شخصيات من الحرمين الشريفين: مجموعه من الباحثين

اشارة

عنوان و نام پديدآور : شخصيات من الحرمين الشريفين: مجموعه من الباحثين/ گردآورنده مركز تحقيقات حج.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1390.

مشخصات ظاهري : 639 ص.

شابك : 978-964-540-340-7

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : صحابه -- سرگذشتنامه

موضوع : مسلمانان -- عربستان سعودي-- سرگذشتنامه

موضوع : اسلام -- سرگذشتنامه

موضوع : شيعه -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده : حوزه نمايندگي ولي فقيه در امور حج و زيارت. مركز تحقيقات حج

رده بندي كنگره : BP28/6/ش3 1390

رده بندي ديويي : 297/94

شماره كتابشناسي ملي : 2508843

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

مقدمة

ظاهرة الحجّ من أعظم مظاهر الحياة الاجتماعية للمسلمين، يغبطهم عليها مَن سواهم، وهي ظاهرة وإن بدأت من البُعد العبادي والعرفاني في علاقة الإنسان بربّه وخالقه، لكنّها لم تقف عند هذا الحدّ، بل راحت تواصل طريقها - بقوّة واستحكام - لتلج عمق الحياة السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة والفكريّة للمسلمين، فتشكّل نتيجة ذلك ظاهرةً فاعلةً في الحياة الإسلامية.

من هنا، يجب على الباحثين والمفكّرين وعلماء الدين ورجال الإصلاح الاجتماعي في بلاد المسلمين أن يحلّلوا هذه الظاهرة دوماً ويدرسوها بعمق وعلمية، بغية توظيف هذه الفريضة الإلهية لما فيه الخير والأحسن والأصلح للمسلمين جميعاً.

وفي هذا السياق، جاءت مجلّة «ميقات الحجّ» لبنةً في هذا السبيل؛ ليُساهم فيها العلماء والمفكرون والكتّاب، فتتظافر أفكارهم وأقلامهم لرفد مسيرتها، وتكون منتدًى للحوار والتدارس، ومسرحاً للبحث والتحقيق، متعاليةً عن الطائفية البغيضة، والحقد الأعمى، معتمدةً المنطق العلمي الرصين في نشر دعوة الإسلام ورسالة الحجّ وشعار مكّة.

ولكي تستكمل «ميقات الحج» طريقها، تزفّ إلى قرائها سلسلة «كتاب مجلةميقات الحج» ، تجمع فيه ما تمحور من مقالاتها وبحوثها على شيءٍ واحد، ليكون مادةً هامّةً، ومصدراً مُيسّراًللمراجعين والقرّاء.

وعلى هذا الأساس، وببركات الحج والحرمين الشريفين، انطلقت الحلقة الأولى منها

ص: 6

مختصةً بالمجال التراثي، تحت عنوان: «معجم ما ألّف في الحجّ» للكاتب المعروف الدكتور عبدالجبار الرفاعي.

فالحلقة الثانية جاءت بتأملات ورؤى في مناسك الحج والعمرة، وهي: «في ضيافة الرحمن» لسماحة آية الله الشيخ مهدي الآصفي.

والحلقة الثالثة منها حظيت بالمجال المعنوي والعرفاني للحج والزيارة، وكان عنوانها: «الحج رموز وحِكم» لسماحة آية الله الشيخ عبدالله جوادي آملى.

وها هي الحلقة الرابعة، وقد انفردت ب- «شخصيّات من الحرمين الشريفين» ؛ تقدمها مجلّة ميقات الحجّ لقارئها الكريم، وهي تأمل منه دوماً أن يمدّها بما تجود به أفكاره، ويسطّره يراعه، وأن يتحفها بملاحظاته النقدية المفيدة والبنّاءة. . ومن الله نستمدّ العون إنّه خير ناصر ومعين.

مجلة «ميقات الحج»

ص: 7

(١) عثمان بن مظعون

اشارة

فارس تبريزيان الحسّون (قدس سره)

إنّ الذي حرّضني على انتخاب هذا الموضوع والكتابة عنه جهات عديدة، أهمّها شُبهةٌ وُجّهت - ولا تزال توجّه - إلى الشيعة: بأنّهم لا يحترمون صحابة رسول الله (ص) ، ويقعون فيهم سبّاً وطعناً. وهذه الشبهة لا أساس لها من الصحة، فإنّ الشيعة تضع وافر احترامها في صحابة رسول الله (ص) وتعظّمهم، وتقتدي بهم، وتجعلهم مناراً تستنير به، أولئك الذين لم يرتدّوا ولم يبدّلوا ولم يبدعوا في الدين وبقوا على منهج النبيّ (ص)

فالشيعة تجري قواعد الجرح والتعديل على الجميع حتّى الصحابة، فمن كان منهم على دين محمّد (ص) ومات وهو على يقين من أمره، ولم يشك في دينه، فتجعله في أعلى القمم، وتقتدي به، ومن أبدع وشكّ في نبيّه ودينه وبدّل وغيّر، فالشيعة وكلّ حرّ جعل العقل امامه، يرفضه وينبذه ولايقتدي به، لأنه إذا اقتدى به اقتدى ببدعته وضلاله وشكّه.

وأمّا ما روي من أحاديث عن النبي (ص) أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، واحفظوني في أصحابي، ولا تسبّوا أصحابي. و. . . فهي أحاديث ضعيفة السند، غير قابلة للاعتماد عليها، ومع فرض صحّة سندها، فإنّها محمولة على الأصحاب الذين بقوا على

ص: 8

الدين، والتزموا بشرائط الصحبة، لا أولئك الذين بدّلوا وغيّروا وأبدعوا. . . ، وحاشا لرسول الله (ص) أن يأمر أمّته باتباع مَن أبدع وغيّر، وشكّ فى دينه، لمجرّد أنه صحابي.

والقرآن والحديث شاهدان على هذا المطلب، وهو ليس كلّ صحابي وكلّ من له صحبة مع الرسول (ص) يجب الاقتداء به واحترامه:

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً . (1)

وقال تعالى: . . . وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ . (2)

وقال تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ . (3)

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، الدالة على أنّ في الأصحاب منافقين وغير مؤمنين بالله ولابرسوله.

وأما الأحاديث فكثيرة جدّاً، منها:

قوله (ص) في خطبة حجّة الوداع:

«فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» . (4)

وقوله (ص) :

«أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إليّ رجال منكم، حتّى إذا أهويتُ لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربي أصحابي! يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك» . (5)

وقوله (ص) :

«إنّي أيّها الناس فرطكم على الحوض، فإذا جئت قام رجال، فقال هذا:


1- الفتح ١٠:4٨.
2- التوبة ١٠١:٩.
3- المنافقون ١:6٣ - ٣.
4- صحيح البخاري، ٩١:٩، كتاب الفتن، وذكر أحاديث كثيرة بهذا المعنى.
5- المصدر نفسه، ٨٧:٩

ص: 9

يارسول الله أنا فلان، وقال هذا: يا رسول الله أنا فلان، وقال هذا: يا رسول الله أنا فلان، فأقول: قد عرفتكم، ولكنّكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى» . (1)

وقوله (ص) لشهداء أحد:

«هؤلاء أشهد عليهم، فقال أبو بكر: ألسنا يا رسول الله إخوانهم، أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا؟ ! فقال رسول الله (ص) : بلى، ولكن لاأدري ما تحدثون بع

دي! ! !» . (2)

فالشيعة تقتدي بالصحابة الصلحاء المتّقين، الذين آمنوا بالله ورسوله وماتوا وهم على يقين مما هم عليه، كعثمان بن مظعون الذي عقدنا لأجله هذه الرسالة الوجيزة، حتّى نتعرّف على جوانب من حياته، ونجعلها قدوة نقتدي بها.

فإنّ الشيعة مطبقة على عدالته ووثاقته، وجعله في أعلى مرتبة الصالحين والمتقين، ومن الذين أبلوا بلاءً حسناً في صدر الإسلام، وجاهدوا بكلّ ما لديهم من قوّة لأجل إعلاء كلمة الإسلام، حتى قال الشيخ المامقاني: فالرجل فوق مرتبة الوثاقة والعدالة. (3)

وحاولت في هذه الرسالة أن أعتمد على مصادر الفريقين، ليخرج البحث متكاملاً.

إسمه ونسبه وصفته

عثمان بن مظعون - بالظاء المعجمة - بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، الجُمحي القرشي، ويكنّى أبا السائب. (4)

وكان شديد الأدمة، ليس بالقصير ولا بالطويل، كبير اللحية، عريضها. (5)


1- المستدرك، ٧4:4 - ٧5، وقال بعد ذكره للحديث: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
2- الموطّأ، 46٢:٢، كتاب الجهاد، الحديث ٣٢.
3- تنقيح المقال، ٢4٩:٢.
4- أسد الغابة، 5٩٨:٣ - الإصابة، 464:٢ - الاستيعاب، ١٠5٣:٣ - العقد الثمين، 4٩:6 - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - معجم الشعراء: ٢54 - المعرفة والتاريخ، ٢٧٢:١ - التاريخ الكبير، ٢١٠:6 - سير أعلام النبلاء، ١5٣:١ - المنتظم، ١٩٠:٣.
5- سير أعلام النبلاء، ١6٠:١ - الطبقات، 4٠٠:٣.

ص: 10

وقيل: كان عثمان بن مظعون أخا النبي (ص) من الرضاعة. (1)

ولادته

ولد في عصر ملؤه الجهل وانحطاط القيم الإنسانيّة، في عصر كان يسوده الظلم والجور، وعدم مراعاة حقوق الإنسان، لكنه - رضوان الله عليه - لم ينخرط في سلك أهل عصره، بل جعل عقله قائده وراشده، وسلك في حياته مسلك العقلاء والحكماء، حتّى قيل: إنه كان من حكماء العرب في الجاهلية. (2)

تحريمه الخمر في الجاهليّة

وممّا يدلّ على حكمته قبل الإسلام، وسموّ عقله، ما اتفق عليه أصحاب السير والتاريخ من أنه حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية وقال:

لا أشرب شراباً يذهب عقلي، ويضحك بي مَن هو أدنى منّي، ويحملني على أن أنكح كريمتي، أو: ويحملني على أن أُنكح كريمتي مَن لاأريد.

وقيل: إنه لمّا حرّمت الخمر، أتي وهو بالعوالي، فقيل له: يا عثمان قد حرّمت الخمر، فقال: تبّاً لها، قد كان بصري فيها ثاقباً. (3)

وتنظّر البعض في ذيل الكلام، وهو: وقيل إنه لمّا حرّمت الخمر أتي وهو بالعوالي. . . ، وذكروا وجه النظر بأنّ آية التحريم نزلت بعد وفاة عثمان.

وأقول: عند أكثر أهل السنة أنّ الآية الثالثة في تحريم الخمر تدلّ على التحريم، والآية الأولى والثانية لايستفاد منهما التحريم، وعند الشيعة أنّ الآية الأولى تدل على التحريم، والثانية والثالثة مؤكدتان للحكم، فلعلّ القول بأنه لما حرّمت الخمر قيل لعثمان: ياعثمان


1- تنقيح المقال، ٢4٩:٢، نقلا عن المولى الوحيد.
2- الأعلام، ٢١4:4.
3- أسد الغابة، 5٩٩:٣ - العقد الثمين، 4٩:6 - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١؛ سير أعلام النبلاء، ١55:١ - الطبقات، ٣٩٣:٣ - ٣٩4 - غربال الزمان: ١٣ - شذرات الذهب، ٩:١ - الاستيعاب، ١٠54:٣ - المنتظم، ١٩٠:٣.

ص: 11

قد حرّمت الخمر فقال: . . . ، ناظر إلى الآية الأولى، والله العالم.

ومع اتفاق كلّ المصادر على أنّ عثمان بن مظعون حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية، فقد أخرج ابن المنذر، عن سعيد ابن جبير قال: لمّا نزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ. . . شربها قوم لقوله: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ، وتركها قوم لقوله: إِثْمٌ كَبِيرٌ ، منهم: عثمان بن مظعون. . . وهذا افتراء صريح على هذا الصحابي الجليل، فإنه متى شربها حتّى تركها؟ (1)

وهذا - أيضاً - يدلّ على أنّ أول آية في الخمر - وهي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ - نزلت في حياة عثمان، وهي دالّة على التحريم في نظر الشيعة.

التسمية بعثمان

ولسموّ مرتبة عثمان بن مظعون وقربه من الله - تعالى - ونبيّه (ص) ، ومكانته العالية في قلوب المؤمنين، سمّى الكثير من الأولياء والصلحاء أولادهم ب- (عثمان) ; لشدّة تعلّقهم بعثمان بن مظعون ومحبتهم له وإحياءً لذكراه.

ذكر الثقفي في تاريخه، عن هبيرة بن مريم، قال: كنّا جلوساً عند علي (ع) ، فدعا ابنه عثمان، فقال له: يا عثمان، ثمّ قال: إني لم اسمّه باسم عثمان. . . ، إنّما سمّيته باسم عثمان بن مظعون. (2)

وفي زيارة الناحية المقدسة: السلام على عثمان ابن أمير المؤمنين سميّ عثمان بن مظعون. (3)

وروي - أيضاً - عن عليّ (ع) أنّه قال: إنّما سمّيته باسم أخي عثمان بن مظعون. (4)


1- راجع: الغدير، ٢5٣:6.
2- تقريب المعارف: 5٢، نقلا عن تاريخ الثقفي.
3- البحار، ٢٧٠:١٠١، نقلا عن الاقبال ومزار المفيد والسيّد.
4- مقاتل الطالبيين: 5٨ - وعنه في البحار، ٣٨:45.

ص: 12

اُسرته

أمّه: سُخيلة بنت العنبس بن وهبان - أهبان - بن وهب بن حذافة بن جمح.

وإخوته: عبد الله بن مظعون، توفي سنة ٣٠ه، وقدامة بن مظعون، مات سنة ٣6ه.

وأولاده: السائب، وعبد الرحمن، أمّهما خولة بنت حكيم.

وزوجته: خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة الأوقص السُّلميّة، ويقال لها: خُوَيلَة.

وهي الّتي قالت لرسول الله (ص) بعد وفاة خديجة: يا رسول الله، ألا تتزوّج؟ قال: مَن؟ قالت: إن شئت بكراً، وإن شئت ثيباً، قال: فمن البكر؟ قالت: بنت أبي بكر، قال: ومَن الثيّب؟ قالت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول. . . قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ، فذهبت إلى أبويهما وخطبتهما، فقبلا وتزوّجهما. (1)

وروت خولة عدّة أحاديث عن رسول الله (ص) (2)وذكر أنها إحدى خالات النبي (ص) (3)

إسلامه

وأسلم عثمان بن مظعون بعد ثلاثة عشر رجلاً، انطلق هو وجماعة حتّى أتوا رسول الله (ص) ، فعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه، فأسلموا جميعاً، وذلك قبل دخول رسول الله (ص) دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها. (4)

وروي أنّ عثمان بن مظعون قال: نزلت آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ على النبيّ (ص) وأنا عنده، وذكر أنّه شاهد رسول الله (ص) على غير حالته الطبيعية، فلمّا سأله: يارسول الله (ص) ما رأيتك فعلت الّذي فعلت اليوم، ما حالك؟ قال رسول الله (ص) : ولقد


1- الطبقات، ٣٩٣:٣ و 4٠٠ - 4٠٢ - الاستيعاب، ١٠5٣:٣ - اسد الغابة، 5٩٨:٣ - المنتقى في مولود المصطفى للكازروني: 65 - وعنه في البحار، ٢٣:١٩ - مسند أحمد، ٢١٠:6 - ٢١١.
2- مسند احمد، 4٠٩:6 - 4١٠.
3- المصدر نفسه، 4٠٩:6.
4- أسد الغابة، 5٩٨:٣ - الإصابة، 464:٢ - الاستيعاب، ١٠5٣:٣ - سير أعلام النبلاء، ١55:١ - الطبقات، ٣٩٣:٣ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - العقد الثمين، 4٩:6.

ص: 13

رأيتَه؟ فأجابه عثمان: نعم، قال رسول الله: ذاك جبرئيل لم يكن لي همّة غيره، ثم تلا عليه رسول الله (ص) ما أنزل عليه.

قال عثمان: فقمت من عند رسول الله (ص) معجباًبالّذي رأيت، فأتيت أبا طالب وقرأتُ ما أوحي إلى النبيّ، فعجب أبو طالب، وقال: يا آل غالب اتبعوه ترشدوا وتفلحوا، فو الله مايدعو إلاّ إلى مكارم الأخلاق. . .

وروي أيضاً: أنّ عثمان قال: كان أول إسلامي حبّاً من رسول الله (ص) ، ثمّ تحقق ذلك اليوم لمّا شاهدت الوحي إليه، واستقرّ الإيمان في قلبي. (1)

الآيات النازلة في عثمان

١ - وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ . (2)

قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ نزلت في علي (ع) وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأصحاب لهم. (3)

٢ - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. . . . (4)

نزلت في عدّة من الصحابة، منهم: عثمان بن مظعون وعمّار بن ياسر وسلمان، حرّموا على أنفسهم الشهوات وهمّوا بالإخصاء. (5)

وروي: أنّ. . . وعثمان بن مظعون ونفراً من أصحاب رسول الله (ص) تعاقدوا أن يصوموا


1- مسند أحمد، ٣١٨:١ - سعد السعود: ١٢٢ - ١٣٣ - وعنه في البحار، ٢6٨:١٨ - ٢٧٠ - ونقله في البحار أيضاً، ١١٢:٢٢ عن قصص الأنبياء - المنتظم، ١٩٠:٣.
2- البقرة، 45:٢ - 46.
3- تفسير الحبري: ٢٣٩ - شواهد التنزيل: ١١5 - المناقب لابن شهر آشوب، ٩:٢، وقال فيه: رواه الفلكي في إبانة ما في التنزيل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
4- المائدة، ٨٧:5.
5- شواهد التنزيل: ٢٣٩ و ٢5٩ - تفسير فرات الكوفي: ١٣١ - ١٣٢ - تفسير الحبري: ٢64.

ص: 14

النهار، وي

قوموا الليل، ولا يأتوا النساء، ولايأكلوا اللحم، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله تعالى: . . . (1)

وروي عن أبي عبد الله (ع) : نزلت في. . . . وبلال وعثمان بن مظعون، فأمّا. . . فإنّه حلف أن لا ينام بالليل أبداً إلاّ ما شاء الله، وأمّا بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً، وأمّا عثمان بن مظعون فانه حلف أن لا ينكح أبداً. . .

ولمّا أخبر النبي (ص) نادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيبات، ألا أنّي أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي، فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك، فأنزل الله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ. . . . (2)ورويت أحاديث كثيرة بهذا المعنى (3)، نكتفي منها بهذا المقدار.

٣ - لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . (4)

نزلت في عدّة منهم عثمان بن مظعون، وكان عثمان قد همّ بطلاق زوجته وأن يختصي ويحرم اللحم والطيب، فردّ عليه النبي واُنزل في ذلك: . . . (5)

4 - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما


1- شواهد التنزيل: ٢6٠ - كشف الغمة، ٣١٩:١.
2- المائدة، ٨٩:5 - وانظر المناقب لابن شهر آشوب، ١٠٠:٢ - ١٠١ - تفسير علي بن إبراهيم القمي: ١66 - وعنه في البحار، ١١6:٧٠ - ١١٧ - تفسير مجمع البيان، ٢٣6:٣ - وعنه في البحار، ١١٣:65 - وراجع البحار أيضاً، ١١٢:65 و ١١٣ و ١١4.
3- راجع: تفسير البرهان، 4٩4:١ - والدرّ المنثور، ٣٠١:٢ و ٣٠٧ و ٣٠٨ و ٣٠٩ و ٣١٠ - وتفسير الطبري، ٧:٧ و ٨ و ٩ - ومسند أحمد، ١٠6:6 و ٢٢6.
4- المائدة، ٩٣:5.
5- الاستيعاب، ١٠54:٣ - العقد الثمين، 4٩:6.

ص: 15

يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . (1)

قال الشيخ الطبرسي: . . . وقيل إنّ الأبكم أبي بن خلف، ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون، عن عطاء. (2)

وصف أميرالمؤمنين (ع) لعثمان

قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) :

«كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يُعظمه في عيني صِغرُ الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لايجد، ولايكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتاً، فإن قال بدّ القائلين ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً، فإن جاءَ الجِدّ فهو ليثُ غاب وصِلُّ واد، لا يدلي بحجّة حتّى يأتي قاضياً، وكان لا يلومُ أحداً على ما يجد العذر في مثله حتّى يسمع اعتذارَه، وكان لا يشكو وجعاً إلاّ عند برئه، وكان يفعل ما يقول ولايقول ما لا يفعل، وكان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه; فعليكم بهذه الأخلاق فالزموها وتنافسُوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خيرٌ من ترك الكثير» . (3)

والمشار إليه ب- (كان لي فيما مضى أخ في الله) عثمان بن مظعون على أحد الأقوال، وقيل: أبوذر، وقيل: غيرهما. (4)

ويدلّ على أنّ المراد بالأخ هنا عثمان بن مظعون ما ورد من وصف أميرالمؤمنين لعثمان بالأخ، كقوله (ع) في وجه تسمية ولده بعثمان: إنّما سمّيته باسم أخي عثمان بن مظعون. (5)

وكان عثمان بن مظعون من الملازمين لأميرالمؤمنين (ع) ، حتّى نشاهد أنّ اكثر الآيات


1- النحل، ٧6:١6.
2- مجمع البيان، 5٧٨:6، وعنه في البحار.
3- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 6٩:4 - ٧٠.
4- شرح نهج البلاغة لكمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، ٣٩٠:5.
5- مقاتل الطالبيين: 5٨ - وعنه في البحار، ٣٨:45.

ص: 16

النازلة في حقّ عثمان هي في حقّ عليّ (ع) وسائر أصحابه.

ولو كان من المقدّر أن يبقى عثمان بعد وفاة رسول الله (ص) لكنت تراه يقف موقف سلمان وأبي ذر وعمار والمقداد في قِبال الأحداث، ولشاهدته من حواري أميرالمؤمنين (ع)

تعذيب قريش لعثمان وهجرته وزهده

وبعد أن أسلم عثمان (قدّس الله روحه) وأعلن إسلامه، واجهته قريش بالأذى والسطوة، كما هو ديدنها مع رسول الله (ص) وأصحابه. وكانت بنو جُمح تؤذي عثمان وتضربه وهو فيهم ذو سطوة وقَدْر. (1)

ولمّا اشتدّ أذى المشركين على الذين أسلموا، وفتن منهم من فتن، أذن الله سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، التي كانت متجراً لقريش يجدون فيها رفقاً من الرزق وأماناً. فخرجوا متسلّلين سرّاً، وأميرهم عثمان بن مظعون، فيسّر الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار، فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة، وخرجت قريش في أثرهم، ولمّا وصلوا البحر لم يدركوا منهم أحداً.

ومكث عثمان بن مظعون وأصحابه في الحبشة، حتّى بلغهم أنّ قريشاً قد أسلمت، فأقبلوا نحو مكة، وما إن اقتربوا منها حتّى عرفوا أنّ قريشاً لم تسلم، وأنها ما زالت على عدائها لرسول الله (ص) فثقل عليهم أن يرجعوا، وتخوّفوا أن يدخلوا مكة بغير جوار من بعض أهل مكة، فمكثوا مكانهم حتّى دخل كلّ رجل منهم بجوار من بعض أهل مكة، ودخل عثمان بن مظعون مكة بجوار الوليد بن المغيرة.

ولمّا رأى عثمان ما يلقى رسول الله (ص) وأصحابه من الأذى والبلاء، وهو يغدو ويروح بأمان الوليد بن المغيرة، قال: والله، إنّ غدوّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى والبلاء في الله ما لا يصيبني، لنقصٌ كبير في نفسي.


1- شرح نهج البلاغة، ٢6٨:١٣.

ص: 17

فمضى إلى الوليد بن المغيرة، فقال له: يا أبا عبد شمس، وفَت ذمّتك، وقد كنتُ في جوارك، وقد أحببت أن أخرج منه إلى رسول الله (ص) ، فلي به وأصحابه أسوة.

فقال الوليد: فلعلك يا بن أخي أوذيتَ أو انتهكتَ؟

قال عثمان: لا، ولكن أرضى بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره.

قال: فانطلق إلى المسجد فاردد عليّ جواري علانية كما أجرتُك علانية.

فانطلقا، حتّى أتيا المسجد.

فقال لهم الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد عليّ جواري، فقال عثمان: قد صدق، قد وجدته وفياً كريم الجوار، ولكني أحببت أن لا أستجير بغيرالله، فقد رددت عليه جواره. (1)

ومرّ عثمان بن مظعون بمجلس من قريش، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن كلاب القيسي ينشدهم: «ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل» .

فقال عثمان: صدقت.

فقال لبيد: «وكلُّ نعيم لا محالة زائلُ» .

فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول أبداً.

فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟

فقال رجل: إنّ هذا سفيه من سفهائنا قد فارق ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله.

فردّ عليه عثمان، فقام إليه ذلك الرجل، فلطم عينه فخضرها.

فقال الوليد بن المغيرة لعثمان: إن كانت عينك لغنية عمّا أصابها، لِمَ رددت جواري؟

فقال عثمان: بل والله إنّ عيني الصحيحة لفقيرة لمثل ما أصاب أختها في الله، لا حاجة لي في جوارك.

وفي بعض المصادر:

فقال الوليد: هل لك في جواري؟


1- معجم الشعراء: ٢54 - سير أعلام النبلاء، ١55:١ - الطبقات، ٣٩٣:٣ - حلية الأولياء، ١٠٣:١ - ١٠5 - الإصابة، 464:٢ - أسد الغابة، 5٩٨:٣ - زاد المعاد، ٢٣:٣ - ٢6 - تفسير مجمع البيان، ٢٣٣:٣ - ٢٣4 وعنه في البحار.

ص: 18

فقال عثمان: لا أرَبَ لي في جوار أحد إلاّ في جوار الله. (1)

ثم قال عثمان بن مظعون فيما أصيب من عينه:

فإن تك عيني في رضا الربّ نالها

يدا ملحد في الدين ليس بمهتد

فقد عوض الرحمن منها ثوابه

ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد

فإنّي وإن قلتم غويّ مضلّل

سفيه على دين الرسول محمد

أريد بذاك الله والحقّ ديننا

على رغم مَن يبغي علينا ويعتدي (2)

وقال أبو طالب _ وقد غضب لعثمان بن مظعون حين عذّبته قريش ونالت منه _ :

أمَّن تذكّر دهر غير مأمون

أصبحت مكتئباً تبكي كمحزون

أمَّن تذكّر أقوام ذوي سفه

يغشون بالظلم مَن يدعو إلى الدين

ألا ترون _ أذلّ الله جمعكم

_

أنّا غضبنا لعثمان بن مظعونِ

ونمنع الضيمَ مَن يبغي مضامتنا

بكلّ مطرد في الكفّ مسنونِ

ومرهقات كأنّ الملح خالطها

يشفى بها الدّاء من هام المجانين

حتّى تقرّ رجال لا حلوم لها

بعد الصعوبة بالإسماح واللين

أو تؤمنوا بكتاب منزل، عجب

على نبيّ كموسى أو كذي النونِ (3)

وذكر مثل هذه الأبيات أبو نعيم الأصفهاني، منسوبة إلى أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، قالها فيما أصاب من عين عثمان بن مظعون:

أمن تذكر دهر غير مأمون

أصبحت مكتئباً تبكي كمحزون

أمن تذكر أقوام ذوي سفه

يغشون بالظلم مَن يدعو إلى الدين

لا ينتهون عن الفحشاء ما سلموا

والغدر فيهم سبيل غير مأمون


1- راجع: خزانة الأدب، ٢55:٢ - ٢56 - الإصابة، 464:٢ - غربال الزمان: ١٣ - شذرات الذهب، ١٠:١ - حلية الأولياء، ١٠٣:١ - ١٠4 - أسد الغابة، 5٩٨:٣.
2- حلية الأولياء، ١٠4:١.
3- شرح نهج البلاغة، ٧٣:١4.

ص: 19

ألا ترون _ أقلّ الله خيرهم _

أنّا غضبنا لعثمان بن مظعونِ

إذ يلطمون ولا يخشون مقلته

طعناً دراكاً وضرباً غير مأفونِ

فسوف يجزيهم إن لم يمت عجلاً

كيلاً بكيل جزاءً غير مغبونِ (1)

واشتدّ البلاء من قريش على من قدم من مهاجري الحبشة وغيرهم، وسطت بهم عشائرهم، ولقوا منها تعنيفاً شديداً، وصعب عليها ما بلغها عن النجاشي من حسن جواره لهم، فأذن لهم رسول الله بالخروج مرّةً ثانية إلى أرض الحبشة.

وهل خرج معهم عثمان بن مظعون؟

صرّح بهجرته - مرّة ثانية - إلى أرض الحبشة ابن سعد بالاعتماد على رواية محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر، والنووي. (2)

وفيه نظر، لأن الذين هاجروا الهجرة الأولى رجعوا إلى مكة قبل الهجرة النبوية، والذين هاجروا الهجرة الثانية رجعوا عام خيبر، أي بعد وفاة عثمان بن مظعون الّذي اشترك في حرب بدر، وهي قبل خيبر. ولعل منشأ الاشتباه تصريح البعض بمهاجرة عثمان الهجرتين (3)، فحملوه على الأولى والثانية للحبشة، والظاهر أنّ الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة.

وصرّح ابن الأثير الجزري: أنّ عثمان بن مظعون هاجر إلى الحبشة هو وابنه السائب الهجرةَ الأولى مع جماعة من المسلمين، وذكر كيفية رجوعه وما جرى له مع لبيد وقال: ثمّ هاجر عثمان إلى المدينة وشهد بدراً. (4)

وقال البعض: قد ذكر في هذه الهجرة الثانية جماعة ممّن شهد بدراً، فإمّا أن يكون هذا وهماً، وإمّا أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر، فتكون لهم ثلاث قدمات: قدمة قبل الهجرة، وقدمة قبل بدر، وقدمة عام خيبر، ولذلك قال ابن سعد وغيره: إنهم لمّا سمعوا


1- حلية الأولياء، ١٠4:١. وذكرت الأبيات مع زيادة في الديوان المنسوب لأمير المؤمنين صفحة ٢56 من المخطوطة.
2- الطبقات، ٣٩٣:٣ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٣6:١.
3- سير أعلام النبلاء، ١55:١.
4- أسد الغابة، 5٩٨:٣.

ص: 20

هجرة رسول الله (ص) إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً ومن النساء ثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً. (1)

وعلى أيّ حال، فهجرة عثمان بن مظعون من مكة إلى المدينة أمرٌ مقطوع به، فقد هاجر هو وأخواه قدامة وعبد الله وابنه السائب إلى المدينة، ونزلوا على عبدالله بن سلمة العجلاني، وقيل: على خذام بن وديعة. (2)

قال الواقدي: آل مظعون ممن أوعب في الخروج إلى الهجرة رجالهم ونساؤهم، وغلقت بيوتهم بمكة. (3)

وروي عن أمّ العلاء، قالت: نزل رسول الله (ص) والمهاجرون معه المدينة في الهجرة، فتشاحت الأنصار فيهم أن ينزلوهم في منازلهم، حتّى اقترعوا عليهم، فطار لنا عثمان بن مظعون على القرعة، تعني: وقع في سهمنا. (4)

وأما زهده وقناعته بالشيء القليل وتركه الدنيا فيدل عليه: ما روي من أنّه دخل يوماً المسجد، وعليه نمرة قد تخلّلت فرقّعها بقطعة من فروة، فرقّ له رسول الله (ص) ، ورقّ أصحابه لرقته، فقال: كيف أنتم يغدو أحدكم في حلّة ويروح في أخرى، وتوضع بين يديه قصعة وترفع أخرى، وسترتم البيوت كما تستر الكعبة؟ قالوا: وددنا أنّ ذلك قد كان يا رسول الله فأصبنا الرخاء والعيش، قال: فإنّ ذلك لكائن، وأنتم اليوم خير من اُولئك. (5)

مؤاخاته واشتراكه في بدر

آخى رسول الله (ص) بين عثمان بن مظعون وبين أبي الهيثم بن التّيهان الأنصاري. (6)


1- زاد المعاد، ٢5:٣ - ٢6.
2- سير أعلام النبلاء، ١5٨:١ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - الطبقات، ٣٩5:٣ - ٣٩6.
3- سير أعلام النبلاء، ١5٨:١ - الطبقات، ٣٩5:٣ - ٣٩6.
4- الطبقات، ٣٩6:٣ - صحيح البخاري، ٧١:٢.
5- حلية الأولياء، ١٠5:١.
6- الطبقات، ٣٩6:٣ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١.

ص: 21

وشهد عثمان بن مظعون بدراً باتفاق المؤرخين. (1)وأُسر حنظلة بن قبيصة بن حذافة على يد عثمان بن مظعون. (2)وقُتل أوس بن المغيرة بن لوذان على يد عليّ (ع) وعثمان بن مظعون. (3)

عثمان والرواية

كان عثمان بن مظعون من الأوائل الّذين أسلموا، ومن الأوائل الّذين لبّوا نداء ربّهم، وتوفي في حياة رسول الله (ص) في بادئ الإسلام، ونال درجة عالية بعد وفاته بصلاة رسول الله (ص) عليه، ولم يروِ عن رسول الله (ص) إلاّ قليلاً، وذلك لعدم دركه من زمان الإسلام إلاّ أوائله.

فيروي عثمان بن مظعون عن رسول الله (ص) (4)، ورواياته عن رسول الله قليلة جدّاً.

ويروي عن عثمان بن مظعون: عبدالله بن جابر (5)، وسعد بن مسعود الكناني (الكندي) (6)

عبادته واجتهاده واعتزاله النساء وحياؤه

كان عثمان - رضوان الله عليه - من أشدّ الناس اجتهاداً في العبادة، يصوم النهار ويقوم الليل. ووصل به الجدّ في العبادة أنه ترك وتجنّب الشهوات بالمرة، واعتزل النساء. (7)حتّى روي: أنّ زوجته دخلت على نساء النبي (ص) فرأينها سيئة الهيئة، فقلن لها: ما لكِ؟ فما في قريش أغنى من بعلك! قالت: ما لنا منه شيء، أمّا ليله فقائم، وأمّا نهاره فصائم. فدخل


1- أسد الغابة، 5٩٨:٣ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - الطبقات، ٣٩6:٣ - التاريخ الصغير، 46:١ - المنتظم، ١٩٠:٣ - ومصادر أخرى كثيرة جدّاً.
2- شرح نهج البلاغة، ٢٠4:١4.
3- المصدر نفسه، ٢١٢:١4.
4- ربيع الأبرار، ٢65:٢ - تهذيب الأحكام، ١٩٠:4، الحديث 54١.
5- تهذيب الأحكام، ١٩٠:4، الحديث 54١.
6- المصدر نفسه، ١٢٢:6، الحديث ٢١٠.
7- الاستيعاب، ١٠54:٣ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - أسد الغابة، 5٩٩:٣ - العقد الثمين، 4٩:6 - المنتظم، ٣:١٩٠.

ص: 22

النبيُّ (ص) ، فذكرن ذلك له، فلقيه النبيّ (ص) ، فقال: أمالك بي أسوة؟ قال: بأبي وأمّي وما ذاك؟ قال: تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: إنّي لأفعل، قال: لا تفعل، إنّ لعينيك عليك حقّاً، وإنّ لجسدك حقّاً، وإنّ لأهلك حقّاً، فصلِّ ونمْ وصم وافطر.

وفي رواية أخرى: يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، ومن سنّتي النكاح.

وفي رواية أخرى قال النبيّ (ص) : إنّي آتي النساء وأفطر بالنهار وأنام الليل، فمن رغب عن سنّتي فليس مني، وأنزل الله - تعالى -: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (1).

فأتتهن زوجة عثمان بعد ذلك عطرةً كأنّها عروس، فقلن لها: مه؟ قالت: أصابنا ما أصاب الناس. (2)

وروي: أنّ عثمان قال: يا رسول الله (ص) ! لا أحبّ أن ترى امرأتي عورتي، قال: ولِمَ؟ قال: استحيي من ذلك، قال: إنّ الله قد جعلهالك لباساً، وجعلك لباساً لها. . . ، فلمّا أدبر قال رسول الله (ص) : إنّ ابن مظعون لحييّ ستير. (3)

الرهبانية والسياحة والتبتّل

خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسان ليكون نواة صالحة، وكائناً عاملاً في كلّ نواحي الحياة الإنسانية، وليس من حكمة خلق الله للإنسان أن يترهّب ويعتزل المجتمع، ويعيش


1- المائدة: ٨٧ - ٨٨.
2- الطبقات، ٣٩4:٣ - ٣٩5 - سير أعلام النبلاء، ١5٧:١ - ١5٨ - حلية الأولياء، ١٠6:١ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - مسند أحمد، ١٠6:6 و ٢٢6 - سنن الدارمي، ١٧٩:٢، الحديث ٢١6٩ - تفسير علي بن إبراهيم القمي: ١66 - وعنه في البحار، ١١6:٧٠ - ١١٧ - الكافي للكليني، 56:٢ و 5٧ - وعنه في البحار، ٢64:٢٢ - تنقيح المقال، ٢4٩:٢.
3- الطبقات، ٣٩4:٣ - سير أعلام النبلاء، ١5٧:١ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - بحار الأنوار،٧٣:٩٣.

ص: 23

لوحده يعبد ربّه.

وفي بادئ الإسلام كانت فكرة الرهبانية، وترك المجتمع والملذّات الدنيوية، تدور في خُلد بعض المتديّنين، وذلك لشدّة تديّنهم وحرصهم على العبادة وترك الدنيا.

ومن الأوائل الذين فكّروا بالرهبانية والسياحة عثمان بن مظعون - رضوان الله عليه - فإنّه أول ما أقدم عليه من عمل هو: أنه كان يقوم الليل ويصوم النهار، وترك زوجته بالمرّة، وبعدها استأذن رسول الله (ص) في الرهبانية والسياحة والتبتّل وطلاق زوجته والخصاء، فنهاه عن ذلك وردّه عليه. (1)

فعن ابن شهاب: أنّ عثمان بن مظعون أراد أن يختصي ويسيح في الأرض، فقال له رسول الله (ص) : أَليس لك فيّ أسوة حسنة؟ فأنا آتي النساء وآكل اللحم وأصوم وأفطر، إنّ خصاء أمّتي الصيام، وليس من أمّتي من خصى أو اختصى. (2)

وروي أيضاً عن عثمان أنه قال: قلت لرسول الله (ص) : يا رسول الله! أردت أن أسألك عن أشياء، فقال: وما هي يا عثمان؟ قال: قلت: إنّي أردتُ أن أترهب، قال: لا تفعل ياعثمان، فانّ ترهّب أمّتي القعود في المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.

قال: فإني أردت يا رسول الله! أن أختصي، قال (ص) : لا تفعل يا عثمان، فإنّ اختصاء أمّتي الصيام. (3)

وروي أيضاً أنه قال لرسول الله (ص) : إنّ نفسي تحدّثني بالسياحة وأن ألحق الجبال، قال: يا عثمان لا تفعل، فإنّ سياحة أمّتي الغزو والجهاد. (4)


1- أسد الغابة، 5٩٩:٣ - الاستيعاب، ١54:٣ - سير أعلام النبلاء، ١55:١ - الاصابة،464:٢ - الطبقات، ٣٩4:٣ - مسند أحمد، ١٧5:١ و ١٧6 و ١٨٣ - صحيح البخاري، ١١٨:6 و١١٩ - سنن ابن ماجة، 5٩٣:١، الحديث ١٨4٨ - صحيح مسلم، ١٧6:٩ - ١٧٧ - سنن الترمذي، ٣٩4:٣، الحديث ١٠٨٣ - سنن النسائي، 5٨:6 - سنن الدارمي، ١٧٨:٢، الحديث ٢١6٧.
2- الطبقات، ٣٩4:٣ - سير اعلام النبلاء، ١5٧:١.
3- تهذيب الأحكام، ١٩٠:4 - ١٩١، الحديث 54١، وروى المقطع الأول في مشكاة الأنوار: ٢6٢ - وعنه في البحار، ٣٨٢:٨٣.
4- تهذيب الأحكام، ١٢٢:6، حديث ٢١٠.

ص: 24

وروي: أنّه اتخذ بيتاً يتعبّد فيه، فأتاه النبي (ص) ، فأخذ بعضادتي البيت وقال: يا عثمان، إنّ الله لم يبعثني بالرهبانية - مرّتين أو ثلاثاً -، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة. (1)

وروي عنه - أيضاً - أنّه قال: يا رسول الله! إني رجل تشقّ عليّ العزبة في المغازي، أفتأذن لي في الخصاء؟ قال: لا، ولكن عليك بالصوم، فإنه مجْفَر (محصن) (2).

وروي عنه - أيضاً -: أنه همّ بطلاق زوجته، وأن يختصي ويحرم اللحم والطيب، فردّعليه النبي (ص) ، واُنزل في ذلك: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . (3)

وروي أيضاً: أنه توفي ابن لعثمان بن مظعون، فاشتدّ حزنه عليه، حتّى اتخذ داره مسجداً يتعبّد فيه، فبلغ ذلك رسول الله، فأتاه، فقال له: يا عثمان، إنّ الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانيّة، إنّما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، يا عثمان بن مظعون! للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب، فما يسرّك أن لا تأتي باباً منها إلاّ وجدت ابنك إلى جنبك آخذاً بحجزتك يشفع لك إلى ربك، قال: بلى. . . (4)

شعره

ولم يكن عثمان من الشعراء المعروفين، لكنه كان قادراً على نظم الشعر، والذي وصل إلينا شيء منه.

وقد مرّت منه عدّة أبيات في فصل تعذيب قريش لعثمان وهجرته. فمن شعره حينما هاجر إلى أرض الحبشة، وبلغه أنّ أمية ابن خلف شتمه، فقال:


1- سير أعلام النبلاء، ١5٨:١ - الطبقات، ٣٩5:٣.
2- شرح نهج البلاغة، ١٣٢:١٩ - التاريخ الكبير، ٢١٠:6 - الاستيعاب، ١٠55:٣ - الطبقات، ٣٩5:٣ - المعرفة والتاريخ، ٢٧٢:١ - ٢٧٣.
3- المائدة: ٩٣ - وانظر الاستيعاب، ١٠54:٣ - العقد الثمين، 4٩:6.
4- أمالي الصدوق: 4٠ - وعنه في البحار، ١٧٠:٨.

ص: 25

أتيم بن عمرو الّذي فار ضغنه

ومن دونه الشرمان والترك أجمع

أأخرجتني من بطن مكّةَ آمناً

وألحقتني من صرح بيضاء تقدع؟

تريش نبالاً لا يؤاتيك ريشُها

وتبري نبالاً ريشها لك أجمع

فكيف إذا نابتك يوماً ملمة

وأسلمك الأوباش ما كنت تجمع؟ (1)

وفاته

نصّ كثير من المؤرّخين: على أنّ عثمان بن مظعون أول من مات بالمدينة من المهاجرين. (2)

وأمّا تاريخ وفاته، فإنّه كان بعد أن شهد بدراً، وفي تحديد تاريخ وفاته عدّة أقوال:

(أ) في شعبان بعد سنتين ونصف من الهجرة. (3)

(ب) في السنة الثانية من الهجرة. (4)

(ج) بعد اثنين وعشرين شهراً من مقدم رسول الله (ص) إلى المدينة (5)، وهذا يدلّ على أنه توفي في أواخر سنة اثنتين.

(د) بعدمقدم رسول الله (ص) إلى المدينة بستة أشهر (6)، وهذا إنما يكون بعد مقدمه من غزوة بدر، لأنه لم يختلف أحد في أنه شهدها.

وذكرت أم العلاء أنّ عثمان بن مظعون اشتكى عندهم، وقالت: مرّضناه، فلمّا توفي جعلناه في أثوابه. فدخل عليه رسول الله (ص) ، فأكب عليه يقبّله ويقول: رحمك الله يا عثمان،


1- معجم الشعراء: ٢54 - ربيع الأبرار، ٨6٠:٢.
2- الإصابة، ٢64:٢ - أسد الغابة، 5٩٩:٣ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - الاستيعاب، ١٠5٣:٣ - غربال الزمان: ٣.
3- تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - الاستيعاب، ١٠54:٣ وفيه على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة - العقد الثمين، 4٩:6 - الطبقات، ٣٩6:٣ - سير أعلام النبلاء، ١5٩:١.
4- الإصابة، 464:٢ - أسد الغابة، 5٩٩:٣ - الاستيعاب، ١٠54:٣ - غربال الزمان: ٣ - العبر، ١4:١ - المنتظم، ١٩١:٣.
5- الاستيعاب، ١٠54:٣ - العقد الثمين، 4٩:6.
6- الاستيعاب، ١٠54:٣.

ص: 26

ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك شيئاً.

وحديث تقبيل رسول الله (ص) لعثمان وهوميّت نقله الكل وبصور مختلفة، فبعض ذكر أنه قبله - بعد الغسل والتكفين - بين عينيه، والآخر ذكر أنه قبّله على خدّه. وبكى رسول الله (ص) على عثمان بن مظعون طويلاً، ودموعه تسيل على خدّ عثمان بن مظعون. (1)

وأمّا ما روي من أنه لما مات عثمان دخل عليه النبيّ (ص) فأكبّ عليه، فرفع رأسه، فرأوا أثر البكاء، ثم جثا الثانية، ثمّ رفع رأسه، فرأوه يبكي، ثمّ جثا الثالثة، فرفع رأسه وله شهيق، فعرفواأنّه يبكي، فبكى القوم، فقال: مه هذا من الشيطان، ثمّ قال: أستغفر الله، أباالسائب لقد خرجت منها ولم تلبّس منها بشيء. (2)

فغير صحيح، لأنه فيه جعل البكاء من الشيطان، مع أنّه ثبت من طريق الفريقين أنّ النبي (ص) بكى على ابنه ابراهيم، وفاضت عيناه على بنت بنته، وأنه بكى على عثمان بن مظعون كما ذكرنا قبل قليل وذكرنا مصادره.

ويؤيّده أيضاً ما روي عن ابن عباس: لما ماتت ابنة لرسول الله (ص) ، قال رسول الله (ص) : ألحقي بسلفنا الخيّر عثمان بن مظعون، فبكت النساء، فجعل عمر بن الخطاب يضربهنَّ بسوطه، فأخذ رسول الله بيده (ص) وقال: مهلاً يا عمر، ثم قال رسول الله (ص) : ابكين، وإيّاكنّ ونعيق الشيطان، ثم قال رسول الله (ص) : إنّه مهما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان. (3)

ومع ما كان عليه عثمان بن مظعون من عظيم الدرجة والسبق إلى الإيمان، فقد سمع


1- الكافي، ١6١:٣، الحديث 6 - حلية الأولياء، ١٠5:١ - ١٠6 - الاستيعاب، ١٠5٣:٣ - من لا يحضره الفقيه، ٩٨:١، الحديث 45٣ - زاد المعاد، ١٨٣:١ و 5٠٢ - غربال الزمان: ٣ - مجمع الزوائد، ٣٠٢:٩ - ربيع الأبرار، ١٨٧:4 - أسد الغابة، 6٠٠:٣ - مسند أحمد، 4٣:6 و 55 - 56 و ٢٠6 - الطبقات، ١٩٠:٣ - المنتظم، ١٩١:٣ - سنن ابن ماجة، 46٨:١، الحديث ١456 - سنن الترمذي، ٣١4:٣، الحديث ٩٨٩ - سنن ابي داوُد، ٢٠١:٣، الحديث ٣١6٣ - تنقيح المقال، ٢4٩:٢.
2- مجمع الزوائد،٩:٣٠٢ - سير أعلام النبلاء، ١56:١ - الاستيعاب، ١٠55:٣ - حلية الأولياء،١:١٠5.
3- سير أعلام النبلاء، ١56:١ - ١5٧ - الطبقات، ٣٩٨:٣ - ٣٩٩ - مجمع الزوائد، ٣:١٧ - الاستيعاب، ١٠55:٣ - ١٠56 - مسند أحمد، ٢٣٧:١ - الطبقات، ١٩٠:٣ - مسند أبي داود الطيالسي: ٣5١.

ص: 27

رسول الله (ص) امرأة تقول:

هنيئاً لك أبا السائب الجنة، أو: أذهب عنك أبا السائب! شهادتي عليك لقد أكرمك الله، أو طِبْ أبا السائب! نفساً إنّك في الجنة.

فقال لها رسول الله (ص) : وما يدريك، أو ما علمك بذلك؟

فقالت: يا رسول الله أبو السائب، أو كان يا رسول الله! يصوم النهار ويصلّي الليل، أو فارسك وصاحبك، أو: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن.

فقال رسول الله (ص) : والله ما نعلم إلاّ خيراً ثم قال: حسبك أن تقولي: كان يحب الله ورسوله، أو أجل مارأينا إلاّ خيراً أنا رسول الله والله ما أدري ما يصنع بي، أو أمّا هو فقد جاءه اليقين؛ والله، إني لأرجو الخير، وإني لرسول الله، وما أدري ما يفعل بي. (1)

واختلفت المصادر في ذكر اسم المرأة التي قالت هذا القول لرسول الله (ص) ، فبعضها ذكرت أنها زوجته أم السائب، وفي بعضها أنها أم العلاء الأنصارية، وفي بعضها أنها أم خارجة بن زيد، وفي بعضها أنها عجوز.

وكذلك اختلفت المصادر في كيفية وقوعها، ففي بعضها أنها قالت هذا القول وراء جنازته، وفي بعضها أنها قالت هذا القول لما وضع في قبره، وفي بعضها لما قبر، وفي بعضها غير هذا.

وعلى كلّ حال فإن ما قاله رسول الله (ص) لم يكن نقصاً في درجة عثمان بن مظعون، أو تشكيكاً فيه، لأنه قرنه بنفسه، ووصفه بصفات المتقين، ولكن كان قوله (ص) تعليماً لنا، بأنّ الإنسان مهما كثرت عبادته واتقى، لابدّ من أن يبقى بين الخوف والرجاء، ولا يجزم بأنه

من أهل الجنة ومن عباد الله المقرّبين، ويدلّ على كراهية جزم الإنسان بأنه


1- سير أعلام النبلاء، ١56:١ - ١5٧ و ١5٩ - ١6٠ - الطبقات، ٣٩٨:٣ - ٣٩٩ - مجمع الزوائد، ١٧:٣ و ٣٠٢:٩ - الاستيعاب، ١٠55:٣ - ١٠56 - التاريخ الصغير، 46:١ - 4٧ - حلية الأولياء، ١٠4:١ و ١٠6 - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - أسد الغابة، 6٠٠:٣ - الطبقات، ٣٩٩:٣ - الكافي، ٢6٢:٣، حديث 45 - مسند أحمد، ٢٣٧:١ و 4٣6:6 - الطبقات، ١٩٠:٣ - مسند أبي داوُد الطيالسي: ٣5١ - صحيح البخاري، ٧١:٢ و ١64:٣.

ص: 28

من أهل الجنة.

وروي عن رسول الله (ص) أنه قال: لما مرّ بجنازة عثمان بن مظعون: ذهبت ولم تلبّس منها بشيء. (1)وروي أنه لما رفع عثمان على السرير قال النبيّ (ص) : طوباك (طوبى لك) ياعثمان، لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها. (2)

وتحدّث أم العلاء: بأنها رأت في المنام لعثمان عيناً تجري، فأخبرت رسول الله (ص) ، فقال: ذلك عمله. (3)

وحظي عثمان بن مظعون بصلاة رسول الله (ص) عليه (4)، وبمشاركته في تشييعه ودفنه، فقد كان (ص) قائماً على شفير القبر الذي نزل فيه كلّ من عبد الله بن مظعون، والسائب بن عثمان بن مظعون، ومعمر بن الحارث.

ولما انتهى الدفن، قال النبي (ص) لرجل: هلمّ تلك الصخرة فاجعلها عند قبر أخي أعرفه بها، أدفن إليه مَن دفنت من أهلي (أهله) ، فقام الرجل فلم يطقها، فاحتملها رسول الله (ص) حتّى شوهد بياض ساعديه، ووضعها عند قبره، وقال: هذا قبر فرطنا، وكان الحجر بمثابة العلامة.

وكان رسول الله (ص) يزور قبر عثمان بن مظعون. (5)

واتفق أصحاب السير والتاريخ أنّ أول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون، إلاّ نادراً ممّن ذكر أنّ أسعد بن زرارة أول من دفن بالبقيع.


1- الموطّأ، ٢4٢:١ - الطبقات، ٣٩6:٣.
2- المنتظم، ١٩١:٣؛ ربيع الأبرار، ١٨٧:4؛ كنز العمال، 5٢5:١٣.
3- أسد الغابة، 6٠١:٣؛ سير أعلام النبلاء،١5٩:١-١6٠؛ التاريخ الصغير،١:46- 4٧؛ حلية الأولياء،١٠4:١؛ تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١؛ صحيح البخاري، ١64:٣ و ٧4:٨.
4- تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١؛ الطبقات، ٣٩6:٣ - ٣٩٧ وفيه أنه كبّر عليه أربع تكبيرات؛ سنن ابن ماجة، 4٨١:١، حديث ١5٠٢ وفيه أيضاً أنه كبّر عليه أربع تكبيرات، ومصادر أخرى كثيرة جدّاً.
5- الطبقات، ٣٩٩:٣ - 4٠٠؛ سير أعلام النبلاء،١54:١ و ١55؛ العقد الثمين، 4٩:6؛ تهذيب الأسماء واللغات،٣٢6:١؛ الاستيعاب، ١٠54:٣؛ غربال الزمان: ٣؛ أسد الغابة،6٠٠:٣؛ الطبقات،١٩٠:٣؛ دعائم الاسلام،٢٣٨:١؛ سنن ابن ماجة،4٩٨:١، الحديث ١56١؛ سنن الدارمي،٢١٢:٣، الحديث ٣٢٠6.

ص: 29

ولم يكن البقيع قبل دفن عثمان مقبرة، وكان يقال له: بقيع الخبخبة، وكان أكثر نباته الغرقد. (1)

وروي أنه (ص) أمر أن يبسطعلى قبر عثمان بن مظعون ثوب، وهو أول قبر بسط عليه ثوب. (2)

وروي أيضاً أنه (ص) رشّ قبر عثمان بن مظعون بالماء بعد أن سوّى عليه التراب. (3)

وقيل: إنّ أول مَن تبعه إبراهيم ابن النبيّ (ص) ، فلمّا توفي قال رسول الله (ص) : الحق بسلفنا (بسلفك) الصالح عثمان بن مظعون، ودفن إبراهيم إلى جنب عثمان. (4)

و لمّا ماتت ابنة لرسول الله (ص) قال رسول الله (ص) : اِلحقي بسلفنا الخيّر (الصالح) عثمان بن مظعون وأصحابه. (5)

وكان إذا مات ميّت قال النبي (ص) : قدموه على فرطنا، نعم الفرط لأمّتي عثمان بن مظعون، فيدفن عند عثمان بن مظعون. (6)

ولمّا توفي عثمان بن مظعون قالت زوجته:

يا عين جودي بدمع غيرممنون


1- الإصابة،464:٢؛ أسد الغابة،5٩٩:٣؛ سيرأعلام النبلاء،١54:١و١55؛ معجم الشعراء:٢54؛ العقد الثمين،4٩:6؛ تهذيب الأسماء واللغات،٣٢6:١؛ الاستيعاب،٣:١٠54- ١٠55؛ الطبقات،٣٩٧:٣؛ المستدرك،١٩٠:٣؛ المنتقى في مولود المصطفى، الفصل الخامس؛ وعنه في البحار، ١٣٢:١٩؛ المنتظم،١٩١:٣.
2- دعائم الاسلام، ٢٣٨:١ - وعنه في البحار، ٢١:٨٢.
3- دعائم الاسلام، ٢٣٩:١ - وعنه في البحار، ٢٢:٨٢.
4- الاستيعاب، ١٠5٣:٣ - أسد الغابة، 6٠٠:٣ - مجمع الزوائد، ٣٠٢:٩ - الإصابة، 464:٢ - شذرات الذهب، ٩:١ - الكافي، ٢6٣:٣، الحديث 45 - مسند أحمد، ٢٣٧:١ - تنقيح المقال، ٢4٩:٢ وفيه: ألحقك الله بخلفك الصالح عثمان بن مظعون.
5- أسد الغابة، 6٠٠:٣ - الاستيعاب، ١٠5٣:٣ - مجمع الزوائد، ٣٠٢:٩ - سير أعلام النبلاء، ١56:١ - ١5٧ و ١6٠ - تهذيب الأسماء واللغات، ٣٢6:١ - الكافي، ٢4١:٣، الحديث ١٨ - الطبقات، ١٩٠:٣ - تنقيح المقال، ٢4٩:٢.
6- مجمع الزوائد، ٣٠٢:٩ - الطبقات، ٣٩٧:٣ - المستدرك، ١٩٠:٣.

ص: 30

وأورث القلبَ حزناً لا انقطاع له حتّى الممات فما ترقى له شونِي (1)

المراجع:

١ - القرآن الكريم.

٢ - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ليوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبدالبرّ، نشر مكتبة نهضة مصر ومطبعتها.

٣ - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير علي بن محمد الجرزي.

4 - الإصابة في تمييز الصحابة، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دارصادر، بيروت.

5 - الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت ١٩٨٩ م.

6 - أعلام الغدير، مراجعة وتنسيق فاضل الميلاني، دار الكتاب العربي، بيروت.

٧ - بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران.

٨ - التاريخ الصغير، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار المعرفة، بيروت ١4٠6 ه.

٩ - التاريخ الكبير، لإسماعيل بن إبراهيم البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت.

١٠ - تفسير الحبري، للحسين بن الحكم بن مسلم الحبري، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، بيروت.

١١ - تفسير فرات الكوفي، لأبي القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، وزارة الإرشاد، طهران.

١٢ - تقريب المعارف، للشيخ أبي الصلاح الحلبي، نسخة مخطوطة محفوظة في المكتبة العامة لآية الله المرعشي في قم.

١٣ - تنقيح المقال، للشيخ عبدالله المامقاني، نسخة مطبوعة على الحجر.


1- الإصابة، 464:٢ وذكر البيت الأول فقط - أسد الغابة، 6٠٠:٣ - حلية الأولياء، ١٠6:١ - العقد الثمين، 5٠:6 - الاستيعاب، ١٠56:٣.

ص: 31

١4- تهذيب الأحكام، للشيخ محمد بن الحسن الطوسي، دارالكتب الإسلامية، طهران.

١5- تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، دار الكتب العلمية، بيروت.

١6 - حلية الأولياء، لأحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت.

١٧ - خزانة الأدب، لعبد القادر بن عمر البغدادي، مكتبة الخانجي، مصر.

١٨ - الديوان المنسوب لأمير المؤمنين (ع) ، نسخة خطية بخط ياقوت المستعصمي.

١٩ - ربيع الأبرار، لمحمد بن عمر الزمخشري، منشورات الشريف الرضي قم ١4١٠ ه.

٢٠ - رجال حول الرسول، لخالد محمد خالد، دار الكتاب العربي، بيروت.

٢١ - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيّم الجوزية، مكتبة المنار، الكويت ١4١٢ ه.

٢٢ - سنن ابن ماجة، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

٢٣ - سنن أبي داود، للحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر، بيروت.

٢4 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

٢5 - سنن الدارمي، للحافظ عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، دار الكتاب العربي، بيروت.

٢6 - سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت.

٢٧ - سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت.

٢٨ - شذرات الذهب، لعبد الحيّ بن العماد الحنبلي، مكتبة القدسي، مصر.

٢٩ - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي، دار إحياء الكتب العربية.

٣٠ - شرح نهج البلاغة، لميثم بن علي بن ميثم البحراني، الطبعة الثانية ١4٠4ه.

٣١ - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، للحافظ عبيد الله بن عبد الله بن أحمد المعروف

ص: 32

بالحاكم الحسكاني، وزارة الإرشاد، طهران.

٣٢ - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر، بيروت.

٣٣ - صحيح مسلم بشرح النووي، دار احياء التراث العربي، بيروت.

٣4 - الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار بيروت ودار صادر ١٣٧٧ ه.

٣5 - العِبر في خبر من غبر، للحافظ الذهبي، معهد المخطوطات، الكويت ١٩6٠ م.

٣6 - العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، لمحمد بن أحمد الحسني الفاسي، طبع القاهرة ١٣٨6 ه.

٣٧ - الغدير في الكتاب والسنة والأدب، للعلامة عبد الحسين الأميني، دار الكتب الإسلامية، طهران.

٣٨ - غربال الزمان في وفيات الأعيان، ليحيى بن أبي بكر العامري اليماني، دار الخير ١4٠5 ه.

٣٩ - فهارس بحار الأنوار، مؤسسة البلاغ بيروت ١4١٢ ه.

4٠ - فهارس شرح نهج البلاغة، وضعها أسدالله اسماعيليان، مكتبةاسماعيليان، قم.

4١ - الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران.

4٢ - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، دار الكتاب الإسلامي، حلب.

4٣ - مجمع البيان في تفسير القرآن، للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، دارالمعرفة، بيروت.

44 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب، بيروت.

45 - المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبد الله الحاكم، دار المعرفة، بيروت.

46 - مسند أبي داود الطيالسي، للحافظ سليمان بن داود بن الجارود، دار المعرفة، بيروت.

4٧ - مسند أحمد بن حنبل، دار صادر، بيروت.

4٨ - معجم رجال الحديث، للسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، دار الزهراء، بيروت

ص: 33

١4٠٩

ه.

4٩ - معجم الشعراء، لمحمد بن عمران المرزباني، دار الكتب العلمية، بيروت.

5٠ - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، دار الدعوة، استانبول ١٩٨٨م.

5١ - المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سفيان البسوي، مطبعة الإرشاد، بغداد.

5٢ - المناقب، لمحمد بن علي بن شهر آشوب، انتشارات علاّمة، قم.

5٣ - المنتظم، لعبدالرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت.

54 - من لايحضره الفقيه، للشيخ محمد بن علي الصدوق، دارالكتب الإسلامية، طهران.

55 - الموطّأ، لمالك بن أنس، دار احياء التراث العربي، بيروت.

56 - نقد الرجال، للسيد مصطفى الحسيني التفريشي، انتشارات الرسول المصطفى، قم.

5٧ - نهج البلاغة، للشريف الرضي، مع تعليقات محمد عبده، مؤسسة الأعلمي، بيروت.

وراجع أيضاً من مصادر ترجمته ممّا لم ننقل عنها:

١ - صفة الصفوة.

٢ - الشعر والشعراء.

٣ - المحبر.

4 - التحفة اللطيفة.

5 - تاريخ الخميس.

6 - طبقات خليفة.

٧ - تاريخ خليفة.

٨ - سيرة ابن هشام.

٩ - نسب قريش.

ص: 34

١٠ - الكامل في التاريخ.

١١ - تاريخ الطبري.

١٢ - تفسير الطبري.

١٣ - تفسير ابن كثير.

١4 - سنن البيهقي.

١5 - ديوان أبي طالب.

١6 - مرآة العقول.

١٧ - التعليقة للوحيد.

وغيرها من مصادر الفريقين.

ص: 35

***

(٢) عبدالله بن مسعود و رحلة الإيمان المباركة

محمد سليمان

اُعرف ب- (ابن مسعود) ، اسمي عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، كنيتي أبوعبد الرحمن، وقد اختارها لي رسول الله (ص) اُمّي أمّ عبد الهذلي، كان أبي حليفاً لبني زهرة. نشأتُ في مكّة، وعملتُ أجيراً أرعى غنماً لعُقبة بن أبي مُعيط.

سمعتُ بدعوة رسول الله (ص) للإسلام، وكنتُ يومها غلاماً يافعاً، بعد أن قدم جمعٌ من عمومتي إلى مكة فرافقتهم، وكان في بغيتهم شراء عطر، فأُرشدوا إلى العباس بن عبدالمطلب الذي كان جالساً عند زمزم، فجلسوا إليه، وجلستُ معهم؛ فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا. . . عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام، حسنُ الوجه. . . ، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتّى قصد الحجر فاستلمه، ثمّ استلمه الغلام واستلمته المرأة؛ طاف بالبيت سبعاً، والغلام والمرأة يطوفان معه؛ ثمّ استقبل الركن، فرفع يديه وكبّر، وقامت المرأة خلفهما، فرفعت يديها وكبّرت، ثمّ ركع فأطال الركوع، ثمّ رفع رأسه من الركوع، فقنتَ مليّاً، ثمّ سجد وسجد الغلام معه والمرأة، يتّبعونه، يصنعون مثلما يصنع، فرأينا شيئاً أنكرناه، لم نكن نعرفه بمكة؛ فأقبلنا على العباس، وقلنا:

ص: 36

ياأباالفضل، إنّ هذا أمر لم نكن نعرفه فيكم!

قال: أجل، والله، ما تعرفون هذا؟

فقلنا: من يكون هؤلاء؟

قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته، والغلام عليّ بن أبي طالب؛ أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة.

فعدتُ إلى عملي، وقد شُغلت نفسي بما رأت؛ وما هي إلاّ أيام حتّى أتيتُ النبيَّ (ص) ، وأسلمتُ على يديه مبكراً، فكنت من السابقين الأوّلين، حيث كنتُ سادس ستة ما على وجه الأرض مسلمٌ غيرنا.

كما كنتُ أول مَن جهر بالقرآن الكريم بعد رسول الله (ص) في مكّة؛ قرأت منه آيات بيّنات، فراحت تدوي في سماء الكعبة، وأفق مكّة البعيد، بعد أن اجتمع - يوماً - أصحاب رسول الله (ص) ، فقالوا: والله، ما سمعت قريش بهذا القرآن يُجهر لهابه قطّ، فمن رجل يُسمعهموه؟ فقلت: أنا.

قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه. فقلتُ: دعوني، فإنّ الله سيمنعني.

وغدوت من فوري حتّى أتيتُ المقام في الضحى، وما إن صرتُ على بعد خطوات من زعماء قريش، وهم في أنديتهم حتّى صحتُ بصوت عال تجاوبت أصداؤه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ (1)وأخذتُ أقرأ هذه السورة المباركة، فيما راح كلّ زعيم من زعماء قريش - الذين ذهلوا واُدهشوا، وكأن صاعقة نزلت عليهم من غرابة ما يسمعون - يلتفت للآخر سائلا؟ ما يقول ابنُ أمّ عبد؟ ! ويأتيه الجواب: إنّه يتلو بعض ما جاء به محمد؛ وفجأة أسرعوا نحوي وملامح الغضب الذي تملكهم قد ارتسمت على وجوههم، ثمّ انهالوا عليَّ بأيديهم وعصيّهم، وقد غادرت الرحمة


1- سورة الرحمن. استدلّ البعض بهذه القصة على أن سورة الرحمن مكيّة.

ص: 37

قلوبهم، وأنا أقرأ دون توقف حتّى بلغتُ من السورة ما شاء الله أن أبلغ، ثمّ انصرفتُ إلى أصحابي، وقد أُدمي رأسي من كثرة الجراح.

قالوا: هذا الذي خشينا عليك.

قلتُ: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها.

فقالوا: لا، حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.

لقد كان زعماء الشرك يتربّصون الدوائر بكلّ مؤمن بالإسلام، وبكلّ صادح بآيات القرآن الذي يطعن عقائدهم الضالة، ويسفّه عقولهم، ولهذا تراهم لا يكتفون بإرسال عيونهم لمتابعتنا ومراقبتنا بل يتابعوننا بأنفسهم. وأذكر أنّي ذهبتُ وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وسعيد بن زيد لنُصلي بعيداً عن عيونهم، في شعب من شعاب مكة، فإذا بنفر من مشركي مكة منهم أبوسفيان بن حرب والأخنس بن شريق وغيرهما يطّلعون علينا، سبونا وعابونا، فحدث بيننا وبينهم عراك، وكان بيد سعد بلحى جمل ضرب به أحد رجالهم فشجّ رأسه، فكان أول دم اُريق منهم في الإسلام.

ولما رأى رسول الله (ص) ما حلّ بنا من البلاء، وما يُصيبنا من العذاب على أيدي قريش، قال:

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ فيها ملكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق، حتّى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه» ؛ فكانت أول هجرة لي; وبعد عودتي منها هاجرتُ إلى يثرب حيث كان رسول الله (ص) قد سبقنا إليها، فنلتُ بذلك وسام الهجرتين، فوسام البدريّين عندما شاركت في معركة بدر الكبرى، وكان النصر حليف المؤمنين وهم قلة، والهزيمة والذلّ نصيب المشركين وهم كثرة.

وقد أمر رسول الله (ص) أن يُلتمس أبوجهل الذي أصابه معوّذ بن عفراء، فعدتُ إلى ساحة المعركة، وأجلتُ نظري فيها، فوجدتُ أبا جهل في آخر رمق من حياته الآثمة، التي كان من فصولها: الإعتداء على رسول الله (ص) وتعذيب المؤمنين، وقتل سميّة أمّ عمّار بن ياسر.

قلتُ له: الحمدُ لله الذي أخزاك.

ص: 38

قال: وبماذا أخزاني. . لمن الدائرة اليوم؟

قلت: لله ولرسوله.

ثمّ قال حين رآني على صدره اُريد قتله: لقد ارتقيتَ مرتقًى صعباً يا رُوَيعيَ الغنم.

فقلت له: إنّي قاتلك يا أبا جهل!

قال: لستَ بأول عبد قتل سيده! أما إنّ أشد ما لقيته اليوم في نفسي لقتلك إياي، ألا يكون ولِّيَ قتلي رجلٌ من الأحلاف أو من المطيبين.

فضربته ضربةً وقع رأسه بين يديه. . . وأقبلتُ برأسه وبسلاحه ودرعه وبيضته فوضعتها بين يدي رسول الله (ص) ، وقلتُ له: أبشر، يا نبيّ الله، بقتل عدوّ الله أبي جهل.

فقال رسول الله (ص) : أحقّاً، يا عبدالله؟ فو الذي نفسي بيده، لهو أحبّ إليّ من حُمر النعم، اللّهمّ قد أنجزت ما وعدتني فتمّم عليَّ نعمتك. وسجد شكراً لله، ثمّ شهد لي بالجنة.

بعدها أمر النبي (ص) بوضع قتلى المشركين في القليب، وعندها تذكرتُ: أنّ النبي (ص) كان يُصلّي يوماً عند البيت، وأبوجهل وأصحابه له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيّكم يجيءُ بسَلى جزور بني فُلان، وقد نُحرت بالأمس، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فجاء به، فنظر حتّى سجد النبي (ص) ، وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظرُ لا اُغير شيئاً، لو كان لي منعةٌ؛ فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض، ورسول الله (ص) ساجد لا يرفع رأسه، حتّى جاءته فاطمةٌ بعد أن أسرعت امرأة فأخبرتها، فطرحته عن ظهره، ورفع رأسه ثمّ قال: «أللّهم عليك بقريش) ثلاث مرّات، فلما سمعوا صوته، شقّ عليهم، وخافوا دعوته، وكانوا يرونَ أنّ الدعوة في ذلك البلد مُستجابة، ثمّ سمّى: (أللّهمّ عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط) ، وعدّ السابع فلم أحفظه.

فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتُ الذين عدّ رسول الله (ص) صرعى يوم بدر، ثمّ سحبوا إلى القليب، قليب بدر؛ فنالوا بذلك جزاءهم العادل.

ووقعت معركة اُحد فكنت من الذين استماتوا بالذب عن رسول الله (ص) والدفاع عنه

ص: 39

أمام السيل المتدافع من مشركي قريش، الذي يستهدف قتل رسول الله (ص) بعد أن حلّت بنا هزيمة بعد نصر، كان سببها مخالفة الرماة أمرَ رسول الله (ص) :

«لا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا» .

وما علمتُ أنّ أحداً من أصحاب رسول الله (ص) يريد الدنيا حتّى نزلت هذه الآية ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) (1) في أولئك الرماة الذين تنازعوا أمرهم بينهم، فريقٌ سال لعابه حين رأى الغنائم التي خلّفها المشركون وراءهم، فترك موضعه، وفريق قليل ثبت مكانه امتثالاً لأمر الرسول (ص) فاستشهد عن آخره.

وفي معركة حنين، ركنّا إلى قوتنا وكثرتنا، حتّى قال قائلٌ منّا: لن نُغلب اليوم من قلة، فشدّت كتائب العدو علينا شدّة رجل واحد، وأصبنا بهزيمة مباغته أول القتال، فتفرّقت جموع المسلمين الذين انتابهم الخوف والذعر، فيما راحت جماعة منّا تقدر بثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار، وكنت أحدهم تحيط برسول الله (ص) ، الذي علا صهوة بغلته البيضاء وسط المعركة، وهو يصيح بالمنهزمين: إلى أين أيها الناس؟ هلمّوا إليّ - هلمّوا إليّ. . . أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله.

أنا النبيّ لا كذب أنا بن عبد المطّلب

أللّهمّ نزّل نصرك، أللّهمّ نزّل نصرك. . . وإذا بالجموع المنهزمة تعود إلى ساحة المعركة، وقد غطّت تكبيرتهم وتلبيتهم فضاء الوادي، فكان النصر بعد الهزيمة، وكان الظفر بعد المذلة والهوان، وما رجعنا إلاّ وقتلى المشركين قد ملأت ذلك الوادي، وأسراهم في الحبال عند رسول الله (ص)

ثمّ تعال معي - عزيزي - لنقرأ كيف صوّر لنا القرآن الكريم هذهِ الواقعة أفضل تصوير بأعظم بيان.

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ


1- آل عمران: ١5٢.

ص: 40

شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)

وبدأ رسول الله (ص) بتقسيم غنائم حنين على المسلمين، وعندها سمعت رجلاً يقول: إنّ هذه القسمة ما عُدل فيها، ما أريد بها وجه الله.

فقلت؟ فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟

وأتيتُ النبيَّ (ص) فأخبرتهُ، فتغيّر لونه حتّى ندمتُ على ما صنعت، ووددتُ أني لم أخبره.

ثمّ قال (ص) :

«رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .

وأنزل الله تعالى: ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ ) (2)

لقد شهدتُ مع رسول الله (ص) كلّ مشاهده، ولم أتخلّف عنه أبداً، ولا غرابة في ذلك، فلقد تشرّفت بخدمته، ورافقته في حلّه وترحاله، حتّى صرتُ صاحب سرّه. قال لي رسول الله (ص) :

«إذنُكَ عليَّ أن تسمع سِوادي (سرّي) ، ويُرفَعَ الحجاب، حتّى أنهاك» ؛ فكنت ألجُ عليه، واُلبسه نعليه، وأمشي معه، وأستره إذا اغتسل، وأوقظه إذا نام، ولهذا كلّه ولغيره عرفتُ عند الصحابة بصاحب السواد والسواك، وصاحب سرّ رسول الله.

ولهذا أيضاً ترى بعضهم يعدّني واُمّي من آل النبيّ (ص) لكثرة دخولنا عليهم ولزومنا لهم؛ قال فيّ الصحابي الجليل حذيفة:

«كان أقرب الناس هدياً ودَلاً وسمتاً برسول الله (ص) ابن مسعود، حتّى يتوارى عنّا في بيته. ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد (ص) أنه من أقربهم إلى الله زلفاً» .

وكانت ملازمتي لرسول الله فرصةً مباركة، نافعة لي، تزوّدت منه إيماناً وحكمة وأدباً، واستقيتُ منه علماً ومعرفة، حتّى صرتُ فقيهاً في الدين، عالماً بالقضاء وأحكامه، عارفاً


1- التوبة: ٢5 - ٢٧.
2- المصدر نفسه: 5٨.

ص: 41

بالقرآن وعلومه: ناسخه ومنسوخه، متشابهه ومحكمه. . . تلقّيت كلّ ذلك من رسول الله (ص) وبفضل وبركة صحبتي له.

لقد أخذتُ من فيّ رسول الله (ص) بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله (ص) أنّي أعلمهم بكتاب الله. فما من كتاب الله سورة إلاّ أنا أعلمُ حيث نزلت، وما من آية إلاّ أنا أعلم فيمَ أُنزلت، ولو أعلم أنّ أحداً أعلمُ منّي لرحلتُ إليه، وما سمعتُ أحداً يردّ هذا عليّ ولا يعيبه. ولكنّي أذكر أن رجلاً قال لي يوماً: سمعتك تقول:

«لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله منّي تبلغه المطايا لرحلت إليه» .

فقلتُ: نعم، قلت: هذا.

فقال: فأين أنت عن عليّ.

قلت: به بدأتُ، إنّي قرأتُ عليه.

وأضيف - أيضاً - أنّي قرأت سبعين سورة على رسول الله (ص) ، وختمت القرآن على خير الناس بعده، عليّ بن أبي طالب. . . وأن القرآن اُنزل على سبعة أحرف، ما من حرف إلاّ وله ظهر و بطن، وإنّ علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.

كما كنت محبّاً للقرآن، حاملاً له، عارفاً بقراءاته، مجيداً لها، حسن الصوت به، وكنتُ أعدّ من القراء، ولفظة القراء هذه لا تطلق إلاّ على نخبة قليلة تختصّ بقراءة القرآن، من بين عدد ممّن يعرفون القراءة في مجتمعنا الذي غلبت عليه الأُميّة. وقد قال فيّ رسول الله (ص) :

«مَن سرّه أن يقرأ القرآن غضاً أو رطباً كما اُنزل فليقرأه على قراءة ابن اُمِّ عبد» وأمّ عبد كنية اُمّي.

وشهد لي عليّ (ع) أنّي أوّل من قرأ آية من كتاب الله على ظهر قلب بقوله:

«أول من قرأ آية من كتاب الله عن ظهر قلبه ابن مسعود» .

وكثيراً ما كان رسول الله (ص) يحب أن يسمع القرآن منّي، وذات مرّة قال لي: اقرأ عليّ يا عبدالله.

قلتُ: أقرأ عليك، وعليك اُنزل يا رسولَ الله؟

ص: 42

فقال (ص) : إنّي أُحبُّ أن أسمعه من غيري.

فأخذتُ أقرأ من سورة النساء، حتّى إذا بلغتُ قوله تعالى:

( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) فاضت عينا رسول الله (ص) من الخشوع والخشية والإخبات لله ولتنزيله.

ولطالما جاءني بعض الصحابة إلى بيتي ليسمعوا منّي قراءة القرآن وتفسيره; ولأن قراءتي هكذا كانت، ترى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق من قبل الأمويين، الذي عرف بمكره واشتهر بإجرامه وتعطشه للقتل وتعذيب الناس، تراه يمنع قراءة القرآن كما قرأته، فيقول في ضمن كلمة له يهدّد ويتوعد بها الناس: «. . . ولا أجد أحداً يقرأ عليّ قراءة ابن أمِّ عبد إلاّ ضربتُ عنقه. . .» .

وكنتُ من الذين نزلت فيهم:

( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) (1)

نزلت في ستة نفر وأنا واحد منهم، حينما كنّا جلوساً عند رسول الله (ص) ، فقال بعض زعماء قريش: إنّا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهؤلاء فاطردهم عنك. فأنزل الله هذه الآية.

( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) (2)

كنت من هذا القليل الذي استثناه الله تعالى، فقد قلنا: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا، فقال رسول الله (ص) : إنّ من أمتي رجالاً، الإيمان في قلوبهم أنبت من الجبال الرواسي.

( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (3)


1- الأنعام: 5٢.
2- النساء: 66.
3- آل عمران: ١٧٢.

ص: 43

نزلت هذه الآية في الذين أجابوا دعوة الرسول (ص) مع ما فيهم من جراح وآلام شديدة في يوم اُحد، وكنت منهم، ندبنا الرسول (ص) لنعود إلى المشركين فنقاتلهم.

ولما نزلت ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (1)

قال رسول الله (ص) لي: أنت منهم. فكانت فرحتي بذلك عظيمة جداً.

** *

نلتُ شرف الرواية عن رسول الله (ص) حتّى تجدني في بعض الكتب الحديثية أُدعى ب- (عبد الله بن المسعود الراوي) ، فقد ورد لي في كتب الحديث الكثير من الروايات المتّفق على صحّتها، كما أن جمعاً من أعيان الصحابة والتابعين روى عني. وما نقلتُ حديثاً عن رسول الله (ص) حتّى تغير لون وجهي، وانتفخت أوداجي، وعلتني كآبة، وانحدر عرقي من جبيني، ودمعت عيناي، وأقول في بداية نقلي للحديث: أو قريباً من هذا، أو نحو هذا، أو شبه هذا. كلّ ذلك خوفاً من الزيادة والنقصان، أو السهو والنسيان، فأكون قد حكيت عن رسول الله (ص) ما لم يقله، أو أدخل في الدين ما ليس منه. أذكر بعض ما رويته:

* من صلّى صلاة لم يصل فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه.

* سبابُ المسلم فسوق، وقِتاله كفرٌ.

* سألتُ النبي (ص) : أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال:

«الصلاةُ على وقتها» . قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال (ص) :

«ثمّ برُّ الوالدين» . قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال (ص) :

«الجهادُ في سبيل الله» . حدّثني بهنّ، ولو استزدتهُ لزادني.

* إنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخافُ أن يقع عليه، وإنّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه.

* إنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجل ليصدق حتّى يكون


1- المائدة: ٩٣.

ص: 44

صديقاً، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذاباً.

* سمعت رسول الله (ص) يقول بحقّ الصحابي الجليل «أبوذر الغفاري» :

«يرحم الله أباذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين» وكان ذلك في مسيره إلى تبوك، حيث وقف بأبي ذر جملُهُ فتخلّف عليه، فلمّا أبطأ أخذ رحله عنه، وحمله على ظهره، وتبع النبي (ص) ماشياً، فنظر الناس وقالوا: يا رسول الله! هذا رجل على الطريق وحده.

فقال (ص) : كن أباذر،

فلمّا تأمله الناس، قالوا: هو أبوذر.

فقال رسول الله (ص) : يرحم الله أباذر، يمشي وحده. . . .

وبقيت طيلة سنين أفكّر بهذا القول حتّى نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وهو مكان يكرهه كثيراً، فأصابه بها أجلُه، ولم يكن معه إلاّ امرأته وغلامه، فأوصاهما أن يغسلاه، ويكفناه ثمّ يضعاه على الطريق، فأوّل ركب يمرّ بهما يستعينان به على دفنه، ففعلا ذلك؛ فإذا بي في رهط من أهل العراق، فأعلمتنا إمرأته بموته، حزنّا حزناً شديداً، ورحنا نبكي عليه بدموع غزيرة، وقلتُ صدق حبيبي رسول الله (ص) : لقد سمعته يقول:

«يرحم الله أباذر. . . ، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين» ثمّ واريناه الثرى في سنة ٣٢ ه.

فلك الله يا أباذر، ما أنصفوك في شيء.

* ومن أدعيته (ص) التي رويتها هذا الدعاء:

ما من عبد أصابه همٌّ، فقال:

«أللّهمّ إنّي عبدُك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألكّ بكلّ اسم سميتَ به نفسك، أو ذكرته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ضياء صدري، وربيع قلبي، وجلاءَ حزني، وذهاب همّي» إلاّ أذهب اللهُ همّه، وبدّله مكان حزنه فرحاً.

ص: 45

ولو راجعت كتب التفسير، ومعاجم القراءات لوجدت لي قراءات أختصّ بها وحدي بلغت أربعاً وسبعين قراءة، وأخرى شاركتُ فيها آخرين، وتجد لي آراءً في القرآن وتفسير آياته أنفرد بها، وأخرى اُشارك فيها غيري، كما أنّ لي آراءً في الفقه، وفتاوى، وحكم وأقوال تناثرت في بطون الكتب، ببركات البيت النبوي الذي عشتُ في كنفه، وارتويتُ من ينبوع إيمانه وعلمه وأدبه وحكمته.

وهذه باقة من حكم وأدعية وأقوال لي:

* ليس من الناس أحدٌ إلاّ وهو ضيفٌ على الدنيا، ومالُه عارية: فالضيف مرتحل، والعارية مردودة.

* إنّ الرجل لا يولد عالماً، وإنّما العلم بالتعلم.

* ما من شيء أولى بطول سجن من لسان.

ومن دعائي: أللّهم وسع عليّ في الدنيا وزهدني فيها، ولا تُزوِها (تبعدها) عنّي ولاترغبني فيها. . . .

وإنّ لي دعاء ما أكاد أدعه: أللّهمّ إنّي أسألك إيماناً لا يبيد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لاتنقطع.

* إنّ في كتاب الله آيتين، ما أصاب عبدٌ ذنباً فقرأهما ثمّ استغفر الله إلاّ غفر له:

( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (1)

( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ) (2)

* إن عملتم في دينكم بالقياس، أحللتم كثيراً مما حرّم الله، وحرّمتم كثيراً مما أحلّ الله.

ومن خطبة لي:

«أصدق الحديث كتابُ الله، وأوثق العُرى كلمة التقوى خير زاد، وأكرم الملل ملّة


1- آل عمران: ١٣5.
2- النساء: ١١٠.

ص: 46

إبراهيم (ع) ، وخير السنن سنّة محمد (ص) . وما قلّ وكفى خيرٌ ممّا كثر وألهى، لنفسٌ تحييها خيرٌ من إمارة لا تُحصيها؛ خير الغنى غنى النفس؛ وخير ما اُلقي في القلب اليقين؛ الخمر جماع الآثام. . . مَن يَغفر يُغفر له، مكتوب في ديوان المحسنين، من عفا عُفي عنه، . . . السعيد مَن وعظ بغيره. . . أحسن الهدى هدى الأنبياء، أقبحُ الضلالة الضلالةُ بعد الهدى، أشرف الموت الشهادة. . .» .

** *

عرف الصحابة قدري، ومنزلتي عند رسول الله (ص) ، وسبقي وفضلي في الإسلام؛ فقد ارتقيت - يوماً - شجرة لأجتني من ثمرها للصحابة وهم ينظرون إلى دقّة ساقي ويضحكون، فقال لهم رسول الله (ص) : ما يضحككم! أو تعجبون من دقّة ساقيه; فو الذي نفسي بيده لهما أثقلُ في الميزان يوم القيامة من اُحد.

وقد سمع عليُّ (ع) - يوماً - ثناء جمع من الصحابة عليَّ حيث قالوا: ما رأينا رجلاً أحسن خُلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشدّ ورعاً من ابن مسعود. فقال (ع) :

«اُنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم. قال: أللّهم اشهد أنّي أقول مثل ما قالوا، وأفضلَ من قرأ القرآن، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، فقيهٌ في الدين، عالمٌ بالسنّة» .

وها هو الخليفة الثاني عمربن الخطاب، يعين عمار بن ياسر والياً على الكوفة، ويجعلني وزيراً ومعلماً في كتاب واحد سنة ٢١ ه، جاء فيه:

«إنّي قد بعثتُ عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله (ص) ، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد أثرتكم بعبدالله على نفسي» .

فكنت في الكوفة معلماً للقرآن، وفقيهاً في الدين، وأميناً على بيت مال المسلمين، حتّى آل أمر الخلافة إلى عثمان، فبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط والياً على الكوفة في السنة الثانية من خلافته، وعقبة هذا من ألدّ أعداء رسول الله (ص) ، وقد قتله عليّ بن أبي طالب بأمر رسول الله صبراً بعد أسره في معركة بدر، وأنزل الله فيه:

ص: 47

( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً ) (1)

أما ابنه الوليد فقد أسلم يوم فتح مكّة، وكان فاسقاً بنصّ القرآن:

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (2)

جرت بيني وبين الوليد هذا مشادة وخصومة، بعد أن استقرض مالاً من بيت مال المسلمين ولم يُرجعه، فأرسل إلى عثمان يخبره بمطالبتي له بإعادة المال، وبدل أن يقف الخليفة بجانبي كتب إليّ: «إنما أنت خازن لنا فلا تتعرّض للوليد فيما أخذه من المال» . فلم يتأخّر جوابي: «كنت أظن أني خازن لمال المسلمين، فأما إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك» . ثمّ خرجت إلى مسجد الكوفة وقلت: «يا أهل الكوفة، فقدتُ من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتِني بها كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب لي بها براءة. . .» .

ثمّ أعلنتُ استقالتي، وقلت: «مَن غيّر غيّر الله ما به، ومَن بدّل أسخط الله عليه، وما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدّل. . . إنّ أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد (ص) ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار» .

فلما سمع الوليد كلّ ذلك، كتب كتاباً آخر إلى الخليفة عثمان قال فيه: إنّه يعيبك، ويطعن عليك.

فأمر عثمان الوليد بإشخاصي إليه في المدينة، فما كان من أهل الكوفة إلاّ أن اجتمعوا بسلاحهم حولي قائلين: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه، فقلت: إنّي لا أحبّ أن أكون أول من فتح باب فتن لا تبقي ولا تذر. فأوصيتهم بتقوى الله، ولزوم القرآن.

ثمّ خرجتُ من الكوفة فيما راح أهلها يودعونني بحزن وأسى قائلين: جزيت خيراً، فلقد علمت جاهلنا، وثبّت عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الإسلام


1- الفرقان: ٢٧ - ٢٨.
2- الحجرات: 6.

ص: 48

أنت، ونعم الخليل. . . .

ولمّا وصلتُ مسجد رسول الله (ص) في المدينة إذ الخليفة يلقي كلمته، فلمّا رآني قال: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح.

فقلت: لستُ كذلك، ولكنّي صاحب رسول الله (ص) يوم بدر ويوم بيعة الرضوان.

وقد أثار كلام الخليفة أمّ المؤمنين عائشة فقالت: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله؟

فقال لها: أسكتي.

ثمّ أمر بإخراجي من المسجد، فضربتُ وأُخرجت.

ومنع عطائي سنتين، وأمر بمقاطعتي، ولم يأذن لي بمغادرة المدينة.

وتوجه عليّ (ع) نحو الخليفة قائلا:

يا عثمان، أتفعل هذا بصاحب رسول الله (ص) بقول الوليد بن عُقبة؟

فقال: ما بقول الوليد فعلتُ هذا، ولكن وجهتُ زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة، فقال له ابن مسعود: إنّ دم عثمان حلال فردّ عليه عليّ (ع) : أحلت على زبيد على غير ثقة.

ثمّ حملني علي (ع) إلى منزله، فقام برعايتي وتعاهدني حتّى شفيتُ من آثار ضربهم لي.

ولما مرضتُ مرضي الذي متّ فيه، دخل عليّ الخليفة عائداً، وقال لي:

ما تشتكي؟

فقلت: ذنوبي.

فقال: فما تشتهي؟

فقلت: رحمة ربي.

قال: ألا أدعو لك طبيباً؟

قلتُ: الطبيب أمرضني.

قال: آمر لك بعطائك؟

ص: 49

قلت: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه.

قال: يكون لولدك.

قلتُ: رزقهم على الله.

قال: استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.

قلتُ: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي.

ثمّ غادر بيتي دون أن يحصل على رضاي.

مات عبد الله بن مسعود عن ستين عاماً، وصلّى عليه حبيبُه عمّار بن ياسر مع جمع من أصحابه، ودفن ليلا في البقيع سنة ٣٢ه.

***

فسلام عليك يا أبا عبد الرحمن في الخالدين

إنّ الكتب التي ذكرت حياة هذا الصحابي الجليل، وكلّ ما يتعلّق به عديدة، أكتفي هنا بذكر ما اعتمدته في هذه الترجمة له.

١ - مختصر (تاريخ دمشق لابن عساكر) لابن منظور; تحقيق روحيّة النحاس - دار الفكر.

٢ - الكامل لابن الأثير.

٣ - حلية الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني ج ١ - إصدار دار الفكر.

4 - تاريخ الطبري لأبي جعفر الطبري.

5 - المغازي للواقدي.

6 - أُسد الغابة في معرفة الصحابة - ابن الأثير ج ٣.

٧ - العقد الفريد - ابن عبد ربه الأندلسي.

٨ - ربيع الأبرار ج ٢.

٩ - أحاديث أمّ المؤمنين عائشة للسيد العسكري.

١٠ - صحيح البخاري.

ص: 50

١١ - صحيح مسلم.

١٢ - التاريخ الجامع للأصول للشيخ منصور ناصيف.

١٣ - أضواء على السنّة النبويّة لمحمود أبو رية.

١4 - السيرة النبويّة لابن هشام ج ١، ج ٢.

١5 - ترجمة الإمام عليّ (ع) من تاريخ مدينة دمشق، تحقيق المحمودي ج ٣.

١6 - معجم القراءات القرآنية - اعداد الدكتور أحمد مختار عمر والدكتور عبد العال سالم مكرم.

١٧ - تاريخ المدينة المنوّرة - ابن شبة مجلد ٣ - 4.

١٨ - العدة - الشيخ الطوسي.

ص: 51

***

(٣) مقداد بن الأسود الكندي إيمان، مواقف

اشارة

محمد سليمان

كان أبي عمرو بن ثعلبة بن مالك البهراني أو البهراوي طريد قومه الذين يطالبونه بدم سفكه، فلحق بحضرموت وحالف بني كندة، وتزوج عندهم، ثمّ ولدتُ بينهم، لهذا لقبت ب- (الكندي)

ولما كبرتُ وقع بيني وبين أبي شمر بن حجر الكندي شيخ القبيلة نزاعٌ، فشهرتُ سيفي بوجهه، ثمّ ضربت رجله، وكان جزاء عملي ذلك الموت؛ وقبل أن ينفذ بي العقاب تسللتُ من سجنهم حيث الصحراء الشاسعة، لا يأويني مكان، ولا يستقر بي أوان؛ أجوب الصحاري المترامية الأطراف، أقطع عشرات الأميال عَبر الأودية والتلال والجبال، ولم أعبأ بأهوال السفر ومشقة الطريق، وكيف يكون ذلك، وبين جنبي روح تحدّثني بالعزّة والأمل، وفي أن أعيش فارساً عزيزاً يهابني الآخرون، ولا تريحه ولا تستهويه إلاّ ميادين القتال وساحات الوغى؟

نزلتُ من على ظهر فرسي (سبحة) لأستريح قليلاً على ظهر تلٍّ، وقد احتواني العراء

ص: 52

الواسع، سرحتْ عيناي فيما يحيطني من جهات، حتى وقع بصري على شيء، دققتُ النظر فيه من بعيد. . إنّه مضارب بني زهرة، القبيلة التي عرفت بمنعتها بين قبائل العرب؛ أسرعتُ نحوهم، آويتُ إليهم، وألقيت رحلي عندهم، لم يكن لي خيارٌ إلاّ أن اُحالف الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، الذي صرتُ اُدعى باسمه حتى نزل قوله تعالى: ( ادْعُوهُمْ لآِبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ) (1)

فعدتُ إلى اسمي (المقداد بن عمرو بن ثعلبة. . .) ولكني بقيت معروفاً ب- «ابن الأسود الكندي» ، وبقي هذا يلازمني طيلة حياتي وبعد مماتي.

كنيتي: أبو الأسود، وأبو عمر، وأبو معبد أحبُّ كناي إليّ، لأنّ رسول الله (ص) كان يدعوني أبا معبد.

أما صفاتي: فقد كنتُ طويلَ القامة، بطيناً عظيمَ الجثة، قويها، حينما أعلو فرسي تكاد رجلاي تخطّان الأرض، أما شعر رأسي فكثير، ولحيتي فكثيفة. . و ختاماً فإنّ الله - تعالى - منَّ عليّ بهيئة مهابة.

عشت ردحاً في مضارب بني زهرة، فاقداً لحقوق كثيرة - يتمتع بها أبناء القبيلة - وهذا شأن كلّ محالف؛ رافضاً حالة السلب والنهب، والغزو بغير حقّ، نابذاً عادات الجاهلية المقيتة التي لم تجد رضاً وقبولاً عندي، وكم تمنّيت أن أجد مَن يشاطرني ذلك كلّه، ويشاركني الرأي. . فكانت الفرصة، إنّها لقائي بعمار بن ياسر وتعرفي عليه، فانتشلني من ذاك الضياع، بعد أن سبقني إلى نور الإسلام، وعظمة الإيمان، اصطحبني معه في جوف الليل إلى دار الأرقم، حيث رسول الله (ص) والمؤمنون، أعلنتُ إسلامي بين يديه (ص) فتخلّصتُ نفسي من ظلام الجاهلية، وتغيرت حياتي، فقد ملأ الإيمان قلبي، وأضاء التوحيد بصيرتي، وأخذتُ أروي ظمأي منه، وأنهل من معين الإسلام بنهم وشوق عظيمين؛ حتى صرتُ من الأوائل الذين أظهروا إسلامهم، فتصدّت لنا قريش بكلّ جبروتها، ووسائل قمعها، وسياط تعذيبها، فنالت من أبداننا وأجسادنا شيئاً عظيماً، لكنها لم تنل من عقيدتنا وصمودنا وثباتنا أبداً،


1- الأحزاب: 5.

ص: 53

كنا نزداد قوّة أمام قوّتها، وشموخاً عظيماً وعزّةًض إزاءَ طغيانها وجبروتها.

ولما رأى رسول الله (ص) ما حلّ بنا، واشتداد أذى قريش علينا وملاحقتها لنا أمرنا بالهجرة إلى الحبشة حيث قال: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها مَلِكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه. . .» .

فكنتُ مع نحو ثمانين من المهاجرين، ممن وطأت أقدامهم أرض الحبشة حيث وجدنا ما قاله لنا رسول الله (ص) مَلِكاً عادلاً، أحسن ضيافتنا، ورفض تسليمنا إلى وفد المشركين من قريش الذي اتبعنا. . . ثمّ عدنا إلى مكة، ودخلها كلّ واحد منّا تحت أمان وعهد زعيم من زعمائها، وكبير من كبرائها، فعدتُ مرّة اُخرى حليفاً لأحدهم. . . .

هاجر رسول الله (ص) إلى يثرب، وتبعه جمع من الصحابة، ولم أتمكن من اللحاق به (ص) حتى أعدت قريش سرية قتال التحقتُ بها مع صاحبي - عتبة بن غزوان - وكان هدفهم قتال سرية أرسلها رسول الله (ص) بقيادة حمزة بن عبدالمطلب، فلما اقتربنا منها انحزنا إليها، والتحقنا بإخواننا الذين سبقونا إلى يثرب.

وفي المدينة لم يدم انتظارنا لقتال المشركين طويلاً حيث تناهت إلينا أخبار عن استعداد مشركي مكة لقتالنا، وجاءوا بجيش فاق عددنا كثيراً، فأقبل رسول الله (ص) علينا ونحن مجتمعون يحدث بعضُنا بعضاً عن الأخبار تلك، وقال:

«. . هذه مكة قد ألقت إليكم أفذاذ أكبادها. . فما ترون في قتالهم؟» فتحدث عدد من الصحابة حتى جاء دوري فقلتُ:

يا رسولَ الله! اِمضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (ع) :

( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ )

ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرتَ بنا إلى برك الغِماد (أو تل العماد، يعني مدينة الحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، . . فاستبشر رسول الله بذلك، وأشرق وجهه، ودعا لي بخير.

ص: 54

وسميتُ عند بعضهم ب- «صاحب المقال المحمود» إشارة إلى قولي هذا لرسول الله (ص) ودفع مقالي ذاك أيضاً الأنصار إلى قولهم: فتمنينا نحن لو أنّا قلنا كما قال المقداد، أحبُّ إلينا من أن يكون لنا مالٌ عظيم. . . .

كما حمل موقفي ذاك وقولي كبارَ الصحابة على الإشادة به وإكباره وتمنوه، فهذا الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود يقول: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحبّ إليّ مما في الأرض من شيء; كان رجلاً فارساً، وكان رسول الله (ص) إذا غضب احمارّت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك الحال، فقال: «أبشر يا رسول الله! فوالله لانقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (ع) :

( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ )

ولكن والذي بعثك بالحق. . . لنكوننّ من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، أو يفتح الله لك.

ثم قام سعد بن معاذ عن الأنصار فقال: . . . بأبي وأُمي يا رسول الله! إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عندالله فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعلّ الله عزّوجلّ أن يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله.

ففرح رسول الله (ص) بما سمع من أصحابه، وقال: «سيروا على بركة الله، فإنّ الله عزّوجلّ قد وعدني إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله وعده، والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وفلان وفلان. . .» .

ثمّ أمرنا (ص) بالتوجه إلى بدر الذي نزلناه عشاء ليلة السابع عشر من رمضان، وكانت الآبار ومنابع الماء إلى جانب المسلمين، وكان عددنا ٣٠٠ رجل كنتُ الفارس الوحيد فيهم، فيما كان عدد المشركين قرابة ألف رجل. . فيهم من الفرسان عدد كثير.

كانت عيوننا متجهة صوب رسول الله (ص) وهو يناجي ربَّه ويدعوه:

«أللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها، تحادك، وتكذب رسولك، أللّهمّ فنصرك الذي وعدتني. . .» .

ص: 55

واشتدّ أوار المعركة، وخفقت رايات القتال ولمعت الأسنة والسيوف، وعندها تيقنتُ أنّ الفروسية في الإسلام غيرها في الجاهلية، وتعلمتُ وقتها الفرق بينها وهي تحمل راية الحق وتدافع عنه، وبينها وهي تحمل راية الضلال وتدافع عن الباطل، إنّ لها حلاوة وطعماً حينما تكون دفاعاً عن المبدإ الحق والعقيدة الصحيحة، لا دفاعاً ولا قتالاً من أجل الثأر والنهب والسطو.

إنّه القتال والجهاد والنضال المقدس الذي تعلّمته وإخواني من الإسلام ونبي الإسلام، قتال عظيم هذا الذي ترعاه السماء بآيات القرآن وبإمدادها الرباني، ويرعاه رسول الله (ص) بدعواته التي لا يحجبها عن السماء شيء ولا يمنعها مانع، وتتخلله استغاثة المؤمنين. . . .

( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) (1)

والرسول (ص) يقول:

«والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلاّ أدخله الله الجنة» .

فكانت تلك الآيات وهذهِ الكلمات باعثاً عظيماً قوياً لنا، يثبت أقدامنا ويشدّ عزمنا نحو الشهادة. . . فكان النصر حليفنا، وكان القتل وكانت الهزيمة والعار والذل يلاحق المشركين، الذين تركوا كبار زعمائهم صرعى على أرض المعركة ينتظرهم القليب الذي أمر بحفره رسول الله لتلقى به جثثهم، كما وقع آخرون أسرى، منهم النضر بن الحارث بن علقمة الذي يكنّى أبا القائد وقع أسيراً بيدي، وكان أشدّ قريش تكذيباً للنبي (ص) وأذًى لأصحابه، كما كان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى وهو من الذين قالوا:

( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً . (2)

وهو الذي نزلت فيه هذه الآية:


1- الأنفال: ٩-١٣.
2- فاطر: 4٢.

ص: 56

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) (1)

وكان يقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين؛ وقع هذا أسيراً بيدي وأتيت به إلى رسول الله (ص) وما إن رآه حتى أمر علياً (ع) بقتله.

فقلت: يا رسول الله! أسيري.

فقال النبيّ (ص) : إنه كان يقول في كتاب الله ورسوله ما يقول.

وأنا أقول: إنه أسيري.

حتى قال رسول الله (ص) : أللّهمّ أغن المقداد من فضلك.

فقلت: هذا الذي أردتُ.

فقتله عليٌّ (ع) صبراً.

وفي معركة اُحد، هذهِ المعركة التي كنتُ فيها فارساً مقداماً، ومقاتلاً عنيداً. . . اُنزلت هزيمةٌ مروعة بالمشركين الذين ولّوا هاربين، وقد تركوا قتالهم تملأ ساحة المعركة، وكاد النصر النهائي يكون حليفنا لولا أن ترك بعض الرماة مواقعهم التي حدّدها لهم رسول الله (ص) طمعاً في الغنائم التي خلّفها مشركو قريش وراء ظهورهم، فلمّا أحسّ خالد بن الوليد ومن كان معه من المشركين بضعف هذا الموقع، وثبوا عليه، وقتلوا ما بقي من الرماة، ثمّ عادوا من خلفنا، فوقفتُ مع نفر من أجلّ الصحابة مدافعين عن رسول الله (ص) ذابّين بأرواحنا وأجسادنا عنه، إنها لحظات كادت تودي برسول الله (ص) وبدينه لولا رحمة الله تعالى به وبنا.

ويوم فتح مكة معقل قريش، كنتُ يومها على ميمنة الجيش الإسلامي الذي يقوده رسول الله (ص) فتهاوت بدخوله (ص) وجيشه الأوثان والأصنام التي كانت تمثل الشرك والكفر كلّه، وقد أحاطت الكعبة من كلّ جوانبها، وبلغ عددها ٣6٠ صنماً، فأمر رسول الله (ص) بتهديمها وإخراجها من البيت الحرام، وارتفعت راية التوحيد خفاقةً، وملأ التكبير سماءَ مكّة، وكانت فرحتُنا بهذا النصر الذي طال انتظاره، عظيمة، وابتهاجنا به كان كبيراً. . . .


1- الأنفال: ٣١.

ص: 57

وإذ نحن في غمرة أفراحنا بهذا النصر تناهت إلينا أنباءُ حشود عظيمة خطيرة بلغ تعدادها أكثر من ١٢ ألفَ مقاتل من قبائل الطائف وفي مقدمتها قبيلتا هوازن وثقيف، فراح رسول الله (ص) يعدُّ منّا جيشاً كبيراً بلغ تعداده ١٢ ألف مقاتل أو يزيد، وأمرنا بالتحرك، وكان اللقاء في وادي حنين حيث حلّت بنا هزيمة مفاجئة، تحوّلت - برحمة من الله - إلى نصر كبير لنا بعد أن ثبت رسول الله (ص) وأكثر من ثمانين من الذين بايعوه حتى الموت وكنتُ أحدهم، وبعد أن عاد المسلمون الذين لاذوا بالفرار من ساحة المعركة فاندفعت جموعهم نحو ساحة المعركة التي حمي وطيسها وهم ينزلون بالعدو هزيمة ساحقة.

لم أتخلّف أبداً عن معارك رسول الله (ص) وغزواته كما أني شاركت في معركة اليرموك وفي فتح مصر وحمص ودمشق وغيرها حتى قال لي أحدُ الذين كنت أُحدّثهم عن الجهاد - يوم فتح حمص ودمشق - وقد كبر عمري وضعف جسمي، يومذاك، قال لي: لو قعدتَ العامَ عن الغزو.

فقلت: أبتِ البحُوث، فقد قال الله عزّ وجلّ فيها:

( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ) (1) وكنت في كل تلك المعارك فارساً أخوض غمارها، وأُبلي بها بلاءً حسناً، مستبشراً بإحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر.

** *

قال لي - يوماً - عبد الرحمن بن عوف وقد جلسنا نتحدّث:

ما يمنعك أن تتزوّج؟

فقلتُ له: زوّجني ابنتك.

فما كان منه إلاّ أن أغلظ لي في الكلام وجَبهني.

وكان الصحابة إذا أصاب أحدٌ منهم غمٌّ أو غيظ أو فتنة شكى ذلك إلى رسول الله (ص) فقمتُ من فوري وأتيتُ رسول الله (ص) فما إن نظر إليّ حتى عرف الغمّ في وجهي.


1- التوبة: 5، سميت بذلك أي ب- «البحوث» ; لأنها بحثت عن المنافقين وأسرارهم، أي استثارتها وفتشت عنها.

ص: 58

وقال: ما شأنك يا مقداد؟

فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت واُمّي، كنتُ عند عبدالرحمن بن عوف جالساً فقال لي:

ما منعك يا مقداد أن تزوّج؟

فقلت له: زوّجني أنت ابنتك، فأغلظ لي وجبهني.

فقال لي رسول الله (ص) : لكنّي اُزوّجُك - ولا فخر - ضُباعةَ بنت الزبير بن عبدالمطلب.

فتزوّجتها وكانت من العقل والجمال بدرجة عالية مع قرابتها من رسول الله (ص)

** *

نزلت فيّ وفي نفر من أصحاب رسول الله (ص) (ابن مسعود، صهيب، عمار، بلال) هذهِ الآية:

( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )

حين كنّا جلوساً عند رسول الله (ص) وجاءَ بعض زعماء قريش، فقالوا لرسول الله (ص) : إنّا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهؤلاء، فاطردهم عنك حتى نجلس معك فنزلت فينا تلك الآية.

كما نزلت فيّ وفي رهط من أصحاب رسول الله (ص) هذه الآية:

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) (1)

حينما اجتمعنا في دار الصحابي الجليل القدر عثمان بن مظعون، واتّفقنا على أن نصوم النهار ونقوم الليل، ولا ننام على الفرش، ولا نأكل اللحم ولا الوَدَك، ولا نقرب النساء والطيب، ولا نلبس المسوح، ونرفض الدنيا ونسيح في الأرض ونترهب ونجبّ المذاكيرَ.

فبلغ ذلك رسول الله (ص) فجمعنا، وقال:

«ألم اُنبَّأ أنكم اتّفقتم على كذا وكذا؟» . فقلنا: بلى يا رسول الله! وما أردنا إلاّ الخير.

فقال لنا:

«إني لم اُؤمَر بذلك، إنّ لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدّسم، ومن رغب عن سنّتي فليس منّي» .


1- المائدة: ٨٧.

ص: 59

ثمّ خرج إلى الناس وخطبهُم فقال:

«ما بال أقوام حرّموا النساءَ والطعام، والطيب والنوم، وشهواتِ الدنيا؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسّيسينَ ولا رهباناً، فإنّه ليس في ديني تركُ اللحم والنساء، ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة اُمتي الصوم، ورهبانيتها الجهاد; واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحُجُّوا واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان; فإنّما هلك مَنْ كان قبلكم بالتشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فأُولئك بقاياهم في الدِّيارات والصوامع» . فأنزل الله تعالى تلك الآية.

وقلنا: يا رسولَ الله! كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكنّا حلفنا على ما عليه اتّفقنا؛ فأنزل الله تعالى:

( لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ )

ومما قاله رسول الله (ص) وما سمعته منه: فيّ

«أمرني اللهُ - عزّ وجلّ - بحبّ أربعة من أصحابي، وأخبرني أنه يحبّهم: عليّ، وأبوذر، وسلمان، والمقداد الكندي» .

«ألا إنّ الجنّة اشتاقت إلى أربعة من أصحابي، فأمرني ربّي أن اُحبَّهم: فانتدب صُهيب، وبلال بن رَباح، وطلحة، والزُّبير، وسعد بن وقّاص، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر» .

فقالوا: يا رسول الله! مَن هؤلاء الأربعة حتى نحبَّهم؟

فقال رسول الله (ص) :

«يا عمّار أنت عرّفك الله المنافقين، وأما هؤلاء الأربعة فأحدهم عليّ بن أبي طالب، والثاني المقداد بن الأسود الكندي، والثالث سلمان الفارسي، والرابع أبوذر الغفاري» .

وممّا سمعه منه (ص)

بعث رسول الله (ص) سرية وأمّرني عليها، فلما رجعتُ قال لي (ص) :

«كيف وجدتَ الإمارةَ يا أبا معبد؟» .

ص: 60

قلتُ: خرجتُ يا رسول الله! وأنا كأحدهم، ثمّ رأيتُ أنّ لي على القوم فضلاً، ورجعتُ وأنا أراهم كالعبيد لي.

فقال (ص) :

«كذلك الإمارة يا أبا معبد، إلاّ من وقاه الله شرَّها، فخُذ أو دَع» .

فقلت: لا جرم، والذي بعثك بالحق يا رسولَ الله! لا أتأمّر على اثنين بعدها أبداً.

قلتُ - يوماً - لأصحاب لي: العجب من قوم مررتُ بهم آنفاً يتمنّون الفتنة، يزعمون ليبتليهم الله فيها بما ابتلى به رسول الله (ص) وأصحابه، وأيم الله، لقد سمعتُ رسول الله (ص) يقول:

«إنّ السعيد لمن جنب الفتن» يردّدها ثلاثاً

«وإن ابتلي فصبر» .

وأيم الله، لا أشهد لأحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم بما يموت عليه بعد حديث سمعتُه من رسول الله (ص) سمعته يقول:

«لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياً» .

( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (1)

وعقب نزول هذه الآية، سمعتُ رسول الله (ص) يقول:

«ما على ظهر الأرض بيت حجر أو مَدر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل: أما بعزّهم فيجعلهم من أهلها، وأمّا بذلّهم فيدينون بها» .

** *

وما عرفتُ الحزنَ واللوعةَ، وألمَ الفراق وقسوته، حتى داهمني الخبر المشئوم (نعي الحبيب رسول الله (ص)) فكان نبأً عظيماً، وفاجعة جسيمة، ما لبثت حتى زلزلة الدنيا، وانتشر دويها في الخافقين. . . حقّاً، إنّها لصدمةٌ، وكيف لا تكون كذلك وقد وصلت برسول الله (ص) القلوب، وجبلت على حبّه النفوس، واعتادت على التشرّف بطلعته الوجوه، وقد انتشلها من الضلالة إلى الهدى ومن الظلام إلى النور. . .


1- النور: 55.

ص: 61

لقد عاهدتك يا سيدي على أن لا أكون أكثر من جنديّ في خدمة الإسلام، وفدائيٍّ نذر نفسه دفاعاً عنه، فجزاك الله يا رسولَ الله! عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ونسأله - تعالى - أن يرزقنا شفاعتك وصحبتك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون...

** *

من أحاديثي

كنتُ مع جمع من أصحابي إذ مرّ رجل فقال لي: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسولَ الله(ص) ! والله لودِدنا أنّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدتَ.

فاستغضبني قولُه هذا، وأقبلت عليه قائلاً:

ما يحمل الرجل على أن يتمنّى شيئاً غيَّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف يكون فيه؟

واللهِ، لقد حضر رسولَ الله(ص) أقوام أكبَّهم اللهُ على مناخرهم في جهنم، لم يُعينوه ولم يصدِّقوه، أوَلا تحمدون اللهَ أن أخرجكم لا تعرفون إلاّ ربَّكم؟ وأنتم مصدِّقون لما جاء به نبيُّكم، قد كفيتُم البلاء بغيركم; والله، لقد بعث النبيُّ9 على أشدّ حال بُعث عليه نبيٌّ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون أنّ ديناً أفضلُ من عبادة الأوثان، فجاء بفُرقان يُفرقُ به بين الحقِّ والباطل، وفرَّق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجلُ لَيَرى والدَهُ أو ولدَه أو جدَّه كافراً وقد فتح الله قُفلَ قلبه للإيمان... ثمّ قرأت هذه الآية:

(رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ...)(1).

* * *

توفّاه الله تعالى سنة 33 ه_ بأرض كانت له تسمى «الجرف» وحمله أصحابه إلى المدينة فدفن فيها.

فسلامٌ عليك فارساً مؤمناً قوياً في ذات الله مجاهداً في سبيله، لم تدخر شجاعة ولا نصيحة ولم تبخل بشيء، فكنت حقّاً حبيباً لله ولرسوله.


1- الفرقان: ٧4.

ص: 62

عدتُ فيما كتبت إلى ما تيسّر لي من مصادر وهي

1 _ تاريخ الطبري، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ج2، طبعة دار الكتب العلمية _ بيروت.

2 _ الكامل، لابن الأثير.

3 _ المغازي، للواقدي.

4 _ العقد الفريد، ابن عبدربه الأندلسي.

5 _ ربيع الأبرار.

6 _ أُسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري.

7 _ حلية الأولياء، لأبي نعيم الاصفهاني.

8 _ الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر العسقلاني.

9 _ السيرة النبوية لابن هشام، ولابن كثير.

10 _ الإمامة والسياسة لابن قتيبة، ج1.

ص: 63

(4) حمزة بن عبدالمطلب

اشارة

عباس المهاجر

حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله، وأسد رسوله، وأحد نجباء العرب في الحسب والنسب، وأحد سادات قريش وكبار أشرافهم في الجاهلية والإسلام، ومن المسلمين الأوائل، الصحابي، الصنديد، البطل الشجاع، الشاعر، الفصيح، عمّ النبي9 وأخوه في الرضاعة، اتصف بالكرم والنخوة والشجاعة، ولد ونشأ في مكة، وعند إعلان إسلامه، أعز الله الإسلام به، لأنه كان من أقوى رجال قريش وأشدّها شكيمة، وقام يمنع الأذى عن الرسول (ص) وصحبه الكرام، وكان من كثرة ميله للإسلام وحبّه للرسول (ص) أنه ضرب أبا جهل زعيم المشركين.

شارك الرسول (ص) والمسلمين في محنة الحصار الذي فرضه مشركو قريش عليهم، وهاجر إلى المدينة، وقاد أول سريه في سبيل الله، كما شارك في بقية الغزوات، وقاتل بين يدي الرسول (ص) ببسالة نادرة، ضارباً في ذلك أروع أمثلة التضحية والفداء والإخلاص، استشهد في معركة أحد بعد أن أبلى بلاءً عظيماً، وقتل عدداً من زعماء ورؤوس الشرك فأثبت بذلك أنه جندي شديد البأس يُقاتل بكفاءة وبسيفين، وبحماس منقطع النظير.

ص: 64

وببركة استشهاد حمزة، ورهطه الكرام في معركة اُحد، عمّ الإسلام واتسع انتشاره فيما بعد، إذ غرست شهادتهم في نفوس الصحابة فضيلة حبّ الجهاد والتضحية والإخلاص المتزايد، فالشهيد هو الذي يصنع النصر المستمر، ويصنع الحياة الجديدة، ويضع اللبنة الأساسية والقوية للتاريخ المشرق، الذي تفتخر به الأجيال إلى الأبد.

وماأحوجنا إلى إحياء شخصياتنا التأريخية، أمثال حمزة بن عبدالمطلب وغيرهم من القادة الأفذاذ الذين سطروا صفحات التاريخ بالآثار والأفعال العظيمة والأخلاق الحميدة.

إسمه ونسبه وكنيته

هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد المناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، وينتهي نسبه بعد ذلك بعدنان. (1)

وأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي أم صفية. (2) ويلتقي نسب أبيه

من نسب أُمه في كلاب بن مُرّة ويصعد النسبان معاً إلى عدنان ثم إلى إسماعيل بن إبراهيم (ع).

وقد ورد عن نسب أُمه في كلّ من الكتابين «نسب قريش» للمصعب الزبيري.(3) وكتاب «الطبقات الكبرى» لابن سعد. (4)بأنها هالة بنت أُهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة، حيث يلتقي عمود النسب كما أسلفنا بعدنان فإسماعيل بن إبراهيم.

ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، أنّ عبد مناف بن زهرة ولد «وهباً»، وهو جدّ

رسول الله(ص)، لأمّه، آمنة بنت وهب. (5)

وأما كنيته، فهي كما وردت في تاريخ اليعقوبي:


1- راجع كتاب «نسب قريش» 1 : 5 وبعدها في مادة «ولد عدنان».
2- تاريخ اليعقوبي 2: 11، ذخائر العقبي ص172.
3- نسب قريش 1: 17.
4- الطبقات الكبرى ق1 3: 3.
5- نسب قريش 8 : 261.

ص: 65

«وحمزة، وهو أبويعلى، أسد الله، وأسد رسول الله(ص)».(1)

وذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى:

«وكان يكنى أبا عمارة، وكان له ولد من الولد، يعلى، وكان يكنى به حمزة، أبا يعلى...».(2)

وكتب عنه «شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي» في كتابه سير أعلام النبلاء، وهو يكمل على ما سبق، في ذكر كناياته وألقابه التي كان يلّقب بها، فقال عن حمزة بأنه «الإمام، البطل، الضرغام، أسد الله، أبو عمارة، وأبويعلى، القريشي، الهاشمي، المكي، المدني، ثم البدري، الشهيد، عم رسول الله(ص) وأخوه في الرضاعة».(3)

وتحت عنوان: (ذكر اسمه وكنيته) يقول العلاّمة الحافظ محب الدين الطبري:

«ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام حمزة، ويكنى أبا عمارة، وأبا يعلى... كنيتان له، بابنيه عمارة ويعلى، وكان يدعى أسدالله وأسد رسوله (ص)».

عن يحيى بن عبدالرحمن بن أبي لبية عن أبيه عن جده أنّ رسول الله(ص) قال: «والذي نفسي بيده إنه لمكتوب عندالله عزّوجلّ في السماء السابعة، حمزة أسدالله وأسد رسوله (ص)» أخرجه البغوي في معجمه.(4)

معنى حمزة في اللغة

أما معنى حمزة في اللغة العربية، فهو كما ورد في كتاب «مختار الصحاح» لمحمد بن أبي بكر الرازي في مادة _ ح م ز _ «حمز الرجل، من باب، ظرُفَ، أي اشتد، فهو حَميز الفؤاد، و (حامزه)؛ وفي الحديث عن ابن عباس:_ «أفضل الأعمال (أحمزها)، أي أمتنُها وأقواها».(5)


1- تاريخ اليعقوبي 8 : 261.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق1: 3-4 طبقة ليدن.
3- سير أعلام النبلاء، الذهبي 1: 127.
4- ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى :173.
5- مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي :154.

ص: 66

ولادته و وفاته

ولد سيدنا حمزة بن عبدالمطلب في مكة المكرمة سنة (54 قبل الهجرة/568 ميلادية). وتوفي شهيداً في معركة اُحد، سنة (3 للهجرة/625 ميلادية)،(1) ودفن جنوبي جبل اُحد، حيث وقعت المعركة في المدينة المنورة في السنة المذكورة آنفاً، فقد ورد في مجلة آخر ساعة المصريه، العدد 19742046-16 ذي الحجة سنة 1393ه_ ، تحقيق عن المدينة المنوره بقلم: عدنان العبد جاء فيه.. «وجنوبي الجبل _ جبل اُحد _ وفي وادي قناة وعلى جانبه توجد قبور الشهداء من أبطال المسلمين وعلى رأسهم حمزة بن عبدالمطلب عمّ رسول الله(ص) وسيد الشهداء».(2)... وقد «قتل على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة، وكان يوم قتل، له سبع وخمسون سنة، ودفن هو وابن أخيه عبدالله بن جحش في قبر واحد».(3)

نشأة سيدنا حمزة بن عبد المطلب الأولى

يلاحظ من تتبع ودراسة حلقات حياة حمزة بن عبدالمطلب الأولى، أنه نشأ نشأةً مستقيمة، خالية من عيوب وسلبيات المجتمع القريشي، وكبر وسط هذا المجتمع، وهو يجتمع على كلّ الخصال السليمة، والمواقف الرشيدة، فكان يحمل عقلاً نافذاً، وضميراً حيّاً، ينبض بالشجاعة وحبّ الخير، وكان يعتد بذاته، ولا يحبّ التجبر والتهور، والعدوان على الغير، ويأنف من الظلم، كما كان في نفس الوقت لا يحبّ أن يعتدي عليه أحد، أو على أقربائه.. وكان الناس يعرفون له قدره ومكانته؛ وكان يحمل معه كلّ الصفات الهاشمية الأصيلة، كالصدق، والوفاء، والكرم، والفتوة، والشجاعة بكل معناهاه.

ومع قلة ورود الأخبار المتناثرة في بطون التاريخ في الفترة ما قبل الإسلام، إلاّ أنها


1- المدائح النبويه المتضمنه لسور القرآن الكريم للسيد هاشم الخطيب _ هامش الصفحة: 85 .
2- المصدر نفسه: 87 .
3- ذخائر العقبى :85 ، في موضوع (ذكر تاريخ مقتله).

ص: 67

جميعاً تؤكد تجسيم الشخصية الكاملة فيه، وتؤشر الملامح الصحيحة للإنسان الفاضل الذي سيدخل التاريخ من أوسع وأشرف أبوابه، ويسجل له فيه مجداً خالداً إلى الأبد، وفعلاً دخل التأريخ وسطر له حروفاً نورانيه مشحونة بالمجد والخلود وبقاء الذكر.(1)

وكان حمزة صاحب إرادة قوية، عزيز النفس، كريم الطباع، نشأ وقد تأثر بمركز والده عبدالمطلب القائم على الشرف والسيادة والرئاسة وحب الناس له، وكان معدن حمزة نقياً، ومعروفاً باستقامة الضمير، ونفاذ البصيرة، وحب الخير، والتمثل بالشمائل الطيبة، المبنية على الإرادة والتصميم وسلامة اتخاذ المواقف، ومن هنا دخل حمزة التاريخ ومن أحسن أبوابه، وسجل له التأريخ بدوره جميع مواقفه البطولية.(2)

العلاقة بن حمزة ومحمّد(ص)

تكشف لنا أخبار حمزة بن عبدالمطلب أنه كان شديد التعلق بابن أخيه محمد بن عبدالله، والرعاية له، والدفاع عنه إذا مسّه سوء من أحد، والاستجابة لمطالبه وتلبية رغباته على أتم الاستعداد، وعلى جناح السرعة بالإرادة والتصميم، ودون تردد أو إحجام.

فهو عمّ محمد(ص) وأخوه في الرضاعة، فقد كتب اليعقوبي عن مولد الرسول(ص): «فكان أول لبن شربه بعد أمه لبن ثويبة مولاة أبي لهب؛ وقد أرضعت ثويبة هذه حمزة وجعفر بن أبي طالب، وأبا سلمة بن عبدالأسد المخزومي...»،(3) وكان أكبر من رسول الله(ص) بأربع سنين، وقيل سنتين.(4)

وكان حمزة كما بينّا سابقاً، يعرف ويشعر بعظمة مكانة ابن أخيه محمد(ص) وكماله، وكان على بينة من حقيقة أمره، ومعرفة جوهره، وصفاته الجيدة، وكانت رابطة حمزة بمحمد(ص)


1- حمزة أسد الله ورسوله _ جميل إبراهيم :25-26.
2- المصدر نفسه: 26.
3- تاريخ اليعقوبي 2: 9.
4- ذخائر العقبى :172.

ص: 68

رابطة عمومة وأخوة وصداقة متفاعلة ببعض، ذلك أن الرسول وحمزة كانا من جيل اجتماعي واحد، وسن متقاربة، نشأ كل واحد منهم مع الآخر؛ وكانت تخيم عليهما عائلة عبدالمطلب المعروفة، وقد تآخيا في ظل هذه العائلة الطيبة، منذ المراحل المبكرة من حياتهما وسارا معاً على الدرب، من الخطوات الأولى.

اشترك محمد(ص) وحمزة بنشأتهما الأولى في أرفع بيوتات العرب في قريش في السيادة والكرم والحلم والشجاعة والمنزلة الرفيعة، فمحمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وحمزة بن عبدالمطلب، كلاههما يشتركان بالاعتزاز بهذا الفضل الذي رسمه عبدالمطلب وحاز به في المجتمع، فهو سيد بطحاء مكة وزعيم قريش بلا منافس.

وقد اكسب الزمن تاريخ هذه العائلة الذي ينتمي إليه كل من محمد(ص) وحمزة بالتجارب الواسعة في الحياة والتبصر في فهم شؤون المجتمع؛ وقد استمرت العلاقات القائمة بين الرسول(ص) وحمزة على مدى الأيام، وهي تزداد قوة على قوة، وتوثقت أكثر فأكثر بعد انضمام حمزة للمسلمين وإعلان إسلامه; فكانت علاقتهما على هذا الأساس قائمة على المصير المشترك والمسؤولية الواعية، وعلى التضحية من أجل المبادئ العليا، وهكذا سجّل التاريخ في لوحاته المجيدة لكل منهما المواقف المشرفة، والأدوار البطولية الخالدة بأحرف من نور.

إسلام حمزة في الميزان

إنّ إعلان إسلام حمزة بن عبدالمطلب يعدُّ نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، فهو ممن أعزّ الله به الإسلام، وكان موقفه مع الرسول(ص) والمسلمين قبل إسلامه موقفاً سليماً وطبيعياً... حيث لم يسجل عليه التاريخ أية بادرة سلبية، أو تشنجاً يشم منه رائحه العناد والمعارضة ضد الدعوة الإسلامية الأولى... بل بالعكس كان يحب الرسول(ص) ولم يتغير عليه، ولقد دافع عنه وعن المسلمين ضد أبي جهل بل ضرب أبا جهل أمام الملأ، وكان ذلك قبل أن يسلم حمزة.

وقد دُرس الوضع الجديد المتمثل بإسلام حمزة، ووجدوا بأنّ إسلام حمزة فتح صفحة جديدة رائعة في تاريخ الدعوة، وفسح المجال الرحب لرغبة جماعات للانضمام إلى هذا الدين

ص: 69

الجديد، لذلك قام المشركون بوضع استراتيجية جديدة، وهي إعلان الحرب الأهلية والنفسية والاقتصادية، لإلحاق الأذى بالمسلمين، وتعذيبهم، وفرض المضايقات المختلفة عليهم، وإثارة الأراجيف الكاذبة ضدهم، وسبيهم ومحاربة مصالحهم وإثارة النزاعات في وجوههم، وقد عرف حمزة ما تحمله الأوضاع الجديدة من نتائج حاسمة، وكان مثال المجاهد الصبور.

ملازمة حمزة للرسول وعدم هجرته إلى الحبشة

لما أصرت قريش على مناصبة النبي(ص) ومن معه العداء، أذن الرسول(ص) لبعض المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، فقد جاء في كتاب تاريخ اليعقوبي: «ولما رأى رسول الله(ص) ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب، وما هو فيه من الأمن، بمنع أبي طالب عمّه إياه، قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى الحبشة، إلى النجاشي، فإنه يحسن الجوار، فخرج في المرة الأولى اثنا عشر رجلاً، وفي الثانية سبعون رجلاً، سوى أبنائهم ونسائهم، وهم المهاجرون الأوائل، فكان لهم عند النجاشي منزلة، وكان يرسل إلى جعفر فيسأله عما يريد...».(1) «وأقام المسلمون بأرض الحبشة، حتى ولد لهم أولاد، وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة، ولم يزالوا بها بأمن وسلام، واسم النجاشي أصحمة».(2)

وقد بقي حمزة بن عبدالمطلب في مكّة ملازماً للرسول (ص) يتحمل القسط الأكبر من العذاب والقسوة التي وجهتها قريش للرسول (ص) ولم يهاجر إلى الحبشة، وكان سلاحه الإيمان بالله والصبر والثبات.

حمزة والهجرة إلى المدينة

بعدما نال المسلمون أنواع العذاب والمقاومة وصنوف الضغوط المليئة بالقسوة والعنف والإجحاف والعناد من المشركين، أمر الرسول(ص) المسلمين بالهجرة من مكة إلى المدينة،


1- تاريخ اليعقوبي 2: 29.
2- المصدر نفسه، 2: 30.

ص: 70

وكان حمزة ممن استجاب لأمر النبي(ص) وهاجر إلى المدينة تاركاً مسقط رأسه مكة، ما دامت المسألة تتعلق بالمبدإ والعقيدة.

وقد اختلفت الروايات التاريخية في منزل حمزة بن عبدالمطلب في المدينة بعد هجرته من مكة، فبعض الروايات تقول إنه نزل على كلثوم بن الهدم، والأخرى تقول على سعد بن خيثمة، وغيرها تقول على غير هؤلاء المذكورين.

وقد ورد حول هذا الموضوع في الطبقات الكبرى لابن سعد قال «أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا محمد بن صالح عن عمران بن مناح، قال: لما هاجر حمزة بن عبدالمطلب إلى المدينة نزل على كلثوم بن الهدم، قال محمد بن صالح: وقال عاصم بن عمر بن قتادة: نزل على سعد بن خيثمة».(1)

وورد عن الموضوع نفسه في السيرة النبوية لابن هشام عن ابن إسحاق قال: «قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبدالمطلب وزيد بن حارثة وأبو مرشد كناز بن حِصن. قال ابن هشام: ويقال: هو ابن حُصين. قال ابن إسحاق: وابنه مرشد الفُنويان، حليف حمزة بن عبدالمطلب، وأنَسةُ، وبكشة، موليا رسول الله(ص) على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء، ويقال: بل نزل حمزة بن عبدالمطلب على أسعد بن زرارة أخي بني النجار، كل ذلك، يقال».(2)

شخصية حمزة العسكرية

يعود سبب شجاعته إلى عاملين رئيسيين، أولهما صفاته البدنية اللآئقة، والثاني الصفات المعنوية العالية التي كانت تتوفر في جوهر شخصيته... فعن العامل الأول ورد في طبقات ابن سعد عن صفاته البدنية: بأنه... «كان رجلاً ليس بالطويل ولا بالقصير».(3) وتعتبر هذه


1- الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق1: 4.
2- السيرة النبوية لابن هشام 2 : 329.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ق1: 4-5.

ص: 71

الصفة البدنية من الصفات التي يمتاز بها أكثر رجال العرب والعسكريون الشجعان المقاتلون الأشداء.

وأما بالنسبة للصفات المعنوية وهي العامل الثاني، فقد كان حمزة بن عبدالمطلب قوياً جلداً في الحروب، لا يعرف التراجع؛ واثق في نفسه أثناء القتال، وعرف عنه في الحروب أنه ذلك المجاهد الصبور وكان يقاتل بسيفين كما فعل ذلك في معركة أحد وبشهادة الصحابة عنه.

فقد ورد في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي قال: عن ابن عون، عن عمير ابن إسحاق، عن سعد بن أبي وقاص: كان حمزة يقاتل يوم أحد بسيفين ويقول: «أنا أسد الله»؛ (رواه يونس بن بكير عن ابن عون عن عمير مسترسلاً).(1)

وخلاصة القول كانت شخصية حمزة العسكرية متكاملة ومبنية على الثقة بالنفس والإقدام في تنفيذ الواجب بإتقان تام، وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء.

مشاركة حمزة في الغزوات الأولى

كان حمزة عسكرياً فذاً وجندياً ماهراً في القتال، يحارب ويجاهد تحت قيادة الرسول(ص) وقد شارك في الغزوات الأولى بعد هجرته من مكة إلى المدينة، ابتداءً من رئاسته لأول سرية غزاها، إلى مشاركته في معركة أحد والتي نال فيها شرف الاستشهاد، وقد أجمع المؤرخون وكتّاب السير على مشاركته الفعّالة ومساهمته البارعة في المشاهد الأولى تحت زعامة الرسول(ص) ولم يورد المؤرخون اسم حمزة صراحة في هذه الغزوات، وإنما ذكروه في بعضها بشكل صريح وتارة أخرى يلمّحون إلى اسمه بصورة غير مباشرة، وكان لحمزة البطل الدور البارز والفعال في هذه الغزوات، فقد أبدى صنوف الشجاعة والإقدام والإخلاص لله ولرسوله ولعقيدته.(2)


1- سير أعلام النبلاء _ الذهبي 1: 131.
2- المدائح النبوية، هاشم الخطيب : 84 _ 85 .

ص: 72

سرية حمزة بن عبد المطلب

أجمع المؤرخون وكتّاب السير والمغازي الأولى، على أنّ أول سرية عقدها رسول الله(ص) كانت لحمزة بن عبد المطلب، ووصل حمزة بهذه السرية إلى سيف البحر في ثلاثين راكباً يعترض عير قريش، وهي منحدرة إلى مكة، وقد جاءت من الشام، وفيها أبوجهل بن هشام في ثلاثمائة راكب، فانصرف ولم يكن بينهم قتال...

قال محمد بن عمر: هو الخبر المجمع عليه عندنا، أنّ أول لواء عقده رسول الله(ص) لحمزة بن عبدالمطلب.(1) وقد جاء في تاريخ اليعقوبي عن هذه الغزوة فقال: وأقام رسول الله(ص) يتلوّم ويتهيأ للقتال حتى أنزل عزّ وجل:

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).(2)

والآية الأخرى قال:

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ).(3)

إلى آخر الآية، فكان الرجل من المؤمنين يُعدُّ بعشرة من المشركين، حتى أنزل

عزّوجل:

(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ...).(4)

وأنزل عزّ وجل سيفاً من السماء له غمد، فقال له جبرئيل: «ربك يأمرك أن تقاتل بهذا السيف قومك حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، وأنك رسول الله(ص) فإذا فعلوا ذلك حرمت دماؤهم وأموالهم»؛ فكانت أول سرية سارت هي لحمزة بن عبدالمطلب.(5)

ويقول المدايني: «إنّ أول سرية بعثها رسول الله(ص) لحمزة بن عبدالمطلب في ربيع الأول


1- الطبقات الكبرى، لابن سعد 3 ق1: 4.
2- الحج: 39.
3- النساء: 84 .
4- الأنفال: 66.
5- تاريخ اليعقوبي 2 : 44.

ص: 73

من سنة اثنين إلى سيف البحر من أرض جهينة ]وسيف البحر يعني ساحله [أخرجه أبوعمر وصاحب الصفوة، ولفظة أول لواء عقده رسول الله لحمزة حيث قدم المدينة».(1)

مقتل حمزة بن عبد المطلب

كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل بشدة، وكان يحارب بيقين، وقد قُتل بعد أن قتل رجالاً من قريش، حيث «رماه وحشي، عبد لجبير بن مطعم فسقط، ومثلت به هند بنت عتبة بن ربيعة، وشقت عن كبده، فأخذت منه قطعة فلاكتها، وجدعت أنفه، فجزع عليه الرسول(ص) جزعاً شديداً، وقال: لن أصاب بمثلك، وكبّر عليه خمساً وسبعين تكبيرة».(2)

جاء في السيرة النبوية لابن هشام عن وحشي فقال: «ودعا جبير بن مطعم غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلّما يخطئ بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عمّ محمد(ص) بعمّي وطعيمة بن عدي، فأنت عتيق».(3)

وهكذا خرج وحشي مع رجال قريش ومعهم بعض النسوة وكانت «هند بنت عتبة كلما مرت بوحشي أو مرّ بها، قالت: ويها أبا دسمة اشف واستشف، وكان وحشي

يكنى بأبي دسمة، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين، بجبل ببطن السّبخة من قناة على شفير الوداي، مقابل المدينة».(4)

وقد تكلم وحشي عن قتل حمزة، كما جاء في السيرة النبوية لابن هشام «قال وحشي، غلام جبير بن مطعم: والله أني لأنظر إلى حمزة يهدّ الناس بسيفه ما يليق به شيئاً، مثل الجمل الأورق، إذ تقدمني إليه سباع بن عبدالعزى، فقال له حمزة: هلم إليّ يا ابن مقطعة البظور، فضربه ضربة، فكأن ما أخطأ رأسه وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها


1- ذخائر العقبى : 176.
2- تاريخ اليعقوبي 2 : 47.
3- السيرة النبوية لابن هشام، 2 :61.
4- المصدرالنفسه2 :62.

ص: 74

عليه، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي، فغُلِب فوقع، وأمهلتُه حتى إذا مات جئت فأخذت حَربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم تكن لي بشيء حاجة غيره».(1)

تاريخ قتل حمزة بن عبد المطلب

قتل على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة وكان يوم قتل له سبع وخمسون سنة، ودفن هو وابن اخته عبد الله بن جحش في قبر واحد، وفي رواية كان سنّه يوم قتل ابن تسع وخمسين سنة، وكان أصغر من رسول الله (ص) بأربع سنين.(2)

بكاء النبي(ص) على حمزة بن عبد المطلب

قال ابن هشام: لما وقف رسول الله(ص) على حمزة قال: «لن أصاب بمثلك أبداً وما وقفت موقفاً قط أغيظ لي من هذا».

وعن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى اُحد، انصرف رسول الله(ص) فرأى منظراً ساءه ورأى حمزة قد شقّ بطنه واصطلم ]أي قط [أنفه، وجدعت أذناه، فقال: لولا أن تجزع النساء ويكون سنّة من بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير...، ولأمثلنّ مكانه بسبعين قتيلاً منهم؛ ثم كفن ببردة غطى بها وجهه، وجعل على رجليه شيئاً من الأذخر ]الأذخر وهو حشيشة طيبة الرائحة[ ثم قدم وصلى عليه عشراً، ثم جعل يجاء بالرجل وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان عدد القتلى سبعين، فلما فرغ منهم نزل قوله تعالى:

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ).(3) إلى قوله: (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ).(4)


1- السيرة النبوية لابن هشام، 2 :69-70.
2- الطبقات لابن سعد 3: 4-5.
3- النحل: 125.
4- المصدر نفسه: 127.

ص: 75

لقد عرفنا من خلال هذه الروايات، مدى حزن الرسول(ص) على مقتل حمزة، وإحاطة الرسول(ص) وأصحابه بالجثمان الطاهر لحمزة، وهو مسجى على الأرض، يبكون عليه.

