بحث قرآني، رواني، علمي، فقهي في اثبات ان مشاهدنا و قبور اهل البيت عليهم السلام مشاعر الهيه

اشارة

سرشناسه : عابديني، حسين، ‫1349 -

عنوان و نام پديدآور : بحث قرآني، رواني، علمي، فقهي في اثبات ان مشاهدنا و قبور اهل البيت عليهم السلام مشاعر الهيه/ محاظرات محمد السند؛ بقلم محمدرجب عبدالوهاب.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر ‫، 1392.

مشخصات ظاهري : ‫205 ص.

شابك : ‫ 978-964-540-453-4

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه: ص. [195] - 200؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع : گورها و گورستان ها -- زيارت -- احاديث

موضوع : گورها و گورستان ها -- زيارت -- دفاعيه ها و رديه ها

شناسه افزوده : عبدالوهاب، محمدرجب، گردآورنده

رده بندي كنگره : ‫ BP226/7 ‫ /س86ب3 1392

رده بندي ديويي : ‫ 297/76

شماره كتابشناسي ملي : 3217578

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

كلمة المعهد

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

لقد أمر الله تعالى عباده المسلمين بتعظيم الشعائر الإلهيّة، وعدّ ذلك من تقوى القلوب (1)، كما دأب المسلمون على مرّ التاريخ على اعتبار زيارة قبور الأولياء الإلهيّين من أبرز مصاديق تعظيم الشعائر الإلهيّة، لا سيّما في موسم الحجّ، حيث يبدون اهتماماً كبيراً بزيارة قبر النبيّ الأعظم (ص) وباقي الأولياء الإلهيّين المدفونين في بلاد الحجاز؛ ولكن ما إن تسلّطت الوهابيّة على تلك البقعة من الأرض قبل زهاء ثلاثة قرون حتّى نهت عن أداء مثل هذه الأمور العباديّة، واعتبرت زيارة قبورهم من مصاديق الابتداع ودلائل الشرك!

وقد جاء هذا الكتاب بقلم سماحة آية الله الشيخ محمّد السند، العلّامة الذي نهل من نمير مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ليسلّط الأضواء على الزوايا المختلفة لموضوع زيارة القبور وبحث المسائل المتعلّقة به، اعتماداً على الكتاب والسنّة وباقي المصادر المعتمدة لدى المسلمين، وشمّر هذا الأستاذ الكريم عن ساعديه للردّ على الشبهات المطروحة في هذا الباب.

وانطلاقاً من رسالة «معهد الحجّ والزيارة» فقد أخذ على عاتقه ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الفارسيّة ونشره، وهو إذ يتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل للمؤلّف المحترم الذي


1- قال تعالى: (وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحجّ: 32 .

ص: 6

أذن في الترجمة والنشر، يبتهل إلى الباري عزّ وجلّ في أن يطيل عمره ويمنحه مزيداً من العزّة والتوفيق لخدمة مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ويجعل هذا الكتاب نافعاً للمسلمين كافّة، وسبباً لتعزيز الوحدة بين أبناء الأمّة الإسلاميّة.

إنّه ولي التوفيق

معهد الحج والزيارة

ص: 7

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

اللهُمَ ّ صَلِّ على محمد ٍ وآل محمدٍ الكهفِ الحصين، وغِياث المُضطر المُستكينَ، ومَلجأ الهاربين، وعصمةِ المُعتصمينَ. اللهُمَّ صلِ ّ على مُحمدٍ وآل محمدٍ صلاةً كثيرةً، تَكُونُ لهُم رضاً، ولحقِ ّ مُحمدٍ وآل محمدٍ أداء وقضاءً، بحولٍ منك وقوةٍ يا ربَّ العالَمين.

إن بحث الشعائر بصورة عامة من أهمّ البحوث العقائدية التي هي مرتبطة بمعرفة الله عز وجل والتي تتجلى في آياته وأسمائه العظمى حيث قال النبي الأعظم (ص) لعلي عليه السلام

«ثلاث أقسم أنهن حق، إنك والأوصياء من بعدك عرفاء لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتكم، وعرفاء لا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه، وعرفاء لا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه» (1)وبهذا لا سبيل لمعرفة الله وعظمته إلا بمعرفة النبي (ص) وأهل بيته وبالخضوع والتوجه إليهم وزيارتهم والتوسل بهم.

كما أن هذه البحوث بمادتها العلمية وتحليلها توصل للمنهج الصحيح في معرفتهم عليهم السلام والتي تعكس هذه المنزلة العظيمة لهم عند الله عز وجل، وهذه المعرفة لأهل البيت عليهم السلام تبعث في الأمة الأمان والرحمة الإلهية، خصوصاً عند ذكرهم وإحياء مآثرهم وتشييدها بالقول


1- الخصال للصدوق، باب قول النبي (ص) ثلاث أقسم أنهن حق، ص 15٠.

ص: 8

والفعل حيث تبقى شفاعتها للإنسان في الآخرة قبل هذه الدنيا الفانية.

فإن الحسين عليه السلام لم يأتِ للكوفيين بدافع مراسلتهم والإستجابة لدعوتهم بل أن المسؤولية العظمى والواجب الإلهي كان يتحتم على الإمام الوقوف لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن ثروات المسلمين المنهوبة والحقوق المضيعة التي كانت تصرف في إقامة حفلاتهم الماجنة والفاجرة في الوقت الذي يقبع الناس في الفقر المدقع، وقد أشار الحسين عليه السلام إلى هذا الأمر حيث قال

«إن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، فلم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس العيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يعمل به وأن الباطل لا ينهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما، انَ ّ الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء، قلَ الديانون» . (1)مما يتبين بأن الدافع الأساسي لنهضته المباركة هو الاصلاح والقضاء على الفساد الذي سببه انحراف هؤلاء عن جادة الحق، وإحياء البدع، وضياع السنة النبوية، وانتشار الفساد والانحراف الديني، وذلك بهدف هدم عقائد المسلمين وإبعادهم عن أهل البيت والرسالة ومن ثَم إحياء السنن الجاهلية الأولى.

فكان لنهضته عليه السلام الدور الكبير في تحرر المسلمين من ذل العبودية واستعادة العزة والحرية على نطاق واسع ضد الظلم والاضطهاد، والتي ساهمتْ في القضاء على الإعلام الزائف للسلطة الحاكمة التي زرعتْ الحقد والبغض في نفوس الجماهير اتجاه أهل البيت والرسالة دون أن يمحى ذكرهم وحبهم في وجدان الأحرار والأتباع منهم على الرغم من مرور عقود طويلة من الزمن حاولت السلطة اجتثاث وتشويه ذكرهم سلام الله عليهم أجمعين.

فهذه النهضة المباركة كانت حركة نحو تغيير شامل لأوضاع سياسية واجتماعية تحيطها رعاية إلهية مقدسة تستلهم تعاليمها من السماء والتي تحمل رسالة خالدة إلى كل الأجيال


1- تحف العقول، ص245؛ مقتل أبي مخنف، ص ٨6؛ تاريخ الطبري، ج 4، ص 22٩، وقد نقل الخطبة باختلاف طفيف ابن عساكر في تاريخ دمشق، ج 14، ص214؛ اللهوف، السيد بن طاووس، ص 33؛ بحارالأنوار، المجلسي، ج44، ص1٩2، ووفقاً لما نقله ابن عساكر والمجلسي فان الإمام عليه السلام خطبها في كربلاء بعد ان اصطدم بجيش عمر بن سعد.

ص: 9

المنصرمة والحاضرة، والتي تمهد طريق النضال والتحرير من الاستغلال والاستعباد والتسلط وتعيد النفس البشرية إلى العزة والكرامة بإتباعها هذا الخط الإسلامي الأصيل الممتد إلى رسالة النبي (ص) وأهل بيته الطاهرين.

ومن هذا المنطلق يُعلم بأن إحياء هذه المُثل والقيم التي جسدها الإمام عليه السلام هو إحياءٌ للدين والشريعة، وقد ورد في قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال:

«اتقوا الله وكونوا أخوة بررة متحابّين في الله متواصلين متواضعين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا وأحيوا أمرنا» (1).

وكذلك ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام في إحياء ذكرهم حيث قال:

«من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (2).

وتأسيساً على هذه النتيجة فإن إحياء هذه الشعائر ليس بدعاً ولا شركاً بل هو عين التوحيد والطاعة الإلهية، فإن البحث سينصب في صراط بيان عظمة هذه الشعائر وكونها المصداق الأبرز والنموذج الأوضح لمعالم الدين والشعائر التي وجهت الشريعة المعظمة إلى ضرورة تعظيمها وإحيائها بكل الأشكال والأساليب المتعدّدة، حتى تسري في غالب سيرة الأفراد والجماعات.

والكتاب الذي بين أيدينا أيها القارئ الكريم هو من البحوث الهامة في هذا المجال والذي يؤسس ويثبت القاعدة الشرعية في أن تعظيم شعائر الله هو من تقوى القلوب وأن عمارة قبور الأنبياء والأوصياء يصب في صراط التوحيد الخالص بالله عز وجل والمنبثق من ثوابت العقيدة الإسلامية، وهو من البحوث العقائدية التي ألقاها الأستاذ المحقق آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله) على جمعٍ من طلبة العلوم الدينية مؤكداً على أنَّ قبر النبي (ص) ، وأهل بيته والمشاهد المشرفة مشاعر إلهية وأنها من أوضح وأجلى مصاديق قوله تعالى: «وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» (3)أليس لأنها معلم من معالم الدين وحقيقة من حقائق


1- الكافي، ج 2، باب التراحم والتعاطف، ح1.
2- عيون أخبار الرضا، ج 2، باب فضائل علي عليه السلام، ح4٨.
3- الحج: 32.

ص: 10

التوحيد.

وبناءً عليه فقبر النبي (ص) وقبور أهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام وتشييدها وحفظها عن الاندراس وعمارتها هي من أفضل العبادات على الإطلاق والتي تُقبل بها الأعمال كما سيأتي إثباته إن شاء الله تعالى.

ففي تشريع الملة الحنيفية أن قبور الأنبياء تقصد ويتوجه إليها ويطاف بها، وهذا لا ينافي التوحيد التام، لاسيما وأن الله عز وجل أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بتطهير البيت من الشرك والمشركين، قال تعالى: «وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (1).

ومع وجود القبور المعلومة للأنبياء والمقامات المقدسة الثابتة إليهم، والتي لم يأتي النهي عن التعلق بها، فإن ذلك يدل على أن مثل هذا التعليق ليس من الشرك أصلاً، ومما يؤكد هذا الأمر قوله تعالى «وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (2).

وأما التعبير بالمشاعر فقد أشار إليه جملة من العلماء الأعلام، منهم الفقيه الكبير الفذ الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ره) في كتابه (كشف الغطاء) بأن قبور الأئمة عليهم السلام قد شُعرت، فهي مشاعر، ومن ثم تجري عليها أحكام المساجد (3).

وقد تميز الشيخ الكبير كاشف الغطاء بهذا الاستدلال عن بقية الأعلام وبالإشارة إلى أن وجه إلحاق قبور الأئمة عليهم السلام بالمساجد هو كونها شُعرتْ مشاعر، فهو إذن يذهب إلى أن المشاعر لا تختص بأفعال الحج، ولا تختص بالعبادات، بل تشمل دائرة ً أوسع من ذلك.

والمشعر إنما يُشعَّر ليس بخصوصه بل بنص من الله عز وجل فتكون حرميته ووقفيته أشد من بقية الأوقاف الأخرى كما هى في تشعير بيت الله الحرام وحرم المدينة وقد أقسم الله عزوجل بهذه البقاع المباركة وذلك في قوله تعالى «وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ * وَ طُورِ سِينِينَ * وَ هذَا»


1- البقرة: 125.
2- المصدر نفسه.
3- كشف الغطاء: 54 ( عند قراءة الفاتحة بعد الطعام ورجحان الشعائر الحسينية) .

ص: 11

«الْبَلَدِ الْأَمِينِ» (1) ، ببلد التين وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين وهو مكة، كما ورد ذلك عن الكاظم عليه السلام حيث قال:

«واختار من البلدان أربعة فقال عز وجل: (وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ * وَ طُورِ سِينِينَ * وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)

فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة» (2)هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلم الله عز وجل موسى عليه السلام (3)، ولا تَنافي في ذلك إذ لعل ذلك هو الوادي المقدس بين جبل طور والكوفة، كما ذكر ذلك بعض المفسرين.

وقد ورد في الحديث أن محل قبر أمير المؤمنين عليه السلام أول طور سيناء، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«كان في وصية أمير المؤمنين عليه السلام أن أخرجوني إلى الظهر (أي ظهر الكوفة) فإذا تصوبت أقدامكم واستقبلكم ريح فادفنوني، وهو أول طور سيناء، ففعلوا ذلك» (4).

والحاصل: بأن القرآن الكريم يؤكد أن هناك بقاع مقدسة مباركة تُعظم ويُتقرب فيها إلى الله عز وجل وجعل الحرمة لها فهذه الآية في صدد القسم والتعظيم بدلالة الاقتضاء بدلالة الالتزامية بأن الله سبحانه وتعالى يُعظم هذه المواضع الأربعة فعندما يُعظم هذه المواضع الأربعة بدلالة الالتزامية فإنه يجعل لها حرمة وبالتالي يُشعرها وبأنها محل تعظيم وحفاوة ربانية منه تعالى.

ولكي يستفاد من هذه الآية بأنها في صدد تشعير هذه المواضع المقصودة نحتاج إلى عدة مقدمات بحيث يُستفاد منها ذلك المعنى ونحن في صدد بيان هذه القاعدة الفقهية التي لها جذر عقائدي بأن قبور ومشاهد أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام مشاعر إلهية، فإذاً هذه القاعدة الدينية والمعلم الديني العظيم العام له حرمة بل حرمات في قِبال من ينتهج


1- التين: 1-3.
2- معاني الاخبار، ص365؛ الخصال، الشيخ الصدوق، ص 225؛ روضة الواعظين، النيسابوي، ص 4٠5.
3- زاد المسير، ابن الجوزي، ج ٨، ص 275.
4- التهذيب، ج 6، ص 37.

ص: 12

هتك هذه الحرمة وَيسَمُها بسمات ونعوت هو أحق أن يوصف بها قائلاً قول زور بأنها مظاهر شرك بالله وكفر وتأليه.

وسنبين في تفاصيل البحث بأن القائلين بهذه الدعوة (وهي كون قبور أهل البيت عليهم السلام تمثل مظاهر وثنية) هم أصحاب الأوثان بنص من القرآن الكريم.

كما سنذكر الروايات الواردة لدى الفريقين في هذه القاعدة المتسالمَ عليها عند فقهاء الإمامية بأن هذه القبور والمواضع المشرفة لها حرمات كحرمة الكعبة بل أعظم من ذلك.

ونتعرض في هذا البحث بشكلٍ خاص ودراسة متعمقة في الإيمان بالشهادة الثانية والثالثة التي هي ولاية أهل البيت عليهم السلام وتثبيت العقائد الدينية بالدليل العلمي لرد الشبهات والانتقادات التي تُثار حول عقيدة التوسل والتبرك.

وختاماً. . لا يفوتني إلا أنْ أشكر الله تعالى جل شأنه قبل أي أحد على ما وفقني لتحرير وإخراج هذا الكتاب، ثم أشكر كل من أعان وساهم في هذا المجال، وأخص منهم بالذكر سماحة الشيخ عقيل رضي، على ما بذله من جهد يستحق الشكر عليه، وختاماً أسأله سبحانه وتعالى ببركة سيد الشهداء ومقام سيد الأولياء والأوصياء أن يجعل هذا الجهد ذُخراً لأستاذنا المحاضر - دام عزه - وأجراً لي، يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم.

والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد (ص) وأولاده المنتجبين.

الشيخ محمد رجب

12 / ذو القعدة / 143٠ه. ق

الموافق 31 / 1٠ / 2٠٠٩م

ص: 13

الفصل الأول

اشارة

أدلة القول بحرمة بناء القبور وعمارتها

ص: 14

ص: 15

البحث القرآني والعقلي

الدليل الأول

الذي أستند إليه السلفيون في جحد شعيرة زيارة القبور أو قبر النبي وأهل بيته عليهم السلام وقبور الأنبياء والأوصياء بشكلٍ عام كون زيارة القبور والبناء عليها وتشييدها هو توسلٌ بالأنبياء والأوصياء والاستشفاع بهم إلى الله في قضاء الحاجات والتوجه بهم؛ فهم يجحدون التوجه والاستشفاع وليس فقط ركنيته في الدين بل يجحدون التدين به؛ ومن ثم يسوّغون لأنفسهم هدم قبور الأنبياء والأوصياء حتى أن لديهم الإصدارات التي دوّن فيها استحلالهم لهدم قبر سيد الأنبياء.

والجواب: على الدليل الأول أن الاستشفاع والتوسل والتوجه بالنبي (ص) وأهل بيته والأنبياء والأوصياء ليس أمراً مشروعاً وراجحاً ومرغَباً فيه فحسب بل قد دلت جملة من الآيات القرآنية على كونه شرطاً لقبول الأعمال بل لقبول الإيمان كما في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (1)

فأشارت الآية إلى كل من محذور التكذيب ومحذور الاستكبار والصد عنها، وان كلّاً منها موبقة برأسه و المقصود من الآيات التي يكذب بها في قِبال التصديق بها هم الحجج الناطقون


1- الأعراف: 4٠.

ص: 16

عن السماء من الأنبياء و والأوصياء كما ورد إطلاق لفظ الآية على النبي عيسى بن مريم قال تعالى: «(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (1)» .

كما أن التعبير في الآية (وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها) هو تضمين معنى الصد عنها في معنى الاستكبار وهذا التعبير بعينه قد استعملهُ القرآن الكريم في قصة إبليس مع آدم كما ورد «أَبى وَ اسْتَكْبَرَ» .

كما سيأتي التعبير عن موقف المنافقين مع سيد الأنبياء في قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» (2)فهذه الآية تنذرُ بالتهديد في التكذيب الذي يقابل التصديق وتنذرُ في الاستكبار الذي يقابل الخضوع والتوجه.

إنّ كلا من هذين الفعلين (التكذيب والاستكبار) يسدُ أبواب السماء عن صعود إيمان العبد وعمله إلى الله وأن المفتاح لأبواب السماء ولوفود عقيدة العبد وعمله إلى الله (الحضرة الإلهية) هو ليس صرف الإيمان بالحجج الإلهية بل لا بد من الخضوع إليها والتوجه بها والإقبال عليها وبالتالي التوسل بها إلى الله.

إذ قد بينت الآيات أن كلا من العقيدة والعمل الصالح لابد من ارتفاعه إلى الله في مقام القبول كما في قوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» (3).

فهذه الآية تبين كون الصد عن حجج الله وعدم التوجه بهم إلى الله يحبط ويخلّ بالإيمان فضلاً عن العبادات والأعمال.

وعلماء الإمامية رضوان الله تعالى عليهم وان كانوا قد نبهَوا على شرطية ولاية أهل البيت عليهم السلام في الإيمان والعبادات والأعمال إلا أن الظاهر من هذا التعبير هو خصوص الإيمان بأهل البيت عليهم السلام ولكن الصحيح عدم الاقتصار على استفادة شرطية الإيمان من


1- المؤمنون: 5٠.
2- المنافقون: 5.
3- فاطر: 1٠.

ص: 17

الأدلة بل لابدّ أن ينضم إليه شرطية ولايتهم بدرجة التوسل والتوجه بهم إلى الله عز وجل، فإن صرف الإيمان بهم من دون توليهم في أنحاء الولاء الأخرى ومن دون الارتباط بهم والتوسل والإتِباع والانتهاج بهم لا يحقق الشرط من ولايتهم الذي هو ركن الإيمان وصحة الأعمال والعبادات.

ويدل على ذلك قوله تعالى في صفة المنافقين في الآية السابقة بأن سلب الإيمان عن المنافقين بصدهم عن التوجه برسول الله (ص) في مقام التوبة، فهذه الآية مبنية لركنية التوسل بالنبي (ص) والتوجه به إلى الله في تحقق الإيمان مضافاً إلى بيانها لشرطية التوسل بالنبي (ص) والاستشفاع به في حصول التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، ومنه يتضح دلالة الآيات الواردة في إبليس ورفضه الانقياد لأمر الله عز وجل بالسجود لآدم والتوجه به إلى الله مما أوجب حبط إيمان إبليس بالله واليوم الآخر.

وكذلك قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (1).

حيث اشترطتْ الآية أربعة شروط بنحو الترتيب الشرطي وجعلت الأول منها: هو التوجه واللوذ والاستغاثة بحضرة النبي (ص) إلى الله تعالى.

الشرط الثاني: وقوعاً وترتيباً هو استغفار المذنب.

الشرط الثالث: تشفع النبي (ص) وشفاعته في توبة مذنبي الأمة عند الله.

الشرط الرابع: نفس الترتيب وهو شرط مثل الترتيب في أفعال الصلاة إن أتى بالركوع قبل القراءة فإنه يبطل الصلاة.

فهذه الآية سنة ٌإلهية إلى يوم القيامة شأنها شأن بقية الآيات والفرائض المتعلقة بالنبي (ص) أو ذات الارتباط بالنبي (ص) فقد جاء في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ» (2).


1- (النساء: 64 ملاحظة: بأن بقية البحث في الدليل الأول سوف يأتي توضيحه في الأدلة القرآنية.
2- النساء: 5٩.

ص: 18

وليستْ الطاعة فقط في خصوص حياته بل هي تسري ما بعد رحيله (ص) إلى الرفيق الأعلى.

وكما جاء في قوله تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (1).

إلى غير ذلك من الآيات وكما هو الحال في الشهادة الثانية فإنه ركن في التوحيد والدخول في حضيرة الإسلام إلى يوم القيامة وليس مختصاً بحياة النبي (ص) في دار الدنيا وقد مرَّ في بحث الآيات كلامٌ مبسوطٌ في بيان ركنية التوسل والتوجه والاستشفاع في الدين الحنيف، وأنَ ّ جحد هذا الركن العظيم يستهدف عدم الالتزام بالشهادة الثانية بنحو مبطن ومن ثم لا ترون في أدبياتهم بيان مؤديات الشهادة الثانية وتداعياتها.


1- حشر: 7.

ص: 19

البحث الروائي

الدليل الثاني و الثالث والرابع لاشتماله على ثلاثةِ ألسن

اللسان الأول: هو هدم القبور

ومنها رواية أبي الهياج الأسدي رواها أحمد بن حنبل في مسنده: (حدثنا وكيعٌ حدثنا سُفيان، عن حبيبٍ، عن أبي وائلٍ، عن أبي الهياج الأسدي، قال قال لي عليّ أبعثكَ على ما بعثني عليه رسُولُ الله (ص) أن لا تدع تمثالاً إلا طمستهُ ولا قبراً مُشرفاً إلا سويتهُ) (1)رواه أيضاً مسلم في باب الأمر بتسوية القبر (2)والنسائي رواه في سننه أيضاً في كتاب الجنائز باب الساعات التي نهى عن إقبار الموتى فيهن (3)والحاكم النيسابوري في المستدرك في باب صفة قبر النبي (ص) (4).

التقريب: الاستدلال الذي ذكروه هو أن النهي ورد في سياق ٍ واحد مع النهي عن التماثيل التي تتخذ كأصنام وأوثان مما يدل على أن مناط النهي هو الشرك الموجود في كلا موردي النهي فاستدل بهذا الاستدلال ابن تيمية في كتاب منهاج السنة ومحمد بن عبدالوهاب في كتابه كشف الشبهات.


1- أحمد بن حنبل، ج 1، مسند على بن أبي طالب.
2- صحيح مسلم، ج 3، باب الأمر بتسوية القبر.
3- النسائي، كتاب الجنائز، باب الساعات التي نهى عنها عن إقبار الموتى.
4- الحاكم في المستدرك، ج 1، باب صفة قبر النبي (ص) .

ص: 20

كما ورد في كتبنا ومصادرنا شبيه لهذه الرواية كما هو في كتاب الوسائل:

محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (بعثني رسول الله (ص) إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبراً إلا سويته، ولا كلباً إلا قتلته) (1).

قال صاحب الوسائل: وتقدم الأمر بتربيع القبر (2).

اللسان الثاني والثالث: لعن زائري القبور والمتخذينها مساجد
اشارة

منها: ومن أدلتهم على الحرمة ما رواه أبو داود في سننه باب زيارة النساء للقبور: (حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا شُعبة، عن محمد بن جُحادة، قال: سمعتُ أبا صالح يُحدث، عن ابن عباس، قال: لعن رسول الله (ص) زائراتِ القُبور والمتخذين عليها المساجد والسرُج) (3).

وما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك: (لعن رسول الله (ص) زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) (4).

وما رواه أحمد في مسنده بأكثر من طرق (قال سمعتُ رسُول الله (ص) يقُول:

«إنّ من البيان لسحراً وشرار الناس الذين تدركهُم الساعة أحياءٌ والذين يتخذون قبورهم مساجد» (5).

وما رواه مسلم والبخاري (ألا وأن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذُوا القبور مساجد أني أنهاكم عن ذلك) (6).

قال الترمذي: وقد رأى بعض أهل العلم أن يرخص النبي (ص) في زيارة القبور. فلما


1- وسائل الشيعة، ج 3، باب عدم جواز نبش القبور.
2- تقدم ما يدل عليه في الحديث 5 الباب ٩ من صلاة الجنائز وعلى حكم التسوية في الحديث 22 الباب 5 منها والحديث 5 الباب 21 من هذه الأبواب وعلى حكم التربيع في الباب 31 من هذه الأبواب.
3- سنن أبي داود، ج 2، باب في زيارة النساء القبور.
4- المستدرك، ج 1، باب الأمر بخلع النعال في القبور.
5- مسند أحمد، ج 1، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
6- صحيح مسلم، ج 2، باب فضل بناء المساجد والحث عليها.

ص: 21

رخص دخل في رخصتهِ الرجال والنساء وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء، لقلة صبرهن وكثرة جزعهن (1)ثم عقد باب ما جاء في زيارة القبور للنساء وروى زيارة عائشة لأخيها عبد الرحمن.

الجواب على الاستدلال بهذه الأحاديث: أن هذا الاستدلال عجيبٌ وغريب لأنه مبني على مقدمات مزعومة خلافية غير مسلَّم بها في ظهور الحديث، فإن الحديث له وجوه متعددة من الدلالة ذُكرت عند علماء الفريقين أضعفها ما ذكروه وما استدلوا به.

فكيف يبنون عقيدة يكفرون بها طوائف المسلمين مبنية على مثل هذه الدلالة الاحتمالية والهلوسة في الاستظهار وعلى تخرصات ظنية ما أنزل الله بها من سلطان مع أن التكفير لايبنى على دليل ظني تام فضلاً عن غير التام، بل ولا على الدليل الظني القطعي، بل ولاعلى القطعي الضروري ما لم يكن ضرورياً تنفي معه الشبهة فكيف بهم يخرجون عن ميزان الملة في منهاج الاستدلال في الشريعة و قواعد الدين.

أزمة منهج الاستظهار عند السلفية

أولاً: إن مورد النهي والأمر بطمس التماثيل والصور كما في رواية النسائي (ولا صورة في بيتٍ إلا طمستها) ليس خاصاً بالأصنام والأوثان بل الظاهر عدم إرادة الأصنام والأوثان لأنه البعث الحاصل لأبي الهياج كان في خلافة علي عليه السلام ولم يكن بعثه إلى ديار المشركين، إذ لو كان البعث إلى ديار المشركين لكان أمر رسول الله (ص) بقتال المشركين أولاً حتى يقروا بالشهادتين، بينما لم يتضمن أمر النبي (ص) لعلي عليه السلام ذلك ولا أمر علي عليه السلام لأبي الهياج كذلك، وهذا مما يعزز أن الأمر بطمس التماثيل في البيوت هو لكراهتها ولحرمة صنع التماثيل والصور لذوات الأرواح والأمر بالطمس والنهي عن الصور والتماثيل بعيدان كل البعد عن بحث الشرك.

ثانياً: لو سلمنا أن النهي عن الصور والتماثيل بطمسها وارد في مورد الأصنام والأوثان


1- سنن الترمذي، ج 2، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء.

ص: 22

فما هو صلة الأمر بتسوية القبور بذلك، إذ وحدة السياق لا تدل على وحدة المتعلق في النهي بل غاية ما يتشبث في الوحدة هو بالسياق الذي هو أضعف القرائن؛ وهو لأجل تحديد مفاد الحكم من كون الحكم الإلزامي أو الندبي أوالكراهتي في الجمل المتعاقبة، وأما أن متعلق النهي والأمر أن سببهما واحد فهذا مما لا سبيل إلى استفادته من وحدة السياق وهي مغاير لوحدة المتعلق ومن ثمة لا صلة بين النهيين والأمرين ألا ترى في قوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» (1).

فهل لأحدٍ أن يستظهر أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين من أحكام العقيدة والاعتقاد فضلاً أن يكون من أركان التوحيد كي يكفر به العاق لوالديه بل ليس الأمر بالإحسان إلى الوالدين حكماً وجوبياً بل أن الإحسان للوالدين محمول على الندب نعم عقوق الوالدين محرم من الكبائر ولكن ليس من أحكام مسائل العقيدة.

فالمحرم في الوالدين هو جهة العقوق لهما لا وجوب كافة درجات الإحسان لهما ومن ثَم يحتمل في الحديث أن تسوية القبر المشرف ذي الشرفة محمول على الكراهة إلى غير ذلك من موارد الاستعمال الكثيرة المعطوف فيها الأمر الفرعي على الأمر الإعتقادي في موارد استخدام القرآن الكريم.

ثالثاً: أن الأمر بتسوية القبور في مقابل إشرافها قد استظهر منه الكثير إرادة تسطيح القبور في مقابل تسنيمها وقد حكاه ذلك ابن تيمية نفسهُ في كتابه منهاج السنة عن جملة من علماء السنة (2)وقد إلتزم ابن تيمية بذلك.

كما أنه قد حكى النووي في شرح مسلم (3)قوله (يأمرُ بتسويتها) وفي رواية أخرى (ولاقبراً مشرفاً إلا سويتهُ) فيه أن من السنة أن لايرفع القبر على الأرض رفعاً كثيراً ولايسنم بل يرفع نحو شبر ويسطح و هذا مذهب الشافعي ومن وافقهُ، ونقل القاضي


1- الإسراء: 23.
2- منهاج السنة، ابن تيمية، ج2، ص 143.
3- شرح مسلم، النووي، ج 7، باب اللحد ونصب اللبن على الميت.

ص: 23

عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها وهو مذهب مالك قوله (أن لا تدع تمثالا إلا طمسته) فيه الأمر بتغيير صور ذوات الأرواح.

كراهة ارتفاع القبور عند جمهور علماء السنة لا الحرمة

وكلامهُ يقرر جملة أمور:

منها: أن جمهور علماء السنة لم يحملوا الأمر بالتسوية على اللزوم بل حملوه على الندب، لذلك ذهب أكثرهم إلى القول بالتسنيم مخالفة ًللروافض من أتباع أهل البيت عليهم السلام.

فمن الغريب بعد ذلك إدعاء السلفية و الوهابية أن الأمة مجمعة على بدعية رفع القبور ولزوم تسويتها وقد مر في كلام النووي أيضاً أنه الافضل لا اللزوم، وكذلك عند مذهب الشافعي رفع القبر على نحو شبر وهو حمل التسوية على التسطيح.

ومنها: أن صريح كلام النووي في الأمر بطمس التمثال هو في الصور ذوات الأرواح لافي الأوثان والأصنام (1).

وقال العيني في عمدة القاري في شرح البخاري في مسألة تسنيم القبر وتسطيحه: (وقبر أبي بكر وعمر مسنمين) ورواه أبو نعيم في (المستخرج) : (وقبر أبي بكر وعمر كذلك) (2).

وقال إبراهيم النخعي: أخبرني من رأى قبر النبي (ص) وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض.

وقال الشعبي: رأيت قبور شهداء أحد مسنمة، وكذا فعل بقبر عمر وابن عباس، رضي الله عنه. وقال الليث: حدثني يزيد بن أبي حبيب أنه يستحب أن تسنم القبور ولا ترفع ولايكون عليها تراب كثير، وهو قول الكوفيين والثوري ومالك وأحمد، واختاره جماعة من الشافعية منهم، المزني: أن القبور تسنم لأنها أمنع من الجلوس عليها، وقال أشهب وابن حبيب: أحب إلي أن يسنم القبر، وإن يرفع فلا بأس. وقال طاووس: كان يعجبهم أن


1- شرح مسلم، النووي، ج 7، ص 36، باب اللحد ونصب اللبن على الميت.
2- تحفة الأحوذي، المباركفوري، ج 4، ص 13٠؛ عمدة القاري، العيني، ج ٨، ص 224.

ص: 24

يرفع القبر شيئاً حتى يُعلم أنه قبر، وادعى القاضي حسين اتفاق أصحاب الشافعي على التسنيم، ورد عليه بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح، كما نص عليه الشافعي، وبه جزم الماوردي وآخرون. وفي (التوضيح) : وقال الشافعي: تسطح القبور ولا تبنى ولاترفع وتكون على وجه الأرض نحوا من شبر. قال: بلغنا أن النبي (ص) سطح قبر إبنه إبراهيم عليه السلام ووضع عليه الحصباء ورش عليه الماء (1)وأن مقبرة الأنصار والمهاجرين مسطحة قبورهم، وروي عن مالك مثله واحتج الشافعي أيضاًُ بما روى الترمذي عن أبي الهياج الأسدي (واسمه حيان) : قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بلغني عليه رسول الله (ص) : (أن لاأدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته) (2).

وكما جاء في سنن أبي داود: (حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبي فديك، أخبرني عمرو بن عثمان بن هاني، عن القاسم، قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن قبر النبي (ص) وصاحبيهِ، فكشفتْ لي عن ثلاثة قبورٍ لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء قال أبو علي: يقال إن رسول الله (ص) مُقدم (3).

وفي (المغني) : واختار التسنيم أبو علي الطبري وأبو علي بن أبي هريرة والجويني والغزالي والروياني و السرخسي، وذكر القاضي حسين اتفاقهم عليه، ثم فسر حديث الترمذي أن المراد من المشرفة والمذكورة فيه (الحديث) هي المبنية التي يطلب بها المباهاة (4).

ثم نقل قول السرخسي: أن التربيع من شعار الرافضة، وقال ابن قدامه: التسطيح هو شعار أهل البدع فكان مكروهاً.

وقد حكى الشوكاني في نيل الأوطار قريب من هذا الكلام وذكر في زمن أمارة خلافة عمر بن عبد العزيز على المدينة بُني القبر من قبل الوليد بن عبد الملك وصيروها مرتفعة (5).


1- عمدة القاري، ج ٨، ص 224.
2- المصدر نفسه.
3- سنن أبي داود، ج 2، باب الجنائز باب الميت يصلى على قبره بعد حين.
4- عمدة القاري، ج ٨، ص 224.
5- نيل الأوطار، ج 4، باب اختلاف العلماء في افضلية تسنيم القبر أو تسطيحه.

ص: 25

وقال ابن حجر في فتح الباري وما يكره من الصلاة في القبور يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو إلى القبر أو بين القبرين (1).

وفي ذلك حديث رواه مسلم من طريق أبي مرثد الغنوي مرفوعا

«لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها أو عليها» (2).

قلت: وليس هو على شرط البخاري فأشار إليه في الترجمة، وأورد معه أثر عمر الدال على أن النهي عن ذلك لا يقتضي فساد الصلاة، وذكر تمادي أنس في استمرار الصلاة عند القبر، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف (3).

أقول يظهر من ابن حجر وغيره إن المشهور عند علماء السنة عدا الفرقة الوهابية والسلفية حمل اللعن على الكراهة وتفسير اللعن بمعنى البعد عن رحمة الله (4)نظير ما ورد في كراهة الأكل منفرداً والنوم وحده لقوله (ص) : «لعن الله من أكل وحده وسافر وحده ونام وحده» فأن مطلق اللعن كما هو الحال في مطلق النهي يستعمل بكثرة في الكراهة وهذا مما يشير إلى الأزمة بين الوهابية وسائر المسلمين في منهجهم الحشوي في الاستظهار من الألفاظ في الروايات الواردة.

كما مر في كلام العيني أن قبره (ص) كان مبنياً ومرتفعاً في الصدر الأول. أقول يستفاد من كلامهما جملة أمور:

منها: أن جمهور علماء السنة عدا السلفية (سواء المذاهب الأربعة أو غيرهم) لم يذهبوا إلى كون الأمر بالتسوية عزيمة أي إلزاميا ومن ثم سوغوا التسنيم أو سوغوا الارتفاع مقدار شبر.


1- فتح الباري، ابن حجر، ج 1، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية.
2- صحيح مسلم، ج 3، كتاب الجنائز، باب الصلاة على جنازة في المسجد.
3- فتح الباري، ج 1، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية.
4- ومن ثم كان اللعن درجات أي أن البُعد عن ساحة رحمته تعالى درجات متفاوتة كما أن القرب درجات أيضاً في مقابل البُعد، وبعبارة أخرى أن الافعال في تسبيبها وتأثيرها للبعد عن رحمة الله تعالى هي متفاوتة شدة وضعفاً بحسب شدة البُعد وقلته فالبُعد الحاصل من المكروه الضعيف أقل من الحاصل من المكروه الشديد وهو أقل من الحاصل من الحرام وهو أقل من الحاصل من الكبيرة وهو أقل من الحاصل من الكفر وهو أقل من الحاصل من الجحود والعناد.

ص: 26

منها: أن قبر النبي (ص) كان مبنياً وفي البنية ارتفاع في صدر الأول وأعيد بناؤه عدة مرات في القرن الأول والثاني مع اختلاف في درجات الارتفاع وكذلك قبر عمر وأبي بكر والمهاجرين والأنصار وقبور شهداء أحد.

منها: أن جملة منهم حمل النهي عن إشراف القبر مع كونه تنزيهياً على ما لو أُريد به المباهاة والخيلاء وأين هذا من ما لو أُريد به الشعيرة الدينية وذكر النبي (ص) وأهل بيته.

اختصاص هدم القبور بالمشركين

كما روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة فقد روى في جملة من مصادرهم عن علي عليه السلام قال:

(كان رسُول الله (ص) في جنازة فقال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدعُ بها وثناً إلا كسره ولا قبراً إلا سواهُ ولا صورة إلا لطخها» فقال رجُل: «أنا يا رسُول الله فانطلق فهاب أهل المدينة فرجع فقال عليّ رضي الله عنه: أنا أنطلق يا رسُول الله فانطلق ثم رجع فقال: يا رسُول الله لم ادع بها وثناً إلا كسرته ولا قبراً إلا سويتهُ ولا صورة إلا لطختها ثم قال رسُول الله (ص) : «من عاد لصنعة شيءٍ من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد (ص)») (1).

سبب نسخ النهي عن زيارة القبور

والحديث بهذه الألفاظ ظاهرٌ في مورده وهو خصوص قبور المشركين كما هو مورد جملة من الأحاديث التي أستدل بها في المقام، كما هو الحال في الحديث الآتي النهي عن زيارة القبور ثم نسخ بالأمر في زيارتها، وفي الحقيقة أن النسخ في المقام هو من باب تبديل الموضوع، فإن النهي الأول عن زيارتها في صدر الإسلام كان في مورد خصوص قبور المشركين بخلاف الأمر بزيارة القبور فإنه لقبور المسلمين الموحدين، ولذلك كان سيرته (ص) كما يأتي في حديث زيارة قبور المسلمين في بقيع الغرقد وفي بعض الروايات كان يزورهم كل ليلة.

وسوف نذكر جملة من القرائن الروائية على اختصاص النهي بقبور المشركين وما روي


1- مسند أحمد، ج 1، مسند علي بن أبي طالب.

ص: 27

مستفيضاً من قوله (ص) : (كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) ، رواه النسائي في سننه (باب زيارة القبور) بألفاظ أخرى والشهيد الأول في (ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة) (1).

كما روى ابن ماجة في باب الجنائز (باب زيارة القبور) حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهبٍ، أنبانا ابن جُريح، عن أيوب بن هانئ، عن مسروق بن الأجدع، عن ابن مسعود، أنَ ّ رسُول الله (ص) قال:

«كنتُ نهيتكم عن زيارة القُبور، فزُوروها. فإنها تزهدُ في الدنيا، وتُذكّرُ الآخرة» (2).

كذلك ما ذكره عن ابن أبي مليكة عن عائشة: (أن رسول الله (ص) رخص في زيارة القبور) .

اتفاق جمهور السنة على رجحان زيارة القبور

ورواه الترمذي في باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور: (قال رسُول الله (ص) :

«قد كنت ُنهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمُحمدٍ في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تُذكّر الآخرة») . قال: وفي الباب عن أبي سعيدٍ وابن مسعودٍ وأنس وأبي هُريرة وأم سلمة. قال أبو عيسى حديثُ بريدة حديث حسن صحيح. والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بزيارة القُبُور بأساً. وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق (3).

ومن ثم عُرف عندهم بنسخ النهي عن زيارة القبور إلى الأمر بها وإذا أمعنا النظر في ذلك وما رواه الفريقان من الأمر بزيارتها بعد النهي عنها يظهر منه أن ذلك لتبدل الموضوع وأن النهي السابق في صدر البعثة النبوية إنما كان متعلقاً بقبور المشركين وأهل الجاهلية، وأن الأمر بزيارة القبور إنما هو بقبور المسلمين والموحدين ويعضد هذا الاستظهار السابق واللُحُوق الزمني.

ويعضد هذا الاستظهار أيضاً ما رواه البخاري من أمره (ص) بنبش قبور المشركين أي


1- ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ج 2، البحث الخامس: زيارة القبور.
2- سنن ابن ماجة، ج 1، باب زيارة القبور.
3- سنن الترمذي، ج 2، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور.

ص: 28

تسويتها بالأرض وإعفاء أثرها واتخاذ المساجد عليها بعد ذلك وعقد باباً تحت عنوان هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد (1).

الحكمة في الأمر بهدم قبور المشركين
اشارة

يظهر من مجموع الروايات أن النهي عن الاحتفاء بالقبور في أوائل البعثة النبوية أو عندما بعث عليٌّ إلى اليمن في بداية عهدهم للإسلام أو عندما بعث عليٌ أبا الهياج إلى بعض الأطراف الداخلة لتوها في الإسلام و الأمر بهدم القبور المبنية أو المشرفة (المرفوعة) والأمر بإعفائِها وطمسها هو لأجل قطع العلاقة بين الجيل الأول الداخل في الإسلام عن الجيل السابق من أقوامهم الذين كانوا على شرك الوثنية لكي لا يتأثر أهل القبور من ذويهم كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ» (2).

وفي قوله تعالى: «وَلاَ تُصَلِّ ِ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ» (3).

فالآيتان تنصانِ على الفصل بين موتى وقبور المشركين وموتى وقبور المؤمنين فإنه لايجوز التردد والقيام والاحتفاء بقبور النمط الأول بخلاف النمط الثاني فإنهما دالتانِ على مفروغية عبادية وهي زيارة القبور والقيام والدعاء عندها وانه سنة في أصل الشريعة فإن لسانهما كالاستثناء من العموم السابق المقدر، مضافاً إلى اشتمالهما على التعليل للنهي عن زيارة قبور المنافقين بأنهم كفروا واشركوا والتعليل يخصص ويفيد التفصيل.

وقد يُشكل في دلالة آية القيام على القبر

الإشكال الأول: إنها ليست في صدد تفصيل الزيارة للقبور لأن عنوان الزيارة غير عنوان القيام على القبر.


1- صحيح البخاري، ج 4، باب هجرة النبي (ص) وأصحابه إلى المدينة.
2- التوبة: 113.
3- التوبة: ٨4.

ص: 29

الإشكال الثاني: أن القيام على القبر فعلٌ يؤتى به عقب الدفن للصَلاة على الميت لا مطلقاً.

وضوح دلالة الآيتين على سنة زيارة القبور

الجواب على ذلك: بأن هذا القول مكابرة واضحة فإن الزيارة إلى القبر ليست إلا الذهاب إلى القبر والكون عنده سواء في حالة الوقوف أو الجلوس أي (الإقامة عنده) والقيام عند القبر لا يتحقق إلا بالذهاب إليه و الكون عنده قريباً سواء كانت الحالة وقوفاً أو جلوساً فوحدة المراد بين العنوانين من الكناية المستعمل فيها لفظ البعض أو الغاية مع إرادة الكل والمغيى.

ولكي يتضحُ هذا المطلب نقول بأن القيام عند القبر غاية للذهاب الذي يحصل به مقدمة الزيارة كما انه بعضٌ من مجموع فعل الزيارة وهذا نظير ما ورد في كتاب الحج من لفظ الوقوفين في عرفات والمزدلفة فإن المراد منه الكينونة في ذلك المكانين لا خصوص الوقوف مقابل الجلوس، والحاصل أن النهي عن القيام على قبور المنافقين إنما هو بلحاظ الدعاء لهم والترحم عليهم نظير مفاد الآية الأولى وهذا الأمر يُمارس عند زيارة القبور وليس المنهي عنه هو الوقوف المجرد ولا يلتزم أحد بحرمة الوقوف المجرد عند قبور المشركين و الاقتراب منها بل الغاية هي التحريم بلحاظ الاستغفار والترحم والدعاء لهم وهو عمدة ما يمارس في زيارة القبور حتى في صيغة التسليم على أهل القبور فإنه نمط من الدعاء والترحم والدعاء بالسلامة والأمن لهم، ومنه يظهر الجواب على الإشكال الثاني بأن الدعاء والتسليم على الميت لا يختص بمراسم الدفن فقط بل هو مستمرٌ.

فإنه قد روي مستفيضاً زيارته (ص) للبقيع كل أسبوع وتسليمه عليهم والدعاء لهم وقراءته الحمد وأنها تُنيرُ وتزيلُ ظلمةَ قبورهم، فقيامُهُ (ص) على القبور غير مخصوص بمراسم الدفن وكذلك ما كانت تفعله سيدة النساء فاطمة المطهرة الصديقة من زيارتها لقبر سيدالشهداء حمزة أو شهداء أحد، ثم أن هناك فائدة حكاها الآلوسي في روح المعاني عن

ص: 30

السيوطي وهي دلالة هذه الآية ودلالة زيارته (ص) لأمه آمنة بنت وهب على كونها من الموحدين حيث أنه قد ورد في الحديث تكرار زيارته (ص) لوالدته مرة في عام الحديبية ومرة بعد غزوة تبوك عند رجوعه منها كما سيأتي في الفصل الثاني في أدلة الوجوب.

الحكمة في النهي ثم الأمر بزيارة القبور

وقال العيني في عمدة القاري: ومعنى النهي عن زيارة القبور إنما كان في أول الإسلام عند قربهم بعبادة الأوثان واتخاذ القبور مساجد، فلما استحكم الإسلام وقوي في قلوب الناس وأمنت عبادة القبور والصلاة إليها نسخ النهي عن زيارتها لأنها تذكر الآخرة وتزهد في الدنيا، وقال قبل ذلك وفي (التوضيح) أيضاً: والأمة مجمعة على زيارة قبر نبينا (ص) (1)، ويعضد ذلك أيضاً ما رواه الفريقان من زيارته (ص) لقبر أمه آمنة بنت وهب.

