بالعکس فإن هذا و نحوه یکون

ص :222

حاکما علی أدلة حکم الشک لأن لسانه إخراج شک کثیر الشک و شک المأموم أو الإمام عن حضیرة صفة الشک تنزیلا فمن حقه حینئذ ألا یعطی له أحکام الشک من نحو إبطال الصلاة أو البناء علی الأکثر أو الأقل أو غیر ذلک .و إنما قلنا الحکومة فی بعض مواردها کالتخصیص فلأن بعض موارد الحکومة الأخری عکس التخصیص لأن الحکومة علی قسمین قسم یکون التصرف فیها بتضییق الموضوع کالأمثلة المتقدمة و قسم بتوسعته مثل ما لو قال عقیب الأمر بإکرام العلماء المتقی عالم فإن هذا یکون حاکما علی الأول و لیس فیه إخراج بل هو تصرف فی الموضوع بتوسعة معنی العالم ادعاء إلی ما یشمل المتقی تنزیلا للتقوی منزلة العلم فیعطی للمتقی حکم العلماء من وجوب الإکرام و نحوه .و مثاله فی الشرعیات الطواف صلاة فإن هذا التنزیل یعطی للطواف الأحکام المناسبة التی تخص الصلاة من نحو أحکام الشکوک .و مثله لحمة الرضاع کلحمة النسب الموسع لموضوع أحکام النسب .

2 الورود

و أما الفرق بین الحکومة و بین الورود فنقول کما قلنا إن الحکومة کالتخصیص فی النتیجة کذلک الورود کالتخصص فی النتیجة لأن کلا من الورود و التخصص خروج الشیء بالدلیل عن موضوع دلیل آخر خروجا حقیقیا و لکن الفرق أن الخروج فی التخصص خروج بالتکوین بلا عنایة التعبد من الشارع کخروج الجاهل عن موضوع دلیل أکرم العلماء فیقال إن الجاهل خارج عن عموم العلماء تخصصا و أما فی الورود فإن الخروج من الموضوع بنفس التعبد من الشارع بلا خروج

ص :223

تکوینی فیکون الدلیل الدال علی التعبد واردا علی الدلیل المثبت لحکم موضوعه .مثاله دلیل الأمارة الوارد علی أدلة الأصول العقلیة کالبراءة و قاعدة الاحتیاط و قاعدة التخییر فإن البراءة العقلیة لما کان موضوعها عدم البیان الذی یحکم فیه العقل بقبح العقاب معه فالدلیل الدال علی حجیة الأمارة یعتبر الأمارة بیانا تعبدا و بهذا التعبد یرتفع موضوع البراءة العقلیة و هو عدم البیان و هکذا الحال فی قاعدتی الاحتیاط و التخییر فإن موضوع الأولی عدم المؤمن من العقاب و الأمارة بمقتضی دلیل حجیتها مؤمنة منه و موضوع الثانیة الحیرة فی الدوران بین المحذورین و الأمارة بمقتضی دلیل حجیتها مرجحة لأحد الطرفین فترتفع الحیرة .و بهذا البیان لمعنی الورود یتضح الفرق بینه و بین الحکومة فإن ورود أحد الدلیلین باعتبار کون أحدهما رافعا لموضوع الآخر حقیقة و لکن بعنایة التعبد فیکون الأول واردا علی الثانی أما الحکومة فإنها لا توجب خروج مدلول الحاکم عن موضوع مدلول المحکوم وجدانا و علی وجه الحقیقة بل الخروج فیها إنما یکون حکمیا و تنزیلیا و بعنایة ثبوت المتعبد به اعتبارا

ص :224

6 القاعدة فی المتعارضین التساقط أو التخییر

أشرنا فیما تقدم ص 214 إلی أن القاعدة فی التعادل بین المتزاحمین هو التخییر بحکم العقل و ذلک محل وفاق أما فی تعادل المتعارضین فقد وقع الخلاف فی أن القاعدة هی التساقط أو التخییر .و الحق أن القاعدة الأولیة هی التساقط و علیه أساتذتنا المحققون و إن دل الدلیل من الأخبار علی التخییر کما سیأتی و نحن نتکلم فی القاعدة بناء علی المختار من أن الأمارات مجعولة علی نحو الطریقیة و لا حاجة للبحث عنها بناء علی السببیة فنقول إن الدلیل الذی یوهم لزوم التخییر هو أن التعارض لا یقع بین الدلیلین إلا إذا کان کل منهما واجدا لشرائط الحجیة کما تقدم فی شروط التعارض ص 216 و التعارض أکثر ما یوجب سقوط أحدهما غیر المعین عن الحجیة الفعلیة لمکان التکاذب بینهما فیبقی الثانی غیر المعین علی ما هو علیه من الحجیة الفعلیة واقعا و لما لم یمکن تعیینه و المفروض أن الحجة الفعلیة منجزة للتکلیف یجب العمل بها فلا بد من التخییر بینهما .و الجواب أن التخییر المقصود إما أن یراد به التخییر من جهة الحجیة أو من جهة الواقع فإن کان الأول فلا معنی لوجوب التخییر بین المتعارضین لأن دلیل الحجیة الشامل لکل منهما فی حد أنفسهما إنما مفاده حجیة أفراده علی نحو التعیین لا حجیة هذا أو ذاک من أفراده لا علی التعیین حتی یصح أن یفرض أن أحدهما غیر المعین حجة یجب الأخذ به فعلا فیجب التخییر فی تطبیق دلیل الحجیة علی ما یشاء منهما .

ص :225

و بعبارة أخری أن دلیل الحجیة الشامل لکل منهما فی حد نفسه إنما یدل علی وجود المقتضی للحجیة فی کل منهما لو لا المانع لا فعلیة الحجیة .و لما کان التعارض یقتضی تکاذبهما فلا محالة یسقط أحدهما غیر المعین عن الفعلیة أی یکون کل منهما مانعا عن فعلیة حجیة الآخر و إذا کان الأمر کذلک فکل منهما لم تتم فیه مقومات الحجیة الفعلیة لیکون منجزا للواقع یجب العمل به فلا یکون أحدهما غیر المعین یجب الأخذ به فعلا حتی یجب التخییر بل حینئذ یتساقطان أی إن کلا منهما یکون ساقطا عن الحجیة الفعلیة و خارجا عن دلیل الحجیة .و إن کان الثانی فنقول أولا لا یصح أن یفرض التخییر من جهة الواقع إلا إذا علم بإصابة أحدهما للواقع و لکن لیس ذلک أمرا لازما فی الحجتین المتعارضتین إذ یجوز فیهما أن یکونا معا کاذبتین و إنما اللازم فیهما من جهة التعارض هو العلم بکذب أحدهما لا العلم بمطابقة أحدهما للواقع و علی هذا فلیس الواقع محرزا فی أحدهما حتی یجب التخییر بینهما من أجله .و ثانیا علی تقدیر حصول العلم بإصابة أحدهما غیر المعین للواقع فإنه أیضا لا وجه للتخییر بینهما إذ لا وجه للتخییر بین الواقع و غیره و هذا واضح .و غایة ما یقال أنه إذا حصل العلم بمطابقة أحدهما للواقع فإن الحکم الواقعی یتنجز بالعلم الإجمالی و حینئذ یجب إجراء قواعد العلم الإجمالی فیه و لکن لا یرتبط حینئذ بمسألتنا و هی مسألة أن القاعدة فی المتعارضین هو التساقط أو التخییر لأن قواعد العلم الإجمالی تجری حینئذ حتی مع العلم بعدم حجیة الدلیلین معا و قد یقتضی العلم الإجمالی فی بعض الموارد التخییر و قد

ص :226

یقتضی الاحتیاط فی البعض الآخر علی اختلاف الموارد .إذا عرفت ذلک فیتحصل أن القاعدة الأولیة بین المتعارضین هو التساقط مع عدم حصول مزیة فی أحدهما تقتضی الترجیح .أما لو کان الدلیلان المتعارضان یقتضیان معا نفی حکم ثالث فهل مقتضی تساقطهما عدم حجیتهما فی نفی الثالث .الحق أنه لا یقتضی ذلک لأن المعارضة بینهما أقصی ما تقتضی سقوط حجیتهما فی دلالتهما فیما هما متعارضان فیه فیبقیان فی دلالتهما الأخری علی ما هما علیه من الحجیة إذ لا مانع من شمول أدلة الحجیة لهما معا فی ذلک و قد سبق أن قلنا إن الدلالة الالتزامیة تابعة للدلالة المطابقیة فی أصل الوجود لا فی الحجیة فلا مانع من أن یکون الدلیل حجة فی دلالته الالتزامیة مع وجود المانع عن حجیته فی الدلالة المطابقیة هذا فیما إذا کانت إحدی الدلالتین تابعة للأخری فی الوجود فکیف الحال فی الدلالتین اللتین لا تبعیة بینهما فی الوجود فإن الحکم فیه بعدم سقوط حجیة إحداهما بسقوط الأخری أولی

7 الجمع بین المتعارضین أولی من الطرح

اشتهر بینهم أن الجمع بین المتعارضین مهما أمکن أولی من الطرح و قد نقل عن غوالی اللئالی دعوی الإجماع علی هذه القاعدة .و ظاهر أن المراد من الجمع الذی هو أولی من الطرح هو الجمع فی الدلالة فإنه إذا کان الجمع بینهما فی الدلالة ممکنا تلاءما فیرتفع التعارض بینهما فلا یتکاذبان .

ص :227

و تشمل القاعدة بحسب ذلک صورة تعادل المتعارضین فی السند و صورة ما إذا کانت لأحدهما مزیة تقتضی ترجیحه فی السند لأنه فی الصورة الثانیة بتقدیم ذی المزیة یلزم طرح الآخر مع فرض إمکان الجمع .و علیه فمقتضی القاعدة مع إمکان الجمع عدم جواز طرحهما معا علی القول بالتساقط و عدم طرح أحدهما غیر المعین علی القول بالتخییر و عدم طرح أحدهما المعین غیر ذی المزیة مع الترجیح .و من أجل هذا تکون لهذه القاعدة أهمیة کبیرة فی العمل بالمتعارضین فیجب البحث عنها من ناحیة مدرکها و من ناحیة عمومها لکل جمع حتی الجمع التبرعی .1 أما من الناحیة الأولی فمن الظاهر أنه لا مدرک لها إلا حکم العقل بأولویة الجمع لأن التعارض لا یقع إلا مع فرض تمامیة مقومات الحجیة فی کل منهما من ناحیة السند و الدلالة کما تقدم فی الشرط الرابع من شروط التعارض ص 212 مع فرض وجود مقومات الحجیة أی وجود المقتضی للحجیة فإنه لا وجه لرفع الید عن ذلک إلا مع وجود مانع من تأثیر المقتضی و ما المانع فی فرض التعارض إلا تکاذبهما و مع فرض إمکان الجمع فی الدلالة بینهما لا یحرز تکاذبهما فلا یحرز المانع عن تأثیر مقتضی الحجیة فیهما فکیف یصح أن نحکم بتساقطهما أو سقوط أحدهما .2 و أما من الناحیة الثانیة فإنا نقول إن المراد من الجمع التبرعی ما یرجع إلی التأویل الکیفی الذی لا یساعد علیه عرف أهل المحاورة و لا شاهد علیه من دلیل ثالث .و قد یظن الظان أن إمکان الجمع التبرعی یحقق هذه القاعدة و هی أولویة الجمع من الطرح بمقتضی التقریر المتقدم فی مدرکها إذ لا یحرز

ص :228

المانع و هو تکاذب المتعارضین حینئذ فیکون الجمع أولی .و لکن یجاب عن ذلک أنه لو کان مضمون هذه القاعدة المجمع علیها ما یشمل الجمع التبرعی فلا یبقی هناک دلیلان متعارضان و للزم طرح کل ما ورد فی باب التعارض من الأخبار العلاجیة إلا فیما هو نادر ندرة لا یصح حمل الأخبار علیها و هو صورة کون کل من المتعارضین نصا فی دلالته لا یمکن تأویله بوجه من الوجوه بل ربما یقال لا وجود لهذه الصورة فی المتعارضین .و ببیان آخر برهانی نقول إن المتعارضین لا یخلوان عن حالات أربع إما أن یکونا مقطوعی الدلالة مظنونی السند أو بالعکس أی یکونان مظنونی الدلالة مقطوعی السند أو یکون أحدهما مقطوع الدلالة مظنون السند و الآخر بالعکس أو یکونان مظنونی الدلالة و السند معا أما فرض أحدهما أو کل منهما مقطوع الدلالة و السند معا فإن ذلک یخرجهما عن کونهما متعارضین بل الفرض الثانی مستحیل کما تقدم ص 211 و علیه فللمتعارضین أربع حالات ممکنة لا غیرها فإن کانت الأولی فلا مجال فیها للجمع فی الدلالة مطلقا للقطع بدلالة کل منهما فهو خارج عن مورد القاعدة رأسا کما أشرنا إلیه بل هما فی هذه الحالة إما أن یرجع فیهما إلی الترجیحات السندیة أو یتساقطان حیث لا مرجح أو یتخیر بینهما .و إن کانت الثانیة فإنه مع القطع بسندهما کالمتواترین أو الآیتین القرآنیتین لا یعقل طرحهما أو طرح أحدهما من ناحیة السند فلم یبق إلا التصرف فیهما من ناحیة الدلالة و لا یعقل جریان أصالة الظهور فیهما معا لتکاذبهما فی الظهور و حینئذ فإن کان هناک جمع عرفی بینهما بأن یکون

ص :229

أحدهما المعین قرینة علی الآخر أو کل منهما قرینة علی التصرف فی الآخر علی نحو ما یأتی من بیان وجوه الجمع الدلالتی فإن هذا الجمع فی الحقیقة یکون هو الظاهر منهما فیدخلان بحسبه فی باب الظواهر و یتعین الأخذ بهذا الظهور و إن لم یکن هنا جمع عرفی فإن الجمع التبرعی لا یجعل لهما ظهورا فیه لیدخل فی باب الظواهر و یکون موضعا لبناء العقلاء و لا دلیل فی المقام غیر بناء العقلاء علی الأخذ بالظواهر فما الذی یصحح الأخذ بهذا التأویل التبرعی و یکون دلیلا علی حجیته و غایة ما یقتضی تعارضهما عدم إرادة ظهور کل منهما و لا یقتضی أن یکون المراد غیر ظاهرهما من الجمع التبرعی فإن هذا یحتاج إلی دلیل یعینه و یدل علی حجیتهما فیه و لا دلیل حسب الفرض .و إن کانت الثالثة فإنه یدور الأمر فیها بین التصرف فی سند مظنون السند و بین التصرف فی ظهور مظنون الدلالة أو طرحهما معا فإن کان مقطوع الدلالة صالحا للتصرف بحسب عرف أهل المحاورة فی ظهور الآخر تعین ذلک إذ یکون قرینة علی المراد من الآخر فیدخل بحسبه فی الظواهر التی هی حجة و أما إذا لم یکن لمقطوع الدلالة هذه الصلاحیة فإن تأویل الظاهر تبرعا لا یدخل فی الظاهر حینئذ لیکون حجة ببناء العقلاء و لا دلیل آخر علیه کما تقدم فی الصورة الثانیة و یتعین فی هذا الفرض طرح هذین الدلیلین طرح مقطوع الدلالة من ناحیة السند و طرح مقطوع السند من ناحیة الدلالة فلا یکون الجمع أولی إذ لیس إجراء دلیل أصالة السند بأولی من دلیل أصالة الظهور و کذلک العکس و لا معنی فی هذه الحالة للرجوع إلی المرجحات فی السند مع القطع بسند أحدهما کما هو واضح .و إن کانت الرابعة فإن الأمر یدور فیها بین التصرف فی أصالة

ص :230

السند فی أحدهما و التصرف فی أصالة الظهور فی الآخر لا أن الأمر یدور بین السندین و لا بین الظهورین و السر فی هذا الدوران أن دلیل حجیة السند یشملهما معا علی حد سواء بلا ترجیح لأحدهما علی الآخر حسب الفرض و کذلک دلیل حجیة الظهور و لما کان یمتنع اجتماع ظهورهما لفرض تعارضهما فإذا أردنا أن نأخذ بسندهما معا لا بد أن نحکم بکذب ظهور أحدهما فیصادم حجیة سند أحدهما حجیة ظهور الآخر و کذلک إذا أردنا أن نأخذ بظهورهما معا لا بد أن نحکم بکذب سند أحدهما فیصادم حجیة ظهور أحدهما حجیة سند الآخر فیرجع الأمر فی هذه الحالة إلی الدوران بین حجیة سند أحدهما و حجیة ظهور الآخر .و إذا کان الأمر کذلک فلیس أحدهما أولی من الآخر کما تقدم نعم لو کان هناک جمع عرفی بین ظهوریهما فإنه حینئذ لا تجری أصالة الظهور فیهما علی حد سواء بل المتبع فی بناء العقلاء ما یقتضیه الجمع العرفی الذی یقتضی الملاءمة بینهما فلا یصلح کل منهما لمعارضة الآخر .و من هنا نقول إن الجمع العرفی أولی من الطرح بل بالجمع العرفی یخرجان عن کونهما متعارضین کما سیأتی فلا مقتضی لطرح أحدهما أو طرحهما معا .أما إذا لم یکن بینهما جمع عرفی فإن الجمع التبرعی لا یصلح للملاءمة بین ظهوریهما فتبقی أصالة الظهور حجة فی کل منهما فیبقیان علی ما هما علیه من التعارض فإما أن یقدم أحدهما علی الآخر لمزیة أو یتخیر بینهما أو یتساقطان .فتحصل من ذلک کله أنه لا مجال للقول بأولویة الجمع التبرعی من الطرح فی کل صورة مفروضة للمتعارضین .

ص :231

إذا عرفت ما ذکرناه من الأمور فی المقدمة فلنشرع فی المقصود و الأمور التی ینبغی أن نبحثها ثلاثة الجمع العرفی و القاعدة الثانویة فی المتعادلین و المرجحات السندیة و ما یتعلق بها

ص :232

الأمر الأول الجمع العرفی

بمقتضی ما شرحناه فی المقدمة الأخیرة یتضح أن القدر المتیقن من قاعدة أولویة الجمع من الطرح فی المتعارضین هو الجمع العرفی الذی سماه الشیخ الأعظم بالجمع المقبول و غرضه المقبول عند العرف و یسمی الجمع الدلالتی .و فی الحقیقة کما تقدمت الإشارة إلی ذلک أنه بالجمع العرفی یخرج الدلیلان عن التعارض و الوجه فی ذلک أنه إنما نحکم بالتساقط أو التخییر أو الرجوع إلی العلاجات السندیة حیث تکون هناک حیرة فی الأخذ بهما معا و فی موارد الجمع العرفی لا حیرة و لا تردد .و بعبارة أخری أنه لما کان التعبد بالمتنافیین مستحیلا فلا بد من العلاج إما بطرحهما أو بالتخییر بینهما أو بالرجوع إلی المرجحات السندیة و غیرها و أما لو کان الدلیلان متلائمین غیر متنافیین بمقتضی الجمع العرفی المقبول فإن التعبد بهما معا یکون تعبدا بالمتلائمین فلا استحالة فیه و لا محذور حتی نحتاج إلی العلاج .و یتضح من ذلک أنه فی موارد الجمع لا تعارض و فی موارد التعارض لا جمع و للجمع العرفی موارد لا بأس بالإشارة إلی بعضها للتدریب فمنها ما إذا کان أحد الدلیلین أخص من الآخر فإن الخاص مقدم علی العام یوجب التصرف فیه لأنه بمنزلة القرینة علیه و قد جری البحث فی أن الخاص مطلقا بما هو خاص مقدم علی العام أو إنما یقدم علیه لکونه أقوی ظهورا فلو کان العام أقوی ظهورا کان العام هو المقدم و مال الشیخ

ص :233

الأعظم إلی الثانی کما جری البحث فی أن أصالة الظهور فی الخاص حاکمة أو واردة علی أصالة الظهور فی العام أو أن فی ذلک تفصیلا و لا یهمنا التعرض إلی هذا البحث فإن المهم تقدیم الخاص علی العام علی أی نحو کان من أنحاء التقدیم .و یلحق بهذا الجمع العرفی تقدیم النص علی الظاهر و الأظهر علی الظاهر فإنها من باب واحد .و منها ما إذا کان لأحد المتعارضین قدر متیقن فی الإرادة أو لکل منهما قدر متیقن و لکن لا علی أن یکون قدرا متیقنا من اللفظ بل من الخارج لأنه لو کان للفظ قدر متیقن فإن الدلیلین یکونان من أول الأمر غیر متعارضین إذ لا إطلاق حینئذ و لا عموم للفظ فلا یکون ذلک من نوع الجمع العرفی للمتعارضین سالبة بانتفاء الموضوع إذ لا تعارض .مثال القدر المتیقن من الخارج ما إذا ورد(:ثمن العذرة سحت) و ورد أیضا(:لا بأس ببیع العذرة) فإن عذرة الإنسان قدر متیقن من الدلیل الأول و عذرة مأکول اللحم قدر متیقن من الثانی فهما من ناحیة لفظیة متباینان متعارضان و لکن لما کان لکل منهما قدر متیقن فالتکاذب یکون بینهما بالنسبة إلی غیر القدر المتیقن فیحمل کل منهما علی القدر المتیقن فیرتفع التکاذب بینهما و یتلاءمان عرفا .و منها ما إذا کان أحد العامین من وجه بمرتبة لو اقتصر فیه علی ما عدا مورد الاجتماع یلزم التخصیص المستهجن إذ یکون الباقی من القلة لا یحسن أن یراد من العموم فإن مثل هذا العام یقال عنه إنه یأبی عن التخصیص فیکون ذلک قرینة علی تخصیص العام الثانی .و منها ما إذا کان أحد العامین من وجه واردا مورد التحدیدات

ص :234

کالأوزان و المقادیر و المسافات فإن مثل هذا یکون موجبا لقوة الظهور علی وجه یلحق بالنص إذ یکون ذلک العام أیضا مما یقال فیه إنه یأبی عن التخصیص .و هناک موارد أخری وقع الخلاف فی عدها من موارد الجمع العرفی مثل ما إذا کان لکل من الدلیلین مجاز هو أقرب مجازاته و مثل ما إذا لم یکن لکل منهما إلا مجاز بعید أو مجازات متساویة النسبة إلی المعنی الحقیقی و مثل ما إذا دار الأمر بین التخصیص و النسخ فهل مقتضی الجمع العرفی تقدیم التخصیص أو تقدیم النسخ أو التفصیل فی ذلک و قد تقدم البحث عن ذلک فی الجزء الأول ص 164 فراجع و لا تسع هذه الرسالة استیعاب هذه الأبحاث

ص :235

الأمر الثانی القاعدة الثانویة للمتعادلین

قد تقدم أن القاعدة الأولیة فی المتعادلین هی التساقط و لکن استفاضت الأخبار بل تواترت فی عدم التساقط غیر أن آراء الأصحاب اختلفت فی استفادة نوع الحکم منها لاختلافها علی ثلاثة أقوال 1 التخییر فی الأخذ بأحدهما و هو مختار المشهور بل نقل الإجماع علیه .2 التوقف بما یرجع إلی الاحتیاط فی العمل و لو کان الاحتیاط مخالفا لهما کالجمع بین القصر و الإتمام فی مورد تعارض الأدلة بالنسبة إلیهما .و إنما کان التوقف یرجع إلی الاحتیاط لأن التوقف یراد منه التوقف فی الفتوی علی طبق أحدهما و هذا یستلزم الاحتیاط فی العمل کما فی المورد الفاقد للنص مع العلم الإجمالی بالحکم .3 وجوب الأخذ بما طابق منهما الاحتیاط فإن لم یکن فیهما ما یطابق الاحتیاط تخیر بینهما .و لا بد من النظر فی الأخبار لاستظهار الأصح من الأقوال و قبل النظر فیها ینبغی الکلام عن إمکان صحة هذه الأقوال جملة بعد ما سبق من تحقیق أن القاعدة الأولیة بحکم العقل هی التساقط فکیف یصح الحکم بعدم تساقطهما حینئذ و أکثرها إشکالا هو القول بالتخییر بینهما للمنافاة الظاهرة بین الحکم بتساقطهما و بین الحکم بالتخییر .نقول فی الجواب عن هذا السؤال إنه إذا فرضت قیام الإجماع

ص :236

و نهوض الأخبار علی عدم تساقط المتعارضین فإن ذلک یکشف عن جعل جدید من قبل الشارع لحجیة أحد الخبرین بالفعل لا علی التعیین و هذا الجعل الجدید لا ینافی ما قلناه سابقا من سر تساقط المتعارضین بناء علی الطریقیة لأنه إنما حکمنا بالتساقط فمن جهة قصور دلالة أدلة حجیة الأمارة عن شمولها للمتعارضین أو لأحدهما لا علی التعیین و لکن لا یقدح فی ذلک أن یرد دلیل خاص یتضمن بیان حجیة أحدهما غیر المعین بجعل جدید لا بنفس الجعل الأول الذی تتضمنه الأدلة العامة .و لا یلزم من ذلک کما قیل أن تکون الأمارة حینئذ مجعولة علی نحو السببیة فإنه إنما یلزم ذلک لو کان عدم التساقط باعتبار الجعل الأول و بعبارة أخری أوضح أنه لو خلینا نحن و الأدلة العامة الدالة علی حجیة الأمارة فإنه لا یبقی دلیل لنا علی حجیة أحد المتعارضین لقصور تلک الأدلة عن شمولها لهما فلا بد من الحکم بعدم حجیتهما معا أما و قد فرض قیام دلیل خاص فی صورة التعارض بالخصوص علی حجیة أحدهما فلا بد من الأخذ به و یدل علی حجیة أحدهما بجعل جدید و لا مانع عقلی من ذلک .و علی هذا فالقاعدة المستفادة من هذا الدلیل الخاص قاعدة ثانویة مجعولة من قبل الشارع بعد أن کانت القاعدة الأولیة بحکم العقل هی التساقط .بقی علینا أن نفهم معنی التخییر علی تقدیر القول به بعد أن بینا سابقا أنه لا معنی للتخییر بین المتعارضین من جهة الحجیة و لا من جهة الواقع فنقول إن معنی التخییر بمقتضی هذا الدلیل الخاص أن کل واحد من المتعارضین

ص :237

منجز للواقع علی تقدیر أصابته للواقع و معذر للمکلف علی تقدیر الخطإ و هذا هو معنی الجعل الجدید الذی قلناه فللمکلف أن یختار ما یشاء منهما فإن أصاب الواقع فقد تنجز به و إلا فهو معذور و هذا بخلاف ما لو کنا نحن و الأدلة العامة فإنه لا منجزیة لأحدهما غیر المعین و لا معذریة له .و الشاهد علی ذلک أنه بمقتضی هذا الدلیل الخاص لا یجوز ترک العمل بهما معا لأنه علی تقدیر الخطإ فی ترکهما لا معذر له فی مخالفة الواقع بینما أنه معذور فی مخالفة الواقع لو أخذ بأحدهما و هذا بخلاف ما لو لم یکن هذا الدلیل الخاص موجودا فإنه یجوز له ترک العمل بهما معا و إن استلزم مخالفة الواقع إذ لا منجز للواقع بالمتعارضین بمقتضی الأدلة العامة .إذا عرفت ما ذکرنا فلنذکر لک أخبار الباب لیتضح الحق فی المسألة فإن منها ما یدل علی التخییر مطلقا و منها ما یدل علی التخییر فی صورة التعادل و منها ما یدل علی التوقف ثم نعقب علیها بما یقتضی فنقول إن الذی عثرنا علیه من الأخبار هو کما یلی 1(خبر الحسن بن جهم عن الرضا علیه السلام (1):قلت یجیئنا الرجلان و کلاهما ثقة بحدیثین مختلفین فلا نعلم أیهما الحق قال فإذا لم تعلم فموسع علیک بأیهما أخذت).