ذكر غسل الملائكة حمزة

عن الحسن7: قال رسول الله(ص): «رأيت حمزة تغسله الملائكة».(1)

ذكر وصيته

قال ابن اسحاق: أوصى حمزة بن عبدالمطلب فيما بلغنا إلى زيد بن حارثة، وكان رسول الله(ص) آخى بينهُ وبينه، أوصى إليه يوم أحد لما حضر القتال، إن حدث به حادث الموت.(2)

حمزة يطلب من الرسول(ص) أن يشرّفه الله برؤية جبريل

كان9 لا يرفض لحمزة أي طلب، مهما كان نوعه، وقد طلب من الرسول (ص) ذات مرة أن يشرفه الله برؤية جبريل7 على صورته، وقد ورد الخبر في الطبقات الكبرى لابن سعد حيث نقل:

«قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل، قال أخبرنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار: أنّ حمزة بن عبدالمطلب، سأل النبي(ص) أن يُريه جبريل في صورته، فقال: «إنك لا تستطيع أن تراه» قال: «بلى». قال: «سأقعد مكانك». قال: فنزل جبريل على خشبة في الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليها، إذا طافوا بالبيت، فقال: «ارفع طرفك فانظر» فإذا قدماه مثل الزبرجد الأخضر، فخر مغشياً عليه».(3)


1- ذخائر العقبى :185.
2- المصدر النفسه.
3- الطبقات لابن سعد 3 ق1: 6.

ص: 76

ذكر أنه أسد الله ورسوله

عن يحيى بن عبدالرحمن بن أبي لبيبة، عن أبيه، عن جده، قال: قال (ص): «والذي نفسي بيده إنه مكتوب عن الله عزّوجلّ في السماء السابعة حمزة بن عبدالمطلب أسدالله وأسد رسوله» وقال ابن هشام: قال (ص):«جاءني جبريل فأخبرني أنّ حمزة بن عبدالمطلب مكتوب في أهل السماوات السبع أسدالله ورسوله».(1)

ذكر أنه خير أعمام النبي(ص)

عن عبدالرحمن بن عابس عن أبيه قال: قال (ص): «خير أعمامي حمزة».(2)

ذكر أنه سيد الشهداء

عن جابر بن عبدالله: قال (ص): «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام إلى إمام جائر قام ونهاه»؛ وفي رواية: «حمزة خير الشهداء»؛ وعن أبن مسعود قال: قال (ص): «ألا أنبئكم بأفضل الشهداء عندالله بعد حمزة بن عبدالمطلب، قيل: بلى يا رسول الله. قال: رجل أتى أميراً جائراً فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فإن هو لم يقتله لم يجر عليه ذنب ما دام حياً، وإن قتله كان أفضل الشهداء عندالله بعد حمزة بن عبدالمطلب.(3)

شهادة النبي(ص) له بالجنة

قال (ص): «دخلت البارحة الجنة فإذا حمزة مع أصحابه».(4)


1- ذخائر العقبى :176.
2- المصدر النفسه.
3- المصدر النفسه.
4- المصدر النفسه: 176_ 177.

ص: 77

حمزة أحد نجباء الرسول(ص)

في رواية عن قطر بن خليفة عن كثير النواء، سمعت عبدالله بن مالك، سمعت علياً7 يقول: قال (ص): «لم يكن نبيّ قط إلاّ وقد أعطى سبعة نجباء ووزراء، وإني أعطيت أربعة عشر أحدهم حمزة».(1)

اعتزاز علي بن أبي طالب(ع) بعمّه حمزة

كان علي بن أبي طالب (ع) يعتزّ جداً بعمه حمزة بن عبدالمطلب، وقد سمى ابنه الحسن أول الأمر بحمزة من كثرة محبته له، فقد جاء في باب ذكر تسميتهما الحسن والحسين كانتا بأمر الله تعالى؛ في كتاب ذخائر العقبى ذلك: «عن علي (ع)قال: «لما ولد الحسن سماه حمزة، فلما ولد الحسين سماه باسم عمه جعفر، قال (ع): فدعاني رسول الله(ص) وقال: إني أُمرت أن أغير اسم هذين، فقلت: الله ورسوله أعلم، فسماهما حسناً وحسيناً».(2)

علي (ع) لا يفارق ذكر حمزة

كان علي (ع) لا يفارق ذكر اسم عمه حمزة، إجلالاً لقدره واعتزازاً به، وقد ورد ذلك

في كتاب ذخائر العقبى في موضوع: «ذكر برّ علي (ع) به _ يعني عمه العباس _ ودعائه

له»؛ وذلك «عن ابن عباس قال: اعتلّ أبي العباس، فعاده علي (ع) فوجدني أضبط

رجليه، فأخذهما من يدي، وجلس موضعي، وقال: أنا أحقّ بعمي منك، أن كان الله عزّوجل قد توفى رسول الله(ص) وعمي حمزة وأخي جعفراً، فقد أبقى لي العباس، عمّ

الرجل صنو أبيه وبره به كبره بأبيه، أللهم هب لعمي عاقبتك، وارفع له درجة، واجعله عندك في عليين».(3)


1- سير أعلام النبلاء، الذهبي 1: 295.
2- ذخائر العقبى :120.
3- المصدر النفسه: 202.

ص: 78

حديث الرسول(ص) على قبر حمزة

ورد في الطبقات الكبرى لابن سعد قال: أخبرنا عبد الله بن سلمة بن قعتب، قال: أخبرنا محمد بن صالح بن يزيد بن زيد عن أبي أسيد الساعدي، قال: أنا مع رسول الله(ص) على قبر حمزة، فجعلوا يجرون النمرة، فتنكشف قدماه، ويجرونها على قدميه فينكشف وجهه، فقال رسول الله(ص): «اجعلوها على وجهه واجعلوا على قدميه من هذا الشجر»؛ قال: فرفع رسول الله(ص) رأسه فإذا أصحابه يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قيل: يا رسول الله لا نجد لعمك اليوم ثوباً واحداً يسعه: فقال (ص): «إنه يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف، فيصيبون رفهاً مطعماً وملبساً ومركباً أو قال: مراكب، فيكتبون إلى أهلهم هلموا إلينا فإنكم بأرض جردة، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يصبر لأواءها وشدتها أحد إلاّ كنتُ له شفيعاً، وشهيداً يوم القيامة».(1)

حمزة في عالم الشعراء

يحفل الأدب العربي بكثير من القصائد الشعرية عن سيدنا حمزة بن عبدالمطلب، إما بشكل صريح أو بالكناية، والأبيات التي قيلت في حقه موزعة بين رثاء له، أو مفاخرة لشجاعته، أو ورود اسمه في المدح النبوي.

في ذكر أوصافه

بنوه سراة كهلُهم وشبابُهم

تفلّق عنهم بيضة الطائر الصقر

قُصيُّ الذي عادى كنانة كلَّها

ورابط بيتَ الله في العُسر واليُسر

وأبقى رجالا سادةً غير عُزّل

مصاليت أمثال الردينية السُمر

أبو عُتبة المُلقى إليّ حِباؤه

أغرُّ هِجان اللون من نفر غر


1- الطبقات لابن سعد 3 ق1: 8.

ص: 79

وحمزة مثل البدر يهتزّ للندى

نقي الثياب والذمام من الغدر(1)

قال ابن اسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة بن عبدالمطلب:

أتعرفُ الدارَ عفا رسُمها

بعدكَ صوبُ المسُبِل الهاطل ِ

بين السرّاديح فأُدمانة

فمدفع الرّوحاء في حائل ِ

ساءلتُها عن ذاك فاستعجمت

لم تدرِ ما مرجوعةُ السائل

دع عنك داراً قد عفا رسمُها

وابكِ على حمزة ذي النائل

الماليِ الشّيزي إذا أعصفت

غبراءُ في ذي الشّيم الماحل

أظلمت الأرضُ لفقدانه

واسودّ نور القمر الناصل

صلى عليه الله في جنّة

عالية مُكرمة الداخل

كنا نرى حمزة حِرزاً لنا

في كل أمر نابنا نازل

وكان في الإسلام ذا تُدْرَأ

يكفيك فقدَ القاعد الخاذل

غداة جبريل وزيرٌ له

نعم وزيرُ الفارس الحامل(2)


1- السيرة النبوية، لأبن هشام ق1 :174 _ قصيدة حذيفة.
2- السيرة النبوية ق2 : 155- 156.

ص: 80

ص: 81

(5) عبدالله بن عباس

اشارة

إيماناً وجهاداً و علماً

محسن الأسدي

عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم، كنيته أبوالعباس، وقيل أبوعبدالرحمن، لقبه الهاشمي والقرشي، شهرته حبر الأمة.

اُمّه أمّ الفضل أخت ميمونة زوج النبيّ(ص) اسمها لبابة الصغرى الهلالية.(1) بنت الحارث بن حزن من بني عامر بن صعصعة.

في السنة الثالثة قبل الهجرة المباركة،(2) جاء العباس عمُّ النبيّ(ص) وهو يحمل وليده في خرقة متجهاً به نحو النبيّ(ص) ليضعه بين يديه المباركتين فضمّه إليه وحنكه بريقه.(3)

كان ذلك أيام كان رسول الله(ص) وأهل بيته وصحبه محاصرين بالشعب، شعب


1- الإصابة 4: 122؛ مختصر تاريخ دمشق 12: 293؛ حلية الأولياء 314.
2- المصدر النفسه.
3- التاج الجامع للأصول، للشيخ منصور علي ناصيف 3: 36.

ص: 82

بني هاشم في مكة.(1) توفي رسول الله(ص) وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة، يقول عن نفسه: راهقت الاحتلام في حجة الوداع.

صفته

كان ابن عباس أبيض طويلاً مشرباً صفرة جسيماً وسيماً صبيح الوجه له وفرة يخضب بالحنّاء؛ هذا ما وصفه به ابن مندة.

أما ما قاله أبو إسحاق: رأيتُ ابن عباس رجلاً جسيماً قد شاب مقدم رأسه وله جُمّ_ة.(2) وكان إذا قعد أخذ مقعد الرجلين، وكان يخضب بالسواد، ويسمى الحبر والبحر لكثرة علمه وحدّة فهمه.(3)

من دعاء رسول الله(ص) له

_ أللهم أعطه الحكمة وعلّمه التأويل.

_ أللهم فقّهْهُ في الدين وعلّمه التأويل.

ومما قال رسول الله(ص) له: «يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، إذاسألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئاً لم يكتبه الله عزّ وجلّ لك لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئاً كتبه الله عزّوجلّ لك لم يقدروا عليه، فاعمل لله تعالى بالرضا في اليقين، واعلم أنّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسراً».(4)


1- الإصابة 4: 122.
2- العقد الفريد 4: 123.
3- مختصر تاريخ دمشق 12: 296 _ 297.
4- حلية الأولياء 1: 314. مختصر تاريخ دمشق 12: 300.

ص: 83

قالوا فيه

قال الإمام علي (ع) فيه: «إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق لعقله وفطنته».

خطب ابن عباس وهو على الموسم، فجعل يقرأ ويفسّر، فقال رجل: لو سمعت فارس والروم لأسلمت؛ وعندما قرأ ابن عباس سورة النور وجعل يفسرها قال فيه الخليفة الثاني عمر: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت؛ ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول.

قال فيه ابن عمر: لقد أوتي ابن عباس علماً صدقاً.

عن عطاء: مارأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس وأكثر فقهاً، وأعظم خشية، إنّ أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع.

وعن مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجهل الناس; فإذا نطق قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس.(1)

من أقواله في نفسه

عن عبدالله بن بريدة، قال: شتم رجل ابن عباس، فقال: إنك لتشتمني وفيّ ثلاث: إني لأسمع بالحاكم من حكّام المسلمين يعدل في حكمه فأحبه، ولعلّي لا أقاضي عليه أبداً؛ وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به ومالي به سائمة ولا راعية؛ وإني لآتي على آية من كتاب الله تعالى فوددتُ أنّ المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم.(2)

من حكمه وأقواله

_ منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا.

_ ذَلَلتُ طالباً فعززت مطلوباً.


1- يراجع في ذلك وفي غيره _ تاريخ الإسلام.. للذهبي في حوادث سنة 60 _ 80 ترجمة عبد الله بن عباس _ مختصر تاريخ دمشق _ البداية والنهاية.. حلية الأدباء _ طبقات ابن سعد وغيرها من المصادر.
2- الإصابة 4 : 129؛ مختصر تاريخ دمشق 12 : 293.

ص: 84

_ ومن أقواله الدقيقة والجميلة في الغوغاء،.. والغوغاء: الدّبا وهي صغار الجراد، وشُبِّه به سوادُ الناس؛ قال فيهم بعد أن ذُكر الغوغاء عنده: ما اجتمعوا قط إلاّ ضرُّوا، ولا افترقوا إلاّ نفعوا؛ قيل له: قد علمنا ما ضرّ اجتماعهم، فما نفع افتراقهم؟ قال: يذهب الحجّام إلى دكانه، والحدّاد إلى أكياره، وكل صانع إلى صناعته.

_ وفي فضل الصداقة على القرابة قال: القرابة تقطع والمعروف يُكفر، وما رأيت كتقارب القلوب.

_ لا تحقرنّ كلمة الحكمة أن تسمعها من الفاجر... ربّ رمية من غير رام.

_ لا تمار سفيهاً ولا حليماً فإنّ الحليم يغلبك والسفيه يزدريك.

_ اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودع منه ما تحب أن يدع عنك.

_ الدنيا العافية، والشباب الصحة.

_ من لم يجلس في الصغر حيث يكره، لم يجلس في الكبر حيث يحبّ.

وله قول في الشعر: الشعر علم العرب وديوانها; فتعلموه، وعليكم بشعر الحجاز.

وكان ابن العباس في طريقه من البصرة الى الكوفة يحدو الأبل ويقول:

أوبي إلى أهلكِ يارباب

أوبي فقد حان لكِ الإيابُ

وقال لما كفّ بصره:

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما

ففي لساني وقلبي منهما نورُ

قلبي ذكيّ وعقلي غيرذي دخَل ٍ(1)

وفي فمي صارم كالسيف مأثور

***

ومن طريف أقواله

أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه، فقيل


1- الدخل: الفساد والغيبة. البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير 8 : 305.

ص: 85

له في ذلك، فقال: أصابني ما رأيتم في الأولى شفقةً على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن

قلبي.(1)

ماقيل فيه من شعر

قال فيه حسان بن ثابت:

كفى وشفى ما في الصدور ولم يدع

لذي إريةٍ في القول جدّاً ولا هَزلا

سموتَ إلى العليا بغير مشقةٍ

فنِلتَ ذُراها لا دنيّاً ولا وغلا

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيت له في كلّ مجمعه فضلا

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بملتقطات لا ترى بينها فصلا.(2)

***

وفي كتاب الجليس للمعافي من طريق ابن عائشة عن أبيه: نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر وقد فرع بكلامه، فقال: من هذا الذي نزل عن القوم بسنه، وعلاهم في قوله؟

قالوا: هذا ابن عباس، فأنشأ يقول:

إني وجدتُ بيان المرء نافلةً

يهدي له ووجدت العَيَّ كالصّمم

المرء يبلى ويبقى الكلمُ سائرةً

وقد يُلامُ الفتى يوماً ولم يَلُم ِ

***

وقال فيه معاوية(3):

إذا قال لم يترك مقالاً ولم يقف

لعيّ ولم يثن اللسان على هجر(4)

يُصرّف بالقول اللسانَ إذا انتحى

وينظر في أعطافه نظر الصقر

***


1- البداية والنهاية، 8 : 304.
2- ديوان حسان بن ثابت.
3- العقد الفريد 2 :130.
4- الهجر الهذيان، والقبيح من الكلام.

ص: 86

من وصاياه

عن عكرمة قال سمعت عبدالله بن عباس يقول لابنه علي بن عبدالله: ليكن كنزك الذي تذخره العلم، كن به أشدّ اغتباطاً منك بكنز الذهب الأحمر، فإني مودعك كلاماً إن أنت وعيته أجمع لك به أمر الدنيا والآخرة:

«لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، ويقول في الدنيا قول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي فيها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي،ويأمر بما لا يأتي، يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض الجاهلين وهو أحدهم...».(1)

حياته

كان ابن العباس في طفولته برعماً من البراعم الإيمانية، التي ارتوت من ينبوع الرسالة العذب، فقد احتضنته المدرسة النبوية صغيراً، وتربى في كنفها تزقه العلم والأدب والأخلاق، لتجعل منه عالماً مجاهداً في شبابه وكهولته من أجل المبدإ والعقيدة، ومثلاً إيمانياً رائعاً يقتدي به الآخرون.

إنّ من المعالم الشاخصة في حياة ابن عباس: العقيدة الراسخة، والمؤهلات النادرة التي منها عقليته المتزنة، وذكاؤه الحاد، وحافظته المبكرة، فغدا بكلّ هذا عالماً ملئت كتب التفسير والحديث والتاريخ بآرائه ورواياته ومحاوراته؛ كما أنّ شجاعته تشكل هي الأخرى معلماً واضحاً في شخصيته، جعلته يؤدي واجبه الجهادي في ميادين القتال على خير ما يؤدي الشجاع واجبه القتالي، ناهيك عن لباقته وسرعة بديهيته وقدرته العجيبة على المحاورة السياسية والمناظرة العلمية، التي قلّ مثيلها، والتى تكشف عن علم واسع، ومعرفة دقيقة، وخبرة عميقة، وحجة قوية يتصف بها الرجل.


1- أنظر الأمالي، للشيخ المفيد : 330. هذه الوصية تشبه ماورد عن الإمام علي (ع) مع اختلاف في الألفاظ وزيادة فيها، وقد ذكرها الحراني في تحف العقول: 105 _ 106 تحت عنوان (موعظته (ع) ووصفه المقصرين)، ط:5 منشورات مكتبة بصيرتي.

ص: 87

كما أنّ صفتي الأناة والحلم كانتا من مميزات ابن عباس، فالشجاعة هذهِ الصفة التي تدعو إلى الإقدام والاندفاع قد يتصف بها كثيرون، لكنها إذا ما تعانقت مع صفتي الحلم والأناة تكون صفة عظيمة محمودة، وتدل بالتالي على كمال النفس وعظمتها وعلوّ همّتها، وهذا ما كان لابن عباس؛ ففي الوقت الذي كان فيه رجل سياسة وبطل حوار، وصاحب بصيرة ورأي ونظر، كان رجل حرب; لهذا نرى الإمام علياً7 قد اتخذه وزيراً له وقائداً ميدانياً يقود جبهة من جبهات القتال حينما تشتد ضراوة المعارك، فميسرة الجيش في حرب صفين كانت له، قاتل فيها قتالاً شديداً، وفي معركة الجمل كان على مقدمة جيش الإمام علي (ع) وهكذا في النهروان.

يرمي به الإمام (ع) مقاتلاً كما يرمي به محاوراً سياسياً بارعاً؛ ففي وقعة صفين حينما لم يكن بدٌّ من التحكيم، أنظر كيف يصفه الإمام (ع):

«إنّ معاوية لم يكن يضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص... فعليكم بعبدالله بن عباس فارموه به; فإنّ عمراً لا يعقد عُقدة إلاّ حلّها عبدالله، ولا يحلّ عقدة إلاّ عقدها، ولا يبرم أمراً إلاّ نقضه ولا ينقض أمراً إلاّ أبرمه».(1)

وفي كلام آخر له في شأن الحكمين قال... فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبدالله ابن عباس، وفي هذا يقول ابن أبي الحديد: يُقال هذا لمن يرام كفّه عن أمر يتطاول له: ادفع في صدره، وذلك لأنّ من يقدم على أمر ببدنه فيدفع دافع في صدره حقيقة فإنه يردّه أو يكاد، فنقل ذلك إلى الدفع المعنوي.

هذا في حربه وسياسته وأما في محاوراته فقد جرت بينه وبين الخليفة الثاني وعائشة والزبير وطلحة ومعاوية ويزيد وعتبة بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم وعبدالرحمن بن الحكم وزياد بن أبيه وابن الزبير والمغيرة وغيرهم جرت بينه وبينهم مناظرات واحتجاجات كثيرة، كانت له الحجة عليهم، ومن جميل مناظراته _ وهي كثيرة _ هذه التي جرت بينه وبين الخليفة الثاني:


1- وقعة صفين، لنصر بن مزاحم _ منشورات مكتبة المرعشي :500.

ص: 88

قال عمر يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟ فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأميرالمؤمنين يدريني.

فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجَّحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووُفِّقت.

فقلت: ياأميرالمؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمتُ.

فقال: تكلم يا ابن عباس.

فقلت: أما قولك يا أميرالمؤمنين اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزّوجلّ لها، لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة فإنّ الله عزّوجلّ وصف قوماً بالكراهية فقال:

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).(1)

فقال عمر، هيهاتَ والله يا ابن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت كرهت أن أقرَّك عليها فتُزيل منزلتك منّي.

فقلت: وماهي يا أميرالمؤمنين؟ فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنا حسداً وظلماً.

فقلت: أما قولك يا أميرالمؤمنين ظلماً، فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً، فإن إبليس حسد آدم ونحن ولده المحسودون.(2)

ومن محاوراته التي استطاع بها أن يلقي الحجة على الخوارج فعاد منهم ألفا رجل وبقي أربعة آلاف على عنادهم:

لمّا أعلن الخوارج حربهم على علي (ع) وقبل أن يحاربهم، وجّه إليهم عبدالله بن عباس،


1- سورة محمد: الآية 9.
2- عبد الله بن سبأ : 144 _ 145 ، للسيد العسكري.

ص: 89

فلما صار إليهم رحّبوا به وأكرموه...

قالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟

قال: جئتكم من عند صهر رسول الله(ص) وابن عمّه، وأعلمنا بربّه وسنة نبيّه، ومن عند المهاجرين والأنصار.

فقالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكّمنا الرجال في دين الله; فإن تاب كما تُبنا، ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا.

فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلاّ ما صدقتم أنفسكم، أما علمتم أنّ الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟

فقالوا: أللهم نعم.

قال: فأنشدكم الله هل علمتم أنّ رسول الله(ص) أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحُديبية؟

قالوا: نعم، ولكن عليّاً محا نفسه من خلافة المسلمين.

قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه وقد محا رسول الله(ص) اسمه من النبوة، وقال سُهيل بن عمرو: لو علمتُ أنك رسول الله ما حاربتك، فقال للكاتب: اكتب «محمد بن عبدالله»، وقد أخذ عليٌّ على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعليٌّ أولى من معاوية وغيره.

قالوا: إنّ معاوية يدعي مثل دعوى عليّ.

قال: فأيهما رأيتموه أولى فولّوه.

قالوا: صدقت.

قال ابن عباس: ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما؛ فاتبعه منهم ألفان، وبقي أربعة آلاف.(1)

كما أنّ من معالم شخصيته أنه كان أديباً شاعراً وخطيباً بليغاً، فبعد أن أنهى الإمام علي (ع) خطبته قبل معركة صفين محرضاً أصحابه على القتال، قام ابن عباس خطيباً يبين


1- العقد الفريد 2 : 233.

ص: 90

أحقّية علي (ع) وجبهته، وباطل معاوية وجبهته، في كلام بليغ جميل يدل على عمق إيمانه، وعظيم بيانه، وسعة معرفته، ودقة وعيه، وأنه على بصيرة من أمره:

«ألحمد لله ربّ العالمين، الذي دحا تحتنا سبعاً، وسمك فوقنا سبعاً; ثم خلق فيما بينهنّ خلقاً، وأنزل لنا منهنّ رزقاً، ثم جعل كلّ شيء يبلى ويفنى غير وجهه، الحيُّ القيوم الذي يحيا ويبقى; ثم إنّ الله بعث أنبياء ورسلاً، فجعلهم حججاً على عباده، عُذراً أو نُذراً، لا يطاع إلاّ بعلمه وإذنه، يمنّ بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها، ويعصى ]بعلم منه[ فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره، ولا يبلغ شيء مكانه، أحصى كلّ شيء عدداً، وأحاط بكلّ شيء علماً؛ ثم إني أشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، إمام الهدى والنبيّ المصطفى؛ وقد ساقنا قدر الله إلى ما ترون، حتى كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمة وانتشر من أمرها، أنّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على علي بن أبي طالب (ع) ابن عمّ رسول الله وصهره، وأوّل ذكر صلّى معه، بدريّ قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه كلّ مشاهده التي فيها الفضل; ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام; واعلموا والله الذي ملك الملك وحده فبان به وكان أهله، لقد قاتل عليّ بن أبي طالب (ع) مع رسول الله صلى الله عليه، وعلي (ع) يقول: صدق الله ورسوله؛ ومعاوية وأبوسفيان يقولان: كذب الله ورسوله; فما معاوية في هذه بأبرّ ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في قتالكم.

فعليكم بتقوى الله والجدّ والحزم والصبر، وإنكم لعلى الحق وإنّ القوم لعلى الباطل; فلا يكونن أولى بالجدِّ في باطلهم منكم في حقكم; أما والله إنا لنعلم أنّ الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم; أللهم ربنا أعنّا ولا تخذلنا، وانصرنا على عدونا ولا تخلّ عنا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم».(1)


1- وقعة صفين، لنصر بن مزاحم : 318، منشورات مكتبة المرعشي.

ص: 91

قال معاوية لعمرو بن العاص: إنّ رأس الناس بعد علي هو عبدالله بن عباس، فلو ألقيتَ إليه كتاباً لعلك ترققه به، فإنه إن قال شيئاً لم يخرج عليّ منه، وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى العراق إلاّ بهلاك أهل الشام.

قال عمرو: إنّ ابن العباس لا يُخدع، ولو طمِعت فيه لطمعت في علي فقال معاوية: عليّ ذلك، فاكتب إليه كتاباً في ذلك وكتب في أسفله شعراً، كان أوله:

طال البلاءُ وما يرجى له آس ِ

بعد إلاله سوى رفق ابن عباس

فلما قرأ ابن عباس الكتاب أتى به عليّاً فأقرأه شعره فضحك وقال: «قاتل الله ابن العاص، ما أغراه بك يا ابنَ عباس، أجبه..»

فكتب ابن عباس: «... وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعلي، ابتدأها عليٌّ بالحق وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام. بايع أهل العراق علياً (ع) وهو خير منهم، وبايع معاوية أهل الشام وهم خير منه؛ ولست أنا وأنت فيها بسواء أردتُ الله وأردتَ أنت مصر... فإن ترد شرّاً لا نسبقك به، وإن ترد خيراً لاتسبقنا إليه».(1)

ومن شعره الذي ردّ فيه على ابن العاص حين خدع أباموسى الأشعري في قصة التحكيم:

كذبت ولكن مثلك اليوم فاسقٌ

على أمركم يبغي لنا الشرّ والعزلا

وتزعم أن الأمر منك خديعةٌ

إليه وكلّ القول في شأنكم فضلا

فأنتم وربّ البيت قد صار دينكم

خلافاً لدين المصطفى الطيب العدلا

أعاديتم حبّ النبيّ ونفسه

فما لكم من سابقات ولا فضلا

وأنتم وربّ البيت أخبث من مشى

على الأرض ذانعلين أو حافياً رجلا

غدرتم وكان الغدر منكم سجيّةً

كأن لم يكن حرثاً وان لم يكن نسلا(2)


1- وقعة صفين: 413.
2- المصدر النفسه: 550.

ص: 92

إن أعمال الرجل ومواقفه وخطبه وكتبه وأشعاره، التي تجلّى فيها ولاؤه المخلص والصادق للإمام علي (ع) بقدر ما جعلته أقرب الناس إلى علي (ع) وآثرهم عنده، جعلته عرضة للإتهام والطعن لا لشيء إلاّ بسبب تلك المواقف وذلك الولاء الذي شهد به الأعداء فضلاً عن الأصدقاء، ولاء متين ثابت نابع من «عليٌّ مع الحق والحقُ مع علي»، فهو إذن وليد العقيدة الحقّة.

دقته العلمية

لقد كان ابن عباس دقيقاً فيما ينقل عن رسول الله(ص) وفيما يقول ويطرح من آراء، يراجع ما يسمعه مرات قبل أن ينقله، لهذا فقد أتّسم عمله العلمي بالدقة والحرص، وكان يبذل قصارى جهده لطلب العلم والحقيقة، ويسعى بكل تواضع بين الصحابة يسأل ويتحقق حتى يتأكد من أي رواية يريد نقلها عن رسول الله(ص) لئلا ينقل حديثاً موضوعاً أو مكذوباً على رسول الله(ص) حتى ورد عنه: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله(ص) إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي إليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول يا ابن عمّ رسول الله ما جاء بك؟ هلاّ أرسلتَ إليّ فآتيك..؟

فأقول، أنت أحقّ بأن أسعى إليك، فأسأله عن الحديث وأتعلم منه!

ابن عباس مفسراً

يُعد ابن عباس من كبار المفسّرين، بل هو الثاني بعد علي (ع) فقد قال ابن عطية: «وكان جلّة من السلف كثير عددهم يفسّرون القرآن، وهم أبقوا على المسلمين في ذلك، فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعليّ بن أبي طالب (ع) ويتلوه عبدالله بن عباس وهو تجرّد للأمر وكمّله، وتبعه العلماء عليه...».(1)


1- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 1 : 27.

ص: 93

قال ابن عباس: ما أخذت من تفسير القرآن فمن علي بن أبي طالب (ع) وكان عليّ يثني على تفسير ابن عباس ويحضّ على الأخذ منه، وكان يقول: «نِعم تَرجُمان القرآن عبدالله بن عباس» وقال عنه عليٌّ (ع) : «ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق».. ويتلوه عبدالله بن مسعود...(1)

هذا ما ذكره القرطبي، وأما ما ذكره السيوطي عن ابن عباس:

وأما ابن عباس فهو ترجمان القرآن الذي دعا له النبي(ص): «أللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل».(2)

وعن مجاهد قال: قال ابن عباس: قال لي رسول الله(ص) : «نعم ترجمان القرآن أنت».

وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود، قال: «نعم ترجمان القرآن عبدالله بن عباس».

وأخرج عن الحسن، قال: إنّ ابن عباس كان من القرآن بمنزل.

وعن ابن عمر _ حينما بلغه تفسير ابن عباس للآية:

(...أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما...).(3)

أنه قال: قد كنت أقول: ما يُعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علماً.

يقول أحمد أمين عن الإمام علي (ع) : كان أستاذاً لعبدالله بن عباس أخذ عنه كثيراً.(4)

وكان لابن عباس مصحف خاص به ذكره الشهرستاني في مقدمة تفسيره وكان ترتيبه كالتالي:

1اقرأ...2ن...3والضُّحى...4المزمل...

5المدثر...6الفاتحة...7تبّت يدا...8كوِّرت...


1- الجامع لأحكام القرآن، 1 : 35.
2- الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي 4 : 234 _ 240.
3- الأنبياء: 30.
4- فجر الإسلام : 149.

ص: 94

9الأعلى10والّليل...11والفجر...12ألم نشرح لك

13الرحمن...14والعصر...15الكوثر...16التكاثر...

17الدين...18الفيل...19الكافرون...20الإخلاص...

21النجم...22الأعمى...23القدر...24والشمس...

25البروج...26التين...27قريش...28القارعة...

29القيامة...30الهمزة...31والمرسلات...32ق...

33البلد...34الطارق...35القمر36ص...

37الأعراف38الجنّ...39يس...40الفرقان...

41الملائكة...42مريم...43طه...44الشعراء...

45النمل...46القصص...47بني اسرائيل...48يونس...

49هُود...50يوسف...51الحجر...52الأنعام...

53الصافات...54لقمان...55سبأ...56الزُّمر...

57المؤمن...58حم السجدة...59حم عسق...60الزخرف...

61الدخان...62الجاثية...63الأحقاف...64الذاريات...

65الغاشية...66الكهف...67النحل...68نوح...

69إبراهيم...70الأنبياء...71المؤمنون...72الرعد...

73الطور...74الملك...75الحاقة...76المعارج...

77النساء...78والنازعات...79انفطرت...80انشقت...

81الروم...82العنكبوت...83المطففون...84البقرة...

85الأنفال...86آل عمران...87الحشر...88الأحزاب...

89النور90الممتحنة...91الفتح...92النساء...

93إذا زلزلت...94الحج...95الحديد...96محمّد (ص)...

97الإنسان...98الطلاق...99لم يكن...100الجُمعة...

ص: 95

101ألم السجدة...102المنافقون...103المجادلة...104الحجرات...

105التحريم...106التغابن...107الصف...108المائدة...

109التوبة...110النصر...111الواقعة...112والعاديات...

113الفلق...114الناس...

ابن عباس والوضاعون

الوضع: الاختلاق; وضع الرجل الحديث: افتراه وكذبه واختلقه.(1) تشير مصادر كثيرة إلى أنّ وضع الحديث كان في عهد رسول الله(ص) وفي حياته المباركة، وقد ورد عنه9 النهي عنه: «يا أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار...».

وللوضع عوامله وأهدافه وطرقه؛ ومن طرقه اختيار سند ينتهي إلى صحابي جليل يتمتع بوجود محترم بين الصحابة ومكانة كبيرة عند عموم المسلمين وقد يكون ذا مكانة علمية مرموقة ومعروفة، وربما يكون من الذين يستعين به الصحابة في حلّ كثير من المسائل التفسيرية والفقهية، حتى يُعطى للرواية _ بكاملها سنداً ومتناً _ قوةً وأثراً ومقبولية لدى الآخرين.

لأن «الواضع بداهة لا يختار لاختلاقه إلا الشخصيات الرفيعة من ذوي الشهرة الواسعة، لكي تلقى أكذوبته صداها في نفوس الناس بنسبتها إليهم».(2)

وابن عباس ممن تتوفر فيه هذه الصفات إضافة إلى أنه شخصية علمية فهو ذات رصيد اجتماعي، وصاحب دور سياسي مطلع على الأحداث، التى مرت في تأريخ الإسلام والمسلمين، كما أنه من عائلة كريمة اجتمعت فيها صفات النبل والسخاء والشجاعة؛ كل هذه الأمور وغيرها جعلت الرجل عرضة للوضع له والمبالغة فيه، للوصول إلى مآرب


1- المعجم الوسيط، مادة وضع.
2- اُنظر المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم :244; ومجلة قضايا إسلامية 2: 47.

ص: 96

سياسية من خلال ذلك، كما صار عرضة للوضع عليه نيلاً منه وتبريراً لأفعال أعدائه وأعداء البيت الهاشمي.

يقول أحمد أمين: ويظهر أنه وضع على ابن عباس وعليّ (ع) أكثر مما وضع على غيرهما، ولذلك أسباب: أهمها أنّ علياً (ع) وابن عباس من بيت النبوة، فالوضع عليهما يكسب الموضوع ثقة وتقديساً لا يكسبهما الإسناد إلى غيرهما... وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، يتقرب إليهم بكثرة المروي عن جدّهم.

ثم يواصل أحمد أمين كلامه فيقول: وقد روي عن ابن عباس ما لا يحصى كثرة، فلا تكاد تخلو آية من آيات القرآن إلا ولابن عباس فيها قول أو أقوال، وكثر الرواة عنه كثرة جاوزت الحد...(1)

كما أنّ السيد الحكيم يقول:

«لقد ذكرنا في مقدمة كتابنا عن عبدالله بن عباس مختلف العوامل الداعية للوضع له أو عليه في زمنه وبعد زمنه وعلى الأخص فيما دار من ملاحاة بين السلطة العباسية ومناوئيها من أئمة الزيدية الراغبين في الحكم، وبالطبع إنّ هذا الرجل _ وهو مصدر من مصادر شرعية سلطة الخلفاء العباسيين، التي استندوا إليها أو بعضهم على الأقل عندما ادعوا لأنفسهم وراثة النبوة وتسلسلها في أعقاب العباس حتى وصلت إليهم _ لا بد وأن يرتفع رصيده في نفوس الرأي العام ويغالى فيه إلى درجة تسمو به وترتفع عن سائر البشر المتعارف، فالكرامات مازالت ترافقه منذ ولادته وحتى نهاية حياته، بينما يهبط رصيده في نفوس الخصوم حتى يجرد عن جلّ مواهبه وإمكاناته وخلقه».(2)

لقد تعرض الرجل وهو حبر الأمة لمثل هذه الاختلاقات والافتراءات فأسندت له أحاديث وروايات كثيرة _ لا يغيب أكثرها عن نباهة المحقق.(3) _ حتى ورد عن الإمام الشافعي قوله:


1- فجر الإسلام، أحمد أمين : 202 _ 203.
2- محمد تقي الحكيم، قصة بيت المال في البصرة : 344 مقالة في ثمرات النجف.
3- ألفت كتب فى الموضوعات من الفريقين انظر أصول الحديث للفضلي 164، 165، 166.

ص: 97

«لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث».(1) كما أنّ علماء التفسير ضعفوا كثيراً من الأسانيد المنتهية إلى ابن عباس حتى وصفها بعضهم بأنها من أوهى الطرق، ضاربين لذلك مثلاً طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وقالوا: فإذا انضم إلى ذلك محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب.(2) والسدي الكبير وصفوه بأنه ضعيف وكذاب.(3) كما ذكروا مثالاً آخر للوضع كان بطله «نوح الجامع» أبوعصمة نوح بن أبي حريم، قيل له: من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة.(4) وفي كلام آخر أقرّ بوضعه على ابن عباس.(5)

كما أنّ الضحاك بن مزاحم الهلالي روى التفسير عن ابن عباس وهو لم يلقه.(6)

ناهيك عن الإسرائيليات التي لم ينجو منها تراث ابن عباس والتي نشط اليهود في بثّها في عموم تراثنا الإسلامي، ومن هؤلاء اليهود كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام... مع أنّ ابن عباس كان دقيق الملاحظة، أمين الوصف والرواية، واعياً لأفعال هؤلاء، ومدى ما تتركه على التراث الإسلامي من آثار، وقد نهي عن الأخذ منهم، ورد عنه: «كيف تسألونهم عن شيء، وكتاب الله بين أظهركم؟».(7)

ووقف موقفاً آخر حازماً إزاء الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات، فقد قال كما أخرجه البيهقي بسنده عن ابن عباس قال: «إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله فلم تجدوا تصديقه في الكتاب، أو هو حسن في أخلاق الناس فإنه كاذب».


1- الإتقان للسيوطي 4: 239.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- علوم الحديث لابي عمرو بن الصلاح: 90.
5- علوم الحديث ومصطلحاته. ص 283.
6- الإتقان للسيوطي 4: 238.
7- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد ربه 3 : 51.

ص: 98

ومع هذا فقد زخر تفسيره برواياتهم مما حدى بالذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» وبغيره إلى اتهام ابن عباس بالاطمئنان إليهم، والنقل عنهم، والاستعانة بهم في تفسيره، لعدم امكان نفي ماورد في تفسيره من الإسرائيليات لكثرتها.

ونحن نرى تراث ابن عباس وآثاره عند تحققها ودراستها قد احتوت على كثير من الإسرائيليات والأساطير والكرامات والمعاجز المنسوبة له، إضافة إلى ما تعرض له تراثه من أكاذيب واختلاقات مما جعل هذا التراث غامضاً بعض الشيء ومرتبكاً أو مضطرباً في بعضه الآخر، كما أنه مضطرب كثرة وقلة، قال بعضهم: لم يتجاوز عدّة أحاديث.

ذكر الآمدي في كتاب الإحكام في أصول الأحكام، أنّ ابن عباس لم يسمع من رسول الله(ص) سوى أربعة أحاديث لصغر سنه.(1)

كما ذكر محمود أبوريه في أضوائه: قال ابن القيم في الوابل الصيب: إن ما سمعه ابن عباس عن النبي(ص) لم يبلغ العشرين حديثاً: وعن ابن معين والقطان وأبي داود في السنن أنه روى تسعة أحاديث وذلك لصغر سنه؛ ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده 1696 حديثاً.(2)

ومن الروايات المختلقة لأهداف سياسية ما رواه الترمذي عن ابن عباس: أنّ رسول الله(ص) دعا للعباس بدعاء قال فيه: «واجعل الخلافة باقية في عقبه»!

وكذلك عن ابن عباس: ليكونن الملك _ أو الخلافة _ في ولدي، حتى يغلبهم على عزّهم الحمر الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة.(3)

ابن عباس وبيت مال البصرة

ما إن انتهت حرب الجمل بانتصار الإمام علي (ع) وصحبه على ناكثي البيعة حتى بادر الإمام إلى تعيين عبدالله بن عباس والياً على البصرة، فقال: «يا معاشر الناس! قد استخلفتُ


1- كتاب الإحكام، للآمدي 2 : 178 _ 180.
2- أضواء على السنة المحمدية، أبو رية : 71.
3- المصدر النفسه: 136.

ص: 99

عليكم عبدالله بن عباس، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع اللهَ ورسولهَ، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فأعلموني أعزله عنكم; فإني أرجو أن أجده عفيفاً تقياً ورعاً، وإني لم أولّه عليكم إلاّ وأنا أظن ذلك به، غفر الله لنا ولكم».(1)

ثم أوصى عبدالله بن عباس بوصاياه قائلاً: «يا ابن عباس! عليك بتقوى الله والعدل بمن ولِّيت عليه، وأن تبسط للناس وجهك، وتوسع عليهم مجلسك، وتسعهم بحلمك، وإياك والغضب، فإنه طيرةٌ من الشيطان، وإياك والهوى فإنه يصدك عن سبيل الله، واعلم أن ما قربك من الله فهو مباعدك من النار، وما باعدك من الله فهو مقربك من النار، واذكر الله كثيراً ولا تكن من الغافلين».(2) كان هذا في سنة 36 ه_ .(3)

في سنة 40 ه_ بدأ أهم حدث في تاريخ هذا الرجل، وبالذات في تاريخ علاقته بالإمام علي (ع) فيما يتعلق ببيت مال البصرة وتجاوزه عليه كما زعم، فقد اضطربت أقوال المؤرخين وآراؤهم في هذه المسألة اضطراباً عجيباً، وحقاً ما قاله السيد محمد تقي الحكيم في دراسته حياة ابن عباس حيث يقول:

«والحقّ أنّ هذه القصة من أكثر ما قرأت _ وأنا أؤرخ لهذه الفترة من حياة ابن عباس في كتابي عنه _ غموضاً في فصولها، فقد اختلف فيها المؤرخون على أقوال لا التقاء بين ما تباعد من أطرافها، فبعضها ينفي هذه القصة نفياً باتاً ويعتبرها اسطورة من الأساطير، وعلى رأس هؤلاء عمرو بن عبيد الزاهد المعروف، وبعضهم يثبتها، والمثبتون أنفسهم يختلفون، ويدخل إلى أقوالهم التناقض في أكثر من مجال، فبعضهم يتبنى إثباتها بأفظع صورها، فيغالي في كثرة ما أخذ من المال، ثم في اللهجة التي راسل بها الإمام، وفي الفتنة التي ألحقها وهو خارج بأموال بيت المال من البصرة وهارب بها إلى الحجاز، وعلى رأس هؤلاء من المتأخرين الدكتور طه حسين في كتابه (عليٌّ وبنوه) معتمداً مارواه الطبري


1- كتاب الجمل، للشيخ المفيد، تحقيق السيد علي مير شريفي: 420 _ 421.
2- المصدر نفسه:420؛ نهج البلاغة: 465 الكلمة: 76؛ الإمامة والسياسة، لابن قتيبة 1: 105.
3- الطبري، حوادث سنة 36 ه_.

ص: 100

وابن عبد ربه وأمثالهما من قدماء المؤرخين; بينما يتبنى فريق تقليل ما أخذ من المال وإبقاءه في البصرة بعد إرجاع المال والياً من قبل الإمام».(1)

أما وجهة نظر النافين فقد عبر عنها عمرو بن عبيد وهو يرد على من ينسب له ذلك: «لا، كيف تقول هذا وابن عباس لم يفارق علياً حتى قتل وشهد صلح الحسن.. وأي مال يجتمع في بيت مال البصرة مع حاجة علي (ع) إلى الأموال وهو يفرغ بيت مال الكوفة في كل خميس ويرشه. وقالوا: إنه كان يقيل فيه فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة هذا باطل».(2)

وهنا يقول السيد الحكيم: وكلام عمرو هذا ذو شقين اثنين نختلف معه في حسابهما، فأما اِدعاؤه استمرار بقاء ابن عباس مع علي ثم مع الحسن فهذا من قبيل الرواية، ونحن لانملك تكذيبه فعلاً فيها، وأما الشق الثاني من دعواه فهي قابلة للمناقشة، إذ لا تلازم بين تفريغ مال الكوفة وعدم صحة القصة لجواز أن تكون يده قد امتدت إلى المال حين مجيء الخراج وقبل توزيعه من قبله، والحقيقة أنّ هذا من قبيل الاستحسان المحض، وهو أقرب إلى الاجتهاد في مقابل النص لوصح وروده في هذا المجال.

التهم الموجهة لابن عباس

الاتهام الأول: ورد في تاريخ الطبري في حوادث سنة 40 ه_ في سبب شخوصة إلى مكة وتركه العراق؛ وخلاصة هذا الاتهام أنّ الدؤلي بعد شجار له مع ابن عباس كتب إلى الإمام علي (ع) قائلاً:... وانّ ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك...

فكتب الإمام علي (ع) إليه كتاباً وآخر إلى ابن عباس وتتالت كتب الإمام وابن عباس ومما جاء في أحد كتب الإمام:

أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت؟ وفيم وضعت؟


1- دراسة قيمة تحمل روحاً علمية منهجية قل نظيرها؛ تناولت هذا الموضوع بالتفصيل تحت عنوان قصة بيت المال في البصرة ودور ابن عباس فيها؛ أنظر ثمرات النجف: 239 _ 252.
2- نقلاً عن أمالي السيد المرتضى، 1 : 123، ط السعادة.

ص: 101

فكتب إليه ابن العباس: أما بعد، فقد فهمتُ تعظيمك مرزأة ما بلغك أني رزأته من مال أهل هذا البلد، فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه، والسلام.

ثم دعا ابن عباس أخواله بني هلال بن عامر...(1)

الاتهام الثاني: ورد على لسان قيس بن سعد حينما لحق عبيدالله بن عباس بمعاوية الذي جاء لحرب الحسن7 حيث أغراه معاوية بالمال: قام قيس فخطب في الجند قائلاً: «يا أيها الناس،... إنّ هذا وأباه، وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط: إنّ أباه عم النبي9 خرج يقاتله ببدر... وإنّ أخاه ولاه علي أميرالمؤمنين على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أنّ ذلك له حلال...».(2)

الاتهام الثالث: اتهام ابن الزبير.

خطب ابن الزبير بمكة على المنبر، وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر، فقال:

«... وإنّ هاهنا رجلاً قد أعمى الله قلبه (يعني ابن عباس الذي كان يسمعه) كما أعمى الله بصره، يزعم أنّ متعة النساء حلال... وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس..»

هذا كلام من ابن الزبير لم يتركه ابن عباس يذهب سدًى بل تصدى له بحزم وبحجة قوية، ولكن تهمة ابن الزبير له باحتماله مال البصرة لم يردّها أو ينفيها ولكنه بين وجهة نظره فيها:

... وأما حملي المال فإنه كان مالاً جبيناه فأعطينا كلّ ذي حقّ حقّه، وبقيت بقية هي دون حقّنا في كتاب الله فأخذناها بحقنا...

ونشير هنا إشارة سريعة إلى النتائج فقط التي توصل إليها السيد جعفر مرتضى العاملي، والتي تدل على افتعال القصة واختلاقها من أساسها، ونحيل القارئ الكريم إلى التفاصيل في كتاب ابن عباس وأموال البصرة للسيد العاملي، فقد ناقش الروايات الثلاث (الاتهامات) سنداً ومتناً.


1- تاريخ الطبري، حوادث سنة 40 ه_ 3 :154 _ 155، دار الكتب العلمية _ بيروت.
2- مقاتل الطالبيين: 73 ط الشريف الرضي، قم.

ص: 102

فقد أورد السيد العاملي ملاحظاته وأدلته، التي تحكم على أنّ رواية الطبري «الاتهام الأول» بالوضع والافتعال، كما أنه ناقش الاتهام الثاني المنسوب إلى قيس بن سعد والمنقول عن مقاتل الطالبيين، ناقشه قائلاً: فيكفي أن نشير بالنسبة إليه إلى ما ذكره بعض المحقّقين،(1) من أنه كلام مفتعل، قد دسّ في بعض نسخ مقاتل الطالبيين دون بعض; وذلك لأنّ ابن أبي الحديد قد نقل كلام أبي الفرج بعينه، ولم يذكر كلام قيس هذا، وإنما قال عن قيس: «ثم خطبهم، فثبتهم، وذكر عبيدالله، فنال منه، ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو; فأجابوه..».

ونقل ابن أبي الحديد مقدمٌ; سيما ونحن نراه ينقل عن أبي الفرج بين قوله: «فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة»، وقوله «ثم إنّ الحسن سار في عسكر عظيم» ينقل كلاماً كثيراً ليس في نسخ المقاتل المطبوعة منه عين ولا أثر.. وابن أبي الحديد قد سمع المقاتل املاءً عن شيوخه; فنقله أثبت، إذ يحتمل قوياً أن تكون هوامش قد زادها النساخ في الأصل اشتباهاً..

والنقاش الثالث تمّ لرواية ابن الزبير «اتهامه» وقد توصل السيد العاملي إلى أنه مع ضعف سند الرواية فإنّ العبارة التي يعير فيها ابن عباس بسرقة أموال البصرة هي الأخرى مفتعلة، كما أنّ جواب ابن عباس هو الآخر مفتعل، ولم ترد العبارة المزعومة ولا جوابها عند الكثيرين من المؤرخين الذين نقلوا الرواية التي تحمل اتهامات ابن الزبير وجواب ابن عباس عنها.

كما يذكر في الهامش أنّ المؤرخين قد ذكروا ما عدا مروج الذهب أنّ القضية جرت بين ابن عباس وعروة بن الزبير لا عبدالله، ولكنها كلها تتفق في خلوها عن الفقرة التي تتهم ابن عباس بأموال البصرة، وذكر عدّة مصادر.

كما أنه ناقش الرواية سنداً ومتناً وفنّد متنها الذي يذكر أنّ الزبير تزوج أسماء متعة،


1- قاموس الرجال، التستري 6: 439 باب العين.

ص: 103

وأنها علقت بعبدالله، ويستبعد هذه الدعوى.(1)

هذا وأنّ هناك الكثير من العلماء والمؤرخين ينفون هذه التهمة عن ابن عباس، أو تثبت أنّ ابن عباس بقي والياً لعلي (ع) على البصرة، إلى ما بعد مقتله7 نستعرض بعضاً منهم وأقوالهم:

قال ابن كثير: «... وتأمر على البصرة من جهة علي (ع) وكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة، وزياد بن أبي سفيان على الخراج، وكان أهل البصرة مغبوطين به: يفقههم، ويعلم جاهلهم، ويعظ مجرمهم، ويعطي فقيرهم، فلم يزل عليها حتى مات علي (ع) ويقال: إنّ علياً عزله عنها قبل موته...».(2)

قال ابن حجر في الإصابة: «فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى قتل علي (ع) فاستخلف على البصرة عبدالله بن الحارث ومضى إلى الحجاز...».(3)

أما ابن أبي الحديد فقد قال بعد أن ذكر الكتب المتبادلة بين الإمام (ع) وابن عباس: «وقال آخرون هم الأقلون: هذا لم يكن ولا فارق عبدالله بن عباس علياً7 ولا باينه ولاخالفه، ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قتل عليّ (ع)؛ قالوا: ويدل على ذلك مارواه أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهانى من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لما قتل علي (ع) ... وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية، ويجرّه إلى جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيراً من عمال أميرالمؤمنين7 واستمالهم إليه بالأموال، فمالوا وتركوا أميرالمؤمنين7 فما باله وقد علم النّبْوَة التي حدثت بينهما، ولم يستمل ابن عباس، ولا اجتذبه إلى نفسه، وكل من قرأ السير وعرف التواريخ، يعرف مشاقّة ابن عباس لمعاوية بعد وفاة علي (ع) وما كان يلقاه به من قوارع الكلام، وشديد الخصام، وما كان يثني به على أميرالمؤمنين (ع) ويذكر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه ومآثره، فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضد لما اشتهر من أمرهما».


1- ابن عباس وأموال البصرة : 49 _ 50.
2- البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير 8: 304، مكتبة المعارف بيروت.
3- الإصابة 2: 334؛ وانظر عدم مفارقته للإمام، أمالي المرتضى 1: 177؛ وقاموس الرجال 6: 15، وانظر أيضاً تذكرة الخواص: 150، 252 وتاريخ اليعقوبي 2: 205.

ص: 104

وبعد أن يورد ابن أبي الحديد كل هذا يقول: وهذا عندي هو الأمثل والأصوب، وإن توقف أخيراً.

بعد ذلك يردّ على قول الراوندي الذي يقول: المكتوب إليه هذا الكتاب «كتاب أميرالمؤمنين» هو عبيدالله بن عباس، لا عبدالله» فيقول: وليس ذلك بصحيح، فإنّ عبيدالله كان عامل علي (ع) على اليمن، ولم ينقل عنه أنه أخذ مالاً، ولا فارق طاعة ثم يردف ابن أبي الحديد قوله هذا:

«وقد أشكل عليّ أمرُ هذا الكتاب، فإن أنا كذبت النقل وقلت: هذا كلام موضوع على أميرالمؤمنين7 خالفتُ الرواة، فإنهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه، وقد ذكر في أكثر كتب السير، وإن صرفته إلى عبدالله بن عباس صدّني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أميرالمؤمنين7 في حياته وبعد وفاته، وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أميرالمؤمنين7؟ والكلام يشعر بأنّ الرجل المخاطب من أهله وبني عمّه».

لهذا نرى ابن أبي الحديد متوقفاً في هذا بقوله: «فأنا في هذا الموضع من المتوقفين».

فإنكارها _ حقاً _ أمر صعب «والحقيقة أنّ إنكار هذه القصة من الأساس واعتبارها مختلقة موضوعة كما يذهب إلى ذلك منكروها وهم القلة في المؤرخين.. أمر تأباه طبيعة البحث الموضوعي; لأنّ هذه القضايا الكبرى في التأريخ والتي يكثر الحديث فيها لا تكون بغير منشإ انتزاع غالباً».(1)

كما أنّ الايمان بها بهذه السعة التي تستند إلى رواية الطبري وإلى من سار على ضوئها أمثال ابن الأثير، وابن خلدون، وابن كثير، وصاحب العقد، وطه حسين وغيرهم، أمر كما يقول السيد الحكيم لا يمكن الاطمئنان إليه... فابن عباس «الشخصية الفذة، الذي قام بدور رئيس في تأييد الإمام علي (ع).. سواء في حياة الإمام (ع) أو تأييد حق علي (ع) وحق أهل بيته بعد وفاته..


1- السيد محمد تقي الحكيم، ثمرات النجف: 243.

ص: 105

والرجل الذي اشتهر بصراحته المثيرة ومواقفه الجريئة، والإنسان الذي كان _ ومايزال _ يتمتع بالاحترام والتقدير، وله شهرة علمية، وأدبية واسعة، والتي لم تكن لتكون له لو لم يكن يتمتع بالمؤهلات الحقيقية والنادرة، التي رسخت بمعطياتها هذه الشهرة الواسعة، وجسدت المثال الحي للشخصية التي تستحق كل هذا الاحترام، وكل هذا التقدير..».(1)

وكما يقول عنه طه حسين: «من العلم بأمور الدين والدنيا ومن المكانة في بني هاشم خاصة، وفي قريش عامة، وفي نفوس المسلمين جميعاً، ما كان خليقاً أن يعصمه عن الانحراف عن ابن عمّه، مهما تعظم الحوادث، وتدلهم الخطوب..» وإن كان طه حسين يثبت تهمه السرقة له.(2)

فصاحب التاريخ العريض المليء بالأخلاق والحب والتفاني قولاً وفعلاً دفاعاً عن الإمام ومواقفه، لا يمكن لهذا الرجل أن ينسب إليه مثل هذا العمل «السرقة».

وأخيراً أرى أنّ ما حدّث به اليعقوبي في تأريخه هو الأنسب والأقرب للصحة ونكتفي بما حدث به:

كتب أبو الأسود الدؤلي _ وكان خليفة عبدالله بن عباس بالبصرة _ إلى علي (ع) يعلمه أنّ عبدالله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب إليه يقسم له بالله لتردنها، فلما ردّها عبدالله بن عباس أو ردّ أكثرها كتب إليه علي (ع): «أما بعد، فإنّ المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همّك لما بعد الموت والسلام».

فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أميرالمؤمنين (ع) أو ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله(ص) كانتفاعي بهذا الكلام.(3)

والنتيجة _ باختصار _ التي توصل إليها السيد محمد تقي الحكيم في بحثه هذا هي:


1- السيد مرتضى العاملي.
2- الفتنة الكبرى، للدكتور طه حسين.
3- تاريخ اليعقوبي 2 : 205، دار صادر؛ نهج البلاغة ضبط الدكتور صبحي الصالح : 378 رقم الكتاب 22؛ تحف العقول، للحراني :138 مع بعض الاختلاف.

ص: 106

1) الأخذ برواية اليعقوبي، ففي جوها تلتقي جميع الخطوط والآراء...(1)

2) أنّ ابن عباس في أخذه لهذا المال كان أخذه ينطوي تحت العنوان الأولي وهو حقّه الطبيعي في الخمس، وإنّ إصرار الإمام (ع) على إرجاع المال يناسب وجهة نظره7 في أنّ حرمان بني هاشم من حقّهم في الخمس للعنوان الثانوي أجدى على الإسلام في رأيه من تنفيذ العنوان الأولي «حق بني هاشم في الخمس».(2)

3) يؤيد هذه النتيجة قول ابن عباس نفسه ردّاً على اتهام ابن الزبير «على فرض صحة الرواية» من أنه أخذ البقية من المال التي هي دون حقّه في كتاب الله تعالى.

وما يؤيد ذلك أيضاً الرواية التي جاءت في العِقد الفريد: كان عبدالله بن عباس من أحبّ الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يقدمه على الأكابر من أصحاب محمد9 ولم يستعمله قط، فقال له يوماً: كدت أستعملك، ولكني أخشى أن تستحلّ الفيء على التأويل، فلما صار الأمر إلى علي (ع) استعمله على البصرة، فاستعمل الفيء على تأويل قول الله تعالى:

{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى}.(3)

هذا، وإنّ لكثير من علماء الرجال كلاماً ينصب جلّه على ما تفرد به الكشي في رجاله، وفي كلامهم ما يؤيد نزاهة ابن عباس وبراءته من التهمة المنسوبة إليه، نستعرض بعضاً منهم.

الكشي وابن عباس

فقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن قدحاً في ابن عباس، ومن جملة تلك الأحاديث حديث مفارقته للإمام علي (ع) وأخذه المال من بيت المال البصرة، وكتب أميرالمؤمنين (ع)


1- ثمرات النجف، قصته : 247، 250 _ 251.
2- المصدر نفسه.
3- فجر الإسلام، أحمد أمين : 147.

ص: 107

وأجوبة ابن عباس عنها.(1)

وفي ذلك يقول السيد الخوئي:

هذه الرواية وما قبلها من طرق العامة، وولاء ابن عباس لأميرالمؤمنين وملازمته له7 هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة، وتوجيه التهم والطعون عليه، حتى إنّ معاوية لعنه الله كان يلعنه بعد الصلاة مع لعنه عليّاً والحسنين وقيس بن عبادة والأشتر!! كما عن الطبري وغيره، وأقل ما يُقال فيهم إنهم صحابة رسول الله(ص) فكيف كان يلعنهم، ويأمر بلعنهم؟!

وراح السيد الخوئي يبين رأيه في ابن عباس بوضوح: والمتحصّل مما ذكرنا أنّ عبدالله بن عباس كان جليل القدر، مدافعاً عن أميرالمؤمنين والحسنين: كما ذكره العلامة، وابن داود.(2)

كما قال الشهيد الثاني في حاشية الخلاصة: جملة ما ذكره الكشي من الطعن فيه خمسة أحاديث كلّها ضعيفة السند(3).

وقد ذهب السيد ابن طاووس إلى نفي كل ذلك نفياً تاماً، فقد قال في ابن عباس: حاله في المحبة والإخلاص لمولانا أميرالمؤمنين7 وموالاته، والنصر له، والذب عنه، والخصام في رضاه، والمؤازرة له، مما لا شبهة فيه، ثم قال معرضاً بأخبار الذم، ومثل الحبر موضع أن يحسده الناس ويباهتوه:

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسداً وبغياً إنه لذميم

قال: ولو ورد في مثله ألف رواية أمكن أن تعرض للتهمة، فكيف بهذه الأخبار الضعيفة الركيكة؟!(4) فكل ما ورد بخصوص قصة بيت مال البصرة وابن عباس هي أخبار ضعفها ابن طاووس.


1- رجال الكشي : 279 _ 280 حرف العين.
2- معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي 11: 254، 256.
3- ذكر في كتاب (في رحاب أئمة أهل البيت) محسن الأمين 2 :241.
4- المصدر نفسه 2: 241.

ص: 108

وأما صاحب الوسائل في خاتمتها يقول عن ابن عباس: حالُه في الجلالة والإخلاص لأميرالمؤمنين7 أشهر من أن يخفى، وروي فيه قدحٌ، وهو أجل من ذلك.(1)

وفاته

توفي ابن عباس في الطائف سنة 68 للهجرة، بعد أن اُصيب بالعمى، وصلّى عليه محمد بن الحنفية.(2)

فسلام عليه في الخالدين.

المصادر

1 _ الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني.

2 _ مختصر تاريخ دمشق، ابن منظور.

3 _ حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني.

4 _ التاج الجامع للأصول، منصور علي ناصيف.

5 _ العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي.

6 _ البداية والنهاية، ابن كثير.

7 _ الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الأندلسي.

8 _ الأمالي، للشيخ المفيد.

9 _ وقعة صفين، نصر بن مزاحم.

10 _ اخترنا لك: ثمرات النجف؛ قصة بيت المال في البصرة ودور ابن عباس فيها، السيد محمد تقي الحكيم.

11 _ أكاذيب وحقائق (1) ابن عباس وأموال البصرة _ السيد جعفر مرتضى العاملي.


1- خاتمة الوسائل، للعاملي30 : 411.
2- الإصابة 1: 90؛ البداية والنهاية، ابن كثير 8 : 305.

ص: 109

12 _ مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني.

13 _ قاموس الرجال، التستري.

14 _ الأمالي، للسيد المرتضى.

15 _ تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي.

16 _ تاريخ الطبري، ابن جرير الطبري.

17 _ تذكرة الخواص، ابن الجوزي.

18 _ وسائل الشيعة، الحر العاملي.

19 _ معجم رجال الحديث، السيد الخوئي.

20 _ في رحاب أئمة أهل البيت، محسن الأمين العاملي.

21 _ علوم الحديث ومصطلحاته، الدكتور صبحي الصالح.

22 _ علوم الحديث، ابن الصلاح.

23 _ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي.

24 _ الاستيعاب في أسماء الأصحاب.

25 _ ديوان حسان بن ثابت.

26 _ المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم، هدى جاسم أبوطبرة.

27 _ رجال الكشي.

28 _ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد.

29 _ أضواء على السنة المحمدية، محمود أبورية.

30 _ تحف العقول، ابن شعبة الحراني.

31 _ عبدالله بن سبأ، السيد مرتضى العسكري.

ص: 110

ص: 111

(6) جعفر الطيّار

اشارة

حسن محمد

لستُ زاعماً أنّ الصحابة كلهم في الفضل سواء، أوَ يكون هذا وقد فضّل الله الرسل _ وهم أكرم الخلق وأقربهم إليه تعالى _ بعضهم على بعض فقال:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).(1)

والتفضيل حالة توافق طبيعة الأشياء؟ فإن كان هذا الزعم ليس من حقّي بل ليس من حق الجميع _ كما هو الحقّ _ إلاّ أني أستطيع وبقوة أن أقول: إنّ الصحابة _ بعضهم _ صناعة خاصة أعدّتهم السماء وتفضّلت بهم علينا جميعاً; ليصوغوا لنا تأريخاً مليئاً بالخير، وليصنعوا حاضراً كلّه عطاء، ويبنوا مستقبلاً زاهراً بالأمل مشرقاً بالحبّ، بعيداً عن العداوة والبغضاء فكانوا جيلاً لا نظير له فيما مضى من تأريخ الرسالات.

فقد نجح هؤلاء، وهم النخبة الطاهرة من الأصحاب في تبليغ أعظم رسالة سماوية، استطاعت أن تغير أمّة جاهلية بل أمماً أخرى، فغيرت بذلك وجه التأريخ، فاستحقوا بذلك


1- سورة البقرة : 253.

ص: 112

الفوز في الدنيا والآخرة.

كانوا من ورثة جنة النعيم، يتبوّؤون منها غرفاً، وينعمون بها، ويمرحون في بحبوحة منها.

ولا غرابة في ذلك بعد أن أحبوا الله ورسوله، وطلبوا رضوانه تعالى، وملئوا شوقاً إلى لقائه، فقد كانوا يطلبون الموت ويتحاثون عليه.

كم كانت تربيتك يا رسول الله لهذه الزمرة الطيبة مجدية نافعة خالدة! وكم كان حبّهم لك عظيماً صادقاً، شهد بها أبوسفيان _ وهو يعيش العداء كلّه لرسول الله(ص) ولدينه ولمن معه _ : ما رأيت من الناس أحداً يحبّ أحداً كما يحبّ أصحاب محمد محمداً!

وجعفر من هذه النخبة الطيبة الصادقة، كان صحابياً متميزاً في دينه وولائه، وفي فصاحته وبيانه وحلمه، كما كان مثلاً رائعاً للشجاعة والفداء، أبى إلاّ أن تكون ساحات الوغى أرضاً له، وإلاّ ظلال السيوف سقفاً له حتى كان شهيداً، ولكن متى؟! بعد أن قطعت يداه، وبعد أن تحمل جسمه، وضمّ بدنه أكثر من سبعين طعنة رمح، وضربة سيف، ورمية سهم.

نسبه ولقبه وكناه

كان جعفر من سلالة تلك العائلة الكريمة في خصالها، الرفيعة في شرفها، المتميزة في سيادتها وزعامتها ورجالها، فهم سادة قريش بل سادة الدنيا على الإطلاق، هذه العشيرة التي ضمّت أكرم خلق الله محمداً وآله الطاهرين..

فأبوه: شيبة الحمد، شيبة بني هاشم، أبوطالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد

مناف بن قصي... واسمه عبد مناف، وقد كني بأكبر أولاده (طالب)، وقد كان

الكافل الحامي المدافع عن النبي9 الذي أحاط رسول الله(ص) بعناية عظيمة قلّ مثيلها، خاصة إذا نظرنا إلى مكانته في مجتمع قريش وبين زعمائها وما يسببه ذلك الدفاع من إحراج أمامهم.

وكانت هذه الحماية من الأهميّة لرسول الله (ص) ولدعوته إلى الدرجة التي لم تطمع

ص: 113

قريش في رسول الله(ص) وكانت كاعةً عنه حتى توفي عمّه أبوطالب، ولم يهاجر إلى المدينة إلاّ بعد وفاته رضوان الله عليه.

وأمّه: كانت أمّ جعفر الطيار، من تلك النساء القلة الطاهرات اللاّئي امتازت حياتهن بمواقف جليلة في مسيرة الأنبياء.

وهي إحدى تلك النساء اللواتي نلن ذكراً جميلاً على لسان خاتم الرسل محمد9 تقول الرواية: لما ماتت فاطمة بنت أسد أمّ عليّ (ع) _ وكانت قد أوصت لرسول الله(ص) وقَبل وصيتها _ ألبسها النبي9 قميصه واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك يا رسول الله صنعت هذا!

فقال: «إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرَّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حُلَل ِ الجنّة، واضطجعت معها ليُهوَّن عليها».

وفي دعاء خاص لها قال (ص) : «أللهم اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجّتها، ووسع عليها مدخلها».

وخرج من قبرها وعيناه تذرفان.

لقد كانت لرسول الله(ص) بمنزلة الأم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فقد ربته في حجرها، وكان شاكراً لبرّها، وكان يسميها ويناديها ب_ أمّي، وقد كانت تفضله على جميع أولادها في البر والرعاية؛ تقول بعض الروايات: كان أولادها يصبحون شعثاً رمصاً ويصبح رسول الله(ص) كحيلاً دهيناً.

أمّا إيمانها فهي بدرجة عظيمة، وقد سبقت إلى الإسلام، وكانت من المهاجرات الأول إلى المدينة، وهي بدرية.

فذاك أبوه وهذه أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وهي أول هاشمية تزوّجت من هاشمي، فهو وليد هذه الأسرة المباركة.

أمّا لقبه: فكان يلقب بجعفر الطيار كما لقبه رسول الله (ص) ب_ (ذي الجناحين).

أمّا كنيته: فقد كناه رسول الله(ص) ب_ (أبي المساكين) وله كنية أخرى (أبو عبدالله).

ص: 114

إخوته

كان جعفر، الثالث في إخوته، فقد كان طالب أكبر ولد أبي طالب سناً ثم يليه عقيل، ثم يلي عقيلاً جعفر، ويلي جعفراً عليٌّ (ع) والشيء الملفت للنظر إن لم نقل للعجب أنّ كل واحد منهم أكبر من صاحبه بعشر سنين، وكان عليّ أصغرهم سنّاً.(1)

زوجته وأولاده

بنى جعفر بأسماء بنت عميس الخثعمية، المرأة الصالحة، فولدت له ثلاثة أولاد، وهم محمد وعبدالله وعوف، وقد ولدوا جميعاً في الحبشة في الفترة التي أمضاها جعفر وزوجته مهاجرين هناك، في كنف ملك الحبشة المعروف بالعدل.

إسلامه

كان جعفر الثاني من الرجال الذين أعلنوا إسلامهم، وهناك رواية تقول: إنّه الثالث بعد علي (ع) وزيد بن حارثة.(2)

كما وردت في كيفية إسلامه روايتان تصرحان بأنّه ممّن أسلم باكراً، والدعوة لا تزال في مهدها، وكان إسلامه بأمر من أبيه أبي طالب، حيث كان جعفر برفقة أبيه حينما كان رسول الله(ص) يؤدي صلاته وإلى جنبه ابن عمّه علي بن أبي طالب، فلما رآهما يصليان التفت إلى جعفر قائلاً: انزل يا جعفر فصل جناحَ ابن عمّك، أو أي بني، صل جناحَ ابن عمّك؛ وقد وفق جعفر لأن ينال ثواب أول جماعة عقدت في الإسلام، وكانت تأريخاً لبداية إسلامه.

وفي هذا عثرتُ على روايتين صريحتين في إسلام جعفر، ودفاع أبي طالب عن النبي9 وعما هو عليه من أمر الدعوة الجديدة؛ كانت الرواية الأولى عن علي (ع) يقول فيها:

«بينما أنا مع النبي9 في حَيْر(3) لأبي طالب أصلي، أشرف علينا أبوطالب، فنظر إليه


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 3: 407 ؛ وطبقات ابن سعد 1: 77.
2- مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور 6: 66.
3- الحَيْرُ: بالفتح شبه الحظيرة أو الحمى، أنظر اللسان: حَيَر.

ص: 115

النبي9 فقال: يا عم ألا تنزل فتصلي معنا؟ فقال: يا بن أخي، إني لأعلم أنك على الحق...، لكن انزل يا جعفر فصل جناحَ ابن عمّك».

قال: فنزل فصلى عن يساري، فلما قضى النبي9 صلاته، التفت إلى جعفر فقال: «أما إنّ الله تعالى قد وصلك بجناحين تطير بهما في الجنة، كما وصلت جناح ابن عمّك».(1)

وفي رواية ثانية يذكرها أيضاً صاحب مختصر تاريخ دمشق عن صلصال بن الدلهمس يقول فيها:.. فكان الذي بينهما _ بين أبيه الدلهمس وأبي طالب _ في الجاهلية عظيم (عظيماً)، فكان أبي يبعثني إلى مكّة لأنصر النبي9 مع أبي طالب قبل إسلامي، فكنت أقيم الليالي عند أبي طالب لحراسة النبي9 من قومه، فإني يوم من الأيام جالس بالقرب من منزل أبي طالب في الظهيرة وشدّة الحر، إذ خرج أبوطالب شبيهاً بالملهوف فقال لي: يا أبا الغضنفر، هل رأيت هذين الغلامين فقد ارتبت بإبطائهما عليّ؟

فقلت: ما حسست لهما خبراً منذ جلست، فقال: اِنهض بنا فنهضت، وإذا جعفر بن أبي طالب يتلو أبا طالب، قال: فاقتصصنا الأثر حتى خرج بنا من أبيات مكّة، قال: ثمّ علونا جبلاً من جبالها، فأشرفنا منه على أكمة دون ذلك التل، فرأيت النبي9 وعلياً (ع) قائماً عن يمينه، ورأيتهما يركعان ويسجدان قبل أن أعرف الركوع والسجود، ثم انتصبا قائمين، فقال أبوطالب لجعفر: أي بني، صل جناح ابن عمّك، قال: فمضى جعفر مسرعاً حتى وقف بجنب علي (ع) فلما أحسّ به النبي9 أخّرهما وتقدم، وأقمنا موضعنا حتى انقضى ما كانوا فيه من صلاتهم، ثمّ التفت إلينا النبي9 فرآنا بالموضع الذي كنّا فيه، فنهض ونهضنا معه مقبلين، فرأينا السرور يتردّد في وجه أبي طالب، ثمّ انبعث يقول:

إنّ عليّاً وجعفراً ثقتي

عِندَ مُهِمِّ الأمورِ والكربِ

لا تخذلا وانصُرا ابن عمِّكمَا

وابنَ أمّي من بينهم وأبي

واللهِ لا أُخذلُ النبيَّ

ولا يَخذُلُه مِن بَنِيَّ ذُو حَسبِ


1- مختصر تاريخ دمشق 6: 66.

ص: 116

قال: فلما آمنت به ودخلتُ في الإسلام، سألت النبيَّ9 عن تيك الصلاة، فقال: «نعم، يا صلصال! هي أول جماعة كانت في الإسلام».(1)

صفاته

لقد اجتمعت في جعفر خصال كثيرة قلما تجتمع في غيره، فقد اتفقت مصادر ترجمته عليها، فإضافة إلى شبابه وفتوته وشجاعته، كان حليماً بارّاً متواضعاً، وكان يخشى الله خشية عظيمة، حتى إنه قبل إسلامه كانت نفسه وكأنها قد جبلت على كره المحرمات.

يقول ابن عباس في رواية له: قال رسول الله(ص) لجعفر بن أبي طالب: إنّ الله تعالى أوحى إليّ أنه شكرك على أربع خصال، كنتَ عليهنّ مقيماً قبل أن يبعثني الله، فما هنّ؟

قال له جعفر: بأبي أنت وأمّي، لولا أنّ الله أنبأك بهنّ ما أنبأتك عن نفسي كراهية التزكية: إني كرهت عبادة الأوثان، لأني رأيتها لا تضرّ ولا تنفع; وكرهت الزنا... وكرهت شرب الخمر، لأني رأيتها منقصة للعقل، وكنت إلى أن أزيد في عقلي أحبّ إليّ من أن أنقصه؛ وكرهت الكذب، لأني رأيته دناءة.(2)

ما أعظمك يا جعفر في الجاهلية كما ما أعظمك في إسلامك!

كان جعفر جواداً كريماً سخياً سمحاً، فقد قال فيه رسول الله(ص): «أسمح أمّتي جعفر».

ولطيب نفسه ومراعاته لضعفاء الناس ومساكينهم، كان رسول الله (ص) يكنيه أبا المساكين.

فعن أبي هريرة قال: كان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه.(3)

وعنه أيضاً: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، وإن كان ليخرج إلينا العكة فنشقها فنلعق ما فيها.


1- مختصر تاريخ دمشق 6: 66.
2- المصدر النفسه 6: 67.
3- رواه البخاري 7: 77 ؛ حلية الأولياء 1: 117.

ص: 117

الهجرة

إنّ من أعظم ما ناله المسلمون الأوائل هو وسام الهجرة، هذه التي منّ الله تعالى بها عليهم، لتكون نقطة انطلاقة كبرى، وانفتاح على العالم الآخر بعيداً عن الحجاز وعبث الظالمين فيه، وأذاهم وتعذيبهم للصفوة المؤمنة; فالدعوة في بدايتها وقد حفت بالمخاطر، والمؤمنون بها قلة قليلة ضعيفة لا حول لها ولا قوة.. ترقبها عيون قريش هنا وهناك، تتربص بهم ليسوموهم سوء العذاب، لا لذنب اقترفوه أو جريمة تلبسوا بها، سوى أنهم (فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً).(1) وهجروا دين آبائهم وكبرائهم...

تقول رواية أمّ سلمة:

لما ضاقت على النبي9 مكّة، وأوذي أصحابه، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأنّ رسول الله(ص) لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله(ص) في منعة من قومه ومن عمّه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله(ص): إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه.

فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمناً على ديننا، ولم نخش ظلماً.

فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً، اجتمعوا على أن يبعثوا إليه فينا ; ليخرجنا من بلاده، وليردنا عليهم. فبعثوا عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يَدَعُوا منهم رجلاً إلاّ بعثوا له هدية على حِدَة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثمّ ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.

أقول: كانت تخشى قريش أن ينطلق الحقّ من لسانهم ووقع الذي كانت تخشاه.


1- سورة الكهف: 13.

ص: 118

فقدما علينا، فلم يبق بطريق من بطارقته إلاّ قدّموا إليه هديته، فكلموه، فقالوا له: إنّا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثَنا قومُهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل، ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، فكان من أحبّ ما يهدى إليه من مكّة الأَدَم; فلما أدخلوا عليه هداياه، فقالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لَجأُوا إلى بلادك، فبَعَثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم(1) عيناً.

فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم وكانوا هم أعلى بهم، فإنهم لم يدخلوا في دينك فيمنعهم أملك ; فغضب، ثمّ قال: لا، لعمر الله، لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لَجأُوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما تقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عيناً; فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم _ ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم _ فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقال: ماذا تقولون؟ فقالوا: ماذا نقول؟! نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا9 كائن من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي:

ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانيه، فما هذا الدين؟

فراح جعفر رضوان الله عليه يبين له حيث قال:

.. أيها الملك كنّا قوماً على الشرك، نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحلّ المحارم.. وغيرها، لا نحلّ شيئاً ولا نحرّمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءَه وصدقَه وأمانتَه، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصلَ الرحم، ونُحسِنَ الجوار،


1- .. وأعلى بهم عيناً أي أبصر بهم ، وأعلم بحالهم. اللسان: علا.

ص: 119

ونصلّي لله تعالى، ونصوم له، ولا نعبد غيره، فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال له جعفر: نعم، فقال: هلمّ فاتلُ عليَّ ما جاء به.

فقرأ عليه صدراً من (كه_ي_عص) فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم؛ ثم قال: إنّ هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى; انطلقوا راشدين، لا، والله لا أردهم عليهم، ولاأنعمكم عيناً، فخرجنا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبدالله بن أبي ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لأثنينه غداً بما أستأصل به خضراءهم.(1) فلأخبرنه أنهم يزعمون أنّ إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد.

فقال له عبدالله بن أبي ربيعة : لا تفعل.. فإنهم إن كانوا خالفونا فإنّ لهم رحماً ولهم حقاً، فقال: والله لأفعلن، فلما كان الغد دخل عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم، ولم ينزل بنا مثلها؛ فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟

فقالوا: نقول والله الذي قاله الله تعالى، والذي أمرنا به نبينا (ص) أن نقول فيه: فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

وهنا أيضاً كان جعفر رضوان الله عليه هو المحاور فقال له: نقول: هو عبدُ الله ورسوله وكلمتهُ وروحهُ ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عوداً بين أصبعيه، فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العويد؛(2) فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله، اِذهبوا، فأنتم شيوم في أرضي _ والشيوم: الآمنون _ مَن سبّكم غرم، ثمّ من سبّكم غرم، ثمّ مَنْ سبّكم غرم، فأنا ما أحب أن لي دَبْراً، وأني آذيتُ رجلاً منكم _ والدبر بلسانهم: الذهب _ فوالله ما أخذ الله تعالى مني الرشوة حين ردّ علي ملكي فآخذ الرشوة منه، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة إلي


1- خضراءهم : شجرتهم التي منها تفرعوا .
2- العويد : أي مقدار هذا العود الصغير .

ص: 120

بها، وأخرجا من بلادي.

فرجعا مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به؛ فأقمنا مع خير جار، وفي خير دار.

فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزناً حزنّا قط كان أشدّ منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي ، فخرج إليه سائراً ... فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه ... فوالله ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثمّ أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعاً إلى مكة، وأقام من أقام ...(1)

وفي رواية ثانية ذكرها أبو نعيم في حليته عن بردة عن أبيه:

قال: لما أمرنا رسول الله (ص) أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشاً، فبعثوا عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، فجمعوا للنجاشي هدية، فقدمنا وقدما على النجاشي، فأتياه بالهدية فقبلها، وسجدا له; ثم قال له عمرو بن العاص: إنّ أناساً من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك.

قال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالوا: نعم، فبعث إلينا.

فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلس وعمرو بن العاص عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون والرهبان جلوس سماطين سماطين، وقد قال لهم عمرو وعمارة: إنّهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا مَنْ عنده من القسيسين والرهبان:

أسجدوا للملك.

فقال جعفر: لا نسجد إلاّ لله عزّوجلّ.

قال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إنّ الله تعالى بعث فينا رسولاً وهو الرسول الذي بشر به عيسى (ع).

قال: من بعدي اسمه أحمد; فأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً، ونقيم الصلاة، ونؤتي


1- مختصر تاريخ دمشق 6 : 63 ، 64 ، 65 .

ص: 121

الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر.

فأعجب النجاشي قوله; فلما رأى ذلك عمرو بن العاص، قال: أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في ابن مريم.

فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟

قال: يقول فيه قول الله عزّوجلّ: هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء التي لم يقربها بشر، ولم يفترضها ولد.

فتناول النجاشي عوداً من الأرض فرفعه، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه; ثمّ قال: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده.

وأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى (ع) ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعله، أمكثوا في أرضي ما شئتم; وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردوا على هذين هديتهما.(1)

وفي حلية الأولياء أيضاً، كان جواب جعفر: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف؛ وكنّا على ذلك حتى بعث الله تعالى إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.

قال: _ فعدد عليه أمور الإسلام _ فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله عزّوجلّ، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله


1- حلية الأولياء : 114 _ 115 .

ص: 122

عزّوجلّ، وأن نستحل ما كنّا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، فاخترناك على مَنْ سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك...

ولما أرسلت قريش مبعوثيها إلى الحبشة، يقول ابن هشام في سيرته: فقال (أبوطالب) حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه، أبياتاً للنجاشي يحضّه على حسن جوارهم والدّفع عنهم:

ألا ليتَ شعري كيف في النأي جعفرٌ

وعمرو وأعداء العدوّ الأقاربُ

وهل نالت أفعالُ النجاشي جعفراً

وأصحابه أو عاق ذلك شاغب

تعلَّم، أبيت اللّعن، أنّك ماجدٌ

كريمٌ فلا يشقى لديك المجانب

تعلّم بأنّ اللهَ زادك بَسطةً

وأسبابَ خير كلّها بك لازب

وأنّك فيضٌ ذو سِجال غزيرة

يَنال الأعادي نفعها والأقار ِب.(1)

أما لما ذا جعفر؟!

لقد كان جعفر ومعه زوجته أسماء الوحيد من بني هاشم ممّن قد خرج إلى أرض الحبشة مهاجراً، والذي أعتقده أنّ جعفراً لم يكن من الذين اضطُهدوا من قبل قريش، ولم يتعرض إلى ما تعرض له بقية المسلمين، لما يتمتع به من منعة عشيرته ومكانتها _ وإن كان هناك غيره لم تستطع قريش من اضطهاده _ إلاّ أن لجعفر قدرات ذاتية اكتشفها رسول الله (ص) فيه، ستجعل له دوراً رسالياً مهماً في الحبشة; وإذا ما تعرض المهاجرون _ الذين كان عددهم أكثر من 80 مهاجراً _ إلى مواقف خطيرة، وفي الذب والدفاع عنهم، وعن الدين الجديد; وهذا ما حدث بالفعل، فقد نقلنا تلك الروايات لنلقي الضوء كاملاً على دور هذا الرجل في إقناع النجاشي وبطارقته بمظلومية المهاجرين، وليس هذا فقط، بل في عرض الإسلام بشكل واضح وجلي، مبيناً خصائص النبي (ص) ودوره في


1- السيرة النبوية لإبن هشام 1 : 332 .

ص: 123

دعوة قومه إلى هذا الدين، ونبذ عبادة الأصنام . . وكل هذا يحتاج إلى شجاعة وجرأة وقدرة على البيان والمحاورة، وهذه الصفات جمعت في جعفر بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه ، فجعلت رسول الله (ص) يأذن له بالهجرة، بل ويأذن له بالبقاء طيلة خمس عشرة سنة تقريباً، فقد هاجر سنة خمس من مبعث النبي (ص) وقدم إلى المدينة سنة سبع من الهجرة، فنال بذلك وسام الهجرتين.

لقد كان بحقّ رجل الإسلام الأول، ورجل الحوار الأوّل في تلك البلاد، فمن محاوراته الجميلة التي أحرجت عمرو وصاحبه أمام النجاشي . . ما ذكره صاحب تفسير مجمع البيان:

قال جعفر: يا أيها الملك سلهم أنحن عبيد لهم؟ فقال: لا، بل أحرار.

قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ قال: لا، ما لنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟ قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم; ولم يكتف جعفر بهذا بل عقبه بذكر النبيّ وأحكام الإسلام.

أيها الملك بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد، وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي...(1)

فرسول الله (ص) لم يأذن لهم بالهجرة للخلاص بأنفسهم وأهليهم فحسب، وإن كان هذا هدفاً سليماً طالما لم يستطع الدفاع عنهم من ظلم قريش وتعسّفها، وهو بعد في أول أمره ولم يؤمر بالجهاد، إلاّ أنه كان يريد منهم أيضاً أن يحملوا هذه الرسالة التي جاءت إلى الناس كافة، وأن يكونوا له دعاةً في غير مكّة وبلاد الجزيرة العربية، وأن يزيحوا العوائق التي قد تستفيد منها قريش مستقبلاً. . أراد رسول الله (ص) لجعفر وللمهاجرين أن يكونوا دعاة رسالة، ورجال حضارة، وبناة تأريخ، ومستقبل زاهر بالإسلام ومبادئه; وأن


1- تفسير مجمع البيان 3 : 361 .

ص: 124

يستوعبوا الزمن كلّه والمكان كلّه والناس كلّهم، وهذا ما حدث، فعند عودة جعفر إلى المدينة كان معهم سبعون رجلاً منهم اثنان وستون من بلاد الحبشة، وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب، فقرأ عليهم رسول الله (ص) سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم:

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ).(1)

أمّا لما ذا الحبشة؟!

لابدّ لمن يريد أن ينجو من الاضطهاد والعذاب، أن يختار مكاناً آمناً يلوذ به، وإلاّ فسيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار; لهذا فقد تمّ اختيار هذه البلاد، وكما صرح بذلك رسول الله (ص) حينما أمر المسلمين بالهجرة: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها مَلكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً ممّا أنتم فيه».(2)

إذن، فهي بلاد صدق، وفيها حاكم عادل، فتجد الدعوة ويجد المهاجرون ساحة بلا موانع، يستطيعون التحرّك عليها بحريّة وأمان; كما أنها أرض كانت متجراً لقريش.

يقول الطبري: ... وكانت أرض الحبشة متجراً لقريش يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغاً من الرزق، وأمناً ومتجراً حسناً.(3)

وكانت أيضاً بلاداً مفتوحةً على كثير من البلدان، فهي بالتالي تشكّل ساحة مناسبة لنشر الدعوة الجديدة، وبثّها في تلك البلاد وفي غيرها، كما تشكّل ساحة ضغط على قريش وتجارتها.

وهذا ما حصل بالفعل، فقد وصل تأثير المهاجرين بدءاً بالملك الذي أعلن موقفه من


1- سورة المائدة : 82 _ 84 ؛ مجمع البيان 3 : 361 .
2- سيرة ابن هشام 12 : 321 .
3- تاريخ الطبري 1 : 546 ، رفاغاً : سعة .

ص: 125

الإسلام، ومن المهاجرين، وحمايتهم بقوله: أنا أشهد أنه رسول الله (ص) ... إلى غير الملك من أشراف القوم وأبناء البلاد الآخرين؛ وكما يذكر الطبري: ثمّ إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم.(1)

شجاعته واستشهاده

بعد عودته رضوان الله عليه إلى المدينة من الحبشة _ كان رسول الله (ص) بخيبر سنة 7ه_ _ بعد أن قضى فيها سنين عدداً مهاجراً، وكان بصحبته زوجته أسماء وأولاده الثلاثة محمد وعبدالله وعوف، تقول الرواية المنقولة عن الشعبي... قال: لما فتح النبي (ص) خيبر قدم جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه من الحبشة، فالتزمه رسول الله (ص) وجعل يقبّل بين عينيه ويقول: «ما أدري بأيهما أنا أشدّ فرحاً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟!».(2) وقد آخى بينه وبين معاذ بن جبل.

فأقام بالمدينة شهراً، ثمّ جعله رسول الله (ص) أحد الأمراء الثلاثة على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك بالبلقاء; فتوجه إلى هناك حيث خاض معركة لم يخض المسلمون معركة مثلها، كما وصفت، وكان أعداء المسلمين من المشركين الروم قد ادّرعوا بالعتاد والأعداء ما يملأ السهل والجبل، وما لا طاقة للعرب ولا للمسلمين به، وكان جعفر أحد قواد الجيش الثلاثة الذين عيّنهم رسول الله (ص) فعن عروة بن الزبير: أنه بعث ذلك البعث (بعث رسول الله (ص) الجيش إلى مؤتة) في جمادى.. لسنة ثمان من الهجرة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن اُصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة على الناس.(3)


1- تاريخ الطبري 1 : 546 .
2- أنظر مقاتل الطالبيين : 30 ، عن ابن سعد 4 : 23؛ وابن أبي الحديد 3 : 407 ؛ والبداية والنهاية 4 : 256 ؛ والاستيعاب 1 : 81 .
3- أنظر مقاتل الطالبيين : 30 ، عن ابن سعد 2 : 93 ، و4 : 22 ؛ وابن هشام 4 : 15 ؛ والبداية والنهاية 1 : 241 ؛ والسيرة الحلبية 3 : 77 .

ص: 126

وقد ذكر الدكتور الجميلي صاحب كتاب: «صحابة النبي (ص)» وصفاً للمعركة ولاستشهاد جعفر: واشتبكت الأسنة، واشتجر الوغى، وعلا رهج الحرب، وأدرك الروم أنهم إزاء فارس لا ضريب له، لا تثلم له ضربة، ولا يغل له سنان، ولا تنبو له ضريبة، فاعتوره الأعداء من كل صوب وجهة، وهو يرميهم ذات اليمين وذات الشمال، يستأصل شأفتهم، ويبيد خضراءهم، وهو ممسك بالراية بيده اليمنى، فقطعوها له، فالتقطها بيده اليسرى، ولا يزال صامداً متماسكاً، إلاّ أنّ الروم ظلوا يتدافعون إليه، واحتوشوه حتى قطعت يده اليسرى، فاحتضن الراية بعضدَيه شهامةً حتى الموت، واندفعت الأمور لنهاياتها الحتمية، فقتل جعفر رضي الله عنه، وسقط شهيداً مضرجاً بدمائه، مثخناً بجراحه، مزملاً في ثيابه، مدثراً ببطولة لا مثل لها.

يقول عبدالله بن عمر: كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين طعنة ورمية.

وقال الزركلي في أعلامه: وحضر موقعة مؤتة بالبلقاء من أرض الشام، فنزل عن فرسه، وقاتل، ثمّ حمل الراية، وتقدم صفوف المسلمين، فطعنت يمناه فحمل الراية باليسرى فطعنت أيضاً، فاحتضن الراية إلى صدره، وصبر حتى وقع شهيداً وفي جسمه نحو تسعين طعنة ورمية، فقيل: إنّ الله عوضه عن يديه جناحين في الجنة، وقال حسان:

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا

بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وقد روى عكرمة عن ابن عباس: أنّ النبي (ص) قال: «دخلت الجنة فرأيت جعفر الطيار مع الملائكة وجناحاه مضرجان بالدم».

يقول بن عوف _ وهو ممن حضر معركة مؤتة _ عن شجاعة جعفر: لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة، حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثمّ تقدم فقاتل حتّى قتل، قال بن اسحاق: فهو أول من عقر في الإسلام وهو يرتجز:

يا حبذا الجنة واقترابُها

طيبةٌ وباردٌ شرابُها

والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها

عليّ إن لاقيتها ضرابُها

ص: 127

وفيما قاله رسول الله (ص) عن إيمان جعفر الثابت وشجاعته: .. ولما أخذ جعفر ابن أبي طالب الراية، جاءه الشيطان فمناه، وكره إليه الموت، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا، ثمّ مضى قدماً حتى استشهد; فصلى عليه رسول الله (ص) ودعا له، ثمّ قال رسول الله (ص): «استغفروا لأخيكم جعفر فقد استشهد ودخل الجنة، وهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة».

ولما ورد خبر استشهاد زيد وجعفر وعبدالله، بكى أصحاب رسول الله (ص) وهم حوله فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ما لنا لا نبكي، وقد ذهب خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منا.

فقال (ص) : «لا تبكوا، فإنما مثل أمتي كمثل حديقة قام عليها صاحبها فأصلح رواكيها وهيّأ مساكبها، وحلق سعفها، فأطعمت عاماً فوجاً، ثمّ عاماً فوجاً، ثمّ عاماً فوجاً، فلعل آخرها طعماً أن يكون أجودها قنواناً، وأطولها شمراخاً، والذي بعثني بالحقّ ليجدن ابن مريم في أمتي خلفاً من حواريه».(1)

ولما استشهد جعفر وأصحابه أتى رسول الله (ص) بيت جعفر، تقول أسماء بنت عميس زوجة جعفر: لما أصيب جعفر وأصحابه، أتاني رسول الله (ص) ولقد هيأت أربعين مناً،(2) من أدم، وعجنت عجيني، وأخذت بنيّ فغسلت وجوههم ودهنتهم، فدخل عليّ رسول الله (ص) فقال: «يا أسماء! أين بنو جعفر؟» فجئت بهم إليه، فضمهم إليه وشمهم، ثمّ ذرفت عيناه فبكى، فقلت: أي رسول الله لعله بلغك عن جعفر شيء، فقال (ص) : «نعم، قتل اليوم» فقالت: فقمت أصيح، واجتمع إليّ النساء، قالت: فجعل رسول الله (ص) يقول: «يا أسماء! لا تقولي هُجراً، ولا تضربي صدراً».

قالت: فخرج رسول الله (ص) حتى دخل على ابنته فاطمة، وهي تقول: واعماه،

فقال رسول الله (ص): «على مثل جعفر فلتبك الباكية، ثمّ قال رسول الله (ص) : «إصنعوا لآل


1- مقاتل الطالبيين : 31 _ 32 .
2- في الأصل : «منياً» تحريف ، والمنا : الكيل أو الوزن الذي يوزن به ، وهو أفصح من المنّ ، لغة تميم . اللسان : منن ، مني.

ص: 128

جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم...» ثمّ صعد المنبر فحمدالله وأثنى عليه، ثمّ

قال: «أيها الناس، إنّ جعفر بن أبي طالب مرّ مع جبريل وميكائيل له جناحان،

عوضه الله من يديه فسلّم عليّ . . وأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا... فقال:

لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاث وسبعين طعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثمّ أخذته بيدي اليسرى فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل، أنزل من الجنة حيث شئت ... فلذلك سمّي الطيار

في الجنة».

عمره

وقع الخلاف في عمره الشريف حينما استشهد في معركة مؤتة، فقد ذهب الواقدي وغيره إلى أنّ قتله كان سنة ثمان من الهجرة . . وعمّر جعفر ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل: قتل وهو ابن خمس وعشرين سنة.

في حين ذهب بعض إلى أنّ عمره رضوان الله عليه وقت استشهاده كان ثلاثاً أو أربعاً وثلاثين سنة، وقد نسب هذا إلى أحد أحفاد جعفر، وهو علي بن عبدالله ابن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، حيث قال: قتل جعفر وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة.

هذه هي خلاصة بعض الأقوال في عمره، وكلها مردودة، فقد رفض أبوالفرج الأصفهاني صاحب مقاتل الطالبيين هذا، حيث قال: وهذا عندي شبيه بالوهم; لأنه قتل في سنة ثمان من الهجرة، وبين ذلك الوقت وبين مبعث رسول الله (ص) إحدى وعشرون سنة، وهو أسن من أخيه أمير المؤمنين علي (ع) بعشر سنين، كان لعلي حين أسلم سنون مختلفة في عددها، فالمكثر يقول: كانت خمس عشرة، والمقلل يقول: سبع سنين .

وكان إسلامه في السنة التي بعث فيها رسول الله (ص) لا خلاف في ذلك، وعلى أي الروايات قيس أمره علم أنه كان عند مقتله قد تجاوز هذا المقدار من السنين.

ص: 129

وذكر أبوالفرج في الهامش بأنّ ابن عبد البر جزم بأنّ سنّه كانت إحدى وأربعين سنة.(1)

وهذا القول الأخير مبني على كون عمر جعفر حين إسلامه كان عشرين سنة.

وما ورد في الرواية أعلاه من كون عمره33،34 فهو خطأ; لأنّ الأخذ بها يجعل عمر جعفر حين إسلامه12سنة أو13سنة، وبالتالي فهو يساوي عمر الإمام علي (ع) أو يقاربه، إن لم يكن أصغر سناً من الإمام، إذا ما أخذنا برواية المكثرين من كون عمر الإمام كان 15 سنة وقت إسلامه، وهذا يخالف كل المصادر التأريخية التي أجمعت على كون جعفر أكبر سناً من الإمام علي (ع) بعشر سنين.

فعمر جعفر وقت استشهاده قد لا يمكن القطع به بل يمكننا أن نقول: إنه بعد تجاوزه الأربعين سنة بقليل، أما تحديده ب_ 41، أو 42 على وجه الجزم أمر قد لايخلو من مجازفة، وهو ترجيح لرواية السن على أخرى بلا مرجح قوي، وأما كون عمره خمساً وعشرين سنة، فهو أمر لا يستحق الوقوف عنده.

صلاة جعفر

وممّا علّمه رسول الله (ص) صلاة خاصّة، تسمى بصلاة الحبوة والتسبيح.

فقد روى أبوحمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) قال: «قال رسول الله (ص) لجعفر بن أبي طالب: يا جعفر ألا أمنحك، ألا أُعطيك، ألا أحبوك،(2) ألا أُعلّمك صلاة إذا أنت صلّيتها لو كنت فررت من الزّحف، وكان عليك مثل رمل عالج،(3) وزبد البحر ذنوباً غفرت لك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: تصلّي أربع ركعات إذا شئت، إن شئت كلّ ليلة، وإن شئت كلّ يوم، وإن شئت فمن جمعة إلى جمعة، وإن شئت فمن شهر إلى شهر، وإن شئت فمن


1- مقاتل الطالبيين ، انظر شرح المواهب 2 : 271 .
2- أمنحك وأعطيك وأحبوك متقاربة المعاني، والمنحة: العطية؛ والحباء: العطاء ومنه الحبوة باعتبار اعطاء النبي (ص) لجعفر (ع) .
3- الرمل العالج أي المتراكم ، وعوالج الرمل هو ما تراكم منه .

ص: 130

سنة إلى سنة، تفتتح الصلاة ثمّ تكبّر خمس عشرة مرّة، تقول: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله، ثمّ تقرأ الفاتحة وسورة، وتركع فتقولهنَّ في ركوعك عشر مرّات، ثمّ ترفع رأسك من الركوع فتقولهنّ عشر مرّات، وتخرُّ ساجداً وتقولهنَّ عشر مرّات في سجودك، ثمّ ترفع رأسك من السجود فتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ تخرّ ساجداً وتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ ترفع رأسك من السجود فتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ تنهض فتقولهنّ خمس عشرة مرّة، ثمّ تقرأ فاتحة الكتاب وسورة، ثمّ تركع فتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ ترفع رأسك من الركوع فتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ تخرُّ ساجداً فتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ ترفع رأسك من السجود فتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ تسجد فتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ ترفع رأسك من السجود فتقولهنّ عشر مرّات، ثمّ تتشهّد وتسلّم ; ثمّ تقوم وتصلّي ركعتين أخراوين تصنع فيهما مثل ذلك ثمّ تسلّم.

قال أبوجعفر (ع) : فذلك خمس وسبعون مرّة في كلّ ركعة ثلاثمائة تسبيحة تكون ثلاثمائة مرّة في الأربع ركعات ألف ومائتا تسبيحة يضاعفها الله عزّوجلّ ويكتب لك بها اثنتي عشرة ألف حسنة، الحسنة منها مثل جبل أُحد وأعظم».(1)

وعن أجر من صلاّها، سئل الإمام أبوعبدالله (ع) «عمّن صلّى صلاة جعفر، هل يكتب له من الأجر مثل ما قال رسول الله (ص) لجعفر؟ قال: إي والله».(2)

قالوا فيه

إذا ما نظرنا في الذي ورد في جعفر من أقوال وروايات . . يمكننا أن نتصور من خلال ذلك شخصيته ومكانته وما يملكه من قدرات، فمن أقوال الرسول (ص) فيه:

«خير الناس حمزة، وجعفر وعلي».(3)

«رأيت جعفراً ملكاً، يطير في الجنة مع الملائكة بجناحين».(4)


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 370 .
2- المصدر نفسه 1 : 371.
3- شرح ابن أبي الحديد 3 : 407 .
4- طبقات ابن سعد 4 : 26 ؛ وأسد الغابة 1 : 287 ؛ الإصابة 1 : 249 .

ص: 131

وقال (ص) مخاطباً جعفراً: «أنت أشبهت خَلقي وخُلقي».(1)

«نحن بنو عبدالمطلب سادات أهل الجنة: رسول الله (ص) وحمزة سيد الشهداء، وجعفر ذو الجناحين، وعلي (ع) ، وفاطمة (عليها السلام) ، والحسن (ع) ، والحسين (ع) «.( (2)

وفي رواية أخرى قال فيها رسول الله (ص) :

«نحن سبعة «بنو عبدالمطلب» سادات أهل الجنة، أنا، وعلي أخي، وعمّي حمزة، وجعفر، والحسن والحسين، والمهدي».(3)

أمّا ما قاله صاحب حلية الأولياء أبو نعيم الأصفهاني في مقدمة ترجمة جعفر: ومنهم الخطيب المقدام، السخي المطعام، خطيب العارفين، ومضيف المساكين، ومهاجر الهجرتين، ومصلي القبلتين، البطل الشجاع، الجواد الشعشاع، جعفر بن أبي طالب (ع) ، فارق الخلق ورامق الحق.

وأما ما قاله فيه صاحب سير أعلام النبلاء . .

السيد الشهيد، الكبير الشأن، علم المجاهدين، أبو عبدالله ، ابن عمّ رسول الله.

ومن شعر حسان بن ثابت في بني هاشم ومنهم جعفر:

رأيت خيارَ المؤمنينَ تواردُوا

شَعُوبَ وقد خُلِّفتُ فيمن يؤخَّرُ

فلا يُبعدَنَّ اللهُ قتلى تتابعوا

جَميعاً ونيرانُ الحروب ِ تَسَعَّرُ

غداة غدا بالمؤمنينَ يقودُهُمْ

إلى الموتِ ميمونُ النّقِيبَة أزهرُ

وكنا نرى في جعفر مِنْ محمد

وَقَاراً وأمْراً حَاز ِماً حِيْن يَأمُرُ

وما زال للإسلام ِ مِنْ آل ِ هاشم

دَعائمُ عِزٍّ لا تَزالُ ومَفْخرُ

بَهالِيْلُ منْهُمْ جَعْفَر وابنُ أُمّهِ

عليٌّ ومِنْهُمْ أحمدُ المتخيَّرُ

وحمزةُ والعباسُ منهمْ وَمنْهُمُ

عَقِيلٌ وماءُ العُودِ مِنْ حيثُ يُعصرُ


1- ابن أبي الحديد 3 : 407 ؛ الإصابة 1 : 248 .
2- مختصر تاريخ دمشق 6 : 68 .
3- المصدر نفسه.

ص: 132

ص: 132

بهمْ تُفْرَجُ اللأواءُ في كلِّ مأزق

عَماس(1) إذا ما ضَاقَ بالأمْر مَصْدَرُ

وهمْ أولياءُ اللهِ نزّل حكمهُ

عليهم وفيهمْ والكتابُ المطَّهرُ (2)

وفي رثاء جعفر قال كعب بن مالك:

هدت العيون ودمع عينك يهمل

سَحَّاً كما وَكَفَ الضباب الُمخْضلُ (3)

وكأنّما بين الجوانح والحشا

مما تأَوَّبَني شِهابٌ مُدْخَلُ (4)

وَجْداً على النَّفَر الذين تَتَابَعُوا

يوْماً بمُؤتَة أُسْندوا لمْ يُنْقَلوا

صلى الإِلهُ عليهم من فِتية

وسقى عظامهمُ الغمامُ المُسْبل (5)

صبروا بمؤتة للإِله نفوسهُمْ

عند الحِمَام ِ حفيظةً أن يَنْكُلُوا (6)

إذ يهتدون بجعفر ولوائِهِ

قُدَّامَ أَوَّلِهمْ ونِعْمَ الأَوَّل (7)

حتى تفرَّقت الصفوف وجعفرٌ

حيثُ الْتَقى وَعْثُ الصُّفُوفِ مُجَدَّل (8)

فَتَغَيَّرَ القمرُ المنيرُ لفقده

والشمسُ قد كَسَفَتْ وكادتْ تَأْفُل (9)


1- أمر عَماس: شديد مظلم، لا يُدرى من أين يؤتى له. اللسان : عمس.
2- الديوان : 235، باختلاف في الرواية؛ مقاتل الطالبيين: 32_33.
3- الشعر في ابن هشام 4 : 27؛ ابن أبي الحديد 3 : 404؛ والبداية والنهاية 4 : 261. همل الدمع: سال، وسحا:
4- المدخل: النافذ إلى الداخل.
5- المسبل: الممطر.
6- الحمام: الموت؛ وينكلوا: يرجعوا هائبين لعدوهم.
7- بعد هذا البيت في سيرة ابن هشام: فمضوا أمام المسلمين كأنّهم فنق عليهن الحديد المرفل
8- في سيرة ابن هشام «حتى تفرجت» والوعث: الرمل الذي تغيب فيه الأرجل، ومجدل: مطروح على الجدالة، وهي الأرض؛ وفي ابن أبي الحديد: «... التقى جمع الغواة».
9- تأفّل: تغيب، وفي القرآن (فلما أفلت قال إني لا أحب الآفلين) وفي سيرة ابن هشام بعد هذا البيت:

ص: 133

ص: 133

]قومٌ بهم نصرَ الإِلهُ عبادَه

وعليهمُ نزل الكتاب المُنْزَل(1)[

وبهديهمْ رَضي الإِلهُ لِخَلْقِهِ

وحَدّهم نُصِرَ النبيّ المُرْسَل(2)

بيضُ الوجوه تُرَى بُطُون أَكُفِّهِمْ

تَنْدَى إذا اعتذرَ الزمانُ المُمْحِل(3)

ومن أبيات لحسان، وهو يرثي جعفر بن أبي طالب:

لقد جزعتُ وقلتُ حين نُعيتَ لي

مَن للجلاد لدى العُقاب وظلِّها(4)

بعد ابن فاطمة المبارك جعفر

خير البرية كلِّها وأجلّها

* * *

فسلام عليك يا جعفر في الخالدين


1- الزيادة من النسخة الخطية وفي سيرة ابن هشام «عصم الإِله» وفيها بعد البيت: فضلوا المعاشر عشرة وتكرماً وتنهدت أحلامهم من يجهل لا يطلقون إلى السفاه حُباهم ويرى خطيبهم بحق يفصل
2- ويروى «بجدهم» قال أبوذر: «من رواه بالحاء المهملة فمعناه بشجاعتهم وإقدامهم; ومن رواه بالجيم المكسورة فهو معلوم».
3- الممحل: الشديد القحط وفي أ، ب: «قوم بهم نظر الإِله لخلفه».
4- العقاب : اسم لراية الرسول .

ص: 134

ص: 135

(7) أمُّ المؤمنين خديجة (عليها السلام)

اشارة

محمد سليمان

في بيت من البيوت العريقة، وذات السمعة الطيبة، والمكانة العالية في الحجاز، ولدت سيدتنا خديجة لأبوين قرشيين:

فأبوها خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر من كنانة ... من قريش، فهو من بني أسد، وقدمات في حرب الفِجار، التي قامت في الجاهلية في الأشهر الحرم بين قريش وقيس عيلان، ويومذاك كان عمر خديجة _ إذا ما أخذنا برواية أنّ عمرها حين زواجها من الرسول (ص) أربعون سنة _ ثلاثين سنة.

وأما أمُّها فهي فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن فهر بن لؤي بن غالب، فهي تجتمع مع زوجها خويلد في لؤي بن غالب... من كنانة من قريش.

خديجة القرشيّة الأسدية تلتقي نسباً مع النسب الكريم لرسول الله (ص) في جدّه الرابع «قصي» فهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي... وهي بالتالي أقرب نسائه إليه (ص).

ص: 136

كانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، وسيدة نساء قريش، وسيدة قريش; وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، وأحسنهنّ جمالاً... وفي لفظ كان يقال لها سيدة قريش; لأنّ الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل، يقال: فلان أوسط القبيلة، أعرقها في نفسها...(1)

عمرُ خديجة

الاهتمام بعمرها أمر طبيعي جدّاً; لأنه جزء من دراسة حياتها المباركة بعد أن اقترنت برسول الله (ص) وصارت حياتها جزءاً من حياته الشخصية والدينية بكلِّ أبعادها.

ولكن هذا الاهتمام بدلاً من أن يولد لدينا القطع بعمرها، عمّق الاختلاف فيه تبعاً لاختلاف الروايات والأخبار، وبالتالي الآراء عن ولادتها، وعن عمرها، وحياتها حين اقترانها بالرسول الكريم (ص) راحت _ اعتماداً على تلك الروايات _ أقوال قدماء المؤرخين بالذات، وأقوال مَن جاراهم من الكتّاب المحدثين، توسع ذلك الاختلاف وتثبته، ولم تستطع حسمه بما تقدمه من أدلة; وابتداءً نشير إلى بعض روايات سنِّها ومصادرها:

فعن ابن عباس: كانت خديجة يوم تزوجها رسول الله (ص) ابنة ثمان وعشرين سنة.(2)

وعن حكيم بن مزاحم (ابن اخيها): تزوج رسول الله (ص) خديجة وهي ابنة أربعين سنة، ورسول الله (ص) ابن خمس وعشرين سنة; ويقول مزاحم: وكانت أسنّ مني بسنتين، ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وولدت أنا قبل الفيل بثلاث عشرة سنة.(3) (فقد ولد (ص) بعد وقعة الفيل بخمسين يوماً...).(4)

وذكر الواقدي: أنها كانت لما تزوجها رسول الله (ص) بنت خمس وأربعين سنة.

وعن البيهقي والحاكم:... وأنّ عمره (ص) كان خمساً وعشرين، وعمرها خمساً وثلاثين.


1- السيرة الحلبية 1 : 137، باب تزوجه (ص) خديجة بنت خويلد (عليها السلام) .
2- مختصر تاريخ دمشق 2 : 275.
3- المصدر نفسه.
4- الطبقات الكبرى لابن سعد 1 : 100؛ أنساب الأشراف للبلاذري : 92.

ص: 137

كما أنّ هناك من يقول: إنها ابنة 25 سنة، أو30 سنة.

يقول صاحب كتاب اتحاف الورى بأخبار أمِّ القرى: خطب النبيُّ (ص) إلى خديجة نفسها، وكانت ابنة أربعين سنة; ويقال: ابنة خمس وأربعين ويقال: ثمان وأربعين سنة، ويقال: ست وأربعين، وقيل: ثلاثين، ويقال: ثمان وعشرين.

فالأقوال إذن في مسألة عمرها مختلفة، وقد ذهب جلال مظهر في كتابه _ محمد رسول الله (ص) سيرته وأثره في الحضارة _ إلى (أنها كانت ابنة 25 سنة) دون أن يذكر سبباً مرجّحاً لذلك.

في حين اعتمدت بنت الشاطئ في كتابها نساء النبيّ رواية الأربعين، التي اعتمدها الطبري والواقدي ورواها حكيم بن مزاحم؛ وهيكل هو الآخر اعتمد في كتابه حياة محمد، ما اعتمده الطبري والواقدي.

وقد ذكر كلٌّ من الدكتور عبدالصبور شاهين، وإصلاح عبدالسلام في أمهات المؤمنين: وقد أجمعت كتب التأريخ والسيرة، إلاّ رواية واحدة في الطبقات على أنّ السيدة خديجة كانت في الأربعين من عمرها، عند زواجها.

إنّ ما ذكراه بعيد عن الدقّة، فأين هو الإجماع، وهذه المصادر وكتب التأريخ بين أيدينا قد ذكرت روايات متعددة، وكلّها تشير إلى الاختلاف في سنّها؟!

وذهب ابن اسحاق، كما في مستدرك الحاكم، إلى أنّ خديجة كانت في الثامنة والعشرين من العمر.(1)

في حين ذهب العقاد في كتابه: «فاطمة الزهراء والفاطميون» إلى اعتماد رواية 25،28 سنة، حيث يرى أنّ المرأة في بلاد كجزيرة العرب يبكر فيها النمو، ويبكر فيها الهرم، فلا تتصدى للزواج بعد الأربعين.

وهذا ردّ صريح على من أخذ برواية الأربعين، الذين أخذوا في اعتبارهم أنّ السيدة


1- مستدرك الحاكم 3:182 ، وقد كان كلام ابن اسحاق بلا إسناد .

ص: 138

خديجة قد تزوجت قبل رسول الله (ص) من عتيق بن عائذ ومن بعده من أبي هالة زُرارة، وأنجبت لهما أولاداً، ثم مكثت بعد وفاة زوجها الثاني مدّة ليست قصيرةً، راغبةً في تنمية ثروتها وأموالها، التي ورثتها من أبيها الذي كان ثرياً ومن قبيلة ذات مال وفير، ومن زوجيها، عازفةً عن الزواج الثالث; لأنّ كلّ من تقدّم لزواجها _ كما زعم _ إنما كان تدفعه الرغبة في ثروتها، ولأنها لم تجد فيهم من الشرف والأمانة والصدق، هذه الصفات التي كانت تنشدها، حتى تستطيع أن تأمنه على أموالها وتجارتها، حتى قدر لرسول الله (ص) أن يضارب بتجارتها، وقد قبلت به لمعرفتها بأنه الصادق الأمين، وهو الذي عُرف بهذا بينهم، وفعلاً سافر إلى الشام ببضاعتها، وعاد ببضاعة أخرى وفيرة، وأرباح عالية لم تعهدها من قبل، مع ما حدّثها عنه غلامها ميسرة، الذي كان برفقة محمد وخدمته، فزادت معرفتها به، وعظم تعلقها به، ورأت فيه ما كانت تتمنى، فتزوجته.

وقد استعان أصحاب رواية الأربعين بذيل الرواية نفسها عن حكيم بن مزاحم على تأييد ما ذهبوا إليه، وذيلها يقول: إنها توفيت في شهر رمضان سنة عشر من النبوّة، وهي يومئذ ابنة خمس وستين سنة.(1)

وأُخذ على هذا الرأي: أنها كيف أنجبت في هذه السن المتأخرة؟!

واُجيب عن ذلك بأنه من المشاهد وجود نساء قد أنجبن بعد الأربعين، بل بعد الخمسين أيضاً، وهذا الأمر يتوقف على توفر عوامله، التي منها صحة المرأة واستعدادها وقابليتها وبيئتها، وما تعيشه المرأة من رفاهية في حياتها واستقرار وراحة، وهو ما توفر للسيدة خديجة; علماً بأن هناك من يقول: إنّ آخر ما أنجبته خديجة (عليها السلام) فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهي في الخمسين، إن لم تكن أقل من ذلك من عمرها المبارك، ومعنى هذا أنها لم تنجب بعد الخمسين سنة وكانت هذه الفترة 15 سنة.

فالمدائني قال: ولدت فاطمة قبل النبوة بخمس سنين.

وفي رواية جعفر بن سليمان: ولدت فاطمة سنة إحدى وأربعين من مولد النبي (ص).


1- مختصر تاريخ دمشق 2 :271.

ص: 139

وعن أبي جعفر (ع): «... فقال العباس: أما أنت يا فاطمة فولدت وقريش تبني الكعبة، والنبي (ص) ابن خمس وثلاثين سنة».

فهذه الروايات تبين أنّ فاطمة (عليها السلام) _ وهي آخر مولود لخديجة _ ولدت وخديجةُ بعدُ لم تتجاوز الخمسين من عمرها، وعلى رواية الأربعين كانت البعثة، وخديجة (عليها السلام) في الخامسة والخمسين من عمرها.

وقد ترد بعض الملاحظات على مسألة التمسك برواية 40 وأنها قد تزوجت مرتين.

1 _ لماذا هذا الإصرار على التمسك برواية الأربعين، وعدّها هي المشهورة، وهي رواية من عدّة روايات: (45 سنة، 28 سنة، 25 سنة، 30 سنة...) أليس هذا ترجيحاً بلا مرجح؟

2 _ امرأة بهذا العمر (40 ،45 سنة) وفي أجواء كأجواء الحجاز الحارة جدّاً، التي يسرع الكبر فيها إلى الإنسان، وقد تقدم لخطبتها _ كما تقول الأخبار _ أعظم قريش نسباً ومالاً ورفضتهم، بل وتمناها وتهالك عليها كلّ شريف وعظيم، فقد كان ممّن خطبها عقبة بن أبي معيط، والصلت بن أبي يهاب، وكان لكلّ واحد منهما أربعمائة عبد وأمة، وخطبها أبوجهل بن هشام، وأبو سفيان،(1) فهل كلّ هذا يكون من أجل امرأة بهذه السنّ المتأخرة، ومن أجل امرأة عاشت ببيتين (بيت عتيق، وبيت «أبو هالة») وأنجبت واحداً على رواية، واثنين على رواية أخرى، وثلاثة على رواية ثالثة، وهم (هند والحارث وبنت اسمها زينب)،(2) وترملت بعدهما وعاشت سنين أخرى؟!

أو يصح هذا، وهم قادرون بما عندهم من شرف ومال وجاه أن يتزوجوا بما يحلو لهم من النساء من بيوتات عربية أخرى، ذات شرف وعفة ومال وجمال؟!

ثم إنّ زوجيها السابقين لم يكونا بدرجة عالية من المكانة، ومع هذا قبلت بهما وهي في شبابها، فكيف وقد تقدم بها العمر ترفض زعماء قريش وأشرافها؟! وإن قيل إنها قررت تنمية ثروتها، فإنّ هذا ادعاء سطرته أقلامُ الكتاب، ولا يصلح أن يكون مبرراً يفرض


1- البحار 16 : 22.
2- جوامع السيرة النبوية، ابن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456ه_ ، دار الكتب العلمية _ بيروت .

ص: 140

عليها ما دامت لم تصرح به، علماً بأنّ في قبال هذا الادعاء إدعاءاً يقول: إنها إنما رفضتهم جميعاً، لعدم توفر الصفات التي تريدها فيمن تقدم لخطبتها، وهو ادعاء أقوى من ادعاء الكتّاب; لأنه من أقرب الناس لها.

قال أبوالقاسم الكوفي: إنّ الإجماع من الخاص والعام، من أهل الأنام ونقلة الأخبار، على أنه لم يبق من أشراف قريش، ومن ساداتهم، وذوي النجدة منهم، إلاّ من خطب خديجة، ورام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك، فلما تزوجها رسول الله (ص) غضب عليها نساء قريش وهجرنها، وقلن لها: خطبك أشراف قريش، وأمراؤهم فلم تتزوجي أحداً منهم، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً، لا مال له؟! فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة، يتزوجها أعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش وأشرافها على ما وصفناه؟! ألا يعلم ذوو التمييز والنظر أنه من أبين المحال، وأفظع المقال؟!(1)

3 _ وفي الاستغاثة ذكر بعض أنه كانت لخديجة أخت اسمها هالة،(2) تزوجها رجل مخزومي، فولدت له بنتاً اسمها هالة، ثم خلف عليها رجل تميمي يقال له أبوهند فأولدها ولداً اسمه هند، وكان لهذا التميمي امرأة أخرى قد ولدت له زينب ورقية، فماتت ومات التميمي، فلحق ولده هند بقومه، وبقيت هالة أخت خديجة والطفلتان اللتان من التميمي وزوجته الأخرى، فضمتهم خديجة إليها، وبعد أن تزوجت بالرسول (ص) ماتت هالة، فبقيت الطفلتان في حجر خديجة والرسول (ص) ... وكان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت، ونسبتا إليه (ص) مع أنهما ابنتا أبي هالة زوج أختها، وكذلك كان الحال بالنسبة لهند نفسه.(3)

أريد من هذا كله أن أقول: إنّ ما يناسب صفات هذه السيدة، وما يلائم كلّ ما قيل بحقّها، ورغبة الآخرين فيها، وما يبعدنا عن مسألة كلّ ما يرد من إشكالات حول عمرها وقدرتها على الانجاب، وما دامت الروايات كلها قد تكون بمستوى واحد، وليس لواحدة


1- لها ذكر في كتب الأنساب، فراجع على سبيل المثال: نسب قريش، لمصعب الزبيري: 157_ 158.
2- الاستغاثة1 :70.
3- الصحيح في سيرة النبيّ (ص) ؛ الاستغاثة1: 68_69؛ رسالة مطبوعة طبعة حجرية في آخر مكارم الأخلاق: 6.

ص: 141

على الأخرى ترجيح، أرى أنّ الأخذ برواية 25، أو 28 كما ذهب إليه العقاد أولى، لأنّ هاتين الروايتين تناسبان واقع حياة هذه المرأة لاغير.

أما زواجها السابق لمرتين فهو أيضاً محل تأمل وتوقف، وقد وردت أدلة وأقوال على أنها باكر كما ذهب إلى ذلك كلّ من أحمد البلاذري، وأبوالقاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أنّ النبي (ص) تزوج بها وكانت عذراء.

هذا ما نقله ابن شهرآشوب في المناقب في ترتيب أزواجه (ص) حيث يقول: تزوج بمكّة أولاً خديجة بنت خويلد; قالوا: وكانت عند عتيق بن عايذ المخزومي ومن ثمّ عند أبي هالة زرارة بن نباش الأسدي.

وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبوجعفر في التلخيص: أنّ النبيّ (ص) تزوّج بها وكانت عذراء، يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع: أنّ رقية وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة.(1)

الزواج المبارك

استجمعت أحاسيسها وراحت تستمع فرحةً مسرورةً لحديث غلامها ميسرة، الذي صحب النبيّ (ص) وهو يضارب في تجارة لخديجة (عليها السلام) في الشام، وراح يحدثها عن سيرة محمد (ص) معه، وعن أخلاقه، وطباعه، وصفاته الجميلة، وعمّا كان يراه من كراماته التي لم ير ميسرة مثيلاً لها من قبل، على كثرة سفراته مع آخرين، فأعجبت به، وقد أسر كلَّ مشاعرها، وامتلك كلَّ عواطفها، وتحرّكت في قلبها أسراره، وكأنها تريد لهذا الحديث ألاّ يتوقف أو ينتهي، ثم راحت تحدّق في مستقبل فتى بني هاشم الصادق الأمين، الذي غدا صدقه يملأ الآفاق، وأمانته يلهج بها كلّ لسان، ماذا يخبئ المستقبل لهذا اليتيم الهاشمي، وما هو ذاك الشأن العظيم الذي ينتظره؟!

لقد تمثلت أمام عينيها شخصيته بكلّ ما فيها من نبل صفاته، ورقة شمائله، وعظيم وكرم


1- المناقب، لابن شهرآشوب المازندراني المتوفى سنة 588 ، 1 : 159 .

ص: 142

أخلاقه، وجمال روحه، وشرفه، وفضله على الجميع.

لاحت من ميسرة نظرة إلى سيدته، فردّت طرفها، وعلتها العفة، وهي أنبل نساء عصرها حياءاً، وأعظمهنّ خُلقاً، فانقلبت غبطتها تلك وفرحتها إلى حبٍّ لم تحسّ به من قبل، والى ودٍّ ما لامس مثله أحاسيسها أبداً، وإلى إكبار وتكريم ولجا قلبها ملأ كلّ منهما عليها حياتها . . . وهي التي تمرّدت على واقع نساء قومها، وامتنعت أمام أعظم قريش شرفاً ونسباً وثراءاً ومكانة . . . فالتفتت بعد حين إلى أختها على قول، وإلى صديقتها نفيسة بنت منبه على قول آخر; لتسرّها بأنّ ما قاله ميسرة عن محمد قد نفذ إلى روحها، وأنها وجدت فيه ما كانت تتمناه، ولم تجده فيمن تقدم لخطبتها، فما كان من نفيسة _ وقد سرّت بما سمعته _ إلاّ أن بادرت إليه _ على رواية _ فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج؟

قال (ص): ما بيدي ما أتزوج به.

قالت: فإن كفيت ذلك، ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟

قال: فَمن هي؟!

قالت: خديجة.

قال: كيف لي بذلك؟!

فقالت نفيسة، وقد علت ملامح وجهها الفرحةُ: عليّ ذلك، وسارعت لتبلغ خديجة بما سمعته من محمد (ص).

وفي رواية: وكانت لبيبةً حازمةً، فبعثت إليه تقول: يا ابن عمِّ، إني قد رغبتُ فيك لقرابتك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك.(1)

لقد خصّها الله بكرامة ادّخرها لها، وكانت له من الشاكرين، واختارها لمكانتها وصفاتها لتكون امرأة خاتم رسله، وسيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله (ص).

لم يتأخر محمد (ص) في إبلاغ عمّه (أبوطالب) وعشيرته بذلك، كما لم تتأخر خديجة (عليها السلام) فقد أبلغت عمّها عمرو بن أسد، الذي حضر، ودخل رسول الله (ص) عليه في عمومته، ومعه


1- السيرة الحلبية 1 : 137 .

ص: 143

بنو هاشم وسائر رُؤساء مُضَر، فخطب أبوطالب فقال:

«ألحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ مَعَدّ، وعُنصر مُضر، وجعلنا حَضَنَة بيته، وسُوّاس حَرمِه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إنّ ابن أخي هذا محمد بن عبدالله لا يُوزن به رجل من قريش إلاّ رجح به شرفاً ونُبلاً وفضلاً وعقلاً، فإن كان في المال فلا، فإنّ المال ظلّ زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة; ومحمد مَن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي هذا، وهو مع هذا _ والله _ له نبأ عظيم، وخطر جليل أو «له والله خطب عظيم ونبأ شائع».

فتزوجها وأصدقها عشرين بكرة، وقيل اثنتي عشرة (اثنتين وعشرين) أوقية ذهباً ونشّاً (نصف أوقية)، والأوقية أربعون درهماً، والنشّ عشرون درهماً; فذلك خمسمائة درهم.

وفي رواية: فقال لأعمامه . . ، فجاء معه حمزة عمّه حتى دخل على خويلد ]خويلد بن أسد، وقيل: بل عمرو بن خويلد بن أسد، وقيل بل عمرو بن أمية عمّها، وكان شيخاً كبيراً وهو الصحيح، على ما في نهاية الأرب 16 : 98، وعند ابن سعد في الطبقات 1 : 132 وعن جمهرة النسب للكلبي :74 وهو عمرو بن أسد ابن عبد العزّى، وهو يومئذ شيخ كبير لم يبق لأسد لصُلبه يومئذ غيره، ولم يلد عمرو ابن أسد شيئاً[.(1)

إذن فقد اشتهر أنّ عمّها عمرو بن أسد، هو الذي زوّجها، وإن قيل: إنّ الذي زوجها أخوها عمرو بن خويلد; لأنّ أباها مات قبل حرب الفِجار، وهذا كلّه يكذب المزاعم، التي رويت من أنّ أباها زوّجها بعد أن سقته خمراً ... لتحصل بذلك على موافقته، لأنه لايوافق من تزويجها من فقير يتيم.

ففي رواية أحمد في مسنده: حدّثنا أبو كامل، ثنا حمّاد، عن عمّار ابن أبي عمار، عن ابن عبّاس _ فيما يحسب حمّاد _ أنّ رسول الله (ص) ذكر خديجة (عليها السلام) وكان أبوها يرغب عن أن


1- السيرة الحلبية 1: 138.

ص: 144

يزوّجه، فصنعت هي طعاماً وشراباً، فدعت أباها وزُمراً من قريش فطعِموا وشربوا ثم ثَمِلوا، فقالت لأبيها: إنّ محمداً يخطبني فزوِّجني إيّاه، فزوَّجها إياه، فخلَّقته (طيبته، وفي المسند «فجملته») وألبسته حُلّةً كعادتهم، فلما صحا نظر، فإذا هو مخلّق فقال: ما شأني؟ فقالت: زوّجتني محمّداً، فقال: وأنا أزوّج يتيم أبي طالب! لا لعمري، فقالت: أما تستحي؟ تريد أن تسفّه نفسك معي عند قريش بأنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي.

وقد روى طرفاً منه الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سُمرة أو غيره.

كما ذكر مختصر تاريخ دمشق رواية نسبت إلى عمار بن ياسر تشبه هذه الرواية.

وهذا ما نفاه الواقدي بعد نقله بقوله:

وهذا غلط، والثبت عندنا المحفوظ من حديث محمد بن عبدالله بن مسلم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم; ومن حديث ابن أبي الزّناد، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة; ومن حديث ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحُصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسولَ الله (ص) وأنّ أباها مات قبل الفجار.(1)

وقد بلغت تلك الرواية من الضعف والسخف درجة كبيرة، فهي إضافة إلى منافاتها لأخلاق هذه السيدة المباركة، حتى قبل زواجها برسول الله (ص) فقد شهد لها _ في الجاهلية _ بسمو الخلق والنجابة والشرف، وبرجاحة عقلها وقوة شخصيتها، مع ما لها من المكانة الكبيرة عند أهلها وعشيرتها، ممّا جعلها موضع فخر واعتزاز، وممّا يؤهلها لاقناع أبيها _ على فرض حياته _ بهذا الزواج.

يقول صاحب السيرة الحلبية عنها: إمرأة حازمة أي ضابطة جلدة، أي قوية شريفة أي مع ما أراد الله تعالى لها من الكرامة ومن الخير ... فامرأة تحمل هذه الصفات لا أظنها بحاجة إلى أن تستعين بأسلوب يتنافى مع كلّ ما مَنّ الله تعالى عليها من صفات كريمة،

وقد وصفت خديجة نفسُها هذا الأسلوب _ حسب الرواية _ بقولها إلى أبيها: تريد أن تسفه نفسك معي عند قريش بأنك كنتَ سكران! فهو إذن أمر معيب عندهم فكيف


1- تاريخ الطبري 1 : 522 .

ص: 145

ترتكبه؟! وإضافةً إلى هذا فإنّ الرواية تتنافى مع الرواية الأخرى التي نالت إجماع أكثر المؤرخين، من أنّ أباها توفي من قبل، وأنّ عمّها هو الذي زوجها، وعلى رواية ضعيفة أنّ أخاها زوجها.

وتمّ هذا الزواج المبارك، بعد رجوع النبي (ص) من سفره إلى الشام بشهرين وخمسة وعشرين يوماً، وقبل بعثته نبيّاً بخمس عشرة سنة، وبعد أن أكمل (ص) خمساً وعشرين سنة وشهراً وعشرة أيام من عمره المبارك،(1) وأخذت هذه السيدة مكانها الذي اختارتهُ السماء لها لتكون بجانبه (ص) وهو يستعد لتحمل مهام أعظم رسالة سماوية إلى الناس كافة، فكانت للرسول (ص) نعم الزوجة، ونعم السكن، ونعم النصير، وكان لها أحسن حظ طالما انتظرته وتمنته، ولم ينجو هذا الاقتران من حسد وبغض وغضب، فقد أحدث هزّة بين الرجال، الذين سبق لهم أن توافدوا على عتبة بابها، وهم يحملون معهم كلّ المغريات ليخطبوا يدها، إلاّ أنهم عادوا من حيث أتوا خائبين بعد أن رفضتهم، ولم تعبأ بما حملوه معهم من مال، ولم يجد شرفهم وزعاماتهم أيّ أثر في نفسها، فلاذ بعضهم بالسكوت، والبغض والحسد يأكلان قلبه، في حين لم يتمالك بعض آخر أحاسيسه ولسانه فقال: ما هذا إلاّ سحر، مسكينة خديجة، فقد سحرها اليتيم فشغفت به.

كما غضب عليها نساء قريش وهجرنها، وقلن لها: خطبك أشرافُ قريش، وأمراؤهم، فلم تتزوجي أحداً منهم، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب، فقيراً لا مال له؟!

فما كان من خديجة _ بعدما سمعت بذلك كلّه _ إلاّ أن صنعت طعاماً ودعت نساء قريش وكان بينهن نساء المبغضين، فلما اجتمعن وأكلن قالت لهن: معاشر النساء بلغني أنّ بعولتكن عابوا عليَّ فيما فعلته من أني تزوجت محمداً، وأنا أسألكم هل فيكم مثله، أو في بطن مكّة شكله من جماله وكماله وفضله وأخلاقه الرضيّة؟! وأنا قد أخذته لأجل ما قد رأيتُ منه، وسمعت منه أشياء ما أحد رآها، فلا يتكلم أحد فيما لا يعنيه، فكفّ كلّ منهن


1- إتحاف الورى بأخبار أمّ القرى، السنة: 26.

ص: 146

ومنهم عن الكلام.(1)

وقد تابع الزوجان حياتهما المباركة هذه، وجهادهما الدؤوب، وقدر لخديجة أن تكون في قلب الأحداث الجسام المملؤة بالآلام والشدائد المضنية، ووهبت كلّ ما تملكه من ثروة وهو كثير، ووضعته بين يدي رسول الله (ص) ليضمّه إلى سيف علي (ع) .

أنجبت له (ص) كلّ أولاده إلاّ إبراهيم، فهو من مارية القبطية; وهم القاسم وبه كان (ص) يكنى والطيب والطاهر _ على قول _ وقد ماتوا صغاراً رضعاً قبل بعثته المباركة، ورقية وزينب _ على قول _ وأمّ كلثوم وفاطمة الزهراء التي تزوّجها الإمام علي (ع).

ولم يتزوج رسول الله (ص) غيرها طيلة حياتها المباركة معه، التي دامت قرابة خمس وعشرين سنةً.

إسلامها

من بركات الله تعالى الخاصة بهذه المرأة أن مَنّ عليها بأن اختارها لتكون أول نساء العالمين إسلاماً، وأسبقهن تصديقاً برسول الله ودعوته، وأخلص نسائه جهاداً، وأعظمهن وفاءاً وطاعة له، وأصبرهن تحملا لما لاقاه رسول الله من ضروب الأذى والتضييق، وأكثرهن بذلا وعطاءاً في سبيل الله ورسوله، فعن عبدالله بن مسعود: إنّ أول شيء علمت من أمر رسول الله (ص) قدمتُ مكة مع عمومة لي أو ناس من قومي نبتاع منها متاعاً، فكان في بغيتنا شراء عطر، فأرشدنا إلى العباس بن عبدالمطلب، فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض، ... كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام، حسن الوجه ... تقفوهم امرأة، قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه ثم استلمه الغلام، واستلمته المرأة، ثم طاف بالبيت سبعاً والغلام والمرأة يطوفان معه، ثم استقبل الركن، فرفع يديه وكبّر، وقامت المرأة خلفهما، فرفعت يديها وكبرت، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع، فقنت مليّاً، ثم سجد وسجد الغلام معه والمرأة، يتبعونه، يصنعون


1- البحار، للمجلسي 19 : 71.

ص: 147

مثلما يصنع، فرأينا شيئاً أنكرناه، لم نكن نعرفه بمكة، فأقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل، إنّ هذا الدين حدث فيكم، أو أمر لم نكن نعرفه فيكم.

قال: أجل، والله، ما تعرفون هذا؟ قال: قلنا: لا، والله ما نعرفه، قال: هذا ابن أخي محمد بن عبدالله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته، أما والله، ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة.

لقد آمنت برسول الله (ص) ولم يسبقها إلى ذلك إلاّ الإمام علي (ع) كيف لا يكون كذلك، وقد قرأت _ بما ألهمها الله تعالى، وبما منحها من قدرة وحكمة وبصيرة ونظرة ثاقبة لمستقبل الصادق الأمين _ مستقبله وأنه ذو شأن كبير، ومقام كريم ومنزلة محمودة؟!

لقد واكبت مسيرته المباركة وهو في غار حراء، بخدمتها الصادقة وكلماتها الطيبة، التي تدل على مدى اخلاصها ونباهتها وصفائها: «وهيأت خديجة لزوجها ما يناسبه من حياة، فلما لجأ للتحنث في غار حراء، كانت تعدُّ له ما يحتاجه من طعام وشراب خلال الفترة، التي اعتكف فيها بالغار، فلما جاءه الوحي كانت أول من صدقه، وعانت معه صراع قريش ضده، وكانت البلسم الشافي لجراحه من هؤلاء المعتدين، ودخلت معه الشعب عندما قرر سادة قريش أن يقاطعوا المسلمين ...».(1)

كانت تسمعه كلمات رقيقة هادئة، كلما دخل بيتها عائداً من غار حراء، كلمات ملؤها الحنان والحب؛ تدعوه أن يطمئن، وتدعوه أحياناً أن يهدأ وينام، فكان يقول لها: «مضى عهد النوم يا خديجة!».

لقد كانت كلماتها تلاحقه وهو في بيته، وهو خارج منه، وهو في الغار، وهو يدعو عشيرته للإيمان، وهو في دار الأرقم يدعو الناس سراً، وهو في كل مكان في مكة يقارع قريشاً وشركها جهراً، وهو يرى أعداءه والمتربصين به، والمبغضين له، فكانت تخفّف عنه كلّ معاناته، وكلّ ما يلقاه من أذى وتكذيب وعنت من قومه.

وكان (ص) يصرّح ويفضي لها بكلّ شيء; يقول ابن هشام في سيرته: وآمنت به خديجة


1- سير أعلام النبلاء 1 : 81 .

ص: 148

بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، فخفف الله بذلك عن نبيه (ص) لا يسمع شيئاً ممّا يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلاّ فرّج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهوّن عليه أمر الله، رحمها الله تعالى.(1)

ومن كلماتها له (ص) أيضاً: «أبشر، فوالله، لا يخزيك الله أبداً، والله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيفَ، وتعين على نوائب الدهر.

في شعب أبي طالب

ما انفكت قريش تصعد عداءها لرسول الله ودعوته الجديدة، ولم يتوقف عملها في تجذير ذلك العداء في نفوس أبنائها قولاً وعملاً، وكلما ازداد رسول الله (ص) وصحبه التزاماً بموقفهم وثباتاً على مبادئهم، ازداد عداءُ قريش لهم وأذاها، وقد رأت أنّ أهله وعشريته قد وفروا له الرعاية والحماية، فعزمت على شنّ حملتها على هذه الأسرة، وارتأت أن تتخذ وسيلة غير الحرب في أول أمرها فلعلّها تصل إلى أهدافها دون قتال، وما يجرّه هذا القتال من ويلات وانقسامات بين قبائلها، فاجتمع زعماؤها وكتبوا الصحيفة، التي قرروا فيها:

مقاطعة بني هاشم على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، فلا يتزوجون منهم، ولا يزوجونهم، ولا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، ولا يكلمونهم، ولا يزورون مرضاهم، ولا يشيعون موتاهم، وأكرهوهم أن يلزموا الشِّعب، وهو طريق بين جبلين.

أما نتائج هذه المقاطعة _ التي استمرت حوالى ثلاث سنوات _ فقد كانت قاسية جدّاً على بني هاشم، ومسّهم بسببها الضرّ، بل الجوع والحرمان ... ولم تنقض إلاّ بعد أن أشفق بعض القرشيين على بني هاشم بسبب ما نالهم من أذى وعذاب، فخرقوا هذه الوثيقة، وعادوا إلى الاتصال بهم.(2)

وهناك رواية: أنّ الأرضة أتت على كلّ شيء في الصحيفة، ولم تدع إلاّ اسم الله


1- السيرة النبوية، لابن هشام 1 :240 .
2- المصدر نفسه 1 :110،231؛ ابن القيم 2 : 46.

ص: 149

جلّ وعلا، وقد أوصى الله لمحمد بذلك، فنقل ذلك إلى عمّه أبي طالب، فتحدى أبوطالب جماعة المشركين، وأحضروا الصحيفة فظهر صدق محمد.