جملة اخرى من روايات المستدل بها على الحرمة
اشارة

ومن أدلتهم على الحرمة ما رواه ابو داود في سننه: (حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا شعبة، عن محمد بن جحادة، قال: سمعتُ أبا صالح يحدث، عن ابن عباس، قال: لعن رسول الله (ص) زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) (2).

كما جاء في الترمذي (باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء) : (حدثنا قتيبة أخبرنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) لعن زوارات القبور) (3).

وروى الحاكم النيسابوري في المستدرك: (لعن رسول الله (ص) زائرات القبور المتخذين عليها المساجد والسرج) (4).


1- عمدة القاري، ج ٨، ص 7٠.
2- سنن ابي داود، ج 2، باب في زيارة النساء القبور.
3- سنن الترمذي، ج 2، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء.
4- الحاكم النيسابوري، ج 1، باب الامر يخلع النعال في القبور.

ص: 31

الحكمة في نهي النساء عن زيارة القبور مقيدة

وفي تحفة الأحوذي: (ويؤيد الجواز - أي جواز زيارة النساء للقبور - حديث أنس قال مر النبي (ص) بامرأة تبكي عند قبر فقال اتقي الله واصبري الخ. . . فإنه (ص) لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر وتقريره حجة) (1).

وهذا يدل أن نهي النساء عن زيارة القبور لأجل جزعهن وعدم جلدهن (2)وتبرمهن من قضاء الله وقدره وما يصاحب ذلك من بعض المفاتن، وإلا مع أمن كل ذلك وكون زيارتهن لإحياء ذكرى معالم الدين وذكريات حجج الدين وأيامهم الخالدة فإن ذلك شعيرة عظيمة البتة.

زيارة فاطمة بنت النبي (ص) لقبر حمزة

كما روى البيهقي في السنن الكبرى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن حسين عن أبيه: (ان فاطمة بنت رسول الله (ص) كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده) (3).

وقال الحاكم في المستدرك: (هذا الحديث - رواية أن فاطمة - رواته عن آخرهم ثقات وقد استقصيت في الحث على زيارة القبور تحريا للمشاركة في الترغيب وليعلم الشحيح بذنبه انها سنة مسنونة) (4).

وكذلك ما ذكره ابن الحجر العسقلاني في تلخيص الحبير (5)والشوكاني في نيل الأوطار (6)وقد مر في كلام جملة من الأعلام بأن النهي عن زيارة القبور هو بسبب الجزع وعدم الصبر على ذلك.


1- تحفة الأحوذي، ج 4، باب ما جاء في كراهية زيارة النساء.
2- أحكام الجنائز، الألباني، باب استدلال حافظ به على زيارة النساء للقبور، ص 1٨5.
3- السنن الكبرى، البيهقي، ج 4، باب ما يقول إذا دخل مقبرة.
4- المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج 1، باب كانت فاطمة تزور قبر عمها حمزة كل جمعة.
5- تلخيص الحبير، ج 5، باب المستحب في حال الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر.
6- نيل الأوطار، ج 4، باب تفصيل حكم زيارة القبور للنساء.

ص: 32

وفي الترمذي عن ابن عباس وحسان بن ثابت قال أبو عيسى: «هذا الحديث حسن صحيح» وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي (ص) في زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصتهِ الرجال والنساء، وقال بعضهم: «إنما كره زيارة القبور للنساء، لقلة صبرهن وكثرة جزعهن» (1).

كما جاء في سنن النسائي: (عن عبدالله بن بريدة عن أبيه أنه كان في مجلس فيه رسول الله (ص) فقال: «إني كنت نهيتكم أن تأكلوا لحوم الأضاحي» إلخ الحديث ثم قال: «ونهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا» (2).

فيدل على أن النهي عن زيارة النساء للقبور أو غيرهن محمولٌ على خوف وقول ما يسيئ الكلام مع الله والتذمر من قضاء الله وقدره ونحو ذلك.

وذُكر في تحفة الأحوذي قوله (لعن زوارات القبور) . قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك فقد يقال إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء على سواء (3).

نسخ كل من النهي عن زيارة القبور والنهي عن عمارتها

وقال الشوكاني في النيل وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر (4).

قال الحاكم وهذه الأحاديث المروية في النهي عن زيارة القبور منسوخة والناسخ لها حديث علقمة بن مرثد، عن سليمان عن بريدة، عن أبيه عن النبي (ص) (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) فقد أذن الله تعالى لنبيه (ص) في زيارة قبر أمه، وهذا الحديث مخرج


1- سنن الترمذي، ج2، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء.
2- سنن النسائي، ج 4، باب الساعات التي نهي عن إقبار الموتى فيهن.
3- تحفة الأحوذي، ج 4، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء.
4- نيل الاوطار، ج 4، ص 166.

ص: 33

في الكتابين الصحيحين للشيخين (1).

أقول فيظهر من الحاكم أن الأمر بزيارة القبور قد نسخ كلاً من النهي عن زيارتها ونسخ النهي عن عمارتها كما أنه يظهر مما حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم وما ذكر القرطبي والشوكاني أن النهي عن زيارة القبور واتخاذ السرج والمساجد عليها هو لأجل الجزع والتبرم من قضاء الله وقدره والظاهر من كثرة العكوف عليها ومن الواضح أن كل هذه المعاني بعيدة عن شعيرة عمارة قبر النبي (ص) وقبور أهل بيته عليهم السلام.

الدليل الرابع: الروايات الواردة الناهية عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد

اشارة

منها: عن النبي (ص) في مرضه الذي لم يقم منه (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) صحيح البخاري (2).

فقد روي عن عائشة: (قالت لما اشتكى النبي (ص) ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنها أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال: «أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله») (3).

وفي مسند أحمد بن حنبل عن عبدالله بن عبيدالله، وعن عائشة، أنهُما قالا لما نُزل برسول الله (ص) طَفق يُلقي خَمِيصةً على وجههِ فلما اغتمَ رفعناهَا عنه وهو يقولُ لعن الله اليهُود والنصارى اتخذُوا قبور أنبيائهم مساجد تقولُ عائشة ُيُحذرُهُم مِثْلَ الذي صنعوا (4).

وروى الدارمي في سننه بألفاظ أخرى عن ابن عباس وعائشة قالا لما نزل بالنبي (ص) طفق يطرح خميصه له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك (لعنة الله على اليهود


1- المستدرك على الصحيحين، كتاب الجنائز، ح13٨5.
2- صحيح البخاري، ج 5، باب مرض النبي (ص) ووفاته.
3- المصدر نفسه، ج 2، باب في الجنائز.
4- مسند أحمد، ج 1، مسند عبدالله بن عباس بن عبد المطلب.

ص: 34

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا) (1).

وروى احمد في مسنده عن أبي هريرة عن النبي (ص) : (اللهم لا تجعل قبري وثناً لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (2).

وروي عن عائشة قالت قال رسول (ص) في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى فإنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قال قلت ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي ان يتخذ مسجدا) (3).

وروي عن مالك في الموطَأ عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله (ص) قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قال ابن عبد البر لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث (4).

ورواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة، قال َقال رسُول الله (ص) : (لا تتخذوا قبري عيداً ولا تجعلوا بُيُوتكم قُبوراً وحيثما كنتم فصلوا عليّ فان صلاتَكم تبلغني) (5).

وما جاء في سنن أبي داود عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص) : (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) (6).

وفي مجمع الزوائد للهيثمي عن أبي عبيدة قال كان آخر ما تكلم به رسول الله (ص) (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب اعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه أحمد بإسنادين (7).

وروى الهيثمي في قوله (لا تجعلن قبري وثناً) عن أبي هريرة قال: (لا تجعلن قبري وثناً


1- سنن الدارمي، ج 1، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد؛ السنن الكبرى ذكر ما كان يفعله رسول الله (ص) في وجعه، ج4.
2- مسند أحمد، ج 2، مسند أبي هريرة.
3- المصدر نفسه، ج 6، حديث السيدة عائشة.
4- الموطأ، ج 1، باب جامع الصلاة، ح 414.
5- مسند أحمد، ج 2، مسند أبي هريرة.
6- سنن أبي داود، ج 1، باب زيارة القبور، ح 2٠42.
7- مجمع الزوائد للهيثمي، ج 5، باب في جزيرة العرب واخراج الكفرة.

ص: 35

لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه أبو يعلى وفيه إسحاق بن أبي إسرائيل (1)وحديث عائشة رواه النسائي في سننه باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد (2)وما رواه البيهقي في سننه في باب النهي عن الصلاة إلى القبور وكذلك في مجمع الزوائد عن أسامة بن زيد (3).

ويؤيد ذلك ما روي من قول ابن عباس في ذيل قوله تعالى «وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً» (4).

عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود: كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع: كانت لهذيل، وأما يغوث: كانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت (5).

واعترف ابن تيمية في منهاج السنة ان النهي عن عبادة الأصنام لا مجرد زيارة القبور (6).

اتخاذ قبره وثناً أي نصب التماثيل كأصنام على القبر

الجواب بالاستدلال على هذه الأحاديث: أن لسان هذه الروايات رادعة عن اتخاذ الأوثان من الصور والتماثيل التي على هيئة رسم صاحب القبر من الأنبياء أو الصالحين فتتخذ تلك التماثيل والصور أصناماً تعبد كآلهة على نسق ما يفعله المشركون فهي بعيدة كل البعد عن عمارة قبر النبي (ص) واتخاذ قبره وروضته مكاناً لعبادة الله والتوجه به إلى الله والمراد من هذه الروايات ذلك دون عمارة قبر النبي صلى الله عليه وآله افضل الصلاة وتشعيره موطناً عبادياً


1- مجمع الزوائد للهيثمي، ج 4، باب قوله (ص) لا تجعل قبري وثنا.
2- سنن النسائي، ج 4، باب اتخاذ القبور مساجد.
3- مجمع الزوائد، ج 2، باب في الصلاة بين القبور واتخاذها مساجد.
4- نوح: 23.
5- صحيح البخاري، ج 6، باب سورة قل أوحى إليّ.
6- منهاج السنة، ج 1، ص 27.

ص: 36

ويدل على ذلك ما ورد من جملة قرائن.

منها: ما سيأتي في أدلة وجوب عمارة قبر النبي (ص) من تشعير قبره مشعراً عبادياً كما في قوله (ص) المستفيض المتواتر: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة) ومفاده الحث على اتخاذ قبره مشعراً لعبادة الله كما في قوله تعالى: «وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (1).

ومنها: ما سيأتي في أدلة الوجوب من الروايات الحاثة أكيداً على زيارة قبره الشريف وتوقيت فعل الحج بزيارة.

ومنها: ما مر في ألفاظ بعض هذه الطائفة من الروايات - التي استدلوا بها - من التصريح بأن هؤلاء الذين لعنوا قد صوروا على صور الأنبياء والصالحين فعبدوها كذلك ذكر لفظة تماثيل.

الحكمة في النهي عن جعل القبور محلاً لسجود الصلاة

ومن ثم حمل ابن حبان في صحيحه بعد ما روى عن ابن عباس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فصلى عليه فصلينا معه قال أبو حاتم رضي الله عنه في هذا الخبر بيانٌ واضح أن صلاة المصطفى (ص) على القبر إنما كانت على قبر منبوذ والمنبوذ ناحية فدلتك هذه اللفظة على أن الصلاة على القبر جائزة إذا كان جديداً في ناحية لم تنبش أو في وسط القبور لم تنبش فأما القبور التي نبشت وقلب ترابها صار ترابها نجساً لا تجوز الصلاة على النجاسة إلا أن يقوم الإنسان على شيءٍ نظيف ثم يصلي على القبر المنبوش دون المنبوذ الذي لم ينبش (2).

اتخاذ القبور مساجد اي السجود والصلاة عليها

ومقتضى كلامهم أن كراهة اتخاذ القبور مساجد (إنما يكره باعتبار القرب من احتمال النجاسة) .


1- البقرة: 125.
2- صحيح ابن حبان، ج 7، باب إباحة الصلاة على قبرالمدفون.

ص: 37

أقول: مما يعضد ُ حمل النهي على أنه ما لو أُتخذ فوق القبر صور وتماثيل كالأوثان والأصنام وأن حديث عائشة المتقدم والنهي من قِبل النبي الأكرم هو تحذيرٌ للمسلمين مما صنع اليهود والنصارى مع أنبيائهم حيث ديدن فعلهم على رسم تصاوير للسيد المسيح والسيدة العذراء مريم وهم يتخذونها آلهة ثلاثة مع الله كما هو نص الآية القرآنية في قوله تعالى: «وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ» (1)فيعبدون الصور.

ونظير هذه الطائفة ما رواه ابن حنبل في مسنده عن أبي عبيده (قال آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب واعلموا ان شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (2).

وفي بعض طرق روايته عن عروة بن الزبير عن عائشة (قالت قال رسول الله (ص) في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قال قلت ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجداً) (3).

وأما الجواب التفصيلي عن الرواية الأولى: فقد تقدم أنها محمولة إما على فعل اليهود والنصارى من تأليه عيسى وعزير عليهما السلام حيث قالوا أنهما أبناء الله، وقد مر لسان تلك الأحاديث تفسير هذه الجملة بذلك ويحتمل في معنى الرواية ما ذكره غير واحد من شراح الحديث من لعن الصلاة على القبور والوقوف برجليه عليه مما يوجب إزراء وهتك لصاحب القبر.

بناء قبر النبي (ص) في الصدر الاول

وأما الجواب عن الرواية الثانية: فيفند الذيل الذي هو من كلام الراوي لا من الحديث المروي بأن إبراز قبره الشريف قد حصل منذ أول ساعة دفنه (ص) ، حيث أنه (ص) دُفن في غرفتهِ المشتركة بينه وبين فاطمة سلام الله عليها وهي التي قُبض فيها وتعين دفنه (ص) في موضع القبر بتدبير من أميرالمؤمنين عليه السلام والظاهر أنه بوصيةٍ منه (ص) وكان بمرآى جميع


1- النساء: 171.
2- مسند أحمد، ج1، حديث أبي عبيدة بن جراح.
3- المصدر نفسه، ج 6، حديث السيدة عائشة.

ص: 38

المسلمين من الصدر الأول والغرفة بنيان مرتفع بالجدران المحيطة من الجوانب الأربع وهي محيطة بالقبر الشريف كإحاطة الضريح وشبابيك وبالتالي فيكون دفنهُ في الغرفة من البدء هو تخصيصٌ لقبره الشريف وتشييدٌ وبناء حوله وإبراز وإظهار للقبر الشريف كمعلم وتشعير للموضع فضلاً عن التشعير الذي ورد في قوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ» (1)وقوله (ص) : (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) (2).

اتخاذ قبره وثناً هو بالقول بانه ابن الله أو بالقول بتعدد الآلهة

ونظير ذلك مقالة اليهود من كون عزير هو ابن الله كما يعضد ذلك ما روته عائشة من إنه لولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً فإن قولها ذلك مع كون قبره مبرزاً بلحاظ بناء الحجرة التي جعل فيها القبر الشريف فيكون المراد من إبراز القبر واتخاذه مسجداً أي معبوداً وقبلةً بنصب تمثال وصورة.

كما يفعل النصارى في كنائسهم وجعل النبي عيسى عليه السلام إلهاً فيستقبل تمثاله للعبادة كما أنه ليس كل استقبال عبادة إذا كان من دون تأليه وإلا لكان أمر القرآن الكريم لاستقبال مقام إبراهيم قبلة مع الكعبة هي عبادة لإبراهيم وحاشا القرآن عن ذلك.

ومما يعضد هذا الحمل أيضا اقتران النهي عن اتخاذه وثناً بما فعلته اليهود والنصارى لقبور أنبيائهم فإن الاقتران بين الأمرين يدل على أن الجهة المنهية عنه في اتخاذ قبره وثناً ليس عمارة قبره الشريف لعبادة الله جنب القبر بل المراد عدم الانزلاق إلى ما فعله النصارى من تأليه الأنبياء والقول بأنهم أبناء الله أو أن الآلهة ثلاثة.

ومما يعضد ذلك عندهم ما رواه بطرق مختلفة منها ما جاء في سنن الكبرى للبيهقي:

(حدثنا انس قال قمتُ يوماً أصلي وبين يدي قبر لا اشعر به فناداني عمر القبر القبر فظننت يعني أنه يعني القمر فقال لى بعض من يليني إنما يعني القبر فتنحيت عنه) . مما يعني


1- النور: 36.
2- مسند أحمد؛ مسند أبي سعيد الخدري ج 4، ح 3، حديث عبد الله بن زيد عاصم.

ص: 39

إنه تقدم وصلى وجاز القبر (وفي رواية أخرى استمر في صلاته) لم يقطع صلاته (1)وقد استدلوا به على عموم عدم استعادة الصلاة وإنها جائزة وإن كانت مكروهة (2).

وقد حكي ذلك في عمدة القاري عن جماعة كثيرة مثل عبدالله بن عمر وجماعة من التابعين مثل الحسن البصري وحكي عن شرح الترمذي ومالك فيظهر منهم صحة الصلاة عند القبر والمقابر (3).

وقد مر في كلام ابن حجر بأنه (ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها) مما يعني ذلك بأن الصلاة إلى القبر وجعله قبلة ليس هو عبادة لصاحب القبر وتأليه وإلا لبطلت الصلاة قطعاً.

اتخاذ قبور الأنبياء أو الأولياء مساجد اي بالقول بتأليههم

قوله وما يكره من الصلاة في القبور: يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو إلى القبر أو بين القبرين وقال البيضاوي لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك فأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم له ولا التوجه نحوه فلا يدخل في ذلك الوعيد (في حديث جواز الحكاية) (4).

وحكى أصحابنا اختلافاً في الحكمة من النهي عن الصلاة في المقبرة، فقيل: (المعنى فيه ما تحت مصلاه من النجاسة) وقال القاضي حسين: إنه لا كراهة مع الفرش على النجاسة مطلقاً. وحكى ابن الرافعة في (الكفاية) : أن الذي دل عليه كلام القاضي: أن الكراهة إنما لحرمة الموتى (5).

ثم حكي عن القرطبي أن ما جاء في رواية اتخاذ الصور والتماثيل على قبور الصالحين


1- سنن الكبرى، ج2، باب النهي عن الصلاة إلى القبور.
2- عمدة القاري، ج 4، ص 172.
3- المصدر نفسه، ص 173.
4- المصدر نفسه، ص 174؛ فتح الباري، ج 1، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية.
5- عمدة القاري، ج 4، ص 173.

ص: 40

قوله (إنما صور أوائلهم الصور ليأتنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم ووسوس الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فعبدوها، فحذر النبي (ص) عن مثل ذلك، ولما احتاجت الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والتابعون إلى زيادة مسجده عليه الصلاة والسلام بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا تصل إليه العوام فيؤدي إلى ذلك المحذور. ثم ذكر العيني عن ابن بطال قوله إنما النهي عنه لاتخاذهم القبور والصور آلهة.

وحكي عن الشافعي وأصحابه القول بكراهة بناء المساجد على القبور، ثم حكى البيضاوي حمل النهي على التأليه وقال وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا للتعظيم له ولا للتوجه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور (1).

بل أقول وكلماتهم شاهد على إرادة معنى التأليه من النهي المزبور لا بما فهمه السلفيون من عمارة قبر النبي (ص) وزيارته وعبادة الله عند قبره الشريف.

ويجاب أيضاً على فرض التسليم بإيهام دلالتها أن أحاديث زيارة النبي صلوات الله عليه وعمارة قبره وأهل بيته مقدمة على إيهام دلالة هذه الروايات لوجوه:

منها: أنها متواترة كما في الحديث المستفيض «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» ومضمونه قطعي ضروري بين المسلمين عبر الاجيال والقرون ومعتضدة بالسيرة القطعية للمسلمين من الصدر الأول بل بسيرة المسلمين في التعاطي مع قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقبور بقية الأنبياء في أراضي الشامات مضافاً إلى أن هذه الروايات أخص في زيارته (ص) من الروايات الناهية، وأنها معتضدة بالكتاب كقوله تعالى: «وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» وقوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ» والأدلة الآمرة بزيارة قبره (ص) وعمارته، بينما الروايات الناهية في اتخاذ القبور مساجد محتملة لوجوه متعددة وقد عرفت أن أظهَرها وجهٌ آخر.


1- عمدة القاري، ج 4، ص 174.

ص: 41

الدليل الخامس: رواه مسلم عنه (ص) (لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى) (1).

ورواه الطبراني في معجم الكبير: (قال رسول (ص) لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى) (2).

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد (3)ورواه البزاز بتقريب أن النهي بالحرمة فيدل على حرمة السفر إلى زيارة القبور.

الإجابة

ويرد عليه أنه قد تقدم وسيأتي جملة من الأجوبة على الاستدلال بهذا الحديث وملخصها:

جمهور علماء السنة على عدم حرمة السفر إلى غير المساجد الثلاثة

أولاً: أن (لا) هنا ليست للنهي بل لنفي مطلق الكمال الأتم وحصرها في المساجد لمعهودية هذا الاستعمال في هذا المعنى ويشهد له ايضاً ورود لفظ الحديث بلسان غير مشتمل على لفظة (لا) نظير (أنما يسافر إلى ثلاثة) وبنحو آخر نظير (تشد الرحال إلى ثلاثة) ولأجل ذلك ذكر النووي في شرح مسلم أن الصحيح عند الجمهور هو الذي اختاره المحققون وإمام الحرمين أنه لا يحرم ولا يكره السفر إلى غير الثلاثة وإنما المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة (4).

ثانياً: أن المستثنى منه غير مذكور فلابد له من نحو تقدير، فإن قُدر لفظ المسجد فيكون معنى الحديث أنه لا تشد الرحال إلى مسجد إلا ثلاثة فلا يدل المعنى على مطلوبهم من قصد السفر إلى زيارة قبورهم الشريفة.

وإن قُدر مطلق السفر القربي أي لا تشد الرحال إلى سفر ابتغاء وجه الله إلا إلى ثلاثة


1- صحيح مسلم، ج 4، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وباب سفر المرأة مع محرم.
2- المعجم الكبير، الطبراني، ج 2، ص 277؛ ج 22، ص 366.
3- مجمع الزوائد، الهيثمي، ج 4، باب قوله (ص) لا تشد الرحال.
4- شرح مسلم، النووي، ج ٩، باب سفر المرأة مع المحرم إلى حج وغيره.

ص: 42

وهذا مع أنه تقديرٌ بلا شاهد وتمحض من التأويل الذي ينكرونه في منهجهم ويرتكبونه فيما يتبنونه من الشذوذ في معتقداتهم التي يخالفون بها المسلمين فإنه مع ذلك لا يمكن الالتزام به لتخصيصه بالأكثر وهو مستهجن فإن السفر لأجل صلة الرحم وصلة الأخوان المؤمنين والجهاد في سبيل الله والمرابطة وطلب العلم والبر والتعاون على المعروف والهجرة إلى الله ورسوله وفي شتى السبل للغير كل ذلك ما لا يحصى من رجحانه الأكيد في الشريعة بالإضافة لو سلمنا بالعموم فهو مُخصص بما دل على رجحان زيارة النبي (ص) .

كما أن ما دل على شعيرية قبر النبي (ص) أخص مطلقاً من هذا العموم (لا تشد الرحال) مضافاً إلى أن ما دل على شعيرية زيارته مطابقٌ لدليل القرآن وهو قوله تعالى «وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» ولقوله تعالى «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» كما تبين ذلك في البحث القرآني مفصلاً.

فضيلة المسجد النبوي بأهل البيت عليهم السلام

ثالثاً: أن استثناء المسجد النبوي كما سيأتي من عدم شد الرحال يعني في الحقيقة استثناء قبر النبي وقبور أهل بيته لأن مسجده (ص) إنما اكتسب الفضيلة لنسبته إلى بيوته وهو قوله (ص) : (ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنة) .

نظير قوله تعالى في شأن مسجد النبي موسى عليه السلام: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (1).

وتقريب الاستدلال: أن مسجد النبي أضيف إلى النبي (ص) وابن عمه علي بن أبي طالب كما أضيف مسجد موسى إليه وإلى أخيه هارون وكما سد موسى عليه السلام الأبواب عن المسجد إلا بابه وباب أخيه هارون فكذلك سد النبي (ص) الأبواب عن مسجده إلا بابه وباب علي وفاطمة وذريتهما وهي إحدى الموارد التي قال فيها صلوات الله عليه (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) فتضاعف الثواب في المسجد لمكان بيوته (ص) فصار


1- يونس: ٨7.

ص: 43

روضة من رياض الجنة، وسيأتي أنّ أعظم مواضع الروضة هي نفس بيوته (ص) والتي منها بيت علي وفاطمة وبيوته شاملة لبيوت ذريته المعصومين فيندرج في استثناء مسجده كافة بيوت الأنبياء وقبورهم وبيوت أهل البيت عليهم السلام وقبورهم.

رابعاً: إن استحباب شدّ الرحال إلى المسجد النبوي يلازم زيارة النبي (ص) لأن مسجده في جنب قبره الشريف فالمجيء إلى مسجده يلازم الذهاب إلى القبر الشريف، وكذلك رجحان شدّ الرحال إلى المسجد الحرام فإنه يلازم زيارة النبي (ص) لما ورد (مَن حَج ولم يزرني فقد جفاني) .

الدليل السادس: قوله تعالى: «وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ» (1).

وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ» (2).

وتقريب الدلالة للآية الأولى: أن الظاهر والمتبادر من هذه الآية أن من في القبور لايسمعون ولا يمكن للحي أن يخاطبهم ولا أن يكلمهم، فطريق الاتصال بين الأحياء والأموات منقطع فلا معنى حينئذٍ يتحصل لزيارتهم، ويظهر من الآية الثانية: خطاب للمؤمنين بالله ورسوله بأن لا يوالوا قوماً غضب الله عليهم والذين حل عليهم الغضب الإلهي نتيجة أعمالهم السيئة والقبيحة في هذه الدنيا ويأسهم من رحمة الله عزوجل وثواب الآخرة لعدم ادخارهم العمل الصالح، فإن هؤلاء حالهم كمن يئس مِنْ أصحاب القبور والموتى والنشأة الثانية فلا يرجونهم في جلب نفع ولاضر وذلك لاعتقادهم بأن الميت انقطع عن هذه الحياة بموته ولاجدوى من زيارته.

وضمَ إلى الاستدلال بهاتين الآيتين الاستدلال بما ورد في الحديث النبوي الشريف

(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ولدٌ صالح يدعو له أوعلم ٌ ينتفع به أوصدقة


1- فاطر: 22.
2- الممتحنة: 13.

ص: 44

جارية) (1)بتقريب أن زيارة الزائر للميت لا تنفعهُ بشيء لانقطاع العمل فلا يستزيد عملاً من الحي الزائر ولا يستزيد الحي من الميت كذلك لأن الميت لا يقوى ولا يستطيع أن يأتي بعمل ينفع به نفسه ولا عملاً ينفع به الآخرين من الأحياء.

الحياة في الآخرة والبرزخ أشد قوة من الدنيا

والجواب: أن دلالة الآيتين على عكس ما قرر تماماً فإن الآية الأولى تبين أنَ ّ الذي يكذب برسالة الرسل وبرسالة الرسول (ص) وبالبشارة والنذير الإلهي هو ميتٌ وإن كان يحيا في دار الدنيا وان من يصدق ويؤمن بالإيمان فهو حيٌ وهو الذي يسمعهُ الله دينه وأما الذي يكذب فهو في صممٍ وعمى بمثابة الميت الذي عُطلت أعضائه عن الحركة نظير ما ورد في قوله تعالى «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (2).

حيث ركز القرآن الكريم على أعضاء جوانح الروح وأنها أهم في صفة الحياة والموت من أعضاء جوارح البدن الدنيوي.

ونظير ما ورد في قوله: «وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً» (3).

فإن المراد ليس هو عمي العين كعضو للبدن بل عمي القلب ومن ثم ورد أن الجاهل بين العلماء كالميت بين الأحياء وأن العالم بين الجهال كالحي بين الأموات، فالحياة والموت بلحاظ الروح تختلف عن الحياة والموت بلحاظ البدن، فالإدراك والشعور حياة، والجهل والغفلة موتٌ، والإيمان حياةٌ فاعلة، والكفر والتكذيب بالحق موتٌ، وهذا نظير اصطلاح القرآن الكريم في لفظة القرية والقرى ولفظة المدينة كما في قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ» (4).


1- بحار الأنوار: باب ثواب الهداية والتعليم وفضلهما ج2.
2- الحج: 46.
3- الإسراء: 72.
4- يس: 13.

ص: 45

قال تعالى: «جَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ» (1)فإن المرسلين الثلاثة أرسلوا إلى المدينة العامرة، ومع ذلك سماها القرآن قرية وذلك لكون أهلها كفار وبعكس ذلك المكان الذي منه أتى المؤمن (حبيب النجار) في العمران والبناء وذلك لكون أهلها مؤمنين والتمدن في القرآن هي بلحاظ الإيمان الذي هو كمال وتطور للبشرية والكفر تخلف وانحطاط لها.

ونظير ذلك الأمية والعلم والتعلم في القرآن فإنه أطلق على أهل مكة بالأميين لأنه لم يبعث فيهم رسول من قبل ولم ينزل عليهم كتاب فليسوا بأهل الكتاب في مقابل أهل العلم ونظير ذلك قوله تعالى: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ» (2).

حيث دلتْ على أن الدار المفعمة بالحيوية والحياة ذات النفخ الحيوي هي دار الآخرة وكأنما دار الدنيا والحياة فيها أقرب إلى الموت منها إلى الحياة والدار الآخرة أقرب إلى الحياة منها إلى الموت.

وقوله تعالى: «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى» (3)وكما في قول علي عليه السلام

(الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا) مما يعني بأن الحواس الخمس التي يمتلكها الإنسان في دار الآخرة هي اشد بمراتب من الكائن في دار الدنيا.

كما يُشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: «فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (4)فتشير الآية إلى أن البصر في دار الدنيا محجوب بغطاء ولا حدة فيه ليبصر الحقائق والواقع، ونظير ذلك ما ورد عن سيد الشهداء الحسين عليه السلام:

(أنَ الدنيا حلوها ومرها حلم) فيتحصل من مجموع الآيات والروايات أنَ ّ الشعور والإبصار والسماع عند أهل الآخرة أشد وأقوى وأحدّ من إدراك أهل دار الدنيا.


1- يس: 2٠.
2- العنكبوت: 64.
3- الأعلى: 17.
4- ق: 22.

ص: 46

اليأس من الموتى وأصحاب القبور من صفة الكفار والمنافقين والإيمان بأصحاب القبور من صفات المؤمنين

وأما الآية الثانية: فدلالتها صريحة في خطأ الكفار فيما يعتقدون اتجاه أصحاب القبور نظير خطأ المغضوب عليهم في اليأس من الآخرة فإن المغضوب عليهم لعدم إيمانهم بالآخرة لايعولون ولايطمئنون إلى وجود الآخرة وما فيها من ثواب الله ورضوانه ودار أنعامه مع أن الدار الآخرة هي حقيقة واقعة وموجودة وهي دار أعظم شأناً وسعة وفسحة وجمالاً وجلالاً وبهاءاً من دار الدنيا إلا أن المغضوب عليهم بسبب عدم إيمانهم أخطؤوا وجهلوا هذا الأمر نظير جهل الكفار بشأن أصحاب القبور وأنهم موجودون في دار البرزخ منعمون إن كانوا من أهل النجاة ومعذبون إن كانوا من أهل الهلاك فاليأس من أصحاب القبور هي من صفات الكفار والمنافقين لعدم إيمانهم بالآخرة بينما الأملَ في أصحاب القبور بوجودهم والتواصل معهم والصلة بهم، والارتباط هي من صفات المؤمنين بالآخرة والمعاد، فلا غرو ولا عجب في تشديد النكير على زيارة أهل القبور والأولياء والأصفياء والصالحين من قِبل الوهابية، فإن هذا لا يصب إلا في مواجهة الإيمان بالآخرة والمعاد و الحساب، وأنه نظير مقولة الكفار في قوله تعالى: «وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (1).

فحصروا الحياة بدار الدنيا وأنكروا الحياة الآخرة والبرزخ وفي قوله تعالى: «وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى * يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» (2).

وقوله تعالى: «لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (3).


1- الجاثية: 24.
2- الفجر: 23 و 24.
3- المؤمنون: 1٠٠.

ص: 47

الصدّ عن زيارة القبور صدٌ عن الآخرة ودعوة للعكوف على الدنيا

حيث تدل الآية على أن الموت انتقالٌ من دار إلى دار ويريد الميت أن يرجع كما ورد في الحديث النبوي: (وإنما تنقلون من دار إلى دار) ويقسم بها الإنسان الميت عند سوقه إلى الممر الذي يؤدي به إلى البرزخ والآيات والروايات الدالة على الحياة البرزخية أكثر من أن تحصى، فالصد عن زيارة القبور صدٌ عن التوجه إلى الآخرة ودعوة إلى العكوف على الدار الدنيا الذي هي مرام الدهريين وقد تكرر في القرآن الكريم التعبير عن الموت بأنه وفاة وتوفي والوفاء هو التمام والإتمام واستيفاء التمام كما في قوله تعالى « حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» (1).

فالتعبير بتوفته أي أنهم يستوفون تمام ذات الإنسان من دون نقص أي أن تمام حقيقة ذاته تستوفيها الملائكة عند الموت ولا يبقى منها شيء في دار الدنيا بل ينتقل بتمامه إلى البرزخ ومن ثَم فذات الإنسان لا تتبدد ولا تفنى كما يزعم هؤلاء المنكرون للدار الآخرة وقد أطلق على نفس هذا الفعل أنه نزعٌ أي نزعٌ للروح عن البدن وانتقال بها إلى بدن برزخي كما في قوله تعالى: «وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً» (2).

وأطلق عليه السَوق و الانتقال والحركة أيضاً كما في قوله تعالى: «وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» (3)وقوله تعالى: «كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ» (4).

فيشير إلى نزع الروح وبلوغها التراقي حين الموت وأنه حينئذٍ تساق ذات الإنسان وروحه إلى الله فلا تفنى ولا تتبدد، ولو أردنا أن نخص الآيات في ذلك لطال بنا المقام فهؤلاء في دعوتهم للصد عن زيارة القبور يصدون عن سبيل الآخرة ويزعجهم ويؤرقهم تذكر الآخرة فيريدون من الناس العكوف على دار الدنيا والالتهاء بها والغفلة عن دار الجزاء والغفلة عن الموت والانشغال بمتاع الدنيا فكم هي دعوة هدَامة يُروج لها أبناء الدنيا


1- الأعراف: 37.
2- النازعات: 1.
3- القيامة: 2٩ و 3٠.
4- القيامة: 26.

ص: 48

لمحاربة أبناء الآخرة وقد أشير في الحديث النبوي المتقدم إلى الحكمة من زيارة القبور أنها تذكر الآخرة فهؤلاء في صدهم عن زيارة القبور يصدون عن تذكر الآخرة وعن التفكير فيها.

وأما الحديث فدلالته على عكس مطلوبهم فإن دعاء الولد الصالح للأب الميت يفيد الميت وهذا لا يختص بدعاء الولد بل بكل صالح يستجاب دعائه في حق الميت بل بكل صالح يدعو له كما ورد في الرواية النبوية عن أبي هريرة عنه (ص) : (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها بصلاتي عليها) كما هو في مسند أحمد وأبي داود فهذا بابٌ يدل الحديث الشريف على انتفاع الميت بدعاء الصالحين، بل إن الإنسان قد يستفيد من عمل الأموات إذا كانوا صالحين كما دلت عليه الآية الشريفة: «وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً» (1).


1- الكهف: ٨2.

ص: 49

الفصل الثاني

اشارة

وجوب عمارة قبر النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام

وتشعيرها كمشعر وحرم إلهي

ص: 50

ص: 51

الدليل الأول: البيانات القرآنية

جهات البحث

تحديد موضوع البحث وهي أن عمارة قبر النبي (ص) وقبور عترته مشعر ومشاعر إلهية ونحاول تفصيل البحث فيها عبر الجهات التالية:

الجهة الأولى: وهي أن عمارة قبر النبي (ص) وقبور عترته مشاعر إلهية وركن من معالم الدين.

الجهة الثانية: وهي أقوال الفريقين والمذاهب الإسلامية في هذه القاعدة الشريفة الاعتقادية الإسلامية.

وفي قِبال ذلك رصدت الكتب الإسلامية أفعال هذه الشرذمة التي تحارب المشاهد المشرفة وما فعلوا من الأفاعيل النكراء في مكة والمدينة في كتب كثيرة في صدد هذا المطلب شاهداً على أفعال هؤلاء الذين يحملون شعار المادية والحس المادي كمحور يقدس قِبال الغيب باسم التوحيد ويقومون بهدم عقائد المسلمين.

كما تبين الحكم الشرعي لهذه القاعدة الشريفة وهي وجوب عمارة قبر النبي (ص) وقبور عترته سلام الله عليهم وبأنها مشاعر إلهية خلافاً لهذه الفئة.

ومن الضرورى أن نبين بأن البحث ليس في صدد بيان مشروعية هذه القاعدة الشريفة أو عدمها بل هذه مرحلة متراجعة عند المسلمين أمام شقائق الزندقية لهؤلاء وإنما نحن في صدد بيان بأن عمارة قبر النبي (ص) وقبور عترته ركن من معالم الدين وأن هذه المشعرية أعظم من مشعرية الكعبة وأعظم من مشعرية المسجد الحرام عندما استعرضنا

ص: 52

كلِمات جملة من علماء المذاهب الإسلامية المجمعين على أن موضع الأعضاء الشريفة للنبي (ص) أعظم وأشرف من الكعبة وهذا أمر مسلّم لديهم كما في نقل السمهودي في أوائل كتابه وفاء الوفاء.

والهدف من هذا البحث بيان الأمور على حقيقتها كما في إجماع المذاهب الأربعة بأن التراب حول الأعضاء الشريفة أعظم من الكعبة فضلا عن المسجد الحرام، وهذا عند الإمامية أمر واضح ومسلَّم، كما أن هناك بعض الكلمات الساذجة الانهزامية في الوسط الداخلي تستنكر وتستغرب من القول بأفضلية كربلاء المقدسة على الكعبة مع أن النصوص الواردة لدينا مستفيضة ومتضافرة في ذلك وهذا في الواقع طمس للحقائق المسلمة عند الإمامية.

الجهة الثالثة: هي عبارة عن استعراض جملة من النفثات الباطلة لهذه الفئة في قِبال هذه القاعدة الشريفة كما نذكر بعض الفتاوى الشيطانية التي تشبث بها هؤلاء الذين يتجرؤون في صريح الكلام على أنهم لو أتوا القدرة لهدموا القبة النبوية فإن مثل هذه التعابير الشيطانية الجريئة جاءت لهدم الدين ونبذ التوحيد والعياذ بالله.

ومن المهم أن نبين بأن الكلام ليس في مطلق زيارة القبور وإن كانت من أجزاء مقدمات البحث لكن الكلام في خصوص قبر النبي (ص) وقبور عترته وبأنها قاعدة شرعية ومن معالم الدين.

فهنالك جملة من الوجوه التي ذكرها هؤلاء الذين يحملون راية المادية وصنمية الحس باسم التوحيد:

الوجه الأول: إن زيارة النبي (ص) وقبور عترته توسل وتشفع وهذا شرك في زعمهم والعياذ بالله.

قال الشوكاني في الدر النضيد: فقد ثبت اجماع الصحابة على التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وبذوات الصالحين بعد موته صلى الله عليه وسلم (1)(فمن أنكر التوسل بذات


1- الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد، ص 6، باب التوسل إلى الله سبحانه بأحد من خلقه.

ص: 53

رسول صلى الله عليه وسلم بعد موته صلى الله عليه وسلم أو بذوات الصالحين فقد خرق الاجماع والقول الخارق للاجماع باطل ومردود بالاتفاق) فلذا رد العلماء كافة على ابن تيمية إذ قال بعدم جواز التوسل بذوات الصالحين ومن تبعه في ذلك.

أقول: زيارة النبي (ص) والتقرب به إلى الله وبقبور عترته التي أمر الله بتعظيمها وحث عليها ينعتها هؤلاء بالشرك مع أنها من الأمور التوحيدية التي تحصل بها الزلفى والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وسنبين إن شاء الله بأن التوسل والتشفع هو الطريق الوحيد لتوحيد الله بنص القرآن الكريم من خلال هذه القاعدة التوحيدية بينما هؤلاء الشواذ يصفون التوحيد بالشرك وبالتالي يرفعون راية المادية والمذهب الحسي باسم التوحيد.

الوجه الثاني: إن زيارة النبي (ص) وقبور عترته فيها دعاء للمقبور واستغاثة به وإلحاح عليه في الدعاء والطلب منه، وكل هذه الأمور بزعمهم لا تجوز لغير الله سبحانه وتعالى كما أنه يحصل في أثناء الزيارة سجود للقبر وبأن الزائر يأتي إلى هذه الأماكن بحالة خشوع وسكينة وتأثر يصل إلى حد البكاء وتذلل لصاحب القبر وبأن هذه الأمور نوع من الخضوع لغير الله عز وجل والعياذ بالله.

مع أنه لم ينكر على التوسل أحد حتى ابن تيمية يؤكد على هذه الشعيرة وبأن السلف توسل من هذا القبيل في كتابه (التوسل والوسيلة) (1)نقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل بالنبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في الدعاء ونحوه (2)وهذا هو نص عبارة أحمد بن حنبل، كما في منسك المروزي بعد كلام ما نصه: وسل الله حاجتك متوسلا إليه بنبيه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، تقض من الله عز وجل. هكذا ذكره ابن تيمية في الرد على الأخنائي (3).

فبهذا الوجه يتبين بأنهم يحاربون الله ورسوله ولا يمكن حمل تفسير كلماتهم بأنها اجتهادية


1- التوسل والوسيلة، ص ٩٨.
2- منسك المروزي، ص 155.
3- الرد على الاخنائي، ص 16٨.

ص: 54

بل هي محاربة للدين بمقتضى هذه القاعدة الشريفة.

الوجه الثالث: إن زيارة النبي (ص) تعظيم بحيث يلازمه تذلل للمعظم والتذلل والخشوع لغير الله سبحانه وتعالى لا يجوز وأن بناء القبور ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزينها بالذهب والفضة واتخاذ السرج وتطييبها بأحسن طيب بحيث يمثل عظمة لصاحب القبر وهذا التعظيم لا يجوز.

أو نفس البناء يوجب نوعاً من التعظيم للقبور وبالتالي هذه السبل شرك بالله عز وجل ونبذ للتوحيد.

الوجه الرابع: يستدلون بهذه الآية الكريمة: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (1).

يزعمون بأن النبي (ص) أخبر من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم وذلك أن الشفاعة كلها لله كما في قوله تعالى: «مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (2)وأما ما حدث من سؤال الأنبياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعياداً وجعل السدنة والنذور لها فكل هذه الحوادث هي الأمور التي أخبر بها الرسول (ص) وحذر منها وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك.

ومن هذا المنطلق كفروا كافة المسلمين وفسروا الآيات على أهوائهم الشيطانية وكتبوا رسائل في ذلك كما هو في (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) لمحمد بن الأمير الصنعاني حيث يقول: (وجب علي تأليفه وتعين علي ترصيفه لما رأيته معلمته من اتخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام؛ وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات وهو من أهل الفجور،


1- يونس: 1٨.
2- البقرة: 255.

ص: 55

لايحضر للمسلمين مسجداً ولا يرى لله راكعاً أو ساجداً، ولا يعرف السنة ولا الكتاب ولايهاب البعث ولا الحساب، فوجب علي أن أنكر ما أوجب لله إنكاره) (1)فانظر أيها القارئ لكلامهم كيف ينعت المسلمين بهذه النعوت القبيحة.

و يستدلون بآيات أخرى كما في قوله تعالى: «وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ» (2)ويعللون بأن من في القبور لا يضر ولايسمع.

كما سنبين ما هو المقصود في الآية الكريمة من قوله تعالى «مَن فِي الْقُبُورِ» وأنه لديهم حياة برزخية، فيستدلون بالمتشابه يريدون ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

وايضاً يستدلون بهذه الآية الكريمة في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ» (3).

هذه مجمل الآيات التي ذكروه في هذا الصدد كما ذكروا وجوهاً أخرى في هذا الموضوع على وفق مفاد ما سبق.

الوجه الخامس: إن في زيارة القبور يحصل التبرك بوسائلها والتمسح بها وتقبيلها، والتبرك يزعمون بأنه شركٌ بالله عز وجل لا مظهراً للتوحيد والعبادة.

وهي التي يدعى فيها المقبور من دون الله سبحانه وتعالى، ويطلب منه قضاء الحوائج، ودفع المكروه وتفريج الكرب أو يصلي له أو يذبح له أو ينذر له وما شابه ذلك فإنه غير جائز وشرك بالله عزوجل.

الوجه السادس: إن الأموال التي تصرف وتوضع عند القبور إسراف وهذا غير جائز ومحرم بنص القرآن الكريم وهذا الاشكال لديهم لتعاظم قدر المال في أعينهم وتصاغر الأمور المعنوية لديهم فهم يبنون رؤيتهم على محورية المال والمادة فيقولون لا بد من تقليل الزيارة


1- تطهير الاعتقاد من أدران الالحاد، ص 2.
2- فاطر: 22.
3- الممتحنة: 13.

ص: 56

وادخار الأموال فهذه هي الصنمية بعينها للمال وإلا فالزيارة هي من العبادات المؤكدة التي حث عليها الإسلام.

الوجه السابع: إن السفر والذهاب إلى زيارة قبر النبي (ص) أو إلى الحضرة العلوية وإلى قبور الأئمة سلام الله عليهم وزيارة البقيع هذا حج وهو (حج القبور) والحج لغير بيت الله الحرام والطواف لغير الكعبة غير جائز.

سنبين بإذن الله بأن القصد والسفر والزيارة إلى هذه الأماكن من العبادات المجمع عليها وإنها من المراسم والأعمال المقترنة مع الحج المنصوصة عند الإمامية وأهل السنة وهي من آداب الزيارة.

الوجه الثامن: إن عمارة قبر النبي (ص) وقبور عترته يوجب تعطيل المساجد بالعبادة والصلاة فيها كما تؤدي إلى خراب هذه البيوت العبادية حسب زعمهم وإفكهم وشدّ الرحال إلى هذه المشاهد يوجب تعطيل بيت الله الحرام.

مع أن هذا غير حاصل إذ اللازم أن لا يخلو الحج من المسلمين في عام من الأعوام من الذين يقصدون بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج والعمرة.

الوجه التاسع: وهذا من أهم الوجوه التي تشبثوا بها بأن هذه القبور تتخذ قبلة بدل الكعبة ويستشهدون بما اقتطعوه مبتوراً من كلام المجلسي: إن استقبال القبر أمر لازم، وإن لم يكن موافقاً للقبلة. . . واستقبال القبر للزائر بمنزلة استقبال القبلة، وهو وجه الله أي جهته التي أمر الناس باستقبالها في تلك الحالة (1).

إن هذا افتراء بحت وكذب محض على الشيعة الإمامية وما ذكره المجلسي ليس في صدد استدبار الكعبة في أثناء الصلاة وجعل القبر قبلةً للزائرين في صلاتهم بل هو في أثناء الزيارة وأما في الصلاة فيستقبل الكعبة، نعم لا يتقدم على القبر في الصلاة بل على جانبه الأيمن من طرف الرأس، وتراعى بذلك آداب الزيارة لكي لايكون هناك جسارة وهتك للقبر الشريف وهذا ما أشارت إليه الآيات القرآنية من سورة البقرة في قوله تعالى: «وَاتَّخِذُواْ»


1- بحارالأنوار، ج ٩٨، ص 36٩.