ص :238


1- 1) الوسائل،کتاب القضاء الباب 9 من أبواب صفات القاضی،عن الاحتجاج.

و هذا الحدیث بهذا المقدار منه ظاهر فی التخییر بین المتعارضین مطلقا و لکن صدره الذی لم نذکره مقید بالعرض علی الکتاب و السنة فهو یدل علی أن التخییر أنما هو بعد فقدان المرجح و لو فی الجملة . 2(خبر الحارث بن المغیرة عن أبی عبد الله علیه السلام (1):إذا سمعت من أصحابک الحدیث و کلهم ثقة فموسع علیک حتی تری القائم فترد علیه) و هذا الخبر أیضا یستظهر منه التخییر مطلقا من کلمة فموسع علیک و یقید بالروایات الدالة علی الترجیح الآتیة .و لکن یمکن أن یناقش فی استظهار التخییر منه أولا بأن الخبر وارد فی فرض التمکن من لقاء الإمام و الأخذ منه فلا یعلم شموله لحال الغیبة الذی یهمنا إثباته لأن الرخصة فی التخییر مدة قصیرة لا تستلزم الرخصة فیه أبدا و لا تدل علیها .ثانیا بأن الخبر غیر ظاهر فی فرض التعارض بل ربما یکون واردا لبیان حجیة الحدیث الذی یرویه الثقات من الأصحاب و معنی موسع علیک الرخصة بالأخذ به کنایة عن حجیته غایة الأمر أنه یدل علی أن الرخصة مغیاة برؤیة الإمام لیأخذ منه الحکم علی سبیل الیقین و هذا أمر لا بد منه فی کل حجة ظنیة و إن کانت عامة حتی لزمان حضور الإمام إلا أنه مع حصول الیقین بمشافهته لا بد أن ینتهی أمد جواز العمل بها .و علیه فلا شاهد بهذا الخبر علی ما نحن فیه .(3 مکاتبة عبد الله بن محمد إلی أبی الحسن علیه السلام (2):

ص :239


1- 1) نفس المصدر.
2- 2) نفس المصدر.

اختلف أصحابنا فی روایتهم عن أبی عبد الله علیه السلام فی رکعتی الفجر فی السفر فروی بعضهم أن صلهما فی المحمل و روی بعضهم أن لا تصلهما إلا علی الأرض فأعلمنی کیف تصنع أنت لأقتدی بک فی ذلک فوقع علیه السلام موسع علیک بأیة عملت) .و هذه أیضا استظهروا منها التخییر مطلقا و تحمل علی المقیدات کالثانیة .و لکن یمکن المناقشة فی هذا الاستظهار بأنه من المحتمل أن یراد من التوقیع بیان التخییر فی العمل بکل من المرویین باعتبار أن الحکم الواقعی هو جواز صلاة رکعتی الفجر فی السفر فی المحمل و علی الأرض معا لا أن المراد التخییر بین الروایتین فیکون الغرض تخطئة الروایتین .و هو احتمال قریب جدا لا سیما أن السؤال لم یکن عن کیفیة العمل بالمتعارضین بل السؤال عن کیفیة عمل الإمام لیقتدی به أی إنه سؤال عن حکم صلاة رکعتی الفجر لا عن حکم المتعارضین و الجواب ینبغی أن یطابق السؤال فکیف صح أن یحمل علی بیان کیفیة العمل بالمتعارضین و علیه فلا یکون فی هذا الخبر أیضا شاهد علی ما نحن فیه کالخبر الثانی .(4:جواب مکاتبة الحمیری إلی الحجة عجل الله فرجه (1) فی ذلک حدیثان أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حاله إلی أخری فعلیه التکبیر و أما الحدیث الآخر فإنه روی أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانیة و کبر ثم جلس ثم قام فلیس علیه فی القیام بعد القعود تکبیر و کذلک التشهد الأول یجری هذا المجری و بأیهما أخذت من باب التسلیم کان صوابا) .و هذا الجواب أیضا استظهروا منه التخییر مطلقا و یحمل علی المقیدات

ص :240


1- 1) نفس المصدر.

و لکنه أیضا یناقش فی هذا الاستظهار بأنه من المحتمل قریبا أن المراد بیان التخییر فی العمل بالتکبیر لبیان عدم وجوبه لا التخییر بین المتعارضین .و یشهد لذلک التعبیر بقوله کان صوابا لأن المتعارضین لا یمکن أن یکون کل واحد منهما صوابا ثم لا معنی لجواب الإمام عن السؤال عن الحکم الواقعی بذکر روایتین متعارضتین ثم العلاج بینهما إلا لبیان خطإ الروایتین و أن الحکم الواقعی علی خلافهما .(5 مرفوعة زرارة المرویة عن غوالی اللئالی و قد جاء فی آخرها:إذن فتخیر أحدهما فتأخذ به و تدع الآخر) .و لا شک فی ظهور هذه الفقرة منها فی وجوب التخییر بین المتعارضین و فی أنه بعد فرض التعادل لأنها جاءت بعد ذکر المرجحات و فرض انعدامها و لکن الشأن فی صحة سندها و سیأتی التعرض له و هی من أهم أخبار الباب من جهة مضمونها .(6 خبر سماعة عن أبی عبد الله علیه السلام (1) قال:سألته عن رجل اختلف علیه رجلان من أهل دینه فی أمر کلاهما یرویه أحدهما یأمر بأخذه و الآخر ینهاه عنه کیف یصنع فقال یرجئه حتی یلقی من یخبره فهو فی سعة حتی یلقاه) .و قد استظهروا من قوله علیه السلام فهو فی سعة التخییر مطلقا و فیه أولا أن الروایة واردة فی فرض التمکن من لقاء الإمام أو کل من یخبره بالحکم علی سبیل الیقین من نواب الإمام خصوصا أو عموما فهی تشبه من هذه الناحیة الروایة الثانیة المتقدمة .و ثانیا أن الأولی فیها أن تجعل من أدلة التوقف لا التخییر

ص :241


1- 1) الکافی ج 1 ص 66 الطبعة الثانیة بطهران سنة 1380.

و ذلک لکلمة یرجئه و أما قوله فی سعة فالظاهر أن المراد به التخییر بین الفعل و الترک باعتبار أن الأمر حسب فرض السؤال یدور بین المحذورین و هو الوجوب و الحرمة إذن فلیس المقصود منه التخییر بین الروایتین لا سیما أن ذلک لا یلتئم مع الأمر بالإرجاء لأن العمل بأحدهما تخییرا لیس إرجاء بل الإرجاء ترک العمل بهما معا .فلا دلالة لهذه الروایة علی التخییر بین المتعارضین (7 و قال الکلینی بعد تلک الروایة و فی روایة أخری:بأیهما أخذت من باب التسلیم وسعک) و یظهر منه أنها روایة أخری لا أنها نص آخر فی الجواب عن نفس السؤال فی الروایة المتقدمة و إلا لکان المناسب أن یقول بأیهما أخذ لضمیر الغائب لا بأیهما أخذت بنحو الخطاب .و ظاهرها الحکم بالتخییر بین المتعارضین مطلقا و یحمل علی المقیدات .(8 ما فی عیون أخبار الرضا (1) للصدوق فی خبر طویل جاء فی آخره:فذلک الذی یسع الأخذ بهما جمیعا أو بأیهما شئت وسعک الاختیار من باب التسلیم و الاتباع و الرد إلی رسول الله) .و الظاهر من هذه الفقرة هو التخییر بین المتعارضین إلا أنه بملاحظة صدرها و ذیلها یمکن أن یستظهر منها إرادة التخییر فی العمل بالنسبة إلی ما أخبر عن حکمه أنه علی نحو الکراهة و لذا أنها فیما یتعلق بالإخبار عن الحکم الإلزامی صرحت بلزوم العرض علی الکتاب و السنة لا سیما و قد أعقب تلک الفقرة التی نقلناها(قوله علیه السلام:و ما لم تجدوه فی شیء من هذه الوجوه فردوا إلینا علمه فنحن أولی بذلک و لا تقولوا فیه بآرائکم

ص :242


1- 1) راجع عنه تعلیقة الکافی ج 1 ص 66.

و علیکم بالکف و التثبت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتی یأتیکم البیان من عندنا) .و هذه الفقرات صریحة فی وجوب التوقف و التریث و علیه فالأجدر بهذه الروایة أن تجعل من أدلة التوقف لا التخییر .(9 مقبولة عمر بن حنظلة الآتی ذکرها فی المرجحات و قد جاء فی آخرها:إذا کان ذلک أی فقدت المرجحات فأرجئه حتی تلقی إمامک فإن الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات) .و هذه ظاهرة فی وجوب التوقف عند التعادل .(10 خبر سماعة عن أبی عبد الله علیه السلام (1):قلت یرد علینا حدیثان واحد یأمرنا بالعمل به و الآخر ینهانا عن العمل به قال لا تعمل بواحد منهما حتی تأتی صاحبک فتسأل عنه قلت لا بد أن یعمل بأحدهما قال اعمل بما فیه خلاف العامة)(11 مرسلة صاحب غوالی اللئالی علی ما نقل عنه فإنه بعد روایته المرفوعة المتقدمة برقم 5 قال و فی روایة أنه قال علیه السلام:إذن فأرجئه حتی تلقی إمامک فتسأله) .هذه جملة ما عثرت علیه من الروایات فیما یتعلق بالتخییر أو التوقف و الظاهر منها بعد ملاحظة أخبار الترجیح الآتیة و بعد ملاحظة مقیداتها بصورة

ص :243


1- 1) الوسائل.کتاب القضاء،الباب 9 من أبواب صفات القاضی.

فقدان المرجح و لو فی الجملة أن الرجوع إلی التخییر أو التوقف بعد فقد المرجحات فتحمل مطلقاتها علی مقیداتها .و الخلاصة أن المتحصل منها جمیعا أنه یجب أولا ملاحظة المرجحات بین المتعارضین فإن لم تتوفر المرجحات فالقاعدة هی التخییر أو التوقف علی حسب استفادتنا من الأخبار لا أن القاعدة التخییر أو التوقف فی کل متعارضین و إن کان فیهما ما یرجح أحدهما علی الآخر .نعم المستفاد من الروایة العاشرة فقط و هی خبر سماعة أن التوقف هو الحکم الأولی إذ أرجعه إلی الترجیح بمخالفة العامة بعد فرض ضرورة العمل بأحدهما بحسب فرض السائل .و لکن التأمل فیها یعطی أنها لا تنافی أدلة تقدیم الترجیح فإن الظاهر أن المراد منها ترک العمل رأسا انتظارا لملاقاة الإمام لا التوقف و العمل بالاحتیاط .و بعد هذا یبقی علینا أن نعرف وجه الجمع بین أخبار التخییر و أخبار التوقف فیما ذکرناه من الأخبار المتقدمة و قد ذکروا وجوها للجمع لا یغنی أکثرها راجع الحدائق ج 1 ص 100 .و أنت بعد ملاحظة ما مر من المناقشات فی الأخبار التی استظهروا منها التخییر تستطیع أن تحکم بأن التوقف هو القاعدة الأولیة و أن التخییر لا مستند له إذ لم یبق ما یصلح مستندا له إلا الروایة الأولی و هی لا تصلح لمعارضة الروایات الکثیرة الدالة علی وجوب التوقف و الرد إلی الإمام .أما الخامسة و هی مرفوعة زرارة فهی ضعیفة السند جدا و قد أشرنا فیما سبق إلی ذلک و سیأتی بیانه علی أن راویها نفسه عقبها بالمرسلة

ص :244

المتقدمة برقم 11 الواردة فی التوقف و الإرجاء .و أما السابعة مرسلة الکلینی فلیس من البعید أنها من استنباطاته حسبما فهمه من الروایات لا أنها روایة مستقلة فی قبال سائر روایات الباب .و یشهد لذلک ما ذکره فی مقدمة الکافی ص 9 من(مرسلة أخری بهذا المضمون:بأیهما أخذتم من باب التسلیم وسعکم) لأنه لم ترد عنده روایة بهذا التعبیر إلا تلک المرسلة التی نحن بصددها و هی بخطاب المفرد و هذه بخطاب الجمع و علیه فیظهر أن المرسلتین معا هما من مستنبطاته فلا یصح الاعتماد علیهما .إذا عرفت ما ذکرناه یظهر لک أن القول بالتخییر لا مستند له یصلح لمعارضة أخبار التوقف و لا للخروج عن القاعدة الأولیة للمتعارضین و هی التساقط و إن کان التخییر مذهب المشهور .و أما أخبار التوقف فإنها مضافا إلی کثرتها و صحة بعضها و قوة دلالتها لا تنافی قاعدة التساقط فی الحقیقة لأن الإرجاء و التوقف لا یزید علی التساقط بل هو من لوازمه فأخبار التوقف تکون علی القاعدة .و قیل فی وجه تقدیم أخبار التخییر إن أدلة التخییر مطلقة بالنسبة إلی زمن الحضور بینما أن أخبار التوقف مقیدة به و صناعة الإطلاق و التقیید تقتضی رفع التعارض بینهما بحمل المطلق علی المقید و نتیجة ذلک التخییر فی زمان الغیبة کما علیه المشهور .أقول إن أخبار التوقف کلها بلسان الإرجاء إلی ملاقاة الإمام فلا یستفاد منها تقیید الحکم بالتوقف بزمان الحضور لأن استفادة ذلک یتوقف علی أن یکون للغایة مفهوم و قد تقدم ج 1 ص 125 بیان المناط فی استفادة مفهوم الغایة فقلنا إن الغایة إذا کانت قیدا للموضوع أو

ص :245

المحمول فقط لا دلالة لها علی المفهوم و لا تدل علی المفهوم إلا إذا کان التقیید بالغایة راجعا إلی الحکم .و الغایة هنا غایة لنفس الإرجاء لا لحکمه و هو الوجوب یعنی أن المستفاد من هذه الأخبار أن نفس الإرجاء مغیا بملاقاة الإمام لا وجوبه .و الحاصل أنه لا یفهم من أخبار التوقف إلا أنه لا یجوز الأخذ بالأخبار المتعارضة المتکافئة و لا العمل بواحد منها و إنما یحال الأمر فی شأنها إلی الإمام و یؤجل البت فیها إلی ملاقاته لتحصیل الحجة علی الحکم بعد السؤال عنه فهی تقول بما یئول إلی أن الأخبار المتعارضة المتکافئة لا تصلح لإثبات الحکم فلا تجوز الفتوی و لا العمل بأحدها و ینحصر الأمر حینئذ بملاقاة الإمام و السؤال منه فإذا لم تحصل الملاقاة و لو لغیبة الإمام فلا یجوز الإقدام علی العمل بأحد المتعارضین .و علی هذا فتکون هذه الأخبار مباینة لأخبار التخییر لا أخص منها

ص :246

الأمر الثالث المرجحات
اشارة

تقدم ص 212 أن من شروط تحقق التعارض أن یکون کل من الدلیلین واجدا لشرائط الحجیة فی حد نفسه لأنه لا تعارض بین الحجة و اللاحجة فإذا بحثنا عن المرجحات فالذی نعنیه أن نبحث عما یرجح الحجة علی الأخری بعد فرض حجیتهما معا فی أنفسهما لا عما یقوم أصل الحجة و یمیزها عن اللاحجة و علیه فالجهة التی تکون من مقومات الحجة مع قطع النظر عن المعارضة لا تدخل فی مرجحات باب التعارض بل تکون من ممیزات الحجة عن اللاحجة .و من أجل هذا یجب أن نتنبه إلی الروایات المذکورة فی باب الترجیحات إلی أنها واردة فی صدد أی شیء من ذلک فی صدد الترجیح أو التمییز .فلو کانت علی النحو الثانی لا یکون فیها شاهد علی ما نحن فیه کما قاله الشیخ صاحب الکفایة فی روایات الترجیح بموافقة الکتاب کما سیأتی .إذا عرفت ما ذکرناه من جهة البحث التی نقصدها فی بیان المرجحات فنقول إن المرجحات المدعی أنها منصوص علیها فی الأخبار خمسة أصناف الترجیح بالأحدث تاریخا و بصفات الراوی و بالشهرة و بموافقة الکتاب و بمخالفة العامة .فینبغی أولا البحث عنها واحدة واحدة ثم بیان أیة منها أولی بالتقدیم لو تعارضت ثم بیان أنه هل یجب الاقتصار علیها أو یتعدی إلی غیرها فهنا ثلاثة مقامات

ص :247

المقام الأول المرجحات الخمسة
1 الترجیح بالأحدث

فی هذا الترجیح روایات أربع نکتفی منها بما رواه الکلینی بسنده إلی أبی عبد الله علیه السلام (1)(قال علیه السلام:أ رأیت لو حدثتک بحدیث العام ثم جئتنی من قابل فحدثتک بخلافه بأیهما کنت تأخذ قلت آخذ بالأخیر فقال لی رحمک الله) أقول إن الذی یستظهره بعض أجلة مشایخنا قدس سره أن هذه الروایات لا شاهد بها علی ما نحن فیه أی أنها لا تدل علی ترجیح الأحدث من البیانین کقاعدة عامة بالنسبة إلی کل مکلف و بالنسبة إلی جمیع العصور لأنه لا تدل علی ذلک إلا إذا فهم منها أن الأحدث هو الحکم الواقعی و أن الأول واقع موقع التقیة أو نحوها مع أنه لا یفهم منها أکثر من أن من ألقی إلیه البیان خاصة حکمه الفعلی ما تضمنه البیان الأخیر و لیست ناظرة إلی أنه هو الحکم الواقعی فلربما کان حکما ظاهریا بالنسبة إلیه من باب التقیة کما أنه لیست ناظرة إلی أن هذا الحکم الفعلی هو حکم کل أحد و فی کل زمان .و الحاصل أن هذه الطائفة من الروایات لا دلالة فیها علی أن البیان الأخیر یتضمن الحکم الواقعی و أن ذلک بالنسبة إلی جمیع المکلفین فی جمیع الأزمنة حتی یکون الأخذ بالأحدث وظیفة عامة لجمیع المکلفین و لجمیع الأزمان حتی زمن الغیبة و لو کان من باب التقیة و لا شک أن الأزمان و الأشخاص تتفاوت و تختلف من جهة شدة التقیة أو لزومها.

ص :248


1- 1) الکافی ج 1 ص 67.
2 الترجیح بالصفات

أن الروایات التی ذکرت الترجیح بالصفات تنحصر فی مقبولة ابن حنظلة و مرفوعة زرارة المشار إلیهما سابقا و المرفوعة کما قلنا ضعیفة جدا لأنها مرفوعة و مرسلة و لم یروها إلا صاحب غوالی اللئالی (و قد طعن صاحب الحدائق فی التألیف و المؤلف إذ قال ج 1 ص 99 فإنا لم نقف علیها فی غیر کتاب غوالی اللئالی مع ما هی علیه من الرفع و الإرسال و ما علیه الکتاب من نسبة صاحبه إلی التساهل فی نقل الأخبار و الإهمال و خلط غثها بسمینها و صحیحها بسقیمها) .إذن الکلام فیها فضول فالعمدة فی الباب المقبولة التی قبلها العلماء لأن راویها صفوان بن یحیی الذی هو من أصحاب الإجماع أی الذین أجمع العصابة علی تصحیح ما یصح عنهم کما رواها المشایخ الثلاثة فی کتبهم (1) و إلیک نصها بعد حذف مقدمتها (:قلت فإن کان کل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضیا أن یکونا الناظرین فی حقهما و اختلفا فیما حکما و کلاهما اختلفا فی حدیثکم قال الحکم ما حکم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما فی الحدیث و أورعهما و لا یلتفت إلی ما یحکم به الآخر قلت فإنهما عدلان مرضیان عند أصحابنا لا یفضل واحد منهما علی الآخر

ص :249


1- 1) الکافی ج 1 ص 67،و الفقیه المطبوع بطهران سنة 1376 ص 318 و التهذیب فی باب الزیادات من کتاب القضاء.

قال ینظر إلی ما کان من روایتهم عنا فی ذلک الذی به حکما المجمع علیه من أصحابک فیؤخذ به من حکمنا و یترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک فإن المجمع علیه لا ریب فیه و إنما الأمور ثلاثة أمر بین رشده فیتبع و أمر بین غیه فیجتنب و أمر مشکل یرد علمه إلی الله و رسوله قال رسول الله صلی اللّٰه علیه و آله حلال بین و حرام بین و شبهات بین ذلک فمن ترک الشبهات نجا من المحرمات و من أخذ بالشبهات ارتکب المحرمات و هلک من حیث لا یعلم قلت فإن کان الخبران عنکما (1)مشهورین قد رواهما الثقات عنکم قال ینظر فما وافق حکمه حکم الکتاب و السنة و خالف العامة فیؤخذ به و یترک ما خالف حکمه حکم الکتاب و السنة و وافق العامة قلت جعلت فداک أ رأیت إن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب و السنة و وجدنا أحد الخبرین موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم بأی الخبرین یؤخذ قال ما خالف العامة ففیه الرشاد قلت جعلت فداک فإن وافقهم الخبران جمیعا قال انظر إلی ما هم إلیه أمیل حکامهم و قضاتهم فیترک و یؤخذ بالآخر قلت فإن وافق حکامهم الخبرین جمیعا قال إذا کان ذلک فأرجه و فی بعض النسخ فأرجئه حتی تلقی إمامک فإن الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات) انتهت المقبولة .