هذه خلاصة المقاطعة التي كانت خديجة ضحيةً من ضحاياها، فقد أصابها الضر أيما إصابة، وعانت معاناة عظيمة من آثار هذه المحاصرة الظالمة، ولكنها لاذت بالصبر، ووقفت إلى جانب رسول الله (ص) موقفاً، يندر أن تقف مثله امرأة، وكان لشخصيتها ومكانتها وهيبتها في النفوس الأثر الكبير، إلى درجة أنها صارت من أسباب قيام خلاف ونزاع أدّى إلى انهيار موقف قريش، وترك العمل بالصحيفة، وفشل المقاطعة.

ففي السيرة النبوية: أنّ أبا جهل لقى حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحاً إلى خديجة بنت خويلد زوجة الرسول وعمّة حكيم، فتعلق به أبوجهل، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم، والله، لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبوالبختري، وقال له: مالك وله؟ إنه طعام كان لعمته رغبتْ إليه فيه، فكيف تمنعه؟ فأبى أبوجهل، وقام نزاع كان من أسباب إغفال الصحيفة ونهاية المقاطعة.(1)

كما كان لهشام بن عمرو بن الحارث العاملي الذي كان من أقرباء خديجة دور آخر في بذر الخلاف بين زعماء المقاطعة، فقد كان أكثر الناس إقداماً على مساعدة المحصورين المقاطعين، فكان يدخل أحمال الطعام إلى بني هاشم في الشعب، وأرادت قريش معاقبته.

فانبرى أبوسفيان وقال: دعوه، رجل وصل رحمه، أما والله إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن.(2)

مكانتها في قلب الرسول (ص)

لم تتحمل أمّ المؤمنين عائشة، وهي ترى رسولَ الله (ص) يذكر أمّ المؤمنين خديجة، فقالت: ما زلتَ تذكر بحسرة وألم، عجوزاً من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكت من عدة


1- السيرة النبوية، لابن هشام 2 : 5 .
2- تاريخ قريش: 316 للدكتور حسين مؤنس.

ص: 150

سنين، وقد أبدلك اللهُ خيراً منها!

فما كان من رسول الله (ص) بعد أن تغير وجهه الكريم، إلاّ وزجرها غاضباً، وقال: «واللهِ ما أبدلني الله خيراً منها» ولم يكتف (ص) بهذا، بل راح يذكر مناقبها _ التي ما فتئ يعيشها (ص) في حياته المباركة _ : «آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالِها إذ حرمني الناس، ورزقني منها اللهُ الولدَ دون غيرها من النساء».

فقالت عائشة في نفسها: والله لا أذكرها بعدها أبداً.(1)

وقبل ذلك لم تتوقف غيرة أمّ المؤمنين عائشة من أمّ المؤمنين خديجة، التي احتلت تلك المكانة العظيمة من قلب رسول الله (ص) وظهر ذلك كلّه في مواقف عملية للرسول الكريم، حتى بعد وفاتها سلام الله عليها.

رأته عائشة يوماً وقد ذبح شاةً يقول: «أرسلوا إلى أصدقاء خديجة منها»، وهنا أيضاً، لم تتوقف عائشة عن أن تسمعه شيئاً، فقال (ص) : «إني لأحبّ حبيبها».(2)

وظلت الغيرة لا تنفك عن قلبها من سيدتنا خديجة، لا لشيء _ فالأمر كلّه بعد موتها _ إلاّ لأنها سبقتها إلى نفس رسول الله (ص) وإلى قلبه، فاحتلته بما امتلكته من خلق عال، وشرف رفيع، وايمان صادق، وجهاد خالص، وذكر طيب، وبما قدمته من حياتها التي استرخصتها، وثروتها وأموالها، كلّ ذلك وضعته بين يديه المباركتين; لنيل مرضاة الله، ولتُعينه (ص) وهو يحمل أعظم رسالة، وأخطر مسؤولية تبليغية تغييرية، عرضتها السماء، وعرفتها الإنسانية.

وحينما نصره الله تعالى وفتحت أبواب مكة له، وكان وقتها قد مرّ على وفاتها أكثر من عشر سنوات، وكانت كلّ تلك السنين مليئةً بالأحداث والشؤون المريرة، ولكنها مع كلّ ذلك لم تشغله عن ذكره لخديجة _ أقام في قبة ضربت له هناك إلى جوار قبرها _ حيث روحها التي تخفق حوله، فتريحه، وتؤنسه، وترافقه وهو يشرف على فتح مكة، ويطوف


1- الاستيعاب 4 : 1824 .
2- المصدر نفسه.

ص: 151

بالكعبة، ويحطم رموز الكفر والشرك، وهو بين لحظة وأخرى يرمق دارها، حيث نبع الحب، وحيث السكينة والمودة والحنان والتضحية.

وفيما قالته أمّ المؤمنين عائشة: كان رسول الله (ص) إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار، فذكرها ذات يوم فاحتملتني الغيرة، فقلتُ: لقد عوضك الله من كبيرة السن، قالت: فرأيت رسول الله (ص) غضب غضباً أُسقطتُ في جلدي، وقلتُ في نفسي: أللهم إنك إن أذهبت غضبَ رسول الله عني، لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت، فلما رأى النبي (ص) ما لقيت، قال: «كيف قلت؟ والله، لقد آمنت بي إذا كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقتْ مني الولد إذ حرمتُموه مني».

قالت: فعدا وراح عليّ بها شهراً.

أما ما ورد فيها عن رسول الله (ص)

_ فعن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهما: أنّ رسول الله (ص) قال: «أمرتُ أن أُبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب».

قال ابن هشام: القصب ههنا: اللؤلؤ المجوَّف.(1)

_ وعن عائشة، قالت: ما غرتُ من أحد ما غرتُ على خديجة، ولقد هلكت

قبل أن يتزوجني رسول الله (ص) بثلاث سنين، ولقد أمر أن يبشرها ببيت من قصب في الجنة.(2)

_ وقال ابن هشام: وحدثني من أثق به، أنّ جبريل (ع) أتى رسول الله (ص) فقال: «أقرئ خديجةَ السلام من ربِّها، فقال رسول الله (ص) : يا خديجة، هذا جبريلُ يُقرئك السلام من ربك، فقالت خديجة: اللهُ السلامُ، ومنه السلامُ، وعلى جبريل السلامُ».


1- الروض الأنف؛ وانظر سيرة بن هشام 1: 241.
2- المصدر نفسه.

ص: 152

عام الحزن

شاءت السماء أن تمتحن هذا القلب الكبير، وقد امتحنته مرات ومرات، ولكن هذه المرّة في زوجته التي أبت إلاّ أن تعيش كبيرة وتموت كبيرة، والتي كانت له وزيرَ صدق على الإسلام،(1) وكانت شريكته في حياته كلّها، في دعوته، وفي تبليغه لها، وفي جهاده وتضحياته.

لقد رحلت عنه في السنة العاشرة من البعثة النبوية، ودفنت في مقبرة الحجون بمكّة، بعد أن رحل قبلها _ بشهور على قول وبأيام على قول آخر _ عمّه أبوطالب الذي كان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة وناصراً على قومه.(2)

لقد رحلت هذه المرأة العظيمة، لتنتهي برحيلها ورحيل أبي طالب العم المدافع والمحامي القوي أولى مراحل رسالة السماء، التي شكلت الفترة المكّية الأولى بكلّ آلامها وأحداثها، كما كانت الفترة التأسيسية لهذه الرسالة المباركة، وكان لوجوديهما المباركين الأثر العظيم في تشكيل تلك المرحلة التي دامت قرابة عشر سنوات، وفي بقائها واستمرارها وثباتها.

لقد رحلت هذه السيدة المباركة، بعد أن وصل نداء الإسلام الحبشة، وتجاوز صداه بقاع الحجاز، وبعد أن حملته قلوب صادقة ونفوس مضحية، وأياد قوية.

رحلت هذه السيدة الجليلة، وغابت عن دنياه، ولكنها لم ترحل عن قلبه النابض بمواقفها الصادقة.

رحلت هذه المرأة المباركة، ولكنها ظلت ماثلة دائماً أمامه، ولم ينس ذكراها أو يتأس عنها، أو يدخل قلبه غيرها، أو يحتل مكانها منه، بل ولم تستطع أيّ واحدة من نسائه _ مهما بذلت من جهد _ أن تبعد طيفها عنه (ص) وهو الذي ما فتئ يذكرها، وكان ذكره لها يثير غيرة بعض نسائه، وكانت أشدهن غيرة أمّ المؤمنين عائشة، فبذلت ما تستطيعه من أجل أن تنسيه ذلك الطيف الجميل، وتلك الذكرى العطرة، أو أن تخمد أو على الأقل تخفّف ذلك من قلبه فما استطاعت، مع أنها كانت في مطلع صباها ونضارة شبابها.

فسلامٌ على خديجة في الخالدين


1- سيرة بن هشام 2 : 416.
2- المصدر نفسه.

ص: 153

(8) عمار بن ياسر

اشارة

راية الحقِّ المبين

محسن الأسدي

مع ما تعرضت له من ظلم وتعسف وتجاوز _ كان أخطرها وأقساها، تبرئة المعتدي، وتبرير أفعاله، وكيل المدح له، وإتهام البريء وإدانته وذمّه وسبه بوسائل خبيثة، وبأحاديث موضوعة على رسول الله (ص) _ بقيت صحبةُ رسول الله (ص) مدرسةً رساليةً عظيمةً مقدسةً.

كما لا يقدح عظمتها تلك، ولا يضرّ قدسيتها أبداً أنه كما كان فيها المتفوقون كان فيها دون ذلك بكثير، وكما كان فيها المجاهدون المخلصون، كان فيها المتخاذلون، وكما كان فيها المؤمنون الصادقون حقّاً، كان فيها غير ذلك.

لقد كان فيها الذين زادتهم إيماناً وثباتاً، وكانت شفاءً لما في قلوبهم، وكان فيها الذين ما ازدادوا إلاّ نفوراً وإلاّ أذًى وتخريباً لها.

ص: 154

وخلاصة القول: كان فيها محسنٌ وظالم لنفسه مبين، وهم بالآخرة بين شقيّ وسعيد.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ... خالِدِينَ فِيها...) * (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها).(1)

لقد تعرضت هذه المدرسة المباركة لحالتي الإغواء والابتلاء، فارتفعت أعلام وسقطت أخرى، وتألقت نفوسٌ وهوت غيرها، وفاز جمع وخاب آخر؛ ومع هذا كلّه وغيره الكثير، بقيت هذه المدرسة المحمدية أعظمَ مدرسة عرفتها الدنيا! ونموذجاً فذاً لم يعهد مثله التاريخ، وكيف لا تكون كذلك؟ وقد راحت السماء تغذيها وتمدّها وتنمّيها وتجذرها في قلوب مؤمنة صادقة، راحت غير عابئة بما يحيط بها من أذًى، ومن تعسف، ومن ظلم، وقسر، واضطهاد، تبشر بآيات الله وسنّة نبيه، لتحملها مفاهيمَ ومبادئ وأحكاماً إلى الناس كافة؟!

لقد خلقت قلوباً أبيّة، ونفوساً كبيرة يحتضنها رجالٌ أفذاذ، صحابةٌ أجلاّء، تركوا آثارهم على تأريخنا، بل على تأريخ الإنسانية عطاءً وعلماً، وتضحيةً وجهاداً، وأخلاقاً وآداباً.

لقد آمن هؤلاء والإسلام يعيش أحرج ظروفه وأقساها، من حيث القلة والضعف والهوان، في ساحة يحيطها الأعداء من كلّ مكان; آمنوا وقدموا كلّ ذاك العطاء وكلّ تلك التضحيات، بسبب ولائهم الصادق لرسول الله (ص) وحبهم العظيم له، ولما حمله من قيم السماء; وهو ما شهد به أبوسفيان يوم كان زعيماً لأعداء الله ورسوله: ما رأيتُ من الناس أحداً يحبّ أحداً كما يحب أصحابُ محمد محمداً.

وعمار وأبوه ياسر وأمّه سمية من هذه الفئة المؤمنة حقّاً، ومن هذه النخبة الطاهرة، ومن هؤلاء الأصحاب، الذين سجلوا لنا أمثلة رائعة وكبيرة للإيمان، وللتضحية، والفداء، والصبر، والحلم، تشهد بذلك سجونُ قريش وسياطُها، وحديدتُها المحماة، ورماحُها القذرة، التي حملتها نفوسٌ سيئة، وقلوبٌ قاسية، وأياد ملطخة بدماء البراءة والطهارة، كما تشهد لهم بذلك الصبر رمضاءُ مكة وشمسُها المحرقة، وما ذلك إلاّ لأنهم دعوا إلى الله:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).


1- هود : 106 _ 108.

ص: 155

إنّ الكتابةَ عن «أبو اليقظان» _ هذا الرسالي، الذي وفّقه الله تعالى ليعيش أجواء الرسالة، وأفياء مدرستها تلك، بكلّ صدق ووعي وثبات _ كتابةٌ عن أبيه ياسر، الذي منَّ الله عليه ليكون أول شهيد عرفته المرحلة الأولى من مراحل الإسلام ودعوته، وهي ما زالت في أول خطوة لها، كما أنّ الكتابةَ عنه كتابةٌ عن اُمّه التي حظيت هي الأخرى بأول وسام للشهادة في الصدر الأول للإسلام، بل هي كتابة عن كلّ المعذبين أمثال بلال وصهيب وخباب ... والدين الجديد يخطو خطواته الأولى إلى قلوب الناس; لهديهم وإرشادهم، وإنقاذهم من الظلم والضلالة والضياع إلى حيث برّ الأمان في الدنيا، وإلى حيث النجاة في الآخرة.

قبل الهجرة النبوية الشريفة بسبع وخمسين سنة، في مكّة، في حي بني مخزوم، ولد عمّار بن ياسر، من أب عربي يمنيٍّ وهو ياسر بن عامر بن مالك الكناني المذحجي العنسي القحطاني؛ قدم ياسر من بلاد اليمن مع أخويه الحارث ومالك باحثين عن أخ رابع لهم في رحلة طويلة شاقة، انتهت بهم إلى مكّة، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، فيما ألقى ياسر عصاه بها، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، فاقترن بسمية بنت خياط من جواري أبي حذيفة، ثم أعتقه هذا الأخير بعد أن ولد لهما عمار، ومن هنا صار عمّار وهو العربي القحطاني مولىً لبني مخزوم؛ ولكنهما (ياسر وسمية) بقيا مع أبي حذيفة إلى أن مات.

كان عمّار يقول: كنتُ ترباً لرسول الله (ص) لسنّه، لم يكن أقرب به سنّاً مني، كما كان أخاً لأمِّ سلمة زوج الرسول (ص) من الرضاعة.(1)

صفاته

كان عمّار أدم اللون، طوالاً، جعد الشعر، حيث توجد شعرات في مقدم رأسه، وفي مؤخره أيضاً وما بينهما صلع، فيه حبشية، مجدَّع الأنف، أشهل العينين، لا يغير شيبه، بعيد


1- سيرة ابن هشام 1 : 162.

ص: 156

ما بين المنكبين، وكان شجاعاً قويّاً ذا فصاحة وبيان ورأي سديد.

ومن صفاته أيضاً أنه كان طويل الصمت، طويل الحزن والكآبة، وكان عامة كلامه عائذاً بالله من فتنته.(1)

إسلامه

وفي قصة إسلامه التي وقعت، وكان له من العمر أربع وأربعون سنة، في دارالأرقم، التي كانت تدعى بدار الإسلام; لأنّها الدار التي كان يتم فيها إسلام الراغبين، باعتناق الدين الجديد؛ يقول عمّار: لقيت صهيب بن سنان على باب دارالأرقم، ورسول الله (ص) فيها، فقلتُ له: ما تريد؟ قال لي: ما تريد أنت؟ فقلتُ: أردتُ أن أدخل على محمد فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون؛ وكان عمار وأبواه وكذلك أخوه عبدالله من المبادرين لاعتناق الدين الإسلامي، ومن الأوائل الذين أظهروا إسلامهم وجهروا به، فنالوا بذلك وسام السابقين وفضلهم، بعد أن حرم منهما كثيرون؛ ولم ينجو كلّ منهم _ بسبب ذلك _ من سخط وغضب مشركي قريش وزعمائهم، أبي جهل وشركائه، ونقمة بني مخزوم الذين تولوا تعذيبهم، وأنزلوا بهم ألوان العذاب وصنوفه، باءت كلّها بالفشل، ولم تنل من صمودهم، ولم يحصل الطغاة إلاّ شيئاً أباحه عمار.

وكان ذلك الصمود كلّه والثبات كلّه بسبب عمق العقيدة في نفوسهم، ومكانتها في قلوبهم، وكانت لزيارة رسول الله (ص) لهم في الأبطح، ودعائه وأقواله لهم دور كبير في ذلك الثبات، «صبراً أبا اليقظان، صبراً آل ياسر... فإنّ موعدكم الجنة».

لقد كانت صدورهم وصدور مَن معهم كصهيب وبلال وخباب . . . أقوى من الحجارة الرمضاء الملتهبة بحرارتها، وكانت أجسادهم أقوى من مكاوي النار التي ينزلونها عليهم، ومن دروع الحديد التي ألبسوها لهم وصهروهم بالشمس، وأصبر من كلّ شيء حتى بلغ


1- حلية الأولياء : 142.

ص: 157

الجهد منهم كلّ مبلغ، ففارقت روح سميّة الدنيا ونالت بذلك وسام أول شهيدة في الإسلام، لم يسبقها أحدٌ إلى هذا الوسام من الرجال أو النساء;(1) بعد أن ربطت بين بعيرين وطعنها أبوجهل رأس الشرك والنفاق بحربة في قُبُلِها فقتلها، وقتل بعدها زوجها، فكان هو الآخر أول شهيد من الرجال عرفته الساحة الإسلامية يومذاك.

لقد كان عمار وأبوه وأمّه قوماً من المستضعفين في مكّة، وهم الذين لا عشائر لهم تدفع عنهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش لا تخشى أحداً فيهم، فتذيقهم أشدَّ العذاب في رمضاء مكّة وفي نهارها; لعلّهم يرجعون عن دينهم، ويتخلون عن محمد ودعوته، وما كيد هؤلاء المشركين إلاّ في تباب.

لقد ترك ذلك التعذيب آثاره على هذه الأجسام المتشربة بحلاوة الإيمان لسنين طويلة مرّت عليها، فهي على ظهر عمار حتى آخر حياته.

تقول الرواية التي يقول فيها محمد بن كعب القرظي: أخبرني مَن رأى عمار بن ياسر متجرداً من سراويل، قال: فنظرت إلى ظهره فيه خيط كبير، فقلت: ما هذا؟ قال: هذا مما كانت تعذبني به قريش في رمضاء مكّة.(2)

أقوال النبي (ص) في آل ياسر

كانت لآل ياسر مكانة مرموقة عند رسول الله (ص) وحظي عمار بالذات بمنزلة رفيعة عنده (ص) لا ينالها إلاّ ذو حظ عظيم; فقد كان كثير الترحيب به، وكان يدفع عنه، ويضفي عليه من الكنى والألقاب، والصفات الحسنة، ما جعله موضع احترام عند المسلمين عامة، والصحابة خاصة.

فقد سمّ_اه (ص) الطيِّب المطيَّب، وكان يناديه أبا اليقظان، ومن دعائه وأقواله (ص) فيهم: اصبروا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنة، أللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلتَ; كان ذلك منه (ص)


1- الطبقات 3 : 247.
2- مختصر تاريخ دمشق 18 : 208.

ص: 158

حينما يمرّ بهم في الأبطح وهم يعذبون.

وفي رواية عمرو بن ميمون:

عذّب المشركون عماراً بالنار، فكان النبي (ص) يمرّ به، فيُمرّ يده على رأسه ويقول: «يا نار كوني برداً وسلاماً على عمّار، كما كنت على إبراهيم»، ثم يقول: «تقتلك الفئة الباغية».(1)

وفي رواية: «... وقاتله وسالبه في النار».

وعن هانئ بن هانئ قال: استأذن عمار على علي (ع) فقال: «ائذنوا له، مرحباً بالطيب المطيَّب، سمعت رسول الله (ص) يقول: عمّار مُلئ إيماناً إلى مشاشه»؛ (ما تحت عظامه).

وضرب (ص) مرّة خاصرته وقال: «هذه خاصرة مؤمنة».

وفي الدفاع عنه، ومنع من يريد أذية عمار، قال (ص) : «مَن حقّر عماراً حقّره الله... ومَن عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله، عمار جلدة بين عيني».

ودخل عمّار على رسول الله (ص) يشكو خالد بن الوليد فقال: يا رسول الله، لقد حَمش قوماً (ساقهم بغضب) قد صلوا وأسلموا، ثم وقع بخالد عند النبيّ (ص) وخالد جالس لا يتكلم، فلما قام عمار وقع به خالد، فقال النبيّ (ص) : «مه يا خالد! لا تقع بأبي اليقظان، فإنه من يُعاده يُعاده الله، ومن يُبغضه يُبغضه الله، ومَن يُسفهه يُسفهه الله».(2)

وعن رسول الله (ص) : «... ما خير عمار بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما».

... «دم عمار ولحمه حرام على النار أن تأكله أو تمسّه».

وقال أنس: قال (ص) : «ثلاثة تُساق إليهم الجنة: علي وعمار وسلمان».

وفي رواية، «أربعة: علي وعمار وسلمان والمقداد».

وليس هذا قد ورد في فضله فحسب، بل كان (ص) يقول للمسلمين: «اهتدوا بهدي عمّار».(3)


1- مختصر تاريخ دمشق، 18 : 212.
2- كتاب المغازي، للواقدي 3 : 883 .
3- مختصر تاريخ دمشق 18: 212 .

ص: 159

عمار وآيات قرآنية

ذكرت بعض الروايات والأخبار أنّ هناك آيات قرآنية نزلت في عمار أو في جمع كان عمار أحدهم، وأنّ هناك غيرها فسّرت فيه، ومن هذه الآيات:

(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمانِ...).(1)

والذي ورد في ذلك أنّه لما جهر عمار وأبواه بإسلامهم، وعرفت بهم قريش وبنو مخزوم، عذبوهم أشد العذاب، وألبسوهم أدراع الحديد، ثم صهروهم تحت الشمس على أن يتركوا الإسلام وهم يأبون من ذلك، حتى ورد أنّ عمار بن ياسر كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول ... فقتلوا أمّه وقتلوا أباه، وأما عمار فقد أعطى معذِّبيه ما أرادوا منه.(2)

ذكر المفسرون أنّ هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، وقيل في جماعة أكرهوا وكان عمار أحدهم، وهم عمار وياسر أبوه وأمّه سمية، وصهيب، وبلال، وخباب عذبوا وقتل أبوعمار وأمّه، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله (ص) فقال قوم: إنّ عماراً قد كفر، فقال رسول الله (ص) : «كلاّ، إنّ عماراً ملئ إيماناً من قرنه (فرقه) إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه»; فجاء عمار رسول الله (ص) وهو يبكي، فقال (ص) : «ما وراءَك؟ فقال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُركتُ حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير.

فجعل رسول الله (ص) يمسح عينيه، ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وفي رواية أنّ رسول الله (ص) قال له بعد أن سمع مقالته: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئناً بالإيمان، قال: «إن عادوا فعد».(3) وهذا ما اجتمع أهل التفسير عليه.(4)

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ


1- النحل : 106 .
2- مختصر تاريخ دمشق 18 : 208.
3- أنظر تفسير مجمع البيان؛ والتفسير الكبير للرازي وغيرهما.
4- ابن عبد البر في الاستيعاب .

ص: 160

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).(1)

لم تزل قريش تذيق فريقاً ممّن آمن بالله ورسوله سوءَ العذاب، فلعلّها تحقق مرادها منهم، أن يكفروا بمحمد ورسالته، ويعودوا إلى ملتهم الأولى، عبادة اللاّت والعزى ... لكنّ محاولاتها هذه لم تنفعها شيئاً، إنما الذي حصل هو أن تعذيبها لهم كلّ ما ازداد شدّة وقسوة، ازداد معه صمود المعذَّبين، فقرر هؤلاء الهجرة عن هذه البلاد في أول فرصة لهم، وهذا ما تمّ بالفعل فهاجروا جميعاً الى حيث هاجر رسول الله (ص) إلى المدينة المنورة، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.

تقول الرواية: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية.(2)

يقول الشيخ الطبرسي: نزلت في المعذَّبين بمكّة مثل: صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكّنهم الله بالمدينة، وذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم، وإن كنتُ عليكم لم يضركم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله، وهاجر إلى رسول الله (ص) فقال له أبوبكر: ربح البيع يا صهيب; ويروى أنّ عمربن الخطاب كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءً، قال له: خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما أخّره لك أفضل، ثم تلا هذه الآية.(3)

وقال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيِّ (ص) بمكة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة فعذبوهم وآذوهم، فبوأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك.(4)


1- النحل : 41 .
2- مختصر تاريخ دمشق 18 : 208.
3- تفسير مجمع البيان، للطبرسي 6 : 557، وفي تفسير الآية من سورة النحل .
4- أسباب نزول القرآن، للإمام أبي الحسن الواحدي: 285 .

ص: 161

لقد بوّأهم الله تعالى مكاناً محموداً بين إخوانهم المسلمين المهاجرين والأنصار، وجعل لهم ذكرى طيبة تتناقلها ألسنة المؤمنين المجاهدين، وصاروا قدوة حسنة لكل المجاهدين ضد الطغيان والتعسف، ولهم بالآخرة جنة الخلد حيث النعيم المقيم; ولا غرابة في ذلك، فقد أعطى عمار وإخوانه كلّ شيء، وقدموا أنفسهم رخيصة، وتحملوا عذاباً ما أقساه وأعظمه! فأعطاهم الله تعالى حسن الدنيا وأجر الآخرة ونعيمها.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ...) * (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).(1)

لم ينفكّ طغيان قريش وكبرياؤها يلاحق هذه الفئة المؤمنة، بعد أن عجزت كلّ محاولاتها وأساليبها القذرة في إطفاء نور الرسالة وإخمادها، فبدأوا بأسلوب آخر: أن اطرد يا محمد هؤلاء «عمار وصهيب وبلال وخباب...» فنجلس معك وقد نتبعك; كم لهذا الموقف من شبه بموقف قوم نوح حيث قال زعماؤهم وكبراؤهم:

(وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ).(2)

فلعلّ هدف مشركي قريش أو بعض المؤلفة قلوبهم لم يكن إلاّ زرع بذرة الشقاق بين محمد وأصحابه، إذا ما طردهم من مجلسه ليجلس زعماء قريش بدلاً منهم، وكم لهذا الموقف من أثر على نفوسهم وهم يرون معذِّبيهم مقدمين في مجلس رسول الله (ص) وهم مبعدون عنه، وكم ستكون ذلتهم كبيرة وقاسية عليهم؟! وهل هذه مكافأتهم، وهل هذا جزاء صمودهم وثباتهم؟!

وهنا تدخلت السماء لما لهذا الأمر من خطورة، لتمنع مثل هذه المحاولات ولتقف بحزم إزاءَها، ولتزيد تكريمها لهذهِ الفئة الرسالية.

روى الثعلبي بإسناده عن عبدالله بن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله (ص) وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا:


1- الأنعام : 51 .
2- هود : 27 .

ص: 162

يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهم؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك، فأنزل الله تعالى:

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)

وقال سلمان وخبّاب: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبيَّ (ص) قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقروهم، وقالوا: يا رسول الله لو نحيتَ هؤلاء عنك حتى نخلو بك؛ فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، ثم إذا انصرفنا، فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك، فأجابهم النبي (ص) إلى ذلك، فقالا له: أكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر علياً (ع) ليكتب.

قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل (ع) بقول:

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) إلى قوله:

(أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

فنحّى رسول الله (ص) الصحيفة، وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة؛ فكنا نقعد معه.(1)

وعن عكرمة، قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة، ونفرٌ معهما سمّاهم أبوطالب، فقالوا: لو أنّ ابن أخيك محمداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا؛ كان أعظم في صدورنا، وأطوعَ له عندنا; فأتى أبوطالب النبي (ص) فحدثه بالذي كلموه، فأنزل الله عزّوجلّ الآية.(2)

قال: وكانوا بلالاً وعمار ابن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو وغيرهم.(3)


1- تفسير مجمع البيان، للطبرسي، في تفسير الآية .
2- العسيف: الأجير المستهان به، أنظر اللسان: عسف.
3- مختصر تاريخ دمشق 18 : 210.

ص: 163

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).(1)

... فكنا «سلمان وخباب وعمار...» نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم، قام وتركنا، فأنزل الله عزّوجلّ:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ...) قال: فكان رسول الله (ص) يقعد معنا ويدنو حتى كادت ركبتنا تمسّ ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وقال لنا: «ألحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات».(2)

ويذكر الطبرسي رواية أخرى في تفسيره للآية من سورة الكهف: نزلت في سلمان، وأبي ذر، وصهيب، وعمار، وخباب، وغيرهم من فقراء أصحاب النبيّ (ص) وذلك أنّ المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله (ص) وهم عيينة بن الحصين والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا رسول الله إن جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء روائح صنانهم، وكانت عليهم جبات الصوف، جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلاّ هؤلاء، فلما نزلت الآية قام النبيّ (ص) يلتمسهم فأصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله عزّوجلّ، فقال: «ألحمد لله الذي لم يمتني...».(3)

وهناك آيات أخر قال بعضهم: إنها في عمار نزولاً أو تفسيراً، منها:

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ).(4)

وهو قول ابن عباس ومقاتل،(5) عن أبي بكر بن عياش.(6)

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

قال ابن عياش أيضاً: عمار (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) مواليه بنو المغيرة.(7)


1- الكهف: 28.
2- مجمع البيان، للطبرسي 3 : 473.
3- مجمع البيان للطبرسي 6 : 718 في تفسير الآية من سورة الكهف؛ أسباب النزول للواحدي.
4- الزمر : 9 .
5- أسباب النزول للواحدي؛ مختصر تاريخ دمشق 18 :210.
6- معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي 13: 288.
7- المصدر نفسه.

ص: 164

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ).(1)

القليل هم عبدالله بن مسعود وعمار بن ياسر، وهو قول عكرمة.

وفي مجمع البيان: (إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ) قيل: إنّ القليل الذي استثنى الله هو ثابت بن قيس بن شماس، وقيل هو جماعة من أصحاب رسول الله، قالوا: والله لو أمرنا لفعلنا، فالحمد لله الذي عافانا، ومنهم عبدالله بن مسعود وعمار بن ياسر، فقال النبي (ص) : «إنّ من أمتي رجالاً الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي».(2)

(ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ).(3)

قال مجاهد: يقول أبوجهل في النار: أين عمّار، أين بلال؟

وقيل: نزلت في أبي جهل والوليد ابن المغيرة وذويهما يقولون: ما لنا لا نرى عمّاراً وخباباً وصهيباً وبلالاً، الذين كنا نعدهم في الدنيا من جملة الذين يفعلون الشرّ والقبيح ولا يفعلون الخير؟!(4)

(أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ).(5)

عن عكرمة: أنها نزلت في عمار بن ياسر، «وهو الذي يأتي آمناً يوم القيامة» وفي أبي جهل «الذي يُلقى في النار».

(أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها...).(6)

عن عكرمة: في أبي جهل وعمار(صاحب النور).


1- النساء : 66.
2- مجمع البيان في تفسير الآية.
3- سورة ص : 62.
4- مجمع البيان . والتفسير المنير للدكتور الزحيلي في تفسير الآية .
5- فصلت : 40 .
6- الأنعام : 122 .

ص: 165

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...).(1)

فعن ابن عباس: بعث رسول الله (ص) خالد بن الوليد بن المغيرة في سرية _ قال: ومعه في السرية عمّار بن ياسر _ إلى حيّ من قريش، أو من قيس، حتى إذا دنَوا من القوم جاءهم النذير فهربوا، وثبت رجل منهم، كان قد أسلم هو وأهل بيته، فقال لأهله: كونوا على رجل حتى آتيكم; قال: فانطلق حتى دخل في العسكر، فدخل على عمار بن ياسر، فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وأهل بيتي، فهل ذلك نافعي أم أذهب كما ذهب قومي؟ قال: فقال له عمار: أقم، فأنت آمن; قال: فرجع الرجل فأقام، وصبحهم خالد بن الوليد، فوجد القوم قد أنذروا، وذهبوا، فأخذ الرجل، فقال له عمار: إنّه ليس لك على الرجل سبيل، إنّي قد أمّنته، وقد أسلم، قال: وما أنت وذاك؟ أتجير عليَّ وأنا الأمير؟! قال: نعم، أُجير عليك، وأنت الأمير، إنّ الرجل قد أسلم، ولو شاء لذهب كما ذهب قومه، قال: فتنازعا في ذلك حتى قدما المدينة، فاجتمعا عند رسول الله (ص) فذكر عمار للنبيِّ (ص) الذي كان من أمر الرجل، فأجاز أمان عمار، ونهى يومئذ أن يُجير رجلٌ على أمير، فتنازع عمار وخالد عند رسول الله (ص) حتى تشاتما; فقال خالد: أيشتمني هذا العبد عندك؟ أما والله لولاك ما شتمني.

قال: فقال نبيّ الله (ص) : «كُفَّ يا خالد عن عمّار، فإنّه مَن يبغض عماراً يبغضه الله عزّوجلّ، ومن يلعن عماراً يلعنه الله»، قال: وقام عمار فانطلق، فاتبعه خالد وأخذ بثوبه، فلم يزل يترضاه حتى رضي عنه، قال: وفيه نزلت:

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...) الآية.(2)

صفحات أخري من حياته المباركة

أبواليقظان واحد من الذين حظوا بوسام الهجرتين وأوسمة أخر، هاجر الهجرة الأولى مع من هاجر من المسلمين، وكانت يومذاك إلى الحبشة (وإن تردّد بعضهم في هجرته إلى


1- النساء : 59 .
2- مختصر تاريخ دمشق 18: 214؛ أسباب النزول للواحدي، سورة النساء، الآية.

ص: 166

الحبشة واختلفوا في وقوعها)،(1) من بعد ما ظلموا وعذبوا واضطهدوا أيما اضطهاد من قبل مشركي مكة وطغاتها، وبعد أن سمعوا قول رسول الله (ص) : «لو خرجتم إلى أرض الحبشة! فإنّ فيها ملكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق حتى يجعل الله فرجاً مما أنتم فيه».(2)

وأما الهجرة الثانية فكانت إلى المدينة، وما إن وطأت قدماه تراب هذه الأرض، وكان اللقاء برسول الله (ص) حتى آخى (ص) بينه وبين حذيفة بن اليمان، ثم راح عمار يجمع أحجاراً ليبني بها مسجداً لرسول الله (ص) فكان مسجد قباء، وكان عمار أول مَن بنى مسجداً في الإسلام.

ولم يكتف عمار بذلك فقد اشترك مع الصحابة الآخرين في بناء مسجد النبيِّ (ص) فلما قدم النبي (ص) المدينة قال: «ابنوا لنا مسجداً، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: عرش كعرش موسى، ابنوه لنا بلَبن»؛ فجعلوا يبنون ورسول الله (ص) يعاطيهم اللَّبن على صدره، ما دونه ثوب، وهو يقول:

أللهم ، إنّ العيشَ عيشُ الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة

فمرّ عمار بن ياسر، فجعل رسول الله (ص) ينفض التراب عن رأسه ويقول: «ويحك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية».

لقدكان عمار إلى جوار رسول الله (ص) الذي كان هو الآخر يحمل الحجارة معهم، ويومها كان عمار يرتجز ويقول:

نحن المسلمون نبتني المساجدا

ورسولُ الله (ص) يردّد مع المسلمين: المساجدا.

وراح عمار ينشد ما كان يرتجزبه عليّ (ع):

لا يستوي من يعمر المساجدا

يظلّ فيها راكعاً وساجدا

أو : يدأب فيها قائماً وقاعدا


1- البداية والنهاية؛ ومختصر تاريخ دمشق، ترجمة عمار 3 : 69.
2- الطبري 1 : 547.

ص: 167

ومن تراه عانداً معانداً

عن الغبار لا يزال حائداً

أو : من يُرى عن الغبار حائدا

يقول ابن هشام في سيرته: ... فدخل عمار وقد أثقلوه باللبن; فقال: يارسول الله! قتلوني، يحملون عليَّ ما لا يحملون.

وعن مجاهد: رآهم رسول الله (ص) وهم يحملون الحجارة على عمار، وهو يبني المسجد، فقال: «ما لهم ولعمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، وذلك فعل الأشقياء الأشرار».

كما كان ممّن شهدوا بيعة الحديبية التي تمّت تحت الشجرة المعروفة، وهي شجرة السمرة، وسميت هذه البيعة ببيعة الرضوان، وجاءت هذه التسمية من الرضا الوارد في الآية النازلة فيها:

(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً).(1)

وكما كان عمار من السابقين إلى اعتناق الإسلام، كان من المبادرين إلى الاشتراك في معارك الإسلام الكبرى، فشهد بدراً فنال بذلك وسام البدريين وأحداً، والخندق، ومعركة حنين، كما لم يتخلف عن مشاهد ومعارك الإسلام الأخرى حتى بعد وفاة رسول الله (ص) فقد شارك في معارك الردّة، اليمامة، وفي الفتوحات الإسلامية زمن الخلفاء، وكان له دور كبير في معركتي الجمل وصفين التي استشهد فيها.

وفي حفر الخندق: كان لعمار _ مع كونه صائماً _ السبق في ذلك ، يقول جابر بن عبدالله: إنّ رسول الله (ص) والمسلمين لما أخذوا في حفر الخندق، جعل عمار بن ياسر يحمل التراب والحجارة في الخندق، فيطرحه على شفيره، وكان ناقهاً من مرض، صائماً، فأدركه الغشي، فأتاه أبو بكر، فقال: أربع على نفسك (كفَّ وارفق) يا عمار، فقد قتلت نفسك، وأنت ناقه من مرض، فسمع رسول الله (ص) قول أبي بكر، فقام، فجعل يمسح التراب عن


1- الفتح : 18_ 19.

ص: 168

رأس عمار ومنكبه وهو يقول: «يزعمون أنك متّ، وأنك قد قتلت نفسك؛ كلاّ والله حتى تقتلك الفئة الباغية».

وفي معركة اليمامة سنة 11ه_ ضد المرتدين مسيلمة الكذاب وجنده، وقع قتال وصفه الطبري بقوله: ثم التقى الناس ولم يلقهم حربٌ قطّ مثلَها من حرب العرب، فاقتتل الناس قتالاً شديداً.(1)

وكان لعمار بن ياسر أيضاً دور كبير فيها، وفي تثبيت المسلمين وتحقيق النصر، وقد اُصيبت أذنه يومها، فعن ابن عمر أنه قال: رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرّون، أنا عمار بن ياسر، هلمّ إليَّ، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تَذبذَب، وهو يقاتل أشدَّ القتال.(2)

وكان جدع أذنه موضع فخر له، فيما راح آخرون يعيرونه به، فإذا ما اختلفوا معه وتنازعوا، قالوا له: أيها العبد المجدَّع! فكان يجيبهم: عيرتموني بأحبّ أذنيّ إليّ، أو خير أذنيّ.

وفي عهد الخليفة الثاني تولى عمار ولاية الكوفة لأكثر من سنة، وقد جاء فيما كتبه عمر إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني قد بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبدالله بن مسعود معلماً (قاضياً) ووزيراً، وإنهما من نجباء أصحاب محمد (ص) ممن شهدا بدراً، فاسمعوا لهما وأطيعوا (واقتدوا بهما)، وقد آثرتكم بهما على نفسي.(3)

إلى غير ذلك من الأوسمة الكبيرة التي حاز عليها هذا الصحابي الجليل.

مروياته

ذُكر في عدّة الرجال أنّ يعقوب بن شيبة صنف مسند عمار بن ياسر، وهناك في جامع المسانيد والسنن مسندٌ لعمار، ذُكر فيه مَن روى عنه، كما ذُكرت فيه مروياته عن


1- تاريخ الطبري 2 : 279.
2- مختصر تاريخ دمشق 18 : 219.
3- المصدر نفسه؛ والاستيعاب.

ص: 169

رسول الله (ص)؛(1) كما ذكر صاحب الأعلام أنّ عماراً روى اثنتين وستين رواية عن رسول الله (ص) وممّا رواه:

قال: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: «إنّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مِئنَّة، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، فإنّ من البيان سحراً».(2)

قال عمار: قال رسول الله (ص) : «كفى بالموت واعظاً وكفى باليقين عزّاً».

وعن ابن عباس، عن عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول الله (ص) حين احتبس عن قلادة عائشة بذات الجيش، فلما طلع الفجر أو كاد نزل آية التيمم؛ فمسحنا الأرض بالأيدي، ثم مسحنا الأيدي إلى المناكب ظهراً وبطناً، وكان يجمع بين الصلاتين في سفره.(3)

وفي رواية أخرى لعمار، كما في أسباب النزول للواقدي: عرّس رسول الله (ص) بذات الجيش، ومعه عائشة زوجته، فانقطع عقد لها من جذع ظفار، فحبس الناس ابتغاء

عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء؛ فأنزل الله تعالى على رسوله (ص) قصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون فضربوا بأيديهم الأرض ثم رفعوا أيديهم، فلم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، وبطون أيديهم إلى الآباط.(4)

من دعائه وأقواله الأخري

نسبت لعمار أقوال كثيرة وأدعية، تدلنا على عمق إيمانه وحكمته، وكان منها:

كان عمار بن ياسر مع جماعة في المسجد وعنده أعرابي، فذكروا المرض، فقال الأعرابي: ما مرضتُ قط، فقال عمار: ما أنت؟! أو لست منا؟! إنّ المسلم يُبتلى بالبلاء، فيكون كفارة


1- جامع المسانيد والسنن، لعماد الدين الدمشقي 9 : 329 _ 388.
2- مختصر تاريخ دمشق 18 : 220، ومعنى الحديث أنّ ذلك مما يعرف به فقه الرجل، اللسان: مأن.
3- كتاب المغازي، للواقدي 2 : 435 .
4- أسباب النزول، للواقدي في سبب نزول آية التيمم ، الآية: 43 من سورة النساء .

ص: 170

خطاياه فتتحاتّ كما يتحاتّ ورق الشجر، وإنّ الكافر يُبتلى، فيكون مثله كمثل البعير عُقل، فلا يدري لم عُقل، وأُطلق فلا يدري لم أطلق.(1)

ومرّ عمار بن ياسر على ابن مسعود يَرْسُسُ داره، فقال: كيف ترى يا أبااليقظان؟ قال: أراك بنيت شديداً، وأمّلت بعيداً، وتموت قريباً.(2)

ومن أقواله: كفى بالموت موعظة، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً.(3)

ومن دعائه رضوان الله عليه: «أللهم اجعلني من عبادك الصالحين، وأعطني من صالح ما تعطي عبادك الصالحين، من الأمانة، والإيمان، والأجر، والعافية، والمال، والولد النافع غير الضار ولا المضر، ولا الضالّ ولا المضلّ».(4)

وعن عبدالرحمن بن أبزى، عن عمار أنه قال _ وهو يسير على شط الفرات _ : «أللهم لو أعلم أن أرضى لك عني أن أتردى فأسقط، فعلتُ؛ ولو علمتُ أن أرضى لك عني أن ألقي نفسي في هذا الماء فأغرق فيه، فعلتُ».(5)

قال عمار: «كنتُ أنا وعليّ (ع) رفيقين مع رسول الله (ص) في غزوة العشيرة، فنزلنا

منزلاً، فرأينا رجالاً من بني مُدْلج يعملون في نخل لهم، فقلت: لو انطلقنا! فنظرنا إليهم

كيف يعملون، فانطلقنا فنظرنا إليهم ساعة، ثم غَشِينا النعاسُ، فعدنا إلى صور من النخل; فنمنا تحته في دقعاء من التراب، فما أيقظنا إلاّ رسولُ الله (ص) أتانا وقد تترَّبنا في ذلك التراب، فحرّك عليّاً برجله، فقال: «قم يا أبا تراب، ألا أُخبرك بأشقى الناس؟ أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك يا عليّ على هذا _ يعني قرنه _ فيخضب هذه منها،

وأخذ بلحيته».(6)


1- مختصر تاريخ دمشق 18: 222.
2- المصدر نفسه، يرسس يصلح . انظر اللسان : رسس .
3- المصدر نفسه.
4- مختصر تاريخ دمشق 18:224 .
5- حلية الأولياء 1 :142 _ 143 .
6- تاريخ الطبري 2: 124.

ص: 171

البشارة والشهادة

في الوقت الذي ما زالت سياط الجلادين تلاحق جسد عمار، كانت كلمات البشير النذير محمد بن عبدالله (ص) هي الأخرى تلاحقه، لتكون شفاء له ورحمة: «صبراً ياآل ياسر، فإنّ موعدكم الجنة؛ ويح ابن سمية! تقتله الفئة الباغية؛ أبشر عمارُ تقتلك الفئة الباغية؛ آخر زادك من الدنيا ضياح لبن».

قال رسول الله (ص) لعلي (ع) عندما ذكر عماراً: «أما أنه سيشهد معك مشاهد أجرها عظيم، وذكرها كثير، وثناؤها حسن».(1)

«أي أبشر يا عمار فإنك ستموت شهيداً بيد فئة ظالمة، وهي جماعة معاوية، التي كانت ضد عليّ وجيشه رضي الله عنهم، وكان عمار في جيش علي (ع) بصفين، فلما استشهد صلى عليه عليّ (ع) ودفن هناك رضي الله عنهم... وفيه أنّ علياً (ع) كان على الحقّ، وأنه كان أحقّ بالخلافة، لا شك في هذا، وفيه معجزة للنبيّ (ص) لإنه إخبار بغيب وقع»؛ هذا ما قاله الشيخ منصور علي ناصف من علماء الأزهر الشريف في تاجه الجامع للأصول.(2)

الشهادة التي جاءت تسعى إلى عمار، وراح يسعى إليها بعد أن طال انتظاره لها قرابة خمسين سنة، حتى وافته وهو يربو على التسعين من عمره المبارك; لينال بها أرفع درجات العاملين، وأعلى درجات المجاهدين، فوقع شهيداً، وقد أثخنته الجراح، وضرجته الدماء، وصار جسده موضعاً التقت به ضربات البغاة مع آثار سياط المشركين من قبل حين أظهر إيمانه بدعوة رسول الله (ص).

وهذا هو الخيار الذي ارتآه عمار لنفسه، أن يقف بجانب علي (ع) وأن لا يحيد عنه أبداً، وكيف يحيد وقد عهد إليه رسول الله (ص) : «يا عمار إن رأيت علياً قد سلك وادياً، وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلك على ردى، ولن يخرجك من الهدى».


1- كنز العمال 11 : 723؛ حلية الأولياء، أبو نعيم 1 : 142.
2- التاج الجامع للأصول 3 : 371 الهامش.

ص: 172

لقد كان عمار رايةً للحقّ والهدى، فقد ذكر عبدالله بن سلمة: رأيتُ عماراً يوم صفين شيخاً كبيراً، آدم، طُوالاً، أخذ الحربة بيده، ويده ترعد، فقال: والذي نفسي بيده، لقد قاتلتُ بهذه الراية مع رسول الله (ص) ثلاث مرّات وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعرفتُ أنّ مصلحتنا على الحقّ وأنهم على الضلالة (على الباطل).(1)

وفيما قاله عمرو بن العاص: ولكنا كنا نراه (ص) يحب رجلاً، قالوا: فمَن ذلك الرجل؟ قال: عمار بن ياسر، قالوا: قتيلكم يوم صفين، قال: قد والله قتلناه.(2)

لقد كان عمار _ بحق _ الراية التي مَن انضوى تحتها فالجنة مأواه، ومن زاغ عنها فالنار مثواه.

تقول الرواية: جاء رجل إلى عبدالله ابن مسعود، فقال له: يا أبا عبدالرحمن، إنّ الله عزّوجلّ، قد أمننا من أن يظلمنا، ولم يؤمنا من أن يفتنّا، أرأيت إن أدركتُ فتنة؟ قال: عليك بكتاب الله، قال: أرأيت إن كان كلهم يدعو إلى كتاب الله؟ قال: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: «إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق».

وفي حديث آخر عن ابن مسعود أيضاً، جاء رجل إليه فقال: إن الله أجار أهل الإسلام من الظلم ولم يُجرهم من الفتن، فإن وقع فما تأمرني؟ قال: أنظر عمار بن ياسر أين يكون فكن معه، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: «عمار يزول مع الحق حيث يزول».(3)

وهذا هو بعينه ما وقع يوم التقى الجمعان في صفين ورفعت المصاحف، واضطرب الناس، فكان ابن سمية الراية الخفاقة التي تصدع بالحق، وتجهر به وتدعوهم أن هلموا إليّ.

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً

ولكن لا حياة لمن تنادي

فأبوا إلاّ راية الضلالة راية لهم يقاتلون تحتها ومن أجلها.

لقد كان عمّار مع الحق في حلّه وترحاله، في حركته وسكونه، في قوله وفي فعله؛ كما


1- مختصر تاريخ دمشق 18 : 206 .
2- المصدر نفسه 18 : 214 .
3- المصدر نفسه 18 : 215 .

ص: 173

كان متيقناً أنّ ما قاله رسول الله (ص) واقع لا محالة ولا يقع غيره؛ فقد اشتكى عمار شكوى ثقُل منها، فغشي عليه، فأفاق، تقول مولاة له: ونحن نبكي حوله ، فقال: ما يبكيكم؟ أتحسبون أني أموت على فراشي؟ أخبرني حبيبي رسول الله (ص) أنه تقتلني الفئة الباغية، وأنّ آخر زادي من الدنيا مذقة لبن.

وفي حديث آخر: إني لستُ ميتاً من وجعي هذا، إنّ رسول الله (ص) عهد إلي أني مقتول بين فئتين من المؤمنين عظيمتين، تقتلني الباغية منهما.(1) وكان هذا الحديث الذي عرفت به الفئة الباغية حديثاً متواتراً ومن أصح الحديث، وحين لم يقدر معاوية على إنكار هذا الحديث قال: إنما قتله من أخرجه، وقد أجاب علي (ع) عن قول معاوية هذا بأن قال: «فرسول الله (ص) إذاً قتل حمزة حين أخرجه».(2)

وهذا ما حدث بالفعل، فقد بغى معاوية بن أبي سفيان وجنده على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، فكانت وقعة عظيمة بينهما في صفين وقف فيها عمار وكان معه ثمانون بدرياً، ومائة وخمسون ممّن بايع تحت الشجرة، وجمع كبير من القراء، وكان مجموع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة.(3) وراح ضحيتها الآلاف، وكان بينهم الكثير من الصحابة والتابعين، الذين استشهدوا دفاعاً عن الحقّ ورايته التي يحملها عمار.

وهنا لابدّ لنا من وقفة قصيرة، فنقول: لقد كانت معركة صفين أمراً لابدّ من وقوعه، فهو النتيجة الطبيعة للصراع بين الإسلام الحقيقي ووارثيه، والإسلام الآخر المحرّف ووارثيه أيضاً; وهي بالتالي لا تختلف ولا تقل أهمية وخطورة عن معارك الإسلام الكبرى بدر وأحد والخندق وحنين... ضد الشرك والمشركين، وهذا ما طواه عمار بكلمته المشهورة: أيها الناس هل من رائح إلى الله تحت العوالي (الرماح)؟ والذي نفسي بيده، لنقاتلهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله؛ وأكّد هذا وهو يشقّ طريقه مقاتلاً بين الصفوف في صفين وهو يقول:


1- مختصر تاريخ دمشق 18 : 218؛ المذقة : الطائفة من اللبن الممزوج بالماء، أنظر اللسان: مذق.
2- الروض المعطار في خبر الأقطار، للحميري : 363 _ 364.
3- البداية والنهاية 7 : 255؛ والمستدرك للحاكم 3 : 104.

ص: 174

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحقّ إلى سبيله.(1)

وهذا ما يبين لنا تأكيد النبي (ص) أنّ عماراً تقتله الفئة الباغية، واعادته لهذه العبارة في كثير من المناسبات: إذا رأى عماراً قالها له، وإذا مرض عمار وظن زائروه أنه ميت قالها رسول الله، إذا اشتكى عمار من ألم أو من شيء آخر أعادها رسول الله عليه؛ وكان (ص) يحرص أن يُسمع قولَه هذا الآخرين، ولم يكتف (ص) بهذا بل كان يصرح ويبين هدف القتال الذي سيقع قطعاً، وهذا الهدف متمثل بقوله عن عمار: ... يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. وأنّه ستقتلك الفئة الباغية وأنت مع الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني.(2) وأن آخر شراب له ضَياح لبن.

كلّ هذا وغيره ليدلهم (ص) على الحق المبين في وقت قد تلتبس الأمور فيحلّ الغموض بدل الوضوح، وتقع الفتنة ويتيه بعض ويضطرب آخرون، فأشار إلى الرمز وإلى الدليل، إنه عمار بن ياسر وإنه بالتالي عليّ بن أبي طالب «يا عمار إن رأيت علياً سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلك على ردى ولن يخرجك من الهدى».

لقد كان عمار الميزان، وكان الحجة الأخيرة على المخالفين والمناوئين «الناكثين والمارقين والقاسطين» الذين أعماهم حقدهم وبغضهم لعلي (ع) عن أن يروا الحقّ الناصع، والهدى المبين فيه ومن خلاله.

وأخيراً وقعت معركة صفين، ووقف عمار خطيباً: أللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت، أللهم إنك تعلم أني لو أعلم رضاك في أن أضع ظُبة سيفي في صدري، ثم أنحني عليه حتى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم


1- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2 : 810 ؛ ومروج الذهب 2 : 422.
2- كنز العمال 11 : 351.

ص: 175

اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أنّ عملا من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته.(1) وبدأ القتال وتحدثت الأخبار:

أنّ عماراً كان صائماً، وقد غربت الشمس فأُتي بلبن فشربه، ثم قال : إنّ النبيَّ (ص) قال: «هذه آخر شربة أشربها من الدنيا، أو آخر زادك من الدنيا ضياح لبن»؛ فقام فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه.

وعن أبي سنان الدؤلي صاحب رسول الله (ص) قال: رأيتُ عمار بن ياسر دعا بشراب، فأتي بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال: صدق رسول الله (ص) ، واليوم ألقى الأحبة محمداً وصحبه.

إنّ رسول الله (ص) قال : «إنّ آخر شيء تزوده من الدنيا ضيحة لبن» ثم قال مبيناً يقينه بأنه _ قطعاً _ على الحق المبين، وأنّ خصمه على الباطل، أنظره يقول: والله لو هزمونا حتى يبلغونا سعفات هجر، لعلمنا أنا على حق وهم على باطل؛ ولأنه راية الحق والهدى ترى أصحاب رسول الله (ص) في معركة صفين يتبعونه في كلّ مكان يتواجد فيه من ساحة القتال، وهو ينادي: أين مَن يبغي رضوان ربّه، ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟

وفي رواية اُخرى: في يوم من أيام صفين _ التي وقعت _ على قول _ من أول ذي الحجة سنة 36، وانتهت في 13 صفر سنة 37، وعلى قول الطبري كان وصول الإمام علي (ع) وجنده إلى صفين في أواسط ذي القعدة سنة 36 أو في العشرين منه، وعلى رواية المسعودي أنّ مقامهم بصفين كان مائة يوم وعشرة أيام، كان فيها نحو تسعين أو سبعين وقعة _ رجع عمار إلى موضعه من المعركة فاستسقى، فأتته امرأة من بني شيبان من مصاخهم بعس فيه لبن. فدفعته إليه، وروي أنّ الذي سقاه أبو المخاريق،(2) فقال: الله أكبر، الله أكبر، اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنة، صدق الصادق.

وبذلك أخبرني الناطق، وهو اليوم الذي وعدتُ فيه، ثم قال: أيها الناس هل من رائح


1- الكامل 3 : 157؛ البداية والنهاية 7 : 267،292؛ الطبري 6 : 21.
2- الطبري؛ الزوائد 7 : 243.

ص: 176

إلى الله تحت العوالي (الرماح)، والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله، وفي قول أنه نادى إني لقيتُ الخيار وتزوجت الحور العين؛ اليوم نلقى محمداً وحزبه؛ وانطلق يجول في ساحة المعركة وهو يقول:

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحقّ إلى سبيله

على مقربة من عمّار، وقف أبوالغادية، وهو من جيش معاوية، يستحضر موقف عمار من الخلافة الثالثة _ فقد كان له موقف يتسم بالقوة والصلابة من هذه الخلافة، التي لم تقض ِ بالحقّ، ولم يكن صاحبها ولا ذوو قرباه من الذين يعدلون، وكانت خيمةً انضوى تحتها أعداء الدين، ورتع فيها المنافقون؛ كلّ هذا دفع عماراً لهذا الموقف الذي يقول عنه ابن كثير: «كان عمار يحرض الناس على عثمان ولم يقلع ولم يرجع ولم ينزع...».(1) _ وراح أبوالغادية يراقب عماراً، فلعلّ فرصة تحدث ليتمكن منه ويداهمه فيقتله. وكان عمار ينادي صاحبه هاشم بن عتبة: يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين؛ اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه.(2)

يقول أبوالغادية: فلما كان يوم صفين، جعل عمار يحمل على الناس؛ فقيل: هذا عمار، فرأيتُ فرجة بين الرئتين وبين الساقين. فحملتُ عليه فطعنته في ركبته، فوقع فقتلته.(3) وفي رواية اُخرى : فاختلفت أنا وهو ضربتين، فبدرته فضربته، فكبا لوجهه ثم قتلته.(4)

ولما قتل رضوان الله عليه اختصم في قتله اثنان، فقال عمرو بن العاص: والله، إن يختصمان إلاّ في النار، والله، لوددتُ أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة.(5)


1- البداية والنهاية 7 : 171.
2- الطبري 6 : 23.
3- الطبقات، لابن سعد 3 : 261.
4- الزوائد 9 : 298.
5- أحاديث أم المؤمنين عائشة: 117 .

ص: 177

وقد صلى عليه الإمام علي (ع) ودفن في صفين؛ وقد نسب إلى الإمام علي (ع) بعد استشهاد عمار رضوان الله عليه، قوله:

أَلا أيّها الموتُ الذي ليس تاركي

أرحني فقد أفنيتَ كلَّ خليل

أراك مضرّاً بالذين أحبُّهم

كأنَّك تنحو نحوهم بدليل(1)

كان ذلك في سنة 37ه_ عن عمر ناهز الثلاث والتسعين سنة.

فسلام عليك يا أبا اليقظان في العالمين


1- ديوان الإمام علي (ع) : 125، تحقيق الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي.

ص: 178

ص: 179

(9) اُمُّ سلمة

اشارة

(وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)

حسن الحاج

إنّ الكتابة عن اُمّ المؤمنين اُمّ سلمة وحياتها المضيئة، كتابة عن أطهر بيت عرفته الدُّنيا، وأعظم مكان صنعته السماء وباركته، وكيف لا يكون كذلك، وقد رعته يدُ الغيب; ليكون مبعث الطهر كلّه ونبع الخير كلّه، ومصدر العطاء كلّه، ومشعلاً للهداية، ومدرسةً للخُلق الكريم، والأدب الرفيع، وقدوةً ورحمةً للعالمين.

لقد كان هذا البيت مأوى الرسالة ومهبط الوحي، ومنزل القرآن ومبعث النور، الذي حمله صاحب هذا البيت رسول الله (ص) الذي وصفه الله تعالى في كتابه الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍٍ) فكان هذا الخُلق يواكب البيت الأوّل للدين الجديد، وصارت عفته محطّ إعجاب مَنْ حوله، وصار القدوة لهم والأسوة الحسنة، قربوا أم بعدوا عنه.

ولما يتركه من آثار خطيرة _ إذا ماعصفت حوله المغريات على مسيرة الرسالة والرساليين، تولته السماء، وراحت تُرسل آياتها الكريمة مبينة أهمية هذا البيت ومرشدة

ص: 180

نساءه إلى مكانتهنّ ودورهنّ الرسالي ووظيفتهنّ.

وفي الوقت الذي ضاعفت السماء العذاب لمن تأتي منهنّ بفاحشة، جعلت الأجر مرّتين لعملهنّ الصالح; لخطورة تواجدهنّ في هذا البيت وأنّهنّ القدوة، التي يجب أن تكون صالحة، والاُسوة التي يجب أن تتحلّى بأرقى درجات الإيمان والخلق الكريم:(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ)، (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً).(1)

ثمّ راحت السماء تبيّن مكانتهنّ، وخطورتهم وتكاليفهن ما دامت قد ارتبطت حياتهنّ بهذا البيت الكريم نساءً لرسول الله (ص) : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...).(2) وكان لابدّ لهذا الطهر ولتلكَ العفة من ستر فكان الحجاب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ...).(3)

لقد كانت اُمُّ سلمة أوّل نساء هذا البيت _ بعد اُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد (عليها السلام) _ وعياً لدورها الرسالي، كما كانت أكثر نساء النبي التزاماً بهذا كلّه، وأسرعهنّ طاعة لله ورسوله، وعاشت حياتها الإيمانية ومسؤوليتها الرسالية، ووظيفتها الشرعية على أكمل وجه، حتّى وفّقت لأن تكون أفضل نسائه (ص) وأصدقهنّ، وأخلصهنّ في تحمّل أمانة هذا البيت الكريم ورسالته، بعد أن قُدر لها أن تكون من نسائه (ص) وعاشت في كنفه، وظلّت في بيته كأتقى نسائه، وأفضلهنّ بعد خديجة (عليها السلام) طهارةً وعفّةً وإيماناً وجهاداً وعلماً؛ فقد راحت تتغذى من علمه (ص) وأدبه وسنّته، وتستقي من مصدر الوحي الذي مافارق منزلها، وبرزت اُمّاً للمؤمنين بنصّ القرآن الكريم، وهو وسام منحته السماء، وحفظت أمُّ سلمة ذلك،


1- سورة الأحزاب : 31.
2- المصدر نفسه: 32 _ 33.
3- المصدر نفسه: 59.

ص: 181

ورعته، ووعته مسؤوليةً كُبرى، وراحت تكثر الشكرلله تعالى على هذه النعمة، مما جعلها مثلاً أعلى في إيمانها وعبادتها وورعها، فنالت بذلكَ حبّ الله تعالى، وحبّ رسوله (ص) وأهل بيته الطيبين، والمؤمنين جميعاً على مرّ الأجيال.

لقد كانت أمّ سلمة ترى هذه الأمومة تكليفاً عظيماً، ومسؤولية كبيرة، لها حقوقها، وعليها واجبات كثيرة لا بدّ من رعايتها، فكانت بحقّ أمّاً للمؤمنين بحنانها، وشفقتها، ورعايتها لهم، واهتمامها بهم، وخوفها عليهم، وحرصها لهم.

لقد كانت _ وكما عودتنا في حياتها المباركة _ المبادرة إلى كلّ مايرضي الله تعالى ورسوله، ولم تتطاول عليه (ص) أبداً طيلة حياتها معه، كما تطاولت عليه بعضُ نسائه، وكان هذا سبباً لأذيته (ص) فحينما رأى رسول الله (ص) أنّ بعض نسائه كنّ يخلقن لهُ المتاعب، ومطالبتهنّ بالنفقة والزينة، حتى ورد قول بعضهنّ لهُ: لعلّك ترى أنّك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجوننا؛ وهذا الموقف دفع رسول الله (ص) إلى أن يعتزلهنّ تسعة وعشرين يوماً، فكان موقفهنّ هذا سبباً لنزول آية التخيير: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).(1)

فبادرت هنا أمُّ سلمة قائلةً: قد اخترتُ الله ورسوله، فنالت بذلكَ سبق الاختيار هذا، وفضله وأجره، ثمّ قامت بعدها بقية نسائه (ص) فعانقنه، وقلنَ مثل الذي قالت أمُّ سلمة، ولم تتخلف عن هذا إلاّ واحدة وهي فاطمة بنت الضحّاك، فإنّها اختارت الدّنيا، ففارقها رسول الله (ص) وبقيت في شقاء طول حياتها.(2)

في بيت كريم

هند (وقيل رملة وهو ضعيف) بنت سهيل، أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمربن


1- سورة الأحزاب : 28 _ 29.
2- البحار 22 : 204 ؛ الميزان في تفسير الآية.

ص: 182

مخزوم القرشية، وكان أبوها جواداً كريماً سخياً، عرف بذلكَ في الجاهلية ولقبته العرب بزاد الركب، حين كان هذا اللقب لا يُطلق إلاّ على ثلاثة أو أربعة أشخاص، راحت الأمثال تضرب بجودهم، وسارت بذلكَ الركبان، كان هو أحدهم.

فإذا ماكان أحدهم في سفر فإنّ رفقاء سفره مهما كثروا يتحمّل عنهم زادهم وطعامهم طيلة الرحلة التي جمعتهم، ويرفض أن يحمل رفقاؤه شيئاً من ذلكَ؛ قال صاحب لسان العرب في مادة زود.(1)

وأزواد الركب من قريش أبوأمية بن المغيرة، والأسود بن المطلب بن أسد ابن عبدالعزى، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وكانوا إذا سافروا، فخرج معهم الناس، فلم يتخذوا زاداً معهم، ولم يوقدوا، يكفونهم ويغنونهم؛ وهناك من يقول: إنهم أربعة، فأضاف زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد.(2)

أمّا أمّها، فهي عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن جذيمة، أو خذيمة بن علقمة الكنانية، من قبائل بني فراس الأشراف الأمجاد؛ وعلقمة جدّها كان يلقب بجذل الطعان، وذكرته كتب التأريخ بأنه رجل كريم يعطي ولا يبخل، يجود ولا يمنع.

وهناك من يقول: إنّ أمّها هي عاتكة بنت عبدالمطلب بن عبد مناف عمّة رسول الله (ص).

وقال آخر: إنّها ليست بنت عاتكة هذه وإنمّا هي بنت زوجها.

وعلى فرض كونها بنتاً لعاتكة بنت عبدالمطلب، أو بنتاً لزوج عاتكة، فهي اُخت لكلّ من عبدالله وزهير ابني عمة رسول الله (ص).

كما أنّها اُخت لعمار بن ياسر الصحابي الجليل من الرضاعة، وكانت قد تزوجت أخاً لرسول الله (ص) من الرضاعة أرضعتهما ثويبة، مولاة أبي لهب وترباً له، وابن عمته برّة بنت عبدالمطلب، وأحد أشراف بني مخزوم رأياً وشجاعةً وكرماً وجوداً، من المسلمين الأوائل وممن هاجر الهجرتين، وهو أبوسلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمربن


1- ابن منظور في لسان العرب 4 : 181 ، وغيره من مصادر التاريخ.
2- ذكر ذلك في الهامش صاحب كتاب نساء أهل البيت عن المحبر: 137 وعن المنمق: 368 _ 369.

ص: 183

مخزوم، وكان ذاك قبل أن يمنّ الله تعالى عليها لتكون أمّاً للمؤمنين بنصّ القرآن الكريم، بعد أن تلطّف الله تعالى عليها لتكون زوجة لحبيبه رسول الله (ص) .

وكانت _ كما يقول الذهبي _ من أجمل النساء، وأشرفهنّ نسباً.

قالت أمُّ المؤمنين عائشة _ عن جمال أمّ سلمة _ : «لمّا تزوّج رسول الله (ص) «أمّ سلمة» حزنتُ حزناً شديداً لما ذكر لنا من جمالها، فتلطفتُ حتى رأيتها، فرأيتُ أضعاف ماوُصفت به».

إذن، فكلّ من أصلها العريق، ومنبتها الكريم، أضفى على حياتها صفات عظيمة وخلقاً كريماً، واكبها طيلة حياتها المباركة، وميّزها عن غيرها من النساء.

يقول عنها أحمد خليل جمعة في موسوعته القيمة «نساء أهل البيت»: لو ألقينا الأضواء على حياة اُمّ سلمة قبيل الإسلام; لألفينا أنّها امرأة ذات شرف وطهر في أهلها، وذات نسب مُعر ِق ٍ في المعالي، ومنبت كريم حسيب في قومها بني مخزوم، ثمّ هي بعد ذلكَ كلّه، ابنة واحد من كرماء قريش، وأنداهم كفّاً، وأجودهم عطاءً، فأبوها زاد الركب أحد الأجواد الذين سارت الأمثال والركبان بالحديث عن جودهم، فكانوا إذا سافروا، وخرجَ معهم الناس، لم يتخذوا زاداً معهم، ولم يوقدوا ناراً لهم، فيكفونهم ويغنونهم.

ولا ريب أنّ هند بنت أبي اُميّة، قد تأثرت بهذه البيئة الكريمة، التي عاشتها في مطلع فجر حياتها، وأرت مارأت من مكانة أبيها، وكرامته وكرمه بين الناس، فلا عجب أن تكون هي الاُخرى، ذات يد معطاء، ونفس صافية، تعرف مكامنَ الرحمة، فتفجّر البّر في نفوس الناس تفجيراً.(1)

إسلامها وهجرتها

في بداية نور الإسلام ورغم عناد الوليد بن المغيرة، زعيم بني مخزوم، أسلمت أمُّ سلمة وزوجُها، وبعد ما ثارت حفيظة مشركي مكة، وعظم غيضهم، واشتد أذاهم للمسلمين، هاجرت معه إلى الحبشة فكانا أوّل المهاجرين، فنالت بذلكَ وسام أولى المهاجرات.


1- أحمد خليل جمعة _ نساء أهل البيت: 225 _ 226.

ص: 184

يقول النووي في تهذيبه نقلاً عن ابن الأثير: أوّل مهاجرة من النساء اُمُّ سلمة.(1) وماإن عادت وزوجها إلى مكّة من الحبشة، مكان هجرتها الأولى، حتى استعدا للهجرة مرّة اُخرى إلى المدينة، بعد أن توفي أبوطالب عمّ رسول الله (ص) وحاميه، فعادت بذلكَ قريش إلى اضطهاد المسلمين، فصدر أمر رسول الله (ص) بالهجرة إلى المدينة، فكان زوجها أبوسلمة أوّل المهاجرين حيث هاجر قبل بيعة العقبة بسنة، وقد حلّت مصيبة مؤلمة بهذه الاُسرة الكريمة.

تقول الرواية عن اُمّ سلمة:

قالت: لما أجمع أبوسلمة على الخروج الأوّل إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثمّ حملني عليه وحمل معي ابني سلمة في حجري، ثمّ خرجَ يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسكَ غلبتنا عليها، أرأيتَ صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، وغضب عند ذلك بنو عبدأسد، رهط أبي سلمة، قالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو أسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلقَ زوجي أبوسلمة إلى المدينة، ففرقَ بيني وبين زوجي وبين ابني.

فكنتُ أخرج كلّ غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمّي أحد بني المغيرة، فرأى مابي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تحرجون من هذهِ المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها؟ فقالوا لي: ألحقي بزوجك إن شئتِ، وردّ بنو عبدالأسد عند ذلك ابني.

فارتحلتُ بعيري، ثمّ أخذتُ ابني فوضعته في حجري، ثمّ خرجتُ اُريد زوجي بالمدينة، ومامعي أحد من خلق الله، حتى إذا كنت بالتنعيم، لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ]وكان مشركاً[ أخا بني عبدالدار، فقال: إلى أين يابنت أبي اُميّة؟

قالت: فقلتُ: أريد زوجي بالمدينة.


1- تهذيب النووي 2 : 362.

ص: 185

قال: أوما معك أحد؟

فقلتُ: لا والله إلاّ الله وابني هذا.

قال: والله مالك من مترك.

فأخذ خطام البعير، فانطلقَ يهوي بي، فوالله ماصحبتُ رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرمَ منه، حتى أقدمني المدينة.

فلما نظر إلى قرية بني عامر بن عوف بقباء قال: زوجك في هذهِ القرية _ وكان أبوسلمة بها نازلاً_ فأدخليها على بركة الله؛ ثمّ انصرف راجعاً إلى مكّة.

وهنا كانت تقول أمُّ سلمة: والله ما أعلمُ أهل بيت في الإسلام أصابهم ماأصاب آل أبي سلمة، ومارأيتُ صاحباً قطّ أكرم من عثمان بن طلحة؛ وهناك رواية أخرى تحمل كلاماً آخر لها تقول فيه:

«فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه، ولا أشرف منه، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري، ثم يستأخر عني، حتى إذا نزلت عن ظهره واستويت على الأرض، دنا إليه وحطّ عنه رحله، واقتاده إلى شجرة وقيده فيها، ثم يتنحى عني إلى شجرة أخرى فيستريح جوارها، فإذا حان الرواح، قام إلى بعيري، فإذا ركبت، أخذ خطامه وقاده»؛ (وقد أسلمَ في الحديبية وهاجر إلى المدينة، ثم شهد فتح مكّة، وتسلمّ مفتاح الكعبة من رسول الله (ص) هذا عن هجرتها إلى المدينة.

أمّا عن هجرتها الاُولى إلى الحبشة، وكانت برفقة زوجها أبي سلمة، فقد تفرّدت روايتها عن تلك الهجرة بدقة وصفها لها، وللدور العظيم الذي أدّاه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه؛ تقول رواية اُمّ سلمة التي اتسمت بقوة بيانها وفصاحتها، ودقة تصويرها لأحداثها، حتى عدّت روايتها للهجرة من أوثق مصادر الهجرة.

تقول روايتها:

لما ضاقت على النبي (ص) مكّة، وأوذي أصحابه، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأنّ رسول الله (ص) لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله (ص) في منعة

ص: 186

من قومه ومن عمّه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله (ص) : «إنّ بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه».

فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخيردار إلى خيرجار، أمناً على ديننا، ولم نخش ظلماً.

فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً، اجتمعوا على أن يبعثوا إليه فينا; ليخرجنا من بلاده، وليردنا عليهم؛ فبعثوا عمروبن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يَدَعُوا منهم رجلاً إلاّ بعثوا له هدية على حِدَة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثمّ ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.

أقول: كانت تخشى قريش أن ينطلق الحقّ من لسانهم ووقع الذي كانت تخشاه.

فقدما علينا، فلم يبق بطريق من بطارقته إلاّ قدّموا إليه هديته، فكلموه، فقالوا له: إنّا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثَنا قومُهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل؛ فقالوا: نفعل، ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، فكان من أحبّ ما يهدى إليه من مكّة الأَدَم؛ فلما أدخلوا عليه هداياه، فقالوا له: أيها الملك إنّ فتية منا سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لانعرفه، وقد لَجأُوا إلى بلادك، فبَعَثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عيناً.(1)

فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم وكانوا هم أعلى بهم، فإنهم لم يدخلوا في دينك فيمنعهم أملك.

فغضب، ثمّ قال: لا، لعمرالله، لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم، وأنظر ما أمرهم، قوم لَجأُوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما تقولون رددتهم


1- وأعلى بهم عيناً، أي أبصر بهم، وأعلم بحالهم. اللسان: علا.

ص: 187

عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عيناً فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم _ ولم يكن شيء أبغض إلى عمروبن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم _ فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقال: ماذا تقولون؟ فقالوا: ماذا نقول؟! نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا (ص) كائن من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفربن أبي طالب، فقال له النجاشي:

ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية، ولانصرانية، فما هذا الدين؟

أيها الملك كنّا قوماً على الشرك، نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحلّ المحارم وغيرها، لا نحلّ شيئاً ولا نحرّمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءَه وصدقَه وأمانتَه، فدعانا إلى أن نعبدالله وحده لاشريك له، ونصلَ الرحم، ونُحسِنَ الجوار، ونصلّي لله تعالى، ونصوم له، ولا نعبد غيره.

فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال له جعفر: نعم، فقال: هلمّ فاتلُ عليَّ ما جاء به؛ فقرأ عليه صدراً من (ك_هيعص) فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم.

ثم قال: إنّ هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى; انطلقوا راشدين، لا، والله لا أردهم عليهم، ولا أنعمكم عيناً، فخرجنا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبدالله بن أبي ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لأثنينه غداً بما أستأصل به خضراءهم؛(1) فلأخبرنه أنهم يزعمون أنّ إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد.

فقال له عبدالله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإنهم إن كانوا خالفونا فإنّ لهم رحماً ولهم حقاً، فقال: والله لأفعلن، فلما كان الغد دخل عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم، ولم ينزل بنا مثلها؛ فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟


1- خضراءهم : شجرتهم التي منها تفرعوا.

ص: 188

فقالوا: نقول والله الذي قاله الله تعالى، والذي أمرنا به نبينا (ص) أن نقول فيه؛ فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

نقول: هو عبدُالله ورسوله وكلمتهُ وروحهُ ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عوداً بين أصبعيه، فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العويد،(1) فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله، اِذهبوا، فأنتم شيوم في أرضي _ والشيوم: الآمنون _ مَن سبّكم غرم، ثمّ من سبّكم غرم، ثمّ مَنْ سبّكم غرم، فأنا ما أحب أن لي دَبْراً وأني آذيتُ رجلاً منكم _ والدبر بلسانهم: الذهب _ فوالله ما أخذ الله تعالى مني الرشوة حين ردّ علي ملكي فآخذ الرشوة منه، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة إلي بها، وأخرجا من بلادي؛ فرجعا مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به؛ فأقمنا مع خير جار، وفي خير دار.

فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزناً حزنّا قط كان أشدّ منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لايعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه؛ فوالله ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثمّ أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعاً إلى مكة، وأقام من أقام.(2)

وأخيراً عادت اُمّ سلمة وزوجها ومعهما أولادهما (زينب وسلمة وعمر ودرة) الذين ولدوا هناك _ على قول _ في دار هجرتها الحبشة، عادوا جميعاً إلى مكّة، وكانت عودة المهاجرين إلى مكّة إمّا خفاءً أو بجوار أحد من وجوه مكّة بعد أن وردتهم أخبار بأنّ أهل مكة قد أعلنوا إسلامهم وآمنوا برسالة محمد (ص) فلما وصلوا مكة عرفوا أن لا صحة لما سمعوا، فدخلوها متخفين أو لائذين بوجه من وجوه أهل مكة، فدخلت أم سلمة وزوجها في جوار أبي طالب بن عبدالمطلب وهو خاله.


1- العويد : أي مقدار هذا العود الصغير.
2- مختصر تاريخ دمشق 6 :63،64،65.

ص: 189

وهناك من يقول: إنها وزوجها هاجرت هجرتين إلى الحبشة: الأولى في رجب سنة خمس من المبعث، والثانية بعدها بعدّة شهور بعد أن رجع المسلمون المهاجرون ظانين إسلام قريش، فاشتد أذى قريش لهم، فأذن لهم الرسول (ص) بالهجرة مرة ثانية.(1)

رحيل «أبو سلمة»

كان صحابياً مجاهداً هاجر الهجرتين، وشهد بدراً وقد أبلى فيها بلاءً حسناً، وبعدها شهد اُحداً فلم يقل بلاؤهُ فيها عن بدر، حتى ثخن بالجراح، فشفي منها إلاّ جرح كان غائراً في عضده اندمل ظاهره دون باطنه، ومع هذا فقد استعمله رسول الله (ص) على المدينة مرّةً، ومرّة اُخرى قاد بأمر رسول الله (ص) سرية، ومعه مائة وخمسون رجلاً إلى قطن وهو جبل لبني أسد في نجد.

نترك ابنه عمر يشرح لنا كلّ ذلك حيث قال: خرج أبي إلى أحد فرماه أبوسلمة الجشمي في عضده بسهم فمكث شهراً يداوى من جرحه ثم برئ الجرح؛ وبعث رسول الله (ص) أبي إلى قطن (وهي جبل من أرض بني أسد ناحية فيد وفي الطبقات: بَيْد.(2)) في المحرم، على رأس خمسة وثلاثين شهراً، فغاب تسعاً وعشرين ليلة ثم رجع؛ فدخل المدينة لثمان خلون من صفر سنة أربع؛ والجرح منتقض، فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة.(3)

لقد كان الهدف من غزوة أبي سلمة هو منع بني أسد من الهجوم على المسلمين في المدينة، بعد أن بلغه _ أي بلغ رسول الله (ص) _ أنّ قائدي بني أسد يحرضان قومهما لغزو المدينة ونهب أموال المسلمين فيها؛(4) فكان لحملته دور كبير في إعادة ماخسره المسلمون في


1- طبقات ابن سعد 1 : 203 _ 207.
2- معجم البلدان 4 : 374.
3- الطبقات 8 : 87 _ 88.
4- غزوات الرسول، لمحمود شيت خطاب.

ص: 190

اُحد من معنويات، بعد أن نالت النصر على أعدائهم.

وراح هذا الصحابي الجليل يواصل جهاده في الوقت الذي لم يندمل جرحه الذي راح هو الآخر يتسع، مما دفع أبوسلمة إلى أن يلازم فراشه.

مما أنعمَ به الله تعالى على هذا المجاهد أن يكون رسول الله (ص) وهو أخوه من الرضاعة وابن عمته وحبيبه حاضراً لحظات حياته الأخيرة، يودعه ويسبل يديه ويغلق عينيه ويدعو له: «أللهُمّ اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين».

ثمّ صلّى عليه؛ ويروى أنّ الرسول (ص) كبّر في هذه الصلاة تسع تكبيرات، ولمّا انتهى من الصلاة سأله أصحابه عن ذلك فقال: لو كبرتُ على أبي سلمة ألفاً لكان أهلاً لذلك.

الزواج المبارك

رحل عنها أبوسلمة، وتركها ذات عيال، أربعة أولاد: سلمة وقد وُلِدَ بالحبشة، وعمر، ودرة، (رقية) وبرة، وقد غيّر اسمها رسول الله (ص) إلى زينب، قائلاً: «لا تزكوا أنفسكم، الله أعلمُ بأهل البر منك (منكم)، سموها زينب».

وقد كبر سنّها، وراحت _ مع كلّ آلامها على زوجها، الذي ماجفّت دموعها لفقده، فقد كانت تحبّه حبّاً عظيماً _ ترعى صغارها، وتتذكر ماكان يوصيها به أبوسلمة في مرضه الذي توفي فيه، عبر حوار دار بين الاثنين، أحدهما كان مسجّى، والآخر يذرفُ دموعه بألم وحرقة ومرارة.

قالت امُّ سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنّة، ثمّ لم تتزوج بعده إلاّ جمع الله بينهما في الجنّة، وكذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها؛ فتعال اعاهدك على ألاّ تتزوج بعدي، ولا أتزوج بعدك.

قال أبوسلمة: أ تطيعينني؟

قلت: ما استأمرتك إلاّ وأنا أريد أن أطيعك.

قال: فإن متُّ فتزوجي بعدي، ثمّ قال: أللهُمّ ارزق اُمَّ سلمة بعدي رجلاً خيراً مني

ص: 191

لا يُحزنها ولا يؤذيها.(1)

وإني لأذكر ماكان يقوله أبوسلمة ويدعو به، وهو ماتعلمهُ من رسول الله (ص) : «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهُمّ عندكَ أحتسب مصيبتي، فأجرني فيها، وأبدلني بها ماهو خير منها».

وتقول اُمُّ سلمة: لما احتضر أبوسلمة قال: أللهُمّ اخلفني في أهلي بخير؛ فلما قبض قلتُ: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أللهُمّ أحتسب عندكَ مصيبتي؛ وأردت أن أقول (وهنا توقفت اُمُّ سلمة قليلاً قبل أن تقول): وأبدلني بها خيراً منها، فقلت: ومن خير من أبي سلمة؟!

وفي رواية أنّها قالت: من هذا الفتى الذي هو خيرٌ من أبي سلمة؟ وفي اُخرى قالت: أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله؟!

قالت: فما زلتُ حتى قلتها.(2)

وهي في هذا الحال _ وبعد أن انتهت عدّتها _ تقدّم لخطبتها بعض كبار الصحابة: أبوبكر، فلم توافق عليه، وجاءها خاطباً عمربن الخطاب وهو من أرحامها، يلتقي نسبه ونسبها في كعب، فعمر بن نفيل بن عبد العزى... بن عدي ابن كعب؛ وأمّا أمُّ سلمة فهي بنت أبي اُميّة... بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب؛ في حين وجدتُ أنّ موسوعة أمّهات المؤمنين قد ذكرت أنّ في زاد المعاد في1 :41 أنّ أمّ سلمة خالة عمربن الخطاب، فاُمّه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، وأمُّ سلمة بنت سهيل بن المغيرة.

أقول: إنها هنا _ وبحسب ما ذكره _ ابنة عمّ أمّه وليست خالته، ولهذا تقدّم لخطبتها فردّته بقوة.(3)

أرسل لها رسول الله (ص) من يبلغها برغبته في الزواج منها؛ تقول: أرسل لي رسول الله (ص) حاطب بن أبي بلتعة يخطبني لهُ؛ فقلتُ: مرحباً برسول الله وبرسوله. أخبر


1- الطبقات 8 : 87 _ 88 .
2- المصدر نفسه 8 : 78 .
3- موسوعة أمهات المؤمنين، هامش : 143.

ص: 192

رسول الله أني فيّ خلال، لا ينبغي لي أن أتزوّج رسول الله؛ وراحت بكلّ أدب وحياء وعفّة تبيِّن لهُ هذه الصفات؛ وهي: أني أمرأة مُصبية، أي ذات أولاد؛ وأني غَيْرى؛ وأنه ليس أحد من أوليائي شاهداً، وأنا امرأة قد دخلت في السن.

فبعثَ لها رسول الله (ص) : «أمّا قولك: إني مُصبية، فإنّ الله سيكفيك صبيانك؛

وأمّا قولك: إني غيرى، فسأدعو الله أن يُذهبَ عنك غيرتَك؛ وأمّا الأولياء، فليس أحد منهم، شاهد أو غائب، إلاّ سيرضاني؛(1) وأمّا ماذكرتِ من السن، فقد أصابني مثل الذي أصابك».

فتزوجها رسول الله (ص) في السنة الرابعة، وقيل الثالثة، في العشرالأواخر من شهر شوال، وقد زوّجه إيّاها سلمة بن أبي سلمة ابنها، وأصدقها رسول الله (ص) فِراشاً حشوه ليف، وخدماً وصَحفَةً ومِجَشةً.(2)

وبذلكَ صارت أمُّ سلمة زوجة لرسول الله (ص) وولجت بيته المبارك، وكانت غرفتها غرفة أمّ المؤمنين زينب بنت خزيمة، التي توفيت في أوّل العام الرابع للهجرة، وهي أول من توفي من نسائه اللاتي كنّ عنده بعد أمّ المؤمنين خديجة.

وفي أوّل يوم زواجها أخذت أمّ سلمة تتفحص حجرتها; لتعرف مابها، قالت: فإذا جرة فاطلعت فيها، فإذا فيها شيء من شعير، وإذا برحى، وبرمة، وقدر، فنظرتُ فإذا فيها كعب من إهالة، فأخذت ذلك الشعير وطحنته، ثمّ عصدته في البرمة، وأخذت الكعب من الإهالة فأدمت به، فكان ذلك طعام رسول الله، وطعام أهله ليلة عرسه.(3)

وكانت المكافأة التي قدّمها رسول الله (ص) لسلمة على ماقدمه هذا الأخير في زواج اُمّه من رسول الله (ص) أن زوّجه رسولُ الله (ص) أمامةَ بنت حمزة سيدالشهداء، وأقبل (ص) على أصحابه قائلاً: ترون كافأته؟


1- الطبقات 8 : 87.
2- السيرة النبوية لابن هشام 4 : 645؛ المجشة: الرحى، يُقال: جششتُ الطعام في الرحى، إذا طحنته طحناً غليظاً، ومنه الجشيش والجشيشة.
3- الطبقات 8 : 92.

ص: 193

حبّها للجهاد

لم يكلف الإسلام المرأة بالقتال وجنّبها إياه، وإن تحمّلت أعباءَه وآثاره، فقد كانت المرأة المسلمة تبادر إلى الخطوط الخلفية للمعارك وحتى الأمامية أحياناً، لتضميد الجرحى ومداواتهم، وتجهيز المقاتلين بما يحتاجون إليه، من ماء، وطعام، وعدّة، وسداد.

واُمُّ المؤمنين اُمُّ سلمة كانت واحدة من اللواتي قمن بدورهنّ هذا، ونالت شرف الجهاد والمجاهدين، بعد أن صحبت رسول الله (ص) في غزواته ومعاركه في غزوة المريسيع، وفي فتح خيبر، وفي حصاره للطائف، وغزوة هوازن، وثقيف، كما أنّها رافقته في رحلته الاُولى إلى مكّة، حيث تمّ صلح الحديبية.

طالما تمنت هذه المرأة مع غيرها من المؤمنات أن يكلّفهنّ الله سبحانه وتعالى بالجهاد إلى جنب إخوانهنّ من المؤمنين طمعاً في أجره العظيم وثوابه الجزيل وشرفه الكبير في الدُّنيا والآخرة فقلن: «ليتَ الله كتب علينا الجهاد، كما كتب على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل مالهم».

فكان قولهنّ هذا وأمنيتهنّ سبباً في نزول الآية الكريمة: (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ).(1)

منزلها مهبط الوحي

كانت حجرتها مهبط الوحي، فقد وردَ أنّ من مكارمها أنها رأت جبرئيل (ع) وهو في صورة دحية الكلبي، فقد ورد عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضوان الله عليه حيث قال: «اُنبئتُ أنّ جبرئيل (ع) أتى النبيَّ (ص) وهو عند اُمّ سلمة، فجعل يتحدّث، ثمّ قام، فقال النبيّ (ص) لأمِّ سلمة: ومَن هذا؟

قالت: هذا دحية الكلبي.


1- أعلام النساء 5 : 224.

ص: 194

قالت: والله ماحسبتُه إلاّ إيّاه.(1)

ومن مكارمها أيضاً نزول آية التطهير: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في بيتها.

فبعد أن جمع رسولُ الله (ص) كلاًّ من علي وفاطمة والحسن والحسين وضمّهم تحتَ كساء واحد، نزل جبرئيل بهذه الآية المباركة عليهم، تنظر امُّ سلمة إلى ماقام به رسول الله (ص) من جمعهم وضمّهم تحت كساء واحد، ولأنها على قدر كبير من المعرفة والمنزلة، ولأنها السباقة إلى كلّ خير والى كلّ ما ينفعها في آخرتها ودنياها أيضاً، ولأنها تعرف منزلة المجتمعين، راحت تتمنى بل طلبت الانضمام إليهم بقوة، وأن تكون معهم، لتنال بذلك ممّا أعدّه الله تعالى لهؤلاء الصفوة من خير وبركة.

وكيف لاتتمنى أن تكون معهم وهي تسمع رسول الله (ص) ودعاءه: أللهُمّ هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

فتبادر إلى ذلك قائلة:

فأنا منهم يانبيّ الله؟!

ويأتيها الجواب من رسول الله (ص) :

«أنتِ على مكانك، وأنتِ على خير» أي أنّ مكانك محفوظ اُمّاً للمؤمنين، وموقفك يتسم بالخير والصحة، ولكنّك لست من أهل بيتي الذين خصّهم الله تعالى بخصائص، وتفرّدوا بصفات اختارها الله لهم دون غيرهم، وميّزهم بها على جميع خلقه.

وكان لأمّ سلمة شرف رواية هذا كلّه حيث قالت :«دعا رسول الله حسناً وحسيناً، وفاطمة، فأجلسهم بين يديه ودعا علياً فأجلسه خلفه، فتجلّل هو وهم بالكساء، ثمّ قال: «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».(2)

فعن عطاء بن أبي رباح عن أمّ سلمة: أنّ النبيّ كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها


1- التاج الجامع للأصول 3 : 383.
2- تاريخ الطبري؛ تاريخ ابن كثير؛ الترمذي في صحيحه.

ص: 195

جزيرة، فدخلت بها عليه، فقال (ص) لها: ادعي زوجك وابنيك .. إلى أن قالت: فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ... ثمّ قالت: فأخذ فضل الكساء، فغشاهم به، ثمّ أخرجَ يده، فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال :«أللهُمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أللهُمّ أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».

قالت أمُّ سلمة: فأدخلتُ رأسي البيت، فقلتُ: وأنا معكم يارسول الله؟ قال (ص) : «إنّك إلى خير، إنّك إلى خير».

تحدثت رواية اُخرى عن أنّها من أهل البيت بنصّ رسول الله (ص) وهي ماكانت تسعى إليه طيلة عمرها المديد: حدّثوا أنه كان يوماً عندها وابنتها زينب هناك، فجاءته الزهراء (عليها السلام) مع ولديها الحسن والحسين فضمّهما إليه، ثمّ قال: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

فبكت أمُّ سلمة فنظر إليها رسولُ الله (ص) وسألها في حنو: «مايبكيك؟»

أجابت: يارسول الله خصصتَهم، وتركتني وابنتي.

قال: «إنّك وابنتك من أهل البيت».(1)

ومن حبّها لأهل البيت: أن جعلت ابنها عمر بن أبي سلمة في جيش عليّ (ع) ولها مواقف أخرى سنأتي على ذكر بعضها.

أبو لبابة الأنصاري

«إن نزلتم على حكمه (حكم رسول الله (ص)) فهو الذبح».

هذا ماقاله أبو لبابة الأنصاري لزعماء يهود بني قريظة، فقد غزاهم رسول الله (ص) في السنة الخامسة للهجرة، وحاصرهم حتى جهدهم الحصار، قذف الله في قلوبهم الرعب، فبعثوا إلى رسول الله (ص) أن يرسل إليهم صاحبه «أبا لبابة ابن عبد المنذر الأنصاري;


1- السمط الثمين: 20.

ص: 196

ليستشيروه في أمرهم؛ فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرّقَ لهم.

وسألوه: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟

فأجاب: نعم، إنّه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه.

فما زالت قدماه من مكانهما حتى عرف أنّه خان الله ورسوله؛ وانطلق على وجهه، فربط نفسه إلى عمود من عمد المسجد، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت.

ولما بلغ رسول الله (ص) خبره، وكان قد استبطأه، قال: «أما أنه لو جاءني لاستغفرت له، فأمّا إذ فعل مافعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه».

أو أنّ الانصاري المذكور كان واحداً من جماعة تخلفوا عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك على رواية ثانية؛ وكلٌّ منهما _ لا شك _ ذنب كبير وخطير.

أوثَق _ لأحد السببين المذكورين _ نفسه بسارية المسجد النبوي، معترفاً بما جنته نفسه، وبقي هكذا ست ليال، كانت تأتيه امرأته في كلّ صلاة فتحمله للصلاة، ثمّ يعود فيرتبط بالجذع رافضاً أن يُطلقه غير رسول الله (ص) وقد رفض هو الآخر إطلاقه حتى يأتيه أمر الله تعالى به، وكان رسول الله منتظراً لذلك.

وشاءت السماء أن يكون منزل أمّ سلمة مهبطاً للوحي يحمل الآية الكريمة:

(وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً...).(1)

تقول أمُّ سلمة: سمعتُ رسول الله (ص) من السحر وهو يضحك.

قالت: قلتُ: ممّ تضحك يارسول الله (ص) أضحك الله سنّك؟

قال: «تيب على أبي لبابة».

قالت: قلت: أفلا اُبشره يارسول الله؟

قال: «بلى، إن شئتِ».

فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يُضرب عليهنّ الحجاب.


1- سورة التوبة : 102.

ص: 197

فقالت: ياأبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك.

قالت: فثار الناس إليه ليُطلقوه.

فقال: لا والله حتى يكون رسول الله (ص) هو الذي يطلقني بيده.

فلمّا مرّ عليه رسول الله (ص) _ بعد نزول الآية _ خارجاً إلى الصلاة، أطلقه.(1)

ومن بيتها أيضاً انطلقت توبة السماء على الثلاثة: (كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع) الذين تخلفوا من الصحابة عن غزوة تبوك.

يقول واحد منهم وهو كعب بن مالك، مبيناً دور أم سلمة وإحسانها اليه:

... ونهى النبيّ (ص) عن كلامي وكلام صاحبي، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناسُ كلامنا، فلبث كذلك حتى طال عليّ الأمر، وما من شي أهم إليّ من أن أموت فلا يصلي عليّ النبيّ (ص) أو يموت رسول الله (ص) فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي عليّ، وفي رواية: أنّ رسول الله (ص) قال: «أقسم بالله، لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يكون هو يعذرهم، فأنزل الله توبتنا على نبيّه (ص) حين بقي الثلث الآخر من الليل، ورسول الله (ص) عند أمّ سلمة، وكانت أمّ سلمة محسنة في شأني، معنية في أمري؛ فقال رسول الله (ص) : «يا أمّ سلمة تيبَ على كعب».

قالت: أفلا أرسل اليه فأبشره؟

قال: «إذاً يحطمكم الناس (يدوسونكم ويزدحمون عليكم) فيمنعونكم النوم سائر الليلة» حتى إذا صلى رسول الله (ص) صلاة الفجر، آذن بتوبة الله علينا.(2)

الرشيدة الشفيعة الحازمة

ذكرت مصادر التأريخ دورها الرشيد في السنة السادسة للهجرة، وقد صحبت الرسول (ص) وهو يريد مكة للعمرة، فصدته قريش، ومنعته والمسلمين من دخول مكّة؛ وبعد


1- السيرة النبوية (لابن هشام 3 : 238؛ وأسباب النزول للواحدي : 263؛ مجمع البيان للطبرسي، الآية من سورة التوبة.
2- المغازي في حديث كعب بن مالك؛ ومسند أحمد وغيرهما.

ص: 198

أن تمّت كتابة شروط صلح الحديبية، واضطربت الاُمور بين المسلمين، وكان الأمر ينذر بخطر جسيم بينهم.

تقول الرواية: ... أمر النبيّ (ص) أصحابه أن يقوموا فينحروا ثمّ يحلقوا، فما قام منهم رجل، فقال ذلك ثلاث مرات، ومامنهم من يستجيب.

فدخل على زوجه أمّ سلمة التي كانت معه يومذاك، فاضطجع، فقالت: مالكَ يارسول الله؟

فذكر لها مالقي من الناس، وأنه أمرهم بالحلق والنحر مراراً فلم يجيبوه، وهم يسمعون كلامه، وينظرون إلى وجهه الشريف.

قالت اُمُّ سلمة: التمس لهم العذر يارسول الله (ص) إنّهم يرون الكعبة ويرون ديارهم، ثمّ يُحرَمون من دخول مكّة.

ثمّ قالت: يانبيّ الله أتحبّ ذلك؟

أخرج ثمّ لا تكلم أحداً منهم كلمةً واحدةً حتى تنحر بدنتك، وتدعو حالقك فيحلقك؛ فإنّ ذلك سيقطع أملهم.

فقام فخرج فلم يكلّم أحداً حتى فعل ذلك، ونحر بدنته، ودعا حالقه.

فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً.(1)

كما كانت شفيعة للمؤمنين، وهذا جزء من مسؤوليتها كأمّ لهم، فقد شفعت لأخيها عند رسول الله (ص) حيث قالت للنبي (ص) وهي تغسل رأسه: كيف ينفعني عيش، وأنت عاتب على أخي؟

فرأت من النبي (ص) رقّة فأومأت إلى خادمها، فدعت أخاها، فلم يزل بالنبي (ص) يذكر عذره، حتى رضي الله عنه.(2)

وشفعت لأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وعبدالله بن أمية بن المغيرة، وقد كانا


1- الطبري 2 : 786.
2- الكامل في التاريخ 2 : 378.

ص: 199

من الذين يؤذونه (ص) .

وقد كلمته أم سلمة فيهما ورجت أن يصفح عن زلتهما فيما مضى، فقالت: يارسول الله لا يكن ابن عمك، وابن عمتك وصهرك أشقى الناس بك؛ قال (ص) : «لاحاجة لي بهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال».

قال أبوسفيان بن الحارث _ لما سمع بذلك _ : والله لتأذن لي، أو لآخذنّ بيد بُنيّ هذا، ثمّ لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً.

فلما سمع الرسول (ص) بذلك رقّ لهما، فدخلا وأسلما؛ وسرت بذلك أم سلمة.

أما حزمها وقوة شخصيتها، فقد ظهرت بوضوح في مواقفها الحكيمة القوية من عائشة، وحفصة، وفي موقفها من قريبها عمربن الخطاب.

تقول بنت الشاطئ: وبدا واضحاً أنّ أم سلمة تعرف لنفسها قدرها، وتأبى على عائشة أو سواها المساس بكرامتها، وقد أعزّها مجدٌ عتيق موروث، وآخر حديث مكتسب؛ وكذلك أبت على «عمر» أن يتكلم في مراجعة أمهات المؤمنين لزوجهن الرسول (ص) وقالت له منكرةً: عجباً يابن الخطاب، قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه!

قال عمر: فأخذتني أخذاً كسرتني به عن بعض ما كنتُ أجد.(1)

الفتنة

«استحي أن ألقى محمداً (ص) هاتكةً حجاباً قد ضربه عليّ».

هذا جزء من كلمة طويلة قالتها لعائشة، حينما هبّت هذه الأخيرة تقارع الإمام عليّاً (ع) وتقف بجانب طلحة والزبير تحرض الناس ضد الإمام (ع) من على ناقتها، فكان دورها خطيراً جدّاً فيما وقع من فتنة بين المؤمنين، وفيما وقع من بغي على الإمام (ع) في


1- نساء النبي : 144 الدكتورة بنت الشاطئ.

ص: 200

معركة الجمل في البصرة.

قالت لعائشة كلمات تتصف بالقوة والشدة: أيّ خروج هذا الذي تخرجين؟!

نصّ كلمتها لعائشة حينما جاءتها هذه الأخيرة; لتخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، وقد قالت عائشة لها: يابنت أبي أمية، أنتِ أوّل مهاجرة من أزواج رسول الله (ص) وأنت كبيرة اُمهات المؤمنين، وكان رسول الله (ص) يقسم لنا من بيتِك، أو كان يشير إلى بيتك عندما يؤتى بالهدايا، ومن بيتك يبعث إلينا بسهامك (بسهامنا)، وكان جبرئيل أكثر مايكون في منزلك.

فقالت أمُّ سلمة: لأمَر ما قلت هذه المقالة!

ثمّ لما سمعت برغبتها أو مسيرها مع كلّ من طلحة والزبير; لشنّ حربهم ضدّ الإمام عليّ (ع) كتبت تقول:

«فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو؛ أمّا بعد فقد هتكت سُدةً بين رسول الله (ص) واُمّته، وحجاباً مضروباً عليّ حرمته، قد جمع القرآن ذيولك فلا تسحبيها، وسكّر خفارتك فلا تبتذليها، والله من وراء هذه الاُمّة لو علم رسول الله (ص) أنّ النساء يحتملن الجهاد عهد إليك، أما علمت أنّه قد نهاك عن الفراطة في الدين؟ فإنّ عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهنّ إن صدع؛ جهاد النساء غضّ الأطراف، وضمّ الذيول، وقصر الموادة، ماكنت قائلة لرسول الله (ص) لو عارضك ببعض هذه الفلوات، ناصبة قلوصك قعوداً من منهل إلى منهل؟ وغداً تردين على رسول الله (ص) وأقسم لو قيل لي: يااُمّ سلمة أدخلي الجنة; لاستحييت أن ألقى رسول الله (ص) هاتكةً حجاباً ضربه عليّ، فاجعليه سترك، وقاعة البيت حصنك، فإنّك أنصح لهذه الاُمّة ماقعدتِ عن نصرتهم، ولو أنّي حدثتك بحديث سمعته من رسول الله (ص) لنهشتِ نهشَ الرقشاء المطرقة، والسلام.(1) وهناك رواية لكلمتها هذه تختلف عنها قليلاً.

ثمّ راحت اُمّ سلمة تعلن تأييدها للإمام علي (ع) ؛ تقول عنها بنت الشاطئ: ثمّ حاولت


1- العقد الفريد، ابن عبد ربّه 3 : 96.

ص: 201

من بعده (ص) أن تتجنب الخوض في الحياة العامة، إلى أن كانت الفتنة الكبرى، فاندفعت تؤازر الإمام عليّاً (ع) ابن عمّ الرسول (ص) وزوج ابنته الزهراء (عليها السلام) وأبا الحسن والحسين.

وودّت لو تخرج فتنصره، لكنّها كرهت أن تبتلى وهي اُمُّ المؤمنين بمثل ذاك الخروج، فجاءت «عليّاً (ع)» وقدمت إليه ابنها «عمر» قائلة:

يا أميرالمؤمنين، لولا أن أعصي الله عزّ وجلّ، وأنّك لا تقبله منّي; لخرجتُ معك؛ وهذا ابني عمر، والله لهو أعزّ عليّ من نفسي، يخرجُ معك فيشهد مشاهدك.

وفعلاً شهد عمر مشاهد الإمام (ع) ومنها معركة الجمل، واستعمله على فارس وعلى البحرين.

وممّا يدلُّ على حبّها لآل الرسول (ص) وخاصة للإمام علي (ع) ودفاعها عنه ما كتبته إلى معاوية، مستنكرة ماكتبه إلى عمّاله أن يلعنوا عليّاً (ع) على المنابر، ففعلوا، فكان ماكتبته رضوان الله عليها: إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالب، ومَن أحبّه، وأنا أشهد الله أنّ الله أحبّه، ورسوله. . . لكن معاوية لم يلتفت إلى كلامها.(1)

وكيف لايكون حبّها لآل البيت عظيماً ثابتاً، وقد رافقت رسول الله (ص) في حياته ومسؤولياته ووعت كلّ ماسمعته عنهم، خاصة وهو يلقي آخر خطبة له في حجّة الوداع: «من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، أللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».

استوقفتها هذه الكلمات كثيراً، وراحت تتأمل ما تحمله كلماته (ص) هذه وغيرها بوعي وأناة، حتى دخلت قلبها ومشاعرها، فثبت ولاؤها لأهل البيت وانطلقت تقول كلمة الحقّ، وتكشف الظُلم، وتشجب كلّ فرقة، وتقيم دعائم الوحدة بين المسلمين، على أساس حبّها لله تعالى ولمحمد وآله.


1- العقد الفريد، ابن عبد ربّه 3 : 127.

ص: 202

علمها وروايتها

كانت جليلة القدر، جزيلة الرأي، ملتزمة، تقية، عارفة بالقرآن الكريم وأحكامه، راويةً للسنّة الشريفة، شارحة لأحكامها، مبينة لها، طالما اجتمع حولها النساء يستمعن لها ويتعلمن منها وينقلن عنها، ويسترشدن بآرائها ويتحاكمن إليها كما تفعل بعض نساء النبي (ص) وقد انتفع الرجال بعلمها وروايتها ونصائحها وآرائها حتى عدّت مصدراً من مصادر التفسير والفقه والرواية والتأريخ والسيرة النبوية.

وقد بلغ عدد ماروته من الأحاديث ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثاً.

يقول أحمد خليل جمعة عنها: واُمُّ سلمة رضي الله عنها قد وعت الحديث الشريف، وتفقهّت باُمور الدين والشريعة الغراء، حتى كانت تعدّ من فقهاء الصحابيات، وممّن يُرجع إليها في بعض الاُمور والأحكام والفتاوى، وخصوصاً فيما يخصّ فقه المرأة المسلمة، وفيما يتعلّق ببعض أحكام الرضاع، أو الطلاق، أو ماشابه ذلك؛ وقد ورد أنّ سيدنا عبدالله بن عباس كان يُرسل، فيسألها عن بعض الأحكام.

كما كانت تعّد من جملة مَن يُرجع إليهم بالفتيا من الصحابة، وقد روى عنها كلٌّ من عبدالله بن عباس، وأبوسعيد الخدري وابنها عمر بن أبي سلمة، ومن النساء عائشة، وابنتها زينب بنت أبي سلمة؛ ومن التابعين; سعيد بن المسيب والشعبي، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وآخرون؛ ومن النساء طيرة اُمّ الحسن البصري، وهند بنت الحارث الفراسية، وصفية بنت شيبة، وصفية بنت محسن وغيرهنّ.(1)

ومن روايتها

استأذن أبوثابت مولى علي (ع) على اُم سلمة، فقالت: مرحباً بكَ يا أبا ثابت، ثمّ قالت: يا أبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطيرها؟ قال: تبع علياً، فقالت: وفقت،


1- نساء أهل البيت: 246 _ 265 وانظر الهوامش.

ص: 203

والذي نفسي بيده لقد سمعتُ رسول الله (ص) يقول: «عليٌ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليٍّ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

قالت أمُّ سلمة: أغدف(1) رسول الله (ص) على عليّ (ع) وفاطمة (عليها السلام) والحسن والحسين خميصة سوداء، ثمّ قال: «أللهُمّ إليك لا إلى النار، أنا وأهل بيتي»؛ قالت: قلتُ: وأنا يارسول الله؛ قال: «وأنتِ».

وقريب من ذلك ماروته ابنتها زينب مع اختلاف يسير، حيث قالت: إنّ رسول الله (ص) كان عند أمّ سلمة، فجعل حسناً في شقٍّ، وحسيناً في شقٍّ، وفاطمة في حجره، وقال: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).(2) وأنا وأمُّ سلمة جالستان، فبكت أمُّ سلمة، فقال: «مايبكيك؟» قالت: يارسول الله خصصتهم وتركتني وابنتي؛ فقال رسول الله (ص) : «إنّك ] وابنتك [ من أهل البيت».(3)

ومما روته، قالت: قال لنا رسول الله (ص) : «إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا: خيراً، فإنّ الملائكة تؤمن على ماتقولون»؛ فلما مات أبوسلمة أتيتُ النبيّ (ص) فأخبرته، فقال: «قولي: أللهُمّ اغفر لي وله، وأعقبني منه عقباً حسناً، فقلتُ ذلكَ؛ فأعقبني الله منه مَنْ هو خيرٌ منه، رسول الله.

وعنها قالت: كان النبيّ (ص) إذا خرجَ في سفر يقول: «أللهُمّ إني أعوذُ بكَ أن أز ِل أو أزل».(4)

عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمّها اُمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: «إنما أنا بشر، وأنتم تختصمون إليّ، ولعلّ أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي نحو ماأسمع منه، فمن قضيتُ لهُ بشيء من حقّ أخيه منه شيئاً، فإنما أقطعُ لهُ قطعةً


1- أغدف: بغين فدال ففاء: اُرسل وغطى، ومنه غداف المرأة، وهو ماتستر به وجهها : 154 من كتاب أزواج النبيّ (ص) للإمام محمد بن يوسف الدمشقي.
2- سورة هود : 73 .
3- ذكره صاحب كتاب أزواج النبي عن الطبراني في الكبير 24 : 281 _ 282 وغيره.
4- ربيع الأبرار 4 : 196.

ص: 204

من النار».(1)

ولما قدم ابن أبي جهل المدينة، فجعل يمرّ في الطريق، فيقول الناس: هذا ابن أبي جهل؛ فذكر ذلك لأمّ سلمة، فما كان منها إلاّ أن ذهبت إلى رسول الله (ص) فذكرت له ماسمعت: فخطب (ص) الناس وقال: «لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات».(2)

ولما سئلت: ماأكثر دعاء رسول الله (ص) إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: «يامقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك».

قالت: فقلتُ لهُ: يارسول الله، ماأكثر دعاءك «يامقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك»؟!

قال: «يا اُمّ سلمة، إنّه ليس من آدمي إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله، ماشاء الله أقام وماشاء أزاغ».(3)

ومما روته بحقِّ أخيها من الرضاعة عماربن ياسر، الذي طالما رعته، وغضبت لهُ حينما فعل به عثمان فعلته القذرة، شتمه وأمر به فأخرج من مجلسه، وقد أثقلوه باللبن حينما شارك في بناء مسجد رسول الله (ص) في المدينة، فقال: يا رسول الله قتلوني يحملون عليّ مالا يحملون.

وهنا قالت أمُّ سلمة: فرأيتُ رسول الله (ص) ينفض وفرته بيده، وكان رجلاً جعداً، وهو يقول: «ويح ابن سميّة ليسوا بالذي يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية» وارتجز عليّ بن أبي طالب (ع):

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائداً

فأخذها عمّار بن ياسر، فجعل يرتجز بها.(4)


1- البخاري، ومسلم، في الأقضية؛ والنسائي في القضاء؛ والشافعي في الأم.
2- ربيع الأبرار 2 : 841 .
3- العقد الفريد 3 : 22.
4- السيرة النبوية لابن هشام 2 : 114.

ص: 205

وفاتها

أبت أمُّ سلمة _ وقد عرفت جيداً قدر نفسها _ أن تموت دون أن تترك خلفها دروساً ينتفع بها الآخرون، فحياتها بكلّ مفاصلها كانت مفعمة مليئة بالأحداث سواء قبل اسلامها، وهي تعيش في بيت عرف _ كما قلنا _ بالكرم والشرف والإباء، أم في حياتها الاُولى مع أبي سلمة زوجةً صالحةً، أم في إسلامها وهجرتها وتصويرها لهجرتها، حتى كانت روايتها أوثق وأدقّ روايات الهجرة، أم في هجرتها الثانية إلى المدينة وأحداثها، وما رافقها من آلام، أم في زواجها المبارك الذي اختارته السماء، وهي تعيش أطهر بيت مع أعظم إنسان عرفته الدنيا، لم تكن حياتها معهُ إلاّ طاعة وإيماناً وتصديقاً وخدمة وجهاداً، حتى لم يعثر على خطإ لها على كثرة ماترتكبه النساء من أخطاء، وما تصنعه من متاعب.

ورغم ماعانته من غيرة وحسد اُمّ المؤمنين عائشة، وكذلك أمّ المؤمنين حفصة، وماخلقتا لها من متاعب وصعاب؛ كانت تقابل كلّ ذلك بحكمة وهدوء، حتى تبعد هذا البيت عن كلّ ما يتعب صاحبه (ص) ويعكّر عليه حياته، أو يشغله عن مهامه العظيمة...

وبقيت محافظة على سيرتها، وإن طال عمرها حتى تجاوز الثمانين عاماً، فكانت آخر من توفي من زوجاته (ص) ويبدو أنه قدر لهذه المرأة الصالحة المخلصة لزوجها ولأهل بيته، أن تشارك رسول الله (ص) عزاءه وحزنه، فقد بلغها استشهاد الإمام الحسين (ع) فوجمت لذلك، وغشي عليها، وحزنت حزناً شديداً، ولم تلبث بعد ذلكَ إلاّ يسيراً، ثمّ انتقلت إلى رحمة الله.(1)

وأمّا بنت الشاطئ فتقول: وتقدم العمر بأمّ سلمة حتى امتحنت، كما امتحن الإسلام وأمته، بمذبحة «كربلاء» ومصارع الإمام الحسين وآل البيت صلوات الله عليهم، على الساحة المشئومة.

توفيت رضي الله عنها بعدما جاءها نعي الحسين بن علي (ع).(2)


1- الرسول في بيته، الدكتور أحمد شلبي : 78.
2- نساء النبي (ص) ، الدكتورة بنت الشاطئ : 150 _ 151.

ص: 206

ويكفيها فخراً أنّ رسول الله (ص) توفي وهو راض عنها، وعن أولادها الذين تكفلهم برعايته، وتربيته.

وبقيت هذه المرأة ورضا رسول الله (ص) يلاحقها ويواكبها، حتى غدت وبيتها «مركز الإشعاع العلمي والفقهي للصحابة والتابعين والعلماء من شتى الأمصار».(1)

توفيت سنة إحدى وستين وقيل سنة اثنتين وستين في عهد يزيد بن معاوية، وشيعها المسلمون تشييعاً عظيماً، حتى مرقدها الأخير في مقبرة البقيع في المدينة المنورة.


1- نساء أهل البيت، أحمد خليل جمعة : 269.

ص: 207

(10) أبوذر الغفاري

اشارة

«وحده»

محمّد سليمان

كان معلماً بارزاً في فكره وعلمه ووعيه، وفي عبادته وجهاده، وفي زهده وثورته، وفي صدقه وإخلاصه وحبّه لله تعالى ولرسوله (ص) وفي التزامه بما عاهد الله تعالى عليه بمقارعة الظالمين وكشف ظلمهم وزيفهم، والدفاع عن المحرومين؛ حتّى غدا بحقّ مدرسةً ثائرةً جوّالةً، لا تعرف التوقف ولا الاستقرار، ولاتبحث عن الطمأنينة والراحة، ولا تخشى في الله لومة لائم.

وبقي هذا الرجل الصحابي الجليل، حياةً متحركةً ثائرةً وقِمّةً عاليةً شامخةً رائدةً في مواقفها، مثاليةً في صدقها، شجاعةً فيما تقوله وتفعله، فلا تهزّه المحن، ولا يرهبه وعيدُ الطغاة، ولا يخيفه تهديدهم، ولا تغريه أموالهم، ولا تلينه ابتساماتهم.

كان سبّاقاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان عملاقاً في تصدّيه لكلّ انحراف في الأمّة... كان يريد لهذه الأمّة ولحكامها أن يعيشوا الإسلام سلوكاً وعبادةً وجهاداً وحكماً

ص: 208

وإدارةً... كان يريد للحكام أن يكونوا خَدَمةً صادقين للأمة، لا جبابرة عليها، وكان يريد للأمة أن لا تكون ذليلةً صاغرةً أمام حكامها إذا ما انحرفوا، وأن لا تسير خلفهم معصوبة العينين، بل موقظة لهم، ومدافعة عنهم إذا ما صدقوا... لهذا نراه _ قد ركب المركب الصعب _ يصارع هاتين النزعتين: نزعة الطغيان لدى الحكام المستبدين والأغنياء المترفين، ونزعة الخنوع والصغار في الأمة.

فراح يلاحق الحكام والمترفين ويعلنها بلا هوادة صرخةً مدويةً عاليةً كاشفةً بذخهم وتعاليهم وكبرياءَهم وبعدهم عن الله وشرائعه... ويبشّرهم بعذاب أليم.

وأيضاً راح يلاحق الأمة ليوقظها من سباتها ويشحذ هممها المعطلة; لكي تقف أمام المترفين حكاماً وأفراداً لتقيلهم عن طريقها، وتبعدهم عن مسيرتها، وإلاّ حلّت بها الكارثة واستحقت القارعة.

وراح صوته هذا مدوّياً عبر القرون، وغدا اُنشودةً تردّدها شفاه الثوار جيلاً بعد جيل؛ إنه أبو ذر الغفاري، «يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده».

* * *

مع أنّ الاختلاف وقع في تسميته، فهو برير بن جندب، وهو برير بن جنادة، وهو جندب بن عبدالله، وهو جندب بن السكن، أو جنادة بن السكن، وهو يزيد بن جنادة.(1)

إلاّ أنّ جندب بن جنادة هو الإسم الذي عرف به، وهو بعد ذلك ابن سفيان ابن عبيد من بني غفار، من كنانة ابن خزيمة الحجازي، بينما ساق ابن سعد في طبقاته نسبه الى غفار بن مُليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة; لينتهي به الى خزيمة ابن مُدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار.

هذا أبوه ونسبه، وأما أمّه فهي رملة بنت الوقيعة أو الرقيعة وهي أيضاً من بني غفار.(2)

كنيته: «أبوذر» و لقبه «الغفاري» وقد اشتهر بهما، وطغى على اسمه الذي بات لا يعرف


1- سير أعلام النبلاء، للذهبي.
2- مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور، حرف الذال، الجزء الثامن والعشرون : 277.

ص: 209

إلاّ عند الخاصة.

وأما صفاته فقد كان أدمَ ضخماً جسيماً كث اللحية والشعر وقد غلب عليه الضعف، وأرهقه الفقر وقلة ذات اليد، ولكنه مع كلّ ما هو فيه علا إيمانه حتى جاوز عنان السماء.

وكان رأساً في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، قوالاً بالحقّ، لا تأخذه في الله لومة لائم على حدَّة فيه، وقد آخى رسول الله (ص) بينه وبين سلمان الفارسي؛ فاتته معركة بدر، وشهد فتح القدس.(1)

إسلامه

أما كيفية إسلامه، فالذي يظهر من بعض المصادر أنّ أباذر كان موحداً، فقد عرف أنه كان يتعبد ويكثر من العبادة قبل إسلامه، ففي رواية عبدالله بن الصامت عن أبي ذر نفسه أنه قال: إني صليتُ قبل أن يُبعث النبيُّ بسنتين.

قلت: أين كنت توجّه؟

قال: حيث وجهني الله؛ كنتُ أصلي حتى إذا كان نصف الليل سقطتُ كأني خرقة.

وفي رواية أخرى، عن عبدالله ابن الصامت أيضاً، قريبة من الأولى: ... قال: وقد صليتُ يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله (ص) بثلاث سنين.

قلتُ: لمن؟

قال: لله.

قلتُ: فأين توجّه؟

قال: حيث يوجهني ربّي، أصلي حتى إذا كان آخر الليل أُلقيتُ كأني خِفاء (كساء) حتى تعلوني الشمس.(2)

وقد روي عن ابن عباس رضوان الله عليه في قصة إسلام أبي ذر أنّه قال:


1- سير أعلام النبلاء، للذهبي 2: 47.
2- أنظر في ذلك: مختصر تاريخ دمشق 28: 278 وغيره.

ص: 210

أَلا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى، قال: قال أبوذر: «كنت رجلاً من غفار، فبلغنا، أنّ رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبيّ، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلّمه، وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ قال: والله، لقد رأيته رجلاً يأمر بالحقّ، وينهى عن الشرّ، فقلت: لم تشفِني من الخبر، فأخذت جراباً وعصا، ثم أقبلت الى مكة، فجعلتُ لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد، فمرّ عليٌّ (ع) فقال: كأنّ الرجلَ غريب؟ قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه، لا يسألني عن شيء، ولا أخبره؛ فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء، فمرّ بي عليٌّ (ع) فقال: ما آن للرجل أن يعود؟ قلت: لا، قال: ما أمرك، وما أقدمك هذه البلدةَ؟ قلت: إن كتمته عليَّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قلت: بلغنا أنه قد خرج رجلٌ يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه، فرجع ولم يشفِني من الخبر، فأردت أن ألقاه.

قال: أما إنك قد رشدت لأمرك، هذا وجهي إليه فاتبعني، فادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحداً أخافه عليك قمت إلى الحائط، وامضي أنت؛ قال: فمضى، ومضيتُ معه حتى دخل، ودخلت معه على النبيّ (ص) فقلتُ: يا رسول الله، أعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليّ، فأسلمتُ مكاني، فقال لي: يا أباذر، أكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل؛ قلت: والذي بعثك بالحقّ لأصرُخنّ ما بين أظهركم».

فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً عبدهُ ورسولهُ، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا، فضربتُ لأموتَ، وأدركني العباس، فأكبّ عليّ ثمّ قال: ويحكم! تقتلون رجلاً من غفار، ومتجركم وممرّكم على غفار؟ فأقلعوا عني.

فلما أصبحت الغد رجعت، فقلت ما قلتُ بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فضربوني، فأدركني العباس، فأكبّ علي.(1)


1- أنظر في ذلك: مختصر تاريخ دمشق 28: 278 وغيره.

ص: 211

وعن أبي ذر قال: كنت رابعَ الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة، وأنا الرابع، فأتيت النبي (ص) فقلت: سلام عليك يا نبيّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله؛ فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله (ص) فقال: «مَن أنت؟» قلت: «أنا جندب رجل من بني غفار، قال: فرأيتها في وجه النبي (ص) حيث ارتدع، كأنّه ودَّ أني كنت من قبيلة أرفع من قبيلتي؛ قال: وكنت من قبيلة فيها ر ِقّة (قلّة) كانوا يسرقون الحاج بمحاجن لهم.(1)

وهناك روايات أخرى في أول إسلامه اكتفينا بهذه دونها.

سيرته

كان أبوذر معروفاً في قومه وعند غيرهم بأنه رجل شجاع كريم، وعزيز، وكبير، وعارف، وحكيم، وقبل حمله لهذه الصفات; هناك من يقول إنّه كان أيضاً من قطاع الطرق، وقد لا تكون هناك غرابة في ذلك _ فهو ابن بيئته ومحيطه الذي نشأ فيه _ وإن كنت لا أميل إليه ولا تطاوعني نفسي في ذكر ما قيل، فدراستي لأبي ذر، واطلاعي على ما يتحلى به هذا الرجل، من نبل، وشرف حتّى في جاهليته، يمنعني كلّ ذلك وغيره عن تصديق هذه الرواية.

تقول الرواية: كان أبوذر رجلاً يصيب الطريق، وكان شجاعاً ينفرد وحده بقطع الطريق ويغير على الصّرم في عماية الصبح على ظهر فرسه، أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحي، ويأخذ ما يأخذ،(2) ثم تمرّد على عادات قومه السيئة قبل إسلامه، وعرف بالصلاح.

فلما قذف الله تعالى في قلبه الإسلام، تحولت حياته إلي حياة خصبة معطاء، وغنية بالعبر والمثل والدروس، وتجسيد للقيم يثير العجب والإجلال له، فإضافة إلي قوة الإيمان وصلابته التي يتمتع بها أبوذر، ورسوخ جذوره في نفسه المباركة، وإضافة إلي زهده ونسكه وشجاعته وحلمه... كان هناك الصدق الذي أخذ بعداً عظيماً واسعاً في حياته


1- مختصر تاريخ دمشق 28: 283 _ 285.
2- المصدر نفسه 28: 284 _ 285.

ص: 212

الإيمانية والجهادية، هذه الصفة التي تحلّى بها خلقه الشريف ولم يحد عنها قيد أنملة أبداً؛ ميّزته عمّا حوله من الصحابة والتابعين؛ فكان بحقّ من (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).(1) بل تفرّد بها حتى كاد أن لا يوازنه فيها أحدٌ؛ وكأن أباذر خلق للصدق، وهو جدير به.

يقول رسول الله (ص) فيه: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيين امرءاً أصدق لهجةً من أبي ذر».

وفي رواية أبي الدرداء: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر».(2)

حقّاً لقد كانت شهادة عظيمة من رسول الله (ص) الذي لا ينطق عن الهوى لأبي ذر، يقول الدكتور الجميلي بعد ذكره لتلك الرواية: أعظم صفة لأعظم رجل، من أعظم نبي... إنّها صدق اللهجة، وهي من أجل دقائق النعوت الموسوم بها أهل الصدق؛ وهي نادرة في عنصر البشر، وجرثومة الناس التي امتزج طبعها بشهوة الدنيا، وحبّ الحياة، وكلفوا بزخرف الفانية وتهالكوا عليه.

ولا جرم أنّ أباذر المشهود بصدق لهجته من النبي الصادق المصدوق، لا جرم أنه حري به، وقمين بشخصه أن يصدق عليه أيضاً قوله (ص) : «يرحم الله أباذر... يمشي وحده... ويموت وحده... ويبعث وحده».(3)

لقد كلفه صدقه أن يعيش وحيداً، وأن يعيش بعيداً، وأن يموت غريباً...

لقد تمرّد أبوذر على واقعه كلّه بعد فترة من نشأته في قبيلة غفار، التي عرف أفرادها واشتهر رجالها بأنّهم قطاع طرق، وبأنهم سادة السطو والسرقة والغدر والقتل، رجل تمرّد على هوى نفسه وعلى بيئته التي ولد فيها ونشأ وترعرع بين أحضانها، وراح يصدع بأن


1- البقرة: 177.
2- أنظر أحمد؛ والترمذي؛ وابن ماجة؛ والطبراني.
3- صحابة النبي (ص) الدكتور السيد الجميلي :250.

ص: 213

الصدق زينة الرجل، وجمال له، وراح يربي نفسه على قول الحق ولهجة الصدق مهما كلفه ذلك من تغريب وتبعيد وتعذيب، ولم يكتف بذلك فقد فاجأ الجميع بإيمانه، وصدع به صرخةً مدويةً لا غموض فيها تهزّ ما حوله، جاهراً بشهادة لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، أعلنها في وسط لا معين له به، ولا ملجأ يلجأ إليه، ولا مأوى يأوي، وكانت قريش بكامل عزّها وجبروتها وطغيانها... فنال بذلك وسام رابع رجل، أو خامس رجل لينضمّ إلي السابقين الأولين، أولئك المقربون.

إنّها صرخة الحقّ التي أطلقها أمام أعين الظالمين، وكادوا ينكلون به ويقتلونه، بعد أن أذاقوه سوء العذاب، حتى غشي عليه مرّات عديدة، ولولا أن تدخل هنا العباس بن عبدالمطلب، ليقتلوه؛ فقد راح يحذرهم ويخيفهم من عواقب ما تقترفه أيديهم، وراح أيضاً يذكرهم بأنّ أباذر هذا من غفار _ بعد أن أنساهم طغيانهم وحقدهم ذلك _ وأهلها معروفون مَن هم، فإن تتعرضوا له بالأذى، فإن قبيلة غفار ستتعرض لقوافلكم التجارية، إذ إنّ طريقكم إليه لا تحويل عنه.

فعندئذ توقفوا عن تعذيبه، وأطلقوا سراحه، فغادر الرجل مكة لا إلي الحبشة كما هاجر إليها إخوانه من المسلمين، ولكن إلي عشيرته وقومه، لينذرهم، وكان ذلك استجابة لأمر رسول الله(ص) ...: «فهل أنت مبلغٌ عني قومك؟».

عاد إلي قومه وبقي فيهم، ولم يهاجر إلي المدينة إلاّ بعد غزوة تبوك; ليبدأ من هناك مرحلته التبليغية، فالأقربون أولى بالمعروف، وهل هناك معروف أعظم من هدايتهم لدين الله تعالى، وإنقاذهم ممّا هم فيه من انحراف وفجور وسطو واعتداء على الأبرياء وطرق التجارة، التي قدر لغفار أن تكون مركزاً لمرورها؟! وبالتالي تخليص الناس من أذاهم، إلي غير ذلك من المنافع إذا ما آمنوا واتقوا; فكان بحقّ رسولَ خير لهم..

وفعلاً كانت البداية حيث علا في أوساطهم قول الحقّ بكلّ وضوح وصراحة صادقة، أن هلموا للإيمان، وأن انطقوا بالشهادتين تنالوا بذلك عزّ الدنيا وخير الآخرة؛ ولأنّ دعوته تبعث من قلب صادق، فما أسرع ما لاقت آثارها، وجنت ثمارها...! خُذنا يا أباذر إلى

ص: 214

حيث نبع الخير والبركة إلى حيث رسول السماء; لكي نضع أيدينا على يديه المباركتين فنتزوّد منه، ونعاهده على أن نكون جنداً له، ونضع سيوفنا إلى جنب سيوف المسلمين، لنصون الحقّ وأهله.. ونترك كلّ ما اقترفناه من حيف وظلم وأذى للآخرين.

قدم قومه على رسول الله(ص) يتقدمهم الصحابي الجليل أبوذر الغفاري ليسمع قوله9:

«غفار غفر الله لها... وأسلم سالمها الله».

علمه

كان أبوذر عالماً عارفاً بالقرآن والحديث، أشاد بعلمه جلّ الصحابة، وقد سئل الإمام علي بن أبي طالب (ع) عنه، فقال: «عَلِمَ العلم ثمّ أوكى».

(أوكى على ما في سقائه: إذا شدّه بالوكاء: كلّ سير أو خيط يشدّ به فم السقاء...) فربط عليه ربطاً شديداً.

وفي قول آخر له7: «أبوذر وعاء مُلِئ علماً، ثم أوكى عليه، فلم يخرج منه شيء، حتى قبض».

وفي قول ثالث له7 عن أبي ذر: «وعى علماً عجز فيه (أعجز عن كشف ما عنده من العلم) وكان شحيحاً حريصاً; شحيحاً على دينه، حريصاً على العلم، وكان يكثر السؤال، فيُعطى ويمنع، أَمَا إنه قد مُلِئ له في وعائه حتى امتلأ».

وفي عبارته7: «عجز فيه» يبدو أنه أراد أعجز عن كشفه; وقد ورد في طبقات ابن سعد: أعجز عن كشف ما عنده من العلم.

والذي يبدو أنه (أوكى عليه) لأنه لم يجد من يحمله ويستمع إليه كما نرى هذا في موضوع المقاطعة الآتي، وهذا ظلم آخر يضاف إلى مظلومية الرجل، وإلاّ ما فائدة العلم الذي يبقى مكنوزاً في صدر صاحبه حتى القبر؟ ثمّ إظهار العلم للآخرين مستحب، بل قد يكون أحياناً واجباً، وفيه أجر عظيم; ولا أظنّ أباذر كان فيه من الزاهدين.

يقول مالك بن أوس في روايته:

ص: 215

قدم أبوذر من الشام، فدخل المسجد وأنا جالس، فسلم علينا، وأتى سارية، فصلى ركعتين تجوّز فيهما، ثم قرأ: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) حتى ختمها، واجتمع الناس عليه، فقالوا له: يا أباذر، حدثنا ما سمعت من رسول الله(ص)، فقال لهم: سمعت حبيبي رسول الله(ص) يقول: «في الإبل صدقتُها، وفي البقر صدقتُها، وفي البر صدقته، من جمع ديناراً أو درهماً، أو تبراً، أو فضة لا يعده لغريم، ولا للنفقة في سبيل الله كُويَ به».

قلت: يا أباذر، أنظر ما تخبر عن رسول الله(ص)، فإنّ هذه الأموال قد فشت؛ فقال: من أنت يا بن أخي؟ فانتسبت له، قال: قد عرفت نسبك الأكبر، ما تقرأ (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) وكثيراً ما كان يردّد هذه الآية، وآية: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ).

رواياته

عرف عنه أنّه كان مواظباً على ملازمته لرسول الله(ص) والاستفادة منه، وكان يطيل الجلوس عنده، حتى إنّ رسول الله(ص) كان يبتدئ أباذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، وكان أكثر أصحاب رسول الله(ص) سؤالاً; لهذا فقد روى عن رسول الله(ص) قرابة 280 حديثاً، وراح بعض الصحابة يروون عنه، فقد روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وحذيفة بن أسيد، وابن عمر، وجبير بن نفير، وأبومسلم الخولاني، وزين بن وهب، وأبو الأسود الدؤلي، وربعي بن جراش، والمعرور بن سويد وغيرهم...

ومما رواه عن رسول الله(ص) عن جبريل، عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: «يا عبادي، إني حرّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي، إنكم الذين تخطؤون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم.

يا عبادي كلكم جائع إلاّ من أطعمته، فاستطعموني اُطعمكم.

يا عبادي كلكم عار إلاّ مَن كسوته، فاستكسوني أكسكم.

يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم،

ص: 216

لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً.

يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، لم يزد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كلّ واحد منهم ما سأل، لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً، إلاّ كما ينقص البحر أن يُغمس المحيط غمسةً واحدةً.

يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلاّ نفسه».(1)

ومن رواياته أيضاً، قال رسول الله(ص): «يكون في جهنم عقبة كؤود لايقطعها إلاّ المخفون».

وفي المصافحة والمعانقة سئل أبوذر: هل كان رسول الله(ص) يصافحكم إذا لقيتموه؟

قال: ما لقيني قط إلاّ صافحني، ولقد جئت مرة، فقيل لي: إنّ النبي9 طلبك، فجئت فاعتنقني، فكان ذلك أجودَ وأجودَ.

وقال أيضاً: أرسل إلي رسول الله(ص) في مرضه الذي توفي فيه، فأتيته، فوجدته نائماً، فأكببتُ عليه، فرفع يده فالتزمني.

ومن الجدير بالذكر أنّ أباذر هو أول من حيّا رسول الله(ص) بتحية الإسلام.(2)

دعاء الرسول (ص) له و وصاياه

راحت أدعية رسول الله(ص) ووصاياه تواكب أباذر، وهو يخطو خطواته في طريقه اللاحب; فكان9 كثيراً ما يدعو له حين يراه وفي غيبته، راجياً من الله تعالى تسديده وإعانته على تجاوز الصعاب والمشاق التي يعلم رسول الله(ص) بأنّ الرجل سيواجهها في


1- سير أعلام النبلاء 2: 48.
2- مختصر تاريخ دمشق 28: 281.

ص: 217

حياته؛ ويظهر من ذلك أنّ ما كان مكلفاً به أمر مهم وخطير وأنّ مسيرته شائكة، وأنّ كلّ ما فعله رضوان الله عليه كان بأمر من رسول الله(ص) ووفقاً لرغبته9 ورضاه.

يقول: أوصاني حبّي (أي رسول الله) بخمس:... وأن أقول الحقّ ولو كان مرّاً... «وكيف أنت عند ولاة يستأثرون عليك» قلت: (يا رسول الله) أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك.

أمرنا رسول الله ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن.

قال له رسول الله(ص): «يا أباذر، أنت رجل صالح، وسيصيبك بعدي بلاء»

قلت: في الله؟

قال: «في الله».

قلت: مرحباً بأمر الله.

فمنذ أول بادرة إيمانية ظهرت على لسان أبي ذر وهي نطقه بالشهادتين... كلّفه رسول الله(ص) بأن يكون داعيةً ومبلغاً لرسالة السماء.

بمن تأمرني يا رسول الله؟

فأجابه(ص) : ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري...

فهل أنت مبلغ عني قومك... عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟

وأين؟! إنها دعوة خطيرة، فهي لقومه غفار، هذه القبيلة التي عرفت بالجاهلية من بين قبائل العرب بقسوتها وشدّتها، وحبّها للغزو، وتفانيها من أجل السطو والنهب الذي كان مصدر عيشها.

نعم بعثه(ص) مبلغاً لمفاهيم السماء وقيمها في عشيرته، التي كانت مضرب المثل بين قبائل العرب وغيرهم في السطو وبث الرعب في قلوب المارة، حتى صار المار بديارهم يحسب ألف حساب قبل أن يخطو خطوة في طريقه... كانوا يرقبون الحاج بمحاجن لهم; وكانوا حلفاء الليل والظلام; والويل والويل لمن يسلّمه الليل إلى واحد من قبيلة غفار كما يقول خالد

ص: 218

محمد خالد.

فعملية التغيير التي ألقاها رسول الله(ص) على عاتق هذا العبد الصالح ليست أمراً سهلاً أبداً; لهذا نرى رسول الله(ص) يلاحق أباذر في تحركاته، ويكثر له من الدعاء في أن يسدّده الله تعالى وأن يثبته؛ وفعلاً استطاع أبوذر _ وكما تقول مصادر التاريخ _ أن يهدي أكثر من نصف قبيلته وبقي النصف الآخر ليعلن إسلامه على يدي رسول الحق(ص).

وكان من أدعيته(ص) التي طالما كررها له:

أللهم أغفر لأبي ذر وتب عليه.

آجرك الله يا أباذر...

أما من وصاياه(ص) الأخرى

فعن أبي ذر: دخلت المسجد فإذا رسول الله(ص) فقال: «يا أباذر ألا أوصيك بوصايا إن أنت حفظتها نفعك اللهُ بها؟

قلت: بلى بأبي أنت وأمّي.

قال: جاور القبور تذكر بها وعيد الآخرة، وزرها بالنهار، ولا تزرها بالليل، واغسل الموتى; فإنّ في معالجة جسد خاو عظة، وشيع الجنائز، فإنّ ذلك يحرك القلب ويحزنه، واعلم أنّ أهل الحزن في أمن الله، وجالس أهل البلاء والمساكين، وكُلْ معهم، ومع خادمك، لعلّ الله يرفعك يوم القيامة، والبس الخشن الصّفيق من الثياب، تذلّلاً لله _ عزّوجلّ _ وتواضعاً; لعلّ الفخر والبطر لا يجدان فيك مساغاً، وتزين أحياناً في عبادة الله بزينة حسنة تعففاً وتكرماً، فإنّ ذلك لا يضرك _ إن شاء الله _ وعسى أن يحدث لله شكراً».(1)

و من أقواله ووصاياه التي تتسم بالحكمة

كانت له أقوال ووصايا تتسم بالحكمة، وتنمّ عن خبرة وتجربة، وعن إيمان متجذر في


1- مختصر تاريخ دمشق 28: 288.

ص: 219

نفسه وقلبه، كما تكشف عن أن الرجل يتمتّع بعقل قويّ وذهن حاد ونفس صلبة وهمّة عالية؛ كما أنّ هذه الوصايا تبين لنا أنّ أباذر كان مخلصاً صادقاً محبّاً لهذه الأمّة، وراعياً لها، لهذا نراه لم يبخل عليها بشيء، ومن كان سخياً بنفسه وحياته في سبيلها فهل تراه يبخل عليها بكلماته وأقواله ووصاياه، إن رأى فيها مصلحة لها؟!

قالوا: يا أباذر، إنك امرؤ ما يبقى لك ولد.

فقال: الحمد لله الذي يأخذهم في الفناء، ويدّخرهم في دار البقاء.

قالوا: يا أباذر، لو اتخذتَ امرأةً غير هذه؟

قال: لأن أتزوج امرأة تضعني أحبّ إليّ من امرأة ترفعني.

قالوا: لو اتخذت بساطاً ألين من هذا؟

قال: أللهم غفراً، خذ مما خوّلت ما بدا لك.