ص: 57

« مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (1) .

فهل لقائل أن يتوهم ويقول بأن الله أمر المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وجعله قبلة لهم بدل الكعبة أم هذه تخرصات وأراجيف هذه الفرقة الشاذة ومن سار على نهجهم.

الوجه العاشر: هي مجموعة من الروايات الواردة لديهم في النهي عن زيارة القبور أو بناء القبور التي تتخذ للعبادة والسجود عليها من دون الله عزوجل حيث يحذر النبي (ص) من هذه الأفعال الشركية والتي تنافي التوحيد.

منها: الحديث النبوي المعروف وهو قوله (ص) : (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) اخرجه البخاري (2).

منها: عن عائشة قالت لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض حبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله (3).

منها: عن ابن عباس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) (4).

منها: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (لا تتخذوا قبري وثناً) (5).

منها: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم


1- البقرة: 125.
2- البخاري، ج 5، باب مرض النبي (ص) .
3- المصدر نفسه، ج 4، باب في الجنائز و باب هجرة الحبشة.
4- سنن النسائي، ج4، باب أتخاذ القبور مساجد؛ سنن أبي داود، باب في زيارة القبور، ح 3236؛ مسند أحمد بن حنبل، ج2؛ مسند عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، ج1.
5- مسند أحمد بن حنبل، ج 2، ص 246؛ شرح مسلم، ج 11، ص ٩4.

ص: 58

قبوراً وحيثما كنتم فصلوا عليَ ّ فإن صلاتكم تبلغني) لا يصلى فيها ولا يعبد عند هذه القبور (1).

وهذه مجمل الأحاديث التي تمسكتْ بها هذه الفئة وسيأتي في البحث الروائي الجواب وتوضيح الحال في حقيقة مفاد هذه الأحاديث والموازنة بينها وبين الروايات الاخرى القطعية السند والدلالة.

من تمام الحج ولاية النبي الأكرم (ص)

من أسرار عظمة الرسول الخافية على الخلق ومنزلته عندالله عز وجل، أن تمام الأعمال العبادية لا تقبل إلا بولاية النبي الأكرم بما فيها فرائض الحج.

والجاحد لهذه الولاية هو في الواقع جاحدٌ للشهادة الأولى مما يعني العود إلى الوثنية الجاهلية وأن هذه العبادات تكون عبادة وثن وصنم والعياذ بالله.

وهذه الولاية له (ص) ثابتة دائمة لا تزول ما دام العباد مكلفون بالفرائض والعبادات.

كما يذكر المقريزي في كتابه (إمتاع الأسماع) قول العلامة زين الدين المراغي: وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته صلى الله عليه وسلم قربة، للأحاديث الواردة في ذلك ولقوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» (2)لأن تعظيمه صلى الله عليه وسلم لاينقطع بموته ولا يقال: إن استغفار الرسول لهم إنما هو في حال حياته، وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض الائمة المحققين: أن الآية دلت على تعليق وجدان الله تعالى تواباً رحيما بثلاثة أمور: المجيء، واستغفارهم، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين [والمؤمنات] لأنه صلى الله عليه وسلم قد استغفر للجميع، قال الله تعالى: «وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» (3)فإذا وجد مجيئهم أواستغفارهم كملتْ الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته، وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووي، وأوجبها الظاهرية، فزيارته صلى الله عليه وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص، ولأن زيارة القبور


1- مسند أحمد بن حنبل، ج 2، ص 367.
2- النساء: 64.
3- محمد: 1٩.

ص: 59

تعظيم، وتعظيمه صلى الله عليه وسلم واجب، ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق في زيارته صلى الله عليه وسلم بين الرجال والنساء (1).

وفي الفصول القادمة سوف نبين بأن بناء المساجد والمسجد الحرام وعمارة الكعبة المشرفة دون ضم عمارة قبر النبي (ص) تعتبر في منطق القرآن كعبادة وثن وشرك بالله عز وجل خلافاً لما تزعم هذه الشرذمة الشاذة التي تدعي بأن اتخاذ قبر النبي قبلة بدل الكعبة شرك بالله ووثن فلا يجوز اتخاذ القبلة من المخلوقين شيئاً إلا الكعبة، فالكعبة يتوجه إلى الله بها أما التوجه إلى الله بغير الكعبة وأتخاذها قبلة فهذا وثن وعبادة شركية وصنمية حسب ما يزعمون والحال أن هناك روايات واردة لديهم تنص على أن جسد الرسول أشرف من الكعبة كما هو عند المذاهب الأربعة أجماعاً.

نبذ ولاية النبي الأكرم هو العود إلى الوثنية الجاهلية

ما هو الفرق بين حج المسلمين وحج الجاهلية القرشية الوثنية «فإن المشركين كانوا يمارسون الطقوس العبادية في الحج من الطواف حول البيت والسعى بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات ويذبحون القرابين في منى كما كانت تمارس في زمن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه.

أقول: بأن المشركين كانوا يمارسون هذه الطقوس كما يمارسها المسلمون بلا فرق في أعمالها العبادية لكن مع ذلك يخاطب الله عزوجل المسلمين بأن المشركين نجس كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (2).

مما يعني بأن نفس الحج الذي يأتي به المشركون والصلاة والعبادات لعمارة بيت الله الحرام يعتبرها القرآن الكريم عبادة وثن وصنم.

فلم يخرج هؤلاء من الوثنية إلى الإسلام وآمنوا بالله سبحانه وتعالى إلا بالإقرار والتسليم


1- إمتاع الأسماع، ج 14، باب ذكر ما جاء في زيارة قبر النبي (ص) .
2- التوبة: 2٨.

ص: 60

والتدين بولاية النبي الأكرم صلى عليه وآله فإن بتر الإسلام عن الشهادة الثانية وتداعيات الشهادة الثانية ومؤديات الشهادة الثانية ومعطيات الشهادة الثانية ومقتضيات الشهادة الثانية مما يعني بتر الشهادة الأولى عن الشهادة الثانية هي في الواقع عود للوثنية الجاهلية وهذا كما عليه هذه الشرذمة الدعاة إلى الوثنية الجديدة.

الفرق إذاً بين حج المشركين وحج المسلمين هو أن المشركين كانوا يأتون بهذه الطقوس العبادية وعمارة بيت الله الحرام لكنها كانت عبادة خاوية بالية تخالف الأمر الإلهي فهي تتبرأ من ولاية النبي الأكرم (ص) والتسليم والإقرار بها وعدم الإقرار بطاعة وولاية خاتم الأنبياء يعتبر في منطق القرآن الكريم وأبجديات الدين الحنيف وثنية وشركاً، وإلا كان حج المشركين حجٌ يرتضيه الله عز وجل بمجرد المجيء إلى بيت الله الحرام وتكون عبادة لهم بينما جعل الله هذه العبادة وثنيةً وشركاً بالله عزوجل كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (1).

ومن خلال هذا البرهان التاريخي الأدياني تبين بأن هذه الطقوس التي يمارسها مشركو قريش هي طقوس مختلقة على نبي الله إبراهيم صلوات الله عليه لكنها لا تدين بدين خاتم الأنبياء وقطع هذه العبادات عن ولاية النبي (ص) هي في الواقع رجوع إلى الوثنية الجاهلية وابتعاداً عن هذه الشعائر وهذه القاعدة.

وهذا يتضح من البرهان الذي أشار إليه الإمام الباقر عليه أفضل الصلاة والسلام في روايات أعلائية صحيحة السند بأن هذه الفعال فعال جاهلية ووثنية.

البرهان الأول

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذنية، عن الفضيل، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة، فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية،


1- التوبة: 2٨.

ص: 61

إنما امروا أن يطوفوا بها، ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم، ثم قرأ هذه الآية «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (1)» (2).

في أصول الكافي الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن داود بن النعمان، عن أبي عبيدة قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول - ورآى الناس بمكة وما يعملون - قال فقال: فعال كفعال الجاهلية أما والله ما أمروا بهذا وما أمروا إلا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم» (3).

وفي هذا البرهان التاريخي الأدياني يبين الإمام الباقر عليه السلام الوثنية في مصطلح القرآن الكريم بأن هذه الفعال فعال جاهلية وهي طاعة لغير الله سبحانه وتعالى وما أمروا بهذا فإن القرشيين وغيرهم كانوا يؤدون المناسك كما هو الحال عند المسلمين لكنها كانت مبتورة ومفتقدة لولاية خاتم الأنبياء والرسل وهذا في اصطلاح القرآن يعتبر وثنية جاهلية مع أنه كانت طقوسهم المنسوبة لنبي الله إبراهيم خلافاً لما تفهمه هذه الفئة.

فإن طاعة الله تكون من خلال الأبواب التي تصل منها أوامره وإلا تكون هذه الطاعة لغير الله وهذا ما عليه هذه الشرذمة من بتر الصلة بالنبي الأكرم (ص) وأن فعالهم كفعال الجاهلية الأولى وما أمروا بهذا.

وبذلك هم يدعون إلى الوثنية والزندقة باسم التوحيد ونفي الشرك والعياذ بالله، والتوحيد إنما هو بضم عمارة قبر النبي (ص) والتدين بولايته.

وكانت قريش تزعم بأنها على الملة الحنيفية الإبراهيمية وأن النبي مرق وصباً عن الملة الإبراهيمية وفي قبال ذلك كانت تزعم أن سيد الأنبياء صبَأ فتية قريش بينما القرآن الكريم يبين قاعدة ضرورية وهي أن قطع الصلة بولاية خاتم الأنبياء وبدون ارتباطكم بخاتم الأنبياء هذا وثن وليس توحيد ومشكلة هذه الفئة الشاذة أنها تعتقد كلما قطعت الصلة


1- إبراهيم: 37.
2- الكافي، ج 1، ص 3٩2.
3- المصدر نفسه.

ص: 62

وأوجدت القطيعة والجفاء مع خاتم الأنبياء قد وحدت الله عز وجل.

فالتوحيد الحقيقي هو الذي يمر من بوابة محمد (ص) فهو سبيل الله والداعي إليه عزوجل ولا معنى لكل عبادة ما لم تكن متعلقة بهذه العروة الوثقى، فقريش الكافرة كانت لها شعائر تعتبرها دينية وتؤديها وتحافظ عليها ومنها الطواف حول الكعبة باعتبارها المركز والقبلة، وقد وجهوا نقدهم للنبي الأعظم (ص) عندما كان يستقبل بيت المقدس و بأنه جعل بيت المقدس قبلة للمسلمين والحال أن القبلة في ملة إبراهيم هو الكعبة وأنه صبأ عن دين الله عز وجل أي خرج عن دين آبائه وأجداده كما في قوله تعالى: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» (1).

والحال أن قريش والمشركين كان لديهم طقوس ينسبونها بالنبي إبراهيم لكنها مع ذلك كانت مبتورة عن ولاية النبي (ص) . كذلك أحد أسباب كون عبادة اليهود والنصارى عبادة وثنية وصنمية أن هذه الطقوس التي تتم في الكنائس والأديرة إشراك بالله عز وجل لأنهم يعرضون عن ولاية خاتم الأنبياء والرسل (ص) ، وهكذا فإن قطع الصلة بين المساجد وبين ولاية النبي الأكرم هي بنفسها فعال الجاهلية الأولى فهؤلاء يفرغون التوحيد عن مضمونه بحشو وثني.

البرهان الثاني

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذنية، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم» (2).

وفي هذا البرهان العقائدي يبين الإمام عليه السلام بأن الطاعة للنبي (ص) وبولاية النبي وليس


1- البقرة: 144.
2- الكافي، ج 4، باب اتباع الحج بالزيارة.

ص: 63

بأحجار الكعبة كما في قوله تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ» (1).

والهدف من استقبال القبلة هو طاعة الرسول لا كما يدعي هؤلاء (بأن التوحيد هو قطع الصلة وبتر ولاية النبي عن العبادات) المنقطعين عن الوسائط التي نصبها الله عز وجل أبواباً لهم ونبذ الوساطة والتوجه بالنبي الأكرم بل هذه هي الوثنية بعينها.

نبذ التسليم والإقرار بولاية خاتم الأنبياء وجحود ولاية خاتم الأنبياء هي الوثنية والصنمية في منطق القرآن الكريم لأنه طاعة لغيره سبحانه وتعالى كما نبهَ وأشار إلى بيانات القرآن أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام فلا بد للإنسان من واسطة بينه وبين ربه وإلا من أين له أن يستلهم ويستعلم ويقف على أوامر وإرادات وإرشادات ربه مما يتبين بأن هذه التخرصات الشيطانية هي عبادة وثنية باعتبار أن الطاعة والعبادة من دون تولي النبي واندماج طاعته في طاعة الله تعالى لا تكون لله سبحانه وتعالى حتى طواف المسلمين حول الكعبة والتوجه به من دون أوامر الله تعتبر طواف حول الحجارة وهذه هي عبادة وثنية والطاعة لغير الله هي وثن وصنمية.

ومن يجحد ولاية النبي (ص) وولاية أهل بيته من بعده يكون نابذاً وعاصياً لله سبحانه وتعالى وعابداً لغير الله عز وجل ولا يمكن له أن يستعلم أوامر ربه ومن ثم يخاطب الباقر عليه السلام بأن هذه الفعال كفعال الجاهلية وأن هذه العبادات من دون ولاية النبي تكون عبادة وثن.

وهذا ما قاله الله تعالى: «مَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (2).

هذا البرهان القرآني هو بيان لنفس معنى الوثنية في قضية القبلة التي كان عليها النبي الأكرم صلوات الله عليه وهي اتجاه بيت المقدس وكانت صعبة على قريش وغير قريش


1- البقرة: 143.
2- المصدر نفسه.

ص: 64

الذين اعتادوا على استقبال الكعبة والتي كانت قبلة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، لذلك عبر القرآن الكريم: «وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى» .

من خلال هذا البرهان القرآني يتبين بأن العبادة والصلاة إلى القبلة ليس الغرض الأساسي منها بما هي هي بل لأجل الطاعة والتدين بولاية خاتم الأنبياء والرسول (ص) وبأنه هو القبلة الواقعية والمركزية في هذه العبادة وإلا فهي عبادة صنمية ووثنية.

وهذا ما صرح به الإمام الباقر عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قيل له: (يابن رسول الله فلم أمر بالقبلة الأولى؟ - يعني الرسول الله (ص) - فقال: لما قال الله عز وجل: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا» وهي بيت المقدس - إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا لنعلم ذلك منه وجوداً بعد أن علمناه سيوجد، وذلك أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبع محمداً (ص) من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها، ومحمد (ص) يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليبين من يوافق محمداً فيما يكرهه فهو مصدقه وموافقه (1).

قال تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» فهذه الواقعة القرآنية واضحة وصريحة الدلالة على أن التوحيد في العبادة واتباع أوامر الله ليس في نبذ ولاية النبي الأكرم (ص) بل الطاعة بولايته التي تؤدي إلى طاعة الله عز وجل قال تعالى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» (2)وإلا هذه العبادات من الصلاة والاستقبال للكعبة والطواف حولها هي عبادة وثنية وجاهلية.

ومن ثم ذكرنا في بدء البحث في الجواب عن تشدقات هؤلاء بأن الشهادة الأولى من دون ضمها إلى مقتضيات ومؤديات الشهادة الثانية تعتبر وثنية ولقلقة لسان فلا بد من ضم الشهادة الثانية إلى الشهادة الأولى.

فهذا البرهان القرآني قد بينه أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام على أن


1- بحارالأنوار، ج 4، باب الثالث البداء والنسخ.
2- النساء: ٨٠.

ص: 65

التوحيد في العبادة ونبذ الوثنية لا تتم إلا بالإقرار والتسليم لولاية خاتم الأنبياء محمد (ص) وأهل بيته.

البرهان الثالث

قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (1).

في هذا البرهان يستعرض القرآن الكريم قصة إبليس لعنه الله في أكثر من سبعة سور قرآنية وهذه القصة والحادثة هي في الواقع بداية الفاتحة للخليقة البشرية منذ أن قال تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» فهذه الآية رمز عظيم جداً تحمل بين طياتها المعاني العالية والسامية أشار إليها أميرالمؤمنين علي عليه السلام في خطبته المعروفة (بالقاصعة) في نهج البلاغة حيث يستعرض هذه الواقعة ويصف إبليس لعنه الله ويقول: (فعدو الله إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادّرع لباس التعزّز، وخلع قناع التذلّل ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره، ووضعهُ بترفُّعه. فجعلهُ في الدُنيا مدْحُوراً، وأعدَّ لهُ في الآخرة سعيراً.

ولو أراد اللهُ - سبحانه - أن يخْلُقَ آدم من نورٍ يخطفُ الأبصار ضياؤهُ، ويبهرُ العُقول رُواؤُهُ، وطيبٍ يأخُذُ الأنفاس عَرفُهُ لفعل، ولو فعل لظلّتْ لهُ الأعناقُ خاضعةً، ولخَفَّتِ البلوى فيهِ على الملائكة ولكنّ الله سبحانه يَبْتلي خلْقهُ بَبعْضِ ما يجْهَلُون أصلهُ تمييزاً بالاخْتبار لهُمْ ونفياً للاستكبارِ عنهُم، و إبعاداً للخُيلاءِ منهُم. فاعتبرُوا بما كان منْ فعْلِ الله بإبليس إذ أحْبطَ عملَهُ الطَويلَ، وجهدَهُ الجهيد، وكانَ قدْ عَبدَ اللهَ سبحانه وتعالى ستةَ آلافِ سنةٍ، ولا يُدرى أَمن سِنِي الدنُيا أمْ من سِني الآخرةِ، عن كبْر ساعةٍ واحدةٍ. فمنْ ذا بعدَ إبليس يَسْلَمُ على الله بمثْلِ معْصيته) .

ثم قال: (فاحذرُوا، عباد الله، عدُوّا الله [إبليس] أن يعديكُم بدائهِ، وأنْ يستنفزّكُمْ بندائهِ، وأنْ


1- البقرة: 3٠.

ص: 66

يُجْلبَ عليكمْ بخيلهِ ورجلِهِ) فيبين الإمام عليه السلام هذه الواقعة الخالدة والمعاني المشيدة (1).

كما أنه من خلال التعابير الواردة في القرآن الكريم يتبين أن عبادة ابليس كفر بالله عزّوجلّ لأنه نابذ وجاحد لولاية ولي الله قال تعالى: «قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» (2).

وقوله تعالى: «وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ» (3).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: أمر إبليس بالسجود لآدم، فقال: «يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال: الله جل جلاله: إنيْ أحب أن أطاع من حيث أريد» (4).

وهذا ما عليه السلفية فإنهم يجحدون ولاية النبي الأعظم بحجة أن العبادة لغيرالله شرك وكفر بالله ويطيعون من حيث يريدون هم بحسب أهوائهم لا من حيث هو يريد وبذلك يتبين أن ما يعتقده هؤلاء وما يزعمونه هو عين الوثنية الجديدة.

لو كان العابد يريد أن يعبد المعبود من حيث يشاء العابد لكان العابد هو المعبود يعبد هوى نفسه مقدماً على هوى خالقه لذلك خاطب الله إبليس بهذا الخطاب التوحيدي: «إني أحب أن أطاع من حيث أريد لا من حيث تريد» .

فنعت الباري في القرآن الكريم إبليس بعد أن عبد الله ستة آلاف سنة بأنه: «أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ» بعد أن نبذ وجحد ولاية أبي البشر آدم عليه السلام بأمرٍ من الله عزَ وجلَ مع أنه على منطق هذه الفئة تكون عبادة إبليس عبادة خالصة ونابذة للواسطة والحال أن الباري وصفها بأنها شرك وكفر.


1- نهج البلاغة: خطبة له عليه السلام المعروفة بالقاصعة في ذم إبليس، خ 1٩2.
2- الأعراف: 12.
3- البقرة: 34.
4- بحارالأنوار: باب هل كان أبليس من الملائكة أم لا عن قصص الأنبياء وروى نظيره عن تفسير العياشي أيضاً، ج11، ص 11٩.

ص: 67

والخطاب المتمثل في قوله تعالى: «وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» يتجلى في كل من يتمثل به الخلافة الإلهية كما قال تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» فهذا السجود غير مختص بآدم عليه السلام بل لكل خليفة من خلفاء الله إذ قلنا للملائكة ولكل مؤمن اسجدوا لخليفة الله المتمثل في محمد (ص) وإبراهيم الخليل وداود أني جاعلك خليفة وأولي العزم الذين هم أعلى منزلة من آدم عليه السلام وهذا بحسب نفس البيان القرآني في قوله تعالى: «وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» الباري عز وجل لم يقل إني جاعل في الأرض نبياً أو رسولاً بل خليفة يعني له القدرة والتصرف والصلاحية والقدرة والتدبير يعني (الإمامة) أني جاعل في أرض خليفة، أي أن الله عز وجل يطوع ملائكته وجميع ما خلق لخليفته في الأرض فيخاطبهم اسجدوا لإبراهيم اسجدوا لعيسى و نوح عليهم أفضل الصلاة والسلام يعني توجهوا في عبادتكم وطاعتكم إلى من؟ إلى خليفة الله وإلى ولي الله.

فإن الله سبحانه وتعالى لو أمر هذه الشرذمة بالسجود لسيد الأنبياء محمد (ص) وأن يتوجهوا في طاعتهم وعبادتهم إليه لكانوا هم أول من يأبى ويصَد ويستكبر وأول من يحارب النبي الأكرم مع إبليس لعنه الله ويستكبرون كما استكبر إبليس وأبى أن يسجد لآدم والنبي (ص) وكذلك أهل البيت صلوات الله عليهم، فإن الآية السابقة شاملة لأهل البيت بنص القرآن في آيات أُخر وبنص الحديث النبوي المتواتر لدى العامة والخاصة.

عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجةالوداع «أن هذا الدين لن يزال ظاهراً على من ناواه لا يضره مخالف ولا مفارق حتى يمضى من أمتي اثنا عشر خليفة» ثم تكلم بشيء لم أفهمه فقلت لأبي ما قال؟ قال: «كلهم من قريش» (1).

فكل من يصدق عليه عنوان خليفة الله في الأرض فإنه مصداق لهذه الآية الكريمة: «وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» كما في قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (2).


1- مسند احمد، ج5، باب حديث جابر بن سمرة.
2- البقرة: 124.

ص: 68

فإن الإمامة والخلافة لا ينالها إلا المصطفون والمطهرون من ذرية إسماعيل وإبراهيم قال تعالى في كتابه الكريم: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (1).

الاجتباء والاصطفاء من الله عز وجل ثابت لآل محمد لأنهم الذين أبوهم إبراهيم ومن ذرية إسماعيل وهم الذين منهم بعث الرسول خاتم النبيين في دعاء إسماعيل وإبراهيم المذكور في سورة البقرة وبذلك تثبت هذه الخاصية والأمر الإلهي في قوله تعالى: «وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» وأن هذا الأمر وهذا العهد لا يناله غيرهم من الظالمين.

ويتضح من الآيات الأخرى بأن الأمر بالسجود لم يتعلق بعنوان آدم عليه السلام بما هو كما في قوله تعالى: «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (2)مما يعني بأن الله سبحانه تعالى أمر بالسجود لهذا الخليفة الطيني البشري وأنتم يا معشر البشر مأمورون بالسجود له وبإطاعته.

وأن هذه المنزلة الرفيعة لا ينالها إلا المصطفين من قِبل الله عز وجل كما بينه القرآن الكريم في آية التطهير وآية المباهلة وآية المودة وآية الفيء وآية الانفال والخمس وغيرها في أكثر من موقف بأن هذا المقام مختص بالأنبياء والأوصياء، كما في بيان الرضا عليه السلام عندما أمر محمد بن الفضل بإحضار المتكلمين والعلماء في دار حفص بن عمير بالكوفة ثم قال:

يا معاشر الناس أليس أنصف الناس من حاج خصمه بملته وبكتابه وبنبيه وشريعته؟ قالوا: نعم، قال الرضا عليه السلام: فاعلموا أنه ليس بإمام بعد محمد إلا من قام بما قام به محمد حين يفضي الأمر إليه، ولا يصلح للإمامة إلا من حاج الأمم بالبراهين للإمامة، فقال رأس الجالوت: وما الدليل على الامام؟ قال: أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم، فيحاج أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل القرآن بقرآنهم، وأن


1- الحج: 7٨.
2- ص: 71 و 72.

ص: 69

يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفى عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً نقياً من كل دنس طاهراً من كل عيب، عادلاً منصفاً حكيماً رؤوفاً رحيماً غفوراً عطوفاً صادقاً مشفقاً باراً أميناً مأموناً راتقاً فاتقاً.

فقام إليه نصر بن مزاحم فقال: يابن رسول الله ما تقول في جعفر بن محمد؟ قال: ما أقول في إمام شهدت أمة محمد قاطبة بأنه كان أعلم أهل زمانه، قال: فما تقول في موسى بن جعفر؟ قال: كان مثله، قال: فإن الناس قد تحيروا في أمره قال: إن موسى بن جعفر عمر برهة من الزمان فكان يكلم الأنباط بلسانهم، ويكلم أهل خراسان بالدرية وأهل روم بالرومية، ويكلم العجم بألسنتهم، وكان يرد عليه من الآفاق علماء اليهود والنصارى، فيحاجهم بكتبهم وألسنتهم.

فلما نفذت مدته، وكان وقت وفاته أتاني مولى برسالته يقول: يا بني إن الأجل قد نفد، والمدة قد انقضت، وأنت وصي أبيك فإن رسول الله (ص) لما كان وقت وفاته دعا علياً وأوصاه ودفع إليه الصحيفة التي كان فيها الأسماء التي خص الله بها الأنبياء والأوصياء، ثم قال: يا علي ادن مني، فغطى رسول الله (ص) رأس علي عليه السلام بملاءة ثم قال له: أخرج لسانك، فأخرجه فختمه بخاتمه ثم قال: يا علي اجعل لساني في فيك، فمصّه وأبلغْ عني كل ما تجد في فيك، ففعل علي ذلك فقال له: إن الله قد فهّمك ما فهّمني، وبصّرك ما بصّرني، وأعطاك من العلم ما أعطاني، إلا النبوة، فإنه لانبي بعدي ثم كذلك إمام بعد إمام، فلما مضى موسى علمتُ كلَّ لسان وكلَّ كتاب (1).

فمن خلال هذه الكلمات والآيات البينة الناصعة تبين بأن السجود والذي هو كناية عن الطاعة المطلقة والانقياد التام والتسليم الكامل ومنتهى الخضوع لا يختص بآدم عليه أفضل الصلاة والسلام وبأن التوحيد في العبادة إنما هو بالتوجه لولي الله إلى الله وهذا هو حقيقة القبلة وليس الكعبة بما هي أحجار والطواف حولها وهذا عين ما في قوله تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» (2).


1- بحار الأنوار، ج 4٩، باب وروده عليه السلام بالكوفة.
2- البقرة: 143.

ص: 70

تنصيصٌ من القرآن كما ذكرنا في قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لِآدَمَ» تجعلونه قبلة وتتجهون بولايته في عبادتكم.

إذاً هذا البرهان القرآني الدامغ الناصع دال على أن التوحيد في العبادة يكون في التوجه بولي الله إلى الله وبخليفة الله وبالحجة من قِبل الله إلى الله لا قطع التوجه والصلة به.

أن زيارة قبر النبي (ص) وقبور عترته هي من تمام العبادات

(في عيون الأخبار وفي العلل) (1).

عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: «إذا حج أحدكم فليختم حجه بزيارتنا، لأن ذلك من تمام الحج» .

وفي (الخصال) بإسناده عن علي عليه السلام (في حديث الأربعمائة) قال: «أتمّوا برسول الله (ص) حجكم إذا خرجتم إلى بيت الله فإن تركه جفاء وبذلك أمرتم [وأتموا] بالقبور التي ألزمكم الله عزوجل حقها وزيارتها، واطلبوا الرزق عندها» (2).

فمن هذه الروايات والقرائن الأخرى الذي ذكرناها تظهر بأن المسلم لابد له أن يضم جميع العبادات من زكاة وصيام إلى زيارة قبر النبي (ص) وأن من تمامِها وكمالها هي هذه الزيارة وإلا لا تُقبل أعمالهُ وتذهب هباءاً منثوراً قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (3).

البرهان الرابع

قال تعالى: «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (4).


1- عيون أخبار الرضا، ج 1، باب في ذكر ثواب زيارة الإمام عليه السلام؛ علل الشرائع، باب العلة التي من أجلها وجبت زيارة النبي (ص) والأئمة عليهم السلام بعد الحج فيهما: فليختم حجه بزيارتنا.
2- الخصال، ص 616.
3- إبراهيم: 35 و 36.
4- إ براهيم: 37.

ص: 71

«رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» يعني المسجد الحرام (الكعبة) والحرم المكي.

و ذُكر في (تفسير العياشي) : عن الفضل بن موسى الكاتب، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال: إن إبراهيم عليه السلام لما أسكن إسماعيل وهاجر مكة وودعهما لينصرف عنهما بكيا، فقال لهما إبراهيم: ما يبكيكما فقد خلفتكما في أحب الأرض إلى الله وفي حرم الله؟

فقالت له هاجر: يا إبراهيم ما كنت أرى أن نبياً مثلك يفعل ما فعلت؟ قال: وما فعلت؟ فقالت: إنك خلفت امرأة ضعيفة وغلاماً ضعيفاً لا حيلة لهما بلا أنيس من بشر ولا ماء يظهر، ولا زرع قد بلغ، ولا ضرع يحلب قال: فرَقّ إبراهيم ودمعت عيناه عندما سمع منها فأقبل حتى انتهى إلى باب بيت الله المحرم فأخذ بعضادتي (1)الكعبة ثم قال: اللهم «إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ) (2).

الغاية من إسكان هاجر وإسماعيل عند بيته الحرام

ما هو الهدف من إسكان هاجر وإسماعيل ونسل إسماعيل في مكة وعند بيت الله الحرام في ارضٍ ليس فيها زرع ولا ضرع؟

«رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ» الهدف والغاية منه إشادة الدين وتشييد معالم الدين وعمارة المسجد الحرام بالصلاة والحج والنُسك وكل مظاهر عمارة الدين وعمارة المسجد الحرام.

وهل هي الغاية النهائية وراء إسكان إسماعيل وأمه هاجر إلا نسل إبراهيم وهو النبي (ص) وأهل بيته لكي يقيموا الصلاة عند بيته المحرم وفي وادٍ غير ذي زرع الذي هو وادٍ مقدس وإتيان كل مظاهر العبادة ماذا بعد ذلك وما وراء ذلك؟

والجواب: وراء ذلك التعبير الوارد في الآية الكريمة: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي»


1- عضادتي الباب: خشبتاه من جانبيه.
2- بحارالانوار، ج 12، باب الخامس، أحوال أولاده وأزواجه صلوات الله عليه؛ تفسير العياشي، ج2، ص 232.

ص: 72

« إِلَيْهِمْ» هذا التفريع هي الثمرة والنتيجة النهائية وفي كلمة (فاجعل) بيان للثمرة التي هي وراء ما ذُكر قبلها في الآية وأهل البيت يشرحون كل كلمة في الآية في رواياتهم عليهم أفضل الصلاة والسلام.

هذا هو بيت القصيد في قوله تعالى: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (1).

كما إنه لا بد للفقيه أن يجمع القرائن الموجودة لكي يستكشف الأحكام الشرعية وماهيتها من العبادات من القرآن الكريم والنصوص الواردة.

هذه الآية الكريمة بنص مفادها كما أشار إلى ذلك الإمام الباقر عليه السلام هي من آيات الحج وينبغي على الفقهاء أن لا يغفلوا بأن هذه الآية من مجموعِ آيات ونصوص الحج.

وهي تقول بأن للحج غاية، لأن ما يُقام وما يشاد ويمارس ويُبنى ويُؤسَس عند بيت الله الحرام والوادي المقدس غايته في قوله تعالى: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» تهوي إلى مَن؟ إلى ذرية ونسل إسماعيل وإبراهيم، تهوي إليهم تميل بقلوبها إليهم، تواليهم، تميل إليهم، تحنُ إليهم بقلبك، قال تعالى: «قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (2)«عَلَيْهِ أَجْراً» على الرسالة هذه هي الغاية من هذه الطقوس في الحج التولي والولاية لأهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.

وهذه الآية صريحة في مودة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام وبأنها من تمام إقامة الصلاة والطواف والاعتكاف وكل أبواب العبادة كما مر في آية استقبال الكعبة قال تعالى: «طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (3).

فنفس هذا المفاد الذي في الآية صريح في قوله تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» (4)أنظر إلى هذا التناغم والتشاهد والتوافق والاتحاد في مفاد الآيات.


1- إبراهيم: 37.
2- الشورى: 23.
3- البقرة: 125.
4- البقرة: 143.

ص: 73

إذاً من تمام الصلاة والعبادات واستقبال الكعبة ماذا؟ لكي تهوي الناس إليهم، تميلُ إلى نسل إبراهيم وإسماعيل، وهي تلك الذرية المسلمة التي لا تشرك بالله طرفة عين وهم دعوة إبراهيم وطلبه من الله تعالى في قوله تعالى: «رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ» (1)فإذاً هذه الأمة لها مواصفات خاصة وهي عترة النبي (ص) هي الغاية من الحج وهي الغاية من العبادة، بولايتهم وبمودتهم وبصلتهم وزيارتهم يتم الحج.

فهل من الممكن أن لا يستجاب هذا الدعاء ولا يتحقق في نسل إسماعيل وأن يكونوا كلهم مشركين ولا تكون فيه أمة مسلمة موحدة لله تعالى؟

كما تدعي هذه الفئة الضالة التي تتجرأ على أبي طالب وعبد المطلب آباء وأجداد النبى (ص) .

هذا مضافاً إلى ما في قوله تعالى: «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لأَِبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (2).

وجعلها كلمة باقية في عقبه وفي نسله الذين لا يشركون بالله طرفة عين، وقد جعل الله في نسله أمة مسلمة و في ذريتهِ التي لها مواصفات خاصة الإمامة والخلافة الإلهية وهي باقية في عقبه لكي تميل وتهوي أفئدة الناس إليهم.

هذا هو دعاء إبراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح بأن يجعل في ذريتهما أمة مسلمة تعبد الله عز وجل ويجعل في ذريته الإمامة وجعلها الله كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة وبذلك يتبين بأن مجموع هذه الآيات لا يمكن عزلها عن بعضها البعض في بيان ماهية الحج وكمالات الحج والغاية من الحج وإنما احتلت الكعبة هذه المركزية لأجل محبة هذه الذرية «تَهْوِي إِلَيْهِمْ» بولايتهم وهي أبواب معالم الدين.

«فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» هذا سؤالٌ من إبراهيم عليه السلام أن يجعل الله قلوب


1- البقرة: 12٨ - 12٩.
2- الزخرف: 26 - 2٨.

ص: 74

الخلق تحن إليهم لا إلى البيت وإلا لكان الضمير مفرداً (إليه) كما أشار الإمام الباقر في البرهان السابق في قوله: (إنما أمر الناس أن يطوفوا بهذه الأحجار ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم) هذه هي الغاية المركزية من الطواف وبقية العبادات.

على عكس ما تدعي هذه الشرذمة بأن التوحيد في العبادة هو النفرة والقطيعة والبغض للنبي وأهل بيته وأن عمارة قبر النبي وأهل بيته شركٌ بالله بينما القرآن الكريم يقول: «وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» (1).

إذاً قوله تعالى: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» تُبين مودة أهل البيت في قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» ومن أبرز مصاديق المودة والصلة زيارة قبر النبي (ص) وقبور عترته عليهم السلام مما يعني بأن هذه الآية هي الآية الثانية الصريحة في مودة أهل البيت بعد آية القربى والمحبة لهم والحنين إليهم لأن الحنين لهم هي من فطرة البشر والذهاب إلى زيارة قبورهم صلوات الله عليهم أجمعين.

ومن الشواهد على هذه الفطرة ما قام به النبي إسماعيل أنه عندما استأذن إبراهيم سارة في أن يزور ابنه إسماعيل عليه السلام:

فإنه قد روى هذه القصة علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان، عن الصادق عليه السلام وإن اختلفت بعض ألفاظه، وقال في آخرها: «إذا جاء زوجك فقولي له جاء هاهنا شيخ، وهو يوصيك بعتبة بابك خيراً، قال فأكب إسماعيل على المقام يبكي ويقبله» (2).

وكذلك ما رواه المجلسي في البحار: فعندما جاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: يتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله فأنزل يرحمك الله. . . إلى أن قال إبراهيم إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: قد استقامتْ عتبة بابك: فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت نعم، شيخ أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً وقال لي كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه على المقام، قال


1- البقرة: 143.
2- مجمع البيان، طبرسي، ج 1، باب وإذ جعلنا البيت مثابة للناس.

ص: 75

لها إسماعيل: ذلك إبراهيم عليه السلام (1).

فنلاحظ هذه الفطرة البشرية في الأنبياء والرسل «فأكب إسماعيل على المقام يبكي ويقبله» يحنُ إليه، عالمٌ بمقام الأصفياء الأولياء، وببصيرة الفطرة الوحيانية، فهذا العمل من صميم التوحيد والعبادة الخالصة لوجه الله سبحانه وتعالى.

فهل لقائلٍ أن يقول بأن إسماعيل عليه السلام أشرك بالله حينما أخذ يبكي عند مقام قدمي إبراهيم الخليل عليه السلام وبأن هذا العمل ينافي التوحيد بالله عز وجل كما تدعي هذه الفرقة الشاذة.

وإلى هذا المفاد يشير صدر دعاء الندبة حيث يبين منزلة النبي الأكرم (ص) وأن أجر رسالته هي مودة أهلُ بيته كما هو في القرآن الكريم: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (2).

(لولا أرسلت إلينا رسولاً مُنذراً وأقمت لنا علماً هادياً فنتبع آياتِك من قبل أن نذِل ونخزى إلى أن انتهيت بالأمرِ إلى حبيبك ونجيبك مُحمدٍ (ص) فكان كما اتنجبتهُ سيد من خلقتهُ وصفوة من اصطفيتهُ وأفضل من اجتبيتهُ وأكرم من اعتمدتهُ، قدّمتهُ على أنبيائك و بعثتهُ إلى الثقلين من عبادك وأوطأتهُ مشارقك ومغاربك وسخرتَ لهُ البُراق وعرجت بروُحهِ إلى سمائِك واودعتهُ علم ما كان و ما يكون إلى انقضاء خلقك ثم نصرتهُ بالرعبِ وحففتهُ بجبرئيل وميكائيل والمُسوّمين من ملائكتك ووعدتهُ أن تُظهر دينهُ على الدين كُله ولوكره المشركون وذلك بعد أن بوأْتهُ مُبوأَ صدقٍ من أهله و جعلْتَ له ولهُم «أولَ بيتٍ وُضعَ للناس للذي ببكة مُباركاً و هدىً للعالمين فيه آيات بَيناتٌ مقامُ إبراهيم ومن دخلهُ كان آمناً» وقُلتَ «إنما يُريدُ اللهُ ليذهب عنكم الرِجسَ أهل البيت ويُطهركم تطهيراً» ثم جعلتَ أجر محمدٍ صلواتُك عليه وآله مودتهُمْ في كتابِكَ فقلت «قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (3).

فهذه الكلمات الواردة تبين بأن الكعبة جُعلتْ للنبي وازدادتْ شرفاً بالنبي الأكرم (ص) و


1- بحارالانوار، ج 12، الباب الخامس أحوال أولاده وأزواجه.
2- الشورى: 23.
3- دعاء الندبة.

ص: 76

أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين وهذا هو مضمون الآية: «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (1).

بأن يُجعل الكعبة مركزاً للعبادة وإسكان ذرية إسماعيل هناك لأجل أن يُقام هذا المعلم الديني وأن تكون عاصمة دينية تُحيي بنسل إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام وأن يكون هناك اقتران بين نسل إسماعيل وإبراهيم وإحياء مشاعر ومعالم الدين وبالتالي توجه الناس إلى الكعبة في الحج والصلاة هو توجّهٌ إلى الله سبحانه وتعالى من خلال توسط وتوجه إلى نسل ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» .

النتيجة: الآية مشتملة على ثلاثةِ فقرات

الفقرة الأولى: قال تعالى: «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (2).

إسكان ذرية إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في وادٍ غير ذي زرع (الوادي المقدس) عند بيته المحرام امتثالٌ للأمر الإلهي رغم وجود هذه الشدائد التي لاقتها هاجر مع ابنها الرضيع.

كما أن هذا التكليف في حد ذاته أمرٌ شاق غير مقدور للفهم عند البشرية فكيف يأخذ نبي من أنبياء الله بزوجته وطفله الرضيع في وادٍ غير ذي زرع ويتركهم هناك؟ وهذا نظير تكليف إبراهيم الخليل عليه السلام بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام والامتثال للأمر الإلهي.

الفقرة الثانية: قال تعالى: «رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم نظير خطاب الله عز وجل لإبراهيم وإسماعيل قال تعالى: «طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (3)يعني إتيان لكل مظاهر العبادة وجعل الكعبة مركزاً للعبادة وإشادة الدين.


1- إبراهيم: 37.
2- المصدر نفسه.
3- البقرة: 125.

ص: 77

الفقرة الثالثة: قال تعالى: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» إسكان ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بيت الله الحرام و تشييد الدين وجعلها مركزاً للعبادة من خلال هذه الذرية الطاهرة.

فإن وراء هذين الأمرين غاية عظيمة وهي أن يتوجه الناس إلى الكعبة وجعلها قبلة لهم ومركزاً للعبادة في الصلاة والطواف وبهذا التوجه إلى الكعبة يتوجهون حينئذٍ إلى الذرية الطاهرة «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» أي تُدين الله بمودتهم وبالهوى إليهم وهذه هي غاية المركزية من استقبال الكعبة بحيث يحصل التوجه بالذرية الطاهرة إلى الله عز وجل ويتقرب إليه من هذين الأمرين وهذا ما أشار إليه الباقر عليه السلام بأن: «من تمام الحج هو لقاء الإمام» (1)ولا يمكن رفع اليد عنها في كونها من آيات الحج.

كما روى الشيخ الصدوق: قال حدثنا تميم بن بهلول عن أبيه عن إسماعيل بن مهران عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: «إذا حج أحدكم فليختم حجه بزيارتنا لأن ذلك من تمام الحج» (2).

وكما في صحيحة أبي عبيدة قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام - ورأى الناس بمكة وما يعملون - قال فقال: فعال كفعال الجاهلية، أما والله ما أمروا بهذا وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهُم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعْرضُوا علينا نصرتهم» (3).

عن أبي جعفر عليه السلام قال: (أتدرون أي بقاع أفضل عند الله منزلة؟ فلم يتكلم أحدٌ منا وكان هو الراد على نفسه قال ذلك مكة الحرام التي رضيها الله لنفسه حرماً وجعل بيته فيها، ثم قال: أتدرون أي البقاع أفضل فيها عندالله حرمة؟ فلم يتكلم أحد منا فكان هو الراد على نفسه فقال ذلك المسجد الحرام، ثم قال: أتدرون أي بقعة في المسجد الحرام أفضل عندالله حرمة؟ فلم يتكلم أحد منا فكان هو الراد على نفسه قال ذلك ما بين الركن الأسود والمقام


1- الكافي، ج4، باب اتباع الحج بالزيارة؛ علل الشرائع، العلة التي من أجلها وجبت زيارة النبي (ص) والائمة بعد الحج ج2؛ عيون أخبار الرضا، ج1، باب في ذكر ثواب زيارة الإمام.
2- عيون أخبار الرضا، ج 1، باب في ذكر ثواب زيارة الإمام عليه السلام؛ تفسير نور الثقلين للحويزي، ج 1، باب فان حصرتم فما استيسر من الهدى.
3- الكافي، ج 1، باب أن الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام.

ص: 78

وباب الكعبة وذلك حطيم إسماعيل عليه السلام ذلك الذي كان يذود غنيماته ويصلي فيه والله ولو أن عبداً صف قدميه في ذلك المكان قام ليلاً مصلياً حتى يجيئه النهار وصام حتى يجيئه الليل ولم يعرف حقنا وحرمتنا أهل البيت لم يقبل الله منه شيئاً أبداً (1)أن أبانا إبراهيم صلوات الله عليه كان فيما اشترط على ربه أن قال «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» أما أنه لم يقل الناس كلهم. . .) إلى آخر الحديث (2).

وكما جاء في تفسير العياشي: عن رجل ذكره، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله: «إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» إلى قوله «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» قال: فقال أبوجعفر عليه السلام: «نحن هم، ونحن بقية تلك الذرية» وفي رواية أخرى، عن حنان بن سدير، عنه عليه السلام «نحن بقية تلك العترة» (3).

وكونهم ذرية إبراهيم التي أسكنت عند البيت هو بنفسه برهان مستقل على كونهم محل دعوة إبراهيم بأن يكونوا الأمة المسلمة والتي فيها الإمامة عن الآية (37 في سورة إبراهيم و لذلك عقد الكليني باباً لبيان هذا المطلب وأن الأوامر الثلاث في الآية الكريمة مقترنة مع بعضها البعض ولا تتجزأ ولا تنفك.

وروى عبدالله بن سنان عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: إن الله أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعلمه قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله عزوجل «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» قال:

«لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ْ» لقاء الإمام «وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» تلك المناسك، فقال عبد الله بن سنان: فأتيت أباعبد الله عليه السلام فقلت: جعلني الله فداك قول الله عز وجل «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» قال أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلت فداك فإن ذريح المحاربي حدثني عنك أنك قلت له: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ْ» لقاء الإمام «وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» تلك المناسك. فقال:


1- ثواب الأعمال، صدوق، باب من جهل حق أهل البيت عليهم السلام، ص 2٠5 وفي مصادر اخرى أيضاً مع اختلاف في الألفاظ.
2- تفسير العياشي، ج 2، ص 233.
3- المصدر نفسه، ص 231.

ص: 79

«صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟» (1)

وكيف تتحقق الصلة ونحن نعيش في عالم الأجسام والمادة؟ وهل هي بالقطيعة وقطع الصلة كما هو عليه النواصب والمعادون لأهل البيت عليهم السلام؟

الجواب

لا تتم هذه الصلة إلا بالحضور الجغرافي والوفود إليهم والهوى إليهم والوفادة الجسمانية مع التوجه إلى الله بهم في الزيارة «فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم» وهذا ما أشار إليه أئمة أهل البيت عليهم السلام.

البرهان الخامس

ما تشير إليه الرواية معتبرة السند - على الأصح - التي يرويها الكليني بسنده:

عن علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال جميعاً، عن أبي جميلة، عن خالد بن عمار، عن سدير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام وهو داخل وأنا خارج وأخذ بيدي، ثم استقبل البيت فقال: «يا سدير إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا وهو قول الله: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» 2- ثم أومأ بيده إلى صدره - إلى ولايتنا» .

ثم قال يا سدير فأريك الصادين عن دين الله، ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حلق في المسجد، فقال: هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله ولاكتاب مبين، إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجال الناس فلم يجدوا أحداً يخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله (ص) حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله (ص) (2).