ص :250


1- الکافی ج 1 ص 67، والفقیه المطبوع بطهران سنة 1376 ص 318 والتهذیب فی باب الزیادات من کتاب القضاء.

أقول من الواضح أن موردها التعارض بین الحاکمین لا بین الراویین و لکن لما کان الحکم و الفتوی فی الصدر الأول یقعان بنص الأحادیث لا أنهما یقعان بتعبیر من الحاکم أو المفتی کالعصور المتأخرة استنباطا من الأحادیث تعرضت هذه المقبولة للروایة و الراوی لارتباط الروایة بالحکم و من هنا استدل بها علی الترجیح للروایات المتعارضة .غیر أنه مع ذلک لا یجعلها شاهدا علی ما نحن فیه و السر فی ذلک واضح لأن اعتبار شیء فی الراوی بما هو حاکم غیر اعتباره فیه بما هو راو و محدث و المفهوم من المقبولة أن ترجیح الأعدل و الأورع و الأفقه إنما هو بما هو حاکم فی مقام نفوذ حکمه لا فی مقام قبول روایته .و یشهد لذلک أنها جعلت من جملة المرجحات کونه أفقه فی عرض کونه أعدل و أصدق فی الحدیث و لا ربط للأفقهیة بترجیح الروایة من جهة کونها روایة .نعم إن المقبولة انتقلت بعد ذلک إلی الترجیح للروایة بما هی روایة ابتداء من الترجیح بالشهرة و إن کان ذلک من أجل کونها سندا لحکم الحاکم فإن هذا أمر آخر غیر الترجیح لنفس الحکم و بیان نفوذه .و علیه فالمقبولة لا دلیل فیها علی الترجیح بالصفات و أما الترجیح بالشهرة و ما یلیها فسیأتی الکلام عنه و یؤید هذا الاستنتاج أن صاحب الکافی لم یذکر فی مقدمة کتابه الترجیح بصفات الراوی

3 الترجیح بالشهرة

تقدم ص 164 أن الشهرة لیست حجة فی نفسها و أما إذا کانت مرجحة للروایة علی القول به فلا ینافی عدم حجیتها فی نفسها .و الشهرة المرجحة علی نحوین شهرة عملیة و هی الشهرة الفتوائیة

ص :251

المطابقة للروایة و شهرة فی الروایة و إن لم یکن العمل علی طبقها مشهورا .أما الأولی فلم یرد فیها من الأخبار ما یدل علی الترجیح بها فإذا قلنا بالترجیح بها فلا بد أن یکون بمناط وجوب الترجیح بکل ما یوجب الأقربیة إلی الواقع علی ما سیأتی وجهه غایة الأمر أن تقویة الروایة بالعمل بها یشترط فیها أمران 1 أن یعرف استناد الفتوی إلیها إذ لا یکفی مجرد مطابقة فتوی المشهور للروایة فی الوثوق بأقربیتها إلی الواقع .2 أن تکون الشهرة العملیة قدیمة أی واقعة فی عصر الأئمة أو العصر الذی یلیه الذی تم فیه جمع الأخبار و تحقیقها أما الشهرة فی العصور المتأخرة فیشکل تقویة الروایة بها .هذا من جهة الترجیح بالشهرة العملیة فی مقام التعارض أما من جهة جبر الشهرة للخبر الضعیف مع قطع النظر عن وجود ما یعارضه فقد وقع نزاع للعلماء فیه و الحق أنها جابرة له إذا کانت قدیمة أیضا لأن العمل بالخبر عند المشهور من القدماء مما یوجب الوثوق بصدوره و الوثوق هو المناط فی حجیة الخبر کما تقدم و بالعکس من ذلک إعراض الأصحاب عن الخبر فإنه یوجب وهنه و إن کان راویه ثقة و کان قوی السند بل کلما قوی سند الخبر فأعرض عنه الأصحاب کان ذلک أکثر دلالة علی وهنه .و أما الثانیة و هی الشهرة فی الروایة فإن إجماع المحققین قائم علی الترجیح بها و قد دلت علیه المقبولة المتقدمة و قد جاء فیها(:فإن المجمع علیه لا ریب فیه) و المقصود من المجمع علیه المشهور بدلیل فهم السائل ذلک إذ عقبه بالسؤال فإن کان الخبران عنکما مشهورین و لا معنی لأن یراد من الشهرة الإجماع .

ص :252

و قد یقال إن شهرة الروایة فی عصر الأئمة یوجب کون الخبر مقطوع الصدور و علی الأقل یوجب کونه موثوقا بصدوره و إذا کان کذلک فالشاذ المعارض له أما مقطوع العدم أو موثوق بعدمه فلا تعمه أدلة حجیة الخبر و علیه فیخرج اقتضاء الشهرة فی الروایة عن مسألة ترجیح إحدی الحجتین بل تکون لتمییز الحجة عن اللاحجة .و الجواب أن الشاذ المقطوع العدم لا یدخل فی مسألتنا قطعا و أما الموثوق بعدمه من جهة حصول الثقة الفعلیة بمعارضه فلا یضر ذلک فی کونه مشمولا لأدلة حجیة الخبر لأن الظاهر کفایة وثاقة الراوی فی قبول خبره من دون إناطة بالوثوق الفعلی بخبره و قد تقدم فی حجیة خبر الثقة أنه لا یشترط حصول الظن الفعلی به و لا عدم الظن بخلافه .

4 الترجیح بموافقة الکتاب

فی ذلک روایات کثیرة منها مقبولة ابن حنظلة المتقدمة (و منها خبر الحسن بن الجهم المتقدم رقم 1 فقد جاء فی صدره:قلت له تجیئنا الأحادیث عنکم مختلفة قال ما جاءک عنا فقسه علی کتاب الله عز و جل و أحادیثنا فإن کان یشبههما فهو منا و إن لم یکن یشبههما فلیس منا)(قال فی الکفایة إن فی کون أخبار موافقة الکتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا وجهه قوة احتمال أن یکون المخالف للکتاب فی نفسه غیر حجة بشهادة ما ورد فی أنه زخرف و باطل و لیس بشیء أو أنه لم

ص :253

نقله أو أمر بطرحه علی الجدار) .أقول فی مسألة موافقة الکتاب و مخالفته طائفتان من الأخبار الأولی فی بیان مقیاس أصل حجیة الخبر لا فی مقام المعارضة بغیره و هی التی ورد فیها التعبیرات المذکورة فی الکفایة أنه زخرف و باطل إلی آخره فلا بد أن تحمل هذه الطائفة علی المخالفة لصریح الکتاب لأنه هو الذی یصح وصفه بأنه زخرف و باطل و نحوهما .و الثانیة فی بیان ترجیح أحد المتعارضین و هذه لم یرد فیها مثل تلک التعبیرات و قد قرأت بعضها و ینبغی أن تحمل علی المخالفة لظاهر الکتاب لا لنصه لا سیما أن مورد بعضها مثل المقبولة فی الخبر الذی لو کان وحده لأخذ به و إنما المانع من الأخذ به وجود المعارض إذ الأمر بالأخذ بالموافق و ترک المخالف وقع فی المقبولة بعد فرض کونهما مشهورین قد رواهما الثقات ثم فرض السائل موافقتهما معا للکتاب بعد ذلک إذ قال فإن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب و السنة و لا یکون ذلک إلا الموافقة لظاهره و إلا لزم وجود نصین متباینین فی الکتاب کل ذلک یدل علی أن المراد من مخالفة الکتاب فی المقبولة مخالفة الظاهر لا النص .و یشهد لما قلناه أیضا ما جاء فی خبر الحسن المتقدم فإن کان یشبههما فهو منا فإن التعبیر بکلمة یشبههما یشیر إلی أن المراد الموافقة و المخالفة للظاهر .

5 مخالفة العامة

أن الأخبار المطلقة الآمرة بالأخذ بما خالف العامة و ترک ما وافقها کلها منقولة عن رسالة للقطب الراوندی (و قد نقل عن الفاضل النراقی أنه قال

ص :254

إنها غیر ثابتة عن القطب ثبوتا شائعا فلا حجة فیما نقل عنه) .و هناک روایة مرسلة عن الاحتجاج تقدمت فی رقم 10 لا حجة فیها لضعفها بالإرسال فینحصر الدلیل فی المقبولة المتقدمة و ظاهرها کما سبق قریبا أن الترجیح بموافقة الکتاب و مخالفة العامة بعد فرض حجیة الخبرین فی أنفسهما فتدل علی الترجیح لا علی التمییز کما قیل .و النتیجة أن المستفاد من الأخبار أن المرجحات المنصوصة ثلاثة الشهرة و موافقة الکتاب و السنة و مخالفة العامة و هذا ما استفاده الشیخ الکلینی فی مقدمة الکافی

ص :255

المقام الثانی فی المفاضلة بین المرجحات

إن المرجحات فی جملتها ترجع إلی ثلاث نواح لا تخرج عنها 1 ما یکون مرجحا للصدور و یسمی المرجح الصدوری و معنی ذلک أن المرجح یجعل صدور أحد الخبرین أقرب من صدور الآخر و ذلک مثل موافقة المشهور و صفات الراوی .2 ما یکون مرجحا لجهة الصدور و یسمی المرجح الجهتی فإن صدور الخبر المعلوم الصدور حقیقة أو تعبدا قد یکون لجهة الحکم الواقعی و قد یکون لبیان خلافه لتقیة أو غیرها من مصالح إظهار خلاف الواقع و ذلک مثل ما إذا کان الخبر مخالفا للعامة فإنه یرجح فی مورد معارضته بخبر آخر موافق لهم أن صدوره کان لبیان الحکم الواقعی لأنه لا یحتمل فیه إظهار خلاف الواقع بخلاف الآخر .3 ما یکون مرجحا للمضمون و یسمی المرجح المضمونی و ذلک مثل موافقة الکتاب و السنة إذ یکون مضمون الخبر الموافق أقرب إلی الواقع فی النظر .و قد وقع الکلام فی هذه المرجحات أنها مترتبة عند التعارض بینها أو أنها فی عرض واحد علی أقوال

ص :256

الأول أنها فی عرض واحد فلو کان أحد الخبرین المتعارضین واجدا لبعضها و الخبر الآخر واجدا لبعض آخر وقع التزاحم بین الخبرین فیقدم الأقوی مناطا فإن لم یکن أحدهما أقوی مناطا تخیر بینهما و هذا هو مختار الشیخ صاحب الکفایة .الثانی أنها مترتبة و یقدم المرجح الجهتی علی غیره فالمخالف للعامة أولی بالتقدیم علی الموافق لهم و إن کان مشهورا و هذا هو المنسوب إلی الوحید البهبهانی .الثالث أنها مترتبة و لکن علی العکس من الأول أی أنه یقدم المرجح الصدوری علی غیره فیقدم المشهور الموافق للعامة علی الشاذ المخالف لهم و هذا هو ما ذهب إلیه شیخنا النائینی .الرابع أنها مترتبة حسبما جاء فی المقبولة أو فی الروایات الأخری بأن یقدم مثلا حسبما یظهر من المقبولة المشهور فإن تساویا فی الشهرة قدم الموافق للکتاب و السنة فإن تساویا فی ذلک قدم ما یخالف العامة .و هناک أقوال أخری لا فائدة فی نقلها .و فی الحقیقة أن هذا الخلاف لیس بمناط واحد بل یبتنی علی أشیاء منها أنه یبتنی علی القول بوجوب الاقتصار علی المرجحات المنصوصة فإن مقتضی ذلک أن یرجع إلی مدی دلالة أخبار الباب و إلی ما ینبغی من الجمع بینها بالجمع العرفی فیما اختلفت فیه و قد وقع فی ذلک کلام طویل لکثیر من الإعلام یحتاج استقصاؤه إلی کثیر من الوقت .و الذی نقوله علی نحو الاختصار أنه یبدو من تتبع الأخبار أنه لا تفاضل فی الترجیح بین الأمور المذکورة فیها و یشهد لذلک اقتصار جملة منها علی واحد منها ثم ما جمع المرجحات منها کالمقبولة و المرفوعة

ص :257

علی تقدیر لاعتماد علیها لم تذکرها کلها کما لم تتفق فی الترتیب بینها .نعم إن المقبولة التی هی عمدتنا فی الباب و التی لم نستفد منها الترجیح بالصفات کما تقدم ذکرت الشهرة أولا و یظهر منها أن الشهرة أکثر أهمیة من کل مرجح و أما باقی المرجحات فقد یقال لا یظهر من المقبولة الترتیب بینها کیف و قد جمعت بینها فی الجواب عند ما فرض السائل الخبرین متساویین فی الشهرة .و علی کل حال فإن استفادة الترتیب بین المرجحات من الأخبار مشکل جدا ما عدا تقدیم الشهرة علی غیرها .و منها أنه یبتنی بعد فرض القول بالتعدی إلی غیر المرجحات المنصوصة علی أن القاعدة هل تقتضی تقدیم المرجح الصدوری علی المرجح الجهتی أو بالعکس أو لا تقتضی شیئا منهما و علی التقدیر الثالث لا بد أن یرجع إلی أقوائیة المرجح فی الکشف عن مطابقة الخبر للواقع فکل مرجح یکون أقوی من هذه الجهة أیا کان فهو أولی بالتقدیم .و قد أصر شیخنا النائینی أعلی الله درجته علی الأول أی أنه یری أن القاعدة تقتضی تقدیم المرجح الصدوری علی المرجح الجهتی و بنی ذلک علی کون الخبر صادرا لبیان الحکم الواقعی لا لغرض آخر یتفرع علی فرض صدوره حقیقة أو تعبدا لأن جهة الصدور من شئون الصادر فما لا صدور له لا معنی للکلام عنه أنه صادر لبیان الحکم الواقعی أو لبیان غیره و علیه فإذا کان الخبر الموافق للعامة مشهورا و کان الخبر الشاذ مخالفا لهم کان الترجیح للشهرة دون مخالفة الآخر للعامة لأن مقتضی الحکم بحجة المشهور عدم حجیة الشاذ فلا معنی لحمله علی بیان الحکم الواقع لیحمل المشهور علی التقیة إذ لا تعبد بصدور الشاذ حینئذ .

ص :258

أقول إن المسلم إنما هو تأخر رتبة الحکم بکون الخبر صادرا لبیان الواقع أو لغیره عن الحکم بصدوره حقیقة أو تعبدا و توقف الأول علی الثانی و لکن ذلک غیر المدعی و هو توقف مرجح الأول علی مرجح الثانی فإنه لیس المسلم نفس المدعی و لا یلزمه .أما إنه لیس نفسه فواضح لما قلناه من أن المسلم هو توقف الأول علی الثانی و هو بالبدیهة غیر توقف مرجحة علی مرجحة الذی هو المدعی .و أما إنه لا یستلزمه فکذلک واضح فإنه إذا تصورنا هناک خبرین متعارضین 1 مشهورا موافقا للعامة .2 شاذا مخالفا لهم .فإن الترجیح للشاذ بالمخالفة أنما یتوقف علی حجیته الاقتضائیة الثابتة له فی نفسه لا علی فعلیه حجیته و لا علی عدم فعلیة حجیة المشهور فی قباله بل فعلیة حجیة الشاذ تنشأ من الترجیح له بالمخالفة و یترتب علیها حینئذ عدم فعلیة حجیة المشهور .و کذلک الترجیح للمشهور بالشهرة أنما یتوقف علی حجیته الاقتضائیة الثابتة له فی نفسه لا علی فعلیة حجیته و لا علی عدم فعلیة حجیة الشاذ فی قباله بل فعلیة حجیة المشهور تنشأ من الترجیح له بالشهرة و یترتب علیها حینئذ عدم فعلیة حجیة الشاذ .و علیه فکما لا یتوقف الترجیح بالشهرة علی عدم فعلیة الشاذ المقابل له کذلک لا یتوقف الترجیح بالمخالفة علی عدم فعلیة المشهور المقابل له و من ذلک یتضح أنه کما یقتضی الحکم بحجیة المشهور عدم حجیة الشاذ فلا معنی لحمله علی بیان الحکم الواقعی کذلک یقتضی الحکم بحجیة

ص :259

الشاذ عدم حجیة المشهور فلا معنی لحمله علی بیان الحکم الواقعی و لیس الأول أولی بالتقدیم من الثانی .نعم إذا دل دلیل خاص مثل المقبولة علی أولویة الشهرة بالتقدیم من المخالفة فهذا شیء آخر هو مقتضی الدلیل لا أنه مقتضی القاعدة .و النتیجة أنه لا قاعدة هناک تقتضی تقدیم أحد المرجحات علی الآخر ما عدا الشهرة التی دلت المقبولة علی تقدیمها و ما عدا ذلک فالمقدم هو الأقوی مناطا أی ما هو الأقرب إلی الواقع فی نظر المجتهد فإن لم یحصل التفاضل من هذه الجهة فالقاعدة هی التساقط لا التخییر و مع التساقط یرجع إلی الأصول العملیة التی یقتضیها المورد

ص :260

المقام الثالث فی التعدی عن المرجحات المنصوصة

لقد اختلفت أنظار الفقهاء فی وجوب الترجیح بغیر المرجحات المنصوصة علی أقوال 1 وجوب التعدی إلی کل ما یوجب الأقربیة إلی الواقع نوعا و هو القول المشهور و مال إلیه الشیخ الأعظم و جماعة من محققی أساتذتنا و زاد بعض الفقهاء الاعتبار فی الترجیح بکل مزیة و إن لم تفد الأقربیة إلی الواقع أو الصدور مثل تقدیم ما یتضمن الحظر علی ما یتضمن الإباحة .2 وجوب الاقتصار علی المرجحات المنصوصة و هو الذی یظهر من کلام الشیخ الکلینی فی مقدمة الکافی و مال إلیه الشیخ صاحب الکفایة و هو لازم طریقة الأخباریین فی الاقتصار علی نصوص الأخبار و الجمود علیها .3 التفصیل بین صفات الراوی فیجوز التعدی فیها و بین غیرها فلا یجوز .و لما کانت المبانی فی الأصل فی المتعارضین مختلفة فلا بد أن تختلف الأقوال فی هذه المسألة علی حسبها فنقول أولا إذا قلنا بأن الأصل فی المتعارضین هو التساقط و هو المختار فإن الأصل یقتضی عدم الترجیح إلا ما علم بدلیل کون شیء مرجحا و لکن هذا الدلیل هل یکفی فیه نفس حجیة الأمارة أو یحتاج إلی دلیل خاص جدید فإن قلنا إن دلیل الأمارة کاف فی الترجیح فلا شک فی اعتبار کل

ص :261

مزیة توجب الأقربیة إلی الواقع نوعا و الظاهر أن الدلیل کاف فی ذلک لا سیما إذا کان دلیلها بناء العقلاء الذی هو أقوی أدلة حجیتها فإن الظاهر أن بناءهم علی العمل بکل ما هو أقرب إلی الواقع من الخبرین المتعارضین أی أن العقلاء و أهل العرف فی مورد التعارض بین الخبرین غیر المتکافئین لا یتوقفون فی العمل بما هو أقرب إلی الواقع فی نظرهم و لا یبقون فی حیرة من ذلک و إن کانوا یعملون بالخبر الآخر المرجوح لو بقی وحده بلا معارض و إذا کان للعقلاء مثل هذا البناء العملی فإنه یستکشف منه رضا الشارع و إمضاؤه علی ما تقدم وجهه فی خبر الواحد و الظواهر .و إن قلنا إن دلیل الأمارة غیر کاف و لا بد من دلیل جدید فلا محالة یجب الاقتصار علی المرجحات المنصوصة إلا إذا استفدنا من أدلة الترجیح عموم الترجیح بکل مزیة توجب أقربیة الأمارة إلی الواقع (کما ذهب إلیه الشیخ الأعظم فإنه أکد فی الرسائل علی أن المستفاد من الأخبار أن المناط فی الترجیح هو الأقربیة إلی مطابقة الواقع فی نظر الناظر فی المتعارضین من جهة أنه أقرب من دون مدخلیة خصوصیة سبب و مزیة) و قد ناقش هذه الاستفادة صاحب الکفایة فراجع .ثانیا إذا قلنا بأن القاعدة الأولیة فی المتعارضین هو التخییر فإن الترجیح علی کل حال لا یحتاج إلی دلیل جدید فإن احتمال تعین الراجح کاف فی لزوم الترجیح لأنه یکون المورد من باب الدوران بین التعیین و التخییر و العقل یحکم بعدم جواز تقدیم المرجوح علی الراجح لا سیما فی مقامنا و ذلک لأنه بناء علی القول بالتخییر یحصل العلم بأن الراجح منجز للواقع إما تعیینا و إما تخییرا و کذلک هو معذر عند المخالفة للواقع و أما المرجوح فلا یحرز کونه معذرا و لا یکون العمل به معذرا بالفعل لو کان

ص :262

مخالفا للواقع .و علیه فیجوز الاقتصار علی العمل بالراجح بلا شک لأنه معذر قطعا علی کل حال سواء وافق الواقع أم خالفه و لا یجوز الاقتصار علی العمل بالمرجوح لعدم إحراز کونه معذرا .ثالثا إذا قلنا بأن القاعدة الثانویة الشرعیة فی المتعارضین هو التخییر کما هو المشهور و إن کانت القاعدة الأولیة العقلیة هی التساقط فلا بد أن نرجع إلی مقدار دلالة أخبار الباب فإن استفدنا منها التخییر مطلقا حتی مع وجود المرجحات فذلک دلیل علی عدم اعتبار الترجیح مطلقا بأی مرجح کان و إن استفدنا منها التخییر فی صورة تکافؤ المتعارضین فقط فلا بد من استفادة الترجیح من نفس الأخبار إما بکل مزیة أو بخصوص المزایا المنصوصة و قد عرفت أن الشیخ الأعظم یستفید منها العموم .إذا عرفت ما شرحناه فإنک تعرف أن الحق علی کل حال ما ذهب إلیه الشیخ الأعظم الذی هو مذهب المشهور و هو الترجیح بکل مزیة توجب أقربیة الأمارة إلی الواقع نوعا و ذلک بناء علی المختار من أن القاعدة هی التساقط فإنها مخصوصة بما إذا کان المتعارضان متکافئین و أما ما فیه المزیة الموجبة لأقربیة الأمارة إلی الواقع فی نظر الناظر فإن بناء العقلاء مستقر علی العمل بذی المزیة الموجبة للأقربیة إلی الواقع کما تقدم و لا نحتاج بناء علی هذا إلی استفادة عموم الترجیح من الأخبار و إن کان الحق أن

ص :263

الأخبار تشعر بذلک فهی تؤید ما نقول و لا حاجة إلی التطویل فی بیان وجه الاستفادة منها .هذا آخر ما أردنا بیانه فی مسألة التعادل و التراجیح و بقیت هناک أبحاث کثیرة فی هذه المسألة نحیل الطالب فیها إلی المطولات و الحمد لله رب العالمین

ص :264

الجزء الرابع

اشارة

ص :265

ص :266

المقصد الرابع مباحث الأصول العملیة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

تمهید

لا شک فی أن کل متشرع یعلم علما إجمالیا بأن لله تعالی أحکاما إلزامیة من نحو الوجوب و الحرمة یجب علی المکلفین امتثالها یشترک فیها العالم و الجاهل بها .و هذا العلم الإجمالی منجز لتلک التکالیف الإلزامیة الواقعیة فیجب علی المکلف بمقتضی حکم العقل بوجوب تفریغ الذمة مما علم اشتغالها به من تلک التکالیف أن یسعی إلی تحصیل المعرفة بها بالطرق المؤمنة له التی یعلم بفراغ ذمته باتباعها .و من أجل هذا نذهب إلی القول بوجوب المعرفة و بوجوب الفحص من الأدلة و الحجج المثبتة لتلک الأحکام حتی یستفرغ المکلف وسعه فی البحث و یستنفد مجهوده الممکن له (1).