_ بعث حبيب بن مسلمة إلى أبي ذر وهو بالشام ثلاثمائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال أبوذر: ارجع بها اليه، فما أحد أغنى بالله منا، لنا ظل نتوارى به، وثلة من غنم تروح عليها، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل.

_ إنّ لك في مالك شريكين: الحدثان (الليل والنهار) والوارث، فإن استطعت ألاّ تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل.

_ وشتمه رجل: فقال له: يا هذا، لا تُغرق في شتمنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.

_ إني لأقربكم مجلساً من رسول الله(ص) يوم القيامة، إني سمعت رسول الله(ص) يقول: «إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة من خرج من الدنيا بهيئة ما تركته فيها» وإنه والله ما منكم أحد إلاّ وقد تشبث منها بشيء.

_ وقال رسول الله(ص): والذي بعثك بالحق لالقيتك إلاّ على الذي فارقتك عليه.

_ كان قوتي على عهد رسول الله(ص) في كلّ جمعة صاعاً، فلست بزائد عليه حتى

ألقاه.

ص: 220

_ دخل شباب من قريش على أبي ذر _ ممّن يريدون إيذاءَه _ فقالوا له: فضحتنا بالدنيا، وأغضبوه، فقال: ما لي وللدنيا، وإنما يكفني صاع من طعام في كلّ جمعة، وشربة من ماء في كلّ يوم.

إلى غير ذلك من الوصايا النافعة والأقوال الحكيمة..

مواكبة رسول الله(ص) له

حقّاً لقد تربى هذا الصحابي الجليل في بيت النبوة فنهل من أخلاقها، وتأدب

بآدابها; وكان رسول الله(ص) يواكبه، فإن وجد فيه ما يشين نبهه عليه، وإن وجد فيه

خيراً ثبته عليه، وكان أبوذر طوع بنان رسول الله(ص) منقاداً له أيما انقياد، ويسمع منه ويقتدي به.

يقول ابن سويد: نزلنا الربذة، فإذا رجل عليه برد، وعلى غلامه برد مثله، فقلنا له: لو أخذت بردَ غلامك هذا فضممته إلى بردك هذا فلبسته كانا حُلّةً (الحلة عند العرب ثوبان، ولا تطلق على ثوب واحد)، واشتريتَ لغلامك برداً غيره.

قال: إني سأحدثكم عن ذلك: كان بيني وبين صاحب لي كلام، وكانت اُمّه أعجمية، فنلتُ منها، فأتى النبيّ(ص) ليعذره مني، (يقال: من يعذرني من فلان؟ أي من يقوم بعذري إن أنا جازيته بسوء صنيعه).

فقال لي رسول الله(ص): «ياأباذر، ساببتَ فلاناً؟» فقلت: نعم، قال: «فذكرتَ أُمّه؟» فقلت: من سابَّ الرجال ذُكِرَ أبوه وأمُه، فقال لي: «إنك امرؤ فيك جاهلية» قلت: على حال ساعتي من الكِبر؟ قال: «على حال ساعتك من الكبر، إنهم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه».

سمع رسول الله(ص) أباذر يقول حِدثانَ إسلامه لابن عمّه: يا بن الأمة، فقال له9: «ما ذهبت عنك أعرابيتُك بعد».

ص: 221

هكذا كان9 يواكب أصحابه المخلصين ويسدّدهم ويقوّمهم; ويقتلع ما فيهم من آثار الجاهليّة، وما تركته بيئتهم في نفوسهم، والإنسان ابن بيئته، ليبدلها بأخلاق إسلامية، وآداب قرآنية، بعيدة عن حالات التعصب التي طالما كان يقول عنها: دعوها فإنّها نتنة، دعوها فإنّها نتنة.

كرمه

عرف عنه أنه كان كريماً، كثير الإحسان، رغم فقره وضعفه، وقلة ما في يده، ولم يترك بعد وفاته شيئاً في بيته، حتى أنه لم يجدوا عنده ما يكفن به.

فمن كرمه:

_ دفع رسول الله(ص) إلى أبي ذر غلاماً، فقال: «يا أباذر، أطعمه ممّا تأكل، واكسُه مما تلبس».

فلم يكن عنده غير ثوب واحد، فجعله نصفين، فراح إلى رسول الله(ص) فقال: «ما شأن ثوبك يا أباذر؟».

فقال:إنّ الفتى الذي دفعته إليّ أمرتني أن أطعمه مما آكل، وأكسوه مما ألبس، وإنه لم يكن معي إلاّ هذا الثوب فناصفته.

فقال رسول الله(ص): «أحسن إليه يا أباذر».

فانطلق أبوذر فأعتقه.

فسأله رسول الله(ص): «مافعل فتاكَ؟».

قال: ليس لي فتى، قد أعتقته.

قال (ص): «آجَركَ الله يا أباذر».

_ يقول عطاء بن مروان: رأيت أباذر في نمرة (شملة فيها خطوط بيض وسود، وبردة من صوف يلبسها الأعراب) مؤتزراً بها، قائماً يصلي، فقلت: يا أباذر، مالك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيته عليّ، قلتُ: فإني رأيت عليك منذ أيام ثوبين، فقال: يا بن

ص: 222

أخي، أعطيتهما من هو أحوج مني إليهما، قلت: والله إنك لمحتاج إليهما، قال: أللهم غفراً، إنك لمعظم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البردة؟ ولي أخرى للمسجد، ولي أعنز نحلبها، ولي أحمرة نحتمل عليها ميرتنا، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟.(1)

مواقفه

الذي لا يهاب الموت لا يهاب ما دونه; لهذا نرى أباذرٍّ لا يخشى بأسهم، ولا يخاف طغيانهم، ولا يكترث بظلمهم، ولا يأبه بتهديهم وإنذارهم ووعيدهم... إنّه كان يخشى فقط وعيد السماء وإنذارها.

بايعني رسول الله(ص) خمساً، وواثقني سبعاً، وأشهد عليَّ تسعاً ألا أخاف في الله لومة لائم، وفي قول آخر له9: «هل لك إلى بيعة ولك الجنة»؟

قلت: نعم، وبسطت يدي فقال رسول الله(ص) وهو يشترط عليَّ: «أن لا تسأل الناس شيئاً» قلت: نعم، قال: «ولاسوطك إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه».(2)

فكان هذا عهده وهو الوفي به، وكانت تلك صرخاته المتتالية ضد الظالمين والمترفين، عناقيدَ غضب تنهال على رؤوسهم، وكان لسانه سيفاً صارماً يكشف زيفهم، ويعري مواقفهم وادعاءاتهم...

كانت كلّ أمنياته أن يحذف ويلغي كلّ انحراف من حياة هذه الأمة، فهو يخشى إن بقي هذا الانحراف أن يتجذر، ويصبح وكأنه هو الصحيح وغيره خطأ، وكان يخشى على هذه الأمة أن تذهب بعيداً عمّا بناه رسول الله(ص) وارتأته السماء؛ لهذا ولغيره تصدى أبوذر، وتحمل عواقب هذا التصدي.

كانت له مواقف عديدة شهد بها التاريخ ومؤرخوه تتسم بالقوة والشدّة، صبت كلّها ضد حكام عصره، والأغنياء، وثرواتهم بغير حقّ... فكانت دروساً قيمة للأجيال في مقارعتها


1- طبقات ابن سعد 4: 235.
2- مختصر تاريخ دمشق 28: 293 _ 394.

ص: 223

للظلم والظالمين، والترف والمترفين، وراحت مواقفه الجريئة هذه أنشودةً لا يتخلى عن إنشادها المناضلون، ولا يعزف عن التغني بها المجاهدون، وراح يترسمها الأحرار في كلّ مكان وزمان، وقد سببت له ابتلاءات كثيرة كان يستعذبها، لأنها في الله ولله، «يا أباذر، أنت رجل صالح، وسيصيبك بعدي بلاء»، قلتُ: في الله؟ قال (ص): «في الله»، قلت: مرحباً بأمر الله.

كانت كلمات رسول الله تلاحقه، وكان هو الآخر يستحضرها في كلّ خطواته وأقواله، أمرنا رسول الله(ص) ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن.

وكان في جهاده هذا يستوحي كلّ مواقفه وكلماته من السماء ورسولها، ولا يغيّر ولا يبدل: والله، ما كذبتُ على رسول الله(ص) ولا أخذت إلاّ عنه، وعن كتاب الله عزّوجلّ.

والله إني لعلى العهد الذي فارقتُ عليه رسول الله(ص)، ما غيرتُ، ولا بدلتُ.

لقد بايعت رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم.

قصد أبوذر الشام واستقرّ بدمشق حيث الثروة المبدّدة، والإسراف الفاحش، والدنيا الفارهة، وحيث الترف والمترفين، إلى جانب ذلك كلّه وجد الفقر المدقع والحاجة القاتلة، فأعلنها مدويةً صرخةً ضد الأغنياء ليبروا الفقراء، ثورةً ضد الطغاة لينصفوا الرعية; كان صوتاً عالياً ضد أصحاب الأموال; ليمدوا يد العون لإخوانهم.

كانت بحقّ ثورةً كبرى ضد الطبقية القاتلة التي تنخر بالمجتمع المسلم، وتهدّد كيانه وتطيح بقيمه ومبادئه.

يقول الدكتور الجميلي:

لقد كان يرى أنّ المال فتنة تثير الغفلة والريبة والشبهات حول أولي الأمر، هذا رأيه، وهذا فهمه، وتلك طبيعته المفطورة على الطهر، والنقاء، والنظافة، والتنزه عن مجرّد الارتياب.

كان يشتدّ به الضيق عندما يرى اُمراء المؤمنين يتمرغون في القصور، ومن ورائهم يرى الجياع المتربين ذوي الخصاصة، يتضورون متهالكين، فكان دائماً يردّد قوله تعالى:

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ

ص: 224

يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ).(1)

حمل رداءَه، واشتمل بردته، وسار إلى بلاد الشام حيث ثمّ معاوية ابن أبي سفيان يقطن ويستمتع بالخصوبة والفيء والمروج الخضر، حيث الثروات والقصور المنيفة والضيع الوارفة الظلال، ولم يسكت على الثورة الضاربة في داخل كيانه، لكنها انطلقت على لسانه، فصرخ في الناس.

«عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه».

فإنّ أمير القوم أول من يجوع إذا جاعوا، وآخر من يشبع إذا شبعوا.

كان يأتي معاوية في عقر داره في مجلسه، ويعلنها واضحةً لا لبس فيها: خياركم أزهدكم في الدنيا، وأرغبكم في الآخرة، وشراركم أرغبكم في الدنيا وأزهدكم في الآخرة.

كانت معارضة أبي ذر معارضة قوية، يُخشى بأسها، ويعمل حسابها; لأنها صادرة من نفس أبية عالية، وهمة شامخة، شايعها كثير من صحابة رسول الله(ص) والتفوا حولها.(2)

سحب أبوذر فضل ردائه قائلاً: «لا حاجة لي في دنياكم» قال ذلك بعدما استدعاه الخليفة الثالث من دمشق، تلبية لطلب معاوية حيث كتب لعثمان: إن كان لك بالشام حاجة فأرسل إلى أبي ذر.

فكتب إليه عثمان يأمره بالقدوم عليه، وبعدما سمع قول عثمان له: «ابق معي هنا بجانبي، تغدو عليك اللقاح وتروح».

فكان جوابه رضوان الله عليه:

نعم «لا حاجة لي في دنياكم».

«لا حاجة لي في ذلك تكفي أباذر صُريمتُه.. دونكم معاشر قريش دنياكم فاخذموها ودعونا وربّنا.. لم تكن هذه كلمات فقط، وإنّما كانت مواقف هزّت كيان الظالمين، وأرست قواعد للإيمان الصحيح، والمواقف المبدئية الصلبة.


1- التوبة: 34 _ 35.
2- صحابة النبي (ص) ، للدكتور الجميلي: 252.

ص: 225

و من تلك المواقف

كان أبوذر أشدَّ الصحابة غضباً على ما فعله الخليفة الثالث، حين ولي الخلافة، فقد قام بتوزيع كثير من أموال بيت المال على من يرغب، وهو عطاء غير مسؤول، فقد أعطى مروان ابن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث ابن الحكم ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم.

فوقف أبوذر موقفاً مليئاً بالقوة والشدّة والغضب، وراح يتلو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

وجرت محاورات كانت في بعض جوانبها تتسم بالجرأة، وأثبت له خطأ تصرفاته، وأنها بعيدة عن الشرع في الوقت الذي راح كثير من الصحابة _ وقد ملئت قلوبهم غيظاً وضيقاً على أفعال الخليفة _ يميلون إلى تأييد أبوذر في مساعيه وجهوده، من أجل إيقاف هذا الانحراف أو الحد منه، وبدلاً من أن يتعظ الخليفة بذلك، أخذته العزّة بنفسه مؤيداً من قبل المستفيدين، فقد أصدر أمره بإبعاد الصحابي الجليل أبوذر عن المدينة إلى الشام، وكان ذلك سنة تسع وعشرين للهجرة، وفعلاً التحق أبوذر بالشام، وهناك راح ينكر على معاوية اُموراً كثيرة وانحرافات خطيرة، فما كان من معاوية إلاّ أن يرسل له ثلاثمائة دينار كي يستميله إلى جانبه، أو على الأقل يخرس صوته.

فقال له أبوذر: إن كان من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.

ولما رأى قصر الخضراء الذي بناه معاوية بدمشق، لم يلذ أبوذر بالسكوت، بل أعلنها واضحة جلية أمام معاوية: يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف.

فلم يحر معاوية جواباً، بل لاذ بالسكوت منتظراً نزول الظلام، فبعث إليه بألف دينار; فما كان من أبي ذر إلاّ أن أنفقها في سبيل الله.

ولما صلى معاوية صلاة الصبح، دعا رسوله، فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل: أنقذ جسدي

ص: 226

من عذاب معاوية، فإني أخطأتُ.

قال: يا بني، قل له: يقول لك أبوذر: والله ما أصبح عندنا منه دينار، ولكن انظرنا ثلاثاً حتى نجمع لك دنانيرك.

فلما رأى معاوية أنّ قوله صدّق فعلَه; كتب إلى عثمان: أما بعد; فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله، فابعث إلى أبي ذر فإنه وغّل صدور الناس.(1)

فما كان من عثمان إلاّ أن كتب إلى معاوية: أما بعد، فاحمل جندباً على أغلظ مركب وأوعره.

فوجه معاوية مَن سار به الليل والنهار.(2) وكان ذلك سنة ثلاثين بعد أن قضى سنة في دمشق، وأما في تاريخ اليعقوبي: فكتب إليه أن احمله على قتب بغير وطاء، فقدم به إلى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه.

أما في مروج الذهب: فحمله على بعير عليه قتب يابس، معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت أفخاذه وكاد أن يتلف.

ومع كلّ ذلك لم يترك أبوذر جهاده وصرخته بالحق والعدل ضد كلّ ظلم وانحراف وتعدي; فلما قدم أبوذر المدينة جعل يقول مخاطباً الخليفة: تستعمل الصبيان، وتحمي الحمر، وتقرب أولاد الطلقاء; فما كان من الخليفة إلاّ أن سيره إلى الربذة.(3)

المقاطعة

وخلال فترة مناهضته للحكام وللأغنياء الذين استحوذوا على الأموال بغير حقّ، وقبل نفيه إلى الربذة لإبعاده عن الأمة، تعرّض الرجل الجليل المسنّ إلى مضايقات كثيرة وأذى عظيم، فإضافةً إلى منعهم عطاءَه من بيت المال منع الناس من الاتصال به، وحضور مجالسه


1- سير أعلام النبلاء 2: 50.
2- أنساب الاشراف 5 : ترجمة عثمان.
3- المصدر نفسه.

ص: 227

وحلقات دروسه، فقد كانت لأبي ذر حلقات للتفسير والحديث والفتيا، وكان الناس يحتوشونه، بعض يطلب تفسير آية، وبعض يستفتيه، وآخر يقول له: حدّثنا عن رسول الله(ص) فكانت هذه الحالة وهي كثرة الذين يستفتونه، ويأخذون العلم منه، تلقي في قلوب بعضهم الخشية منه، حتى منعه بعض أمراء عصره من ذلك، ولكي لا يتصل به أحد فيتأثر بآرائه، راحوا يلاحقون مجالسه، ويحظرون الاستماع إليه.

يقول أبو كثير: حدّثني أبي قال: أتيت أباذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، فقال: أَلم ينهكَ أميرالمؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه ثم قال: أرقيب أنت عليَّ؟!

لو وضعتم الصمصامة (السيف القاطع) على هذه _ وأشار بيده إلى قفاه _ ثمّ ظننتُ أن أُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله(ص) قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها.

وفي رواية أنّ رجلاً أتى أباذر فقال:

إنّ المصدقين _ يعني جباة الصدقة _ ازدادوا علينا، فنغيّب عنهم بقدر ما ازدادوا علينا؟

قال: لا، قف مالك عليهم فقل: ما كان لكم من حقّ فخذوه، وما كان باطلاً فذروه، فما تعدّوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة.

وكان على رأسه فتى من قريش، فقال: أما نهاك أميرالمؤمنين عن الفتوى؟

فرفع رأسه إليه ثم قال له: أرقيب أنت عليّ؟! لو وضعتم الصمصامة.

يقول الأحنف بن قيس: أتيتُ المدينة، ثم أتيتُ الشام، فجمّعتُ (أي شهدت الجمعة) فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلاّ فرّ أهلها، يصلّي ويُخفُّ صلاته، فجلستُ إليه، قال: قم عني لا أغرُّك بشرٍّ، فقلت: كيف تغرُّني بشرٍّ؟ قال: إنّ هذا _ يعني معاوية _ نادى مناديه أن لا يجالسني أحدٌ.

وفي رواية أخرى له: كنتُ جالساً في حلقة بمسجد المدينة، فأقبل رجل لا تراه حلقة إلاّ فروا حتى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها، ففروا، وثبتُ، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا أبوذر صاحب رسول الله(ص)، قلت: فما يُفِرّ الناس منك؟

ص: 228

قال: إني أنهاهم عن الكنوز، قلت: فإن أعطيتَنا قد بلغت وارتفعت، أفتخاف علينا منها؟ قال: أما اليوم فلا، ولكن يوشك أن يكون أثمان دينكم، فإذا كان أثمان دينكم فدعوهم وإياها.

وكل هذا وغيره لم يثنه عن عزمه، وعن الوفاء بعهده الذي عاهد عليه رسول الله (ص) وراح يواصل ثورته وكفاحه ضد كنز المال، بعد أن رأى أنه عصب خطير وعظيم في حياة الناس; لهذا فقد راح ينادي أن للفقراء حقّاً في مال الأغنياء، وأنه نصير للفقراء، فاجتمع حوله الكثيرون، وناوأه آخرون ممن كان هواهم جمع المال.

يقول الأحنف بن قيس كما في سير أعلام النبلاء:(1)

قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة فيها مَلأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم، فقال: بشّر الكنازين برَضْف (الحجارة المحماة) يُحمى عليهم في نار جهنم.

قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً، (أي أجابه بشيىء) فأدبر، فتبعته حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلاّ كرهوا ما قلت لهم، فقال: إنّ هؤلاء لا يعقلون شيئاً، إنّ خليلي أبا القاسم دعاني، فقال: «يا أباذر» فأجبته، فقال: «ترى أُحداً» فنظرت ما عليه من الشمس، وأنا أظنه يبعث بي في حاجة له، فقلت: أراه، فقال: «ما يسرني أن لي مثله ذهباً أُنفقه كلّه إلاّ ثلاثة دنانير».

ثمّ هؤلاء يجمعون للدنيا، لا يعقلون شيئاً! فقلت: ما لك ولإخوانك من قريش، لا تعتريهم، وتصيب منهم؟

قال: لا وربِّك ما أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله.

إضافةً إلى كلّ ذلك فإنه لم ينجو من الاتهامات الأخرى، التي اعتاد الحكام على ملء وسائل إعلامهم بها ضد من يخالفهم، فقد اتهموه بأنه من الخوارج ومثير الفتن حتى اضطرته هذه الأمور _ أحياناً _ إلى التصدي لها وتفنيدها في مجالسهم، فقد دخل يوماً على


1- سير أعلام النبلاء 2: 64.

ص: 229

عثمان، وهو في مجلسه يحيطه جمع، فقال له وقد حَسَر عن رأسه: والله ما أنا منهم... يريد الخوارج ومثيري الفتن.

وكيف يكون من هؤلاء، وهو الصادق القائل لرسول الله(ص) : والذي بعثك بالحق لالقيتك إلاّ على الذي فارقتك عليه.

خرج من مجلس الخلافة قاصداً الربذة، وهو يقول: _ للخليفة الذي قال له: نأمر لك بنعم من نعم الصدقة، تغدو عليك وتروح _ لا حاجة لي في ذلك، تكفي أباذر صريمته؛ ثم راح يخاطبهم: دونكم معاشر قريش دنياكم فأخذِموها، ودعونا وربّنا.

المنفى الأخير «الزبدة»

لقد كان الصراع الذي خاضه أبوذر طيلة عمره الشريف ضد الحكام واستئثارهم، وضد ثروتهم المتزايدة، بعيداً عن المبادئ والقيم وحاجة الناس وعوزهم؛ لابدّ أن ينتهي إلى إبعاده عن الساحة _ على أقل التقادير _ وهذا ما جرى بالفعل.

وخير ما يصور لنا جهاد الرجل، وإخلاصه، ومناوأته للظالمين، نهج البلاغة.

يقول الإمام علي (ع) وهو يودعه: «يا أبا ذرٍّ، إنّك غضبتَ لله، فارجُ من غضبتَ له؛ إنّ القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسَّداً؛ ولو أنّ السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثمّ اتقى الله; لجعل الله منهما مخرجاً! لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلتَ دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوكَ».(1)

اشتد مرضه الذي ألمّ به، وانتابه ضعف شديد جعله يجود بنفسه وحيداً في غربة قاتلة، وقد فقد المعين، وغاب عنه الناصر إلاّ ابنته، وعلى رواية زوجته، وماذا تستطيع البنت أن تقدم لأبيها، وهو يصارع سكرات الموت؟!


1- نهج البلاغة، صبحي الصالح: 188.

ص: 230

رمقها بنظرة فرآها تبكي، عرف معنى بكائها، فقال لها: ما يبكيك؟

قالت: مالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يدان لى بتغييبك وليس عندي ثوب يسعك كفناً لي ولا لك؟! ولابدّ منه لنعشك، قال: فأبشري ولا تبكي، إني سمعت حبيبي رسول الله(ص) يقول: «لا يموت بين امرأين من مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبرا ويحتسبا، فيريان النار أبداً».

وإني سمعت رسول الله(ص) يقول لنفر وأنا فيهم: «ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، يشهده عصابة من المؤمنين».

ثم أردف قائلاً: وليس من أولئك النفر أحد إلاّ مات في قرية أو بجماعة; فأنا ذلك الرجل، والله ما كذبت ولا كذبت، فأبصري الطريق.

فقالت: أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق؟!

فقال: اِذهبي وتبصري.

وطلب منها أن تعلو مرتفعاً من الجبل تؤشر للمارة; كي يحضر بعضهم إليه ساعة الوفاة، فكانت تشدّ إلى كثيب، ثمّ ترجع إلى أبي ذر المحتضر.

فبينما هما على هذه الحالة، وإذا برجال كأنهم الرخم تجدّ بهم رواحلهم; ورأوا هذه المضطربة تلوّي بطرف ردائها إليهم، فأسرعوا إليها حتى وقفوا عليها وهي تنادي:

يا عباد الله المسلمين، يا عباد الله الصالحين.

_ سألوها _ ما بك؟ وما تريدين؟

_ هذا أبوذر صاحب رسول الله(ص) هلك غريباً، ليس لي أحد يعينني عليه!

_ صاحب رسول الله(ص)؟

_ نعم

فنظر بعضهم بعضاً، وحدّوا الله على ما ساق إليهم واسترجعوا وقالوا: فداؤه آباؤنا وأمهاتنا.

أسرع إليه القوم، وفيهم مالك الأشتر بن الحارث النخعي، وأسرعوا حتى دخلوا عليه.

ص: 231

فقال أبوذر لهم: ابشروا فإني سمعت رسول الله(ص) يقول لنفر وأنا فيهم: «ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين» ما من أولئك النفر رجل إلاّ وقد هلك في قرية أو جماعة، والله ما كذبت ولا كذبت، أنتم تسمعون أنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي أو لامرأتي، لم أكفن إلاّ في ثوب لي أو لها.

إني أنشدكم الله، إني أنشدكم الله، أن لا يكفنني رجلٌ منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً، وليس من أولئك النفر إلاّ وقد قارف ما قال، إلاّ فتى من الأنصار فقال: (أنا أكفنك يا عم، أكفنك بردائي هذا أو في ثوبين في عبيتي من غزل أمي) قال أبوذر: (أنت تكفنني) ثم قال: (بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله(ص) ولفظ نفسه الأخير).

وهكذا انطفأ هذا المصباح، وضاع هذا الصوت، ومات هذا البطل المجاهد العظيم; استرجع القوم على عظم المصيبة، وبكوا ثم شرعوا في تجهيزه، وتنافسوا في كفنه.(1)

حتى خرج من بينهم بالسواء، وتولى غسله مالك الأشتر، وصحبه حتى فرغوا، ولفّه مالك الأشتر في برد يماني كان قيمته4000 درهم وصلى عليه، ودفنوه على قارعة الطريق; ثم مسح الأشتر القبر بيده وقام عليه وقال:

(أللهم هذا أبوذر صاحب رسول الله(ص) عبدك في العابدين، وجاهد فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدل، لكنه رأى منكراً، فغيّره بلسانه وقلبه، حتى جفي، ونفي، وحرم، واحتقر; ثم مات وحيداً غريباً...) إلى آخر ما قاله.(2)

وكانت وفاته في آخر ذي القعدة الحرام، سنة إحدى وثلاثين بعد الهجرة.(3)

أما ابنته، أو زوجته على رواية، فقد حملها القوم معهم إلى المدينة، وسلّمها مالك الأشتر إلى الإمام علي ابن أبي طالب (ع) معزّزةً مكرّمةً محترمةً إلى ما شاء الله.(4)


1- تنقيح المقال في علم الرجال 2: 49 باب الميم في ترجمة مالك الأشتر.
2- المستدرك، للحاكم النيسابوري 3: 345.
3- أنساب الأشراف، للبلاذري 5: 56.
4- معالم الزلفى: 106، سير أعلام النبلاء 2: 47 _ 48.

ص: 232

وأنهى أبوذر في سنة 32 ه_ ، حياةً جليلةً وعظيمةً، كانت كلّ مفاصلها في عين الله تعالى; ليجد نداء الحقّ أمامه:

(أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

فدفن رضوان الله عليه في مكان على قارعة الطريق في الربذة، وهي من قرى المدينة على ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرق، على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة.(1)

وقد حفرت عندها آبار وقناة، وأشهر آبارها (بئر الوسيط) راح أهالي القرى المجاورة والقوافل يرتوون من مائها العذب، وغرست بجوارها أشجار النخل والرمان وغيرهما، وتعرف اليوم باسم قرية واسطة تقع عند الكيلومتر 126 للذاهب من المدينة إلى جدة أو مكة المكرمة على حافة الطريق المبلط بالأسفلت بانحراف قليل عن الجادة القديمة، تقع مدرستها الابتدائية ومركز شرطتها وبيوت القرية وبساتينها على جانب الطريق الأيسر، لها سوق وبساتين ومزارع أنشئت مع امتداد الطريق، وتسقى من قناة تسمى ب_ (سُقيا الوسيط) ويمرّ أغلب الحجاج بهذه الناحية، ولا يعرفون عنها شيئاً.(2)

«رحم الله أبا ذر، يحشر وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».

هذا ما قاله رسول الله(ص) حينما رآه، وقد أبطأ بعيره في غزوة تبوك، فحمل متاعه على ظهره، وتبع أثر الرسول (ص) ماشياً حتى لحق به.

فسلام عليك يا أباذر في الخالدين.


1- معجم البلدان 3: 24.
2- أبوذر في سطور، محمد رضا: 19 بتصرف.

ص: 233

(11) أبو أيّوب الأنصاري

اشارة

(رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَ_اهَدُواْ اللهَ عَلَيْهِ)

حسن الحاج

تلك هي مدرسة مباركة، أصلُها ثابت وفرعُها في السماء لا يضرّها من كبا، ولا يعكر صفوها من ولّى وجهه بعيداً عنها، وكيف يكدر مسيرتها من شطط، ويضعف كيانها من جفا، وها هو رسول الله(ص) قائم عليها، يؤسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان، يمدّها بعطائه الذي لا ينضب، وبخلقه الذي لا يحد ولا يتوقف، وبعلمه الذي لا يبور؟!

فكان منهم الصادقون حقّاً، وكان منهم الصالحون، وكان منهم الشهداء، وهكذا ظلّت شجرتها خضراء مورقة معطاء بفضل دمائهم وجهودهم ومواقفهم، رغم ما تعرّضت له من كيد وتآمر، وما توغّل في صفوفها من نفاق، وما حيك حولها من اتهامات، وأثير عليها من شبهات.

فالصحابة والصحبة مدرسة قلّ نظيرها، وفقد شبيهها في التاريخ، إنّهم طليعة آمنوا بربّهم فزادهم الله هدًى; لهذا لا تجد مثيلاً لهم في حياتنا قديماً وحديثاً إلاّ من رحم ربّي،

ص: 234

نخبة صالحة تفرّدت بصفات وخصائص، راحت تتمّناها الأجيال المؤمنة، وتتحلّى بها، وهي تكدح متمنّية رضوان الله وجنانه.

إنّ من يقرأ حياتهم مهاجرين وأنصاراً، يضع يده على مزايا عالية، وأخلاق رفيعة، ومناقب راقية، وبسالة وجهاد، تحلى بكلّ هذا وبغيره من قيم السماء جمعٌ كثير منهم، حتّى إنك تجد وكأنّ بعضاً منهم اصطفته السماء، واصطنعته يدُ الغيب لمهام رساليّة، وليبقى نموذجاً فذّاً، ومثالاً يتحذّى، وحجّةً على غيره ممّن عاصروه والذي جاؤوا من بعدهم،.. (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

لقد حظيت هذه الشريحة من الصحابة، بنصيب وافر من رعاية الرسول الكريم9 واهتمامه، وهديه، وتربيته، وتعليمه، فراحت تستوعب كلّ ذلك بوعي ورغبة، وتمثّلت ما اكتسبته من رسول الله(ص) أسلوباً عملياً، ومواقف صلبة _ لم تهن، ولم تنكل، ولم تنقلب، ولم تغيّر، ولم تبدّل، ولم تحد عن منهجه، ولم تتجاوز خطاه، ظلّت مستقيمة على مبادئها، وفيّة لقيمها، حتّى غدت أمّةً رساليّة، فحملت أعباءً عظيمة، ومخاطر جسيمة.

والأنصار هؤلاء: (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)، (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ).

وروي عن رسول الله(ص) : «لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار»؛ وهذا الصحابيّ الجليل واحد منهم.

فهو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجّار بن ثعلبة بن الخزرج، المعروف ب_: «أبو أيّوب الأنصاري الخزرجي المالكي»

من أشراف الأنصار وساداتهم؛ صحابي جليل آخى رسول الله(ص) بينه وبين مصعب بن عمير.

مضيف رسول الله(ص)، بهذا عرف هذا الصحابي الجليل، فقد أكرمه الله تعالى بكرامة أعلت في الدنيا قدره، حين اختار بيته من دون البيوت; ليحلّ فيه رسول الله(ص) حين هاجر

ص: 235

من مكّة، ورحل(ص) من قباء إلى المدينة، فبعد أن اقتربت قافلته(ص) من تخوم هذه البلدة الطيّبة، وطأت قدماه الشريفتان أرض المدينة مهاجراً، وراحت تحييه بدءاً بسعيفات نخلها التي استقبلته بظلالها الوارفة، ومروراً بقلوب أهلها التي راحت هي الاُخرى تستقبله بأفضل ما يتلقّى به مقبلٌ، وتطلّعت عيونهم إليه، وفتحت له أفئدتهم... وانتهاءاً ببيوتها التي أشرعت أبوابها.. وحسب هذا الأنصاري بذلك فخراً وشرفاً وكرامة.

دعوها إنّها مأمورة!

فقد راح رسول الله(ص) يصوّب ناظريه إلى حيث المكان الذي عيّنته السماء لتبليغ دعوتها، وحمل رسالتها إلى الناس كافّة... فشدّ(ص) رحاله عبر صحراء محرقة ملتهبة، ورياح مغبرة تلفح وجهه الشريف... وعبر هضاب صعبة وصخور صمّ_اء ووديان جافّة... حتّى اقتربت قافلته(ص) من تخوم يثرب... إنّها معاناة شاقّة وتعب مرير..

علت وجهه المبارك ابتسامة، وهو يلمح معالم هذه البلدة الطيّبة، وسرعان ما ينظر خلفه، حيث مدينته التي ولد ونشأ بين هضابها وجبالها ولصق بها، وتعلّق قلبه بحبّها، يودّعها بدموع منهمرة وفؤاد حزين...

هاهي يثرب، وها هو النور قد قدم، وها هي الجموع عند ثنيّات الوداع، وقد أحاطت برسول الله(ص) من كلّ جانب، يتسابقون للترحيب به، ولخدمته وضيافته؛ كم هي اُمنية عظيمة عاشت في نفوسهم جميعاً، صغيراً وكبيراً، أن يحلّ هذا المهاجر الكريم بين ظهرانيهم؟! ومَن هو صاحب الحظّ الأوفر الذي ادّخرته السماء، ليضع رسول الرحمة رحله عنده؟!

راحت أصواتهم تعلو، وأهازيجهم تملأ ذلك المكان، وقد فتحت له قلوبهم وتطلّعت له عيونهم؛ وراح كلّ واحد منهم يُهلك نفسه اُمنية وحسرة، ليتشرّف بضيافة رسول الله(ص) وهم يعترضون ناقته، آخذين بزمامها.

نحن بنو سالم،... أقم عندنا في العدد والعدّة والمنعة.. نحن بنو بياضة،... هلمّ إلينا، إلى العدد والعدّة والمنعة،... نحن بنو ساعدة... نحن بنو الحارث... نحن بنو النجّار...

ص: 236

اغمرنا بالسعادة يا رسول الله، انزل فدوُرنا لك عامرة، حتّى راحت دموعهم تنهمر توسّلاً به(ص) وخوفاً من أن لا يلبّي طلبهم.

لم تفارق محيّاه(ص) ابتسامة الشكر لهم والثناء عليهم، ولم يزد على قوله لهم: «خلّوا سبيلها، فإنّها مأمورة» أي الأمر ليس بيدي إنّه بيد السماء، فقد اُمِرت هذه الناقة بشيء وهي منقادة إليه، وها هو زمامها مرسلاً، فخلّوا سبيلها، وما زالت عيونهم تلاحقها وقلوبهم تحفّ بها.

رمق(ص) السماء بطرفه: «أللّهم خِر لي، واختر لي».

كان أبو أيّوب الأنصاري أحدهم، وقد ابتلّت لحيته بدموع الأمل والفرح، وراحت نفسه تتوق إلى أن تكون صاحبة تلك الضيافة وتلك الحظوة، حقّاً لا ينالها إلاّ ذو حظٍّ عظيم.

لقد بركت الناقة في أرضه.. لكنّها نهضت ثمّ عادت ورسول الله(ص) يرخي لها زمامها، لا يثنيها به.. وبركت بجوار بيته واستقرّت... فنزل رسول الله(ص) عنها وقد ملئت أسارير وجهه بشراً وسروراً.

وخطى نحوه صاحب الحظّ الأوفر والسعادة العظمى، أبو أيّوب وقد علا وجهه الفرح والغبطة، إنّه الرحل إذن أحمله، وراح يحمل رحله، وكأنّه يحمل كنوز الدنيا وما فيها، واتجه به إلى بيته، وسمع رسول الله(ص) يقول للناس وهم يدعونه إلى منازله: «المرء مع رحله» فراحت العيون تغبط أبا أيّوب على هذا النصيب الوافر والحظّ الوافي.

مع رواية الطبري

إنّ رسول الله(ص) ركب ناقته وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمرّ بدار من دور الأنصار إلاّ دعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلمّ يا رسول الله إلى العدد والعدّة والمنعة، فيقول لهم(ص): «خلوا زمامها فإنّها مأمورة» حتّى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده، وهو يؤمئذ مربدٌ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء، يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل ابنا عمرو ابن عباد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، فلمّا بركت لم ينزل عنها رسول الله(ص)، ثمّ وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله(ص) واضع

ص: 237

لها زمامها لا يَثنيها به، ثمّ التفتت خلفها، ثمّ رجعت إلى مبركها أوّل مرّة، فبركت فيه ووضعت جرانها، ونزل عنها رسول الله(ص)، فاحتمل أبوأيّوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار إلى النزول عليهم، فقال رسول الله(ص): «المرءُ مع رحله».

فنزل على أبي أيّوب خالد بن زيد بن كليب في بني غنم بن النجار، وسأل رسول الله(ص) عن المربد لمن هو؟ فأخبره معاذ بن عفراء، وقال: هو ليتيمين لي، سأُرضيهما.

فأمر به رسول الله (ص) أن يبنى مسجداً، ونزل على أبي أيوب، حتّى بنى مسجده ومساكنه، وقيل: إنّ رسول الله(ص) اشترى موضع مسجده ثمّ بناه.

وقد أعقب هذه الرواية بما قاله أنس بن مالك: كان موضع مسجد النبي(ص)لبني النجار، وكان فيه نخل وحرث وقبور من قبور الجاهليّة، فقال لهم رسول الله(ص): ثامنوني به، فقالوا: لا نبتغي به ثمناً إلاّ ما عند الله.

فأمر رسول الله(ص) بالنخل فقطع، وبالحرث فأفسد، وبالقبور فنبشت، وتولّى بناء مسجده(ص) هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار.(1)

فقد شاءت السماء أن يكون جوار مبرك هذه الناقة مسجداً عظيماً، ثاني الحرمين الآمنين بعد مكّة المباركة، ومدرسة للقرآن وعلومه، وموضعاً يحكم فيه بين العباد، وترسم فيه مناهج السياسة وخطط الحرب، إنّه بقعة مباركة طالما كانت مكاناً آمناً وملتقىً عظيماً تهفو إليه قلوب المؤمنين، يتحلقون حول رسول الله(ص) يبلغهم ما توحيه السماء من آيات مباركة وأحكام تنظيم حياتهم، ويملأ قلوبهم إيماناً ويثبت أقدامهم، ويلبّي حوائجهم، ويجيب عن أسئلتهم، ويقضي بينهم، حتّى غدا هذا المكان من المقدّسات الكبرى، يؤمّه الملايين من المسلمين والمؤمنين، يأتونه من كلّ بقاع الدنيا، ترفع فيه الدعوات، ويُبتهل فيه إلى العليّ القدير، وتذكرهم أجواؤه بتلك الوجوه الطاهرة أنصاراً ومهاجرين، وهم يضعون أسسه، ويرفعون بناءَه.

وأن يكون ضريحاً يضمّ الجسد الطاهر لخاتم النبيّين (ص) وأن ترد في فضله الروايات


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2: 494 _ 496 ؛ تاريخ الطبري 2: 8 السنة الهجرية.

ص: 238

والأحاديث لتبيّن فضله وعلوّ مكانه.

لقد كان بيت الصحابي الجليل أبي أيّوب الأنصاري الذي مكث فيه رسول الله(ص) شهراً قبل ابتنائه المسجد مؤلّفاً من طبقتين; طبقة سفلى فوقه عُلِّية، آثر رسول الله(ص) أن ينزل الطبقة السفلى منه، ليبقى الآخر لأبي أيّوب وأهله.

لمّا حلّ الليل، وقد آوى نبيّ الرحمة (ص) إلى فراشه، صعد أبوأيّوب وزوجته إلى حيث فراشهما في الطبقة الثانية، فانتبه أبو أيّوب إلى عمله واستنكر فعلته قائلاً لزوجته:

ويحك، ماذا صنعنا؟!

أيكون رسول الله(ص) أسفل، ونحن أعلى منه؟!

أنحشي فوق رسول الله(ص)؟!

أنصير بين النبيّ والوحي؟! إنّا إذن لهالكون، ولم تسكن نفساهما بعض السكون إلاّ حين انحازا إلى جانب العلية الذي لا يقع فوق رسول الله(ص)! والتزماه لا يبرحانه ماشيين على الأطراف متباعدين عن الوسط.

فلمّا أصبح أبو أيّوب قال للنبي(ص): والله ما أغمض لنا جفنٌ في هذه الليلة لا أنا ولا اُمّ أيّوب.

فقال عليه الصلاة والسلام:

وممَّ ذاك يا أبا أيّوب؟!

قال: ذكرتُ أنّي على ظهر بيت أنت تحته، وأنّي إذا تحرّكت تناثر عليك الغبار فآذاك، ثمّ إنّي غدوت بينك وبين الوحي.

فقال له الرسول (ص):

هوِّن عليك يا أبا أيّوب، إنّه أرفق بنا أن نكون في السُّفل، لكثرة من يغشانا من الناس.

قال أبو أيّوب:

فامتثلت لأمر رسول الله(ص) إلى أن كانت ليلة باردة، فانكسرت لنا جرّةٌ وأُريق ماؤها في العُلِّيّة، فقمتُ إلى الماء أنا واُمّ أيّوب، وليس لدينا إلاّ قطيفة كنّا نتّخذها لحافاً، وجعلنا

ص: 239

ننشف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى رسول الله(ص).

فلمّا كان الصباح غدوت على الرسول صلوات الله عليه وقلت: بأبي أنت واُمّي، إنّي أكره أن أكون فوقك، وأن تكون أسفل منّي، ثمّ قصصت عليه خبر الجرّة، فاستجاب لي، وصعد إلى العُلِّية، ونزلت أنا واُمّ أيّوب إلى السُّفل.

إنّه لقاء عظيم مبارك لأبي أيّوب برسول الرحمة، وهو اللقاء الثاني، بعد أن كان واحداً من ثلاثة وسبعين رجلاً، وكانت معهم امرأتان، وهم الذين بايعوا رسول الله(ص) بيعة العقبة الثانية، فقد قويت بهم شوكة الإسلام والمسلمين، وكانوا بها للمهاجرين إخواناً، وداراً يأوون إليها، ويأمنون بها، وكانت هذه المصافحة الثانية ليد رسول الله(ص)، الاُولى كان فيها مبايعاً مؤمناً، والثانية مبايعاً مضيّفاً.

من رواياته

قال: قلتُ يارسول الله، ما هذه الأربع ركعات التي تصلّيها عند الزوال؟ قال: «هذه الساعة تفتح فيها أبواب السماء فلا ترتج حتّى تصلّي الظهر، فأحبّ أن أقدّم خيراً».(1)

وعنه أيضاً أنّ رسول الله(ص) قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن.(2)

وله أيضاً أنّ رسول الله(ص) قال: «لا تهاجروا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، هجرة المؤمن ثلاث، فإن تكلّما وإلاّ أعرض الله عنهما حتّى يتكلّما».(3)

وعنه أيضاً أنّ رسول الله(ص) قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ليلته بثلث القرآن؟».

فأشفقنا أن يأمرنا بأمر نعجز عنه، قال: فسكتنا. فقال ثلاث مرّات: «أن يقرأ بثلث القرآن فإنّه من قرأ الله الواحد الصمد، فقد قرأ ليلته ثلث القرآن».(4)


1- حلية الأولياء 10: 218.
2- المصدر نفسه 7: 734.
3- المصدر نفسه 7: 95.
4- المصدر نفسه 1: 117.

ص: 240

وممّا رواه أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله(ص) فقال: دلّني على عمل أعمله يدنيني من الجنّة، ويباعدني من النار، قال (ص): «تعبد الله، لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصِل ذا رحمك».

قال: فأدبر الرجل.

فقال رسول الله(ص): «إن تمسّك بما أمر به دخل الجنّة».(1)

وله أيضاً: قال رسول الله(ص): «من أخلص لله تعالى أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة على لسانه».(2)

ومن حكمه (ص) : «من أراد أن يكثر علمه، وأن يعظم حلمه، فليجالس غير عشيرته».

مكانته

كان أبو أيوب من الواعين للحالة التي انتابت المجتمع الإسلامي أيام الخلافة الثالثة، وما دبّ في هذه الأمّة من فساد وانحراف، فبادر هو وجمع من الصحابة لعليّ (ع) قائلين له: إنّ هذا الأمر قد فسد، وقد رأيت ما صنع عثمان، وما أتاه من خلاف الكتاب والسنّة، فأبسط يدك نبايعك، تصلح من أمر الأمّة ما قد فسد.

ولمّا وقع حصار بيت عثمان من قبل الثوّار الذين راحوا يحيطون ببيته من كلّ جانب، بعد أن يئسوا من تلبية الخليفة لمطالبهم التي وعدهم بها مراراً ولم يفِ، فلم يقصدغيره لإمامة صلاة الجماعة في مسجد رسول الله(ص)، فجاء مؤذِّن المسجد يومذاك سعد القَرظ إلى الإمام علي بن أبي طالب (ع) في ذلك اليوم، فقال: مَنْ يصلّي بالناس؟

فقال عليّ (ع): نادِ خالد بن زيد.

فنادى خالد بن زيد، فصلّى بالناس.

وهنا يقول الطبري في تاريخه: فإنّه لأوّل يوم عرف أنّ أبا أيّوب خالد بن زيد.


1- حلية الأولياء 4: 374.
2- المصدر نفسه 5: 189.

ص: 241

فكان يصلّي بهم أيّاماً، ثمّ صلّى عليّ (ع) بعد ذلك بالناس.(1)

وشبيه بهذا ما حدّث به عبدالله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر، قال: لمّا حُصر عثمان صلّى بالناس أبو أيّوب أيّاماً، ثمّ صلّى بهم عليّ (ع) الجمعة والعيد.(2)

وهذا الأمر يدلّنا على أنّ لأبي أيّوب مكانةً مرموقةً في قلوب الناس، وله منزلة رفيعة عند الإمام عليّ (ع) فاختاره دون الآخرين ليؤمّ المسلمين.

وكان ابن عبّاس يجلّه كثيراً، ويحفظ له موقفه من رسول الله(ص) فقد قدِم أبوأيّوب البصرة، فنزل على ابن عبّاس وكان الأخير والياً عليها، ففرغ له بيته، وقال له: لأصنعنّ بك كما صنعت برسول الله(ص) ثمّ قال له: كم عليك من الدين؟

قال: عشرون ألفاً.

فأعطاه أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً، ثمّ قال له:

لك ما في البيت كلّه.

موقفه من معاوية

بعد معارك الإسلام الكبرى شارك أبوأيّوب الأنصاري في معارك اُخرى خاضها الإمام علي (ع) ومنها معركة صفّين، فقد كان إلى جوار الإمام علي (ع) ضدّ معاوية وجنده.

سُئل أبوأيّوب يوماً: يا أبا أيّوب قد أكرمك الله بصحبة نبيّه9 ونزوله عليك، فما لي أراك تستقبل الناس تقاتلهم، تستقبل هؤلاء مرّةً وهؤلاء مرّةً؟

فقال: إنّ رسول الله(ص) عهد إلينا أن نقاتل مع عليٍّ الناكثين، فقد قاتلناهم؛ وعهد إلينا أن نقاتل مع عليّ القاسطين، فهذا وجهنا إليهم، يعني معاوية وأصحابه؛ وعهد إلينا أن نقاتل مع عليٍّ المارقين، فلم أرهم بعدُ.(3)


1- تاريخ الطبري 2: 694.
2- المصدر نفسه.
3- مختصر تاريخ دمشق 7: 340.

ص: 242

وحينما أراد الإمام (ع) الرجعة إلى صفّين لحرب معاوية ثانيةً، كان أبوأيّوب قائداً من قيادات الجيش، فقد عقد الإمام (ع) لابنه الحسين (ع) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيّوب في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد اُخرى، وهو ينادي بأعلى صوته:

«الجهاد الجهاد عباد الله! ألا وإنّي معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج!».

إلاّ أنّ الغدر المتمثِّل بضربة ابن ملجم قد حال بينه وبين مراده، وكما يقول أحد أصحابه بعد استشهاده7:... فكنّا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كلّ مكان.(1)

ولمّا وجد معاوية أنّ أبا أيّوب الأنصاري أشدّ الأنصار عليه، وأنّ له دوراً مهمّاً، ومكانة رفيعة عند عليّ (ع) راح يراسله، فلعلّه يستميله بعض الشيء، ولا أقلّ يزرع الشكّ في موالاته للإمام عليّ (ع) وفي تشويه مواقفه، فكتب إليه كتاباً، وكان سطراً واحداً:

عن الأعمش وهو أحد أعلام كتاب صفّين أنّه قال:

كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، صاحب منزل رسول الله(ص) وكان سعيداً معظماً من سادات الأنصار، وكان من شيعة علي (ع) كتاباً،... قال فيه: لا تنسى شيباءُ أبا عذرتها، ولا قاتل بكرها، أو أمّا بعد، فإنّي ناسيتك ما لاتنسى الشيباء.

فلمّا قرأ أبو أيّوب كتابه المختصر هذا، لم يدر ِ ما هو، فأتى به عليّاً7 وقال: يا أميرالمؤمنين، إنّ معاوية ابن آكلة الأكباد، وكهف المنافقين، كتب إليَّ بكتاب لا أدري ما هو، فقال له عليّ (ع) : وأين الكتاب؟ فدفعه إليه فقرأه وقال: نعم، هذا مثلٌ ضربه لك، يقول: ما أنس الذي لا تنسى الشيباءُ، لا تنسى أبا عذرتها؛ والشيباء: المرأة البكر ليلة افتضاضها، ولا تنسى بعلها الذي افترعها أبداً، ولا تنسى قاتل بكرها وهو أوّل ولدها أو لا تنسى ثكل ابنها، وكذلك لا أنسى أنا قاتل عثمان.(2)


1- اُنظر نهج البلاغة، لصبحي الصالح: 264.
2- وقعة صفّين: 366 ؛ والإمامة والسياسة: 169 _ 170.

ص: 243

فكتب إليه أبوأيّوب: إنّه لا تنسى الشيباء ثكل ولدها، وضربتها مثلاً لقتل عثمان، فما نحن وقتلة عثمان؟ إنّ الذي تربّص بعثمان، وثبّط أهل الشام عن نصرته لأنت، وإنّ الذين قتلوه غير الأنصار، والسلام.

دوره في فتنة الخوارج

وكان لأبي أيّوب الأنصاري دوره المتميِّز في الحوار مع الخوارج، وإقناع شريحة واسعة منهم، بأن يعتزلوا الحرب قبل وقوعها، أو تحييد جمع منهم وإبعادهم عن قتال مرير أطاح بمن لم يزده نداء الخير والحقّ إلاّ عناداً ونفوراً، فقد خرج إليهم الإمام عليّ (ع) وقد عبّأ الناس لقتالهم بعد أن سفكوا الدم الحرام، فجعل على ميمنة جيشه حُجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي، وعلى رواية معقل بن قيس الرياحي، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل، قيس بن سعد بن عُبادة الأنصاري ; فيما راح الصحابي الجليل أبوأيّوب الأنصاري يقف على الخيّالة.(1)

وعبّأت الخوارج مقاتليها، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى الرجّالة حُرقوص بن زهير السعدي.

بعد هذا الحشد الكبير للفريقين، واستعدادهم للقتال، وبعد نداءات ومواعظ الإمام علي (ع) المتكرِّرة، رفع الإمام (ع) أخيراً راية أمان، وكان إلى جواره أبوأيّوب الأنصاري، الذي راح يناديهم بأعلى صوته _ بعد أن أذن له الإمام (ع) _ قائلاً: مَنْ جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن; إنّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قَتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.

وعلى إثر خطابه رضوان الله عليه، قال فروة بن نوفل الأشجعي وهو من كبار


1- الطبري ؛ واُنظر الإمامة والسياسة 1: 169.

ص: 244

الخوارج: والله ما أدري على أيّ شيء نقاتل عليّاً! لا أرى إلاّ أن أنصرف حتّى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتّباعه; وانصرف في خمسمائة فارس حتّى نزل البندنيجين والدسكرة.

وخرجت طائفة اُخرى متفرّقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى عليّ منهم نحو من مائة; وبقي منهم ألفان وثمانمائة خرجوا زاحفين على جيش الإمام علي (ع) بقيادة صاحبهم عبدالله بن وهب، فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيّالة بقيادة أبي أيّوب الأنصاري من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فوالله ما لبثوهم أن أناموهم.(1)

ولمّا أراد الإمام علي (ع) الانصراف من معركة النهروان والتي انتهت بانتصار عظيم له، وهزيمة ساحقة للخوارج، وقف خطيباً مرّتين، وممّا قاله في خطبته الاُولى، بعد أن حمد الله تعالى:

«أمّا بعد، فإنّ الله قد أحسن بلاءكم، وأعزّ نصركم، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون».

فكان جوابهم أن قالوا: يا أميرالمؤمنين نفدت نبالنا، وكلّت أذرعنا، وتقطّعت سيوفنا، ونصلت أسنّة رماحنا، فارجع بنا نحسن عدّتنا.

إلاّ أنّهم ما إن أقبل بهم الإمام (ع) ونزل بهم معسكر النخيلة حتّى راحوا يتسلّلون ويدخلون الكوفة حتّى تركوا عليّاً وما معه إلاّ نفرٌ يسير.

ثمّ ارتقى المنبر ثانيةً واستحثّهم واستنهضهم مرّة اُخرى لقتال عدوّهم معاوية، فقال بعد حمد الله تعالى والثناء عليه:

«أيّها الناس، استعدّوا للمسير إلى عدوّ في جهاده القربة إلى الله، ودرك الوسيلة عنده، فأعدّوا ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل، وتوكّلوا على الله وكفى به وكيلاً».

ولم يجد فيهم العزم على ذلك، فقال لهم: عباد الله، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في


1- تاريخ الطبري 3: 121 _ 122.

ص: 245

سبيل الله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)،(1) وبعدما انتهى الإمام من خطبته، قام أبوأيّوب الأنصاري خطيباً فقال:

إنّ أميرالمؤمنين أكرمه الله قد أسمع من كانت له أذُن واعية، وقلب حفيظ، إنّ الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حقّ قبولها، حيث نزل بين أظهركم ابن عمّ رسول الله(ص)، وخير المسلمين وأفضلهم وسيّدهم بعده، يفقهكم في الدين، ويدعوكم إلى جهاد المحلّين، فوالله لكأنّكم صمٌّ لا تسمعون، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون.

عباد الله، أليس إنّما عهدكم بالجور والعدوان أمس، وقد شمل العباد، وشاع في الإسلام، فذو حقٍّ محروم، ومشتوم عرضه، ومضروب ظهره، وملطوم وجهه، وموطوء بطنه، وملقى بالعراء، فلمّا جاءكم أميرالمؤمنين صدع بالحقّ، ونشر بالعدل، وعمل بالكتاب، فاشكروا نعمة الله عليكم، ولا تتولّوا مجرمين، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، اشحذوا السيوف، وجدّدوا آلة الحرب، واستعدّوا للجهاد، فإذا دُعيتم فأجيبوا، وإذا اُمرتم فأطيعوا، تكونوا بذلك من الصادقين.(2)

مواقف اُخرى

كان هذا الصحابي مؤمناً تقياً مجاهداً واعياً يبحث عن الحقّ، ويتحرّاه في كلّ نواحي حياته، في قوله وفعله، ويقف بقوّة مدافعاً عن الحقّ والعدل، فتراه واحداً من شيعة عليّ (ع) حينما رأى أنّ عليّاً مع الحقّ والحقّ مع عليّ، مبتغياً رضا الله تعالى الذي نذر له حياته، وفي عبادته تراه ذلك الرجل الذي إن صلّى كانت صلاته صلاة مودّع، وإن تكلّم فلا يتكلّم بما يضطرّه للاعتذار، وإن تعامل مع إخوانه كان اليأسُ شعاره ممّا في أيديهم، فقد كانت القناعة ديدنه وسلوكه المتميِّز، فهو بين عابد مودّع قتله الشوق لمولاه، وبين عازف إلاّ من رحمة الله تعالى، وبين مقاتل ملأت قلبه الرحمة حتّى على أعدائه الذين هم أعداء الدين والحقّ، فتراه


1- التوبة: 38.
2- الإمامة والسياسة 1: 169 _ 173.

ص: 246

يوعظهم ويناديهم بلسان عطوف قبل أن يهزّ رمحه وينتشل سيفه، ليجد له موقعه في أعداء الله.

ولا ريب في ذلك، وقد راح ينتهل من معِين النبوّة الصافي، ومن صحبة رسول الله(ص) كان يستمع لنبيّ الرحمة9 ويعي ما يسمع، قال له: «إذا صلّيت فصلِّ صلاة مودّع، ولا تكلّمنَّ بكلام، تعتذر منه.. والزم اليأس ممّا في أيدي الناس».

هذا في عبادته، وأمّا في شجاعته فقد كان شعاره _ رضوان الله عليه _ : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)، فلم يتخلّف عنه، في بدر وأحُد والخندق، وفي كلّ المعارك والمشاهد التي خاضها، والتي كان لها دور واضح في معالم حياته، فقد ملأت عليه كلّ وجوده، ولم تترك له وقتاً يبعد به عن الأسنّة والرماح، أو يأخذ قسطاً من الراحة بين أحبّته ولمشاغله الخاصّة.

كانت حياته رضوان الله عليه همّاً متواصلاً للإسلام ولدعوته المباركة، يترفّع عن الفتن الصغيرة، والمطامع الزائفة، محلّقاً بناظريه إلى حيث الهدف الأعلى الذي يُرضي الله ورسوله.

لقد وهب أبوأيّوب الأنصاري حياته، وماله، وحشاشة قلبه للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، ولا يهمّه من يكون على رأس قيادة الجيش، وشعاره (ما عليَّ مَن استعمل عليَّ)، ما دام الهدف هو الإسلام ودعوته، فكان مع مكانته العالية لا يريد أن يعيش إلاّ جنديّاً تحت راية لا إله إلاّ الله، وأن يعيش مأموماً لا إماماً; لهذا تراه لا يبغي عنواناً بقدر ما يأمل أن ينال الشهادة في سبيله تعالى، وأن يرزقه الله خير الدنيا وخير الآخرة، فراحت بطولاته تتجلّى في كلّ معارك الإسلام الكبرى التي خاضها جنديّاً مخلصاً، وفدائياً متفانياً، وحسبه فخراً أنّه مع شدّة تواضعه نال حظوة تلو اُخرى منذ أن آمن، وحتّى اُثخن بالجراح وهو مقاتل عنيد تحت راية الإسلام، وصدق من قال: ما زال أبوأيّوب شاخصاً في سبيل الله حتّى دفن بأرض الروم.

نعم، كان أبوأيّوب في كلّ معاركه يُلقي بنفسه في لهواتها لا يأبه بعدّة ولا عدد، ويدافع عن كلّ من يسير بسيرته هذه، ويتهالك في الفداء واقتحام حشود أعدائه.

تقول الرواية: كنّا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا جمعاً عظيماً من الروم، وخرج إليهم مثله أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله(ص) فحمل رجل من المسلمين على

ص: 247

صفّ الروم حتّى دخل فيهم، فصاح به الناس وقالوا: سبحان الله، يُلقي بيده إلى التهلكة.

وهنا خشي أبوأيّوب من أن يسري هذا التأويل للآية فيثبّط عزائم قومه وجند الإسلام، فقام وسط الجند وقال:

أيّها الناس إنّكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل، وإنّما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، إنّا لمّا أعزّ الله الإسلام وكثّر ناصريه، قلنا بعضنا لبعض سرّاً من رسول الله(ص): إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام وكثّر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله عزّوجلّ على نبيّه9 يرد علينا ما قلنا أو ما هممنا به: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).(1)

فكانت التهلكة الإقامة في أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو.

ثمّ تقول الرواية:

وما زال أبوأيّوب شاخصاً في سبيل الله حتّى دفن بأرض الروم.(2)

في وصية له وهو جندي مقاتل في أرض الروم:

اِذهبوا بجثماني بعيداً بعيداً في أرض الروم، ثمّ ادفنوني هناك؛ (ما عليّ من استُعمل عليَّ) شعاره هذا.

كان هذا وهو يرى جموع المسلمين يصوّبون أنظارهم إلى حيث القسطنطينية، وراح يحدّث نفسه: إنّها الشهادة التي طالما حدّثت بها نفسي ولم اُوفّق لها.. امتطى جواده، وامتشق سيفه.. وعلاه رمحه.. وراح يصول ويجول مقاتلاً عنيداً يردّد كلمة «لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله» حتّى اُثخن بالجراح.

تقدّم أحدهم نحوه، وقد وجده يصارع سكرات الموت في ساحة الوغى، لابدّ أن تكون له حاجة.

هل لك يا أبا أيّوب من حاجة؟


1- سورة البقرة: 195.
2- مختصر تاريخ دمشق 7: 341 ؛ أسباب النزول للواحدي: 60.

ص: 248

«اِذهبوا بجثماني بعيداً بعيداً في أرض الروم ثمّ ادفنوني هناك».

إنّه اليقين بالفتح والنصر، وكأنّه يريد أن يقول: إنّي اُريد مواصلة القتال بروحي، واُريد أن أُواكب أعلام النصر الخفّاقة، وصهيل خيولكم، ووقع أقدامكم، وصلصلة سيوفكم.. لا اُريد أن أكون بعيداً عن أجواء المعركة وغبارها، ولا أريد أن تثنني الجراح عن خوض غمارها حتّى النصر.

في وسط تلك المدينة (القسطنطينية) اسطنبول في تركيا اليوم، مدينة الألف مسجد المليئة بالأذان الذي يشقّ أُذني أبي أيّوب في كلّ حين.. وهو يردّد:

(هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).

رقد جثمان ذلك الفارس العنيد الذي كانت الشهادة اُمنيته، منذ أوّل لحظة التقى بها برسول الرحمة، فكان مضيّفه في الدنيا; لينزل عند رسول الله (ص) في الدار الآخرة ضيفاً عزيزاً كريماً، كما نزل عنده رسول الله ضيفاً عظيماً.

وظلّ هذا الجثمان وهذا المرقد مزاراً حتّى للروم أنفسهم، الذين راحوا يتعاهدون قبره، ويرمّمونه، ويزورونه، ويستسقون به إذا قحِطوا.

كانت وفاته رضوان الله عليه بالقسطنطينية سنة خمس وخمسين، وقيل: في سنة اثنتين وخمسين، وقيل: سنة خمسين، تقول الرواية: لم يزل أبوأيّوب مجاهداً في سبيل الله حتّى دُفن بالقسطنطينية.

ولمّا توفي دفن مع سور المدينة وبُني عليه، فلمّا أصبحوا أشرف عليهم الروم فقالوا: يا معشر العرب، قد كان لكم الليلة شأن.

فقالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبيّنا9... وقد أوصى بهذا; لئلاّ يكون أحد من المجاهدين ومن مات في سبيل الله أقرب إليكم منه.

ولمّا عرف الروم مكانة هذا المجاهد، تعهّدوا قبره وبنوا عليه قبّة بيضاء، وأسرجوا عليه قنديلاً، وإذا أمحلوا كشفوا عن قبره فأُمطروا.(1)


1- اُنظر مختصر تاريخ دمشق 7: 342 _ 343.

ص: 249

وكانت وصيّته الأخيرة رضوان الله عليه:

إذا متُّ فاحملوني، فإذا صاففتم العدوّ، فادفنوني عند أقدامكم... وساُحدّثكم حديثاً سمعته من رسول الله(ص) لولا حالي هذه ما حدّثتكموه، سمعتُ رسول الله(ص) يقول:

«من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة».

ص: 250

ص: 251

(12) خبّاب بن الأرَتّ

اشارة

من

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

حسن محمّد

الحديث عن مدرسة رسول الله(ص) الأولى لا ينتهي ولا يقف عند حدٍّ، فما إن نختم الكلام عن تلميذ من تلامذتها، وشخصية من شخصياتها، وعظيم من عظمائها، وشهيد من شهدائها.. حتّى يجرّنا الحديث أو يبدأ عن آخر هو في العظمة لا يقلّ عن صاحبه، وفي التضحية والإيثار لا يكون أدنى منه.. وفي صدق الإيمان وعمقه لا أظنّه إلاّ مساوياً له أو قد سما عنه، فهم يتبارون بإيمانهم، ويتسابقون لنيل أرقى مراتبه ودرجاته في الدنيا وفي الآخرة.

إنّها مدرسة عظيمة ذات آفاق واسعة، وجذور عميقة ثابتة، فهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين; لأنّ صانعها ومؤسّسها عظيم، راحت يداه

ص: 252

المباركتان تمدّانها بقوّة، وراح قلبه الحاني يخصّها بحنانه وشفقته، وراح علمه يُصبّ عليها، ولا ينضب له نبعٌ، ولا يضوي له طلع، إنّه ماء موصول وطلع نضيد..

وها نحن الآن أمام شخصية من شخصيات هذه المدرسة النبويّة المحمّدية الأصيلة، أمام صحابي جليل انتشله الإسلام من واقع مرير، قنٍّ ضعيف وعبد ذليل، فإذا هو فارس مُهاب، ومقاتل شجاع، يحسب له أعداؤه ألف حساب... فكان عظيماً من عظماء الإسلام.. من فرسان الجهاد في سبيله تعالى، يدعو إلى الحقّ لا لغيره، ويدعو إلى العدل لا لسواه، ويدعو للإسلام الحنيف لا لدين غيره وكيف يدعو لغيره، وهو يعلم أنّه: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).(1) إنّه قمّة في المبادئ والقيم، وفي الصدق والإخلاص، حتّى نال حظوة كبيرة عند رسول الله(ص) وعند المسلمين ومن قبلهم عند الله تعالى.

ونِعمَ ما قال عنه إمامُ الموحِّدين عليّ (ع): «رحم الله خبّاباً! أسلم راغباً، وجاهد طائعاً، وعاش زاهداً، وابتلي في جسمه فصبر، ولن يُضيع الله أجر من أحسن عملاً».(2)

لقد كان سلاحه اليقين والتقوى، قلبٌ مملوء بهما، وكفٌّ صلبة تمسك سيفاً أبى صاحبه أن يضعه مادام الإسلام بحاجة إليه، لم يفتأ هذا السيف يطارد الكفر والشرك والطغيان، فقد شهد مشاهد رسول الله(ص) كلّها، تراه في بدر يعلو هامات الأعداء، وتراه في أحُد هو الآخر يمزّق جموعهم، وتراه في معارك الإسلام الاُخرى فارساً جوّالاً بين الصفوف، لا يهاب عدوّاً ولا يخاف باطلاً.

كان هذا الصحابي الجليل من أولئك الأوائل الذين حظوا بأن يكونوا قاعدة الانطلاق الاُولى للإسلام، والنخبة الصالحة له، بعد أن آمنت به دعوةً، وجاهدت في سبيله صادقةً، يوم لم تكن هناك مطامع دنيوية يبغونها، ويوم لم تكن هناك منافع شخصية يحوزونها، بل عذاب مستمرّ، وصبر دائم، وجهاد متواصل ضد المشركين، الذين راحوا يكيدون لهم الكيد


1- سورة النحل: 42.
2- اُنظر العقد الفريد، لابن عبد ربه 3: 201.

ص: 253

كلّه، ويذوقونهم أنواع العذاب.

لقد آمنت هذه الطليعة إيماناً خالصاً وأحبّت رسول الله(ص) حبّاً صادقاً، وسعت في الدفاع عنه يوم كان وحيداً لا يقف معه إلاّ نخبة صالحة من عشيرته وعدد قليل من أصحابه، لا يشوبهم شك فيه ولا ينتابهم ريب في دعوته وصدقه؛ لقد ادرعت هذه العصابة بالإيمان، والإيمان وحده لتقاوم ما صبّ عليها من بلاء، وما نالته من أذى وعذاب، خاصّة هؤلاء الذين هم ضعاف المجتمع الحجازي يومذاك، العبيد، طبقة سخّرت لمصالح اقتصادية وتجارية وخدمية، قام على أكتافها المجتمع المكّي، خَدَمته بأقلّ الأثمان، رغيف خبز لا غير، ووضع ذليل، وسخرية تنصبّ عليهم من أسيادهم، وسياط تنهال على ضلوعهم وظهورهم.

لقد كان خبّاب واحداً من أولئك الذين وصفهم المشركون الطغاة بأنّهم «الأرذلون»، وراحت هذه التسمية يطلقونها عليهم، ويعيّرونهم بها، حتّى بعد أن أعلن هؤلاء الزعماء المشركون إسلامهم، بقيت في نفوسهم وعلى ألسنتهم، بغض قديم، وسخرية متأصّلة لم يتخلّوا عنها، حتّى بعد إعلانهم الشهادتين.

لفظة ليست جديدة، إنّها قديمة قدم دعوة التوحيد، وقد رافقت أكثر مَن آمن بدعوة نوح وهود وصالح وإبراهيم... (أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).(1) (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ).(2) إنّه استعلاء، بل طغيان اتصف به هؤلاء الذين أرادوا علواً في الأرض وأرادوا فيها فساداً، يسمّون أنفسهم أشراف القوم، أو ساداتهم، وزعماءهم!

إنّها الجاهلية العمياء التي لا ترى لأصحاب الدعوات الصالحة أي فضل وأي كرامة، ما دام الذين سبقوا إليها هم من ضعاف الناس، وأقلّهم مالاً وسلطاناً.

كيف يؤمن طغاة قريش برسالة محمّد9 وقد سبقهم إليها عمّار، وأبوه ياسر، واُمّه سمية، وخباب،...؟!

لقد أدرك خبّاب الفرق بين الحرية والعبودية، فنأى عن الثانية مصوّباً وجهه نحو الاُولى،


1- الشعراء: 111.
2- هود: 27.

ص: 254

وكان يعلم الثمن الباهظ الذي سيدفعه فداءاً لعمله هذا، يعلم أنّ الثمن قد يكون حياته، لكنّه رأى أنّ الموت بعزٍّ خيرٌ من الحياة بذلّ، الموت مؤمناً أفضل من الموت كافراً، الموت قويّاً أجمل من أن يموت ضعيفاً.

لقد أدرك خبّاب البون الشاسع بين الحقّ والباطل: (...بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ).(1) فنبذ الباطل، وأعرض عنه، والتحق بصفوف الحقّ متجاوزاً ما سيتركه فعله هذا عليه من عذاب واضطهاد وتشريد.

لقد أدرك خبّاب طعم العلم وذلّ الجهل، فأدار بوجهه بعيداً عن جاهلية عمياء نحو (نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ...).(2) لهذا فقد خلد خبّاب واخوانه، وخلد ظالموهم أيضاً، إلاّ أنّ الفرق كبير، والبون شاسع بين الفريقين، وبين الخلودين، فأولئك دخلوا التاريخ مؤمنين مجاهدين غير ظالمين، وقد خلدوا فيه وهم يحملون هذه الصفات العظيمة؛ فيما دخل هؤلاء التاريخ طغاة متجبّرين ظالمين، وقد خلدوا فيه أيضاً، وهم يحملون أبشع الصفات وأقذرها; فشتّان شتّان بين الخلودين!

* * *

خبّاب، الأرت، لغةً

ما إن يقرأ شخص، أو يسمع باسم هذا الصحابي الجليل، حتّى يلتفت إلى غرابة اسمه، دون أسماء الصحابة الآخرين، فيعود إلى معاجم اللغة، ليرى ماذا تقول في خبّاب وفي الأرتّ، فيجد أنّ الخبب: هو نوع أو ضرب من العدو، أو الرمل، أو هو السرعة، وقد خبّت الدابّة تخبّ بالضمّ، خبّاً، وخَبباً، وخَبيباً.

وهناك قول آخر: إنّ الخبب هو أن ينقل الفرس أيامنه جميعاً، وأياسره جميعاً أيضاً،


1- سورة الحجّ: 62.
2- سورة المائدة: 15 _ 16.

ص: 255

وقيل: هو أن يراوح كلّ من الفرس والبعير بين يديه ورجليه.

ومن العجب أنّ هذه كلّها من صفات الفارس والفروسية.

إلاّ أنّي عثرت على معنى آخر للخبب وهو الخداع، فرجل خبٌّ أي خدّاع، خبّب فلان غلامي أي خدعه، والقول المأثور: الحرب خدعة; هذا في خصوص خبّاب.

أمّا ما يتعلّق بالأرتّ فتاؤه مشدّدة، وهو الذي في لسانه عجلة أو عقدة أو قلة أناةٍ... فلا يطاوعه لسانه عند إرادة الكلام، فإذا شرع يتكلّم اتّصل كلامه، وهناك من يقول: إنّ أبا خبّاب كان كذلك يرتل في كلامه، أو في لسانه رتّة أي عجمة.(1)

فيما نسب كلّ من الواقدي والبلاذري هذه الرتّة في اللسان إلى خبّاب نفسه، حيث قال الواقدي: كان ألكن، إذا تكلّم بالعربية، فسمّي الأرتّ، وقال البلاذري:... وإنّه كانت به رتّة، وهما يتحدّثان عن ترجمة خباب.(2)

نسبه و كنيته

بعد أن عرّفته كتب التاريخ ومراجعه بأنّه خبّاب بن الأرتّ بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم، وكنيته أبوعبدالله أو أبويحيى أو أبومحمّد، إلاّ أنّها اختلفت في نسبه.(3)

فهو بين خزاعي، وتميمي، وزهريّ، وسباعيّ، والذي يبدو لي من مراجعة حياته أنّ السبب في هذا الاختلاف، هو الموضع الاجتماعي الذي عاشه، والسباء الذي آلت إليه حياته، ممّا سبّب له هذا الانتماء المختلف فيه.

فلنستعرض أقوال المؤرّخين، فبعضهم قالوا: إنّه تميمي بالنسب، خزاعي بالولاء، زهري بالحلف، كان سبياً اشترته امرأة من خزاعة وأعتقته، فهو خزاعي لحقه هذا بالولاء، وبما أنّها


1- لسان العرب، لابن منظور 1: 341 ، 2: 34 ؛ أعيان الشيعة لمحسن الأمين 6: 304 ؛ وتنقيح المقال للمامقاني 1: 395.
2- اُنظر قاموس الرجال، للعلاّمة التستري 4: 155.
3- أسدالغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير 2: 98 ; الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني 1: 423 ; أعيان الشيعة، لمحسن الأمين 7: 75.

ص: 256

كانت من حلفاء عوف بن عوف بن عبد الحرث بن زهرة فهو زهري حلفاً، وأمّا نسبه الحقيقي فهو ابن مناة بن تميم جدّه السابع وبالتالي فهو تميميّ.

وهناك من يقول: إنّ سيّدته التي اشترته هي أُمّ أنمار بنت سباع الخزاعية، وأبوها سباع حليف عوف بن عبد عوف من بني زهرة؛ فسبّب هذا له أن يكون خزاعياً، وسباعياً من الأسباع، وزهرياً. (1)

وقيل: بل هي أُمّ سباع بن عبد العزى الذي قتله حمزة يوم أحُد، وهي التي عنا حمزة بن عبدالمطّلب، حين قال لسباع بن عبدالعزى: هلمّ يا ابن مقطعة البظور؛(2) وهو ما حدا ببعض المؤرِّخين إلى الذهاب بأنّ اُمّ خبّاب كانت ختانةً في مكّة ; وإن ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ اُمّ أنمار واُمّ سباع كانت واحدة.(3)

وقال غيرهم: هو عربي لحقه سباء في الجاهلية؛(4) وقال بعض: لم يلحقه سباء، ولكنّه انتهى إلى حلفاء اُمّه بني زهرة.(5)

وأنا إذ أبحث عن حياة هذا الصحابي عثرت على شخص آخر وهو أيضاً صحابي يحمل اسم خبّاب واسم أبيه، إلاّ أنّه كان يكنّى أبا يحيى، وكان عبداً لعتبة ابن غزوان المازني، وشهد معارك الإسلام ومنها معركة بدر الكبرى، وتوفي في المدينة أيّام خلافة عمر بن الخطّاب، سنة 17 أو 19 هجرية، وله خمسون سنة، وصلّى عليه الخليفة.(6)

وأنّه هو الذي كان طبّاعاً للسيوف بمكّة، لا هذا الذي هو موضع كلامنا، كما أنّ الثاني لم يكن قيناً فيما كان الأوّل قيناً؛(7) إلاّ أنّ ما اشتهر بين المؤرخين أنّ خبّاباً كان يقول: كنت


1- الإصابة 1: 423 ؛ صفة الصفوة، لابن الجوزي 1: 427.
2- البداية والنهاية، لابن كثير 7: 322.
3- المنتظم؛ لابن الجوزي 5: 138.
4- أسد الغابة 2: 98.
5- الإصابة 1: 423.
6- أسد الغابة 2: 101.
7- تصحيفات المحدثين، لأبي هلال العسكري: 111.

ص: 257

رجلاً قيناً... وكان في الجاهلية قيناً حدّاداً يعمل السيوف.(1)

وهو أقلّ شهرة من الذي هو محلّ كلامنا هذا، وإن ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّه هو واحد، وليس شخصين اثنين.

خباب يصنع السيوف

قدر لهذا الصبيّ أن يقع بين يدي أمِّ أنمار الخزاعية، التي كانت تفتش لها عن غلام في سوق النخاسين في مكّة، وهو مكان يكتظّ بالعبيد، فوقع نظرها على هذا الغلام، فأعطت ثمنه، وانطلقت به إلى منزلها، وإذ هي في طريقها راحت تحدثه وتسأله عن اسمه فقال لها: خباب.

وما اسم أبيك، فقال لها: الأرَتُّ.

فقالت له: ومن أين أنت؟

قال: من نجد.

فقالت: إذن أنت عربي!

قال: نعم، ومن بني تميم.

قالت: وما الذي أوصلك إلى أيدي النخاسين في مكّة؟

قال: أغارت على حيِّنا قبيلة من قبائل العرب، فاستاقت الأنعام، وسبت النساء، وأخذت الذراري، وكنت فيمن أخذ من الغلمان، ثمّ مازالت تتداولني الأيدي، حتّى جيء بي إلى مكّة، وصرت في يدك.(2)

وما إن وصلت أم أنمار إلى منزلها، حتّى دفعته إلى مَن يعلمه صناعة السيوف، فأتقنها، ثمّ استأجرت له دكاناً، واشترت له عدّة، وراحت تستثمر قدرته، وتستفيد من مهارته، وتستغله أيما استغلال، لكنّه اشتهر بهذه الصناعة وبدقّة عمله.


1- أسد الغابة 2: 98 ; الطبقات الكبرى 3: 164 ؛ دلائل النبوّة للبيهقي 2: 55.
2- صور من حياة الصحابة ، للدكتور عبدالرحمن رأفت باشا: 431 _ 432.

ص: 258

إسلامه

لقد وجدت قلوب المستضعفين أمانها وطمأنينتها بالدعوة الجديدة، فقد عانت من الهوان والذلّ ما جعلها تصبو لمنقذ لها كانت تعيشه حُلماً جميلاً، فإذا به واقع أمام أعينهم، فراحوا يبادرون إلى التصديق به، والتضحية في سبيله.

وخبّاب هذا واحد من أولئك العبيد، الذين كانوا فئة كبيرة في المجتمع المكّي يسخّرهم سادة ذلك المجتمع، في نواح متعدّدة، تجارية، وزراعية، وخدمية، بأثمان رخيصة لا تتجاوز رغيف الخبز، وافتراش الأرض، معاملة سيئة للغاية، وظلم نزل بهم، وحيف لا يفارقهم، وتعذيب لا يتوقّف; لهذا ما إن رأوا نور الإسلام يبزغ في مكّة، إلاّ وتراهم يؤمنون به، ويتفانون في الدفاع عنه.

لقد كان سادس الذين آمنوا في مكّة، وهو سبق عظيم ناله، ومنزلة رفيعة ظلّت ترافقه في حياته، وذكرى حسنة ظلّت هي الاُخرى وساماً خالداً.

تقول الرواية:

إنّ خبّاب بن الأرت أسلم سادس ستّة، له سدس الإسلام.(1)

والاُخرى تقول:

أوّل من أظهر الإسلام سبعة، وعدّت منهم خبّاباً.(2)

وثالثة تقول:

كان إسلامه قبل أن يدخل رسول الله(ص) دار الأرقم وقبل أن يدعو بها.(3)

فعن الإمام علي (ع): السبّاق خمسة، فأنا سابق العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وخبّاب سابق النبط.(4)


1- أسد الغابة 2: 98 ; حلية الأولياء للأصفهاني 1: 143.
2- أسد الغابة 2: 98 ; الوسائل إلى معرفة الأوائل لعبد الرحمن السيوطي: 96.
3- الطبقات الكبرى 3: 165.
4- الخصال، للشيخ الصدوق 1: 312.

ص: 259

وذكر اليعقوبي في تاريخه:

كان أوّل من أسلم خديجة بنت خويلد من النساء، وعلي بن أبي طالب من الرجال، ثمّ زيد بن حارثة، ثمّ أبوذرّ، وقيل: أبوبكر قبل أبي ذرّ، ثمّ عمرو بن عبسة، ثمّ خالد بن سعيد بن العاص، ثمّ سعد بن أبي وقّاص، ثمّ عتبة بن غزوان، ثمّ خبّاب بن الأرت، ثمّ مصعب بن عمير.(1)

وبإسلامه وإسلام رفاقه، بدأت حياتهم من جديد، حيث عبق الحرية والمساواة، وهم يسمعون: لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى; وقد آخى رسول الله(ص) بعد الهجرة بين خباب وجبر بن عتيك، وشهد بدراً وأحداً، والخندق، والمشاهد كلّها مع رسول الله(ص)، فيما وقع الخلاف بين علماء الرجال والمؤرخين في أنّه هل أدرك معركتي صفين والنهروان؟ فمنهم من قال: أدركهما مع الإمام عليّ (ع) ومنهم من قال: حال بينه وبينهما المرض والموت، فيما أدرك ابنه عبدالله بن خباب النهروان، فذبحه الخوارج، وبقروا بطن امرأته.(2)

إنّه لمن المعذِّبين!

ما إن علموا بإسلامه حتّى تحولقوا حوله، ولم ينفضّوا منه إلاّ وقد أخذت سياطهم من جسمه مأخذها، لكنّها لم تنل شيئاً من إيمانه ولم تنخر عزيمته، ولم تضعف بناءه، إنّه إيمان عظيم، وعزيمة لا تهين، وبناء كالجبل لا يُهدّ.

كان خبّاب ممّن يعذّب في الله سبحانه بمكّة في الرمضاء، حتّى برص ظهره.(3)

وعن عروة بن الزبير أنّه قال: كان خبّاب بن الأرت، من الذين يعذّبون بمكّة ليرجع عن دينه.(4)


1- تاريخ اليعقوبي 2: 23.
2- اُنظر المامقاني في التنقيح 1: 395 ; والتستري في قاموسه 4: 158.
3- اُنظر تصحيفات المحدّثين: 111.
4- الطبقات الكبرى 3: 165.

ص: 260

ويقول الشعبي عنه:

لقد صبر «خبّاب»، ولم تلِن له بين يدي الكفّار قناة، أو أعطوهم [بعض المعذَّبين من المسلمين] ما أرادوا حين عذّبوا إلاّ خباب بن الأرت، أو إنّ خباباً صبر ولم يعطِ الكفّار ما سألوا، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرَّضَف،(1) حتّى ذهب لحمه أو لحم متنه.(2)

لقد حوّل كفّار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل «خبّاب»، والذي كان يصنع منه السيوف.. حوّلوه كلّه إلى قيود وسلاسل، كان يُحمى عليها في النار حتّى تستعر وتتوهّج، ثمّ يطوّق بها جسده ويداه وقدماه.(3)

لقد ذهب خبّاب بن الأرت وبعض رفاقه المعذَّبين إلى رسول الله(ص)، لاأظنّهم جزعين من التضحية بل كانوا راجين العافية.

يقول خبّاب: شكونا إلى رسول الله(ص)، وهو متوسّد بُردةً له في ظلّ الكعبة، قلنا له: ألا تدعو الله لنا؟

قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليُتمّنَّ هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلاّ الله، أو الذئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون.(4)

راحت كلمات رسول الله(ص) تترك بصماتها عليهم، فعادوا منه وقد ازدادوا إصراراً على مواقفهم، وعاهدوا ربّهم أن يجعلوا أنفسهم نماذج للعطاء والتضحية والاستبسال في سبيله، حتّى يجعلوا كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.

لم يبقَ أحدٌ من المشركين وزعمائهم، بل وحتى سيّدته اُمّ أنمار التي كان عبداً لها راحت هي الأُخرى تشفي غليلها منه، تمسك حديدة محمّاة ملتهبة لتضعها مرّة فوق رأسه، وأُخرى فوق جسده، وكان خبّاب بين هذه وتلك صامتاً صابراً، لاينطق بشيء ولا يظهر لهم حتّى


1- الرضف: الحجارة المحمّاة.
2- ذكر هذا خالد محمد خالد في «رجال حول الرسول (ص)»: 293.
3- المصدر نفسه.
4- صحيح البخاري 3: 1322 ح3416.

ص: 261

الأنين، فيشفي صدورهم، ويُرضي كبرياءَهم وجبروتهم، فراح غيضهم يزداد، وحنقهم يعظم... وكان يعينها على ذلك أخوها سباع بن عبد العُزى... وقد أقرّ الله تعالى عيني خباب برؤية سباع هذا، وقد نال جزاء شركه وظلمه، حيث صرعه سيّدالشهداء حمزة بن عبدالمطلب في معركة أحد.

وهو بهذه الحال يعذّب بين أيديهم، إذ به يسمع صوت حبيبه رسول الله(ص) وهو ينطلق من قلب مملوء شفقة وألماً ومرارةً عليه: «أللّهمَّ انصر خبّاباً».

ما أعجل الجزاء الذي نزل بسيّدته العنيد أُمّ أنمار! راحت تعوي كالكلاب بعد أن اُصيبت بسعار عصيب، حتّى وصفوا لها علاجاً لا ينفعها إلاّ أن تضع رأسها بالنار كي يكوى، وقد قدر لخباب أن يتولى هذا العمل، فكان يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها.(1) فكان عقابها من جنس ما اقترفته يداها، إنّه العقاب العدل!.

آيات ترعاهم

وراحت قيم الإسلام وكلمات الرسول الكريم تدقّ إسفيناً بينهم وبين كبار قريش ومترفيهم وطغاتهم.

إنّه الإسلام، إنّه النور الذي يشقّ الظلام، ويبعث الحياة من جديد.

كما راح القرآن يواكبهم ويرافقهم ويحيطهم بالرعاية، ضدّ قريش التي ما انفك طغيان زعمائها وكبرائها من ملاحقة هؤلاء المستضعفين، والسخرية منهم، والتعالي عليهم، حتّى بعد إعلانهم الشهادتين، والتحاقهم بالصفّ الإسلامي ظاهراً، وهو ما يبدو من المتابعة الدقيقة لحياة الكثير منهم، فقد كانوا أقرب للنفاق منه إلى الإسلام.

فيما راحت آيات القرآن الكريم تدحض كيدهم، وتطيح بتآمرهم ودسائسهم، التي ما انفكوا يحيكونها ضدّ هذه الفئة المظلومة المستضعفة من الصحابة المؤمنين، كما راحت تشيد


1- أسد الغابة 2: 98.

ص: 262

بهؤلاء الثلّة المؤمنة وبصدق إيمانهم، وتحضّ على الوقوف معهم، وعدم تركهم وحدهم، وسخرية واستهزاء زعماء قريش تلاحقهم، والتصدّي لكلّ تآمر ضدّهم، وعدم الاستجابة لمطالب هؤلاء الطغاة والمستكبرين، بل أخذت هذه الآيات تغدق على هؤلاء المعذّبين، أوسمةً عظيمةً ظلّت تشكّل ذكرى طيّبة خالدة لهم في الدُّنيا والآخرة:

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).(1)

نزلت بعد أن مكثت قريش على ضلالها وعنادها وكبريائها، وهي ترى ضعاف مجتمعها يؤمنون برسالة محمّد9 ليكونوا شوكةً تنخر مجتمعها الفاسد، وكيانها الضالّ، وجنوداً لثورة عارمة ضد طغيانها وجبروتها، كانت تدرك كلّ هذا؛ لهذا راحت تصبّ عليهم غضبها، وتنزل بهم العذاب، فلعلّها تحدّ من انتشار هذا الدين بين صفوفهم، إن لم تستطع إيقافه وإماتته؛ وإعادتهم إلى ما تعبد إلى دين آبائها وأجدادها أذلّةً خاسئين.

نزلت هذه الآية _ على ما قاله الشيخ الطبرسي _ في المعذَّبين بمكّة مثل: صهيب، وعمّار، وبلال، وخبّاب، وغيرهم، مكّنهم الله بالمدينة، وذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنتُ معكم لم ينفعكم، وإن كنتُ عليكم لم يضرّكم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله، وهاجر إلى رسول الله(ص). فقال له أبوبكر: ربح البيع يا صهيب.

ويروى أنّ عمربن الخطّاب كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءاً، قال له: خذ، هذا ما وعدك الله في الدُّنيا، وما أخّره لك أفضل، ثمّ تلا هذه الآية.(2)

فيما قال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيّ(ص) بمكّة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة، فعذّبوهم وآذوهم، فبوّأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك.(3)


1- النحل: 41.
2- تفسير مجمع البيان، للطبرسي 6 : 557 ؛ وفي تفسير الآية من سورة النحل.
3- أسباب النزول للواحدي: 285.

ص: 263

حقّاً أنّ الله تعالى بوّأهم مكاناً محموداً في الدُّنيا، ومنحهم أجراً عظيماً في الآخرة، راحت تتغنّى بأمجادهم هذه الأجيال، ويقتدي بسيرتهم الثوّار والمجاهدون، وراحوا يقفون عند مفاصل حياتهم الجهادية، وهم يعذّبون، وهم يخوضون غمار معارك الإسلام الأولى، كلّ هدفهم الشهادة، فيكتمل

بذلك موقفهم الإيماني، وتنزل بذلك النعم عليهم، فهم بها غير زاهدين، وليسوا بقليلها مقتنعين، إنّما كانوا يطلبون المزيد من كرامة الدُّنيا وثواب الآخرة، وكان ديدنهم الشكر قولاً وعملاً ومزيداً من التضحيات والتحمّل والصبر، وكانوا مصداقاً لقوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).(1)

(وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...).(2)

نزلت في سلمان، وأبي ذرّ، وصهيب، وعمّار، وخبّاب، وغيرهم من فقراء أصحاب النبيّ(ص) وذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله(ص) وهم عيينة بن الحصين، والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يارسول الله إن جلست في صدر المجلس، ونحّيت عنّا هؤلاء روائح صنانهم (نتن الابط) وكانت عليهم جباب الصوف، جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلاّ هؤلاء، فلما نزلت الآية قام النبيّ(ص) يلتمسهم، فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله عزّوجلّ، فقال: ألحمد لله الذي لم يمتني حتّى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من اُمّتي، معكم المحيا ومعكم الممات.(3)

{... وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...).(4)

بعد أن يئست قريش من أن تصل إلى غايتها بأساليبها القذرة، بدأت باتّباع أسلوب آخر في تعاملها وملاحقتها للثوّار البررة، لا يقلّ قذارةً عن الذي سبق، ألا وهو أن اطرد يا محمّد هؤلاء «عمّار، وصهيب، وبلال، وخبّاب، وسلمان، وأبوذرّ، وغيرهم من الفقراء الذين


1- إبراهيم: 7.
2- الكهف: 28.
3- مجمع البيان، للطبرسي 6: 717 _ 718.
4- الأنعام : 52.

ص: 264

آمنوا به حين كذّبه هؤلاء الذين يسمونهم بالأشراف، ونصروه حين خذله الناس الآخرون، ومنهم هؤلاء الأثرياء وكبار قريش...» فيكون لنا مجلس معك وكلام; لأنّه لا يليق بنا أن يضمّنا مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء العبيد، وذوي الثياب الرثة، فنتساوى معهم، فلو نحيتهم عن مجلسك لتوافد عليك أهل الثراء والإشراف، وقد نتبعك، ما أشبه اليوم بالبارحة، حيث قال زعماء قوم نوح7 له: (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ).(1) إنّها الشأنية القذرة!

فلعلّها بهذه الطريقة توقع بين محمّد وصحبه، وتزرع الشقاق في الجماعة المسلمة، وتنخر بالجسم الواحد فيتفتّت، ولخطورة هذا الاسلوب، ولفداحة ما ينتجه، وما يتركه على نفوس هؤلاء المعذّبين، وهم يرون معذِّبيهم بين يدي رسول الله معزّزين مفضّلين، وهم عنه بعيدون، إنّها ذلّة لا تستطيع نفوسهم تحمّلها! وهل هذا جزاؤهم؟! وهل هذه مكافأتهم؟!

سارعت السماء، فأنزلت قرآناً يحسم هذا الكيد ويطيح به، وتثمن مواقف المعذّبين، وتدين مواقف غيرهم.

يقول عبدالله بن مسعود:

مرّ الملأ من قريش على رسول الله(ص) وعنده صهيب، وخبّاب، وبلال، وعمّار، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيتَ بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهم؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ. . .).

قال سلمان وخبّاب: فينا نزلت هذه الآية; جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري، وذووهم من المؤلّفة قلوبهم، فوجدوا النبيّ(ص) قاعداً مع بلال، وصهيب، وعمّار، وخبّاب، في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقّروهم، وقالوا: يارسول الله لو نحيت هؤلاء عنك حتّى نخلو بك، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، ثمّ


1- هود : 27.

ص: 265

إذا انصرفنا، فإن شئت فادعهم إلى مجلسك، فأجابهم النبيّ(ص) إلى ذلك، فقالا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر عليّاً ليكتب.

قالا: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل7 بقوله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) إلى قوله: (أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

فنحّى رسول الله(ص) الصحيفة، وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة. فكنّا نقعد معه.(1)

وعن عكرمة قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة، ونفرٌ معهما سمّ_اهم أبوطالب، فقالوا: لو أنّ ابن أخيك محمّداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنّما هم عبيدنا وعُسفاؤنا؛(2) كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، فأتى أبوطالب النبيّ(ص) فحدّثه بالذي كلّموه، فأنزل الله عزّوجلّ الآية.

قال: وكانوا بلالاً، وعمّار بن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى اُسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وخبّاباً مولى اُمّ أنمار.

وكانت قصّة دَين خبّاب على العاص بن وائل سبباً في نزول آيات:

فعن خبّاب أنّه قال: كان لي على العاص بن وائل دَينٌ، حين كان قد باعه سيوفاً عملها له، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لن أقضيك حتّى تكفر بمحمّد.

قال: فقلت له: إنّي لن أكفر بمحمّد حتّى تموت، ثمّ تبعث.

قال: وإنّي لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد؛ قال وكيع: كذا قال الأعمش؛ قال: فنزلت (أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً).(3)


1- مجمع البيان، للطبرسي، في تفسير الآية.
2- العسيف: الأجير المستهان به، اُنظر لسان العرب: عسف.
3- صحيح مسلم 4: 2064 ح12 ؛ صحيح البخاري 2: 736 _ 737 ح1985.

ص: 266

علمه

كان خبّاب بن الأرت ممّن يُرجع إليه في القرآن، قراءةً، وحفظاً، وفقهاً لمعانيه، وفهماً لمقاصده، وكان أستاذاً لجمع من الصحابة الذين كان منهم عبدالله بن مسعود، فقد كان من تلاميذه ومريديه.

ولمّا كانت الدعوة الإسلامية تعيش مرحلة الكتمان والسرّية في مكّة، كان هذا الصحابي الجليل يختلف سرّاً إلى إخوانه، ممّن آمنوا وكتموا إيمانهم، خوفاً من بطش مشركي مكّة وكبريائهم; ليحفّظهم ما ينزل من آيات القرآن الكريم، ويعلّمهم ما تتضمّنه من معان جميلة، ومقاصد عالية، وهذه من النعم الكبيرة التي هيّأها الإسلام له، بعد إسلامه، وإخلاصه، وجدّيته في تلقي علوم الإسلام، ومعرفة آيات القرآن الكريم ومفاهيمه.

ممّارواه و قاله

ذكرت له عدّة روايات في كتب الأحاديث، لعلّها تصل إلى 38 حديثاً، منها:

تلك الرواية التي ذكرناها والتي قال فيها وجماعته لرسول الله(ص): يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟....(1)

وهذه الرواية تبيّن طغيان وقسوة المستكبرين، وما عاناه هؤلاء المؤمنون، بل ما تعانيه الأجيال المؤمنة على مرّ التاريخ من ظلم الطغاة وتعذيبهم، وبشاعتهم.

قال: هاجرنا مع النبيّ(ص) نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنّا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، وعلى قول آخر حمزة عمّ النبيّ، قتل يوم اُحد، وترك نمرةً (بردة)، فكنّا إذا غطّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله(ص) أن نغطّي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من إذخِر، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهديها.(2)


1- صحيح البخاري 3: 1322 ح3416.
2- المصدر نفسه 3: 1415 ح3684.

ص: 267

ومنها الرواية التي نقلناها فيما سبق وكانت سبباً لنزول الآية: (أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا...).(1)

أخبر جماعة من أصحاب خباب: بينما نحن في المسجد، إذ جاء خباب بن الأرتّ، فجلس فسكت، فقال له القوم: إنّ أصحابك قد اجتمعوا إليك لتحدّثهم أو لتأمرهم.

قال: بم آمرهم؟ ولعلّي آمرهم بما لستُ فاعلاً.

قال قيس: أتيت خبّاباً وهو يبني حائطاً له، فقال: إنّ أصحابنا؛ وفي رواية اُخرى أصحاب محمّد9 مضوا لم تنقصهم الدُّنيا شيئاً، إنّا أصبنا من بعدهم شيئاً، وفي رواية: وإنّا أصبنا من الدُّنيا ما لا نجد له موضعاً إلاّ التراب.(2)

موقفٌ خالدٌ

قضى الشطر الأكبر من حياته رضوان الله عليه في فقر وفاقة، حاله حال الكثير من إخوانه المؤمنين، إلاّ أنّه في أواخر عمره منَّ الله تعالى عليه، فاغتنى حتّى ذكر أنّه ملك ما لم يكن يحلم به من الذهب والفضّة.

ومع هذا كلّه بقي هذا الرجل كما عرف عنه زاهداً لم تغيره الدنيا، ولم تضعف إيمانه; لهذا راح يتصرّف فيما جعله الله مستخلفاً فيه بوجه لا يخطر على بال أحد.

وضع ماله ودراهمه و دنانيره في مكان من بيته غير مستور، أي لم يخبئه، ولم يشدد عليه رباطاً ولم يحكم عليه قفلاً، وقد أذن لمن هو في حاجة أن يأخذ منه ما يسدّ حاجته دون أن يسأله أو يستأذن منه; لينال بذلك رضا الله تعالى.

ومع موقفه هذا من الذي بين يديه، تراه يخشى من أن يكون غناه وثراؤه هذا أجراً لما قدمه من مواقف وتضحيات في سبيل الله، استوفاه في الدنيا; فقد حدّث جمع من أصحابه قائلين:


1- صحيح البخاري 2: 736 _ 737 ح1985.
2- المصدر نفسه 5: 2362 _ 6069 ح6066.

ص: 268

دخلنا على خباب في مرض موته، فقال:

إنّ في هذا المكان ثمانين ألف درهم، وإنّي ما شددت عليه رباطاً قطّ، ولا منعت سائلاً قطّ، ثمّ بكى.

فقالوا له: ما يبكيك؟

فقال: أبكي لأنّ أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئاً، وأنني بقيتُ فنلتُ من هذا المال ما أخاف أن يكون ثواباً لتلك الأعمال، أو لقد خشيت أن يذهب بأجورنا مع رسول الله(ص) ما أصبنا من الدنيا.

الكوفة

لأسباب عديدة، قد يكون الوضع السياسي في خلافة عثمان بن عفان واحداً منها، غادر جمع من الصحابة مدينة رسول الله(ص) متوجّهين نحو الكوفة، حيث سبق وأن أقطع عثمان جمعاً من المسلمين ومنهم خباب والزبير... قطيعةً من أرض الخراج في الكوفة، اتخذوها سكناً لهم حينما تركوا المدينة.

تقول الرواية:

... كان الناس يقدمون على عثمان بن عفّان، وكان منهم ابن مسعود وابن ياسر والزبير وغيرهم، فيسألونه أن يعوّضهم مكان ما خلّفوا من أرضهم بالحجاز وتهامة، ويُقطعهم عوضه بالكوفة والبصرة، فأقطع خبّاب بن الأرت استينيا، قرية بالكوفة.(1)

وفي خبر إنّما القطائع كانت على وجه الفضل من خمس ما أفاء الله.

وفي رواية اُخرى:

وابتنى _ خبّاب بن الأرت _ بالكوفة داراً في جهار سوج خُنيس.(2)

وفي معجم البلدان: يعرف بجهار سوج الهيثم بن معاوية من القوّاد الخراسانية، وهي


1- اُنظر معجم البلدان ، لياقوت الحموي. وتاريخ الطبري 2: 438.
2- اُنظر تاريخ الكوفة: 398.

ص: 269

كلمة فارسية،(1) وهي من محالّ بغداد في قبلة الحربية، خرب ما حولها من المحال، وبقيت هي والنصيريّة، والعتّابيون، ودار القزّ، متّصلة بعضها ببعض، كالمدينة المفردة، في آخر خراب بغداد.(2)

بعض ماقاله فيه علماء الرجال

كان لخباب عند علماء الرجال منزلة محمودة، وأنّه ثقة جليل، فقليلاً ما تخلوا كتبهم من ذكر اسمه، وترجمة حياته، والإشادة به.

فهذا شيخ الطائفة عدّه من جملة رجاله،(3) فيما قال عنه بحر العلوم،(4) في رجاله: خباب بن الأرتّ التميمي أبوعبدالله أحد السابقين الأولين الذين عذّبوا... فيما قال التستري في قاموسه:... وممدوحية خباب مسلمة كما عرفت من مدح أميرالمؤمنين7 له.(5)

فيما ذكره العامّة ابن عبدالبرّ، وابن مندة، وأبونعيم... بأنّه صحابيّ جليل، وأنّه كان من فضلاء المهاجرين الأولين.(6)

وفاته رضوان الله عليه

كان هذا الصحابي الجليل على موعد مع ظهر (أي ما غلظ وارتفع) الكوفة، هناك حيث رقد جسده المعذّب بعد صبر طويل، ومثابرة عظيمة، وثبات منقطع النظير، في أن يبقى على العهد مؤمناً صادقاً مجاهداً، حتّى يلقى الله تعالى صابراً محتسباً; وبوفاته ودفنه في الكوفة كان أوّل صحابي يدفن فيها.


1- چار سوق، فارسية.
2- اُنظر معجم البلدان 2: 193.
3- رجال الطوسي: 19.
4- رجال بحر العلوم.
5- القاموس، للعلاّمة التستري 4: 156.
6- المصدر نفسه.

ص: 270

تقول الرواية وهي عن ابن خبّاب: كان الناس يدفنون موتاهم بالكوفة في جبابينهم، فلمّا ثقل خبّاب قال لي: أي بُني إذا متُّ فادفني بهذا الظهر، فإنّك لو قد دفنتني بالظهر قيل: دُفِنَ بالظهر رجل من أصحاب رسول الله(ص)، فدفن الناس موتاهم، فلمّا مات خبّاب رحمه الله، دفن بالظهر فكان أوّل مدفون بظهر الكوفة.(1)

وهذا محلّ اتّفاق المؤرِّخين، إلاّ أنّهم اختلفوا في سنة وفاته رضوان الله عليه، فهناك من يقول: صلّى عليه عليٌّ (ع) وجهة منصرفه من صفّين،(2) وقول: في السنة السادسة والثلاثين من الهجرة.(3) وقول آخر: إنّه توفّي في السنة التاسعة عشرة من الهجرة.(4) وآخر بعد معركة النهروان سنة 39 هجرية.

إلاّ أنّ الأكثر شهرة أنّه توفّي في السنة السابعة والثلاثين من الهجرة، بعد ما شهد صفين مع عليٍّ (ع) والنهروان، وصلّى عليه عليّ (ع) وكان عمره إذ مات ثلاثاً وسبعين سنة.

فيما قال ابن الأثير بعد هذا: الصحيح أنّه مات سنة سبع وثلاثين، وإنّه لم يشهد صفّين، فإنّه كان مرضه قد طال به، فمنعه من شهودها.(5)

إذاً كان الإمام علي (ع) مشغولاً في حرب صفّين، وترك خباباً مريضاً في الكوفة، ولعلّ الذي يؤيّد كونه مريضاً، ما ورد في كلام الإمام (ع) الآتي: «وابتلي في جسمه فصبر»; ولم يكن حاضر وفاته، وهو ما توهّمه بعض.

الإمام علي (ع) مؤبِّناً

ما إن عاد الإمام علي (ع) من معركة صفّين، ووصل إلى ظهر الكوفة حتّى سأل: ما هذه القبور؟ فقال قدامة بن العجلان اليزدي: يا أميرالمؤمنين، إنّ خبّاب ابن الأرت توفّي بعد


1- اُنظر الطبقات الكبرى 3: 167.
2- حلية الأولياء 1: 147.
3- الاستيعاب 1: 32.
4- المصدر نفسه: 423 _ 424 ؛ والإصابة 1: 416.
5- أسد الغابة 2 : 100.

ص: 271

مخرجك، فأوصى بأن يُدفن في الظهر، وكان الناس إنّما يدفنون في دورهم وأفنيتهم، فدفن بالظهر رحمه الله، ودفن الناس إلى جنبه.

فوقف الإمام (ع) على هذه القبور قائلاً:

السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة! من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، نزوركم عمّا قليل، ونلحق بكم بعد زمان قصير; أللّهمَّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنّا وعنهم.

ألحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءاً وأمواتاً، والحمد لله الذي منها خلقنا، وعليها ممشانا، وفيها معاشنا، وإليها يُعيدنا، طوبى لمن ذكر المعاد، وقنع بالكفاف، وأعدّ للحساب!(1)

ثمّ قال7 مؤبّناً، وقد انفرد بقبر غضٍّ رطيب ٍ يضمّ رفات هذا العبد الصالح: رحم الله خبّاباً! لقد أسلم راغباً، وجاهد طائعاً، وعاش زاهداً، وابتلي في جسمه فصبر!

ولن يُضيع الله أجر من أحسن عملاً.(2)


1- تاريخ الطبري 3: 108 ؛ أسد الغابة 2: 100 ؛ وقعة صفّين: 530 ؛ شرح نهج البلاغة 19: 206 _ 257.
2- العقد الفريد 3: 201 ؛ أسد الغابة 2: 100.

ص: 272

ص: 273

(13) بلال

اشارة

أحدٌ أحد، مؤذِّن رسول الله(ص)

حسن محمّد

ما أعظمك يا بلال، وقد اقترن اسمك بكلمات لم يسبقك إليها أحدٌ، حتّى غدت سلاحك الوحيد الذي تدافع به عن نفسك، حيث كانت تخلق فيك صموداً لا يهزم، وثباتاً لايلين، وقد تلوّت على ظهرك سياطهم، ومزّقت جسدك حديدتهم المحماة، في رمضاء مكّة، ولهيب رمالها، وأنت تردّدها كلمات خالدة.. أحدٌ أحد، أحدٌ أحد.. حتّى غدت انشودتك التي لم تجد أجمل منها وأحلى.. ولم ينطق لسانك بشيء غيرها.. فكانت أمضّ سلاح ينخر صدورهم، ويهزّ كبرياءَهم.. ويغيض قلوبهم، وهو ما كنت تبحث عنه وتتمنّاه.

وما أعظمك يا بلال، وقد اقترن اسمك بأعظم نداء عرفته الدُّنيا، وردّدته الأجيال!

وما أحسن عاقبتك يابلال، وقد خلدت بخلود كلّ فصل من فصول هذا الأذان، وكلّ كلمة من كلماته، بل وكلّ حرف من حروفه، ولحن من ألحانه، ونغمة من نغماته!

وما أعظم ذكراك، وقد امتزجت بذكرى هذا الأذان، الذي راح يدوّي خمس مرّات في

ص: 274

أرجاء السماء، تردّده الألسن، وتهفو إليه القلوب، وتطمئن به النفوس، فما إن يسمع أحدُنا مؤذِّناً يرفع الأذان حتّى يتبادر إلى الذهن بلال، وما إن نسمع صوتاً نديّاً شجيّاً إلاّ وراح بلال بصوته الجميل شاخصاً حيّاً، وكيف لا يحيى، وقد اقترنت حياته بحياة هذا الأذان، فنعم القرين!؟

* * *

إنّه واحد ممّن قضى عمره بين عبوديّتين: عبودية للناس، وقد أكره عليها، وكلّها تسخير وذلّ وظلم، مقابل ثمن بخس، لا يتعدّى رغيف خبز، وافتراش أرض؛ وعبودية لله، خطى نحوها بإرادته ورغبته، فكانت عزّاً في الدُّنيا وكرامةً في الآخرة، وكانت خلوداً هي الأخرى في الدُّنيا، وخلوداً في الآخرة... فشتّان شتّان بين العبوديّتين!!

كان بلال من فئة العبيد، تلك التي سخّرها سادة المجتمع المكّي وكبراؤه، في نواح خدمية كثيرة، وأخرى قتالية.

وما إن منَّ الله تعالى بدعوته المباركة الجديدة، رحمةً للناس جميعاً، حتّى راحت قلوبُ هؤلاء الضعفاء تجد أمانها فيها وطمأنينتها.

فتوجّهوا نحوها كأعظم ملجإ لهم وملاذ، لتنتشلهم ممّا هم فيه من اضطهاد متواصل، وعذاب دائم، وذلٍّ مستمرّ، من خزي في الدُّنيا، وعذاب في الآخرة، إلى عبق الحرية والمساواة، وإلى فردوس ينتظرهم في الآخرة.

وهم يسمعون: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى».

وهم يقرأون: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

لقد كانت هذه الفئة من الناس تشخص بأبصارها بعيداً، وكأنّها تنتظر من ذلك الأفق البعيد منقذاً ظلّت تعيشه حُلماً جميلاً، يهوّن عليها ما هي فيه من هوان، ويزرع في نفوسها الأمل والطموح والرغبة في حياة إيمانيّة، تنقذهم ممّا هم فيه من ضلال وعذاب، فما إن رأته واقعاً أمامها حتّى بادرت إلى التصديق به، والتضحية في سبيله، فكان لهم قصب السبق في نصرة هذه الدعوة الخالدة، والدفاع عنها بأرواحهم وأجسادهم، وما يملكون حتّى

ص: 275

تمّ نصر الله والفتح.

لم يتأخّر بلال كثيراً، فقد ردّد الشهادتين، وأعلن بذلك إسلامه مع رفاقه في الآلام، فبدأوا بذلك حياةً جديدةً، إلاّ أنّ الأيدي الظالمة لم تتركهم، فقد راح أسيادهم يصبّون عليهم جام غضبهم، وينزلون بهم أقسى أساليب التعذيب وأشكاله.

ومع كلّ هذا رأت هذه الفئة التي هانت عليها نفوسها في الله تعالى، أنّ ما ينزل بها من عذاب هو غير ذلك العذاب، وأنّ ما يحلّ بها من ظلم وقسوة هي غير تلك القسوة، لقد رأت بهذا كلّه حلاوةً ونشوةً، ولهذا تحمّلت، وراحت تردّد مع بلال كلماته المشهورة على لسان واحد، ومن قلوب ملئت إيماناً وحبّاً لله حتّى غدت كيانهم كلّه: أحدٌ أحد; وجدت بها بلسمها ودواءها وحرّيتها، التي فقدتها سنين طويلة، فيما راحت الأجيال المؤمنة تعيش ذكراهم، وتردّد صدى ما تعوّدته ألسنتهم، ووعته قلوبهم.

لقد أسلم بلال، وهو من الأوائل الذين أعلنوا إسلامهم، وراح يشهد مشاهد رسول الله(ص) كلّها بدراً وأحُداً والخندق، وفتح مكّة.

* * *

إنّه بلال بن رباح الحبشي، أبوعبدالكريم، وأبوعمرو الحبشي، أمّه حمامة؛ وكان مولى أميّة بن خلف، الذي كان واحداً من طغاة قريش، وقد أوغل في ظلمه لبلال؛ ثمّ بعد ذلك اشتراه أبوبكر بن أبي قحافة، فظلّ مولى له حيناً من الوقت.

صفاته

كان بلال أدم، شديد الأدْمَة، نحيفاً طُوالاً، أجنأ، أي في كاهله انحناء، إلاّ أنّه ليس بالأحدب، له شعر كثيف، خفيف العارضين.

أمّا صوته فجميل قوي، ينتشر بعيداً، وكانت له ترنيمة شجيّة، عرفته أرجاء مكّة بندائه الجميل، شفيت به الأبدان المكدودة، وتماثلت به النفوس المعتلّة السقيمة.

هيّأه هذا الصوت لأن يكون أوّل مناد بنداء التوحيد، ينبذ الشرك والشركاء، عبر أجمل

ص: 276

وأعظم فصول تردّدها الشفاه، وتنطلق بها الألسن، وتتعلّق بها القلوب، وتشتاق لها الأنفس، وتشفى بها الأجسام، «أرحنا يا بلال»، هكذا كان يناديه رسول الله(ص).

نعم، أُنيط به أذان أعظم أركان الإسلام، وأقدس شعيرة جاء بها الدين الحنيف، إنّها الصلاة، إنّها اللقاء المباشر بين العبد وربّه..

وهذا ما كان يتمنّاه بلال، فينتقل من مجرّد عبد حبشي لا غير إلى عبد صالح لله وحده، فتنهال عليه بركات السماء، فيخلد مؤمناً صلباً، ذلّت له عنجهية قريش وكبرياؤها، بعد أن تكسّرت عليه سياطهم، سياط الجلاّدين، دون أن تنال منه شيئاً، بل ما زادته إلاّ عزّاً وكبرياء.

بلال و اُميّة

بلال بين يدي سيّده أميّة بن خلف في رحلة العذاب، حيث راح هذا الأخير يذيق ذاك العبد الصالح، والسابق الأوّاب، صنوفاً من العذاب.

في كلّ ظهيرة، حيث شمس الحجاز المحرقة، ورمالها الملتهبة في بطحاء مكّة، يوضع هذا الجسد العظيم بين نارين ونار ثالثة يمسك بها أميّة وأعوانه، وصخرة كبيرة ترقد على صدر بلال فتقطع عليه أنفاسه، ها أنت يا بلال بين خيارين لا ثالث لهما; إمّا أن تموت بسياطنا وصخورنا وحديدنا المكواة، وإمّا أن تكفر بمحمّد ابن عبدالله، فتعود إلى (عبادة اللاّت والعزّى)، فتنال محبّتنا.

إلاّ أنّهم خابوا وخابت جميع محاولاتهم، وخسئت سياطهم وعصيهم وحديدهم، من أن تنال من عزمه الراسخ، وإيمانه العظيم، الذي لا يلين أو يضعف.

كلمة واحدة مختصرة لا غير، راح لسان بلال يلهج بها، وتركها عبر التاريخ والأجيال خالدةً مدويّةً تعلّم الأحرار والمؤمنين الصمود والإباء، حروف ثلاثة، كلّ حرف يعدل الوجود كلّه خيراً وعطاءً: أحدٌ، أحد، لم يتلفّظ غيرها أبداً، وهو بين رمال ملتهبة، وشمس محرقة، وصخرة تجثم على صدره فتقطع أنفاسه، فلا ينطق إلاّ بهذه الحروف وما أعظمها

ص: 277

وأقدسها وأجملها! بصوت ضعيف قد لا يسمعه أحدٌ، حتّى هو بعد أن أضعفه الجوع والعطش والألم.. شفاه تتحرّك، بل تتمتم بها.. أحدٌ أحد، نعم أحدٌ أحد.

صمودٌ ما أعظمه، غدا بعده مدرسةً، وظلّ ذكرى عظيمة، لا تملّها الأجيال، راحت كلمات بلال تدوّي في بطحاء مكّة وأجوائها؛ كما راحت ألسن الجميع تردّدها من بعده؛ فكانت صاعقةً تنزل على مسامع مشركي قريش، فيجنّ جنون أُميّة، وتسيطر سورة الغضب عليه؛ فينهال على بلال بوسائله البشعة، بسياطه وحديده، وألفاظه القذرة، يركله، يضربه، يشتمه.

وبلال يزداد صموداً وتألّقاً.. أحدٌ، أحد.. وهكذا ظلّ هذا المعذَّب أيّاماً وليالي.. بلال لا نريد منك شيئاً.. أذكر فقط آلهتنا بخير.. لقد أتعبهم بلال وثباته.. حتّى غدا كلّ واحد منهم، وكأنّه هو المعذَّب لا بلال.

فسئم أميّة.. يا أبا جهل عليك به.. فصبّ عليه جام غضبه.. وأذاقه صنوف العذاب.. حتّى كلّوا وعجزوا.. فاستعانوا بصبيانهم وسفهائهم، ليضعوا حبلاً في عنق بلال... ليطوفوا به بين أخشبي مكّة، بين أزقّة هذين الجبلين اللذين يحيطان بمكّة «أبو قبيس والأحمر».

ولم يترك كلماته العظيمة.. إنّها أنشودته التي لا يملّها ولا تملّه.. وبصوته الرخيم: أحدٌ أحد.. فتذهل أنفسهم، وتقشعر جلودهم.. ويسقط ما في أيديهم.. إنّها أنشودة بلال، التي غدت شعاراً للمسلمين في أولى معارك الإسلام في بدر.

يا أميّة ألا تتّقي الله في هذا المسكين؟!

يا أميّة حتّى متى؟!

فيجيب أميّة: أنت أفسدته، فأنقذه ممّا ترى.

ص: 278

فما كان من أبي بكر، إلاّ أن اشتراه بخمس أواق... وفكّروا أن يربحوا منه فهو أفضل من موته بين أيديهم، بعد أن يئسوا من عودته إليهم... واستوقفهم مرّةً أميّة ابن خلف قائلاً لأبي بكر: خذه، فواللاّت والعزى، لو أبيت إلاّ أن تشتريه بأوقية واحدة لبعته بها.

فيجيبه أبوبكر: والله لو أبيتم إلاّ مأة أوقية لدفعتها.

ثمّ أعتقه لوجه الله تعالى، ليواصل جهاده ودعوته إلى الله.

يقول عمّار بن ياسر وهو يصف بلالاً وقوّته وصموده..

جزى الله خيراً عن بلال وصحبه

مضامتنا

عتيقاً وأخزى فاكهاً وأبا جهل

عشية هما في بلال بسوءَة

ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل

بتوحيده ربّ الأنام وقوله

شهدت بأنّ الله ربّي على مهل

فإن يقتلوني يقتلوني فإن أكن

لأشرك بالرحمن من خيفة القتل(1)

المؤاخاة

بعد أن هاجر رسول الله(ص) وهاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة، راح رسول الله(ص) يبني أسس المجتمع المؤمن على أسس متينة، وكانت المؤاخاة واحدة من تلك الأسس، فآخى بين المهاجرين والأنصار، فكان نصيب بلال من هذه المؤاخاة أن آخى رسول الله(ص) بينه وبين أبي رويحة عبدالله بن عبد الرحمن الخثعمي.

ظلّ هذا العبد الصالح وفياً لهذه الأخوّة.

يقول ابن هشام في سيرته: (فلمّا دوّن عمر بن الخطّاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، فأقام بها مجاهداً.

قال عمر لبلال: إلى مَن تجعل ديوانك يا بلال؟

قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبداً، للأخوّة التي كان رسول الله(ص) عقد بيني وبينه، فضُمَّ إليه.(2)

الثلّة المعذَّبة وآيات قرآنية

بلال، وعمّار، وخبّاب، وصهيب، وأبوجندل... وغيرهم، مؤمنون معذَّبون انصبّ جام


1- حلية الأولياء 1: 148.
2- السيرة النبوية، لابن هشام 1: 507.

ص: 279

غضب قريش عليهم تجويعاً وتعذيباً وتنكيلاً وسخريةً.

وقبال كلّ ما عانوه من آلام، وسياط، وظلم، واضطهاد، ظلّ كتابُ الله تعالى يواكبهم في بعض آياته، مواساةً لهم ورعايةً، وتثبيتاً، ومؤازرةً؛ كما راحت تعلّم الآخرين من المؤمنين على الاهتمام، بهذه الشريحة المؤمنة، وعدم تركها بعيدةً عن اهتمامهم، فتبقى وحيدةً فريدةً أمام جبروت المشركين وطغيانهم حتّى بعد أن أعلن هؤلاء إسلامهم، لكنّ عنجهيتهم الجاهلية وكبرياءهم، كانا يأبيان عليهم مجاملة هذه الفئة المضطهدة المستضعفة، ظلّت سخريتهم تلاحق هؤلاء، وظلّ التعالي عليهم علامةً بارزةً في تعاملهم مع الشريحة المؤمنة هذه؛ بل مكثوا على سيرتهم هذه، وتعاملهم هذا طيلة حياتهم، وكأنّ الإسلام الذي أعلنته ألسنتهم لم يترك أثره على قلوبهم، فظلّوا أقرب للنفاق منه إلى الإيمان بالدين الجديد؛ إنّها صفات الجاهلية القذرة التي امتزجت بها أرواحهم، وعكفت عليها قلوبهم، وانطوت عليها سريرتهم، ولولا سيف الإسلام، لبقوا على حالتهم الأولى وآلهتهم، التي ظلّوا عليها وآباؤهم عاكفين.

ومثال واحد نذكره يبيّن لنا موقف كبار هؤلاء القرشيين من المعذّبين واحتقارهم لهم، حتّى بعد أن أعلنوا الشهادتين.

فقد حضر الناس يوماً باب عمر بن الخطّاب في خلافته، وفي هؤلاء الناس أبوسفيان بن حرب وشيوخ من قريش، وكان مع هؤلاء الناس سهيل بن عمرو ابن عبدشمس العامري، وهو الذي عقد صلح الحديبية مع النبيّ(ص) ورفض أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، التي أمر رسول الله(ص) بكتابتها، قائلاً: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللّهمّ، ورفض أيضاً ما أمر به رسول الله(ص) أن يكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله.. قائلاً: لو شهدت أنّك رسول الله لم أُقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

هذه مواقف سهيل قبل إسلامه، وما أجمل مواقفه بعد إسلامه!

كان مع هؤلاء الناس الذين قدموا للدخول على الخليفة، فبعد أن خرج الإذن من الخليفة الثاني لأهل بدر دون الآخرين، أي لصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وغيرهم من

ص: 280

المعذّبين، لم يتحمّل أبوسفيان وزمرته هذا، فقال: ما رأيت كاليوم قط، إنّه ليؤذن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا.

وهنا تصدّى له سهيل بن عمرو مدافعاً عن هؤلاء المعذّبين، أيّها القوم، إنّي والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً، فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسون فيه.

ثمّ قال: أيّها القوم، إنّ هؤلاء قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم والله إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فألزموه، عسى الله عزّوجلّ أن يرزقكم الشهادة.(1)

ومن الآيات التي نزلت فيهم

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).(2)

ما انفكّت قريش تلاحق هؤلاء المعذّبين انطلاقاً من ضلالها وعنادها وكبريائها، وظلّ كبرياؤها وتعنّتها يزداد ضدّ هؤلاء المؤمنين خوفاً من استفحال أمرهم، وبالتالي القضاء على زعامتها وسيادتها التي تطمح أن تخلد لها دون منازع من العالمين; لهذا لم تطق قريش ما تراه من إيمان هذه الفئة وصمودها، فراحت تصبّ عظيم غضبها عليهم، لتحدّ من توسّع هذا الدين الجديد بين شباب قريش، إن لم توقفه وتميته، وبذلت جهوداً كبيرة ترغيباً وترهيباً من أجل إعادتهم إلى عبادة آلهتها صاغرين.

فنزلت هذه الآية في هؤلاء المعذَّبين مثل: بلال، وخبّاب، وصهيب، وعمّار، وغيرهم، بعد أن مكّنهم الله تعالى في المدينة المنوّرة بعد هجرتهم، وكانت لهؤلاء منزلة كبيرة عند رسول الله(ص) وعند الصحابة؛ فقد ذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنت


1- الاستيعاب ؛ الإصابة في تمييز الصحابة 2: 110.
2- سورة النحل: 41.

ص: 281

معكم لم ينفعكم، وإن كنت عليكم لم يضرّكم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول الله(ص).

ويروى أنّ عمربن الخطّاب في خلافته، كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءً، يقول له: خذ، هذا ما وعدك الله في الدُّنيا، وما أخّره لك أفضل، ثمّ يتلو هذه الآية: (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).(1) هذا ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسيره.

فيما قال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيّ(ص) بمكّة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة فعذّبوهم وآذوهم، فبوّأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك.(2)

لقد كان ما وعدهم ربّهم حقّاً، حيث بوّأهم مقاماً محموداً في دنياهم ومنحهم أجراً عظيماً في أخراهم. ففازوا بالحسنتين: حسنة الدُّنيا وحسنة الآخرة.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...).(3)

لم تجن ِ قريش من قسوتها وتعذيبها للنخبة الفقيرة المعذّبة إلاّ اليأس والخزي، فقد باءت كلّ أساليبها القذرة بالفشل، وراحت تفكّر بطريقة أخرى للتنكيل بهم وملاحقتهم، وإنزال العذاب النفسي بهم، بعد أن خابت أساليبها الأخرى التي انصبّت عليهم طيلة هذه الفترة.

يتمحور أسلوبها الجديد هذا بأن اطرد يا محمّد هؤلاء: «عمّار، وصهيب، وبلال، وخبّاب، وسلمان، وأبوذرّ، وغيرهم من الفقراء الذين آمنوا به حين كذّبه هؤلاء الطغاة، الذين يسمّون بالأشراف، ونصروه حين خذله الناس الآخرون، ومنهم هؤلاء الأثرياء وكبار قريش..».

فيكون لنا مجلس معك وكلام; لأنّه لا يليق بنا أن يضمّنا مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء


1- سورة النحل: 41.
2- أسباب النزول، للواحدي: 285.
3- سورة الأنعام: 52.

ص: 282

العبيد، وذوي الثياب الرثّة، فنتساوى معهم، فلو نحّيتهم عن مجلسك ; لتوافد عليك أهل الثراء والأشراف، وقد نتّبعك.

فكاد هذا الأمر أن يزرع اليأس والإحباط في نفوس هذه الفئة المظلومة، لولا أن تدخّلت السماء، فنزلت هذه الآية حسماً لهذا الموقف، قبل أن يترك آثاره على هؤلاء المعذَّبين، ويشعر بنشوة النصر كبار قريش وزعماؤها.

يقول عبدالله بن مسعود:

مرّ الملأ من قريش على رسول الله(ص)، وعنده صهيب، وخبّاب، وبلال، وعمّار، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيت هؤلاء من قومك؟

أفنحن نكون تبعاً لهم؟

أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم؟

اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...).

فيما قال سلمان، وخبّاب أيضاً: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري وذووهم من المؤلّفة قلوبهم، فوجدوا النبيّ(ص) قاعداً مع بلال، وصهيب، وعمّار، وخبّاب، في ناس من ضعفاءالمؤمنين فحقّروهم، وقالوا:

يارسول الله لو نحّيت هؤلاء عنك حتّى نخلوا بك، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء العبيد، ثمّ إذا انصرفنا، فإن شئت فادعهم إلى مجلسك، فأجابهم النبيّ(ص) إلى ذلك، فقالوا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر عليّاً (ع) ليكتب.

قالا: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل7 بقوله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...) إلى قوله: (أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

فنحّى رسول الله(ص) الصحيفة، وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة، فكنّا نقعد معه.(1)


1- مجمع البيان للطبرسي، في تفسير الآية.

ص: 283

هذا، وكان بلال واحداً من أولئك النفر، الذين راح مشركو مكّة، وإن أعلنوا إسلامهم، يلاحقونهم تنديداً وسخريةً، وخاصّة بلال بن رباح الذي ترك خيبة في نفوسهم، تأكل كبرياءَهم وتطيح بطغيانهم، وموقفهم هذا كان استمراراً لمواقفهم، وهم في مكّة، وهم على شركهم حينما سمعوا بنبأ إيمان هذه الثلّة من الفقراء، أو العبيد، فعن عكرمة أنّه قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة ونفرٌ معهما سمّ_اهم أبو طالب؛ فقالوا: لو أنّ ابن أخيك محمّداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنّما هم عبيدنا وعُسفاؤنا (والعسيف هو الأجير المستهان به) كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، فأتى أبوطالب النبيّ(ص) فحدّثه بالذي كلّموه، فأنزل الله عزّوجلّ الآية المذكورة: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...).

قال: وكانوا بلالاً وعمّار بن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وخبّاباً مولى أمّ أنمار.

وفي قوله تعالى: (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ * أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ).(1)

قال: يقول أبوجهل: أين بلال أين فلان، أين فلان؟ كنّا نعدّهم في الدُّنيا من الأشرار، فلا نراهم في النار! أم هم في مكان لا نراهم فيه، أم هم في النار لا يرى مكانهم؟!

وفي رواية: أين عمّار، أين بلال؟

وعن ابن عبّاس: (كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) خبّاباً وبلالاً.(2)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).(3)

تقول الرواية: لمّا كان يوم الفتح رقِيَ بلال فأذّنَ على ظهر الكعبة، فقال بعض الناس: يا عبدالله، لهذا العبد الأسود، وفي قول أصحّ «فقال بعض الناس: يالله! هذا العبد الأسود أن


1- سورة ص: 62 _ 63.
2- مختصر تاريخ دمشق 5: 263.
3- الحجرات: 13.

ص: 284

يؤذّن» أن يؤذن على ظهر الكعبة! فقال بعضهم: إن يسخط الله يغيِّره.

وفي خبر أنّه لما جاء أمر النبيّ(ص) بلالاً أن يؤذّن على ظهر الكعبة، وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد آمن.

فلمّا أذّن وقال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة!

وقال خالد بن أسد: لقد كرّم الله أبي، فلم ير هذا اليوم! فيما قال الحارث بن هشام: ليتني متُّ قبل هذا! وقال جماعة نحو هذا.(1)

فأنزل الله جلّ ذكره الآية المذكورة أعلاه.(2)

مكانته عند رسول الله(ص) و المؤمنين

لقد حظي المعذَّبون بمكانة عظيمة أخرى _ إضافةً إلى مكانتهم في القرآن الكريم _ فقد كان يحبّهم رسول الله(ص) ويأنس بهم، يجالسهم، يحدّثهم، يأكل ممّا يأكلون، لا يميّز بينهم، إلاّ أنّ بلالاً كان يحظى بمعية رسول الله(ص) وبمنزلة أقرب عنده؛ حتّى راح الصحابة يكرمون هذه الثلّة المؤمنة المعذَّبة، إكراماً لله ولرسوله.

تقول الرواية، عن عائذ بن عمرو: إنّ أبا سفيان مرَّ على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ الله مأخذها.

فقال أبوبكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟

وأتى النبيّ(ص) فأخبره.

فقال (ص): «يا أبابكر لعلّك أغضبتهم؟ وإن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربّك».

فأتاهم أبوبكر، فقال: يا إخوتاه، أغضبتُكم؟ قالوا: ما غضبنا، يغفرالله لك يا أخي.(3)


1- قاموس الرجال، للتستري 2: 398.
2- مختصر تاريخ دمشق 5: 263.
3- المصدر نفسه 5: 266.

ص: 285

فبقي الصحابة يجلّونهم ويكرمونهم، لما سمعوه من رسول الله(ص) بحقّهم، ولما رأوه من عنايته بهم، وتفقّده لهم.

ومن علوّ مكانته عند رسول الله (ص) ورفعتها أن كانوا ينسبونه إليه فيقولون: بلال رسول الله(ص) فقد حدث مرّة أنّ شاعراً امتدح شخصاً اسمه بلال، وكان ابن عبدالله بن عمر، فقال في شعره من الطويل:

بلال بن عبدالله خير بلال

فقال له ابن عمر: كذبت، بل بلال رسول الله(ص) خير بلال.

ولم يعهد من عمربن الخطّاب إلاّ أنّه كان ينادي بلالاً (سيّدنا)، وكان يأذن له ولإخوانه المعذّبين بدخول مجلسه قبل أن يأذن لشيوخ قريش وأشرافها كما مرّ بنا.

وفي خبر آخر _ يدلّ على ملاحقة رسول الله(ص) أصحابه تربيةً وتهذيباً من أدران الجاهلية، وما علق بنفوسهم منها _ يقول: عيّر أبوذرّ بلالاً بأمّه فقال: يابن السوداء! وإنّ بلالاً أتى رسول الله(ص) فأخبره، فغضب! فجاء أبوذرّ ولم يشعر، فأعرض عنه النبيّ(ص) فقال: ما أعرضك عنّي إلاّ شيء بلغك يارسول الله، قال: أنت الذي تعيّر بلالاً بأمّه؟

قال النبيّ(ص): والذي أنزل الكتاب على محمّد _ أو ما شاء الله أن يحلف _ ما لأحد على أحد فضل إلاّ بعمل، إن أنتم إلاّ كطفِّ الصّاع.

أي كلّكم قريب، بعضكم من بعض، فليس لأحد فضل إلاّ بالتقوى; لأنّ طفّ الصاع قريب من ملئه، فليس لأحد أن يقرُب الإناء من الامتلاء.(1)

وفي رواية تقول: إنّ بني أبي البُكير جاؤوا إلى رسول الله(ص) فقالوا: زوّج أختنا فلاناً، فقال لهم:

أين أنتم من بلال؟

ثمّ جاؤوا مرّة أخرى، فقالوا: يارسول الله أنكح اُختنا فلاناً.


1- المصدر نفسه 5: 262 ؛ لسان العرب: طفف.

ص: 286

فقال: أين أنتم عن بلال؟

ثمّ جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكح اُختنا فلاناً.

فقال: أين أنتم عن بلال، أين أنتم عن رجل من أهل الجنّة؟!

قال زيد بن أسلم صاحب هذه الرواية: فأنكحوه.(1)

رحمتها رحمكَ الله

وحظي بلال بدعاء رسول الله(ص) له بالرحمة، حينما مرَّ بلال ببيت من البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، حيث يقول بلال: مررتُ على فاطمة عليها سلام الله، وهي تعالج الرّحا، قال: وابنها الحسين يبكي، قال: وحانت الصلاة، قال بلال:

فقلت لفاطمة: أيما أعجب إليك؟! أكفيك الرَّحا أو الصبي؟

فقالت فاطمة: أنا ألطف بصبيّي.

قال: فأخذتُ بقيّة الطحن، فطحنته عنها.

فأتيتُ رسول الله(ص) فقال: يا بلال ما حبسك؟

فقلت: يارسول الله، مررتُ على فاطمة وهي تعالج الرَّحا، فأعنُتها على طحنها.

فقال رسول الله(ص) : رحمتَها رحمكَ الله.(2)

ذرني أذهب إلى الله

كلمات ما أعظمها، نطق بها لسان هذا العبد الصالح! فقد قال يوماً لأبي بكر: إن كنت أعتقتني لله فدعني حتّى أعمل لله، أو فذرني أذهب إلى الله، وإن كنت أعتقتني لتتخذني خادماً، فاتّخذني.

فبكى أبوبكر وقال: إنّما أعتقتك لله، فاذهب، فاعمل لله تعالى.


1- مختصر تاريخ دمشق 5: 262.
2- المصدر نفسه.

ص: 287

ولمّا كانت خلافة أبي بكر، تجهّز بلال ليخرج إلى الشام.

فقال له أبوبكر: ما كنت أراك يا بلال تدعنا على هذا الحال، لو أقمت معنا فأعنتنا.

قال: إن كنت إنّما أعتقتني لله تعالى، فدعني أذهب إليه، وإن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني عندك.

بلال المؤذّن و أجره العظيم

روي أنّ رسول الله(ص) كان قد بشّر بلالاً والمؤذنين بالجنّة:

«نعم المرء بلال، ولا يتبعه إلاّ مؤمن، وهو سيِّد المؤذِّنين، والمؤذِّنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة».

«يحشر المؤذِّنون يوم القيامة على نوق من نوق الجنّة، يقدمهم بلال رافعي أصواتهم بالأذان، ينظر إليهم الجمع، فيقال: مَن هؤلاء؟ فيقال: مؤذِّنو اُمّة محمّد9 يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون».

«اتّخذوا السودان، فإنّ ثلاثةً منهم من سادات الجنّة، لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذِّن».

أبشر يا بلال، فقال:ب_ِمَ تبشّرني يا عبدالله بن عمر؟

فقال: سمعت رسول الله(ص) يقول: «يجيء بلال يوم القيامة معه لواء، يتبعه المؤذِّنون حتّى يدخلهم الجنّة».

قال رسول الله(ص) :... «ثمّ نظر إلى بلال فقال:

يُحشر هذا على ناقة من نوق الجنّة، فيقدُمنا بالأذان مَحضاً، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، قالت الأنبياء مثلها: ونحن نشهد أن لا إله إلاّ الله.

فإذا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فمن مقبول منه ومردود عليه.

قال: فيُتلقّى بحلّة من حلل الجنّة، وأوّل من يكسى يوم القيامة من حُلل الجنّة بعد الأنبياء، الشهداء، وصالح المؤذِّنين.

ص: 288

وفي رواية أخرى: وأوّل من يكتسي من حلل الجنّة بعد النبيّين والشهداء، بلال، وصالح المؤذِّنين.

«أنفق يا بلال، ولا تخشى من ذي العرش إملاقاً».

«يا بلال مت فقيراً، ولا تمت غنيّاً» قلت: فكيف لي بذلك يارسول الله، كيف لي بذلك؟ قال: «هو ذلك أو النار».

وعن أنس بن مالك، قال رسول الله(ص): اشتاقت الجنّة إلى ثلاثة: إلى عليٍّ، وعمّار، وبلال.

يا بلال، ليس شيء أفضل من عملك، إلاّ الجهاد في سبيل الله.

قال رسول الله(ص) فيه: «نعم المرء بلال، وهو سيِّد المؤذِّنين».

وفي اُخرى: يجيء بلال يوم القيامة مع لواء، يتبعُهُ المؤذّنون، حتّى يدخلهم الجنّة.

من صفاته الجميلة: الصدق و التواضع

لم تزده سابقته في الإسلام وجهاده وعطاؤه واحترام رسول الله(ص) له وحبّه إيّاه واحترام المسلمين له، إلاّ تواضعاً وحياءاً وصدقاً، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجّه إليه، وتغدق عليه، إلاّ ويحني رأسه، ويغضّ طرفه، ويقول ودموعه على وجنتيه تسيل: إنّما أنا حبشيّ.. كنت بالأمس عبداً!

وتقول الرواية:

خطب بلال، وأخوه إلى أهل بيت من اليمن.

فقال: أنا بلال، وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كُنّا ضالّين، فهدانا الله، وكنّا عبدين فأعتقنا الله، إن تنكحونا فالحمد لله، وإن تمنعونا فالله أكبر.(1)

وفي رواية أنّ أخاه كان يزعم أنّه من العرب، فخطب امرأة من العرب، فقالوا: إن حضر


1- الطبقات الكبرى 3: 237.

ص: 289

بلال بن رباح، وهذا أخي، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين، فإن شئتم أن تزوّجوه فزوّجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا، فقالوا: من تكون أخاه نزوّجه فزوّجوه.

مواقف تغيضهم

طالما كان بلال يبحث عن أي موقف أو كلمة يغيض بهما الكفّار والظالمين، بل غيضهم وغضبهم عليه، يعدّ في قاموسه عزّاً له وسعادةً يكتسبها في الدُّنيا والآخرة، انطلاقاً من قوله تعالى: (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).(1)

فقد كان بلال من السبعة الأوائل، الذين أعلنوا إسلامهم، فكان موالي بلال يأخذونه فيضجعونه في الشمس، ثمّ يأخذون الحجر فيصّفونه على بطنه ويعصرونه، ويقولون: دينُك اللاّت والعزّى.

فيقول: ربّي الله، ويقول: أحدٌ أحد، فقال:

وأيْمُ الله، لو أعلم كلمةً هي أغيظُ لكم منها لقلتُها.

دخل رسول الله(ص) الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذِّن.

وأبوسفيان وعتّاب بن أُسيد والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة.

فقال عتّاب بن أُسيد: لقد أكرم الله أسيداً ألاّ يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه.

فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنّه مُحقّ لاتّبعته.

فقال أبوسفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلّمت لأخبرت عنّي هذه الحصى.

فخرج عليهم النبيّ(ص) فقال: «قد علمتُ الذي قلتم، ثمّ ذكر لهم».

فقال الحارث وعتّاب: نشهد أنّك رسول الله، والله ما اطّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.


1- التوبة: 120.