1- بحارالأنوار، ج ٩6، باب الخامس والخمسون: الرجوع من منى إلى مكة للزيارة، ح2٠؛ معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص 34٠.
2- الكافي، ج 1، باب أن الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام.

ص: 80

ومن الملاحظ بأن الكليني عقد هذا البحث في العقائد (كتاب الحجة) نظير ما فعله في بحث الخمس والأنفال ليبين بأن الخمس والأنفال الذي هو من المنابع العامة أصله وتشريعه هو ولاية أهل البيت على هذه الأموال، والولاية هي بحث عقائدي وبذلك يتضح النكته والغرض من جعلها في باب الحجة.

كما أن بوابة الأنفال والفيئ هي من الأبواب العظيمة في الإسلام وبذلك تكون هذه الأموال تحت ولاية الإمام المعصوم عليه السلام كما جاء في بعض الروايات بأن الإمام هو رب التدبير في الأرض الذي بإذنه تعالى يدير ويدبر بأمر من الله سبحانه وتعالى: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» الذي له الولاية العظمى بأمر من الله عزوجل.

فلا بد للفقيه أن يبحث عن هذه المقدمات العقائدية لكي يؤسس على ذلك وينطلق إلى البحث الفقهي والأبواب الفقهية المتصلة والمرتبطة بذلك.

وفي هذا البرهان يشير الباقر عليه السلام إلى التوحيد في العبادة في مقابل الوثنية في قوله تعالى: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» (1).

هذه الآية القرآنية تبين بأن المغفرة من الله عز وجل تكون بالإيمان بالله والعمل الصالح ومن أبرز هذه المصاديق الحج كما ورد (بأن الحاج يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) لكن مع ذلك فإن الغفران من الذنوب بأي سبب من الأسباب مشروطٌ بشرط آخر لا بد الإتيان به وهو (الاهتداء) .

«وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» ثم أومأ بيده إلى صدره «إلى ولايتنا» وهذا يعني بأن الإيمان بالوحدانية والعمل الصالح لا يتم إلا بالاهتداء بأهل البيت عليهم السلام والاقتداء بتعاليمهم وإرشاداتهم.

كما روى الكليني في باب معرفة الإمام والرد إليه: (إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» وقال «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله


1- طه: ٨2.

ص: 81

مؤمناً بما جاء به محمد (ص) ، هيهات هيهات فاتَ قومٌ وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا، وأشركوا من حيث لا يعلمون.

إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله، وهو الاقرار بما أنزل من عندالله عزوجل (1).

كما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام، عن أبيه، عن جده عليهم السلام، قال: خرج رسول الله (ص) ذات يوم وهو راكب، وخرج علي عليه السلام وهو يمشي، فقال له: يا أبا الحسن، إما أن تركب، وإما أن تنصرف، فإن الله عز وجل أمرني أن تركب إذا ركبت، وتمشي إذا مشيت، وتجلس إذا جلست، إلا أن يكون حد من حدود الله لا بد لك من القيام والقعود فيه، وما أكرمني الله بكرامة إلا وقد أكرمك بمثلها، وخصّني بالنبوة والرسالة، وجعلك وليي في ذلك، تقوم في حدوده وفي صعب أموره، والذي بعث محمداً بالحق نبياً ما آمن بي من أنكرك، ولا أقر بي من جحدك ولا آمن بالله من كفر بك، وإن فضلك لمن فضلي، وإن فضلي لك لفضل الله، وهو قول ربي عز وجل: «قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» (2)ففضل الله نبوة نبيكم، ورحمته ولاية علي بن أبي طالب «فَبِذَلِكَ» قال: بالنبوة والولاية «فَلْيَفْرَحُواْ» يعني الشيعة «هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» يعني مخاليفهم من الأهل والمال والولد في دار الدنيا.

والله (يا علي) ما خُلقت إلا ليعبد ربك، ولتعرف بك معالم الدين، ويصلح بك دارس السبيل، ولقد ضل من ضل عنك، ولن يهتدي إلى الله عز وجل من لم يهتد إليك وإلى ولايتك، وهو قول ربي عز وجل: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» (3)يعني إلى ولايتك.

ولقد أمرني ربي تبارك وتعالى أن افترض من حقك ما افترضه من حقي، وإن حقك


1- الكافي، ج 1، باب معرفة الإمام والرد إليه.
2- يونس: 5٨.
3- طه: ٨2.

ص: 82

لمفروض على من آمن بي، ولولاك لم يعرف حزب الله، وبك يعرف عدوالله، ومن لم يلقه بولايتك لم يلقه بشيء، ولقد أنزل الله عز وجل إليَ ّ «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» يعني في ولايتك يا علي «وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» (1)ولو لم أبلغ ما أمرت به من ولايتك لحبط عملي، ومن لقي الله عز وجل بغير ولايتك فقد حبط عمله، وعد ينجز لي، وما أقول إلا قول ربي تبارك وتعالى، وإن الذي أقول لمن الله عز وجل أنزله فيك وصلى الله على رسوله محمد وآله المعصومين (2).

فيتبين من مفاد الآية أن من أسباب المغفرة التوبة والعمل الصالح ولا تتم إلا بالاهتداء والهداية ولا يهتدي العبد إلى الله عز وجل ما لم يهتد إلى ولاية أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام بنص هذه الآية الكريمة: «وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» لذلك أومأ الإمام عليه السلام بيده إلى صدره لكي يشير إلى هذا البرهان العقائدي وأن هذه الأعمال كالحج والصلاة الذي هو من أسباب المغفرة لا نفع فيها ولا تُقبل إلا (بالاهتداء) إلى ولاية أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام التي يتم بها التوحيد في العبادة وأن مجرد التوبة وأصل الاعتقاد بالتوحيد وكثرة العمل الصالح لا يفي بتحقق الغفران الإلهي و القبول إلا بالاهتداء زائداً على ذلك وليس وراء معرفة التوحيد إلا الولاية لله تعالى ولرسوله وللأوصياء من عترته.

انظر إلى هذا الاستدلال العام الذي يطبق على عموم أسباب المغفرة كما جاء في روايات الفريقين أن الصلوات الخمس وهي الفرائض اليومية مطهرة ومسببة للمغفرة عن الذنوب كما هو في روايات أهل البيت عليهم السلام خاصة: عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله (ص) : لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كل يوم منه خمس مرات، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ ، قلنا: لا، قال: فإن مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلما صلى صلاة كفرت ما بينهما من الذنوب (3).


1- المائدة:67.
2- الأمالي الشيخ الصدوق باب فضائل علي عليه السلام.
3- وسائل الشيعة، ج 4، باب وجوب صلوات الخمس، ح 43٨7.

ص: 83

فهذه الصلاة المفروضة رغم أنها عبادة ومغفرة من الذنوب مشروطة بالاهتداء بالائمة والولاية لهم عليهم أفضل الصلاة والسلام والجاحد لهذه الولاية لا تُقبل له عبادة مدى الدهر كما قال: أبو عبدالله عليه السلام: «أن فوق كل عبادة عبادة، وحبنا أهل البيت أفضل عبادة» (1).

سبع المثاني فاتحة الكتاب هي أم القرآن

وهذا اللسان الوارد في سورة طه بعينها أشار إليه الأئمة أهل البيت عليهم السلام في (سورة الحمد) التي جُمعت فيها القرآن وبأنها القرآن العظيم كما في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» (2).

وسورة الحمد هي من المثاني التي توضح آيتها بعضها البعض ويصدق بعضه البعض كما في قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: «ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض» .

كما نزلت سورة الحمد على النبي الأكرم مرتين لأهميتها وأهمية محتواها الذي ذكره أهل البيت عليهم السلام ومنه ما روي عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزوجل «وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» فقال فاتحة الكتاب يثني فيها القول. وقال رسول الله (ص) إن الله تعالى منَ ّ عليَ ّ بفاتحة الكتاب من كنز الجنة، فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» الآية التي يقول الله تعالى فيها «وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» (3). (4)

فإن سورة الحمد تعرضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة، فقوله تعالى:

«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» (5) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة «لاإِلهَ إِلَّا اللهُ» ، وقوله تعالى: «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» (6)إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من


1- المحاسن، البرقي، ج1، كتاب الصفوة والنور والرحمة باب الحب.
2- الحجر: ٨7.
3- الإسراء: 46.
4- بحارالانوار، ج ٨2، ص 21.
5- الفاتحة: 2 - 3.
6- الفاتحة: 4.

ص: 84

أصول الدين، وقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (1)إشارة إلى مقام التشريع والنبوة، لأن العبادة لا تتحقق إلا بالسير على خطى النبوة والرسالة.

وقوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» (2)، إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو الله عز وجل في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم كما قال تعالى «وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» (3)، وهذا الصراط هو المنزه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم، أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم الله تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منعم عليهم بنعمة خاصة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم الله على النبيين.

الثاني: أنهم لا يغضب الله عليهم قط، وإلا لما كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلون قط، وإلا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدثنا القرآن الكريم عن ثلة في هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة إلهية خاصة دون بقية الأمة إلا أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.

فبذلك اشتملت سورة الحمد على أصول الدين من توحيد الذات والصفات ونعت الله عز وجل بالرحمانية والرحيمية والإقرار بالمعاد والنبوة والحاجة إلى النبوة وضرورة الهداية إلى الصراط المستقيم، كما لم تغفل السورة مبدأ البراءة عن «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» وعن «الضَّالِّينَ» . وهم أعداء الله والرسول والأئمة الطاهرين وهذا ما يطلبه الإنسان المسلم في صلاته بأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم.


1- الفاتحة: 5.
2- الفاتحة: 6- 7.
3- النساء: 6٩.

ص: 85

كما تبين بأن المسلم المؤمن القارئ لسورة الحمد إلى ها هنا أسلم لكنه لم يهتدِ بعد «الهداية التامة» مع إقراره (بالشهادتين) والمعاد ومع ذلك تخاطب السورة المسلم المصلي في يومياته بأن يدعوا الله أن يهتدي إلى الصراط المستقيم، وهذا يعني بأن الإقرار بالشهادتين والمعاد لم تتم بها الهداية من دون ضم الشهادة الثالثة إلى الشهادة الثانية والأولى، لا كما تتقنع هذه الشرذمة بشعار التوحيد وتدعوا إلى الوثنية الجاهلية بحيث لا تطعم في أدبياتها مقتضيات الشهادة الثانية وتداعيات الشهادة الثانية ومؤديات الشهادة الثانية وجعلها في حساباتهم وأدبياتهم، فلابد من ضم الشهادة الثالثة إلى الشهادتين لأن الاهتداء إلى الصراط المستقيم شرط ٌ للوصول إلى الجنة ولا تتم النجاة من النار إلا به لكي نصل إلى المطلوب فإن الإمامة شرط ٌ في الهداية ولا تقبل العبادة إلا به والنبوة إنما هي إراءة الطريق وكشف وتشريع وتمهيد للإمامة وهذا بأمر ملكوتي من الله عز وجل والنبي نبي وإمام أيضا بل هو إمام الأئمة.

كما جاءت لفظة ُ (اهْتَدَى) بتعابير وعناوين متعددةٍ ووجوه متعددة لحقيقة واحدة في القرآن الكريم أي اجعل لنا هداة نقتدي بهم وهادياً ومهتدياً يعني إمام وإمامة وهذه اللفظة جاءت في سورة الحمد بلفظة الهداية «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ» أي اجعل لنا هادياً ومهتدياً نقتدي به ونسير على ولايته وأن الشهادة الأولى والثانية لا تتم الهداية بهما إلا بضم الشهادة الثالثة وهي في كبد الصلاة لا في الأذان والإقامة فحسب، بحيث تقر بها بلسانك في الصلاة في سورة الحمد وقد أفتى جملة من الفقهاء باستحباب دعاء التوجه كالصدوق في الفقيه والمفيد في المقنعة والطوسي في النهاية والمبسوط وهذا بعد تكبيرة الإحرام لكي تكون على ملة إبراهيم الذي هو على دين محمد (ص) وتخرج من الاشراك بالله من خلال منهاج علي وهدى علي بحيث تتوجه إلى الله بعد التكبيرة وتقول: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم على ملة إبراهيم، ودين محمد (ص) ، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حنيفاً مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (1).


1- المقنع، الصدوق الركوع وذكره، ص ٩3.

ص: 86

النتيجة

إنّ الشهادة الأولى لا تتم إلا بشروطها كما قال الإمام الرضا عليه السلام وإنّ الشهادة الثالثة هي أحد أركان الشهادة الأولى وشروطها وبها يهتدي العبد المسلم كما في سورة طه قال تعالى: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى» (1)وهذه الهداية التي تشير إليها سورة الحمد هي الهداية التي ترشدنا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم بالطهارة وبنعمة خاصة دون بقية البشر المنزّهين عن الرجس والمعصومين في القول والعمل وأن من تمام الأعمال والعبادات هو التوجه والتولي إلى هداية أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام والمودة لهم.

وهذا هو المراد من قول الباقر عليه السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا وهو قول الله: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى» - ثم أومأ بيده إلى صدره - إلى ولايتنا. ثم قال: يا سدير فأريك الصادين عن دين الله، ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حُلَقٌ في المسجد، فقال: هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين، إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجال الناس فلم يجدوا أحداً يخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله (ص) حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله (ص) (2).

فالبرهان الخامس الذي يشير إليه الإمام الباقر مفاده: إن معنى التوحيد في العبادة في مقابل الوثنية هو الإقرار والتولي بولايتهم وبالتالي تكون الزيارة مصداق بيان التولي بولايتهم عليهم السلام زيارتهم والهوى إليهم ولقائهم في حالة معرفة لقائهم، فزيارة قبورهم عليهم السلام هو نوع من تجديد العهد بهم وتوثيق العهد وإظهار المحبة إليهم.

فزيارة قبورهم والولاية لهم هي من تمام العبادات وهي من شرائط الحج واستقبال الكعبة وأن مشاهد قبر النبي وقبور عترته هو ركن من معالم الدين وقبول الأعمال والعبادات


1- طه: ٨2.
2- أصول الكافي، ج 1، باب الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم.

ص: 87

ومن يحارب هذا الركن يريد إرجاع الناس إلى عبادات قريش الوثنية وعزل الأوامر الإلهية عن بعضها البعض وممارسة طقوس وعبادات الجاهلية.

البرهان السادس

قال تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (1).

فهذه الآية المباركة تبين الغاية من الحج وغاية مجموع العبادات وأن إبراهيم عليه السلام هو المتكلم الأول والناطق الرسمي عن الله عز وجل في الندبةِ إلى الحج، فهو يأمر الناس بحج بيت الله الحرام (وَأَذِّن) يعني أعلن أذان الإعلام وأمر الناس بالحج كما نصت على ذلك روايات الفريقين.

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحج «يَأْتُوكَ رِجالاً» فالمجيء ليس إلى البيت ولا إلى الله عز وجل مباشرة وإلا عبر الباري تعالى ب-(يأتوني) بل المجيء أولاً إلى إبراهيم عليه السلام.

فالإتيان إلى الحج تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتم بالوفادة على ولي الله، ويكون الحج الذي هو قصد إلى الله تعالى بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه السلام، الذي هو وجيه عند الله تعالى، يتوجه إليه ويقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحج العبادية، فلا بد من الوفود على إبراهيم عليه السلام ومحبته وهوى الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدم من قوله تعالى:

«رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (2) ، فإبراهيم عليه السلام وذريته أسكنهم الله عز وجل البيت


1- الحج: 26 و 27.
2- إبراهيم: 37.

ص: 88

الحرام وبوأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والركع السجود، والإيذان في الناس بالحج، ولكن لا قيمة للحج ولا مقبولية عندالله عز وجل إلا بالمجيء إلى إبراهيم عليه السلام وذريته من ولد إسماعيل عليه السلام، وهوى القلوب والأفئدة إليهم ومحبتهم ومودتهم وتوليهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى الله تعالى.

فبوّئ الله عز وجل لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريته فيه من أجل الوفود عليهم ومودتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون الله عز وجل، كما كان الحج في الجاهلية.

ولذا ورد أن من المستحبات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحية والسلام على سيد الأنبياء محمد (ص) ثم السلام على النبي إبراهيم عليه السلام فكأن الحاج وافد عليهما وزائرلهما (1).

فعن أبي عبدالله عليه السلام قال: «وقل وأنت على باب المسجد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، بسم الله وبالله ومن الله وما شاء الله، والسلام على أنبياء الله ورسله، والسلام على رسول الله (ص) ، والسلام على إبراهيم عليه السلام والحمدلله رب العالمين» (2).

فالمجيء إلى النبي الأكرم (ص) ثم إلى إبراهيم عليه السلام مجيء وإتيان وقصد إلى الله عز وجل، وكذا أهل البيت عليهم السلام؛ لأنهم الذرية والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبي الأكرم إلى مودتهم و محبتهم.

و الوفادة إلى أهل البيت التي تتحقق بالمجيء وزيارتهم هو وفادة إلى الله عز وجل كما روي في تهذيب الأحكام عندما سأل زيد الشحام الإمام الصادق عليه السلام: «ما لمن زار رسول الله (ص) ؟ قال: كمن زار الله فوق عرشه» (3).


1- الوسيلة ابن حمزة: ص 172.
2- المقنع، الشيخ صدوق، ص 255، آداب دخول مسجد الحرام.
3- و في التهذيب: قال الشيخ (ره) معنى قول الصادق عليه السلام: من زار رسول الله (ص) كان كمن زار الله فوق عرشه، هو أن لزائره (ص) من المثوبة والأجر العظيم والتبجيل في يوم القيامة، كمن رفعه الله إلى سمائه، وأدناه من عرشه الذي تحمله الملائكة، وأراه من خاصة ملائكته ما يكون به توكيد كرامته، وليس على ما تظنه العامة من مقتضى التشبيه، ج 6، ص 4.

ص: 89

وهذه الخصوصية كذلك في أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين كما هو في كامل الزيارات: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «من زارَ قبر الحسين بن عليٍّ عليهما السلام يوم عاشوراء عارفاً بحقه كان كمن زار الله في عرشه» (1).

وهذه الأماكن تقصد لإقامة العبادة وتقام فيها الشعائر وإلا الأحجار بما هي أحجار والطواف حولها من دون ولي الله والأصفياء المصطفون هي عبادة خاوية وثنية في منطق القرآن لا كما تدعي هذه الشرذمة، إذن الأنبياء والأوصياء هم أبواب الله التي يتجه إليه بها، ولولا ذلك لا يكون الحج حجاً إبراهيمياً بل حج الجاهلية.

مقام إبراهيم عليه السلام

قال تعالى: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (2).

والتعبير ب-(مقام) في الآية الكريمة للدلالة على التفخيم والتعظيم لذلك المكان وهو حجر من الأحجار كما في قوله تعالى: «وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ» (3)وقوله تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (4)، وليس ذلك إلا لكونه لامس بدن إبراهيم عليه السلام، حيث كان يقف عليه عند بنائه للبيت الشريف فتقدس بذلك وأصبح ذا حرمة يتولد منها وجوب اتخاذه مصلى، فهذا الحجر عظّمه الله تعالى وفخّمه و سمّاه مقاماً، وأمرنا أن نتخذه مصلى، أي نتخذه قبلة بالاتجاه إليه وإلى الكعبة أثناء صلاة الطواف وغيرها في شعيرة الحج والعمرة، التي هي القصد والتوجه إلى الله عز وجل، فالحاج عندما يريد أن يقصد ويتوجه إلى ربه بعمرة أو حج في الطواف وفي بيت التوحيد ومعقله، لا بد له من التوجه بالحجج والوسائط والآيات إلى الله تعالى، وهو مقام إبراهيم والكعبة المشرفة.


1- كامل الزيارات، باب 71، ثواب من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء؛ مستدرك الوسائل، ج1٠، ص 2٩1.
2- البقرة: 125.
3- النازعات: 4٠.
4- الإسراء: 7٩.

ص: 90

وإذا كان الحجر بملامسته بدن إبراهيم عليه السلام اكتسب هذه المكانة، فكيف بك بنفس النبي إبراهيم؟ ألا يتوجه به إلى الله عز وجل بالأولوية، فيقال: يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عندالله؟

فالمثابة إلى بيت الله الحرام من دون اتخاذ مقام إبراهيم مصلى يكون عملاً وثنياًَ وشركاً كعمل المشركين ومناسكهم فلا بد من ضم رمزاً آخر بالإضافة إلى رمزية الكعبة، وهو التوجه بالحجج والوسائط والآيات إلى الله عز وجل.

بيان آخر للآية الكريمة

ثبت في علم الأصول أن الحكم معلول لموضوع نفسه ولا يمكن أن يكون علة له، ففرض الموضوع سابق ومتقدم على فرض الحكم، والحكم في قوله تعالى: «وَاتَّخِذُواْ مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (1)هو وجوب اتخاذ المقام مصلى، والموضوع هو مقام إبراهيم عليه السلام، ومتعلق الحكم هو استقبال مقام إبراهيم عليه السلام في الصلاة.

وحيث أن الموضوع سابق على الحكم سبق العلة على معلولها، فلا بد من فرض المفروغية عن جعل سابق لتحقق الموضوع في نفسه، وهو كون مقام إبراهيم عليه السلام محل للقربات والتعبد والبركة والقداسة، و حينئذٍ وبعد الفراغ عن ذلك يأتي المحمول، وهو وجوب اتخاذه مصلى باستقباله في الصلاة إلى جهة الكعبة.

فالحكم دال على أن للموضوع أسبقية في القداسة وكونه معلماً من معالم الدين، ومن ذلك يتضح أن البيت الحرام إنما يجب أن يقصد بشرط، وهو أن تُقرن العبادة التوحيدية للحج بولي الله إبراهيم عليه السلام وأن المقامات المقدسة والمشاعر المشرفة إنما تقصد للوصول إلى آثار الأنبياء ومقاماتهم؛ لكونها مواطن شعرها الله عز وجل وجعلها أسباباً ووسائط لنيل القربى والزلفى إليه تعالى.

وإذا كانت صخرة لامست قدمي إبراهيم عليه السلام لها تلك القداسة والعظمة والبركة، فكيف بمشاهد النبي الأعظم (ص) وأهل بيته عليهم السلام الذين هم أفضل وأعظم من إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام، حيث نص القرآن على كون علي عليه السلام بمنزلة نفس النبي (ص) ، وهذا مقام لم يحظَ به


1- البقرة: 125.

ص: 91

أحد من الأنبياء والمرسلين، وكذلك قرنهم الله تعالى بنبيه في مواطن عديدة، واختصهم دون بقية الأنبياء والمرسلين.

إذن هذه الآية المباركة تفيد عموم التبرك بمواضع الأنبياء والأولياء وأنه من صميم التوحيد وأن نبذه من صميم الوثنية والجاهلية.

وليس ذلك إلا لكونها من شعائر الله، فيجب تعظيمها تعظيماً لله تعالى، فهذه الآية الكريمة دالة بالنص على تشعير مواطن الأنبياء والمصطفين للقربى والعبادة.

ثم إنه لا يخفى ما في التعبير ب-(المقام) في الآية المباركة من الدلالة على ما تقدم؛ لأن التعبير ب-(مقام) له دلالة شرعية أديانية بكون ذلك المكان محلاً يتبرك به.

وهكذا إضافة المقام إلى إبراهيم مُشعر بالعلية، فليس ذلك الحكم حكماً لكل حجر، بل الحجر المنتسب إلى إبراهيم عليه السلام.

بل قد حكى القرطبي في تفسيره عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء أن مقام إبراهيم الحج كله، وعن عطاء أنه عرفة ومزدلفة والجمار وقال الشعبي النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقاله مجاهد (1).

فعلى هذه الأقوال في تفسير مقام إبراهيم يتضح جلياً أن الحج والحرم كله قد مُلأ ببصمات وإضافات منتسبة إلى النبي إبراهيم عليه السلام وأنه لأجل ذلك استأهلت تلك الأماكن أن تكون مواطن لعبادة الله، وأن الحج جعل عبادة توحيدية عظيمة بوسيلة التوجه بالأنبياء إلى الله تعالى في الأعمال والنسك التي يؤتى بها، حيث أضيفت إليهم عليهم السلام، فلا يستطيع المسلم أن يتجنب أو يستبعد آيات الله وحججه في إبراز معالم التوحيد.

التبرك بمواضع الأنبياء

وبذلك نستفيد من هذه القاعدة الأديانية الشريفة التي نحن فيها قاعدة أخرى ذات الصلة بالبحث وهي قاعدة التبرك بمواضع الأنبياء التي لها أدلتها الخاصة بها.


1- تفسير القرطبي، تفسير قوله: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ» ، ج2، ص 113.

ص: 92

ونستعرض في هذا البحث عدة نماذج تتعلق بمواضع الأنبياء، وأن هذه المواضع تبركت وتقدست ببركة ملامستها لمواضع أبدانهم الشريفة وأنهم الوسيلة لقضاء الحوائج عند الباري تعالى.

النموذج الأول

قال تعالى: «وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً» (1)وهذا يعني أن عيسى عليه السلام جعله الله عزوجل مصدر البركة والتبرك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله تعالى، فهو وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كل مكان حل فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء (ص) وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ومن يصلي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟

النموذج الثاني: تعظيم الصحابة للنبي (ص)

عندما رجع عروة بن مسعود إلى قريش من عند النبي (ص) في صلح الحديبية وقد رأى ما يصنع به أصحابه قال الزهري:

«إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ (ص) بِعَيْنَيْهِ. قَالَ فَوَاللهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللهِ (ص) نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيماً لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ، وَاللَهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ والله إن رأيت مَلِكًا قَطُّ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ (ص) مُحَمَّداً، وَاللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وقعتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ» (2).

كما ذُكر في سيرة لابن هشام بأنه رأى ما يصنع الصحابة بالرسول الأعظم (ص) وبأنه


1- مريم: 31.
2- صحيح البخاري، ج 3، ص 1٨٠، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.

ص: 93

لايتوضأ إلا ابتدرُوا وضوءهُ، ولا يبصقُ بصاقاً إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه (1).

وهذا في كُتب الصحاح بأن الصحابة كانوا يأخذون من الماء الذي توضئ به النبي (ص) ويتبركون حتى بنخامتهِ وهذا هو إقرارٌ بأن النبي (ص) وهو أعظم المخلوقات يتبرك به وجعله وسيلة لقضاء الحوائج وواسطة إلى الله عز وجل.

فالآية السابقة في سورة مريم تتناغم مع سورة البقرة في قوله تعالى «وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (2).

النموذج الثالث: السامري والعجل

قصة السامري صاحب العجل، التي وردت في قوله تعالى في بني إسرائيل عندما ذهب موسى عليه السلام إلى ربه: «قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ» (3)إلى أن قال الله عز وجل حكاية عن لسان موسى عليه السلام «قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» (4).

والرسول في الآية الكريمة كما في بعض الروايات هو جبرائيل عليه السلام، عندما هبط وتمثل على حصان ليستنقذ موسى عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون وجنوده ويرشدهم إلى الطريق، من أجل العبور من مصر إلى الطرف الآخر، فكان على حصان نوري تمثلي، وكان السامري من خواص النبي موسى عليه السلام، فلاحظ أن حافر حصان جبرائيل عليه السلام عندما كان يخطو الحصان ينبت الزرع دفعة واحدة من تحته، فقبض قبضة من أثر حصان الرسول فنبذها في العجل فإذا هو له خوار.


1- السيرة لابن هشام، ص 5٠2، أمر الحديبية.
2- البقرة: 125.
3- طه: ٨7 و٨٨.
4- طه: ٩5 و ٩6.

ص: 94

وقد وردت هذه القصة في روايات الفريقين

ففي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (وكان السامري على مقدمة موسى يوم أغرق الله فرعون وأصحابه، فنظر إلى جبرائيل وكان على حيوان في صورة رمكة (1)فكانت كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع، فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسى فأخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرائيل وكان يتحرك، فصره في صره، وكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل، فلما جاءهم إبليس و اتخذوا العجل قال للسامري هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه إبليس في جوف العجل، فلما وقع التراب في جوفه تحرك وخار) (2).

وفي جامع الطبري قال: (وقوله: «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ» ، يقول: قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرائيل) ثم أخرج عن ابن عباس قوله: (لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار، وتكسرت، ورأى السامري أثر فرس جبرئيل عليه السلام، فأخذ تراباً من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار فقذفه فيها، وقال: كن عجلاً جسداً له خوار، فكان للبلاء والفتنة) وفي حديث آخر عنه أيضاً: (فألقى القبضة على حُليهم فصار عجلاً جسداً له خوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى) .

وأخرج أيضاً عن مجاهد في قول الله تعالى: «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا» قال: من تحت حافر فرس جبرائيل، نبذه السامري على حلية بنى إسرائيل، فانسبك عجلاً جسداً له خوار (3).

فإذا كان أثر التراب الذي لامس حافر فرس جبرئيل عليه السلام له ذلك التأثير مع أن السامري استخدمه في طريق الضلالة والغواية فما بالك بمن هو أشرف من جبرئيل عليه السلام؟ ألا تكون المواضع التي وقف فيها الرسول الأكرم (ص) وقبره والمواطن التي لامست بدنه


1- الرمكة: الأنثى من الخيل.
2- تفسير القمي، ج 2، ص 62.
3- جامع البيان، الطبري، ج 16، صص 254و 255، تأويل قوله تعالى: «قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» .

ص: 95

الشريف ذات بركة وتأثير خارق لما هو المعتاد، لاسيما إذا كان في طريق الهداية والانصياع للأوامر الإلهية؟

بيان آخر بأن أهل البيت والأنبياء والأوصياء هم معدن الطهارة والبركة والقداسة

1- آية التطهير

قال الله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (1)في هذه الآية القرآنية أراد الله أن يبين للعباد بأن أهل البيت هم معدن الطهارة والقداسة وهذه الإرادة هي إرادة تكوينية لا تشريعية فلذلك عبر الباري تعالى ب- «يُرِيدُ اللهُ» وخاصة بوجود كلمة (إنما) الدالة على الحصر والتأكيد لا على العموم التشريعي لكل الناس، وهذه الإرادة نوع من الإمداد الإلهي الذي به اكتسب أهل البيت عليهم السلام القداسة والبركة حيث طهرهم الله من الرجس الظاهري والباطني بدلالة (ألف لام الجنس) الذي يشمل جميع المعاصي والذنوب وكذلك القذارة الظاهرية كالخمر والقمار والنجاسة، وهذه القداسة والطهارة هي هبة من عندالله الباري تعالى شأنه لما وجد أهليتهم لذلك وعلم بمستقبل طاعتهم، ولذلك فهي من الجزاء المتقدم على العمل اللاحق، وبذلك تكون مواضعهم الشريفة مقدسة ومباركة، وأن أهل البيت هم الحجج والوسيلة التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.

2- مريم بنت عمران عليها السلام

قال الله تعالى «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ» (2)ففي كلمات جملة من المفسرين بأن الله اصطفى مريم بنت عمران مرتين:

الأولى: بمعنى الاختيار والثاني: حملت من غير فحل (3)، وطهرها من الدنس والرذيلة،


1- الأحزاب: 33.
2- آل عمران: 42.
3- تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 336. تفسير قوله: «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ» .

ص: 96

جواباً على التهمة التي نُسبت إليها من علماء بني إسرائيل وأنها طاهرة مطهرة طيبة قدسية، وهذا عين مفاد الآية السابقة من سورة الأحزاب «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» والتقديس هنا بمعنى مباركتهم وطهارتهم (1)وهذه المنزلة العظيمة لا ينالها إلا الأنبياء والأوصياء بإرادة الله سبحانه وتعالى.

3- يوسف عليه السلام

قال تعالى: «اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * لَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (2)هذه الآية تشير إلى قصة يوسف عليه السلام وما له من منزلة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، حيث أمر إخوته أن يُلقوا قميصه على وجه أبيه ليرتدّ بصيراً ببركة ذلك القميص، وذلك في قوله تعالى: «اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» فالمشافى في هذه الآيات المباركة نبيّ كبير من الأنبياء، وهو يعقوب عليه السلام، والشفاء حصل بتوسط قميص لامس بدن يوسف عليه السلام، وهو نوع من التوسيط والتبرك في إفاضة الشفاء من الله عزوجل، فإن الشفاء حقيقة من الله تعالى والفيض كله منه تعالى؛ لأنه الخالق الحقيقي لكل الممكنات بما فيها الشفاء والاستشفاء، كما في قول إبراهيم عليه السلام: «وَإِذاَ مَرَِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (3)ثم إنه ليس في المورد وهو القميص خصوصية، بل ذلك شامل لكل ما له نسبة وإضافة إلى نبي من الأنبياء أو وصي من الأوصياء بما يوجب حصول البركة فيه، وذلك لأن الفعل يحمل في طياته الطبيعية العامة والسنة الإلهية الشاملة، ولذا قال الله عز وجل في نفس سورة يوسف: «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ» (4)، وقال تعالى أيضاً في السورة ذاتها:


1- بحارالأنوار، ج 63، ص 25٩.
2- يوسف: ٩3- ٩6.
3- الشعراء: ٨٠.
4- يوسف: 7.

ص: 97

«لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى» (1) .

إذن إذا كان نبي من الأنبياء يتبرك ويتوسل بجاه نبي آخر من الأنبياء، وهو ابنه يوسف عليه السلام، وذلك ببركة قميصه بجعله واسطة فيض في الشفاء، فكيف ببدن يوسف عليه السلام، فبهذا تكون آثارهم مقدسة بشهادة القرآن الكريم فكيف ببدن وآثار خاتم الأنبياء والرسل.

وقال تعالى: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» (2)وكذلك هذه الآية التي تؤكد طهارة الأوصياء والأنبياء من الدنس والمعاصي، فذكر الله تعالى شأنه في الآية الكريمة بأن يوسف عليه السلام من «الْمُخْلَصِينَ» فصرف السوء والفحشاء عنه، كما ذكر الباري تعالى بقوله «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ» ، أي نمنع عنه السوء والفحشاء، ولم يقل نصرفه عن السوء والفحشاء، أي نبعد السوء عن أن يقترب إليه، وليس إبعاد يوسف عن أن يقترب إلى السوء والفحشاء؛ إذ لم يكن من قبل النبي يوسف إقبال على الفحشاء والسوء كي يُبعد عنه، بل الفحشاء في فعل زليخا حيث أرادت أن تقبل على يوسف فصُرفت عنه، وهذا في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» على أن يوسف عليه السلام لم يهم بها، بل هي همت به كما هو في جواب الرضا عليه السلام على سؤال المأمون عن عصمة الأنبياء، فقال الرضا عليه السلام: لقد همت به ولولا أن رَّأَى برهان ربه لهم بها كما همت لكنه كان معصوماً والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق عليه السلام انه قال: همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن (3)فكان يوسف عليه السلام طاهرٌ مطهر من الأرجاس لا يدنسه شيء لا كما يدعي البعض بأنه هم بها وكاد أن يرتكب الفاحشة والعياذ بالله.

البقعة المباركة

قال تعالى: «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ»


1- يوسف: 111.
2- يوسف: 24.
3- عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 17٩.

ص: 98

«نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى» (1) .

وقال تعالى: «هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى» (2)وكذا قال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً» (3).

وقوله عز وجل: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (4).

قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: «إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى» المقدَّس: المطهر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة، إلى أن قال: وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض (5).

وقال صاحب الميزان في تفسيره للوادي المقدس: «بأن أصل الوادي الموضع الذي يسيل منه الماء ومنه سمي المنفرج بين الجبلين واديا وجمعه أودية» .

وبأن المراد من الأيمن مقابل الأيسر وهو صفة الشاطئ والبقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطئ الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها (6).

كما قال تعالى: «وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً» (7).

والمقصود بالطور كما جاء من طرق أهل السنة بأنه الجبل الذي كلم الله عزوجل فيه


1- طه: ٩ - 12.
2- النازعات: 15 و 16.
3- مريم 51 و 52.
4- القصص: 2٩ و 3٠.
5- تفسير القرطبي، ج 11، ص 175. تفسير قوله تعالى: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» .
6- تفسير الميزان، ج 16، ص 32.
7- مريم: 51و52.

ص: 99

موسى عليه السلام (1)، ولا تنافي في ذلك إذ لا يأبى الانطباق على الوادي المقدس بين جبل طور والكوفة، كما ذكر ذلك بعض المفسرين.

وقد ورد في الحديث أن محل قبر أميرالمؤمنين عليه السلام أول طور سيناء، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «كان في وصية أميرالمؤمنين عليه السلام، أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة] فإذا تصوبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح فادفنوني وهو أول طور سيناء، ففعلوا ذلك» (2).

وهذا التقديس والتبرك لهذا الوادي لأن الباري تعالى كلم موسى عليه السلام فيه وأمره بأن يخلع نعليه لكي يطأ الأرض حافياً تعظيماً لهذه البقعة المباركة التي نزل فيها الوحي إنما هو لكونه حظيرة لقرب وموطن الحضور والمناجاة.

والحاصل: إن القرآن الكريم يؤكد بأن هنالك بقاع وأماكن مقدسة مباركة لا بد أن تُقدّس وتُعظّم وهذا جعلٌ إلهي، ينزل فيها الوحي من السماء ويُتقرب إلى الله عز وجل ويزداد الأجر والثواب بالعبادة في هذه الأماكن دون سواها لا كما يدعي البعض بأن هذا التعظيم والتبرك شركٌ وكفر بالله عز وجل.

فقوله تعالى: «وَاتَّخِذُواْ مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» تشعيرٌ من الله عز وجل وجعلٌ بأن هذه المقامات مقدسة ووقفٌ خاص وتسبيل ديني من الله عز وجل وأنها أحب المواضع التي يريد الله أن يُعَبد فيها كالسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات وإنها حقاً لله عز وجل.

كما هو المشهور عند فقهاء الإمامية (قدس الله أنفسهم) : بأنه يشترط في صحة إحياء الأرضٍ الميتة أن لا تكون الأرض المقصودة من الأراضي التي جعلت في دين الإسلام مشعراً من مشاعر العبادة للمسلمين مثل أرض عرفات والمزدلفة ومنى فلا يصح إحياء الأرض من هذه الأودية إذا كانت ميتة.

هكذا أفادوا، وفي صحة هذا الاشتراط إشكال، بل الظاهر منع ذلك، فإن عظمة شأن هذه المواقع في دين الإسلام وجعلها فيه حقاً مقدساً لله سبحانه وحقاً ثابتاً معظماً لعموم


1- زاد الميسر، ابن الجوزي، ج ٨، ص 275.
2- تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

ص: 100

المسلمين، لأداء مناسكهم في مر الأزمان و العصور قد أبعد هذه الأمكنة أشد البعد وأعلى مقامها أعظم العلو والارتفاع عن اعتبارها أرضاً مواتاً أو مباحة كسائر الأرضين فتُحجّر أو تُحاز ويملكها الأفراد أو تجري عليها الاعتبارات المتعارفة في المعاملات بين الناس (1).

أهل البيت عليهم السلام أنوارٌ إلهية

قال تعالى: «اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ * رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ» (2).

القرآن الكريم يشير في هذه الآيات القرآنية بأن هناك بيوت مقدسة مباركة أذن الله أن ترفع وتعظم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبح لله عز وجل وتقبل العبادة فيها ويسمع الذكر، وتحت قبتها يرفع الدعاء وتفتح أبواب السماء وتحصل القربة إلى الله تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدسة جعلها الله تبارك و تعالى وسيلة وواسطة ومحلاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار، وهذه البيوت هي بيوت خاصة تحيطها وتصدر عنها القداسة.

والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: «في بُيُوتٍ» متعلق بذلك النور الذي ضربه الله عز وجل مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن الله أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات و الأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثم إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات الله تعالى، أُضيف إليه عز وجل في الآية إضافة


1- كلمة التقوى، ج 5، ص 15٩.
2- النور: 35 - 37.

ص: 101

الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب الله تعالى لكل واحد منها تشبيهاً و مثلاً حسياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى صورة يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية، لأنها آحادية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، و النور المذكور في الآية المباركة متعدَّد ومتشعَّب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدري.

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: «نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ» وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة على الملائكة والروح والجن والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقٌ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبرها وتدير شؤونها، وهذه الأنوار الخمسة هي الأسماء المشار إليها في تعليم آدم الأسماء وعرض الله تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها، إذ قد وصفها الله بأنها غيب السماوات والأرض (1)، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2).


1- البقرة: 31-33.
2- بصائر الدرجات، ص ٨٩؛ المعجم الأوسط، الطبراني، ج 4، ص 44.

ص: 102

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علمها الله عزوجل آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض وينطبق هذا المعنى مع الأنوار الخمسة في سورة النور.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها الله تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حية عاقلة شاعرة من عالم النور، كما عَبر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الاشارة (هؤلاء) وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحية الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن الله تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقربين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحق مقام الخلافة الإلهية، و سجد له الملائكة كلهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كل شيء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسي الذي يظهر الصفات العارضة على الشيء، بل هو نور الخلقة الذي يوجِد الشيء ويكوِّنه ويُظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتها وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم الله الأعظم الذي هو غير المسمى، يفوق في القدرة والعظمة كافة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علمها الله تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة، محمد (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حل في بيوت أذن الله أن ترفع، لتكون محلاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجه إلى الله عز وجل وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدر المنثور عن ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة، قال قرأ

ص: 103

رسول الله (ص) هذه الآية «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ» فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء» ، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة عليهم السلام، قال: «نعم من أفاضلها» (1).

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عز وجل «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ» قال: «هي بيوت النبي (ص)» (2).

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قوله «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» قال: «هي بيوت الأنبياء وبيت علي منها» (3).

وقد أخرج الحاكم في المستدرك (4)أن من الكلمات التي تاب الله بها على آدم، وهي الأسماء التي شُرف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم؛ إذ بها تاب الله عليه، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين (ص) ، و أنه لولاه لما خلق آدم ولاالجنة ولا النار (5).

وينص هذان الحديثان النبويان على أن أول الأنور الخمسة والأسماء التي تعلمها آدم وتوسل بها هو خاتم النبيين (ص) .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه السلام في آية النور

وأما قوله تعالى: «نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ» فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء و (على) أي على إثر وعقب لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على)


1- الدر المنثور، ج5، ص 5٠.
2- الكافي، ج٨، ص331.
3- تفسير القمي، ج2، ص 1٠3.
4- المستدرك، الحاكم النيسابوري، ج 2، ص 615.
5- المصدر نفسه، استغفار آدم عليه السلام بحق محمد (ص) .

ص: 104

بالتضمين لمعنى الإثر.

والشاهد على ذلك ما تقدم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية، كما في قوله تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط الله تعالى.

ولذا ورد عن الإمام محمد بن علي بن الحسين عليه السلام في قوله تعالى «نُورٌ عَلى نُورٍ» قال «يعني إماماً مؤيداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد عليهم السلام، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة» (1).

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام، قال: قلت: «نُورٌ عَلى نُورٍ» ؟ قال: «الإمام في إثر الإمام عليه السلام» (2).

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في قوله تعالى: «يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» قال: «يهدي الله لولايتنا من أحبَ» (3)وفي رواية لولايتنا من يشاء.

بيان آخر للآية المباركة

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدق وأعمق وأدل على المطلوب من البيان الأول، وهو:

بعد أن تبين أن قوله تعالى: «في بُيُوتٍ» متعلق بالنور، وأن النور في بيوت أذن الله أن ترفع، نقول: إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهي قوله تعالى: «رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» (4)هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلها بدل من قوله تعالى ذكره «في بُيُوتٍ» ، أي أنها في محل جر


1- توحيد، الصدوق، ص 15٨، بيانه في قوله تعالى: «اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» .
2- المصدر نفسه، ص 157.
3- مناقب ابن المغازلي، ص 316؛ بحارالانوار، ج 4، باب الثالث تأويل آية النور، وفيه سبعة أحاديث.
4- النور: 37.

ص: 105

بدل من البيوت.

ويكون المعنى على ذلك «أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي بيوت حجارة ولا طين» .

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: «رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ» ليس فاعلاً لقوله عز وجل «يُسَبِّحُ» وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليهم السلام، حيث أن قراءتهم لكلمة (يسبح) بفتح الباء مبنياً للمجهول، وبناءً على هذا لاتكون كلمة «رِجَالٌ» فاعلاً ل- «يُسَبِّحُ» وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام إلى قتادة البصري فقيه أهل البصرة عندما سأله قائلاً:

(أصلحك الله والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدام واحدٍ منهم ما اضطرب قدامك؟

فقال له أبو جعفر عليه السلام: «ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ» . فأنت ثمّ ونحن أولئك» ، فقال له قتادة: صدقت والله جعلني الله فداك والله ما هي بيوت حجارة ولا طين» (1).

وكذلك ما ورد عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام، حيث قال: «إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى، ومن أخذ من غيرها سلك طريق الردى، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله (ص) وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله، وهو الاقرار بما نزل من عندالله عزوجل خُذوا زينتكم عند كُل مسجدٍ والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم «رجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تجَارةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» (2).


1- الكافي، ج 6، ص 256.
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 1٨1.

ص: 106

فالبيوت البشرية التي أذن الله أن ترفع وتعظم ويذكر الله عندها كما أمر بالاستغفار وهو ذكر الله عند المجيء إلى النبي (ص) «جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ» ، «تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ» فهذه البيوت البشرية هي مساجد عظيمة لله تعالى ومواطن يذكر الله تعالى عندها ويستغفر ل- «خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ» والزينة تكون الإيمان والإقرار بما افترض الله تعالى من طاعتهم وولايتهم.

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (1)«إذن يتحصل أن النور في بيوت هي رجال منعوتون بالعصمة وهي «لاتُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ» .

ولا شك بأن الرجال الذين اختصهم الله عز وجل بنوره هم أهل البيت عليهم السلام، وهم البيوت التي أذن الله أن ترفع وتعظم ويتوسل بها إلى الله عز وجل، ويذكر في حضرتها اسمه، ويسبح له بالغدو والآصال.

ولا يتبادر إلى الذهن أن من أهل البيت فاطمة عليها السلام، فكيف تكون من الرجال المقصودين في الآية المباركة؟

فإن الجواب: عن ذلك واضح؛ لأن كلمة الرجل والرجال في الآية المباركة بمعونة القرائن والشواهد التي احتفت بها يراد منها الشخصية العظيمة، الثابتة الأقدام في المقامات الشامخة، فيراد من الرجال في الآية المباركة تلك الشخصيات التي تسنمت بأرجل القدرة المقامات العالية والدرجات الرفيعة في مجال العصمة والتقوى، وقد جاء التعبير القرآني بالرجل عن الأعم من الذكر في آيات عديدة، كقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (2)، فالمراد في هذه الآية الكريمة الإقدام بأرجل الإيمان إلى دعوة إبراهيم عليه السلام للحج أعم من كون القادم ذكراً أو أنثى، ونظير ذلك أيضاً قوله تعالى: «صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» (3)


1- لاحظ التبيان، طوسي، ج 7، ص 43٩؛ زاد المسير، ابن الجوزي، ج 5، ص 364.
2- الحج: 27.
3- الأحزاب: 23.

ص: 107

فوصفهم بالرجولية هنا للثبات والاستقامة والصدق.

ولاشك أن هذا كله مع القرينة لا مطلقاً، والقرائن الدالة على إرادة الأعم من الذكر والأنثى في الآية التي هي محل بحثنا كثيرة جداً، منها ما ذكرناه سابقاً من القرائن الدالة على أن المقصود بالرجال في الآية هم أهل البيت عليهم السلام ومنهم فاطمة الزهراء عليها السلام.