ص :267


1- لو فرض أن مکلفا لا یسعه فحص أدلة الاحکام لسبب ما، ولو من جهة لزوم العسر والحرج - فانه یجوز له أن یقلد من یطمئن إلیه من المجتهدین الذی تم له فحص الادلة وتحصیل الحجة، وذلک بمقتضی ادلة جواز التقلید ورجوع الجاهل إلی العالم، کما یجوز له أن یعمل بالاحتیاط فی جمیع الموارد المحتملة للتکلیف والتی یمکن فیها الاحتیاط علی النحو الذی یأتی بیانه فی موقعه ومن هنا قسموا علیه المکلف إلی مجتهد ومقلد ومحتاط. ونحن غرضنا من هذا المقصد انما هو البحث عن وظیفة المجتهد فقط. وهو المناسب لعلم الاصول

و حینئذ إذا فحص المکلف و تمت له إقامة الحجة علی جمیع الموارد المحتملة کلها فذاک هو کل المطلوب و هو أقصی ما یرمی إلیه المجتهد الباحث و یطلب منه و لکن هذا فرض لم یتفق حصوله لواحد من المجتهدین بأن تحصل له الأدلة علی الأحکام الإلزامیة کلها لعدم توفر الأدلة علی الجمیع .و أما إذا فحص و لم تتم له إقامة الحجة إلا علی جملة من الموارد و بقیت لدیه موارد أخری یحتمل فیها ثبوت التکلیف و یتعذر فیها إقامة الحجة لأی سبب کان (1)فإن المکلف یقع لا محالة فی حالة من الشک تجعله فی حیرة من أمر تکلیفه .فما ذا تراه صانعا هل هناک حکم عقلی یرکن إلیه و یطمئن بالرجوع إلی مقتضاه أو أن الشارع قد راعی هذه الحالة للمکلف لعلمه بوقوعه فیها فجعل له وظائف عملیة یرجع إلیها عند الحاجة و یعمل بها لتطمینه من الوقوع فی العقاب .

ص :268


1- ان تعذر اقامة الحجة قد یحصل من جهة فقدان الدلیل، وقد یحصل من جهة اجماله، وقد یحصل من جهة تعارض الدلیلین وتعادلهما من دون مرجح لاحدهما علی الآخر.

هذه أسئلة یجب الجواب عنها .و هذا المقصد الرابع وضع للجواب عنها لیحصل للمکلف الیقین بوظیفته التی یجب علیه أن یعمل بها عند الشک و الحیرة .و هذه الوظیفة أو الوظائف هی التی تسمی عند الأصولیین بالأصل العملی أو القاعدة الأصولیة أو الدلیل الفقاهتی .و قد اتضح لدی الأصولیین أن الوظیفة الجاریة فی جمیع أبواب الفقه من غیر اختصاص بباب دون باب هی علی أربعة أنواع 1 أصالة البراءة .2 أصالة الاحتیاط .3 أصالة التخییر .4 أصالة الاستصحاب .و من جمیع ما تقدم یتضح لنا أولا أن موضوع هذا المقصد الرابع هو الشک بالحکم (1).ثانیا أن هذه الأصول الأربعة مأخوذ فی موضوعها الشک بالحکم أیضا .ثم اعلم أن الحصر فی هذه الأصول الأربعة حصر استقرائی لأنها هی

ص :269


1- المقصود بالشک ما هو أعم من الشک الحقیقی (وهو تساوی الطرفین) ومن الظن غیر المعتبر، نظرا إلی أن حکمه حکم الشک، بل باعتبار آخر یدخل الظن غیر المعتبر فی الشک حقیقة، من ناحیة أنه لا یرفع حیرة المکلف باتباعه فیبقی العامل به شاکا فی فراغ ذمته.

التی وجدوا أنها تجری فی جمیع أبواب الفقه و لذا یمکن فرض أصول أخری غیرها و لو فی أبواب خاصة من الفقه و بالفعل هناک جملة من الأصول فی الموارد الخاصة یرجع إلیها الشاک فی الحکم مثل أصالة الطهارة الجاری فی مورد الشک بالطهارة فی الشبهة الحکمیة و الموضوعیة .و إنما تعددت هذه الأصول الأربعة فلتعدد مجاریها أی مواردها التی تختلف باختلاف حالات الشک إذ لکل أصل منها حالة من الشک هی مجراه علی وجه لا یجری فیها غیره من باقی الأصول .غیر أنه مما یجب علمه أن مجاری هذه الأصول لا تعرف کما لا یعرف أن مجری هذه الحالة هو مجری هذا الأصل مثلا إلا من طریق أدلة جریان هذه الأصول و اعتبارها و فی بعضها اختلاف باختلاف الأقوال فیها .و قد ذکر مشایخ الأصول علی سبیل الفهرس فی مجاریها وجوها مختلفة لا یخلو بعضها من نقد و ملاحظات و أحسنها فیما یبدو ما أفاده شیخنا النائینی أعلی الله مقامه .و خلاصته أن الشک علی نحوین 1 أن تکون للمشکوک حالة سابقة و قد لاحظها الشارع أی قد اعتبرها و هذا هو مجری الاستصحاب .2 ألا تکون له حالة سابقة أو کانت و لکن لم یلاحظها الشارع و هذه الحالة لا تخلو عن إحدی صور ثلاث أ أن یکون التکلیف مجهولا مطلقا أی لم یعلم حتی بجنسه و هذه هی مجری أصالة البراءة .ب أن یکون التکلیف معلوما فی الجملة مع إمکان الاحتیاط و هذه

ص :270

مجری أصالة الاحتیاط .ج أن یکون التکلیف معلوما کذلک و لا یمکن الاحتیاط و هذه مجری قاعدة التخییر .و قبل الکلام فی کل واحدة من هذه الأصول لا بد من بیان أمور من باب المقدمة تنویرا للأذهان .و هی الأول أن الشک فی الشیء ینقسم باعتبار الحکم المأخوذ فیه علی نحوین 1 أن یکون مأخوذا موضوعا للحکم الواقعی کالشک فی عدد رکعات الصلاة فإنه قد یوجب فی بعض الحالات تبدل الحکم الواقعی إلی الرکعات المنفصلة .2 أن یکون مأخوذا موضوعا للحکم الظاهری و هذا النحو هو المقصود بالبحث فی المقام و أما النحو الأول فهو یدخل فی مسائل الفقه .الثانی أن الشک فی الشیء ینقسم باعتبار متعلقه أی الشیء المشکوک فیه علی نحوین 1 أن یکون المتعلق موضوعا خارجیا کالشک فی طهارة ماء معین أو فی أن هذا المائع المعین خل أو خمر و تسمی الشبهة حینئذ موضوعیة .2 أن یکون المتعلق حکما کلیا کالشک فی حرمة التدخین أو أنه من المفطرات للصوم أو نجاسة العصیر العنبی إذا غلا قبل ذهاب ثلثیه و تسمی الشبهة حینئذ حکمیة .و الشبهة الحکمیة هی المقصودة بالبحث فی هذا المقصد الرابع و إذا جاء التعرض لحکم الشبهات الموضوعیة فإنما هو استطرادی قد تقتضیه

ص :271

طبیعة البحث باعتبار أن هذه الأصول فی طبیعتها تعم الشبهات الحکمیة و الموضوعیة فی جریانها و إلا فالبحث عن حکم الشک فی الشبهة الموضوعیة من مسائل الفقه .الثالث أنه قد علم مما تقدم فی صدر التنبیه أن الرجوع إلی الأصول العملیة أنما یصح بعد الفحص و الیأس من الظفر بالأمارة علی الحکم الشرعی فی مورد الشبهة و منه یعلم أنه مع الأمل و وجود المجال للفحص لا وجه لإجراء الأصول و الاکتفاء بها فی مقام العمل بل اللازم أن یفحص حتی ییأس لأن ذلک هو مقتضی وجوب المعرفة و التعلم فلا معذر عن التکلیف الواقعی لو وقع فی مخالفته بالعمل بالأصل لا سیما مثل أصل البراءة

ص :272

الاستصحاب

اشارة

ص :273

ص :274

تعریفه

إذا تیقن المکلف بحکم أو بموضوع ذی حکم ثم تزلزل یقینه السابق بأن شک فی بقاء ما کان قد تیقن به سابقا فإنه بمقتضی ذهاب یقینه السابق یقع المکلف فی حیرة من أمره فی مقام العمل هل یعمل علی وفق ما کان متیقنا به و لکنه ربما زال ذلک المتیقن فیقع فی مخالفة الواقع أو لا یعمل علی وفقه فینقضی ذلک الیقین بسبب ما عراه من الشک و یتحلل مما تیقن به سابقا و لکنه ربما کان المتیقن باقیا علی حاله لم یزل فیقع فی مخالفة الواقع إذن ما ذا تراه صانعا .لا شک أن هذه الحیرة طبیعیة للمکلف الشاک فتحتاج إلی ما یرفعها من مستند شرعی فإن ثبت بالدلیل أن القاعدة هی أن یعمل علی وفق الیقین السابق وجب الأخذ بها و یکون معذورا لو وقع فی المخالفة و إلا فلا بد أن یرجع إلی مستند یطمئنه من التحلل مما تیقن به سابقا و لو مثل أصل البراءة أو الاحتیاط .و قد ثبت لدی الکثیر من الأصولیین أن القاعدة فی ذلک أن یأخذ بالمتیقن السابق عند الشک اللاحق فی بقائه علی اختلاف أقوالهم فی شروط جریان هذه القاعدة و حدودها علی ما سیأتی .

ص :275

و سموا هذه القاعدة بالاستصحاب .و کلمة الاستصحاب مأخوذة فی أصل اشتقاقها من کلمة الصحبة من باب الاستفعال فتقول استصحبت هذا الشخص أی اتخذته صاحبا مرافقا لک و تقول استصحبت هذا الشیء أی حملته معک .و إنما صح إطلاق هذه الکلمة علی هذه القاعدة فی اصطلاح الأصولیین فباعتبار أن العامل بها یتخذ ما تیقن به سابقا صحیبا له إلی الزمان اللاحق فی مقام العمل .و علیه فکما یصح أن تطلق کلمة الاستصحاب علی نفس الإبقاء العملی من الشخص المکلف العامل کذلک یصح إطلاقها علی نفس القاعدة لهذا الإبقاء العملی لأن القاعدة فی الحقیقة إبقاء و استصحاب من الشارع حکما .إذا عرفت ذلک فینبغی أن یجعل التعریف لهذه القاعدة المجعولة لا لنفس الإبقاء العملی من المکلف العامل بالقاعدة لأن المکلف یقال له عامل بالاستصحاب و مجر له و إن صح أن یقال له إنه استصحب کما یقال له أجری الاستصحاب .و علی کل فموضوع البحث هنا هو هذه القاعدة العامة و المقصود بالبحث إثباتها و إقامة الدلیل علیها و بیان مدی حدود العمل بها فلا وجه لجعل التعریف لذات الإبقاء العملی الذی هو فعل العامل بالقاعدة کما صنع بعضهم فوقع فی حیرة من توجیه التعریفات .و إلی تعریف القاعدة نظر من عرف الاستصحاب (بأنه إبقاء ما کان) فإن القاعدة فی الحقیقة معناها إبقاؤه حکما و کذلک من عرفه(بأنه

ص :276

الحکم ببقاء ما کان) و لذا(قال الشیخ الأنصاری عن ذلک التعریف و المراد بالإبقاء الحکم بالبقاء بعد أن قال إنه أسد التعاریف و أخصرها) .و لقد أحسن و أجاد فی تفسیر الإبقاء بالحکم بالبقاء لیدلنا علی أن المراد من الإبقاء الإبقاء حکما الذی هو القاعدة لا الإبقاء عملا الذی هو فعل العامل بها .و قد اعترض علی هذا التعریف الذی استحسنه الشیخ بعده أمور نذکر أهمها و نجیب عنها منها لا جامع للاستصحاب بحسب المشارب فیه من جهة المبانی الثلاثة الآتیة فی حجیته و هی الأخبار و بناء العقلاء و حکم العقل .فلا یصح أن یعبر عنه بالإبقاء علی جمیع هذه المبانی و ذلک لأن المراد منه إن کان الإبقاء العملی من المکلف فلیس بهذا المعنی موردا لحکم العقل لأن المراد من حکم العقل هنا إذعانه کما سیأتی و إذعانه أنما هو ببقاء الحکم لا بإبقائه العملی من المکلف و إن کان المراد منه الإبقاء غیر المنسوب إلی المکلف فمن الواضح أنه لا جهة جامعة بین الإلزام الشرعی الذی هو متعلق بالإبقاء و بین البناء العقلائی و الإدراک العقلی .و الجواب یظهر مما سبق فإن المراد من الاستصحاب هو القاعدة فی العمل المجعولة من قبل الشارع و هی قاعدة واحدة فی معناها علی جمیع المبانی غایة الأمر أن الدلیل علیها تارة یکون الأخبار و أخری بناء العقلاء و ثالثة إذعان العقل الذی یستکشف منه حکم الشرع .و منها أن التعریف المذکور لا یتکفل ببیان أرکان الاستصحاب

ص :277

من نحو الیقین السابق و الشک اللاحق .و الجواب أن التعبیر بإبقاء ما کان مشعر بالرکنین معا أما الأول و هو الیقین السابق فیفهم من کلمة ما کان لأنه(کما أفاده الشیخ الأنصاری دخل الوصف فی الموضوع مشعر بعلیته للحکم فعلة الإبقاء أنه کان فیخرج من التعریف إبقاء الحکم لأجل وجود علته أو دلیله) .و حینئذ لا یفرض أنه کان إلا إذا کان متیقنا و أما الثانی و هو الشک اللاحق فیفهم من کلمة الإبقاء الذی معناه الإبقاء حکما و تنزیلا و تعبدا و لا یکون الحکم التعبدی التنزیلی إلا فی مورد مفروض فیه الشک بالواقع الحقیقی بل مع عدم الشک بالبقاء لا معنی لفرض الإبقاء و إنما یکون بقاء للحکم و یکون أیضا عملا بالحاضر لا بما کان

مقومات الاستصحاب

بعد أن أشرنا إلی أن لقاعدة الاستصحاب أرکانا نقول تعقیبا علی ذلک إن هذه القاعدة تتقوم بعده أمور إذا لم تتوفر فیها فإما ألا تسمی استصحابا أو لا تکون مشمولة لأدلته الآتیة و یمکن أن ترتقی هذه المقومات إلی سبعة أمور حسبما تقتنص من کلمات الباحثین 1 الیقین و المقصود به الیقین بالحالة السابقة سواء کانت حکما شرعیا أو موضوعا ذا حکم شرعی و قد قلنا سابقا إن ذلک رکن فی الاستصحاب لأن المفهوم من الأخبار الدالة علیه بل من معناه أن یثبت یقین بالحالة السابقة و أن لثبوت هذا الیقین علیه فی القاعدة و لا فرق فی ذلک بین أن نقول بأن اعتبار سبق الیقین من جهة کونه صفة قائمة بالنفس و بین أن نقول بذلک من جهة کونه طریقا و کاشفا و سیأتی بیان وجه الحق من القولین .

ص :278

2 الشک و المقصود منه الشک فی بقاء المتیقن و قد قلنا سابقا إنه رکن فی الاستصحاب لأنه لا معنی لفرض هذه القاعدة و لا للحاجة إلیها مع فرض بقاء الیقین أو تبدله بیقین آخر و لا یصح أن تجری إلا فی فرض الشک ببقاء ما کان متیقنا فالشک مفروغ عنه فی فرض جریان قاعدة الاستصحاب فلا بد أن یکون مأخوذا فی موضوعها .و لکن ینبغی ألا یخفی أن المقصود من الشک ما هو أعم من الشک بمعناه الحقیقی أی تساوی الاحتمالین و من الظن غیر المعتبر فیکون المراد منه عدم العلم و العلمی مطلقا و سیأتی الإشارة إلی سر ذلک .3 اجتماع الیقین و الشک فی زمان واحد بمعنی أن یتفق فی آن واحد حصول الیقین و الشک لا بمعنی أن مبدأ حدوثهما یکون فی آن واحد بل قد یکون مبدأ حدوث الیقین قبل حدوث الشک کما هو المتعارف فی أمثلة الاستصحاب و قد یکونان متقارنین حدوثا کما لو علم یوم الجمعة مثلا بطهارة ثوبه یوم الخمیس و فی نفس یوم الجمعة فی آن حصول العلم حصل له الشک فی بقاء الطهارة السابقة إلی یوم الجمعة و قد یکون مبدأ حدوث الیقین متأخرا عن حدوث الشک کما لو حدث الشک یوم الجمعة فی طهارة ثوبه و استمر الشک إلی یوم السبت ثم حدث له یقین یوم السبت فی أن الثوب کان طاهرا یوم الخمیس فإن کل هذه الفروض هی مجری للاستصحاب .و الوجه فی اعتبار اجتماع الیقین و الشک فی الزمان واضح لأن ذلک هو المقوم لحقیقة الاستصحاب الذی هو إبقاء ما کان إذ لو لم یجتمع الیقین السابق مع الشک اللاحق زمانا فإنه لا یفرض ذلک إلا فیما إذا تبدل الیقین بالشک و سری الشک إلیه فلا یکون العمل بالیقین إبقاء لما کان بل

ص :279

هذا مورد قاعدة الیقین المباینة فی حقیقتها لقاعدة الاستصحاب و ستأتی الإشارة إلیها .4 تعدد زمان المتیقن و المشکوک و یشعر بهذا الشرط نفس الشرط الثالث المتقدم لأنه مع فرض وحدة زمان الیقین و الشک یستحیل فرض اتحاد زمان المتیقن و المشکوک مع کون المتیقن نفس المشکوک کما سیأتی اشتراط ذلک فی الاستصحاب أیضا و ذلک لأن معناه اجتماع الیقین و الشک بشیء واحد و هو محال و الحقیقة أن وحدة زمان صفتی الیقین و الشک بشیء واحد یستلزم تعدد زمان متعلقهما و بالعکس أی أن وحدة زمان متعلقهما یستلزم تعدد زمان الصفتین .و علیه فلا یفرض الاستصحاب إلا فی مورد اتحاد زمان الیقین و الشک مع تعدد زمان متعلقهما و أما فی فرض العکس بأن یتعدد زمانهما مع اتحاد زمان متعلقهما بأن یکون فی الزمان اللاحق شاکا فی نفس ما تیقنه سابقا بوصف وجوده السابق فإن هذا هو مورد ما یسمی بقاعدة الیقین و العمل بالیقین لا یکون إبقاء لما کان مثلا إذا تیقن بحیاة شخص یوم الجمعة ثم شک یوم السبت بنفس حیاته یوم الجمعة بأن سری الشک إلی یوم الجمعة أی أنه تبدل یقینه السابق إلی الشک فإن العمل علی الیقین لا یکون إبقاء لما کان لأنه حینئذ لم یحرز ما کان تیقن به أنه کان و من أجل هذا عبروا عن مورد قاعدة الیقین بالشک الساری .و هذا هو الفرق الأساسی بین القاعدتین و سیأتی أن أخبار الاستصحاب لا تشملها و لا دلیل علیها غیرها .5 وحدة متعلق الیقین و الشک أی إن الشک یتعلق بنفس ما

ص :280

تعلق به الیقین مع قطع النظر عن اعتبار الزمان و هذا هو المقوم لمعنی الاستصحاب الذی حقیقته إبقاء ما کان .و بهذا تفترق قاعدة الاستصحاب عن قاعدة المقتضی و المانع التی موردها ما لو حصل الیقین بالمقتضی و الشک فی الرافع أی المانع فی تأثیره فیکون المشکوک فیها غیر المتیقن فإن من یذهب إلی صحة هذه القاعدة یقول إنه یجب البناء علی تحقق المقتضی بالفتح إذا تیقن بوجود المقتضی بالکسر و یکفی ذلک بلا حاجة إلی إحراز عدم المانع من تأثیره أی إن مجرد إحراز المقتضی کاف فی ترتیب آثار مقتضاه و سیأتی الکلام إن شاء الله تعالی فیها .6 سبق زمان المتیقن علی زمان المشکوک أی إنه یجب أن یتعلق الشک فی بقاء ما هو متیقن الوجود سابقا و هذا هو الظاهر من معنی الاستصحاب فلو انعکس الأمر بأن کان زمان المتیقن متأخرا عن زمان المشکوک بأن یشک فی مبدإ حدوث ما هو متیقن الوجود فی الزمان الحاضر فإن هذا یرجع إلی الاستصحاب القهقری الذی لا دلیل علیه .مثاله ما لو علم بأن صیغة افعل حقیقة فی الوجوب فی لغتنا الفعلیة الحاضرة و شک فی مبدإ حدوث وضعها لهذا المعنی هل کان فی أصل وضع لغة العرب أو إنها نقلت عن معناها الأصلی إلی هذا المعنی فی العصور الإسلامیة فإنه یقال هنا إن الأصل عدم النقل لغرض إثبات أنها موضوعة لهذا المعنی فی أصل اللغة و معنی ذلک فی الحقیقة جر الیقین اللاحق إلی الزمن المتقدم و مثل هذا الاستصحاب یحتاج إلی دلیل خاص و لا تکفی فیه أخبار الاستصحاب و لا أدلته الأخری لأنه لیس من باب عدم نقض الیقین بالشک بل یرجع أمره إلی نقض الشک المتقدم بالیقین

ص :281

المتأخر .7 فعلیة الشک و الیقین بمعنی أنه لا یکفی الشک التقدیری و لا الیقین التقدیری و اعتبار هذا الشرط لا من أجل أن الاستصحاب لا یتحقق معناه إلا بفرضه بل لأن ذلک مقتضی ظهور لفظ الشک و الیقین فی أخبار الاستصحاب فإنهما ظاهران فی کونهما فعلیین کسائر الألفاظ فی ظهورها فی فعلیة عناوینها .و إنما یعتبر هذا الشرط فی قبال من یتوهم جریان الاستصحاب فی مورد الشک التقدیری و مثاله کما ذکره بعضهم ما لو تیقن المکلف بالحدث ثم غفل عن حاله و صلی ثم بعد الفراغ من الصلاة شک فی أنه هل تطهر قبل الدخول فی الصلاة فإن مقتضی قاعدة الفراغ صحة صلاته لحدوث الشک بعد الفراغ من العمل و عدم وجود الشک قبله و لا نقول بجریان استصحاب الحدث إلی حین الصلاة لعدم فعلیة الشک إلا بعد الصلاة و أما الاستصحاب الجاری بعد الصلاة فهو محکوم لقاعدة الفراغ أما لو قلنا بجریان الاستصحاب مع الشک التقدیری و کان یقدر فیه الشک فی الحدث لو أنه التفت قبل الصلاة فإن المصلی حینئذ یکون بمنزلة من دخل فی الصلاة و هو غیر متطهر یقینا فلا تصح صلاته و إن کان غافلا حین الصلاة و لا تصححها قاعدة الفراغ لأنها لا تکون حاکمة علی الاستصحاب الجاری قبل الدخول فی الصلاة

معنی حجیة الاستصحاب

من جملة المناقشات فی تعریف الاستصحاب المتقدم و هو إبقاء ما کان و نحوه ما قاله بعضهم (أنه لا شک فی صحة توصیف الاستصحاب بالحجیة مع أنه لو أرید منه ما یؤدی معنی الإبقاء لا یصح وصفه

ص :282

بالحجة لأنه إن أرید منه الإبقاء العملی المنسوب إلی المکلف فواضح عدم صحة توصیفه بالحجة لأنه لیس الإبقاء العملی یصح أن یکون دلیلا علی شیء و حجة فیه و إن أرید منه الإلزام الشرعی فإنه مدلول الدلیل لا أنه دلیل علی نفسه و حجة علی نفسه و کیف یکون دلیلا علی نفسه و حجة علی نفسه فهو من هذه الجهة شأنه شأن الأحکام التکلیفیة المدلولة للأدلة) .قلت نستطیع حل هذه الشبهة بالرجوع إلی ما ذکرناه من معنی الإبقاء الذی هو مؤدی الاستصحاب و هو أن المراد به القاعدة الشرعیة المجعولة فی مقام العمل فلیس المراد منه الإبقاء العملی المنسوب إلی المکلف و لا الإلزام الشرعی فیصح توصیفه بالحجة و لکن لا بمعنی الحجة فی باب الأمارات بل بالمعنی اللغوی لها لأنه لا معنی لکون قاعدة العمل دلیلا علی شیء مثبتة له بل هی الأمر المجعول من قبل الشارع فتحتاج إلی إثبات و دلیل کسائر الأحکام التکلیفیة من هذه الجهة و لکنه نظرا إلی أن العمل علی وفقها عند الجهل بالواقع یکون معذرا للمکلف إذا وقع فی مخالفة الواقع کما أنه یصح الاحتجاج بها علی المکلف إذا لم یعمل علی وفقها فوقع فی المخالفة صح أن توصف بکونها حجة بالمعنی اللغوی و بهذه الجهة یصح التوصیف بالحجة سائر الأصول العملیة و القواعد الفقهیة المجعولة للشاک الجاهل بالواقع فإنها کلها توصف بالحجة فی تعبیراتهم و لا شک فی أنه لا معنی لأن یراد منها الحجة فی باب الأمارات فیتعین أن یراد منها هذا المعنی اللغوی من الحجة .و بهذه الجهة تفترق القواعد و الأصول الموضوعة للشاک عن سائر الأحکام التکلیفیة فإنها لا یصح توصیفها بالحجة مطلقا حتی بالمعنی اللغوی .