ص: 290

وفي خبر آخر _ ما كان أعظمه وأشدّه على قلب بلال _ لما كان يوم الفتح، رقِيَ بلال فأذّن على ظهر الكعبة، فقال بعض الناس:... لهذا العبد الأسود أن يؤذِّن على ظهر الكعبة.

فقال بعضهم: إن يسخط الله بغيره، وقال آخر يخاطب أبا جهل في قبره:... ولا تنظر هذا الحمار ينهق.

حقّاً: (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ...).

الجزاء العادل

لم ينسَ بلال أميّة أبداً، أمنية راودته بل عاشت في كيانه وأخذت عليه حياته، أن يمكِّنه الله منه، وقد كان لا ينساه، لأنّه معذّبه ومخرجه من مكّة، يقول الخبر: كان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً

بواد وحولي إذخرٌ وجليل

وهل أرِدَنْ يوماً مياه مجنَّة

وهل يَبْدوَنْ لي شامةٌ وطفيل

ثمّ يبدأ بلعنهم: أللهمّ العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأميّة بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.(1)

حتّى جاءت معركة بدر، فكان اللقاء، وكانت تصيفة الحساب.

نعم، تأتي بدر وتقع قريش في هزيمة نكراء، حلّت بها، ولقّنتها درساً عجيباً، وهنا همّ أميّة بن خلف بالنكول، لولا أنّ صديقه عقبة بن أبي معيط وهو المحرّض على تعذيب المؤمنين، أخذ يحفّزه ويشجّعه حيث جاءه حاملاً معه (مجمرة) حتّى إذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي استجمر بهذه، فإنّما أنت من النساء، وصاح به أُميّة قائلاً: قبّحك الله، وقبّح ما جئت به، ثمّ لم يجد إلاّ أن يترك نكوصه ويخرج إلى بدر، ليتقدّم في المعركة.

هذا ما شاءته الأقدار، حيث خرج أميّة للمعركة واشتجرت الأسنّة وتعانقت السيوف،


1- مختصر تاريخ دمشق 5: 258 _ 259.

ص: 291

فالتقى الخصمان وجهاً لوجه؛ إنّه أميّة وهو يسمع انشودة بلال وشعاره أحدٌ أحد، إنّه بلال!

نعم أميّة بن خلف.. بلال بن رباح

زعيم من زعماء قريش.. عبدٌ حبشي.. إنّه الكفر كلّه قبال الإيمان كلّه.

حقّا، إنّها إرادة الله، يخذل الطغاة وينصر المستضعفين المعذّبين: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).

فيصرخ بلال بأعلى صوته: إنّه «رأس الكفر أميّة بن خلف..» ثمّ يعلو صوته، صوت المعذَّب: لا نجوت إن نجا، لا نجوت إن نجا...».

وينقض عليه بلال بسيفه كالأسد الهصور ليقضي عليه، بضربة نجلاء، قاضية نافذة، يروي بها ظمأ الهاجرة في فؤاده، لولا أن صاح به عبدالرحمن بن عوف، فيقول: أي بلال.. إنّه أسيري.

لم يقنع بلال نفسه بهذا الأسر، لرأس طالما أثقله الكبر والغرور.. وهنا وقف بلال وهو في أعلى درجات غضبه، كاسف البال مهموماً، فهو يريد أن ينتقم من أكبر أعداء الله والإسلام. لكن حمى عبدالرحمن بن عوف مصون.

فقد غنم أدراعاً يوم بدر، فمرّ بأميّة بن خلف وابنه، فقال له: نحن خير لك من هذه الأدرع؛ أي خذنا أسيرين نسلم من القتل، وتأخذ فداءنا فطرح الأدرع، وأخذ بيدهما، ومشى بهما.. إلاّ أنّه خسر الأدرع، وخسر أسيره أميّه، فقد قتل هذا الأخير حتّى قال عبدالرحمن: رحم الله بلالا ذهبت ادراعي وفجعني بأسيري.

فقد التفت بلال إلى الجموع المقاتلة من المسلمين، ليؤلّبهم ويستعديهم على هذا الظالم، وإن تركه هو رعايةً لحمى عبدالرحمن، فليروا رأيهم فيه، وهو يتمنّى أن لا يتركوه حيّاً، فإن لم يستطع أن يشفي بيده قلبه، فليدع الأمر لهم.

فصاح بهم إنّه أميّة بن خلف، يا أنصار الله، رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت إن نجا.. إلاّ أنّه حيل بينه وبين ما يريد.

فانقضّ عليه المسلمون، ضاربين حرابهم، ومسدّدين قذائفهم إلى صدر غريمهم، وعدوّ

ص: 292

الإسلام، وفي هذه اللحظة لم يستطع عبدالرحمن بن عوف أن يحميه.(1)

وهناك من يقول: إنّ بلالاً هو الذي قتله، حتّى قال فيه أحد الشعراء أبياتاً منها قوله:

هنيئاً زادك الرحمن خيراً

فقد أدركت ثأرك يا بلال(2)

وقد يسأل سائل: لماذا لم يصفح بلال الصفح الجميل؟

إنّ من يطلب ذلك، عليه أن يجعل نفسه مكان بلال نفسه، وأن يمرّ بما مرّ به بلال، وما ناله من معذِّبيه، ونترك خالد محمّد خالد يجيب عن هذا التساؤل:

لا أظنّ أنّ من حقّنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام.

فلو أنّ اللقاء بين بلال وأميّة تمّ في ظروف أخرى; لجاز لنا أن نسأل بلالاً حقّ التسامح، وما كان لرجل في مثل إيمانه وتقواه أن يبخل به.

لكن اللقاء الذي تمّ بينهما، كان في حرب، جاءها كلّ فريق ليفني غريمه.

السيوف تتوهّج، والقتلى يسقطون... والمنايا تتواثب، ثمّ يبصر بلال أميّة الذي لم يترك في جسده موضع أنملة إلاّ ويحمل آثار تعذيبه.

وأين يبصره وكيف؟

يبصره في ساحة الحرب والقتال، يحصد بسيفه كلّ ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ; لطوّح به.

في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالاً: لماذا لم يصفح الصفح الجميل؟!

بلال والفاجعة الكبرى

ظلّ بلال مواكباً لرسول الله(ص) طيلة حياته الإيمانيّة معه، قريباً منه، وعينان تتبركان برؤيته.. فدخل بلال على رسول الله(ص) إلاّ أنّه في هذه المرّة وجده مسجّى على فراشه.


1- صحابة النبيّ (ص)، للجميلي: 176.
2- أعيان الشيعة 3: 604.

ص: 293

فما كان منه وهو الحبيب إلاّ أن انحدرت دموعه غزيرة، واستقرّ حزنه في قلبه.

نزل الأمر المحتوم، صلّى على الجثمان الطاهر، ثمّ خرج ودموعه على وجنتيه.

وما إن دفن رسول الله(ص) حتى جلس بلال في زاوية من زوايا المسجد وحده في حزن عظيم.. وظلّ هكذا متألِّماً باكياً حتّى حان وقت الأذان، والمسلمون ينتظرون بلالاً، وصوته الندي.. لكنّه لم يؤذِّن.

وأحسّ بالفراغ الكبير، ثمّ راح يتساءل مدهوشاً لمن يؤذِّن؟

لم ينم حتّى الصباح، حيث اللقاء في المسجد، فحان وقت صلاة الفجر، وعلى بلال أن يؤذِّن لها..

فقيل له: الأذان يا بلال.

ارتفع صوت بلال ندياً جميلاً رائعاً:

الله أكبر الله أكبر

الله أكبر الله أكبر

أشهد أن لا إله إلاّ الله

أشهد أن لا إله إلاّ الله

وهنا عادت المصيبة ماثلةً أمام عينيه.. فاحتبست الشهادة الثانية في فيه، وحشرجت آهاته في صدره.. وانهمرت دموعه.. ولم يتمالك نفسه، فراح الجميع يشاركه البكاء..

بقي بلال طويلاً لا ينطق بها... ثمّ تغلّب الرجل على عواطفه وأحزانه وعبراته المتدفِّقة فنطق بها، ولكن بصوت هادئ هذه المرّة ثمّ أكمل فصول الأذان، إنّه الأذان الأخير..

فقال والدموع في عينيه: لن أؤذِّن بعد اليوم، فليؤذِّن غيري، وفعلاً ظلّ هكذا ولم يؤذِّن، وحتّى بعد أن تولّى الخلافة أبوبكر، وقال لبلال: أذِّن.

فأبى بلال وقال له: إن كنت إنّما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت اشتريتني لله، فدعني وعملي لله، فقال أبوبكر: ما أعتقتك إلاّ لله.

فأجابه بلال، والحزن مرتسم على وجهه: فإنّي لا أؤذِّن.

ص: 294

ثمّ لم يطق البقاء في المدينة بعد وفاة الرسول (ص) وحاول مرّات أن يخرج إلى الجهاد، في أيّ مكان كان بعيداً عن أجواء المدينة.

إلاّ أنّ جمعاً من الصحابة منعوه، وكان منهم أبوبكر، حيث قال له متوسِّلاً: أنشدك بالله يا بلال! وحرمتي وحقّي، فقد كبرت وضعفت واقترب أجلي، فأقام معه حتّى توفّي.(1)

وفي خلافة عمر ألحّ عليه أن يؤذِّن فأبى.

فقال له: إلى من ترى أن أجعل النداء؟

قال: إلى سعد، فقد أذّن لرسول الله(ص)، فجعله إلى سعد وعقبه.(2)

ثمّ قرّر بلال أن يخرج إلى الجهاد في الشام، فذهب إلى عمر يستأذنه بالخروج فقال له:

ألا تبقى يا بلال بجواري، كما كنت بجوار النبيّ(ص) وبجوار أبي بكر؟

فقال بلال: أحنّ إلى الجهاد يا أميرالمؤمنين، وأرى الجهاد من أفضل الأعمال.

فقال له عمر: لك ما تريد يا بلال.

وأذِن له، فخرج إلى الشام، ولحق بجيش أبي عبيدة الجرّاح، وظلّ مجاهداً في سبيل الله.

ويزور عمربن الخطّاب الشام أثناء خلافته، ويلتقي مع بلال، ويتوسّل المسلمون إلى عمر أن يطلب من بلال ليؤذِّن لهم ولو بصلاة واحدة!

ولما حان وقت الصلاة، رجاه عمر أن يؤذِّن لها، واستجاب بلال لطلبه، وصعد بلال، فأرهف الناس سمعهم، وانطلق صوته النديُّ يسري كالنسيم، ويسمع الناس صوته للمرّة الأولى بعد وفاة النبيّ(ص) ولم يُرَ يوماً كان أكثر باكياً من يومئذ، ذكراً منهم للنبيّ9.(3)

بلال عند علماء الرجال والحديث

كانت لبلال منزلة كبيرة ومرموقة عند علماء الرجال والحديث، ولم أجد _ فيما تيسّر لي _ قادحاً ذامّاً له أبداً، نذكر شيئاً ممّا قاله بعضهم فيه:


1- سير أعلام النبلاء 1: 356.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه، 1: 357.

ص: 295

فقد قال عنه الشيخ الطوسي في رجاله:

شهد بدراً، وتوفي بدمشق، في الطاعون سنة (18)، كنيته أبو عبدالله، وقيل: أبوعمرو، ويقال: أبوعبد الكريم وهو بلال بن رباح، مدفون بباب الصغير بدمشق، من أصحاب رسول الله(ص).

وقال عنه الكشي: كان بلال عبداً صالحاً.

وروى الصدوق في باب الأذان والإقامة من الفقيه:

... عن أبي بصير، عن أحدهما8 أنّه قال: «إنّ بلالاً كان عبداً صالحاً، فقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول الله(ص) فترك يومئذ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَل».

وروى أيضاً: أنّه لمّا قبض النبيّ(ص) امتنع بلال من الأذان، وقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول الله(ص) ؛ وأنّ فاطمة(عليها السلام) قالت ذات يوم: «إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذِّن أبي(ص) » فبلغ ذلك بلالاً، فأخذ في الأذان، فلمّا قال: الله أكبر، الله أكبر، ذكرت أباها(ع) وأيّامه فلم تتمالك من البكاء، فلمّا بلغ إلى قوله: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، شهقت فاطمة(عليها السلام) شهقةً، وسقطت لوجهها وغشي عليها.

فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال، فقد فارقت ابنة رسول الله(ص) الدُّنيا، وظنّوا أنّها قد ماتت، فقطع أذانه ولم يتمّه.

فأفاقت فاطمة(عليها السلام) وسألته أن يتمّ الأذان، فلم يفعل، وقال لها: ياسيّدة النسوان، إنّي أخشى عليك ممّا تنزيلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك.(1)

وروى منصور بن حازم عن أبي عبدالله7 قال: لمّا هبط جبرئيل7 بالأذان على رسول الله(ص) وكان رأسه في حجر علي (ع) فأذّن جبرئيل7 وأقام، فلمّا انتبه رسول الله(ص) قال: يا علي سمعت؟

قال7: نعم يارسول الله(ص).


1- من لا يحضره الفقيه، للصدوق 1: 298.

ص: 296

قال: حفظت؟

قال: نعم.

قال: ادع بلالاً، فعلّمه.

فدعا بلالاً، فعلّمه.(1)

هذا وقد ذكر الصدوق في الفقيه حديثاً طويلاً لبلال، يحدّث به عمّا سمعه من رسول الله(ص) حول المؤذِّنين، وظيفتهم، وأجرهم.(2)

وعن المجلسي الأوّل أنّه قال: رأيت في بعض كتب أصحابنا عن هشام بن سالم عن الصادق7، وعن أبي البختري قال: حدّثنا عبدالله بن الحسن أنّ بلالاً أبى أن يبايع أبابكر وأنّ عمر أخذ بتلابيبه، وقال له: يا بلال هذا جزاء أبي بكر منك أن أعتقك، فلا تجيء تبايعه.

فقال: إن كان قد أعتقني لله فليدعني لله، وإن كان أعتقني لغير ذلك، فها أنا ذا، وأمّا بيعته فما كنت أُبايع من لم يستخلفه رسول الله(ص) والذي استخلفه بيعته في أعناقنا إلى يوم القيامة.

فقال له عمر: لا أباً لك، لا تقم معنا؛ فارتحل إلى الشام، وتوفي بدمشق، ودفن بباب الصغير، وله شعر في هذا المعنى:

بالله لا بأبي بكر نجوت ولو

لا الله نامت على أوصالي الضبع

الله بوّأني خيراً وأكرمني

وإنّما الخير عند الله يتبع

لا تلقيني تبوعاً كلّ مبتدع

فلست مبتدعاً مثل الذي ابتدعوا(3)

ولابدّ لي من كلمة ولو قصيرة: إنّ ترك بلال المدينة والابتعاد إلى الشام يبدو أنّه لا يخلو من موقف من الوضع القائم بعد رسول الله(ص) وحتّى امتناعه من الأذان.


1- معجم رجال الحديث، للسيّد الخوئي 4: 270 _ 272.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 292 _ 297.
3- اُنظر أعيان الشيعة 3: 603.

ص: 297

و ختاماً

لم تكتب لهذا الصحابي الجليل الشهادة التي تمنّاها طويلاً، وسعى إليها سعياً حثيثاً، أي مسرعاً حريصاً على أن ينالها فيلتحق بركبها، ركب الشهداء، إلاّ أنّ السماء شاءت لهذا العبد الصالح أن يبقى متعلّقاً بوصالها، مشتاقاً لها... حتّى كان موعده مع الطاعون الذي اجتاح الشام يومذاك فقضى على حياة الكثير، وأُصيب به بلال سنة عشرين للهجرة، فكانت وفاته بدمشق، وبعد أن أُصيب بلال به، وتغيّر لونه، وغارت عيناه، قالت له زوجته مواسيةً:

كيف حالك يا أبا عبدالله؟

فكان يقول لها: دنا الفراق.

فقالت له: واحزناه.. واحزناه..

وعندها، فتح بلال عينيه، وهو يصارع المرض ويجود بأنفاسه الأخيرة.

بل، وافرحتاه، غداً نلقي الأحبّة، محمّداً وصحبه!!

إذ حرمت يا بلال من الشهادة، وكنت حريصاً عليها حرصاً شهد لك به الجميع منذ لحظات إسلامك الأولى، فإنّك لم تحرم أجرها ومنزلتها عند مليك مقتدر... دفن في مقبرة في دمشق، بباب الصغير...

فسلام عليك عبداً صالحاً وفيّاً...

ص: 298

ص: 299

(14) أبوطالب

اشارة

مأوى الرسول و الرسالة

حسن الحاج

بنوهاشم

في واد تُحيط به الجبال، وتحفّ به التلال، وفي مجتمع ظلّت الجاهلية بتقاليدها تنخر فيه... نشأت قبيلة بني هاشم من نسل إبراهيم الخليل(ع) وراحت من بين ثلاث وعشرين قبيلة شكّلت قريشاً، تقف بكلّ شموخ وإباء; لتؤدي دورها التوحيدي، ولتسطّر أروع الصفحات وأجملها، وأفضل المواقف وأحسنها، في تأريخ الإنسانية على الإطلاق... بما حملته من أخلاق عالية، وصفات محمودة، وخصال نادرة، ومواقف فريدة، تميّزت بها على أقرانها قبائل ورجالاً ونساءاً.

فبنو هاشم، سادة قريش بل سادة الدنيا، فهم كما وصفهم الجاحظ: «ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ كريم، وسرّ كلّ عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، والمعدن الفهم، وينبوع العلم...».(1)


1- اُنظر شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، عن زهرة الآداب للجاحظ: 59.

ص: 300

فقد كان منهم رسول الله(ص) الذي ولد على رمال مكّة، أكرم خلق الله تعالى على الإطلاق وأفضلهم وأشرفهم وأعظمهم من الأوّلين والآخرين، فبه بزغ نور سرعان ما انتشر في الآفاق، حتى أضاءت له مشارق الأرض ومغاربها، فغدت الدنيا نيّرة بآيات الله تعالى التي حملها، رحمةً للعالمين _ داعياً إلى الله، بشيراً ونذيراً _ شاخصةً بالعزّ والشموخ، نابضةً بالحياة، التي غدت تضجّ بين جنبات ذلك المجتمع السادر في غيّه وشركه، الضال عن الصراط، الغارق في آلامه ومشاكله، وعدوانيته وغزواته، وظلمه وطغيانه، ولهوه وترفه... فوردت كلّ مفاصله ونواحيها; لتقلبه رأساً على عقب، وتخلق منه أمّةً تأمر بالمعروف، وتنهى عن المُنكر، وزخرت بعطاء دائم وخير عميم، ما انفكّت الأجيال المتعاقبة تنتفع منه، وتقتطف ثماره مادام ليل وبقي نهار، لا يعرف النضوب أبداً، ولا يحدّه شيء، ولا ينتهي بأمد، ظلّ معينها يتجدّد وعطاؤها يتّسع، وكيف لا يكون كذلك، وهو عطاء السماء، الذي منّ الله به على رسوله (ص) لتباركه على يديه، فينضج كلّ ما بذره، ويدوم طويلاً، ويخلد ما شاء الله له الخلود والبقاء...

أبوطالب والنور اليتيم

هذا النور العظيم اليتيم منذ ولادته، راحت قلوب طيبة تحتضنه، وأيد مباركة ترعاه، يد جدّه عبدالمطلب الذي تشرّفت برعايته واحتضانه، ثمّ كانت يد عمّه (أبوطالب) شيبة بني هاشم، شيخ قريش وزعيمها، وسيّد قومه، الذي انطوت نفسه على خصال كريمة، كلّها شموخ وإباء وشهامة وعزّة.

فكان الكافل المدافع الذابّ عن رسول الله(ص) والذي أحاطه بعناية عظيمة ورعاية قلّ نظيرها، خاصة إذا عرفنا مكانته في قبائل قريش وبين زعمائها، وما سبّبه ذلك من إحراج له، وضيق وأذًى... ومع هذا كلّه، فقد صبر أيما صبر دفاعاً عن محمّد ورسالته، حتى أنّ قريشاً لم تكن قادرةً على أذى رسول الله(ص) مع عظيم رغبتها في ذلك، وكانت تتحين الفرص للإيقاع به، لكنها لم تستطع حتى توفي أبوطالب، فراحت تكيد له.

ص: 301

يقول رسول الله (ص): «والله ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتى مات أبوطالب». ولم يهاجر إلى المدينة، إلاّ بعد وفاة عمّه رضوان الله عليه.

* * *

فالحديث عن «أبوطالب» حديث عن الصمود والإباء، حديث عن الإيمان

الواعي، والموقف الحكيم ونكران الذّات، حديث عن الظلامة التي تلاحقه، وما زالت إلى يومنا هذا.

ولا يضرّ ولا يفتّ في مواقفه ما يُقال هنا وهناك، من أنّ أبا طالب لم يكن مؤمناً وقد مات كافراً، إنّه نتيجة من نتائج الصراع والنزاع الطويل والعميق في تاريخ كلا الأُسرتين: أُسرة الخير والعطاء أُسرة بني هاشم، وأُسرة بني أُمية المعروفة بالكيد والشرّ، وتأريخ الأُسرتين واضح بيّن لمن أراد الاطلاع عليه، إنّه نزاع بين الخير والشرّ، بين الفضيلة والرذيلة، بين المعروف والمُنكر، وقد تمخّض هذا الاختلاف، بل الصراع عن أُمور كثيرة، كان منها إتهام شيخ الأُسرة وعميدها، بل عميد قريش وزعيمها وحليمها وحكيمها بالكفر، مع تاريخه الناصع، وذبّه العنيد عن الرسالة والرسول ومواقفه الجليلة، التي ملأت عصر الرسالة الأوّل عصر التأسيس قوّةً وثباتاً.

لقد حفل تأريخ الرسالة في صدر الإسلام بمواقف عظيمة، وأقوال جليلة لشيخ قريش وسيّدها بلا منازع، أثّرت أثرها وتركت بصماتها على مسيرة الرسالة، فقد راحت مواقفه تتصدّر أولى مراحل الرسالة، تضحيةً وصبراً وثباتاً، وبما تحمله بين طيّاتها من آلام ومأساة تعرّض لها شيخ قريش وسيّدها، فكان الملاذ الأوّل لرسول الله (ص) وكان الحضن الأوّل لدعوة السماء، حيث كانت الدعوة تأخذ مسارها بفضل ما قيّضه الله لها من رجال يحمونها ويضحون في سبيلها وكان أبوطالب أوّلهم، فحمايته لابن أخيه رسول الله (ص) والدفاع عنه وعن رسالته، أمر لا يرتاب فيه أحدٌ، ولا ينكره منكِرٌ، وهذا ما يراه كلّ باحث في حوادث العصر الأوّل للإسلام، وما سنلخصه في مقالتنا هذه.

ص: 302

اسمه

اختلفت الأقوال في اسمه: فقول ذهب إلى أنّ اسمه هو كنيته «أبوطالب»، وقول ذهب إلى أنّ اسمه «عمران»، وقول ثالث: ذهب إلى أنّ اسمه «شيبة» وقول أخير، ويبدو أنّه الأصح، ذهب إلى أنّ اسمه «عبد مناف»، وقد استدل أصحاب هذا القول بقول أبيه عبد المطلب وهو يوصيه بحفيده يتيم بني هاشم رسول الله (ص) محمّد بن عبدالله (ص):

أوصيك ياعبد مناف بعدي

بواجد بعد أبيه فرد

وقال أيضاً:

وصيتُ من كنيته بطالب

عبد مناف وهو ذو تجارب

بابن الحبيب أكرم الأقارب

بابن الذي قد غاب غير آئب (1)

ألقابه

هذا في اسمه، وأمّا ألقابه فكثيرة، منها: شيخ الأبطح، سيد البطحاء، رئيس مكّة، بيضة البلد.

كنيته

وأما كنيته فهي: «أبو طالب» وبها اشتهر حتى طغت على أسمائه.

إذن فهو أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة، ابن مدركة ابن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

ونحن إذ نقف على عدنان; لأنّ المُشتغلين بالأنساب اتّفقوا على هذا النسب حتى عدنان، واختلفوا في عدد أجداده بعد عدنان حتى نبيّ الله اسماعيل، فقيل أربعة أجداد بين عدنان واسماعيل، وقيل سبعة، فيما ذهب فريق ثالث إلى أربعين أباً.


1- الاحتجاج، للطبرسي 1: 341 ؛ وفي رحاب الأئمة الاثني عشر، لمحسن الأمين.

ص: 303

ولأنّ رسول الله (ص) كان إذا انتسب يقف على عدنان ولا يتجاوزه، ويقول: «كذب النسّابون» قال الله تعالى: (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً). (1)

صفاته

عُرف أبوطالب بحكمته وحلمه وشجاعته الفذّة، وشاعريته المستوقدة، التي إن لم يوقفها كلّها على خدمة وتأييد رسول الله (ص) والدعوة إلى ما جاء به من الحقّ، فقد أوقف أكثرها من أجل ذلك، وكان وسيماً، جسيماً، عليه بهاء الملوك، و وقار الحكمة، وكانت قريش تسمّيه الشيخ، وكانوا يهابونه ويخافون سطوته، ويسمونه ببيضة البلد، ويلقبونه بشيخ الأبطح. (2)

قيل لأكثم بن صيفي حكيم العرب: ممّن تعلمت الحكمة والرياسة، والحلم والسيادة؟

قال: من حليف الحلم والأدب، سيد العجم والعرب، أبو طالب بن عبدالمطلب.

وجرى ذات يوم كلام خشن بين معاوية وصعصعة وابن الكواء.

فقال معاوية: لولا أنّي أرجع إلى قول أبي طالب لقتلتكم وهو:

قابلت جهلهم حلماً ومغفرة

والعفو عن قدرة ضرب من الكرم

أبوه

غني عن التعريف، ولكنّ المقام يدفعنا إلى ذكر شيء من حياته ومناقبه، فهو عبد المطلب، شيبة الحمد، أمير مكّة وشريفها، كان سيّد قومه بلا منازع، ومفزع قريش في نوائبها، وملجأها، وكيف لا يكون كذلك، وهو حكيمها وحليمها وزعيمها... وكان موحّداً لم يعبد صنماً قط، وصاحب الأخلاق العالية، التي خلقت منه إنساناً ذا مهابة و وقار وهيبة وميل إلى الدين والنسك والكرم حتّى سمّي بمطعم الطير... وهو الذي قام بحفر ماء زمزم، التي تفجّرت تحت قدمي جدّه اسماعيل من قبل، بعد أن غاب أثرها، ولم يهتدِ إليها أحدٌ


1- ابن عباس، في تاريخ ابن عساكر ؛ والطبقات، لابن سعد.
2- الاحتجاج، للطبرسي 2: 342.

ص: 304

حتى هتف هاتف في منامه، فراح يحفر حتى اهتدى إليها، مستعيناً بابنه الحارث، وحيده يومذاك، كما كان صاحب الشرائع الفاضلة، فهو الذي سنّ السنن التالية:

الوفاء بالنذر، قطع يد السارق، النهي عن قتل المؤودة، تحريم الخمر، تحريم الزنا، المنع من نكاح المحارم، حظر طواف العراة بالبيت الحرام، وهي سنّة كان يعمل بها عند بعض قبائل الجاهلية.

وكلّها نالت قبول الإسلام وأمضاها، هذا إضافةً إلى ما امتاز به من خصال فريدة، وصفات جليلة، راح يهذّب أولاده ومَن حوله على التحلّي والالتزام بها.

ونكتفي هنا بذكر موقف عظيم له، يدلّ على عمق إيمانه وصدق توجّهه نحو الله تعالى واليوم الآخر، وهو ما دار بينه وبين أحد طغاة عصره وهو ابرهة الحبشي:

فقد كانت لعبد المطلب ولاية البيت الحرام من السقاية والرفادة... فخذل الله على يديه إبرهة الحبشي وجنده، الذين جاؤوا لهدم الكعبة، وصرف الحاجّ عنها إلى بيت بناه في اليمن، ليكون بديلاً عن الكعبة، ويجني من عمله هذا مصالح ومنافع كثيرة... ولما التقى ابرهة بعبد المطلب، كان كلّ همّه أن يستميله إلى جانبه، وأن يجعل منه أداةً لتحقيق ما جاء من أجله، إلاّ أنّه _ مع كلّ ما قدّمه أو توعّده به _ لم يجد منه إلاّ الرفض، وإلاّ الثقة العالية بالله تعالى، مكتفياً بأن يردّ إليه إبله وشويهاته التي أخذها جنده، ممّا جعل ابرهة يسخر منه ويستخفّ به قائلاً:

كنت في نفسي كبيراً، وسمعت أنّك وجيه في قومك، فلمّا سألتك عن حاجتك، وذكرت الإبل والشياه، ونسيت بلدك وأهلك وبيتك المقدّس، سقطت من عيني.

فكان جواب عبد المطلب مملوءاً حكمةً وتسليماً مطلقاً إلى الله تعالى، وهو أمر لا يدركه إلاّ من امتحن الله قلبه بالإيمان.

إنّها كلمات ما أقلّها، وما أعظمها!

«الإبل لي، وللبيت ربّ يحميه».

فقال إبرهة: ما كان ليمتنع منّي.

ص: 305

فقال عبد المطلب: أنت وذلك، وصعد على الجبل، متضرّعاً، وهو ينشد:

يا ربّ عادِ من عاداك

وامنعهموا أن يهدموا حماك

ولم يكتف بهذا، بل راح يستحثّ قومه على ترك مكّة، واللجوء إلى الجبل، خشية بطش ابرهة وجيشه، ثمّ طلب منهم التوجّه إلى الله بالدعاء، وهو يرى أن لا قدرة لقومه على ردع إبرهة وجيشه إلاّ بسلاح الدعاء... فحلّت الكارثة بإبرهة وجنده، وهو ما تكفّلت ببيانه سورة مباركة سميت بسورة الفيل عبر آياتها الخمس، فراحت تحكي ما حلّ بهذا الطاغية ومن معه. (1)

(أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ * أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

* * *

في هكذا بيت يكتنفه التوحيد، ونبل الصفات، وجميل الخصال... ولد أبوطالب قبل ولادة رسول الله (ص) بخمس وثلاثين سنة، فاتصف بكلّ صفاته ومناقبه فكان سيّد بني هاشم في الجاهلية بل سيّد قريش، في وقت لا ينال أحد السيادة هذه بلا مال إلاّ أبو طالب، وترعرع ونشأ في حجر زعيم هذا البيت وسيّده، في هكذا أُسرة وفي هكذا جوّ مفعم بالخير والعطاء والحكمة والشجاعة والتسليم المطلق إلى الله تعالى، شبّ أبو طالب وقد انصهرت في نفسه شمائل هذه الأُسرة المباركة، التي عرفت بتأريخها الحافل وأمجادها العظيمة، فجدّه هاشم هو الذي أسّس الإيلاف: (لإِِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ)، فهو الذي أنشأ هاتين الرحلتين اللتين درّتا بخيرات عظيمة على قريش، ومنافع كبيرة، وهو الذي نادى بالعدالة وحبّ الناس ورفع الظلم عنهم، ومن قبله جدّهم قصي ابن كلاب، الذي كان له الدور الكبير في تنظيم المجتمع المكّي، وجمع شتات قريش وشملها حتى سمّي «مُجمِّعاً».


1- سورة الفيل.

ص: 306

وأبو طالب نفسه هو الذي سنّ القسامة (الأيمان) في الجاهلية، وكانت أوّلاً في دم عمر بن علقمة، ثمّ استمرت، وأمضتها الشريعة الإسلامية فيما بعد; كما كانت له السقاية بعد أبيه، بل كان شريكاً له في خصائصه وأعماله.

إذن فهي أُسرة مشاريع كلّها خير وعطاء، وهو وليد أُسرة هاشمية مباركة، راحت بركاتها تعمّ الخافقين!

اُمّه

كانت لعبد المطلب زوجات خمس، وكان له منهنّ عشرة ذكور وست نساء، فأمّ عبدالله والد النبيّ9 وأبي طالب والد الإمام عليّ (ع) والزبير، وجميع النساء غير صفية، كانت فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مُرّة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.

فأبوطالب يلتقي مع رسول الله (ص) من الاُم بجدّهم مُرّة، فأمّ رسول الله (ص) هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤي بن غالب ابن فهر بن مالك بن النضر.

قال ابن هشام: فرسول الله (ص) أشرف ولد آدم حسباً، وأفضلهم نسباً من قِبَل أبيه وأُمّه،(1)

وما من شك أنّ هذه الأشرفية والأفضلية تشمل أبا طالب أيضاً.

زوجته

إنّ الكلام عن «أبو طالب» يجرّنا إلى الكلام عن زوجته الفاضلة الوحيدة،(2)

ابنة عمّه، وهي أوّل هاشميّة تزوّجها هاشمي، وعليّ بن أبي طالب يعدّ واخوته هاشميين أباً وأُمّاً، فقد تعوّد بنو هاشم أن يصهروا إلى أُسر أُخرى.


1- السيرة النبوية، لابن هشام 1: 110.
2- قيل: إنّ له زوجة أُخرى تُدعى «عَلَّة» ولدت له «طليق».

ص: 307

لقد كانت هذه المرأة الجليلة ذات منزلة رفيعة جعلتها من اللائي امتازت

حياتهنّ بمواقف عظيمة في حركة الأنبياء ومسيرتهم عبر التأريخ، فقد أثنى عليها

رسول الله (ص) لاهتمامها به ورعايتها له طيلة سبعة عشر عاماً، ممّا جعله شاكراً لها ولمعروفها معه، حتى كان يدعوها «أُمّي بعد أُمّي التي ولدتني» فقد كانت تفضّله على أولادها الأربعة.

حظيت هذه السيدة، والمرأة المؤمنة الطاهرة، بمكانة عظيمة في قلب رسول الله (ص) وتركت في نفسه آثاراً طيبة، راح يذكرها طيلة حياته، ويترحم عليها، ويدعو لها... تقول الرواية:

لما ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ عليّ (ع) _ وكانت قد أوصت لرسول الله (ص) وقَبِل وصيتها _ ألبسها النبيّ9 قميصه، واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك يا رسول الله صنعت هذا!

فقال: «إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي; لتكسى من حلل الجنّة، واضطجعت معها; ليُهوَّن عليها».

وفي دعاء خاص لها، قال: «أللهم اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجّتها، ووسّع عليها مدخلها»، وخرج9 من قبرها وعيناه تذرفان دموعهما، وكان هذا في السنة الرابعة من الهجرة النبوية.

لقد كانت رضوان الله عليها لرسول الله (ص) طيلة سبعة عشر عاماً قضتها معه بمنزلة الاُمّ، بل كانت أماً بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد كانت بارّةً برسول الله (ص) : «لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها» فحنانها وشفقتها ورعايتها له، بلغت مبلغاً عظيماً حتى فاقت رعايتها لأبنائها، وكأنّها تعلم أنّ له مكانة عظيمة وشأناً جميلاً، تقول بعض الروايات كان أولادها يصبحون شعثاً رمصاً، ويصبح رسول الله (ص) كحيلاً دهيناً.

هذا في مداراتها لرسول الله (ص) وحبّها له; أمّا في إيمانها، فقد كانت بدرجة عظيمة، ومن السابقات إلى الإسلام بعد عشرة من المسلمين، ومن المهاجرات الأول إلى المدينة، ثمّ هي

ص: 308

بعد هذا بدريّة وهي كرامة عظيمة لها. (1)

بدأ أبو طالب حياته مع هذه السيدة الهاشمية المُباركة بخطبته التي قال فيها:

«ألحمد لله ربّ العالمين، ربّ العرش العظيم، والمقام الكريم، والمشعر والحطيم،

الذي اصطفانا أعلاماً وسادةً، وعرفاء خلصاً وقادةً، وحجّة بهاليل، أطهاراً من الخنا والريب، والأذى والعيب، وأقام لنا المشاعر، وفضّلنا على العشائر، نخب إبراهيم وصفوته، وزرع إسماعيل، وقد تزوجت فاطمة بنت أسد، وسقت المهر، وأنفذت الأمر، فاسألوه واشهدوا».

فقال أسد: زوجّناك ورضينا بك.

وأولم أبو طالب سبعة أيام متوالية، ينحر فيها الجزر، وفي ذلك يقول أُمية بن السلط:

أغمزنا عرس أبي طالب

وكان عرساً لين الجانب

إقراؤه الضيف بأقطارها

من رجل خفّ ومن راكب

فنازلوه سبعة أحصيت

أيامها للرجل الحاسب

أولاده

كان لأبي طالب من الأولاد الذكور أربعة، أكبرهم طالب، ثمّ عقيل، ثمّ جعفر ثمّ عليّ (ع) وكلّ واحد أكبر من الذي بعده عشر سنوات، وكان علي (ع) أصغر أولاده.

ومن الإناث: أُمّ هاني، وكلّهم من فاطمة بنت أسد، التي لم يتزوّج غيرها.

أبوطالب و رسول الله (ص)

بعد هذا الاستعراض السريع، نعود إلى علاقته برسول الله (ص) كفالةً وحبّاً ودفاعاً وإيماناً بما جاء به; أمانة السماء التي حملها رسول الله (ص) بشيراً ونذيراً، ورحمةً للعالمين.


1- اُنظر في هذا وغيره مقالتنا في ميقات الحج.

ص: 309

فإنّه يحسّ بشرف!

لقد تكفّل جدّه عبد المطلب محمداً تربية وتنشئةً... وحفظه ورأف به رأفةً لم يرأفها بأولاده أبداً؛ فقد كان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلاّ أحضره معه وشركه فيه... وليس هذا فقط، بل كان يقرّبه ويدنيه إلى مجالسه العامّة والخاصة; لأنّه كان يستبشر به خيراً كثيراً، فكان لعبد المطلب مجلس خاص به في حجر إسماعيل، وهو مكان تعوّد العرب أن لا يجلس فيه إلاّ زعماؤهم، وأشرافهم، وكبراؤهم، دون غيرهم من الناس، مهما كانت منزلتهم، وعلت مكانتهم، فهذا المكان كان خاصّاً بأولئك الأشراف.

قال عطاء: سمعت ابن عبّاس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامةً، وأحسن الناس وجهاً، ما رآه قط شيء إلاّ أحبّه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا يجلس معه عليه أحد، وكان الندي من قريش حرب بن أُميّة فمن دونه يجلسون دون المفرش.

فجاء رسول الله (ص) وهو غلام يدرج; ليجلس على المفرش، فجذبوه فبكى.

فقال عبد المطلب، وذلك بعدما حجب بصره; ما لابني يبكي؟!

قالوا له: إنّه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه.

فقال عبد المطلب: دعوا ابني، فإنّه يحسّ بشرف، أرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قطّ. (1)

الكفالة المُباركة

كان عبد المطلب يرى في ابنه «أبوطالب» _ الذي حظي بوراثة جميع مناقبه _ الشخصية اللائقة بما تملكه من صفات رفيعة وخصال جليلة، بكفالة يتيم بني هاشم، سيد الكائنات محمّد بن عبدالله، الذي كان يترقّب _ كما ذكرنا _ فيه شرفاً عظيماً، وأمراً كبيراً، ومستقبلاً


1- اُنظر حجر اسماعيل، في تأريخ الأزرقي والفاكهي وغيرهما.

ص: 310

باهراً، لا يخلو من مخاطر وعقبات وآلام قد يتعرّض لها في مسيرته، وهو ما يلمسه كلّ قارئ لوصيته، التي أودعها ابنه البار أباطالب، الذي رآه من دون الآخرين من بني هاشم وغيرهم، جديراً بحمل هذه الأمانة، وهي أمانة ليست سهلةً بما تحمله من آثار كبيرة ومشاكل جمّة، قد يتعرّض لها أبوطالب أيضاً، لهذا نرى عبد المطلب قد اختاره من دون إخوته الآخرين لهذه المسؤولية، فما إن نزل به المرض حتى نادى أبا طالب، وراح يعهد إليه كفالة حبيبه محمّد، ويوصيه بقوله:

«اُنظر يا أبا طالب، أن تكون لهذا الوحيد، الذي لم يشمّ رائحة أبيه، ولم يذق شفقة أُمّه، اُنظر أن يكون منك بمنزلة كبدك، فإنّي قد تركتُ بني كلّهم، وخصصتك به...»

وفي قول آخر: «يا أبا طالب إنّي قد عرفت ديانتك وأمانتك، فكن له كما كنتُ له».

وفي قول ثالث: «يا بني قد علمتَ شدّة حبّي لمحمّد ووجدي به، اُنظر كيف تحفظني فيه».

ثمّ قال: «إن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنّه، والله سيسودكم، ويملك ما لم يملك أحدٌ من آبائي».

ثمّ راح يصوّب ناظريه إلى وجه أبي طالب، كأنّه يريد أن يستطلع ما يدور في خلجات نفسه وردودها فيقول:

هل قبلت يا أبا طالب؟

فيجيبه قائلاً: قد قبلتُ، والله على ذلك شهيد.

ثمّ يضع يده بيد ابنه، ويشدّ بقوّة عليها، قائلاً: الآن خُفّف عليّ الموت، وراح يغمض عينيه بهدوء، ويرحل هناك إلى حيث الدار الآخرة بقلب راض ونفس مطمئنة، عن عمر ناهز مئة وعشرين عاماً.

فكان أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله، ويغدق عليه محبته وعطفه وحنانه، يقول ابن سعد في طبقاته:

كان أبو طالب لا مال له، وكان يحب محمّداً حبّاً شديداً لا يحبّه ولده، وكان لا ينام إلاّ إلى جنبه، ويخرج فيخرجه معه، وصبّ به أبو طالب صبابةً لم يصب بشيء مثلها قط، وكان

ص: 311

يخصّه بالطعام. (1)

ثمّ واصل ابن سعد قوله:

وشبّ رسول الله (ص) مع أبي طالب يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومصائبها. (2)

و صحبه!

و صحبه! (3)

وصحبه في الاستسقاء لقومه داعياً ربّه أن يكشف عنهم القحط، وهنا بسط محمّد كفّيه، ودعا مع عمّه، فإذا الغيث ينهمر من السماء وافياً كافياً.

ذكر ابن عساكر من أنّ أهل مكّة قحطوا، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّه شمس تجلّت، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بإصبعه، وأومأ نحو السماء، فأقبل السحاب من هنا وهناك، وأغدق وأخصبت الأرض.

وهنا أنشأ أبو طالب يقول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

تلوذ به الهلاّك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

وصحبه في رحلته إلى ذي المجاز، وفيها عطش أبو طالب حتى كادت حرارة العطش تلتهم كبده، فما كان من محمّد إلاّ أن مدّ يده إلى صخرة شامخة، فإذا بالماء يتدفّق منها عذباً فراتاً.


1- الاحتجاج 1: 343.
2- طبقات ابن سعد 1: 119 _ 121.
3- شرح نهج البلاغة 3: 469.

ص: 312

وصحبه ليخطب له خديجة بنت خويلد الأسدي، المعروفة بشرفها وعفّتها ومالها، فقد كانت تستأجر الرجال في تجارتها، وقد حظيت أخيراً برسول الله (ص) ليخرج في تجارتها إلى الشام وهو ابن خمس وعشرين سنة مع غلامها ميسرة، فباع بضاعتها بأضعاف ما كانت خديجة تربحه، فسرّت بهذا كثيراً، وحدّثت نفسها بالزواج منه.

فابتدأ أبو طالب خطبتها بأن قال: ألحمد لربّ هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذريّة إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه.

ماأجمل كلامك يا أباطالب و أعظمه!

ثمّ إنّ ابن أخي هذا _ يعني محمّد بن عبدالله _ ممّن لا يوزن برجل من قريش، إلاّ رجح به، ولا يقاس به رجل إلاّ عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلاًّ في المال، فإنّ المال رفد جار وظلٍّ زائل!

وله في خديجة رغبة، وقد جئناك (ويقصد به ورقة بن نوفل عمّها) لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي، الذي سألتموه عاجله وآجله، وله وربّ هذا البيت حظٌّ عظيم ودين شائع ورأي كامل.

ثمّ سكت أبو طالب، وتكلّم عمّها وتلجلج أي تردّد في الكلام وقصر عن جواب أبي طالب، وأدركه القطع والبهر (النَفس من الأعياء).

وهنا قالت خديجة مبتدئة: يا عمّاه إنّك وإن كنت أولى بنفسي منّي في الشهود، فلستَ أولى بي من نفسي، قد زوّجتك يا محمّد نفسي والمهر عليَّ في مالي، فَأمُر عمّك، فلينحر ناقةً فليولم بها، وادخل على أهلك.

وهنا قال أبو طالب: اشهدوا عليها بقبولها محمّداً وضمانها المهر في مالها.

فقال بعض قريش: يا عجباه المهر على النساء للرجال! فغضب أبو طالب غضباً شديداً، وقام على قدميه، وكان ممّن يهابه الرجال، ويكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي

ص: 313

هذا، طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم، لم يزوّجوا إلاّ بالمهر الغالي.

ونحر أبو طالب ناقةً، ودخل رسول الله (ص) بأهله.

إظهار الدين الجديد

في السنة الرابعة من البعثة النبوية المُباركة، جاء أمر السماء محمّداً أن يظهر دعوته، ويجهر بها، فبادر رسول الله (ص) عمّه العباس قائلاً له:

إنّ الله تعالى أمرني بإظهار أمري، فما عندك؟

فقال له العباس: يا ابن أخي، تعلم أنّ قريشاً أشدّ حسداً لوالدك، وإن كانت هذه الخصلة الطامّة الطّماء، والداهية العُظمى، ورمينا عن قوس واحد، لكن قرب إلى عمّك أبي طالب، فإنّه أكبر أعمامك، إن لا ينصرك، لا يخذلك ولا يسلمك، فأتياه، فلمّا رآهما أبو طالب قال: ما جاء بكما في هذا الوقت؟ فأخبره العباس بالحال، فنظر إليه أبو طالب وقال: يا ابن أخي إنّك الرفيع كعباً، والمنيع حزباً، والأعلى أباً، والله لا يسلقك لسان، إلاّ سلقته ألسن جداد، واحتدمته سيوف حداد، والله لتذلنّ لك العرب، ولقد كان أبي يقرأ الكتب جميعاً، ولقد قال: إنّ من صلبي لنبيّاً، لوددت أنّي أدركت ذلك فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (1):

وفي تفسير هذه الآية، بعض من المفسّرين ومن أصحاب السير أنّ النبيّ الله (ص)

لما قام ليدعو أُسرته، عارضه أبولهب، فقال أبو طالب: اسكت يا أعور! ما أنت

وهذا؟ ثمّ قال للنبي (ص) : قم يا سيّدي وتكلّم بما تحب، وبلّغ رسالة ربّك، فإنّك الصادق الصديق. (2)


1- الشعراء: 214.
2- اُنظر غاية السؤول عن إبراهيم الحنبلي بأسانيد عديدة ؛ وغيره من المصادر.

ص: 314

وفود قريش

تعاقبت وفود قريش على أبي طالب، بعد أن أعلن رسول الله (ص) رسالة السماء، فكان يواجهها بمواقفه المعروفة بالحكمة.

وفد قريش الأوّل

ومضى رسول الله (ص) على أمر الله، مظهراً لأمره، لا يردّه عنه شيء، فلمّا رأت قريش أنّ رسول الله (ص) لا يعتبهم (أي لايرضيهم) من شيء، أنكروه عليه، من فراقهم وعَيب آلهتهم، ورأوا أنّ عمّه أبا طالب قد حَدِبَ عليه، وقام دونه، فلم يُسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة وشيبة، ابنا ربيعة ابن عبد شمس...، وأبو سفيان بن حرب بن أُميّة... وأبو البختري، والأسود بن عبدالمطلب ابن أسد، وأبو جهل، والوليد بن المغيرة، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، والعاص بن وائل.

فقالوا وهم على كلمة واحدة لا غيرها: إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإمّا أن تُكفّه عنّا، وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه، فإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه.

وفد قريش الثاني

ثم إنّهم مشوا إلى أبي طالب مرّةً أُخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إنّ لك سنّاً وشرفاً ومنزلةً فينا، وإنّا استنهيناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنّا، أو ننازله وإيّاك في ذلك، حتى يهلك أحدُ الفريقين.

وفي خبر آخر، أنّ قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول الله (ص) فقال له: ياابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبق ِ

ص: 315

عليّ وعلى نفسك، ولا تُحمّلني من الأمر ما لا أطيق.

فظنّ رسول الله (ص) أنّه قد بدا لعمّه فيه بَداء، أنّه خاذله ومسلّمه، وأنّه قد ضعف

عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله (ص): «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته» ثم استعبر رسول الله (ص) فبكى ثمّ قام، فلمّا ولّى ناداه أبوطالب، فقال: أقبل يا ابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله (ص)، فقال: إذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله، لا أُسلّمك لشيء أبداً.

وفد قريش الثالث

ثمّ إنَّ قريشاً حين عرفوا أنّ أباطالب أبى خذلان رسول الله (ص) مشوا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد (أشدّ وأقوى) فتى في قريش وأجمله، فخذه، فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنّما هو رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني (تكلفونني) أتُعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه; هذا والله ما لا يكون أبداً. (1)

أبوطالب والموقف القرشي

وأخيراً _ وبعد أن يئست وفودها _ تيقنت قريش وزعماؤها أنّ أبا طالب لا يسلم ابن أخيه ولا يخذله، بل سيمنع محمّداً (ص) منهم بكل ما أوتي من قوّة، وما دام فيه عرق ينبض، بل راحوا يلمسون ويرون نشاطه الواضح في الترويج للرسالة الجديدة، ويحرّض أهله على الإيمان بها، والوقوف بجانب محمّد (ص) ونصرته.

فتارةً: يأمر ابنه جعفراً بالصلاة، حيث رأى محمّداً (ص) يصلّي، وإلى جانبه علي (ع)،


1- اُنظر السيرة النبوية 1: 264 _ 268 ففيها تفصيل كثير.

ص: 316

فيقول لجعفر: صل جناح ابن عمّك. (1)

وأُخرى: يقول لأخيه حمزة حينما أعلن إسلامه:

فصبراً أبايعلى على دين أحمد

وكن مظهراً للدين وفّقت صابرا

وثالثة: يخاطب محمّداً (ص) بعد وفود قريش له، تستعين به على إيقاف جهد

محمّد ونشاطه في تسفيه أحلامهم ومعتقداتهم، ثمّ دعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده. فيقول له:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أؤسد في التراب دفينا

أبوطالب والحصار في الشعب

لما رأى أبوطالب أنّ قريشاً يئست في كلّ محاولاتها من الوصول إلى هدفها في استمالته إلى جانبها ضد محمّد (ص) ودعوته، وبالتالي منع الدعوة الجديدة من الانتشار والاتساع في المجتمع المكّي وأطرافه وقبائله، بدأت تغيّر أساليبها لتقويض الدين الجديد، فراحت تفكّر بإيذاء الرسول (ص) بل بقتله، فما كان من أبي طالب إلاّ أن يأمُر بني هاشم وبني المطلب أن يدخلوا برسول الله (ص) الشعب، ليمنع ما قد تقدم عليه قريش من أذى لرسول الله (ص)... أو أنّه دخل ورسول الله (ص) وجمع معه الشعب، ثمّ انحاز إليهم بنوهاشم والمطلب إلاّ أبا لهب فقد خرج من بني هاشم وظاهر قريشاً.

الصحيفة و ماآلت إليه

حيث إنّ قريشاً ما إن رأت هذه الخطّة الجديدة من أبي طالب، حتى استقرّ رأيها على كتابة عهد يوقّعه الجميع، يتضمّن مقاطعة شاملة، سياسية، واقتصادية، واجتماعية لبني هاشم والمطلب، وأن يضيّقوا عليهم ويمنعوهم من حضور الأسواق، وأن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم،


1- اُنظر الإصباح 7: 112.

ص: 317

ولا يقبلوا لهم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله (ص).

وبعد أن كتبوا هذه الوثيقة، وتعاهدوا وتواثقوا فيها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتب هذه الصحيفة منصور بن عكرمة ابن عامر، ويُقال النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله (ص) فشلّ بعض أصابعه.

وقال أبو طالب شعراً:

ألا أبلغا عني على ذات بيننا

لؤيّاً وخُصّا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً

نبيّاً كموسى خُطّ في أوّل الكتب؟

وأنّ عليه في العباد محبةً

ولا خير ممّن خصّه الله بالحب

وأنّ الذي ألصقتم من كتابكم

لكم كائن نحساً كراغبة السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى

ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا

أواصرنا بعد المودّة والقرب

فلسنا وربّ البيت نسلم أحمداً

لعزّاء (لشدة) من عضّ الزمان ولاكرب

أليس أبونا هاشم شدّ أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نملّ الحرب حتى تملّنا

ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ظل بنوهاشم والمطلب ومن معهم ثلاث سنين، وقول آخر، مكثوا سنتين في الشعب، فترك هذا الحصار أثره عليهم، وأصابتهم ضائقة شديدة، حتى جهدوا حيث لا يصل إليهم شيء إلاّ سرّاً، وكان دور أبي طالب، وأُمّ المؤمنين خديجة عظيماً في تخفيف المعاناة هذه داخل الشعب، حيث كانا يدخلان المؤن والأقوات إلى داخل الشعب خفيةً، حتى هيّأ الله تعالى الأرضة، فأكلت معاهدة قريش، وأوصى الله تعالى إلى رسوله بهذا، فأخبر عمّه أباطالب: يا عمّ إنّ ربي الله قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو لله إلاّ أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان.

فقال: أربك أخبرك بهذا؟

ص: 318

قال: نعم.

قال: فوالله ما يدخل عليك أحد.

فبادر أبوطالب إلى مجالس قريش وأنديتها، ليخبرهم بما آلت إليه وثيقتهم، وبما صنع الله تعالى في صحيفتهم، وأنّ الذي أخبره بذلك هو رسول الله (ص).

ووضعهم بهذا أمام امتحان واختبار، حيث قال لهم: إن كان الحديث كما يقول ابن أخي، فأفيقوا، وإن لم ترجعوا، فوالله لا نسلّمه حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلاً، دفعنا إليكم صاحبنا.

فقالوا: قد رضينا بما تقول، وتعاقدوا على ذلك، ثمّ فتحوا الصحيفة، فوجدوا الأمر كما أخبر به الصادق الأمين.

وعندما رأت قريش صدق ما جاء به أبوطالب، قالوا: هذا سحر ابن أخيك، وما زادهم ذلك إلاّ بغياً وعتواً وعدواناً.

فقال لهم أبوطالب: علام نحبس ونحصر، وقد بان الأمر، وتبيّن أنّكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة؟

ثمّ دخل يمين أستار الكعبة، ودخل معه بنو هاشم قائلين: أللّهمّ انصرنا على من ظلمنا، وقطع أرحامنا، واستحل من يحرم عليه منا، ثمّ انصرفوا إلى الشعب.

وقال أبو طالب في هذا شعراً.

وقد كان في أمر الصحيفة عبرة

متى ما يخبّر غائب القوم يعجب

محا الله عنها كفرهم وعقوقهم

وما نقموا من ناطق الحقّ معرب

فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً

ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب(1)

وفي نهاية هذا الموقف، وافق أباطالب قوم وآمنوا به، وامتنع آخرون.

وقام أبوطالب، يمدح أولئك النفر الذين قاموا _ بعد أن اتّضحلهم الحقّ _ في نقضها في


1- اُنظر ابن الأثير في الكامل 2: 36.

ص: 319

ستة وعشرين بيتاً من الشعر كان منها:

فيخبرهم أنّ الصحيفة مزّقت

وأنّ كلَّ ما لم يرضه الله مفسد(1)

أبوطالب يستحث قومه

وحينما رأى أبوطالب ما تقوم به قريش من تعذيب أتباع رسول الله (ص) ومريديه، وما يصنعونه في بنيهاشم وبني المطلب، دعا قومه إلى المجيء إلى ما هو عليه، والانضمام إليه، من منع رسول الله (ص)، والقيام دونه، فلبّى قومه دعوته، إلاّ ما كان من تمرّد أبي لهب وعدم استجابته لهذه الدعوة.

وما إن رأى أبوطالب موقف قومه هذا وما سرّه في جهدهم معه، وحدبهم عليه، حتى راح يمدحهم ويذكر قديمهم، وفضل رسول الله (ص) فيهم، ومكانته الكبيرة بينهم، ليشُدّ لهم رأيهم، وليَحدَبوا معه على أمره، فقال:

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر

فعبدُ مناف سرها وصميمها

وإن حُصّلت أشراف عبد منافها

ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فإنّ محمّداً

هو المصطفى مَن سرّها وكريمها

تداعت قريش غُثها وسمينها

علينا فلم تظفر وطاشت حلومها(2)

الوصية الأخيرة

من على فراش مرضه، الذي يدثّره وقد مات فيه، انطلقت كلمات رائعة، فكانت نوراً يدخل القلوب، وكانت وصايا تنبع الحكمة من أعماقها، وكانت كلمات تتفوّه بها بصيرة نافذة:

يا معشر قريش! أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، وفيكم السيّد المُطاع، وفيكم


1- اُنظر القصيدة كاملة في السيرة النبوية لابن هشام 1: 377 _ 380.
2- اُنظر المصدر نفسه.

ص: 320

المقدام الشجاع، واعلموا أنّكم لم تتركوا نصيباً في المآثر إلاّ أحرزتموه، ولا شرفاً إلاّ أدركتموه.

وإنّي أوصيكم بتعظيم هذه البنية _ الكعبة _ فإنّ فيها مرضاة الرب، صلوا أرحامكم، ولا تقطعوها، فإنّ صلة الرحم منسأة في الأجل، وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق، ففيهما هلكت القرون قبلكم... أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل، وعليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة.

ولم يقف عند هذا، بل راح يوصيهم برسول الله (ص) خيراً، فيقول:

وإنّي أوصيكم بمحمّد خيراً، فإنّه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكلّ ما أوصيتكم به، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة.

ثمّ راح يحدّق بعيداً في مستقبل هذه الاُمّة والرسالة، فيقول:

وأيم الله، لكأنّي أنظر إلى صعاليك العرب والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وعظّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، ولكأنّي به، وقد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها.

ثمّ يلتفت إلى محمّد ويخاطبهم بقوله:

والله لا يسلك أحدٌ سبيله إلاّ رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلاّ سعد، انصروا محمّداً، فإنّه الهادي إلى سواء السبيل.

ولو أنّ الله تعالى أخّر أجله وأمدّ في عمره، وقد عبّر عن أُمنيته هذه بقوله:

ولو كان للنفس مدة، وفي أجلي تأخير، لكففتُ عنه الهزاهز، ولدافعتُ عنه

الدواهي.

هذه هي وصيّته في عامة الجالسين، وكان منهم المشركون الذين يتلهفون إلى موته، ليميلوا على محمّد وصحبه، ميلةً واحدة، ويبطشوا بهم.

ثم تحين منه التفاتة إلى بني هاشم، بعد أن خلا المجلس إلاّ منهم، فيقول:

يا معشر بني هاشم! أطيعوا محمّداً وصدّقوه، تفلحوا وترشدوا.

ص: 321

ثمّ راح يخصّ أربعة من الهاشميين وهم: ولداه: علي وجعفر، وأخواه: الحمزة والعباس، فيقول:

أوصي، بنصر نبي الله، أربعة

ابني علياً، وعم الخير عباسا

وحمزة الأسد المخشيَّ صولته

وجعفراً، أن تذودوا، دونه الناسا

كونوا _ فداء لكم أمّي، وما ولدت

في نصر أحمد، دون الناس، أتراسا(1)

ومَن كانت هذه وصاياه، أتظنه يموت كافراً، وعن هذا النعيم والفلاح غافلاً؟!

وفاة أبي طالب

توفي بيضة البلد عن ستة وثمانين عاماً، في شهر رمضان، وقيل في النصف من شوال، وقيل في رجب من السنة العاشرة للبعثة النبويّة الشريفة، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، قبل وفاة أُمّ المؤمنين خديجة(عليها السلام) بثلاثة أيام، أو بشهور على قول، ولهذا سمّى الرسول (ص) هذا العام عام الحزن، وقال: «اجتمعت عليَّ في هذه الأيام مصيبتان بأيّهما أنا أشدّ جزعاً».(2)

فما إن أغمض عينيه الساهرتين على رسول الله (ص)، حفظاً ورعايةً ومؤازرةً ودفاعاً ودعوةً إلى ما يحمله بين يديه، حتى أمر الرسول (ص) عليّاً (ع) أن يغسّله ويكفّنه، فعن علي (ع) أنّه قال: أخبرت رسول الله (ص) بموت أبي طالب، فبكى، ثم قال: «اِذهب فغسّله، وكفّنه، وواره غفر الله له».(3)

وفي خبر ثمّ جاء رسول الله (ص) يشيعه ويرثيه قائلاً:

«وصلتك رحم يا عم، وجزيت خيراً، فلقد ربيت، وكفلت صغيراً... ونصرت، وآزرت كبيراً... أمّا والله لأستغفرنَّ لك، ولأشفعنّ لك شفاعة يعجب لها الثقلان...

وا أبتاه! وا أبا طالباه! وا حزناه عليك يا عم كيف أسلو عنك، يا من ربّيتني صغيراً،


1- اُنظر في هذا كلّه السيرة النبويّة وغيرها من مصادر التاريخ وما كتب عنه وهو كثير.
2- السيرة النبويّة 2: 416 وغيرها.
3- طبقات ابن سعد 1: 123.

ص: 322

وأحببتني كبيراً، وكنتُ عندك بمنزلة العين من الحدقة، والروح من الجسد؟!»

بهذه العبارات، والعبرات، والقلب الحزين، ودّع رسول الله (ص) عمّه، كما ودّعته الرسالة كذلك ; بكاه الرسول والرسالة والناس أجمعون، بكته الجموع المؤمنة أباً رحيماً، وعمّاً ودوداً، ومربّياً واعياً، ومدافعاً حكيماً، ومؤمناً حليماً.

يقول البكري في كتاب مولد أميرالمؤمنين7 عن الحزن الذي ملأ أجواء مكّة:...

شققن النساء على أبي طالب الجيوب، ونشرن الشعور، وشمل الحزن جميع شعاب مكّة وشعوبها.

وراح أميرالمؤمنين (ع) يرثي أباه:

أبا طالب عصمة المستجير

وغيث المحول، ونور الظلم

لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ

فصلّى عليك وليّ النعم

ومما قيل عنه

نذكر هنا بعض الروايات والأقوال الواردة بحقّه رضوان الله عليه

عن الإمام علي (ع) أنّه قال:

«كان والله أبوطالب... مؤمناً مسلماً، يكتم إيمانه مخافةً على بني هاشم أن تنابذها قريش».(1)

كان أميرالمؤمنين (ع) يعجبه أن يروي شعر أبي طالب وأن يدوّن، وقال: «تعلموه وعلّموه أولادكم، فإنّه كان على دين الله، وفيه علم كثير».

روي عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال:

«إنّ أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الكفر، فأتاهم الله أجرهم مرّتين،

وإنّ أباطالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك، فأتاه الله أجره مرّتين، وما خرج من الدنيا

حتى أتته البشارة من الله بالجنّة، كيف يصفونه بهذا (أنّه مات كافراً) وقد نزل


1- اُنظر أبو طالب عملاق الإسلام الخالد ، لمحمد علي أسد: 152 عن مجلة نهج الإسلام.

ص: 323

جبريل ليلة مات أبوطالب، فقال يا محمّد أخرج من مكّة فما لك بها من ناصر بعد أبي طالب».(1)

ممّا قالوا

يقول ابن الأثير في جامع الاُصول: فلمّا رأى المشركون ذلك _ يعني إظهار الدعوة _ خالفوه وعاندوه، وأظهروا عداوته، وأجمعوا على أذاه، وهمّوا بقتله، فأجاره عمّه أبوطالب، ودفع عنه وحماه، إلاّ أنّ قريشاً تظافروا على بني هاشم وبني المطلب، حتى حصروهم في الشعب.

ثم قال: فمات أبوطالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل: بخمسة أيام، وقيل: بأكثر من ذلك، فبان أثر موتهما على النبيّ الله (ص) فخرج إلى الطائف. (2)

وقال الزمخشري: قال النبيّ الله (ص): «ما زالت قريش كاعة، حتى مات أبوطالب» أي جبناء عن أذاي، جمع كائع. (3)

يقول الطبري: ولما هلك أبوطالب، خرج رسول الله (ص) إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه. (4)

ويقول أيضاً، بعد أن يذكر أنّ أباطالب وخديجة هلكا في عام واحد قبل هجرته9 إلى المدينة بثلاث سنين: فعظمت المصيبة على رسول الله (ص) بهلاكهما; وذلك أنّ قريشاً وصلُوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته، حتى نثر بعضهم على رأسه التراب.

وقال ابن أبي الحديد: ومَن أراد أن يقف على شدّة بلاء أبي طالب في الدفع عنه والذب، حين تعاقدت قريش على قطعه9، وكتبوا في ذلك الكتاب وعلّقوه في الكعبة، ووثبت كلّ قبيلة


1- راجع شرح نهج البلاغة 3: 466 ؛ أعيان الشيعة 39: 136 ؛ الغدير 7: 381.
2- جامع الأُصول 1: 296.
3- اُنظر الفائق 3: 290.
4- تاريخ الطبري 1: 554.

ص: 324

على من أسلم منهم يعذبونهم على الصخر والصفا في حرّ الشمس، وحين صدّوهم في الشعب سنتين أو ثلاثاً، ومع ذلك كلّه أبوطالب يحوط النبيّ الله (ص) ويمنعه ويقوم دونه، فليراجع كتب السير، يقف على ما صنعه معه، بل لشاهد عياناً صدق قول الباقر7 وقد سئل عن إيمانه: «ولو وضع إيمان أبي طالب في كفّة ميزان، وإيمان هذا الخلق في الكفّة الاُخرى؛ لرجح إيمانه».(1)

وهنا يذكر ابن أبي الحديد: أنّ علي بن الحسين (ع) سُئل عن هذا، فقال: «واعجباً، إنّ الله تعالى نهى رسوله أن يُقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات».(2)

روى عكرمة عن ابن عباس أنّه قال: جاء أبو بكر إلى النبيّ الله (ص) بأبي قحافة، يقوده وهو شيخ كبير أعمى، فقال رسول الله (ص) لأبي بكر: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه؟! فقال أبوبكر: أردت يا رسول الله أن يأجرني الله، أما والذي بعثك بالحقِّ، لأنا كنتُ أشدّ فرحاً بإسلام عمّك أبي طالب مني بإسلام أبي، التمس بذلك قرّة عينك.

فقال رسول الله (ص): «صدقت».(3)

وقد اشتهر عن المأمون العباسي أنّه قال: والله أسلم أبوطالب بقوله:

نصرتُ الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ سمع البروق

أذبّ وأحمي رسول الإله

حماية حام عليه شفيق... (4)

أبوطالب ضحيّة مؤامرة قذرة!

بدايتها:

في العصر الأوّل للإسلام لم يكن هناك أي اختلاف في إيمان أبي طالب، وإنّما بدأ هذا


1- شرح نهج البلاغة 3: 316.
2- المصدر نفسه؛ الاستيعاب بهامش الإصابة 4: 381.
3- المصدر نفسه، 3: 322.
4- اُنظر شرح نهج البلاغة 3: 317.

ص: 325

بعد أن تفاقم الخلاف، حتى وصل إلى الصراع بين علي (ع) ومعاوية، فراحت الروايات الموضوعة تقوّض مناقب، وتختلق أُخرى، وتميت مواقف، وتصنع غيرها، عبر أكثر من سبعين ألف منبر، وخلال سبعين سنة، تحت شعار أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته... ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب، إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إليَّ وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته،(1)

حتى قيل له: أما آن لك _ يا معاوية _ أن تترك عليّاً وشأنه، وتأمر بترك مسبّته على المنابر؟

قال معاوية: لا، حتى يموت عليها الكبير ويربو عليها الصغير.

لم أجد، وأنا أُقلّب صفحات التأريخ بحثاً عمّا يتعلّق بحياة شيخ قريش وسيّدها أبي طالب، ثغرةً للنفاذ منها إلى تأييد ما ذهب إليه قوم من تكفيرهم له، وأنّه مات كافراً برسالة السماء، التي حملها ابن أخيه، وهو ينطلق من بين يدي أبي طالب نبيّاً رسولاً، مبشّراً نذيراً، ويدا أبي طالب تبارك له عمله وكدحه وجهاده، ويقف سدّاً منيعاً ضد من يريد الكيد به قريباً كان أو بعيداً، لم أعثر على شيء يؤيّد قولهم هذا، ويقف دليلاً على ما زعموه، إلاّ أني خطر ببالي شيء، قد يكون هو لا غير وقلت في نفسي: لو كان أبوطالب أبا أحد من رجالهم غير عليٍّ (ع) لما تجرأوا واتهموه بهذا، ولوصفوه بأجمل خصائص الإيمان، وهو فعلاً ما حصل لأبي سفيان وأمثاله، ولملئت كتبهم وحناجرهم مدحاً له واطراءاً وثناءاً عليه، ولكن الرجل كان ضحيّة بغضهم لابنه عليٍّ (ع) وكان جزءاً من تلك المؤامرة، ومن ذلك النزاع، الذي نشب في صفوف الأُمّة المسلمة بعد رحلة رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى، ثمّ تعاظم حتى اكتمل بمؤامرة الشتم والتسقيط، التي أسّسها وقادها الحكم الأُموي في الشام، وسخّروا لها كلّ ما من شأنه تزييف الحقائق وتضليل الناس، من مال وسلاح وترغيب وتهديد، لتنال من المقام الشامخ للإمام علي (ع) حتى كاد أن يكون، بل صار فعلاً الهدف


1- اُنظر شرح نهج البلاغة 3: 317.

ص: 326

الأوّل والرئيسي لحكمهم.

إنّه صراع بين إسلام رسالي انتهجه عليّ (ع) وبنوه وأتباعه، ونهج آخر سار عليه الأمويّون يقدمهم معاوية بن أبي سفيان.

نعم أكملوها بالطعن بأبيه، والغريب أنّ رسائل معاوية إلى علي (ع) خلت من هذا الطعن، بل وحتى أحاديثه، ولو وسعه _ كما يقول عبدالفتاح عبدالمقصود _ لفعل، فأفحش في القول، وأوفى الكيل، ثمّ لجاء من لدنه بكلّ ما يخسر ميزان الإمام.

ثمّ يتساءل قائلاً:

فلماذا لم يفعل؟

لا عن ولاء للقربى أحجم...

ولا عن تعفف وتورّع، رعاية لنواميس الأخلاق ; فمثله ما كان ليأخذ نفسه بالتفريط في ذرة هباء تمتلكها يمينه، إن هو علم أنّ الناس سيحسبونها قطرة حقيقة في خضم من الأكاذيب!

... فأما وقد كفّ ادعاءه، وابتلع خيلاءه، فذلك لأنّه لم يكن يملك في إيمان أبي طالب أثارة شبهة، أو دليل ينفذ من خلالها إلى نقض هذا الإيمان، سواء أكانت هذه الأثارة رأي شانئ معاصر عايش شيخ بني عبد مناف، أم رواية راوية لاحق آثر الانحراف!

وراح عبدالفتاح يتحدّث بقوله: ولمن يشاء أن يحاج في هذا الذي نراه، فليأتنا من رسائل ابن أبي سفيان إلى الإمام، أو في أحاديثه التي ملأ بها آذان مناصريه، بكلمة تشير، من قريب أو من بعيد، إلى ما يخدش إيمان أبي طالب، وينال من صدق إسلامه. (1)

أقول: وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ إيمان أبي طالب في العصر الأوّل لا يمكن أن يرتاب به أحد، أو أن يسمع من أحد الطعن فيه، أو التشكيك أبداً، فهو أمر واضح بيّن كرائعة النهار، لهذا لم يتجاسر معاوية على الإقدام على مثل هذا الطعن، الذي سينقلب عليه، و رغم أنّه كان يتشبث بكلّ وسيلة للنيل من علي (ع) والطعن فيه، رغم


1- مقدمة عبد الفتاح لكتاب: إيمان أبي طالب، لشمس الدين بن معد الموسوي (ت630ه_)22_ 23.

ص: 327

رسائل الإمام إليه، التي لم يستطع معاوية الردّ عليها، ولو كان مرتاباً في ايمان أبي طالب لكان موضع ردِّه على الإمام.

يقول الإمام علي (ع) في ردّه على إحدى رسائل معاوية، التي يقول فيها: «ونحن بنو عبد مناف، ليس لبعضنا على بعض فضل، إلاّ فضل يستدل به عزيز، ولا يُسترق حر... وقد أقذع الإمام له في الردّ:

« كنّا ونحن وأنتم، على ما ذكرت من الإلفة والجماعة، ففرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم، واليوم أنا استقمنا وفتنتم...

وإنّك والله لأغلق القلب!... وقريب ما أشبهت من أعمام وأخوال، حملتهم الشقاوة، وتمنى الباطل على الجحود بمحمّد (ص) فصرعوا مصارعهم حيث علمت...».

ثمّ واصل الإمام (ع) قوله:

«منّا النبي (ص) ومنكم المكذّب، ومنّا أسدالله ومنكم أسد الأحلاف، ومنّا سيّد شباب أهل الجنة، ومنكم صبية النار، ومنّا خير نساء العالمين، ومنكم حمالة الحطب...

وأمّا قولك: إنّا بنو عبد مناف، فكذلك نحن...

... ولكن ليس أُميّة لهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، وبئس الخلف خلف ينبع سلفاً هوى في نار جهنم!..»

وهنا يقول عبدالفتاح معلقاً: إنّها مفاضلة تغني عن كلّ تعليق; فإن كان لابدّ مع هذا من إيضاح، فمن هو هذا الخلف، سوى معاوية المقصود بالخطاب...

ومن السلف، أقرب السلف، غير أبي سفيان؟! وهل من سبب لتفضيل أبي طالب على معاصره أبي سفيان _ وحديث الإمام هنا يشير إلى الهويّ في النار _ سوى سبب يدرأ من شر جهنم عن الفاضل ما لا يدرأ عن المفضول؟!(1)


1- مقدمة عبد الفتاح لكتاب: إيمان أبي طالب، لشمس الدين بن معد الموسوي (ت630ه_)22_ 23.

ص: 328

وأقول: صحيح أنّه لم يخض شخصياً فيما خاض به الذين عاصروه أو الذين جاؤوا من بعده، إلاّ أنّهم خريجو مدرسته وهم من مرتزقته ومريديه وأتباعه، فراحت ألسنتهم وأقلامهم تكيد كيدهم. ومن كيدها هذا اتهام أبي طالب بهذه التهمة الظالمة.

إنَّ هذا لشي عجاب

كيف يموت كافراً _ كما زعم الزاعمون _ وهو يسمع ابن أخيه، الذي فداه بنفسه وماله وجاههه وأولاده... وعلى مساحة زمنية استغرقت عشر سنوات يردّد «يا أيها الناس، إنّي رسول الله إليكم، لتعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً» «إنّ هذه الأصنام لغو باطل، لا تملك لكم ضراً ولا نفعاً»، وهو المعروف بحكمته وحلمه... فكيف يفرط بنفسه وعاقبته؟!

قرآن ينزل، آيات تتلى، كلمات رسول الله (ص) تتردّد هنا وهناك، صنوف من التعذيب يصبّه مشركو قريش على المؤمنين، تهديد ووعيد، محاصرة،... أكلّ هذه الأُمور لم تجد في قلب أبي طالب لمسة خير، ومنعطفاً لإيمانه..؟! إنَّ هذا لشيء عجاب! فأبوطالب صاحب هذه الحياة المضيئة كيف يسوّغ لنفسه أن يموت غير مؤمن بما سمعه من رسول الله (ص) ولم تكن على قلبه غشاوة، ولطفُ الله لا شك قريب من هؤلاء الذين يملكون قلباً كقلب أبي طالب، وشهامة كشهامة أبي طالب، وحلماً كحلم أبي طالب، قطعاً تدركه رحمة السماء وقد سارع إلى اعتناق الرسالة من هو أدنى منه رتبةً، وأقلّ منه صفاءاً وعطاءاً؟!

فهكذا إنسان هذه حياته بدءاً وخاتمةً، لا يستسيغ المنطق الرشيد، ولا العقل السديد أن يُتهم بتهمة العزوف عن الله ورسالته، ليعيش كافراً ويموت كافراً، وهو صاحب الضمير الحي، والقلب النابض عاطفةً وحبّاً وحناناً...

إنّ من يقرأ حياة هذا الرجل، يخرج بنتيجة عظيمة وحصيلة كبيرة، لا يجد لها مثيلاً في حياة أقرانه ومعاصريه، بل لا يجدها حتى عند من جاؤوا بعده، أللّهمّ إلاّ عند النخبة التي اصطفاها الله وحباها برعايته واختياره، وارتضاه قدوة صالحة للمؤمنين، وهذه قلّة قليلة تمثّلت بأهل بيت العصمة والطهارة، وعليٌّ (ع) سيّدهم.

ص: 329

النتيجة تلك والحصيلة أنّ أباطالب مات مسلماً مضحياً مجاهداً، لم يُراوده شك أبداً في أحقية رسول الله (ص) وما هو عليه من مبادئ السماء، دلّني على من هو أكثر تضحيةً وتحملاً وصبراً وحكمةً وجهاداً من أبي طالب، وهو يعيش الأيام الأُولى والسنين الأول للتأسيس، والتأسيس من أخطر وأدق مراحل الدعوة الإسلامية، خاصةً وهي تعيش في تلك الظروف، وذلك المجتمع الذي كان التعامل معه مريراً وقاسياً بما يمتلكه من طبقيّة، وعادات، وتقاليد، وموروثات، تجذّرت في ترابه، وفي نفوس أبنائه، فكيف يمكن انتشالهم من هذا الواقع المرير؟!

إذ يتنازعون بينهم أمرهم

لقد تنازعوا أمرهم فيه، وهكذا هو شأن العظماء، فاختلفت آراؤهم، وتشتت كلماتهم، وتفرقت أقلامهم في الكتابة عنه.

فمنهم: من قال: إنّ أبا طالب مات كافراً; ومنهم من قال: إنّ أباطالب مات مؤمناً.

فيما توقّف فريق ثالث في أمره وتحيّر، كيف يقول بكفره، وكلّ ما قدّمه يدلُ على إيمانه؟! وكيف يقول بإيمانه ولم يسمعه يردّد الشهادتين...؟! إلاّ أنّهم جميعاً قد اتفقوا على أمر ثالث لا يراودهم الشكّ فيه ألا وهو: أنّ أبا طالب لم يبخل بجاه و لامال ولا موقف ولا أي شيء إلاّ وسخّره لخدمة الرسالة ورسولها الكريم، بل يكاد إجماعهم هذا يؤكد أن لا أحد خدم الإسلام كما خدمه أبوطالب، طيلة عشر سنوات من الدعوة في مكّة قضاها، عبر مواقف تتسم تارةً باللين، وأُخرى بالشدّة، وثالثة بالدعوة إلى الإسلام من خلال تسخيره جميع مواقفه، وما يمتلكه من وسائل، ومنها وسيلة إعلامية لا ينكر أحد تأثيرها: كلماته البليغة وقصائده الشعرية الكثيرة، فقد كان الرجل مجيداً للشعر، مكثراً منه، فسخّره في الدعوة إلى الله ورسوله، حتى كلّفته هذه المواقف التضحية بما يمتلكه من شبكة اجتماعية وعلاقات كثيرة، فَقَدَ على أثرها طاعة قريش، حتى تجرّأت على محاصرته والتضييق عليه.

وإنّ من اللافت المؤسف والمؤلم أنّ أباطالب مع كلّ مواقفه وكدحه المتواصل في إرساء

ص: 330

دعائم الإسلام وتثبيت أركانه، يموت كافراً _ كما يزعم الزاعمون _ وأباسفيان الذي كان من الطلقاء، ولم يقدّم شيئاً يذكر في مسيرة الرسالة السماوية هذه، بل هو الذي عاش قبل نطقه الشهادتين وبعدهما زعيماً للتآمر على الإسلام ورسوله، ورجل الكيد والغدر، يموت مؤمناً!!

لقد تعرّض أبوطالب إلى مؤامرة قذرة رسمتها أياد عرفت بالعداء للرسول (ص) ورسالته، وبغضها لهذه العائلة الكريمة، فراحت تبذل قصارى جهودها وما تملكه من مال كثير وقدرات وخبرة، في سبيل تقويض أي مجهود لرموز هذه الاُسرة الكريمة، فسخّرت أعلامها، ورجالها، والطامعين، والوضاعين، لتحقيق غاياتها ومصالحها; فلم ينجو حتى شعر أبي طالب من الاتهام بالوضع والاختلاق، لما رأوا فيه من القوّة، والدعوة المخلصة إلى الإسلام، وغفل هؤلاء عن أنّ خصائص أبي طالب لو بقي منهاجزء يسير، فإنّه كاف في التدليل على عقيدته التوحيدية وإيمانه الخالص.

وإن تعجب فعجب قولهم

لا أظنّ أنّ هناك حاجة إلى ذكر أدلّة القائلين بكفر أبي طالب، فحياته رضوان الله

عليه دليل غني على إيمانه، وما قدّمناه هو غيض من فيض، وإذا ركنا إلى أدلّتهم فكأنّنا عدلنا من اليقين إلى الشك ومن العلم إلى الظن; ولكنّنا مع هذا نكتفي هنا بدليل واحد من أدلّة القوم وبشكل مختصر، خوف الإطالة، ولمن أراد المزيد فعليه بما كتب عنه، وهو

كثير جدّاً.

روى ابن سعد في طبقاته بإسناده إلى علي بن أبي طالب (ع) قال: «أخبرت رسول الله (ص) بموت أبي طالب، فبكى، ثمّ قال: اذهب فغسّله وكفّنه وواره، غفر الله له».(1)

قال (ع): «ففعلت ما قال، وجعل الرسول (ص) يستغفر له أياماً، ولا يخرج من بيته، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا


1- طبقات ابن سعد 1: 123.

ص: 331

أُولِي قُرْبى...). (1)

فقد ذهب جمع من المفسّرين _ استناداً إلى هذه الرواية _ إلى أنّ هذه الآية المذكورة نزلت في استغفار النبيّ الله (ص) لعمّه أبي طالب، واستغفار بعض الصحابة لأبويه المشركين. (2)

أين تقف رواية ابن سعد؟!

بعد أن نقل هذه الرواية في الجزء الأوّل من طبقاته، اُنظر ما قاله في الصفحة 125 منها: «توفي أبوطالب للنصف من شوّال في السنة العاشرة من حين نُبِّئ رسول الله».

إذن

فأبوطالب توفي في السنة العاشرة للبعثة النبوية.

هاجر النبيّ الله (ص) في السنة الثالثة عشرة للبعثة، أي بعد وفاة أبي طالب بثلاث سنوات.

سورة التوبة نزلت في المدينة، فهي مدنية كلّها باستثناء الآيتين الأخيرتين منها.

اُنظر ما يقوله عنها المفسّرون ومنهم:

ابن كثير: هذه السورة من أواخر ما نزل على رسول الله (ص) كما روى البخاري عن البراء يقول: آخر آية نزلت: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وآخر سورة نزلت براءة. (3)

الرازي في تفسيره: في عنوان السورة: سورة التوبة مدنية إلاّ الآيتين الأخيرتين فمكيّتان. (4)

الآلوسي في تفسيره: سورة التوبة مدنية. (5)


1- سورة التوبة: الآية 113.
2- اُنظر جلال الدين السيوطي في تفسيره وغيره.
3- التفسير الكبير، للفخر الرازي 8: 215.
4- التفسير الكبير، للفخر الرازي 8: 215.
5- روح المعاني، للآلوسي 5: 40.

ص: 332

الطبرسي في تفسيره: سورة التوبة مدنية كلّها، وقال بعضهم: غير آيتين: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...) إلى آخر السورة، نزلت سنة تسع من الهجرة،... وقال قتادة ومجاهد: وهي آخر ما نزلت على النبي (ص) بالمدينة.

نكتفي بهذا القدر من المفسّرين، لنقول: إنّ الفترة الزمنية بين وفاة عمّ النبيّ الله (ص) «أبوطالب» ونزول هذه الآية كانت اثني عشر عاماً، فأين تقف رواية ابن سعد، التي عمل بها كثير من المفسّرين بلا تثبت ولا تحقيق، لأسباب لا أظنّها تخفى على القارئ اللبيب؟!

و ختاماً

ماذا تراني أقول فيك يا أباطالب، وما إن فتحت ملفّك التأريخي حتى انبهرت بكثرة ما فيه من مواقف عظيمة ومناقب جليلة... فألّفت فيك كتب كثيرة تجاوزت أكثر من مئة كتاب، بين مطبوع ومخطوط باللغة العربية، فضلاً عن اللغات الاُخرى...، إضافةً إلى المقالات والأشعار، التي قيلت بحقّك.

وهذه مجموعة ممّا تيسّر:

الكتب العربية المطبوعة :

1) أبوطالب بطل الإسلام، لحيدر محمّد سعيد عرفي.

2) أبوطالب بن عبدالمطلب والد أميرالمؤمنين7 ، لحسين جواد الكديمي.

3) أبوطالب حامي الرسول وناصره، للعلاّمة الميرزا نجم الدين جعفر عسكري طهراني.

4) أبوطالب عم الرسول (ص) ، للمحامي محمّد كامل حسن.

5) أبوطالب عم النبي (ص) ، لعبد العزيز سيّد الأهل.

6) أبوطالب عملاق الإسلام الخالد، للشيخ محمّد علي أسبر.

7) أبوطالب كفيل الرسول (ص) ، لسعيد عسيلي.

8) أبوطالب كفيل الرسول (ص) ، لجمع من الكتّاب.

ص: 333

9) أبوطالب مؤمن قريش، لعبد الله الخنيزي.

10) أبوطالب المسلم، لأحمد مغنية.

11) أبوطالب مع الرسول (ص)، لأحمد مغنية.

12) أبوطالب وبنوه، للسيّد محمّد علي آل سيّد علي خان الحسيني.

13) إسلام أبي طالب، للسيّد مهدي مكّي.

14) إسلام أبي طالب، لوجيه بيضون.

15) إسلام أبي طالب من خلال الآيات والأحاديث والأشعار والوقائع التأريخية، للبيب بيضون.

16) أسنى المطالب في إيمان أبي طالب، للشيخ كاظم حلفي.

17) أسنى المطالب في شرح خطبة أبي طالب، لعبد الكريم حبيب.

18) أسنى المطالب في نجاة أبي طالب، للسيّد أحمد بن زيني دحلان.

19) إيمان أبي طالب، للشيخ المفيد.

20) إيمان أبي طالب وموقف الشيخ المفيد منه، للدكتور محمّد ابراهيم خليفة الشوشتري.

21) إيمان أبي طالب، لشمس الدين أبي علي فخار بن معد الموسوي.

22) الرسول والرسالة في شعر أبي طالب، لمعوض عوض ابراهيم.

23) زهرة الأدباء في شرح لامية شيخ البطحاء.

24) الروض النزيه في الأحاديث التي رواها أبو طالب عن ابن أخيه9، لابن طولون الدمشقي.

25) السهم الصائب بكبد من آذى أبا طالب، لأبي الهدى الصيادي.

26) سيّد البطحاء، للشيخ محمود البغدادي.

27) شعر أبي طالب بن عبدالمطلب وأخباره، لعبدالله بن أحمد بن حرب العبدي.

28) شيخ الأبطح أبوطالب، للسيّد محمّد علي ابن السيّد عبد الحسين شرف الدين.

ص: 334

29) شيخ بني هاشم أبوطالب، لعبد العزيز سيّد الأهل.

30) طلبة الطالب في شرح لامية أبي طالب، لعلي فهمي.

31) عقيدة أبي طالب، للسيّد طالب الرفاعي.

32) غاية الطالب من شرح ديوان أبي طالب، للشيخ محمّد خطيب المصري.

33) القصيدة الغرّاء في إيمان أبي طالب شيخ البطحاء، للسيّد أحمد خيري پاشا.

34) منية الراغب في إيمان أبي طالب، للشيخ محمّد رضا الطبسي النجفي.

35) منية الطالب في مستدرك ديوان سيّد الأباطح أبي طالب، لمحمّد باقر المحمودي.

36) مواهب الواهب في فضائل أبي طالب، للشيخ جعفر النقدي.

37) بنوة أبي طالب عبد مناف، لمزمل حسين الغديري الميثمي.

ومن الكتب العربية المخطوطة :

1) أبو طالب كافل النبيّ وناصره، للسيّد أحمد خيري پاشا.

2) اتحاف الطالب بنجاة أبي طالب، لمحمّد بن عبد السلام جنّون.

3) إثبات إسلام أبي طالب، لمحمّد معين بن محمّد أمين السندي.

4) إثبات إسلام أبي طالب، لعبد الرحمن بن أحمد الخزاعي النيشابوري.

5) أخبار أبي طالب وعبد المطلب، للشيخ الصدوق.

6) أخبار أبي طالب وولده، لأبي الحسن المدائني.

7) إسلام أبي طالب، للسيّد حسن بن ابراهيم شبر الحسيني.

8) إيمان أبي طالب، لأحمد بن القاسم.

9) إيمان أبي طالب، لأبي الحسين أحمد بن محمّد الكندي الجرجرائي.

10) إيمان أبي طالب، لأبي علي الكوفي.

11) إيمان أبي طالب، للسيّد أحمد بن موسى بن طاووس.

12) إيمان أبي طالب، لأبي محمّد الديباجي.

ص: 335

13) إيمان أبي طالب، للسيّد ظفر حسن بن دلشاد النقوي.

14) إيمان أبي طالب، لأبي نعيم علي بن حمزة التميمي البصري.

15) إيمان أبي طالب، للقاضي نعمان بن محمّد المصري.

16) إيمان أبي طالب، للعلاّمة ميرزا محسن قره داغي التبريزي.

17) بحث في إسلام أبي طالب، مجهول المؤلف.

18) بغية الطالب في إسلام أبي طالب، للسيّد مير محمّد عباس الشوشتري.

19) بغية الطالب في بيان أحوال أبي طالب، للسيّد محمّد بن حيدر الموسوي العاملي.

20) بغية الطالب لإيمان أبي طالب، لجلال الدين السيوطي.

21) بغية الطالب لإيمان أبي طالب، لمحمّد بن عبد الرسول البرزنجي الشافعي.

22) بلوغ المآرب في نجاة آبائه7 وعمّه أبي طالب، للشيخ سلمان أزهري لاذقي.

23) البيان عن خيرة الرحمن، للشيخ علي بن بلال المصلّبي.

24) حاشية على حجة الذاهب إلى إيمان أبي طالب، للشيخ شير محمّد الهمداني.

25) ديوان أبو طالب وشرح لاميته، للشيخ حيدر قلي سردار كابلي.

26) رتبة أبي طالب وقريش، لأبي الحسن النسابة.

27) رسالة في إسلام أبي طالب، للسيّد ميرزا أبي القاسم أمين الدين الموسوي

الزنجاني.

28) رسالة في صحة إيمان أبي طالب، مجهول المؤلف.

29) الرغائب في إيمان أبي طالب، للسيّد مهدي الغريفي البحراني.

30) شرح حديث إسلام أبي طالب بحساب الجمل، لملاّ علي بن ميرزا خليل المازندراني.

31) الشهاب الثاقب لرجم مكفّر أبي طالب، لميرزا نجم الدين جعفر بن ميرزا محمّد عسكري الطهراني.

32) صفات أبي طالب عبد مناف، لمزمّل حسين الغديري الميثمي.

ص: 336

33) فصاحة أبي طالب، للشريف حسن بن علي بن حسن بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).

34) فضل أبي طالب وعبد المطلب وأبي النبيّ الله (ص)، لأبي القاسم سعد بن عبدالله بن أبي خلف الأشعري القمي.

35) فيض الواهب في نجاة أبي طالب، للشيخ أحمد فيضي بن حاج علي عارف جورومي.

36) القول الواجب في إيمان أبي طالب، للشيخ محمّد علي بن ميرزا جعفر الهندي.

37) كافل اليتيم أبو طالب، للعلاّمة ميرزا نجم الدين جعفر العسكري الطهراني.

38) ما قيل في أبي طالب، للسيّد علي بن الحسين الهاشمي الخطيب.

39) منى الطالب في إيمان أبي طالب، للشيخ مفيد النيشابوري.

40) منية الطالب في حياة أبي طالب، للسيّد حسن بن علي القپانچي النجفي.

41) نجاة أبي طالب، للشيخ كاظم آل نوح النجفي.

42) نسب أبي طالب، لهشام بن محمّد بن سائب بن بشير الكلبي.

43) نصّ أبي طالب على النبي (ص)، لبعض الكتّاب الإسماعيلية.

44) واقع أبي طالب المؤمن، للسيّد عبد الكريم آل سيّد علي خان.

45) الياقوتة الحمراء في إيمان سيّد البطحاء، للسيّد طالب آل سيّد علي خان.

إضافة إلى عشرات الكُتب المطبوعة والمخطوطة والمقالات وبلغات شتّى.

لقد تنازعوا أمرهم فيك، وبعد أن يَئسوا من أن يجدوا شيئاً يلوذون به للطعن فيك بغضاً وحسداً، لجأوا إلى كتمان إيمانك، الذي ما كان إلاّ لمصالح كثيرة للرسالة والرسول، فعثروا على ضالّتهم، _ كما يظنّون _ أنّ أبا طالب ماتَ كافراً، فأنساهم شيطانهم أو أنّهم تناسوا وتغافلوا عمّا قدّمت يداك المباركتان من خير عميم، ودعم كريم، ودفاع عظيم، وتضحية لا نظير لها عن الرسالة والرسول، ومن تبعه من المؤمنين والصالحين، حتى ورد في الخبر الذي ذكره ابن أبي الحديد: «أنّه لما توّفي أبوطالب، أوحى الله إلى رسوله9 أن

ص: 337

أخرج فقد مات ناصرك».

أكلّ هذا العطاء وطيلة عشر سنوات يأتي من كافر؟! أىّ عاقل يصدق دعواهم هذه ومزاعمهم تلك؟! إنّه عطاء لا يمكن أن يأتي إلاّ ممن آمن برسالة السماء!

 ونختم حديثنا بما قاله عبدالفتاح عبدالمقصود:

ثمّ ما حاجتنا إلى الإكثار من التدليل على إيمان رأس الطالبيين، ولا حاجة ثمة إلى تدليل؟

ثمّ يواصل قوله:

إنّ المنقول عن إيمانه، الذي توالى الجدال فيه أعصراً طويلة، وما زال إلى اليوم موضوع نقاش جار، لأحرى بأن يغني عن المعقول، وإنّ المعقول الذي يوافق المنطق السوي، ولا ينافي واقع الحال، ليضاهي هذا المنقول... فإذا خطر لامرئ أن يعدل عن منقولات الأحاديث والأقوال الشاهدة بإيمانه، والواردة على ألسنة الثقات البررة من آل البيت وشيعتهم نقلاً عن الرسول (ص) إلى الوقائع والأحداث، التي تصوّر مواقف عمّ النبي وأبي الوصي، وترسم ألوان سلوكه، إذن لوجد من أفعال الرجل الجليل ما هو ترجمان صدق عملي لتلك الأقوال...

ثمّ يقول:

أمّا ما أثر عنه من شعر... دالاً على إيمانه، ومؤيداً ابن أخيه، وداعياً لدينه، فإنّه أدنى إلى قرينة منه إلى برهان قاطع، لأنّنا قد لا نعدم أن نجد من بعض النقّاد من يرى فيه مجّرد تصوير جمالي... أو من يدّعي انتسابه إلى غير صاحبه، أو وقوعه في مظنة التحريف والتغيير والإضافة، استناداً إلى مقاييس _ إن هي اعتبرت قرينة _ فإنّها لا تسلم من التباني، وربّما التضارب، نتيجة لاختلاف الأذواق، وكثيراً ما اتّهم شعراء في قصائد لهم بأنّها منحولة، أو لا ترقى إلى مستواهم، أو لاتوافق سمات عصرهم الشعرية...

ويتنازل عن هذا الدليل فيقول: ودع الشعر فإنّه في قضيتنا نافلة... وكفانا أن نلقي نظرة عابرة إلى فضائل الشيخ التي تناقلتها الألسن ونفذت إلينا _ على الرغم من القهر

ص: 338

السياسي _ كأنّما من سم الخياط!

فليس منّا من لا يعلم أنّ «السياسة» طوال عهود الإسلام وعلى تعدّد دوله، قد افترست، أو كادت، كلّ كلمة إنصاف قيلت في حقّ آل البيت النبويّ الكريم.

لذلك بحسبنا في «المقولات» _ كمثال _ أن بلغنا، عبد مؤخر القهر والنكال، التي ضربت حول شيعة الرسول، كلمة صفي محمّد ووصيه، التي تقول:

«ما مات أبوطالب حتى أعطى رسول الله من نفسه الرضا».

وتلك شهادة من لا يكتم الشهادة، ولا يلبسها ببهتان...

هذا ما ورد على ألسنة الشيعة وأئمتهم نقلاً عن عليّ (ع) فإذا كان لابدّ من الوجه الآخر للعملة! فلنصغ إلى حديث أبي بكر، أوّل الخلفاء، إذ جاء بأبيه: أبي قحافة يقوده، وقد أسن وعمي، ليسلم بين يدي رسول الله (ص) فقال الرسول: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه؟!

قال أبوبكر: أردت يا رسول الله أن يأجرني الله؛ ثمّ أضاف: أما والذي بعثك بالحقّ، لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام عمّك أبي طالب مني بإسلام أبي.

ثمّ يختم حديثه بقوله: ثمّ بحسبنا في المعقولات _ كمثال أيضاً _ أنّ أباطالب، بكلّ المعايير، قد نصر الإسلام ونبيّه، كما لم يكن مثله نصير في العالمين...

فإذا رأى راءٍ تحرّى مواقف الشيخ _ فداءاً وحمايةً وتعزيزاً _ تجاه الإسلام ورسول الله، فالمصادر تجلّ عن الحصر، والصحف المنيرة فيها كثيرة...

ثمّ راح يتساءل: أم ماذا يقال في رجل يقف وحده في وجه الشرك وقومه أجمعين، ليدرأ عن ابن أخيه _ مبعوث الله _ أن يناله طاغية منهم بمكروه؟

ما الرأي فيه إذ يحث آله على مساندة محمّد وشدّ أزره، واتباع دينه، ويدفع بولديه: عليّ وجعفر ليكونا جناحيه، اللذين يحلق بهما في سماء الدعوة؟

بأي معيار نعاير حرصه على سلامة رسول الله (ص) إبان محنة الشِّعب، إذ يغمي على الناس مرقده، ليلة بعد ليلة، فينأبه عنه، ويأمر ولده علياً فيبيت فيه، ليكون هو المقتول لو

ص: 339

سعى عدوّ إلى اغتيال الرسول؟.(1)

وأخيراً لا يسعنا إلاّ أن نقول لهم ما قاله يعقوب لبنيه:

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ). (2)


1- روح المعاني، للآلوسي 5: 40.
2- سورة يوسف: الآية 18.

ص: 340

ص: 341

(15) سعد بن معاذ

اشارة

حسن الحاج

حظيت نخبةٌ صالحةٌ من الصحابة، من المهاجرين والأنصار، بمنزلة عظيمة

عند الله سبحانه وتعالى، وما دام حديثنا عن صحابي جليل وسيّد من الأنصار،

نكتفي بآيتين كريمتين تبيّنان منزلتهم وعظيم شأنهم، ودورهم البارز في خدمة رسالة السماء ونصرة رسولها9 فهم الذين آووا وهم الذين نصروا، كما تصرّحان بأجرهم الذي ينتظرهم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). (1)

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (2)


1- الأنفال: 74.
2- التوبة: 100.

ص: 342

وحظيت (هذه النخبة الصالحة) أيضاً بنصيب وافر من كرم رسول الله (ص) ورعايته وهديه وإرشاده ورضاه، فراحت تستوعب كلّ ما تقدّمه يداه المباركتان من خير عميم وعطاء جسيم، تستوعبه برغبة صادقة، وتتمثّله أسلوب عمل ومنهج حياة، وهدفاً عالياً تسعى إليه، وبذلت من أجله كلّ غال ونفيس، لا تأخذها في ذلك لومة لائم، ولا طغيان طاغ، ولا عناد متكبّر ظالم، ولا تحدّ طموحها، هذا رغبةٌ زائلة ومتاع دنيوي فان، فظلّت مواقفها تتّسم بالشجاعة والثبات; فلم تنقلب،(1)

ولم تبدّل،(2)

ولم تغيّر، فكانت الاستقامة،(3)

حليفها المنشود، وهدفها السامي، بل ومشروع حياتها بكلّ تفاصيلها راحت تسعى إليه، فنالت بذلك أجرها في الآخرة، وغدت في الدُّنيا اُمّةً رساليّة حملت أعباء عظيمة، وتجاوزت مخاطر جسيمة، وخلّفت مبادئ وأهدافاً وأمجاداً وذكريات، راحت تتغنّى بها الأجيال المؤمنة المخلصة والمجاهدة، وتقتدي بها.

والأنصار هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والذين آووا ونصروا، والذين (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ)، والذين قال فيهم رسول الله (ص): «لولا الهجرة لكنتُ امرءاً من الأنصار» ; كان سعد بن معاذ واحداً منهم، بل كان أعظمهم مكانةً وأفضلهم مواقف، وكيف لا يكون كذلك، وقد شحذت همّته وملأت نفسه وروت قلبه قيم ومبادئ مدرسة صنعتها السماء، وراحت يدا رسول الله (ص) تطيّبها ببركاتها، وعيناه ترقبانها، ونفسه الطاهرة تظلّلها، وقلبه يسقيها من مَعِيْنه، الذي لا يعرف النضوب.

إنّه سعد بن معاذ بن النعمان، بن امرئ القيس، بن عبد الأشهل، بن جُشم، بن الحارث، بن الخزرج، بن النَّبيت، بن مالك، بن الأوس الأنصاري الأشهلي، سيّد الأوس. (4)

وأمّا اُمّه فهي كبشة بنت رافع، ولها صحبة. (5)


1- اُنظر آية الانقلاب: (...انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ).
2- اُنظر آية التبديل: (...وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب: 23.
3- اُنظر آية الاستقامة: (... فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).
4- الإصابة 3: 72 ؛ والطبقات 3: 3 ؛ واُسد الغابة ترجمة رقم 2046 ؛ وتهذيب التهذيب.
5- المصدر نفسه.

ص: 343

كان سعد هذا يحتلّ مكانةً مرموقة في قومه الأوس، وكان من كبار أعيانهم بل كان سيّدهم وزعيمهم، ولهذا فقد استمتع بمنزلته الرفيعة، وسمعته الكريمة، بين ذويه وأهله، وكان لها الأثر الواضح في دعوتهم إلى الإسلام؛ فيما حظي بدرجة عالية من المودّة والمحبّة في قلوب المسلمين، وخُصّ بمنزلة كريمة عند رسول الله (ص) وكفى بهذا فخراً وعزّاً وكرامةً، فجعلته هذه المكانة عظيم القدر، جليل الشأن، موضع مشورة رسول الله (ص) وتركت أثراً كبيراً في مفاصل مسيرته وآرائه، ومواقفه الإيمانية والجهادية، شهد له بها عدد من المؤرّخين والمتابعين لحياة الصحابة قديماً وحديثاً.

وقبل أن نتعرّض لبعض ما تيسّر لنا من حياته المباركة، نتحدّث عن قصّة إسلامه.

قصّة إسلامه (رجل أسلم فأسلم معه قومه)

الذي يبدو من خلال تتبّع قصّة إسلام هذا الصحابي الجليل، أنّ إسلامه تمَّ على يد مصعب بن عمير بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، بعد أن بعث رسول الله (ص) مصعباً هذا إلى جمع من الأنصار الذين بايعوه في العقبة، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلّمهم الإسلام وأحكامه.

نزل مصعب بالمدينة على أسعد بن زرارة، فجلسا في دار بني ظفر، واجتمع عليهما رجال ممّن أسلم، فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن خضير، وهما سيّدا بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين اللذين أتيا دارنا فانههما، فإنّه لولا أسعد بن زرارة _ وهو ابن خالتي _ كفيتك ذلك، فأخذ أسيد حربته ثمّ أقبل عليهما، فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا، اعتزلا عنّا؟!

فقال مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّ عنك

ما تكره؟

فقال: أنصفت، ثمّ جلس إليهما فكلّمه مصعب بالإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجلّه! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدِّين؟!

ص: 344

قالا: تغتسل وتطهّر ثيابك، ثمّ تشهد شهادة الحقّ، ثمّ تصلّي ركعتين.

ففعل ذلك وأسلم، ثمّ قال لهما: إنّ ورائي رجلاً، إن تبعكما لم يتخلّف عنكما أحدٌ من قومه، وسأرسله إليكما سعد بن معاذ، ثمّ انصرف إلى سعد وقومه، فلمّا نظر إليه سعد قال: احلف بالله، لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.

فقال له سعد: ما فعلت؟

قال: كلّمت الرجلين، والله ما رأيت بهما بأساً، وقد حدّثت أنّ بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه.

فقام سعد مغضباً مبادراً لخوفه ممّا ذكر له، ثمّ خرج إليهما، فلمّا رآهما مطمئنّين عرف ما أراد أسيد، فوقف عليهما، وقال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا منّي.

فقال له مصعب: أوتقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟!

فجلس، فعرض عليه مصعب الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقال لهما: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدِّين؟

فقالا له ما قالا لأسيد، فتطهّر وأسلم، ثمّ عاد إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن خضير، فلمّا وقف عليهم قال:

يا بني عبدالأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟

قالوا: سيّدنا وأفضلنا.

قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام، حتّى تؤمنوا بالله ورسوله.

قال الراوي: فوالله ما أمسى في دار عبدالأشهل رجل ولا امرأة، إلاّ مسلماً أو

مسلمة. (1)


1- اُنظر السيرة النبوية بهامش السيرة الحلبية 1: 291 ؛ والكامل في التاريخ 1: 611.

ص: 345

مناقب و صفات

عن عائشة أنّها قالت: كان في بني عبدالأشهل ثلاثة لم يكن أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن خضير، وعبّاد بن بشر. (1)

امتلك ابن معاذ مناقب عالية، وخصائص جميلة، وصفات حسنة ; فقد كان يتحلّى بإيمان راسخ، جعله رزيناً في أقواله، حكيماً في أفعاله، متماسكاً فيما يطرحه من آراء... لهذا نراه من أشدّ أصحاب رسول الله (ص) على أعداء الله، فهو لا يخاف في الله لومة لائم، فقد بلّغ بقتل أميّة وهو يمكث بين المشركين، ولم يخشَ في هذا أحداً منهم، وراح يبلّغ جهاراً عن رسول الله (ص) قبل فتح مكّة، وهو ما يزال بين ظهراني مشركي مكّة، دون خوف ولا وَجَل ولا تردّد.

فهذا البخاري يروي في كتاب المغازي من صحيحه، عن ابن مسعود عن سعد ابن معاذ، أنّه قال: كان صديقاً لاُميّة بن خلف، وكان اُميّة إذا مرّ بالمدينة، نزل على سعد، وكان سعد إذا مرّ بمكّة نزل على اُميّة، فلمّا قدم رسول الله (ص) المدينة انطلق سعد معتمراً، فنزل على اُميّة بمكّة، فقال لاُميّة: انظر لي ساعة خلوة لعلّي أن أطوف بالبيت، فزجّ به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبوجهل فقال: يا أبا صفوان من هذا الذي معك؟

فقال: هذا سعد.

فقال له أبوجهل: ألا أراك تطوف بمكّة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنّكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنّك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً.

فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا، لأمنعنّك ما هو أشدّ عليك منه، طريقك إلى المدينة.

فقال له اُميّة: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيّد أهل الوادي.

فقال سعد: دعنا عنك يا اُميّة، فوالله لقد سمعت رسول الله (ص) يقول: إنّهم قاتلوك.


1- اُنظر الإصابة 3: 72 حرف السين.

ص: 346

قال: بمكّة؟

قال: لا أدري.

ففزع لذلك أُميّة فزعاً شديداً، فلمّا رجع اُميّة إلى أهله قال: يا اُمّ صفوان، ألم ترى ما قال لي سعد؟

قالت: وما قال لك؟

قال: زعم أنّ محمّداً أخبرهم أنّهم قاتلي، فقلت له: بمكّة؟ قال: لا أدري.

فقال اُميّة: والله لا أخرج من مكّة.

فلمّا كان يوم بدر استنفر أبوجهل الناس، قال: أدركوا عِيْرَكم. فكره اُميّة أن يخرج، فأتاه أبوجهل فقال: يا أبا صفوان، إنّك متى ما يراك الناس قد تخلّفت وأنت سيّد أهل الوادي، تخلّفوا معك، فلم يزل به أبوجهل حتّى قال: أمّا إذا غلبتني، فوالله لأشترينّ أجود بعير مكّة، ثمّ قال أمية: يا اُمّ صفوان جهّزيني.

فقالت له: يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربيّ؟

قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلاّ قريباً.

فلمّا خرج اُميّة، أخذ لا ينزل منزلاً إلاّ عقل بعيره، فلم يزل بذلك حتّى قتله الله عزّوجلّ ببدر. (1)

وفي ليلة، صعد ابن معاذ على جبل أبي قبيس، وكان برفقته سعد بن عبادة سيّد الخزرج ومن أكابر أعيانهم، وراح ابن معاذ يخاطب المشركين الذين توجّهوا إليه يرونه ويسمعونه، فقد شدّهم إليه علوّ صوته وهو ينشد:

فإن يسلم السعدان يصبح محمد

بمكّة لا يخش خلاف المخالف

فظنّ مشركو مكّة أنّهما سعد بن زيد بن تميم وسعد بن هديم من قضاعة، فلمّا كانت الليلة الثانية سمعوا صوتاً على أبي قبيس:

أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً

ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف


1- اُنظر صحيح البخاري 3: 2.

ص: 347

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنّيا

على الله في الفردوس منية عارف

فإنّ ثواب الله للطالب الهدى

جنانٌ من الفردوس ذات رفارف

فقالوا: هذان والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. (1)

ومنقبة اُخرى تحلّى بها ابن معاذ، رواها الزهري عن ابن المسيّب عن ابن عبّاس أنّه قال: قال سعد بن معاذ: ثلاث أنا فيهنّ رجل، يعني كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس:

ما سمعت من رسول الله (ص) حديثاً قَط إلاّ علمت أنّه حقّ من الله تعالى.

ولا كنت في صلاة قطّ فشغلت نفسي بغيرها حتّى أقضيها.

ولا كنت في جنازة قطّ فحدّثت نفسي بغير ما تقول ويقال لها حتّى أنصرف عنها.

قال ابن المسيب: فهذه الخصال ما كنت أحسبها إلاّ في نبيّ. (2)

سعد وحبّه لأهل البيت:

لقد كان هذا الرجل ذا حظٍّ وفير، وتوفيق عال، أن وفّقه الله تعالى في حبّ أهل بيت النبوّة والرسالة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهو نصّ الآية الكريمة: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (3)

فقد كان ذا علاقة ملؤها الودّ والحبّ والاحترام للإمام علي (ع) فكانت حقّاً منقبةً عظيمة تشرّف بها ابن معاذ رضوان الله عليه، ففي مرّة قال أصحاب رسول الله (ص): ما أعجب أمر هؤلاء الملائكة حملة العرش في قوّتهم وعظم خَلْقهم، فقال رسول الله (ص): هؤلاء مع قوّتهم لا يطيقون حمل صحائف تكتب فيها حسنات رجل من اُمّتي؛ قال: ذلك الرجل، رجل كان قاعداً مع أصحاب له فمرّ به رجل من أهل بيتي مغطّى الرأس فلم يعرفه، فلمّا


1- اُنظر الاستيعاب بهامش الإصابة 2: 37.
2- تهذيب التهذيب 3: 418.
3- الأحزاب: 33.

ص: 348

جاوزه التفت خلفه فعرفه، فوثب إليه قائماً حافياً حاسراً، وأخذ بيده فقبّلها، وقبّل رأسه وصدره وما بين عينيه، وقال: بأبي أنت واُمّي يا شقيق رسول الله، لحمك لحمه، ودمك دمه، وعلمك من علمه، وحلمك من حلمه، وعقلك من عقله، أسأل الله أن يسعدني بمحبّتكم أهل البيت.

فأوجب الله له بهذا الفعل وهذا القول من الثواب، ما لوكُتب تفصيله في صحائفه لم يطق حملها جميع هؤلاء الملائكة الطائفين بالعرش، والملائكة الحاملين له.

فقال له أصحابه لمّا رجع إليهم: أنت في جلالتك وموضعك من الإسلام ومحلّك عند رسول الله (ص) تفعل بهذا ما ترى؟!

فقال لهم: أيّها الجاهلون وهل يُثاب في الإسلام إلاّ بحبّ محمّد وحبّ هذا؟!

فأوجب الله له بهذا القول مثل ما لو كان أوجب له بذلك الفعل والقول أيضاً.

فقال رسول الله (ص): «ولقد صدق في مقاله، لأنّ رجلاً لو عمّره الله عزّوجلّ مثل عمر الدنيا مأة ألف مرّة، ورزقه مثل أموالها مأة ألف مرّة، فأنفق أمواله كلّها في سبيل الله، وأفنى عمره صائم نهاره قائم ليله لا يفتر شيئاً منه ولا يسأم، ثمّ لقى الله تعالى منطوياً على بغض محمّد أو بغض ذلك الرجل الذي قام إليه هذا الرجل مكرماً إلاّ أكبّه الله على منخريه في نار جهنّم، ولردّ الله عزّوجلّ أعماله عليه وأحبطها».

قال: فقالوا: ومَنْ هذان الرجلان يارسول الله؟!

قال رسول الله (ص): «أمّا الفاعل ما فعل بذلك المقبّل المغطّي رأسه فهو هذا _ فتبادر القوم إليه ينظرونه فإذا هو سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري _ وأمّا المقول له هذا القول فهذا الآخر المقبل المغطّي رأسه فنظروا فإذا هو علي بن أبي طالب... ثمّ قال رسول الله (ص): يا عباد الله إنّما يعرف الفضل أهل الفضل، ثمّ قال رسول الله (ص) لسعد: أبشر، فإنّ الله

يختم لك بالشهادة، ويهلك بك اُمّةً من الكفرة، ويهتزّ عرش الرحمن لموتك، ويدخل بشفاعتك الجنّة».(1)


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري (ع) في تفسير أركان العرش؛ سفينة البحار 1: 621.

ص: 349

ابن معاذ ، موضع مشورة النبىّ (ص)

وممّا تمتّع به رضوان الله عليه علوّ القدرة والكفاءة والحكمة العالية والخبرة الواسعة، وقد جعلته هذه الخصائص يحظى بمنزلة رفيعة عند رسول الله (ص) وبموضع مشورته، وهو ما حدث في بدر واُحد والخندق.

ففي وقعة بدر الكبرى، أقبل رسول الله (ص) على أصحابه _ بعد أن وصلته أخبار قريش _ وقال: هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها...

ثمّ راح9 يستشير أصحابه، فقال أبوبكر فأحسن، ثمّ قال عمر فأحسن، ثمّ قال المقداد بن عمرو فقال كلمته المشهورة:

يارسول الله امض ِ لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحقّ، لو سرت بنا إلى برك الغماد _ مدينة الحبشة _ لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه.

فدعا له بخير، ثمّ قال رسول الله (ص): أشيروا عليَّ أيّها الناس، وإنّما يريد (أي رسول الله (ص)) الأنصار; لأنّهم كانوا عدّته للناس، وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلاّ ممّا دهمه بالمدينة، وليس عليهم أن يسير بهم.

وهنا انبرى سعد بن معاذ قائلاً: لكأنّك تريدنا يارسول الله؟!

فقال (ص): أجل.

قال: قد آمنّا بك وصدّقناك، وأعطيناك عهودنا فامض يارسول الله لما أمرت، فوالذي بعثك بالحقّ إن استعرضت بنا هذا الخبر، فخضته لنخوضنّه معك، وما نكره أن تكون تلقى العدوّ بنا غداً، إنّا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله. (1)


1- الكامل في التاريخ 2: 17.

ص: 350

فصحيح أنّ خطابه9 نراه قد توجّه إلى الأنصار، إلاّ أنّ نظره الشريف _ وكما يبدو _ بل محطّ نظره كان سعد بن معاذ سيّد الأوس وزعيمهم يومذاك، وأمثاله من المخلصين، وهو ما أدركه سعد بثاقب بصيرته، فكان جوابه الذي ذكرناه.

وهناك استشارة اُخرى، فقد استشاره رسول الله (ص) واستشار سعد بن عبادة في موضوع الخندق، وحول إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن والحرث بن عوف، وهما قائدا بني غطفان، حتّى يرجعا بقومهما عن حربه، فكان قول سعد: إن كان هذا الأمر لابدّ لنا من العمل به; لأنّ الله أمرك فيه بما صنعت والوحي جاء به، فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي.

فقال (ص): لم يأتني وحي به، ولكنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وجاؤوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.

فقال سعد بن معاذ: قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعرف الله ولا نعبده، ونحن لا نطعمهم من ثمارنا إلاّ قرىً أو بيعاً، والآن حين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا وأعزّنا بك، نعطيهم أموالنا، ما بنا إلى هذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم.

فقال رسول الله (ص): الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه، فإنّ الله لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتّى يُنْجِز له ما وعده. (1)

وسعد بن معاذ هو الذي كان قد أشار أو اقترح على رسول الله (ص) أن يبني له عريشاً في معركة بدر، للدفاع دونه قائلاً:

يارسول الله، نبني لك عريشاً من جريد، فتكون فيه، ونترك عندك رَكَائِبكَ، ثمّ نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله وأظهرنا الله عليهم، كان ذلك ممّا أحببناه، وإن كان الاُخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشدّ حبّاً لك


1- الكامل في التاريخ 2: 72 وفيه: وترك ذلك رسول الله (ص)؛ وانظر أيضاً: الإرشاد للمفيد 2: 20.

ص: 351

منهم، ولو ظنّوا أنّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويحاربون معك؛ فأثنى عليه خيراً، ثمّ بنى لرسول الله (ص) العريش. (1)

موقفه الواعي من أسرى بدر

بما أنّ معركة بدر كانت الأولى، والمسلمون كانوا قلّة فيها، فإنّ الإكثار من القتل في صفوف المشركين ممّا يقلّل عددهم، ويربك وضعهم، ويذلّ كبرياءهم، بل يكسر شوكتهم، ويرتدع غيرهم، ويجعلهم يحسبون ألف حساب إذا ما قرّروا العودة إلى قتال المسلمين.

لهذا نرى موقف بعض المسلمين _ وهم الواعون للموقف وأهدافه _ رفضوا الإكثار من أسرى المشركين، ورفضوا طلب المال. (2)

وكان سعد بن معاذ من هؤلاء الواعين لخطورة الموقف في معركة بدر، ومن الكارهين لما فعله بعض المسلمين، وهو الإكثار من الغنائم ومن الأسرى، رغبةً في الفداء.

تقول الرواية عن ابن إسحاق: فلمّا وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله (ص) في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله (ص) متوشّحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله (ص) يخافون عليه كثرة العدوّ، ورأى رسول الله (ص) فيما ذكر لي في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله (ص): «والله لكأنّك يا سعد تكره ما يصنع القوم!».

قال: أجل والله يارسول الله، كانت أوّل وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان أحبّ إليّ من استبقاء الرجال.

وقد جاء الآية القرآنية: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، رافضةً للحالة التي انتابت جمعاً من


1- اُنظر الكامل في التاريخ 2: 20 ، والاستيعاب بهامش الإصابة 2: 38.
2- اُنظر المقالة «موقف رسالي من أسرى بدر وبني قريظة»، في العدد 16 من هذه المجلّة.

ص: 352

المقاتلين المسلمين في ساحة معركة بدر، والذين راحوا يتسابقون لأخذ المشركين أحياء أسرى، ليفادوهم فيما بعد.

سعد و معركة اُحد

سجّل لنا التأريخ أنّ لسعد بن معاذ آراء ومواقف جليلة في معركة اُحد وقبلها، فقد وافق رأيهُ رأيَ رسول الله (ص) ورأي أكابر الصحابة من المهاجرين والأنصار، وهو عدم الخروج لمواجهة عدوّهم من مشركي قريش، والاكتفاء بالبقاء داخل المدينة، وتثبيت مواقعهم، ورصّ صفوفهم لخوض القتال ضدّ المشركين القادمين من مكّة، للاقتصاص من المسلمين والانتقام لما حلَّ بهم من هزيمة نكراء في معركة بدر الكبرى.

فيما خالف جمع آخر من الصحابة، وقالوا لرسول الله (ص) : أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرونا إنّا جبنّا عنهم.

وكان ممّن وافق هذا الجمع الأخير على هذا الرأي حمزة بن عبدالمطّلب، وكانوا يلحّون على موقفهم هذا، ولم يزالوا برسول الله (ص) وبالصحابة الآخرين حتّى وافق على ذلك، فصلّى بالناس، ثمّ وعظهم وأمرهم بالجدّ والاجتهاد، وأخبرهم أنّ لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك، ثمّ صلّى بالناس العصر وقد حشدوا، وقد حضر أهل العوالي، ثمّ دخل رسول الله بيته ومعه أبوبكر وعمر فعمّماه ولبّساه، وصفّ الناس ينتظرون خروجه9 فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد ابن خضير: استكرهتم رسول الله (ص) على الخروج، فردّوا الأمر إليه، أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأياً فأطيعوه.

فخرج رسول الله (ص) وقد لبس لامته.

فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت.

وفي رواية فإن شئت فاقعد، وقال (ص) : «قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم، وما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يحكم الله بينه وبين أعدائه..». (1)


1- المغازي، للواقدي 1: 208؛ والسيرة الحلبيّة 2: 219.

ص: 353

وهنا راح ابن معاذ وصاحبه أسيد بن خضير وزعيم الخزرج سعد بن عبادة يحملون سلاحهم ويقفون بباب الرسول (ص) طيلة ليلتهم حتّى أصبحوا، ثمّ خرجوا _ وعلى رواية هو وسعد بن عبادة _ أمام رسول الله (ص) دارعين يعدوان. (1)

وما إن وقعت معركة أُحد واشتدّت حتّى كان من أولئك النفر الثابتين فيها، فهذا الواقدي في مغازيه يقول: وثبت رسول الله (ص) كما هو في عصابة صبروا معه أربعة عشر رجلاً، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار... ومن الأنصار الحبّاب بن المنذر... وسعد بن معاذ. (2)

وفي طريق عودتهم كان ابن معاذ آخذاً بلجام فرس رسول الله (ص) وإذ هو في هذه الحالة جاءت اُمّه تعدو نحو رسول الله (ص) وهو على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بلجامها، فقال له سعد: يا رسول الله اُمّي.

فقال (ص) : مرحباً بها، فوقف لها فدنت حتّى تأمّلت رسول الله (ص) فعزّها رسول الله (ص) بابنها عمرو بن معاذ، فقالت: أمّا إذا رأيتك سالماً، فقد استويت المصيبة، أي استقلّيتها، ودعا رسول الله (ص) لأهل من قتل بأُحد، أي بعد أن قال لاُمّ سعد: أبشري وبشّري أهلهم أنّ قتلاهم ترافقوا في الجنّة جميعاً، ثمّ شفعوا في أهلهم جميعاً.

قالت: رضينا يارسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا، ثمّ قالت: يارسول الله ادع لمن خلفوا، فقال: أللّهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا. (3)

ولمّا سمع بكاء النبيّ الله (ص) على حمزة وقوله: حمزة لا بواكي له، أمر ابن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله (ص) يبكين حمزة بن عبدالمطّلب بين المغرب والعشاء. (4)

وفي خبر آخر: وانصرف رسول الله (ص) إلى المدينة حين دفن القتلى، فمرّ بدور بني الأشهل وبني ظفر، فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ، فترقرقت عينا رسول الله (ص) وبكى،


1- اُنظر السيرة الحلبيّة 2: 219 ؛ والمغازي 1: 205.
2- المغازي 1: 240.
3- المصدر نفسه 1: 254.
4- اُنظر الكامل في التاريخ 2: 56 ؛ والسيرة الحلبيّة 2: 254.

ص: 354

ثمّ قال: لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم، فلمّا سمعها سعد بن معاذ وأسيد بن خضير، قالوا: لا تبكينّ امرأة حميمها حتّى تأتي فاطمة فتسعدها، فلمّا سمع رسول الله (ص) الواعية على حمزة _ وهو عند فاطمة على باب المسجد _ قال: إرجعن رحمكنّ الله، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ. (1)

سعد و الأحزاب

في السنة السادسة للهجرة النبوية، وقعت معركة الأحزاب، فكان لهذا الصحابي الجليل مواقف مشهودة، منها ما ذكرناه سابقاً من استشارة رسول الله (ص) له في إعطاء ثلث ثمار المدينة إلى عيينة بن حصن، والحرث بن عوف، وما أبداه سعد من رأي.

ومنها أنّه9 أرسله يرافقه سعد بن عبادة، وابن رواحة، وخوات بن جبير إلى بني قريظة، للاستخبار عن صحّة ما بلغه9 من خيانتهم، ونقض العهد الذي أبرم بينهم وبين رسول الله (ص) وقال لهم: انطلقوا حتّى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقّاً فالحنوا لي لحناً أعرفه دون القوم.. وإلاّ فاجهروا بذلك بين الناس... فخرجوا حتّى أتوا بني قريظة، فوجدوهم قد نقضوا العهد،(2) ونالوا من رسول الله (ص) وتبرّؤوا من عقده وعهده، وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمّد، فشتمهم سعد بن معاذ وهم حلفاؤه.. ثمّ أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله (ص) فكنّوا له عن نقضهم العهد، أي قالوا عضل والقارة، أي غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع. (3)

وكان سعد بن معاذ ينتظر في معركة الأحزاب أن يكون له دوره الرسالي البارز، فكان مستعدّاً ومتدرّعاً يحمل حربته كأعظم مجاهد يحمل همّ الرسالة والحرص عليها ضدّ

أعداء الله ورسوله، وراح يتمثّل بأبيات كأنّه ينتظر الشهادة في طريق ذات الشوكة، فهذا ابن إسحاق يقول: وحدّثني أبو ليلى عبدالله بن سهل ابن عبدالرحمن بن سهل الأنصاري


1- اُنظر إعلام الورى: 94.
2- أمّا اليعقوبي فيقول: فذكروهم العهد وأساءوا الإجابة 2: 52.
3- اُنظر السيرة الحلبيّة 2: 316.

ص: 355

أخو بني حارثة: أنّ عائشة اُمّ المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة ; قال: وكانت اُمّ سعد بن معاذ معها في الحصن، فقالت عائشة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب: فمرّ سعد _ وعليه درع له مقلّصة(1) قد خرجت منه ذراعه كلّها _ وفي يده حربته يرقد بها ويقول:

لبِّث قليلاً يشهد الهيجا جمل

لا بأس بالموت إذا حان الأجل

قال: فقالت له اُمّه: الحق أي النبي، فقد والله أخّرت، قالت عائشة: فقلت لها: يا اُمّ سعد والله لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ،(2) ممّا هي، قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل، رماه _ كما حدّثني عاصم بن عمير بن قتادة _ حِبّان بن قيس بن العَر ِقة. (3)

دعاء مستجاب

فقال له سعد: عرَّق الله وجهك في النار، أللّهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ أن أجاهدهم من قوم آذَوْا رسولك وكذّبوه وأخرجوه، أللّهم إن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تُمتني حتّى تُقرّ عيني من بني قريظة، فكان دعاؤه هذا مستجاباً حيث الجزاء التعادل الذي حلّ ببني قريظة على جنايتهم وقد حكم به سعد ورآه واقعاً.

فيما قال ابن إسحاق: وحدّثني من لا أتّهم عن عبدالله بن كعب بن مالك أنّه كان يقول:

ما أصاب سعداً يومئذ إلاّ أبواُسامة الجُشمي، حليف بني مخزوم، وقد قال أبواُسامة في ذلك شعراً لعكرمة بن أبي جهل:


1- مقلّصة: قصيرة قد ارتفعت، يقال: تقلّص الشيء إذا ارتفع وانقبض.
2- أسبغ: أكمل.
3- العرقة: هي قلابة بنت سعد بن سعد بن سهم، وتكنّى اُمّ فاطمة، وسمّيت العرقة لطيب ريحها، وهي جدّة خديجة، اُمّ اُمّها هالة؛ اُنظر الروض.

ص: 356

أعكرمَ هلاّ لُمتني إذ تقول ليفداك بآطام(1)

المدينة خالد

ألستُ الذي ألزمتُ سعداً مُرِشةً(2)

لها بين أثناء المرافق عاند(3)

قضى نحبه منها سعيد فأعولت(4)

عليه مع الشُّمط(5) العذارى النواهد(6)

وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا

عُبيدة جمعاً منهم إذ يكابد

على حين ما هم جائر عن طريقه

وآخر مرعوب(7) عن القصد قاصد

فيما قال ابن هشام:

يقال: إنّ الذي رمى سعداً خفاجة بن عاصم بن حِبّان. (8)

لقد آلمت إصابةُ سعد بجرح بليغ قلبَ رسول الله (ص) وقلوب المؤمنين، ممّا حدا برسول الله (ص) أن يُصدر أمره بنقل سعد إلى مسجده حيث خيمة رُفيدة، وهي امرأة من أسلم، وقيل: إنّها أنصارية،(9)

وكانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله (ص) قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: إجعلوه في خيمة رُفيدة، حتى أعوده من قريب. (10)

الجزاء العادل

بنو قريظة إحدى طوائف ثلاث (بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) كانت

تمثّل الوجود اليهودي في المدينة المنوّرة، وكانوا قد اتّخذوا من أطراف يثرب سكناً


1- الآطام: الحصون والقصور ، الواحد: أطم.
2- مرشة: رمية أصابته فأطارت رشاش الدم منه، ومريشة.
3- عاند: العرق الذي لا ينقطع منه الدم.
4- أعولت: بكت بصوت مرتفع.
5- الشمط: جمع شمطاء، وهي التي خالط شعرها الشيب.
6- العذارى: الأبكار، والنواهد: جمع ناهد، وهي التي ظهر نهدها.
7- المرعوب: المفزع، وقد روي بالغين: أي رغب عن القصد، تركه.
8- اُنظر السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 237 _ 238.
9- اُنظر الإصابة؛ وشرح المواهب.
10- اُنظر السيرة النبوية، لابن هشام 3: 250.

ص: 357

ومأوى لهم، بعد أن طردهم نبوخذنصر من الشام وشتّت جمعهم، وراح يلاحقهم

حتى لم يجدوا في الأرض مأمناً إلاّ يثرب، فسكنوا فيها، واتّسعت تجارتهم وقويت فيها شوكتهم، ولكنّ قلوبهم لم تطهر، وكأنّها أورثت التآمر والحقد على غيرهم من طوائف الناس.

وما إن حلّ رسول الله (ص) في المدينة بعد هجرته إليها من مكّة، حتّى راح يبني دولته وأُسسها مستعيناً بالله تعالى وبالمؤمنين من المهاجرين والأنصار، وبما أنّه كان مدركاً وعارفاً بتركيبة مجتمع يثرب، التي كان اليهود بطوائفهم (بنو قينقاع، وبنوالنضير، وبنوقريظة) يشكّلون دوراً مهمّاً فيها خاصّة بجانبها الاقتصادي، فقد وادعهم متعهّداً باحترام عقائدهم، وحرّية عباداتهم وشعائرهم، وترك لهم فرص العمل _ كغيرهم _ بأمن وسلام... ما داموا موادعين مسالمين لا يهجمون على مسلم ولا ينصرون عدوّاً للمسلمين، ولا يعكّرون أمناً ولا يسيئون إلى جوار... إلاّ أنّ بغضهم وحقدهم ونفوسهم الأمّارة بالسوء، كلّ هذا وغيره شجّعهم على نقض العهد مع الرسول (ص)، وراحوا يحرّضون على قتال المسلمين ويتعاونون مع المنافقين والمشركين، ويقدّمون إليهم ما يحتاجونه لتقويض الدولة الفتيّة، التي راح نبيّ الله (ص) يبنيها بجهود أصحابه وأتباعه، فما كان من رسول الله (ص) إلاّ أن أجلا بني النضير وبني قينقاع عن قراهم، فذهب جمع منهم إلى منطقة أدرعات، فيما ذهب آخرون

منهم إلى خيبر، وقد اكتفى الرسول (ص) بهذا الإجراء; لأنّ خيانتهم لم ترتق ِ إلى أكثر من

هذه العقوبة.

أمّا بنو قريظة، فكان لرسول الله (ص) معهم أمر آخر وحكم أشدّ; لعظم خيانتهم التي كلّفتهم حياتهم.

خيانتهم

كانت جريمة بني قريظة قد بدأت بيحيى بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وهما من كبار ومن زعماء بني النضير، اللذين حرّضا قريشاً ومشركي غطفان على قتال الرسول (ص)

ص: 358

وحرّضا بني قريظة أيضاً على نقض عهدهم الذي أُبرم مع الرسول (ص) ثمّ الانضمام إلى عشرة آلاف مقاتل من مشركي قريش وغطفان، الذين راحوا يتمركزون حول المدينة بقيادة أبي سفيان، والذين منعهم من اجتياز المدينة حفرُ المسلمين للخندق.

لقد ارتضى كعب بن أسد زعيم بني قريظة أن يكون طابوراً يقوّض صفّ المسلمين من داخل المدينة، وقطع على نفسه أن يكون شريكاً للمشركين في قتالهم للمسلمين، وبدأ يمدّهم بالعون والمساعدة، فكان بهذا قد ارتكب دوراً قذراً وخطيراً يهدّد وحدة المسلمين وقدرتهم القتالية، وأصرّ على موقفه هذا، وهو ما لمسه وعرفه مبعوثا الرسول (ص) وهما سعد بن معاذ زعيم الأوس وسعد بن عبادة زعيم الخزرج، وشخصان آخران كانا برفقة هذين الزعيمين، اللّذان ترأسا وفداً يستطلع الأمر ويتحقّق منه، ويبذل جهده لإقناع بني قريظة بالعدول عن موقفهم الخيانيّ هذا، وباءت جهود هذا الوفد بالفشل، فما كان من الوفد إلاّ أن أعلن تهديده بجزاء أشدّ ممّا حلّ ببني قينقاع وبني النضير، خاصّةً بعد أن رأى عنادهم وشدّة إصرارهم على موقفهم الخيانيّ هذا. (1)

وفي آخر الوقت، وبعد أن أنهكهم حصار رسول الله لهم، نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله (ص) وشفعت لهم الأوس وكانوا حلفاءَهم في الجاهلية.

تقول الرواية:... فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله (ص) فتواثبت الأوس، فقالوا: يارسول الله، إنّهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت _ وقد كان رسول الله (ص) قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إيّاهم عبدالله بن اُبيّ بن سلول، فوهبهم له _ فلمّا كلّمته الأوس، قال رسول الله (ص):

«ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟»

قالوا: بلى.


1- اُنظر تفصيل هذا كلّه، وكيف باءت جهود بني قريظة وغيرهم، بالفشل، وأحبطت، مؤامرتهم، وما حلّ بهم من جزاء، في العدد: 16 من هذه المجلّة، الصفحات 176_ 186.

ص: 359

قال رسول الله (ص): «فذاك إلى سعد بن معاذ».

فلمّا حكّمه رسول الله (ص) في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطّئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً؛ ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله (ص) وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإنّ رسول الله (ص) إنّما ولاّك ذلك لتُحسن فيهم، فلمّا أكثروا عليه قال:

لقد أنى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم!

فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبدالأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه.

فلمّا انتهى سعد إلى رسول الله (ص) والمسلمين، قال رسول الله (ص): قوموا إلى سيّدكم _ فأمّا المهاجرون من قريش، فيقولون: قد عمّ رسول الله (ص) _ فقاموا إليه، فقالوا: يا أباعمرو، إنّ رسول الله (ص) قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم.

فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمتُ؟

قالوا: نعم.

قال: وعلى مَن هاهنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله (ص) وهو مُعر ِض عن رسول الله (ص) إجلالاً له.

فقال رسول الله (ص): نعم.

قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذراري

والنساء.

قال ابن إسحاق:

فحدّثني عاصمُ بن عمر بن قتادة عن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقّاص الليثي، قال: قال رسول الله (ص) لسعد: لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. (1)


1- الأرقعة: السماوات، الواحدة: رقيع; وانظر السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 249 _ 251.

ص: 360

رحيله رضوان الله عليه

حقّاً (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). (1)

مات شهيداً، فقد وفى بعهده الذي عاهد الله عليه، وألزم نفسه ألاّ ينكل عن العِدى أو يقتل في سبيله تعالى.

أُمنية تحقّقت لأنّها كانت صادقة، وطموح طالما عاش من أجله، لم تبخل به السماء ; لأنّه طموح المخلصين الصّادقين (فاجعله لي شهادةً)، لم يمهله ذلك الجرح طويلاً، فما أن انقضى شأن بني قريظة بليال، وبعد شهر من إصابته (ولا تمتني حتّى تُقرّ عيني من بني قريظة) حتّى انفجر بسعد بن معاذ جرحه، الذي انقضّ عليه، فاستشهد منه سنة خمس للهجرة النبويّة، وقد ختم حياته المملوءة إيماناً وجهاداً ختمها برحاب ربٍّ كريم، وجنّة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتّقين، يلاحقه دعاء رسول الله (ص) واستغفاره، ورضاه عنه وشفاعته له.

وما أسرع انتشار خبر استشهاد هذا الصحابي الجليل، الذي شرح الله سبحانه صدره للإيمان، ومنَّ عليه بالاستقامة وحبّبها إليه وزيّنها في قلبه، وتبنّاها سلوكاً له حتّى عُرف بها، فاستحقّ أعظم وسام يزيّن صدره يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إنّه الشهادة التي منّت بها السماء عليه يوم الخندق.

يقول ابن إسحاق: ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلاّ ستّة نفر.

من بني عبدالأشهل: سعدُ بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبدالله بن سهل، ثلاثة نفر.

ومن بني جُشم بن الخزرج، ثمّ من بني سلمة: الطفيل بن النّعمان، وثعلبة بن غنمة، رجلان.


1- الأحزاب: 23.

ص: 361

ومن بني النجّار، ثمّ من بني دينار: كعب بن زيد، أصابه سهم غَرْب(1)، فقتله.

فما إن سمع رسول الله (ص) بخبر وفاة سعد حتّى قام سريعاً، يجرّ ثوبه إلى سعد، فوجده قد استشهد.

فما أشدّ وقع هذا الخبر على قلب رسول الله (ص) وقلوب أصحابه، الذين راحت أصواتهم تعلو، وعيونهم تبكيه بحرقة وألم.

تقول الرواية:

قالت عائشة: سمعت بكاء أبي بكر وعمر وأنا في حجرتي.

وفي رواية يذكرها صاحب السيرة النبوية: أنّ ابن إسحاق قال: حدّثني من شئت من رجال قومي: أنّ جبرئيل7 أتى رسول الله (ص) حين قُبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجراً بعمامة من استبرق، فقال: يا محمّد، مَنْ هذا الميّت الذي فتحت له أبوابُ السماء واهتزّ له العرش؟!

قال: فقام رسول الله (ص) سريعاً يجرّ ثوبه إلى سعد فوجده قد مات. (2)

وفي خبر آخر:... انفجر جرح سعد بن معاذ وسال الدم، واحتضنه9 فجعلت الدماء تسيل على رسول الله (ص) فمات منه. (3)

وفي السيرة الحلبيّة: عن سلمة بن أسلم بن حريش أنّه قال: دخل رسول الله (ص) وما في البيت أحدٌ إلاّ سعد مسجّى، فرأيته يتخطّى، وأومأ إلي قف، فوقفت ورددّت مَنْ ورائي، وجلس9 ساعة ثمّ خرج، فقلت: يارسول الله، ما رأيت أحداً أو رأيتك تتخطّى.

فقال: ما قدرت على مجلس حتّى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه. (4)


1- سهمُ غَرْب، وسهمٌ غربٌ، بإضافة وغير إضافة، وهو الذي لا يُعرف من أين جاء ولا من رَمى به؛ السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 264.
2- اُنظر هامش الصفحة 262 من الجزء الثالث لسيرة ابن هشام.
3- اُنظر السيرة الحلبيّة 2: 344.
4- المصدر نفسه 2: 344.

ص: 362

وفي سفينة البحار: أنّه9 مشى خلف جنازته حافياً بغير رداء، يأخذ على يمين السرير مرّةً وعلى يساره اُخرى. (1)

وفي الاستيعاب: أنّه9 قال: لقد نزل الملائكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطؤوا الأرض. (2)

وقد صلّى عليه رسول الله (ص) مع تسعين ألف ملك فيهم جبرئيل كما ورد في سفينة البحار. (3)

وفي أمالي الطوسي: أنّ النبيّ الله (ص) صلّى على سعد بن معاذ، وقال: لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك _ وفيهم جبرئيل _ يصلّون عليه.