خلقة أهل البيت عليهم السلام النورية

ونختم الحديث في هذه النقطة بذكر بعض الشواهد الدالة على أن الله تعالى خلق أهل البيت أنواراً مضافاً إلى ما تقدم في آية النور:

الأول: قوله تعالى لرسوله الأكرم (ص) : «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (1)؛ فهذه الآية صريحة في أن الله عز وجل أوحى إلى نبيه الأكرم (ص) نوراً وهو الروح من أمره، ولاشك أن الإيحاء الخفي إنما هو إلى ذات وحقيقة النبي الأكرم المباركة، فيتحد ذلك النور بشخص النبي (ص) ؛ ولذا قالت الآية المباركة أن من آثار ذلك النور «نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاء مِنْ عِبَادِنَا» ثم جعلت ذلك الأثر بعينه لخاتم الأنبياء (ص) ، حيث قالت: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» وهذا صريح في اتحاد الذات النبوية الطاهرة مع ذلك النور في الحقيقة والأثر.

وإذا كانت ذات النبي الأكرم نوراً يهدي إلى صراط مستقيم، فكذلك أهل بيته عليه السلام الذين هم نفس النبي (ص) بنص آية المباهلة وآية التطهير، بل وبنص هذه الآية المباركة نفسها في المقام، حيث ذكر فيها أن هذا الروح الأمري الذي أوحي إلى النبي (ص) يهدي به الله ويوحيه إلى من يشاء ويجتبيه من عباده، فلم يخصص ذلك بالأنبياء أو بكونهم أنبياء أو رسل، ونظير ذلك قوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» (2).


1- الشورى: 52.
2- النحل: 2.

ص: 108

فَذَكَر لفظ العباد ولم يخصص بلفظ الأنبياء أو الرسل ويدل ذلك على أن الذين يشأهم الله وتتعلق مشيئته بهم و يجتبيهم غير منحصرين بالأنبياء والرسل، بل يعم من يصطفيهم للعصمة والطهارة والوصاية، وهكذا الأحاديث المتواترة في كون فاطمة عليها السلام بضعة منه (ص) (1)، وكون الحسن والحسين عليهما السلام من النبي (ص) وهو منهم (2)، وكذا قوله (ص) : «علي مني و أنا منه» (3).

الثاني: قول النبي الأكرم (ص) : «كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين، جزء أنا وجزء علي بن أبي طالب» (4).

الثالث: الروايات المتضافرة التي دلت على أن النبي (ص) كان نوراً ينتقل من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهرة، وقد أضاء منه (ص) نوراً عند ولادته ملأ الخافقين، كما نقلت ذلك آمنة بنت وهب عليها السلام أم النبي (ص) حين ولادته، قالت: «إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام» (5).

إلى غير ذلك من الشواهد الدالة على الخلقة النورية للنبي الأكرم (ص) وأهل بيته عليهم السلام.

والحاصل: بأن هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع شُعّرتْ من قِبله تعالى «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ» إلى يوم القيامة، وذلك بأن تُعمَّر وتُشاد بالعبادة بأمرٍ إلهي نظير قوله تعالى: «وَاتَّخِذُواْ مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» و يتخذ الموضع والمكان للعبادة حتى ولو استخرج نفس هذا المقام والحجر عن الكعبة وهذه إضافة تشريفية بإبراهيم عليه السلام وإحياء لذكر الأنبياء وهذا هو التحليل الذي نريد أن نستخلصه من هذه الآيات الكريمة.


1- لاحظ فضائل الصحابة، ابن حنبل، ص 7٨.
2- مسند أحمد، ج4، حديث عبد الله بن زبير بن العوام، حديث قطبة بن مالك.
3- فضائل الصحابة، ص 15.
4- نظم درر السمطين، الزرندي الحنفي، ص 7؛ الخصال، الصدوق، ص 64؛ تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج42، ص 67؛ ميزان الاعتدال، الذهبي، ج 1، ص 5٠7.
5- المعجم الكبير، الطبراني، ج 24، ص 215؛ تفسير ابن كثير، ج 4، ص 3٨4.

ص: 109

التوجه بالنبي الأكرم (ص) وأهل بيته شرطٌ في قبول العبادة

العبادة التوحيدية لابد أن تتوفر فيها الشروط اللازمة لكي تقبل وإلا هذه العبادات تكون عبثية لا فائدة فيها، بل تكون هذه العبادة وثنية جاهلية لأنها عبادة لم يأمر الله بها وليست طاعة لله عز وجل، فالمعرفة والإيمان القلبي بالله عز وجل هي من صميم العبادات، بل أعظم الفرائض الإلهية لأنها التسليم والخضوع لله عز وجل، به يحصل التوجه واللقاء للباري عز وجل والوفود على الحضرة الربوبية، وهذه العبادة التوحيدية القلبية العظيمة وهي معرفة الله تعالى ممتنعة بلا واسطة، وذلك لعظمة الله عز وجل، فلا إحاطة ولا مماسة ولا ملامسة ولا مواجهة جسمية أو عقلية أو نفسية؛ إذ لا يُجابه الجسم إلا ما يماثله في الجسمية، ولا يُجابه النفس أو العقل إلا ما يماثلها، والله تعالى منزه عن كونه جسماً أو نفساً أو عقلاً؛ لكونها من الممكنات المحدودة بحدود الماهية والفقر والحاجة.

إذن لابد من الوسيلة والواسطة في الإيمان ومعرفة الله تعالى، الذي هو أعظم العبادات وأعظم أنواع التوجه إلى الله تعالى، والواسطة هي الإيمان بالنبي الأكرم (ص) والإقرار بالشهادة الثانية في مقام الإدلاء بالشهادة التوحيدية المقبولة عندالله تعالى، والموجبة للخروج من حظيرة الشرك إلى التوحيد الإسلامي الخالص؛ لأنه أعظم آية للحق سبحانه.

وهذا عكس ما يدعيه أولئك المارقون حيث يزعمون بأن العبادة التوحيدية يجب أن لاتتجلى في الآيات والأسماء المخلوقة ولا تكون مقترنة بها، فالواسطة شرك بالله عز وجل حتى ولو كان ذلك المقترن نبي أو وصي، وهو عين ما كان تدعيه قريش في الجاهلية الأولى، حيث كانوا لا يدينون الله تعالى بطاعة وولاية نبيه الأكرم (ص) .

فإذا كان إقحام الشهادة الثانية في الشهادة الأولى شركٌ بالله عز وجل، فبماذا يحصل التوحيد والعبودية للباري عز وجل والوفود على الله عز وجل؟ فلا يتحقق التوحيد ولايكون المرء مؤمناً، إلا إذا توجه بقلبه إلى الله تعالى بالشهادة الأولى والثانية، ومن ينفي أي اسم أو واسطة ظهور وتجلي لله تعالى عند التوجه إليه فهو واقع في مغبة الشرك والوثنية، وإذا كان حال الإيمان والمعرفة كذلك فكيف بباقي العبادات التي هي أقل شأناً وخطورة؟

ص: 110

والحاصل: أن المعرفة والإيمان والتوحيد الذي يتضمن الدين بأجمعه لا يحصل إلا بالتوسط والتوسل بآيات الله الكبرى، ومزاوجة الشهادة الثانية بالشهادة الأولى، وهذا يعني أن أي شأن من الشؤون الدينية كالتوبة أو العبادة أو نيل مقام من المقامات الإلهية لا يمكن أن يتحقق إلا بالمحافظة على الشهادة الثانية، والإقرار بها وبمعطياتها وتداعياتها ومقتضياتها في كافة أصول وفروع المعارف التوحيدية، ولا شك أن الإيمان بالشهادة الثانية توجه قلبي بالنبي الأكرم إلى الله عز وجل، إذ الإيمان كما أسلفنا طلب وزلفى للقاء الله تعالى، وهذا القرب إنما يتحقق بتوسيط الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً رسول الله ووليه وخليفته في أرضه.

فالإسلام يدعو إلى التوجه بالنبي (ص) في الإيمان والاعتقاد وهو أعظم وأفضل عبادة، فضلاً عن بقية العبادات الأخرى، والإباء عن التوجه في العبادة بخاتم الأنبياء إنكار للشهادة الثانية، ودعوة إلى الشرك باسم التوحيد، وهذا ما أخفق فيه السلفيون، حين جحدوا التوسل بالنبي (ص) ، فلا تراهم يقرنون لون الشهادة الثانية ومؤداها ومعطياتها بلون الشهادة الأولى في رسم بناء التوحيد في أدبيات كتبهم، فيقتصرون على تفسير الشهادة الأولى في التوحيد، من دون أن يهتدوا إلى كيفية ركنية مؤدى الشهادة الثانية في أركان التوحيد، وكيفية ضرورة الربط والارتباط بين مؤدى كل من الشهادتين في رسم أصل التوحيد، ومنه يظهر أن التوسل والتوجه بالنبي (ص) ضرورة وليس مجرد خيار مشروعية.

اقتران اسم النبي (ص) وأهل بيته بأعظم العبادات

لقد قرن الباري تعالى اسم النبي (ص) في مجمل العبادات، لعظيم شأنه وجلالته وقربه عنده، كما ذكرنا في الفصل السابق بأن التقرب والتوجه لله عز وجل لا يتم إلا بالشهادة الثانية والإقرار به وإنه شرطٌ في قبول العبادات، ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول: الإتيان باسم النبي الأكرم (ص) في تشهد الصلاة، حيث إن الصلاة على النبي وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين (1).


1- لاحظ المجموع، النووي، ج 3، ص 46٠، استحباب الإشارة بالمسبحة وتعين لفظ التشهد وما بعد.

ص: 111

وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت عليهم السلام (1)وبعض فقهاء المذاهب الأخرى (2)، تمسكاً عندهم بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبي (ص) أنه قال: «لا تقبل الصلاة إلا بطهور وبالصلاة عليَّ» (3)وقد بين النبي الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيتها، فقال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» (4)، كذلك يستحب الصلاة على النبي محمد (ص) بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذب ونسبه إلى الجمهور (5).

ولا شك أن ذكر الصلاة على النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام نوع من دعاء لهم وتحية وسلام، ونوع توجه لهم والدعاء.

وهذا يعني أن المصلي في صلاته التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من الله تعالى، إن قُبلتْ قُبل ما سواها وإن رُدت رُد َما سواها، إنما تُقبل بالصلاة على النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام ومفادها أن يتوجه بالدعاء وإلقاء التحية والسلام للنبي وآله، لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلى الله تعالى، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عندالله تعالى أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك فكيف بباقي العبادات الأخرى؟

فإقتران اسم النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام في الصلاة والتوجه إليهم بالقلب موجباً لتوحيد الله في العبادة ومن ثم كان الأمر بها فيها على هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين حول البيت الحرام وصلاة الموحدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبي الأكرم (ص) فيها، بخلاف صلاة المسلمين، حيث يقرن فيها إسم النبي الأكرم إلى جانب ذكر الله تعالى.


1- النهاية، الشيخ طوسي، ص ٨٩، باب فرائض الصلاة ومن ترك شيئاً.
2- فتح العزيز، الرافعي، ج3، ص 5٠4؛ المجموع، النووي، ج 3، ص 467 وغيرهم.
3- سنن الدارقطني، ج 1، ص 34٨، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي (ص) .
4- صحيح البخاري، ج 4، ص 11٨؛ الوسائل، ج 7، ب 35، باب كيفية الصلاة على محمد.
5- المجموع، ج 3، ص 4٩٩.

ص: 112

اقتران الصلاة على النبي (ص) في بقية العبادات

وقد قرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخرى غير الصلاة باستحباب الصلاة على النبي الأكرم (ص) ، كاستحباب الصلاة على النبي (ص) إذا فرغ الحاج من التلبية في الحج (1)، واستحباب الصلاة على النبي (ص) عند ذبح الهدي أو الأضحية (2)، وقد جعلت الصلاة على النبي (ص) أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة (3).

كذلك من أركان صلاة الميت الصلاة على النبي (ص) . (4)

ويستحب أيضاً الصلاة على النبي وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نص على ذلك عبد العزيز الهندي نقلاً عن النووي في شرح الوسيط في كتابه الفقهي فتح المعين (5)، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تحصى في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبي المبارك (ص) وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلا توجه وتوسل بهم عليهم السلام لقبول العبادة وحصول القرب من الله تعالى، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل وهو مفاد قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» (6)وهذا ما ورد النص عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السنة، حيث نصت على أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصل على النبي وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي عليه السلام قال: «الدعاء محجوب عن السماء حتى يُتبع بالصلاة على محمد وآله» (7).

ومنها: ما ورد عن أبي ذر عن النبي (ص) قال: «لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلى علي وعلى


1- الأم، الشافعي، ج 2، ص 171.
2- المجموع، النووي، ج ٨، صص 41٠ و 412.
3- روضة الطالبين، النووي، ج 1، ص 53٠.
4- المصدر نفسه، ص 64٠.
5- فتح المعين، ج 1، ص 2٨٠.
6- الأعراف: 4٠.
7- لسان الميزان، ابن حجر، ج 4، ص 53؛ شعار أصحاب الحديث، ابن إسحاق الحاكم، ص 64.

ص: 113

أهل بيتي» (1).

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: «قال رسول الله (ص) : صلاتكم علي إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم» (2).

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال «إن رجلاً أتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، إني جعلت ثلث صلواتي لك؟ فقال له خيراً، فقال له: يارسول الله إني جعلت نصف صلواتي لك، فقال له: ذاك أفضل، فقال: إني جعلت كل صلواتي لك، فقال: إذن يكفيك الله عز وجل ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك الله كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبدالله عليه السلام: لا يسأل الله عز وجل شيئاً إلا بدأ بالصلاة على محمد وآله» (3).

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: سمع رسول الله (ص) رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصلّ على النبي (ص) ، فقال رسول الله (ص) : «عجل هذا» ثم دعاه فقال له أو لغيره «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه عز وجل والثناء عليه، ثم يصلي على النبي (ص) ، ثم يدعو بعد بما شاء» (4).

وعن ابن مسعود قال: «إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء على الله بما هو أهله، ثم ليصل على النبي (ص) ، ثم ليسأل بعد فإنه أجدر أن ينجح» (5)، قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (6).

ومنها: ما عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله (ص) : «لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق علق معالقه، وملأ قدحاً ماء، فإن كانت له حاجة في أن يتوضأ توضأ، وأن يشرب شرب، وإلا أهراق فاجعلوني في وسط الدعاء، وفي أوله، وفي آخره» (7).


1- كفاية الأثر، الخزاز القمي، ص 3٨.
2- الأمالي، الطوسي، ص 215.
3- الكافي، ج 2، ص 4٩3.
4- سنن أبي داود، ج 1، ص 333.
5- المعجم الكبير، الطبراني، ج ٩، ص 156.
6- مجمع الزوائد، ج1٠، ص 155.
7- المصنف، عبدالرزاق الصنعاني، ج 2، ص 216.

ص: 114

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول الله (ص) قال: «كل دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة علي صعد الدعاء» (1).

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «من دعا ولم يذكر النبي (ص) رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي (ص) رفع الدعاء» (2).

وعن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «إذا كانت لك إلى الله حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على النبي (ص) ثم سل حاجتك، فإن الله أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى» (3).

كذلك عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة على النبي (ص) ، فإن الصلاة على النبي (ص) مقبولة، ولم يكن الله ليقبل بعض الدعاء ويرد بعضاً» (4).

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم السلام عن النبي (ص) قال: «إن الله سبحانه يقول: عبادي من كانت له إليكم حاجة فسألكم بمن تحبون أجبتم دعاءه، ألا فاعلموا أن أحب عبادي إلي وأكرمهم لدي محمد وعلي حبيبي ووليي، فمن كانت له حاجة إلي فليتوسل إلي بهما، فإني لا أرد سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمن سألني بهم فإني لا أرد دعاءه، وكيف أرد دعاء من سألني بحبيبي وصفوتي ووليي وحجتي وروحي ونوري وآيتي و بابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمن سألني بهم عارفاً بحقهم ومقامهم أوجبت له مني الإجابة، وكان ذلك حقاً علي» (5).

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة على النبي وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبي (ص) وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات بل معظمها، وهذا يعني أن الله عز وجل جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً


1- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج 2، ص 66. وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب. . . وأسبابه الصلاة على محمد (ص) .
2- وسائل الشيعة، ج 7، صص ٩3 و ٩4.
3- المصدر نفسه، ص ٩7.
4- المصدر نفسه، ص ٩6.
5- المصدر نفسه، ص 1٠2.

ص: 115

حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وفي سائر العبادات القربية و المقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلا عن سبيلهم عليهم السلام وطريقهم، الذي نصبه الله تعالى مناراً لعباده ومحجة واضحة لخلقه.

هذا كله في الشاهد الأول وهو اقتران الصلاة على النبي صلى الله عليه وأهل بيته عليهم السلام بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني: وهو كذلك اقتران اسم النبي المبارك (ص) بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتم الصلاة إلا بإتمامه والفراغ منه جُعل شطر منه التسليم على النبي الأكرم (ص) ، فقبل إتمام الصلاة وفي حاقها يستحب للمصلي أن يسلم على نبي الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبي الأكرم (ص) وخطاب ونداء عن قرب ب-(أيها) وتوسل واستغاثة وتوجه إليه وبه إلى الله عز وجل؛ وذلك لأن الله تعالى عندما شرع التسليم والتحية للنبي الأكرم (ص) في الصلاة التي شُرعت لذكره عز وجل والتقرب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبي هو ذكر الله تعالى ونداءه نداء للباري عز وجل، وليس ذلك إلا لكون النبي (ص) الآية العظمى والوسيلة المحمودة بين الله وبين خلقه في الصلاة التي هي من عظيم العبادات والقربات عندالله تعالى.

إذن طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجه بالنبي (ص) لنيل مقامات القرب في الصلاة التي هي قربان كل تقي موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدة مرات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبي (ص) لنيل مقامات القرب عندالله تعالى فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخرى في الدين؟

وعلى هذا كيف يقال: إن ذكر النبي وآله هو غير الله تعالى في التوجه إليه عز وجل وشرك؟ «وهل هذا إلا طمس لمعالم الشهادة الثانية في عقيدة التوحيد والإسلام؟»

الشاهد الثالث: وهو اقتران أهل البيت عليهم السلام بالنبي (ص) في قوله تعالى: «فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن»

ص: 116

« بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» (1) .

فلم يُنزل أحد كنفس النبي (ص) إلا علي عليه السلام، وقرن الله تعالى بالنبي (ص) أهل بيته عليهم السلام في الحجية، فالخمسة عليهم السلام معاً حجج على جميع الأديان السماوية والبشرية عموماً إلى يوم القيامة، فهم عليهم السلام شركاء النبي (ص) في الرسالة؛ لأن المباهلة نوع محالفة ومقاضاة إلهية أخروية، وفي الحلف لابد أن يحلف الأصيل ولا وكالة في الحلف، وهذا يعني أنهم عليهم السلام شركاء في الرسالة أصالة، ولكنهم تابعون في ذلك للنبي (ص) وهو سيدهم وبشفاعته نالوا الأصالة في الحجية.

والحاصل: إن أهل البيت عليهم السلام مقرونون بسيد الأنبياء في المقامات تبعاً له (ص) ماعدا مقام الوحي بالنبوة، وهذا يعني أن الإيمان بأهل البيت والتولي لهم من الدين الذي أخذ على الأنبياء الإيمان به ونصرته لأجل نيل المقامات العالية عندالله تعالى.

هذا تمام الكلام في شرطية التوجه بالنبي (ص) وأهل بيته لصحة الإيمان وللتوبة وسائر العبادات و لنيل مقامات القرب.

برهان آخر: طاعة الله ورسوله وأولي الأمر

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ» (2)حيث تشير هذه الآية القرآنية بأن إطاعة ولي الله من طاعة الله سبحانه وتعالى فلا بد من التوجه إليه بقلبك وجوارحك والخضوع له والتسليم له بأمرٍ من الله تعالى فمن عصاهم عصى الله سبحانه وتعالى كما ذكر هذا المعنى الكليني في كتاب الحجة:

عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن بريد العجلي، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم»


1- آل عمران: 61.
2- النساء: 5٩.

ص: 117

« مُّلْكاً عَظِيماً» (1) قال: جعل منهم الرُسل والأنبياء والأئمة فكيف يقُرون في آل إبراهيم عليه السلام وينكرونه في آل محمد (ص) ؟ قال: قلت: «وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيما» ؟ قال: الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة؛ من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى الله، فهو الملك العظيم.

لكي تتضح الصورة نقول بأن الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد وغيرها، هي فرائض إلهية في أصل وجوبها في الدين، وأما تفاصيلها وأجزائها وشرائطها وأقسامها فهي سنن نبوية وصلتنا عن طريق أمر النبي (ص) لكل المسلمين بتلك التفاصيل والتشريعات الخاصة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في روايات الفريقين من أن الصلوات كان فرضها من الله تعالى ركعتين لكل صلاة وما زاد عليها في كل صلاة كان من سنة النبي الأكرم (ص) وأمره وفرضه (2)وهكذا بقية التفصيلات والتشريعات القانونية النبوية ضمن الفرائض الإلهية، وكتب الحديث مليئة بالأوامر النبوية في مجمل الأبواب الفقهية وغيرها.

إذن فيكون الإتيان بالصلاة والزكاة والحج وغيرها طاعة لأمر الله وأمر رسوله (ص) ، ولا تُستعلم طاعة الله عز وجل من دون طاعة الرسول الأكرم في أوامره ونواهيه، فهو (ص) باب طاعته تعالى؛ لأنه هو الدال والمبين والناطق الرسمي عن أوامر الله عز وجل ونواهيه، وهذا البيان جاري في جملة الأبواب العبادية أيضاً بلحاظ تفاصيل الشروط والاجزاء فإنها بأوامر من عترة النبي (ص) وسنن منهم مفصّلة ومبيّنة لفرائض الله تعالى وسنن نبيه (ص) فيكون الإتيان بالعبادات التي هي خضوع لله تعالى بتوسط طاعة أوامره تعالى وأوامر رسوله وأوامر أولي الأمر من عترته عليهم السلام.

وهذا ما كنا نُعبر عنه بتداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية والثالثة؛ إذ هي تستدعي الإتيان والالتزام بجملة الدين طاعة لله ولرسوله.

وهذا ما تكاثرت ودلت عليه جملة من الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى:


1- النساء 54.
2- وسائل الشيعة، ج 6، ب1، ح4 (72٨3 ؛ مسند أحمد، ج 6، ص 241 مسند عائشة؛ مجمع الزوائد، الهيثمي، ج2، ص 154.

ص: 118

«وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (1) .

ثم إن الله عز وجل حذر المسلمين من المخالفة لأوامر الرسول الأكرم، وبين في آيات عديدة العواقب الوخيمة التي تترتب على مخالفة النبي (ص) في أوامره: كما في قوله تعالى: «لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (2).

كذا قوله تعالى: «وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ» (3).

وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ» (4).

وقوله عزوجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ» (5).

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي جاءت في ضمن السلك العام والسنة الإلهية الشاملة لطاعة الرسل كافة، كما في قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ» (6).

ومن يريد أن يفصل في صلاته وحجه وصومه طاعة لله عن طاعة الرسول يكون على الوثنية الجاهلية التي يشنؤها الله عز وجل وعبر عنها في قرآنه الكريم بالشرك والنجس، وطاعة كل من لم يأمر الله بطاعته وثن من الأوثان، بل حتى صلاته تصبح وثناً إذا كانت صادرة عن طاعة غيرِ مَن أمر الله بطاعته، وإن كان ذلك المطاع هو الهوى وتحكيم سلطان الذات على سلطان الله عز وجل، كما في الوثنية القرشية التي ذمها القرآن الكريم.

ومن ذلك يتضح أن أي عبادة من العبادات أو قربة من القربات أو نيل المقامات القربية أو الفوز بحضوة عند الله تعالى لا يمكن أن تتحقق من دون طاعة النبي الأكرم (ص) في تلك


1- آل عمران: 132.
2- النور: 63.
3- المائدة: ٩2.
4- الأنفال: 2٠.
5- محمد: 33.
6- النساء: 64.

ص: 119

العبادة، لكن هذه الشرذمة لم يزدادوا من الله إلا بعداً، وزين لهم الشيطان أعمالهم فهم في غيّهم وضلالهم يعمهون.

ففي مقام التقرب والنية والقصد جُعلت القبلة المعنوية هي طاعة النبي (ص) والتدين بولايته والخضوع له، الذي هو خضوع لله عز وجل، كخضوع الملائكة لآدم لأنه باب الله تعالى.

هذا كله في مقتضيات الشهادة الثانية وضرورة اقترانها بالشهادة الأولى.

كذلك أكدت الآيات القرآنية على ضرورة الشهادة الثالثة واقترانها بالشهادة الثانية تبعاً للشهادة الأولى، والشهادة الثالثة عبارة عن طاعة أولي الأمر، الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» (1)، حيث قرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله (ص) .

وقد بين الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم المراد من أولي الأمر الذين تجب طاعتهم، بعد أن بين تعالى المقصود من الأمر الذي هم أولياءه، وأنه أمر ملكوتي من عالم كن فيكون، كما في قوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (2)، وكذا قوله عز وجل: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (3)، وكذا قوله عز وجل «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا» (4)، وقوله تعالى: «أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (5)، ثم أفصحت الآيات القرآنية عن كون الأمر عبارة عن تدبير السماوات و الأرض، قال تعالى: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (6).


1- النساء: 5٩.
2- يس: ٨2.
3- القمر: 5٠.
4- الشورى: 52.
5- الأعراف: 54.
6- السجدة: 5.

ص: 120

إذن أولو الأمر هم الذين يتنزل عليهم الأمر في ليلة القدر وفيها يفرق كل أمر حكيم، قال تعالى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سلامٌ هي حتى مَطلعِ الفْجْرِ» (1)، وقال عز وجل في وصف ليلة القدر: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ *رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (2).

ثم بين الله عز وجل أن شريعة النبي الأكرم من ذلك الأمر الحكيم الذي يفرق في لِيلة القدر، حيث قال عز وجل مخاطباً نبيه الأكرم (ص) : «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» (3).

وقد صرحت آيات أخرى بأن الأمر الملكوتي يتنزل على عباد الله من دون أن تخصص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عز وجل: «يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنَاْ فَاتَّقُونِ» (4).

وحاصل ما ذكرناه من الآيات أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختص بالشؤون الدنيوية المادية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء الله الأصفياء المجتبين وليس خاصاً بمقام النبوة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلى المطلوب وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم؛ ولذا قال تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» (5)والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلى العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول الله تجب طاعتهم غير أهل بيته (ص) ، الذين


1- القدر: 3 - 5.
2- الدخان: 3- 6.
3- الجاثية: 1٨.
4- النحل: 2.
5- السجدة: 24.

ص: 121

أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، لأن الأمر الملكوتي المتنزل في ليلة القدر الليلة المباركة المرتبط بنزول ما في القرآن كما في سورة القدر والدخان هو مرتبط بمقامات القرآن الغيبية ولا يمس تلك المقامات إلا المطهرون كما في قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * في كِتابٍ مَكنُونٍ *لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» (1).

إذن الطاعة في الدين بطاعة الله، وطاعة الله بطاعة النبي الأكرم (ص) وأولي الأمر، فالولي بعد الله تعالى رسوله (ص) وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حق استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالى «وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ» (2)والذي يتضح مما ذكرناه أن طاعة أولي الأمر على حد طاعة رسول الله مقترنة بها وشاملة للدين كله، كما أن ولاية الله تعالى وطاعته كذلك غير مختصة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر الله وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته (ص) ، فالعبد ينقاد ويفد على الله تعالى ويتقرب ويتوجه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتان في عبادة الله تعالى بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثم كان الدين عبارة عن ولاية الله وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (3).

والولاية والطاعة أصالة لله وبالتبع للنبي وأولي الأمر بإذن وأمر من الله تعالى، كما أخضع الله عز وجل ملائكته ومن خلق من الجن وغيرها لولي الله وخليفته آدم، بما هو النموذج والمصداق لخليفته الله في الأرض، فكل من يتسنم مقام الخلافة الإلهية لابد من الإنقياد


1- الواقعة: 77 - 7٩.
2- النساء: ٨3.
3- المائدة: 56 55.

ص: 122

الخضوع والطاعة له.

وحيث أن التوجه والقربة والزلفى لا تحصل إلا بالطاعة لله وللرسول، كذلك لا تحصل إلا بطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة الله ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلى الله تعالى في العبادات إلا بالخضوع والطاعة لولي الأمر والإتيان بالعبادة امتثالاً لأمره، تبعاً لأمر الله والرسول (ص) ، حيث يستعلم أمرهما بأمره.

والحاصل من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من الله تعالى وسنة من نبيه ومنهاج وهدى من أهل بيته عليهم السلام وعلى جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبين أن من يعبد الله من دون التوجه بحجة الله ووليه، بطاعته وامتثال أمره عمله هباء؛ إذ لا تتحقق منه القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاث وعدم ضم الشهادات الثلاث إلى بعضها البعض، فلا يُصار إلى التوجه إلى الله تعالى إلا عن طريق آياته وبيناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاث التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كله.

إقران اسم النبي (ص) وذكره والتوجه إليه وإلى أولي الأمر موجباً للتوحيد في العبادة وإلا لما قرن الله تعالى طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسط والواسطة إلا دعوة إلى التفريق بين الله ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، والفصل هو عبادة الشرك التي آمن بها إبليس الذي أراد أن يفرق بين طاعة الله وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا لله ولوليه آدم عليه السلام.

ثم إن مورد هذه الآية وهي: «أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» (1)التي حكمت بوجوب الطاعة في الدين كله، فكما أن طاعة الله عز وجل في الدين كله، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم (ص) وأولي الأمر من أهل بيته عليهم السلام.

إذن التوجه إلى الله تعالى من دون التوجه إليه بطاعة نبيه ووليه نجس وشرك ووثنية قرشية، ونية القربة إذا لم تكن على هذا المنوال في العبادة لا تقبل؛ لعدم التوجه إلى الله بآياته وأبوابه التي أمر الله بها.


1- النساء: 5٩.

ص: 123

التوسل عبادة توحيدية

1- التوسل آية للزلفى والقربى إلى الباري تعالى

والتوسل على ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة على أربعة جهات:

الجهة الأولى: حقيقة التوسل في اللغة والاصطلاح.

الجهة الثانية: أنه عبادة توحيدية.

الجهة الثالثة: الأدلة العقلية والتاريخية على العبادية.

الجهة الرابعة: الأدلة التحليلية.

وهنا سوف نتعرض إلى خلاصة ذلك ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى

بأن الواسطة التي جعلها الله سبحانه وتعالى ونصبها لخلقه هو عين التوحيد والربوبية للباري، والقطيعة والإباء والاستكبار على إرادة الباري تعالى كفرٌ وشرك، والوسائط والحجج الإلهية هي أبواب التوحيد لأنها خضوعٌ وانصياع وتذلل وتقرب إلى الباري سبحانه وتعالى بطاعة أوامره في ذلك كقوله «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً» وقوله تعالى «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ» وغيرها من عشرات الأوامر في السور والآيات والأحاديث الشريفة، والتوجه والانشداد إلى الآيات الإلهية والوسائل والوسائط الربانية تقرب العبد إلى خالقه تعالى.

النقطة الثانية

التواضع والخضوع في التوجه والوفود على الله تعالى، سببٌ لزيادة الرفعة والقرب الإلهي، والعبد إذا أنكر الواسطة التي نصبها الله تعالى بينه وبين عبيده، لا يبقى له طريق لاستعلام أوامر الله ونواهيه، كما إن التواضع حالة استثنائية وتوحيدية خالصة، ورفض التوسل استكبار وجفاء لا يناسب الأدب التوحيدي، بل إن الله سبحانه وتعالى ذم الذين

ص: 124

يصدون عن الوسائط ويطلبون الاتصال المباشر والارتباط بالسماء مع عدم أهليتهم لذلك كما في قوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً» (1)وقوله تعالى «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» (2)وهذا لقصور في القوابل والاستعدادات في تقرب العبد بذاته المنفردة من ذاته تعالى المقدسة بل لابد من شفاعة المتوسِّل بالمتوسَّل به.

النقطة الثالثة

لا شك أن التقدم في الرتبة الوجودية بين المخلوقات معناه أن المخلوق الأسبق رتبة أشرف وأكرم وأقرب إلى الله تعالى من المخلوق اللاحق، وهذا البيان العقلي واضح دال على ضرورة التوجه والتوسل بالمقرَّبين وبالمخلوقات الكريمة على الله تعالى وهم «أولياء الله» من الأنبياء والرسل.

النقطة الرابعة

قطع الصلة بالنبي (ص) وعدم الرجوع إليه والابتعاد عنه والتخلي عن ولايته، وعدم الخضوع و الطاعة له، وعزل الشهادة الثانية وفصلها وبترها عن الشهادة الأولى، فإن ذلك كله يجعل العبادات والمناسك بأجمعِها شركاً ووثناً وجاهلية، كالطواف حول الكعبة مثلاً وطاعة وعبادة لغير الله عز وجل فيما إذا افتقد الشهادة الثانية والتولي لنبي الإسلام (ص) .

من أهم الفروق بين حج المشركين وحج المسلمين هو أن المشركين يأتون بالمناسك من دون الخضوع والتسليم والتولي لخليفة الله تعالى، وأما المسلمون فهم يأتون بمناسك الحج مع خضوعهم لولاية النبي (ص) وإقرارهم بالشهادة الثانية، ولذا كان حجهم طاعة وعبادة خالصة لله عز وجل.


1- الفرقان: 21.
2- المدثر: 51.

ص: 125

ومما لاشك فيه بأن الإنكار للواسطة المنصوبة من الله تعالى هو ما قام به إبليس لعنه الله تعالى الذي يدعي التوحيد في العبادة، فإنكار الواسطة يستلزم الاعتراض على الباري سبحانه وتعالى.

2- شرطية التوسل بالنبي (ص) في طلب المغفرة

قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (1).

هذه الآية القرآنية تكشف حقيقة هذه الشرذمة التي تدعي بأن التوسل برسول الله أو بالإمام شركٌ، حيث تصرح الآية بأن التوسل بالنبي (ص) والاستشفاع به إلى الله، وطلب الاستغفار منه لمغفرة المعاصي، شرط ركني في قبول التوبة وشمول الرحمة الإلهية.

فلو كانت الواسطة بالنبي (ص) شركاً، كيف يأمر الله العصاة والمذنبين بمثل هذا الأمر؟

ومن البديهي أن النبي (ص) ليس من شأنه أن يغفر الذنوب، بل شأنه في المقام أن يطلب من الله المغفرة والصفح، وهذه الآية دليلٌ مفحم للجاحدين الذين ينكرون مشروعية التوسل و الواسطة في العبادة.

والطريف في الآية الكريمة بأن القرآن الكريم لم يقل: استغفر لهم يا رسول الله، بل قال «وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ» وبهذا يستفاد بأن النبي (ص) يستغفر للعصاة والمذنبين حيث جعل الله له هذا المقام و المنزلة.

فالشفيع لا يمكن أن يشفع للآخرين إلا وقد أذن له عز وجل بذلك في قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً» (2)ولنا على ذلك من الشواهد الواضحة الدالة على مشروعية التوسط والتوجه بالنبي (ص) ، والإقبال عليه بالاستغفار والتوبة والأوبة.


1- النساء: 64.
2- طه: 1٠٩.

ص: 126

الشاهد الأول: استغفار آدم عليه السلام وتوبته أيضا - كانت بالمجيء للنبي الأكرم (ص) ولكن كان مجيئه إليه في أفق القلب والقصد، فقد ورد في روايات الفريقين أن رسول الله (ص) قال: «لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يارب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت ياآدم إنه لأحب الخلق إلي، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك» (1)فهذه الرواية دالة على أن مجئ آدم إلى النبي (ص) ولواذه به كان بالتوجه القلبي به إلى الله تعالى، وهذا الاقتران بين الشهادتين هو من أعظم وأشرف العبادات التوحيدية.

الشاهد الثاني: «القمي» قال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي العباس المكبر قال: دخل مولى لامرأة علي بن الحسين على أبي جعفر عليه السلام يقال له: أبو أيمن، فقال: يا أبا جعفر، يغرون الناسَ ويقولون: «شفاعة محمدٍ شفاعة محمدٍ» فغضب أبو جعفر عليه السلام حتى تربد وجهه، ثم قال: «ويحك يا أبا أيمن أغرك إن عف بطنك وفرجك؟ أما لو قد رأيت إفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمدٍ (ص) ؟ ويلك، فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؟ ثم قال: ما أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمدٍ (ص) يوم القيامة، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: إن لرسول الله (ص) الشفاعة في أُمته، ولنا الشفاعة في شيعتنا ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم ثم قال: وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، فإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه ويقول: يارب حق خدمتي كان يقيني الحر والبرد، وهو قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً» (2)» (3).

أقول: يعني من جعل مبدأ ذلك النور ورضي له القول بالولاية.

الشاهد الثالث: هي من روايات كتب الصحاح لدى أهل السنة الذي تبين بأن النبي (ص)


1- المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج 2، ص 615.
2- طه: 1٠٩.
3- تفسير القمي، ج 2، ص 2٠1.

ص: 127

هو سيد الناس يوم القيامة، فيشفع لهم بعد أن يتوجهوا إليه ويطلبوا منه الشفاعة.

عن أبي هريرة: قال كنا مع النبي (ص)

في دعوةٍ، فرُفع إليه الذراع ُ، وكانت تُعجبه ُ، فنهس منها نهسةً وقال «أنا سيد القوم يوم القيامة» هل تدرُون بمن يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ فيُبصرهمُ الناظرُ ويسمعُهُمُ الداعي، وتدنُو منهُمُ الشمسُ، فيقولُ بعض النّاس ألا ترونَ إلى ما أنتم فيه، إلى ما بَلغكمْ، أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ. . . في (في حديث طويل) فيأتون آدم عليه السلام يقولُ لهم اذْهَبُوا اِلَى غَيْرِي، فَيَاْتُونَ نُوحاً فيقول لهم، نَفْسِي نَفْسِي، ائْتُوا النَّبِيَّ (ص) ، فَيَاْتُونِي، فَأَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَاْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ لاَ اَحْفَظُ سَائِرَهُ (1).

منها:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ (ص) قَالَ يَجْتَمِعُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْهَمُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا عَزّ وَجَلَّ فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السلام فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا فَيَقُولُ لَهُمْ آدَمُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ الَّذِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقُولُ وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحاً فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى الْأَرْضِ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ وَسُؤَالَهُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ بِذَلِكَ وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَأْتُونَ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عليه السلام عَبْدًا كَلَّمَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلَ بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَاللهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّداً (ص) عَبْداً غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَيَأْتُونِي قَالَ الْحَسَنُ هَذَا الْحَرْفَ فَأَقُومُ فَأَمْشِي بَيْنَ سِمَاطَيْنِ مِنْ المُؤْمِنِينَ قَالَ أَنَسٌ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَيُؤْذَنَ لِي فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ أَوْ خَرَرْتُ سَاجِداً إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي قَالَ ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ قُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدّاً


1- صحيح البخاري، ج 4، كتاب بدء الخلق، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، ح3375.

ص: 128

فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَقَعْتُ أَوْ خَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ قُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ أَوْ خَرَرْتُ سَاجِداً لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ (1).

ومنها: ما أخرجه النووي عن العتبى قال: «كنت جالساً عند قبر النبي (ص) فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله تعالى يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً» (2)وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

t فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي فرأيت النبي (ص) في النوم، فقال لي: يا عتبى، إلحق الأعرابي فبشره بأن الله تعالى قد غفر له» (3).

ومنها: ما أخرجه البيهقي عن أبي حرب الهلالي قال: «حج أعرابي، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله (ص) أناخ راحلته فعقلها ثم دخل المسجد حتى أتى القبر ووقف بحذاء وجه رسول الله (ص) فقال: بأبي أنت وأمي يارسول الله جئتك مثقلاً بالذنوب والخطايا مستشفعاً بك على ربك لأنه قال في محكم كتابه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً» وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلاً بالذنوب والخطايا


1- مسند احمد، ج 3؛ مسند أنس بن مالك، ح1171٠.
2- النساء: 64.
3- الأذكار النووية، النووي، كتاب أذكار الجهاد باب استحباب سؤال الشهادة، ص 2٠6؛ كذلك في تفسير ابن كثير، ج 1، ص 532.

ص: 129

استشفع بك على ربك أن يغفر لي ذنوبي وأن يشفع في» (1).

منها: قال القسطلاني (ت ٩23 : «وقد روي أن مالكاً لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي - ثاني خلفاء بني العباس - يا أبا عبدالله أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله؟ فقال (مالك) : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله تعالى» (2).

ولا يمكن لقائل أن يخصص هذا المجيء والاستغفار بحياة النبي الأكرم (ص) ، لأن مفاد تعاليم القرآن خالدة بخلود القرآن والسيرة دلت على الشمول والعموم وعدم الاختصاص بالفترة الزمنية التي عاشها النبي (ص) ، فطلب المغفرة و المجيء ليست مختصة بحياته (ص) الدنيوية وإلا عُطل العمل بهذه الآيات، وتقوضت أركان التوبة في الدين.

والمقامات الإلهية والقربى والزلفي لرب العالمين لا تكون إلا بالتوجه بالنبي الأكرم (ص) ، وهذه شرطٌ في قبول العبادة وصحة الإيمان.

شرطية التوسل بالنبي (ص)

وهذه الآية كشفت النقاب عن شرطية التوسل بالنبي (ص) ، جاءت بشكل رتبي ترتيبي، حيث أُخذت المراتب بعين الاعتبار وهي كالتالي:

الشرط الأول: قبول الأعمال وصحة الإيمان هو بالمجيء إلى الحضرة النبوية والالتجاء إليه، واللوذ به، والاستعاذة والاستجارة به (ص) ، والمجيء إلى النبي الأكرم (ص) هو عين التوجه إليه والتوسل به في قبول التوبة.

الشرط الثاني: ابراز الندامة والاستغفار وإعلان التوبة والخشية الرجوع إلى الله تعالى والاقتراب منه وقصد التوجه إليه.


1- الدر المنثور، ج 1، ص 23٨.
2- شرح المواهب، ج ٨، صص 3٠4 و 3٠5؛ المدخل، ج 1، صص 24٨، 252؛ وفاء الوفاء، ج4، ص 1371، وما بعدها؛ الفواكه، الدواني، ج 2، ص 466؛ شرح أبي الحسن على رسالة القيرواني، ج 2، ص 47٨؛ القوانين الفقهية، ص 14٨.

ص: 130

الشرط الثالث: إمضاء النبي (ص) توبة التائبين وعبادة العابدين لله تعالى وشفاعته في توبة مذنبي الأمة عند الله.

وأول شرط لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه ليس إظهار الندامة من العبد أمام الله تعالى مباشرة وابتداءاً، بل الشرط الأول هو المجيء إلى الحضرة النبوية والالتجاء إليه، واللواذ والاستعاذة والاستجارة به (ص) ، فأولاً لابد أن يأتي العبد إلى النبي (ص) ويلوذ به، ثم بعد ذلك يُظهر الندامة والاستغفار لله عزوجل؛ إذ الترتيب للشروط في الآية المباركة ترتيب رتبي، حيث أخذت بعين الاعتبار، لا أنه ذكري فقط بقرينة العطف بالفاء.

ثم إنه سبحانه ترك باب التوبة والإنابة - عقيب تلك الآية - مفتوحاً للعصاة والمذنبين حيث جعل الله تعالى الملاذ والملجئ هو النبي (ص) ، فلابد من الكينونة في الحضرة النبوية ثم إظهار عبادة الاستغفار، لأنه (ص) باب الله تعالى الذي منه يؤتى، فيكون اللواذ بالله عز وجل باللواذ بنبيه الأكرم (ص) ؛ ولذا بعد الاستجارة بالنبي (ص) قال تعالى: «لوَجَدوا اللهَ تواباً رَحيماً» واللجوء والإنابة إلى الله بنبيه اُخذ شرطاً في أعظم المواقف للعبد مع ربه وهو التوبة وغفران الذنوب فكيف بما دونه من العبادات التي هي ذخيرة أُخروية خالدة فكيف بالحاجات الدنيوية الزائلة التي هي متاع قليل في جنب متاع الآخرة.

إذن استغفارهم لأنفسهم عندالله تعالى لا يغنيهم عن التوجه بالنبي (ص) ، ومعنى ذلك أن للمجئ عند النبي ثم الاستغفار موضوعية في حصول المغفرة.

ولاشك أن الاستغفار وطلب المغفرة عبادة من العبادات ونوع خاص من أنواع الدعاء وحالة من الارتباط بين العبد وربه، وللكون عند النبي الأكرم (ص) والمجيء عنده دخالة في قبول تلك العبادة وتوثيق الدعاء والارتباط بين العبد وربه والإقبال على الله تعالى.

وهذا هو معنى أنَّ لله عز وجل مواضع ومواطن مُشَرفة يُقبل الدعاء بالكون فيها والمثول تحت قبتها، كما في الكون في عرفة وتحت الميزاب عند الكعبة وعند الملتزم والمستجار وغيرها، وكما ورد من أن الصلاة في البيت الحرام تعدل كذا ألف ركعة، وهذا يعني أن للكون في البيت الحرام دخالة في توثيق الارتباط بين العبد وبين الله تبارك وتعالى.

ص: 131

ومن الواضح أيضاً أن الظلم المذكور في الآية المباركة ليس مختصاً بالذنوب الفردية التي بين العبد وربه، وإنما هو شامل للظلم الاجتماعي السياسي أو النظام الاقتصادي المعاشي أو التعدي على المنظومة الحقوقية والأخلاقية، ومعنى ذلك أن استعلام ومعرفة تلك الأمور الفردية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الالتجاء واللواذ بالنبي (ص) ، فكل حيف أو زيغ يحصل من الفرد أو المجتمع في تلك الأمور لابد من الرجوع فيها إلى الرسول الأكرم (ص) ، وفي مقابل تعدد أنواع الظلم يتعدد أنواع اللجوء والتولي والتوجه للنبي (ص) .

ثم إن ذكر التوبة والاستغفار في الآية الكريمة لا لخصوصية فيها، وإنما ذكرت بما هي عبادة من العبادات، لكونها أوبة ورجوع إلى الله تعالى واقتراب منه وقصد وتوجه إليه، فليست الآية في ذكرها لشرطية التوسل بالنبي (ص) خاصة بالتوبة، بل هي شاملة في ذلك لكل العبادات.

خصوصاً وأن التوبة هي الأوبة، من آب يؤوب، والأوبة الرجوع إلى الله تعالى، أي الاقتراب والزلفى منه عز وجل، ولاشك أن العبادات بمجموعها طلب الأوبة والقرب والزلفى إلى الله تعالى، فهي نوع من أنواع التوبة، وبناءً على ذلك لا تكون التوبة عملاً منحازاً ومنفصلاً عن سائر العبادات كالصلاة والحج وغيرهما، بل هي عمل عام وشامل لكافة العبادات.