ص :283

غیر أنه یجب ألا یغیب عن البال أن توصیف القواعد و الأصول الموضوعة للشاک بالحجة یتوقف علی ثبوت مجعولیتها من قبل الشارع بالدلیل الدال علیها فالحجة فی الحقیقة هی القاعدة المجعولة للشاک بما أنها مجعولة من قبله و إلا إذا لم تثبت مجعولیتها لا یصح أن تسمی قاعدة فضلا عن توصیفها بالحجة .و علیه فیکون المقوم لحجیة القاعدة المجعولة للشاک أیة قاعدة کانت هو الدلیل الدال علیها الذی هو حجة بالمعنی الاصطلاحی .و إذا ثبت صحة توصیف نفس قاعدة الاستصحاب بالحجة بالمعنی اللغوی لم تبق حاجة إلی التأویل لتصحیح توصیف الاستصحاب بالحجة کما صنع بعض مشایخنا طیب الله ثراه إذ جعل الموصوف بالحجة فیه علی اختلاف المبانی أحد أمور ثلاثة 1 الیقین السابق باعتبار أنه یکون منجزا للحکم حدوثا عقلا و الحکم بقاء بجعل الشارع .2 الظن بالبقاء اللاحق بناء علی اعتبار الاستصحاب من باب حکم العقل .3 مجرد الکون السابق فإن الوجود السابق یکون حجة فی نظر العقلاء علی الوجود الظاهری فی اللاحق لا من جهة وثاقة الیقین السابق و لا من جهة رعایة الظن بالبقاء اللاحق بل من جهة الاهتمام بالمقتضیات و التحفظ علی الأغراض الواقعیة .فإن کل هذه التأویلات أنما نلتجئ إلیها إذا عجزنا عن تصحیح توصیف نفس الاستصحاب بالحجة و قد عرفت صحة توصیفه بالحجة بمعناها اللغوی ثم لا شک فی أن الموصوف بالحجة فی لسان الأصولیین

ص :284

نفس الاستصحاب لا الیقین المقوم لتحققه و لا الظن بالبقاء و لا مجرد الکون السابق و إن کان ذلک کله مما یصح توصیفه بالحجة .

هل الاستصحاب أمارة أو أصل

بعد أن تقدم أنه لا یصح توصیف قاعدة العمل للشاک أیة قاعدة کانت بالحجة فی باب الأمارات یتضح لک أنه لا یصح توصیفها بالأمارة فإنه تکون أمارة علی أی شیء و علی أی حکم و لا فرق فی ذلک بین قاعدة الاستصحاب و بین غیرها من الأصول العملیة و القواعد الفقهیة .إذ إن قاعدة الاستصحاب فی الحقیقة مضمونها حکم عام و أصل عملی یرجع إلیها المکلف عند الشک و الحیرة ببقاء ما کان و لا یفرق فی ذلک بین أن یکون الدلیل علیها الأخبار أو غیرها من الأدلة کبناء العقلاء و حکم العقل و الإجماع .و لکن الشیخ الأنصاری أعلی الله مقامه فرق فی الاستصحاب بین أن یکون مبناه الأخبار فیکون أصلا و بین أن یکون مبناه حکم العقل فیکون أمارة (قال ما نصه أن عد الاستصحاب من الأحکام الظاهریة الثابتة للشیء بوصف کونه مشکوک الحکم نظیر أصل البراءة و قاعدة الاشتغال مبنی علی استفادته من الأخبار و أما بناء علی کونه من أحکام العقل فهو دلیل ظنی اجتهادی نظیر القیاس و الاستقراء علی القول بهما) .أقول و کأن من تأخر عنه أخذ هذا الرأی إرسال المسلمات و الذی یظهر من القدماء أنه معدود عندهم من الأمارات کالقیاس إذ لا مستند لهم علیه إلا حکم العقل غیر أن الذی یبدو لی أن الاستصحاب حتی علی القول بأن مستنده حکم العقل لا یخرج عن کونه قاعدة عملیة لیس

ص :285

مضمونها إلا حکما ظاهریا مجعولا للشاک و أما الظن ببقاء المتیقن علی تقدیر حکم العقل و علی تقدیر حجیة مثل هذا الظن لا یکون إلا مستندا للقاعدة و دلیلا علیها و شأنه فی ذلک شأن الأخبار و بناء العقلاء لا أن الظن هو نفس القاعدة حتی تکون أمارة لأن هذا الظن نستنتج منه أن الشارع جعل هذه القاعدة الاستصحابیة لأجل العمل بها عند الشک و الحیرة .و الحاصل أن هذا الظن یکون مستندا للاستصحاب لا أنه نفس الاستصحاب و هو من هذه الجهة کالأخبار و بناء العقلاء فکما أن الأخبار یصح أن توصف بأنها أمارة علی الاستصحاب إذا قام الدلیل القطعی علی اعتبارها و لا یلزم من ذلک أن یکون نفس الاستصحاب أمارة کذلک یصح أن یوصف هذا الظن بأنه أمارة إذا قام الدلیل القطعی علی اعتباره و لا یلزم منه أن یکون نفس الاستصحاب أمارة .فاتضح أنه لا یصح توصیف الاستصحاب بأنه أمارة علی جمیع المبانی فیه و أنما هو أصل عملی لا غیر

الأقوال فی الاستصحاب

قد تشعب فی الاستصحاب أقوال العلماء تشعبات یصعب حصرها علی ما یبدو و نحن نحیل خلاصتها إلی ما جاء فی رسائل الشیخ الأنصاری ثقة بتحقیقه و هو خریت هذه الصناعة الصبور علی ملاحقة أقوال العلماء و تتبعها (قال رحمه الله بعد أن توسع فی نقل الأقوال و التعقیب علیها ما نصه هذه جملة ما حضرنی من کلمات الأصحاب و المتحصل منها فی بادی النظر أحد عشر قولا 1 القول بالحجیة مطلقا (1).

ص :286


1- ذهب إلی القول من المتأخرین الشیخ الآخند صاحب الکفایة ره.

2 عدمها مطلقا .3 التفصیل بین العدمی و الوجودی .4 التفصیل بین الأمور الخارجیة و بین الحکم الشرعی مطلقا فلا یعتبر فی الأول .5 التفصیل بین الحکم الشرعی الکلی و غیره فلا یعتبر فی الأول إلا فی عدم النسخ .6 التفصیل بین الحکم الجزئی و غیره فلا یعتبر فی غیر الأول .و هذا هو الذی ربما یستظهر من کلام المحقق الخونساری فی حاشیة شرح الدروس علی ما حکاه السید فی شرح الوافیة .7 التفصیل بین الأحکام الوضعیة یعنی نفس الأسباب و الشروط و الموانع و الأحکام التکلیفیة التابعة لها و بین غیرها من الأحکام الشرعیة فتجری فی الأول دون الثانی .8 التفصیل بین ما ثبت بالإجماع و غیره فلا یعتبر فی الأول .9 التفصیل بین کون المستصحب مما ثبت بدلیله أو من الخارج استمراره فشک فی الغایة الرافعة له و بین غیره فیعتبر فی الأول دون الثانی کما هو ظاهر المعارج .10 هذا التفصیل مع اختصاص الشک بوجود الغایة کما هو الظاهر من المحقق السبزواری .11 زیادة الشک فی مصداق الغایة من جهة الاشتباه المصداقی دون المفهومی کما هو ظاهر ما سیجیء من المحقق الخونساری .ثم إنه لو بنی علی ملاحظة ظواهر کلمات من تعرض لهذه المسألة فی الأصول و الفروع لزادت الأقوال علی العدد المذکور بکثیر بل یحصل

ص :287

لعالم واحد قولان أو أزید فی المسألة إلا أن صرف الوقت فی هذا مما لا ینبغی .و الأقوی هو القول التاسع و هو الذی اختاره المحقق انتهی ما أردنا نقله من عبارة الشیخ الأعظم) .و ینبغی أن یزاد تفصیل آخر لم یتعرض له فی نقل الأقوال و هو رأی خاص به إذ فصل بین کون المستصحب مما ثبت بدلیل عقلی فلا یجری فیه الاستصحاب و بین ما ثبت بدلیل آخر فیجری فیه و لعله إنما لم یذکره فی ضمن الأقوال لأنه یری أن الحکم الثابت بدلیل عقلی لا یمکن أن یتطرق إلیه الشک بل إما أن یعلم بقاؤه أو یعلم زواله فلا یتحقق فیه رکن الاستصحاب و هو الشک فلا یکون ذلک تفصیلا فی حجیة الاستصحاب .و قبل أن ندخل فی مناقشة الأقوال و الترجیح بینها ینبغی أن نذکر الأدلة علی الاستصحاب التی تمسک بها القائلون بحجیته لنناقشها و نذکر مدی دلالتها

ص :288

أدلة الاستصحاب
الدلیل الأول بناء العقلاء

لا شک فی أن العقلاء من الناس علی اختلاف مشاربهم و أذواقهم جرت سیرتهم فی عملهم و تبانوا فی سلوکهم العملی علی الأخذ بالمتیقن السابق عند الشک اللاحق فی بقائه و علی ذلک قامت معایش العباد و لو لا ذلک لاختل النظام الاجتماعی و لما قامت لهم سوق و تجارة .و قیل إن ذلک مرتکز حتی فی نفوس الحیوانات فالطیور ترجع إلی أوکارها و الماشیة تعود إلی مرابضها و لکن هذا التعمیم للحیوانات محل نظر بل ینبغی أن یعد من المهازل لعدم حصول الاحتمال عندها حتی یکون ذلک منها استصحابا بل تجری فی ذلک علی وفق عادتها بنحو لا شعوری .و علی کل حال فإن بناء العقلاء فی عملهم مستقر علی الأخذ بالحالة السابقة عند الشک فی بقائها فی جمیع أحوالهم و شئونهم مع الالتفات إلی ذلک و التوجه إلیه .و إذا ثبتت هذه المقدمة ننتقل إلی مقدمة أخری فنقول إن الشارع من العقلاء بل رئیسهم فهو متحد المسلک معهم فإذا لم یظهر منه الردع عن طریقتهم العملیة یثبت علی سبیل القطع أنه لیس له مسلک آخر غیر مسلکهم و إلا لظهر و بان و لبلغه الناس و قد تقدم مثل ذلک فی حجیة خبر الواحد .و هذا الدلیل کما تری یتکون من مقدمتین قطعیتین

ص :289

1 ثبوت بناء العقلاء علی إجراء الاستصحاب .2 کشف هذا البناء عن موافقة الشارع و اشتراکه معهم .و قد وقعت المناقشة فی المقدمتین معا و یکفی فی المناقشة ثبوت الاحتمال فیبطل به الاستدلال لأن مثل هذه المقدمات یجب أن تکون قطعیة و إلا فلا یثبت بها المطلوب و لا تقوم بها للاستصحاب و نحوه حجة .أما الأولی (فقد ناقش فیها أستاذنا الشیخ النائینی رحمه الله بأن بناء العقلاء لم یثبت إلا فیما إذا کان الشک فی الرافع أما إذا کان الشک فی المقتضی فلم یثبت منهم هذا البناء علی ما سیأتی من معنی المقتضی و الرافع اللذین یقصدهما الشیخ الأنصاری فیکون بناء العقلاء هذا دلیلا علی التفصیل المختار له و هو القول التاسع) .و لا یبعد صحة ما أفاده من التفصیل فی بناء العقلاء بل یکفی احتمال اختصاص بنائهم بالشک فی الرافع و مع الاحتمال یبطل الاستدلال کما سبق و أما المقدمة الثانیة فقد ناقش فیها شیخنا الآخوند فی الکفایة بوجهین نذکرهما و نذکر الجواب عنهما أولا أن بناء العقلاء لا یستکشف منه اعتبار الاستصحاب عند الشارع إلا إذا أحرزنا أن منشأ بنائهم العملی هو التعبد بالحالة السابقة من قبلهم أی أنهم یأخذون بالحالة السابقة من أجل أنها سابقة لنستکشف منه تعبد الشارع و لکن لیس هذا بمحرز منهم إذا لم یکن مقطوع العدم فإنه من الجائز قریبا أن أخذهم بالحالة السابقة لا لأجل أنها حالة سابقة بل لأجل رجاء تحصیل الواقع مرة أو لأجل الاحتیاط أخری أو لأجل اطمئنانهم ببقاء ما کان ثالثة أو لأجل ظنهم بالبقاء و لو نوعا رابعة أو لأجل غفلتهم عن الشک أحیانا خامسة و إذا کان الأمر کذلک فلم یحرز تعبد الشارع بالحالة السابقة الذی هو النافع فی المقصود .

ص :290

و الجواب أن المقصود النافع من ثبوت بناء العقلاء هو ثبوت تبانیهم العملی علی الأخذ بالحالة السابقة و هذا ثابت عندهم من غیر شک أی أن لهم قاعدة عملیة تبانوا علیها و یتبعونها أبدا مع الالتفات و التوجه إلی ذلک أما فرض الغفلة من بعضهم أحیانا فهو صحیح و لکن لا یضر فی ثبوت التبانی منهم دائما مع الالتفات و لا یضر فی استکشاف مشارکة الشارع معهم فی تبانیهم اختلاف أسباب التبانی عندهم من جهة مجرد الکون السابق أو من جهة الاطمئنان عندهم أو الظن لأجل الغلبة أو لأی شیء آخر من هذا القبیل فهی قاعدة ثابتة عندهم فتکون ثابتة أیضا عند الشارع و لا یلزم أن یکون ثبوتها عنده من جمیع الأسباب التی لاحظوها و إذا ثبتت عند الشارع فلیس ثبوتها عنده إلا التعبد بها من قبله فتکون حجة علی المکلف و له .نعم احتمال کون السبب فی بنائهم و لو أحیانا رجاء تحصیل الواقع أو الاحتیاط من قبلهم قد یضر فی استکشاف ثبوتها عند الشارع کقاعدة لأنها لا تکون عندهم کقاعدة لأجل الحالة السابقة و لکن الرجاء بعید جدا من قبلهم ما لم یکن هناک عندهم اطمئنان أو ظن أو تعبد بالحالة السابقة لاحتمال أن الواقع غیر الحالة السابقة بل قد یترتب علی عدم البقاء أغراض مهمة فالبناء علی البقاء خلاف الرجاء و کذلک الاحتیاط قد یقتضی البناء علی عدم البقاء فهذه الاحتمالات ساقطة فی کونها سببا لتبانی العقلاء و لو أحیانا .ثانیا بعد التسلیم بأن منشأ بناء العقلاء هو التعبد ببقاء ما کان نقول إن هذا لا یستکشف منه حکم الشارع إلا إذا أحرزنا رضاه ببنائهم و ثبت لدینا أنه ماض عنده و لکن لا دلیل علی هذا الرضا و الإمضاء بل

ص :291

إن عمومات الآیات و الأخبار الناهیة عن اتباع غیر العلم کافیة فی الردع عن اتباع بناء العقلاء و کذلک ما دل علی البراءة و الاحتیاط فی الشبهات بل احتمال عمومها للمورد کاف فی تزلزل الیقین بهذه المقدمة فلا وجه لاتباع هذا البناء إذ لا بد فی اتباعه من قیام الدلیل علی أنه ممضی من قبل الشارع و لا دلیل .و الجواب ظاهر من تقریبنا للمقدمة الثانیة علی النحو بیناه فإنه لا یجب فی کشف موافقة الشارع إحراز إمضائه من دلیل آخر لأن نفس بناء العقلاء هو الدلیل و الکاشف عن موافقته کما تقدم فیکفی فی المطلوب عدم ثبوت الردع و لا حاجة إلی دلیل آخر علی إثبات رضاه و إمضائه .و علیه فلم یبق علینا إلا النظر فی الآیات و الأخبار الناهیة عن اتباع غیر العلم فی أنها صالحة للردع فی المقام أو غیر صالحة و الحق أنها غیر صالحة لأن المقصود من النهی عن اتباع غیر العلم هو النهی عنه لإثبات الواقع به و لیس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع فلا یشمل هذا النهی الاستصحاب الذی هو قاعدة کلیة یرجع إلیها عند الشک فلا ترتبط بالموضوع الذی نهت عنه الآیات و الأخبار حتی تکون شاملة لمثله أی أن الاستصحاب خارج عن الآیات و الأخبار تخصصا .و أما ما دل علی البراءة أو الاحتیاط فهو فی عرض الدلیل علی الاستصحاب فلا یصلح للردع عنه لأن کلا منهما موضوعه الشک بل أدلة الاستصحاب مقدمة علی أدلة هذه الأصول کما سیأتی

ص :292

الدلیل الثانی حکم العقل

و المقصود منه هنا هو حکم العقل النظری لا العملی إذ یذعن بالملازمة بین العلم بثبوت الشیء فی الزمان السابق و بین رجحان بقائه فی الزمان اللاحق عند الشک ببقائه .أی أنه إذا علم الإنسان بثبوت شیء فی زمان ثم طرأ ما یزلزل العلم ببقائه فی الزمان اللاحق فإن العقل یحکم برجحان بقائه و بأنه مظنون البقاء و إذا حکم العقل برجحان البقاء فلا بد أن یحکم الشرع أیضا برجحان البقاء .و إلی هذا یرجع(ما نقل عن العضدی فی تعریف الاستصحاب بأن معناه أن الحکم الفلانی قد کان و لم یعلم عدمه و کل ما کان کذلک فهو مظنون البقاء) .أقول و هذا حکم العقل لا ینهض دلیلا علی الاستصحاب علی ما سنشرحه و الظاهر أن القدماء القائلین بحجیته لم یکن عندهم دلیلا علیه غیر هذا الدلیل کما یظهر جلیا من تعریف العضدی المتقدم إذ أخذ فیه نفس حکم العقل هذا و لعله لأجل هذا أنکره من أنکره من قدماء أصحابنا إذ لم یتنبهوا إلی أدلته الأخری علی ما یظهر فإنه أول من تمسک ببناء العقلاء العلامة الحلی فی النهایة و أول من تمسک بالأخبار الشیخ عبد الصمد والد الشیخ البهائی و تبعه صاحب الذخیرة و شارح الدروس و شاع بین من تأخر عنهم (کما حقق ذلک الشیخ الأنصاری فی رسائله فی الأمر الأول من مقدمات الاستصحاب ثم قال نعم ربما یظهر من الحلی فی السرائر الاعتماد علی هذه الأخبار حیث عبر عن استصحاب نجاسة الماء المتغیر بعد

ص :293

زوال تغیره من قبل نفسه بنقض الیقین بالیقین و هذه العبارة ظاهرة أنها مأخوذة من الأخبار) .و علی کل حال فهذا الدلیل العقلی فیه مجال للمناقشة من وجهین الأول فی أصل الملازمة العقلیة المدعاة و یکفی فی تکذیبها الوجدان فإنا نجد أن کثیرا ما یحصل العلم بالحالة السابقة و لا یحصل الظن ببقائها عند الشک لمجرد ثبوتها سابقا .الثانی علی تقدیر تسلیم هذه الملازمة فإن أقصی ما یثبت بها حصول الظن بالبقاء و هذا الظن لا یثبت به حکم الشرع إلا بضمیمة دلیل آخر یدل علی حجیة هذا الظن بالخصوص لیستثنی مما دل علی حرمة التعبد بالظن و الشأن کل الشأن فی إثبات هذا الدلیل فلا تنهض هذه الملازمة العقلیة علی تقدیرها دلیلا بنفسها علی الحکم الشرعی و لو کان هناک دلیل علی حجیة هذا الظن بالخصوص لکان هو الدلیل علی الاستصحاب لا الملازمة و إنما تکون الملازمة محققة لموضوعه .ثم ما المراد من قولهم إن الشارع یحکم برجحان البقاء علی طبق حکم العقلاء فإنه علی إطلاقه موجب للإیهام و المغالطة فإنه إن کان المراد أنه یظن بالبقاء کما یظن سائر الناس فلا معنی له و إن کان المراد أنه یحکم بحجیة هذا الرجحان فهذا لا تقتضیه الملازمة بل یحتاج إثبات ذلک إلی دلیل آخر کما ذکرنا و إن کان المراد أنه یحکم بأن البقاء مظنون و راجح عند الناس أی یعلم بذلک فهذا و إن کان تقتضیه الملازمة و لکن هذا المقدار غیر نافع و لا یکفی وحده فی إثبات المطلوب إذ لا یکشف مجرد علمه بحصول الظن عند الناس عن اعتباره لهذا الظن و رضاه به و النافع فی الباب إثبات هذا الاعتبار من قبله للظن لا حکمه بأن هذا الشیء مظنون البقاء عند الناس

ص :294

الدلیل الثالث الإجماع

نقل جماعة الاتفاق علی اعتبار الاستصحاب منهم(صاحب المبادئ علی ما نقل عنه إذ قال الاستصحاب حجة لإجماع الفقهاء علی أنه متی حصل حکم ثم وقع الشک فی أنه طرأ ما یزیله أم لا وجب الحکم ببقائه علی ما کان أولا) .أقول إن تحصیل الإجماع فی هذه المسألة مشکل جدا لوقوع الاختلافات الکثیرة فیها کما سبق إلا أن یراد منه حصول الإجماع فی الجملة علی نحو الموجبة الجزئیة فی مقابل السلب الکلی و هذا الإجماع بهذا المقدار قطعی أ لا تری أن الفقهاء فی مسألة من تیقن بالطهارة و شک فی الحدث أو الخبث قد اتفقت کلمتهم من زمن الشیخ الطوسی بل من قبله إلی زماننا الحاضر علی ترتیب آثار الطهارة السابقة بلا نکیر منهم و کذا فی کثیر من المسائل مما هو نظیر ذلک و معلوم أن فرض کلامهم فی مورد الشک اللاحق لا فی مورد الشک الساری فلا یکون حکمهم بذلک من جهة قاعدة الیقین بل و لا من جهة قاعدة المقتضی و المانع .و الحاصل أن هذا و مثله یکفی فی الاستدلال علی اعتبار الاستصحاب فی الجملة فی مقابل السلب الکلی و هو قطعی بهذا المقدار و یمکن حمل قول منکر الاستصحاب مطلقا علی إنکار حجیته من طریق الظن لا من أی طریق کان فی مقابل من قال بحجیته لأجل تلک الملازمة العقلیة المدعاة .نعم دعوی الإجماع علی حجیة مطلق الاستصحاب أو فی خصوص ما إذا کان الشک فی الرافع فی غایة الإشکال بعد ما عرفت من تلک الأقوال

ص :295

الدلیل الرابع الأخبار
اشارة

و هی العمدة فی إثبات الاستصحاب و علیها التعویل و إذا کانت أخبار آحاد فقد تقدم حجیة خبر الواحد مضافا إلی أنها مستفیضة و مؤیدة بکثیر من القرائن العقلیة و النقلیة (و إذا کان الشیخ الأنصاری قد شک فیها بقوله هذه جملة ما وقفت علیه من الأخبار المستدل بها للاستصحاب و قد عرفت عدم ظهور الصحیح منها و عدم صحة الظاهر منها) فإنها فی الحقیقة هی جل اعتماده فی مختاره و قد عقب هذا الکلام بقوله (فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر و التعاضد) ثم أیدها بالأخبار الواردة فی الموارد الخاصة .و علی کل حال فینبغی النظر فیها لمعرفة حجیتها و مدی دلالتها و لنذکرها واحدة واحدة فنقول