فقلت: يا جبرئيل بما استحقّ صلاتكم عليه؟!

فقال: بقراءة قل هو الله أحد قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائياً. (4)

وحديث اهتزاز العرش لموت سعد _ كما يقول محقّقوا السيرة النبويّة لابن هشام _ صحيح، وهو ثابت من طرق متواترة، ورواه عدّة من الرواة.

وعن ابن إسحاق أنّه قال: وحدّثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن أنّها قالت:

أقبلت عائشة قافلةً من مكّة، ومعها أسيد بن خضير، فلقيه موت امرأة له، فحزن عليها بعض الحزن، فقالت له عائشة: يغفر الله لك يا أبا يحيى، أتحزن على امرأة وقد أُصبت بابن عمّك، وقد اهتزّ له العرش؟!

ثمّ قال ابن إسحاق: وحدّثني من لا أتّهم عن الحسن البصري قال: كان سعد رجلاً بادِناً، فلمّا حمله الناس وجدوا له خِفّة، فقال رجال من المسلمين: والله إن كان لبادناً، وما حملنا من جنازة أخفَّ منه، فبلغ ذلك رسول الله (ص) فقال: إنّ له حملةً غيركم، والذي نفسي


1- سفينة البحار 1: 621؛ إعلام الورى: 103.
2- اُنظر الاستيعاب بهامش الإصابة 2: 29.
3- سفينة البحار 1: 621.
4- أمالي الطوسي: 437.

ص: 363

بيده، لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتزّ له العرش.

وفي الصحيحين وغيرهما من طرق أنّ النبيّ الله (ص) قال: اهتزّ العرش لموت سعد.

وعن جابر بن عبدالله أنّه قال: لمّا دُفن سعد _ ونحن مع رسول الله (ص) _ سبّح رسول الله (ص) فسبّح الناس معه، ثمّ كبّر فكبَّر الناس معه، فقالوا: يارسول الله، ممّ سبّحت؟

قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره، حتّى فرّجه الله عنه.

قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة: قال رسول الله (ص): إنّ للقبر لضمّةً لو كان أحد منها ناجياً، لكان سعد بن معاذ.

وقال رجل من الأنصار في سعد:

وما اهتزّ عرش الله من موت هالك

سمعنا به إلاّ لسعد أبي عمرو

وأمّا اُمّه، فقد قالت _ وهي ترى نعشه محمولاً على الأكفّ، والقلوب تودّعه والعيون تبكيه _ :

ويل اُمِّ سعد سعداً

صرامةً وحدَّا

وسُؤدداً ومجداً

وفارساً مُعدّا

مُسدّ به مَسَدّا

يَقدُّ هاماً قدَّا

ونختم هذا بقول رسول الله (ص) فيه: كلّ نائحة تكذب، إلاّ نائحة سعد ابن معاذ.

دفنه رسول الله (ص) في البقيع الغرقد، فقد تولّى حفر قبره أبوسعيدالخدري وبعض الصحابة، يقول أبوسعيد: كنت ممّن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلّما حفرنا قبره من تراب.

ولمّا أقبر رسول الله عليه في ملحدوته، قالت اُمّه:

أحتسبك عند الله؛ وكان رسول الله (ص) واقفاً على قبره فبادر وعزّاها، ثمّ دعا له وانصرف9.

ثمّ لمّا سمع9 اُمّه تنوح عليه أراد تسليتها فقال: لا تزيدي على هذا، كان والله ما علمت حازماً في أمر الله قويّاً.

ص: 364

ثمّ راح9 يخاطب سعداً بقوله: رحمك الله ياسعد، فلقد كنت شجّاً في حلوق الكافرين، لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة الإسلام كعجل قوم موسى. (1)

ونختم مقالتنا هذه عن الصحابيّ الكبير سعد بن معاذ بمرثية حسّان بن ثابت، يبكيه فيها ويذكر حكمه في بني قريظة:

لقد سَجَمت(2)

من دَمع عينيَ عبرةٌ

وحُقّ لعيني أن تفيض على سعد

قتيلٌ ثوى في معركٍ فُجعت به

عيون ذَوارِي الدمع دائمةُ الوجد(3)

على مِلّةِ الرحمن وارثَ جنّة

مع الشهداء وَفدها أكرم الوفد

فإن تك قد ودّعتنا وتركتنا

وأمسيتَ في غبراء مُظلمة اللَّحد

فأنت الذي يا سعد اُبتَ بمشهدٍ

كريمٍ وأثواب المكارم والحمد

بحكمك في حَيَّى قريظة بالذي

قضى اللهُ فيهم ما قَضَيت على عمد

فوافق حكمَ الله حكمُك فيهم

ولم تعفُ إذ ذُكّرت ما كان من عهد

فإن كان ريبُ الدهر أمضاك في الألى

شروا هذه الدُّنيا بجنّاتها الخلد

فَنِعْم مصير الصّادقين إذا دعوا

إلى الله يوماً للوجاهة والقصد

وفي مقطوعة شعرية اُخرى، راح حسّان يرثي سعداً ورجالاً آخرين من أصحاب رسول الله (ص) استشهدوا، ويذكّرهم بما كان فيهم من فضل وخير وعطاء، كان منها:

صبابة وجد ذكّرتني أحبّةً

وقتلى مضى فيها طفيل ورافع

وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت

منازلهم فالأرض منهم بلاقع(4)

وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم

ظلال المنايا والسيوف اللوامع

دعا فأجابوه بحقّ وكلّهم

مطيعٌ له في كلّ أمر وسامع

فما نكلوا حتّى تولّوا جماعةً

ولا يقطع الآجال إلاّ المصارع


1- اُنظر سيرة ابن هشام؛ والإصابة 3: 72 وغيرهما.
2- سجمت: سالت.
3- ثوى: أقام؛ والمعرك: موضع القتال؛ وذواري الدمع: تسكبه؛ والوجد: الحزن.
4- بلاقع: قفار خالية.

ص: 365

لأنّهم يرجون منه شفاعةً

إذا لم يكن إلاّ النبيّون شافع

فذلك يا خيرَ العباد بلاؤنا

إجابتنا لله والموت ناقع(1)

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا

لأوّلنا في ملّة الله تابع(2)

ونعلم أنّ الملك لله وحده

وأنّ قضاء الله لابدّ واقع

فسلامٌ عليك يا سعد في الخالدين.


1- بلاؤنا: اختبارنا؛ ناقع: ثابت.
2- القدم الأولى: السبق إلى الإسلام؛ خلفنا: آخرنا.

ص: 366

ص: 367

(16) جابر بن عبدالله الأنصاري

اشارة

محسن الأسدي

في أكثر من مقالة، نشرت في هذه المجلة، تناولت في خلالها العديد من شخصيات الحرمين الشريفين مكة والمدينة، وهم من شخصيات العصر الأول لانبثاق رسالة السماء الخالدة، في ربوع الحجاز وفي المدينة وما حولها، حتى راحت ترتفع رايتها _ راية الحقّ والعدل والمساواة _ في كلّ بلدان الأرض وفجاجها؛ وتحدّثت وبشكل مختصر واضح عن ملاكاتهم الذاتية التي أحيتها الدعوة الجديدة، وعمّا قدّموه من تضحيات بالأنفس والأموال لإرساء دعائمها، ولمنع كيد الأعداء عنها، وترصّدهم للإطاحة بها، كلّ ذلك من أجل أن تبقى أمانةً سماويةً خالصةً تتوارثها الأجيال، وتستنير بها وتستضيء بمفاهيمها وعطائها الذي لا يعرف النضوب، إلاّ أنّي ما إن أنتهي من واحد منهم حتى أصل إلى آخر لا يقلّ سموّاً عن الأول، وكأنّهم واحد في صفاتهم وعطائهم، أو كأنّهم يتسابقون في الخيرات، وكيف لا يكونون كذلك وهم إعداد مدرسة ربانيّة واحدة ذات هدف واحد ومنهج واحد ومبادىء وقيم واحدة، إرتووا من معين رباني واحد، ولا غرابة في ذلك أيضاً بعد أن أحبوا الله ورسوله، وطلبوا رضوانه، وملئت نفوسهم شوقاً إلى لقائه، لهذا نراهم يطلبون الموت

ص: 368

ويتحاثون عليه.

لقد كانت المدرسة التي انضووا تحت لوائها مدرسةً رائعةً، وعطاؤها التربوي كان عطاءً صادقاً، إنّها مدرسة رسول الله (ص) وإنّها تربيته الإيمانيّة الخالصة، فخلّفت طائفةً طيبة، ونخباً صالحةً، وزمراً نافعةً خالدةً، لهذا كان حبّهم لرسول الله (ص) عظيماً، ووفاؤهم له صادقاً، اضطر ذلك الحبّ وهذا الوفاء أبا سفيان، أكبر أعداء الرسالة وأخطرهم وأبغضهم لرسول الله (ص) ولمن تبعه من الأصحاب، اضطره أن يقول قولته المشهورة، وقد أطلقها مرغماً بعد أن لم يجد لها بديلاً، وبعد أن رأى الحقيقة ساطعة، لا تخفى: «ما رأيت من الناس أحداً يحبُّ أحداً كما يحبّ أصحاب محمد محمداً!».

والأنصار هؤلاء (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) فاستحقوا أن يصفهم القرآن الكريم بأنهم: (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وهم الذين _ حسب تعبير القرآن الكريم _ (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ).

وقال رسول الله (ص) فيهم: «لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار».

والأنصاري هذا كان واحداً منهم؛ بل من القلة الذين لم تتفرّق بهم السبل بعد النبي (ص) ولم يستبقوا الصراط بعده، وظلّوا معتصمين متمسّكين به وبآل بيته الطاهرين:.

إنّه جابربن عبدالله بن عمروبن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن مسلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جُشم بن الخزرج.

ولد سنة 16 قبل الهجرة النبويّة المباركة، ويكنى ب_ (أبوعبدالله) ويقال له: أبوعبدالرحمن، أو أبومحمد الأنصاري الخزرجي السلمي الحرامي المدني.

كان واحداً من تلك الطائفة المؤمنة والنخبة الصالحة، وخريج تلك المدرسة الربانية النبويّة، وكان صحابياً ذائع الصيت، متميّزاً في دينه وإيمانه ومواقفه وولائه لرسول الله (ص) وأهل بيت رسول الله (ص) بيت العصمة والطهارة، وكان معروفاً في علمه ومعرفته ; فقد كان من كبار الصحابة المفسّرين للقرآن، والراوين للأحاديث النبويّة، ولأخبار أهل البيت: ورواياتهم، بل لقد روى عنه أحد أئمة أهل البيت: وهو الإمام محمد الباقر7 كما سنرى.

ص: 369

بيعته

ظلّ جابر هذا _ وهو من أكابر أعيان أهل المدينة _ ذا منزلة كبيرة، وسمعة كريمة، وهب كلّ وجوده لخدمة رسول الله (ص) ووضع نفسه وحشاشة قلبه لمواصلة مسيرة الإسلام الجهادية، والعلمية، معرفةً وتفسيراً وروايةً، ومواقف رصينة شهدت له بها أكثر مشاهد رسول الله (ص) ومحافل المسلمين حتى وفاته رضوان الله تعالى عليه، بعد أن آمن برسول الله (ص) ورسالته صبياً.

وكان يومها مع أبيه في تلك الليلة التأريخية المصيرية التي عاهد فيها أهل يثرب (الأوس والخزرج) رسول الله (ص) على الدفاع عنه، ودعم مسيرته الظافرة ونصرته، وكانت بيعتهم يومذاك هي البيعة المشهورة المعروفة في التأريخ الإسلامي ب_ (بيعة العقبة الثانية).

ولما دخل رسول الله (ص) المدينة مهاجراً، راح هذا يقضي أكثر وقته في صحبة رسول الله (ص) وفي خدمته، فشهد معه حروبه وظلّ حارساً أميناً لهذا الدين وللحق الذي يمثله، ولرجاله المخلصين المتمثلين في أهل بيت النبوّة والطهارة، فلم يدّخر وسعاً في تبيان منزلة الإمام علي (ع) والتنويه بها والتحريض على اتباعها، والتي كانت من رسول الله (ص) كمنزلة هارون من موسى، كما عبر عنها نبي الرحمة9: «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي»، حتى قضى عمره الشريف كلّه مستقيماً، لم تعرف حياته الانحراف على طولها، وقد امتدت لأكثر من تسعين سنة، فكان آخر أصحاب رسول الله (ص) توديعاً لهذه الحياة، ولحوقاً به9 .

قلنا: إنّه ممّن شهد بيعة العقبة الأخيرة والتي تسمى (بيعة الحرب)، فحينما أذن الله لرسوله9 في القتال، وبعد أن تمّت البيعة الأولى أي العقبة الأولى، التي كانت كبيعة النساء، فيما كان هو ومن قد بايعوا رسول الله (ص) في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود، وأخذ رسول الله (ص) لنفسه واشترط على القوم لربّه، وجعل لهم الجنة إن وفوا بذلك.

فعن عبادة بن الصامت أنه قال:

بايعنا رسول الله (ص) بيعةَ الحرب _ وكان عبادة هذا من الاثني عشر الذين بايعوه في

ص: 370

العقبة الأولى على بيعة النساء _ بايعناه على السمع والطاعة في عُسرنا ويُسرنا ومُنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.

وكان عدد الذين بايعوا رسول الله (ص) هذه البيعة من الأوس والخزرج ثلاثةً وسبعين رجلاً وامرأتين، كان جابر وأبوه منهم.

فمن شهدها _ كما تقول الرواية _ من بني حرام بن كعب بن غَنم بن كعب بن سلمة، عبدالله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام، نقيب، شهد بدراً، وقتل يوم أحد شهيداً، وابنه جابر بن عبد الله. (1)

يقول جابر: كنا مع رسول الله (ص) ليلة العقبة، وأخرجني خالي وأنا لا أستطيع أن أرمي بحجر. (2)

ويقول في رواية أُخرى: حملني خالي جدُّ بن قيس _ وما أقدر أن أرمي بحجر _ في سبعين راكباً من الأنصار الذين وفدوا على النبيّ الله (ص).

قال: فخرج إلينا رسول الله (ص) ومعه العباس بن عبدالمطلب، فقال: يا عم خذ لي على أخوالك.

قالوا: يا محمد سل لربّك ولنفسك ما شئت.

قال: أمّا الذي أسأل لربّي، فتعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأما الذي أسأل لنفسي، فتمنعوني ممّا تمنعون منه أموالكم وأنفسكم.

قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟

قال: الجنّة.

لقد كان جابر _ رضوان الله عليه _ من المندفعين بإخلاص، ومن المبادرين بصدق للجهاد في سبيل الله تعالى، وكان يتمنى أن يكون له دور ينال به رضا الله تعالى في كلّ


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 463.
2- أنظر مختصر تاريخ دمشق 5: 358.

ص: 371

معارك رسول الله (ص) وإن كلّفه حياته، لهذا تراه أوّل ملبٍّ لأذان رسول الله (ص) الذي حصل بعدما تعرّض له جند الإسلام من هزيمة في واقعة أُحد، وكان أبوه واحداً من شهداء هذه المعركة، فقد كانت معركة أُحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم أُحد، وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال، أذّن مؤذن رسول الله (ص) في الناس، يطلب العدو: ألاّ يخرجن معنا أحد إلاّ من حضر يومنا بالأمس، ويقصد9 به معركة أُحد.

وما إن سمع جابر بهذا _ وقد حُرم من المشاركة في معركتي بدر وأُحد _ حتى قال: يا رسول الله (ص) إنّ أبي كان خلّفني على أخوات سبع، وقال لي: يا بُني! إنّه لا ينبغي لي ولا لك أن تترك هؤلاء النسوة، لا رجل فيهنّ، ولستَ بالذي أُوثر ِك بالجهاد مع رسول الله (ص) على نفسي، فتخلّف على أخواتك، فتخلّفت عليهن.

وهنا أذن له رسول الله (ص) وكان جابر بهذا الإذن مستثنى من كلام رسول الله (ص): ألاّ يخرجنّ معنا أحد إلاّ من حضر يومنا بالأمس، يوم أحد.

وإنّما خرج رسول الله (ص) مُرهباً للعدو، وليبلّغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوّةً، وأنّ الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم. (1)

وفي قول مفصّل لموسى بن عقبة، أنّ النبي (ص) أمر أصحابه _ بعد معركة أحد مباشرةً، وبهم أشدّ القرح _ بطلب العدو وليسمعوا بذلك، وقال: لا ينطلقنّ معي إلاّ من شهد القتال، يعني بأحد.

قال: وأقبل جابر بن عبدالله السلمي إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله إن أبي رجعني، وقد خرجت معك لأشهد القتال.

فقال: ارجع، وناشدني أن لا أترك نساءنا.

وإنما أراد حين أوصاني بالرجوع، وجاء الذي كان أصابه من القتل فاستشهده الله فأرادني للبقاء لتركته، ولا أحبّ أن تتوجّه وجهاً إلاّ كنت معك، وقد كرهت أن تطلب معك إلاّ من شهد القتال، فأذن لي، فأذن له رسول الله (ص) وأطاع،... وخرج رسول الله (ص) إذ غدا فقال جلّ


1- أنظر السيرة النبويّة 3: 106 _ 107 ، وغيرها من المصادر التاريخيّة.

ص: 372

ثناؤه: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

هذا وقد شهد ثماني عشرة غزوة مع النبيّ الله (ص) ولم يتخلّف إلاّ _ كما أسلفنا _ عن غزوتي بدر الكبرى وأُحد، بعد أن خلّفه أبوه على أخواته، وكنّ تسعاً أو سبعاً على رواية.

يقول هو عن نفسه: غزوتُ مع رسول الله (ص) تسع عشرة غزوة، وقال: لم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، فلما قتل عبدالله يوم أُحد، لم أتخلف عن رسول الله (ص) في غزوة قط. (1)

وفي رواية، أنه كان يميح الماء يوم بدر لأهل بدر المسلمين، والميح في الاستسقاء أن ينزل الرجل إلى قرار البئر إذا قلّ ماؤها، فيملأ الدلو بيده يميح فيها بيده ويميح أصحابه.

إلاّ أنّ في مستدرك الحاكم (أمتح) بالتاء، ومعناه الاستقاء من أعلى البئر.

وفي مادة (منح) في اللسان: وأمّا حديث جابر: كنت منيح أصحابي يوم بدر، فمعناه: أي لم أكن ممن يضرب له بسهم مع المجاهدين لصغري، فكنت بمنزلة السهم اللغو الذي لا فوز له ولا خُسر عليه. (2)

وكانت أولى غزواته مع رسول الله (ص) غزوة حمراء الأسد، واستمرّ معه حتى آخر مغازيه.

معركة الخندق في أحاديثه

شاة و مُدٌّ من شعير

يحدّثنا جابر رضوان الله عليه:

أصاب الناس كُدْيَةً(3) يوم الخندق، فضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت.

فدعَوا رسول الله (ص) فدعا بماء عليها فعادت كثيباً.

فرأيتُ _ والحديث مازال لجابر _ رسول الله (ص) يحضر، ورأيته خميصاً، ورأيت بين


1- مختصر تاريخ دمشق 5 : 358.
2- أنظر مستدرك الحاكم 2 : 565 ؛ ولسان العرب مادة (منح) ؛ ومختصر تاريخ دمشق 5 : 358.
3- الكُدْيَة: الأرض الغليظة أو الصلبة لا تعمل فيها الفأس؛ (المعجم الوسيط :780).

ص: 373

عُكنه،(1) الغبار، فأتيت امرأتي فأخبرتها ما رأيت من خَمص بطن رسول الله (ص).

فقالت: والله، ما عندنا شيءٌ إلاّ هذه الشاة ومُدٌّ من شعير.

قال جابر: فاطحني وأصلحي.

قالت: فطبخنا بعضها وشوينا بعضها، وخُبز الشعيرُ؛ قال جابر: ثمّ أتيت رسول الله (ص)، فمكثتُ حتى رأيت أنّ الطعام قد بلغ، فقلت: يا رسول الله، قد صنعتُ لك طعاماً، فأتِ أنت ومَن أحببتَ من أصحابك.

فشبّك رسول الله (ص) أصابعه في أصابعي، ثمّ قال: أجيبوا، جابرٌ يدعوكم!

فأقبلوا معه، فقلت: والله; إنّها الفضيحة! فأتيتُ المرأة فأخبرتها.

فقالت: أنت دعوتهم أو هو دعاهم؟

فقلت: بل هو دعاهم!

قالت: دعهم، هو أعلم.

قال: فأقبل رسول الله (ص) وأمر أصحابه، فكانوا خِرَقاً، عشرةً عشرةً، ثمّ قال لنا: اغر ِفوا وغَطّوا البُرمَة، وأخرجوا من التنور الخبز ثمّ غطّوه.

ففعلنا فجعلنا نغرف ونغطّي البُرمة ثمّ نفتحها، فما نراها نقصت شيئاً، ونخرج الخبز من التنور ثمّ نغطيه، فما نراه ينقص شيئاً.

فأكلوا حتى شبعوا، وأكلنا وأهدينا، فعمل الناس يومئذ كلّهم والنبي (ص) وجعلت الأنصار ترتجز وتقول:

نحن الذين بايعوا محمّداً

على الجهادِ ما بقينا أبداً

فقال النبي (ص):

اللهمّ لا خيرَ إلاّ خيرُ الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجره(2)

لقد كان جابر رضوان الله عليه، وجمع من إخوته الصحابة، يقومون بحراسة الخندق من


1- العُكن: ما انطوى وتثنى من لحم البطن؛ (القاموس المحيط 4 : 249).
2- أنظر كتاب المغازي، للواقدي 2: 452.

ص: 374

أن يقتحمه المشركون.

يقول عن ذلك: لقد رأيتني أحرس الخندق، وخيل المشركين تُطيف بالخندق، وتطلب غِرَّةً ومَضيقاً من الخندق فتقتحم فيه.

وكان عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد هما اللذان يفعلان ذلك، يطلبان الغفلة من المسلمين.

فلقينا خالد بن الوليد في مأة فارس، قد جال بخيله يُريد مَضيقاً من الخندق يُريد أن يعبّر فرسانه، فنضحناهم بالنبل حتى انصرف. (1)

وكان جابر يقول في وقعة الخندق ويشرح حالهم وقلقهم: كان خوفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشدّ من خوفنا من قريش! حتى خرج الله ذلك. (2)

ولما راح عمرو بن عبد ودّ _ بعد أن عبر الخندق _ يدعو إلى البراز ويقول:

ولقد بُححتُ من الندا

ءِ لجمعكم هل من مبارز؟!

وعمرو يومئذ ثائر، قد شهد بدراً فارتُثَّ جريحاً فلم يشهد أُحُداً، وحرّم الدُّهنَ حتى يثأر من محمّد وأصحابه، وهو يومئذ كبير، يقال بلغ تسعين سنة، فلما دعا إلى البراز، قال علي (ع): أنا أُبارزه يا رسول الله! ثلاثَ مرات ; وإنّ المسلمين يومئذ كأنّ على رؤوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته، فأعطاه رسول الله (ص) سيفه، وعمّمه وقال: اللهم أعنه عليه!

وأقبل عمرو يومئذ _ وهو فارس _ وعليٌّ (ع) راجل، فقال له علي (ع): إنّك كنت تقول في الجاهلية: لا يدعوني أحدٌ إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها!

قال: أجل!

قال: عليٌّ (ع) : فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، وتُسلم لله ربِّ العالمين; قال: يا ابن أخي، أخر هذا عنّي.

قال: فأُخرى، ترجع إلى بلادك، فإن يكن محمد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن غير ذلك كان الذي تريد.


1- كتاب المغازي 2: 465.
2- المصدر نفسه 2: 468.

ص: 375

قال: هذا ما تتحدث به نساء قريش أبداً، وقد نذرت وحرّمت الدُّهن.

قال: فالثالثة؟

قال: البراز.

فضحك عمرو ثمّ قال: إنّ هذه الخصلة ما كنتُ أظنّ أنّ أحداً من العرب يرومني عليها! إني لأكره أن أقتلَ أمثالك، وكان أبوك لي نديماً، فارجع، فأنت غلام حَدَث، إنما أردتُ شيخي قريش أبابكر وعمر.

فقال علي (ع): فإني أدعوك إلى المبارزة فأنا أُحبّ أن أقتلك.

فأسف عمرو، و نزل وعقل فرسه.

فكان جابر رضوان الله عليه يحدّث ويقول عن هذا الموقف: فَدَنا أحدهما من صاحبه وثارت بينهما غَبرةٌ فما نراهما، فسمعنا التكبيرَ تحتها، فعرفنا أنّ عليّاً (ع) قتله.

فانكشف أصحابهُ الذين في الخندق هاربين، وطفرت بهم خيلهم، إلاّ أنّ نوفل بن عبدالله وقع به فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل، ورجعوا هاربين.

ويواصل جابر حديثه عن هذه المعركة، فيقول: قاتلونا يومهم، وفرّقوا كتائبهم، ونحوا رسول الله (ص) كتيبةً غليظةً فيها خالد بن الوليد، فقاتلهم يومه ذلك إلى هَو ِيٍّ من الليل، ما يقدر رسول الله (ص) ولا أحدٌ من المسلمين أن يزيلوا من مواضعهم، حتى كشفهم الله تعالى فرجعوا متفرّقين، فرجعت قريش إلى منزلها، ورجعت غطفان إلى منزلها، وانصرف المسلمون إلى قبّة رسول الله (ص).

وأقام أسيد بن حُضير على الخندق في مأتين من المسلمين. (1)

من دعاء رسول الله (ص) يوم الأحزاب

روى بعضهم أنّ رسول الله (ص) كان يدعو على الأحزاب فيقول:

«أللهم منزلَ الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب! أللهم اهزمهم!»


1- كتاب المغازي 2: 472 _ 473.

ص: 376

فكان جابر يقول: دعا رسول الله (ص) على الأحزاب في مسجد الأحزاب يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء.

قال: فعرفنا السرورَ في وجهه.

قال جابر: فما نزل بي أمرٌ غائظٌ مهمٌّ إلاّ تنحَّيتُ تلك الساعة من ذلك اليوم، فأدعو الله، فأعرفُ الإجابة.

وعنه أيضاً أنّه قال: قام رسول الله (ص) على الجبل الذي عليه المسجد، فدعا في إزار، ورفع يديه مدّاً، ثمّ جاءه مرّةً أخرى، فصلّى ودعا. (1)

آيات قرآنيّة

(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (2)

يقول جابر في سبب نزول هذه الآية:

عادني رسول الله (ص) وأبوبكر في بني سلمة يمشيان، فوجدني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثمّ رشّ عليَّ منه فأفقت، فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟

فنزلت: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (3)

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). (4)

فعنه أنه قال:

اشتكيت، فدخل عليّ رسول الله (ص) وعندي سبع أخوات، فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلثين؟

قال: اجلس.


1- كتاب المغازي 2 : 487 _ 488.
2- النساء: 11.
3- أنظر أسباب النزول للواحدي؛ مختصر تاريخ دمشق 5 : 362.
4- النساء: 176.

ص: 377

فقلت: الشطر؟

قال: اجلس، ثمّ خرج فتركني.

ثمّ دخل عليَّ وقال لي: يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا، إنّ الله قد أنزل، فبين الذي لأخواتك [جعل لأخواتك] الثلثين.

وكان جابر يقول: نزلت هذه الآية فيَّ:

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

وفي رواية أخرى أنّه قال: فقلت: يا رسول الله إنّه لايرثني إلاّ كلالة، فكيف الميراث؟

فنزلت آية الفرائض.

وفي رواية ثالثة: فلم يقل رسول الله (ص) شيئاً حتى نزلت آية الميراث يرونها (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

يقول: فهذه نزلت فيه. (1)

وعنه في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ). (2)

قال: بايعنا رسول الله (ص) على الموت. (3)

ستُدر ِك رجلاً...!

لقد وفق هذا الصحابي الجليل لعمر قضاه، والإيمان دربه الذي خلى من الشائبة والشطط والانحراف، حتى أدرك خامس أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، الإمام الباقر7 وهم الذين انقطع إليهم جابر وبقي على عهدهم وحبّهم.

تقول الرواية عن حمدويه وإبراهيم ابني نصر، قالا: حدّثنا محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن حريز، عن أبان بن تغلب، قال: حدّثني أبوعبدالله7 قال: «إنّ جابر بن


1- اُنظر أسباب النزول للواحدي؛ ومختصر تاريخ دمشق 5 : 362.
2- الفتح: 18.
3- اُنظر مختصر تاريخ دمشق 5 : 359.

ص: 378

عبدالله، كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله (ص) وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد رسول الله (ص)، وهو معتمّ بعمامة سوداء، وكان ينادي: يا باقر العلم! يا باقر العلم! وكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، فكان يقول: لا والله، لا أهجر، ولكنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: إنّك ستدرك رجلاً من أهل بيتي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذاك الذي دعاني إلى ما أقول».

قال: فبينا جابر يتردّد ذات يوم في بعض طرق المدينة، إذ هو بطريق، في ذلك الطريق كتّاب فيه محمد بن علي بن الحسين: فلما نظر إليه، قال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثمّ قال: أدبر فأدبر، فقال: شمائل رسول الله (ص) والذي نفس جابر بيده، يا غلام ما اسمك؟

فقال: اسمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

فأقبل عليه يقبّل رأسَه، وقال: بأبي أنتَ وأمّي، رسول الله (ص) يقرئك السلام، ويقول لك...

قال: فرجع محمد بن علي8 إلى أبيه وهو ذعر، فأخبره الخبر.

فقال له: يا بني قد فعلها جابر؟

قال: نعم.

قال: يا بني، إلزم بيتك.

قال: فكان جابر يأتيه طرفي النهار، وكان أهل المدينة يقولون: واعجباه لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار، وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله (ص) فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين8.

وفي رواية أخرى عن أبي محمد جعفر بن معروف، أنّه قال: حدّثنا الحسن بن علي النعمان، عن أبيه، عن عاصم الحنّاط، عن محمد بن مسلم، أنّه قال: قال لي أبوعبدالله7: «إنّ لأبي مناقب، ما هنّ لآبائي، إنّ رسول الله (ص) قال لجابر بن عبدالله الأنصاري: إنك تدرك محمد بن علي، فاقرأه مني السلام».

قال: فأتى جابر منزل علي بن الحسين8، فطلب محمد بن علي، فقال له علي (ع): هو في الكتّاب، أرسل لك إليه؟ قال: لا، ولكني أذهب إليه، فذهب في طلبه.

ص: 379

قال للمعلم: أين محمد بن علي؟

قال: هو في تلك الرفقة، أرسل لك إليه؟

قال: لا، ولكني أذهب إليه.

قال: فجاء، فالتزمه، وقبّل رأسه، وقال: إنّ رسول الله (ص) أرسلني إليك برسالة أن أقرأك السلام.

قال: عليه وعليك السلام.

ثمّ قال له جابر: بأبي أنت وأمّي، اضمن لي الشفاعة يوم القيامة.

قال: فقد فعلت ذلك يا جابر.

يأتيه يتعلّم منه

وكان محمد بن علي (ع) يأتيه على وجه الكرامة، لصحبته لرسول الله (ص) قال: فجلس فحدّثهم عن أبيه7 فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أجرأ من هذا!

(قال: فلما رأى ما يقولون، حدّثهم عن رسول الله (ص) قال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أكذب من هذا) يحدّث عمّن لم يره.

قال: فلما رأى ما يقولون حدّثهم عن جابر بن عبدالله فصدّقوه، وكان جابر والله يأتيه يتعلّم منه.

تذكر لنا بعض كتب الرواية أنّ الإمام الباقر7 روى عن هذا الصحابي الجليل جابر الأنصاري، كما روى عن غيره أيضاً، والذي يظهر أنّ الإمام الباقر7 إنما كان يروي عن جابر أو عن غيره لنوع مصلحة وإلاّ فهو7 غني بعلمه وعلوم آبائه عن أن يروي عنهم؛ هذا، وأنّ لجابر مرويات عديدة عن الإمام الباقر7 الذي راح يروي عنه وجوه التابعين وكبار فقهاء المسلمين ومصنفيهم. (1) وهنا بعض ما رواه عن الإمام الباقر7 وما رواه الإمام (ع) عنه.

فعن جابر أنّه قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر8: إذا حدّثتني فأسنده لي.


1- أنظر حلية الأولياء، لأبي نعيم؛ وصفوة الصفوة، لأبي الفرج بن الجوزي.

ص: 380

فقال: «حدّثني أبي عن جدي، عن رسول الله (ص) عن جبرئيل7، عن الله عزّ وجلّ، وكلُّ ما أحدثك بهذا الإسناد».

وقال7: «يا جابر لحديثٌ واحدٌ تأخذه عن صادق، خير لك من الدنيا وما فيها».

فيما روى عنه الإمام الباقر7 حيث قال: «حدّثني جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: قال رسول الله (ص): أقربكم مني في الموقف غداً أصدقكم حديثاً، وآداكم أمانةً، وأوفاكم بالعهد، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم إلى الناس».(1)

وعن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر8 عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: «قال رسول الله (ص): إنّ جبرئيل7 نزل عليّ وقال: إنّ الله يأمرك أن تقوم بتفضيل علي بن أبي طالب (ع) خطيباً على أصحابك، ليبلّغوا من بعدهم ذلك عنك، ويأمر جميع الملائكة أن تسمع ما تذكره، والله يوحي إليك يا محمد أنّ من خالفك في أمره فله النار، ومن أطاعك فله الجنة».

فأمر النبي (ص) منادياً فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وخرج حتى علا المنبر، فكان أوّل ما تكلّم به:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. ثمّ قال: «يا أيّها الناس! أنا البشير، وأنا النذير، وأنا النبيّ الأمي، إنّي مبلّغكم عن الله جلّ اسمُه في أمر رجل، لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وهو عيبة العلم، وهو الذي انتجبه الله من هذه الأمّة، واصطفاه وهداه، وتولاّه، وخلقني وإياه (من طينة واحدة)، وفضّلني بالرسالة، وفضّله بالتبليغ عني، وجعلني مدينة العلم، وجعله الباب، وجعلني خازن العلم، والمقتبس منه الأحكام، وخصّه بالوصية، وأبان أمره، وخوّف من عداوته، وأزلف من والاه، وغفر لشيعته، وأمر الناس جميعاً بطاعته; وأنّه عزّ وجلّ يقول: من عاداه عاداني، ومن والاه والاني، ومن ناصبه ناصبني، ومن خالفه خالفني، ومن عصاه عصاني، ومن آذاه آذاني، ومن أبغضه أبغضني،


1- أمالي، الشيخ المفيد: 66 ح 13.

ص: 381

ومن أحبّه أحبني، ومن أراده أرادني، ومن كاده كادني، ومن نصره نصرني.

يا أيّها الناس! اسمعوا لما آمركم به، وأطيعوه، فإنّي أخوّفكم عقاب الله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ...). (1)

ثمّ أخذ بيد أميرالمؤمنين7 فقال: معاشر الناس! هذا مولى المؤمنين، وحجّة الله على الخلق أجمعين، والمجاهد للكافرين، أللهمّ إنّي قد بلّغت، وهم عبادك، وأنت القادر على صلاحهم، فأصلحهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أستغفر الله تعالى لي ولكم».

ثم نزل عن المنبر، فأتاه جبرئيل7 فقال: «يا محمد إنّ الله عزّ وجلّ يقرئك السلام، ويقول لك: جزاك الله عن تبليغك خيراً، فقد بلّغت رسالات ربّك، ونصحتَ لأمتك، وأرضيتَ المؤمنين، وأرغمتَ الكافرين، يا محمد إنّ ابن عمّك مبتلى ومبتلى به، يا محمد! قل في كلّ أوقاتك: ألحمد لله ربّ العالمين، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون».(2)

وهناك روايات أخرى يرويها كلٌّ منهما عن الآخر، ذكرت في مصادر الحديث.

جابر و علماء الرجال

كانت لجابر الأنصاري منزلة رفيعة، ومكانة متميّزة في كتب الحديث والرجال.

ففي رجال الشيخ: جابر ابن عمرو (عمر) بن حزام (حرام) نزل المدينة، شهد بدراً وثماني عشرة غزوة مع النبي (ص) مات سنة (78) من أصحاب رسول الله (ص).

كما ذكره مع توصيفه بالأنصاري المدني العربي (العرني) الخزرجي، في أصحاب أميرالمؤمنين7 وفي أصحاب الحسن7 وفي أصحاب الحسين (ع) وفي أصحاب السجاد7 وفي أصحاب الباقر7 قائلاً: أبوعبدالله الأنصاري صحابي. (3)


1- آل عمران: 30.
2- أنظر أمالي الشيخ المفيد: 345 ح 2.
3- راجع رجال الشيخ الطوسي.

ص: 382

فيما عدّه البرقي في أصحاب الرسول الأكرم9 ومن الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنين7 ومن شرطة خميسه، ومن أصحاب الحسين والسجاد والباقر:.

و عن ولائه لأهل البيت: قال بعض علماء الرجال

ذكر الكشّي في ترجمته: قال الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين7.

وإنه من جملة من لم يرتدّوا بعد قتل الحسين (ع).

وقال العلاّمة: قال ابن عقدة: إنّ جابر بن عبدالله منقطع إلى أهل البيت:. (1)

ونقل الكشّي هذه الرواية عن حبّه لأهل البيت: وانقطاعه إليهم:

حمدويه وإبراهيم ابنا نصير قالا: حدّثنا أيوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، عن معاوية بن عمّار، عن أبي الزبير المكي، قال: سألت جابر ابن عبدالله، فقلت: أخبرني أيّ رجل كان علي بن أبي طالب؟

قال: فرفع حاجبه عن عينيه _ وقد كان سقط على عينيه _ قال: فقال: ذلك خير البشر، أما والله أن كنّا لنعرف المنافقين على عهد رسول الله (ص) ببغضهم إياه.

وفي قول آخر له، وهو يتوكأ على عصاه ويدور في سكك المدينة ومجالسهم:... يا معاشر الأنصار أدّبوا أولادكم على حبّ علي (ع).

في أسباب النزول

عن جابر بن عبدالله أنه قال في سبب نزول: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً). (2)

كان رسول الله (ص) يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عِيرٌ قد قدمت من الشام، فخرجوا إليها


1- أنظر العلاّمة في القسم الأول من الباب 3 من فصل الهمزة.
2- الجمعة: 11.

ص: 383

حتى لم يبق معه إلاّ اثنا عشر رجلاً، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).

وكان هذا لما أصاب أهل المدينة جوعٌ وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة الكلبي في تجارته من الشام، وضُرب لها طبلٌ يؤذن الناس بقدومه، ورسول الله (ص) يخطب الجمعة، فخرج إليه الناس ولم يبق في المسجد إلاّ اثنا عشر رجلاً; فنزلت هذه الآية، وقال رسول الله (ص): والذي نفس محمد بيده! لو تتابعتم حتى لم يبقَ أحدٌ منكم، لسال بكم

الوادي ناراً. (1)

ونظراً لوجود محكم ومتشابه في القرآن: لقوله سبحانه وتعالى: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ). (2)

فقد اختلف في تعريف كلّ منهما على أقوال، وكان لجابر رضوان الله عليه قول في تعريفهما، وهو: المحكم ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله(3)

.

_ وكانت هناك أقوال ثلاثة في أول ما نزل من القرآن الكريم:

1 _ فقول ذهب إلى أنّ أول ما نزل هو سورة العلق.

2 _ وقول آخر أنّ أول ما نزل هو سورة الفاتحة.

3 _ فيما ذهب جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أنّ سورة المدثر هي أول ما نزل من القرآن الكريم.

تقول الرواية عن ابن سلمة أنه قال: سألت جابر بن عبد الله الأنصاري أيّ القرآن أنزل قبل؟

قال: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

قلت: أو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)؟


1- أنظر أسباب النزول للواحدي؛ وغيره من كتب التفسير للآية المذكورة.
2- آل عمران: 7.
3- أنظر متشابهات القرآن، لابن شهر آشوب: 2.

ص: 384

قال: أحدّثكم ما حدّثنا به رسول الله (ص) قال إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي _ ولعلّه سمع هاتفاً _ ثمّ نظرت إلى السماء فإذا هو _ يعني جبرائيل _ فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (1)

.

ويبدو أنّ جابراً رضوان الله عليه اجتهد أنّ هذه السورة هي أول سورة نزلت; لأنّ كلام رسول الله (ص) ليس فيه دلالة على أنّها أوّل سورة.

ويبدو أيضاً أنّ حديث جابر المذكور كان بعد انقطاع الوحي، فظنه جابر بدء الوحي، وذهب بعض إلى أنّ جابراً سمع النبي (ص) يذكر قصة بدء الوحي، فسمع آخرها ولم يسمع أوّلها، فتوهم أنّها أوّل ما نزلت.

وفترة انقطاع الوحي يرويها جابر أيضاً حيث يقول:

سمعت رسول الله (ص) يحدّث عن فترة الوحي، قال: فبينما أنا أمشي إذ سمعتُ هاتفاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالساً على كرسي بين السماء والأرض، فجُئِثتُ منه خرقاً _ أي فزعت _ فرجعت، فقلت: زملوني زملوني فدثروني، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وهي الأوثان.

قال (ص): ثم تتابع الوحي؛ أو فحمى الوحي وتتابع كما هو لفظ البخاري. (2)

وعن أوّل ما نزل من القرآن الكريم، قال جابر بن عبدالله الأنصاري لما سأله أبوسلمة: لا أحدثك إلاّ ما حدثنا رسول الله (ص) قال: جاورتُ بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت فسمعت صوتاً، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً، وعن شمالي فلم أرَ شيئاً، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئاً، ونظرتُ خلفي فلم أرَ شيئاً، فرفعت برأسي، فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبوا عليّ ماءاً، قال: فدثروني وصبّوا عليَّ ماءاً بارداً، فنزلت: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).


1- صحيح مسلم 1 : 99.
2- المصدر نفسه 1: 98 ؛ البخاري1 : 4 ؛ البرهان في علوم القرآن، للزركشي1 : 293_294.

ص: 385

وعن ابن شهاب أنّه قال: أخبرني أبوسلمة بن عبدالرحمن أنّ جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قال رسول الله (ص) وهو يحدّث عن فترة الوحي: بينا أنا أمشي سمعتُ صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، قال رسول الله (ص): فجُئثت منه خرقاً، وجئت فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثروني، فأنزل الله عزّ وجلّ: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)، قال: ثمّ تتابع الوحي. (1)

وعن ابن جريج أنّ جابر بن عبدالله قال: إنّ النبيّ الله (ص) لما أتى على الحِجر، حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

أما بعد، فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفجّ وتصدر من هذا الفجّ، فتشرب ماءهم يوم وردها. (2)

وفيما اختلف السلف في من اتبع رسول الله (ص) وآخى به، وصدّقه على ما جاء به من عندالله من الحقّ بعد زوجته خديجة بنت خويلد وصلّى معه.

فعن جماعة عن جابر، قال: بُعث النبيّ الله (ص) يوم الأثنين، وصلّى عليٌّ يوم الثلاثاء. (3)

ممّا علّمه رسول الله (ص)

تعلّم هذا الصحابي الكثير من صحبته المتواصلة لرسول الله (ص) وممّا تعلمه _ كما يقول هو _ : دخلت على رسول الله (ص) ذات يوم، فقال: مرحباً بك يا جابر، جزاكم الله معشر الأنصار خيراً، آويتموني إذ طردني الناس، ونصرتموني إذ خذلني الناس، فجزاكم الله خيراً.

قال: قلت: بل جزاك الله عنّا خيراً، هدانا الله إلى الإسلام، وأنقذنا من شفا حفرة النار، فبك نرجو الدرجات العُلا من الجنة.


1- تاريخ الطبري 1 : 535.
2- المصدر نفسه 1 : 141.
3- المصدر نفسه 1 : 537.

ص: 386

ثم قال (ص): يا جابر! هؤلاء الأعنز أحد عشر عنزاً في الدار أحبّ إليك، أم كلمات علمنيهنَّ جبريل7 آنفاً، تجمع لك خير الدنيا والآخرة؟

قال: فقلت: والله يا رسول الله إني لمحتاج وهؤلاء الكلمات أحبّ إليّ.

قال (ص): قل: أللهم أنت الخلاّق العظيم، أللهم إنك سميع عليم، أللهم إنك غفور رحيم، أللهم إنك ربّ العرش العظيم، أللهم إنك أنت الجواد الكريم، فاغفر لي، وارحمني، وارزقني، واسترني، واجبُرني، وارفعني، واهدني، ولا تضلّني، وأدخلني الجنة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال: فطفق يردّدهن عليّ، حتى حفظتهُنّ.

ثمّ قال لي: تعلمهنّ، وعلّمهنّ عقبك من بعدك.

ثم قال: استقهنّ معك.

قال: فسقتهنّ معي. (1)

علمه

عرف هذا الصحابي الجليل بأنه _ إضافة إلى كونه عالماً بالتفسير وأستاذاً معروفاً في الأحكام _ راو للحديث بل من المكثرين فيه، الحافظين للسنة، وكان من المعنيين بتدوين الحديث، حتى راح يملي أحاديثه على تلامذته _ وهم من التابعين _ وهم يكتبونها، وكان منهم كلّ من سليمان بن قيس اليشكري، الذي روى عنه حجّة الوداع،(2)

ومحمد بن الحنفية، وعبدالله بن محمد بن عقيل، ووهب بن منبه، وغيرهم. (3)

وكلّ هذا وغيره أثار حفيظة الحَجّاج، ممّا جعله يختم في يده وفي عنق آخرين معه من الصحابة والتابعين إذلالاً لهم، وحتى يجتنبهم الآخرون ولا يسمعوا منهم. قال ابن الأثير:


1- مختصر تاريخ دمشق 5 : 361_362.
2- أنظر صحيح مسلم 2 : 886 ؛ وشرح النووي 3 : 313 _ 356.
3- أنظر السنة قبل التدوين: 353 ؛ ومعرفة النسخ: 125.

ص: 387

كان الحجاج بن يوسف الثقفي _ والي العراق من قبل الأمويين _ قد ختم في يد جابر بن عبدالله (الأنصاري) وفي عنق سهل ابن سعد الساعدي (الأنصاري) وأنس بن مالك (خادم النبي (ص)) يريد إذلالهم، وأن يجتنبهم الناس، ولا يسمعوا منهم. (1)

وكانت لجابر صحيفة مشهورة قد تكون في مناسك الحج كما ذهب إلى هذا بعض المحدّثين، فيما ذهب فريق آخر منهم إلى أنّها غير المنسك الصغير، وقد تكون هذه النسخة موجودة في مكتبة شهيد علي باشا في تركيا.

وفي طبقات ابن سعد والتأريخ الكبير للبخاري، يقول قتادة بن دعامة السدوسي: لأنا بصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة. (2)

بعض مارواه

ونحن هنا نتعرّف على اليسير ممّا رواه، فما رواه كثير، وقد روى عن رسول الله (ص) مباشرة وبدون واسطة، وروى عنه بواسطة، فيما روى عنه كثير من الصحابة والتابعين.

وكدليل على صدقه وأنه لا يكتم رأياً أو حديثاً نبويّاً لغرض دنيوي أو هوىً يُراوده، ننقل هذا الحديث بحقّ الصحابي الجليل سعد بن معاذ.

فبعد أن توفي هذا الصحابي بعد معركة أحد التي أصيب فيها؛ وبعد أن أعلن حكمه العدل في يهود بني قريظة جزاءً للخيانة التي ارتكبوها، والذنب الذي اقترفوه بحق الرسالة والرسول (ص) قال جابر الأنصاري:

سمعت رسول الله (ص) يقول: اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ.

فقيل لجابر: إنّ البراء (وهو من الخزرج) يقول: اهتزّ السرير.

فقال جابر، وهو العارف بما جرى وحدث بين الأوس والخزرج _ والذين سمّوا بعد الإسلام بالأنصار _ من معارك طاحنة خلّفت بينهم الأحقاد والضغائن: كان بين هذين


1- أنظر ترجمة سهل الساعدي في أسد الغابة 2 : 472.
2- أنظر الطبقات 7 : 1_2 ؛ والتأريخ 4 : 1/186 رقم 827.

ص: 388

الحيين: الأوس والخزرج، ضغائن.

وراح يؤكّد ما سمعه من رسول الله (ص): سمعت رسول الله (ص) يقول: «اهتزّ عرش الرحمن».

وجابر وإن كان من الخزرج، وسعد بن معاذ من الأوس، إلاّ أنّ دينه منعه عن قول غير الحق، أو كتمان منقبة قالها رسولُ الله (ص) بحقّ صحابي وإن كان من قوم آخرين، لهذا أكّد الحديث، وتأكيد هذا يتضمن الإنكار على من يريد كتمان هذا الحديث بما يحمله من فضيلة لسعد رضوان الله عليه. (1)

وفي الصلاة، روى ابن عساكر بسنده عن جابر أنّه قال: كانت الصلاة مع رسول الله (ص) حين كان الظلّ مثل الشراك، ثمّ صلّى العصر حين كان الظلّ (للشيء) مثله، ثمّ صلى المغرب حين غابت الشمس، ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلّى بنا الفجر، ثمّ صلّى الظهر حين كلّ شيء مثله، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه قدر ما يسير الراكب إلى ذي الحليفة العنق، ثمّ صلّى المغرب حين غاب الشفق، ثمّ صلّى العشاء حين ذهب ثلث الليل، ثمّ صلّى بنا الفجر فأسفر، فقيل له: كيف نصلّي مع الحجاج وهو يؤخر؟ فقال: ما صلاها للوقت فصلّوا معه، فإذا أخّر فصلوها لوقتها واجعلوها معه نافلةً. (2)

وعنه أيضاً: قال رسول الله (ص): «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله».(3)

أحاديث الشفاعة عند أهل السنّة

وعن جابر: أنّ النبي (ص) قال: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً... وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي،


1- أنظر ابن الأثير في تاريخه.
2- أنظر تأريخ دمشق ، ترجمته.
3- رواه الحاكم عن جابر.

ص: 389

وأعطيت الشفاعة».(1)

وعن أنس وعن جابر: «لكلّ نبي دعوة، وأردت إن شاء الله أن أختبىء دعوتي شفاعةً لأُمّتي يوم القيامة».(2)

في المتعة

قدم جابر بن عبدالله معتمراً، فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء، ثمّ ذكروا المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر وعمر. (3)

وروى أبو نضرة قال: كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت، فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين _ متعة الحج ومتعة النساء _ فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (ص) ثمّ نهانا عنهما عمر، فلم نعدلهما. (4)

وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها _ أي المتعة _ بعد رسول الله (ص) ابن مسعود، ومعاوية، وأبوسعيد، وابن عباس، وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف، وجابر _ أي جابر بن عبدالله _ وعمرو بن حريث.

ثم قال ابن حزم: ورواه جابر عن جميع الصحابة: «مدة رسول الله (ص) وأبي بكر، وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر».(5)

و عن حرمة القتال في الشهر الحرام

روى جابر عن رسول الله (ص): «لا يُقاتل في الشهر الحرام إلاّ أن يغزى أو يغزو».(6)


1- صحيح البخاري، كتاب التيمم، الباب 1، 1 : 86 ، البيان: 482 للخوئي.
2- صحيح مسلم ، باب اختباء النبي دعوة الشفاعة لأمته 1: 130 _ 131 ، والبيان: 528.
3- أنظر صحيح مسلم: 774 ، نكاح المتعة: 131 ، 319 التبيان.
4- صحيح مسلم ، باب نكاح المتعة 4: 141 ، التبيان: 318.
5- هامش المنتقى للفقي 2 : 520.
6- البيان: 305.

ص: 390

و في قتل الحر والعبد

روى جابر، لا يقتل الحر بعبد. (1)

وعنه عن النبي (ص) قال: «يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف والمسجد والعترة يقول المصحف: يا ربّ حرّفوني، ومزّقوني ; ويقول المسجد: يا ربّ عطلوني ; وتقول العترة: يا ربّ قتلونا، وطردونا، وشردونا».(2)

ممّا قاله ورواه أيضاً

أجمل شيء للمرء أن يقضي حياته مؤمناً، وينفق عمره مجاهداً صادقاً، حكيماً فيما يقول، باحثاً عمّا يرضي الله تعالى، محدّثاً عن رسول الله (ص) وعما يزيده ثباتاً في الدنيا، وثواباً في الآخرة، وهذا هو جابر، الذي ظلّ مواظباً على هذا كلّه، وظلّت كلماته مضيئةً، كما مواقفه هي الأخرى جميلة مليئة بالمعاني العالية الرفيعة.

يقول عبدالرحمن بن سعيد; جئت جابر بن عبدالله الأنصاري في فتيان من قريش، فدخلنا عليه بعد أن كفّ بصرُه، فوجدنا حبلاً معلّقاً في السقف، وأقراصاً مطروحةً بين يديه أو خبزاً، فكلّما استطعم مسكين قام جابر إلى قُرص منها وأخذ الحبل حتى يأتي المسكين فيعطيه، ثمّ يرجع بالحبل حتى يقعد، فقلت له: عافاك الله، نحن إذا جاء المسكين أعطيناه، فقال: إنّي أحتسب المشي في هذا، ثمّ قال: ألا أخبركم شيئاً سمعته من رسول الله (ص)؟

قالوا: بلى.

قال: سمعته يقول: «إنّ قريشاً أهل أمانة، لا يبغيهم العثرات أحد إلاّ أكبّه الله عزّ وجلّ لمنخريه».

وعن جابر أيضاً أنه كان يقول:

تعلّموا العلم، ثمّ تعلّموا الحلم، ثمّ تعلموا العلم، ثمّ تعلّموا العمل بالعلم، ثمّ أبشروا.


1- سنن البيهقي 8 : 34 _ 35 ، التبيان: 294.
2- الخصال للصدوق.

ص: 391

وعنه أيضاً: هلاك بالرجل أن يدخل عليه الرجل من إخوانه، فيحتقر ما في بيته أن يقدّمه إليه، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدّم إليهم.

وحدّث سهل بن سهل الساعدي عن أبيه، قال: كنا بمنى فجعلنا نخبر جابر بن عبدالله ما نرى من إظهار قطف الخزّ والوشي _ يعني السلطان وما يصنعون _ فقال: ليت سمعي قد ذهب كما ذهب بصري حتى لا أسمع من حديثهم شيئاً ولا أبصره.

وعنه: استغفر لي رسول الله (ص) خمساً وعشرين استغفارة، كلّ ذلك أعدها بيدي، يقول: أديت عن أبيك دينه، فأقول: نعم، فيقول: غفر الله لك.

من مواقفه

يذكر أنه قدم مرّةً إلى معاوية بدمشق، فلم يأذن له أياماً، فلما أذن له، قال: يا

معاوية أما سمعت رسول الله (ص) يقول: من حجب ذا فاقة وحاجة، حجبه الله يوم فاقته وحاجته.

فغضب معاوية وقال: لقد سمعته يقول لكم: ستلقون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تردوا عليّ الحوض، أفلا صبرت؟

قال: ذكرتني ما نسيت، وخرج فاستوى على راحلته ومضى، فوجه إليه معاوية بستمائة دينار، فردّها وكتب إليه:

إنّي لأختار القنوع على الغنى

وفي الناس من يقضى عليه ولا يقضي

وألبس أثواب الحياء وقد أرى

مكان الغنى أن لا أهين له عرضي

وقال لرسوله: قل له: والله يا ابن آكلة الأكباد، لا وجد في صحيفتك حسنة أنا سببها أبداً. (1)

وهو الذي روى في معاوية عن رسول الله (ص) قوله: «يموت معاوية على غير ملتي».(2)


1- أنظر مروج الذهب.
2- أنظر وقعة صفين، لنصر بن مزاحم: 217.

ص: 392

ولاؤه لعلىّ و لأهل البيت:

عرف جابر بولائه الواعي الصادق لأهل بيت النبوّة والرسالة (عليهم السلام) فقد كان من أولئك المهاجرين والأنصار الذين بايعوا أميرالمؤمنين عليّاً7 بالخلافة، ورضوا بإمامته، وبذلوا أنفسهم في طاعته، فعن أبي الزبير المكي أنه قال: سألت جابر بن عبدالله، فقلت: أخبرني أي رجل كان علي بن أبي طالب؟

قال: فرفع حاجبيه عن عينيه، وقد كانا سقطا على عينيه، قال: فقال: ذلك خير البشر! أما والله إن كنا لنعرف المنافقين على عهد رسول الله (ص) ببغضهم إياه.

وعنه أيضاً: رأيت جابراً يتوكأ على عصاه، وهو يدور في سكك المدينة ومجالسهم، ويقول:

علي خير البشر فمن أبى فقد كفر، معاشر الأنصار أدبّوا أولادكم على حبّ علي...،

وقد شهد صفين مع علي (ع) وكان منقطعاً إليه، وقد فضّله على غيره كما ذكر ذلك ابن عبدالبرّ في استيعابه، فيما نصّ على تشيّعه ابن شاذان وابن عقدة والكشي.

أوّل زائر

وفق هذا الصحابي أن يكون أوّل زائر لقبر الإمام الحسين (ع) في كربلاء، فهذا السيد الجليل ابن طاووس يقول في كتابه الملهوف: ولما رجعت نساء الحسين وعياله من الشام، وبلغوا إلى العراق، قالوا للدليل: مر بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبدالله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين (ع) فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمع عليهم نساء ذلك السواد، وأقاموا على ذلك أياماً.

وعن الأعمش عن عطية العوفي أنه قال: خرجت مع جابر بن عبدالله الأنصاري زائراً قبر الحسين (ع) فلما وردنا كربلاء، دنا جابر من شاطىء الفرات فاغتسل، ثم اتزر بإزار وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرة فيها سعد، فنثرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلاّ ذكر الله

ص: 393

تعالى، حتى إذا دنا من القبر، قال: ألمسنيه، فألمسته إياه، فخرّ على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلما أفاق، قال: يا حسين ثلاثاً، ثمّ قال: حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال: أنّى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أثباجك، وفرق بين بدنك ورأسك ; أشهد أنّك ابن خير النبيين، وابن سيد المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكسا، وابن سيد النقبا، وابن فاطمة سيدة النساء، ومالك لا تكون هكذا، وقد غذتك كفّ سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفطمت بالإسلام، فطبت حيّاً وطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك، ولا شاكّة في حياتك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.

ثمّ جال ببصره حول القبر وقال:

ألسلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين (ع) وأناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين، والذي بعث محمداً بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطية: فقلت لجابر: فكيف ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلاً، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم، وأوتمت أولادهم، وأرملت الأزواج؟

فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول: «من أحبّ قوماً حشر معهم»، «ومن أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم»، والذي بعث محمداً9 بالحقّ إنّ نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين (ع) وأصحابه.

قال عطية: فبينما نحن كذلك، وإذا سواد قد طلع من ناحية الشام، فقلت: يا جابر هذا سواد قد طلع من ناحية الشام، فقال جابر لعبده: انطلق إلى هذا السواد وائتنا بخبره، فإن كانوا من أصحاب عمر بن سعد، فارجع إلينا لعلنا نلجأ إلى ملجأ، وإن كان زين العابدين فأنت حرّ لوجه الله تعالى.

قال: فمضى العبد، فما كان بأسرع من أن رجع وهو يقول: يا جابر قم واستقبل حرم

ص: 394

رسول الله، هذا زين العابدين، قد جاء بعمّاته وأخواته، فقام جابر يمشي حافي الأقدام، مكفوف الرأس، إلى أن دنا من زين العابدين(ع)، فقال الإمام: أنت جابر؟

فقال: نعم، يا ابن رسول الله.

فقال: يا جابر ههنا والله قتلت رجالنا، وذبحت أطفالنا، وسبيت نساؤنا، وحرقت خيامنا. (1)

(إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)... (2)

مبدأ التقية، مبدأ راحت تؤكده آيات قرآنية، وأحاديث ومواقف نبويّة، لست هنا بصدد التعرّض لها; لهذا اضطر هذا الصحابي ومن معه وبتأييد من أمّ المؤمنين الصالحة أم سلمة، إلى العمل به، ففي سنة أربعين للهجرة، بعث معاوية بسر بن أرطأة في ثلاثة آلاف، فسار حتى قدم المدينة... فأرسل إلى بني سلمة، فقال: والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبدالله، فانطلق جابر إلى أمّ سلمة زوج النبي (ص) فقال لها: ماذا ترين، إنّ هذه بيعة ضلالة، وقد خشيت أن أقتل.

قالت: أرى أن تبايع، فأتاه جابر فبايعه، هذا ما ذكره ابن الأثير.

أما ما ذكره اليعقوبي في تأريخه فأنه قال لأمّ سلمة: إني خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلالة.

فقالت: إذاً فبايع. فإنّ التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب، ويحضرون الأعياد مع قومهم.

وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، عن إبراهيم بن هلال أنه قال: روى عوانة، عن الكلبي ولوط بن يحيى في خبر إرسال معاوية بسراً إلى الحجاز واليمن، أنّ بسراً فقد جابر بن عبدالله، فقال: مالي لا أرى جابراً يا بني سلمة، لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر، فعاذ جابر بأمّ سلمة، فأرسلت إلى بسر بن أرطأة، فقال: لا أومنه حتى يبايع.


1- أنظر بشارة المصطفى وغيره.
2- آل عمران: 28.

ص: 395

فقالت له أمّ سلمة: إذهب فبايع، وقالت لابنها عمر: إذهب، فبايع، فذهبا وبايعا.

وعن جابر نفسه أنه قال: لما خفت بسراً وتواريت عنه، قال لقومي: لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر، فأتوني وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا، فبايعت، فحقنت دمك ودماء قومك، فإنك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا، وسبيت ذرارينا، فاستنظرتهم إلى الليل، فلما أمسيت، دخلت على أمّ سلمة فأخبرتها الخبر، فقالت: يا بني انطلق فبايع، أحقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع، وإني لأعلم أنّها بيعة ضلالة. (1)

وفاته رضوان الله عليه

اختلفت الأقوال في تاريخ وفاته، ففي الاستيعاب أنّه توفي سنة 74ه_، وقيل سنة 78ه_، وقيل سنة 77ه_، وفي الإصابه أنّه توفي سنة 73ه_، وفي المستدرك للحاكم أنه توفي سنة 79ه_.

أما عن عمره، فهناك من يقول إنّه توفي وهو ابن 94 سنة بعد أن ذهب بصره؛ وكانت وفاته في المدينة المنوّرة أيام عبدالملك، يوم أن كان أبان بن عثمان أميراً عليها، وقد توّلى الصلاة عليه، هذا ويذكر صاحب الإصابة أنه أوصى أن لا يصلي عليه الحجاج الذي شهد جنازته، إلاّ أنّ الذهبي ذهب إلى أنّ جابراً توفي والحجاج على إمرة العراق. (2)

وفي رواية الكشي أنّه كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله (ص) وهو ماقاله أيضاً ابن عساكر وغيره، فيما ذكر في أسد الغابة أنه آخر من مات بالمدينة ممّن شهد العقبة، ويبدو أنّ هذا هو الصحيح كما عليه بعض المحقّقين. (3)

فسلام على جابر في الصالحين


1- أنظر ابن الأثير في تأريخه، حوادث سنة 40 هجرية ؛ وغيره من المصادر التأريخية.
2- مختصر تاريخ دمشق ؛ والاستيعاب ؛ والإصابة ؛ وأسد الغابة ؛ وتاريخ الإسلام.
3- أنظر أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين ، جابر بن عبد الله الأنصاري.

ص: 396

ص: 397

(17) عبدالله بن رواحة

اشارة

(مِنَ الْمُؤمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)

محمد سليمان

ظلّت ومازالت الصحبة ومدرستها النبويّة المقدّسة، شجرةً طيبة تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، وظلّ الصحابي الصادق المخلص، ومازال غصناً يانعاً مباركاً، وينبوعاً لا يعرف النضوب، ومادام ملتزماً بمبادىء هذه المدرسة الربانية وبسيرتها وأخلاقها ومناهجها، ومادام وفيّاً لصاحبها ومؤسسها رسول الرحمة محمد بن عبد الله (ص).

فالصحبة نبع ثرّ وبضاعة لا تبور، تغني تراثنا وأجيالنا، وموائدنا العلمية والعبادية والأدبية والأخلاقية من خزينها، وما ورّثته لنا من خير عميم، وعطاء جزيل، وعلم نافع، وتضحية كبيرة... لا يمكننا الاستغناء عنها وعن تاريخها الحافل بكلّ معنى جميل وقيمة عالية.

أما روّاد هذه المدرسة فقد اختلفت منازلهم، فشأنهم شأن كل التلاميذ والطلبة، منهم الجاد والمخلص في استيعاب دروسها ومبادئها، ومنهم دون ذلك، ومنهم المتخلّف عنها حتى

ص: 398

صار عالةً عليها بل ظلّ مسيئاً إليها، فالصحابة ليسوا كلّهم في الفضل سواء، وإن زعمنا هذا فهو ظلم للمدرسة ولصاحبها ولرّوادها المخلصين، وكيف نزعم هذا لهم وقد فضّل الله تعالى الرسل بعضهم على بعض، وهم الأفضل والأكرم والأقرب إليه تعالى من غيرهم، فقال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)؟! والتفضيل حالة توافق طبيعة الأشياء، فما من شيء في الدنيا إلاّ والتفاضل جار فيه.

ولا يضرّ هذه المدرسة السماوية بل ولا يفيدها من انحرف عنها، وشطّت به قدماه، بعيداً عن أسسها ومتبنياتها، كما لا يضر ذلك في سمعة الصحابة الآخرين الذين أجزم أنّ بعضهم كان صناعة خاصة، أعدّتهم السماء، واختارتهم وتفضّلت بهم علينا جميعاً، ليصوغوا لنا تأريخاً مليئاً بكلّ معاني الخير، وحاضراً كلّه عطاء، ومستقبلاً زاهراً بالأمل مشرقاً بالحب، بعيداً عن العداوة والبغضاء.

إنّهم بحقّ جيلٌ قد لا يكون له نظير، فيما مضى من تأريخ الرسالات، وفيما هو آت إلاّ عند القلّة القليلة النادرة.

فهيّئتهم هذه المدرسة، وصاغتهم لتبليغ أعظم رسالة سماوية، وأعظم دين خاتم للديانات، فغيّروا أمة جاهلية، بل غيروا أمماً أخرى، فتغيّر وجه التاريخ، فاستحقوا بذلك العظيم في الدنيا والآخرة، وغدوا من ورثة جنة النعيم، يتبّوأون فيها غرفاً، وينعمون بها، ويمرحون في بحبوحة منها.

ولا غرابة في ذلك، بعد أن أحبوا الله ورسوله، وطلبوا رضوانه تعالى، وملئوا شوقاً إلى لقائه، يطلبون الموت ويتحاثّون عليه.

كم كانت تربيتك يا رسول الله لهذه النخبة الطيبة، نافعة خالدة!

وكم كان حبّهم واحتفاؤهم بك يا رسول الله عظيماً صادقاً، حتى شهد به أبوسفيان وهو يعيش العداء كلّه والكراهية كلّها لرسول الله ودينه وصحبه:

ما رأيت من الناس أحداً يحبّ أحداً كما يحبّ أصحاب محمّدٍ محمداً!

ونحن ما إن ننتهي من تاريخ واحد منهم حتى ندخل تاريخاً آخر يكمل الصورة

ص: 399

المشرقة لهذه المدرسة، ولهذه الصحبة، ولما تتوفر عليه من مبادىء وقيم عالية.

والصحابي الذي بين أيدينا هو واحد من الذين لم يفتأ سيفهم يطارد فلول الوثنية المقهورة، وأذيالهم المدحورة، وانجلت فروسيته ومضاؤه في معارك الإسلام الكبرى، في معركة بدر، وفي معركة أحد، وفي الخندق، ويوم الحديبية، وخيبر، وهو ينتضي سيفيه الباترين _ كما يعبر السيد الجميلي _ سيف في يده، وآخر في لسانه، فأخذ يحصد أعداءه، ويضرب الباطل فيهم على أمّ رأسه في غير هوادة أو رحمة. (1)

إنّه الصحابي الجليل، المؤمن المجاهد، والكاتب الشاعر، الخزرجي: عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن عمرو بن امرىء القيس الأكبر بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث، هذا نسبه من أبيه، وقد وقع فيه اختلاف.

أمّا نسبه من أمّه، فهي كبشة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة ابن عامر بن زيد مناة.

وأمّا كنيته فهو يكنّى ب_ (أبو محمد)، ويقال له: أبو رواحة، ويقال له أيضاً: أبو عمرو الأنصاري.

إسلامه

كان من الذين منَّ الله تعالى عليهم، يوم العقبة الأولى، حيث شهدها مبايعاً رسول الله (ص) مع نخبة من الخزرج، وشهدها نقيباً حيث كان من الاثني عشر نقيباً، ولم يكتف بهذا، بل شهد العقبة الثانية مع جمع كبير من الأنصار والذين كانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين.

وكان واحداً ممّن اعترضوا ناقة رسول الله (ص) حين وازنت دار بني الحارث بن الخزرج _ وكان هذا يوم اعتراض القبائل في يثرب لناقة رسول الله (ص) تبتغي نزولها عندها _ فاعترضها منهم سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبدالله بن رواحة في رجال من بني


1- صحابة النبي (ص) ، للدكتور السيد الجميلي: 264.

ص: 400

الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول الله هلّم إلينا، إلى العدد والعدّة والمنعة، فقال لهم: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت... وكان له موقف آخر، يتصف بالقوّة والرغبة العظيمة في سماع آيات القرآن، وما يبشر به رسول الله (ص) وينذر:

فعن زيد بن حارثة قال: ركب رسول الله (ص) إلى سعد بن عبادة، يعوده من شكو ٍ أصابه على حمار عليه إكاف، فوقه قطيفة فدكية، مختطمة بحبل من ليف، وأردفني رسول الله (ص) خلفه، قال: فمرّ بعبدالله بن أبي، وهو في ظلّ مُزاحم أطمه (الحصن، وأطام المدينة سطوحها...)، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله (ص) تذمم، أي استنكف واستحيا من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلم، ثمّ جلس قليلاً فتلا القرآن، ودعا إلى الله عزّوجلّ، وذكّر بالله وحذّر، وبشر وأنذر; وهو زامّ لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله (ص) من مقالته، قال: يا هذا، إنّه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقاً فاجلس في بيتك، فمن جاءك له فحدّثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغتَّه به (أي لا تثقل عليه) ولا تأته في مجلسه بما يكره منه.

وهنا انبرى عبدالله بن رواحة قائلاً في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى، فأغشنا به، وائتنا في مجالسنا، ودورنا وبيوتنا.

ثمّ واصل كلامه هذا قائلاً:

فهو والله ممّا نحبّ، وممّا أكرمنا الله به وهدانا له.

فما كان من عبدالله بن أبي حيث رأى _ بعد مقالة عبدالله بن رواحة _ من خلاف قومه ما رأى، إلاّ أن أنشد قائلاً:

متى ما يكُن مولاك خصمُك لا تزل

تذ ِلّ ويصرعك الذين تصارع!

وهل ينهض البازي بغير جناحه

وإن جُذّ يوماً ريشه فهو واقع(1)

* * *

وكان عبدالله بن رواحة ممّن شهدوا معركة بدر، وهو من الفتية من الأنصار وهم: عوف


1- السيرة النبويّة، لابن هشام 2 : 586 _ 587.

ص: 401

ومعوّذ بن الحارث وأمّهما عفراء، وعبدالله بن رواحة، خرجوا لمقاتلة عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، من رجال قريش المشركين، الذين دعوا المسلمين إلى المبارزة في أول وقعة بدر الكبرى، فقالوا: من أنتم؟

فقالوا: رهط من الأنصار.

قالوا: ما لنا بكم من حاجة.

ثم نادى مُناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

وكأنهم لم يروا في فتية الأنصار أكفاء لهم.

فقال (ص): قم يا عبيدة بن الحارث!

وقم يا حمزة!

وقم يا عليّ!

فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: نعم، أكفاء كرام، فبارز عبيدة _ وكان أسنّ القوم _ عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة; فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأمّا علي (ع) فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذفّقا عليه، أي أسرعا قتله، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.

وفي رواية أنّ عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار وكان منهم _ كما قلنا_ ابن رواحة حين انتسبوا: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا; (1) ثم خاض الجميع معركة بدر وحققوا نصراً عظيماً.

وشهد _ بعد ذلك _ معارك الإسلام الأخرى، معركة أحد، ومعركة الخندق، ويوم الحديبية، وخيبر، مقاتلا عنيداً، وشهد مؤتة في غزوة الأمراء أميراً ثمّ شهيداً.

وكان هذا الصحابي الجليل _ إضافةً إلى كونه شاعراً بارزاً _ كان كاتباً، فهو من القلّة


1- أنظر السيرة النبوية 2 : 625.

ص: 402

الذين يجيدون الكتابة في الجاهلية، حيث كانت الكتابة في العرب قليلاً.

وقد كلّفه رسول الله (ص) بمسؤوليات عديدة، منها أنّه قدّمه في بدر يبشّر أهل العالية بما فتح الله عليه، والعالية: بنو عمرو بن عوف، وخطمة، ووائل.

واستخلفه رسول الله (ص) على المدينة، حين خرج إلى غزوة بدر الوعد.

وبعثه رسول الله (ص) سريّة في ثلاثين راكباً إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر فقتله، ثمّ بعثه إلى خيبر خارصاً كما يأتينا.

و ممّاقاله رسول الله (ص) فيه

«رحم الله ابن رواحة، كان أينما أدركته الصلاة أناخ».

إنّه سيلقى حجّته، فعن أنس أنّه قال:

كنا مع رسول الله (ص) في سفر فأصابنا مطر ور ِداغ (والردغ والردَغة والردّغة: الماء والطين والوحل الكثير الشديد، والجمع، ر ِداغ وردغ؛ أنظر اللسان: ردغ).

فأمرنا رسول الله (ص) أن نصلي على ظهور رواحلنا.

قال: ففعلنا، ونزل ابن رواحة، فصلى في الأرض.

قال: فسعى به رجل من القوم فقال: يا رسول الله أمرت الناس يصلّون على ظهور رواحلهم ففعلوا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض.

قال: فبعث إليه فقال: ليأتينكم وقد لقي حجّته.

قال: فأتاه، فقال رسول الله (ص): يابن رواحة، أمرتُ الناس أن يصلّوا على ظهور رواحلهم، نزلت وصليت في الأرض!

قال: فقال: يا رسول الله; لأنّك تسعى في رقبة قد فكّها الله، وإنما أنا نزلت لأسعى في رقبة لم تفكّ.

فقال رسول الله (ص): ألم أقل لكم إنّه سيلقي حجّته؟!

وفي رواية أخرى أنّ رسول الله (ص) خرج في سريّة، فأدركته الصلاة وهو على ظهر،

ص: 403

فصلّى رسول الله (ص) على ظهر، ونزل ابن رواحة فصلّى بالأرض، ثمّ أتى النبيّ الله (ص)، فقال النبيّ الله (ص): «يابن رواحة، أرغبت عن صلاتي»؟!

قال: لستُ مثلك، إنّك تسعى في عِتق، ونحن نسعى في رقّ، فلم يَعِبْ عليه ما صنع.

وقد فرّق أو ميّز رسول الله (ص) في هذا بين ابن رواحة ورجل آخر، حين خرج رسول الله (ص) في سرية فصلّى بأصحابه على ظهر، فاقتحم رجل من الناس فصلى على الأرض، فقال: خالف خالف الله به، فما مات حتى خرج من الإسلام.

وفرق كبير بين هذا وذاك، فذاك رجل اختبر رسول الله (ص) _ كما يبدو _ إيمانه وإخلاصه... فيما ظهر نفاق هذا وبعده عن الإيمان.

ابن رواحة و آيات قرآنية

في رواية: لما نزلت الآية: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (1)

قال عبدالله بن رواحة: قد علم الله أنّي منهم، فأنزل الله عزّوجلّ: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)؛ حتى ختم الآية. (2)

وعن ابن عباس أنّ الآية المباركة: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا). (3)

نزلت في جماعة كان منهم عبدالله بن رواحة.

لقد انقبضت أسارير وجهه حيث نزول الآية الأولى، واغتمّ غمّاً عظيماً وذهبت

به الظنون كلّ مذهب حتى نزلت الآية الاُخرى، التي أزالت عن صدره هذه الظنون وذلك الغم.

وفي قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ). (4)


1- الشعراء: 224.
2- المصدر نفسه: 227.
3- المصدر نفسه.
4- الصف: 2_4.

ص: 404

في نفر من الأنصار منهم عبدالله بن رواحة; قالوا في مجلس: لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله عزّوجلّ لعملنا به حتى نموت، فلما نزلت فيهم، قال ابن رواحة: ولا أزال حبيساً في سبيل الله عزّوجلّ حتى أموت، فقتل شهيداً رحمة الله عليه.

وفي رواية أنّ رسول الله (ص) دفع إلى نفر من أصحابه فيهم عبدالله بن رواحة يذكرهم الله، فلما رأى رسول الله (ص) سكت، فقال رسول الله (ص) : «ذكّر أصحابك» فقال: يا رسول الله، أنت أحقّ مني.

قال: «أما إنكم الذين أمرني الله أن أصبر نفسي معهم، ثمّ تلا عليهم: (وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية إلى آخرها. (1)

قال: وما قعد عِدتكم قط يذكرون الله إلاّ قعد معهم عددهم من الملائكة، فإن حمدوا الله حمدوه، وإن استغفروا الله أمّنوا، ثمّ عرجوا إلى ربّهم، فسألهم وهو أعلم منهم، فقال: أين ومن أين؟

قالوا: ربّنا، عبيد لك من أهل الأرض ذكروك فذكرناك.

قال: ويقولون: ماذا؟

قالوا: ربنا حمدوك، فقال: أولُ من عُبد وآخر من حُمد.

قالوا: وسبّحوك.

قال: مدحي لا ينبغي لأحد غيري.

قالوا: كبّروك.

قال: لي الكبرياء في السموات والأرض، وأنا العزيز الحكيم.

قالوا: ربّنا استغفروك.

قال: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم.

قالوا: ربنا فيهم فلان وفلان؟!

قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.


1- الكهف: 28.

ص: 405

_ وفي الآية (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ). (1)

عن ابن عباس أنّها نزلت في عبدالله بن رواحة، وكانت له أمَة سوداء، وإنّه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبيّ الله (ص) فأخبره خبرها.

فقال له النبيّ الله (ص): ما هي يا عبدالله؟

قال: هي تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسوله.

فقال: يا عبدالله هذه مؤمنة.

فقال عبدالله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها، ففعل.

فطعن عليه ناسٌ من المسلمين وقالوا: نكح أَمَة، وكانوا يريدون أن يُنكحوا إلى المشركين ويُنكحوهم رغبةً في أحسابهم.

فأنزل الله تعالى فيهم: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ).

ابن رواحة ثالث ثلاثة شعراء

كان ابن رواحة شاعراً مجيداً، وقد نقل لنا الرواة مقاطع من شعره، و عَدّوه واحداً من ثلاثة شعراء عرفتهم الصحبة النبوية المباركة، ونالوا منها حظاً وافراً، وموقعاً إعلامياً ضرورياً، لا تستغني عنه أي حركة تغييرية خاصة في بيئة كتلك التي احتلّ فيها الأدب والشعر بالذات مكانةً مرموقةً، بل دخل كلّ معالم ومفاصل حياتهم ونواحيها المتعددة، حتى غدا وسيلتهم الإعلامية الأولى والمحببة، التي يتجاوبون ويتفاعلون معها، فهي التي تخاطب عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم، كما أنهما، أي الشعر والنثر _ إضافة الى أنهما وسيلتان إعلاميتان مهمتان _ مدرستان تثقيفيتان متنقلتان، تربيان النفوس، بما تحملانه من معان حسنة أو سيئة; لهذا ولغيره راحت المدرسة النبويّة تستثمرهما _ بعد تهذيبهما من شوائب الجاهلية _ في خدمة الإسلام ودعوته الخالدة، وبأيامها ومواقعها المشهودة.


1- البقرة: 221.

ص: 406

فكان عبدالله بن رواحة، وهو الذي عرف في أوساطهم بكونه شاعراً من الطراز الأول، راحت كتب التأريخ والأدب تذكر لنا شعره وأراجيزه وهو يقاتل، وهو يطوف، وهو يدعو إلى الله تعالى، وهو يهاجم أعداء الله ورسوله... واحداً من ثلاثة شعراء عرفتهم الصحبة النبوية، وعرفهم العصر الأول للإسلام ودعوته، وهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وثالثهم الصحابي الجليل ابن رواحة.

وفي جوابه عن سؤال يقال: إنّ رسول الله (ص) وجهه له يوماً:

ما الشعر؟

قال: شيء يختلج في صدر الرجل، فيخرجه على لسانه شعراً.

قال: فهل تستطيع أن تقول شيئاً الآن؟

فنظر في وجه رسول الله (ص) فقال: نعم، فأنشد من البسيط ثمانية أبيات منها:

إنّي توسمت فيك الخير نافلةً

والله يعلم إني ثابت البصر

فثبت الله ما آتاك من حسن

تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

وعنه رحمه الله أنّه قال: مررت ب النبيّ الله (ص) وهو جالس في نفر من أصحابه، فأضب القوم (أي تكلموا متتابعاً): يا عبدالله بن رواحة، يا عبدالله بن رواحة، فعرفت أنّ رسول الله (ص) دعاني، فانطلقت إليهم مسرعاً، فسلّمت.

فقال: ها هنا، فجلست بين يديه.

فقال _ كأنه يتعجب من شعري _ : كيف تقول الشعر إذا قلت؟

قلت: أنظر في ذلك ثمّ أقول.

فقال: فعليك بالمشركين.

قال: ولم أكن أعددت شيئاً، فأنشدته، فلما قلت:

فخيّروني أثمان العَباءِ متى

كنتم بطاريق أو دانت لكم مضرُ

قال: فكأني عرفت في وجه رسول الله (ص) الكراهية أن جعلت قومه أثمان العباء، فقلت:

نُجالد الناس عن عُرض فنأسِرُهم

فينا النبي وفينا تُنزل السور

ص: 407

وقد علمتهم بأنّا ليس يغلبنا

حيّ من الناس إن عَزّوا وإن كثروا

يا هاشم الخير إنّ الله فضّلكم

على البريّة فضلاً ماله غيرُ

إني تفرّست فيك الخير أعرفه

فراسةً خالفتهم في الذي نظروا

ولو سألت او استنصرت بعضهم

في جلّ أمرك ما آوَوا ولا نُصروا

فثّبت الله ما آتاك من حسن

تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

فأقبل عليّ بوجهه متبسّماً ثم قال (ص) : «وإيّاك فثبت الله».

وتصدى ثلاثة من كفار قريش وهم: أبوسفيان بن الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزبيري، ليهجوا رسول الله (ص) وأصحابه.

فقال قائل لعليّ: أُهج عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا.

فقال علي: «إن أذن لي رسول الله (ص) فعلت».

فقال الرجل: يا رسول الله، أتأذن لعلي كيما يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا؟

فقال: ليس هناك... ثم قال للأنصار: ما يمنع القوم الذين قد نصروا رسول الله (ص) بسلاحهم وأنفسهم أن ينصروه بألسنتهم؟

فقال حسان بن ثابت: أنا لها يا رسول الله وأخذ بطرف لسانه، فقال: والله ما يسرني به مقولاً بين بصرى وصنعاء.

فقال له رسول الله (ص): وكيف تهجوهم وأنا منهم؟

فقال: إني أسلُّك منهم كما تُسلّ الشعرة من العجين.

فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة.

فكان حسان بن ثابت وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيّرانهم بالمثالب.

وكان عبدالله بن رواحة يعيّرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنّه ليس فيهم شرّ من الكفر.

ص: 408

وكانوا في ذلك الزمان أشدّ القول عليهم قول حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وأهون القول قول عبدالله بن رواحة؛ فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشدَّ القول عليهم قول عبدالله بن رواحة.

وفي يوم الخندق، حيث كان رسول الله (ص) ينقل التراب حتّى وارى التراب شعر صدره المبارك، راح عبدالله بن رواحة هذا الصحابي الجليل يرتجز قائلاً:

أللهم لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلنْ سكينةً علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إنّ الأولى قد بغوا علينا

وإن أرادوا فتنةً أبينا

وكان ارتجازه هذا تلبية لأمر رسول الله (ص) حينما قال له: أنزل فحرك بنا التراب.

وبعد أن أنشد أرجوزته المذكورة دعا رسول الله (ص) له قائلاً: «أللهم ارحمه».

وفي شعره وهو يمدح رسول الله (ص) حين يقول:

وفينا رسول الله يتلو كتابَهُ

إذا انشقّ معروف من الفجر ساطع

يبيتُ يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أنّ ما قال واقع

هذا لعمري من معاريض الكلام...

ونسب لهذا الصحابي لطائف أضحكت رسول الله (ص):

فقد كانت لعبدالله بن رواحة جارية يستسرّها سرّاً عن أهله، فبصرت به امرأته يوماً قد خلا بها، فقالت: لقد اخترتَ أمَتك على حُرّتك، فجاحدها ذلك.

قالت: فإن كنت صادقاً فاقرأ آية من القرآن، وفي رواية: وقد عهدته لايقرأ القرآن وهو جنب.

فقال من الوافر:

شهدتُ بأنّ وعدَ الله حقٌّ

وأنّ النار مثوى الكافرينا

قالت: فزدني آية أخرى، فقال:

ص: 409

وأنّ العرشَ فوقَ الماء طاف

وفوق العرشِ ربُّ العالمينا

فقالت: زدني آية أخرى، فقال:

وتحملُهُ ملائكةٌ كرامٌ

ملائكةُ الإلهِ مقرَّبينا

وفي ديوانه... شدادٌ... مؤمنينا

فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري.

فأتى ابن رواحة رسول الله (ص) فحدّثه، فضحك رسول الله (ص) ولم يغيّر عليه.

وزاد في رواية بمعناه، فقالت له: أما إذا قرأت القرآن، فإنّي قد عرفت أنه مكذوب عليك.

فافتقدته ذات ليلة، فلم تجده على فراشها، فحبست نفسها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في ناحية الدار، فقالت: الآن صدقت فيما بلغني، فجحدها، فقالت: اقرأ الآيات من القرآن إن كنت صادقاً، فإنك إن كنت جنباً لم تقرأ، فقال من الطويل:

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشقّ معروف من الصبح ساطعُ

لبيت يجافى جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالكافرين المضاجعُ

أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا

له موقنات أن ما قال واقعُ

وأعلم علماً ليس بالظنّ أنني

إلى الله محشورٌ هناك وراجعُ

فحدث رسول الله (ص) بذلك، فاستضحك حتى ردّ يده على فيه، وقال:

«هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر الله لك يابن رواحة، إن خياركم خيركم لنسائكم».

فأخبرني ماالذي ردّت عليك، حيث قلت ما قلت؟

قال: قالت لي: الله بيني وبينك، أما إذ قرأت القرآن فإني أتهم ظني وأصدقك.

فقال رسول الله (ص) : «لقد وجدتها ذات فقه في الدين».(1)


1- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12: 158_159.

ص: 410

ابن رواحة في عمرة القضاء

بعد رجوعه9 إلى المدينة من خيبر منتصراً، أقام في المدينة شهري ربيع وجُمادَيين ورجباً وشعبان ورمضان وشوالاً، ثمانية أشهر، وكان يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه9.

بعدها خرج9 من المدينة في شهر ذي القعدة من سنة سبع للهجرة النبوية، قاصداً مكة معتمراً عمرة القضاء، بعد أن صدّه مشركو مكة عنها عام الفتح في شهر ذي القعدة سنة ستّ، وسمّي شهر الصدّ، وهو من الأشهر الأربعة الحرم، ثلاثة سردٌ أي متتابعة (ذوالقعدة وذوالحجّة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب).

فيما سمّيت عمرة شهر ذي القعدة من العام السابع بعمرة القِصاص، لأنّ المشركين صدّوا رسول الله (ص) في شهر ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ستّ، فاقتص رسول الله (ص) منهم، فدخل مكة في الشهر نفسه الذي صدّوه فيه من سنة سبع، وقد أنزل الله تعالى في ذلك: (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ). (1)

وقد خرج مع رسول الله (ص) المسلمون ممّن كان صدّ معه في عمرته، وعدّتهم كانت ألفين سوى النساء والصبيان.

وحين دخل رسول الله (ص) مكة في عُمرة القضاء هذه دخلها وكان الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة آخذاً بخطام ناقة رسول الله وهو يرتجز قائلاً:

خلّوا بني الكفار عن سبيله

خلّوا فكلّ الخير في رسوله

يا ربّ إنّي مؤمن بقيله(2)

أعرف حقّ الله في قبوله

نحن قتلناكم على تأويله

كما قتلناكم على تنزيله(3)

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويُذهل الخليل عن خليله


1- البقرة: 194.
2- بقيله: أي قوله.
3- أي نحن نقاتلكم على إنكار تأويله، كما قتلناكم على إنكار تنزيله.

ص: 411

والذي يبدو أنّ (نحن قتلناكم على تأويله... ويذهل الخليل عن خليله) كانت للصحابي الجليل عمار بن ياسر رضوان الله عليه، ارتجز بهما في غير هذا اليوم أي يوم معركة صفين التي دارت رحاها بين جيش الإمام علي (ع)، وجيش البغاة بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وقد استشهد فيها عمار بن ياسر رحمه الله تعالى.

والدليل على هذا، وهو ما ذكره ابن هشام صاحب السيرة، أنّ ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقرّوا بالتنزيل، وإنّما يُقتل على التأويل من أقرّ بالتنزيل. (1)

ويقال: إن عمر بن الخطاب قال: يا بن رواحة، في حرم الله وبين يدي رسول الله (ص) تقول هذا الشعر؟

فقال رسول الله (ص): خلّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشدّ عليهم من وقع النبل. (2)

وبينما كان رسول الله (ص) يطوف بالبيت في عمرة القضاء على بعير له، يستلم الركن بمحجن، كان عبدالله بن رواحة آخذاً بغرزه، وينشد بين يديه من أرجازه:

يارب لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينةً علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

إنّ الذين قد بغوا علينا

وإن أرادوا فتنةً أبينا

هذا ما ذكره السيد الجميلي في كتابه صحابة النبي (ص)، دون أن يذكر مصدر هذا الشعر، فيما ذكر صاحب مختصر تاريخ دمشق وقال: إنّ هذه الأبيات كانت لابن رواحة يوم الخندق.

كما ذكرناها في حفر الخندق.

إذن فعبدالله بن رواحة كان حاضراً عمرة القضاء، ولم يحضر فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، لأنّه استشهد في جمادى الأولى من السنة نفسها في معركة مؤتة، فما


1- أنظر السيرة النبوية، لابن هشام 4 : 13.
2- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12 : 155.

ص: 412

نسب إليه من أشعار كان خطأً، والذي يبدو أن كعب بن مالك هو الذي كان يرتجز بين يدي رسول الله (ص) في فتح مكة، وليس عبدالله بن رواحة. (1)

من حكمه رضوان الله عليه

اتّسمت مواقفه وأحاديثه بالحكمة والموعظة الحسنة، وطالما كان يذكر إخوانه وأصحابه بما يرضي الله تعالى، وبما يشدّهم إلى ذكره سبحانه، فعن أبي الدرداء أنّه قال:

أعوذ بالله أن يأتي عليّ يوم، لا أذكر فيه عبدالله بن رواحة.

وراح أبو الدرداء يواصل حديثه عن إيمان ابن رواحة وحبّه لمجالس التفكر والذكر قائلاً:

كان إذا لقيني مقبلاً، ضرب بين ثدييّ، وإذا لقيني مدبراً ضرب بين كتفيّ، ثمّ يقول: يا عويمر، اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فنجلس فنذكر الله ما شاء، ثمّ يقول: يا عُويمر، هذه مجالس الإيمان، إن مثل الإيمان مثل قميصك، بينا أنت قد نزعته إذ لبسته، وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته، يا عُويمر، للقلب أسرع تقلّباً من القدر إذا استجمعت غلياً. (2)

ويقال: إنّ عبدالله بن رواحة _ وقبل غزوة مؤتة _ كان قد مرض مرضاً شديداً، حتى أغمي عليه، فكانت أخته عمرة تعدّد مآثره وتبكيه، فلما أفاق، قال لأخته: ما قلتِ فيّ شيئاً إلاّ أنبوني ووبخوني، أي فلا تنبغي النياحة.

ونقل أنّه في مرضه هذا، عاده النبيّ الله (ص) وهو مغمى عليه، فقال (ص) : «أللّهم إن كان أجله قد حضر، فيسر عليه وإلاّ فاشفه».

فوجد خفّةً وأفاق.

فقال: كأنّ ملكاً قد رفع مرزبة من حديد، (وكأنّه ردّ على نياحة أخته وتعدادها لمناقبه ومآثره)، ويقول: أأنت كذا؟


1- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12 : 155.
2- المصدر نفسه 12 : 157_ 158.

ص: 413

فلو قلتُ: نعم، لقمعني بها.

كلّ هذا كان دليلاً على عدم رضاه عن ذكر مناقبه، وكان دليلاً على تواضعه وزهده في شأن الدنيا ومراتبها، حتى وإن كان جديراً بها وأنّه ينالها بحقّ.

موقفان لابن رواحة مع يهود خيبر

الموقف الأول: غزا عبدالله بن رواحة يهود خيبر بأمر من رسول الله (ص)، وقد أصاب فيها يُسير بن رزام، الذي كان يبذل جهوداً كبيرة في تجميع قبائل غطفان، استعداداً لغزو رسول الله (ص) فما كان من رسول الله (ص) إلاّ أن بعث إليه عبدالله بن رواحة في نفر من أصحابه، منهم عبدالله بن أنيس حليف بني سلمة، فلما قدموا عليه كلّموه، وواعدوه، وقرّبوا له، وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول الله (ص) استعملك وأكرمك.

فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود، فحمله عبدالله بن أنيس على بعيره وردفه، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر، على ستة أميال، ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول الله (ص). ففطن له عبدالله بن أنيس وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثمّ ضربه بالسيف فقطع رجله، وضربه اليسير بمخرش في يده من شوقط، فأمّه في رأسه، وقتل الله يُسيراً، ومال كل رجل من أصحاب رسول الله (ص) على صاحبه من يهود فقتله، إلاّ رجلاً واحداً أفلت على رجليه أو على راحلته، فلما قدم عبدالله بن أنيس على رسول الله (ص) تفل أي بصق بصاقاً خفيفاً على شجّته، فلم تقح ولم تؤذه.

الموقف الثاني: فكما كان ابن رواحة عظيماً في إيمانه، شجاعاً في جهاده، كان عظيماً في عفّته، شجاعاً في عدله وزهده.

ففي رواية، أنّ رسول الله (ص) قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم،... وكان عبدالله بن رواحة يأتيهم بأمر من رسول الله (ص) في كلّ عام فيُخرصها(1)عليهم، ثمّ يضمنهم الشطر،


1- الخرص: خرص الشيء فهو خارص: أي حزر الشيء وقدره بالظن، يقال: خرص النخل والكرم: حَزرَ ما عليه من الرطب تمراً، ومن العنب زبيباً، وفي الحديث: «أنّه (ص) أمر بالخَرص في النخل والكرم خاصة». اُنظر مصادر اللغة.

ص: 314

فشكوا إلى رسول الله (ص) شدّة خرصه، وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله، تطعموني السُّحت، والله لقد جئتكم من عند أحبّ الناس إلي، وأنتم أبغض إلي من عدَّتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبّي إياه على أن لا أعدل عليكم.

فكان جوابهم أن قالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض.

فيما هناك رواية أخرى بهذا الخصوص تقول:

إنّهم جمعوا حُليّاً من حُليّ نسائهم، فقالوا:

هذا لك، وخفّف عنا وتجاوز في القسم.

فما كان جواب بن رواحة، الذي اتّسم موقفه هذا، كما مواقفه الأخرى بالشدّة المتصفة بالعدل والحق، إلاّ أن أجابهم بقوله: يا معشر يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليّ، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأمّا الذي عرضتم عليَّ من الرشوة، فإنها سُحتٌ وإنّا لا نأكلها.

قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. (1)

ابن رواحة ثالث ثلاثة أمراء!

«هي إن شاء الله الشهادة!»

في جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة النبوية، وفي قرية من أرض البلقاء من الشام، وقعت معارك طاحنة اتّسمت بالضراوة والشدّة بين جيش المسلمين وتعداده ثلاثة آلاف تحت إمرةِ ثلاثة من الأمراء المسلمين، حتى سميت هذه الغزوة بغزوة جيش الأمراء، حيث خاضوا معركة لم يخض المسلمون معركة مثلها كما وصفت، وكان أعداء المسلمين من المشركين الروم، قد ادّرعوا بالعتاد والأعداء، ما يملأ السهل والجبل، وما لا طاقة للمسلمين به.

وكان الصحابي عبدالله بن رواحة أحد أمراء هذا الجيش المسلم الثلاثة، الذين عينهم


1- السيرة النبوية، لابن هشام 4 : 266 ؛ تاريخ الطبري 2 : 208 ؛ ومختصر تاريخ دمشق 12: 157.

ص: 415

رسول الله (ص).

تقول الرواية:

بعث رسول الله (ص) بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيدَ بن حارثة وقال:

«إن أُصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أُصيب جعفر فعبدالله بن

رواحة على الناس، وزاد الزرقاني: فإن قتل فليتربص المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم».

فتجّهز الناس ثمّ تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودّع الناسُ أمراء رسول الله (ص)، وسلّموا عليهم، فلما ودّع عبدالله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله (ص) بكى; فقالوا:

ما يبكيك يابن رواحة؟ أو أنهم زعموا أنّ ابن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة، فبكى أهله حين رأوه يبكي.

فقال: أمَا والله ما بي حبُّ الدنيا ولا صبابة بكم، أو والله ما بكيت جزعاً من الموت ولاصبابة لكم، ولكني سمعت رسول الله (ص) يقرأ آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ، يذكر فيها النار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} أو أنيّ بكيت من قول الله: (الآية) فقد علمتُ أني وارد النار، ولا أدري أو فلستُ أدري كيف لي بالصَّدر بعد الورود، أو فأيقنت أنّي واردها ولم أدرِ أنجو منها أو لا؟!

فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردّكم إلينا صالحين.

وهنا أنشد عبدالله بن رواحة:

لكنني أسأل الرحمن مغفرةً

وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا(1)

أو طعنةً بيدي حرّان مُجهزةً

بحربة تُنفذ الأحشاءَ والكبدا(2)


1- ذات فرغ: ذات سعة؛ والزبد هنا: رغوة الدم.
2- مجهزة سريعة القتل؛ تنفذ الأحشاء: تخترقها.

ص: 416

حتى يُقال إذا مرّوا على جَدَثي

أرشده الله من غاز وقد رشدا(1)

ثمّ إن القوم تهيّئوا للخروج، فأتى عبدالله بن رواحة رسول الله (ص) فودعه، ثمّ قال:

فثبت الله ما آتاك من حَسَن

تثبيت موسى ونصراً كالذي نُصروا

إني تفرّست فيك الخيرَ نافلةً

اللهُ يعلم أني ثابت البصر

أنت الرسول فمن يُحرم نوافله

والوجهَ منه فقد أزرى به القدر

وفي رواية:

أنت الرسول فمن يحرم نوافله

والوجهَ منه فقد أزرى به القدر

فثبت الله ما آتاك من حسن

في المرسلين ونصراً كالذي نُصروا

إني تفرّست فيك الخيرَ نافلةً

فراسةً خالفت فيك الذي نظروا

يعني المشركين، وهذه الأبيات في قصيدة له.

قال ابن إسحاق: ثمّ خرج القوم، وخرج رسول الله (ص) حتى إذا ودّعهم وانصرف عنهم، قال عبدالله بن رواحة:

خلَفَ السلامُ على امرىء ودّعته

في النخل خيرَ مُشيّع وخليل

لمّا ودع رسول الله (ص) عبدالله بن رواحة، قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيء أحفظه عنك.

قال: «إنك قادم غداً بلداً، السجود فيه قليل، فأكثر السجود»؛ قال عبدالله بن رواحة: زدني يا رسول الله.

قال: «أذكر الله فإنه عون لك على ما تطالب».

فقام من عنده، حتى إذا مضى ذاهباً، رجع إليه فقال: يا رسول الله، إنّ الله وتر يحب الوتر.

قال: يابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدة.

فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيء بعدها.


1- الجدث والجدف: القبر.

ص: 417

ويقول زيد بن أرقم، وكان يتيماً في حجر عبدالله بن رواحة:

فلم أرَ والي يتيم خيراً منه.

وقد خرج معه فحمله على حقيبة رحله، وخرج به غازياً إلى مؤتة، فسمعه زيد وهو يتمثل أبياته التي قال فيها مخاطباً ناقته:

إذا أدنيتني وحملت رحلي

مسيرة أربع بعد الحِساء(1)

فشأنك فانعمي وخلاكِ ذمٌّ

ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وجاء المؤمنون وغادروني

بأرض الشام مشتهي الثواء

وردّك كلّ ذي نسب قريب

إلى الرحمن وانقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع نخل

ولا بعل أسافلها رِداء(2)

(أي إذا استشهدت لم أبال ِ ما تركت من عِذْي النخل وسقيه). (3)

فلما سمعه زيد بكى فخفقه بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل.

وراح ابن رواحة يرتجز لزيد قائلاً:

يا زيدُ زيدَ اليعملات الذبلِ

تطاولَ الليلُ هُديتَ فانزلِ

أي انزل فسُق القوم.

وفي حديث آخر بهذا المعنى: ثمّ نزل من الليل فصلّى ركعتين، ثمّ دعا فيهما دعاءً طويلاً ثمّ قال لي: يا غلام، فقلت: لبيك قال: هي إن شاء الله الشهادة.

ثمّ مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناسُ أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مأة ألف من الروم، وانضم إليهم من لحم وجُذام والقين وبهداء وبلي مأة ألف منهم، عليهم رجل من بلي ثمّ أحد إراشة يقال له: مالك بن زافلة.


1- الحساء: موضع، معجم البلدان، وأنظر لسان العرب: حسا.
2- البعل: ما شرب بعروقه من الأرض، أنظر اللسان، بعل.
3- عذا: والعذي من النبات: البعل.

ص: 418

فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله (ص) فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يُمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له.

فشجّع الناسَ عبدُالله بن رواحة، وقال:

يا قوم، والله إن التي تكرهون للّتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقابلهم إلاّ بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين:

إما ظهور

وإما شهادة

وفي رواية أنهم في سيرهم إلى تبوك إذ هم بناحية معان، بضمّ الميم أو فتحها، وهي مدينة في طريق بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء، وهي من أرض الشَّراة، والشراة: صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول (ص). (1)

وهم بهذه الناحية مُعان، أخبروا أنّ الروم قد نُذروا أي علموا، وجمعوا لهم جموعاً

كثيرة من الروم وقضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فاستشار زيد بن حارثة أصحابه فقالوا:

قد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف، فإنّه لا يعدل العافية شيء.

وعبدالله ساكت، فسأله زيد بن حارثة فقال: إنّا لم نسر إلى هذه البلاد، ونحن نريد الغنائم، ولكنا خرجنا نريد لقاءَهم، ولسنا نقاتلهم بعدد ولا عدّة، فالرأي المسير إليهم.

فقبل زيد رأيهُ وسار إليهم. (2)

فقال الناس: قد والله صدق ابنُ رواحة ; فمضى الناس، فقال عبدالله بن رواحة في مَحبسهم ذلك:


1- أنظر معجم البلدان.
2- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12: 162_163.

ص: 419

جلبنا الخيل من أجاء وفرع

تُغَرُّ من الحشيش لها العُكومُ(1)

حَذَوناها من الصَّوّان سِبْتاً

أزلَّ كأن صَفحتَه أد ِيم(2)

أقامت ليلتين على مَعان

فأعقِبَ بعد فترتها جُمُوم(3)

فرُحنا والجيادُ مسوّمات

تنفَّس في منافرها السموم(4)

فلا وأبى مآب لنأتينها

وإن كانت بها عربٌ وروم(5)

فعبأنا أعنتها فجاءت

عوابسَ والغبارُ لها بريم(6)

بذي لجب كأنّ البيض فيه

إذا برزت قوانسُها النجوم(7)

فراضيةُ المعيشة طلّقتْها

أسنَّتُها فتَنكحُ أو تئيم(8)

حتى إذا كان جيش المسلمين بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثمّ دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى


1- أجأ: أحد جبلي طيء، والآخر سلمى؛ وفرع (بالفتح): اسم موضع من وراء الفرك؛ وقال ياقوت: الفرع: أطول جبل بأجأ وأوسطه؛ والظاهر أن هذا هو المراد هنا؛ وتغر بالغين المعجمة: تطعم شيئاً بعد شيء. يقال: غر الفرج غرا وغراراً: زفه؛ والعكوم: جمع عكم بالفتح وهو الجنب؛ ويروى: جلبتا الخيل من أجام قُرح، وقرح: سوق وادي القرى، كما عند ياقوت وقد ذكره منسوباً إلى ابن رواحة.
2- حذوناها: جعلنا لها حذاء وهو النعل؛ والصوان: حجارة ملس واحدتها: صوانة؛ والسبت: النعال التي تصنع من الجلود المدبوغة؛ وأزل أي أملس صفحته ظاهرة؛ والأديم: الجلد، هذا ما قاله أبوذر، فيما قال السهيلي: أي حذوناها نعالاً من حديد، جعله سبتاً لها مجازاً، وصوان: من الصون، يصون حوافرها أو أحقافها، إن أراد الأبل فقد كانوا يجذونها السريح، وهو جلد يصون أخفافها؛ وأظهر من هذا أن يكون أراد بالصوان يبيس الأرض، أي لا سبت لها إلاّ ذلك.
3- الفترة: الضعف والسكون، والجموم: اجتماع القوّة والنشاط بعد الراحة.
4- مسومات: مرسلات؛ والسموم: الريح الحارة.
5- مآب: اسم مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء؛ قال السهيلي: يجوز نصبه بفعل مقدر، أو مرفوع على الابتداء.
6- البريم في الأصل: خيطان مختلطان أحمر وأبيض، تشدّهما المرأة على وسطها أو عضدها؛ وكل ما فيه لونان مختلطان فهو بريم أيضاً؛ يريد ما علاها من الغبار، فخالط لونه لونها؛ والدمع المختلط بالإثمد؛ وهذا أقرب لمعنى البيت: أي أن دموع الخيل اختلطت بالتراب فصارت كالبريم.
7- ذي لجب: أي جيش؛ واللجب: اختلاط الأصوات وكثرتها والبيض: ما يوضع على الرأس من الحديد؛ والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى البيضة.
8- وتئيم: تبقى دون زوج، يقال: آمت المرأة إذا لم تتزوج.

ص: 420

الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بنى عُذرة يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له: عُبابة بن مالك، أو عبادة بن مالك.

ثمّ التقى الناسُ واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله (ص)، حتى شاط (أي سال دمه فهلك) في رماح القوم.

ثمّ أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء (أي رمى بنفسه عنها) فعقرها، ثم قاتل حتى قُتل، فكان جعفر رضوان الله عليه أول رجل من المسلمين عَقَر في الإسلام؛ (وعلى فرض صحّة هذا الخبر، فقد يكون المبرر لعقرها هو خوفه من أن يأخذها العدو فيقاتل عليها المسلمين) وقاتل حتى استشهد، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، بعد أن قطعن يداه في المعركة.

فلما استشهد جعفر أخذ عبدالله بن رواحة الراية، ثمّ تقدم بها على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثمّ قال:

أقسمت يا نفس لتنزلنَّهْ

لَتنزلِنَّ أو لَتُكرَهِنَّهْ

إن أجْلَب الناسُ وشدّوا الزَّنَّهْ

مالي أراك ِ تكرهين الجنَّهْ(1)

قد طال ما قد كنت ِ مطمئنهْ

هل أنت ِ إلاّ نُطفة في شَنّهْ

وقال أيضاً:

يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي

هذا حِمام الموت قد صَليت ِ

وما تمنّيت فقد اُعطيت ِ

إن تفعلي فِعلهما هديت ِ

وإن تأخرت ِ فقد شقيت ِ

يريد بهذا صاحبيه اللذين استشهدا قبله: زيداً وجعفراً، وتقول الرواية: ثمّ نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعَرق ِ لحم (عظم عليه بعض لحم) فقال: شدّ بهذا صُلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه مالقيت، فأخذه من يده ثمّ انتهس منه نهسة. (2)


1- أجلب القوم: صاحوا واجتمعوا؛ والرنة: صوت فيه ترجيع شبه البكاء.
2- نهس اللحم: أخذه بمقدّم الأسنان، والنهش: الأخذ بجميعها؛ أنظر لسان العرب: نهس.

ص: 421

ثمّ سمع الحطمة،(1)

في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثمّ ألقاه من يده، ثمّ أخذ سيفه فتقدّم.

وروي أنّ الراية لما انتهت إلى عبدالله بن رواحة، جاءه الشيطان فرغبه في الحياة وكرّه إليه الموت، ثمّ تذكر فصاح بأولئك النفر الذين حضروا ذلك المجلس، الذي بعث إليهم رسول الله (ص) فتلا عليهم: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ). (2) أين ما كنتم عاهدتم الله عليه، قد جاء مصداقه، اصدقوا الله بصدقكم.

فجاؤوه يَخبون كأنهم بقر نزعت من تحتها أولادها، فتقدموا بين يديه، واُتي ابن رواحة بلوح من ضلع وقد التاث،(3) جوعاً فردّه، وقال: هذا أدعه فيما أدعه من الدنيا، فشدّ عليهم وشدّوا حتى شُدِخوا جميعاً.

إذن، ما إن قتل جعفر بن أبي طالب حتى دعا الناس: يا عبدالله بن رواحة، يا عبدالله بن رواحة.

وكان في جانب العسكر، ومعه ضلع حمل ينهسه، ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع ثمّ قال:

وأنت مع الدنيا!

ثمّ تقدم، فقاتل، فأصيبت إصبعه، فارتجز قائلاً:

هل أنت ِ إلاّ اصبعٌ دُميت ِ

وفي سبيل الله ما لَقيت ِ

يا نفسُ إلاّ تُقتلي تموتي...

وواصل أرجوزته هذه وقد ذكرنا شيئاً منها هنا وشيئاً هناك.

ثم قال: يا نفس، إلى أيّ شيء تتوقين؟!

إلى فلانة؟!


1- الحطمة: زحام الناس، وحطم بعضهم بعضاً؛ اللسان: حطم.
2- الصف: 4.
3- التاث فلان في عمله: أبطأ، والمراد هنا: ضعف؛ أنظر اللسان: لوث.

ص: 422

فهي طالق بالثلاثة، وإلى فلان وفلان، غلمان له، وإلى معجف: حائط له، فهو لله ولرسوله، ثمّ ارتجز:

يا نفسُ مالك تكرهين الجنة

اُقسمُ بالله لتنزلنّه

طائعةً أو لا لتُكرَهنّه

فطالما قد كنت ِ مطمئنة

هل أنت إلاّ نطفةٌ في شنّه

قد أجلبَ الناسُ وشدّوا الرّنّه

وفي خبر أنّ ابن رواحة لما نزل للقتال طعن، فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه، ثمّ صرع بين الصفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذبّوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتى يحوزوه، فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.

ويصف الدكتور الجميلي ما دار في غزوة مؤتة بقوله: وفي غزوة مؤتة يواجه المسلمون فرسان الروم بأعداد كثيرة لا تحصى تملأ السهل والجبل، ويستشرف المسلمون عدوهم المدجج بالسلاح، مسلحين باليقين والتقوى، وتقابل الجمعان والتحم الفريقان، وسقط «زيد بن حارثة» أمير جيش المسلمين، فاستلم مكانه «جعفر بن أبي طالب» وسرعان ما سعت إليه الشهادة وعوجل إلى ربّه، فكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء الذين تولوا إمرة جيش المسلمين، فضربوا أجناد هرقل من الروم، وأخذ يصول ويجول في أحشائهم حتى أدركته الشهادة، وما هي إلاّ لحظات حتى يتناهى خبر الشهداء الثلاثة إلى رسول الله (ص) وما قدّموه من بطولات وفدائية، فترحم عليهم واستغفر لهم ثمّ أطرق قليلا ثمّ قال:

«لقد رفعوا إليَّ في الجنّة»

وفي خبر عن أنس: أنّ رسول الله (ص) نعى إلى الناس _ أو إلينا _ جعفراً وابن رواحة وزيداً وعيناه تذرفان; ولما قتل جعفر بمؤتة أخذ الراية بعده عبدالله بن رواحة، فاستُشهد.

قال: ثمّ دخل الجنة معترضاً، فشقّ ذلك على الأنصار فقالوا: يا رسول الله، ما اعتراضه؟

قال: لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فَشَجُع فاستشهد فدخل الجنة، فسُرّيَ عن قومه.

وفي خبر آخر عن ابن إسحاق أنه قال: ولما أصيب القوم، قال رسول الله (ص) فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة، فقاتل بها حتى قُتل شهيداً، ثمّ أخذها جعفر، فقاتل بها حتى قتل شهيداً.

ص: 423

قال: ثمّ صمت رسول الله (ص) حتى تغيّرت وجوه الأنصار، وظنوا أنّه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثمّ أخذها عبدالله بن رواحة، فقاتل بها حتى قُتل شهيداً; ثم قال: لقد رفعوا إليّ في الجنة، فيما يرى النائمُ، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازوراراً (أي ميلاً وعوجاً) عن سريري صاحبيه، فقيل: عمّ هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردّد عبدالله بعض التردّد، ثمّ مضى.

وفي خبر أنّ رسول الله (ص) صعد المنبر، وأمر فنودي: الصلاة جامعة! فاجتمع الناس إلى رسول الله (ص) فقال: باب خير، باب خير، باب خير! أخبركم عن جيشكم هذا الغازي، إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيداً واستغفر له، ثمّ أخذ اللواء جعفر، فشدّ على القوم حتى قتل شهيداً، فشهد له بالشهادة واستغفر له، ثم أخذ اللواء عبدالله بن رواحة، فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً، فاستغفر له.

وفي رواية قال النبيّ الله (ص): «مثلوا لي في الجنة في خيمة من درّة كلّ واحد منهم على سرير، فرأيت زيداً وابن رواحة في أعناقهما صدوداً، وأما جعفر فهو مستقيم ليس فيه صدود، قال: فسألت أو قال: قيل لي: إنهما حين يخشيهما الموت كأنهما أعرضا أو كأنهما صدّا بوجوههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل».

قال ابن عيينة: فذلك حين يقول ابن رواحة:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

بطاعة منك أو لتكرهنه

فطالما قد كنت مطمئنة

جعفر ما أطيب ريح الجنّة(1)

ووقف حسان بن ثابت يوم مؤتة يبكي ويرثي جعفراً، ولما انثنى من رثائه راح يرثي ويبكي زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة; وممّا قاله في عبدالله بن رواحة:

ثمّ جُودي للخزرجيّ يدمع

سيداً كان ثمّ غير نزور

قد أتانا من قتلهم ما كفانا

فبحزن نبيت غير سرور


1- حلية الأولياء، للاصفهاني 1: 121.

ص: 424

وله أيضاً:

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا

بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبدالله حين تتابعوا

جميعاً وأسباب المنية تخطر

فيما هناك مرثية بحقهم ألقاها كعب بن مالك يوم وصول خبر استشهادهم رضوان الله عليهم.

نام العيون ودمعُ عينك يهمل

سحّاً كما وكفَ الطبابُ المخضلُ(1)

في ليلة وردت عليَّ همومها

طوراً أحنّ وتارةً أتململ

واعتادني حزن فبت كأنني

ببنات نعش والسّماك موكّل

وكأنما بين الجوانح والحشى

ممّا تأوبني شهاب مُدخل

وجدا على النفر الذين تتابعوا

يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلّى الإله عليهم من فتية

وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للإله نفوسهم

حذر الردى ومخافةً أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم

فُنقُ عليهن الحديد المرفل(2)

ثم يواصل رثاءه لجعفر بن أبي طالب رحمه الله تعالى.

وقال شاعر آخر ممّن كان حاضراً غزوة مؤتة:

كفى حزناً أنّي رجعت وجعفر

وزيد وعبدالله في رمس أقبُرِ

قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم

وخُلفتُ للبلوى مع المتغيّر

ثلاثة رهط قُدّموا فتقدّموا

إلى ورد مكروه من الموت أحمر

فسلام عليك يابن رواحة

قرير العين بين الأبرار

الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. (3)


1- الطبابة: وهي سير بين خرزتين في المزادة، فإذا كان غير محكم ولف منه الماء وقيل الضباب، والمخضل: السائل الندي.
2- الفنق: الفحول من الإبل، الواحد: فنيق؛ المرفل: الذي تنجر أطرانه على الأرض، يريد أن دروعهم سابقة.
3- أنظر ترجمة حياة هذا الصحابي الجليل فيما تيسّر لي من مصادر، السيرة النبوية، لابن هشام؛ وتاريخ الطبري؛ ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور؛ والتاج الجامع للأصول، للشيخ منصور علي ناصيف؛ وصحابة النبي (ص) للدكتور الجميلي...

ص: 425

(18) خزيمة بن ثابت الأنصاري، ذو الشهادتين

اشارة

حسن الحاج

قيض الله سبحانه وتعالى نفوساً طيبة من أصحاب رسول الله (ص) ومن رواد مدرسته الربانية المباركة, وقد ملئت قلوبهم إيماناً وصلابة ووعياً وبصيرة ثاقبة, وهيأها لكي تجني ثمار إيمانها الواعي و سعيها الحثيث, وكدحها الدؤوب, وجهادها المتواصل, وتسابقها في الخيرات, و لصدقها وإخلاصها في جميع ذلك, فقد حباها نبي الرحمة9 بدوره أوسمة رفيعة, ومناقب جليلة, وشمائل عالية, وصفات جميلة, صارت من أجلّ الألقاب التي يحبونها, وراحت تتزين بها أكتاف أصحابها بحق, ويتفاخرون بها دون تعال وتكبر, وحفظتها لهم الأجيال والتاريخ ومصادره, فيما اشرأبّت إليها أعناق آخرين دون جدوى.

فبعضهم حظي بها بعد استشهاده أو وفاته؛ فحمزة بن عبدالمطلب كان يلقب أسدالله في حياته و سيدالشهداء بعد وفاته.

وجعفر بن أبي طالب وصف بأنه جعفر الطيار ذو الجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء.

ص: 426

وحنظلة بن أبي عامر الراهب غسيل الملائكة.

وسعد بن معاذ اهتز لموته عرش الرحمن...

وبعض حظي بها في حياته: خزيمة بن ثابت هذا الصحابي الكبير الذي نحن بذكره, كان واحداً من القلة الذين منحتهم السماء وساماً رائعاً ألبسه رسول الرحمة (ص) له (خزيمة ذو الشهادتين) أي عدت شهادته بشهادة رجلين، لصدقه وعدله ونفاذ بصيرته ووعيه وعمق, إيمانه, فظل محتفظاً به حريصاً عليه, لم يفرط فيه طيلة حياته الإيمانية والجهادية, حتى اقترن بوسام آخر أجل منه وأعظم, إنه وسام الشهادة المباركة, ليختم به عمره, ويختصر به الطريق إلى حيث الفردوس الأعلى في جنة عرضها السماوات والأرض {... مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً}.(1)

وهكذا ظل وما زال هذا الأنصاري الأوسي الخطمي المدني يعرف بذي الشهادتين, وإذا ما ذكر اسمه عقّب بعده مباشرة بهذا الوسام, الذي لم يناقش أو يشكك في نسبته إليه أحد أبداً، بل ولم يذكر اسمه إلا وهو مقترن بهذا اللقب إلا قليلاً.

نسبه

هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن غيان _ ويقال: عنان _ بن عامر بن خطمة، وقيل: حنظلة، وقد صوّبوا الأول.

واسمه عبدالله بن جشم بن مالك بن أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.

هذا نسبه من أبيه؛ وأما من أمه، فهي كبشة بنت أوس بن عدي بن أمية بن عامر بن ثعلبة.

وفي نسبه اختلاف، وقيل: حنظلة بدل خطمة، والصواب خطمة بغير شك.. وهو عامر بن خطمة الوارد في نسبه من أبيه, وهو الذي ورد في طبقات ابن سعد في ترجمة كبشة. (2)


1- النساء: 69.
2- طبقات ابن سعد 8 : 354.

ص: 427

وربما يكون المقصود بثعلبة هذا هو جده ثعلبة بن عمرو بن عامر, وقد اكتفى

بذكره اختصاراً.

وختاماً فخزيمة بن ثابت هذا هو ذو الشهادتين, وهو: أبوعمارة الأنصاري الأوسي الخطمي المدني، من أشراف قبيلة الأوس؛ أحسن الصحبة لرسول الله (ص) ولأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) وإن لم يتيسر لي معرفة أول إسلامه: فابن هشام في السيرة النبوية لم يورد اسمه في الذين بايعوا رسول الله (ص) في العقبتين الأولى والثانية ولا حتى الأخيرة، إلاّ أنه وبعد أن شرح الله سبحانه وتعالى صدره للإيمان عاش الإيمان بروحه وشعوره ووجدانه, وأحب الله تعالى ورسوله (ص) وأهل بيته صلوات الله عليهم بصدق وإخلاص واستقامة، لا يشوبها شك ولا يخالطها تردد، هدفه الأول والأخير رضا الله تعالى وجنة عرضها السماوات والأرض, فكان بحق من مصاديق هذه الآية المباركة: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.(1)

وقد راح هو وصاحبه عمير بن عدي يكسران أصنام بني خطمة قومهم بلاخوف من عقاب. (2)

شهد مشاهد وغزوات رسول الله (ص) ومنها معركتا أحد والخندق، وما بعدهما من المعارك والغزوات.

أما معركة بدر الكبرى فلم يذكره ابن هشام في عداد المشاركين فيها؛ ويبدو أن هذا _ وقد يكون هناك غيره _ هو السبب الذي أوجد الخلاف بين المؤرّخين في مسألة حضوره بدراً أو عدمه, إلاّ أنهم اتفقوا على حضوره ما بعدها من المشاهد مع رسول الله (ص). كان خزيمة من المشاركين في غزوة مؤتة بناحية الكرك بالبلقاء في جمادى الأولى لسنة ثمان من الهجرة, حيث خاض هناك _ هو ومن معه _ معركةً لم يخض المسلمون معركةً مثلها, فقد


1- التوبة: 100.
2- مختصر تاريخ دمشق 8 : 45.

ص: 428

تدرّع المشركون الروم بالعتاد والجند ما يملأ السهل والجبل وما لا طاقة للمسلمين به، كما وصف ذلك عدد من المؤرخين, فاستشهد الكثير ممن كتبت له الشهادة بمن فيهم أمراء جيش المسلمين الثلاثة الذين استعملهم رسول الله (ص) وهم: زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فعبدالله بن رواحة رضوان الله عليهم جميعاً. (1)

فيما عاد المقاتلون الذين كتبت لهم السلامة إلى المدينة، و الألم يعتصر قلوبهم مما جرى.

ومن الطبيعي أن تبقى أشياء كثيرة من ذكريات تلك المعركة الشرسة عالقة في أذهان المشاركين بها, فراح العديد من المقاتلين يتحدثون بها بين الفترة والأخرى.

فهذا عمارة بن خزيمة يحدث عن أبيه أنه قال: حضرت مؤتة، فبارزت رجلاً يومئذ فأصبته وعليه بيضة له, فيها ياقوتة, فلم يكن همّي إلاّ الياقوتة فأخذتها, فلما انكشفنا وانهزمنا رجعت بها إلى المدينة فأتيت بها رسول الله (ص) فنفلنيها, فبعتها زمن عمربن الخطاب بمائة دينار, فاشتريت حديقة نخل بني خطمة. (2)

ويوم فتح مكة في شهر رمضان عام 8 هجرية كانت كل قبيلة من قبائل المسلمين تحمل رايتها, فيما كانت مع خزيمة بن ثابت راية قومه بني خطمة. (3)

ذو الشهادتين!

تواترت في قصة هذا الوسام الرائع والصفة الحميدة عدة روايات من أنّ رسول الله (ص) اشترى فرساً من سواء بن قيس المحاربي فجحد, فشهد له خزيمة بن ثابت.

فقال رسول الله (ص) : ما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضراً؟!

قال: صدقتك بما جئت به, وعلمت أنك لا تقول إلاّ حقاً.

وفي خبر آخر: صدقناك بخبر السماء ولا نصدقك بخبر اشتراء ناقة؛ فقال رسول الله (ص):


1- مقاتل الطالبيين : 30 ؛ والمصادر التاريخية الأخري.
2- المغازي للواقدي 2 : 769 ؛ مختصر تاريخ دمشق 8 : 45.
3- المصدر نفسه.

ص: 429

«من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه».

وفي رواية أخرى: أنّ النبي (ص) ابتاع فرساً من أعرابي, فاستتبعه النبي (ص) ليقضيه ثمن فرسه, فأسرع النبي (ص) المشي وأبطأ الأعرابي, فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس, لا يشعرون أنّ النبي (ص) ابتاعه, حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه به النبي (ص) فنادى الأعرابي النبي (ص) فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلا بعته.

فقال النبي (ص) حين سمع نداء الأعرابي: أوليس قد ابتعته منك؟ قال الأعرابي: لا والله ما بعتك.

فقال النبي (ص) : بلى، قد ابتعته منك.

فطفق الناس يلوذون بالنبي (ص) والأعرابي وهما يتراجعان, فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك, فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك! إنّ النبي (ص) لم يكن ليقول إلاّ حقاً, حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي (ص) ومراجعة الأعرابي, وطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك.

فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته.

فأقبل النبي (ص) على خزيمة فقال: بم تشهد؟ أو _ كما في رواية ثانية _ كيف تشهد ولم تحضره ولم تعلمه؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله! أو أنه قال _ حسب رواية أخرى _ : يا رسول الله نحن نصدقك على وحي من السماء، فكيف لا نصدقك على أنك قضيته؟! فأنفذ (ص) شهادته وسمّاه «ذا الشهادتين» لأنه صيّر شهادته شهادة رجلين، وصارت شهادته _ بهذا الوصف له من قبل رسول الله (ص) _ في أي قضية يدعى لها تغني عن طلب شاهد آخر.

أو لأن خزيمة _ كما في خبر آخر _ شهد للنبي (ص) على يهودي في دين قضاه (ع).

أنه الأيمان الوثيق واليقين العميق والبصيرة الواعية! فهيأه كل هذا لاستحقاق ذلك اللقب العظيم والوصف الجليل.

ص: 430

وقد احتلت هذه الرواية مكاناً لها في المناقشات الفقهية عند الفريقين في باب حجية علم القاضي وفي باب الشهادات. (1)

وافتخر الأنصار!

يعد هذا الشعار كرامةً أخرى تضاف إلى سجلّ الأنصار, الذين نالوا حظاً وافراً في آيات قرآنية مباركة وأحاديث وأقوال نبوية شريفة، راحت تضفي عليهم صفات عالية, وتذكر لهم مواقف شامخة، حتى غدوا أهلاً لثناء السماء ومدحها.

فقد وصفهم الله تعالى بأنهم مؤمنون، وبأنّ المغفرة والرزق الكريم نصيبهم، بسبب ما قدموه لرسول الله وللمؤمنين المهاجرين من إيواء ونصرة, فقال في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَ_رُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.(2)

وانظر الآية 72 من سورة الأنفال، حيث فيها تكريم لهم لإيوائهم المهاجرين وعلى رأسهم نبي الرحمة، ونصرتهم لهم أيضاً.

وهم الذين قال فيهم رسول الله (ص): «لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار».

إلى غير هذا من الإطراء عليهم وعلى ما قدّموه من أعمال حميدة وخدمات جليلة وفقهم الله تعالى لها, فاستحقوا عليها كل ذلك الثناء والذكر الطيب.

* فقد افتخر الأوس _ وكان حقاً لهم أن يفتخروا _ بثلّة مؤمنة منهم، تتضمن أربعةً من أصحاب رسول الله (ص) تشرفوا بالصحبة النبوية المباركة، وحظوا بمناقب عالية وأوسمة رفيعة.

فقالوا: منا غسيل الملائكة، حنظلة بن راهب؛ ومنا من اهتز له عرش الرحمن، سعد بن عبادة؛ ومنا من حمته الدبر أي النحل والزنابير، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقد أصيب يوم أحد, فمنعت النحل الكفار منه, وذلك أنّ المشركين لما قتلوه أرادوا أن يمثلوا به, فسلط


1- أنظر في هذا كله وسائل الشيعة 18 : الباب 18من أبواب كيفية الحكم، ح3 ؛ مختصر تاريخ دمشق 8 : 46_47 ؛ وأحكام القرطبي 3 : 405 ؛ والإصابة في معرفة الصحابة : 2347 وغيرها من المصادر التاريخية والروائية والفقهية.
2- الأنفال: 74.

ص: 431

الله عزّوجل عليهم الزنابير الكبار تأبر الدارع، فارتدعوا عنه حتى أخذه المسلمون فدفنوه. (1)

ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين: خزيمة بن ثابت.

* فيما راحت الخزرج هي الأخرى تعدد مناقب أربعة من أبنائها، وكأنه جاء رداً على ما تفاخرت به الأوس.

فقال الخزرجيون: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله (ص) إذ لم يجمعه غيرهم, وهم: زيد بن ثابت, وأبو زيد, وأبي بن كعب, ومعاذ بن جبل. (2)

إلا أنّ افتخارهم بهذه المناقب وبتلك الأوسمة _ وهي ألقاب كانوا يحبونها بصدق _ كاد أن يكون سبباً لإثارة ما دفن من أحقاد وضغائن ونزاعات قديمة بينهم دامت قرابة مائة عام, وذلك قبل أن يوحّدهم الإسلام ونبي الرحمة محمد (ص) ولولا تدخّل السماء وحكمة رسول الله (ص) لهمّوا أن يقتتلوا.

فقد ذكر جمع من المفسرين أنّ سبب نزول آيتي: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.(3)

هو ما وقع من افتخار بين أوسيّ وخزرجي حول ما يتمتع به بعضهم من مناقب وفضائل.

فقد قال مقاتل: افتخر رجلان من الأوس والخزرج، ثعلبة بن غنم من الأوس، وأسعد بن زرارة من الخزرج.

فقال الأوسي: منّا ابن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت حمي الدين، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضي بحكمه في بني قريظة.


1- لسان العرب، مادة: «دبر».
2- أحكام القرآن، للقرطبي 1: 56 ؛ مختصر تاريخ دمشق 8 : 47.
3- آل عمران : 102_ 103.

ص: 432

وقال الخزرجي: منا أربعة أحكموا القرآن، أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم.

فجرى الحديث بينهما، فغضبا وتفاخرا وناديا، فجاء الأوس إلى الأوسي والخزرج إلى الخزرجي، ومعهم السلاح.

فبلغ ذلك النبي (ص) فركب حماراً وأتاهم, فأنزل الله هذه الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا. (1)

وهذه ليست الوحيدة والأخيرة بينهم، فانظر أسباب النزول للواحدي في خصوص الآية: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالإِْفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ...}. (2) تجد ما دار بين سعد بن معاذ زعيم الأوس؛(3) وسعد بن عبادة زعيم الخزرج, فثار الحيّان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله (ص) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت.

هذا إضافة إلى ما كان يذكيه يهود المدينة ويغذونه من نعرات قديمة بين الحيّين الأوس والخزرج.

رؤيا خزيمة!

عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه: أنه رأى في المنام كأنه سجد على جبين رسول الله (ص) فذكر ذلك لرسول الله (ص).

فقال رسول الله (ص) : «إنّ الروح لا تلقى الروح» ؛ فأقنع رسول الله (ص)، ثم أمره فسجد من خلفه على جبينه، جبين رسول الله (ص).


1- مجمع البيان، للطبرسي 2 : 804 في تفسير الآيتين المذكورتين؛ وراجع غيره من التفاسير.
2- النور : 11.
3- وفي هذا كلام، لأنّ سعد بن معاذ توفي بعد حكمه المشهور في بني قريظة، وهو أمر وقع قبل حادثة الإفك بفترة تجاوزت أشهراً عديدة، أللهم إلا أخذنا بما ذكره الواقدي من أنّ غزوة بني المصطلق التي وقعت فيها حادثة الإفك كانت قبل غزوة بني قريظة، بل وقبل غزوة الخندق، فكانتا بعد المريسيع لحرب بني المصطلق من خزاعة، فوقعت في شعبان سنة خمس من الهجرة، وهو كما يبدو خلاف مشهور المؤرخين الذي يذهب إلي أنّ رسول الله (ص) غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست من الهجرة؛ أنظر تاريخ الطبري 2 : 104.

ص: 433

جمع القرآن

أكدت كثير من المصادر التاريخية والروائية أنه كان لخزيمة بن ثابت «ذو الشهادتين» دور واضح في مهمة جمع آيات كتاب الله تعالى, فقد راح العديد من الصحابة يستعينون به في هذا المشروع، خاصة حين فقدانهم لبعض الآيات القرآنية المباركة.

فعن زيد بن ثابت أنه قال: لما كتبنا المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله (ص): {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.(1)

فوجدتها عند خزيمة بن ثابت، وكان يدعى ذا الشهادتين، فألحقتها في سورتها.

وفي رواية أخرى: أنّ عمربن الخطاب أراد أن يجمع القرآن, فقام في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله (ص) شيئاً من القرآن فليأتنا به.

وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب _ جمع عسيب، وهو جريدة النخل مما لا ينبت عليه الخوص كما في لسان العرب _ وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان, فقتل وهو يجمع ذلك.

فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده من كتاب الله عزّوجل شيء فليأتنا به, وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتى يشهد عليه شهيدان.

فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني قد رأيتكم قد تركتم آيتين لم تكتبوهما.

قال: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله (ص) : {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). (2)

قال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عندالله, فأين تريد أن تجعلهما؟ قال: اختم بهما آخر


1- الأحزاب: 23.
2- التوبة: 128_ 129.

ص: 434

ما نزل من القرآن؛ فختمت بهما براءة. (1)

ووجدوا عند خزيمة بن ثابت _ وفي رواية عند أبي خزيمة _ آية : {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

مما رواه

كان خزيمة رضوان الله عليه ملازماً لمدرسة القرآن والنبوة، لآياتها، ومواقفها، وآثارها، وثمارها, حريصاً عليها, حافظاً لها, مستفيداً منها، أميناً في نقل ما تيسر له مما توفر عليه من علم ومعرفة، وآيات قرآنية مباركة، وأحاديث نبوية شريفة, وكان منها : _ عنه عن رسول الله (ص) أنه قال: «عمار تقتله الفئة الباغية».

* وروي عنه _ وعن جمع آخر _ أنّ رسول الله (ص) جمع بين المغرب والعشاء بجُمع، صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة. (2)

* وعنه: نهانا رسول الله (ص) أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم.

* وعنه عن رسول الله (ص) أنه قال: «من استطاب بثلاثة أحجار ليس فيهن رجيع كان له طهوراً».

* وعنه: كان (ص) إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه ومغفرته، واستعاذ برحمته من النار.

* وعنه أنّ النبي (ص) : «من أصاب ذنباً فأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته».

* وعنه عن النبي (ص) أنه قال: «إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة».(3)


1- مختصر تاريخ دمشق8 : 46 ؛ البيان، للسيد الخوئي: 242_243 ؛ أحكام القرآن، للقرطبي1 : 50.
2- أحكام القرآن، للقرطبي 2 : 424.
3- استشهد بأحد جنباً، فلذلك رأي النبي (ص) الملائكة تغسله.

ص: 435

* ومن غرائب حديثه _ كما ورد في مختصر تاريخ دمشق _ ما حدث أنهم كانوا عند رسول الله (ص) في المسجد، وهو مسند ظهرَه إلى بعض حجرات نسائه, فدخل رجل من أهل العالية فجلس يسأل رسول الله (ص) فشم منه رسول الله (ص) ريحاً تأذى هو وأصحابه.

_ فقال: «من أكل من هذه الشجرة فلا يؤذينا بها».

وهناك أحاديث أخرى إضافة إلى ما توفرت عليه هذه المقالة من رواياته رضوان الله تعالى عليه.

ولاؤه للإمام علي (ع) ولأهل البيت (عليهم السلام)

كان خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين من أتباع مدرسة أهل بيت النبوة والعصمة والطهارة سلام الله عليهم, وهو ما عرف به وعرفت به مواقفه، دفاعاً عن حقانية العترة الطاهرة المتمثلة في زمنه بالإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه, وظل هذا الرجل على استقامته هذه لم يغيّر ولم يبدل، حتى فاضت روحه شهيداً بين يدي أميرالمؤمنين علي سلام الله عليه في يوم صفين.

روايته لحديث الثقلين

وقد تشرف بأن يكون واحداً من رواة حديث الثقلين المعروف, وهو الحديث الذي يبين منزلة أهل البيت سلام الله تعالى عليهم، وأنهم الثقل الثاني بعد القرآن, وأنّ التمسك بهما معاً هو الذي ينجي من الضلالة والتيه والانحراف.

فعن أبي الطفيل: أنّ علياً (ع) قام فحمد الله و أثنى عليه, ثم قال: أنشد الله من شهد يوم غدير خم إلا قام, ولا يقوم رجل يقول: ثبت أو بلغني إلا رجل سمعت أذناه ووعاه قلبه, فقام سبعة عشر رجلاً، منهم خزيمة بن ثابت و...

فقال علي (ع): «هاتوا ما سمعتم».

فقالوا: نشهد أنا أقبلنا مع رسول الله (ص) من حجة الوداع ونزلنا بغدير خم، ثم نادى

ص: 436

بالصلاة جامعة، فصلينا معه, ثم قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

«أيها الناس ما أنتم قائلون؟».

قالوا: قد بلغت.

قال: أللهم اشهد ثلاث مرات، ثم قال: إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، ثم قال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إذا تمسكتم بهما لن تضلوا, فانظروا كيف تخلفوني فيهما, وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض, بذلك نبأني اللطيف الخبير, ثم قال: إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين, ألستم تعلمون أني أولى بكم من أنفسكم؟

قالوا: بلى.

قال ذلك ثلاثاً؛ ثم أخذ بيدك يا أميرالمؤمنين فرفعها وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه, أللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

فقال علي: صدقتكم وأنا على ذلك من الشاهدين. (1)

هم الأئمة

وكان رضوان الله عليه من كبار أصحاب أميرالمؤمنين علي (ص) ومن قادة جنده المعروفين بالصلابة والفداء, ومن جلسائه المقرّبين إليه, ومن أوائل الذين دافعوا عن منزلة أهل البيت (عليهم السلام) وأنهم أئمة الحق الذين يقتدى بهم، كما جاء في رواية الاحتجاج للطبرسي بسنده عن ابن تغلب عن الإمام جعفر الصادق (ع).

ووقع هذا يوم أنكر جمع من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية، وسلمان الفارسي، وأبوذر الغفاري و...

ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و... واحدقوا بالمنبر بمحضر من الخليفة الأول وجمع كبير من المسلمين... ثم راح


1- أنظر حديث الثقلين، لنجم الدين العسكري : 84 .

ص: 437

كل واحد منهم يدلي بحجته حتى وصل الأمر إلى خزيمة بن ثابت فقال:

أيها الناس، ألستم تعلمون أنّ رسول الله (ص) قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري؟

قالوا: بلى.

قال: فاشهد أني سمعت رسول الله (ص) يقول:

«أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم».

وقد قلت ما علمت وما على الرسول إلا البلاغ المبين. (1)

أذكر علياً وآله

في الأيام الأولى لخلافة أبي بكر اعتزل جمع من الأنصار عنه, فغضبت قريش من

موقف الأنصار هذا... فقالت لعمرو بن العاص: قم، فتكلم بكلام تنال فيه من الأنصار، ففعل ذلك.

فقام الفضل بن العباس فرد عليهم، ثم صار إلى علي (ع) فأخبره، وأنشده شعراً قاله.

فخرج علي (ع) مغضباً حتى دخل المسجد، فذكر الأنصار بخير، ورد على عمرو بن العاص قوله.

فلما علمت الأنصار ذلك سرها وقالت: ما نبالي بقول من قال مع حسن قول علي.

واجتمعت إلى حسان بن ثابت فقالوا: أجب الفضل.

فقال: إن عارضته بغير قوافيه فضحني.

فقالوا: فاذكر علياً فقط.

أما خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال:

أذكر علياً وآله يكفيك عن كل شيء.

فانشد حسان أبياتاً تسعاً كان منها:


1- راجع الاحتجاج، للطبرسي.

ص: 438

جزى الله خيراً والجزاء بكفه

أبا حسن عنا ومن كأبي حسن؟!