وهذه الآية الكريمة الدالة على شرطية التوجه والتوسل وضرورته في جميع المقامات ليست خاصة بحياة النبي (ص) ؛ إذ ليس المراد من المجيء الحضور الجغرافي الجسماني لبدن المذنب عند النبي الأكرم (ص) فقط، بل المجيء الفيزيائي والبدني المكاني أحد المصاديق المقصودة في الآية الكريمة، والتعبير بالمجيء كنائي، يراد به مطلق الاستغاثة والتوسل والتوجه القلبي إلى النبي (ص) .

والحاصل: إن هذه الآية المباركة جاءت لبيان ماهية التوبة وشرائطها العامة، التي يشترك فيها كافة المسلمين وفي جميع الأزمنة، فلا يمكن أن تكون مختصة بالفترة التي عاشها النبي الأكرم (ص) أو بمن زامن وعايش تلك الفترة، فالمراد من المجيء مطلق الارتباط بالنبي (ص) ، بالتوجه إليه والكينونة في حضرته المباركة، ثم الاتيان بعبادة الاستغفار، وهذا المضمون

ص: 132

متطابق مع مفاد قوله تعالى: «وَاتَّخِذُواْ مِن مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» ، إذ معنى ذلك أن حضرة الأنبياء ومحضرهم مشاعر شعَرها الله تعالى ليتقرب بها إليه.

ويتضح هذا الشاهد أكثر إذا علمنا أن النبي الأكرم (ص) بُعث رحمة للعالمين، وهذه من الرحمات العامة للنبي الأكرم (ص) على هذه الأمة، وغير مختصة بمن حضر الحضور الفيزيائي البدني عند النبي (ص) .

كما إنه نفس التعبير في قوله تعالى «جَاءُوك» يتضمن معنى اللواذ واللجوء والاستغاثة والتوسل والتوجه القلبي، وليس فيه دلالة على الاختصاص بالحضور الجسماني.

كذلك لا بد أن يعلم أن الآية الخاصة في المقام غير مختصة بالرسول الأعظم (ص) ، بل هي سنة إلهية جارية في النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام فالآية عامة؛ كما يشير هذا التعميم إلى عترة النبي (ص) آية عرض الأعمال «وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ» ، حيث شملت الذين آمنوا وهم أولوا الأمر من أهل البيت عليهم السلام، كما نص على ذلك قوله تعالى: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ» (1)إذ هم الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل المجتباة الذين بعث فيهم النبي (ص) وجعلهم الله شهداء على الناس وعلى أعمالهم وعقائدهم، ويدل على العموم أيضاً الآيات المتقدمة التي نصت على وجوب المجيء إلى إبراهيم في الحج ووجوب الصلاة عند مصلاه وهوى القلوب إلى ذريته.

إذن التوجه إلى النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام في التوبة والعبادة ونيل المقامات شرط ومشارطة إلهية لابد من توفرها لنيل ما يبتغيه العبد.

التوسل بالرسول (ص) ميثاق الأنبياء

قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ»


1- الحج: 7٨.

ص: 133

«فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» (1) .

هذه الآية توسعة لمضمون الآية السابقة من سورة النساء، فالميثاق المذكور في هذه الآية المباركة معناه أن هناك تعاقداً بين الله تعالى والأنبياء عليهم السلام، والطرفان اللذان وقع عليهما التعاوض في الميثاق والتعاقد هما النبوة والمقامات الغيبة التي أعطاها الله تعالى للأنبياء في مقابل أمر مهم وخطير لابد أن يؤمنوا به، وهو قوله تعالى: «جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ» فالمقامات الإلهية والمنح الربانية إنما تعطى للأنبياء بشرط الإيمان بخاتمهم ونصرته، ولاشك أن الذي يكون ناصراً إنما هو تابع للمنصور والمنصور قائد له، فالأنبياء كلهم مأمومون والرسول الأكرم إمامهم، والأنبياء سبقوا الناس بالاصطفاء الإلهي الخاص وحُبوا بالنبوة والرسالة والمقامات الغيبية بتوسط إيمانهم بولاية النبي (ص) وتعهدهم بنصرته ومؤازرته، وهم أسبق الناس شيعة وإسلاماً لخاتم الأنبياء (ص) .

وفي صحيح البخاري: عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه ميثاقاً لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشروا وأمروا باتباعه (2)، (3).

فلذلك أخذ الميثاق من جميع الأنبياء والرسل على الإيمان بنبوة النبي (ص) ، ونصرته والتبشير به، ودعوة أممهم إلى تصديق دعوته والإقرار بها.

الأنبياء على دين النبي الأكرم (ص)

ومن ثم فإن هذه الآية المباركة تدلل على أن الأنبياء بعد إيمانهم بالله عز وجل هم آمنوا بخاتم الأنبياء وبمشايعته و بمؤازرته، فالأنبياء كانوا على دين النبي (ص) وهو الإسلام.

قال تعالى في الآية المباركة «مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ» معناه أن النبي الأكرم (ص) ليس تابعاً للأنبياء والتعبير بمصدق وليس التعبير بمؤمن أي أنه (ص) مشرف على مقامات الأنبياء،


1- آل عمران: ٨1.
2- البداية والنهاية، ابن كثير، ج2، باب مبعث رسول الله (ص) تسليماً كثيراً.
3- وهذا لا يخص طائفة من الأنبياء دون غيرهم، بل بمن فيهم من أولي العزم من الرسل صلوات الله عليهم.

ص: 134

وليست مقاماتهم غيب بالنسبة إليه ليقال مؤمن بهم وهذا بخلافهم مع مقامه فإنهم يؤمنون به لأن مقامه غيب لهم وليسوا بمشرفين مستعلين على مقامه، بل تابع للوحي الإلهي جملة، الذي هو فعل الله تعالى؛ ولذا لم يأمر الله عز وجل نبيه الأكرم (ص) بالاقتداء بالأنبياء وإنما بالهدى الذي هم عليه، قال تعالى: «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» (1).

فالنبي الأكرم (ص) ليس عل هدى نبي من الأنبياء وليس هو تابعاً لأحد من الرسل، بل هو على هدى الله عز وجل، وهو أول المسلمين، والفاتح الأول للهدى الإلهي والدين الإسلامي الواحد هو خاتم الأنبياء، ولم يُعبر عن نبي من الأنبياء في القرآن الكريم بأنه أول المسلمين على الاطلاق سوى النبي محمد (ص) ، وذلك في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» (2)وقوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» (3).

وأما سائر الأنبياء فقد عُبر عنهم في القرآن الكريم بأنهم من المسلمين، بما فيهم الأنبياء من أولي العزم، فقد حكى الله عز وجل على لسان نوح قوله:

«فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (4) ولم يُعبر عنه بأنه أول المسلمين، ولا شك أن الدين عند الله عز وجل واحد، قال تعالى: «إنَّ الدِّينَ عنْدَ اللهِ الْإسْلامُ» (5)، ولا يتقبل من أي مخلوق من المخلوقات غير الإسلام، قال تعالى: «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (6)، فالنبي الأكرم (ص) أول المسلمين وأول من نطق بالميثاق الذي أخذهُ الله على الأنبياء والمرسلين كما ورد عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام قال: إنّ الله أخَذَ الميثاق على الأنبياء قَبْلَ نبيّنا أن يخبروا اُممهم


1- الأنعام: ٩٠.
2- الأنعام: 162 و 163.
3- الزمر: 11 و 12.
4- يونس 72.
5- آل عمران: 1٩.
6- آل عمران: ٨5.

ص: 135

بمبعثه ونعته، ويبشّروهم به، ويأمروهم بتصديقه (1)وفي الهداية الكبرى للخصيبي في حديثٍ له (ص) حيث يقول: وقد علمتم أن الميثاق أخذ لي على جميع النبيين، وأنا الرسول الذي ختم الله بي الرسل، وهو قوله «رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (2).

«فكنت والله قبلهم وبعثت بعدهم وأعطيت ما أعطوا وزادني ربي من فضله ما لم يعطه لأحد من خلقه غيري، فمن ذلك إنه أخذ لي الميثاق على سائر النبيين ولم يأخذ ميثاقي لأحد، ومن ذلك ما نبأ نبياً ولا أرسل رسولاً إلا أمره بالإقرار بي وأن يبشر أمته بمبعثي ورسالتي» (3).

فهو بذلك أفضل الأنبياء والرسل وهو الإمام المتبوع وهم المأمومون التابعون له في دين الإسلام، فضلاً عن غيرهم من المخلوقين، ولذا ورد في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: «أن بعض قريش قال لرسول الله (ص) : بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين: «وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى» فكنت أنا أول نبي قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله» (4).

فمن خلال هذه الأحاديث يُعلم بأن النبي (ص) له منزلة عظيمة عندالله سبحانه وتعالى فهو سيد ولد آدم عليه السلام فلهذا بُعث لجميع الأمم والأزمنةِ والعصور، بعكس الأنبياء والرسل حيث منهم من بُعث لأجل قومه والمدينة التي كان يعيش فيها وبعضهم أُرسل لبعض الأمم دون سواها، فإقرار الأنبياء بنبوة الرسول الأكرم (ص) ونصرته لإعلاء كلمة واحدة وهي التوحيد، فلذلك آمن به حتى من لايدين بدين الإسلام كاليهود والنصارى في حياته ومماته لصراحة البشائر الكثيرة في التوارة والأنجيل.

فالنبي الأكرم هو على هدى الله سبحانه وتعالى، ومصدق لما مع الأنبياء، أي شاهد على ما هم عليه من دينه الحنيف وبإمضائه يُصدق ما هم عليه، أما الأنبياء فهم يؤمنون بخاتم الأنبياء (لتُؤمنن بهِ) لا أنهم يؤمنون بما معه، فإيمانهم بذات النبي (ص) ، فهو (ص) شاهد مطلع


1- بحارالأنوار، المجلسي، ج15، باب 2، البشائر بمولده ونبوته.
2- الأحزاب:4٠.
3- الهداية الكبرى، الحسين بن حمدان الخصيبي، ص 3٨٠.
4- الكافي، ج 1، ص 441.

ص: 136

مصدق على ما عندهم، وأما هم فيؤمنون به، وهذا يعني أنه لا يوجد في مقامات الأنبياء ودرجاتهم عند الله تعالى ما هو غيب عن النبي (ص) ، وأما الذي يؤمن بذات النبي (ص) وهم سائر الأنبياء عليهم السلام فهو يؤمن بأمر غيبي، فمقام النبي (ص) بالنسبة إلى باقي الأنبياء غيب الغيوب، وأما مقامات سائر الأنبياء فالنبي الأكرم (ص) مطلع عليها ويعلمها ويشهد لها على صدقها، والأنبياء في أصل نيلهم لمقام النبوة إنما استأهلوه بعد أن آمنوا بخاتم الأنبياء قبل سائر الأرواح في عالم الأرواح وشرطوا على أنفسهم التولي لسيد الأنبياء (ص) ولذا فإنه (ص) شفيع الكل، والأنبياء لم ينالوا ما نالوا إلا بالديانة لخاتم الأنبياء، فهو الشفيع لقبول الأعمال، وهو باب رحمة الله العامة قال تعالى: «وَمَاَ أَرْسَلْناكَ إلَّا رَحْمَةً لِلعالَمينَ» (1).

ومن ذلك كله يتضح ان هذه الآية المباركة نص في المقام الثالث، وأن التوجه إلى الله لنيل أي مقام أو قربى أو زلفى لا يتم إلا بالتوسل بالنبي (ص) والتشفع به، وبالتشفع به (ص) يعطى للعبد أعظم الأرزاق بعد إيمانه بسيد الأنبياء والمرسلين.

ثم إن الآية الكريمة رسمت خطورة الأمر في ضمن تأكيدات مغلظة، حيث جاء فيها قوله تعالى: «أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي» وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشددة أشهدهم الله تعالى على ذلك، حيث قال: «فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (2).

أهل البيت عليهم السلام شركاء النبي (ص) في دائرة الميثاق

من خلال البحث السابق تبين لدينا بأن الأنبياء لم ينالوا ما نالوا من مقام النبوة إلا بالديانة لخاتم الأنبياء و المرسلين ونصرته والإيمان بما معه، وتترتب على هذا بأن أهل بيته يشتركون مع النبي الأكرم (ص) في دائرة الميثاق والدين الحنيف، الذي أُخذ على الأنبياء الإيمان به والدعوة إليه.

وإن كان أهل البيت عليهم السلام تابعين للنبي (ص) وهم يتوجهون به إلى الله تعالى، وبشفاعته


1- الأنبياء: 1٠7.
2- آل عمران: ٨1.

ص: 137

يكونون معه (ص) في مقامه، وهو مقام الشفاعة العظمى في يوم القيامة.

وهناك وجوه عديدة على اشتراك أهل البيت عليهم السلام مع النبي (ص) في دائرة الميثاق ما دل على الذي أُخذ على الأنبياء لينصروه ويدعون إليه وإليك بعضها مضافاً إلى الآيات الدالة على شراكة المقامات كآية المباهلة في الحجية «وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ» وآية التطهير وآية الطاعة وآيات أخرى هذا مضافاً إلى ما في الروايات:

1- من هذه الوجوه بأن الأنبياء والمرسلين سوف يقاتلون بين يدي إمام المهدي المنتظر (عج) كما نصت على ذلك الروايات المتظافرة في ما يختص برجعة الأئمة عليهم السلام، حيث جاء فيها أن عيسى عليه السلام وإدريس والخضر عليهما السلام وغيرهما من الأنبياء سوف يقاتلون بين يدي الإمام المهدي عليه السلام عند قيامه بدولة الحق والعدل.

وهذا من طرق الفريقين، بل إن بعض الروايات الصادرة عن أهل البيت والرسالة نصت بأن جميع الأنبياء و المرسلين سوف يقاتلون مع الأئمة عليهم السلام عند رجوعهم وقيام الدولة العالمية المباركة.

ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الرژوايات التي وردت في هذا المجال:

منها: الروايات التي دلت على أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ينزل لنصرة المهدي عليه السلام، ويبايعه ويصلي خلفه.

عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله (ص) :

«يلتفتُ المهدي عليه السلام وقد نَزل عيسى بن مريم عليه السلام كأنما يَقطر من شعره الماء (1)فيقول المهدي: تقدَّم وصل بالناس، فيقول عيسى بن مريم: إنما أُقيمت الصلاة لك، فُيصلي عيسى خلف رجل من وُلدي، فإذا صُلْيت قام عيسى حتى جلس في المقام فيبايعه» (2).

منها: عن الإمام الصادق عليه السلام: أتى يهودي إلى النبي (ص) ، فقام بين يديه يحد النظر إليه،


1- أي إن شَعر رأسه يلمع كأنما دهَنَ شعره.
2- عقد الدرر، صص22٩و23٠، وقال بعد ذْكر الحديث: أخرجه الحافظ أبو نعيم في (مناقب المهدي) والطبراني في مُعجمه.

ص: 138

فقال: يا يهودي ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله تعالى، وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظله بالغمام؟ فقال له النبي (ص) :

«إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، ولكن أقول: إنَّ آدم عليه السلام لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إِني أسالك بحق محمّد وآل محمّد لمّا غفرتَ لي فغفر الله له، وأن نوحاً عليه السلام لما ركب في السفينة وخاف الغرق، قال: اللهم إني أسالك بحق محمّد وآل محمد (لمّا أنجيتني) من الغرق، فنجاه الله منه، وإنّ إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمّد لما أنجيتني منها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وإن موسى عليه السلام لمّا ألقى عصاه فأوجس في نفسه خيفة، قال :

اللهم إني أسألك بحق محمّد وآل محمّد (لما آمنتني) منها، فقال الله جل جلاله: «لَا تَخَف إنَّكَ أنتَ الْأَعْلَى» (1) .

يا يهودي: إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي ما نفعه إيمانه شيئاً، ولا نفعته النبوة، يا يهودي من ذريتي المهدي، إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته، فقدمه وصلى خلفه» (2).

وذكر الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسير القرآن العزيز في قصة أصحاب الكهف قال: وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي عليه السلام يقال إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله عز وجل ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون إلى يوم القيامة (3).

وجاء في بعض الروايات بأن أهل الكهف هم من أعوان المهدي ووزارئه، كما يمد الله الإمام بثلاثة آلاف من الملائكة، وروى المفضل بن عمر، عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

«يخرج القائم عليه السلام من ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى عليه السلام الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبو دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالك الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً» (4).

نصرة عيسى عليه السلام والأوصياء للإمام المهدي عليه السلام وأعوانه نصرة ٌ للنبي (ص) ، فإنه بنصر الإمام عليه السلام كما


1- طه: 6٨.
2- الإرشاد، المفيد، ج2، ص 361.
3- البرهان في علامات مهدي آخر الزمان، المتقى الهندي، ص ٨7.
4- الأرشاد، الشيخ المفيد، ج2، باب سيرة القائم عليه السلام عند قيامه.

ص: 139

هو مقتضى التكليف بذلك أستأهل النبي عيسى عليه السلام النبوة، فتسليم الأنبياء لهؤلاء الحجج هو تسليم لغيبه تعالى، وهذا من أعظم ما ابتلى به الأنبياء من أخذ الميثاق لهم.

منها: الروايات الواردة التي دلت على أن نصرة الأنبياء للرسول (ص) إنما تحصل بالنصرة لوصيه وابن عمه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

فعن أبي عبدالله عليه السلام عن رسول الله (ص) قال:

«وعلى ذلك أُخذت ميثاق الخلائق ومواثيق أنبيائي ورسلي، أخذت مواثيقهم لي بالربوبية، ولك يا محمد بالنبوة، ولعلي بن أبي طالب بالولاية. .» (1).

وكذلك الروايات الدالة على نصرة أميرالمؤمنين عليه السلام والقتال بين يديه في دولته المباركة، نظير ما أخرجه سعد بن عبد الله القمي عن فيض بن أبي شيبة، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول، وتلا هذه الآية: «وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ» : «ليؤمنن برسول الله (ص) ولتنصرن علياً أميرالمؤمنين عليه السلام» .

قال: «نعم والله من لدن آدم فهلم جراً، فلم يبعث نبياً ولا رسولاً إلا رد جميعهم إلى الدنيا حتى يقاتلوا بين يدي علي بن أبي طالب» (2).

وعن أبي سعيد الخدري قال: «كنا جلوساً ننظر رسول الله (ص) فخرج إلينا قد انقطع شسع نعله فرمى به إلى علي فقال: إن منكم رجلاً يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.

قال أبوبكر: أنا؟ قال: لا، قال عمر: أنا؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل (3)الترغيب في نصرة علي» .

فمن الواضح بأن نصرة أميرالمؤمنين عليه السلام نصرة لرسول الله (ص) ولا تتعلق بالقرابة التي هي متصلة بالرسول بل هذا أمرٌ إلهي جاء من عندالله سبحانه تعالى، كما إن ولاية النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام اُخذت من جميع الملائكة وسائر الكائنات، لأنها لا تختص


1- بحارالانوار، ج15، ص 1٨.
2- مختصر بصائر، الحسن بن سليمان الحلي، ص 25.
3- خصائص أميرالمؤمنين، النسائي، الترغيب في نصرة علي، ص 131.

ص: 140

بالموجودات الأرضية فقط، بل هم سفراء الله بينه وبين خلقه في كل المقامات العلمية والتكوينية.

اقتران أهل البيت عليهم السلام بالنبي (ص) في الطهارة

قال الله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (1)، حيث قرنت هذه الآية المباركة بالنبي الأكرم (ص) أهل بيته عليهم السلام وجعلتهم شركاء له تابعون في الطهارة، وهي تعني درجة العصمة التي للرسول (ص) ، فهو (ص) سيد الأنبياء ويفوق الكل في درجة العصمة والطهارة، إلا أن سنخ العصمة التي لأهل البيت عليهم السلام متقاربة مع سنخ عصمته (ص) ، ففي الوقت الذي قرن الله تعالى بنبيه (ص) أهل بيته في العصمة والطهارة، لم يقرن أحداً من الأنبياء في نمط التطهير والعصمة الذي له (ص) .

كذلك في قوله تعالى: «فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» (2)، فلم يُنزل أحد كنفس النبي (ص) إلا علي عليه السلام، وقرن الله تعالى بالنبي (ص) أهل بيته عليهم السلام في الحجية، فالخمسة عليهم السلام معاً حجج على جميع الأديان السماوية والبشرية عموماً إلى يوم القيامة، فهم عليهم السلام شركاء النبي (ص) في مسؤولية الرسالة؛ لأن المباهلة نوع محالفة، وفي الحلف لابد أن يحلف الأصيل ولا وكالة في الحلف، وهذا يعني أنهم عليهم السلام شركاء في الرسالة أصالة، ولكنهم تابعون في ذلك للنبي (ص) وهو سيدهم وبشفاعته نالوا الأصالة في الحجية.

والحاصل: إن أهل البيت عليهم السلام مقرونون بسيد الأنبياء في المقامات تبعاً له (ص) ، وهذا يعني أن الإيمان بأهل البيت والتولي لهم من الدين الذي أخذ على الأنبياء ومن الإيمان به ونصرته لأجل نيل المقامات العالية عندالله تعالى.

وهذا هو المستفاد من الآيات المباركة الدالة على عموم شرطية التوسل بالنبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام لصحة الإيمان وللتوبة وسائر العبادات ولنيل مقامات القرب.


1- الأحزاب: 33.
2- آل عمران: 61.

ص: 141

النبي وأهل بيته هم كلمات الله التامات «صلوات الله عليهم أجمعين»

قال الله تعالى: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (1)ورد لفظة الكلمة والكلمات في عدةِ سور من الآيات الكريمة، والكلمة مقاربة في معناها لمعنى لفظ الآية، حيث إن معناها العلامة الدالة على معنى ومدلول ما، وقد أُطلق لفظ الآية على الوجودات التكوينية في موارد عديدة من القرآن الكريم.

كما أن لفظة (الاسم) قريبة من معنى (الكلمة والآية) التي هي بمعنى السمة وهو العلامة أيضاً الدالة على شيء أو معنى ما.

وهناك شواهد كثيرة في القرآن الكريم على معنى لفظة (الكلمة) وإليك بعضها:

منها: ما أطلق تعالى على عيسى بن مريم عليه السلام في قوله: «إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» (2)، وهذا الإطلاق ليس مجازياً، بل حقيقاً؛ لكون الأصل في معنى الكلمة هو الشيء الموجود لأجل الدلالة على المعنى الخفي، وأي دلالة أعظم على صفات الله من أنبيائه ورسله والأوصياء والحجج الذين يقتدى ويهتدى بهم كما يهدي الله بكلماته، والآية الكريمة ناظرة إلى هذا المعنى.

منها: إذ امتحن الله إبراهيم الخليل عليه السلام بالعهود والمواثيق والأوامر وأعظم ما ابتلى به إبراهيم من أخذ الميثاق لهم عليهم أفضل الصلوات والسلام قال الله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» (3)حيث جاءت الكلمات بمعنى الامتحان والاختبار الذي تتعلق بشؤون (الإمامة) والتي أشرف مصاديقها على الإطلاق وأكرمها عند الله عز وجل هم محمد وآل بيته الطاهرون عليهم أفضل الصلاة والسلام وقد مرتْ آية أخذ الميثاق على النبيين بالإيمان بسيد الرسل كشرط لنيل النبوة وكل مقام غيبي كالإمامة وغيرها.

فهذه الكلمات هي ميثاق إبراهيم عليه السلام لما أتمها وآمن وأسلم بواسطتها لله رب العالمين


1- البقرة: 37.
2- آل عمران: 45.
3- البقرة: 124.

ص: 142

استحق مقام الإمامة الإلهية، فامتحن إبراهيم بالإيمان والتصديق بها نظير ما ورد في شأن مريم أنها صدقت بكلمات ربها، فهذه الكلمات هي حجج الله الناطقة من نبي أو رسول أو وصي وكان إتمامها سبباً لنيل المقامات العالية وهي محمد (ص) الطاهرين عليهم السلام.

منها: ما أطلق على حجج الله تعالى (الكلمات) من باب تشبيههم بكلمات الله التي يهتدي بها المهتدون، وقد أطلق عليهم كلمات الله «التامة» في كثير من الأخبار لدى الفريقين والزيارات الخاصة بهم عليهم الصلاة والسلام.

وقد ورد في جملةٍ من هذه الأحاديث عن الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام ففي مناقب ابن المغازلي الشافعي، بإسناده عن ابن عباس: «سألت النبي (ص) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب عليه» (1).

وجاء في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي عن المفضل قال: سألت جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن قوله عزوجل: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال: يارب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم. فقلت: يا ابن رسول الله فما يعنى بقوله: «فَأَتَمَّهُنَّ» ؟ قال: يعني أتمهن إلى القائم المهدي اثني عشر إماماً تسعة من ولد الحسين عليهم السلام (2).

وهذه الأسماء هي التي كانت في باطن عالم الملكوت لم يكن يعلم بها الملائكة، تلقاها آدم من ربه وهي أعظم الكلمات الحية العاقلة الشاعرة قال الله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء كُلَّهَا» ومن تلك الأسماء هو خاتم النبيين صلوات الله عليه، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لما خلق آدم ولا الجنة ولا النار (3).

وإذا كان أبرز مصاديق الأسماء هو النبي (ص) فبقية الكلمات والآيات هم أهل بيته


1- مناقب ابن المغازلي، ص 63؛ وعنه: ينابيع المودة، ج 1، ص 2٨٨؛ تفسير الدر المنثور، ج 1، صص 6٠ و61 ذيل الآية عن ابن النجار.
2- ينابيع المودة، القندوزي الحنفي، ج 1، باب الرابع والعشرون في تفسير قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى» .
3- المستدرك، ج 2، صص 671 و 672.

ص: 143

عليهم أفضل السلام بقرينة الروايات الواردة والآيات القرآنية المقرنة أهل البيت بالنبي (ص) ، ولا سيما أن العقائد الإسلامية ليست خاصة ببعثة النبي (ص) بل بُعث به كافة الأنبياء والرُسل.

والميثاق الذي تحمله آدم وآمن به ونال بواسطته مقام الخلافة هو الولاية للنبي الأكرم (ص) وأهل البيت عليهم السلام، وهو شرط لنيل المقامات العظيمة عند الله تعالى كالنبوة والرسالة.

وبذلك كل ما هو داخل في دائرة الدين يكون من الميثاق الذي أُخذ على الأنبياء الإيمان به ونصرته والتسليم له، ومن الدين ولاية أهل البيت عليهم السلام بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً» (1)حيث نصّت روايات الفريقين على أن هذا المقطع من الآية المباركة نزل عند تنصيب الله عزوجل أميرالمؤمنين عليه السلام لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول (ص) وذلك في واقعة غدير خم (2)وبهذا تكون الإمامة والولاية داخلة في منطق الدين وليست داخلة في فروع الشريعة، بل هي تتلو أصل النبوة، والذي كُمل به الدين أمر بنيوي ومحوري.

ومن ثم كان (الدين) عبارة عن ولاية الله وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (3).

والولاية والطاعة أصالة لله وبالتبع للنبي وأولي الأمر بإذن وأمر الله تعالى، كما أخضع الله عز وجل ملائكته ومن خلق من الجن وغيرهم لولي الله وخليفته آدم.

إذن الولاية والخلافة بعد رسول الله (ص) من الدين الذي بُعث به جميع الأنبياء، وهم مخاطبون بآيات الولاية والقربى والمودة عند رجوعهم للنصرة، ومأمورون بطاعة أولي الأمر والمودة للقربى والتوجه بهم إلى الله تعالى.


1- المائدة: 3.
2- كتاب الغدير، الإميني، ج1 - 11، وشرح إحقاق الحق، ج5، الحديث الثالث والستون، حيث تتبعا الروايات في هذا المجال.
3- المائدة: 55و 56.

ص: 144

فعيسى عليه السلام عند نزوله من السماء يعمل بالقرآن الكريم ويشمله الخطاب في قوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» ويصلي خلف ولي الله الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ويشمله خطاب آيات الفيء والخمس، كما في قوله تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» (1).

فإن الآية المباركة تبين أن أولياء الخمس الذين لهم حق التصرف والولاية على ضريبة اقتصاد الدولة الإسلامية هم الله تعالى ورسوله وذوي القربى، بقرينة الاشتراك ب-(اللام) الدالة على ملكية التصرف في أموال الدولة الإسلامية، وأما اليتامى والمساكين وابن السبيل فهم موارد مصرف الخمس؛ ولذا تغير التعبير فيهم بحذف اللام.

فعلى الأنبياء نصرةُ ولي الله والإيمان بذات الرسول (ص) ، لأنها من المواثيق والعهود الذي أخذه الله على أنبيائه، وتسليمهم بما أنزل إليهم مظهراً تاماً من مظاهر العبودية لله سبحانه وتعالى فعن أبي عبد الله عليه السلام عن رسول الله (ص) قال: «وعلى ذلك أخذت ميثاق الخلائق ومواثيق أنبيائي ورسلي، أخذت مواثيقهم لي بالربوبية، ولك يا محمد بالنبوة، ولعلي بن أبي طالب بالولاية. . .» (2)وهذا يعني بأن ولاية علي عليه السلام بُعث بها جميع الأنبياء والرُسل.

كذلك بنفس البيان مفاد ما ورد في قوله تعالى: «مَا أَفَاء اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ» (3)والفيء هو ثروات كل الأرض، فلإقامة العدالة المالية والاقتصادية على الأرض لابد أن تدار الأموال العامة التي ترجع إلى بلاد الإسلام بولاية الله ورسوله وذوي القربى، وهم قربى الرسول الأكرم الذين جعلت مودتهم أجراً وعدلاً لما جاء به النبي الأكرم من الدين الحنيف، وذلك في قوله تعالى: «قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (4).


1- الأنفال: 41.
2- بحارالانوار، ج15، ص 1٨.
3- الحشر: 7.
4- الشورى: 23.

ص: 145

فمودة ذوي القربى أمر عظيم إذا سَلِم سَلمت بقية أصول الدين كما يشير إلى ذلك تقابل المعادلة في الآية أي العدلية بين المودة وكل الدين الحنيف، ولا يوجد قربى للنبي الأكرم (ص) بهذا الشأن الخطير سوى المعصومين من أهل بيته، فولايتهم عاصمة من الضلال وهي ركن ركين في الدين الذي بُعث به الأنبياء كافة.

كما تقدم في الأبحاث السابقة بأن الولاية دين الله الذي بالتسليم به استحق الأنبياء مقام النبوة كل بحسب ما بلغه من درجة التسليم، فإن للولاية والتسليم درجات وبحسب درجة التسليم لكل نبي يعطى ذلك النبي مقام الحظوة عندالله تعالى ويستحق مقام النبوة، وإذا ازدادت درجة التسليم كان ذلك النبي من أولي العزم، فتفضيل الأنبياء الوارد في قوله تعالى: «َلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ» (1)، كذلك تفضيل الرسل، كما في قوله تعالى: «تِلكَ الرُسلُ فَضلْنا بَعضَهُم علَى بَعضٍ منهُم مَنْ كَلّمَ اللهُ وَرَفعَ بَعْضهُم دَرَجاتٍ» (2)، كل ذلك التفضيل بحسب درجة التسليم والتولي لدين الله عز وجل، وذلك بعد الولاية لله تعالى بالولاية للنبي الأكرم (ص) وأهل بيته، فالتسليم للنبي وأهل بيته والإيمان بولايتهم نوع توجه قلبي إلى الله عز وجل بهم، وهو شرط لنيل المقامات العظيمة عند الله تعالى كالنبوة والرسالة، فضلاً عن غيرها من العبادات وقبول التوبة واستدرار الأرزاق الإلهية.

والمسؤوليات التي وضعها الله على عاتق الأنبياء هي عبارة عن اختبار من قِبله سبحانه وتعالى، وهذا المقام العظيم لا يناله إلا الطاهرون والمعصومون من ذريته لكي يمنحه الله الوسام الكبير: «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» (3)من ثم لم يُبعث نبي من الأنبياء إلا بعد أن آمن وسلم بالدين الذي هو ولاية النبي (ص) وولاية أهل بيته ومن ثم كان التعبير في الآية بالكلمات وهي التي يصدق بها كما ورد في شأن مريم «وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» أي آمنت


1- الإسراء: 55.
2- البقرة: 253.
3- البقرة: 124.

ص: 146

بها واطلقت الكلمة على حجج الله تعالى من البشر كالنبي عيسى عليه السلام فلا محالة تلك الكلمات التي امتحن بها النبي إبراهيم عليه السلام من الحجج هم أفضل مقاماً من إبراهيم وعيسى وهو سيد الأنبياء (ص) وعترته عليهم السلام والإمامة في ذرية إبراهيم أبرزهم سيد الأنبياء ثم عترته المطهرين فأشير إليهم في الآية «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي» .

قال تعالى: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً» (1)فولاية الله وولاية الرسول وأولى الأمر والتسليم لهم فيها درجات، لكل نبي يعطى ذلك المقام على قدر درجة التسليم.

قال أبو عبدالله عليه السلام «عليكم بالتسليم» . (2)

وفيه بإسناد صحيح عنه عليه السلام قال: «إنما كلف الناس ثلاثة: معرفة الأئمة، والتسليم لهم فيما ورد عليهم، والرد إليهم فيما اختلفوا فيه» . (3)

فنقول بأن «التسليم» هو عبارة عن زيادة الخضوع القلبي الباطني، فإذا كان كذلك تتحقق العبادة الخالصة لله سبحانه وتعالى وحده من دون استكبار النفس، وبهذه المرتبة الإيمانية تصح بها الأعمال العبادية، وُتفَتحُ بها أبواب السماء كما يشير إليه قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» (4)فلا بد في الامتثال لأوامر الله من التوجه بالنبي وأهل بيته الطاهرين والتمسك بولايتهم.

التسليم زيارة ٌ للنبي (ص)

قد اتفقت أيضاً كلمة جمهور مذاهب المسلمين على رجحان التسليم على النبي (ص) بلفظ: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» وذلك قبل التسليم المُخرج من الصلاة، أي أن التسليم على النبي (ص) يأتي به المصلي ولما يخرج بعد من الصلاة.


1- النساء: 65.
2- الكافي، ج 1، ص 3٩٠.
3- المصدر نفسه.
4- الأعراف: 4٠.

ص: 147

ومؤدى هذا التسليم من المصلي وهو في صلاته أنه زيارة من المصلي إلى النبي (ص) من كل الأُمة، من كل مؤمن ومسلم، في اليوم خمس مرات، بل في كل صلاة يأتي بها، كما أن هذه الزيارة والتسليم للنبي ينطوي على مخاطبة النبي ب-(كاف) الخطاب، كما ينطوي على نداء النبي ومخاطبته (ص) ب-(ياء) النداء القريب: «أيها» .

وهذا كله من التسليم والزيارة للنبي (ص) ومخاطبته بالنداء القريب والمصلي في صلاته ونجواه لربه وخطابه مع بارئه، ففي محضر الوفادة الربانية والضيافة الإلهية يتوجه المصلي بالالتفات لنبيه؛ إذ هو باب الله الأعظم، فكما بدأ صلاته بالإقرار بالرسالة للنبي (ص) بعد الإقرار بالتوحيد في الأذان والإقامة وتوجه به في بدو الصلاة، عاود وتوجه إليه وبه إلى الله، فهذه الصلاة التي هي عمود الدين ومعراج المؤمن إلى ربه ونجواه مع خالقه يزدلف إلى ربه بالولاية لنبيه والتعظيم له وتوقيره.

قال تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (1).

حبط الأعمال وقبولها

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» (2).

فهذه الآية الشريفة تبين بأن الخضوع للنبي (ص) والإقبال عليه والتوجه إليه وتوقيره


1- الأعراف: 157.
2- الحجرات: 2 - 4.

ص: 148

وتعظيمه وحفظ الأدب في حضرته سبب وواسطة في قبول الأعمال، وأن رفع الصوت فوق صوته (ص) والجهر له بالقول من سوء الأدب وقلة الاحترام والتوقير الموجب لحبط الأعمال؛ وذلك لأن الخضوع للنبي (ص) تعظيم له بما هو آية كبرى من آيات الله عز وجل وشعيرة من شعائره ومعلماً من أعلام دينه، كما في قوله تعالى «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» (1).

وفي ذلك دلالة واضحة على عظمة الرسول الأكرم (ص) وبأنه أكرم الخلق على الله سبحانه وتعالى، فهذا المقام والتقديس من الباري هداية منه تعالى إلى بابه الذي منه يُؤتى، والصدّ عن هذا الباب الأعظم وعن الالتجاء إليه من صفات المنافقين قال تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ» (2).

الحاصل: تبين مما مر أن التصديق بالآيات و «الكلمات» والتوجه والخضوع لها عبارة عن التسليم لولايتهم والانقياد والتعظيم لهم سلام الله عليهم، وقد تقدم أن الكلمات التي تلقاها آدم من نصوص الفريقين منها اسم النبي (ص) .

ومقتضى التعبير أن هناك أسماء أُخرى توجه بها آدم ليتوب الله بها عليه، كذلك في الكلمات التي امتحن بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة، الامتحان كان بكلمات، لا بكلمة واحدة، وأن هناك جناس في لفظ «الكلمات» في قصة آدم وإبراهيم عليه السلام وأن أبرز تلك الكلمات هي اسم النبي (ص) كما في روايات الفريقين، فهناك أسماء مقرونة مع اسم النبي، وولايتها مقرونة بولاية النبي (ص) .

التكذيب بآيات الله تعالى موجب لحبط الأعمال

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» (3)هذه الآية المباركة تتعرض


1- الحج: 32.
2- المنافقون: 5.
3- الأعراف: 4٠.

ص: 149

لبعض الأحكام المترتبة على التكذيب بآيات الله تعالى.

والمقصود من الآيات هي الحجج الإلهية، حيث أطلق الله عز وجل لفظ الآية على مريم وعيسى عليهما السلام «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» (1)، وإذا كان عيسى عليه السلام لم ينل ما ناله إلا بولايته وإقراره وإيمانه بسيد الأنبياء فكيف بنفس النبي الأكرم (ص) ، فهو أعظم آية لله تعالى؟ وإذا كان عيسى عليه السلام من وزراء الإمام المهدي عليه السلام وتابعاً له في دولته، فكيف لا يكون أهل البيت عليهم السلام من أعظم آيات الله تعالى؟ خصوصاً وأن الله تعالى قرن بالنبي الأكرم (ص) أهل بيته عليهم السلام في الطهارة والعصمة والحجية والولاية وغيرها من المقامات التي تقدم التعرض لها آنفاً، فلا شك أن النبي الأكرم (ص) وأهل بيته عليهم السلام المصداق البارز للآية التي نحن بصدد بيانها، فهم عليهم السلام أوضح وأبرز وأعظم آيات الله تعالى.

والذين يكذبون بآيات الله تعالى ويصدون ويستكبرون عنها - كما فعل إبليس مع آدم عليه السلام - لا تفتح لهم أبواب السماء، فلكي تفتح أبواب السماء لقبول الأعمال والعبادات والعقائد وجميع المقامات، وقد قال تعالى:

«إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» (2) والكلم الطيب هو العقيدة، فبينت الآية أن الإيمان و العقيدة لابد له أن يصعد في مسير قبوله عندالله تعالى، والصعود إلى السماء لابد أن تفتح له أبواب السماء، وقد بينت الآية السابقة أن مفتاح أبواب السماء هو كل من التصديق بالآيات الإلهية والخضوع لها واللجوء إليها وعدم الصدّ عنها، ومن أجل الرقي والعروج إلى السماء لابد من التوجه إلى آيات الله تعالى واللجوء إليها والتصديق بها وعدم الصدّ عنها، فالآية صريحة في أن التوبة والعبادة وأي قربى أو زلفى إلى الله عز وجل تفتقر إلى تفتح أبواب السماء وأنها لا تفتح أبداً مع الاستكبار على الآيات الإلهية، فليس الإيمان بآيات الله فحسب كافٍ في قبول العبادات ورقي المقامات، بل لابد من المودة والصلة والإقبال والتوجه إلى الآيات والتوسل بها إلى الله، وعدم الصدّ والإعراض والاستكبار عنها، لأن


1- المؤمنون: 5٠.
2- فاطر: 1٠.

ص: 150

الآية جعلت شرطين لفتح أبواب السماء ولدخول الجنة:

الأول: عدم التكذيب، أي التصديق والإيمان والمعرفة بآيات الله الحجج.

والثاني: عدم الاستكبار عنها، وهذا الأمر يتضمن شيئين:

أحدهما: عدم الاستكبار أي الخضوع والتواضع، وثانيتهما: عدم الصدّ الذي قد ضُمن في فعل الاستكبار بقرينة (عن) ، نظير ما ذكرته الآيات في سبب كفر إبليس «أَبى وَ اسْتَكْبَرَ» فالإباء هو الجحود مقابل التصديق، والاستكبار مقابل الخضوع والاتباع.

ونظير ذلك ما ورد في سورة المنافقين في قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ» (1).

وهذه الآية الكريمة صريحة في أن الاستغفار وقبول التوبة متوقف على المجيء إلى النبي (ص) ، وأن صفة المنافق الصد عن الآيات الإلهية والاستكبار عليها والابتعاد عنها وعدم اللجوء واللواذ إليها، وهذا نوع من التشاهد بين الآيات القرآنية، فالآية تدل على أن الأوبة إلى الله تعالى والقرب إليه لابد فيه من التوجه أولاً إلى الحضرة النبوية والتوسل والاستشفاع بالنبي (ص) ثم شفاعته.

فالتوسل خيار حصري لابدي شرطي منحصر بالمجيء واللجوء إلى الحضرة النبوية واللواذ بها والاستغاثة به (ص) ، ثم إبداء التوبة والاستغفار وإمضاء النبي (ص) له باستغفاره وشفاعته لهم من أجل تحقق التوبة ومقام المغفرة وقبول العبادة التي منها عبادة التوبة

ونظير هذه الآيات أيضاً قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (2).

ومن الشواهد أيضاً على أن المراد من الآيات هنا هم الأنبياء والخلفاء الأوصياء الحجج هو التعبير ب- «كَذَّبُواْ» فإنه مقابل التصديق فيما يزعمون من مناصب وفيما لهم من دعوى، وأما الآية الكونية فليس فيها تكذيب أو تصديق، بل إنما يقع الغفلة والإعراض عنها؛ إذ لا


1- المنافقون: 5.
2- الأعراف: 36.

ص: 151

يوجد فيها زعم أو دعوى معينة كي يصدق في حقها التصديق أو التكذيب، فالتصديق أو التكذيب إنما يكون للحجج الإلهية التي تدعي مقاماً إلهياً وكذا فيما تبلغه عن الله تعالى، فالمراد بالآية والآيات في المقام الحجج الإلهية من الأنبياء والرسل والأصفياء والأوصياء، الذين أُسندت إليهم المقامات الإلهية.

والحاصل: إن هذه الآيات المباركة تبين أن مفتاح أبواب سماء الحضرة الربوبية هو الإقرار بالحجج والآيات و التوجه إليها والتوسل والتشبث بها والإنقطاع إليها لا عنها، وأبرز وأعظم تلك الآيات النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام، فهم مفاتيح أبواب السماء في قبول وصعود التوبة والعبادة والمعرفة والإيمان والعقيدة ونيل المقامات، فلا ترتفع أي عبادة ولا ينال مقام ولا تتحقق التوبة مع عدم التصديق بالآيات وصلتها ومودتها والتوجه إليها والتوسل بها، والإعراض عنها يوجب حبط الأعمال وامتناع دخولهم الجنة في الآخرة كما في قوله تعالى: «ولاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» (1)، ويضيف تعالى للمزيد من التأكيد قائلاً «وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» ، فشرط النجاة يوم القيامة هو الارتباط بالآيات الإلهية والانتماء إليها والتوسل بها، لكونها قنوات غيبية توجب القرب إلى الله تعالى.

فالتوجه إليهم عليهم السلام شرط في تفتح الأبواب لقبول وصحة الإيمان والتوبة وقبول الأعمال وسائر المقامات.

التوجه إلى خليفة الله لنيل المقامات وقبول الطاعات في جميع النشآت

القرآن الكريم يحكي لنا في آيات عديدة كيفية خلق آدم عليه السلام وأمر الملائكة بالسجود له، وهذه الآيات التي تحمل معانٍ عظيمة تختص بمقام الإمامة والخلافة، ومن المعلوم إن الأمر بسجود الملائكة وخضوعها وانقيادها ليس خاصاً بآدم عليه السلام، لأنها معادلة دائمة في عالم الخلقة لكل من يتحلى بمقام الخلافة الإلهية، فمن يتحلى بهذا المقام يطوع الله عز وجل له الملائكة


1- الأعراف: 4٠.

ص: 152

ويدينون بأجمعهم لله تعالى بطاعته بما فيهم كبار الملائكة المقربين، وهم في كل ما يقومون به من أدوار عظيمة في عالم الإمكان والكون خاضعون لولي الله، وهو خضوع حقيقي قائم على أساس العلو الرتبي التكويني لخليفة الله تعالى.

قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ» (1)حيث عَبر الباري تعالى «فَقَعُواْ» ولم يكتف بذكر مادة السجود بل عبر بالوقوع الفوري، وهذا فيه نوع من التشديد والتأكيد لمعنى الخضوع والتعظيم الخاص بشؤون الخليفة.

فإذا كل خليفة لله هو الباب الأعظم لملائكته، وحينئذٍ يكون الأمر بالسجود والخضوع للخليفة شامل للأنبياء، وخصوصاً أولي العزم منهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى والرسول الأكرم (ص) وأوصيائه عليهم السلام، فالملائكة المقربون وغيرهم بابهم إلى الله تعالى خليفة الله الذي يُنبئهم بالأسماء والمقامات.

كما عقب الباري تعالى بعد هذه الآية بقوله «فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» (2)على أن الأمر بالسجود كان لجميع الملائكة ولم يكتف بدلالة الجمع المحلى بأل «الْمَلآئِكَةُ» بل أردف بالتأكيد ب- «أَجْمَعُونَ» و «كُلُّهُمْ» للدلالة على الاستغراق، وبذلك شامل لجبرئيل واسرافيل وميكائيل عليهم أفضل الصلاة والسلام الذين لهم دورٌ في شؤون الخلقة والوحي النبوي.

ففي عالم الغيب الذي هو خال عن نشأة التشريع الأرضي، وليس خالٍ عن الدين الإلهي، كما قال تعالى: «وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» (3)، افتقرت الملائكة إلى أن يكون بينهم وبين الله تعالى واسطة في الخضوع والإنباء والمعرفة والعبادة والتقرب إلى الله تعالى، وهذه الواسطة هو خليفة الله آدم عليه السلام ووليه حيث أمرهم الله التوجه إليه والخضوع له، وهو شرط أوبتهم وقبول عبادتهم وحظوتهم بالمقامات العالية، فما بالك بالنشآت الأخرى؟


1- الحجر: 2٨و 2٩.
2- الحجر: 3٠.
3- آل عمران: ٨3.

ص: 153

وإذا كان أبو البشر نبي الملائكة وقناة الإنباء والفيوضات العلمية وغيرها عليهم من الله تعالى، وهو وليهم وهم طائعون له لا يتمردون عليه ولا ينبغي لهم ذلك، فكيف بسيد البشر؟ «ألا تكون الملائكة منقادة وطائعة له؟» .

ومن هنا تكون الملائكة مشمولة بقوله: «أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ» (1)من غير اختصاص بالنشأة الأرضية، وهذا لوحدة الدين وشموله لجميع المخلوقات.