1 صحیحة زرارة الأولی

و هی مضمرة لعدم ذکر الإمام المسئول فیها و لکنه کما قال الشیخ الأنصاری لا یضرها الإضمار و الوجه فی ذلک أن زرارة لا یروی عن غیر الإمام لا سیما مثل هذا الحکم بهذا البیان و المنقول عن فوائد العلامة الطباطبائی أن المقصود به الإمام الباقر علیه السلام .(قال زرارة:قلت له الرجل ینام و هو علی وضوء أ یوجب الخفقة و الخفقتان علیه الوضوء

ص :296

قال یا زرارة قد تنام العین و لا ینام القلب و الأذن فإذا نامت العین و الأذن فقد وجب الوضوء قلت فإن حرک فی جنبه شیء و هو لا یعلم قال لا حتی یستیقن أنه قد نام حتی یجیء من ذلک أمر بین و إلا فإنه علی یقین من وضوئه و لا ینقض الیقین بالشک أبدا و لکنه ینقضه بیقین آخر) و نذکر فی هذه الصحیحة بحثین الأول فی فقهها و لا یخفی أن فیها سؤالین أولهما عن شبهة مفهومیة حکمیة لغرض معرفة سعة موضوع النوم من جهة کونه ناقضا للوضوء إذ لا شک فی أنه لیس المقصود السؤال عن معنی النوم لغة و لا عن کون الخفقة أو الخفقتین ناقضة للوضوء علی نحو الاستقلال فی مقابل النوم فینحصر أن یکون مراده و الجواب قرینة علی ذلک أیضا هو السؤال عن شمول النوم الناقض للخفقة و الخفقتین مع علم السائل بأن النوم فی نفسه له مراتب تختلف شدة و ضعفا و منه الخفقة و الخفقتان و مع علمه بأن النوم ناقض للوضوء فی الجملة فلذلک أجاب الإمام بتحدید النوم الناقض و هو الذی تنام فیه العین و الأذن معا أما ما تنام فیه العین دون القلب و الأذن کما فی الخفقة و الخفقتین فلیس ناقضا .و أما السؤال الثانی فهو لا شک عن الشبهة الموضوعیة بقرینة الجواب لأنه لو کان مراد السائل الاستفهام عن مرتبة أخری من النوم التی لا یحس معها بما یتحرک فیه جنبه لکان ینبغی أن یرفع الإمام شبهته بتحدید آخر للنوم الناقض و لو کانت شبهة السائل شبهة

ص :297

مفهومیة حکمیة لما کان معنی لفرض الشک فی الحکم الواقعی فی جواب الإمام ثم إجراء الاستصحاب و لما صح أن یفرض الإمام استیقان السائل بالنوم تارة و عدم استیقانه أخری لأن الشبهة لو کانت مفهومیة حکمیة لکان السائل عالما بأن هذه المرتبة هی من النوم و لکن یجهل حکمها کالسؤال الأول .و إذا کان الأمر کذلک فالجواب الأخیر إذا کان متضمنا لقاعدة الاستصحاب کما سیأتی فموردها یکون حینئذ خصوص الشبهة الموضوعیة فیقال حینئذ لا یستکشف من إطلاق الجواب عموم القاعدة للشبهة الحکمیة الذی یهمنا بالدرجة الأولی إثباته إذ یکون المورد من قبیل القدر المتیقن فی مقام التخاطب و قد تقدم فی الجزء الأول أن ذلک یمنع من التمسک بالإطلاق و إن لم یکن صالحا للقرینیة لما هو المعروف أن المورد لا یخصص العام و لا یقید المطلق .نعم قد یقال فی الجواب إن کلمة أبدا لها من قوة الدلالة علی العموم و الإطلاق ما لا یحد منها القدر المتیقن فی مقام التخاطب فهی تعطی فی ظهورها القوی أن کل یقین مهما کان متعلقه و فی أی مورد کان لا ینقض بالشک أبدا .الثانی فی دلالتها علی الاستصحاب .و تقریب الاستدلال بها أن قوله علیه السلام فإنه علی یقین من وضوئه جملة خبریة هی جواب الشرط (1)و معنی هذه الجملة الشرطیة أنه إن لم

ص :298


1- بنی الشیخ الانصاری ومن حذا حذوه الاستدلال بهذه الصحیحة علی أن جواب الشرط محذوف وأن قوله (فانه علی یقین من وضوئه) علة للجواب قامت مقامه. وقال: (وجعله نفس الجزاء یحتاج إلی تکلف). فیکون معنی الروایة علی قوله ان یستیقن أنه قدم نام فلا یجب علیه الوضوء لانه علی یقین من وضوئه فی السابق. فحذف (فلا یجب علیه الوضوء) وأقام العلة مقامه. وهذا الوجه الذی ذکره وإن کان وجیها ولکن الحذف خلاف الاصل ولا موجب له ولا تکلف فی جعل الموجود نفس الجزاء علی ما بیناه فی المتن. ولا یتوقف الاستدلال بالصحیحة علی هذا الوجه ولا علی ذلک الوجه ولا علی أی وجه آخر ذکروه. فان المقصود منها فی بیان قاعدة الاستصحاب مفهوم واضح یحصل فی جمیع هذه الوجوه.

یستیقن بأنه قد نام فإنه باق علی یقین من وضوئه أی أنه لم یحصل ما یرفع الیقین به و هو الیقین بالنوم و هذه مقدمة تمهیدیة و توطئة لبیان أن الشک لیس رافعا للیقین و إنما الذی یرفعه الیقین بالنوم و لیس الغرض منها لا بیان أنه علی یقین من وضوئه لیقول ثانیا إنه لا ینبغی أن یرفع الید عن هذا الیقین إذ لا موجب لانحلاله و رفع الید عنه إلا الشک الموجود و الشک بما هو شک لا یصلح أن یکون رافعا و ناقضا للیقین و إنما ینقض الیقین الیقین لا غیر فقوله و إلا فإنه علی یقین من وضوئه بمنزلة الصغری و قوله و لا ینقض الیقین بالشک أبدا بمنزلة الکبری و هذه الکبری مفادها قاعدة الاستصحاب و هی البناء علی الیقین السابق و عدم نقضه بالشک اللاحق فیفهم منها أن کل یقین سابق لا ینقضه الشک اللاحق .هذا و قد وقعت المناقشة فی الاستدلال بهذه الصحیحة من عدة وجوه منها(ما أفاده الشیخ الأنصاری إذ قال و لکن مبنی الاستدلال علی کون اللام فی الیقین للجنس إذ لو کانت للعهد لکانت الکبری المنضمة إلی الصغری و لا ینقض الیقین بالوضوء بالشک فیفید قاعدة کلیة فی باب الوضوء)إلی آخر ما أفاده و لکنه استظهر أخیرا کون اللام للجنس .أقول إن کون اللام للعهد یقتضی أن یکون المراد من الیقین فی الکبری شخص الیقین المتقدم فإن هذا هو معنی العهد و علیه فلا تفید

ص :299

قاعدة کلیة حتی فی باب الوضوء و منه یتضح غرابة احتمال إرادة العهد من اللام بل ذلک مستهجن جدا فإن ظاهر الکلام هو تطبیق کبری علی صغری لا سیما مع إضافة کلمة أبدا .فیتعین أن تکون اللام للجنس و لکن مع ذلک هذا وحده غیر کاف فی التعمیم لکل یقین حتی فی غیر الوضوء لإمکان أن یراد جنس الیقین بالوضوء بقرینة تقییده فی الصغری به لا کل یقین فیکون ذلک من قبیل القدر المتیقن فی مقام التخاطب فیمنع من التمسک بالإطلاق کما سبق نظیره و هذا الاحتمال لا ینافی کون الکبری کلیة غایة الأمر تکون کبری کلیة خاصة بالوضوء .فیتضح أن مجرد کون اللام للجنس لا یتم به الاستدلال مع تقدم ما یصلح للقرینة و لعل هذا هو مراد الشیخ من التعبیر بالعهد و مقصوده تقدم القرینة فکان ذلک تسامحا فی التعبیر .و علی کل حال فالظاهر من الصحیحة ظهورا قویا إرادة مطلق الیقین لا خصوص الیقین بالوضوء و ذلک لمناسبة الحکم و الموضوع فإن المناسب لعدم النقض بالشک بما هو شک هو الیقین بما هو یقین لا بما هو یقین بالوضوء لأن المقابلة بین الشک و الیقین و إسناد عدم النقض إلی الشک تجعل اللفظ کالصریح فی أن العبرة فی عدم جواز النقض هو جهة الیقین بما هو یقین لا الیقین المقید بالوضوء من جهة کونه مقیدا بالوضوء .و لا یصلح ذکر قید من وضوئه فی الصغری أن یکون قرینة علی التقیید فی الکبری و لا أن یکون من قبیل القدر المتیقن فی مقام التخاطب لأن طبیعة الصغری أن تکون فی دائرة أضیق من دائرة الکبری و مفروض المسألة فی الصغری باب الوضوء فلا بد من ذکره .

ص :300

و علیه فلا یبعد أن مؤدی الصغری هکذا فإنه من وضوئه علی یقین فلا تکون کلمة من وضوئه قیدا للیقین یعنی أن الحد الأوسط المتکرر هو الیقین لا الیقین من وضوئه .و منها أن الوضوء أمر آنی متصرم لیس له استمرار فی الوجود و إنما الذی إذا ثبت استدام هو أثره و هو الطهارة و متعلق الیقین فی الصحیحة هو الوضوء لا الطهارة و متعلق الشک هو المانع من استمرار الطهارة أثر المتیقن فیکون الشک فی استمرار أثر المتیقن لا المتیقن نفسه و علیه فلا یکون متعلق الیقین نفس متعلق الشک فانخرم الشرط الخامس فی الاستصحاب و یکون ذلک موردا لقاعدة المقتضی و المانع فتکون الصحیحة دلیلا علیه لا علی الاستصحاب .و فیه أن الجمود علی لفظ الوضوء یوهم ذلک و لکن المتعارف من مثل هذا التعبیر فی لسان الأخبار إرادة الطهارة التی هی أثر له بإطلاق السبب و إرادة المسبب و نفس صدر الصحیحة الرجل ینام و هو علی وضوء یشعر بذلک فالمتبادر و الظاهر من قوله فإنه علی یقین من وضوئه أنه متیقن بالطهارة المستمرة لو لا الرافع لها و الشک أنما هو فی ارتفاعها للشک فی وجود الرافع فیکون متعلق الیقین نفس متعلق الشک فما أبعدها عن قاعدة المقتضی و المانع .و منها ما أفاده الشیخ الأنصاری فی مناقشة جمیع الأخبار العامة المستدل بها علی حجیة مطلق الاستصحاب و استنتج من ذلک أنها مختصة بالشک فی الرافع فیکون الاستصحاب حجة فیه فقط (قال رحمه الله فالمعروف بین المتأخرین الاستدلال بها علی حجیة الاستصحاب فی جمیع الموارد و فیه تأمل قد فتح بابه المحقق الخونساری فی شرح الدروس) .و سیأتی إن شاء الله تعالی فی آخر الأخبار بیان هذه المناقشة و نقدها .

ص :301

2 صحیحة زرارة الثانیة

و هی مضمرة أیضا کالسابقة (قال زرارة:قلت له أصاب ثوبی دم رعاف أو غیره أو شیء من المنی فعلمت أثره إلی أن أصیب له الماء فحضرت الصلاة و نسیت أن بثوبی شیئا و صلیت ثم إنی ذکرت بعد ذلک قال تعید الصلاة و تغسله قلت فإن لم أکن رأیت موضعه و علمت أنه أصابه فطلبته و لم أقدر علیه فلما صلیت وجدته قال تغسله و تعید قلت فإن ظننت أنه أصابه و لم أتیقن فنظرت و لم أر شیئا فصلیت فیه فرأیت فیه قال تغسله و لا تعید الصلاة قلت لم ذلک قال لأنک کنت علی یقین من طهارتک فشککت و لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک أبدا قلت فإنی قد علمت أنه قد أصابه و لم أدر أین هو فأغسله قال تغسل من ثوبک الناحیة التی تری أنه قد أصابها حتی تکون علی یقین من طهارتک قلت فهل علی إن شککت أنه أصابه شیء أن أنظر فیه

ص :302

قال لا و لکنک إنما ترید أن تذهب بالشک الذی وقع فی نفسک قلت إن رأیته فی ثوبی و أنا فی الصلاة قال تنقض الصلاة و تعید إذا شککت فی موضع منه ثم رأیته و إن لم تشک ثم رأیته رطبا قطعت الصلاة و غسلته ثم بنیت علی الصلاة لأنک لا تدری لعله شیء أوقع علیک فلیس ینبغی أن تنقض الیقین بالشک)الحدیث .و الاستدلال بهذه الصحیحة للمطلوب فی فقرتین منها بل قیل فی ثلاث الأولی(قوله:لأنک کنت علی یقین من طهارتک فشککت)إلخ بناء علی أن المراد من الیقین بالطهارة هو الیقین بالطهارة الواقع قبل ظن الإصابة بالنجاسة و هذا المعنی هو الظاهر منها و یحتمل بعیدا أن یراد منه الیقین بالطهارة الواقع بعد ظن الإصابة و بعد الفحص عن النجاسة إذ قال فنظرت و لم أر شیئا علی أن یکون قوله و لم أر شیئا عبارة أخری عن الیقین بالطهارة و علی هذا الاحتمال یکون مفاد الروایة قاعدة الیقین لا الاستصحاب لأنه یکون حینئذ مفاد قوله فرأیت فیه تبدل الیقین بالطهارة بالیقین بالنجاسة و وجه بعد هذا الاحتمال أن قوله و لم أر شیئا لیس فیه أی ظهور بحصول الیقین بالطهارة بعد النظر و الفحص .الثانیة قوله أخیرا فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک و دلالتها کالفقرة الأولی ظاهرة علی ما تقدم فی الصحیحة الأولی من ظهور کون اللام فی الیقین لجنس الیقین بما هو یقین و هذا المعنی هنا أظهر مما هو فی الصحیحة الأولی .

ص :303

الثالثة قوله حتی تکون علی یقین من طهارتک فإنه علیه السلام إذ جعل الغایة حصول الیقین بالطهارة من غسل الثوب فی مورد سبق العلم بنجاسته یظهر منه أنه لو لم یحصل الیقین بالطهارة فهو محکوم بالنجاسة لمکان سبق الیقین بها .و لکن الاستدلال بهذه الفقرة مبنی علی أن إحراز الطهارة لیس شرطا فی الدخول فی الصلاة و إلا لو کان الإحراز شرطا فیحتمل أن یکون علیه السلام إنما جعل الغایة حصول الیقین بالطهارة لأجل إحراز الشرط المذکور لا لأجل التخلص من جریان استصحاب النجاسة فلا یکون لها ظهور فی الاستصحاب

3 صحیحة زرارة الثالثة

(قال زرارة:قلت له أی الباقر أو الصادق علیه السلام من لم یدر فی أربع هو أو فی ثنتین و قد أحرز الثنتین قال یرکع برکعتین و أربع سجدات و هو قائم بفاتحة الکتاب و یتشهد و لا شیء علیه و إذا لم یدر فی ثلاث هو أو فی أربع و قد أحرز الثلاث قام فأضاف إلیها أخری و لا شیء علیه و لا ینقض الیقین بالشک و لا یدخل الشک فی الیقین و لا یخلط أحدهما بالآخر و لکن ینقض الشک بالیقین و یتم علی الیقین فیبنی علیه و لا یعتد بالشک فی حال من الحالات) .وجه الاستدلال بها علی ما قیل أنه فی الشک بین الثلاث و الأربع و قد أحرز الثلاث یکون قد سبق منه الیقین بعدم الإتیان بالرابعة فیستصحب و لذلک وجب علیه أن یضیف إلیها رابعة لأنه لا یجوز نقض

ص :304

الیقین بالشک بل لا بد أن ینقضه بالیقین بإتیان الرابعة فینقض شکه بالیقین و تکون هذه الفقرات الست کلها تأکیدا علی قاعدة الاستصحاب .و قد تأمل الشیخ الأنصاری فی هذا الاستدلال لأنه إنما یتم إذا کان المراد بقوله قام فأضاف إلیها أخری القیام للرکعة الرابعة من دون تسلیم فی الرکعة المرددة بین الثالثة و الرابعة حتی یکون حاصل جواب الإمام البناء علی الأقل و لکن هذا مخالف للمذهب و موافق لقول العامة بل مخالف لظاهر الفقرة الأولی و هی قوله رکع برکعتین و هو قائم بفاتحة الکتاب فإنها ظاهرة بسبب تعیین الفاتحة فی إرادة رکعتین منفصلتین أعنی صلاة الاحتیاط .و علیه فیتعین أن یکون المراد به القیام بعد التسلیم فی الرکعة المرددة إلی رکعة مستقلة منفصلة و إذا کان الأمر کذلک فیکون المراد من الیقین فی جمیع الفقرات الیقین بالبراءة الحاصل من الاحتیاط بإتیان الرکعة فتکون الفقرات الست واردة لبیان وجوب الاحتیاط و تحصیل الیقین بفراغ الذمة و هذا أجنبی عن قاعدة الاستصحاب .أقول هذا خلاصة ما أفاده الشیخ و لکن حمل الفقرة الأولی و لا ینقض الیقین بالشک علی إرادة الیقین ببراءة الذمة الحاصل من الأخذ بالاحتیاط بعید جدا عن مساقها بل أبعد من البعید لأن ظاهر هذا التعبیر بل صریحه فرض حصول الیقین ثم النهی عن نقضه فی فرض حصوله بینما أن الیقین بالبراءة أنما المطلوب تحصیله و هو غیر حاصل فکیف یصح حمل هذه الجملة علی الأمر بتحصیله فلا بد أن یراد الیقین بشیء آخر غیر البراءة .و علیه فمن القریب جدا أن یراد من الیقین الیقین بوقوع الثلاث و صحتها

ص :305

کما هو مفروض المسألة بقوله و قد أحرز الثلاث لا الیقین بعدم الإتیان بالرابعة کما تصوره هذا المستدل حتی یرد علیه ما أفاده الشیخ و حینئذ فلو أراد المکلف أن یعتد بشکه فقد نقض الیقین بالشک و اعتداده بشکه بأحد أمور ثلاثة إما بإبطال الصلاة و إعادتها رأسا و إما بالأخذ باحتمال نقصانها فیکملها برابعة کما هو مذهب العامة و إما بالأخذ باحتمال کمالها بالبناء علی الأکثر فیسلم علی المشکوکة من دون إتیان برابعة متصلة و خلط أحدهما بالآخر .و لأجل هذا عالج الإمام علیه السلام صلاة هذا الشاک لأجل المحافظة علی یقینه بالثلاث و عدم نقضه بالشک و ذلک بأن أمره بالقیام و إضافة رکعة أخری و لا بد أنها مفصولة و یفهم کونها مفصولة من صدر الروایة رکع برکعتین و هو قائم بفاتحة الکتاب فإن أسلوب العلاج لا بد أن یکون واحدا فی الفرضین مضافا إلی أن ذلک یفهم من تأکید الإمام بأن لا یدخل الشک فی الیقین و لا یخلط أحدهما بالآخر لأنه بإضافة رکعة متصلة یقع الخلط و إدخال الشک فی الیقین .و علیه فتکون الروایة دالة علی قاعدة الاستصحاب من جهة و لکن المقصود فیها استصحاب وقوع الثلاث صحیحة کما أنها تکون دالة علی علاج حالة الشک الذی لا یجوز نقض الیقین به من جهة أخری و ذلک بأمره بالقیام و إضافة رکعة منفصلة لتحصیل الیقین بصحة الصلاة لأنها إن کانت ثلاثا فقد جاء بالرابعة و إن کانت أربعا تکون الرکعة المنفصلة نفلا .و منه یعلم أن المراد من الیقین فی الفقرتین الرابعة و الخامسة و لکنه ینقض الشک بالیقین و یتم علی الیقین و یبنی علیه غیر الیقین من الفقرات الأولی فإن المراد به هناک الیقین بوقوع الثلاث صحیحة و المراد به فی هاتین الفقرتین الیقین بالبراءة لأنه بإتیان رکعة منفصلة یحصل له الیقین ببراءة

ص :306

الذمة فیکون ذلک نقضا للشک بالیقین الحادث من الاحتیاط و یفهم هذا التفصیل من المراد بالیقین من الاستدراک و هو قوله و لکنه فإنه بعد أن نهی عن نقض الیقین بالشک ذکر العلاج بقوله لکنه فهو أمر بنقض الشک بالیقین و الإتمام علی الیقین و البناء علیه و لا یتصور ذلک إلا بإتیان رکعة منفصلة و لا یجب کما قیل أن یکون المراد من الیقین فی جمیع الفقرات معنی واحدا بل لا یصح ذلک فإن أسلوب الکلام لا یساعد علیه فإن الناقض للشک یجب أن یکون غیر الذی ینقضه الشک .و الحاصل أن الروایة تکون خلاصة معناها النهی عن الإبطال و النهی علی الرکون إلی ما تذهب إلیه العامة من البناء علی الأقل و النهی عن البناء علی الأکثر مع عدم الإتیان برکعة منفصلة ثم تضمنت الأمر بعد ذلک بما یؤدی معنی الأخذ بالاحتیاط بالإتیان برکعة منفصلة لأنه بهذا یتحقق نقض الشک بالیقین و الإتمام علی الیقین و البناء علیه .و علی هذا فالروایة تتضمن قاعدة الاستصحاب و تنطبق أیضا علی باقی الروایات المبینة لمذهب الخاصة و إن کانت لیست ظاهرة فیه علی وجه تکون بیانا لمذهب الخاصة و لکن صدرها یفسرها و یظهر أن الإمام علیه السلام أوکل الحکم و تفصیله إلی معروفیة هذا الحکم عند السائل و إلی فهمه و ذوقه و إنما أراد أن یؤکد علی سر هذا الحکم و الرد علی من یری خلافه الذی فیه نقض للیقین بالشک و عدم الأخذ بالیقین .

4 روایة محمد بن مسلم

(محمد بن مسلم عن أبی عبد الله علیه السلام قال قال أمیر المؤمنین صلوات الله علیه :من کان علی یقین فشک فلیمض علی یقینه فإن الشک لا ینقض الیقین)(و فی روایة أخری عنه علیه السلام بهذا المضمون:من کان علی

ص :307

یقین فأصابه شک فلیمض علی یقینه فإن الیقین لا یدفع بالشک) استدل بعضهم بهذه الروایة علی الاستصحاب مدعیا ظهورها فیه .و لکن الذی نراه أنها غیر ظاهرة فیه فإن القدر المسلم منها أنها صریحة فی أن مبدأ حدوث الشک بعد حدوث الیقین من أجل کلمة الفاء التی تدل علی الترتیب غیر أن هذا القدر من البیان یصح أن یراد منه قاعدة الیقین و یصح أن یراد منه قاعدة الاستصحاب إذ یجوز أن یراد أن الیقین قد زال بحدوث الشک فیتحد زمان متعلقهما فتکون موردا للقاعدة الأولی و یجوز أن یراد أن الیقین قد بقی إلی زمان الشک فیختلف زمان متعلقها فتکون موردا للاستصحاب و لیس فی الروایة ظهور فی أحدهما بالخصوص (1)و إن(قال الشیخ الأنصاری إنها ظاهرة فی وحدة زمان متعلقهما) و لذلک قرب أن تکون دالة علی قاعدة الیقین (و قال الشیخ الآخوند إنها ظاهرة فی اختلاف زمان متعلقهما) فقرب أن تکون دالة علی الاستصحاب و قد ذکر کل منهما تقریبات لما استظهره لا نراها ناهضة علی مطلوبهما .و علیه فتکون الروایة مجملة من هذه الناحیة إلا إذا جوزنا الجمع فی التعبیر بین القاعدتین و حینئذ تدل علیهما معا یعنی أنها تدل علی أن

ص :308


1- لا یخفی ان هنا مقدمة مطویة یجب التنبیه لها، وهی أن تجرد کلمة الیقین والشک فی الروایة من ذکر المتعلق یدل علی وحدة المتعلق، یعنی أن هذا التجرد یدل علی أن ما تعلق به الیقین هو نفس ما تعلق به الشک، والا فان من المقطوع به انه لیس المراد الیقین بأی شئ کان والشک بأی شئ کان لا یرتبط بالمتیقن. ولکن کونها دالة علی وحدة المتعلق لا یجعلها ظاهرة فی کونه واحدا فی جمیع الجهات حتی من جهة الزمان لتکون ظاهرة فی قاعدة الیقین کما قیل.