غضبت لنا إذ قال عمرو بخصلة

أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن

ألست أخاه في الهدى ووصيه

وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن؟(1)

من أوائل المبايعين

وكان أيضاً من أوائل الذين بايعوا الإمام علياً سلام الله عليه بالخلافة من الأنصار الذين ذكرهم الشيخ المفيد رحمه الله تعالى, وعدد منهم تسعة وعشرين احتل ذو الشهادتين الرتبة الثانية بينهم, ثم عقب الشيخ في نهاية هذه السلسلة مشيداً بالأنصار قائلاً:

في أمثالهم من الأنصار الذين بايعوا البيعتين، وصلوا القبلتين، واختصوا من مدائح القرآن والثناء عليهم من نبي الهدى عليه وآله السلام بما لم يختلف فيه من أهل العلم اثنان, وممن لو أثبتنا أسماءهم لطال بها الكتاب, ولم يحتمل استيفاء العدد الذي حددناه. (2)

وقد ذكر السيد محسن الأمين في كتابه«في رحاب أئمة أهل البيت» أنّ الحاكم روى في المستدرك بسنده أنه لما بويع علي بن أبي طالب على منبر رسول الله (ص) قال خزيمة بن ثابت, وهو واقف بين يدي المنبر:

إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا

أبو حسن مما نخاف من الفتن

رجوناه أولى الناس بالناس إنه

أطب قريش بالكتاب وبالسنن

وإن قريشاً ما تشق غباره

إذا ما جرى يوماً على الضمر البدن

وفيه الذي فيهم من الخير كله

وما فيهم كل الذي فيه من حسن

هذا، وقد انضم ذو الشهادتين إلى الإمام (ع) وشارك معه في المعارك التي خاضها أثناء خلافته، كمعركة الجمل ضد الناكثين، ومعركة صفين ضد القاسطين معاوية وجنده؛ وأبلى فيهما بلاءً حسناً.


1- الغدير، للشيخ الأميني 2 : 42 _ 43.
2- المفيد، الجمل: 105_ 106.

ص: 439

في معركة الجمل

في منتصف جمادى الآخرة وقعت حرب الجمل بين جيش الزبير وطلحة ومعهم أم المؤمنين عائشة من جهة, وجيش الإمام علي (ع) من جهة أخرى.

ذو الشهادتين وابن الحنفية

كانت راية الإمام علي (ع) مع ابنه محمد بن الحنفية فنخس قفاه، وقال له: احمل فتقدم، حتى لم يجد متقدماً إلا على سنان رمح؛ فقال: تقدم لا أمّ لك، فتلكأ، فتناول الراية من يده وقال: يابني بين يدي.

وفي رواية ابن أبي الحديد: أنه دفع إليه الراية يوم الجمل وقد استوت الصفوف.

وقال له: احمل فتوقف قليلاً فقال له: احمل.

فقال يا أميرالمؤمنين، أما ترى السهام كأنها شآبيب المطر فدفع في صدره وقال: أدركك عرْق من أمك؛ ثم أخذ الراية فهزها ثم قال:

اطعن فها طعن أبيك تحمد

لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرقي والقنا المسدد

ثم حمل وحمل الناس خلفه، فطحن عسكر البصرة.

قيل لمحمد: لم يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرّر بالحسن والحسين؟

فقال: إنهما عيناه وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه.

ثم دفع الراية إلى محمد وقال: امح الأولى بالأخرى وهذه الأنصار معك، وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من الأنصار كثير من أهل بدر، وحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلى بلاءً حسناً.

فقال خزيمة بن ثابت لعلي (ع) : أما أنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح، ولئن كنت خفت عليه الجبن وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه؛ وإن كنت أردت أن تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال.

ص: 440

وقالت الأنصار: يا أميرالمؤمنين لولا ما جعل الله تعالى للحسن والحسين ما قدمنا على محمد أحداً من العرب.

فقال علي (ع): أين النجم من الشمس والقمر؟! أما أنه قد أغنى وأبلى وله الفضل.

فقال خزيمة بن ثابت فيه:

محمد ما في عودك اليوم وصمة

ولا كنت في الحرب الضروس معوداً

أبوك الذي لم يركب الخيل مثله

علي وسماك النبي محمداً

فلو كان حقاً من أبيك خليفة

لكنت ولكن ذاك ما لا يرى أبدا

وأنت بحمد الله أطول غالب

لساناً وأنداها بما ملكت يداً

وأطعنهم صدر الكمى برمحه

وأكساهم للهام عضباً مهنداً

سوى أخويك السيدين كلاهما

إمام الورى والداعيان إلى الهدى

أبى الله أن يعطى عدوك مقعداً

من الأرض أو في اللوح مرقى ومصعداً(1)

شعره يوم الجمل

ذكر ابن أبى الحديد في شرح نهج البلاغة: قال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين _ وكان بدرياً _ في يوم الجمل:

ليس بين الأنصار في جحمة الحر

ب وبين العداة إلا الطعان

وقراع الكماة بالقضب

البيض فإذا ما تحطم المران

فادعها تستجب فليس من الخز

رج والأوس يا علي جبان

يا وصي النبي قد أجلت الحر

ب الأعادي وسارت الأظعان

واستقامت لك الأمور سوى

الشام وفي الشام يظهر الأذعان

حسبهم ما رأوا وحسبك منا

هكذا نحن حيث كنا وكانوا


1- محسن الأمين، في رحاب أئمة أهل البيت 2 : 42_43.

ص: 441

ذو الشهادتين وأم المؤمنين

ولم يكتف ذو الشهادتين بذلك, بل راح يخاطب أم المؤمنين عائشة طالباً منها التخلّي عن موقفها التحريضي، والمناوئ لعلي (ع) , فيذكرها بأنه وصي رسول الله (ص) كما يذكر ابن ابي الحديد ذلك حيث يقول:

وقال خزيمة أيضاً يوم الجمل:

أعائش خلّي عن علي وعيبه

بما ليس فيه إنما أنت والدة

وصي رسول الله من دون أهله

وأنت على ما كان من ذاك شاهدة

وحسبك منه بعض ما تعلمينه

ويكفيك لو لم تعلمي غير واحدة

إذا قيل ماذا عبت منه رميته

بخذل ابن عفان وما تلك آبدة

وليس سماء الله قاطرة دماً

لذاك وما الأرض الفضاء بمائدة(1)

في معركة صفين

وكان خزيمة رضوان الله تعالى عليه ممن شهد معركة الجمل كما ذكرنا, و في سنة 37 هجرية شهد معركة صفين بجانب جيش الإمام علي (ع) وكان فيها من المقاتلين الأشداء المعروفين ببسالتهم.

فقد كان واحداً من أشياخ الأنصار الذين توجه إليهم الإمام طالباً منهم المشورة.

فقد ورد في الخبر: أنّ الإمام علياً (ع) لما أراد المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار, فحمد الله وأثنى عليه وقال:

«أما بعد، فإنكم ميامين الرأي, مراجيح الحلم, مقاويل بالحق, مباركو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم, فأشيروا علينا برأيكم».

فكان خزيمة واحداً من أولئك الذين استحقوا المنزلة التي اختارها أميرالمؤمنين (ع) لهم,


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 1 : 145_ 146.

ص: 442

وقد حظي هو ومن معه بهذه الصفات العظيمة التي لم تصدر من الإمام (ع) إذا لم يكونوا أهلاً لها أبداً؛ وقد سبقهم قيس بن سعد بن عبادة بالكلام، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أميرالمؤمنين, انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد،(1) فوالله لجهادهم أحب إليّ من جهاد الترك والروم, لادهانهم في دين الله واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد (ص) من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه. وفيئنا لهم بإحسان، إذا غضبوا علي رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه؛ وفيئنا لهم في أنفسهم حلال، ونحن لهم فيما يزعمون قطين. (2)

وما إن انتهى من كلامه حتى بادر أشياخ الأنصار _ وذكر منهم خزيمة بن ثابت وأبوأيوب الأنصاري وغيرهما _ فقالوا لقيس:

لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام؟

فقال: أما أني عارف بفضلكم, معظم لشأنكم, ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب.

فقال بعضهم لبعض: ليقم رجل منكم فليجب أميرالمؤمنين عن جماعتكم.

وهنا وقع اختيارهم على سهل بن حنيف.

فقالوا: قم يا سهل بن حنيف.

فقام سهل، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أميرالمؤمنين, نحن سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت, ورأينا رأيك ونحن كف يمينك، وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة, فتأمرهم بالشخوص, وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل, فإنهم هم أهل البلد وهم الناس، فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب..

وأما نحن فليس عليك منا خلاف, متى دعوتنا أجبناك, ومتى أمرتنا أطعناك. (3)


1- الانكماش: الإسراع والجد؛ والتعريد: الفرار والإحجام والانهزام.
2- القطين: الرقيق أو الخدم والأتباع والمماليك.
3- أنظر في هذا وقعة صفين، لنصر بن مزاحم المتوفي سنة 212، بتحقيق عبدالسلام محمد هارون: 93_94، منشورات مكتبة آية الله العظمي المرعشي النجفي قدس السره .

ص: 443

إذن فهم _ وكما في الخبر _ كانوا راغبين في الموافقة وتلبية طلب أميرالمؤمنين علي (ع) دون تردد من أحد بمن في ذلك الصحابي الجليل موضوع مقالتنا؛ وإن وردت رواية عن عمارة بن خزيمة أن خزيمة شهد الجمل وهو لا يسلّ سيفاً, وشهد صفين وقال: أنا لا أقتل أحداً حتى يقتل عمار, فأنظر من يقتله, فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: «تقتله الفئة الباغية».

قال: فلما قتل عمار بن ياسر قال خزيمة: قد بانت لي الضلالة, ثم اقترب، فقاتل حتى قتل.

وكان الذي قتل عمار بن ياسر أبوالغادية المزني, طعنه برمح فسقط, وكان يومئذ يقاتل في محفة،(1) فقتل يومئذ وهو ابن أربع وتسعين سنة، فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاحتز رأسه, فاقبلا يختصمان فيه, وكلاهما يقول: أنا قتلته.

فقال عمرو بن العاص: والله, إن تختصمان إلا في النار؛ فسمعها معاوية، فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو بن العاص: ما رأيت مثلما صنعت! قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان في النار؟!

فقال عمرو: وهو والله ذلك, والله إنك لتعلمه, ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة!

فعلى فرض صحّة هذه الرواية وسلامتها، مع أنها مخالفة لتفاصيل مواقفه المذكورة أعلاه في معركتي الجمل وصفين، والتي تدل بشكل واضح على يقينه وسلامة اختياره، فلا ضير فيها على خزيمة, وهو المعروف بنفاذ بصيرته وسلامتها, وعمق ولائه لأميرالمؤمنين علي (ع) وقد خرج إلى معركة صفين ومن قبلها معركة الجمل بكامل وعيه للحق الذي لا يفارق علياً (ع) وللباطل الذي لاذ به خصوم علي (ع) .

ولكن مع كل هذا، فقد يحدث للإنسان في لحظة ما تردد أو توقف وهو في أمر خطير جداً يحدد مصيره، أو وهو يخطرعلى باله قول رسول الله (ص) لا ينطق عن الهوى إن هو إلا


1- المحفة: المركب كالهودج، إلا أنّ الهودج يقبّب، والمحفة لاتقبب؛ راجع لسان العرب.

ص: 444

وحي يوحى بحقّ عمار بن ياسر:

«أن أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية، آخر زادك من الدنيا ضياح لبن».

فيجعله الرمز ورايته راية الحق, يستعين بها من تصيبه غفلة أو ضلالة أو حيرة، إما إلى الجنة وإما إلى النار, فينتظر برهة ثم يحسم أمره ليكون على بصيرة من أمره لا يشوبها ريب أو نقصان أبداً، أو أنه من باب ليطمئن قلبي لا غير.

فإن دلّت هذه العلامة المنحصرة بعمار رضوان الله تعالى عليه «تقتلك الفئة الباغية...» على شيء عظيم, فإنما تدل على رحمة الله تعالى بعباده, وحرص النبي (ص) على محبيه وأتباعه في أن لا تستبدّ بهم الضلالة والحيرة, وأن لا تبقى الغشاوة على أعينهم طويلاً, و أن لا ينزغ الشيطان بينهم وبين الحق الذي يريدون, فيصوّر الحق ضلالةً والضلالة حقاً, فتختلط عليهم الأوراق و قد يقع المحذور وسوء الاختيار, مع ضيق الوقت وخطورة الموقف وحراجته، مما لا يدع مجالاً لإعادة النظر واختيار الأصح والأصوب، فكان عمار ورايته الدليل الناصع على حقانية الطائفة التي يقاتل عمار دفاعاً عنها, وضلالة الطائفة التي يقاتلها, وهذا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد, فمن لم تذكره هذه الراية التي قدرت السماء أن يحملها عمار, والتي زينها رسول الله (ص) بقول آخر لعلي (ع) عندما ذكر عماراً:

«أما إنه سيشهد معك مشاهد أجرها عظيم, وذكرها كثير, وثناؤها حسن».

فمن لم يذكره كل هذا بمكان الحق والهدى, فهو الذي مات قلبه, أو لم يكن عنده قلب على الإطلاق, ولم يكن قد هيأ سمعه وأنصت بوعي لنداء الهدى، فاستبد به العناد، فكانت عاقبته الخزي في الدنيا، والعذاب في الأخرى, وذلك هو الخسران المبين.

وخزيمة وغيره من الأصحاب الذين نوّر الله تعالى قلوبهم بنور الحق، يعرفون جميع هذا وغيره بحكم ملازمتهم لرسول الله (ص) ووعيهم لأقواله وبحكم بصيرتهم النافذة في معرفة منزلة علي (ع) من رسول الله (ص) لهذا نراهم قد استبسلوا في الدفاع عن علي (ع) ومواقفه طيلة حياتهم.

ص: 445

وخزيمة هو الذي دعا أن يغتسل غسل الشهادة حينما آوى إلى فسطاطه.

تقول الرواية: عن الفضيل بن دكين قال: حدثنا عبدالجبار بن العباس الشامي عن أبي إسحاق قال: لما قتل عمار، دخل خزيمة بن ثابت فسطاطه وطرح عنه سلاحه، ثم شن عليه الماء فاغتسل، ثم قاتل حتى قتل.

ليرد معركة الشهادة التي تيقنها كأنه يراها أمام عينيه وهويرى عماراً على ترابها صريعاً شهيداً, وخزيمة يردد: لقد سمعتها من رسول الله (ص) : «عمار تقتله الفئة الباغية».

وفي رواية: أنّ عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: كنت بصفين فرأيت رجلاً ملثماً يقاتل الناس قتالاً شديداً يميناً وشمالاً, فقلت: يا شيخ، أتقاتل الناس يميناً وشمالاً؟!

فحسر رضوان الله عليه عن عمامته ثم قال:

سمعت رسول الله (ص) يقول: «قاتل مع علي جميع من يقاتله».

وأنا خزيمة بن ثابت الأنصاري.

ثم راح يواجه الموت بقلب متلهّف للشهادة، متيقن لأجرها وثوابها، وهو يرتجز قائلاً:

قد مرّ يومان وهذا الثالث

هذا الذي يلهث فيه اللاهث

هذا الذي يبحث فيه الباحث

كم ذا يرجى أن يعيش الماكث

الناس موروث ومنهم وارث

هذا علي من عصاه ناكث

وظل خزيمة يقاتل حتى استشهد بجوار الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضوان الله تعالى عليهما؛ ووقع هذا سنة سبع وثلاثين هجرية.

ثم راحت ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت التي عرفت بإيمانها وولائها للإمام علي سلام الله عليه ترثي أباها صاحب الشهادتين:

عين جودي على خزيمة بالدمع

قتيل الأحزاب يوم الفرات

قتلوا ذا الشهادتين عتواً

أدرك الله منهم بالتراب

قتلوه في فتية غير عزل

يسرعون الركوب للدعوات

نصروا السيد الموفق ذا العد

ل ودانوا بذاك حتى الممات

ص: 446

لعن الله معشراً قتلوه

ورماهم بالخزي والآفات

وانطلق عبدالله يزيد بن عاصم الأنصاري يرثي من قتل من أصحابه، وخزيمة رضوان الله عليه كان واحداً منهم, قائلاً:

يا عين جودي على قتلى بصفيناً

أضحوا رفاتاً وقد كانوا عرانيناً

أنى لهم صرف دهر قد أضرّ بنا

تباً لقاتلهم في اليوم مدفوناً

كانوا أعزة قومي قد عرفتهم

مأوى الضعاف وهم يعطون ماعوناً

أعزز بمصرعهم تباً لقاتلهم

على النبي وطوبى للمصابينا(1)

هذا، وهناك قول بأنّ ذا الشهادتين توفي في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وأنّ الذي استشهد مع الإمام علي (ع) في صفين هو صحابي آخر يحمل الإسم نفسه، أي خزيمة بن ثابت، إلا أنه ليس المعروف بذي الشهادتين؛ وهو قول شاذ، لأنه أولاً: مخالف لما أجمع عليه علماء السير من أنّ الذي استشهد في معركة صفين هو خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين, وأنه لم يمت في عهد عثمان.

وثانياً: لعدم وجود صحابي بهذا الإسم، أي خزيمة بن ثابت غير المتصف بذي الشهادتين.

الإمام علي (ع) يندب إخوانه ويطري عليهم ومنهم ذو الشهادتين

وقد راح الإمام علي (ع) يذكر إخوانه كما كان يسميهم, الذين استشهدوا في معركة صفين ويشيد بهم ويتمنى وجودهم, وكان الحزن يعتصر قلبه على مصرعهم, وهو يرى تخاذل جنده وأتباعه وتباطئهم في الاستجابة له حينما يستحثهم لمواصلة المرحلة الثانية من القتال ضد معاوية وجنده, ومما قاله سلام الله عليه:

«...ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفين إلا يكونوا اليوم أحياء؟

يسيغون الغصص ويشربون النق! قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم, وأحلهم دار الأمن


1- وقعة صفين، لنصر بن مزاحم: 364_366.

ص: 447

بعد خوفهم».

ثم راح يندبهم ويصفهم بالأخوة، ويعدد نماذج منهم قائلاً:

أين إخواني الذين ركبوا الطريق, ومضوا على الحق؟!» أي: استقاموا فيه لم ينحرفوا إلى هنا وهناك، لا يبتغون عنه بدلاً.

أين عمار؟!

وأين ابن التيهان؟!

وأين ذوالشهادتين؟! وهو خزيمة بن ثابت, والإمام سلام الله عليه راح يناديه بلقبه الذي جعله رسول الله (ص) له، أن عدّ شهادته منفردةً قائمة مقام شهادة رجلين.

وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة, وأبرد بروؤسهم إلى الفجرة؟!

ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة, فأطال البكاء ثم قال (ع):

«أوه على أخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه, وتدبروا الفرض فأقاموه, أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا, ووثقوا بالقائد فاتبعوه».

وبعد إطرائه عليهم رضوان الله عليهم نادى بأعلى صوته:

«الجهاد الجهاد عباد الله».(1)

ذو الشهادتين في كتب علماء الرجال

كان طبيعياً أن يحتل خزيمة بن ثابت مكانةً قيمةً عند علماء الرجال والحديث من الفريقين, لما تمتّع به هذا الصحابي الجليل من إيمان وثيق، وصدق حديث ورواية، استحق بها اللقب العظيم «ذو الشهادتين» الذي أضفاه عليه النبي الكريم (ص) ، تضاف إلى سجله الحافل بالمواقف الجهادية طوال حياته الإيمانية المباركة.

ففي رجال الشيخ الطوسي قدس السره:


1- نهج البلاغة، صبحي الصالح: 264.

ص: 448

خزيمة بن ثابت من أصحاب رسول الله. وعده مع توصيفه بذي الشهادتين في أصحاب علي (ع) . (1)

فيما قال عنه البرقي في آخر رجاله:

هو من الإثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر حيث قال: ألست تعلم يا أبابكر أنّ رسول الله (ص) قبل شهادتي وحدي.

قال: بلى.

قال: فإني أشهد بما سمعته منه وهو قوله: «إمامكم بعدي علي (ع) لأنه الأنصح لأمتي والعالم فيهم».

أما في العيون فقد ذكره: إنه من الذين مضوا على منهاج نبيهم، ولم يغيروا

ولم يبدلوا. (2)

وأما الكشي، فقد ذكر أكثر من رواية تبين مواقفه دفاعاً عن الإمامة الحقة المتمثلة بأميرالمؤمنين علي (ع) منها:

الرواية الأولى: رواية اغتساله قبل قتاله في صفين التي ذكرناها.

الرواية الثانية: رواية أنه سل سيفه في صفين قائلاً: سمعت رسول الله (ص) يقول: «عمار تقتله الفئة الباغية» التي ذكرناها.

الرواية الثالثة: جعفر بن معروف قال: حدثني محمد بن الحسن عن جعفر بن بشير عن حسين بن أبي حمزة عن أبيه حمزة قال: والله، إني على ظهر بعيري في البقيع إذ جاءني رسول فقال: أجب يا أبا حمزة فجئت وأبوعبد الله (ع) جالس، فقال: «إني لأستريح إذا رأيتك».

ثم قال: «إن أقواماً يزعمون أنّ علياً (ع) لم يكن إماماً حتى شهر سيفه، خاب إذن عمار وخزيمة بن ثابت وصاحبك أبو عمرة، وقد خرج يومئذ صائماً بين الفئتين بأسهم فرماها


1- رجال الشيخ الطوسي: 5.
2- راجع أسماءهم في ترجمة جندب بن جنادة في رجال الحديث للخوئي.

ص: 449

قرباً يتقرب بها إلى الله تعالى حتى قتل، يعني عماراً».(1)

وذكر السيد الخوئي قدس السره في رجال الحديث سبب تسميته أو توصيفه بذي الشهادتين عن كتاب الكافي، كتاب الشهادات 5 باب النوادر 23، ح1 في المجلد:8 ونقل السيد الخوئي أيضاً أقوال جمع من علماء الرجال ذكرنا بعضها أعلاه، فانظر ترجمته هناك مفصلة.

وهكذا تحدث عنه علماء آخرون كالذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء، فقد قال عنه: خزيمة بن ثابت الفقيه أبو عمارة الأنصاري الخطمي المدني ذو الشهادتين، قيل: إنه بدري، والصواب إنه شهد أحداً وما بعدها؛ وله أحاديث.

وكان من كبار جيش علي (ع) فاستشهد معه يوم صفين.

حدث عنه ابنه عمارة، وأبو عبدالله الجدلي، وعمرو بن ميمون الأودي، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص وجماعة.

قتل رضي الله عنه سنة 37ه_ ، وكان حامل راية بني خطمة؛ وشهد مؤتة. (2)

وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وطبقات المحدثين وغيره مع بعض ما رواه عن النبي (ص) .

وختاماً

لقد حظي هذا الصحابي الجليل رضوان الله تعالى عليه بما تمنّاه، ألا وهو الشهادة في سبيل الله تعالى، التي ختم بها عمره البالغ سبعين سنة، إذا ما أخذنا بما ذكره بعض من كتب عن خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وإن لم أعثر على دليل تاريخي يثبته فيما تيسّر لي من مصادر تاريخية، من أنه ولد قبل البعثة النبوية المباركة بعشرين سنة، فيكون عمره حين استشهاده رضوان الله تعالى عليه سبعين سنة؛ فهو شيخ كبير, ويعد من مشايخ المسلمين الذين نالوا وسام الشهادة في معركة صفين بعد عمار بن ياسر رضوان الله تعالى عليه.

فسلام عليك نفساً مطمئنةً آمنت بربها، فرحلت إليه راضية مرضية


1- راجع: ترجمة عمار: 3.
2- سير أعلام النبلاء 20 : 485.

ص: 450

ص: 451

(19) حذيفة بن اليمان

اشارة

محسن الأسدي

صحبة مباركة، فاز فيها قوم، وخسرها آخرون! آمنت بها طائفة فأحسنت، وضلت عنها أخرى فأساءت! ضمت أبراراً آمنوا بالله وأحبّوا رسوله وصدقوه، وشدوا أزره ودافعوا عنه، فاستحقوا أن يدافع الله عنهم، وهو ما نصت عليه الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).

وحذيفة بن اليمان واحد من أولئك الصحابة، وممن نالوا تلك الصحبة المباركة، ورعوها حق رعايتها، بل وتفوقوا من بين طلاب مدرستها الربانية بدرجات كانت محل رضا الله تعالى، وقبول رسوله9.

لقد حظي هذا الصحابي الجليل بصحبة رسول الله (ص) حتى أنه _ ولشدة قربه من الرسول (ص) و ثقته به، وعلو منزلته لديه _ عرف بين الصحابة بأنه صاحب سرّ رسول الله (ص) من المهاجرين.

نسبه

وحذيفة هذا هو ابن حسيل.

ص: 452

ويقال: حسيل بن جابر بن أسيد بن عمرو بن مالك; و كان يقال لحسيل هذا: اليمان.

ويقال: اليمان بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث.

وفي نسبه اختلاف.

وقيل فيه: جروة وهو اليمان، من ولده حذيفة.

وكنيته أبو عبدالله العبسي.

وكان حليفاً لبني عبد الأشهل.

اليمان

وفي سبب تسمية حذيفة باليمان:

قال ابن منظور: وإنما قيل اليمان، لأنّ جروة أصاب دماً في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل وتزوج منهم، فسماه قومه: اليمان، لمحالفته اليمانية.

هذا فيما يخص نسبه من أبيه.

وأما أمّه ونسبها، فهي الرباب، بنت كعب بن عدي، بن كعب بن عبدالأشهل.

إسلام حذيفة

ما أن راح الإسلام، ونوره يعم الأطراف البعيدة عن مكة، بعد أن قضى رسول الله (ص) ثلاث عشرة سنة، يدعو فيها قومه وما حولهم إلى نبذ عبادة الأصنام والأوثان، وعبادة الله الواحد القهار، حتى اضطروه أخيراً للهجرة إلى حيث يثرب التي فتحت أذرعها لاستقبال رسول الرحمة ودعوته المباركة، ثم قيض الله سبحانه وتعالى له أناساً آخرين غير الذين آمنوا به وكانوا من السابقين، أناساً أبوا إلاّ الالتحاق بركبه، ركب الإيمان، حيث ما نأى به الزمن وبَعُد به المكان، فكل ذلك لايمنع الذين وفقهم الله لأن يكونوا جزءاً من دينه، يحملوا لواءه، ويبلغوا رسالته، ويشدوا أزر نبيه، بقوة اليقين، وصلابة الإيمان، والحق الذي يحملون.

ص: 453

فكانوا بهذا حجة على غيرهم من الذين عاشوا في مدرسة الصحبة المباركة، إلاّ أنهم لا يدركون منزلتها، ولا يتدبرون معانيها، ولا يعون منهجها وأهدافها، فكانوا كمن يقرأ القرآن بلا تدبر ولا إمعان نظر، وبالتالي لا ينتفعون بما يقرؤون.

فقد وفق كل من حذيفة وأبيه (وفي رواية كان أخوه صفوان ثالثهم) لاعتناق الإسلام، ولكن بعد أن هاجر الرسول (ص) إلى المدينة; فقدما إليها ليسلما على يدي رسول الرحمة9 وبينا هم في طريقهما إلى المدينة، إذ بمشركي مكة يمنعونهما من المسير، وقالوا لهما: إنكما تريدان محمداً!

قالا: ما نريد إلاّ المدينة، فعاهدوهما ألا يقاتلا مع النبي (ص).

ودخل حذيفة وأبوه المدينة قبيل بدر، فعرضا أمرهما على النبي (ص) وقالا: إن شئت قاتلنا معك.

فقال: بل نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم، ولذا لم يشهد حذيفة وأبوه بدراً.

المؤاخاة الواعية

وقد آخى رسول الله (ص) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال (ص) _ كما ذكرابن هشام في السيرة النبوية _ : تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب (ع) فقال: هذا أخي.

فكان رسول الله الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب (ع) أخوين....

وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم، وحذيفة بن اليمان أخو بني عبد عبس، حليف بني عبد الأشهل أخوين، رضوان الله عليهما.

وتركت هذه الأخوة الواعية الواعدة، أثرها الكبير في قلوب المهاجرين والأنصار، وقربت كثيراً بينهم.

وهذان الصحابيان كانا قمةً في الإيمان والجهاد ونفوذ البصيرة، حتى أن حذيفة كان يرى

ص: 454

ويوصي من حوله بالتزام المنهج الذي ينتهجه الصحابي الجليل عمار، وأنّ به خلاصهم من الفتن جميعاً مهما أظلمت عليهم، ولم يكن هذا الموقف من حذيفة منطلقاً من هوى، أو عاطفة الحب التي تجمعه بأخيه في الدين عمار، وإنما مبنية على ما سمعه ووعاه من رسول الله (ص) بحق هذا الصحابي الكبير، وأنه لا يقف إلاّ مع الحق وأهله.

فهذا محمد بن عباد بن موسى قال: حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا مسلم ابن الأعور عن حبة بن جوين العرني، أنه قال: انطلقت أنا وأبو مسعود إلى حذيفة بالمدائن، فدخلنا عليه فقال: مرحباً بكما ما خلفتما من قبائل العرب أحداً أحبّ إليّ منكما; فأسندته إلى أبي مسعود فقلنا: يا أبا عبد الله! حدثنا فإنا نخاف الفتن!

فقال: عليكما بالفئة التي فيها ابن سمية، إني سمعت رسول الله (ص) يقول:

«تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق، وأنّ آخر رزقه ضياح من لبن».

قال حبة: فشهدته يوم صفين وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي من الدنيا.

فأتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة، فقال:

اليوم ألقى الأحبه

محمداً وحزبه

والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل، وجعل يقول:

الموت تحت الاسل والجنة تحت البارقة.

وجاءه _ على رواية _ نعي أخيه عمار بن ياسر في معركة صفين، وهو بالمدائن، والياً عليها، ففقد بفقده أخاً مؤمناً عظيماً مجاهداً كريماً، رضوان الله عليه(1).

جهاد ومواقف واعية

عرف هذا الصحابي بمواقفه الجهادية العديدة، سواء تلك التي كانت في عهد رسول الله (ص) أو التي وقعت بعده في عهد الخلفاء; وها نحن نشير إلى ما تيسر لنا منها:


1- أنظر تاريخ الطبري 3: 98 ; السيرة النبوية لابن هشام 2:504 _ 506 ; مختصر تاريخ دمشق: 6.

ص: 455

لم يشهد بدراً!

نعم غاب حذيفة وأبوه عن معركة بدر الكبرى، وكان هذا منهما رعايةً للعهد الذي قطعاه مع المشركين.

وها هو يذكر لنا سبب عدم اشتراكه في المعركة المذكورة حيث يقول: ما منعني أن أشهد بدراً إلاّ أني خرجت أنا وأبي الحسيل، فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمداً فقلنا: ما نريد إلاّ المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه.

فأتينا النبي (ص) فأخبرناه الخبر.

فقال: نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم.

شهد معركة أحد

وقد ترك لنا فيها موقفاً يدل على عظمة الرجل، وصلابة إيمانه ويقينه بالقضاء

والقدر، وهو صاحب الكلمة المعروفة التي راح لسانه يرددها في سماء المعركة بصدق وإخلاص

يغفر الله لكم...!

فقد شهد هو وأبوه معركة أحد، وأبليا فيها بلاءً حسناً، وفي أثناء القتال أخطأ بعض المسلمين فحملوا على حسيل والد حذيفة فقتلوه اشتباهاً، وكان ذلك على مرأى من حذيفة، الذي راح يصيح بهم، ولكنهم لم يسمعوه حتى نفذ قضاء الله في أبيه رضوان الله عليه، حين قضى نحبه في ساحة المعركة لا بسيوف أعداء الله ورسوله من مشركي مكة وحلفائها، بل بسيوف إخوانه المسلمين.

ففي ميدان هذه المعركة حانت من حذيفة نظرة، فإذا به يرى أباه وسيوف إخوانه من المجاهدين المسلمين تنهال عليه اشتباهاً، يظنونه واحداً من المشركين... فما كان من حذيفة إلاّ أن راح يصرخ بهم بقوة، فلعله بهذا ينقذ أباه: أبي أبي!

ويكرر صياحه: إنه أبي إنه أبي!

ص: 456

ولكن القضاء الذي لامردّ له نزل بأبيه المؤمن المجاهد الصابر!

حزن المقاتلون المسلمون على أبي حذيفة، ووجموا حين عرفوا أنهم يقتلون رجلاً منهم، وراحت نظراتهم تتسابق حائرةً مدهوشةً تتجه هنا وهناك تارة نحو حذيفة وأخرى نحو أبيه الذي أردوه قتيلاً، يلاحقها الألم والندم على ما فعلوه.

نظر حذيفة إليهم نظرات طويلة يوزعها عليهم، وهو يرى أباه صريعاً بسيوفهم، ومع ما تحمله نظراته تلك من ألم وحرقة وحزن، راحت تحمل معها العفو والرحمة والمغفرة والشفقة عليهم، ويمكننا أن نجد هذا مجسداً في ملامح وجهه، ونحن نقرأ ما كانت شفاهه تردده:

"يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين"..!!

ونجد كل هذا أيضاً حينما تصدق بدية أبيه التي أعطيت له، أو أعطاها له النبي (ص) فما إن استلمها حتى تصدّق بها على فقراء المسلمين، وهنا دعا له رسول الله (ص) بخير.

إنه ذو إيمان وثيق وولاء عميق، جعله محباً لمن حوله متسامحاً يحسن الظن بإخوانه!

وإنه لموقف عظيم وكريم، زاده حباً في قلب رسول الله (ص) وقلوب المسلمين، وظل ذكراً طيباً له!

وهذا نص الرواية التي تحكي لنا ذلك:

في معركة أحد قتل المسلمون أباه "حسيل بن جابر" اشتباهاً، حيث كانوا لا يعرفونه مما جعلهم ذلك يدفعون ديته إلى ابنه حذيفة، الذي قام بدوره بالتصدق بها على المسلمين.

وفي رواية: إنّ أبا حذيفة قتل مع النبي (ص) يوم أحد، أخطأ به المسلمون، فجعل حذيفة يقول لهم: أبي، أبي، فلم يفهموا حتى قتلوه.

فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.

فزادت حذيفة عند رسول الله (ص) خيراً، وأمر به فأوري، أو قال: فأودي. (1)


1- أنظر تاريخ الطبري 2: 73 ; و مختصر تاريخ دمشق 6: 249 ، وغيرهما من المصادر.

ص: 457

و شهد حذيفة معركة الأحزاب

كان حذيفة واحداً ممن شارك في حفر الخندق، بل كان واحداً من عشرة على رأسهم سلمان الفارسي، وثلاثة من المهاجرين، وستة من الأنصار، وحصتهم أربعون ذراعاً، يحفرونها من الخندق، وهو خط خطه لهم رسول الله (ص) حيث إنّ رسول الله (ص) وزع الخندق حصصاً بين المشاركين لإنجاز حفره.

وقد فازت هذه الثلة من الصحابة بأن يكون سلمان فيها، بعد أن تمنى كل من المهاجرين والأنصار و كل جماعة من المسلمين أن يكون سلمان فيهم، فقالت الأنصار: «سلمان منا»، فيما قال المهاجرون: « سلمان منا»، وحسم رسول الله (ص) هذا بقوله المعروف: «سلمان منا أهل البيت».

وهذه الفضيلة حظيت بها جماعة حذيفة بن اليمان بانضمام سلمان إليها، ليكون واحداً منها في مهمة حفر الخندق، فاستبشروا بوجوده المبارك بينهم خيراً.

وهناك فضيلة أخرى حظي بها هذا الفريق دون الآخرين، وهو قصة الصخرة التي أخرجها الله تعالى من بطن الخندق، وكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فتسارعوا إلى سلمان رضوان الله تعالى عليه قائلين: ارق إلى رسول الله (ص) فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإنّ المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.

فرقي سلمان حتى أتى رسول الله (ص) وهو ضارب عليه قبة تركية فقال:

يا رسول الله! بأبينا أنت وأمّنا! خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما نحيك فيها قليلاً ولا كثيراً، فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك.

فهبط رسول الله (ص) مع سلمان ورقي التسعة الذين مع سلمان على شقة الخندق، فأخذ رسول الله (ص) المعول من سلمان فضربها ضربة فصدعها، وضربة ثانية فصدعها، وضربة ثالثة فكسرها، وفي كل ضربة يخرج منها برق يضيء لابتي المدينة، ويكبر رسول الله (ص)

ص: 458

ويكبر معه المسلمون.... وكلها كانت تحمل بشائر نصر كما بيّنها وفصلها لهم رسول الله (ص). (1)

وقد بعث النبي (ص) حذيفة يوم الخندق لينظر ما صنعت قريش، فعاد إليه بخبر رحيلهم؛ كان هذا في ملاحقة واعية للموقف، حين أراد رسول الله (ص) _ وبعد أن دب الذل والعار والفشل في صفوف المشركين من قريش، ومن حالفهم من اليهود وغيرهم _ أن يطلع على موقفهم وما حل بهم.

فراح رسول الله (ص) يفكر فيمن ينتدبه ويختاره، ليتولّى هذه المهمة الخطيرة، فيدخل معسكر المشركين ويقتحمه، ليبلو أمرهم ويعرف أخبارهم.

وفي ليلة مظلمة ورياح عاصفة صاخبة، وقد أضنى التعب والجوع والحصار الذي دام شهراً أو يزيد أصحاب رسول الله (ص) ، وقع اختيار الرسول (ص) على هذا الصحابي الجليل، فدعاه إليه وأوكل له هذا الأمر، فلبى حذيفة ما طلبه منه رسول الله (ص) وها نحن ندعه يفصل لنا هذه المهمة:

قال رجل لحذيفة: أشكو إلى الله صحبتكم رسول الله (ص) فإنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره.

وفي رواية أخرى: لو أدركت رسول الله (ص) لقاتلت معه وأبليت معه!

وفي رواية ثالثة: إن فتى من أهل الكوفة قال لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله، رأيتم رسول الله وصحبتموه؟!

قال: نعم يا ابن أخي.

قال: فكيف كنتم تصنعون؟

قال: والله لقد كنا نجهد.

فقال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا...

قال حذيفة: ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه، والله ما ندري لو أنك أدركته كيف


1- أنظر لتفصيل هذا الأمر تاريخ الطبري 2: 91 _ 92 ، وغيره من المصادر.

ص: 459

كنت تكون! لقد رئينا مع رسول الله (ص) ليلة الخندق، ليلة باردة مطيرة أو أخذتنا ريح شديدة وقر، إذ قال رسول الله (ص):

«هل من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيق إبراهيم7 يوم القيامة؟».

فما قام منا أحد; أو فسكتنا فلم يجبه أحد.

ثم قال: «هل من رجل يذهب، فيعلم لنا علم القوم أدخله الله الجنة؟».

قال: فوالله ما قام منا أحد.

قال: «هل من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيقي في الجنة؟».

فما قام منا أحد.

فقال أبو بكر: يارسول الله ابعث حذيفة.

قال حذيفة: فقلت: دونك، فوالله ما قال رسول الله (ص) : يا حذيفة حتى قلت:

يا رسول الله بأبي وأمي أنت، والله ما بي أن أقتل، ولكني أخشى أن أؤسر.

وفي رواية: لم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم.

فقال رسول الله (ص) : «إنك لن تؤسر».

فقلت: يارسول الله، مرني بما شئت.

فقال: «اذهب حتى تدخل في القوم فتأتي قريشاً فتقول:

يا معشر قريش، إنما يريد الناس أن يقولوا غداً: أين قريش؟ أين قادة الناس؟ أين رؤوس الناس؟ تقدموا، فتقدموا، فتضلوا بالقتال، فيكون القتل بكم.

ثم ائت كنانة فقل: يا معشر كنانة إنما يريد الناس غداً أن يقولوا: أين كنانة؟ أين رماة الحدق؟ تقدموا، فتقدموا فتضلوا بالقتال، فيكون القتل بكم.

ثم ائت قيساً فقل: يا معشر قيس، إنما يريد الناس غداً أن يقولوا: أين قيس؟ أين أحلاس الخيل؟ أين فرسان الناس؟ تقدموا، فتقدموا فتضلوا بالقتال، ويكون القتل بكم».

ثم قال لي: «ولا تحدث في سلاحك شيئاً».

ويواصل حذيفة حديثه حول هذه المهمة التي لم يفز بها إلاّ هو حيث يقول:

ص: 460

فذهبت فكنت بين ظهراني القوم، أصطلي معهم على نيرانهم، وأذكر لهم القول الذي قال لي رسول الله (ص) :

أين قريش؟ أين كنانة؟ أين قيس؟

حتى إذا كان وجه السحر قام أبوسفيان يدعو باللات والعزى ويشرك.

ثم قال: نظر رجل من جليسه؟ قال: و معي رجل يصطلي، قال: فوثبت عليه مخافة أن يأخذني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان ; قلت: أولى.

فلما رأى أبو سفيان الصبح، قال أبوسفيان: نادوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ أين قادة الناس؟ تقدموا.

قالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة; ثم قال: أين كنانة؟ أين رماة الحدق؟ تقدموا; فقالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة; ثم قال: أين قيس: أين فرسان الناس؟ أين أحلاس الخيل؟ تقدموا.

فقالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة; قال فخافوا فتخاذلوا، و بعث الله عليهم الريح، فما تركت لهم بناء إلاّ هدمته، و لا إناء إلاّ أكفته، و تنادوا بالرحيل.

قال حذيفة: حتى رأيت أبا سفيان وثب على جمل له معقول، فجعل يستحثه للقيام، ولا يستطيع القيام لعقاله.

وفي خبر آخر عن حذيفة نفسه يقول فيه:

وخشي أبوسفيان قائد قريش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعته يقول بصوته المرتفع:

«يا معشر قريش! لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه».

وهنا يقول حذيفة:

فسارعت إلى يد الرجل الذي بجواري، وقلت له: من أنت..؟ قال: فلان بن فلان.

وبهذا العمل أمّن حذيفة وجوده بسلام بين جنود مشركي قريش.

ثم واصل حذيفة كلامه حول ما قاله أبو سفيان لجيشه المهزوم قائلاً:

ص: 461

واستأنف أبو سفيان نداءه إلى الجيش قائلاً:

يا معشر قريش... إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _ أي الخيل _ والخف _ أي الإبل _ وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما لا تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل...

ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون...

و قال حذيفة: فوالله لولا ما قال لي رسول الله (ص): و لا تحدث في سلاحك شيئاً لرميته من قريب; وفي رواية أنّ رسول الله (ص) قال له: ولا تذعرهم علي.

وعن رعايته وحرصه الشديد على الالتزام بأمر رسول الله (ص) وعدم مخالفته، يقول حذيفة: فلما وليت من عنده _ أي من عند رسول الله (ص) _ جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى آتيهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله (ص): لا تذعرهم علي ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام.

قال: و سار القوم، و جئت رسول الله (ص) فأخبرته، فضحك حتى رأيت أنيابه.

وفي رواية: فلما أتيته فأخبرته قررت، فألبسني رسول الله (ص) فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان.

وفي حديث آخر يقول حذيفة:

ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها.

ثم خرجت نحو النبي (ص) فلما انتصف الطريق أو نحو ذلك إذا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمّين فقالوا: أخبر صاحبك أنّ الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله (ص) وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما غدا أن رجعت راجعتي القر وجعلت أقرقف «يرعد من البرد»، فأوحى إليّ رسول الله (ص) بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل

ص: 462

علي شملته، وكان رسول الله (ص) إذا حزبه أمر صلى؛ فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يترحلون فأنزل الله عزّوجل:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.(1)

ولذا نرى هذا الصحابي الجليل يوصي ويؤكد، لا فقط لمن معه من المؤمنين بل للآتين من بعدهم حيث يقول:

تعودوا الصبر _ وفي رواية: تعودوا البلاء _ فيوشك أن ينزل بكم البلاء مع أنه لا يصيبكم أشد مما أصابنا ونحن مع رسول الله (ص).

وشهد غير ذلك من المشاهد مع النبي (ص) ولم يتخلّف عنه قط.

معركة نهاوند وفتوحاته الأخرى

كما عرف حذيفة بفروسيته في اقتناص المنافقين، الذين يظهرون الإيمان والتوحيد والحب، ويبطنون الكفر والشرك والحقد على دين الله تعالى، والكره لكل من اعتنقه، عرف أيضاً بشجاعته وبفروسيته في ميادين الجهاد، وترى ذلك بوضوح في معركة نهاوند، بعد أن اختاره الخليفة الثاني عمر بن الخطاب معاوناً لقائد جيش المسلمين يومذاك النعمان بن مقرن، وقام كل منهما بتجهيز جيشه ليقابل مائة وخمسين ألفاً من فرسان بلاد فارس المدرعين، وما إن اشتدت المعركة بين الفريقين واستشهد النعمان، حتى بادر حذيفة، والتقط راية جيش المسلمين بعد أن كتم هو ومن معه مصاب أميرهم النعمان، حتى ينظروا ما يصنع الله تعالى فيهم وفي عدوهم لكيلا يهن الناس; وراح يحصد الأعداء ويديم أوار المعركة، وفتحت كل من همدان والري والدينور على يديه; وعندما انتهت المعركة أخبر أخا النعمان _ وهو نعيم بن مقرن _ بوفاة أخيه النعمان، وجعله قائداً للجند تكريماً له ولأخيه.


1- أنظر تاريخ الطبري 2: 97_ 98 ; و مختصر تاريخ دمشق 6: 254 _ 256 ; ومجمع البيان في تفسير القرآن، للشيخ الطبرسي ؛ سورة الأحزاب:9.

ص: 463

وفي قول من أقوال أخر: أنّ حذيفة مضى سنة إحدى وعشرين بعد نهاوند إلى مدينة نهاوند، فصالح أهل ماه دينار، وأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدّوا الجزية في كلّ سنة إلى من وليهم من المسلمين من مر بهم فأوى إليهم يوماً وليلة ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة...

وأيضاً صالح أهل آذربيجان سنة اثنتين وعشرين بعد وقعة نهاوند بسنة على أن يدفعوا ثمانمائة ألف درهم...

وأنه غزا ما سبذان، فافتتحها عنوة، وقد كانت فتحت من قبله فانتقضت.

ثم غزا همدان _ على قول _ فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، ثم غزا الري فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وإليها انتهت فتوحه رضوان الله عليه.

وشارك هو وجمع من أصحاب رسول الله (ص) حيث كان معه الحسن والحسين وعبدالله بن عباس وآخرون، وبقيادة سعيد بن العاص في فتح آذربيجان.

وقد اشتد القتال في منطقة طميسة من تخوم جرجان، وقاتلهم أهلها بضراوة، حتى أن سعيداً صلّى بجنوده صلاة الخوف بعد أن سأل حذيفة عن الصلاة: كيف صلى رسول الله (ص)؟ فأخبره فصلى بهم سعيد صلاة الخوف وهم يقتتلون. (1)

فراسته

عرف هذا الصحابي الجليل بأنه ذو فراسة وقدرة على استقراء الوجوه من حوله; لهذا فقد كان يستخدم فراسته وقدرته الفائقة هذه في معرفة المنافقين الذين كانوا يخفون أنفسهم بين المسلمين ويكيدون لهم; يضاف إلى هذا أنّ النبي (ص) كان يطلع حذيفة على أسماء المنافقين، وأسرّ إليه بذلك، فكان يسمى: كاتم سرّ الرسول، صاحب سرّ الرسول؛ وفي هذا جاءت روايات:


1- أنظر تاريخ الطبري 2 ، حوادث سنة: 21 _ 22 وغيره.

ص: 464

ففي رواية عن نافع بن جبيربن مطعم أنه قال:

لم يخبر رسول الله (ص) بأسماء المنافقين الذين بخسوا به ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة، وهم: اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي، وكلهم من الأنصار أو من حلفائهم.

وسيأتينا عن الإمام علي (ع) في مناقب حذيفة، أنه كان أعلم الناس بالمنافقين، وأنه علم المعضلات والمفصلات.

وقد ورد أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان لا يصلي على جنازة حتى ينظر أحضرها حذيفة أم غاب عنها، فإن حضرها حذيفة صلى عليها وإلا فلا.

وفي رواية: إذا مات ميت سأل هل سيصلي عليه حذيفة؟ فإن أجيب عليه بنعم، صلى عليه عمر، وإلاّ فلا، حذراً من أن يصلي على منافق.

حذيفة ودرس الصدقات

أبكت الصدقات حذيفة طويلاً وكانت درساً كبيراً له وامتحاناً عظيماً لإيمانه وصدقه ونزاهته; فقد ورد أنّ النبي (ص) استعمله على بعض الصدقة.

فلما قدم قال: «يا حذيفة! هل رزئ من الصدقة شيء؟».

قال: لا يا رسول الله، أنفقنا بقدر، إلاّ أنّ ابنة لي أخذت جدياً من الصدقة.

قال: «كيف بك يا حذيفة إذا ألقي في النار وقيل لك: ائتنا به؟!».

قال الراوي: فبكى حذيفة، ثم بعث اليها فجيء بها، فألقاها في الصدقة.

ولاؤه و حبه لأهل البيت:

كان واحداً من أصحاب الإمام علي (ع) ومن أحبائه المخلصين:

و لطالما كان الإمام علي (ع) يذكر أصحابه بخير ويثني عليهم، حتى ورد أنه سئل (ع) عن بعض أصحابه _ ومنهم ابن مسعود وعمار وسلمان وأبوذر _ وكان يجيب بذكر مناقب كل واحد منهم.

ص: 465

فعن قيس بن حازم أنه قال: سئل علي بن أبي طالب (ع) عن... وسئل عن حذيفة فقال: «أعلم الناس بالمنافقين».

وفي حديث عن النزال بن سبرة الهلالي أنه قال:

وافقنا من علي بن أبي طالب (ع) ذات يوم طيب نفس ومراح، فقلنا: يا أميرالمؤمنين، حدثنا عن أصحابك؛ وذكر الحديث وفيه قلنا: فحدثنا عن حذيفة.

قال: «ذاك امرؤ علم المعضلات والمفصلات، وعلم أسماء المنافقين، إن تسألوه عنها تجدوه بها عالماً».

وقبل وفاته رضوان الله تعالى عليه بايع علياً7 وراح يوصي الناس بطاعته، كما أمر أولاده بالقتال تحت راية الإمام أميرالمؤمنين علي (ع) وفعلاً قاتلا تحت رايته، حتى قتلا بمعركة صفين. (1)

و قد عرفت أمّ حذيفة أنها كانت من الصحابيات الفاضلات، وقد عرفت أيضاً بحبها لأهل بيت النبوة والطهارة حتى ورد أنّ حذيفة قال:

سألتني أمي: منذ متى عهدك بالنبي (ص)؟

قال: فقلت لها: دعيني حتى آتي النبي (ص) فأصلي معه المغرب، ثم لا أدعه حتى يستغفر لي ولك.

قال: فأتيت النبي (ص) فصليت معه المغرب، فصلى النبي (ص) العشاء، ثم انفتل فتبعه، فعرض له عارض فناجاه، ثم ذهب فاتبعته، فسمع صوتي فقال: من هذا؟

فقلت: حذيفة.

فقال: مالك؟

فحدثته بالأمر.

فقال: غفر الله لك ولأمك; ثم قال: أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ وفي رواية أخرى: «يا حذيفة هل التفتّ إلى الحالة التي كنت عليها؟


1- أنظر الكامل 3: 147 ; والحاكم في مستدركه 3: 380 ; ومروج الذهب 2: 394.

ص: 466

قال: قلت: بلى.

قال: فهو ملك من الملائكة، لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم علي، ويبشرني أنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. (1)

ممارواه

احتل هذا الصحابي الجليل والعبد الصالح منزلةً كبيرة ومقاماً محموداً في كتب الرجال من الفريقين.

وقال عنه علماء رجال الإمامية: إنه سكن الكوفة، ومات بالمدائن بعد بيعة أميرالمؤمنين7 بأربعين يوماً، وهو من أصحاب رسول الله (ص) ومن أصحاب علي (ع) وهو من الذين مضوا على منهاج نبيهم، ولم يغيروا ولم يبدلوا، وجلالة حذيفة وولاؤه لأميرالمؤمنين واضحة. (2)

و لحذيفة روايات عديدة عن النبي (ص) و أكثر من الرواية، حتى ذكروا أنه روى له الشيخان مسلم والبخاري في صحيحيهما225 حديثاً متفقاً عليها، وقد روى عن حذيفة كثير من الصحابة والتابعين، ذكر هذا في كتب الحديث للفريقين.

ومما رواه حذيفة أنه قال:

1 _ صليت ليلةً مع النبي (ص) في رمضان، فقام يغتسل ففضلت منه فضلة في الإناء، فقال: إن شئت فأرقه، وإن شئت فصبّ عليه.

قال: قلت: يارسول الله، هذه الفضلة أحب إلي مما أصب عليه.

قال: فاغتسلت به وسترني.

قال: قلت: لا تسترني.


1- ذكر هذا الشيخ ذبيح الله المحلاتي في رياحين الشريعة ، نقلاً عن ابن مندة وأبي نعيم 3: 376.
2- فانظر فيها كتب علماء الشيعة.

ص: 467

قال: لأسترنك كما سترتني.

2 _ لقد حدثني رسول الله (ص) ما كان ومايكون حتى تقوم الساعة.

3 _ كان الناس يسألون رسول الله (ص) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني...

قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟

قال: نعم..

قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟

قال: نعم، وفيه دخن..

قلت: وما طخنه..؟

قال: قوم يستنّون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..

قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟

قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها...

قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك...؟

قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم...

قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام...؟

قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك..!!

أرأيتم قوله: «كان الناس يسألون رسول الله (ص) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني»...؟

وعنه أيضاً أنه قال: كنتم تسألون عن الرخاء، وكنت أسال عن الشدة لأتقيها، ولقد رأيتني وما من يوم أحب إلي من يوم يشكو إلي فيه أهل الحاجة، إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، يا موت! غظ غيظك وشد شدك، أبى قلبي إلا حبك.

5 _ خيّرني رسول الله (ص) بين الهجرة والنصرة، فاخترت النصرة.

ص: 468

6 _ سألت النبي (ص) عن كل شيء حتى عن مسح الحصا فقال: واحدة أو دع.

7 _ لقد حدثني رسول الله (ص) بما يكون حتى تقوم الساعة، غير أني لم أساله ما يخرج أهل المدينة منها.

8 _ قام فينا رسول الله (ص) مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلاّ حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره; وفي رواية: فأذكر كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه.

9_ وقال أيضاً: أنا أعلم بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله (ص) أسرّ لي شيئاً لم يحدث به غيري، وكان ذكر الفتن في مجلس أنا فيه، فذكر ثلاثاً لا يذرن شيئاً، فما بقي من أهل ذلك المجلس غيري.

10_ وبيت الله كما علَّمنا الإسلام يحتاج في زيارته إلى طهارة المظهر والمخبر، وقد روى القرطبي عن حذيفة أنّ النبي (ص) قال: «إن الله أوحى إليّ يا أخا المنذرين، يا أخا المرسلين، أنذر قومك ألا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب سليمة، وألسنة صادقة، وأيدٍ نقية، وفروج طاهرة، وألا يدخلوا بيتاً من بيوتي مادام لأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائماً بين يديّ، حتى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيّين والصديقين، والشهداء والصالحين».

11_ وحدّث قائلاً: كان رسول الله (ص) إذا قام من الليل، قال: «أللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله...».

12_ وعن أبي هريرة: أنّ حذيفة قال: لأقومن الليلة، فلأمجدن ربي عزوجل.

قال: فسمعت صوتاً ورائي لم أسمع صوتاً قط أحسن منه؛ الأمر كله، علانيته وسره، اغفر لي ما سلف مني، واعصمني فيما بقي من أجلي.

13_ وعنه أنه قال: إن أقر أيامي لعيني يوم أرجع فيه إلى أهلي، فيشكون إلي الحاجة،

ص: 469

والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله (ص) يقول: «إنّ الله ليتعاهد عبده بالبلاء، كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإنّ الله تعالى ليحمي عبده المؤمن الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام».

14_ بحسب المرء من العلم أن يخشى الله عزّوجل، وبحسبه من الكذب أن يقول: استغفر الله وأتوب إليه، ثم يعود.

15_ لو حدثتكم بحديث لكذبني ثلاثة أثلاثكم; أبو البختري، وهو راوي هذا الحديث، ففطن له شاب فقال: من يصدقك إذا كذبك ثلاثة أثلاثنا! فقال: إن أصحاب محمد9 كانوا يسألون رسول الله (ص) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ قال: فقيل له: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنه من اعترف بالشر وقع في الخير.

16_ وعنه أنه سأل عن ميت الأحياء فأجاب: هو الذي لا ينكر المنكر بيده، ولا بلسانه ولا بقلبه.

17_ وعنه أنه قال من الخفيف:

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

فقيل له: يا أبا عبدالله، وما ميت الأحياء؟

قال: الذي لا يعرف المعروف بقلبه، ولا ينكر المنكر بقلبه.

18_ وعنه أنه قال: خذوا عنا فإنا لكم ثقة، ثم خذوا عن الذين يأخذون عنا، فإنهم لكم ثقة، ولا تأخذوا عن الذين يلونهم؛ قالوا: لم؟ قال: لأنهم يأخذون حلو الحديث، ويدعون مرّه ولا يصلح حلوه إلاّ بمرّه.

19_ لو كنت على شاطئ نهر، وقد مددت يدي لأغرف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أقتل.

20_ إنّ الحق ثقيل، وهو مع ثقله مريء، وإنّ الباطل خفيف وهو مع خفته وبيء، وترك الخطيئة خير من طلب التوبة، ورب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً.

21_ إنا حملنا هذا العلم وإنا نؤديه إليكم وإن كنّا لا نعمل به.

ص: 470

وهنا يقول البيهقي عن قول حذيفة: "وإن كنا لا نعمل به"، يريد _ والله أعلم _ فيما يكون ندباً واستحباباً فلا يظن بهم أنهم كانوا يتركون الواجب عليهم ولا يعملون به، إذ كانوا أعمل الناس بما وجب عليهم، ويحتمل أن يكون ذهب مذهب التواضع في ترك التزكية.

22_ قيل له: مالك لا تتكلم؟ قال: إنّ لساني سبع أتخوّف إن تركته يأكلني.

23_ ليس خياركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا خياركم من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خياركم من أخذ من كل.

ومما قاله

الخير في رأي حذيفة واضح، لا غبار عليه لمن أراده وابتغاه، أما الشر فهو الذي يتنكر، ويتستر، ويختفي، ويتلون، لهذا تفرد هذا الرجل الأريب بدراسة الشر ومنابعه، والنفاق ومصادره، حتى يتجنبها؛ وليس هذا وحسب، بل راح أيضاً يهتم بالسؤال عن الشدة لا عن الرخاء، ليتقي الشدة وأبوابها، ويبعد الآخرين عن كل ذلك، حقاً إنه صاحب بصيرة! وهذه بعض أقواله:

سئل حذيفة: أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب.

قال حذيفة: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها.

قال حذيفة: إنّ الرجل ليدخل المدخل الذي يجب أن يتكلم فيه لله، و لايتكلم، فلا يعود قلبه إلى ما كان أبداً.

قال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن!

قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله؟

قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه.

وعن أم سلمة رضوان الله تعالى عليها أنها قالت: قال حذيفة: والله لوددت أنّ لي إنساناً يكون في مالي، ثم أغلق علي باباً، فلا يدخل علي أحد، حتى ألحق بالله عزّ وجل.

ص: 471

و له أنه قال:

إنّ الله تعالى بعث محمداً9 فدعا الإنس من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتاً ومات بالباطل من كان حياً، ثم ذهبت النبوة، وجاءت الخلافة على مناهجها، ثم يكون ملكاً عضوضاً...!!

فمن الإنس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا للحق، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافاً يده، فهذا ترك شعبة من الحق، ومنهم من ينكر بقلبه، كافاً يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق، ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء.

والقلوب عند حذيفة أربعة، حيث يقول:

القلوب أربعة:

قلب أغلف، فذلك قلب الكافر.

مصفح، فذلك قلب المنافق.

وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.

وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدّها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم، فأيهما غلب، غلب!

وله أيضاً: جئت النبي (ص) فقلت يا رسول الله!

... إنّ لي لساناً ذرباً على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار، فقال النبي (ص) لي: فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة!

اختياره الكوفة!

كان _ بحق _ موفقاً في كل مهمة انتدب اليها أو مشورة تطلب منه، فهو العابد وهو المقاتل الخبير العارف الناصح، لم تمنعه عبادته الكثيرة عن أن يكون مقاتلاً جسوراً، ولم يمنعه كل ذلك عن أن يكون مهندساً ومخططاً لمشاريع أخرى يحتاجها المسلمون، إن في المعارك التي خاضوها ضد أعداء الله وإن في بناء دولتهم.

ص: 472

فحينما انتقل سعد بن أبي وقاص _ والمسلمون معه _ من المدائن إلى الكوفة واستوطنوها، وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغاً.

مما جعل عمر يكتب إلى سعد كي يغادرها فوراً، بعد أن يبحث عن أكثرالبقاع ملاءمةً فينتقل بالمسلمين إليها.

فمن الذي وكل إليه أمر اختيار البقعة والمكان...؟

كان حذيفة بن اليمان هو صاحب هذه المهمة، فقد ذهب ومعه سلمان بن زياد، يختاران المنطقة، والمكان الملائم حتى بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة.

شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل إن شاء الله، وهكذا خططت الكوفة، وأحالتها أيدي المسلمين إلى مدينة طيبة عامرة.

وما كاد المسلمون ينتقلون إليها، حتى شفي سقيمهم، وقوي ضعيفهم، ونبضت بالعافية عروقهم..!!

لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوّع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائماً:

«ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه»...

ولايته على المدائن

لقد ضرب حذيفة أمثلة رائعة في كل مواقفه، وهو يصحب رسول الله (ص) ويلازمه ويأتمر بأوامره، ويتعلم منه الكثير الكثير، وقد ترك ذلك أثره في عباداته وفي جهاده وصلحه وفي زهده وتواضعه، وهو يتولى شؤون المسلمين وإدارتهم؛ ونرى هذا واضحاً حينما ولاه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على المدائن.

وما إن وصل خبر ذلك إلى أهل المدائن، وقد اقترن بمناقبه التي سمعوها عنه بما فيها من ورعه وصدقه وبلائه العظيم فيما خاضه من معارك، خصوصاً في فتح العراق، حتى خرجت أفواجهم التي يحدوها الأمل الكبير لرؤيته والشوق الأكبر لاستقباله.

ص: 473

و هم على حالتهم هذه، إذ بهم يفاجئون بشيء لم يكونوا ألفوه، من بذخ ولاة أمورهم، وما عهدته بلادهم بلاد فارس، من أبهة الولاة والسلاطين، فوجئوا بشخص على حمار على ظهره أكاف قديم، يمسك بيديه زاده، كان رغيفاً وقليلاً من الملح، يضمه موكب متواضع، وما أن عرفوا أنه الوالي الجديد حتى راحوا يحتشدون حوله، ويحفون به، وعلامات الاستغراب تلاحق وجوههم مما يرونه:

إنه أنموذج يلقي بغرابته عليهم، ويزيدهم تعجباً ماعليه الرجل من تواضع وبساطة في مأكله وملبسه وموكبه ومركبه، وظلوا يشخصون بأبصارهم إليه، فحانت منه نظرة إليهم، وعرف أنهم يتمنون أن يسمعوا منه شيئاً، إنه إنذار لهم وتحذير:

«إياكم ومواقف الفتن!

وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله؟!

فأجابهم:

أبواب الأمراء!

يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه»..!

إنها صرخة قوية ضد النفاق تمقته وتحتقره!! إنها صرخة وال جديد، جديد عليهم في كل شيء.

إذن، هو لايريدهم بكلماته هذه _ بل بصرخته هذه _ إلا حراساً أمناء ومراقبين أشداء، وأعين لخطواته وناصحين صادقين له، يسددونه في القول والعمل.

وبالتالي، هو لايريد أن ينفرد في الحكم، ولايريد منهم أن يطيعوه إلا بالحق، وأن لا يمتدحوه بما ليس فيه، أو يتزلفوه و يتملقوه بالثناء عليه...

إنه منهج حكم واع وواعد، راح حذيفة يربيهم عليه، ويدربهم على تحمله! لايريد منهم التواء، ولا مراء، ولا خداعاً ولا خيانة، ولا كذباً ولا نفاقاً، ولا طاعة في معصية، إنه يريدهم أن يقفوا مع الحق، وللحق، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم.

إنه أسلوب آخر لم يكونوا عرفوه من قبل!

ص: 474

أما هو فقد تعلمه من الدين الجديد والرسول المربي (ص) منذ أن آمن برسالة السماء، وانضم إلى مدرسة النبوة والصحبة المباركة، حينما وفق هو وأخوه صفوان وأبوهما لترديد شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله بصدق وإخلاص.

وكان الخليفة الثاني إذا ولى والياً على قوم كتب إليهم: «إني وليت عليكم فلاناً وأمرته بكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا».

فلما ولى حذيفة كان ذلك سنة اثنتين وعشرين كتب لأهل المدائن:

«إني قد وليت عليكم فلاناً فأطيعوه _ أو اسمعوا له وأطيعوه _ وأعطوه ما سألكم».

فقالوا: هذا رجل له شأن كبير، فخرجوا لاستقباله، أو فركبوا ليتلقوه فلقوه على بغل تحته أكاف، وهو معترض عليه رجلاه من جانب واحد، فلم يعرفوه فأجازوه فلقيهم الناس فقالوا:

أين الأمير؟

قالوا: هو الذي لقيتم.

فركضوا في إثره فأدركوه وهو يركب حماره، وفي يده رغيف وفي الأخرى عرق، وهو يأكل منهما فسلموا عليه.

وقالوا: سلنا ما شئت.

فقال: أسألكم طعامًا آكله وعلفاً لحماري هذا ما دمت فيكم.

أو فنظر إلى عظيم منهم، فناوله العرق والرغيف... وأعطاه خادمه.

فأقام حذيفة فيهم ما أقام.

ثم بعث إليه عمر يستدعيه إلى المدينة، فلما بلغه مقدم حذيفة، كمن له عمر في الطريق، فلما رآه على الحال التي خرج من عنده عليها أتاه فالتزمه أو فأكرمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.

كلمات من نور

مرض حذيفة مرضه الذي توفي فيه، وهو في المدائن، حيث ولاه عمر بن الخطاب ولايتها، فأقام بها إلى حين وفاته، والتي كانت سنة ست وثلاثين هجرية. وقيل: سنة خمس

ص: 475

وثلاثين، وقيل: توفي بعد عثمان بأربعين يوماً، وقيل: قبل عثمان بأربعين ليلة.

وقد أبى حذيفة أن لا يودع هذه الدنيا إلا بمواقف أخرى لا تقلّ عظمة عن مواقفه، وهو يعلن إسلامه وهو يجاهد، وهو يلازم النبي (ص) بصدق وإخلاص ووعي... أبى إلا أن يقدم لمن حوله بل للأجيال من بعدهم كل ما ينفعهم في حياتهم الدنيا، ويبقى ذخيرة طيبة لهم في حياتهم الأخرى، كلمات كلها نور، وكيف لاتكون كذلك وهي تنبع من قلب مليء بالإيمان، وأي إيمان! إنه إيمان رباني عارف بالله بكل ما تحمله من معان كبيرة عظيمة، تراه قد جسدها في سلوكه، في سكناته وحركاته في أقواله وأفعاله ; وهذه طاقة حكيمة طيبة منها وهو يصارع مرضه الذي توفي فيه:

تقول الرواية:

لما مرض حذيفة مرضه الذي مات فيه قيل له: ما تشتهي؟

قال: اشتهي الجنة.

قالوا: فما تشتكي؟

قال: الذنوب.

قالوا: أفلا ندعو لك الطبيب؟

قال: الطبيب أمرضني.

لقد عشت فيكم على خلال ثلاث: الفقر فيكم أحب إلي من الغنى، والضعة فيكم أحب إلي من الشرف، وإن من حمدني منكم ولامني في الحق سواء.

ثم قال: أصبحنا؟ أصبحنا؟

قالوا: نعم.

قال: أللهم، إني أعوذ بك من صباح النار، حبيب جاء على فاقة، فلا أفلح من ندم.

وقد حدث جعفر بن محمد عن أبيه قال:

قال حذيفة حين حضره الموت:

مرحباً بالموت وأهلاً، مرحباً بحبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، أللهم إني لم أحب

ص: 476

الدنيا لحفر الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لسهر الليل وظمأ الهواجر، وكثرة الركوع والسجود، والذكر لله عزّوجل كثيراً، والجهاد في سبيله، ومزاحمة العلماء بالركب.

وعن زياد مولى ابن عياش عن بعض أصحاب النبي (ص) أنه قال:

دخلت على حذيفة في مرضه الذي مات فيه فقال:

أللهم، إنك تعلم لولا أني أرى أنّ هذا اليوم أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، لم أتكلم بما أتكلم به، أللهم، إنك تعلم أني كنت أختار الفقر على الغنى، وأختار الذلة على العز، وأختار الموت على الحياة، حبيب جاء على فاقة، لاأفلح من ندم، ثم مات.

وفي دعاء له: أللهم إني أعوذ بك من صباح النار ومن مسائها.

هذه آخر ساعة من الدنيا، أللهم، إنك تعلم أني أحبك، فبارك لي في لقائك. ركب أبو مسعود الأنصاري في نفر كانوا معه لزيارة حذيفة، وهو في المدائن، وقد ألمّ به مرض الموت، ووصلوا إليه في بعض الليل، فقال:

أي الليل ساعة هذه؟

قالوا: بعض الليل، لوجود الليل.

قال لهم: هل جئتم بأكفاني؟

قالوا: نعم.

وهنا بادرهم بقوله:

فلا تغالوا بكفني، فإن يكن لصاحبكم عند الله خير يبدل خيراً من كسوتكم، وإلا تسلب سلباً سريعاً.

وفي قول:

أجئتم معكم بأكفان..؟

قالوا: نعم..

قال: أرونيها..

فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..

ص: 477

فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:

«ما هذا لي بكفن.. إنما يكفيني لفافتان بيضاوتان، ليس معهما قميص..

فاني لن أترك في القبر إلا قليلاً، حتى أبدّل خيراً منهما... أو شرّاً منهما».!

وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:

«مرحبا بالموت. . حبيب جاء على شوق. . لا أفلح من ندم».

ثم صعدت إلى الله روحُه راضية مرضية!

فكانت هذه آخر كلماتك، وآخر ما نطق به لسانك، إنها حقاً كلمات من نور!

رضوان الله تعالى عليك

ص: 478

ص: 479

(20) سلمان الفارسي

اشارة

هادي القبيسي

تشرق على صفحاتنا هذه شمس الحقيقة، التي جسّدت جوهر الوفاء والمحبة والتفاني; من أجل خط ونهج كان ولا يزال يعيش في هاجس شخصية عظيمة، رسمت لنفسها طريقاً شائكاً نهايته السعادة الأبدية.

هذا الطريق لايسلكه إلا من رأى الحقيقة بقلبه قبل عينيه، فقرر أن يستمر به وإن أدى إلى ترك الأهل والأوطان، فعزف عن الحياة الرغيدة التي لم تدم لأحد، واستبدلها بما هو أعظم منها.

فمن اللحظة الأولى التي وصل بها هذا الباحث إلى أنشودته، وعثر فيها على ضالته، أخلص لها بكل ما اُوتي من قوّة، وبقي يقدّم ويضحي ويتفانى من أجلها، غير متأثر بالعوائق والموانع التي توضع في طريقه، لأنه كان موطناً نفسه على كلّ المصاعب والمتاعب من أجل هذا الهدف، وقد وصل إليه، وبعد هذا فلا يثنيه عنه أحد، فهو كالجبل الراسخ لا تهزه الرياح العواتي.

تُرى من هو ذلك الشخص الذي يتحلى بهذه الصفات؟ لابدّ أنّه من عظماء الأمّة

ص: 480

الإسلامية، ورمز من رموزها وعلماً من أعلامها.

نعم، إنّه صحابي من بين آلاف الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله (ص) وصاحبوه، لكنّه استطاع _ بإيمانه وإخلاصه ووفائه وثباته وتفانيه في خدمة الإسلام ونبيّه الأكرم (ص) _ أن يحتل الصدارة في صف الصحابة عامة والتابعين له بإحسان خاصة، ليكون رائدهم ورمزهم وقدوتهم بعد أميرالمؤمنين (ع) والذي صار جزءاً وفرداً من أفراد بيت النّبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي والتنزيل، وذلك حين قال في حقه النبي (ص): «سلمان منّا أهل البيت».

هذا واحد من الصفوة، ومثال متكامل برز بين مجموعة صُنِّفت من الرعيل الأول، والطبقة المتميزة من الصحابة أمثال أبي ذر وعمّار والمقداد و... وغيرهم.

وهناك نوع آخر أيضاً، كان يُعدّ من صحابة النّبي (ص) لكن كان من صنف آخر، ونوع لا يحمل من الصحبة إلاّ اسمها، وهم الذين قال (ص) فيهم: «إنّ من أصحابي اثنى عشر منافقاً منهم ثمانية لا يدخلون الجنّة».(1)

وقال (ص) أيضاً: «ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صحبني ورآني حتى إذا اُرفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولنّ: ربّ أصحابي، فليقالنّ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».(2)

وفي سند آخر بزيادة: «إنّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم».(3)

من هنا نعلم أنّه ليس كلّ من صاحب النّبي الأكرم (ص) كان ذا مقام ومكانة، بل هو مقام من ثقلت موازينه، قال عزّوجلّ: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). (4) وقال أيضاً: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). (5)

إذن، ليس من العدل والإنصاف أن نصنّف الصحابة كلّهم في مرتبة واحدة، وحق القول


1- كنز العمّال 1: 169.
2- المصنف 7: 415.
3- المصدر نفسه 8 : 139.
4- القارعة: 6 _ 7.
5- الزلزلة: 7.

ص: 481

ما قاله عزّوجلّ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ). (1)

من هنا، رأينا ضرورة تصفح التأريخ، والنظر في حياة كلّ صحابي، حتى نصنّفه من أي الطائفتين هو، وليُعلم كلّ على حقيقته، ويعطى كلّ ذي حق حقه، حتى لانتولى من ليس أهلاً، أو نتبرأ ممن هو أهل، فنكون قد أجحفناهم، فرفعنا من كان أهلاً للضعة، ووضعنا من كان أهلاً للرفعة.

وقد سعيت جاهداً تبيان الحقائق ونفض الغبار عنها، وإيقاف القارئ الكريم على الموارد التي حاول بعضهم أن ينال فيها من شخصية سلمان وأمثاله من الصحابة الأجلّة ويشوّه سمعته، ومنه تعالى نستمد التوفيق.

اسمه ونسبه

كان اسمه قبل الإسلام روزبه بن خشنودان، نشأ في بلدة تدعى رامهرمز من توابع بهبهان، وكانت من توابع شيراز سابقاً، ومن توابع خوزستان حالياً،(2) خلافاً لما يدعيه بعض المؤرخين أنّه من إصفهان من بلدة جي، فهو من أبناء وأشراف قومه، سمّاه رسول الله (ص) سلمان بعد أن أعتقه.

كنيته: أبو عبدالله، أبوالحسن، أبو إسحاق، أبو البيّنات، أبو المرشد، واشتهر بالكنية الأولى.

لقبه: المحمّدي كما سنقرأ ذلك فيما بعد، الخير.

قصّة إسلامه

هناك قصة طويلة تنقل عنه يذكرها جمع من مؤرخي أهل السنّة تتضمن: أنّه كان يسجد للشمس ويعبد النار، ثمّ صار نصرانياً، ثمّ أسلم بعد مجيئه إلى المدينة المنورة; إلاّ أنّ


1- الحجرات: 13.
2- إكمال الدين: 159 _ 164.

ص: 482

هذه القصة بخصوصياتها لم تثبت من المصادر المعتبرة، مضافاً إلى وجود جمع من النصوص المعتبرة التي تثبت خلاف ذلك، خصوصاً وأنّ البعض حاول أن يستنتج من هذه القصة _ من دون تفحص _ أنّ سلمان= كان إنساناً متقلّباً كلما رأى ديناً أخلص له، وتمسك به من دون تثبت وتعقل.

لكننا إذا لاحظنا كيفية تعرفه على النبي الأكرم (ص) ومتابعة العلامات التي أعطيت له من قبل آخر راهب لازمه إلى حين وفاته، وبشّره بخروج النّبي (ص) من أنّه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النّبوة، نعلم أنه لم يسلّم له إلا بعد التثبت والتيقن.

منها: ما يذكر أنّه حينما سمع بمقدم النبي (ص) إلى المدينة، ذهب إليه آخذاً معه طبقاً من التمر أو اللحم، وقدمه إلى النّبي (ص) وقال له: هذا صدقة، فقال النبي (ص) لأصحابه: كلوا وأمسك هو (ص)؛ يقول سلمان: فقلت في نفسي هذه علامة، ثمّ ذهب وجاء مرّة أخرى، وقدّم طبقاً فيه تمر، وقال للنّبي (ص) : هذه هدية، فمدّ النّبي (ص) يده، وقال: «بسم الله كلوا»; يقول: فقلت في نفسي هذه علامة أخرى، ثمّ حاول التعرف على العلامة الثالثة فصار يدور خلف النّبي (ص) فأحس به النّبي (ص) فألقى بثوبه عن كتفيه فظهرت العلامة، يقول: فسقطت على قدمي رسول الله (ص) أقبلهما وأسلمت على يديه.

وقال الصدوق: ما سجد قط لمطلع الشمس، وإنّما كان يسجد لله عزّ وجلّ، وكانت القبلة التي أمر بالصلاة إليها شرقية، وكان أبواه يظنّان أنّه إنّما يسجد لمطلع الشمس كهيئتهم، وكان وصي وصي عيسى.... (1)

وأما ما ينقل عنه أنّه قال: «كنت ضالاً فهداني الله بمحمّد (ص) وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمّد (ص)».

فيمكن الإجابة عليه بعدة أمور:

1_ إذا ثبت صدورها عنه فلا شك أنّه كان ممّن يكتم إيمانه آنذاك، كما تشهد النصوص بذلك; خوفاً من أهله، كما أنّه ترك الأهل والأوطان لأجل هذا.


1- إكمال الدين 1: 165.

ص: 483

2_ لعلّه كان يتماشا مع مرتكزات القوم، إذ كانوا يعتقدون أنّه مجوسي، لكونه قادماً من بلاد المجوسيّة، ومن أسرة مجوسية أيضاً، فهو لم يؤخذ بحرب ولا غزو، بل آجرهم نفسه فانقلبوا عليه، وباعوه على أنّه عبد وبقرينة قوله: كنت مملوكاً، مع أنا نعلم كما ينقل المؤرخون،(1) أنّه أجبر على العبودية ظلماً، لقاء مبلغ من المال، ومع هذا نراه يتكلّم بحسب المرتكز والظاهر، فإنّه كان في الظاهر عبداً وكافراً، لأنّه لايستطيع أن ينفي هذا الشيء عن نفسه. (2)

3_ روى الكشي بإسناده عن أبي جعفر (ع) قال: «جلس عدّة من أصحاب رسول الله (ص) ينتسبون، وفيهم سلمان الفارسي، وأنّ عمر سأله عن نسبه وأصله؟ فقال: أنا سلمان بن عبدالله، كنت ضالاً فهداني الله بمحمّد، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمّد، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمّد، فهذا حسبي ونسبي... إلى أن قال، فقال النّبي (ص): يا سلمان ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل».(3)

إذن، هذه العبارة صدرت من سلمان في هذا الموقف الحرج من بعض الصحابة، وقد غضب النبي (ص) لهذا النوع من التعامل، فكأنّ سلمان يريد أن يبيّن لهم بأنّ العبرة في من حسن إسلامه، وثبتت عقيدته، وكان مؤمناً عن صدق، وليس ممّن دخل في الإسلام لأغراض مختلفة، كما هو الحال في بعض الصحابة الذين كشف النقاب عنهم القرآن المجيد: (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ). (4) وكان الميزان الصحيح هو قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ). (5) فلا يبعد أن يكون سلمان قد قال هذه الكلمات من باب التنزل: لو سلمنا أنّي كنت ضالاً فقد اهتديت، أو كنت عائلاً فقد استغنيت، أو


1- الأخبار الطوال: 31; والمعجم الكبير للطبراني 6: 228; ومناقب آل أبي طالب 1: 19.
2- قال ابن أثير في أسدالغابة2: 329 : ...فمرّ بي ركب من العرب من كلب فقلت: أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي هذه وتحملوني إلى بلادكم؟ فحملوني إلى وادي القرى، فباعوني من رجل من اليهود؛ أنظر بحار الأنوار: 19: 105.
3- اختيار معرفة الرجال 1: 59.
4- البقرة: 9.
5- الحجرات: 13.

ص: 484

كنت مملوكاً فقد أعتقت، ولا فضل لأحد منكم عليّ، بل كل الفضل يرجع لنبي الرحمة محمّد (ص).

وممّا يدلّ على أنّ إسلامه كان عن تتبع واعتقاد، وأنّه كان مؤمناً من ذي قبل وموحّداً على المسيحية الصحيحة:

1_ أنّه حين أسلم عاد كما ولدته اُمّه، فلم يكن متأثراً بشيء من عادات المجوس والنصارى، بل كان أكثر الصحابة _ بعد علي (ع) _ تأثراً بالنّبي الأكرم (ص) واتباعاً لأوامره ونواهيه، على العكس من بعض الصحابة الذين كانوا يتعمدون مخالفته، بل لم يتخلّوا عن كثير من عادات الجاهلية، كتقديم القومية على الدين.

2_ أنّه لم يترك دين آبائه طمعاً في شيء، بل ترك آباءه وأهله الذين هم من سلالة الملوك الدهاقين وفي رفاهية العيش، وابتعد عن الأوطان وتحمّل مشاق السفر والفقر، ووقع في ظلم العبودية بحثاً عن معالم الدين، البعيدة عن الشرك وعبادة الأوثان، ولا يتحمل هذا العناء والشقاء إلاّ من يسعى وراء أمر مهم وهدف مقدّس، دفعه إليه صرخة العقل والوجدان، إلى أن حظي بسعادة الإسلام، وصحبة النّبي (ص).

3_ ورد في كتاب الاستيعاب: «وكان سلمان يطلب دين الله، ويتّبع من يرجو ذلك عنده فَدانَ بالنصرانية [الصحيحة] وقرأ الكتب، وصبر في ذلك على مشقات».(1)

4_ وورد في كتاب الإصابة:... وكان يسمع بأنّ النّبي (ص) سيبعث، فخرج في طلب ذلك، فأسر وبيع بالمدينة. (2)

5 _ وما ورد في إكمال الدين وإتمام النعمة، وقد ذكرناه قبل قليل.

6 _ ما قاله في خطبة له سنذكرها فيما بعد نذكر منها موضع الحاجة:... حتى أتيت محمّداً (ص) فعرفت من العرفان ما كنت أعلمه، ورأيت من العلامة ما أخبرت بها; وهذا دليل على أنّه كان يتلقى العلم من أهل المعرفة، وكان يترقب هذه العلامات.


1- الاستيعاب، عنه الأعيان 7 : 284; إعلام الورى 1 : 151; بحارالأنوار 19 : 105.
2- الإصابة 3: 119.

ص: 485

وهذا القدر كاف لإثبات إسلامه، ولإدحاض حجة من يريد النيل من هذه الشخصية الفذّة.

ونحن نذكر هنا قصة إسلامه المروية من طريق علمائنا الأبرار على أشهر الروايات، وهو ما رواه الشيخ الصدوق في إكمال الدين وإتمام النعمة، بإسناده إلى الإمام موسى بن جعفر (ع) قال: «حدّثني أبي صلوات الله عليه أنّ أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وسلمان وأباذر وجماعة من قريش، كانوا مجتمعين عند قبر النّبي (ص) فقال أميرالمؤمنين (ع): يا أباعبدالله ألا تخبرنا بمبدء أمرك، فقال سلمان: والله يا أميرالمؤمنين، لو أنّ غيرك سألني ما أخبرته، أنا كنت رجلاً من أبناء أهل شيراز من الدهاقين، وكنت عزيزاً على والدي، فبينا أنا سائر مع والدي في عيد لهم، إذ أنا بصومعة وإذا فيها رجل ينادي: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن عيسى روح الله، وأنّ محمّداً حبيب الله، فرصف حبّ محمّد (ص) في لحمي ودمي، فلم يهنئني طعام ولا شراب، فقالت لي اُمّي: مالك اليوم لم تسجد لمطلع الشمس قال: فكابرتها حتى سكتت، فلمّا انصرفت إلى منزلي، إذ أنا بكتاب معلق من السقف، فقلت لاُمّي: ما هذا الكتاب فقالت: روزبه إنّ هذا الكتاب لما رجعنا من عيدنا رأيناه معلقاً، فلا تقرب ذلك المكان فإنّك إن قريته قتلك أبوك، قال: فجاهدتها حتى جنّ الليل ونام أبي واُمّي، فقمت فأخذت الكتاب، فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد من الله إلى آدم (ع)، وأنّه خلق من صلبه نبياً يقال له: محمّد، يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن عبادة الأوثان، يا روزبه أنت وصي عيسى، فآمن واترك المجوسية، قال: فصعقت صعقة وزادني شدة قال: فعلم أبي واُمّي بذلك، فأخذوني وجعلوني في بئر عميقة وقالا لي: إن رجعت وإلا قتلناك، فقلت لهما: إفعلا بي ما شئتما، فإنّ حبّ محمّد لا يذهب من صدري، قال سلمان: ما كنت أعرف العربية قبل قراءتي ذلك الكتاب، ولقد فهمني الله العربية من ذلك اليوم، قال: فبقيت في البئر، فجعلوا ينزلون إليّ أقراصاً صغاراً، قال: فلمّا طال أمري رفعت يدي إلى السماء، فقلت: يا ربّ إنك حبّبت محمداً (ص) ووصيّه إليّ، فبحق وسيلته عجل فرجي وأرحني ممّا أنا فيه، فأتاني آت عليه

ص: 486

ثياب بيض، فقال: قم يا روزبه، فأخذ بيدي، وأتى بي إلى الصومعة، فأنشأت أقول: أشهد أن لاإله إلاّ الله، وأنّ عيسى روح الله، وأنّ محمّداً حبيب الله، فأشرف عليّ الديراني فقال: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال: اصعد، فأصعدني إليه، فخدمته حولين كاملين.

فلمّا حضرته الوفاة قال: إنّي ميت، فقلت: على من تخلفني؟ قال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي إلا راهباً بأنطاكية، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، وادفع إليه هذا اللوح، وناولني لوحاً، فلمّا مات غسلته وكفنته ودفنته، وأخذت اللوح وصرت به إلى أنطاكية، وأتيت الصومعة، وأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ عيسى روح الله، وأنّ محمّداً حبيب الله، فأشرف عليّ الديراني فقال لي: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال: اصعد، فصعدت وخدمته حولين كاملين، فلمّا حضرته الوفاة قال: إنّي ميت، فقلت: على من تخلفني؟ فقال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه إلا راهباً بالإسكندرية، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، وادفع إليه هذا اللوح، فلمّا توفي غسلته وكفنته ودفنته، وأخذت اللوح وأتيت الصومعة، فأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ عيسى روح الله، وأنّ محمّداً حبيب الله، فأشرف عليّ الديراني فقال لي: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال: اصعد، فصعدت إليه فخدمته حولين كاملين.

فلمّا حضرته الوفاة قال لي: إنّي ميت، فقلت: على من تخلفني؟ قال: لا أعرف أحداً يقول في الدّنيا بمقالتي هذه، وأنّ محمّد بن عبدالله بن عبدالمطلب قد حانت ولادته، فإذا أتيته فاقرأه عنّي السلام، وادفع إليه هذا اللوح، قال: فلمّا توفي غسلته وكفنته ودفنته، وأخذت اللوح وخرجت، وصحبت قوماً فقلت لهم: يا قوم اكفوني الطعام والشراب أكفكم الخدمة، قالوا: نعم، قال: فلمّا أرادوا أن يأكلوا شدّوا على شاة فقتلوها بالضرب، ثمّ جعلوا بعضها كباباً وبعضا شوياً، فامتنعت من الأكل، فقالوا: كُل، فقلت: إنّي غلام ديراني، وأنّ الديرانيين لا يأكلون اللحم، فضربوني فكادوا يقتلونني.

فقال بعضهم: أمسكوا عنه حتى يأتيكم شرابكم، فإنّه لا يشرب، فلمّا أتوا بالشراب قالوا: اشرب، فقلت: إنّي غلام ديراني، وإنّ الديرانيين لا يشربون الخمر، فشدّوا عليّ وأرادوا قتلي، فقلت لهم: يا قوم لا تضربوني ولا تقتلوني، فإنّي اُقرّ لكم بالعبودية، فأقررت

ص: 487

لواحد منهم، فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي: قال: فسألني عن قصتي فأخبرته، وقلت: ليس لي ذنب إلاّ أني أحببت محمّداً ووصيه، فقال اليهودي: وإنّي لأبغضك وأبغض محمّداً، ثمّ أخرجني إلى خارج داره، وإذا رمل كثير على بابه، فقال: والله يا روزبه لإن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كلّه من هذا الموضع لأقتلنّك، قال: فجعلت أحمل طول ليلي فلمّا جهدني التعب، رفعت يدي إلى السّماء فقلت: يا ربّ حببت محمّداً (ص) ووصيه إليّ فبحق وسيلته عجل فرجي وأرحني ممّا أنه فيه.

فبعث الله عزّوجلّ ريحاً فقلعت ذلك الرمل من مكانه إلى المكان الذي قال اليهودي، فلمّا أصبح نظر إلى الرمل قد نقل كلّه فقال: يا روزبه! أنت ساحر، وأنا لاأعلم، فلأخرجنّك من هذه القرية كي لاتهلكنا قال: فأخرجني وباعني من امرأة سليمية فأحبتني حبّاً شديداً، وكان لها حائط، فقالت: هذا الحائط لك كل منه ماشئت وهب وتصدّق، قال: فبقيت في ذلك الحائط ما شاء الله، فبينا أنا ذات يوم في الحائط، وإذا أنا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلّهم غمامة، فقلت في نفسي: والله ما هؤلاء كلّهم بأنبياء وأنّ فيهم نبياً قال: فأقبلوا حتى دخلوا الحائط والغمامة تسير معهم، فلمّا وصلوا، إذا فيهم رسول الله (ص) وأميرالمؤمنين (ع) وأبوذر والمقداد وعقيل بن أبي طالب وحمزة بن عبدالمطلب وزيد بن حارثة، فدخلوا الحائط فجعلوا يتناولون من حشف النخل، ورسول الله (ص) يقول: كلوا الحشف، ولا تفسدوا على القوم شيئاً.

فدخلت على مولاتي وقلت لها: يا مولاتي هبي لي طبقاً من رطب، فقالت: لك ستة أطباق، قال: فجئت فحملت طبقاً من رطب، فقلت في نفسي: إن كان فيهم نبي فإنّه لا يأكل الصدقة، فوضعته بين يديه وقلت: هذه صدقة، فقال رسول الله (ص): كلوا، وأمسك رسول الله (ص) وأميرالمؤمنين (ع) وحمزة بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب، وقال لزيد: مدّ يدك وكُل، فقلت في نفسي: هذه علامة، فدخلت على مولاتي وقلت لها: هبي لي طبقاً آخر، فقالت: لك ستة أطباق، قال: فجئت فحملت طبقاً من رطب فوضعته بين يديه، وقلت: هذه هدية فمد يده وقال: بسم الله، كلوا، فمدّ القوم جميعاً أيديهم، فأكلوا فقلت في نفسي: هذه أيضاً علامة.

ص: 488

قال: فبينا أدور خلفه إذ حانت من النّبي التفاتة فقال: يا روزبه تطلب خاتم النّبوة فقلت: نعم، فكشف عن كتفيه، فإذا أنا بخاتم النّبوة معجون بين كتفيه عليه شعرات، قال: فسقطت على قدم رسول الله (ص) أقبّلها، فقال لي: يا روزبه! أدخل على هذه المرأة وقل لها: يقول لك محمّد بن عبدالله: تبيعينا هذا الغلام. فقالت: قل له لا أبيعك إلاّ بأربعمائة نخلة مائتا نخلة منها صفراء، ومائتا نخلة منها حمراء، قال: فجئت إلى النّبي (ص) فأخبرته، فقال: ما أهون ما سألت، ثمّ قال: قم يا علي، إجمع هذا النوى كله وأخذه فغرسه، ثمّ قال: اسقه فسقاه أميرالمؤمنين (ع) فما بلغ آخره حتى خرج النخل ولحق بعضه بعضاً.

فقال لي: أدخل إليها، وقل لها: يقول لك محمّد بن عبدالله: خذي شيئك وادفعي إلينا شيئناً، قال: فدخلت عليها، وقلت لها ذلك، فخرجت ونظرت إلى النخل فقالت: والله لا أبيعكم إلاّ بأربعمائة نخلة كلّها صفراء، فهبط جبرائيل فمسح جناحه على النّخل فصار كلّه أصفر، قال ثمّ قال لي: قل لها: إنّ محمّداً يقول لك خذي شيئك وادفعي إلينا شيئنا، فقلت لها فقالت: والله لنخلة من هذه أحب إليّ من محمد ومنك، فقلت لها: والله ليوم مع محمّد أحب إليّ منكِ، ومن كلّ شيء أنت فيه.

فأعتقني رسول الله (ص) وسماني سلمان».(1)

وأما زمان إسلامه: فالمشهور أنّه أسلم في المدينة المنورة، بعد هجرة النبي (ص) وقيل: إنّه أسلم في مكة المكرمة، إلاّ أنّه لم يتحرر من العبودية إلاّ في المدينة وبعد مدّة، اختلف فيها المؤرّخون. (2)

زوجته

المشهور أنه تزوج وله ذرية، ويشهد له ما نقله الشهيد الثاني عن ابن الجوزي، وما رواه ابن عساكر أن أميرالمؤمنين علياً (ع) عزّاه بوفاة زوجته قائلاً: ماتت في المدائن فحزن عليها،


1- إكمال الدين وإتمام النعمة ؛ وانظر: الدرجات الرفيعة: 201.
2- عنه طرائف المقال 2 : 601.

ص: 489

فبلغ أميرالمؤمنين (ع) فكتب إليه: «...بلغني يا أباعبدالله سلمان مصيبتك بأهلك، وأوجعني بعض ما أوجعك، ولعمري مصيبة تقدم أجرها خير من نعمة تسأل عن شكرها، ولعلك لا تقوم بها والسلام عليك».(1)

مضافاً إلى ما ذكره علماء الرجال من الفريقين من وجود رواة للحديث من ذريته. (2)

وهذا القدر كاف في إثبات أنه كان متزوجاً، وعندها لايعتنى بقول من نفي ذلك، أو اتهمه بأنه كان مجبوباً، وهذا من تخرص الجهلة الحاقدين.

نعم يوجد تضارب في زمان وفاتها، فتارة تقول: إنها توفيت في حياته، كما ذكرنا قبل قليل وعزّاه أميرالمؤمنين (ع) بها، وأخرى أنها كانت معه حين توفي، كما رواه الكشي وغيره أنه حين حضرته الوفاة قال لامرأته: قومي أجيفي الباب... (3)

فنقول: لا يبعد أن يكون قد تزوج ثانيةً بعد وفاة زوجته الأولى فتكون الثانية هي التي بقيت معه، وحضرت وفاته; جمعاً بين الأقوال، ويشهد له ما في إكمال الكمال.

إسمها: بقيرة: (4) قال ابن ماكولا في إكمال الكمال: وأما بقيرة، وهي آخر من تزوج من أزواجه، وشهدت موتة. (5) مضافاً إلى ما ذكره بعض المؤرخون أن التي كانت حين وفاته هي بقيرة.

أولاده:

1_ عبدالله، وهو المشهور.

2_ محمد، قول منتجب الدين. (6)


1- تاريخ دمشق21 : 429.
2- تاريخ بغداد1 :181 ؛ تهذيب الكمال11 :249 ؛ تاريخ دمشق5 : 227 ؛ الفهرست:52 ؛ جامع الرواة 1 : 212.
3- اختيار معرفة الرجال 1 : 68 ؛ الطبقات الكبرى 4 : 92 ؛ تاريخ دمشق 21 : 457 ، قريباً من عبارة الاختيار.
4- الطبقات الكبرى 4 : 92 ؛ التاريخ الصغير 6 : 97 ؛ تهذيب الكمال 5 : 45.
5- الطبقات الكبرى 4 : 92 ، تاريخ دمشق 21 : 457.
6- الفهرست: 52 ، جامع الرواة 21 : 212.

ص: 490

3_ عبدالرحمان، قول ابن الأثير. (1)

4_ يحيى، قول بن عساكر. (2)

5 _ وفي نفس الرحمن: إنّ له حفيداً من علماء خجنده اسمه ضياء الدين. (3)

سيرته وفضائله

آخى رسول الله (ص) بينه وبين أبي ذر الغفاري، وما نقل من أنه أبا الدرداء فهو ضعيف، لأن رسول الله (ص) كان يراعي الكفاءة في الإيمان بين الأخوين، وكان أبوذر أكفأ من أبي الدرداء، لعدة وجوه:

1_ كانت في أبي الدرداء بقايا الجاهلية، وقد ذمه رسول الله (ص) عليها قائلاً: فيك جاهلية، قال: أيّ جاهلية يا رسول الله؟ قال: جاهلية كفر، وهذه لم تكن في سلمان.

2_ ثبت أبوذر مع أميرالمؤمنين (ع) بعد وفاة رسول الله (ع) حين مال الجميع عنه، ولم يكن منهم أبو الدرداء. (4)

3_ أبو الدرداء صار من وعاظ السلاطين، حتى أنّ معاوية وولده يزيد مدحاه وأثنيا عليه.

فكان سلمان من شرطة الخميس. (5)

وهو الذي أشار على رسول الله (ص) بحفر الخندق في السنة السادسة للهجرة، وأشار بالمنجنيق وعمله بيده. (6)

كان أحد الثلاثة الذين لم يرتدّوا بعد رسول الله (ص)، والمقداد وأبوذر. (7)


1- أسد الغابة 5 : 440.
2- تاريخ دمشق 5 : 227.
3- نفس الرحمن: 144 _ 145.
4- الفوائد الرجالية 3 : 79.
5- المصدر نفسه.
6- البداية والنهاية 4 : 399.
7- شرح نهج البلاغة 4 : 225؛ الاختصاص: 10؛ الدرجات الرفيعة: 213.

ص: 491

وكان أحد السبعة الذين صلّوا على الصديقة فاطمة الزهراء(عليها السلام) بنت رسول الله (ص) بعد أن أوصت علياً (ع) أن لا يصلي عليها أحد ممن ظلمها. (1)

وكان وصي وصي عيسى (ع) في أداء ما حمل، إلى من انتهت إليه الوصية من الأوصياء المعصومين. (2)

وجّه أميراً إلى المدائن من قبل الخليفة عمر فلم يفعل إلاّ بعد أن استأذن أمير المؤمنين7 فحضه. (3)

وقال ابن شهرآشوب في المناقب: كان عمر وجّه سلمان أميراً إلى المدائن، وإنما أراد

له الختلة فلم يفعل إلاّ بعد أن استأذن أميرالمؤمنين علياً (ع) فمضى فأقام بها إلى أن

توفي. (4)

كان الأوحدي في أصحاب رسول الله (ص) وأميرالمؤمنين (ع)، وأكثرهم تأسّياً بأخلاقهما وسيرتهما، فكان يحطب في عباءته، يفترش نصفها ويلبس نصفها، وقع حريق في المدائن وكان أميرها، فلم يكن في بيته إلا مصحف وسيف، فرفع المصحف في يده وحمل السيف في عنقه وخرج قائلاً: هكذا ينجو المخفون.

وقد دخل عليه رجل فلم يجد في بيته إلا سيفاً ومصحفاً، فقال له: ما في بيتك إلا ما أرى، قال: إن أمامنا منزل كؤود،(5) وإنّا قد قدّمنا متاعنا إلى المنزل.

كان عطاؤه خمسة آلاف، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، فإذا خرج عطاؤه تصدق به. (6)

وكان يسفّ الخوص ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل، إلا من عمل يدي،


1- بحارالانوار 22 : 345 ، عن فرات الكوفي.
2- التحرير الطاووسي: 283، وقيل: إنه كان وصياً لعيسى (ع) ؛ الدرجات الرفيعة: 201.
3- الاحتجاج 1 : 188.
4- مناقب آل أبي طالب ، الدرجات الرفيعة: 215.
5- أي شاقة المصعد.
6- الإصابة 3 : 120.

ص: 492

وكان قد تعلّم سفّ الخوص في المدينة. (1)

وعن أبي وائل قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان، فلمّا جلسنا عنده قال: لولا أنّ رسول الله (ص) نهى عن الكلف لتكلّفت لكم، ثم جاء بخبز وملح ساذج أبزار(2) عليه، فقال صاحبنا: لو كان في ملحنا صعتر، فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على الصعتر، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي أقنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعت بما رزقك الله لم تكن مطهرتي مرهونة. (3)

ودخل رجلان على سلمان فسلّما عليه وحيّياه ثم قالا: أنت سلمان الفارسي؟ قال: نعم. قالا: أنت صاحب رسول الله (ص)؟ قال: لا أدري، فارتابا وقالا: لعله ليس الذي نريد، فقال لهما: أنا صاحبكما الذي تريدان، وقد رأيت رسول الله (ص) وجالسته، وإنما صاحبه من دخل معه الجنة، فما حاجتكما؟

قالا: جئناك من عند أخ لك بالشام، قال: من هو؟ قالا: أبو الدرداء، قال: فأين هديته التي أرسل بها معكما؟ قالا: ما أرسل معنا بهدية؛ قال: اتقيا الله وأدّيا الأمانة، ما جاءني أحد من عنده إلاجاء معه بهدية، قالا: لا ترفع علينا هذا، إن لنا أموالاً فاحتكم فيها، قال: ما أريد أموالكما ولكن أريد الهدية التي بعث بها معكما، قالا: والله ما بعث معنا شيء إلاّ أنه قال: إن فيكم رجل كان رسول الله (ص) إذا خلا به لم يبغ أحداً غيره، فإذا أتيتماه فأقرئاه مني السلام; قال: فأي هدية كنت أريد معكما غير هذا، وأي هدية أفضل من السلام تحية من عندالله مباركة طيبة. (4)

ومرّ سلمان على الحدادين بالكوفة، وإذا بشاب قد صرع، والناس قد اجتمعوا حوله، فقالوا: يا أبا عبدالله هذا الشاب قد صرع، فلو جئت فقرأت في أذنه، قال: فجاء سلمان، فلما دنا منه رفع الشاب رأسه فنظر إليه فقال: يا أبا عبدالله لست في شيء مما يقول هؤلاء،


1- شرح نهج البلاغة 18: 35.
2- الأبزار: التوابل.
3- شرح نهج البلاغة 3 : 155.
4- المعجم الكبير، للطبراني 6 : 219.

ص: 493

لكني مررت بهؤلاء الحدادين وهم يضربون بالمرزاب،(1) فذكرت قول الله تعالى: (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ). (2)

فدخلت في سلمان من الشاب محبة فاتخذه أخاً، فلم يزل معه حتى مرض الشاب، فجاءه سلمان فجلس عند رأسه وهو في الموت، فقال: يا ملك الموت ارفق بأخي، فقال: يا أبا عبدالله إني بكل مؤمن رفيق. (3)

وعن دوره في يوم السقيفة، يحدثنا الإمام الباقر (ع) قال: «جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى أميرالمؤمنين علي (ع) فقالوا له: أنت والله أميرالمؤمنين، وأنت والله أحق الناس وأولاهم بالنبي (ص) هلمّ يدك نبايعك، فو الله لنموتن قدامك، فقال علي (ع): إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليّ محلقين، فحلّق أميرالمؤمنين (ع) وحلّق سلمان، وحلّق أبوذر، ولم يحلّق غيرهم...». (4)

وقال له أميرالمؤمنين علي (ع): «يا سلمان! اذهب إلى فاطمة فقل لها تتحفك من تحف الجنة، فذهب إليها سلمان، فإذا بين يديها ثلاث سلال، فقال: يا بنت رسول الله! أتحفيني، قالت: هذه سلال جائتني بها ثلاث وصائف، فسألتهن عن أسمائهن، فقالت واحدة: أنا سلمى لسلمان، وقالت الأخرى: أنا ذرة لأبي ذر، وقالت الأخرى: أنا مقدودة للمقداد، ثم قبضت فناولتني، فما مررت بملاء إلاّ ملئوا طيباً لريحها».(5)

قال الإمام الصادق (ع):... «هو منّا أهل البيت، بلغ من علمه أنه مرّ برجل في رهط فقال له: يا عبدالله! تب إلى الله في الذي عملت في بطن بيتك البارحة واتق الله، فقال الرجل: استغفر الله وأتوب إليه، قال: ثم مضى، وقال له القوم: لقد رماك بأمر وما دفعته عن


1- الأرزبة التي يكسر بها المدر ]أي المطرقة[ ؛ الصحاح 1 : 135. المرزاب.
2- الحج: 21.
3- اختيار معرفة الرجال 1 : 72.
4- بحارالأنوار 22 : 341.
5- اختيار معرفة الرجال 1 : 39.

ص: 494

نفسك، قال: إنه أخبرني بأمر ما اطلع عليه أحد إلاّ الله رب العالمين وأنا».(1)

وروي أنه كان سلمان يطبخ قدراً فدخل عليه أبوذر، فانكبّت القدر فسقطت على وجهها ولم يذهب منها شيء، فردّها على الأثافي، ثم انكبت الثانية فلم يذهب منها شيء، فردّها على الأثافي، فمرّ أبوذر إلى أميرالمؤمنين (ع) مسرعاً قد ضاق صدره ممارأى، وسلمان يقفو أثره حتى انتهى إلى أميرالمؤمنين (ع) فنظر أميرالمؤمنين إلى سلمان، قال له: «يا أباعبدالله ارفق بأخيك».(2)

قال رسول الله (ص) لأصحابه: أيكم يصوم الدهر؟ فقال سلمان: أنا يا رسول الله، فقال أيكم يحيى الليل؟ فقال سلمان: أنا يا رسول الله; فقال أيكم يختم القرآن كلّ يوم؟ فقال سلمان: أنا يا رسول الله؛ فغضب بعض الأصحاب، فقال: يا رسول الله، إنّ سلمان من الفرس يريد أن يفتخر علينا معاشر قريش...

... فقال (ص): مه يا فلان، أنّى لك بمثل لقمان الحكيم!! سله فإنه ينبئك... فقال سلمان:... ليس حيث تذهب.

إني أصوم الثلاثة في الشهر، وقد قال الله عزّوجل: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)، (3) وأصل شعبان بشهر رمضان فذلك الدهر، وأما إحياء الليل:...فسمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول: من بات على فراشه على طهر فكأنما أحيا الليل كلّه، فأنا أبيت على طهر.

وأما ختم القرآن:...فسمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول لعلي (ع): يا أبا الحسن مَثَلُك في اُمتي مثَلُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فمن قرأها مرة فقد قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين فقد قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاث مرات فقد ختم القرآن، فمن أحبك بلسانه فقد كُمل ثلث إيمانه، ومن أحبك بلسانه وقلبه فقد كُمل له ثلثا الإيمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان.


1- اختيار معرفة الرجال 1 : 52.
2- الاختصاص: 12; اختيار معرفة الرجال 1 : 60 باختلاف.
3- الأنعام: 160

ص: 495

والذي بعثني بالحق نبياً يا علي! لو أحبك أهل الأرض كمحبة أهل السماء لك لما عذّب الله أحداً بالنار.

وأنا أقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في كل يوم ثلاث مرات، فقام الرجل كأنه اُلقم

حجراً. (1)

تقول عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول الله (ص) ينفرد به بالليل، حتى كاد يغلبنا على رسول الله (ص).(2)

وفي الحديث أنّ أبا سفيان مرّ على سلمان وصهيب وبلال في نفر من المسلمين، وقالوا: ما أخذت السيوف من عدوّ الله مأخذها وأبوسفيان يسمع قولهم، فقال لهم أبوبكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها؟! وأتى النبي (ص) وأخبره، فقال: يا أبابكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله، فأتاهم أبوبكر فقال: يا إخوتاه لعلىّ أغضبتكم؟ قالوا: لا يا أبابكر، يغفر الله لك. (3)

وقال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع): السبّاق خمسة، فأنا سابق العرب، وسلمان سابق الفرس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وخباب سابق النبط. (4)

عن الإمام الصادق (ع) قال: مرض رجل من أصحاب سلمان(رحمه الله) فافتقده، فقال: أين صاحبكم؟ قالوا: مريض، قال: امشوا بنا نعوده، فقاموا معه، فلما دخلوا عليه فإذا هو يجود بنفسه، فقال سلمان: يا ملك الموت ارفق بوليّ الله، فقال ملك الموت بكلام يسمعه من حضر: يا أبا عبدالله إني أرفق بالمؤمنين، ولو ظهرت لأحد لظهرت لك. (5)

وعن الإمام الصادق (ع) قال: عاد رسول الله (ص) سلمان الفارسي، فقال: يا سلمان لك في علتك ثلاث خصال، أنت من الله عزّوجل بذكر، ودعاؤك فيه مستجاب، ولا تدع العلّة


1- الدرجات الرفيعة: 212.
2- شرح نهج البلاغة 18 : 36 ؛ بحارالأنوار 22 : 391.
3- شرح نهج البلاغة 18 : 37.
4- الخصال 1 : 150 ؛ بحارالأنوار 22 : 325.
5- بحارالأنوار 22 : 360 ح 3 ؛ أمالي الطوسي: 80.

ص: 496

عليك ذنباً إلاّ حطته، متعك الله بالعافية إلى منتهى أجلك. (1)

وقال سلمان (رحمه الله): بايعنا الله على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب، والموالاة له. (2)

وقال الإمام الصادق (ع): آخى رسول الله بين سلمان وأبي ذر، واشترط على أبي ذر أن لا يعصي سلمان. (3)

قال ابن عباس: رأيت سلمان الفارسي= في منامي فقلت له: سلمان فقال: سلمان، فقلت: ألست مولى النبي (ص)؟ قال: بلى، وإذا عليه تاج من ياقوت وعليه حليّ وحلل، فقلت: يا سلمان هذه منزلة حسنة أعطاكها الله عزّوجل، فقال: نعم، فقلت: فماذا رأيت في الجنة أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ فقال: ليس في الجنة بعد الإيمان بالله ورسوله شيء هو أفضل من حبّ علي بن أبي طالب (ع) والاقتداء به... (4)

وعن الإمام الصادق (ع) قال: ذكرت التقية يوماً عند علي بن الحسين (ع) فقال: والله لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسول الله بينهما، فما ظنكم بسائر الخلق، إنّ علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرّب، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، فقال: وإنما صار سلمان من العلماء; لأنه امرؤ منا أهل البيت، فلذلك نسبته إلى العلماء. (5)

أخلاقه

كان مثالاً للأخلاق والتواضع والمساواة للضعفاء، كيف لا وقد تربى على عظيمين من عظماء الإسلام: النبي الأكرم (ص) وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع).


1- الدرجات الرفيعة: 211.
2- المصدر نفسه: 213.
3- بحارالأنوار 22 : 345، ح 55.
4- المصدر نفسه 22 : 341، ح 52.
5- شرح نهج البلاغة 18 : 37.

ص: 497

كان يطحن مع الخادمة ويعجن عنها إذا أرسلها في حاجة، يقول: لا تجمع عليها عملين. (1)

واشترى رجل بيتاً في المدائن، فمرّ بسلمان _ وهو أمير _ فحسب سلمان علجاً،(2) فقال: يا فلان تعال، فجاء سلمان، فقال: احمل، فحمله فمضى به، فجعل يتلقاه الناس: أصلح الله الأمير، نحمل عنك أبا عبدالله نحمل عنك، فقال الرجل: ثكلتني أمي وعدمتني، لم أر أحداً اُسخّره إلاّ الأمير، قال: فجعل يعتذر إليه ويقول: أبا عبدالله لم أعرفك رحمك الله.

قال: انطلق فانطلق، به حتى بلغ به منزله ثم دعاه، فقال: لا تسخّر بعدُ أحداً أبداً. (3)

مواعظه وحكمه

إنه مضافاً إلى ما جسّده من خلق سامية، وآداب رفيعة في سيرته الذاتيه، لم يأل جهداً في وعظ الناس وإرشادهم، فعن الإمام الباقر (ع) قال: إن رجلاً أتى سلمان الفارسي فقال: حدثني فسكت عنه، ثم عاد فسكت، فأدبر الرجل، وهو يقول ويتلو هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ)، (4) فقال له: أقبل إنّا لو وجدنا أميناً لحدّثناه، ولكن أعدّ لمنكر ونكير إذا أتياك في القبر فسألاك عن رسول الله (ص) فإن شككت أو التويت ضرباك على رأسك بمطرفة معهما تصير منه رماداً، فقلت: ثم مه؟ قال: تعود ثم تُعذب، قلت: وما منكر ونكير؟ قال: هما قعيدا القبر، قلت: أملكان يعذبان الناس في قبورهم!؟ قال: نعم. (5)

وفي التوحيد: أنه أتاه رجل فقال: يا أبا عبدالله! إني لا أقوى على الصلاة بالليل، فقال: لا تعص الله بالنهار، وجاء رجل إلى أميرالمؤمنين (ع) فقال: يا أميرالمؤمنين! إني قد حرمت


1- الدرجات الرفيعة: 216.
2- العلج: الرجل من كفار العجم.
3- تاريخ دمشق 21 : 433 ; الطبقات الكبرى 4 : 88 .
4- البقرة: 159.
5- البرهان في علوم القرآن: 170.

ص: 498

الصلاة بالليل، فقال له أميرالمؤمنين (ع): أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك. (1)

وفي معدن الجواهر عن سلمان أنه قال: ابكتني ثلاث وأضحكتني ثلاث:

فأما المبكيات: ففراق رسول الله (ص) والهول عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله عزّوجل.

وأما المضحكات: فغافل بمغفول عنه، وطالب دنياه والموت يطلبه، وضاحك ملء لا يدري ضحكه رضى الله عزّوجل أم سخط. (2)

وفي الغارات أنه مرّ علي بن أبي طالب (ع) على بغلة رسول الله (ص) وسلمان في ملأ، فقال سلمان: ألا تقومون تأخذون بحجزته تسألونه، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لايخبركم سر نبيّكم أحد غيره، وإنه لعالم الأرض وربانيّها، وإليه تسكن، ولو فقدتموه لفقدتم العلم وأنكرتم الناس. (3)

وفي البحار أنّ سلمان قام وقال: يا معاشر المسلمين! نشدتكم بالله وبحق رسول الله (ص) ألستم تشهدون أنّ النبي (ص) قال: سلمان منّا أهل البيت؟ فقالوا: بلى والله نشهد بذلك، قال: فأنا أشهد بأني سمعت رسول الله (ص) يقول: علي إمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين، وهو الأمير من بعدي. (4)

ولما حضر سلمان ونزل به الموت بكى، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أما والله ما أبكي جزعاً من الموت ولاحرصاً على الرجعة، ولكن إنّما أبكي لأمر عهده إلينا رسول الله (ص) أخشى أن لانكون حفظنا وصيّة نبينا (ص) إنّه قال لنا: ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب. (5)

وكتب أبو الدرداء إلى سلمان من الشام: أقدم يا أخي إلى بيت المقدس، فلعلك تموت فيه، فكتب إليه سلمان: أما بعد، فإنّ الأرض لاتقدس أحداً، وإنّما يقدِّس كلّ إنسان


1- التوحيد: 67.
2- معدن الجواهر: 35.
3- الغارات 1 : 21.
4- بحار الأنوار 37 : 331.
5- الطبقات الكبرى 4 : 91.

ص: 499

عملُه، والسلام. (1)

وقال جرير بن عبدالله: انتهيت مرة إلى ظلّ شجرة وتحتها رجل نائم قد استظل بنطع له، وقد جاوزت الشمس النطع فسوّيته عليه، ثم إنّ الرجل استيقظ، فإذا هو سلمان الفارسي، فذكرت له ما صنعت، فقال: يا جرير! تواضع لله في الدنيا، فإنّه من تواضع لله في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة؟! قلت: لا، قال: فإنه ظلم الناس بعضهم بعضاً في الدنيا. (2)

شعره

عن ابن شهر آشوب قال: كان الناس يحفرون الخندق وينشدون سوى سلمان، فقال النبي (ص): أللّهم أطلق لسان سلمان، ولو على بيت من الشعر، فأنشأ سلمان يقول:

ما لي لسان فأقول الشعرا

أسأل ربي قوّة ونصراً

على عدوّي وعدوّ الطهرا

محمّد المختار حاز الفخرا

حتى أنال في الجنان قصرا

مع كل حوراء تحاكي البدرا

فضجّ المسلمون وجعلت كل قبيلة تقول: سلمان منّا، فقال النبي (ص): سلمان منّا أهل البيت. (3)

ولايخفى أنّ هذه الكلمات قالها رسول الله (ص) في أكثر من موطن، وعمدتها كانت في مقام الانتقاص من شخصيّته الدينية والاجتماعيّة.

خطبه

عثرنا له على خطبة واحدة، نذكر منها موضع الحاجة لطولها، قال: الحمدلله الذي هداني لدينه بعد جحودي له، وأنا مذّك لنار الكفر، أهلّ لها نصيباً، وأثبت لها رزقاً، حتى ألقى الله


1- الدرجات الرفيعة: 219; تاريخ دمشق 21 : 443. باختلاف يسير.
2- الدرجات الرفيعة: 218.
3- مناقب آل أبي طالب 1 : 75 ؛ الدرجات الرفيعة: 218.

ص: 500

عزوجلّ في قلبي حبّ تهامة، فخرجت جائعاً ظمآناً قد طردني قومي، وأخرجت من مالي ولاتحملني حمولة، ولامتاع يجهزني ولا مال يقوتني، وكان من شأني ما قد كان، حتى أتيت محمداً (ص) فعرفت من العرفان ما كنت أعلمه، ورأيت من العلامة ما أخبرت بها، فأنقذني من النار، فثبتّ على المعرفة التي دخلت بها الإسلام.

ألا أيها الناس اسمعوا من حديثي ثم انقلوه عني، فقد اُتيت العلم كثيراً، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة: إنه لمجنون، وقالت طائفة اُخرى: أللهم اغفر لقاتل سلمان.

ألا إنّ لكم منايا تتبعها بلايا، وإنّ عند علي (ع) علم المنايا وعلم الوصايا، وفصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران، ولكنكم أصبتم سنة الأولين،(1) وأخطأتم سبيلكم، والذي نفس سلمان بيده لتركبن طبقاً عن طبق، سنّة بني إسرائيل، القذة بالقذة.

أما والله لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، فأبشروا بالبلاء، واقنطوا من الرخاء، ونابذتكم على سواء، وانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء.

أما والله لو أني أدفع ضيماً أو أعز لله ديناً لوضعت سيفي على عاتقي، ثم لضربت قدماً قدماً.

إلى أن يقول: فإذا رأيتم أيها الناس الفتن كقطع الليل المظلم، يهلك فيها الراكب الموضع، والخطيب المصقع، والرأس المتبوع، فعليكم بآل محمد، فإنهم القادة إلى الجنة، والدعاة إليها يوم القيامة، وعليكم بعلي، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاء مع نبينا، فما بال القوم؟ أحسد؟ قد حسد قابيل هابيل، أو كفر؟ فقد ارتد قوم موسى عن الأسباط ويوشع وشمعون وابني هارون شبّر وشبير.

إلى أن يقول: أنزلوا آل محمد منكم منزلة الرأس من الجسد، بل منزلة العين من الرأس... ألا إني أظهرت أمري وآمنت بربي، وأسلمت بنبيي، واتبعت مولاي ومولى كل مسلم... (2)


1- أي: أصبتم سنة من خالف موسى في وصيّه هارون.
2- اختيار معرفة الرجال 1 : 76 ; معجم رجال الحديث 9 : 205 ; ووردت هذه الخطبة في مقام الاحتجاج على القوم، حين بايعوا أبابكر.

ص: 501

ما قيل فيه:

قال النبي محمد (ص) : ألا إنّ الجنة اشتاقت إلى أربعة من أصحابي، فأمرني ربي أن أحبهم... فأولهم علي بن أبي طالب، والثاني المقداد بن الأسود الكندي، والثالث سلمان الفارسي، والرابع أبوذر الغفاري. (1)

وقال أيضاً:.. من أراد أن ينظر إلى رجل نوّر قلبه فلينظر إلى سلمان. (2)

وقال الإمام علي (ع) حينما سئل عن سلمان: ذاك امرؤ منّا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم، علّم العلم الأول والعلم الآخر، وقد قرأ الكتاب الأوّل وقرأ الكتاب الآخر، وكان بحراً لا ينزف. (3)

وقال الإمام الباقر (ع) للفضيل بن يسار...: هل تدري ما عنى _ بالعلم الأول والعلم الآخر _ قال قلت: يعني علم بني إسرائيل وعلم النبي (ص) فقال (ع): ليس هذا يعني، ولكن علم النبي وعلم علي، وأمر النبي وأمر علي صلوات الله عليهم. (4)

وقال الإمام علي (ع): ضاقت الأرض بسبعة، بهم ترزقون، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون... سلمان الفارسي...

وقال أيضاً لأبي ذر: يا أبا ذر! إنّ سلمان باب الله في الأرض، من عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً، وإنّ سلمان منّا أهل البيت. (5)

وقال الإمام الباقر (ع) لمن ذكره بسوء: مه! لا تقولوا سلمان الفارسي، بل قولوا سلمان المحمدي، وذلك رجل منّا أهل البيت. (6)


1- تاريخ دمشق 60 : 177.
2- المصدر نفسه 21 : 407.
3- الطبقات الكبرى 4 : 86 .
4- الدرجات الرفيعة: 209.
5- معجم رجال الحديث9 : 201.
6- اختيار معرفة الرجال 1 : 54.

ص: 502

وقال أبوهريرة: صاحب العلم الأوّل والآخر سلمان الفارسي. (1)

وقال أبو عمر روي عن رسول الله (ص) من وجوه أنه قال: لو كان الدين في الثريا لناله سلمان، وفي رواية أخرى: لناله رجل من فارس. (2)

وقال الإمام الباقر (ع): كان سلمان من المتوسمين،(3) أي المتفرسين.

وعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: المؤمن هاشمي، لأنه هشم الضلال والكفر والنفاق، والمؤمن قرشي لأنه أقرّ للشيء ونحن الشيء وأنكر اللاشيء الدلام وأتباعه... والمؤمن عربي لأنه أعرب عنّا أهل البيت... والمؤمن فارسي لأنه يفرس في الإيمان، لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله أبناء فارسي، يعني به المتفرس، فاختار منها أفضلها واعتصم بأشرفها، وقد قال رسول الله (ص): اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. (4)

وقال الإمام الصادق (ع): إنّ سلمان بحر لاينزف. (5)

وسُئل7 عن كثرة ذكره لسلمان؟ قال: إنّ الباعث على كثرة ذكره ثلاثة، فضيلة عظيمة له.

الأول: إنه اختار هوى أمير المؤمنين علي (ع) على هوى نفسه.

الثاني: حبه للفقراء واختيارهم على الأغنياء وذوي الثروة والأموال.

الثالث: محبته للعلم والعلماء، وإنّ سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وماكان من المشركين،(6) وقال أيضاً: إنّ سلمان علّم الاسم الأعظم. (7)

وفي كتاب الإمام الرضا (ع) إلى المأمون في حديث طويل:... والمقتولين من الصحابة


1- تاريخ دمشق 21 : 424.
2- شرح نهج البلاغة 18 : 36.
3- معجم رجال الحديث 9 : 202.
4- الاختصاص: 143.
5- الفوائد الرجالية 3 : 20.
6- معجم رجال الحديث 9 : 201 ؛ طرائف المقال 2 : 600.
7- الاختصاص: 11.

ص: 503

الذين مضوا على منهاج نبيهم (ص) ولم يغيّروا ولم يبدلوا مثل سلمان الفارسي وأبي ذر.... (1)

وقال الفضل بن شاذان:... ويقال: انتهى علم الأئمة إلى أربعة نفر: أولهم سلمان الفارسي،(2) وحكي عنه أنه قال: مانشأ في الإسلام رجل من كافة الناس كان أفقه من سلمان الفارسي،(3) وقال أبوهريرة:... ومما زيّن الله به إصبهان(4) وأهلها أن جعل سلمان الفارسي منها، ورزقه صحبة نبينا (ص) حتى قال فيه: سلمان منّا أهل البيت. (5)

وقال كعب الأحبار: سلمان حشي علماً وحكمة. (6)

وقال النبي (ص): إنّ الجنّة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنّة، وإنّ الجنّة لأعشق لسلمان من سلمان إلى الجنة. (7)

وقال أبوعبدالله (ع): الإيمان عشر درجات، فالمقداد في الثامنة، وأبوذر في التاسعة، وسلمان في العاشرة.

مانزل فيه من القرآن

نقتصر هنا على ذكر الآية النازلة في حقه، مع الإعراض عن ذكر القصة والسبب الذي لأجله نزلت مراعاةً للاختصار.

1_ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (8)


1- بحار الأنوار 10 : 358.
2- اختيار معرفة الرجال 2 : 780.
3- المصدر نفسه 1 : 68.
4- لا يخفى أنّ قوله هذا مبني على الرأي الشاذ أنه من إصبهان، والمحقق أنه من رامهرمز من توابع خوزستان حالياً كما بيّناه.
5- طبقات المحدثين 1 : 403.
6- شرح نهج البلاغة 18 : 36 ؛ بحار الأنوار 22 : 391.
7- الدرجات الرفيعة: 208.
8- المائدة : 69.

ص: 504

نزلت هذه الآية في سلمان الفارسى وأصحابه. (1)

2_ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً). (2)

نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي وجماعة. (3)

3_ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). (4)

4_ (أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). (5)

نزلت في رجلين استغابا سلمان يوم كان في سفر معهما. (6)

5 _ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ). (7)

نزلت في سلمان والمقداد وأبي ذر. (8)

6_ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). (9)

نزلت في أميرالمؤمنين (ع) وسلمان وأبي ذر والمقداد. (10)


1- تاريخ دمشق 21 : 419 ; الدرّ المنثور 1 : 73.
2- الكهف :28.
3- تفسير القرطبي 10 : 390 ; البرهان في علوم القرآن 1 : 201 ; تفسير نور الثقلين3 : 257.
4- النحل : 103.
5- الحجرات : 12.
6- الدرّ المنثور 6 : 94 ; تفسير الصافي 5 : 54.
7- التوبة : 100.
8- شواهد التنزيل 1 : 330; بحار الأنوار 22 : 327.
9- الأنفال : 2.
10- تفسير القمي 1 : 255 ; بحار الأنوار 22 : 322.

ص: 505

7_ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً). (1)

نزلت في سلمان وأبي ذر وجماعة. (2)

8 _ (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ). (3)

نزلت في سلمان وجماعة. (4)

9 _ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ...). (5)

نزلت في سلمان وجماعة. (6)

10_ (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي). (7)

11_ (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). (8)

نزلت في أميرالمؤمنين علي (ع) وسلمان. (9)

12_ (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). (10)

هم سلمان والمقداد وعمار وأبوذر، وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لهم أجر غير ممنون. (11)

مالقيه من أذى الآخرين

قد يتصور القارىء الكريم أن الأذى الذي لقيه سلمان كان من أبناء الديانات الأخرى التي اعتادت على منع أبنائها من اعتناق دين الإسلام، وإن كان ماعاناه من ترك دين آبائه


1- الكهف : 107.
2- تفسير الصافي 3 : 268 ; بحار الأنوار 22 : 323.
3- الحج : 24.
4- مناقب آل أبي طالب 2 : 292.
5- محمد : 2.
6- تفسير القمي 2 : 301 ; بحار الأنوار 22 : 349.
7- آل عمران : 195؛ نور الثقلين 1 : 425.
8- العصر : 1_3.
9- شواهد التنزيل 2 : 482.
10- التين : 6.
11- بحار الأنوار 22 : 345، ح56 ; وانظر تفسير فرات الكوفي.

ص: 506

وأجداده ليس بالقليل، إلا أنه مُني بحرب ضروس استمرت إلى حين وفاته، لكن هذه المرّة كانت من أبناء ملته ودينه من أصحاب الصف الواحد ومن جمع من الصحابة المحيطين بنبىّ الإسلام (ص) إنه تيار كان يحمل أفكاراً جاهلية يعتبر أنّ الاسلام ونبيّه حِكر على العرب، بل على أبناء الجزيرة أيضاً، حمل هذا التيار فكراً منحرفاً زرع سمومه في صفوف المسلمين إلى يومنا هذا، أرادوا جعله ديناً مختصاً بأمّة معينة، مع أنه جاء لجميع الاُمم، كرّسوا بأفكارهم المنحرفة عدّة مفاهيم باطلة، طالما حاربها النبي (ص) منها الطبقية، فُضّل فيها العربي على غيره، في الاحترام والإيمان والحدود والعطاء و... فيما نرى القرآن الكريم يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ).

والنبي (ص) يقول: «لا فضل لعربي على أعجمي... إلا بالتقوى».(1)

فكان سلمان أوّل ضحية لهذا الفكر الزائف الذي شوّه سمعة الدّين الحنيف، ولكن في كلّ هذه الظروف الصعبة كان الرسول (ص) وأميرالمؤمنين علي أبن أبي طالب (ع) إلى جنبه، فصبر وتحمّل حتّى أظهر الله تعالى فضله ومقامه لجميع المسلمين، كيف لا، وقد بلغ المرتبة العاشرة من الإيمان، كما قال أميرالمؤمنين علي (ص).

وكان قد تخطى سلمان حلقة قريش وهم عند رسول الله (ص) في مجلسه، فالتفت إليه رجل منهم فقال: ما حسبك وبما نسبك وما اجترأت أن تخطّى حلقة قريش؟!

قال: فنظر إليه سلمان، فأرسل عينيه وبكى وقال: سألتني عن حسبي ونسبي، خلقت من نطفة قذرة، فأما اليوم ففكرة وعبرة، وغداً جيفة منتنة، فإذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين، ودعي الناس لفصل القضاء، فوضعت في الميزان، فإن اُرجح الميزان فأنا شريف كريم، وإن أنقص الميزان فأنا اللئيم الذليل، فهذا حسبي وحسب الجميع.

فقال النبي (ص): صدق سلمان، صدق سلمان، صدق سلمان، من أراد أن ينظر إلى رجل نوّر قلبه فلينظر إلى سلمان. (2)


1- المعجم الأوسط، للطبراني 5 : 86 .
2- تاريخ دمشق 21 : 407.

ص: 507

وعن الإمام الباقر (ع) قال: جلس عدّة من أصحاب رسول الله (ص) ينتسبون وفيهم سلمان الفارسي، وأنّ عمر سأله عن نسبه وأصله؟

فقال: أنا سلمان بن عبدالله، كنت ضالاً فهداني الله بمحمد، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمد، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمد، هذا حسبي ونسبي، ثم خرج رسول الله (ص) فحدّثه سلمان وشكى إليه مالقي من القوم وما قال لهم، فقال النبي (ص): يا معشر قريش! إنّ حسب الرجل دينه، ومعرفه خُلُقه، وأصله عقله، قال الله تعالى: (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ). (1)

يا سلمان ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بالتقوى، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل. (2)

وفاته ومدفنه

توفي سنة أربع وثلاثين للهجرة على المشهور، في عهد عمربن الخطاب، في المدائن، جهّزه وصلى عليه أميرالمؤمنين (ع) وكان آنذاك في المدينة المنورة، وبعد صلاة الصبح أقبل على الناس فقال (ع): معاشر الناس أعظم الله أجركم في أخيكم سلمان، فقالوا في ذلك: فلبس عمامة رسول الله (ص) وأخذ قضيبه وسيفه، وركب على العضباء، وقال لقنبر: عدّ عشراً، قال: فقلت، فإذا نحن على باب سلمان.

قال زاذان: فلما أدرك سلمان الوفاة قلت له: من المغسّل لك؟ قال: من غسل رسول الله (ص) فقلت: إنك بالمدائن وهو بالمدينة؟ فقال: يا زاذان إذا شددت لحيي تسمع الوجبة، فلما شددت لحييه سمعت الوجبة وأدركت الباب، فإذا أنا بأمير المؤمنين (ع).

فقال: يا زاذان قضى أبو عبدالله سلمان؟

قلت: نعم يا سيدي؛ فدخل وكشف الرداء عن وجهه، فتبسم سلمان إلى


1- الحجرات : 13.
2- أمالي الطوسي: 147.

ص: 508

أميرالمؤمنين (ع) فقال له: مرحباً يا أبا عبد الله، وإذا لقيت رسول (ص) فقل له: ما مرّ على أخيك من قومك، ثم أخذ في تجهيزه.

وقال أبوالفضل التميمي:

سمعت يسيراً من عجائبه

وكان أمر علي لم يزل عجبا

دريت عن ليلة سار الوصي بها

إلى المدائن لما أن لها طلبا

فألحد الطهر سلماناً وعاد إلى

عراص يثرب والإصباح ما قربا

كآصف قبل رد الطرف من سبأ

بعرش بلقيس وافي يخرق الحجبا

فكيف في آصف لم تغل أنت؟ بلى

بحيدر أنا غال أورد الكذبا

إن كان أحمد خير المرسلين؟ فذا

خير الوصيين أو كل الحديث هبا(1)

وهناك أقوال اُخر تقول: إنه توفي في عهد عثمان، واُخرى في عهد أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وبعضها ينكر مجيئه (ع) من المدينة إلى المدائن، لكن المشهور ما ذكرناه، والنصوص الآنقة الذكر أكبر شاهد على ذلك.


1- مناقب آل أبي طالب 2 : 131 ; والأبيات فقط في الغدير 5 : 15.

ص: 509

(21) أسماء بنت عميس

اشارة

داعية تحتذى

حسن محمد

إنّ للنساء المؤمنات الصالحات تاريخاً رائعاً لم تنسه أقلامه ومصادره، وكيف ينسى، وقد غدا تاريخاً مثمراً متواصلاً جعل منهنّ أمثلةً تحتذى، ونماذج تقتدى؟!

ومن تلك النساء، مؤمنة صابرة حصلت على أوسمة متعددة من رسول الله (ص) منها وسام الإيمان حيث قال:

«الأخوات الأربع مؤمنات: ميمونة، وأمّ الفضل، وسلمى، وأسماء».

صحابية جليلة، بعد أن عرفت بصبرها، وثباتها، ووعيها، وعبادتها، وبصيرتها، ومعرفتها في تأويل الرؤيا، وحفظها لكثير من الأحاديث النبوية وروايتها، وتسجيلها للعديد من المواقف النبيلة، نالت لقباً كبيراً ووساماً رفيعاً، طالما اشرأبت له الأعناق، إنه (لقب الهجرتين) وهو من رسول الله (ص) أيضاً، حيث إنها عرفت بأنها صاحبة الهجرتين، فهي أول النساء المهاجرات إلى ديار الحبشة، حيث ملكها العادل، ثم يثرب مدينة رسول الرحمة محمد (ص).

ص: 510

غدت هذه المرأة أنموذجاً يقتدى، ومثالاً يحتذى، كما قلنا بحق وجدارة، فهي زوجة وفية صالحة، عرفت بصبرها ووفائها، لبيوت حلّت فيها زوجة وأمّاً...

وهي أمّ مدرسة نقالة أينما كانت، وحلّت في مكة، وفي الحبشة، وفي يثرب، بكل ما تحمله هذه المدرسة، من دروس قيمة، ومفاهيم صادقة، ومبادئ عالية...

وهي داعية مخلصة، هنا وهناك، حفلت حياتها بمفاصل قيمة، وألوان زاهية، وأغصان مؤرقة، راحت تثمر دروساً في بناء المؤمنة الداعية، والأسرة المسلمة الصادقة، والأبناء الصالحين، الذين أحاطتهم ببيئة نظيفة، وتربية سليمة...

وإنّ قراءة حياتها، كما حياة الأخريات من الصالحات المربيات، يؤكد ضرورة وأهمية التواصل الإيجابي بينهنّ ومجتمعهن، بل ومجتمعات أجيال أخرى جاءت بعدهن، وإن دل هذا فإنه يدل على عظم الرسالة السماوية، التي صنعتهنّ بعد أن وفقن للإيمان بها، وصرن أعضاء عاملات في مدرسة النبوة المقدسة، والصحبة المباركة، وما أعظمها من صحبة خرّجت نخباً صالحة من الرجال والنساء.

نسبها

هي أسماء بنت عميس بن معد بن تيم بن الحارث _ أو معد بن الحارث بن تيم _ بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن سعد بن مالك بن نسر _ أو بشير _ بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن خلف بن أفتل وهو خثعم. (1)

هذا نسبها من أبيها.

وأمّها: هند بنت عوف بن زهير بن الحارث الكنانية، أو هي هند بنت عوف بن الحارث، وهو حماطة بن ربيعة بن ذي جليل بن جرش، واسمه منبه بن أسلم بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن غريب بن زهير بن أيمن بن


1- تاريخ الطبري 2 : 351، أحداث سنة:13 ; مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الإصفهاني: 35، ترجمة محمد بن جعفر.

ص: 511

الهميسع بن حمير، وهو العرنجج بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، كما في مقاتل الطالبيين، أو هي بنت عوف بن زهير بن الحارث ابن حماطة... كما في الطبقات.

وهند هذه التي هي أم أسماء بنت عميس التي قيل فيها:

الجرشية أكرم الناس أحماء، و جرش من اليمن.

وابنتها أسماء بنت عميس، تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبوبكر، ثم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع).

وابنتها الأخرى، ميمونة أمّ المؤمنين، زوجة النبي (ص) وهي آخر امرأة تزوجها (ص) .

وابنتها الأخرى، لبابة أمّ الفضل أخت ميمونة، أم ولد العباس بن عبدالمطلب.

وابنتها الأخرى، سلمى بنت أم ولد، حمزة بن عبدالمطلب، وقد ولدت له ابنته عمارة.

إذن، فأحماؤها، أي أحماء هذه الجرشية هم: رسول الله (ص) وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) والحمزة، والعباس، وجعفر، وأبوبكر، ومن أحمائها أيضاً الوليد بن المغيرة المخزومي، فأمّ خالد بن الوليد، أمّ الفضل الكبرى بنت الحارث أخت أسماء لأمها.

وميمونة أمّ المؤمنين، أبوها الحارث بن الجون بن بجير بن الهرم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر، وأم المؤمنين هذه هي أخت أسماء من أمّها.

وأخوات ميمونة لأمها، هنّ عشر أخوات، وست أخواتها لأبيها. (1)

زواجها

وقع اختلاف بينها وأختها سلمى، حيث قيل: إن أسماء بنت عميس كانت قبل الإسلام تحت حمزة بن عبدالمطلب ابن عمّ رسول الله (ص) أنجبت له ابنة «أمة الله»، ثم من بعده كانت تحت شداد بن الهادي الليثي، وأنجبت له «عبدالله وعبدالرحمن» ولكن ردّت هذه الدعوى بأنّ المرأة التي كانت تحت حمزة وشداد هي سلمى بنت عميس أختها، وليس أسماء.


1- مقاتل الطالبيين:36_35، ترجمة محمد بن جعفر; ابن سعد في الطبقات 8 : 94،205، 6 : 86 ; الإصابة 8 : 202 _ 191، 18 : 78 ؛ وفي غيرها من المصادر التاريخية.

ص: 512

والشيء المتيقن أنها تزوجت ابن عمّ رسول الله (ص) جعفر الطيار بن أبي طالب، والذي كان شبيهاً به (ص) فقد كان (ص) يقول لجعفر: «أنت أشبه الناس بخلقي وخلقي».(1)

فكان ذلك يسرّ أسماء، ويسعدها عندما ترى زوجها شبيهاً بأحسن الخلق وأفضلهم وأحبهم إليها، فكان يحرّك فيها مشاعر الشوق لرؤية النبي الكريم (ص) .

وقد أسلمت مع زوجها جعفر _ الذي ظلّ طيلة حياته معها يبادلها المحبة والوفاء والرفقة الصالحة حتى في مسيرتهما الإيمانية _ في وقت واحد ومبكر من عمر الدعوة، حتى يقال: إنّ إسلامهما كان قبل دخول رسول الله (ص) دار الأرقم بمكة.