فالخليفة نبي الملائكة وله مقام إنبائهم وتعليمهم؛ لأنه مزود بالعلم اللدني الأسمائي، فهو نبي المعارف وإن لم يكن نبي شريعة للناس في الأرض.

فإن السجود لآدم هو تعبير عن الهداية الإيصالية والمتابعة العملية التي بدونها لا يحصل لهم أي كمال، وهذا الانقياد لم يكن لمجرد مخلوق بل إنما هو لمقام الخلافة الذي جعله الله تعالى لآدم فلازم مقام الخلافة عندالله هو متابعة وانقياد الملائكة والجن (بناء على المشهور ان إبليس من الجن) وهذا هو مفاد الإمامة وهي المتابعة العملية والعلمية والهداية الإرائية والإيصالية، ويثبت بذلك أن شؤون الإمامة ليست للناس فقط وإنما هي تشمل الملائكة والجن.

وبهذا نعلم بأن لآدم عليه أفضل الصلاة والسلام الولاية التكوينية على الملائكة، وتكون شؤون الملائكة كلها تحت يده وفي تصرفه.

النتيجة

إن الخلافة ليست محدودة في الأرض وغير مقيدة بهذه النشأة وإن كان المستخلف ذي بدن وسنخه أرضياً، كما أن ولاية النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وأهل بيته الطاهرين أُخذت على جميع الملائكة وسائر الكائنات، وذلك لكونها من الدين غير الخاص بنشأة من النشآت.


1- النساء: 5٩.

ص: 154

إذن فنبوة خاتم الأنبياء وولاية سيد الأوصياء لا تختص بالموجودات الأرضية، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة لم تؤخذ على أهل هذه الدنيا فحسب، لأن الإنباء ونيل الفيوضات عموماً يحتاج إلى وجود خليفة الله ولابد من التوجه إليه لنيل المقامات وقبول الطاعات في جميع النشآت؛ لأنه واسطة الله وسفيره بينه وبين خلقه في كل المقامات العلمية والتكوينية.

تأبيد رسالة الرسول (ص) ووساطته في الوحي الإلهي لجميع النشآت

فمفاد الشهادة الثانية والثالثة إقرار بالواسطة الأبدية غير الخاصة بالنشأة الأرضية، وهذه هي تداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية والثالثة، التي لايتم التوحيد بدونها، ومن دونها لا يتحقق قرب المخلوق إلى ربه، ذلك المخلوق البعيد عن المقامات الربوبية وعظمة الصفات الإلهية.

والخليفة كما ذكرنا له مقام الإخبار والتعليم، في سائر النشآت وليس هو نبي الشريعة للناس في الأرض بل معلم إلهي للمعارف وسفير الله بينه وبين خلقه ولا يمكن الاستغناء عن هذا الوسيط الإلهي بالنشأة الأرضية كما أعتقد قائلهم: «لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله» (1).

وفسر البعض هذا القول بأنه أراد التخفيف عنه (ص) حين غلبه الوجع، لكن الهدف الحقيقي وراء ذلك محو آثار وأحاديث النبي (ص) وبرر هذا الهدف بقوله: «إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتاباً، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله! ! وإني والله لا أشوب - وفي رواية لا ألبس - كتاب الله بشيء» (2)ثم قال: «أمنية كأمنية أهل الكتاب رأي حتى لاينشغل الناس بالسنة عن القرآن» (3)وهذا لعدم المعرفه بمقام النبي الأعظم (ص) وأهل بيته.

وذكرنا في الأبحاث السابقة بأن مؤدى الشهادة الثانية ومقتضياتها مفقودة عند هذه الفئة تحت ذريعة أنها تدل على التوسل والتوسط والتوسل بغير الله شرط وإلحاد.


1- شرح النهج البلاغه، ج11، فصل فيما وضع الشيعة والبكرية من الأحاديث؛ الغدير، ج 5، ص 341.
2- كنز العمال، ج1٠، ص 2٩2؛ تدوين القرآن، ص 371.
3- تقيد العلم، ص 53؛ الأحكام، ابن حزم، ج 1، ص 15٩.

ص: 155

والذين يكذبون بآيات الله تعالى وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها كما فعل إبليس لا تفتح لهم أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا الله أو يتقربوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم قال تعالى: «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً» (1).

فالآيات القرآنية صريحة بأن البشر لا يمكنهم أن يتقربوا إلى الباري أو يوحى إليهم بصورة مستقلة من دون الواسطة الربانية قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» (2)فالنبي وأهل بيته سفراء الله قبل الخلق وبعد الخلق، فالملائكة محتاجة إلى واسطة علمية بينها وبين الله وإن كانت من عالم السماوات والغيب والدلائل كثيرة في ذلك.

وقد نُقِح في المباحث العقلية بأن الموجود الإنساني حقيقته ليست جهته البدنية التي يحيى بها على هذه الأرض بل إن له مدى أعمق من ذلك، وأن وراء تلك الحقيقة البدنية الأرضية حقيقة بعيدة عن عالم البدن هي الروح التي تكون سابقة على الوجود الأرضي مخلوقة قبل خلق البدن، فلذلك نحتاج إلى ولي يتوجه به إلى الله تعالى ووسيط يخبرنا عن الله، ومن يأبى ذلك يحصل له العتو والاستكبار في نفسه والتعظيم لها، مع أن نفسه صغيرة فقيرة بعيدة عن ساحة عظمة الصفات الإلهية قال تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً» (3).

الخلاصة

نستفيد من آيات السجود لآدم بأن مؤدى رسالة الرسول (ص) ومقتضياتها مرتبطة بالمعارف الدينية الأبدية الشاملة للملائكة والجن والإنس والبرزخ والجنة والنار والآخرة، فضلاً عن النشأة الأرضية، كذلك الوساطة والشهادة الثانية والثالثة شاملة لعالم العقول والأرواح، ولذا نجد أن مجرى الفيض في تكامل عقول علماء هذه الأمة ومستوياتها العلمية


1- المدثر: 52.
2- الشورى: 51.
3- الفرقان: 21.

ص: 156

في الدين هو النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام، حيث تم بجهودهم المباركة تشييد المعارف الصحيحة ورفض الجبر والتفويض والتجسيم والتشبيه والتعطيل وغيرها من العقائد الفاسدة، فهم عليهم السلام وسائط الفيض وسفراء الأرواح والعقول.

وهذا بيان عقلي لمعطيات الشهادة الثانية والشهادة الثالثة يُضاف إلى البيانات السابقة المعتمدة على الآيات القرآنية المباركة.

فنشير إلى القاعدة التي نحن فيها ونقول: بأن التوجه والتقرب في المقامات الثلاثة المذكورة تعم جميع الأنبياء والرسل وكل المخلوقات من الملائكة وغيرها.

أهل الكهف آياتٌ للعالمين

حيث بني على قبورهم وعندها مسجداً تقام فيه الصلاة والعبادة لله تعالى.

قال تعالى: «كَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم برِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» (1).

الآية المباركة تشير إلى قصة أصحاب الكهف الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد فقال لنبيه (ص) : «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً» لوجود آيات عديدة أكثر عجباً هي موجودة في السماوات والأرض، والمعاجز التي تتعلق بالنبي الأكرم لهي خيرُ مثالٍ في ذلك.

ذكر المفسرون: أن أصحاب الكهف لما بعثوا بأحدهم إلى المدينة بورقهم لجلب الطعام عثر عليهم أهل المدينة وعلموا بأمرهم جاؤوا إلى الكهف، فلما دخل الذي هو من أصحاب الكهف دعا الله تعالى مع أصحابه أن يميتهم لئلا يكونوا فتنة للناس، فأماتهم الله تعالى، وخفي على أهل المدينة مدخل الكهف، فلم يهتدوا إليه (2).


1- الكهف: 1٩.
2- لاحظ التبيان، الشيخ الطوسي، ج 7، ص26؛ جامع البيان، الطبري، ج 15، ص 2٨1.

ص: 157

حيث دلت الروايات بأنه كان لهم في ذلك الزمان ملك يقال له: دقيانوس، يعبد الأصنام فبلغه عن الفتية خلافهم إياه في دينه، فطلبهم فهربوا منه حتى انتهوا إلى الكهف (1)فأرقدهم قروناً ثم ابتعثهم من رقدتهم بعد ما رفع المسيح، في فترة بينه وبين النبي الأكرم (ص) ، حيث تعرض المسيحيون في زمانه إلى تعذيب شديد.

وقد أيقظهم الله عز وجل بعد هذه الإنامة الطويلة لكي يرسخ الباري عقيدة المعاد في قلوب المؤمنين التي تقوم على أساس عودة الناس إلى الحياة مرة أخرى عند البعث.

إحياء الله الموتى بعد مماتهم

قال الأندلسي في تفسيره لهذه الآية:

«وكما أنمناهم تلك النومة، كذلك بعثناهم: إذكاراً بقدرته على الإماتة والبعث جميعاً، ليسأل بعضهم بعضاً ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله، ويزدادوا يقينا ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به» (2).

فالذي انتدب منهم ليحضر الطعام الحلال هو رئيسهم تمليخا المخول بهذا الأمر، وهو أحدُ وزراء (دقيانوس) الذي أنكر عبادة الأصنام وأزال الشك عن قلوب الفتية وألبسهم ثوب التوحيد وأعلن للناس جهراً عبادته لله الواحد القهار ليعلنها ثورة باعتزالهم ورفضهم دين الشرك والظلم والحصول على محيط أكثر استعدادٍ لغرس التوحيد حيث اختار الله لهم حياة أخرى ومكان آخر قال تعالى: «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِنْ أَمْرِكُم مِرْفَقاً» (3).

وبعد أن استيقظوا من نومهم توهم لهم إنما باتوا ليلة واحدة أو بعض يوم وأحسوا بالجوع والعطش قال تعالى: «فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً» قال ابن عباس أحلّ ذبيحةً؛ لأن أهل


1- تاريخ الطبري، ج 1، ص 373.
2- تفسير البحر المحيط، الأندلسي، ج 6، ص 1٠6.
3- الكهف: 16.

ص: 158

بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم (1)وطلبهم لطيب الطعام دلالة على اهتمامهم بمأكلهم ومشربهم والتجنب عن النجاسات المعنوية فضلاً عن النجاسات والقذرات الظاهرية التي نحرص اليوم على تجنبها، فإن الأكل المشبوه والحرام له تأثيرٌ عظيمٌ على صفاء النفس والإقبال على الباري تعالى واستجابة الدعاء، فبعد دخولهم في مرحلةٍ أخرى وصفحات أخرى تتعلق بعوالم نورانية لابد من تهيئة المقدمات الكثيرة تؤهلهم لهذا المقام والمنزلة العظيمة.

البعث والمعاد الجسماني

ذكر الطبري في تاريخه: (كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتفردوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوْا إلى الكهف، فضرب الله على سُمْخانهم. فلبثوا دهراً طويلاً، حتى هلكت أُمتهم، وجاءتْ أمةٌ مسلمة، وكان ملِكهم مسلماً، واختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: تبعث الروح والجسد جميعاً، وقال قائل: تُبعث الروح، وأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئاً، فشق على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المُسوح، وجلس على الرماد، ثم دعا الله عز وجل، فقال: يارب، قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم ما يبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف) (2).

قال تعالى: «وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَسْجِداً» (3)لاشك بأن هذه الحادثة كانت آية من آيات الله سبحانه وتعالى، التي بينت لهم بأن البعث بعد الموت يوم القيامة حق لا ريب فيه وأن الله يبعث من في القبور ويحي العظام وهي رميم كما حصل مع عزير الذي أحياه الله بعد مائة عام قال تعالى: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ»


1- تفسير القرطبي، ج1٠، ص 375 قوله تعالى: «وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ» .
2- ذكر الخبر عن أصحاب الكهف، ج 1، ص 457.
3- الكهف: 21.

ص: 159

« ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شيْءِ قديرٌ» (1) .

وروي أن ابن الكوا قال لعلي عليه السلام: (يا أمير المؤمنين ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا؟ قال: نعم أولئك ولد عزير حيث مر على قرية خربة، وقد جاء من ضيعة له تحته حمار ومعه شنة (2)فيها تين (3)وكوز فيه عصير فمر على قرية خربة فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام فتوالد ولده وتناسلوا ثم بعث الله إليه فأحياه في المولد الذي أماته فيه فأولئك ولده أكبر من أبيهم (4)وقوله «أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا» لم يكن هذا القول منه إنكاراً للبعث، لكن أحب أن يرى كيف يحيي الله الموتى فيزداد بصيرة في إيمانه، فنام على تلك الحالة.

فما ذُكر في آية الكهف في البعث بعد الممات يأتي هنا لتعريف المنكرين قدرة الله عز وجل على إحياء خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه بيده الحياة والموت وإنه على كل شيء قدير.

وجاء في كتاب الاحتجاج عن الصادق عليه السلام في حديث؛

قد رجع إلى الدنيا ممن مات خلق كثير منهم اصحاب الكهف أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ليقطع حجّتهم وليريهم قدرته وليعلموا أن البعث حقّ «إِذْ يَتَنَازَعُونَ» أعثرنا عليهم حين يتنازعون «بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ» أمر دينهم وكان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة وبعضهم يقول تبعثان معاً ليرتفع الخلاف ويتبيّن أنهما تبعثان معاً (5).


1- البقرة: 25٩.
2- الشنة: القربة الخلق.
3- وفي نسختي البحار والبرهان «قتر» وهو مصحف.
4- تفسير العياشي، ج 1، ص 141، قوله تعالى «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» ؛ بحارالانوار، ج14، ص374.
5- الاحتجاج، ج 2، ص ٨٨.

ص: 160

فهذا الاطلاع والعثور لم يزد على سويعات ليستعلم الناس حالهم واستخبارهم عن قصتهم وإخبارهم بها، فتبين للقوم الحقيقة الثابتة لدى المؤمنين الذين يؤمنون ببعث الروح والجسد معاً في يوم القيامة فيثيب المطيعين ويعذب العاصين، فالمعاد الجسماني هو إعادة كيان الإنسان في يوم البعث ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الأولى بعد أن يصبح رميماً.

والظاهر بأن الشكوك التي تثار في المعاد الجسماني تعود إلى قصور الإنسان عن إدراك هذه الأمور الغائبة والخارجة عن محيط وجودنا لأنها تتعلق بالخلق النوراني اللطيف وذلك فوق مستوانا الأرضي الكثيف قال تعالى: «أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» (1)لاشك بأن المشككين والمنكرين لهذه العقيدة لن يؤمنوا بهذه الحقيقة الثابتة حتى بعد أن ظهر لهم هذه الآيات العظيمة في أهل الكهف وهذا ما عليه هذه الشرذمة الضالة في زماننا.

وقد حكى ابن كثير عن ابن جرير في المتنازعين والقائلين ذلك قولين: أحدهما إنهم المسلمون منهم. والثاني: أهل الشرك منهم (2).

قال ابن عباس: تنازعوا في البنيان والمسجد، قال المسلمون: نبني عليهم مسجداً، لأنهم على ديننا وقال المشركون: نبني عليهم بنياناً؛ لأنهم من أهل سنتنا (3).

تنبه الشوكاني (4)إلى رواية عنهم عليهم السلام التي تلفت إلى عنوان المسجد يُشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل هم أهل السلطان والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأول أولى.

والظاهر بأن المتنازعين اتفقوا على تكريم الفتية الذين هجروا أوطانهم لنشر عقيدة التوحيد في البلاد ونبذ الوثنية، غاية الأمر اختلفوا في كيفية تكريمهم، فالذي قال بالبناء لجدار أراد طمس حقيقة البعث والمعاد كي يُسلبوا أنصار المعاد هذا الدليل القاطع، وأن تغلق فتحة الغار لكي يكون الكهف خافياً إلى الأبد، وتندرس معالم هذه الآثار «فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ»


1- القيامة: 3 و 4.
2- تفسير ابن كثير، ج3، ص ٨2.
3- تفسير الثعلبي، ج 6، ص 162.
4- فتح القدير، ج 3، ص277.

ص: 161

« بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ» أي اتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شيء واتركوا الحديث في قصتهم، وهذا الفكر يتناسب مع قول الذين لا يؤمنون بعقيدة البعث.

ونقول: بأن الآية في سياق المدح ولم تأت بذم عملهم وفعلهم، مما يشير إلى أنه من سنن الملة الإبراهيمية اتخاذ مسجد على قبور الصالحين، لذلك لم يصف القرآن الكريم ما فعلوه بأنه عبادة وثن، ولا سيما بأنه لو كان في شرع الله حرمة بناء المسجد على قبور الصالحين لأنه عين الوثنية كما تدعي هذه الشرذمة لنادى القرآن الكريم بأن هذا نقضٌ للغرض، لا سيما بأن الغرض من هذه الحادثة زيادة في الهداية للتوحيد بالله عز وجل لا للوثنية، وإلا كان فعل الله عز وجل خلافاً للمطلوب والعياذ بالله على مدعى هذه الفئة.

والروايات الواردة في تحريم القبور (1)لا يمكن الاغترار بظاهرها بل الواجب هو التدبر في حقيقة المراد منها وإن النهي لكون أصحاب القبور هم المشركون والمقابر في أول عهد الإسلام كانت قبوراً للمشركين من ذوي أرحام المسلمين، والذين يستدلون بتلك الأحاديث غرضهم هدم شعيرة الزيارة والتقرب إلى الله تعالى، لأنها مخالفة للأحاديث الواردة والسنة الشريفة عنه (ص) من قوله «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» (2)وكذلك عنه (ص) «من زار قبري وجبت له شفاعتي» أو «حلت له شفاعتي» وقوله «من زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي» (3)وكذلك في زيارة قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: استأذنت ربي ان استغفر لها فلم يأذن واستأذنت ربي أن أزورها فأذن لي (مع أنها غير مؤمنة كما يزعمون) وسوف نستدل لهذه الروايات في قول أدلة وجوب عمارة قبر النبي وأهل بيته.

وبذلك يظهر أن ما ذكره القرآن الكريم من ضمن المعالم والمآثر المشيدة لأصحاب الكهف أنهم بُني عليهم مسجداً، وأصبحوا علماً ورمزاً، وأن بناء المساجد على القبور إشادة


1- كرواية التي تقول: «لعن رسول الله (ص) اليهود واتخاذهم القبور مساجد بعد قتلهم للأنبياء الصالحين» .
2- من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج2، ص 56٨؛ مسند أبي سعيد الخدري، ج3، ص 64؛ صحيح البخاري، ج2، ص 57.
3- نيل الأوطار، الشوكاني، ج5، ص 17٩.

ص: 162

لصلاح الصالحين، وإشادة في الآيات التي صنعها الله في أصحاب الكهف.

فالذين قالوا: «إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً» أرادوا إطفاء هذا المعلم وهدم تلك الآية التي أعطاها الله لهؤلاء الفتية، وإلا البناء عليها إبقاء لتلك الآية وإبقاء لنورالله عز وجل، كما أن البناء على قبر النبي (ص) تخليد للدين وشريعة سيد المرسلين.

كما أن المقرر شرعاً ليس فقط قبر النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين بل بيان بأنها ركنٌ من معالم الدين، وأن طمس تلك المعلم طمسٌ للعقيدة قال الله تعالى «وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» (1)فيبقى هذا المقام خالداً من قِبل الله عز وجل لدى كل أتباع الديانات السماوية، واتخاذه مصلى يتقرب به إلى الله سبحانه.

وأن عمارة قبر النبي وأهل بيته بالبناء والزيارة هي شعائر يتقرب بها إلى الله وبأنها ركنٌ من معالم الدين وهذا بنفسه اعتقاد بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين (ص) .

تعظيم النبي (ص) بأنه من الشرك

في هذا البحث نستعرض نفثاتهم المسمومة التي ينادون بها باسم التوحيد، كقولهم بأن تعظيم النبي الأكرم من الشرك في حين أن القرآن الكريم عظم خاتم الأنبياء والمرسلين في سورٍ عديدة، فإن تعظيم النبي الأكرم من تعظيم الله عز وجل كما أن تعظيم خلقة الله تعظيمٌ لله إذ هي بيان لكون الخالق لهذه الخلقة عظيمٌ خلق الخلق على نظمٍ عظيم وصفة عظيمة، وتصغير خلقة الله هو تهوينٌ وتصغيرٌ لعظمة الله قال تعالى في تعظيم الله له (ص) : «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (2).

وقد ذكر صاحب البيان فيما يتعلق بتعظيم النبي (ص) بأنه التعظيم الذي ليس يقاربه تعظيم ولا يدانيه، فقال: «إِنَّ اللهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» معناه إن الله يصلي على النبي (ص) ويثني عليه بالثناء الجميل ويبجِّله بأعظم التبجيل وملائكته يصلّون عليه ويثنون عليه


1- البقرة: 125.
2- الأحزاب: 56.

ص: 163

بأحسن الثناء ويدعون له بأزكى الدعاء.

وجاء عن ابي حمزة الثمالي حدثني السدي وحميد بن سعد الأنصاري وبريد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: «اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» (1)وقد اجمع على هذا التفسير علماء الأمة قاطبة بلا استثناء.

لكن هذه الفئة استكبروا على ذلك ولم يسترشدوا بأهل البيت عليهم السلام وأخذوا بآرائهم الفاسدة القاصرة وقد قال تعالى: «الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (2).

وهذه التعبيرات الواردة هي موجودة حتى في بعضٍ شاذٍ من وسطنا الداخلي، حيث يعتقدون بأن الانشداد بشدة إلى أولياء الله هي صنمية والعياذ بالله، والحال بأن الانشداد إليهم انشداد إلى آيات الله العظمى وهم الطريق إلى الله.

وهذه الدعوة مغلفة بهذه التعابير الشيطانية هي الدعوة إلى الصد عنهم، والإهانة لآيات الله هو نوع من الاستهانة والهتك لنفس حرمة الذات الإلهية.

والقرآن الكريم يذكر لنا في سورة الأحزاب مقامات عظيمة للنبي (ص) هي فوق إدراك البشر قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ» (3)فإن رفع الصوت على صوت النبي (ص) موجب لحبط الأعمال على وجه الاستخفاف به (ص) ، لأن الخضوع للنبي (ص) تعظيم له بما هو آية كبرى من آيات الله عز وجل وشعيرة من شعائره ومعلماً من أعلام دينه، قال


1- بحارالأنوار، المجلسي، ج17، ص 1٩؛ مسند أحمد بن حنبل، ج1، ص 162؛ سنن النسائي، ج3، ص 4٨؛ المعجم، الطبراني، ج1٩، ص 123.
2- الأعراف: 36.
3- الحجرات: 1 و 2.

ص: 164

تعالى: «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» (1)وأما الذين لا يخضعون للنبي الأكرم (ص) ولا يحافظون على التزام الآداب في ساحة الحضرة النبوية، برفعهم الأصوات فوق صوته، والتعامل معه كأحدهم، فقد توعدهم الله تعالى بحبط أعمالهم؛ لأن ذلك يوجب الإعراض عن الآيات الإلهية.

وفي عمدة القاري: عن زيد بن أرقم قال: جاء ناس من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبينا نكن أسعد الناس، وإن يكن ملكاً نعش في جنابه، فجاؤوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد (2)، فأنزل الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» . «فهي نزلت على قومٍ من بني تيم لما قدموا على رسول الله (ص) وهم من أعراب اجلاف الذين لا يراعون الأدب والحشمة، فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمد اُخرج إلينا وقد تأذى النبي (ص) من هذا الأمر» .

وأما ما يتعلق بالآية الأولى من هذه السورة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (3)قال القرطبي في تفسيره: أي لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيلُه أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدّم قولَه أو فعله على الرسول (ص) فقد قدّمه على الله تعالى؛ لأن الرسول (ص) إنما يأمر عن أمر الله عز وجل (4).

ومن جملة الروايات التي ذكروها عن الواحدي من حديث ابن جريح قال: حدّثني ابن أبي مُليكة أن عبدالله بن الزبير أخبره: أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله (ص) ، فقال أبوبكر: أمرَ القَعْقاع بن مَعْبد. وقال عمر: أمرَ الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردتُ خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما؛ فنزل في ذلك: «يَا»


1- الحج: 32.
2- عمدة القاري، ج1٩، ص 1٨3.
3- الحجرات: 1 و 2.
4- تفسير القرطبي، ج 16، ص 3٠٠ تفسير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ» .

ص: 165

«أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ» - إلى قوله - «وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ» . رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح؛ ذكره المهدَوِيّ أيضاً (1).

وقد ذكر أحمد بن حنبل هذا الحديث بلفظ آخر عن ابن مليكة قال كاد الخيران أن يهلكا (2)والمقصود بهما (أبوبكر وعمر) حتى ارتفعت أصواتهما عند محضر النبي (ص) .

وكذا ما جاء في سنن الترمذي: قال حدثنا محمد بن مثنى أخبرنا مؤمل بن إسماعيل أخبرنا نافع بن عمر بن جميل الجمحي قال حدثنا ابن أبي مليكة قال «حدثني عبدالله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي (ص) قال: فقال أبو بكر يا رسول الله استعمله على قومه، فقال: عمر لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي (ص) حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبوبكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. قال فنزلت هذه الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» (3)قال: وكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي (ص) لم يسمع كلامه حتى يستفهمه (4).

ذكر المؤرخون في صلح الحديبية عندما بعثتْ قريش عروة بن مسعود الثقفي إلى رسول الله (ص) ، فكلمه رسول الله (ص) بنحو مما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأتِ يريد حرباً، فقام من عند رسول الله (ص) وقد رأى ما يصنع به أصحابه؛ لا يتوضأ إلا ابتدرُوا وضُوءهُ، ولا يبصقُ بصاقاً إلا ابتدروه، ولا يسقطُ من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إني قد جئتُ كسرى في مُلكه، وقيصر في مُلكه، والنجاشي في مُلكه، وإني والله ما رأيتُ ملِكاً في قومٍ قط مثل محمد في أصحابه؛ ولقد رأيتُ قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً، فَروا رَأيكمْ (5)وهذا ما كان عليه المؤمنون والحواريون من أصحابهِ في تعظيم النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام.


1- تفسير القرطبي، ج 16، ص 3٠٠؛ تفسير ابن كثير، ج 4، ص 22٠؛ تفسير الثعالبي، ج٩، ص 7٠.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج4، ص 6.
3- الحجرات: 2.
4- سنن الترمذي، ج 5، ص 63.
5- السيرة النبوية، ابن هشام، ص 5٠2.

ص: 166

وقد جاء في صحيح ابن حبان بلفظٍ آخر في باب استحباب استعمال الإمام المهادنة: «أن عروة جعل يرمق صحابة رسول الله (ص) بعينه فوالله ما يتنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجه وجلده وإذا أمرهم انقادوا لأمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له» (1).

ومن هنا يفهم بأن رفع الصوت فوق صوت النبي موجب لحبط الأعمال بما فيه العقيدة، وأن تعظيم النبي من تعظيم آيات عز وجل قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (2).

ومن هنا نقول: بأن الطلب والنداء إنما يكون عبادة للمدعو إذا اعتقد الداعي أن المدعو مستقل بالقدرة غني بالذات، وأما إذا اعتقد الداعي أن المدعو لا يستقل بالقدرة، بل يستمد القدرة من الباري تعالى وأن الحول والقدرة التي لديه هي من الباري تعالى وأن المدعو إنما حصل عليها لمكان حظوته وقربه عند الباري وأن الداعي إنما يدعوه نظراً لقربه ووجاهته من الباري وأن تكريم الله له بالقرب والوجاهة حفاوة منه تعالى وإذن منه للاستشفاع و التوسل والتوجه به إليه عز وجل، فإن دعاء ذلك الغير يعد حينئذٍ توجهاً وقصداً إلى الحضرة الإلهية، لأن قصد القريب من الحضرة الإلهية قصد للحضرة، كما أن الصد والإعراض عن القريب ابتعاد عن الحضرة الإلهية، فدعاء ذلك الغير هو دعاء لله بآياته العظيمة ودعاء له بأسمائه الحسنى التي يظهر بها.

ولم يدع أحد بأن ذلك يوجب كفراً وشركاً إلا هذه الفئة حيث يدعون بأن الطلب والاستغاثة بالميت فضلاً عن الحي شرك بالله عز وجل يجب قتله وهو مهدور الدم.

الحاصل: بأن الله عز وجل بكل شيء محيط وقيوم على كل شيء، وهو المالك لما ملكهم والقادر لما عليه أقدرهم، بل إن التمليك بعينه مخلوق من المخلوقات والمُعطى والعطية كلها


1- صحيح ابن حبان، ج 11، ص 22٠.
2- الحجرات: 3.

ص: 167

قائمة بالله تعالى حدوثاً وبقاءً، فكيف يستقل المخلوق في فعله وهو محتاج في ذاته ومفتقر إلى قيومية الباري تعالى؟»

ونقول بأن الصفات الفعلية تنم وتدل على الصفات الذاتية، ومن يخفق في فهم الصفات الفعلية يخفق في الصفات الذاتية لله عز وجل، ولن تعرف عظمة هذه الصفات إلا إذا عرفت عظمت الخلقة في المخلوقات، فإن نفس المخلوقات العظيمة هي بنفسها عينات للصفات الفعلية الإلهية وبالتالي عظمة المخلوق دالة على عظمة الصفة الذاتية التي هي غيب الغيوب.

فالنظر في هذا المنهج إلى الآيات الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالى ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هو النبي الأعظم (ص) وأهل بيته عليهم السلام؛ إذ حباهم الله عز وجل بالكرامات والمقامات التكوينية.

وبالتالي زيارة قبر النبي (ص) وأهل بيته من أعظم أبواب العبادات والقربات إلى الله تعالى التي هي مشاعر إلهية والأعراض عن الآيات الإلهية وترك وجحد هذه الشعائر موجب لحبط الأعمال والخسران في الدنيا و الآخرة، والولاية بحدّ ذاتها لا تكفي، فلا بد من ضم شرط آخر لكي تُقبل الأعمال وهو التوجه بهم والإقبال عليهم بزيارتهم والانشداد إليهم.

الفتاوى الشيطانية في هدم القبة النبوية

قال الله تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (1).

كما قال تعالى في القلوب المريضة: «فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ» (2)التي هي من صفات من يشاقق الله ورسوله، المتبعين لأئمة الضلال


1- البقرة: 74.
2- البقرة: 1٠.

ص: 168

المنحرفين حينما يتجرؤون بصريح القول في فتاواهم بهدم قبة النبي الأعظم (ص) بإسم التوحيد، وهذا من نفثاتهم السامة على الإسلام والمسلمين وللصد عن هذه الشعائر المقدسة التي يوجب تخليد ذكرها تخليد الدين ومعالم التوحيد، التي شيدها المسلمون بسيرتهم المباركة يقول الألباني في كتابة «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» :

«ومما يؤسف له أن هذا البناء قد بني عليه منذ قرون - إن لم يكن قد أزيل - تلك القبة الخضراء العالية، وأحيط القبر الشريف بالنوافذ النحاسية والزخارف والسجف، وغير ذلك مما لا يرضاه صاحب القبر نفسه (ص) ، بل قد رأيت حين زرت المسجد النبوي الكريم وتشرفت بالسلام على رسول الله (ص) سنة136٨ه- رأيت في أسفل حائط القبر الشمالي محراباً صغيراً ووراءه سدة مرتفعة عن أرض المسجد قليلاً، إشارة إلى أن هذا المكان خاص للصلاة وراء القبر، فعجبت حينئذ كيف ضلت هذه الظاهرة الوثنية قائمة في عهد دولة التوحيد!» (1)حيث يدعي بأن هذه الأفعال من الوثنية، خلافاً لأحاديث النبي (ص) أن ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة أي يتعبد ويتقرب فيها إلى الله تعالى وفي زيارة المشاهد المشرفة التي هي محلاً للعبادة ونيل القربان والمقامات عند الله تعالى.

وقد أفتى بعضهم: «يجب هدم المشاهد التي بُنيت على القبور، ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً» (2).

ومنهم من ختم الله على قلبه وعلى سمعه وعلى بصره حيث أعلن على النبي الأكرم الحرب والعداوة والبغضاء حيث يقول:

وإني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيرى لقوله يا أكرم الخلق، وإني أقول لو أقدر على هدم قبة رسول الله (ص) لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وإني أحرم زيارة قبر


1- تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، الألباني، ص 2٨.
2- زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، ص 661.

ص: 169

النبي (ص) وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما (1).

هذه القلوب القاسية الميتة المتبعون للهوى وموالون للشيطان وحزبه قال تعالى «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» (2).

قال الحافظ تقي الدين السبكي: «ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كل شؤونهم ويرشدونهم إلى السنة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شيء، ولم يعدوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل، كيف وقد أنقذهم الله من شرك وأدخل في قلوبهم الإيمان، وأول من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس» (3).

الحاصل: فالإسلام يدعو إلى التوجه بالنبي (ص) في الإيمان والاعتقاد وهو أفضل عبادة، فضلاً عن بقية العبادات الأخرى، والإباء عن التوجه في العبادة بخاتم الأنبياء إنكار للشهادة الثانية، ودعوة إلى الشرك باسم التوحيد، وهذا ما أخفق فيه السلفيون، حين جحدوا التوسل بالنبي (ص) ، فلا تراهم يقرنون لون الشهادة الثانية ومؤداها ومعطياتها بلون الشهادة الأولى في رسم بناء التوحيد في أدبيات كتبهم، فيقتصرون على تفسير الشهادة الأولى في التوحيد، من دون أن يهتدوا إلى كيفية ركنية مؤدى الشهادة الثانية في أركان التوحيد، وكيفية ضرورة الربط والارتباط بين مؤدى كل من الشهادتين في رسم أصل التوحيد، ومنه يظهر أن التوسل والتوجه بالنبي (ص) ضرورة وليس مجرد خيار مشروعية.


1- الرسائل الشخصية، الشيخ محمد بن عبد الوهاب (عقيدة الشيخ وبيان حقيقة دعوته ورد ما ألصق به من التهم) ، ج 6، ص 7، الرسالة الأولى: رسالة الشيخ إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته.
2- الجاثية: 23.
3- السيف الصقيل، ص 17٩.

ص: 170

ص: 171

الدليل الثاني: البيانات النبوية

اشارة

بعد استعراضنا للدليل الأول في الفصل الثاني من بيانات قرآنية، ها نحن نستعرض هنا بيانات نبوية فنقول:

البيان الأول: بأنه أوصى النبي (ص) علياً أن يدفن في بيته الذي قبض فيه، وقد قُبِضَ النبي الأكرم (ص) في الغرفة الشريفة التي كانت مشتركة بينه وبين فاطمة عليها السلام وهي الغرفة التي نزل فيها هو وابنته أول ما هاجر إلى المدينة المنورة والتي ضمتها عائشة بعد ذلك إلى غرفتها بعد وفاتهِ ووفاة ابنتهِ (ص) وأزالت الجدار الذي كان بينها وبين غرفتها.

فإن أمرهُ (ص) لأميرالمؤمنين عليه السلام بالدفن في الغرفة الشريفة هو بناءٌ حول القبر الشريف وأنه أدلُ دليل ٍعلى تشعيره (ص) لقبره كمعلم للدين الحنيف. وهذا أمرٌ قطعي بضرورة الدين لايجحده إلا المكابر والعاتي المتبع للأهواء والبدع إذ جعل مثوى بدنه الشريف منذ اللحظة الأولى لدفنه وقبره في غرفة خاصة به وبناء جدران الغرفة الشريفة كهيئة أضلاع الضريح المبني على قبور أهل بيته عليهم السلام ومن ذلك يعلم ُأن عمارة قبره وأهل بيته سنة قطعية في الدين لاتجحد إلا بغرض طمس هذا المعلم ومحاربة الركن الثاني في الدين وهو الشهادة الثانية.

سيرة المسلمين في قبور الانبياء

وكذا سيرة المسلمين إتجاه قبور الأنبياء في الشام ومنها قبر النبي إبراهيم الخليل عليه السلام فإن سيرتهم عندما فتحوا الشام إلى يومنا هذا قائمةٌ على تشييدها والمحافظة عليها، ومنها قبرُ اسماعيل عليه السلام في بيت الله الحرام في الحجر وكذا قبر أمه هاجر مع أن الذي دفن هاجر في الحجر

ص: 172

هو اسماعيل وهو الذي بنى الحجر صوناً لقبرها عن المشي عليه من قِبل الطائفين.

والذي تشير إليه جملة من الروايات لدى الفريقين تدل على هذا المضمون وهي كالتالي:

1 - ما رواهُ الكافي: عن محمد بن يحي، عن أحمد بن محمد، عن حسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شيء من البيت؟ فقال: لا ولا قلامة ظفر ولكن إسماعيل دفن أُمه فيه فكره أن توطأ فحجر عليه حجراً وفيه قبور أنبياء» (1).

2 - وروي: «أن إبراهيم عليه السلام لما قضى مناسكه أمره الله - عز وجل - بالانصراف، فانصرف، وماتت أمُ إسماعيل، فدفنها في الحجر، وحجر عليه لئلا يوطأ قبرها» (2).

3 - وبعض أصحابنا، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «الحجر بيت إسماعيل وفيه قبر هاجر وقبر إسماعيل» (3).

بل قد ورد بأن هناك سبعين نبياً مدفونين حول الكعبة والتي تشير إلى هذه الشعيرة والسيرة القائمة لدى المسلمين فمنها:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد شباب الصيرفي عن معاويةبن عمار الدهني، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «دفن ما بين الركن اليماني والحجر الأسود سبعون نبياً، أماتهم الله جوعاً وضراً» (4).

5 - وروى الكافي: عن الباقر عليه السلام قال: «صلى في مسجد الخيف سبعمائة نبي وإن ما بين الركن لمشحون من قبور الأنبياء وإن آدم لفي حرم الله عز وجل» (5).

6-كما روى القرطبي في تفسيره قال ابن عباس: «في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل


1- الكافي، ج 4، كتاب الحج، باب حج إبراهيم وإسماعيل وبنائهما.
2- الفقيه، ج 2، ص 14٩.
3- الكافي، ج 4، كتاب الحج، باب حج إبراهيم وإسماعيل وبنائهما.
4- المصدر نفسه، باب حج الانبياء عليهم السلام.
5- المصدر نفسه، ص 214.

ص: 173

الحجرالأسود. وقال عبدالله بن ضمرة السلولي: ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبياً جاؤوا حجاجاً فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين» (1).

7- وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: «وأول من طاف بالبيت الملائكة وإن ما بين الحجر إلى الركن اليماني لقبور من قبور الأنبياء وكان النبي إذا آذاه قومه خرج هو من بين أظهرهم فعبدالله فيها حتى يموت» (2).

٨ - وروى الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال: «وأول من طاف بالبيت الملائكة وأن بين الحجر إلى الركن اليماني لقبور من قبور الأنبياء كان النبي إذا آذاه قومه خرج من بين أظهرهم يعبدالله فيها حتى يموت» (3).

شعيرية قبور الانبياء في المسجد الحرام

وهذه السنة من الأنبياء في دفنهم عند بيت الله الحرام دليلٌ صريح على رجحان وشعيرية التعبد عند قبور الأنبياء وعلى رجحانِ الطواف بها والإتيان بمختلف العبادات عندها، ومنها قبر ذي كفل في العراق ودانيال في شوشتر والذي دفُن في عهد الخليفة الثاني بإشارة من أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ومنها قبرُ عزير في العمارة جنوب العراق، وكذا قبر زكريا في حلب ويحيى في الشام وشعيب في الأردن وشيث في لبنان وغيرها من قبور الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام المشيدة في العراق والشام وفلسطين.

حفظ قبور الانبياء عن الاندراس بعمارتها

وبعبارةٍ أخرى أن حفظ هذه القبور عن الإندراس والضياع والطمس لا يمكن إلا بتعهدها المستمر بالزيارة والعمران وهذا ما يُعهد من أسلوب عمارتها وهو الملاحظ من تدوين الآثار في الكتب المؤلفة قرناً بعد قرن من مؤلفات علماء المسلمين.


1- تفسير القرطبي، ج 2، تفسير قوله تعالى: «رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» .
2- المعجم الكبير، الطبراني، ج 11، باب سعيد بن جبير عن ابن عباس.
3- مجمع الزوائد، ج 1، باب سبب النهي عن كثرة السؤال.

ص: 174

الروضة عند قبره (ص) مشعر عند المسلمين

البيان الثاني: وهو قول النبي (ص) بأسانيد مستفيضة «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» وفي لفظٍ آخر «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» (1).

ولفظٌ آخر في مسند أحمد «قال ما بين هذه البيوت (يعني بيوته) إلى منبري روضة من رياض الجنة والمنبر على ترعة من ترع الجنة» (2).

كما روى السيوطي في تفسيره الدر المنثور: وأخرج البيهقي عن محمد بن المكندر: قال رأيت جابراً وهو يبكي عند قبر رسول الله (ص) وهو يقول ههنا تسكب العبرات سمعت رسول الله (ص) يقول: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» (3).

وقد روي هذا الحديث المتواتر من الرواة منهم أميرالمؤمنين علي عليه السلام وجابر الأنصاري وعائشة وأم سلمة وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وسعد والزبير وعبدالله بن زيد وعمر بن الخطاب في عمدة القاري، ويدل هذا الحديث المتواتر على تشعير قبر النبي (ص) معلماً للعبادة وجعله من المشاعر الدائمة إلى يوم القيامة كما شعرَ النبي (ص) عموم المدينة حرماً له.

ومعنى الحرمية هو التشعير والتقديس والتبرك والملجئ والملاذ فضلاً عن مسجده الشريف وعن ما بين قبره ومنبره.

والتشعير في الشريعة لا يقاس بالوقف إذ التشعير الذي يتم بيد الشارع في البقاع الخاصة أبدي إلى يوم القيامة، والذي يضفي عليه هالة من التقديس والتعظيم ويكون مواطن للعبادة بغض النظر عن المسجدية كما هو الحال في إزدياد ثواب العبادة في سائر بقاع الحرم المكي وإن لم يكن من المسجد الحرام، نعم يتضاعف ثواب العبادة في المسجد الحرام كما تتضاعف في البقعة المكيَّة المشرفة.

والحاصل: أن باب التشعير يختلف عن باب الوقف فمسجدية المسجد الحرام من باب


1- البخاري، ج 7، باب الرقاق؛ ج2، باب فضل الصلاة على المجسد و باب حرم المدينة.
2- مسند أحمد، ج 4، حديث عبدالله بن زيد بن عاصم.
3- الدر المنثور، ج 1، تفسير سورة البقرة الآية 17.

ص: 175

المشاعر ولا تختص بالمسجدية كما في بقية المساجد، بل كما هو الحال في منى والمزدلفة من حيث تأبيد المشعرية.

فضيلة المشاهد المشرفة عند جمهور علماء السنة

وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) وقد استدل القائلون بأفضلية المدينة (على مكة) بأدلة منها حديث «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» . وهذا يدل أنهم استظهروا وفهموا من هذا الحديث المتواتر تشعير القبر الشريف مشعراً إلهياً يعظم ُعلى حرمة الحرم المكي (1).

وما جاء في وفاء الوفا: بأن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟ (2).

تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة على سائر البقاع

يذكر السمهودي في كتابه الوفاء الوفا بان ما ضم الأعضاء الشريفة أشرف من الكعبة وبأن الكعبة أفضل من المدينة ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة إجماعاً (3)بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش.

كما قال التاج الفاكهي: قالوا لا خلاف أن البقعة التي ضمت الأعضاء الشريفة أفضل بقاع الأرض على الإطلاق حتى موضع الكعبة، ثم قال: وأقول أنا: أفضل بقاع السموات أيضاً بل لو قال قائل إن جميع البقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء شرفاً لكون النبي (ص) حالاً فيها لم يبعد (4).


1- نيل الأوطار، الشوكاني، ج 5، باب حجج من قال بأفضلية المدينة.
2- وفاء الوفاء، السمهودي، ج 1، ص 3٠.
3- المصدر نفسه، الباب الأول، ص 2٨.
4- حاشية ابن عابدين، ج 2، ص 6٨٨.

ص: 176

الروضة بين بيوته (ص) شاملة لقبور ذريته الأطهار

فائدةٌ: قد مر أن لفظ الحديث في مسند أحمد «مابين هذا البيوت (يعني بيوته (ص)) روضة ٌ من رياض الجنة» مما يقتضي أن ما بين بيته إلي قبره الشريف روضة ٌمن رياض الجنة وقد أُدرج في بيوته في أحاديث عديدة بيوت علي وفاطمة والحسنين عليهم السلام نظير ما رواه وأخرجه في ذيل قوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» (1).

في الدر المنثور للسيوطي قال وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ» قال هي بيوت النبي (ص) ، وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال قرأ رسول الله (ص) هذه الآية «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقام إليه رجل فقال أي بيوت هذه يا رسول الله قال بيوت الأنبياء فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها (يعني بيت ُعلي) - وفاطمة - قال نعم من أفاضلها (2).

وغيرها من الروايات في هذا الصدد فضلاً عن الروايات الواردة في أهل البيت عليهم السلام في كون بيوت الأئمة عليهم السلام ومواضع قبورهم وبيوت النبي (ص) روضة من رياض الجنة، وأنها قد شعرت للعبادة والزيارة لزيارتهم والتوسل بهم لكونها مشاعر إلهية وهذا الوجه بهذا التعليل هو الوارد في الآية الكريمة و بالجمع دون المفرد، وقد مر شرح ذلك في البحث الأول في هذه القاعدة من المبحث القرآني.

روى الكافي في مصحح عن جميل بن دراج قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: قال رسول الله (ص) : «ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنة ومنبري على ترعة من ترع الجنة وصلاةٌ في مسجدي تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» ، قال جميل: قلت له: بيوت النبي (ص) وبيت علي منها؟ (يعني هي أيضاً من رياض الجنة من بيوت النبي (ص) ولا تختص ببيوت ازواجه بل تشمل بيوت قرابته (ص) الخاصة من أصحاب الكساء كما بين المنبر والبيوت) قال: نعم وأفضل (3).


1- النور: 36.
2- الدر المنثور، ج 5، سورة النور36.
3- الكافي، ج 4، باب المنبر والروضة ومقام النبي (ص) .

ص: 177

فبيوت النبي (ص) شاملة لبيت علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذرية الحسين وأنها أفضل بيوت النبي (ص) .

فيظهر من ألفاظ الحديث المتعدد أن المراد من قوله (ص) «ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنة» هو العموم بنحويه المجموعي والاستغراقي، أي تحديد البقعة الواقعة في البين المحددة بهذه الأطراف المذكورة في الحديث كما أن المراد كل من الأطراف في نفسه على روضة من رياض الجنة، فمع كون عنوان بيوته (ص) شاملة بنحو العموم الاستغراقي لبيت علي وفاطمة وذريته يتم هذا المفاد.

وبعبارةٍ أخرى أن لورود الحديث في ألفاظ أخرى من تخصيص المنبر بكونه على ترعة من ترع الجنة أو على حوض أو على روضة من رياض الجنة كل ذلك يدل على إرادة أن كل طرف من أطراف التحديد هو على روضة من رياض الجنة فعنوان (بيوتي) عموم استغراقي، وأن عنوان (بيوتي) داخلة في حكم المغيى أي أن الروضة جزءٌ منها المنبر وجزءٌ منها بيوت وجزءٌ منها ما بينهما.

وعنوان (البيوت) كما ورد في روايات الفريقين في ذيل قوله: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ» أنها بيوت الأنبياء والتي فيها بيوت سيد الأنبياء (ص) حيث قال «أن بيت علي وفاطمة منها ومن أفاضلها» كما ذكره السيوطي في الدر المنثور في ذيل الآية أخرجه عن ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة.