الیقین بما هو یقین لا یجوز نقضه بالشک سواء کان ذلک الیقین هو المجامع للشک أو غیر المجامع له و قیل إنه لا یجوز الجمع فی التعبیر بین القاعدتین لأنه یلزم استعمال اللفظ فی أکثر من معنی و هو مستحیل و سیأتی إن شاء الله تعالی ما ینفع فی المقام .نعم یمکن دعوی ظهورها فی الاستصحاب بالخصوص بأن یقال کما قربه بعض أساتذتنا إن الظاهر فی کل کلام هو اتحاد زمان النسبة مع زمان الجری فقوله علیه السلام فلیمض علی یقینه یکون ظاهرا فی أن زمان نسبة وجوب المضی علی الیقین نفس زمان حصول الیقین و لا ینطبق ذلک إلا علی الاستصحاب لبقاء الیقین فی مورده محفوظا إلی زمان العمل به و أما قاعدة الیقین فإن موردها الشک الساری فیکون الیقین فی ظرف وجوب العمل به معدوما و لعله من أجل هذا الظهور استظهر من استظهر دلالة الروایة علی الاستصحاب

5 مکاتبة علی بن محمد القاسانی

(قال:کتبت إلیه و أنا بالمدینة عن الیوم الذی یشک فیه من رمضان هل یصام أم لا فکتب الیقین لا یدخله الشک صم للرؤیة و أفطر للرؤیة)(قال الشیخ الأنصاری و الإنصاف أن هذه الروایة أظهرها فی هذا الباب إلا أن سندها غیر سلیم و ذکر فی وجه دلالتها أن تفریع تحدید کل من الصوم و الإفطار علی رؤیة هلالی رمضان و شوال لا یستقیم إلا بإرادة عدم جعل الیقین السابق مدخولا بالشک أی مزاحما به)(و قد أورد علیه صاحب الکفایة بما محصله مع توضیح منا أنا نمنع من ظهورها هذه الروایة فی الاستصحاب فضلا عن أظهریتها نظرا إلی أن

ص :309

دلالتها علیه تتوقف علی أن یراد من الیقین الیقین بعدم دخول رمضان و عدم دخول شوال و لکن لیس من البعید أن یکون المراد به الیقین بدخول رمضان المنوط به وجوب الصوم و الیقین بدخول شوال المنوط به وجوب الإفطار و معنی أنه لا یدخله الشک أنه لا یعطی حکم الیقین للشک و لا ینزل منزلته بل المدار فی وجوب الصوم و الإفطار علی الیقین فقط فإنه وحده هو المناط فی وجوبهما أی إن الصوم و الإفطار یدوران مداره و لذا قال بعده(:صم للرؤیة و أفطر للرؤیة) مؤکدا لاشتراط وجوب الصوم و الإفطار بالیقین .و هذا المضمون دلت علیه جملة من الأخبار بقریب من هذا التعبیر مما یقرب إرادته من هذه الروایة و یؤکده و لا بأس فی ذکر بعض هذه الأخبار لتتضح موافقتها لهذه الروایة (منها قول أبی جعفر علیه السلام:إذا رأیتم الهلال فصوموا و إذا رأیتموه فأفطروا و لیس بالرأی و لا بالتظنی و لکن بالرؤیة)(و منها:صم للرؤیة و أفطر للرؤیة و إیاک و الشک و الظن فإن خفی علیکم فأتموا الشهر الأول ثلاثین)(و منها:صیام شهر رمضان بالرؤیة و لیس بالظن))

ص :310

مدی دلالة الأخبار

إن تلک الأخبار العامة المتقدمة هی أهم ما استدل به للاستصحاب و هناک أخبار خاصة تؤیدها ذکر بعضها الشیخ الأنصاری و نحن نذکر واحدة منها للاستئناس (و هی:روایة عبد الله بن سنان الواردة فیمن یعیر ثوبه الذمی و هو یعلم أنه یشرب الخمر و یأکل لحم الخنزیر قال فهل علی أن أغسله فقال لا لأنک أعرته إیاه و هو طاهر و لم تستیقن أنه نجسه)(قال الشیخ و فیها دلالة واضحة علی أن وجه البناء علی الطهارة و عدم وجوب غسله هو سبق طهارته و عدم العلم بارتفاعها) .و المهم لنا أن نبحث الآن عن مدی دلالة تلکم الأخبار من جهة بعض التفصیلات المهمة فی الاستصحاب فنقول

1 التفصیل بین الشبهة الحکمیة و الموضوعیة

إن المنسوب إلی الأخباریین اعتبار الاستصحاب فی خصوص الشبهة الموضوعیة و أما الشبهات الحکمیة مطلقا فعلی القاعدة عندهم من وجوب الرجوع إلی قاعدة الاحتیاط و علل ذلک بعضهم بأن أخبار الاستصحاب لا عموم لها و لا إطلاق یشمل الشبهة الحکمیة لأن القدر المتیقن منها خصوص الشبهة الموضوعیة لا سیما أن بعضها وارد فی خصوصها فلا تعارض أدلة الاحتیاط .و لکن الإنصاف أن لأخبار الاستصحاب من قوة الإطلاق و الشمول

ص :311

ما یجعلها ظاهرة فی شمولها للشبهة الحکمیة و لا سیما أن أکثرها وارد مورد التعلیل و ظاهرها تعلیق الحکم علی الیقین من جهة ما هو یقین کما سبق بیان ذلک فی الصحیحة الأولی فیکون شمولها للشبهة الحکمیة حینئذ من باب التمسک بالعلة المنصوصة علی أن روایة محمد بن مسلم المتقدمة عامة لم ترد فی خصوص الشبهة الموضوعیة فالحق شمول الأخبار للشبهتین .و أما أدلة الاحتیاط فقد تقدمت المناقشة فی دلالتها فلا تصلح لمعارضة أدلة الاستصحاب .

2 التفصیل بین الشک فی المقتضی و الرافع

هذا هو القول التاسع المتقدم و الأصل فیه المحقق الحلی ثم المحقق الخونساری و أیده کل التأیید الشیخ الأعظم و قد دعمه جملة من تأخر عنه و خالفهم فی ذلک الشیخ الآخوند فذهب إلی اعتبار الاستصحاب مطلقا و هو الحق و لکن بطریقة أخری غیر التی سلکها الشیخ الآخوند .و من أجل هذا أصبح هذا التفصیل من أهم الأقوال التی علیها مدار المناقشات العلمیة فی عصرنا و یلزمنا النظر فیه من جهتین من جهة المقصود من المقتضی و المانع و من جهة مدی دلالة الأخبار علیه .

1 المقصود من المقتضی و المانع

(و نحیل ذلک إلی تصریح الشیخ نفسه فقد قال المراد بالشک من جهة المقتضی الشک من حیث استعداده و قابلیته فی ذاته للبقاء کالشک فی بقاء اللیل و النهار و خیار الغبن بعد الزمان الأول) .فیفهم منه أنه لیس المراد من المقتضی کما قد ینصرف ذلک من إطلاق کلمة المقتضی مقتضی الحکم أی الملاک و المصلحة فیه و لا المقتضی لوجود الشیء فی باب الأسباب و المسببات بحسب الجعل الشرعی مثل

ص :312

أن یقال إن الوضوء مقتض للطهارة و عقد النکاح مقتض للزوجیة بل المراد نفس استعداد المستصحب فی ذاته للبقاء و قابلیته له من أیة جهة کانت تلک القابلیة و سواء فهمت هذه القابلیة من الدلیل أو من الخارج و یختلف ذلک باختلاف المستصحبات و أحوالها فلیس فیه نوع و لا صنف مضبوط من حیث مقدار الاستعداد کما صرح بذلک الشیخ .و التعبیر عن الشک فی القابلیة بالشک فی المقتضی فیه نوع من المسامحة توجب الإیهام و ینبغی أن یعبر عنه بالشک فی اقتضائه للبقاء لا الشک فی المقتضی و لکن بعد وضوح المقصود فالأمر سهل .و أما الشک فی الرافع فعلی هذا یکون المقصود منه الشک فی طرو ما یرفع المستصحب مع القطع باستعداده و قابلیته للبقاء لو لا طرو الرفع کما صرح به الشیخ و ذکر أنه علی أقسام و المتحصل من مجموع کلامه فی جملة مقامات أنه ینقسم إلی قسمین رئیسین الشک فی وجود الرافع و الشک فی رافعیة الموجود و هذا القسم الثانی أنکر المحقق السبزواری حجیة الاستصحاب فیه بأقسامه الثلاثة الآتیة و هو القول العاشر فی تعداد الأقوال و نحن نذکر هذه الأقسام لتوضیح مقصود الشیخ .1 الشک فی وجود الرافع و مثل له بالشک فی حدوث البول مع العلم بسبق الطهارة و هو رحمه الله لا یعنی به إلا الشک فی الشبهة الموضوعیة خاصة و أما ما کان فی الشبهة الحکمیة فلا یعمه کلامه لأن الشک فی وجود الرافع فیها ینحصر عنده فی الشک فی النسخ خاصة لأنه لا معنی لرفع الحکم إلا نسخه و إجراء الاستصحاب فی عدم النسخ کما قال إجماعی بل ضروری و السر فی ذلک ما تقدم فی مباحث النسخ فی الجزء الثالث من أن إجماع المسلمین قائم علی أنه لا یصح النسخ إلا بدلیل

ص :313

قطعی فمع الشک لا بد أن یؤخذ بالحکم السابق المشکوک نسخه أی إن الأصل عدم النسخ لأجل هذا الإجماع لا لأجل حجیة الاستصحاب .2 الشک فی رافعیة الموجود و ذلک بأن یحصل شیء معلوم الوجود قطعا و لکن یشک فی کونه رافعا للحکم و هو علی أقسام ثلاثة الأول فیما إذا کان الشک من أجل تردد المستصحب بین ما یکون الموجود رافعا له و بین ما لا یکون و مثل له بما إذا علم بأنه مشغول الذمة بصلاة ما فی ظهر یوم الجمعة و لا یعلم أنها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر فإذا صلی الظهر مثلا فإنه یتردد أمره لا محالة فی أن هذه الصلاة الموجودة التی وقعت منه هل هی رافعة لشغل الذمة بالتکلیف المذکور أو غیر رافعة .الثانی فیما إذا کان الشک من أجل الجهل بصفة الموجود فی کونه رافعا مستقلا فی الشرع کالمذی المشکوک فی کونه ناقصا للطهارة مع العلم بعدم کونه مصداقا للرافع المعلوم و هو البول .الثالث فیما إذا کان الشک من أجل الجهل بصفة الموجود فی کونه مصداقا للرافع المعلوم مفهومه أو من أجل الجهل به فی کونه مصداقا للرافع المجهول مفهومه مثال الأول الشک فی الرطوبة الخارجیة فی کونها بولا أو مذیا مع معلومیة مفهوم البول و المذی و حکمهما و مثال الثانی الشک فی النوم الحادث فی کونه غالبا للسمع و البصر أو غالبا للبصر فقط مع الجهل بمفهوم النوم الناقض فی أنه یشمل النوم الغالب للبصر فقط .و رأی الشیخ أن الاستصحاب یجری فی جمیع هذه الأقسام سواء کان شکا فی وجود الرافع أو فی رافعیة الموجود بأقسامه الثلاثة خلافا للمحقق السبزواری إذ اعتبر الاستصحاب فی الشک فی وجود الرافع فقط دون الشک فی رافعیة الموجود کما تقدمت الإشارة إلی ذلک

ص :314

2 مدی دلالة الأخبار علی هذا التفصیل

(قال الشیخ الأعظم إن حقیقة النقض هو رفع الهیئة الاتصالیة کما فی نقض الحبل و الأقرب إلیه علی تقدیر مجازیته هو رفع الأمر الثابت إلی أن قال فیختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار) .و علیه فلا یشمل الیقین المنهی عن نقضه بالشک فی الأخبار الیقین إذا تعلق بأمر لیس من شأنه الاستمرار أو المشکوک استمراره .توضیح مقصوده مع المحافظة علی ألفاظه حد الإمکان أن النقض لغة لما کان معناه رفع الهیئة الاتصالیة کما فی نقض الحبل فإن هذا المعنی الحقیقی لیس هو المراد من الروایات قطعا لأن المفروض فی مواردها طرو الشک فی استمرار المتیقن فلا هیئة اتصالیة باقیة للیقین و لا لمتعلقه بعد الشک فی بقائه و استمراره .فیتعین أن یکون إسناد النقض إلی الیقین علی نحو المجاز و لکن هذا المجاز له معنیان یدور الأمر بینهما و إذا تعددت المعانی المجازیة فلا بد أن یحمل اللفظ علی أقربها إلی المعنی الحقیقی و هذا یکون قرینة معینة للمعنی المجازی و هنا المعنیان المجازیان أحدهما أقرب من الآخر و هما 1 أن یراد من النقض مطلق رفع الید عن الشیء و ترک العمل به و ترتیب الأثر علیه و لو لعدم المقتضی له فیکون المنقوض عاما شاملا لکل یقین .2 أن یراد منه رفع الأمر الثابت .و هذا المعنی الثانی هو الأقرب إلی المعنی الحقیقی فهو الظاهر من إسناد النقض .و حینئذ فیختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد التی

ص :315

یوجد فیها هذا المعنی .و الظاهر رجحان هذا المعنی الثانی علی الأول لأن الفعل الخاص یصیر مخصصا لمتعلقه إذا کان متعلقه عاما کما فی قول القائل لا تضرب أحدا فإن الضرب یکون قرینة علی اختصاص متعلقه بالأحیاء و لا یکون عمومه للأموات قرینة علی إرادة مطلق الضرب .هذه خلاصة ما أفاده الشیخ و قد وقعت فیه عدة مناقشات نذکر أهمها و نذکر ما عندنا لیتضح مقصوده و لیتجلی الحق إن شاء الله تعالی 1 المناقشة الأولی أن النقض یقابل الإبرام و النقض کما فسروه فی اللغة إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء أو حبل أو نحو ذلک و علیه فتفسیره من الشیخ برفع الهیئة الاتصالیة لیس واضحا بل لیس صحیحا إذ إن مقابل الاتصال الانفصال فیکون معنی النقض حینئذ انفصال المتصل و هو بعید جدا عن معنی نقض العهد و العقد .أقول لیس من البعید أن یرید الشیخ من الاتصال ما یقابل الانحلال و إن کان ذلک علی نحو المسامحة منه فی التعبیر لا ما یقابل الانفصال فلا إشکال .2 المناقشة الثانیة و هی أهم مناقشة علیها یبتنی صحة استدلاله علی التفصیل أو بطلانه و حاصلها أن هذا التوجیه من الشیخ للاستدلال یتوقف علی التصرف فی الیقین بإرادة المتیقن منه کما نبه علیه نفسه لأنه لو کان النقض مستندا إلی نفس الیقین کما هو ظاهر التعبیر فإن الیقین بنفسه مبرم و محکم فیصح إسناد النقض إلیه و لو لم یکن لمتعلقه فی ذاته استعداد البقاء ضرورة أنه

ص :316

لا یحتاج فرض الإبرام فی المنقوض إلی فرض أن یکون متعلق الیقین ثابتا و مبرما فی نفسه حتی تختص حرمة النقض بالشک فی الرافع .و لکن لا یصح إرادة المتیقن من الیقین علی وجه یکون الإسناد اللفظی إلی نفس المتیقن لأنه إنما یصح ذلک إذا کان علی نحو المجاز فی الکلمة أو علی نحو حذف المضاف و کلا الوجهین بعیدان کل البعد إذ لا علاقة بین الیقین و المتیقن حتی یصح استعمال أحدهما مکان الآخر علی نحو المجاز فی الکلمة بل ینبغی أن یعد ذلک من الأغلاط و أما تقدیر المضاف بأن نقدر متعلق الیقین أو نحو ذلک فإن تقدیر المحذوف یحتاج إلی قرینة لفظیة مفقودة .و من أجل هذا استظهر المحقق الآخوند عموم الأخبار لموردی الشک فی المقتضی و الرافع لأن النقض إذا کان مسندا إلی نفس الیقین فلا یحتاج فی صحة إسناد النقض إلیه إلی فرض أن یکون المتیقن مما له استعداد للبقاء .أقول إن البحث عن هذا الموضوع بجمیع أطرافه و تعقیب کل ما قیل فی هذا الشأن من أساتذتنا و غیرهم یخرجنا عن طور هذه الرسالة فالجدیر بنا أن نکتفی بذکر خلاصة ما نراه من الحق فی المسألة متجنبین الإشارة إلی خصوصیات الآراء و الأقوال فیها حد الإمکان .و علیه فنقول ینبغی تقدیم مقدمات قبل بیان المختار و هی أولا أنه لا شک فی أن النقض المنهی عنه مسند إلی الیقین فی لفظ الأخبار و ظاهرها أن وثاقة الیقین من جهة ما هو یقین هی المقتضیة للتمسک به و عدم نقضه فی قبال الشک الذی هو عین الوهن و التزلزل لا سیما مع التعبیر فی بعضها بقوله علیه السلام لا ینبغی و التعلیل فی البعض الآخر بوجود الیقین المشعر بعلیته للحکم کما سبق بیانه فی قوله

ص :317

علیه السلام فإنه علی یقین من وضوئه و لا سیما مع مقابلة الیقین بالشک و لا شک أنه لیس المراد من الشک المشکوک .و علی هذا یتضح جلیا أن حمل الیقین علی إرادة المتیقن علی وجه یکون الإسناد اللفظی إلی المتیقن بنحو المجاز فی الکلمة أو بنحو حذف المضاف خلاف الظاهر منها بل خلاف سیاقها بل مستهجن جدا فیتأید ما قاله المعترض و لذا استبعد شیخنا المحقق النائینی أن یرید الشیخ الأعظم من المجاز المجاز فی الکلمة و هو استبعاد فی محله و أبعد منه إرادة حذف المضاف .ثانیا أنه من المسلم به عند الجمیع الذی لا شک فیه أیضا أن النهی عن نقض الیقین فی الأخبار لیس علی حقیقته و السر واضح لأن الیقین حسب الفرض منتقض فعلا بالشک فلا یقع تحت اختیار المکلف فلا یصح النهی عنه .و حینئذ فلا معنی للنهی عنه إلا أن یراد به عدم الاعتناء بالشک عملا و البناء علیه کأنه لم یکن لغرض ترتیب أحکام الیقین عند الشک و لکن لا یصح أن یقصد أحکام الیقین من جهة أنه صفة من الصفات لارتفاع أحکامه بارتفاعه قطعا فلم یکن رفع الید عن الحکم عملا نقضا له بالشک بل بالیقین لزوال موضوع الحکم قطعا .و علیه فالمراد من الأحکام الأحکام الثابتة للمتیقن بواسطة الیقین به فهو تعبیر آخر عن الأمر بالعمل بالحالة السابقة فی الوقت اللاحق بمعنی وجوب العمل فی مقام الشک بمثل العمل فی مقام الیقین کأن الشک لم یکن فکأنه قال اعمل فی حال شکک کما کنت تعمل فی حال یقینک و لا تعتنی بالشک

ص :318

إذا عرفت ذلک فیبقی أن نعرف علی أی وجه یصح أن یکون التعبیر بحرمة نقض الیقین تعبیرا عن ذلک المعنی فإن ذلک لا یخلو بحسب التصور عن أحد أمور أربعة 1 أن یکون المراد من الیقین المتیقن علی نحو المجاز فی الکلمة .2 أن یکون النقض أیضا متعلقا فی لسان الدلیل بنفس المتیقن و لکن علی حذف المضاف .3 أن یکون النقض المنهی عنه مسندا إلی الیقین علی نحو المجاز فی الإسناد و یکون فی الحقیقة مسندا إلی نفس المتیقن و المصحح لذلک اتحاد الیقین و المتیقن أو کون الیقین آلة و طریقا إلی المتیقن .4 أن یکون النهی عن نقض الیقین کنایة عن لزوم العمل بالمتیقن و إجراء أحکامه لأن ذلک لازم معناه باعتبار أن الیقین بالشیء مقتض للعمل به فحله یلازم رفع الید عن ذلک الشیء أو عن حکمه إذ لا یبقی حینئذ ما یقتضی العمل به فالنهی عن حله یلزمه النهی عن ترک مقتضاه أعنی النهی عن ترک العمل بمتعلقه .و قد عرفت فی المقدمة الأولی و فی مناقشة الشیخ بعد إرادة الوجهین الأولین فیدور الأمر بین الثالث و الرابع و الرابع هو الأوجه و الأقرب و لعله هو مراد الشیخ الأعظم و إن کان الذی یبدو من بعض تعبیراته إرادة الوجه الأول الذی استبعد شیخنا المحقق النائینی أن یکون مقصوده ذلک کما تقدم أما هو أعنی شیخنا النائینی فلم یصرح بإرادة أی من الوجهین الآخرین و الأنسب فی عبارة بعض المقررین لبحثه إرادة الوجه الثالث إذ(قال إنه یصح ورود النقض علی الیقین بعنایة المتیقن) .و علی کل حال فالوجه الرابع أعنی الاستعمال الکنائی أقرب الوجوه

ص :319

و أولاها و فیه من البلاغة فی البیان ما لیس فی غیره کما أن فیه المحافظة علی ظهور الأخبار و سیاقها فی إسناد النقض إلی نفس الیقین و قد استظهرنا منها کما تقدم فی المقدمة الأولی أن وثاقة الیقین بما هو یقین هی المقتضیة للتمسک به و فی الکنایة کما هو المعروف بیان للمراد مع إقامة الدلیل علیه فإن المراد الاستعمالی هنا الذی هو حرمة نقض الیقین بالشک یکون کالدلیل و المستند للمراد الجدی المقصود الأصلی فی البیان و المراد الجدی هو لزوم العمل علی وفق المتیقن بلسان النهی عن نقض الیقین .ثالثا بعد ما تقدم ینبغی أن نسأل عن المراد من النقض فی الأخبار هل المراد النقض الحقیقی أو النقض العملی المعروف أن إرادة النقض الحقیقی محال فلا بد أن یراد النقض العملی لأن نقض الیقین کما تقدم لیس تحت اختیار المکلف فلا یصح النهی عنه و علی هذا بنی الشیخ الأعظم و صاحب الکفایة و غیرهما و لکن التدقیق فی المسألة یعطی غیر هذا إنما یلزم هذا المحذور لو کان النهی عن نقض الیقین مرادا جدیا أما علی ما ذکرناه من أنه علی وجه الکنایة فإنه کما ذکرنا یکون مرادا استعمالیا فقط و لا محذور فی کون المراد الاستعمالی فی الکنایة محالا أو کاذبا فی نفسه إنما المحذور إذا کان المراد الجدی المکنی عنه کذلک .و علیه فحمل النقض علی معناه الحقیقی أولی ما دام أن ذلک یصح بلا محذور .

النتیجة

أنه إذا تمت هذه المقدمات فصح إسناد النقض الحقیقی من أجل وثاقته من جهة ما هو یقین و إن کان النهی عنه یراد به لازم معناه علی سبیل الکنایة فإنا نقول إن الیقین لما کان فی نفسه مبرما و محکما فلا یحتاج

ص :320

فی صحة إسناد النقض إلیه إلی فرض أن یکون متعلقه مما له استعداد فی ذاته للبقاء و إنما یلزم ذلک لو کان الإسناد اللفظی إلی نفس المتیقن و لو علی نحو المجاز و أما کون أن المراد الجدی هو النهی عن ترک مقتضی الیقین الذی عبارة عن لزوم العمل بالمتیقن فإن ذلک مراد لبی و لیس فیه إسناد للنقض إلی المتیقن فی مقام اللفظ حتی یکون ذلک قرینة لفظیة علی المراد من المتیقن و السر فی ذلک أن الکنایة لا یقدر فیها لفظ المکنی عنه علی أن المکنی عنه لیس هو حرمة نقض المتیقن بل کما تقدم هو حرمة ترک مقتضی الیقین الذی هو عبارة عن لزوم العمل بالمتیقن فلا نقض مسند إلی المتیقن لا لفظا و لا لبا حتی یکون ذلک قرینة علی أن المراد من المتیقن هو ما له استعداد فی ذاته للبقاء لأجل أن یکون مبرما یصح إسناد النقض إلیه .