مما يعزز أن بيت عليٍّ وفاطمة نسبته إلى النبي (ص) أتم من نسبة بيوت وغرفِ أزواجه إليه وأن اندراج بيت عليٍّ وفاطمة في بيوته (ص) اندراج في الحقيقة لا في التنزيل (1).

وبالتالي يكون عموم بيوته شامل لقبور ذريته المطهرة بحسب المفاد الأولى للحديث، وقد ورد عنهم من طرقنا أن بقاع قبورهم من رياض الجنان وأنه يندب الصلاة والتعبد عندها ولا سيما عند الرأس الشريف، و من ثم ورد في النصوص المستفيضة عنهم في الأذن للدخول في زيارة مشاهدهم المبنية على قبورهم (اللهم إني وقفت على بابٍ من بيوت نبيك) وقد روي


1- بالتنزيل وذلك لأن علاقة القربى لا تنقطع بخلاف علاقة الزوجية فإنها بالاعتبار.

ص: 178

عنهم قول النبي (ص) «ألا إن باب فاطمة بابي وبيتها بيتي فمن هتكه هتك حجاب الله» (1)، كما يستفاد من هذا الحديث الحث العظيم على زيارة قبره (ص) وأنها مواطن مقدسة شعَّرها الله عزوجل وجعلها أسباباً ووسائط لنيل القربى والزلفى إليه تعالى.

وهذا الحديث المتواتر القطعي صدوراً ومضموناً متطابقٌ مع قطعي الكتاب في قوله تعالى: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» (2).

فكيف بمقام محمد (ص) وهو أعظم حرمةً من النبي إبراهيم عليه السلام وكيف بجسده الطاهر مع أن مقام إبراهيم ليس مثوى لجسد إبراهيم عليه السلام وإنما لامس قدم إبراهيم عليه السلام، فمفاد هذا الحديث الشريف القطعي متطابق مع قطعي ضروري من ضروريات المسلمين واتخاذهم مقام إبراهيم مصلى ومنه يستفاد أن عمارة قبره الشريف والصلاة عنده والدعاء والأذكار والتبرك بها بالمسح وغيرها من أبواب العبادة لله سبحانه وتعالى.

تشعير المدينة من قِبل الرسول مضافا إلى تشعيرالقبر

قال السمهودي: كما شُعِّر الحرم المكي من قِبل نبي الله آدم وإبراهيم عليه السلام، شُعِّر الحرم المدني من قِبل الرسول (ص) وكما شُعِّر المسجد الحرام والكعبة كذلك شُعِّر المسجد النبوي والقبر الشريف من قِبل سيد الأنبياء (3).

فقد روي في باب حرم المدينة: عن أنس رضى الله عنه عن النبي (ص) قال: «المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث و من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (4).

وروى أحمد في مسنده حديث أبى مالك الأشجعي رضى الله عنه عن رافع بن خديج قال قال: رسول الله (ص) : «انه ذكر مكة قال إن إبراهيم حرَّم مكة واني أحرم ما بين لابتيها (يُريد المدينة)» (5).

ولا يخفى على اللبيب أن تشعير قبر الرسول والمدينة أعظم وأعلى شرفاً من بقية المشاعر


1- غاية المرام، ج2، الباب الحادي والعشرون، الباب التاسع والعشرون.
2- البقرة: 125.
3- وفاء الوفاء، الفصل الثاني عشر في حكمه تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم.
4- البخاري، ج 2، ص 22٠.
5- مسند أحمد، حديث أبي مالك الأشجعي؛ البخاري، ج 4، كتاب بدء الخلق.

ص: 179

بما فيهم مقام إبراهيم الخليل عليه السلام ومن ثم ورد أن مسجد النبي ازدادت حرمته بالنبي (ص) وبأهل بيته عليهم السلام ومن ذلك يعلم أن جحد هذا المشهد العظيم بائقة من بوائق الدين.

ثم إن مفاد هذا الحديث «ما بين قبري ومنبري» قطعيٌ كما علمتَ فكيف يتشبثون بهذه الاستظهارات مضافاً إلى أن هذا الحديث القطعي الوارد في قبره الشريف، وكذلك الحديث المستفيض في زيارة قبر والدته الشريفة أي تشريع سُنّة زيارة قبور أهل بيته أخص من عموم الروايات التي يتكلف تظنيها والخاص مقدمٌ على العام، مضافاً إلى أنه لو بُني على التوهم للتعارض بينها، فإن عمارة قبره وقبور أهل بيته مطابق للكتاب كما مر في (البحث القرآني) ومطابق لضرورة الدين من الشهادة الثانية والثالثة.

فائدة في حدود الروضة

أن الملاحظ في أكثر الروايات الواردة عند الفريقين سواء عندنا أو عندهم هو ورود لفظ الحديث النبوي بصيغة «ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنة» .

وحيث أن بيوت النبي صلى الله عليه وآله منها غرفُ أزواجه وهي متوزعة بين جهة القبلة للقبر الشريف والذي هو ممرٌ للزائرين حالياً وبين خلف القبلة وهي الدكة التي تقع بعد انتهاء بيت علي وفاطمة من جهة الشمال «أي الملتصقة بشباك الضريح من الخلف» وفي تلك الدكة تقع غرفة سودة بنت زمعة وفيها محراب النبي (ص) عند تهجده وصلاته في الليل أي مما يكون قبلة محرابه بيت علي وفاطمة.

وعلى ضوء ذلك يكون بيت علي وفاطمة يقع وسطاً متوسطاً ما بين بيوت النبي إذ كان له (ص) ما يقرب من تسع غُرف متوزعة بين الأمام والخلف، وأما الغرفة التي دُفن فيها (ص) فتلك هي الغُرفة التي كانت مشتركة بينه وبين إبنته فاطمة عليها السلام وهى الغرفة التي أقام فيها النبي وفاطمة في المدينة قبل زواجها عليها السلام بعلي ٍوكانت فاطمة قد منعت عائشة أن تفتح نافذة في غرفتها تلك كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج.

وكذلك ورد في روايات الفريقين أيضاً أن بيت علي وفاطمة هي من بيوته (ص) ومن بيوت الأنبياء كما روى ذلك السيوطي في در المنثور في ذيل قوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ»

ص: 180

«يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» وكذلك ماورد من طرقنا أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام (1)وعلى ضوء ذلك ورد بأنها من أفاضلها وأن الصلاة فيها أفضل من الروضة، وعلى ضوء هذا التعميم لحدود الروضة يتبين أن الروضة الشريفة هي أوسع من التحديد المرسوم في كتب الفريقين والظاهر منهم انهم اقتصروا على التحديد المستفاد من لفظ الحديث الوارد بصيغة «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» .

بينما مقتضى مفاد صيغة الحديث الأكثر وروداً هو اتساع الروضة طولاً إلى ما بعد شباك الضريح وإلى حد نهاية الدكة المتصلة به ويعضد هذا الاستظهار ما ورد في صحيح علي بن جعفر من أن الصلاة في بيت علي وفاطمة أفضل من الروضة وهو بمعنى أفضل مواضع الروضة لأن البيوت من الروضة والغاية داخلة في المغيى، ويشير إلى هذا المفاد ما رواه السيوطي في در المنثور في ذيل قوله تعالى «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقام إليه أبوبكر فقال يارسول الله هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة قال: «نعم من أفاضلها» (2).

ويعضد ذلك أن الامام الجواد عليه السلام كان يكثر من الصلاة عند الأسطوانة التي هي بحذاء بيت فاطمة عليها السلام وعلى ضوء ذلك يستفاد من عموم وشمول قوله (ص) (بيوتي) وشموله لقبور الأئمة العترة المطهرة من ذريته كقبر الحسن المجتبى عليه السلام في البقيع وقبر أميرالمؤمنين عليه السلام والحسين والكاظم والرضا والجواد والعسكريين من أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام بعد ما ورد من بيانه (ص) أن البيوت التي أذن الله أن ترفع أنها بيوت الأنبياء وهو بيوته (ص) وأن منها بيوت علي وفاطمة وذريته.

ومنها: ما ورد في صحيحة الحسين بن ثوير عن أبي عبد الله عليه السلام الواردة في آداب زيارة الحسين عليه السلام قال: فاغتسل على شاطئ الفرات والبس ثيابك الطاهرة، ثم امش حافياً فإنك في حرم من حرم الله وحرم رسوله (3).


1- الوسائل، الباب 5٩، من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2 و 1 من كتاب الصلاة؛ الكافي، ج4، باب المنبر والروضة ومقام النبي (ص) ، ح 13و 14.
2- الدر المنثور، ج 5، سورة النور.
3- الوسائل، ج 14، ابواب المزار، ب 62.

ص: 181

ولاحظ ما ورد في الوسائل من طرق مستفيضة ان قبر الحسين روضة من رياض الجنة (1).

وفي صحيح أبي هاشم الجعفري قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام يقول: إن بين جبلي طوس قبضة قبضت من الجنة، من دخلها كان آمنا يوم القيامة من النار (2).

كذلك ما ورد في قدسية ارض كربلاء في الوسائل ابواب المزار: رواية أبي عامر واعظ أهل الحجاز قال: أتيتُ أبا عبدالله عليه السلام فقلت له: ما لمن زار قبره يعني أميرالمؤمنين عليه السلام وعَمّر تربته؟ فقال: يا أبا عمار حدثني أبي عن أبيه، عن جده الحسين بن علي عليه السلام أن النبي (ص) قال له: «والله لتقتلن بأرض العراق وتدفن بها» ، قلت: يارسول الله ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟ قال لي: «يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عبادة تحن إليكم، وتحتمل المذلة والأذى فيكم فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها تقرباً منهم إلى الله، ومودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنة، يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجة بعد حجة الاسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه فأبشر وبشّر أوليائك ومحبيك من النعيم وقرة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيّرون زوار قبوركم بزيارتكم كما تعيّر الزانية بزناها أولئك شرار أمتي لا أنالهم الله شفاعتي ولا يردون حوضي» (3).

كذلك ما رواه الشيخ الطوسي في التهذيب في كتاب المزار في زيارة الامير عليه السلام وفضل الكوفة (4).

كما وردت لدينا النصوص المستفيضة في آداب الزيارة للأئمة من ذريته (ص) الدالة على أن


1- الوسائل، ج 14، ابواب المزار، ب 67.
2- المصدر نفسه، ب٨2.
3- المصدر نفسه، ب 26؛ تهذيب، الطوسي، ج 6، باب فضل زيارته عليه السلام.
4- تهذيب الأحكام، ج 6، باب فضل الكوفة والمواضع التي يستحب فيها الصلاة.

ص: 182

بقاع قبورهم من حرم الله تعالى وحرم رسوله وانها من بيوت النبي (ص) وكيفية الاستيذان قبل الدخول إلى مشاهدهم المشرفة كما في النصوص التالية

: «اللهم إني وقفت على باب بيت من بيوت نبيك وآل نبيك عليه وعليهم أفضل السلام وقد منعت الناس الدخول إلى بيوته إلا بإذن نبيك» (1)فجعلت قبورهم بيوتاً من بيوت النبي (ص) ولأجل ذلك وما مر من الروايات ذهب الشريف المرتضى وابن الجنيد وبعض من تأخر كالعلامة الشيخ حسين العصفور إلى عموم رجحان الإتمام في السفر عند كل قبورهم عليهم السلام لا خصوص المواطن الأربعة بتقريب أن الاتمام في الاربعة علل بمضاعفة الثواب للصلاة وهذه العلة موجودة في بقية بقاعهم عليهم السلام.

سن النبي (ص) إقامة المأتم عند قبور أهل بيته عليهم السلام

البيان الثالث: وقد روى أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي هريرة قال: «زار النبي (ص) قبر أمه فبكى وبكى من حوله فقال رسول الله (ص) استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فاذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» (2).

وروى مسلم في صحيحه في باب استئذان النبي (ص) ربه ُعز وجل لزيارة أمه: «زار النبي (ص) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» (3).

وروى الحاكم في المستدرك قال: ان النبي (ص) زار قبر أمه في الف مقنع فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم. هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين (4). وصدر هذه الأحاديث وان كان


1- بحارالانوار، ج ٩7، كيفية الاستيذان وزيارة النبي (ص) .
2- مسند احمد؛ مسند أبي هريرة رضي الله عنه، ج2؛ حديث بريدة الأسلمي، ج5.
3- صحيح مسلم، ج 3، باب استئذان النبي (ص) ربه عز وجل في زيارة قبر أمه ج3؛ سنن ابن ماجة، ج1، باب ماجاء في زيارة قبور المشركين؛ سنن أبي داود، ج 2، باب المحرم يموت كيف يصنع به؛ المستدرك، ج 1، باب زيارة النبي (ص) قبر أمه؛ رواه البيهقي: بنفس الألفاظ في ( شعب الأيمان) وذكر أنه يوم الفتح، ج 7، ص 15؛ ورواه في سنن الكبري، البيهقي، ج 7، صص 7٠، 76؛ ج 4، ص 311؛ الاستذكار، القرطبي، ج 1، ص 1٨7؛ عمدة القاري، ج ٨، ص 7٠.
4- المستدرك، ج 2، زيارة النبي (ص) قبر أمه.

ص: 183

ساقطٌ مضمونه لدينا (وهو نهيه عن الاستغفار لأمه) إذ والدة النبي (ص) صديقة عظيمة القدر في التوحيد والإيمان إذ إن النبي (ص) تقلب في الساجدين من الآباء والأمهات من الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهرة، وإلا أن ذلك لا يمنع من التمسك بذيل تلك الأحاديث.

أقول يظهر من أحاديث زيارة النبي لقبر أمه عليها السلام وحشرنا الله في زمرتها (المتواتر) أن النبي (ص) أقام مآتماً عند قبر أمه وأقام مجلس عزاء في مقام مصاب فقد والدته الشريفة وأنه سَنَّ سُنة عظيمة في مشهدٍ عام من المسلمين كي تكون مبدأ ومنطلقاً لهم في إقامة المآتم ومجالس العزاء على مصائب أهل بيته عليهم السلام عند قبور أهل بيته عليهم السلام والطريف في هذا الحديث المتواتر عندهم أن الذي قام بعملية البكاء هو شخص النبي (ص) فبكى من حوله وأبكى.

قال النووي في شرح مسلم بعد ذكره لهذا الحديث ورواه النسائي عن قتيبة عن محمد بن عبيد ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبيد وهؤلاء كلهم ثقات فهو حديث صحيحٌ بلا شك قوله (1).

سن النبي (ص) الدعاء والعبادة عند قبور أهل بيته عليهم السلام

وفي مجمع الزوائد للهيثمي روى ابن عباس أن النبي (ص) لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن يستندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم فذهب فنزل على قبر أمه فناجى ربه طويلاً ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه وبكى هؤلاء لبكائه وذكر أنه رواه الطبراني في الكبير (2).

ويظهر من لفظ هذا الحديث أن النبي (ص) سنَّ الدعاء والمناجات عند قبور أهل بيته عليهم السلام كما ان اشتداد بكائه سنّة منه (ص) في إقامة الجزع عند قبور أهل بيته عليهم السلام، وقد روي هذا الحديث المتواتر بألفاظ مختلفة ما يظهر منها تكرار زيارة النبي (ص) لقبر أمه وإقامة العزاء والدعاء في عدة مرات من زيارته.


1- شرح مسلم، ج 7، باب استئذان النبي (ص) ربه في زيارة قبر أمه.
2- مجمع الزوائد، ج 1، باب في شيطان المؤمن، باب في أهل الجاهلية.

ص: 184

جملة من سنن النبي (ص) في زيارة قبر والدته عليها السلام

ويستفاد من هذا الحديث «ثم بكى فاشتد بكاوءه وبكى من حوله» المتواتر جملة من الأمور منها:

1 - رجحان شدّ الرحال والسفر لزيارة قبور أهل البيت عليهم السلام حيث تكرر سفره لزيارة قبر أمه.

2 - سنة إقامة المآتم والعزاء على أهل البيت عليهم السلام.

3 - تشعير قبور أهل بيته عليهم السلام كمواطن للعبادة والمناجاة ومواطن لإقامة المآتم والحزن والعزاء عليهم ورجحان البكاء والإبكاء على مصائب أهل بيته وأن هذه سنة عظيمة قد تكررت منه (ص) وقد استقصى العلامة الأميني في كتابه (سنتنا وسيرتنا) سنة النبي (ص) وسيرته اثني عشر مجلساً أقامها سيد الأنبياء وقام برثاء أبنه الحسين سيد الشهداء وذكر لكل مأتم جملة وافرة من المصادر عند العامة.

ثم إن الذي ذكر «زيارة النبي لقبر أمه» صاحب كتاب الاستذكار للقرطبي وشعب الإيمان للبيهقي وعمدة القارئ (1).

وفي فتح الباري لابن حجر ذكر في لفظ حتى جلس إلى قبر فناجاه طويلاً ثم بكى فبكينا لبكائه فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي (2).

وفي رواية الطبري من هذا الوجه لما قدم مكة أتى رسم قبر (ناقصٌ) عن عطية لما قدم مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر (3).

وللطبراني من طريق عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله (ص) لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر فلما هبط من ثنية عسفان فهذه طرق يعضد بعضها بعضاً، وذُكر أنه زار قبر أمه بعد رجوعه من تبوك (4).

وقال العيني في عمدة القارئ: وكان الشارع (ص) يأتي قبور الشهداء عند رأس الحول


1- الاستذكار، ج 1، ص 1٨7؛ شعب الإيمان، ج 7، ص 15؛ عمدة القاري، ج ٨، ص 7.
2- فتح الباري، ج ٨، ص 3٩٠.
3- جامع البيان، ج 11، ص 5٨.
4- مجمع الزوائد، ج 1، ص 117؛ الدر المنثور، ج 3، ص 2٨3؛ المعجم الكبير، الطبراني، ج 11، ص 2٩6.

ص: 185

فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار، وكان أبو بكر وعمر وعثمان، يفعلون ذلك، وزار الشارع قبر أمه، يوم الفتح في ألف مقنع ذكره ابن أبي الدنيا، وذكر ابن أبي شيبة عن علي وابن مسعود وأنس، وكانت فاطمة تزور قبر حمزة كل جمعة وكان عمر، يزور قبر أبيه فيقف عليه ويدعو له، وكانت عائشة، تزور قبر أخيها عبد الرحمن وقبره بمكة (1).

4 - ويستفاد من هذا الحديث المتواتر أن النبي (ص) سنَ السفر إلى زيارة قبور أهل بيته وأن ما رووه من أنه لا تشدّ الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة بأن عموم النفي هذا مخصوصٌ بذلك مع أن النفي كما قد عرفت محمول على الفضيلة عند أكثر علماء أهل السنة.

روى الصدوق في الصحيح إلى ياسر الخادم قال: قال على بن موسى الرضا عليه السلام لا تشدّ الرحال إلى شيء من القبور إلا إلى قبورنا ألا وإني مقتول بالسم ظلماً ومدفون في موضع غربة فمن شدّ رحله إلى زيارتي استجيب دعاؤه وغفر له ذنوبه (2).

وقال النووي في شرح مسلم و الصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختار إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة والله أعلم (3).

وهذا مضافاً إلى جملة من الأجوبة السابقة والآتية أنه ورد مستفيضاً عن الفريقين أنه من حج ولم يزرني فقد جفاني بل هناك ألفاظ أخرى للحديث الشريف مفادها كما هو ظاهر توقيتٌ معلوم لأحد مواسم زيارته فهذا المفاد يبطل الاستدلال بظاهر هذا الحديث.

هذا وروايات أهل البيت عليهم السلام متواترة في كون زيارة وعمارة النبي (ص) وأهل بيته من معالم وشعائر الدين الكبرى فقد عقد صاحب الوسائل (٩6 باباً وأخرج فيها مئات الأحاديث هذا فضلاً عمَّا أورده صاحب البحار في أبواب المزار والميرزا النوري في مستدرك الوسائل عن الأصول المروية عن أصحابنا في ذلك وغيرهم من أساطين المحدثين وأبواب أحكام المساجد وغيرها من الأبواب في كتب الحديث، فالأمرُ بالغ حدّ التواتر من الدرجة الكبيرة جداً ومن ثم


1- عمدة القاري، ج ٨، ص 7٠.
2- عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 2٨5.
3- شرح مسلم، ج ٩، باب سفر المرأة مع المحرم إلى حج وغيره.

ص: 186

هو من الأسس في شعائر ومعالم أهل البيت عليهم السلام حتى أن الحث ورد منهم على زيارة قبورهم وعمارتهم في ظرف الخوف على النفس مما يشير إلى مدى ركنية هذه الشعيرة في الدين، وهي سيرة مأخوذة يداً بيد قائمة عند شيعة أهل البيت عليه السلام منذ القرن الأول والثاني للهجري.

البيان الرابع: ما رواه ابن ماجة عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أن رسول الله (ص) رخص في زيارة القبور (1).

والرواية في الأصل كما رواه الغزالي في إحياء العلوم: «عن عبدالله بن أبي مليكة ان عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلتِ؟ قالت: من قبر أخي عبدالرحمن بن أبي بكر فقلت: أليس كان رسول الله (ص) نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها» (2)وفي هذه الرواية دلالة على أن أذنه (ص) عام ٌ للنساء في مرتكز الرواة واستظهارهم.

وروى ابن ماجه عن ابن مسعود، أن رسول الله (ص) قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القُبور، فزوروها. فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة» (3).

كما رواه ابوداود في سننه عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله (ص) : «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة» (4).

توقيته (ص) الحج بزيارة قبره

البيان الخامس: ومن الأدلة ما روي مستفيضاً في قوله (ص) «من حج ولم يزرني فقد جفاني ومن زار قبري وجبت له شفاعتي» (5)وهذا التوقيت وإن لم يكن حصرياً ولكنه أحد مواقيت زيارته بفعل الحج.


1- سنن ابن ماجة، ج 1، باب ما جاء في زيارة القبور.
2- إحياء العلوم، ج 4، باب زيارة القبور؛ السنن الكبرى، ج 4، باب ما يقول إذا دخل المقبرة؛ نيل الأوطار، الشوكاني، ج 4، الدليل على تحريم اتباع الجنائز للنساء.
3- سنن ابن ماجة، ج 1، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين.
4- سنن أبي داود، ج 2، باب المحرم يموت كيف يصنع به.
5- الدر المنثور، ج 1، سورة البقرة.

ص: 187

وفي بعض ألفاظ الحديث «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» (1)وروى الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عمر عن النبي (ص) قال «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه البزاز (2).

وعن ابن عمر قال قال رسول الله (ص) «من جاءني زائراً لا يعلم له حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة» (3)والحديث صريحٌ في الحث على تمحض القصد من السفر وشد الرحال في قصد زيارته (ص) .

ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه حفص بن أبي داود القاري وثقة أحمد وعن ابن عمر قال قال رسول الله (ص) : «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» . قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الصغير والاوسط وفيه عائشة بنت يونس ثم ذكر باب «وضع الوجه على قبر سيدنا رسول الله (ص)» (4).

وروى الهندي في كنز العمال عن ابن عباس، عن النبي (ص) ، قال: «من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان» (5).

والحديث دال على تمحض القصد لزيارته وهو يدحض ما ابتدعته الوهابية من حصر قصد السفر إلى المدينة المنورة أنه لا بد أن يكون بقصد مسجده النبوي لا بقصد قبره الشريف ولا بقصد زيارته (ص) بانين ذلك على ما تخيلوا في استظهاره من حديث «لا تشد الرحال» مع أن تلازم قصد مسجده مع زيارته بل تلازم قصد المسجد الحرام مع زيارته دال على الأمر بشد الرحال إلى زيارة قبره الشريف.

الحج وزيارة قبر النبي واهل بيته من دون التفريط بكل منهما

ثم إن الحديث الشريف يفيد تكثير الثواب لزيارته (ص) مضاعفاً على الحج ولا يتوهم في معناه سدّ باب الحج وهوانه والعياذ بالله بل هو تأكيدٌ لأهميتهِ وولاية الرسول (ص) وضرورة


1- كنز العمال، ج 5، زيارة قبر النبي (ص) من الاكمال.
2- مجمع الزوائد، ج 4، باب زيارة سيدنا رسول الله (ص) .
3- المصدر نفسه، باب قوله (ص) لا تجعل قبري وثناً.
4- المصدر نفسه.
5- كنز العمال، ج 5، باب زيارة قبر النبي (ص) من الاكمال.

ص: 188

ضم زيارته إلى الحج وإن الولاية ركنٌ من أركان الدين كالحج والصلاة والصيام والزكاة بل هي أعظم الأركان من دون التفريط ببقية الأركان، ومثله ما ورد من الحث الشديد على زيارة قبور أهل البيت لثوابٍ مضاعف وأنه ليس في ذلك تغريرٌ بترك الحج كما يتوهمهُ السلفية والوهابية، كيف وقد ورد في رواية أهل البيت عليهم السلام أن المسلمين «لو تركوا الحج في عامٍ من الأعوام لهلكوا» (1).

وقد ورد أيضاً عنهم عليهم السلام: «إن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج من شيعتنا، ولو أجمعوا على ترك الحج لهلكوا، وهو قوله تعالى: «وَ لَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» (2)» أي أن إقامة الحج من قِبل المسلمين والمؤمنين واجبٌ كفائي بغض النظر عن الاستطاعة.

كما ورد عنهم عليهم السلام إنه يجب على الوالي أن يبذل من بيت المال لإقامة الحج وإرسال الحجيج لو عجز الناس لكي لا يعطل بيت الله الحرام كما يُبذل من بيت المال لإقامة زيارة النبي (ص) بل ورد عنهم عليهم السلام أن الواجب على الوالي أن يبقي مكة والمدينة المنورة معمورة بالساكنين والمقيمين (3).

كذلك ورد عنهم عليهم السلام أن الجوار بالسكنى (4)والإقامة عند بيت الله الحرام والمدينة المنورة وبقية المدن التي فيها قبور أهل البيت عليهم السلام هو من الجهاد والذي يستفاد من كل ذلك أن اللازم والواجب هو إقامة و عمارة معالم الدين وأركانه أجمع لا بعضها على حساب البعض الآخر ولا الاكتفاء ببعضها دون البعض.

وعن داود بن أبي صالح قال «أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر فقال: أتدري ما تصنع فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب فقال: نعم جئت رسول الله (ص) ولم آت


1- وسائل الشيعة، ج 1، أبواب مقدمة العبادات؛ الكافي، ج 2، باب أن ترك الخطيئة أيسر؛ مستدرك الوسائل، ج٨، باب عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج؛ تفسير العياشي، ج 1، قوله تعالى: «وَ لَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ» .
2- البقرة: 251.
3- الكافي، ج 4، باب الإجبار على الحج؛ الوسائل، ج 11، باب وجوب إجبار الوالي الناس على الحج.
4- وسائل الشيعة، ج 15، باب اشتراط وجوب الجهاد بأمر الإمام وأذنه، ب 12.

ص: 189

حجر» وجاء بلفظ «لم أر الحجر» (1).

وهو بتمامه في كتاب الخلافة، رواه أحمد وداود بن أبي صالح قال الذهبي لم يرو عنه غير الوليد بن الكثير وروى عنه الكثير بن زيد كما في المسند ولم يضعفه أحد.

أقول وفي هذه الأحاديث وغيرها الدالة على الحث على زيارته صلى الله عليه وآله بنحو مستفيض رد على حشوية السلفيين الذين استظهروا حرمة شد الرحال لغير المساجد الثلاثة.

وفي تحفة الأحوذي قال: واختلف في شدّ الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياءً وأمواتاً، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها، إلى أن قال والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها: «أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائزٌ وقع في رواية لأحمد سيأتي ذكرها بلفظ لا ينبغي للمطي أن تعمل وهو لفظ ظاهر في غير التحريم» (2).

ويدعم هذا الاستظهار ما ورد عن أبي هريرة بألفاظ أخرى نحو «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة» ونحو: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد» أخرجه البخاري باللفظ الأول (3)، ومسلم باللفظ الأخر من طريق ثانٍ عنه (4)وأخرجه من الطريق الأول أصحاب السنن وغيرهم (5).

ورواه البزاز بهذا النحوين من ألفاظ الحديث (6)حيث يعزز أن الحديث مسوقٌ إلى بيان


1- مسند أحمد، ج 5، حديث أبي أيوب الأنصاري ج5؛ المستدرك، ج 4، باب ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله؛ مجمع الزوائد، ج 4، باب قوله (ص) لا تجعل قبري وثنا؛ ولاية المناصب، ج5؛ تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج57، باب مروان بن الحكم.
2- تحفة الأحوذي، ج 2، باب ما جاء في أي المساجد أفضل.
3- صحيح البخاري، ج 2، باب فضل الصلاة في المسجد.
4- صحيح مسلم، ج 4، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى.
5- المصدر نفسه، باب سفر المرأة مع محرم، باب لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة؛ إرواء الغليل، محمد ناصر الألباني، ج3، باب النهي عن شدّ الرحال؛ ج 4، باب تفضيل الصلاة في مسجده، أحكام الجنائز، باب صيغة سلام عند الدخول؛ المعجم الصغير، الطبراني، ج 1، باب من اسمه سلمة؛ المعجم الأوسط، ج2، 4 و 5؛ المعجم الكبير، ج22، باب من يكنى أبو نجيح؛ مجمع الزوائد، ج4، باب قوله (ص) لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة.
6- مجمع الزوائد، ج4، باب قوله (ص) لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة.

ص: 190

أهمية وفضيلة المساجد الثلاثة وما يعزز هذا الاستظهار أيضاً ما ورد في الأحاديث المستفيضة عند الفريقين من عظم الثواب في المسجد الحرام والمسجد النبوي.

مسجد الكوفة أعظم من بيت المقدس

مع أنه ورد في أحاديث أهل البيت أن الصلاة في مسجد الكوفة أعظم ثواباً من الصلاة في بيت المقدس بل في روايات أهل البيت أن الإتمام في السفر لعظم الثواب فيها وهي «الحرم المكي والمدني ومسجد الكوفة والحائر الحسيني في كربلاء» (1).

وقد تقدم أن قوله (ص) في حديث الفريقين: «ما بين قبري وبيوتي روضة من رياض الجنة» شاملٌ لبيت علي وفاطمة وذريته، فبيوته شاملة لقبره وقبور أهل بيته المطهرين ومِن ثم ورد عنهم عليهم السلام كثرة فضيلة الصلاة عند قبورهم، فهناك فرق ٌ في الاستظهار بين ما ذهب إليه جمهور علماء السنة وبين ما ذهب إليه السلفية (الوهابية) حيث حمل المشهور الحديث «لا تشد الرحال» على النفي للكمال البالغ ولشدة الرجحان بينما حمل الوهابية الحديث على النهي التحريمي مما يشير إلى أن المسلك الحشوي في استظهار الحديث هو سبب الأزمة في هذا الفهم العاطل حيث يقتصرون في الاستظهار بالجمود على لفظ الحديث من بعض طرقه دون بقية الطرق ومن دون الالتفات إلى جملة من القرائن في البين وهذا طامةٌ كبرى في منهج الاستظهار في الأدلة وإلا فهذا التعبير مستعمل بكثرة في موارد نظير «لا حلم كالصبر» وغيرها من الموارد المتعددة.

عمارة قبره (ص) بقاء للشهادة الثانية

وهذا مضافاً إلى اعتضاد هذه الأحاديث بقوله تعالى: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ» (2).


1- الوسائل الشيعة، ج ٨، الباب 25 من صلاة المسافر.
2- النساء: 64.

ص: 191

وقوله تعالى: «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ» (1).

حيث دلت الآيتان على أن المجيء بحضرة النبي (ص) حثٌ أكيدٌ منه تعالى على ذلك الموطن لكي يتحقق فيه استجابة التوبة والغفران.

وبعبارة أخرى أن الحث في القرآن الكريم والسنة المتواترة والمستفيضة لزيارته (ص) يستلزم جعل قبره معلماً ومشعراً كي لا تضيع هذه السنة الإلهية بل كي يبقى ذكره الشريف أساس الدين وحقيقة الشهادة بالرسالة ومِن ثم يعلم أن عمارة قبره الشريف معلمٌ عظيم لبقاء ذكر الدين في أجيال البشر والعالمين إلى يوم القيامة.

طمس قبره الشريف إماتة لذكره (ص)

فالدعوة إلى طمس قبره الشريف هي دعوة إلى طمس الدين والشريعة الخاتمة كما هو غرض اليهود والنصارى ومن ذلك يظهر النظر والإشكال في استظهارهم طمس قبور الأنبياء والمرسلين السابقين مما روى من قوله (ص)

«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي لفظٍ آخر «قاتل الله اليهود» فإن عمارة قبور الأنبياء والمرسلين تخليداً لذكراهم وقد أكد القرآن الكريم على ذكرهم وإبقاء ذكراهم ليكونوا قدوةً للبشر ومنابع للنور كما في قوله تعالى: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» ، فكيف يدعو الدين إلى طمس قبورهم، إلا أن يكون الحديث الشريف بمعنى النكير على ما فعله اليهود والنصارى من تأليه النبي عيسى وعزير، أو إنهم طمسوا قبور الأنبياء واتخذوا الصلاة والسجود عليها مما يؤدي إلى طمس معلميتها وتسويتها مع الأرض.

وروى في البخاري عن محمد بن مقاتل، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ (ص) مُسَنَّماً (2).

كما روى أحمد في مسنده «حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال سمعتُ سليمان


1- المنافقون: 5.
2- صحيح البخاري، ج 2، باب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ (ص) .

ص: 192

الشيباني، قال سمعتُ الشُعبي، قال أخبرني مَن مر مع رسول الله (ص) على قبرٍ منبوذٍ فأمهُم وصفوا عليه فقلتُ: يا أبا عمرو من حدثك؟ قال: ابن عباس» (1)كذلك في صحيح ابن حبان بسنده عن ابن عباس قال: «أتى رسول الله (ص) على قبرٍ منبوذ فصلى عليه وصلينا معه» (2).

قال أبو حاتم رضى الله في هذا الخبر بيانٌ واضح أن صلاة المصطفى (ص) على القبر إنما كانت على قبرٍ منبوذ ومنبوذ ناحية فدلتك هذه اللفظة على أن الصلاة على القبر جائزٌ اذا كان جديداً في ناحيةٍ لم تنبش أو في وسط قبور لم تنبش فأما القبور التي نبشت وقلب ترابها صار ترابها نجساً لا تجوز الصلاة على النجاسة إلا أن يقوم الإنسان على شيء نظيف ثم يصلي على قبر المنبوش دون المنبوذ الذي لم ينبش (3)، وهذه الروايات تعزّز أن المعنى المراد من النهي عن جعل القبور مساجد هو تجنيب موطن الصلاة من موارد التلوث والقذارة والتحرّي عن الأماكن النظيفة للصلاة.

البيان السادس: ما ورد من متفرقات الروايات الدالة على الحياة البرزخية لأهل القبور، منها ما رواه مسلم في مسنده عن أبي هريرة عنه (ص) : «إن امرأةً سوداء كانت تقوم في المسجد -أوشاباً - ففقدَها رسُولُ الله (ص) ، فسأل عنها - أو عنه - فقالوا مات قال: أفلا كنتم آذنتموني. قال: فكأنهم صغروا أمرها - أو أمرهُ - فقال: «دُلوني على قبره فدلوهُ فصلى عليها» . ثم قال:

«إن هذه القُبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم» (4).

كما أشار ابن حبان إلى ذلك وعقب على هذه الرواية وقال (أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيارة على أن ذلك من خصائصه (ص) ، حيث ينكر هذه الخاصية لرسُول الله مع أنها ظاهرة في المطلوب ولها دلالة واضحة على الحياة البرزخية (5).


1- مسند أحمد؛ مسند عبدالله بن عباس، ج1؛ صحيح البخاري، ج 1، باب في الجنائز؛ المعجم الكبير، الطبراني، ج12، باب الشعبي عن ابن عباس.
2- صحيح ابن حبان، ج 7، باب إباحة الصلاة على قبر المدفون.
3- المصدر نفسه.
4- صحيح مسلم، ج 3، باب القيام للجنازة؛ مسند أحمد؛ مسند أبي هريرة، ج2.
5- فتح الباري، ج 3، باب الميت يسمع خفق النعال، ج 1، باب كنس المسجد والتقاط الخرق.

ص: 193

وروى عن النبي (ص) أنه قال: «آنس ما يكون الميت إذا زاره من كان يحبه في الدار الدنيا» (1).

وورد في وفاء الوفاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» (2).

ومنها: أن النبي (ص) أمر في معركة بدر بأن تُلقى أجساد المشركين في بئر (قليب) ثم خاطبهم قائلا: «فانا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» . قال فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها، فقال رسول الله (ص) : «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً» (3).

فهذا التعجب والاعتراض من بعض الصحابة لجهلهم بالحياة البرزخية لأصحاب القبور فرد النبي (ص) بأنه (ما أنتم بأسمع) .

ومفاد هذا الحديث يطابق ما ورد من مخاطبة النبي شعيب عليه السلام لقومه بعد هلاكهم في قوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ» (4).

كذلك ما ورد على لسان صالح في قوله تعالى: «َفَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» (5).

وبهذا نجد من يعتقد بأن الإنسان ينقطع عن هذه الحياة بمجرد موته لا نفع فيه ولا يسمع فإنه يجهل الحياة البرزخية التي يختلف عن هذه الحياة المادية والتي بين النبي الأكرم (ص) وأهل بيته هذه العوالم وبأن النفس البشرية فيها تمتلك من الحواس أضعاف ما يملكه البشر في هذا العالم المادي وبأنهم يسمعون ما نقول وأن زيارتهم بعد الموت من الإيمان الذي لا بد منه.


1- وفاء الوفاء، السمهودي، ج 4، ص 136٠؛ السيرة النبوية، الشامي، ج 11، ص 3٨2.
2- وفاء الوفاء، ج 4، ص 1351.
3- البخاري، ج 5، باب قتل أبي جهل باب قصة غزوة بدر.
4- الأعراف: ٩1 - ٩3.
5- الأعراف: 7٨ - 7٩.

ص: 194

ص: 195

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة

* دعاء الندبة

1. الاحتجاج، الطبرسي، النجف الأشرف، دار النعمان، 13٨6ه. ق.

2. أحكام الجنائز، ناصرالدين بن محمد الألباني.

3. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم.

4. إحياء علوم الدين، الغزالي.

5. الأذكار النووية، يحيى بن شرف النووي، دارالفكر، 1414ه. ق.

6. الإرشاد في معرفة حُجج الله على العباد، الشيخ المفيد، بيروت، دار المفيد.

7. الاستذكار، القرطبي.

٨. الأم، الشافعي، ط الثانية، بيروت، دار الفكر، 14٠3ه. ق.

٩. الأمالي، الشيخ الطوسي، ط الأولى، قم، دار الثقافة، 1414ه. ق.

1٠. إمتاع الأسماع، المقريزي.

11. بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، بيروت، مؤسسة الوفاء، 14٠3ه. ق.

12. البرهان في علامات مهدي آخر الزمان، المتقي الهندي، قم، مطبعة الخيام.

13. بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار، طهران، مؤسسة الأعلمي، 14٠4ه. ق.

ص: 196

14. تاريخ الطبري.

15. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، بيروت، دار الفكر، 1415ه. ق.

16. التبيان في تفسير القرآن، الطوسي، ط الأولى، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 14٠٩ه. ق.

17. تحذير الساجد من إتخاذ القبور مساجد، ناصرالدين الألباني.

1٨. تحف العقول، الحراني.

1٩. تحفة الأحوذي في شرح الترمذي، المباركفوري، ط الأولى، بيروت، دارالكتب العلمية، 141٠ه. ق.

2٠. تطهير الاعتقاد في أدران الإلحاد، محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني

21. تفسير ابن كثير، ابن كثير، بيروت، دار المعرفة، 1412ه. ق.

22. تفسير البحر المحيط، الأندلسي.

23. تفسير الثعلبي، أبو اسحاق الثعلبي.

24. تفسير العياشي، محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمر قندي، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية.

25. تفسير القرطبي، أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار إحياء التراث، 14٠5ه. ق.

26. تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ط الثالثة، مؤسسة دار الكتاب، 14٠4ه. ق.

27. تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، مؤسسة النشر الإسلامي.

2٨. تفسير نور الثقلين، العلامة الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي.

2٩. تقييد العلم، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي أبو بكر.

3٠. تلخيص الحبير، ابن حجر العسقلاني.

31. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية، 14٠7ه. ق.

32. التوحيد، الصدوق، قم، جماعة المدرسين، 13٨7ه. ق.

33. ثواب الأعمال، الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن بن بابوية، ط الثانية، قم، منشورات الرضي، 1412ه. ق.

ص: 197

34. جامع البيان، ابن جرير الطبري، بيروت، دار الفكر، 1415ه. ق.

35. خصائص أميرالمؤمنين، النسائي.

36. الخصال، الصدوق، قم، جماعة المدرسين، 14٠3ه. ق.

37. الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، ط الأولى، بيروت، دار المعرفة، 1365ه. ق.

3٨. الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد، الشوكاني.

3٩. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأول محمد بن مكي جمال الدين العاملي.

4٠. رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ، ابن عابدين.

41. الرد على الأخنائي، ابن تيمية.

42. الرسائل الشخصية، الشيخ محمد عبدالوهاب.

43. روضة الطالبين، الإمام العلامة محيي الدين بن شرف النووي الدمشقي.

44. روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، قم، منشورات الرضي.

45. زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، ط الأولى، بيروت، دارالفكر، 13٨2ه. ق.

46. زاد المعاد في هدى خير العباد، ابن القيم.

47. سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني، بيروت، دارالفكر.

4٨. سنن أبي داود، السجستاني، ط الأولى، بيروت، دارالفكر، 141٠ه. ق.

4٩. سنن الترمذي، الترمذي.

5٠. سنن الدار قطني، علي بن عمر الدار قطني، ط الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417ه. ق.

51. سنن الدارمي، عبدالله بن بهرام الدارمي.

52. السنن الكبرى، البيهقي، بيروت، دارالفكر.

53. سنن النسائي، ط الأولى، بيروت، دارالفكر، 134٨ه. ق.

54. السيرة النبوية، ابن هشام، ط الأولى، دار ابن حزم، 1422ه. ق.

55. السيف الصقيل، الحافظ تقي الدين السبكي، مكتبة زهران.

ص: 198

56. شرح احقاق الحق، السيد المرعشي، قم، مكتبة المرعشي النجفي.

57. شرح المواهب اللدنية، القسطلاني.

5٨. شرح مسلم، النووي.

5٩. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، ط الأولى، دار إحياء الكتب العربية، 137٨ه. ق.

6٠. شعب الإيمان، البيهقي.

61. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، بيروت، دارالفكر، 14٠٩ه. ق.

62. صحيح ابن حبان، محمد بن حبان التميمي البستي، ط الثانية، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1414ه. ق.

63. صحيح البخاري، بيروت، دارالفكر، 14٠1ه. ق.

64. صحيح مسلم، بيروت، دارالفكر.

65. عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر، يوسف بن يحيى بن علي المقدسي الشافعي السلمي، طبعة مصر، 13٩٩ه. ق.

66. علل الشرائع، الصدوق، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، 13٨6ه. ق.

67. عمدة القاري، العيني.

6٨. عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، ط الأولى، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 14٠4ه. ق.

6٩. غاية المرام وحجة الخصام، السيد هاشم البحراني.

7٠. الغدير، الأميني، بيروت، دار الكتاب العربي، 13٨٩ه. ق.

71. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، ط الثاني، بيروت، دار المعرفة.

72. فتح العزيز في شرح الوجيز، عبد الكريم الرافعي، بيروت، دارالفكر.

73. فتح القدير، الشوكاني، عالم الكتب.

74. فتح المعين، المليباري الهندي، ط الأولى، بيروت، دارالفكر، 141٨ه. ق.

75. فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل، بيروت، دار الكتب العلمية.

76. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي.

ص: 199

77. القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة، ابن تيمية.

7٨. القوانين الفقهية، ابن الجزى الكلبي.

7٩. الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ط الثالثة، طهران، دارالكتب الإسلامية، 13٨٨ه. ق.

٨٠. كامل الزيارات، ابن قولويه، ط الأولى، مؤسسة نشر الفقاهة، 1417ه. ق.

٨1. كتاب المصنف، أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني، المجلس العلمي.

٨2. كشف الغطاء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ط حجرية، مهدي أصفهان.

٨3. كفاية الأثر، الخزاز الطوسي، بيروت، دار الأندلس.

٨4. كلمة التقوى، العلامة الشيخ محمد أمين زين الدين، المطبعة الشرقية.

٨5. كنز العمال، المتقي الهندي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 14٠٩ه. ق.

٨6. لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، ط الثانية، بيروت، مؤسسة الأعلمي.

٨7. اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس الحسيني، قم، مطبعة مهر، 1417ه. ق.

٨٨. من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ط الثانية، قم، جماعة المدرسين، 14٠4ه. ق.

٨٩. مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ط الأولى، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1415ه. ق.

٩٠. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثمي، بيروت، دار الكتب العلمية، 14٠7ه. ق.

٩1. المجموع في شرح المهذب، النووي، بيروت، دارالفكر.

٩2. المحاسن، البرقي، تحقيق: جلال الدين الحسيني، المكتبة الإسلامية.

٩3. مختصر البصائر، الحسن بن سليمان الحلي، ط الأولى، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 137٠ه. ق.

٩4. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، المحدث النوري، ط الأولى، مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث، 14٠٨ه. ق.

٩5. المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، بيروت، دارالمعرفة، 14٠6ه. ق.

٩6. مسند أحمد بن حنبل.

٩7. معاني الأخبار، الصدوق، النشر الإسلامي، 1361ه. ش.

ص: 200

98. المعجم الأوسط، الطبراني، دار الحرمين، 1415ه. ق.

99. المعجم الكبير، الطبراني، ط الثانية، القاهرة، مكتبة ابن تيمية.

100. مقتل أبي مخنف.

101. المقنع، الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، قم، مؤسسة الإمام المهدي، 1415ه. ق.

102. مناقب المهدي، الحافظ أبو نعيم الاصفهاني.

103. مناقب أميرالمؤمنين، ابن المغازلي الشافعي.

104. منسك المروزي، أحمد بن حنبل.

105. منهاج السنة، ابن تيمية الحراني الدمشقي، دارالآثار.

106. الموطأ، عبدالله مالك بن أنس.

107. ميزان الاعتدال، الذهبي، ط الأولى، بيروت، دارالمعرفة، 1382ه. ق.

108. نظم درر السمطين، الزرندي الحنفي، ط الأولى، 1377ه. ق.

109. نيل الأوطار، الشوكاني.

110. الهداية الكبرى، الحسين بن حمدان الخصيبي، ط الرابعة، بيروت، مؤسسة البلاغ، 1411ه. ق.

111. وسائل الشيعة، الحر العاملي، ط الثانية، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1414ه. ق.

112. الوسيلة إلى نيل الفضيلة، ابن حمزة، ط الأولى، قم، مكتبة المرعشي النجفي، 1408ه. ق.

113. وفاء الوفاء، السمهودي.

114. ينابيع المودة، القندوزي الحنفي، ط الأولى، دار الأسوة، 1416ه. ق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.