الخلاصة

و خلاصة ما توصلنا إلیه هو أن الحق أن النقض مسند إلی نفس الیقین بلا مجاز فی الکلمة و لا فی الإسناد و لا علی حذف مضاف و لکن النهی عنه جعل عنوانا علی سبیل الکنایة عن لازم معناه و هو لزوم الأخذ بالمتیقن فی ثانی الحال بترتیب آثاره الشرعیة علیه و هذا المکنی عنه عبارة أخری عن الحکم ببقاء المتیقن و إذا کان النهی عن نقض الیقین من باب الکنایة فلا یستدعی ذلک أن نفرض فی متعلقه استعداد البقاء لیتحقق معنی النقض لأنه متحقق بدون ذلک .و علیه فمقتضی الأخبار حجیة الاستصحاب فی موردی الشک فی المقتضی و الرافع معا .و نحن إذا توصلنا إلی هنا من بیان حجیة الاستصحاب مطلقا فی مقابل

ص :321

التفصیل الذی ذهب إلیه الشیخ الأنصاری لا نجد کثیر حاجة فی التعرض للتفصیلات الأخری فی هذا المختصر و نحیل ذلک إلی المطولات لا سیما رسالة الشیخ فی الاستصحاب فإن فی ما ذکره الغنی و الکفایة

ص :322

تنبیهات الاستصحاب
اشارة

بعد فراغ الشیخ الأنصاری من ذکر الأقوال فی المسألة و مناقشتها شرع فی بیان أمور تتعلق به بلغت اثنی عشر أمرا و اشتهرت باسم تنبیهات الاستصحاب فصار لها شأن کبیر عند الأصولیین و صارت موضع عنایتهم لما لأکثرها من الفوائد الکبیرة فی الفقه و لما لها من المباحث الدقیقة الأصولیة و زاد فیها شیخ أساتذنا فی الکفایة تنبیهین فصارت أربعة عشر تنبیها و نحن ذاکرون بعون الله تعالی أهمها متوخین الاختصار حد الإمکان و الاقتصار علی ما ینفع الطالب المبتدئ .

التنبیه الأول استصحاب الکلی[1]
اشارة

الغرض من استصحاب الکلی هو استصحابه فیما إذا تیقن بوجوده فی ضمن فرد من أفراده ثم شک فی بقاء نفس ذلک الکلی و هذا الشک فی بقاء الکلی فی ضمن أفراده یتصور علی أنحاء ثلاثة عرفت باسم أقسام استصحاب الکلی 1 أن یکون الشک فی بقاء الکلی من جهة الشک فی بقاء نفس ذلک الفرد الذی تیقن بوجوده .2 أن یکون الشک فی بقاء الکلی من جهة الشک فی تعیین ذلک

ص :323

الفرد المتیقن سابقا بأن یتردد الفرد بین ما هو باق جزما و بین ما هو مرتفع جزما أی أنه کان قد تیقن علی الإجمال بوجود فرد ما من أفراد الکلی فیتیقن بوجود الکلی فی ضمنه و لکن هذا الفرد الواقعی مردد عنده بین أن یکون له عمر طویل فهو باق جزما فی الزمان الثانی و بین أن یکون له عمر قصیر فهو مرتفع جزما فی الزمان الثانی و من أجل هذا التردید یحصل له الشک فی بقاء الکلی .مثاله ما إذا علم علی الإجمال بخروج بلل مردد بین أن یکون بولا أو منیا ثم توضأ فإنه فی هذا الحال یتیقن بحصول الحدث الکلی فی ضمن هذا الفرد المردد فإن کان البلل بولا فحدثه أصغر قد ارتفع بالوضوء جزما و إن کان منیا فحدثه أکبر لم یرتفع بالوضوء فعلی القول بجریان استصحاب الکلی یستصحب هنا کلی الحدث فتترتب علیه آثار کلی الحدث مثل حرمة مس المصحف أما آثار خصوص الحدث الأکبر أو الأصغر فلا تترتب مثل حرمة دخول المسجد و قراءة العزائم .3 أن یکون الشک فی بقاء الکلی من جهة الشک فی وجود فرد آخر مقام الفرد المعلوم حدوثه و ارتفاعه أی أن الشک فی بقاء الکلی مستند إلی احتمال وجود فرد ثان غیر الفرد المعلوم حدوثه و ارتفاعه لأنه إن کان الفرد الثانی قد وجد واقعا فإن الکلی باق بوجوده و إن لم یکن قد وجد فقد انقطع وجود الکلی بارتفاع الفرد الأول .أما القسم الأول فالحق فیه جریان الاستصحاب بالنسبة إلی الکلی فیترتب علیه أثره الشرعی کما لا کلام فی جریان استصحاب نفس الفرد فیترتب علیه أثره الشرعی بما له من الخصوصیة الفردیة و هذا لا خلاف فیه .

ص :324

و أما القسم الثانی فالحق فیه أیضا جریان الاستصحاب بالنسبة إلی الکلی و أما بالنسبة إلی الفرد فلا یجری قطعا بل الفرد یجری فیه استصحاب عدم خصوصیة الفرد ففی المثال المتقدم یجری استصحاب کلی الحدث بعد الوضوء فلا یجوز له مس المصحف أما بالنسبة إلی خصوصیة الفرد فالأصل عدمها فما هو من آثار خصوص الجنابة مثلا لا یجب الأخذ بها فلا یحرم قبل الغسل ما یحرم علی الجنب من نحو دخول المساجد و قراءة العزائم کما تقدم .و لأجل بیان صحة جریان الاستصحاب فی الکلی فی هذا القسم الثانی و حصول أرکانه لا بد من ذکر ما قیل أنه مانع من جریانه و الجواب عنه (و قد أشار الشیخ إلی وجهین فی المنع و أجاب عنهما و هما کل ما یمکن أن یقال فی المنع الأول قال و توهم عدم جریان الأصل فی القدر المشترک من حیث دورانه بین ما هو مقطوع الانتفاء و ما هو مشکوک الحدوث و هو محکوم الانتفاء بحکم الأصل) توضیح التوهم أن أهم أرکان الاستصحاب هو الیقین بالحدوث و الشک فی البقاء و فی المقام إن حصل الرکن الأول و هو الیقین بالحدوث فإن الرکن الثانی و هو الشک فی البقاء غیر حاصل وجه ذلک أن الکلی لا وجود له إلا بوجود أفراده و من الواضح أن وجود الکلی فی ضمن الفرد القصیر مقطوع الارتفاع فی الزمان الثانی وجدانا و أما وجوده فی ضمن الفرد الطویل فهو مشکوک الحدوث من أول الأمر و هو منفی بالأصل فیکون الکلی مرتفعا فی الزمان الثانی إما وجدانا أو بالأصل تعبدا فلا شک فی بقائه

ص :325

و الجواب أن هذا التوهم فیه خلط بین الکلی و فرده أو فقل فیه خلط بین ذات الحصة من الکلی أی ذات الکلی الطبیعی و بین الحصة منه بما لها من الخصوصیة و التعین الخاص فإن الذی هو معلوم الارتفاع إما وجدانا أو تعبدا أنما هو الحصة بما لها من التعین الخاص و هی بالإضافة إلی ذلک غیر معلومة الحدوث أیضا فلم یتحقق فیها الرکنان معا لأنه کما أن کل فرد من الفردین مشکوک الحدوث فی نفسه فإن الحصة الموجودة به بما لها من التعین الخاص کذلک مشکوکة الحدوث إذ لا یقین بوجود هذه الحصة و لا یقین بوجود تلک الحصة و لا موجود ثالث حسب الفرض و أما ذات الحصة المتعینة واقعا لا بما لها من التعین الخاص بهذا الفرد أو بذلک الفرد أی القدر المشترک بینهما ففی الوقت الذی هی فیه معلومة الحدوث هی مشکوکة البقاء إذ لا علم بارتفاعها و لا تعبد بارتفاعها بل لأجل القطع بزوال التعین الخاص یشک فی ارتفاعها و بقائها لاحتمال کون تعینها هو التعین الباقی أو هو التعین الزائل و ارتفاع الفرد لا یقتضی إلا ارتفاع الحصة المتعینة به و هی کما قدمنا غیر معلومة الحدوث و إنما المعلوم ذات الحصة أی القدر المشترک .و الحاصل أن ما هو غیر مشکوک البقاء إما وجدانا أو تعبدا لا یقین بحدوثه أصلا و هو الحصة بما لها من التعین الخاص و ما هو متیقن الحدوث هو مشکوک البقاء وجدانا و هو ذات الحصة لا بما لها من التعین الخاص (و قد أشار الشیخ إلی هذا الجواب بقوله إنه لا یقدح ذلک فی استصحابه بعد فرض الشک فی بقائه و ارتفاعه) الثانی(قال الشیخ الأعظم توهم کون الشک فی بقائه مسببا عن الشک فی حدوث ذلک المشکوک الحدوث فإذا حکم بأصالة عدم

ص :326

حدوثه لزمه ارتفاع القدر المشترک لأنه من آثاره .و الجواب الصحیح هو ما أشار إلیه بقوله إن ارتفاع القدر المشترک من لوازم کون الحادث ذلک الأمر المقطوع الارتفاع لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر نعم اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو فی ضمنه من القدر المشترک فی الزمان الثانی لا ارتفاع القدر المشترک بین الأمرین و بینهما فرق واضح) .توضیح ما أفاده من الجواب أنا نمنع أن یکون الشک فی بقاء القدر المشترک أی الکلی مسببا عن الشک فی حدوث الفرد الطویل و عدمه لأن وجود الکلی حسب الفرض متیقن الحدوث من أول الأمر إما فی ضمن القصیر أو الطویل فلا یعقل أن یکون عدمه بعد وجوده مستندا إلی عدم الفرد الطویل من الأول و إلا لما وجد من الأول بل فی الحقیقة أن الشک فی بقاء الکلی أی فی وجوده و عدمه بعد فرض القطع بوجوده مستند إلی احتمال وجود هذا الفرد الطویل مع احتمال وجود ذلک الفرد القصیر یعنی یستند إلی الاحتمالین معا لا لخصوص احتمال وجود الطویل إذ یحتمل بقاء وجوده الأول لاحتمال حدوث الطویل و یحتمل عدمه بعد الوجود لاحتمال حدوث القصیر المرتفع قطعا فی ثانی الحال .و الحاصل أن احتمال وجود الکلی و عدمه فی ثانی الحال مسبب عن الشک فی أن الحادث المعلوم هل هو الطویل أو القصیر لا أنه مسبب عن خصوص احتمال حدوث الطویل حتی یکون نفیه بالأصل موجبا لنفی الشک فی وجود الکلی فی ثانی الحال فلا بد من نفی کل من الفردین بالأصل حتی یکون ذلک موجبا لارتفاع القدر المشترک و الأصلان معا لا یجریان مع فرض العلم الإجمالی .

ص :327

و أما القسم الثالث و هو ما إذا کان الشک فی بقاء الکلی مستندا إلی احتمال وجود فرد ثان غیر الفرد المعلوم حدوثه ثم ارتفاعه فهو علی نحوین 1 أن یحتمل حدوث الفرد الثانی فی ظرف وجود الأول .2 أن یحتمل حدوثه مقارنا لارتفاع الأول و هو علی نحوین إما بتبدله إلیه أو بمجرد المقارنة الاتفاقیة بین ارتفاع الأول و حدوث الثانی .و فی جریان الاستصحاب فی هذا القسم الثالث من الکلی احتمالات أو أقوال ثلاثة:

أ جریانه مطلقا .ب عدم جریانه مطلقا .ج التفصیل بین النحوین المذکورین فیجری فی الأول دون الثانی مطلقا و هذا التفصیل هو الذی مال إلیه الشیخ الأعظم .و السر فی الخلاف یعود إلی أن الأرکان فی الاستصحاب هل هی متوفرة هنا أو غیر متوفرة و المشکوک توفره فی المقام هو الرکن الخامس و هو اتحاد متعلق الیقین و الشک .و لا شک فی أن الکلی المتیقن نفسه هو المشکوک بقاؤه فی هذا القسم فهو واحد نوعا فینبغی أن یسأل أولا هل هذه الوحدة النوعیة بین المتیقن و المشکوک کافیة فی تحقق الوحدة المعتبرة فی الاستصحاب أو غیر کافیة بل لا بد له من وحدة خارجیة .ثانیا بعد فرض عدم کفایة الوحدة النوعیة هل إن الکلی الطبیعی له وحدة خارجیة بوجود أفراده بمعنی أنه یکون بوحدته الخارجیة

ص :328

معروضا لتعینات أفراده المتباینة بناء علی ما قیل من أن نسبة الکلی إلی أفراده من باب نسبة الأب الواحد إلی الأبناء الکثیرة کما نقل ذلک ابن سینا عن بعض من عاصره أو أن الکلی الطبیعی لا وجود له إلا بوجود أفراده بالعرض ففی کل فرد حصة موجودة منه غیر الحصة الموجودة فی فرد آخر فلا تکون له وحدة خارجیة بوجود أفراده المتعددة بل نسبته إلی أفراده من قبیل نسبة الآباء المتعددة إلی الأبناء المتعددة و هذا هو المعروف عند المحققین .فالقائل بجریان الاستصحاب فی هذا القسم إما أن یلتزم بکفایة الوحدة النوعیة فی تحقق رکن الاستصحاب و إما أن یلتزم بأن الکلی له وحدة خارجیة بوجود أفراده المتعددة و إلا فلا یجری الاستصحاب .و إذا اتضح هذا التحلیل الدقیق لمنشإ الأقوال فی المسألة یتضح الحق فیها و هو القول الثانی و هو عدم جریان الاستصحاب مطلقا .أما أولا فلأنه من الواضح عدم کفایة الوحدة النوعیة فی الاستصحاب لأن معنی بقاء المستصحب فیه هو استمراره خارجا بعد الیقین به و نحن لا نعنی من استصحاب الکلی استصحاب نفس الماهیة من حیث هی فإن هذا لا معنی له بل المراد استصحابها بما لها من الوجود الخارجی لغرض ترتیب أحکامها الفعلیة .و أما ثانیا فلأنه من الواضح أیضا أن الحق أن نسبة الکلی إلی أفراده من قبیل نسبة الآباء إلی الأبناء لأنه من الضروری أن الکلی لا وجود له إلا بالعرض بوجود أفراده .و فی مقامنا قد وجدت حصة من الکلی و قد ارتفعت هذه الحصة یقینا و الحصة الأخری منه فی الفرد الثانی هی من أول الأمر مشکوکة الحدوث

ص :329

فلم یتحد المتیقن و المشکوک .و بهذا یفترق القسم الثالث عن القسم الثانی من استصحاب الکلی لأنه فی القسم الثانی کما سبق ذات الحصة من الکلی المتعینة واقعا المعلومة الحدوث علی الإجمال هی نفسها مشکوکة البقاء حیث لا یدری أنها الحصة المضافة إلی الفرد الطویل أو الفرد القصیر .و بهذا أیضا یتضح أنه لا وجه للتفصیل المتقدم الذی مال إلیه الشیخ الأعظم فإن احتمال وجود الفرد الثانی فی ظرف وجود الفرد الأول لا یقدم و لا یؤخر و لا یضمن الوحدة الخارجیة للمتیقن و المشکوک إلا إذا قلنا بمقالة من یذهب إلی أن نسبة الکلی إلی أفراده من قبیل نسبة الأب الواحد إلی أبنائه و حاشا الشیخ أن یری هذا الرأی و لا شک أن الحصة الموجودة فی ضمن الفرد الثانی من أول الأمر مشکوکة الحدوث و أما المتیقن حدوثه فهو حصة أخری و هی فی عین الحال متیقنة الارتفاع و یکون وزان هذا القسم وزان استصحاب الفرد المردد الآتی ذکره .

تنبیه

و قد استثنی من هذا القسم الثالث ما یتسامح به العرف فیعدون الفرد اللاحق المشکوک الحدوث مع الفرد السابق کالمستمر الواحد مثل ما لو علم السواد الشدید فی محل و شک فی ارتفاعه أصلا أو تبدله بسواد أضعف فإنه فی مثله حکم الجمیع بجریان الاستصحاب و من هذا الباب ما لو کان شخص کثیر الشک ثم شک فی زوال صفة کثرة الشک عنه أصلا أو تبدلها إلی مرتبة من الشک دون الأولی .(قال الشیخ الأعظم فی تعلیل جریان الاستصحاب فی هذا الباب العبرة فی جریان الاستصحاب عد الموجود السابق مستمرا إلی اللاحق و لو کان

ص :330

الأمر اللاحق علی تقدیر وجوده مغایرا بحسب الدقة للفرد اللاحق) .یعنی أن العبرة فی اتحاد المتیقن و المشکوک هو الاتحاد عرفا و بحسب النظر المسامحی و إن کانا بحسب الدقة العقلیة متغایرین کما فی المقام

ص :331

التنبیه الثانی[1] الشبهة العبائیة أو استصحاب الفرد المردد

ینقل أن السید الجلیل السید إسماعیل الصدر قدس سره زار النجف الأشرف أیام الشیخ المحقق الآخوند فأثار فی أوساطها العلمیة مسألة تناقلوها و صارت عندهم موضعا للرد و البدل و اشتهرت بالشبهة العبائیة .و حاصلها أنه لو وقعت نجاسة علی أحد طرفی عباءة و لم یعلم أنه الطرف الأعلی أو الأسفل ثم طهر أحد الطرفین و لیکن الأسفل مثلا فإن تلک النجاسة المعلومة الحدوث تصبح نفسها مشکوکة الارتفاع فینبغی أن یجری استصحابها بینما أن مقتضی جریان استصحاب النجاسة فی هذه العباءة أن یحکم بنجاسة البدن مثلا الملاقی لطرفی العباءة معا مع أن هذا اللازم باطل قطعا بالضرورة لأن ملاقی أحد طرفی الشبهة المحصورة محکوم علیه بالطهارة بالإجماع کما تقدم فی محله و هنا لم یلاق البدن إلا أحد طرفی الشبهة و هو الطرف الأعلی و أما الطرف الأسفل و إن لاقاه فإنه قد خرج عن طرف الشبهة حسب الفرض بتطهیره یقینا فلا معنی للحکم بنجاسة ملاقیه .و النکتة فی الشبهة أن هذا الاستصحاب یبدو من باب استصحاب الکلی من القسم الثانی و لا شک فی أن مستصحب النجاسة لا بد أن یحکم بنجاسة ملاقیه بینما أنه هنا لا یحکم بنجاسة الملاقی فیکشف ذلک عن

ص :332

عدم صحة استصحاب الکلی القسم الثانی .و قد استقر الجواب عند المحققین عن هذه الشبهة علی أن هذا الاستصحاب لیس من باب استصحاب الکلی بل هو من نوع آخر سموه استصحاب الفرد المردد و قد اتفقوا علی عدم صحة جریانه عدا ما نقل عن بعض الأجلة فی حاشیته علی کتاب البیع للشیخ الأعظم إذ قال بما محصله (بأن تردده بحسب علمنا لا یضر بیقین وجوده سابقا و المفروض أن أثر القدر المشترک أثر لکل من الفردین فیمکن ترتیب ذلک الأثر باستصحاب الشخص الواقعی المعلوم سابقا کما فی القسم الأول الذی حکم الشیخ فیه باستصحاب کل من الکلی و فرده) .أقول و یجب أن یعلم قبل کل شیء الضابط لکون المورد من باب استصحاب الکلی القسم الثانی أو من باب استصحاب الفرد المردد فإن عدم التفرقة بین الموردین هو الموجب للاشتباه و تحکم تلک الشبهة إذن ما الضابط لهما .إن الضابط فی ذلک أن الأثر المراد ترتیبه إما أن یکون أثرا للکلی أی أثر لذات الحصة من الکلی لا بما لها من التعین الخاص و الخصوصیة المفردة أو أثرا للفرد أی أثر للحصة بما لها من التعین الخاص و الخصوصیة المفردة فإن کان الأول فیکفی فیه استصحاب القدر المشترک أی ذات الحصة الموجودة إما فی ضمن الفرد المقطوع الارتفاع علی تقدیر أنه هو الحادث أو الفرد المقطوع البقاء علی تقدیر أنه هو الحادث و یکون ذلک من باب استصحاب الکلی القسم الثانی و قد تقدم أننا لا نعنی من استصحاب الکلی استصحاب نفس الماهیة الکلیة بل استصحاب وجودها و إن کان الثانی فلا یکفی استصحاب القدر المشترک و إنما الذی ینفع

ص :333

استصحاب الفرد بما له من الخصوصیة المفردة المفروض فیه أنه مردد بین الفرد المقطوع الارتفاع علی تقدیر أنه الحادث أو الفرد المقطوع البقاء علی تقدیر أنه الحادث و یکون ذلک من باب استصحاب الفرد المردد .إذا عرفت هذا الضابط فالمثال الذی وقعت فیه الشبهة هو من النوع الثانی لأن الموضوع للنجاسة المستصحبة لیس أصل العباءة أو الطرف الکلی منها بل نجاسة الطرف الخاص بما هو طرف خاص إما الأعلی أو الأسفل .و بعد هذا یبقی أن نتساءل لما ذا لا یصح جریان استصحاب الفرد المردد نقول لقد اختلفت تعبیرات الأساتذة فی وجهه فقد قیل لأنه لا یتوفر فیه الرکن الثانی و هو الشک فی البقاء و قیل بل لا یتوفر الرکن الأول و هو الیقین بالحدوث فضلا عن الرکن الثانی .أما الوجه الأول فبیانه أن الفرد بما له من الخصوصیة مردد حسب الفرض بین ما هو مقطوع البقاء و بین ما هو مقطوع الارتفاع فلا شک فی بقاء الفرد الواقعی الذی کان معلوم الحدوث لأنه إما مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع .و أما الوجه الثانی و هو الأصح فبیانه أن الیقین بالحدوث إن أرید به الیقین بحدوث الفرد مع قطع النظر عن الخصوصیة المفردة لأنها مجهولة حسب الفرض فالیقین موجود و لکن المتیقن حینئذ هو الکلی الذی یصلح للانطباق علی کل من الفردین و إن أرید به الیقین بالفرد بما له من الخصوصیة المفردة فواضح أنه غیر حاصل فعلا لأن المفروض أن الخصوصیة المفردة مجهولة و مرددة بین خصوصیتین فکیف تکون متیقنة فی عین الحال إذ المردد بما هو مردد لا معنی لأن یکون معلوما متعینا هذا خلف محال

ص :334

و إنما المعلوم هو القدر المشترک و فی الحقیقة أن کل علم إجمالی مؤلف من علم و جهل و متعلق العلم هو القدر المشترک و متعلق الجهل خصوصیاته و إلا فلا معنی للإجمال فی العلم و هو عین الیقین و الانکشاف و إنما سمی بالعلم الإجمالی لانضمام الجهل بالخصوصیات إلی العلم بالجامع .و علیه فإن ما هو متیقن و هو الکلی لا فائدة فی استصحابه لغرض ترتیب أثر الفرد بخصوصه و ما له الأثر المراد ترتبه علیه و هو الفرد بخصوصیته غیر متیقن بل هو مجهول مردد بین خصوصیتین فلا یتحقق فی استصحاب الفرد المردد رکن الیقین بالحالة السابقة لا أن الفرد المردد متیقن و لکن لا شک فی بقائه .و الوجه الأصح هو الثانی کما ذکرنا و أما الوجه الأول و هو أنه لا شک فی بقاء المتیقن فغریب صدوره عن بعض أهل التحقیق فإن کونه مرددا بین ما هو مقطوع البقاء و بین ما هو مقطوع الارتفاع معناه فی الحقیقة هو الشک فعلا فی بقاء الفرد الواقعی و ارتفاعه لأن المفروض أن القطع بالبقاء و القطع بالارتفاع لیسا قطعین فعلیین بل کل منهما قطع علی تقدیر مشکوک و القطع علی تقدیر مشکوک لیس قطعا فعلا بل هو عین الشک .و علی کل حال فلا معنی لاستصحاب الفرد المردد و لا معنی لأن یقال کما سبق عن بعض الأجلة (أن تردده بحسب علمنا لا یضر بیقین وجوده سابقا) فإنه کیف یکون تردده بحسب علمنا لا یضر بالیقین و هل الیقین إلا العلم إلا إذا أراد من الیقین بوجوده سابقا الیقین بالقدر المشترک و التردد فی الفرد فالیقین متعلق بشیء و التردد بشیء آخر

ص :335

فیتوفر رکنا الاستصحاب بالنسبة إلی القدر المشترک لا بالنسبة إلی الفرد المراد استصحابه فما هو متیقن لا یراد استصحابه و ما یراد استصحابه غیر متیقن علی ما سبق بیانه

ص :336

ص :337

ص :338

ص :339

ص :340

ص :341

ص :342

ص :343

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.