أسماء ، في بلاد الهجرة الأولى

ما إن قرّر زعماء ومشركو قريش معاقبة المؤمنين، حتى أذن رسول الله (ص) لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فكانت أسماء وبرفقة زوجها جعفر، وبعد فترة قليلة من زواجهما، واحدةً ممن شدّ الرحال هجرةً في سبيل الله تعالى، و تنفيذاً لطلب الرسول (ص) و فراراً بدينهم وأنفسهم، فوثقت هجرتهما الحياة بينهما، وملأت عليهما أجواء إيمانية، جعلت منهما نعم الزوجين، المؤمنين، المهاجرين، المجاهدين، الصابرين، الصادقين، بعد أن أدركا أنّ الآخرة خير من الأولى.

إذن، ما إن وصل المهاجرون إلى بلاد الحبشة، حتى كانت أسماء وزوجها جعفر، وهو أمير المهاجرين، وابنهما عبدالله على قول، في مقدمة ذلك الركب العظيم، وكانت واحدة من ست عشرة امرأة مهاجرة... ليقيموا في بيت بسيط تكتنفه آلام الغربة، والبعد عن الرسول (ص) وصحبته المباركة، وعن الوطن والأحبة، وتملؤه المودة، والمحبة، والاحترام، لتجعل منهما مثالاً للزوجين الصالحين.

حقاً لقد ملأ هذا الصحابي الجليل، حياة زوجته أسماء بكل معاني الخير، مما حداها أن تكون شريكته الصالحة في حمل مسؤولية هذا الدين الحنيف، ونشر دعوته في مهجرهما


1- مختصر تاريخ دمشق 6 : 69 ترجمة جعفر بن أبي طالب.

ص: 513

الجديد; إضافةً إلى تحملها تربية أولادها الثلاثة الذين منّ الله تعالى عليهما بهم، فقد أنجبت لجعفرفي بلاد الحبشة: عبدالله، و محمداً، وعوفاً، وكان ولدها عبدالله أكثر شبهاً بأبيه الذي كان شبيهاً بالنبي الكريم (ص) فكانا كلما اشتاقا لرؤية رسول الرحمة (ص) ملئآ عيونهما منه.

بقيت هذه الصحابية المؤمنة الصابرة وزوجها في الحبشة خمس عشرة سنة أو أقلّ من هذا بقليل، وقعت فيها أمور عديدة واصل فيها رسول الله (ص) دعمه لهم، عبر موفده عمرو بن أمية الضمري يتفقدهم، ويستوضح ما عندهم، ويعلمهم أحكام الله، وما ينزل من آيات قرآنية.

وفي المقابل كانت قريش هي الأخرى، ترسل وفودها إلى ملك الحبشة، لتحثه على تسليمهم وإعادتهم إليه، فقد جاء وفد من قريش إلى ملك الحبشة (النجاشي) يطالبونه بإعادة المسلمين إلى مكة، وكان يضم عمرو بن العاص، وكانوا يقولون له:

«قد ضوي إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ٍ ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إليهم».

فما كان من النجاشي إلاّ أن أرسل بطلب وفد المسلمين، يسألهم بشأن هذا الأمر، فتقدم جعفر بن أبي طالب، زوج أسماء، فقال:

«أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع الأوثان، وأمرنا أن نعبدالله وحده، لانشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام...».

فتشوّق النجاشي لسماع المزيد; فسأله عما جاء به النبي (ص) من عندالله، فما كان من جعفر إلاّ أن أسمعه من سورة مريم...

فبكى النجاشي حتى أخضلّت لحيته، وبكت معه أساقفته، فقال النجاشي:

«إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، إنطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكيدهم أحد».

ص: 514

فكان ذلك سبباً في إسلام النجاشي، وكان النجاشي سبباً في إسلام وفد قريش، والذي كان من بينهم عمرو بن العاص.

وقد سمّى النجاشي ولده (عبد الله) على اسم ابن جعفر وهو عبد الله، وليس هذا فقط، بل إنّ أسماء قد أرضعته مع ولدها عبد الله بن جعفر، وبالتالي فهما أخوان بالرضاعة، وهذا دليل على عمق العلاقة بين العائلتين: عائلة النجاشي وعائلة جعفر.

إنّ ذلك كان اختباراً عظيماً لهذه الفئة المؤمنة، وأسماء منها تؤدي رسالتها كأفضل داعية قولاً وعملاً وسلوكاً...

هجرتها الثانية

كم كان سرور رسول الله (ص) عظيماً حين عادت أسماء وجعفر من الحبشة إلى المدينة المنورة، وهو يعيش فرحة فتح خيبر، وقد عبّر عن فرحتيه، فقال (ص) بعد أن قبّل بين عيني جعفر:

«ما أدري بأيّهما أنا أسرّ: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!!».(1)

هي و الخليفة الثاني

ما إن عادت من هجرتها إلى الحبشة، التي تأخرت فيها، حتى وفقت وزوجها وأولادها إلى هجرة أخرى، وهذه المرة إلى حيث رسول الله (ص) إلى المدينة، وما إن التقت بحفصة زوج النبي (ص) حتى دخل عليهما عمر بن الخطاب قائلا:- «لقد سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله (ص) منكم أو: يا حبشية، سبقناكم بالهجرة!

فغضبت وقالت:

«أي لعمري لقد صدقت! كنتم مع رسول الله (ص) يطعم جائعكم، ويعلّم جاهلكم، وكنّا البعداء الطرداء، أما والله لآتين رسول الله (ص) فلأذكرن ذلك له، و لاأنقص ولا أزيد في ذلك»


1- السيرة النبوية، لابن هشام 3 : 4.

ص: 515

فذكرت ذلك له، فقال (ص):

«لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي! وهاجرتم إلّي»، أو «للناس هجرة واحدة، ولكم هجرتان».

وعن البخاري في صحيحه عن أبي موسى، أنه قال:

بلغنا مخرج النبي (ص) ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، فركبنا فالقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النبي (ص) حين افتتح خيبر، وكان أناسٌ من الناس يقولون لنا _ يعني أهل السفينة _ :

سبقناكم بالهجرة!

ودخلت أسماء بنت عميس _ وهي ممّن قدم معنا _ على حفصة زوج النبي (ص) زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟

قالت أسماء: نعم.

قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول الله (ص) منكم!

فغضبت وقالت: كلاّ والله، كنتم مع رسول الله (ص) يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في الدار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله (ص) وأيم الله، لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى أذكر ما قلت لرسول الله (ص) وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه.

قال: «فما قلت له؟».

قَالَت: قلت له: كذا وكذا.

قَال (ص) : «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».

قَالَت: فَلَقَد رأيت أبا موسى، وأصحاب السفينة، يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أقرح، ولا أعظم في أنفسهم، مما قال لهم النبي (ص).

ص: 516

فقد قضى رسول الله (ص) لها _ رضوان الله تعالى عليها _ ولمن كان معها في الهجرة بالسبْق على عمر وهجرته، وهكذا جاهدت أسماء لتثبت حقها الشرعي وحقّ إخوانها الذين صحبوها في المشوار الطويل هجرةً ودعوة، وها هي تبشِّر وتَنْشُر هذا الأمر بين من كانوا، يأتونها جماعات للسؤال عن حديث رسول الله (ص) وقضائه لهم بالسبْق في الهجرة والجهاد.

فسرّت بقول رسول الله (ص) هذا وأثلج صدرها، ولم يكن ذلك من رسول الله (ص) تطييباً لخاطرها، وإراحةً لنفسها فقط، بل كان منه (ص) توضيحاً للحقيقة، وتبييناً للواقع العظيم الذي عاشوه، والهدف الكبير الذي حملوه، وقطعاً لدابر الفتنة، فهم تركوا مكة فارّين بدينهم إلى الحبشة، فكانت هجرة، وهم كذلك انتقلوا من بلاد الحبشة إلى المدينة المنورة، فهذه هجرة أخرى!!!

الامتحان الكبير

حلّت أسماء في بيت النبوة مع زوجات النبي (ص) وبناته، فيما راح جعفر يشهد مع رسول الله (ص) مواقفه الجهادية... إنه ابتلاء آخر لإيمان أسماء، وصبرها، وصمودها، وثباتها، إنه يوم مؤتة ووقعتها، يوم الشهادة، شهادة من؟! شهادة زوجها جعفر، وهو يقارع أعداء الإسلام ونبيه...

حزن رسول الله (ص) حزناً شديداً حين وصله خبر استشهاد عزيزه وحبيبه جعفر، الذي كان يحظى بمعزة خاصة، ومنزلة رفيعة عنده (ص) فهو شبيهه وداعيته الثابت الواعي والمجاهد الواعد، فكان يستحق منه ذلك الألم والحزن...، جاء9أسماء، وهو يحمل إليها نبأ استشهاد حبيبها، ورفيق إيمانها وهجرتها، وها نحن نقرأ ما قالته رضوان الله تعالى عليها.

«أصبحتُ في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه، فأتاني رسول الله (ص) ولقد هنأت (أي دبغت أربعين إهاباً من أدم) وعجنت عجيني، وأخذت بنىّ فغسلت وجوههم ودهنتهم، فدخل عليّ رسول الله (ص) فقال:

«يا أسماء: أين بنو جعفر؟» فجاءت بهم، فقبّلهم رسول الله (ص) وبكى، فأحست أسماء

ص: 517

بحدوث شيء لزوجها، فسألت النبي (ص) فقال لها:

«قتل جعفر اليوم».

فقامت تصيح وتنحب، حتى اجتمع عليها الناس يهدؤنها من روعها.

فقال (ص) : "يا أسماء! لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً "، فكان حزنها عظيماً وبكاؤها مريراً...

وفي خبر آخر، إنه لما نعى رسول الله (ص) جعفراً إلى زوجه أسماء بنت عميس، قامت وصاحت وجمعت الناس، فدخلت عليها فاطمة بنت النبي (ص) وهي تبكي وتقول: وا عمّاه!

فقال رسول الله (ص) : على مثل جعفر فلتبك البواكي!!!

فكان رسول الله (ص) يطمئنها قائلاً:

«يا أسماء! هذا جعفر بن أبي طالب، قد مرّ مع جبريل وميكائيل»، فرد (ع)، ثم قال صلوات الله عليه: فعوّضه الله عن يديه جناحين يطير بهما حيث شاء.

وورد إنه (ص) توجه بالدعاء قائلاً: أللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبدالله.

ثم رجّع _ بتشديد الجيم _ وقال: إصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم.

وقد نقل الصدوق عن الإمام الصادق (ع) : إنّ النبي (ص) أمر فاطمة أن تأتي أسماء بنت عميس، ونساؤها وأن تصنع لهم طعاماً ثلاثة أيام، فجرت بذلك السنّة.

وما إن ذكرت أسماء يتم أولادها حتى قال (ص) لها:

«العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة». رواه أحمد.

ثم رثته رضوان الله عليه ببيتين من الشعر، وهو ما عثرت عليهما:

فآليت لا تنفك عيني حزينة

عليك و لاينفك جلدي أغبرا

فلله عيناً من رأى مثله فتى

أكر وأحمى في الهياج وأصبرا

وهي القائلة: ما رأيت شاباً من العرب، كان خيراً من جعفر.

ظلّت أسماء صابرة وفية لذكرى زوجها، وحبيبها، ورفيق دربها، يظهر كل هذا وغيره من خلال انكبابها على رعاية أولادها، وتنشئتهم تقرؤهم القرآن، وتعلّمهم مبادئه،

ص: 518

ومفاهيمه، وأحكامه، ولم يشغلها أولادها عن الدعوة إلى الله تعالى بين أخواتها المؤمنات... وبقيت مجالسها عامرة بذكرالله تعالى.

وفاؤها لفاطمة الزهراء (عليها السلام)

كانت تتوفر على حبّ كبير، ومودة عالية لسيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء(عليها السلام) ونورد هنا بعض ما روي في حبّها وتعلقها المتواصل بسيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء(عليها السلام) :

فقد روي في تزويج فاطمة(عليها السلام) : أنّ رسول الله (ص) أمر النساء بالخروج، فخرجن مسرعات إلاّ أسماء فقد تأخرت، فدخل النبي (ص).

وهنا تقول أسماء: فلما خرج رأى سوادي، فقال: مَن أنتِ؟

فقلت: أسماء بنت عميس.

قال: ألم آمرك أن تخرجي؟!!

فقالت: بلى يا رسول الله، وما قصدت خلافك، ولكن كنتُ قد حضرت وفاة خديجة، فبكتْ عند وفاتها، فقلتُ لها: تبكين وأنت سيدة نساء العالمين، وزوجة رسول الله (ص) ومبشّرة على لسانه بالجنة؟!

فقالت: ما لهذا بكيتُ.. ولكنّ المرأة ليلة زفافها لابدّ لها من امرأة، وفاطمة حديثة عهد بصبا، وأخاف أن لا يكون لها مَن يتولّى أمرها.

فقلت لها: يا مولاتي، لك عهد الله عليّ إن بقيت إلى ذلك الوقت، أن أقوم مقامك في ذلك الأمر.

فبكى رسول الله (ص) وقال:

" أسأل الله أن يحرسك يا أسماء من فوقك، ومن تحتك، ومن بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، من الشيطان الرجيم".

وروي أيضاً أنها كانت حاضرة عند سيدة نساء العالمين فاطمة، في ولادة الإمام الحسن (ع) كما في الرواية التالية...

ص: 519

تذكير مهم

وهنا لابدّ لي من تسجيل هذا التذكير حول حضور كلّ من أسماء بنت عميس وزوجها جعفر، زفاف سيدة نساء العالمين لعليّ (ع) وهي أنّ أسماء هاجرت إلى الحبشة مع رفاق دربها، وعلى رأسهم زوجها جعفر الطيار، بعد البعثة النبوية، وقبل الهجرة النبوية إلى المدينة، في السنة الخامسة، وكانوا آخر العائدين هي وزوجها وصحبه إلى المدينة دار هجرتهم الثانية، سنة 7 هجرية، فيما كانت سنة زواج سيدة نساء العالمين من الإمام عليّ (ع) سنة 2 أو 3 هجرية، أو في السنة الأولى للهجرة، كما عليه بعض الروايات

والمفروض أنّ أسماء وأيضاً جعفر، كانا في هذا الوقت في الحبشة! فكلّ هذا وغيره من الأخبار وقع فيه اشتباه، انتبه إليه بعضهم: كمحمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتابه «كفاية الطالب» حيث قال:

إنّ ذكر أسماء بنت عميس في خبر تزويج فاطمة(عليها السلام) غير صحيح، لأنّ أسماء التي حضرت في عرس فاطمة إنما هي بنت يزيد بن السكن الأنصارية، ولها أحاديث عن النبي (ص) وأسماء بنت عميس كانت مع جعفر بن أبي طالب بالحبشة، وقدم بها يوم فتح خيبر سنة سبع، وكان زواج فاطمة(عليها السلام) بعد بدر بأيام يسيرة.

أما في كشف الغمة، فقد احتمل أن تكون سلمى بنت عميس هي التي حضرت زفاف فاطمة الزهراء(عليها السلام).

وهنا لا بد لي من القول:

1 _ إنّ هذه الأنصارية كانت من أهل يثرب وتسكن فيها.

2 _ لم تكن مسلمةً حين وفاة أم المؤمنين خديجة في مكة، وقد توفيت قبل هجرة رسول الله (ص) إلى المدينة.

والرواية تذكر أنّ أسماء حضرت وفاة خديجة، وراحت هذه الأخيرة تبكي وتشكو لها خوفها على ابنتها السيدة فاطمة، فيما تعهدت أسماء إن بقيت إلى ذلك الوقت، أن تقوم مقامها، أي مقام السيدة خديجة، في رعاية ابنتها... فكيف لهذه الأنصارية أسماء بنت يزيد

ص: 520

بن السكن _ وهي في المدينة، وهي لم تكن بعدُ مسلمة _ تأتي إلى مكة لتحضر وفاة أم المؤمنين خديجة، وتعطي ذلك العهد؟!

والنتيجة التي يبدو لي أنها قد تكون الأقرب إلى الصحة، ما احتمله صاحب كشف الغمة، من أنّ الحاضرة ذلك الزفاف، هي سلمى أخت أسماء بنت عميس، وكانت سلمى زوجةً لحمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه.

وماوقع هو اشتباه من الرواة في أسماء بنت عميس، وفي وجود جعفر أيضاً. (1)

وعلى أيّة حال، فقد كانت العلاقة وطيدةً بين سيدة نساء العالمين وأسماء، فهي التي تشرّفت بتمريضها أيضاً حتى نفسها الأخير، وقد أوصتها بوصاياها في تكفينها وتشييعها، وهي التي نعتها إلى الإمام عليّ (ع) وشاركته في تغسيلها، وتكفينها، وترحيلها، إلى مثواها الأخير.... (2)

فلما رأت(عليها السلام) دنوّ أجلها، وأنها تسرع الخطى للّحاق بأبيها(عليها السلام) طلبت من أسماء بنت عميس أن تحضر لها ماءاً لتغتسل به، فاغتسلت، و لبست أحسن ثيابها... و طلبت من أسماء أن تضع لها فراشاً وسط البيت، فاضطجعت في فراشها، و هي مستقبلة القبلة، ثم دعت أسماء و أم أيمن، وطلبت إحضار علي بن أبي طالب (ع) فحضر عليّ (ع) وراحت(عليها السلام) توصيه بوصاياها...

«يا ابن العم! إنه قد نعيت إلى نفسي، و إنني لا أرى ما بي إلاّ أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، و أنا أوصيك بأشياء في قلبي».

قال لها علي (ع): «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله».

فجلس عند رأسها، و أخرج من كان في البيت، ثم قالت: «يا ابن العم! ماعهدتني كاذبة، ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني».


1- أنظر: تاريخ هجرتهم وعودتهم في المصادر التاريخية ، ومنها مختصر تاريخ دمشق ، ترجمة جعفر بن أبي طالب 6 : 74 _ 62.
2- تاريخ الطبري 2 : 253، سنة 11 وغيره من المصادر.

ص: 521

فقال: «معاذ الله، أنت أعلم، وأبرّ، وأتقى، وأكرم، وأشدّ خوفاً من الله، من أن أوبخك بمخالفتي، وقد عزّ عليَّ مفارقتك وفقدك، إلاّ أنه أمر لابدّ منه، والله لقد جددت عليَّ مصيبة رسول الله (ص) وقد عظمت وفاتك و فقدك، فإنّا لله و إنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأحزنها، هذه والله مصيبة لا عزاء عنها، ورزية لا خلف لها».

ومن ضمن ما قالته(عليها السلام) في وصيتها للإمام (ع) مما له علاقة بمقالتها هذه:

... أوصيك يا ابن عم أن تتخذ لي نعشاً... (1)

وفعلاً، فقد قام الإمام عليّ (ع) بتغسيلها، ولم يشاركه أحد من النساء إلاّ أسماء بنت عميس، وكان الحسنان يحملان الماء، ويدخلانه إلى المغتسل، ولم يشارك في الغسل، ولم يحضرها غيره، وغير الحسنين، وزينب وأم كلثوم، وفضة جاريتها، وأسماء بنت عميس، ثم صلّى عليها عليّ (ع)...

ثم وضعها على نعش، صنعته أسماء بنت عميس لفاطمة(عليها السلام)...

وقد ذكر المؤرخون، أنّ أول من حُمل على نعش، هي فاطمة(عليها السلام) صنعته لها أسماء بنت عميس، على النحو الذي شاهدته في الحبشة، أيام هجرتها. (2)

وقد روي عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال:

«أول نعش أحدث في الإسلام نعش فاطمة، إنها اشتكت شكوتها التي قبضت فيها، و قالت لأسماء: إني نحلت، وذهب لحمي، ألا تجعلين لي شيئاً يسترني؟ قالت أسماء: إني إذ كنت بأرض الحبشة، رأيتهم يصنعون شيئاً أفلا أصنع لك؟ فإن أعجبك أصنع لك.

قالت: نعم.

فدعت بسرير، فأكبته لوجهه، ثم دعت بجرائد فشددته على قوائمه، ثم جلّلته ثوباً، فقالت: هكذا رأيتهم يصنعون.


1- المجالس السنيّة، للسيد الأمين 2 : 123 ; فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: 609 من روضة الواعظين ; بحارالأنوار 78 : 256.
2- أنظر مثلاً تاريخ المدينة المنورة، لعمر بن شبة 1 : 108 ; والاستيعاب، لابن عبد البر.

ص: 522

فقالت فاطمة: إصنعي لي مثله، أستريني سترك الله من النار».

كما ظلّت وفية لبيوت أخرى، شاءت السماء أن تحلّ فيها زوجة، بعد أن راح يتمنى الاقتران بها رجال رأوا فيها صدق الإيمان، وعمق الوعي، ونفاذ البصيرة والعقل والحكمة، فكان الخليفة الأول أوّل المتقدمين إليها، بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب، ورزقها الله منه محمداً، نعم العبد الصالح، المطيع لله ورسوله وأهل بيته، والمتفانين في سبيلهم...

تعهّدت مسؤولية تربية أبنائها من جعفر، ضمّت إليهم ابنها محمد من أبي بكر، وهي تدعو الله أن يصلح بالهم، وأن يجعلهم على الصراط المستقيم...

مع الإمامة

وقدّر لهذه المرأة الصالحة، أن تحل في بيت ارتضاه الله تعالى أن يكون من بيوته، بيت إيمان وطهر، بيت إمامة وصدق، فتشرفت بأن تقترن بمن عرف بقرابته القريبة، من رسول الله (ص) وبقدمه في الإسلام، ونصرته، وجهاده، و بمن وصفه رسول الله (ص) بصفات عظيمة، لم تتوفر لغيره كالأخوة، والوصية، والخلافة، والولاية...، وقد عصت على الجميع وأبت إلاّ أن تكون لعليّ وعليّ فقط، وهو رفيق رسول الله (ص) وصهره لابنته الراحلة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وهو شقيق جعفر الطيار زوجها الشهيد، وهو عمّ أولادها الثلاثة، وهو فوق كل هذا وغيره، أروع شخصية صنعتها السماء بعد رسول الله (ص) وبدخولها هذا المنزل المبارك تكون قد دخلت أفضل وأعظم مصداق لمدرسة النبوة والإمامة، ومن أوسع أبوابها، لتكون أنموذجاً حياً لأخلاق القرآن والإسلام...

لقد تزوج أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) بأسماء بنت عميس، وانتقلت إليه برفقة أولادها الأربعة، ليتذوقوا مفاهيم وقيم النبوة والإمامة، من أصدق منابعها; وعاشت معه، فكانت صورةً رائعة للمرأة المسلمة، والداعية المؤمنة، وقد أولدها يحيى و عوناً، فكانت مثالاً حياً للزوجة الصالحة، والأم المربيّة، فجعلت الإمام (ع) معجباً برجاحة عقلها، وهو ما تنطق به سيرتها، وما تجده واضحاً حينما اختلف كل من ولديها:

ص: 523

" محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر" وراح كل منهما يتفاخر بأبيه، فقال كلّ منهما للآخر: " أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك".

وأحال الإمام عليّ هذا الأمر إليها _ رضوان الله تعالى عليها _ لتقضي بينهما، إذن، كيف استطاعت أن ترضيهما؟!

وقفت أسماء بينهما، و قالت غير مترددة ولا منتظرة طويلاً: "ما رأيت شاباً من العرب خيراً من جعفر، ولا رأيت كهلاً خيراً من أبي بكر". فسكت الولدان، وتصالحا.

فقال عليّ مداعباً: فما أبقيت لنا أو ما تركت لنا شيئاً، ولو قلت غير الذي قلت لمقتك!

قالت: إن ثلاثة أنت أحسنهم خياراً!!!. (1)

لقد كبرت في عين عليّ، حتى أصبح يردد في كل مكان:

«كذبتكم من النساء الخارقة، فما ثبتت منهنّ امرأة إلاّ أسماء بنت عميس».

و أخيراً رحلت رضوان الله تعالى عليها، وأحداث جسام تعاقبت عليها، كتمت آلامها، وتعالت على جراحها، حين جاءها مصرع ولدها محمد بن أبي بكر، فراحت تتلوى مما تركه نبأ استشهاده من أثر مؤلم على قلبها، فحبست دمعها، وكتمت حزنها، وعكفت في مصلاّها، حتى شخب ثديها ونزفت، ثم فجعت بمقتل زوجها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فلم تعد بَعْدَ مصابه قادرةً على تحمّل الألم الذي يعتصر بقية قلبها الذي انهكه المرض، حتى فاضت روحها إلى العليّ العظيم، في سنة أربعين للهجرة، رضوان الله تعالى عليها.


1- أنظر ما رواه زكريا بن أبي زائدة، عما سمعه عن عامر.

ص: 524

ص: 525

(22) مصعب بن عمير

اشارة

محمد سليمان

أبوه: عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي البدري القرشي العبدري..

أمه: خناس بنت مالك بن المضرب العامرية، وهي من نساء بني مالك.. له أخ اسمه أبوعزيز، ولمصعب موقف منه في معركة بدر الكبرى، وهناك شخص من بني عبد الدار بن قصي، اسمه أبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار، كان مع الوجبة الثانية من المهاجرين التي التحقت بالوجبة الأولى التي هاجر فيها مصعب إلى الحبشة، ولم أجد من أشار إلى هذه العلاقة، أو أنه عاقبته أمه كما عاقبت مصعباً..، ولا أدري قد يكون أخاً لمصعب من أبيه.. لهذا لم تستطع خناس أن تنال منه.. وله أخت تدعى هند بنت عمير، وهند هي أم شيبة بن عثمان حاجب الكعبة، جد بني شيبة...

كنيته: كان مصعب يكنى «أبوعبد الله».

لقبه: «مصعب الخير» وهو ما أراده له المسلمون، وأحبوا أن يلقبوه به.

مصعب واحد من فضلاء الصحابة وخيارهم، بعد أن منّ الله تعالى عليه أن يكون من السابقين إلى الإسلام، ثم من منتسبي مدرسة الصحبة الواعية المباركة لرسولالله (ص) امتلأ

ص: 526

إيماناً ورسالية ووعياً فريداً، وحلماً كبيراً.. جعله ذلك يتدفق حيوية، وحركة دؤوبة، ونشاطاً كبيراً في كل مواقفه الإيمانية والتبليغية والجهادية..

لقد تمثلت في شخصيته رجولة وشجاعة وإباء، وتجسد في قلبه يقين ثابت، وفي نفسه إرادة مبدعة، وفي سلوكه سيرة حسنة، وأخلاق فاضلة .. فغدا يستقبل المسؤوليات العظيمة بكل ما فيها من مصاعب ومتاعب ومخاطر، دون أن يتطرق الخور إلى نفسه، أو يحلّ الإعياء في عزيمته، بفضل ما يتحلى به من الحكمة التي افتقدها الكثيرون، حتى الكبار ممن هم حوله.. وبفضل إيمانه الواعي، وعشقه لرسالة الدين الجديد، الذي حمله رسولالله (ص) إليهم، وتعلقه بالرسالة والرسول (ص) وعمق صدقه وإخلاصه.. فقدم ما قد يعجز عنه الآخرون، وهم مجتمعون، فنال ذكراً طيباً في الدنيا، وخلوداً في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

يقولون عنه

إنه كان فتى قريش، وقد أوتي من الجمال والأناقة ما جعله شاباً يافعاً، وضيء الطلعة، مليح الهيئة، فريداً بين أقرانه، وأوتي من المال ما جعله مترفاً متنعماً مدللاً محبباً إلى والديه الثريين اللذين راحا يغدقان عليه بما يشاءا، ويحققان له كل ما يريد من أسباب الحياة الفارهة.

كانت أمه تكسوه من الثياب أحسنها وأرقها، وتطيبه بأطيب العطور لتجعله كما تتمنى أعطر شباب أهل مكة، بل أعطر أهلها، وخير دليل على هذا ما كان يقوله رسولالله (ص) حين يذكره:

«ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير» و «لقد رأيت مُصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه».

واللمة بتشديد اللام وكسرها: شعر الرأس الذي يتجاوز شحمة الأذن.

الحلة بضم الحاء: الثوب الجديد وقد تكون ثوبين أو ثلاثة أثواب قميصاً وإزاراً ورداء.

ص: 527

حقاً لقد كان من أنعم أهل مكة وأجمل فتيانها، وأكثرهم شباباً.

ولكن لم يمنع مصعباً كل تلك الفتوة الفائقة، وذاك النعيم، وهذا الترف، من الانضمام إلى قافلة المؤمنين، حين طرق سمعه دين السماء الجديد الذي يحمله رسول الرحمة محمد بن عبدالله (ص).

لم يمنعه كل ذلك ولا حتى غيره من أن يسلم ويصدق في إسلامه، ويؤمن ويخلص في إيمانه.

سمع عن الإسلام والمسلمين في مكة، وأنهم يجتمعون برسولالله (ص) في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فلم يتأخر طويلاً بل أطلق ساقيه ليسجل سبقاً عظيماً، وهو يعلم جيداً بحكم ذكائه ومعرفته بوالديه، وبالذات أمه صاحبة الكلمة والسطوة، أنه سيسلب النعيم الذي هو فيه، وسيتبدل حاله من السعة إلى الضيق، ومن الراحة إلى التعب، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الترف إلى الحرمان إن هو آمن.

ولكنه _ وكما يصفه المسلمون _ مصعب الخير، آثر الحياة الآخرة ونعيمها الخالد على الدنيا ونعيمها الزائل، بعيداً عن الزهو والدلال وما يتركانه من تعال وكبرياء وطغيان.

{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً}.

لقد انطلق مسرعاً في ذلك الصباح إلى حيث دين الله، وآياته التي تتلى ورسوله الكريم إلى الصفا، إلى دارالأرقم، حيث كان له اللقاء المبارك مع الإسلام.

فما أن وقع نظره على رسولالله (ص) حتى بسط يده مبايعاً، وما إن لامست يده بل يداه يد رسول الرحمة والبركة، حتى تهلل وجهه، وأشرق جبينه، ووضح البشر بين عينيه، وهو يعلن الشهادتين لينضم إلى إخوانه، فينال وسام السابقين الأولين إلى الإسلام، حتى نزلت السكينة عليه والحكمة، وحتى غدت العيون لتزداد له هيبة وتمتلأ القلوب إعجاباً به، وإكباراً له كلما رأته، واطلعت على سيرته العطرة الواعية الواعدة.

آمن بالله تعالى وصدق دينه ونبيه متحدياً بذلك قريشاً بعتادها وقوتها وجبروتها وعنادها، وهو يرى تعذيبها لمن آمن من قبله من المستضعفين في رمضاء مكة.

ص: 528

مصعب وأمه

كانت أم مصعب تتمتع بقوة وصلابة ومهابة، لهذا حين أسلم مصعب اتخذ قراراً أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمراً، إلا أنها علمت بعد حين بإسلامه فقد أبصره عثمان بن طلحة مرة، وهو يدخل إلى دارالأرقم، ورآه أخرى وهو يؤدي الصلاة، فأسرع إليها ينقل لها نبأ إسلام مصعب الذي كانت تحبه حباً شديداً، وتحرص عليه حرصاً كبيراً، وقد أفقدها هذا الخبر صوابها، فحاولت أن تثنيه عن الإسلام، إلا أنها لم تجد عنده ضعفاً أو تنازلاً أو ميلاً لما تريده منه، بل لم تحدثه نفسه بخيار يكون بديلاً لإيمانه، فراحت تشتد في معاملتها له، وتقسو عليه وتضيق في عيشته وحركته أكثر فأكثر، ومنعته من كل نعيم كانت تقدّمه له.

نعم، لقد ضيقت عليه وحبسته وبذلت كل ما تستطيعه من جهد لترده عن دينه، لكنها واجهت من ابنها مصعب إصراراً أكبر على الإيمان؛ فلما آيست منه طردته من بيتها، ثم حرمته من المال كثيره وقليله.

أما مصعب فقد واجه أمه وعشيرته وأشراف مكة المجتمعين يتلو عليهم آيات من القرآن الكريم، فهمّت أمه أن تسكته بلطمة، ولكنها لم تفعل، وإنما حبسته في زاوية من زوايا دارها وأحكمت عليه الغلق، حتى علم أنّ هناك من المسلمين من يخرج إلى الحبشة، فاحتال على أمه ومضى إلى الحبشة وعاد إلى مكة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة، ولقد منعته أمه حين يئست من استجابته لها كل ما كانت تفيض عليه من النعم، وحاولت حبسه مرات بعد رجوعه من الحبشة، فآلى على نفسه لئن فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه، وإنها لتعلم صدق عزمه، فودعته باكية مصرّة على الكفر، وودعها باكياً مصراً على الإيمان، فقالت له وهي تخرجه من بيتها:

إذهب لشأنك، لم أعد لك أماً.

فاقترب منها وقال:

يا أمه إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

ص: 529

أجابته غاضبة

قسماً بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف عقلي.

ثم قررت سجنه وهو مع هذا كله كلما ازدادت عليه أمه ضيقاً وشدة ازداد ثباتاً ورسوخاً على دينه، وحرصاً على آخرته، ولقد عانى معاناة شديدة، وشعر بالأذى يتضاعف عليه يومياً، وهو يحرم مما تعود عليه من نعيم، وأخيراً لم يكن أمامه إلا أن ترك النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة، وأصبح الفتى المتأنق المعطر، لا يُرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً، ويجوع أياماً؛ ومع هذا الألم المضاعف عليه صبر وصابر، وهو يرى نفسه يعذب ويحجر عليه، وآلامه تتضاعف، لأنه عاش حياة الرفاهية والراحة، بعيداً عن أسباب الألم والتعب، وهو الشاب الترف الناعم الطري، الذي نشأ في أحضان النعمة والعيش الرغيد، قبل أن تبدأ مرحلة أخرى تغير فيها الحال، وكان أمراً غريباً عليه، لما تعرض له بعد إيمانه، لأنه لم يعش حياة الخشونة والأذى، لكنه لم يثنه شيء من ذلك عن دينه.

يقول عنه سعد بن أبي وقاص:

«وأما مصعب بن عمير، فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحيّة، ولقد رأيته ينقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا».

ترك نعيم الدنيا، وخرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الفاقة، وأصبح الفتى المعطر المتأنق لا يرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً ويجوع أياماً، وقد بصره بعض الصحابة يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، فحنوا رؤوسهم وذرفت عيونهم دمعاً شجياً.

ورآه الرسول (ص) وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة وقال:

«لقد رأيت مصعباً هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله

ص: 530

ورسوله».

وحين نظر رسولالله (ص) إلى مصعب وقد جاء مقبلاً وعليه إهاب كبش قال:

«أنظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغدوان بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون».

لقد ظلّ مصعب محتسباً كل آلامه عندالله العلي القدير ينتظر منه الفرج والنجاة والأجر والثواب.

هجرته

ولما اشتد أذى المشركين لمصعب ولإخوته المسلمين، وضاق بهم أسياد مكة ذرعاً، أذن لهم رسولالله (ص) بالهجرة إلى الحبشة، وهي الهجرة الأولى لهم بعد إسلامهم.

يقول ابن إسحاق: فلما رأى رسولالله (ص) ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم:

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه».

فخرج عند ذلك جمع من المسلمين من أصحاب رسولالله (ص) إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام، ثم ذكر أسماء من هاجروا ونسب كل واحد منهم إلى قبيلته حتى وصل إلى: ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، ثم واصل ذكر غيره، فكان عدد الرجال عشرة ومعهم أربعة نساء، ومصعب كان سادسهم.

وقد خرجوا متسللين سراً حتى انتهوا إلى الشعيبة، منهم الراكب والماشي، ووفق الله المسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار، حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من حين نبئ رسولالله (ص) وخرجت قريش في

ص: 531

آثارهم حتى جاؤوا البحر فلم يدركوا منهم أحداً. (1)

وفي قول: إنهم أمروا عليهم عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح.. ثم تواصلت هجرتهم فالتحق من قبيلة مصعب عدد آخر، وهم سويبط بن سعد، وجهم بن قيس، ومعه امرأته أم حرملة من خزاعة، وابناه عمرو وخزيمة، وأبو الروم بن عمير _ وهو أخ لمصعب كما يبدو لي _ وفراس بن النضير، فكانوا كلهم سبعة رجال من قبيلة عبد الدار، قبيلة مصعب بن عمير. (2)

فهاجر مصعب الهجرة الأولى إلى الحبشة مع من هاجر، وكان عددهم اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، ثم تكاثر عدد المهاجرين الذين تعاقبوا على الحبشة، حتى وصل جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا معهم صغاراً وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلاً.

وكان مما قيل من شعر في الحبشة وهو يصور معاناتهم، وما تعرضوا من عذاب وهوان كانت السبب في هجرتهم وترك بلادهم:

كل امرئ من عباد الله مضطهد

ببطن مكة مقهور ومفتون

إنا وجدنا بلاد الله واسعة

تنجي من الذل والمخزاة والهون

فلا تقيموا على ذل الحياة وخز

ي في الممات وعيب غيرمأمون

إنا تبعنا رسولالله واطرحوا

قول النبي وعالوا في الموازين(3)

لكن مصعب لم يبق طويلاً في هجرته إلى الحبشة، إذ رجع بعد هجرته بعدة أشهر عندما أشيع في الحبشة أن قريشاً قد أسلمت، وكان الأمر غير ذلك.

قال ابن إسحاق: وبلغ أصحاب رسولالله (ص) الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من


1- السيرة النبوية، الهجرة إلى الحبشة ؛ تاريخ الطبري 1 : 546.
2- السيرة النبوية، لابن هشام 1 : 322 _ 325 ؛ تاريخ الطبري.
3- المصدر نفسه 1 : 330 _ 331.

ص: 532

إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً.. وسجل ابن هشام في سيرته العائدين من المهاجرين، حتى وصل إلى من عاد من بني عبد الدار: ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هشام بن عبد مناف، وسويبط بن سعد بن حرملة. (1)

وتمر الأيام العصيبة على المسلمين في مكة، ويأتي عام الحزن العام الذي توفيت فيه خديجة أم المؤمنين زوجة رسولالله (ص) وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها، ووفاة عمه أبي طالب، وكان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة وناصراً على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، وينتهي عام الحزن هذا. (2)

ولما أراد الله عزّوجل إظهار دينه وإعزاز نبيه (ص) راح رسولالله (ص) يعرض نفسه على قبائل العرب، تأتي منهم في موسم الحج طلائع، وقد جاء من أهل يثرب سنة 11 من البعثة النبوية رهط، والتقوا بالرسول (ص) عند العقبة ستة نفر من الخزرج، وأسلموا على يديه، وواعدوا رسولالله (ص) إبلاغ رسالته إلى قومهم؛ وفعلاً ما إن عادوا إلى يثرب إلى قومهم حتى أفشوا الأمر، وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلاً، اجتمع هؤلاء مع النبي (ص) عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وكانت بيعتهم كبيعة النساء خالية من البيعة على القتال.

يقول ابن هشام: فبايعوا رسولالله (ص) على بيعة النساء [وقد ذكر الله تعالى بيعة النساء في القرآن، قال: {يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} فأراد ببيعة النساء أنهم لم يبايعوه على القتال، وكانت مبايعة النساء أنه يأخذ عليهن العهد والميثاق فإذا أقررن بألسنتهن، قال: قد بايعتكن].

عن عبادة بن الصلت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسولالله (ص) على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك


1- أنظر السيرة النبوية 1 : 365.
2- المصدر نفسه 2 : 416.

ص: 533

بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزّوجل إن شاء عذب وإن شاء غفر. (1)

سفير الرسول والرسالة

لقد شاءت له السماء أن يكون من أولئك الذين شيّدوا أساس الإسلام ومجده وعزته ومنزلته في المدينة المنورة، بلد الهجرة والنور والعطاء، بين أهليها من الأوس والخزرج، وليجعل منهم دعاة إلى دين الله وأنصاراً لرسوله (ص) وأن يكون في إيمانه وحركته وجهاده واستشهاده قدوة صالحة، لأنه من {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} وحقاً كان كما لقبه المسلمون «مصعب الخير».

يأتي دور الصحابي الشاب مصعب بن عمير بعد أن تمت البيعة، وقد عرف بنودها وحفظها وانتهى الموسم، بعثه النبي (ص) مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّمهم والمسلمين في يثرب مفاهيم الإسلام وأحكامه، ويقرئهم القرآن، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، لقد اختار رسولالله (ص) لهذه المهمة الشاقة مصعب بن عمير رضوان الله تعالى عليه، وهو فتى من شباب الإسلام، من السابقين الأولين الصادقين المخلصين المتحمسين بوعي وحيوية وقدرة.

قال ابن إسحاق في السيرة النبوية: فلما انصرف عنه القوم، بعث رسولالله (ص) معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلّمهم الإسلام، ويفقّههم في الدين، فكان يسمى المقرئ في المدينة: مصعب، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس، أبي أمامة.

ثم يواصل ابن إسحاق كلامه قائلاً: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أنّ الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.

وقال البراء بن عازب: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو


1- أنظر السيرة النبوية، لابن هشام 2 : 431.

ص: 534

أول مهاجر إلى المدينة حرسها الله.

إذن قبل أن يهم المبايعون من سادات الأوس والخزرج ونقبائهم بالرجوع إلى مدينتهم يثرب، طلبوا من الرسول (ص) أن يبعث معهم معلّماً يعلّمهم الإسلام وأحكامه، ويدرّسهم القرآن ويفقّههم في الدين، وهذا دليل وعيهم وشوقهم لمعرفة هذا الدين الذي آمنوا به، وتمسّكهم والتزامهم بما عاهدوا الله تعالى عليه، وبايعوا عليه رسوله (ص).

وكانوا يتوقعون أن يرسل (ص) معهم ما هم بحاجته من أصحابه المعلّمين إلا أنه (ص) اكتفى بواحد منهم، ولم ينتدب لهذه الوظيفة إلا مصعباً المتدفق حيوية ونشاطاً وذكاء، المشع وجهه جمالاً وبهاء، ليضطلع بمسؤولية كبيرة وجديدة.

اختاره الرسول أن يكون سفيره إلى يثرب، يفقه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ يثرب ويهيؤها ليوم هجرة النبي (ص) إليها.

إن رجاحة عقل مصعب، وكريم خلقه وصبره ونشاطه وزهده، جعله موضع تشريف رسولالله (ص) له، ليسجل بذلك أول مبعوث للنبوة والرسالة وأول سفير للإسلام.

وكم كانت فرحة مصعب عظيمة وهو يتلقى أمر الرسول (ص): اذهب يا مصعب على بركة الله.

فراح يردد كلمات الشكر لله تعالى ويتمتم بها، وهو يرى ما أولاه الرسول (ص) من الثقة العالية به، ومن فوره راح يغذ السير مع من أسلم من يثرب، لينطلق بأشرف الأعمال وأحسنها:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ولسانه يردد:

{قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}.

وحتى نعرف عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه وخطورتها، أنه دخلها ولا يوجد في يثرب إلاّ اثنا عشر مسلماً.. وأجواؤها كانت مشحونة بالعداوة التأريخية المريرة بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتين خاضتا معارك دامية مليئة بالأحقاد والثارات، وخصوصاً إذا عرفنا أنّ في يثرب عدواً متربصاً بهم، ويسوؤه وفاقهما ووحدتهما، ويؤلمه اجتماعهما واتفاقهما،

ص: 535

وهو يواصل إذكاء تلك العداوات بكل ما أوتي من قوة ومال وخبث، إنهم يهود بني قريظة وبني النضير.

لقد كان هذا الشاب رضوان الله تعالى عليه، يقدر المسؤولية التي أنيطت به، ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامه خلال سنة حتى يوافي رسولالله (ص) في الموسم القادم، ومعه الكثير من الأوس والخزرج، لكي تبايعه على نصرة الإسلام، فعليه إذاً أن يجتهد في الدعوة، وأن لا يهنأ بطعام، ولا يغمض له جفن، حتى يدخل الناس في دين الله أفواجاً.

وأما أسعد بن زرارة الذي نزل عنده مصعب، فقد كان من أوائل من أسلم من الأنصار، ولأنه توفي بعد هجرة الرسول (ص) بقليل، فإننا لا نجد له ذكراً كثيراً في كتب السيرة، وأخذ كل من مصعب وأسعد بن زرارة يبثان الإسلام بين الأوس والخزرج بجد وحماس، حتى صار يدعى مصعباً بالقارئ والمقرئ.

وهو ما حصل بالفعل؛ فقد طفق هذا الصحابي الشاب منذ أن وطأت قدماه تراب يثرب يوصل ليله بنهاره، ولا يعرف الهدوء والاستقرار حتى استطاع _ بتسديد من الله تعالى ودعم من رسوله (ص) وخلال سنة _ أن يجعل شبابها ورجالها ونساءها ينعمون بأجواء إسلامية قرآنية، وحقاً ما ذكروه عنه أنه:

«لم يزل يدعو للإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار الأوس والخزرج إلا وفيها رجال ونساء مسلمون»، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبوقيس بن الأسلت وهو صيفي، وكان شاعراً لهم، وقائداً يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسولالله (ص) إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق.

وفي رواية: إنّ هناك رجلاً واحداً، وهو الأصيرم، تأخر إسلامه إلى يوم أحد. (1)

لقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير، أنه خير سفير للإسلام، اعتمده الرسول الكريم (ص) لأهل يثرب، فقد قام بما عهد إليه من مهمة ومسؤولية خير قيام، إذ استطاع


1- الكامل في التاريخ 1 : 512 ؛ تاريخ الطبري 1 : 561.

ص: 536

بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيراً من أهل يثرب على الإسلام، حتى أن قبيلة من أكبر قبائل يثرب وهي قبيلة بني عبد الأشهل، قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ رضوان الله تعالى عليه، ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة هذه القصة، التي جاء فيها:

إنّ أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم؛ وسعد بن معاذ وأسيد بن خضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه _ فلما سمعا بذلك قال سعد بن معاذ لأسيد بن خضير: لا أبا لك! انطلق إلى هذين اللذين قد أتيا دارنا، ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، هو ابن خالي ولا أجد عليه مقدماً.

فأخذ أسيد بن خضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه.

قال مصعب: إن يجلس أكلمه، قال: وجاء أسيد فوقف عليهما متشتماً، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا! اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة.

فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره؟

قال: أنصفت.

ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن.

فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله أو وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.

ص: 537

فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إنّ ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن خضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.

فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضباً مبادراً تخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً ثم خرج إليهما فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتماً، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب! جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت ثم ركز الحربة فجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله.

ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟

قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.

فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن خضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال:

يا بني عبدالأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.

ص: 538

يقول الراوي: فوالله ما أمسى في دار عبدالأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.

والذي يبدو لي أنّ مصعباً حينما عرض الإسلام على سعد، وقرأ عليه القرآن، انشرح صدر سعد، لأن سعداً كان صاحب ضالة، أو كان من الذين يبحثون عن الحقيقة بجد، وما أن وجدها في هذا الدين، حتى تمسك بها، وأخلص لها أيما إخلاص، وهو ما تشهد به سيرته ومواقفه فيما بعد.

وأقام مصعب يدعو إلى الله، حتى أنه لم يترك بيتاً للأوس والخزرج إلا وقد دخله صوت لا إله إلا الله.

إمامة مصعب لصلاة الجمعة

هناك من يذهب إلى أنّ صلاة الجمعة أول ما عقدت في يثرب، بعد أن وصلها الصحابي مصعب بن عمير مبلّغاًلله ولرسوله (ص) وحين كتب (ص) إليه، وهو أول من أوفده من مكة مع المسلمين من الأنصار ليعلمهم، ثم قدم بعده عبدالله بن أم مكتوم:

«أما بعد، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله بركعتين».

وعلى هذا يكون مصعب أول من صلى بهم الجمعة في المدينة، وكان عددهم اثني عشر رجلاً.

وفي خبر عن أبي مسعود الأنصاري، بأن أول من جمع بهم، هو أبو أمامة أسعد بن زرارة الذي نزل عليه مصعب بن عمير.

يقول عبدالرحمن بن كعب بن مالك _ الذي كان يقود أباه كعباً إلى المسجد _ : كنت أقود أبي، كعب بن مالك، حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة، أسعد بن زرارة، ومكث حيناً على ذلك لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له، فقلت في نفسي: والله إنّ هذا بي لعجز، ألا أسأله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة؟

ص: 539

فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة صلى واستغفر له، فقلت له: يا أبت، مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟

فقال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرة بني بياضة، يقال له: نقيع الخضمات؛ قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً. [هزم النبيت: جبل على بريد من المدينة، أو أنه في قول آخر: المكان المطمئن من الأرض.. والنبيت أبو حي من اليمن اسمه عمرو بن مالك، وحرة بني بياضة قرية على ميل من المدينة، وبنو بياضة بطن من الأنصار والنقيع بطن من الأرض، يستنقع فيه الماء مُدة فإذا نضب نبت الكلأ]. (1)

ويبدو أنّ الجمعة نسبت إلى أسعد لأنه أمير القوم، ومصعب كان في ضيافته، وأنه أطعم المُصلين غذاء وعشاء، فنسب الأمر إليه.

وهناك من يقول: إنّ اجتماع المسلمين في يوم من أيام الأسبوع كان باجتهادهم قبل أن تفرض عليهم صلاة الجمعة، فقد جاء في حديث مرسل عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي (ص) المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجمعون فيه كل أسبوع وللنصارى مثل ذلك، فهلمّ فلنجعل يوماً نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها، وذلك لقلتهم.

الموسم التالي

في موسم الحج التالي عاد هذا الصحابي المؤمن، والداعية الواعي، والشاب القرآني، وكان معه سبعون رجلاً من القبيلتين الأوس والخزرج، وهم مستخفون لا يشعر بهم أحد، ومعهم امرأتان: نسيبة بنت كعب «أم عمارة» المرأة التي عرفت بثباتها يوم أحد، حينما فرّ الرجال، ولم يبق معه إلا قليل؛ وأسماء بنت عمرو بن عدي.


1- أنظر: السيرة النبوية لابن هشام 2 : 435 ؛ والطبراني؛ وأبو داود؛ وابن حِبان؛ وابن ماجة، والبيهقي وابن حجر.

ص: 540

وما أن وقعت عينا رسول الله (ص) عليه حتى راح يقبله ويضمّه إلى صدره الحبيب:

كيف تركت يثرب يا مصعب؟

تركتها إسلاماً والحمد لله، يا رسولالله!

وأخذت الدهشة بعض الحضور!!!

وراح يبين لهم دوره، وما بذله من الجهود الكبيرة ليسلم عدد على يديه، كأسيد بن خضير سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، الذي جاء شاهراً حربته، ويتوهج غضباً وحنقاً على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم، فلما أقنعه أن يجلس ويستمع، فأصغى لمصعب واقتنع وأسلم، وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وأسلم كثيراً من أهل المدينة، فقد نجح أول سفراء الرسول (ص) نجاحاً منقطع النظير.

حقاً هذا هو مصعب فقد قام بمهمته خير قيام وقبل حلول موسم الحج عاد إلى مكة يحمل إلى رسول الله (ص) بشائر النصر والفوز ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة لنصرة هذا الدين، فسر النبي (ص) وبايع الأنصار في هذا الموسم في السنة الثالثة عشرة من النبوة، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، وبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى نصرة رسول الله (ص) النصرة التامة، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال قائل منهم:

فما لنا يا رسولالله؟

قال: «لكم الجنة».

قالوا: رضينا، ثم انتهت البيعة.

وأذن الرسول (ص) لأصحابه الذين بقوا في مكة بالهجرة إلى يثرب، وسماها بعد ذلك المدينة النبوية.

وفي تعداد منازل المهاجرين على الأنصار بعد هجرة المسلمين من مكة إلى يثرب، ذكر ابن هشام في سيرته: ونزل مصعب بن عمير بن هاشم أخو بني عبد الدار، على سعد بن

ص: 541

معاذ بن النعمان، أخي بني عبد الأشهل في دار بني الأشهل.

وكان مصعب أول المهاجرين إلى يثرب، كما سيكون أول مبعوث لنبي الله (ص) إليها، ليبشر أهلها بالإسلام، وقد تعرض لمخاطر كادت أن تطيح به أثناء مهمته الرسالية التبليغية التعليمية، لولا فطنته وذكاؤه وحكمته.

قال عنه البراء بن عازب: «أول المهاجرين مصعب بن عمير».

المؤاخاة

راح رسول الله (ص) حين وصوله يثرب التي غيّر اسمها إلى المدينة المنورة يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله (ص) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي، فكان رسول الله (ص) سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب، أخوين. (1)

وبعد هذه المؤخاة التي ابتدأها رسول الله (ص) بنفسه وعلي (ع) راح يؤاخي بين المهاجرين والأنصار حتى وصل إلى الصحابي:

«مصعب بن عمير بن هاشم وأبو أيوب خالد بن زيد أخو بني النجار: أخوين».

معركة بدر

وبعد هجرة الرسول (ص) وصحبه إلى المدينة، وكان هذا بعد بيعة العقبة الثانية، وقعت أولى معارك الإسلام الكبرى معركة بدر، وقد حمل مصعب بن عمير فيها راية المسلمين، وللراية في أي معركة _ كما هو معروف _ دور عظيم وخطير فما دامت مرفوعة تدل على صلابة وثبات وقوة من ينضوون تحتها، ولهذا تكون هدفاً أساسياً لكلا المتحاربين.


1- أنظر السيرة النبوية لابن هشام 2 : 505 _ 506.

ص: 542

لقد دفع رسول الله (ص) اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكان أبيض؛ فيما كانت أمام رسول الله (ص) رايتان سوداوان: إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار. (1)

ودافع مصعب عنها وقاتل قتال الأبطال حتى انتصر المسلمون في هذه المعركة انتصاراً ساحقاً.

موقفه من أخيه

وبعد انتهاء المعركة سمع مصعب بن عمير بأنّ أخاه عزيز بن عمير، وكان هذا يحمل راية المشركين وقع أسيراً بيد أنصاري.

تقول الرواية:

لما جاءوا بالمشركين الذين وقعوا أسرى بيد المسلمين في معركة بدر الكبرى، فرقهم رسول الله (ص) بين أصحابه وقال:

«استوصوا بالأسارى خيراً».

يقول أحد أولئك الأسارى وهو أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه:

مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شدّ يديك به، فإنّ أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك؛ قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله (ص) إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحي فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها.

وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، فلما قال أخوه


1- أنظر السيرة النبوية 2 : 612.

ص: 543

مصعب بن عمير لأبي اليسر، وهو الذي أسره، ما قال، قال له أبو العزيز: يا أخي، هذه وصاتك بي، فقال مصعب: إنه أخي دونك، فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها، وقد أسلم أبو عزيز هذا الذي كان إسمه زرارة. (1)

غزوة أحد

وبعد معركة بدرالكبرى وقد أبلى فيها مصعب بلاءً حسناً.. تلتها معركة أحد، وقد حمل رايتها مصعب بأمر من رسول الله (ص) كما حمل راية بدر من قبل... ويحتدم القتال بين الفريقين المتحاربين المسلمين بقيادة رسول الله (ص) ومشركي مكة، وراح المسلمون يجولون في ميدان المعركة، وكلما ازدادت المعركة شدة ازداد مصعب ثباتاً وصموداً وبيده اللواء رغم استهدافه من الأعداء؛ وفي ساعة اشتداد التلاحم هذا وكاد النصر أن يكون حليف المؤمنين إذ بالرماة الذين أمرهم رسول الله (ص) بعدم مغادرة مواقعهم في أعلى الجبل مهما كانت نتيجة المعركة.

قال ابن اسحاق «... وتعبى رسول الله (ص) للقتال، وهو في سبعمائة رجل، أمر على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلاً، فقال: انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله (ص) بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، أخي بني عبد الدار».

وإذا بأكثرهم يخالف أمر الرسول (ص) ويترك مواقعه فيما استشهد من ثبت منهم وهم قلّة، وكان من بين الشهداء عبدالله بن جبير أمير الرماة، بعد أن انسحب أكثر الرماة ظناً منهم أنّ المعركة حسمت لصالح المسلمين، وشاهدوا المشركين يجرّون أذيال الهزيمة، وأنّ عليهم المبادرة للحصول على الغنائم، وإلا أفلسوا منها، ولم يدركوا أنّ عملهم هذا حوّل


1- أنظر: السيرة النبوية 2: 645 ؛ وتاريخ الطبري، معركة بدر ؛ والروض.

ص: 544

النصر إلى هزيمة، وكاد أن يروح فيها رسول الله (ص) وفعلاً فوجئ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وحلت الفوضى بين صفوف المسلمين وراح الذعر يشتتهم، وكان تركيز المشركين على رسول الله (ص) لينالوا منه.

وختمت فتوته بالشهادة

لقد أدرك مصعب بن عمير ذلك كله، فحمل اللواء عالياً، وكبّر ومضى يصول ويجول، وكان همه أن يشغل المشركين عن رسول الله (ص) فأقبل ابن قميئة وهو فارس في جيش المشركين، فضرب مصعباً على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يردد:

{وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.

وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول:

{وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.

ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء واستشهد مصعب الخير كما يلقبه المسلمون، وهو يتمتم:

{وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.

وقد نزل هذا المقطع فيما بعد ضمن آية كريمة:

{وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.(1)

وهو ما ذكره أيضاً ابن سعد عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه.

ولما قتله كان يظن كما في خبر أنه قتل رسول الله (ص) حتى أنه لما رجع إلى قريش قال لهم: قتلت محمداً. (2)


1- آل عمران : 144.
2- تاريخ الطبري 2 : 66.

ص: 545

قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله (ص) اللواء علي بن أبي طالب (ع) وقاتل علي بن أبي طالب ورجال من المسلمين.

وفيما ذكرته الصحابية الجليلة أم عمارة، وهي تروي معركة أحد: «... فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسولالله (ص) فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي..

ولما سألتها أم سعد بنت سعد بن الربيع الناقلة لهذا الخبر، وقد رأت على عاتقها جرحاً أجوف له غور عمّن أصابها بهذا..

قالت: ابن قمئة، قمأه الله! لما ولى الناس عن رسولالله (ص) أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجى، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسولالله (ص) فضربني هذه الضربة، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان».(1)

وبعد انتهاء المعركة جاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءهم، ووجدوا جثمان مصعب، وقد مثل به المشركون تمثيلاً أفاض دموع رسولالله (ص) وأوجع فؤاده، وقال وهو يقف عنده:

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...}

ثم ألقى بأس_ى نظرةً على بردة كفن فيها مصعب وقال:

«لقد رأيت بمك_ة وما بها أرق حلّة ولا أحسن لمة منك، ثم ها أنت ذا شعث الرأس في بردة..».

وقد وسعت نظرات رسولالله (ص) الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب الشهداء وقال مؤبّناً:

«إن رسولالله يشهد أنكم الشهداء عندالله يوم القيامة».

ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:


1- أنظر: السيرة النبوية لابن هشام 3 : 87 .

ص: 546

«أيها الناس! زوروهم، وأتوهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم مُسَلِّم إلى يوم القيامة، إلا ردّوا (ع)».

يقول خباب بن الأرت:

هاجرنا مع رسولالله (ص) في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برز رأسه، فقال لنا رسولالله (ص):

«اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الأذخر» وهو نبات معروف طيب الريح.

وقال عنه أبوهريرة: «رجل لم أرَ مثله كأنه من رجال الجنة».

ولما تم دفن الشهداء، انصرف رسولالله (ص) راجعاً إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش؛ فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبدالله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبدالمطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت!

فقال رسولالله (ص): «إنّ زوج المرأة منها لبمكان»!

لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها. (1)

لقد صارت قصة مصعب بن عمير في تاريخنا الإسلامي درساً بليغاً من دروس المؤمنين الصادقين، التي تعلّمنا حياة الرجال الصادقين وولاءهم لمبادئهم واستعلاءهم على الدنيا بما فيها من متاع مبهر أخّاذ، إنه لنموذج رائع من أولئك الذين تركوا كل ما توفر عندهم، ولهم من غال ونفيس وراحة في سبيل الله، والإيمان بدينه، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكان لهم من الله الرضا والفوز بجنات عدن تجري من تحتها الأنهار مع النبيين والصديقين


1- أنظر السيرة النبوية 3 : 105.

ص: 547

والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً... لقد أبى هذا المؤمن الشاب إلاّ أن يعيش للإسلام وحده، وأن يموت لا كما يموت الآخرون، بل وأن ينال وسام الشهادة، ويختم بها حياته ونشاطه الدؤوب، فمضى كبيراً، عزيزاً، مسروراً، قد أعذر إلى الله بإيمانه وجهاده وأعماله، فكانت فرحته عند الله تعالى كبيرة، وكان ابتهاجه عظيماً حينما قال فيه وفي إخوانه الذين استشهدوا معه:

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.

ص: 548

ص: 549

(23) أبوسعيد الخدري

اشارة

محمد سليمان

مازال حديثنا عن مدرسة الصحبة المباركة لرسولالله (ص) من خلال الترجمة لرموزها، الذين خلد ذكرهم بعد أن صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فما أن ننتهي من رمز حتى ندخل مع رمز آخر، ونموذج رائع لها؛ مع صحابي وابن صحابي، إنه هذه المرة الصحابي الجليل الخدري الخزرجي الأنصاري، المولود في السنة العاشرة قبل الهجرة النبوية الشريفة، والمعروف بكنيته أبوسعيد الخدري، ولشهرته بها طغت على اسمه، وهو سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري.

وعن ابن هشام اسمه سنان، وخدرة وخدارة بطنان من الأنصار، وهما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج، وزعم بعض الناس أنّ خدرة هي أم الأبجر.

أما أمه، فهي أنيسة بنت أبي حارثة من بني عدي بن النجار.

وأخوه لأمه قتادة بن النعمان. (1)


1- مختصر تاريخ دمشق9 : 272؛ أسد الغابة؛ السيرة لابن هشام3 : 132؛ تهذيب الأسماء 2: 518 ؛ الاستيعاب في تمييز الأصحاب.

ص: 550

لقد كان هذا الصحابي وجهاً بارزاً مشهوراً من الأنصار ومن أفاضلهم، وكان من المحدِثين الكبار، وكان ذا علم ومعرفة وفقه، وله من الروايات الكثيرة مستقلاً في روايتها أو مشاركاً مع غيره، و رواياته وأقواله تميزت بأنها جاءت في أمهات الأمور التي شكلت أساساً عظيماً، وصرحاً كبيراً في البناء العقائدي والتشريعي في الإسلام، وتاريخه ومبادئه وقيمه.

ممن شهد بيعة الرضوان

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.(1)

في السنة الثامنة للهجرة النبوية وقعت البيعة المعروفة ببيعة الرضوان انطلاقاً من الآية المباركة، وما تحمله من رضاء الله تعالى عمن بايع رسوله (ص) في الحديبية تحت الشجرة، وهي شجرة السمرة، ولهذا تسمى بيعة الحديبية وبيعة الشجرة، وقلوبهم مملوءة بصدق النية، واليقين، والصبر، والوفاء بما عقدوا البيعة عليه، فكان هذا الصحابي الجليل أبوسعيد الخدري واحداً من أولئك الصادقين، حين شهد بيعة الرضوان، حين جاء رسولالله (ص) إلى الشجرة، فاستند إليها، وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفروا؛ وكان قد أرسل رسولالله (ص) عثمان بن عفان إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائراً البيت معظماً لحرمته، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله (ص) والمسلمين أنّ عثمان قد قتل، فأطلق رسولالله (ص) قوله: «لا نبرح حتى نناجز القوم».

وهذا سبب البيعة ونصها، كما قال ابن اسحاق في السيرة: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنّ رسولالله (ص) قال حين بلغه أنّ عثمان قد قتل: «لا نبرح حتى نناجز القوم»، فدعا رسولالله (ص) الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون، بايعهم رسولالله (ص) على الموت، وكان جابر بن عبدالله يقول: إنّ رسولالله (ص) لم يبايعنا على الموت، ولكنا بايعنا على أن لا نفرّ.


1- الفتح: 18 _ 21.

ص: 551

لقد كان أبوسعيد ممن بايعوا رسولالله (ص) على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، كما يحدثنا سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال: بايعت النبي (ص) أنا، وأبوذر، وعبادة بن الصامت، ومحمد بن مسلمة، وأبوسعيد الخدري، وسادس على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم، فاستقال السادس فأقاله. (1)

يوم أحد

رغبته في أن يكون مقاتلاً في معركة أحد حال دونها رفض رسولالله (ص) لأنه استصغره، يقول أبوسعيد: عرضت يوم أُحد على النبي (ص) وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسولالله! إنّه عبل ضخم العظام، و جعل نبي الله (ص) يصعِّد في النظر ويصوِّبه، ثم قال (ص): رُدَّهُ، فردَّني. (2)

وإن حرمه صغر سنّه عن وسام المشاركة في هذه المعركة، فقد نال أبوه وسام الشهادة الكبير، وأنه بعيد عن النار، ففي خبر كما في السيرة النبوية لابن هشام أنّ رسول الله (ص) يوم أحد وقع في حفرة من الحفر التي عمل أبوعامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب (ع) بيد رسولالله (ع) ورفعه طلحة بن عبيدالله، حتى استوى قائماً، ومص مالك بن سنان أبوسعيد الخدري الدم عن وجه رسولالله (ص) ثم ازدرده أي ابتلعه، فقال رسولالله (ص): «من مس دمي دمه لم تصبه النار»، وقد استشهد مالك بن سنان في هذه الواقعة.

ابن الشهيد!

وإن لم يمنحه سنه فرصة قتال المشركين في معركة أحد إلا أنه وتكريماً لمالك بن سنان ولابنه أبي سعيد أيضاً كان يدعوه رسولالله (ص) وبعض الصحابة: «ابن الشهيد»، كما ورد


1- كتاب السيرة النبوية 4: 283؛ مختصر تاريخ دمشق 9: 275؛ الإصابة في تمييز الصحابة 2: 35.
2- سير أعلام النبلاء 3: 169.

ص: 552

في رواية طويلة يتحدث فيها أبوسعيد عن صحبته لعلي (ع) إلى اليمن، ورفض علي (ع) استعمال إبل الصدقة من قبل أبي سعيد ومن معه، ممن كان في رفقة الإمام علي (ع) قائلاً لهم:

«إنما لكم منها سهم كما للمسلمين».

إنه الحق والعدل والمساواة التي تميزت بها شخصية علي (ع) ولم يدركها، ويقدرها هؤلاء الأصحاب؛ مما جعل أبا سعيد يشكو ما يسمّونه غلظة علي (ع) وتضييقه عليهم إلى رسولالله (ص) وهو ما تضمنه قوله: يا رسولالله (ص) ما لقينا من علي (ع) من الغلظة، وسوء الصحبة، والتضييق؛ وهنا يقول سعيد: فانتبذ أي اعتزل ناحية رسولالله (ص) وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسولالله (ص) على فخذي، وكنت منه قريباً، وقال:

«سعد بن مالك ابن الشهيد، مه بعض قولك لأخيك علي، فوالله، لقد علمت أنه أخشن في سبيلالله».

قال: فقلت في نفسي: ثكلتك أمك، سعد بن مالك، ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم وما أدري؟ لا جرم، والله لا أذكره بسوء أبداً سرّاً وعلانيةً. (1)

وإن استصغر أبوسعيد الخدري يوم أحد فرد، إلا أنه شارك بعد ذلك مع رسولالله (ص) في اثنتي عشرة غزوة، بدءاً بمعركة الخندق التي كانت أول مشاهده وبيعة الرضوان. (2)

وعن الخدري كما جاء في أمالي الطوسي: أخبرنا الشيخ أبوجعفر الطوسي، عن أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد [النعمان] عن أبي الحسن مُحَمَّد بن المظفر البزاز، عن أحمد بن عبيد العطاردي، عن أبي بشر بن بكير، عن زياد بن المنذر، عن أبي عبد الله مولى بني هاشم، عن أبي سعيد الخدري، قال:... لما كان يوم أحد شجَّ النبيُّ (ص) في وجهه وكُسِرت رباعيته، فقام (ص) رافعاً يديه يقول:


1- مختصر تاريخ دمشق 17: 351.
2- السيرة النبوية 3 : 85 .

ص: 553

إنَّ الله اشتدَّ غضبه على اليهود أن قالوا: عزيرٌ ابن الله، واشتدَّ غضبه على النصارى أنْ قالوا: المسيح ابنالله، واشتدَّ غضبه على من أراق دمي، وآذاني في عترتي. (1)

ومما رواه أبو سعيد عن مجريات معركة أحد، كما في مختصر تاريخ دمشق تفاصيل إصابة رسولالله (ص) كما في الخبر عنه:

كان أبو سعيد الخدري يحدث أنّ رسولالله (ص) أصيب وجهه يوم أحد، فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنته، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل أبي مالك بن سنان يملج الدم بفيه، ثم ازدرده، فقال رسولالله (ص): من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان، فقيل لمالك: تشرب الدم؟ فقال: نعم أشرب دم رسولالله (ص) فقال رسولالله (ص): من مس دمه دمي لم تصبه النار، قال أبوسعيد: فكنا ممن رد من الشيخين لم نجز مع المقاتلة، فلما كان من النهار، وبلغنا مصاب رسولالله (ص) وننظر إلى سلامته، فنرجع بذلك إلى أهلينا، فلقينا الناس منصرفين ببطن قناة، فلم يكن همة إلا النبي (ص) ننظر إليه، فلما نظر إلي قال: سعد بن مالك؟ قلت: نعم بأبي وأمي، فدنوت منه فقبلت ركبته، وهو على فرسه، ثم قال: آجرك الله في أبيك، ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجة في جبهته عند أصول الشعر، وإذا شفته السفلى تدمى، وإذا رباعيته اليمنى شظية، وإذا على جرحه شيء أسود؛ فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصير محرق، وسألت: من دمى وجنتيه؟ فقيل: ابن قميئة. فقلت: من شجّه في جبهته؟ فقيل: ابن شهاب. فقلت: من أصاب شفته؟ فقيل: عتبة؛ فجعت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، فما نزل إلا حملاً، وأرى ركبتيه مجحوشتين، يتكئ على السعدين: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، حتى دخل بيته.

فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة، خرج رسولالله (ص) على مثل تلك الحال، يتوكأ على السعدين، ثم انصرف إلى بيته، والناس في المسجد يوقدون النيران، يتكمدون بها


1- بحار الأنوار 20: 71؛ وذكر هذه الرواية أيضاً صاحب كنز العمال، غزوة أحد:30050.

ص: 554

من الجراح،ثم أذن بلال بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسولالله (ص) وجلس بلال عند بابه حتى ذهب ثلث الليل، ثم ناداه: الصلاة يا رسولالله، فخرج رسولالله (ص) وقد كان نائماً، قال: فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء، ثم رجع إلى بيته، وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامة رسول الله (ص) فحمدوا الله على ذلك وناموا، وكانت وجوه الخزرج والأوس في المسجد على باب النبي (ص) يحرسونه فرقاً من قريش أن تكر. (1)

عفته وطاعته!!

عرف هذا الصحابي بعفة النفس، وشدة الامتثال لأمر رسولالله (ص) والأخذ بنصحه، وإرشاده، ولثقته المطلقة بوعد الله ورسوله (ص) لما سمع رسولالله (ص) يعد المتعففين عن المسألة بأنّ الله تعالى سيغنيهم من فضله وإحسانه، وقد جاء يسأل الرسول (ص) وقد بلغت به الحاجة مبلغاً عظيماً، حتى أنه ربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، إلا أنه آثر الصبر والاحتمال، رجاء ما عندالله تعالى، وقد تحقق له ما وعد به رسولالله (ص) فأغناه الله من فضله.

ومما قاله أبوسعيد نفسه بعد استشهاد أبيه، وبعد ما ألم بأهله العوز: استشهد أبي يوم أحد، وتركنا بغير مال، فأصابتنا حاجة شديدة، قال: فقالت لي أمي: أي بني! ائت النبي (ص) فاسأله لنا شيئاً، فجئته فسلمت وجلست، وهو في أصحابه جالس فقال واستقبلني: إنه من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكف أكفه الله، قال: قلت: ما يريد غيري، فانصرفت ولم أكلمه في شيء، فقالت لي أمي: ما فعلت؟ فأخبرتها الخبر، قال: فصبّرنا الله عزّوجل ورزقنا شيئاً؛ فبلغنا، حتى ألحت علينا حاجة شديدة أشدّ منها، فقالت لي أمي: ائت النبي (ص) فاسأله لنا شيئاً، قال: فجئته وهو في أصحابه جالس، فسلمت وجلست، فاستقبلني وعاد بالقول الأول وزاد فيه: ومن سأل وله قيمة أوقية فهو ملحف، قال: قلت:


1- أنظر: مختصر تاريخ دمشق 9: 275-276.

ص: 555

الياقوتة ناقتي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله، فرزق الله تعالى حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالاً منا. (1)

وعن هلال بن حصن قال: نزلت على أبي سعيد الخدري فضمني وإياه المجلس؛ قال: فحدث أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجراً من الجوع، فقالت له إمرأته أو أمه: ائت النبي (ص) فاسأله، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه، وأتاه فلان فسأله فأعطاه، فقال: قلت: حتى ألتمس شيئاً، قال: فالتمست فأتيته، قال حجاج: فلم أجد شيئاً فأتيته، وهو يخطب فأدركت من قوله وهو يقول:

«مَن ِ اسْتَعَفَّ يُعِفَّهُ اللهُ وَمَن ِ اسْتَغْنَى يُغْنِهِ اللهُ وَمَنْ سَأَلَنَا إمَّا أنْ نَبْذُلَ لَهُ وَ إمَّا أنْ نُوَاسِيَهُ... وَمَنْ يَسْتَعِفُّ عَنَّا أوْ يَسْتَغْنِي أحَبُّ إلَيْنَا مِمَّنْ يَسْألُنَا».

قال: فرجعت فما سألته شيئاً، فما زال الله تعالى يرزقنا، حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالاً منا. (2)

جرأته في الحق!!

عمَّار والفئة الباغية: الخدري يعرف جيداً أنّ معاوية وجنده وأتباعه هم أهل الباطل، كيف لا وهو الذي روى ما ذكره رسولالله (ص) بحق عمار بن ياسر، أنه هو الذي تقتله الفئة الباغية، وهو ما حدث بالفعل في معركة صفين، حينما كان عمار يحمل راية الحق التي يمثلها أميرالمؤمنين علي (ع) ويخوض غمار معركة ضارية ضد جند الشام، ومعاوية يقدمهم، فعن أبي سعيد الخدري قال:... كنا نعمر المسجد، وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي (ص) فجعل ينفض التراب عنه [عن رأس عمار خ ل] ويقول: [يا عمار] ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟


1- مختصر تاريخ دمشق 9 : 276-277.
2- صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة 2 : 151-152 ؛ صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الزكاة، باب التحذير من الاغترار بزينة الدنيا 7 : 144-145.

ص: 556

قال: إني أريد الأجر من الله تعالى.

قال: فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويحك تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة، ويدعونك إلىالنار.

قال عمار: أعوذ بالرحمن _ أظنه قال _ : من الفتن. (1)

ولأن أبا سعيد الخدري كان قوالاً بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم، كان لا يضنّ بكلمة نصح حتى للظالمين، أو كلمة حق يقولها في ساحتهم وفي بلاطهم، ومن مواقفه وأقواله التي هي مصداق لهذا:

موقفه من معاوية زعيم الفئة الباغية التي قتلت الصحابي الكبير عمار بن ياسر رضوانالله تعالى عليه، فقد ذهب إلى معاوية بن أبي سفيان ليوصل إليه صوت الحق، ولا يخاف لومة لائم، قال شعبة عن أبي سلمة: سمعت أبا نضرة عن أبي سعيد رفعه: لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه؛ وفي رواية: إذا شهده أو علمه؛ وقال أبو سعيد: فحملني ذلك على أن ركبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت؛ وفي رواية أخرى: دخل أبوسعيد الخدري على معاوية فسلم ثم جلس فقال: الحمد لله الذي أجلسني منك هذا المجلس، سمعت رسولالله (ص) يقول: «لا يمنعن أحدكم، إذا رأى الحق أن يقول به»، وإنه بلغني عنك يا معاوية كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا. فعدد عليه أشياء من فعاله ومما بلغه عنه.

فقال له معاوية: أفرغت؟ قال: نعم؛ قال: فانصرف؛ فخرج أبوسعيد من عنده وهو يقول: الحمدلله، الحمد لله.

موقفه من مروان بن الحكم: كان له موقف من الرجل الذي أنكر على مروان بن الحكم تقديم خطبة العيد على الصلاة، يشهد بذلك، فلم يكتف أبوسعيد الخدري بتعضيده، بل أنكر بيده حيث جذب مروان محاولاً منعه من صعود المنبر، لأداء الخطبة قبل الصلاة، غير أنّ مروان تغلب عليه، وصعد المنبر وخطب قبل الصلاة، كما جاء ذلك في صحيح مسلم.


1- كشف الغمة 1 : 358.

ص: 557

ولم يكتف أبوسعيد الخدري بتعضيد الذي أنكر على مروان، بل أنكر أبو سعيد الخدري على مروان بن الحكم تقديم الخطبة على الصلاة، ولم يكتف أبو سعيد بالإنكار باللسان، بل أنكر بيده؛ حيث جذب مروان محاولاً منعه من صعود المنبر لأداء الخطبة قبل الصلاة، وكانا قد جاءا معاً، غير أنّ مروان تغلب عليه وصعد المنبر، وخطب قبل الصلاة، كما جاء ذلك فى الصحيحين. (1)

ما حدث له في واقعة الحرة

في مدينة رسولالله (ص) وبعد أن أباحها مسلم بن عقبة ثلاثاً يقتلون الناس، ويأخذون الأموال، فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة، فخرج أبوسعيد الخدري حتى دخل في كهف في الجبل، فبصر به رجل من أهل الشام، فجاء حتى اقتحم عليه الغار.

قال أبو مخنف: فحدثني الحسن بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، قال: دخل إليّ الشامي يمشي بسيفه، قال: فانتضيت سيفي فمشيت إليه لأرعبه لعلّه ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي، فلما رأيت أن قد جد شمت سيفي ثم قلت له:

{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ}.(2)

فقال لي: من أنت لله أبوك! فقلت: أنا أبوسعيد الخدري، قال: صاحب رسول الله (ص)؟ قلت: نعم، فانصرف عني. (3)

ومن طريق يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال: خرج أبوسعيد يوم الحرة، فدخل غاراً فدخل عليه شامي فقال: أخرج، فقال: لا أخرج وإن تدخل علي أقتلك، فدخل عليه فوضع أبوسعيد السيف وقال: بؤ بإثمك قال: أنت أبوسعيد الخدري؟ قال: نعم، قال: فأستغفر لي.


1- مختصر تاريخ دمشق 9 : 274 ؛ الإصابة فى تمييز الصحابة 2 : 35 ؛ وغيرهما.
2- المائدة : 28.
3- تاريخ الطبري 3 : 357، أحداث سنة 63.

ص: 558

وتعرض للضرب والاعتداء على يد جيش يزيد بن معاوية بعد واقعة الحرة.. يقول عن ذلك: لزمت بيتي ليالي الحرة فلم أخرج، فدخل عليّ نفر من أهل الشام فقالوا: أيها الشيخ! أخرج ما عندك، فقلت: ما عندي مال، قال: فنتفوا لحيتي وضربوني ضربات، ثم عمدوا إلى بيتي، فجعلوا ينقلون ما خفّ لهم من المتاع، حتى أنهم عمدوا إلى الوسادة والفراش، فينفضون صوفهما، ويأخذون الظرف، حتى لقد رأيت بعضهم أخذ زوج حمام كان في البيت، ثم خرجوا. (1)

مما قاله علماء الرجال في توثيقه وعلمه واستقامته

الخدري والذي كان أحد الثابتين فكرياً على معرفة الحق، وأحد الراسخين فى دعم الحقيقة، له في كتب الرجال مكانة مرموقة، واحتل منزلة كبيرة في أقوالهم، ونحن هنا نتطرق باختصار إلى ما تيسر لنا من كل ذلك.

و قبل أن نذكر أقوال العلماء فيه نذكر ما قاله الإمام الصادق (ع) عنه حيث ذكره بتبجيل وتكريم، ونصّ على استقامته في طريق الحق: «كان من أصحاب رسولالله (ص) وكان مستقيماً».

من أصحاب رسولالله (ص) رجال الشيخ؛ وعدّه في أصحاب أميرالمؤمنين (ع) قائلاً: سعد بن مالك الخزرجي، يكنى أبا سعيد الخدري الأنصاري العربي المدني؛ وعده البرقي في أصحاب رسول الله (ص) قائلاً: «وأبوسعيد الخدري الأنصاري: عربي مدني، واسمه سعد بن مالك، خزرجي».

وفى الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنين (ع) قائلاً: «أبوسعيد الخدري عربي أنصاري».

وقال الكشي في ترجمة أبي أيوب الأنصاري: «قال الفضل بن شاذان: هو من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين (ع)».

وتقدم في ترجمة جندب بن جندب الغفاري في رواية العيون عن الرضا (ع) عدّه من


1- مختصر تاريخ دمشق 9 : 278.

ص: 559

الذين مضوا على منهاج نبيهم (ع) ولم يغيروا ولم يبدلوا؛ وقال الكشي في ترجمته: أبوسعيد الخدري: حمدويه، قال: حدثنا أيوب عن عبدالله بن المغيرة، قال: حدثني ذريح عن أبي عبدالله (ع) قال: ذكر أبوسعيد الخدري فقال: كان من أصحاب رسولالله (ص) وكان مستقيماً، فقال: فنزع ثلاثة أيام، فغسله أهله ثم حملوه إلى مصلاه، فمات فيه.

محمد بن مسعود، قال: حدثني الحسين بن أشكيب، قال: أخبرنا محسن بن أحمد، عن أبان بن عثمان، عن ليث المرادي، عن أبي عبدالله (ع) قال: «إنّ أبا سعيد الخدري كان قد رزق هذا الأمر، وإنه اشتدّ نزعه فأمر أهله أن يحملوه إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه، ففعلوا فما لبث أن هلك».

حمدويه قال: حدثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن عثمان، عن ذريح، قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: كان علي بن الحسين يقول: «إني لأكره للرجل أن يعافى في الدنيا ولا يصيبه شيء من المصائب»؛ ثم ذكر أنّ أبا سعيد الخدري وكان مستقيماً_ نزع ثلاثة أيام فغسله أهله ثم (حملوه) حمل إلى مصلاه فمات فيه.

وطريق الصدوق إليه في وصيةالنبي (ص) إلى علي (ع) التي أولها: «يا علي إذا دخلت العروس بيتك»: محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني عن أبي سعد الحسن بن علي العدوي، عن يوسف بن يحيى الإصبهاني أبي يعقوب، عن أبي علي إسماعيل ابن حاتم، قال: حدثنا أبوجعفر أحمد بن زكريا بن سعيد المكي، قال: حدثنا عمر بن حفص عن إسحاق بن نجيح عن حصيف، عن مجاهد، عن أبي سعيد الخدري. (1)

كما شهد بمناقبه الفريق الآخر وأنه كان من فقهاء الصحابة وفضلائهم البارعين، فعن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي، عن أشياخه أنهم قالوا: لم يكن من أحداث الصحابة أفقه من أبي سعيد الخدري، وفي رواية: أعلم. (2)


1- النهاية٢: ٤٠٧؛ رجال الحديث، للسيد الخوئي؛ رجال النجاشي١: ٦؛ أمالي الطوسي٥٩ ،٨٦؛ تاريخ بغداد١:١٨٠،١٩؛ سير أعلام النبلاء٣:١٧٠،٢٨؛ تاريخ دمشق٢٠: ٣٩٣ ؛ الوافي بالوفيات١٥: ١٤٨.
2- أسد الغابة في معرفة الصحابة ؛ الإصابة في تمييز الصحابة.

ص: 560

وقال ابن كثير: كان من نجباء الصحابة، وفضلائهم، وعلمائهم.

وقال الخطيب البغدادي: وكان أبوسعيد من أفاضل الأنصار، وحفظ عن رسولالله (ص) حديثاً كثيراً.

قال الإمام الذهبي: الإمام المجاهد مفتي المدينة حدث عن النبي (ص) فأكثر وأطاب.

وهو من المكثرين من الحديث وكان من أفقه أحداث الصحابة.

وقالوا عنه: إنه روى عن النبي (ص) الكثير.

وروى عن الخلفاء الأربعة، وغيرهم.

روى عنه من الصحابة: ابن عباس وابن عمر، وجابر، وغيرهم.

روى عنه من كبار التابعين: سع_يد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وطارق بن شهاب، ومن بعدهم عطاء، ومجاهد، وغيرهم.

وقالوا: إنه روى أبوسعيد الخدري ألفاً ومائة وسبعين حديثاً بالمكرر، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة وأربعين حديثاً، وانفرد البخاري بستة عشر حديثاً، وانفرد مسلم باثنين وخمسين حديثاً. (1)

ملاحظة مهمة

كان أبو سعيد الخدري رضوانالله تعالى عليه مكثراً للرواية كما ذكرنا، ولهذا الأمر أسبابه التي منها:

إنّ أبا سعيد أعلن إسلامه وهو ما زال صغيراً، فكان له عند قدوم النبي (ص) المدينة إحدى عشرة سنة، وهو سن صفاء الذهن والقدرة على الحفظ والتحصيل؛ وكان لملازمته الطويلة للنبي (ص) والتي دامت عشر سنوات وهي المدة التي قضاها (ص) بالمدينة المنورة لم يفارقه أبوسعيد فيها؛ وكان لتأخر وفاته، دور كبير في منحه وقتاً كافياً لتبليغ ما تحتفظ به


1- أنظر في هذا كله من ترجم له، كسير أعلام النبلاء 3: 168؛ الإصابة في تمييز الصحابة 2: 35؛ ومختصر تاريخ دمشق 9: 278-279؛ تهذيب التهذيب 3: 416؛ و المعارف: 153؛ الاستيعاب 4: 489؛ أسد الغابة 2: 289.

ص: 561

ذاكرته من أحاديث، وما يتوفر عليه من علوم، فقد عاش بعد وفاة النبي (ص) فترة زمنية طويلة، نحو خمس وستين سنة، وفي هذه الفترة احتاج الكثيرون إلى علمه، فتكاثر عليه طلاب العلم ينهلون من علمه ويحفظون عنه ما سمع من رسولالله (ص) وحدّث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، ويشهد بهذا أسناد رواياته، وقام هؤلاء بتبليغ ما سمعوا منه.

هذا، ولتعدد مصادر التحمل بالنسبة لأبي سعيد أهميته في كثرة رواياته، فكما تحمل الحديث عن الرسول (ص) فلقد تحمل الحديث عن كبار الصحابة؛ وأيضاً لتفرغه للتحديث والفقه، مما جعله أن يكون أحد الفقهاء المحدثين.

هذا، وأنّ هناك قواسم مشتركة جامعة بين الصحابة المكثرين لرواية الأحاديث عن رسولالله (ص) يتمثل بطول ملازمتهم لرسولالله (ص) وإن اختلفوا في مدتها، وبتأخر وفاتهم، فلقد مكثوا بعد وفاة الرسول (ص) فترة زمنية كان فيها متسع لأن يحدثوا الناس ويستفيد هؤلاء من علمهم؛ كما أنّ مصادر تحملهم تعددت، فنراهم قد تحملوا عن رسولالله (ص) وتحملوا عن كبار الصحابة، وإن كانوا في الأعم الأغلب يحذفون الواسطة بينهم وبين الرسول (ص) لثقتهم بمن حدثوهم، ولم ينفردوا بما حدثوا به عن رسولالله (ص) بل شاركهم غيرهم من الصحابة في رواية كثير مما رووا، فروايات أبي سعيد الخدري لحديث الغدير، ولحديث الثقلين ولغيرهما لم ينفرد بروايتها وحده، بل هناك العديد من الصحابة رووا هذه الأحاديث.

ولهذا نجدهم يروي أحدهم عن عدد، وعدد يروي عنهم، كما هو الحال مع أبي سعيد الخدري؛ فقد روى عن النبي (ص) مباشرة وعن أبيه وأخيه لأمه قتادة بن النعمان، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (ع)، وزيدبن ثابت، وأبي قتادة الأنصاري، وعبدالله بن سلام، وأسيد بن حضير، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، ومعاوية، وجابربن عبدالله.

وعنه ابنه عبد الرحمن وزوجته زينب بنت كعب بن عجرة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وزيد بن ثابت، وأبو أمامة بن سهل، ومحمود بن لبيد، وابن المسيب، وطارق بن شهاب، وأبوالطفيل، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وعطاء بن يزيد، وعياض بن

ص: 562

عبدالله بن أبي سرح، والأغر بن مسلم، وبشر بن سعيد، وأبوالوداك، وحفص بن عاصم، وحميدبن عبدالرحمن بن عوف، وأخوه أبو سلمة بن عبدالرحمن، ورجاء بن ربيعة، والضحاك المشرقي، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن خباب، وسعيد بن الحارث الأنصاري، وعبدالله بن محيريز، وعبدالله بن أبي عتبة مولى أنس، وعبدالرحمن بن أبي نعم، وعبيد بن حنين، وعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة، وعبدالرحمن بن بشر بن مسعود، وعبيد بن عمير، وعقبة بن عبدالغافر، وعكرمة، وعمرو بن سليم، وقزعة بن يحيى، ومعبد بن سيرين، ونافع مولى بن عمر، ويحيى بن عمارة بن أبي حسن، ومجاهد، وأبوجعفر الباقر (ع)، وأبوسعيد المقبري، وأبوعبدالرحمن الحبلي، وأبوعثمان النهدي، وأبوسفيان مولى بن أبي أحمد، وأبوصالح السمان، وأبوالمتوكل الناجي، وأبونضرة العبدي، وأبوعلقمة الهاشمي، وأبوهارون العبدي، وغيرهم.

قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: وروى عن خلائق غيرهم.

حبه وولاؤه لأئمة أهل البيت النبوي:

لقد عاصر هذا الصحابي الجليل من المعصومين الرسول الأعظم (ص) فنال بذلك وسام الصحبة المباركة، فكان ممن حمل معه الأمانة؛ وممن بذل كل غال ونفي_س من أجل إعلاء كلم_ة الح_ق، وكان ممن حفظ عن رسولالله (ص) سنناً كثيرة وروى عنه علماً جماً، وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم.

وقد عاصر أربعة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بدءاً بالإمام علي، ثم الإمام الحسن، والإمام الحسين، والإمام علي بن الحسين: وكان واعياً صادقاً في ولائه لهم، ويعدّ من أجلاء الصحابة الذين كانت لهم مواقف مشرفة مع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، انطلاقاً من صدق حبه ومودته لهم، وتحمل الأذى في سبيله هذا.

فهو إضافة إلى أنه لم يترك مرافقة أميرالمؤمنين علي (ع) وكان إلى جانبه في معركة النهروان، ظل ولاؤه مستمراً مدافعاً عنه حتى بعد انتقال الإمام علي (ع) إلى جوار ربه.

ص: 563

وهذه واحدة من رواياته رضوانالله تعالى عليه في حب أئمة أهلالبيت (عليهم السلام).

تقول الرواية: حدَّثنا مُحَمَّد بن الفضل بن زيدويه الجلاب الهمداني، قال: حدَّثنا إبراهيم بن عمرو الهمداني، قال: حدَّثنا الحسن بن إسماعيل، عن سعيد بن الحكم، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، قال رسولالله (ص) :

«من رزقه الله حبَّ الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة، فلا يشكَّنَّ أحد أنَّه في الجنة، فإنَّ في حب أهل بيتي عشرين خصلة، عشر منها في الدنيا وعشر منها في الآخرة؛ أما التي في الدنيا في الزهد، والحرص على العمل، والورع في الدين، والرغبة في العبادة، والتوبة قبل الموت، والنشاط في قيام الليل، واليأس مما في أيدي الناس، والحفظ لأمر الله ونهيه عزَّوجلَّ، والتاسعة بغض الدنيا، والعاشرة السخاء.

وأما التي في الآخرة، ف_لا ينشر له ديوان، ولا ينصب له ميزان، ويعطى كتابه بيمينه، ويكتب له براءة من النار، ويبيض وجهه، ويكسى من حلل الجنة، ويشفع في مائة من أهل بيته، وينظر الله عزَّوجلَّ إليه بالرحمة، ويتوج من تيجان الجنة، والعاشرة يدخل الجنة بغير حساب، فطوبى لمحبي أهل بيتي».(1)

ونحن هنا نكتفي بما رواه أبوسعيد في أمهات المسائل التي ابتني عليها المذهب الإمامي:

وكان في عداد رواة حديث الثقلين وحديث الغدير، وحديث المنزلة... وهي التي شكلت أسس المذهب الإمامي، الذي يستقي علومه وأحكامه وأصول اعتقاده من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وهم العدل الثاني في حديث الثقلين المشهور.. وكان من الذين شهدوا لعلي (ع) بالولاية يوم الغدير:

روي أنّ علياً (ع) قام فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أنشِدُ الله من شهد يوم غدير خُمٍّ إلاَّ قام.. فقام سبعة عشر رجلاً، وكان أبوسعيد الخدري واحداً منهم.

وقد ذكره الشيخ المفيد في كتاب الجمل في عداد من بايع أميرالمؤمنين علياً (ع) قائلاً في


1- أنظر: الخصال 2 : 515 ، ح1.

ص: 564

مقدمة ذلك: ونحن نذكر الآن من جملة مبايعي أميرالمؤمنين (ع) الراضين بإمامته الباذلين أنفسهم في طاعته... إلى أن قال: فممن بايع أميرالمؤمنين (ع) بغير ارتياب، ودان بإمامته على الإجماع والاتفاق، واعتقد فرض طاعته، والتحريم لخلافه ومعصيته، الحاضرون معه في حرب البصرة وهو ألف وخمسمائة رجل من وجوه المهاجرين الأولين السابقين إلى الإسلام، والأنصار البدريين العقبيين وأهل بيعة الرضوان، من جملتهم سبعمائة من المهاجرين وثمانمائة من الأنصار سوى أبنائهم وحلفائهم ومواليهم وغيرهم من بطون العرب والتابعين بإحسان.

وعد من الأنصار «أبوسعيد الخدري» واحتل في قائمة الشيخ المفيد الرقم الرابع. (1)

فأين هذا الكلام مما أورده السيد الأمين دون رد في كتابه في رحاب أئمة أهل البيت الجزء الثاني الصفحة 4 تحت عنوان (المتخلفون عن بيعته) وبعد أن ذكر ما قالته بعض المصادر عن القاعدين عن بيعته (ع) قال:

ونحن نذكر أسماء المتخلفين مأخوذة من مجموع ما ذكره هؤلاء وهم:... أبوسعيد الخدري...

ولم أجد في مروج الذهب ولا في أسد الغابة هذا، إلا أنّ الطبري ذكر ذلك بسنده عن عبد الله بن الحسن قال: لما قتل عثمان بايعت الأنصار علياً (ع) إلا نفيراً يسيراً منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري و... كانوا عثمانية. (2)

وهو خبر واحد مضادّ بغيره ومخالف لسيرة الرجل ومواقفه ورواياته وشهادته للإمام (ع) بحديث الغدير.

إلاّ أني لم أجد في كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة 212 هجرية اسمه فيمن شارك إلى جانب الإمام علي (ع) في معركة صفين، ولم أجد لغيابه عن هذه المعركة تفسيراً؛ وقد شارك في معركة النهروان، وله فيها حديث رواه عن رسولالله (ص)


1- أنظر الصفحة: 105 من كتاب الجمل.
2- تاريخ الطبري 2 : 698، دار الكتب العلمية، بيروت.

ص: 565

حيث قال: سمعت رسولالله (ص) يقول:

«إنَّ قَوماً يخرُجُون، يَمرُقون مِن الدِّين ِ مروق السَّهم مِن الرمية..».

وفي الخرائج والجرائح،(1) روي عن أبي سعيد الخدري... أنَّ النبيَّ (ص) قسَّم يوماً قسماً، فقال رجل من تميم: اعدلْ، فقال: ويحك ومن يعدل إذا لم اعدل؟!

قيل: نضرب عنقه؟

قال: لا، إنَّ له أصحاباً يحقِّر أحدكم صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، رئيسهم رجل أدعج إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة.

قال أبوسعيد: إني كنت مع علي (ع) حين قتلهم، فالتمس في القتلى [بالنهروان] فأتى به على النعت الذي نعته رسولالله (ص).

وقد امتاز العديد من رواياته الكثيرة بنقل مآثر و مناقب رسولالله (ص) و آل البيت (عليهم السلام) ونحن نكتفي بشيء منها.

وبداية نذكر روايته هذه التي توضح رأيه ووصفه الذي لم يحد عنه، وهو يجيب حين سئل عن علي (ع): عن مالك المازني، قال: أتى تسعة نفر إلى أبي سعيد الخدري، فقالوا:

يا أباسعيد! هذا الرجل الذي يكثر الناس فيه ما تقول فيه؟

فقال: عمَّن تسألوني؟

قالوا: نسأل عن عليّ بن أبي طالب (ع).

قال: أما إنكم تسألوني عن رجل أمرّ من الدفلى، وأحلى من العسل، وأخف من الريشة، وأثقل من الجبال، أما والله ما حلا إلا على ألسنة المؤمنين، وما خفَّ إلا على قلوب المتقين، ولا أحبه أحد قط لله ولرسوله إلاّ حشره الله من الآمنين، وإنه لمن حزب الله، وحزب الله هم الغالبون.

والله ما أمرَّ إلا على لسان كافر، ولا أثقل إلا على قلب منافق، وما زوى عنه أحد قط


1- الخرائج والجرائح 1 : 68، ح127.

ص: 566

ولا لوى ولا تحزب ولا عبس ولا بسر ولا عسر ولا مضر ولا التفت ولا نظر ولا تبسم ولا تجرَّى ولا ضحك إلى صاحبه ولا قال أعجب لهذا الأمر، إلاّ حشره الله منافقاً مع المنافقين.

{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.(1)

نأتي الآن إلى أحاديث أخرى

حديث الثقلين

وقد جاء هذا الحديث بصيغ متعددة وبطرق عديدة عن مجموعة من الصحابة والتابعين، حتى قال ابن حجر في صواعقه: ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضعة وعشرين صحابياً، وأبو سعيد الخدري كان واحداً من الصحابة الذين قال السمهودي على ما روى عنه المناوي في فيض القدير: وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة.

عن أبي سعيد قال: قال رسولالله (ص): «إنّي تَار ِكٌ فِيكُمْ الثَّقَليْن ِ، أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنْ الآخَر ِ: كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْض ِ وَعِتْرَتِي أهْلُ بَيْتِي، وَإنَّهُمَا لنْ يَفْتَر ِقَا حَتَّى يَر ِدَا عَليَّ الحَوْضَ».

عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) قال: «إنّي اُوشكُ أنْ اُدْعَى فَاُجِيبَ وَإنّي تَار ِكٌ فِيكُمْ الثَّقَليْن ِ كِتَابَ اللهِ عَزَّوَجَل وَعِتْرَتِي، كِتَابُاللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْض ِ وَعِتْرَتِي أهْل بَيْتِي، وَإنَّ اللطِيفَ الخَبيرَ أخْبَرَنِي أنَّهُمَا لنْ يَفْتَر ِقَا حَتَّى يَر ِدَا عَليَّ الحَوْضَ فَانْظُرُونِي ب_ِمَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا».

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسولالله (ص): «إنّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ الثَّقَليْن ِ أَحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنْ الآخَر ِ؛ كِتَابُ اللهِ عَزَّوَجَل حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْض ِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، ألا إنَّهُمَا لنْ يَفْتَر ِقَا حَتَّى يَر ِدَا عَليَّ الحَوْضَ».


1- الشعراء: 227.

ص: 567

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسولالله (ص): «إنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذْتُمْ بهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، الثَّقَليْن ِ أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنْ الآخَر ِ؛ كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلى الأَرْض ِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، ألاَ وَإنَّهُمَا لنْ يَفْتَر ِقَا حَتَّى يَر ِدَا عَليَّ الحَوْضَ».(1)

آية التطهير و حديث الكساء

عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال حين نزلت: {وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} قال: «كان نبي الله يجيئ إلى باب علي (ع) الغداة ثمانية أشهر» فيقول: «الصلاة يرحمكم الله {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

عن أبي سعيد الخدري قال: إنّ رسولالله جاء إلى باب علي (ع) أربعين صباحاً بعد ما دخل على فاطمة الزهراء(عليها السلام) فقال: «السلام عليكم أهل البيت! ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمكم الله، {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال حين نزلت: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها}،(2) كان يجيئ نبي الله (ص) إلى باب علي (ع) صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة، رحمكم الله {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: { إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. قال: «نزلت في خمسة: رسولالله وعلي وفاطمة والحسن والحسين».(3)


1- راجع: صحيح الترمذي 2: 308؛ وابن حجر في صواعقه؛ والمتقي في كنز العمال؛ والطبراني في الكبير؛ وراجع: فضائل الخمسة في الصحاح الستة وغيرها من كتب أهل السنة 2: 52 -60؛ سنن الترمذي، كتاب المناقب عن الرسول، باب مناقب أهل بيت النبي، رقم: 3718؛ و مسند أحمد بن حنبل، كتاب باقي مسند المكثرين، باب مسند أبي سعيد الخدري، رقم: 10681، 10707، 10779، 11135.
2- طه: 132.
3- أنظر: مختصر تاريخ دمشق 9: 342؛ طبقات المحدثين 4: 149 ، ح 915؛ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 8: 152، ح 8127؛ الدارقطني في المؤتلف والمختلف 4: 2121؛ الخطيب في المتفق والمفترق 2: 1158، ح723.

ص: 568

وفي أمالي الشيخ الطوسي: أخبرنا أبو عمر، قال: أخبرنا أبوالعباس، عن يعقوب بن يوسف بن زياد، عن مُحَمَّد بن إسحاق بن عمار، عن هلال بن أيوب الصيرفي... عن عطية قال: سألت أبا سعيد الخدري عن قوله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

قال: نزلت في رسولالله (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام).(1)

حديث المنزلة

رواة هذا الحديث من الصحابة أكثر من ثلاثين، وربّما يبلغون الأربعين بين رجل وامرأة.

يقول ابن عبد البر في الإستيعاب عن هذا الحديث: هو من أثبت الأخبار وأصحّها.

وأبو سعيد واحد منهم:

قال رسولالله (ص) لعلي بن أبي طالب (ع) في غزوة تبوك: «اخلفني في أهلي.

فقال علي (ع): يا رسولالله! إني أكره أنْ يقول العرب: خذل ابن عمه وتخلف عنه.

فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟

قال: بلى.

قال (ص): فاخلفني».

وفي رواية قوله (ص) لعلي (ع): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي».

سفينة نوح

وفي كفاية الأثر: حدَّثنا علي بن الحسين [الحسن خ ل] بن مُحَمَّد بن مبدة [مندة خ ل] قال: حدَّثنا أبو مُحَمَّد هارون بن موسى قال: حدَّثنا أحمد بن مُحَمَّد بن [سعيد] قال: حدَّثنا مُحَمَّد بن غياث الكوفي، قال: حدَّثنا حماد بن أبي حازم المدني قال: حدَّثنا عمران بن


1- أمالي الطوسي 1: 254، ح28.

ص: 569

مُحَمَّد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه عن جده، عن أبي سعيد الخدري، قال: صلى بنا رسولالله (ص) الصلاة الأولى، ثُمَّ أقبل بوجهه الكريم علينا فقال: «معاشر أصحابي! إنَّ مثَلَ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح وباب حطَّة في بني إسرائيل، فتمسَّكوا بأهل بيتي بعدي والأئمة الراشدين من ذريتي فإنكم لن تضلوا أبداً.

فقيل: يا رسولالله! كم الأئمة بعدك؟

فقال: اثنا عشر من أهل بيتي، أو قال: من عترتي».(1)

معرفة المنافقين

حدثنا قتيبة، حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري، قال: «إنّا كنّا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار لبغضهم عليَّ بن أبي طالب».(2)

خاصف النعل

وفي بحار الأنوار عن أمالي الشيخ الطوسي: أبو عمر، عن ابن عقدة، عن يعقوب بن يوسف، عن أحمد بن حماد، عن فطر بن خليفة وبريد بن معاوية العجلي، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج إلينا رسولالله (ص) وقد انقطع شسع نعله فدفعها إلى علي (ع) يصلحها، ثُمَّ جلس وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير.

فقال: إنَّ منكم لمن يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت الناس على تنزيله.

فقال أبو بكر: أنا هو يا رسولالله؟

قال: لا.

فقال عمر: أنا يا رسولالله؟

فقال: لا، ولكنه خاصف النعل.


1- كفاية الأثر: 33-34.
2- أنظر: الترمذي، المناقب عن الرسول، ح 3650.

ص: 570

قال أبو سعيد: فأتينا علياً (ع) نبشره بذلك فكأنه لم يرفع به رأساً فكأنه قد سمعه

قبل. (1)

يوم الغدير

حديث الغدير، هذا الحديث الذي بلغ حد التواتر عند جميع المسلمين وحفظته أمهات المصادر، من الأحاديث التاريخية الهامة و المصيرية التي أدلى بها رسولالله (ص) في السنة الأخيرة من حياته المباركة، وهي من الأحاديث التي تثبت إمامة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وتوجب ولايته على جميع المؤمنين بعد ولايةالله تعالى، وولاية رسوله المصطفى (ص) بكل صراحة ووضوح.

ثم إنّ حديث الغدير حديث متواتر رواه المحدثون عن أصحاب النبي (ص) وعن التابعين بصيغ ٍ مختلفة، تؤكد جميعها على إمامة الإمام أميرالمؤمنين (ع) مراده الأصلي واحد و إن اختلفت بعض عبارات الحديث.

الخوارزمي عن أبي سعيد الخدري قال: إنّ النبي (ص) لما دعا الناس إلى غدير خم، أمر بما كان تحت الشجرة من شوك، فقم، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي (ع) فأخذ بضبعه فرفعها، حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه، ثم لم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.(2)

فقال رسول الله (ص): «الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي؛ ثم قال:

«أللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».

فقال حسان بن ثابت: يا رسولالله! أتأذن لي أن أقول أبياتاً؟

فقال: «قل ببركة الله تعالى»، فقال:


1- بحارالأنوار 32 : 296، ح256.
2- المائدة: 4.

ص: 571

ي_ناديهم يوم الغدير نبيه_م

بخ_م وأسم_ع بال_رسول مناديا

ب_أني مولاكم نعم ووليك_م

ف_قالوا ولم يب_دوا هناك الت_عاميا

إله_ك مولانا وأنت ول_ين_ا

ولاتجدن في الخلق للأمر عاصي_ا

فقال له: قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا ل_ه أن_صار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه

وكن للذي عادى علياً معاديا

وفي مختصر تاريخ دمشق عن أبي سعيد الخدري:

أما نصب رسولالله (ص) علياً بغدير خم، فنادى له بالولاية، هبط جبريل (ع)

بهذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.(1)

وقال أيضاً: نزلت هذه الآية: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}.(2) على رسولالله (ص) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب. (3)

الراية

وعن أبي سعيد قال: أخذ رسولالله (ص) الراية فهزها، ثم قال: من يأخذها بحقها؟ فجاء الزبير فقال: أنا، فقال: أمطَ أي «تنح»؛ ثم قام رجل فقال: أنا، فقال: أمط؛ ثم قام آخر فقال: أنا، فقال: أمط، فقال رسولالله (ص): والذي أكرم وجه محمد، لأعطينها رجلاً لا يفر بها؛ هاك يا علي، فقبضها، ثم انطلق حتى فتح الله عليه فدك وخيبر، وجاء بعجوتها وقديدها. (4)


1- المائدة: 4.
2- المائدة:67.
3- أنظر: مختصر تاريخ دمشق 17: 259؛ ينابيع المودة: 115؛ ومصادر أخرى.
4- مختصر تاريخ دمشق 9: 330.

ص: 572

ولاية علي (ع)

وفي أمالي الشيخ المفيد: حدَّثنا الشيخ الجليل المفيد، قال: أخبرني أبوالحسن علي بن بلال المهلّبي، قال: حدَّثنا عبدالله بن راشد الأصفهاني، قال: حدَّثنا إبراهيم بن مُحَمَّد الثقفي، قال: أخبرنا إسماعيل بن صبيح، قال: حدَّثنا سالم بن أبي سالم البصير، عن أبي هارون العبدي، قال: كنت أرى [رأي] الخوارج لا رأي لي غيره حتَّى جلست إلى أبي سعيد الخدري رحمه الله فسمعته يقول:

أمر الناس بخمس، فعملوا بأربع وتركوا واحدة.

فقال له رجل: يا أبا سعيد! ما هذه الأربع التي عملوا بها؟

قال: الصلاة، والزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان.

قال: فما الواحدة التي تركوها؟

قال: ولاية علي بن أبي طالب (ع).

قال الرجل: وإنَّها لمفترضة؟

قال أبو سعيد: نعم، ورب الكعبة.

قال الرجل: فقد كفر الناس إذن!

قال أبو سعيد: فما ذنبي؟(1)

وهذه متفرقات ممّا رواه أبو سعيد الخدري:

حمل الحديث

وفي حثه على حمل الأحاديث عبر التحدث بها، وتذاكرها، فإنّ إحياء الحديث بتذاكره والعمل به، وبذلك يتم حفظ أحاديث رسولالله (ص) والمعرفة بها والتوسع في فهمها خصوصاً بين أهله وترويجها وتبليغها وعدم نسيانها، لأنه وكما ورد في الحديث الشريف: «آفة العلم


1- أمالي الشيخ المفيد: 90، مجلس17، ح3.

ص: 573

النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله».

وهو ما ورد عن الإمام علي (ع) حدثنا وكيع، قال حدثنا كهمس بن الحسن عن عبدالله بن بريدة أنه قال: قال علي: «تزاوروا وتذاكروا الحديث فإنكم إن لم تفعلوا يدرس».

لهذا جاءت العبارة التي أصبحت شعاراً للمذاكرة، وهي قولهم: «إحياء الحديث مذاكرته»؛ ومنها انطلق هذا الصحابي في حثه الناس على التحدث لما في ذلك من فوائد كبيرة؛ ومن فوائد التحدث والمذاكرة في الحديث أنه سبب كبير و داع عظيم للتنافس المحمود بين طلبة العلم.

فعن علي بن الجعد أنه قال: حدثنا شعبة عن سعيد بن يزيد سمع أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد قال: تحدثوا فإنّ الحديث يهيج الحديث. (1)

ثواب صلاة الجماعة

وفي بحار الأنوار: روى الشهيد الثاني1 في شرحه على الإرشاد من كتاب الإمام والمأموم للشيخ أبي محمد جعفر بن القمي بإسناده المتصل إلى أبي سعيد الخدري، قال: قال رسولالله (ص): «أتاني جبرئيل مع سبعين ألف ملك بعد صلاة الظهر، فقال: يا مُحَمَّد! إنَّ ربك يقرئك السلام وأهدى إليك هديتين لم يهدهما إلى نبيٍّ قبلك، قلت: وما تلك الهديتان؟

قال: الوتر ثلاث ركعات، والصلاة الخمس في جماعة.

قلت: يا جبرئيل! وما لأمتي في الجماعة؟

قال: يا مُحَمَّد! إذا كانا اثنين كتب الله لكل واحد بكل ركعة مأة وخمسين صلاة، وإذا كانوا ثلاثة كتب لكل واحد بكل ركعة ست مأة صلاة، وإذا كانوا أربعة كتب الله لكل واحد بكل ركعة ألفاً ومأتي صلاة، وإذا كانوا خمسة كتب الله لكل واحد بكل ركعة ألفين وأربع مأة، وإذا كانوا ستة كتب الله لكل واحد بكل ركعة أربعة آلاف وثمان مأة صلاة، وإذا


1- أنظر أحمد بن حنبل في مسنده؛ ومختصر تاريخ دمشق؛ وكنز العمال؛ وغيرها.

ص: 574

كانوا سبعة كتب الله لكل واحد بكل ركعة تسعة آلاف وست مأة صلاة، وإذا كانوا ثمانية كتبالله لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة عشر ألفاً ومأتي صلاة، وإذا كانوا تسعة كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة ستة وثلاثين ألفاً وأربع مأة صلاة، وإذا كانوا عشرة كتب الله لكل واحد بكل ركعة سبعين ألفاً وألفين وثمان مأة صلاة، فإنْ زادوا على العشرة فلو صارت السماوات كلها مداداً والأشجار أقلاماً، والثقلان مع الملائكة كُتّاباً لم يقدروا أن يكتبوا ثواب ركعة واحدة.

يا مُحَمَّد! تكبيرة يدركها المؤمن مع الإمام خير من ستين ألف حجة وعمرة، وخير من الدنيا وما فيها سبعين ألف مرة، وركعة يصليها المؤمن مع الإمام خير من مأة ألف دينار يتصدق بها على المساكين، وسجدة يسجدها المؤمن مع الإمام في جماعة خير من عتق مأة رقبة. (1)

وعن طول يوم القيامة: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}.(2)

نسب إلى أبي سعيد أنه قال: قيل: يا رسولالله! ما أطول هذا اليوم؟!

فقال: والذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا.

وأبو سعيد الخدري من رواة حديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ كما في سيرة ابن هشام. (3)

والحديث: أنّ جبريل (ع) أتى رسولالله (ص) حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجراً بعمامة من إستبرق، فقال: يا محمد! من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟

فقام رسولالله (ص) سريعاً يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات.


1- بحارالأنوار 88 : 14_ 15، ح26.
2- المعارج : 4.
3- سيرة ابن هشام 3 : 262.

ص: 575

«إنّ أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسولالله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين».

رواه الشيخان البخاري ومسلم.

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) قال:

«إنّ في الجنة مأة درجة، ولو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهن وسعتهم».

وقال سعيد بن منصور: حدثنا خلف بن خليفة عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد قلنا له: هنيئاً لك برؤية رسولالله (ص) وصحبته قال: إنك لا تدري ما أحدثنا بعده.

قال ابن أبي سلمة: قلت لأبي سعيد الخدري: ما ترى في ما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم؟ فقال:

يا ابن أخي كُل لله، واشرب لله، وكلّ شيء من ذلك دخله زهو، أو مباهاة، أو رياء، أو سمعة، فهو معصية وسرف.

المرأة تسأل

هناك اهتمام أكيد من قبل الإسلام بالمرأة المسلمة، واهتمام متميز من قبل الرسول (ص) واحترام واضح لما تريده مادام لا يخالف شريعة ولا منهجاً دينياً وأخلاقياً واجتماعياً، وكانت المرأة في ذلك الوقت لها رأيها وهي ذات مكانة عظيمة راحت تسخرها لخدمة المشروع الإسلامي، حتى برزت طائفة من النساء العالمات المبلغات، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاءت امرأة إلى رسولالله (ص) فقالت: يا رسولالله! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، قال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهنّ النبي (ص) فعلمهن مما علمه الله، وقد تبادرن النساء إلى مجالس الرسول الخاصة بهن، وقد أثنى رسولالله (ص) عليهن ودعا لهن فقال: «رحم الله نساء الأنصار لا يمنعهن حياؤهن أن يسألن عن أمور دينهن».

ص: 576

وفاته

وحتى قبيل وفاته لم يترك الرواية عن رسولالله (ص) وقد ضمن وصاياه العديدة قولاً لرسولالله (ص).

فعن ابنه عبدالرحمن أنّ أباه قال له: يا بني! إني قد كبرت سني وحان مني، خذ بيدي، فاتكأ علي حتى جاء البقيع مكاناً لا يدفن فيه فقال: إذا أنا هلكت فادفني هاهنا، ولا تضربن علي فسطاطاً ولا تمشين معي بنار، ولا تبك علي باكية، ولا تؤذنن أحداً، وليكن مشيك بي خبباً، فجعل الناس يأتوني فيقولون: متى تخرج به؟ فأكره أن أخبرهم وقد نهاني، فقلت: إذا فرغت من جهازه، فخرجت به من صدر يوم الجمعة، فوجده البقيع قد ملئ علي ناساً.

ولما حضرته الوفاة تقول ابنته: لما حضر أبوسعيد بعث إلى نفر من أصحاب رسولالله (ص) فيهم: ابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وجابر بن عبدالله فقال: لا يغلبنكم ولد أبي سعيد، إذا أنا مت فكفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأذكرالله فيها.

وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: دخلت على أبي سعيد الخدري عند موته، فدعا بثياب جدد فلبسها، ثم قال: سمعت رسولالله (ص) يقول: إنّ الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها، فإذا مت فلا تتبعوني بنار ولا تجعلوا علي قطيفة حمراء ولا تبك علي باكية.

ومن وصاياه أيضاً عند احتضاره: إذا حملتم فأسرعوا، أي أسرعوا بي.

توفي هذا الصحابي الجليل رضوانالله عليه في خلافة عبد الملك بن مروان، وحين استولى الحجاج على الكعبة، بعد قتله عبدالله بن الزبير، وكان عمر أبي سعيد الخدري 74 سنة، بالمدينة يوم الجمعة، وقال أبوالحسن المدائني: مات سنة 63، وقال العسكري: مات سنة 65.

ويقال: قبره يقع في خارج البقيع في الجهة الشرقية الشمالية منه على قارعة الطريق المؤدي للحرة الشرقية، وقد اختار أبوسعيد هذا المكان ليدفن فيه في حياته، فيما يقال: إنه دفن بالبقيع نفسه، إلى جوار قبر فاطمة بنت أسد رضوان الله تعالى عليها.

ص: 577

(24) اُبيّ بن كعب

اشارة

محسن الأسدي

«ليُهْنِكَ العِلْمُ أبا المنذر» حديث شريف

أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار _ وهو تيم الله _ بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، من بني النجار، من الخزرج، فهو النجاري الخزرجي المدني، وهو الصحابي الأنصاري، وهو البدري العقبي.

أمه صهيلة بنت الأسود بن حرام بن عمرو بن مالك بن النجار، تجتمع هي وأبوه في عمرو بن مالك بن النجار، وهي عمة أبي طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري، زوج أم سليم.

وكان لأبي بن كعب من الولد: الطفيل ومحمد، وأمهما أم الطفيل بنت الطفيل بن عمرو بن المنذر بن سبيع بن عبد نهم من دوس، وأم عمرو بنت أبي.

كنيته: أبو المنذر، وأبو الطفيل؛ ويدل عليها أنّ رسول الله (ص) كان حين يريد أن يقول له شيئاً، يناديه: يا أبا المنذر؛ وكان أبي حين يخاطب عمر بن الخطاب يقول له: يا ابن الخطاب؛ فيقول له عمر: يا أبا الطفيل.

ص: 578

صفته: كان ربعة نحيفاً أو رجلاً دحداحاً، وقالوا: ليس بالقصير ولا بالطويل، أبيض الرأس واللحية، لا يغير شيبه. (1)

لقد كان من المتفوقين في مدرسة الصحبة المباركة، إيماناً وعلماً وجهاداً؛ وكيف لا يكون كذلك، وقد حظي بمنزلة عالية ومرتبة فاضلة؛ أن يذكر في الملأ الأعلى ذلك كونه مرجعاً أميناً في القرآن الكريم؛ حتى خص بامتيازات جليلة منها أن تقرأ عليه سورة البينة، والآمر بهذا هو رب العالمين، والمأمور بالقراءة هو رسول الله (ص) .

نعم، لقد خص صاحب هذه الترجمة بأنه أول من يقرأ عليه رسول الله (ص) بأمر من قبله تعالى سورة البينة، وكان أول من ذكر اسمه في الملإ الأعلى، فكان أقرأ هذه الأمة للقرآن، وكان أحد الأربعة الذين أمر النبي (ص) أن يؤخذ منهم القرآن، وكان من أبرز المفسرين للقرآن من الصحابة، وكان صاحب منهج أو مدرسة في التفسير؛ وكان سيد الأنصار كما أحب رسول الله (ص) أن ينادوا أبياً به، فعن عمرو بن العاص _ كما في مختصر دمشق _ قال: كنت جالساً عند رسول الله (ص) في يوم عيد، فقال: «ادع لي سيد الأنصار» فدعوا أبي بن كعب.

إسلامه

أعلن إسلامه، وتوثقت أركان إيمانه، وصار رجلاً معروفاً في مدرسة القرآن الكريم ومدرسة الصحبة النبوية الشريفة، وخلد ذكره على مر الأجيال كمجاهد وصاحب منهج قرآني، وراوية للسنة النبوية الشريفة؛ توفر على كل هذه المناقب، بعد أن نشأ أبو المنذر رضوان الله تعالى عليه في ديار يثرب غاضب_اً على حياة قومه، معترض_اً على دينها، متأملاً في الكون من حوله، وعلى الرغم من وجود اليهود في المدينة آنذاك، إلا أن ما وقع في يده من وريقاتها لم يشف غليله، ولم يرو عطشه، ولم تهد حيرته، ولم تشبع نهمه.

وكان أبي يتأمل في الكون من حوله ليلاً ونهاراً، وفي إحدى الليالي خرج يطوف بديار


1- مختصر تاريخ دمشق 4 : 197 _ 198؛ والاستيعاب؛ والإصابة؛ والحاكم في المستدرك.

ص: 579

المدينة، فسمع حواراً في دار سعد بن الربيع، فسمع بأذنه كلاماً عن الإسلام و نبي الإسلام (ص) وعلم أن مصعب بن عمير أتى سفيراً، وكأول سفير للإسلام؛ ليعلم الناس الإسلام أحكاماً وآداباً ومفاهيم، فما أن سمع الحوار حتى طرق الباب على سعد، وأعلن إسلامه؛ ليحظى بالسفر إلى مكة؛ ثم ليشهد بيعة العقبة مع السبعين من الأنصار كما في مختصر دمشق.

وهذا يعني أنّ المقصود العقبة الثانية، ولكني وللأسف لم أجد له إسماً في السيرة النبوية لابن هشام، وهو يذكر أسماء أهل البيعتين الأولى والثانية من الأوس والخزرج.

وكان أبي بن كعب من الأنصار الذين نصروا رسول الله، واستقبلوه في يثرب، وقد شهد كل الغزوات مع النبي (ص) وبقية المشاه_د، وجمع القرآن في حياة الرس_ول (ص) وكان رأساً في العلم وبلغ في المسلمين الأوائل منزلة رفيعة، حتى قال عنه رسول الله (ص): أبي سيد الأنصار؛ ونسب إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنه قال عنه مادحاً: أبي سيد المسلمين.

وهكذا توالت عليه هذه المناقب، وعظم حب المسلمين له، واشتد ودّهم له، ولاذوا به في معرفة ما يشكل عليهم من علم ومعرفة، حتى جاء في الخبر عن قيس بن عباد أنه قال: كنت آتي المدينة فألقى أصحاب النبي (ص) وكان أحبهم إليّ أبي بن كعب؛ وقال: ثم قعد يحدث، فما رأيت الرجال مدت أعناقها إلى رجل مثلما مدت أعناقها متوجهةً إلى أبي بن كعب.

المؤاخاة

مشروع المؤاخاة بين المسلمين، الذي أسسه رسول الله (ص) في المدينة، كان من أروع المشاريع، وأعظمها نفعاً على كل المستويات الإيمانية والاجتماعية والسياسية، وكان الأساس المتين والصلب لبناء قاعدة إيمانية تمهيداً لبناء مجتمع آمن متكافل، فدولة قائمة على الحب والمودة والتضامن الفاعل، حتى غدا مجتمع المدينة ودولته في عهد رسول الله (ص) مثالاً لنموذج فذّ نادر، يحلم به الشرفاء والأحرار.

قال السهيلي: آخى رسول الله (ص) بين أصحابه حين نزلوا بالمدينة؛ ليذهب عنهم وحشة

ص: 580

الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشدّ أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، أنزل الله سبحانه: {أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} أعني في الميراث؛ ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} يعني في التوادد، وشمول الدعوة.

فقد راح رسول الله (ص) يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، وآخى بين سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب، وهو أخو بني النجار أخوين. (1)

أبي مجاهداً

ما أن هاجر النبي (ص) إلى المدينة حتى كان أبيّ ملازم_اً لرسول الله (ص) فاشترك في بناء المسجد، ثم في معركة بدر ٍ الكبرى، فكان واحداً من أهلها، ولم يتخلف عن مشاهد رسول الله (ص) قط، بل حضرها كلها.

اُبَيّ قرآنياً

كان المسلمون ينظرون إلى اُبي بن كعب نظرتهم إلى ذلك الرجل القرآني الرشيد المستقيم السيرة، الطيب العنصر، العظيم في الإسلام، وجاء في الخبر أنّ رسول الله (ص) قال في يوم عيد: أدعو لي سيد الأنصار؛ فدعو اُبي بن كعب.

وإنه كذلك فقد نال أبيّ شرف_اً ربما لم ينله غيره من أصحاب رسول الله (ص) ومن ذلك _ كما ذكرنا _ أمر الله لنبيه (ص) أن يقرأ عليه سورة البينة، فقد ذكر كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما: أنّ رسول الله (ص) قال لأبي: إنّ الله عزّوجل أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}.(2)

قال: وسماني لك؟ قال نعم؛ فبكى.


1- السيرة النبوية 2 : 505 _ 506 ، والهامش.
2- البينة: 1.

ص: 581

وكان في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين، قال له رسول الله (ص): «يا أبي بن كعب، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن».

وأبي يعلم أنّ رسول الله (ص) انما يتلقى أوامره من الوحي، هنالك سأل الرسول الكريم في نشوة غامرة: «يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، وهل ذكرت لك باسمي؟».

فأجاب الرسول (ص): نعم، باسمك ونسبك في الملإ الأعلى.

وكان حري_اً أن يؤمر الرسول (ص) بعرض القرآن عليه، وفي هذا يقول أبي: قال رسول الله (ص): إني أمرت أن أعرض عليك القرآن.

فقال أبي: بالله آمنت وعلى يديك أسلمت ومنك تعلمت.

قال: فرد الرسول (ص) القول.

فقال: يا رسول الله وذكرت هناك؟

قال: نعم، بإسمك ونسبك في الملإ الأعلى.

قال: اقرأ إذًا يا رسول الله. (1)

ولما سئل: فرحت بذلك؟

قال: وما يمنعني وهو تعالى يقول:

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}.(2)

ولقد كان فقه أبي بالقرآن يظهر على لسانه، ومن ذلك أنّ رسول الله (ص) سأله يوم_اً عن أي آية في القرآن أعظم؟

فقال أبي: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.(3)

فضرب النبي (ص) على صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المن_ْ_ذر. (4)


1- رواه الترمذي.
2- يونس : 58 ؛ رواه أحمد.
3- البقرة : 255.
4- رواه مسلم.

ص: 582

ولم يكن بالمستغرب كذلك أن يأمر النبي (ص) بأخذ القرآن عنه فإنه جدير بهذه المنزلة، ولم لا؟ وهو من أمر النبي (ص) أن يقرأ عليه القرآن وفي الحديث: «خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب».(1)

وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ وهو أقرأ هذه الأمة بالقرآن بنص حديث رسول الله (ص) حيث نسب إليه (ص) أنه قال:... وأقرؤهم أبي بن كعب؛ كما رواه الترمذي، فقد كان هذا الصحابي الجليل أقرأ الناس إلى جانب كونه طيب الصوت حسن الأداء.

أبيّ كاتباً

كان أبي بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي ويكتبون الرسائل.

كان هناك عدد من الصحابة ممن وفقوا لأن يكونوا ممن يكتبون لرسول الله (ص) ما ينزل إليه من السماء عن طريق الوحي، ويكتبون رسائله إلى من يريد، وما يمليه من أجوبة عن رسائل ترد إليه، وما يبرمه من عهود ومواثيق؛ وكان من هؤلاء أبي بن كعب، بل هو في مقدمة الذين يكتبون الوحي ويكتبون الرسائل.

تقول الرواية: وكان أبي بن كعب يكتب في الجاهلية قبل الإسلام؛ وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله (ص).

قال ابن أبي خيثمة: هو أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله (ص) كان سيداً جليل القدر، ورأساً في العلم والعمل.

وقيل أول من كتب لرسول الله (ص) أبي بن كعب، وكان إذا غاب أبي كتب له زيد بن ثابت. (2)

قال الواقدي: وهو أول من كتب للنبي (ص) وأول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان.


1- رواه البخاري.
2- تاريخ الطبري 2 : 218.

ص: 583

وفي أسماء من كتب للنبي (ص) علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب وزيد بن ثابت. (1)

أبيّ جامعاً للقرآن

وكان في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين، قال له رسول الله (ص): يا أبي بن كعب، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن؛ وأبي يعلم أنّ رسول الله (ص) إنما يتلقى أوامره من الوحي؛ هنالك سأل الرسول الكريم في نشوة غامرة: يا رسو ل الله! بأبي أنت وأمي، وهل ذكرت لك باسمي؟ فأجاب الرسول (ص) «نعم، باسمك ونسبك في الملإ الأعلى»؛ كما قال الرسول (ص): «أق_رأ أمتي أبَيّ».

قام أبي بن كعب بجمع القرآن الكريم في حياة النبي (ص) وعرض على النبي (ص) وحفظ منه علماً مباركاً.

قال أنس بن مالك: جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن مالك، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي.

وروى الطبراني وابن عساكر عن الشعبي، قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) ستة من الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد.

قال محمّد بن سيرين: إنّ عثمان بن عفان جمع اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم اُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، في جمع القرآن.

وعده ابن النديم في فهرسته من الذين جمعوا القرآن على عهد النبي (ص) فقال

ما صورته: الجمّاع للقرآن على عهد النبي (ص) وعدّ جماعة ثم قال: أبي بن كعب وساق نسبه.


1- تاريخ الطبري 3: 533.

ص: 584

أبيّ قارئاً

منّ الله تعالى عليه بحفظه للقرآن الكريم، وبصوت طيب، ومنهج في القراءة متميز

وقد اشتهر به، وأعجب به من حوله، حتى عد من أعظم قرّاء القرآن، وفي الطبقة الأولى

من صحابة النبي الأكرم (ص) وقد وفق لأن يكون كما قال عنه رسول الله (ص): «أق_رأ

أمتي أبَيّ».

عن أنس بن مالك أنّ رسول الله (ص) قال لأُبي بن كعب: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: الله سمّاني لك؟ قال: نعم سماك لي، قال: فجعل اُبي يبكي؛ وفي رواية: فذرفت عيناه.

وفي رواية قال اُبي في نشوة غامرة: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، آلله سمَّاني لك؟ فقال الرسول: «نعم»، فجعل أبي يبكي من شدة الفرح. (1)

عن أنس قال: قال رسول الله (ص): أقرأ أمتي أبي.

وجاءت الرواية عن أبي عبدالله الصادق (ع): نحن نقرأ بقراءة اُبي بن كعب.

وفي خصوص المتعة، قال القرطبي: قال الجمهور المراد نكاح المتعة، الذي كان في صدر الإسلام، وقرأ ابن عباس، وأبي، وابن جبير: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مَسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}؛ وقال ابن كثير في تفسيره: وكان ابن عباس وأبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي، يقرأون: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مَسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَريِضَةً}.(2)

أبيّ مفسراً

يعدّ هذا الصحابي من جملة من اشتهر من الصحابة بالتفسير؛ وقد عده السيوطي من جملة العشرة الذين اشتهروا بالتفسير من الصحابة من الطبقة الأولى من المفسرين، وهو أول


1- رواه مسلم.
2- تفسير القرطبي و ابن كثير: الآية.

ص: 585

من ألف في فضائل القرآن، قال ابن النديم في الفهرست: (الكتب المؤلفة في فضائل القرآن) وعدّها أحد عشر كتاباً لأحد عشر مؤلفاً وهم... 7_ أبيّ بن كعب الأنصاري.

ثم يقول: وليس في العشرة الباقية أحد إلاّ وزمانه متأخر عن أبي، فعلم من ذلك أنّ أبياً أول من ألف في فضائل القرآن؛ وعده ابن النديم في فهرسته من الذين جمعوا القرآن على عهد النبي (ص) فقال ما صورته: الجمّاع للقرآن على عهد النبي (ص) وعد جماعة ثم قال: أبي بن كعب وساق نسبه. (1)

وقد وردت عنه نسخة كبيرة في التفسير رواها أبو جعفر الرازي بسنده عنه. (2)

ويرجع ذلك _ كما يبدو _ إلى أسباب منها:

أ _ ما حظي به من دعاء النبي (ص) الخاص حين قال له: ليهنك العلم أبا المنذر. (3)

ب _ لكونه قريباً من مصدر الرسالة والوحي، فهو من كتّاب الوحي، مما جعله عالم_اً بعلوم القرآن والتفسير ومنها: أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد والعام والخاص، وأجواء الآيات.. وكيف لا يكون كذلك؟ وهو القائل للخليفة الثاني: «يا أميرالمؤمنين إني تلقيتُ القرآن ممن تلقّاه من جبريل وهو رطب».

ج _ وعلى القول بأنه كان قبل إسلامه حبراً من أحبار اليهود العارفين بأسرار الكتب السماوية، مما جعله على مبلغ كبير من العلم ومعرفة آيات الكتاب المجيد.

وهنا لا بد لي من وقفة تحت عنوان:

هل كان أبيّ حبراً؟

إنّ كونه مطلعاً على الكتب القديمة، وما ورد فيها، و تركت عنده ثقافة واسعة، وحباً للقرآن الكريم، خصوصاً وقد وجد فيه فرقاً كبيراً، وامتيازات كبيرة، ومناقب عالية تفوق


1- الاتقان للسيوطي؛ أعيان الشيعة لمحسن الأمين1: 361، و6: 206؛تفسير القرطبي وابن كثير: الآية.
2- التفسير والمفسرون للذهبي 1: 92.
3- رواه مسلم وغيره.

ص: 586

كثيراً عما وجده فيما سبقه من كتب، هذا شيء، وكونه حبراً من أحبار اليهود، وبالتالي كان يهودياً شيء آخر، وإن كان هذا لا ضير فيه، ولا يقدح بإيمان الرجل، إلاّ أنني لم أجد فيما تيسر لي من مصادر من يذكر هذا الأمر، سوى صاحب كتاب الأعلام خير الدين الزركلي (1976م) حيث قال: «كان قبل الإسلام حبراً من أحبار اليهود، مطلعاً على الكتب القديمة، يكتب ويقرأ على قلة العارفين بالكتابة في عصره، ولما أسلم كان من كتاب الوحي».

وردده الدكتور محمد حسين الذهبي (1398ه) صاحب كتاب: التفسير والمفسرون، والقيسي في تاريخ التفسير؛ ويبدو أنّ ما ذكروه كان إمّا وهماً واشتباهاً، أو أنه وقع خطأً نتيجة التقارب بين الاسمين: «كعب الأحبار وأبي بن كعب».

منهجه في التفسير

كان له منهج متميز وله خصائصه، فقد عرف بتمسكه بما ورد عن رسول الله (ص) واستفاد منه في تفسيره للآيات القرآنية الكريمة، ولهذا جاء أكثر تفسيره بهذه الطريقة؛ وأنّ رواياته جاءت موصولة السند برسول الله (ص) ويدلل اهتمامه الكبير بهذه الروايات في تفسيره على منهجه الأهم وأسلوبه الأمثل في تفسير القرآن الكريم؛ وإن لم يجد من المأثور ما يفسر به، ينتقل إلى أساليب أخرى، كتفسير القرآن بالقرآن واجتهاده.

هذا، وكان لتلاميذه مع أصحاب زيد بن أسلم مشاركة في إنشاء مدرسة التفسير في المدينة المنورة، والتي كان من أقطابها ثلاثة من أئمة أهل البيت، وهم: الإمام علي بن الحسين، وولده الإمام الباقر، وحفيده الإمام الصادق:، وقد امتازت هذه المدرسة بفضل وجود الأئمة الثلاثة (عليهم السلام) بالعمق والموضوعية، فيما أثر عنها من روايات تفسيرية نجدها في أمهات التفسير. (1)


1- أنظر: التفسير والمفسرون للذهبي 1 : 92.

ص: 587

نماذج من تفسيره:

تفسير القرآن بالقرآن

كان اُبيّ يعتمد روايات عن رسول الله (ص) لتفسير آية من القرآن الكريم؛ ففي تفسير التبيان للشيخ الطوسي (460 ه) ولدي تفسير «الظلم» من قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.(1)

وبعد أن يذكرالشيخ الطوسي أنّ الظلم المذكور في الآية هو الشرك عند أكثر المفسرين: ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد وحماد بن زيد وأبيُّ بن كعب وسلمان (رحمة الله عليه). يقول:

قال أبيُّ: ألم تسمع قوله:

{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.(2)

وهو ما جاء فيما روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق على الناس، وقالوا: يا رسول الله! وأيّنا لا يظلم نفسه، فقال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح:

{يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

آيات ذات موضوع واحد

ولقد وجد في تفسير أبي بن كعب محاولة لجمع الآيات ذات الموضوع الواحد، ومن أمثلته ما جاء عنه في تفسير الآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ}.


1- الأنعام: 82.
2- لقمان: 31.

ص: 588

قال: «جمعهم يومئذ جميعاً ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق، ثم قال: وفيهم الأنبياء (عليهم السلام) يومئذ مثل السرج، وخص الأنبياء بميثاق آخر، قال الله:

{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً}.(1)

وهو الذي يقول تعالى ذكره: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.(2)

وفي ذلك قال: {هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ٰ}.(3) يقول: أخذنا ميثاقه مع النذر الأولى.

ومن ذلك قوله: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ}.(4){ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}.(5) قال: كان في علمه يوم أقروا به من يصدق ومن يكذب».(6)

التفسير بالمأثور

كثيراً مما روي عن أبي بن كعب هو من التفسير بالمأثور، فقد راح يفسّر الآيات بما روي عن رسول الله (ص) ومن أمثلة هذا النوع من التفسير، ما رواه في تفسير قوله تعالى: {...لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ٰ...}.(7)

عن رسول الله (ص) أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى. فقال: «مسجدي هذا».(8)


1- الأحزاب : 7.
2- الروم: 30.
3- النجم:56.
4- الأعراف: 102.
5- يونس: 74.
6- جامع البيان، للطبري 9 : 15.
7- التوبة: 108.
8- جامع البيان، للطبري 11 : 28.

ص: 589

التفسير بالاجتهاد

هناك روايات تفسيرية عن أبي بن كعب وموقوفة عليه، وهي قليلة جداً، ولأنها لم ترفع إلى رسول الله (ص) يمكن عدها من اجتهاده، ومن أمثلتها ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً}.(1)

فقد روى الطبري بسنده عن أبي بن كعب أنه قال: «من الأمانة أن المرأة أئتمنت على فرجها».(2)

معرفة أبيّ بالقراءات

لطالما أثبت حجية قراءته وصحتها بالقرآن الكريم، فقد ورد عنه أنه قرأ قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.(3)

وقد كان عمر بن الخطاب يقرأ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ} بضم الأنصار، وحذف حرف الواو من (الذين) حتى أنه أنكر على رجل قرأها بقراءة اُبيّ، ولما حضر أبي بن كعب، وسأله عمر، استدل اُبيّ بعدة آيات على صحة قراءته قائلاً:

«وتصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة، وأوسط الحشر، وآخر الأنفال، أما أول الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}، وأوسط الحشر: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ}، وأما آخر الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا


1- الأحزاب: 72.
2- جامع البيان، للطبري 22: 5.
3- التوبة: 100.

ص: 590

مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ}.(1)

فقال عمر: إذن نتابع أبياً. (2)

معرفة أبيّ بأسباب النزول

كان كثير الاهتمام بأسباب النزول، ومن اهتمامه كان لا يتأخر إذا ما فاته شيء منها، ولا يتوقف عن السؤال عنها أبداً، حتى أنه سأل أنس بن مالك (93 ه) وكان خادم رسول الله (ص) عن سبب نزول الآية: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ... إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً}.(3)

فقد روى الطبري بسنده، عن أنس بن مالك أنه قال: «سألني أبيّ بن كعب عن الحجاب، فقلت: أنا أعلم الناس به، نزلت في شأن زينب، أولم النبي (ص) عليها بتمر وسويق، فنزلت: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}».(4)

ولأبيّ بن كعب أيضاً

في قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ}.(5)

قال أبي: هو قول الرب تعالى ذكره.

وفي قوله تعالى: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً}.(6)


1- الأنفال: 75.
2- جامع البيان، للطبري 11: 8 .
3- الأحزاب: 53.
4- المصدر نفسه؛ وانظر: جامع البيان 22: 37.
5- البقرة: 126.
6- المصدر نفسه: 213.

ص: 591

قال أبي: كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم يومئذ على الإسلام، وأقروا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم، فكان أبي يقرأ: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} إلى {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وإنّ الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.

وفي قوله تعالى: {قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً}.(1)

قال أبي: هو القتل يوم بدر. (2)

أبيّ عالماً

كان في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين؛ لهذا تجده وقد سجل أبيّ بن كعب حضوراً متميزاً في التفسير والقراءة، وفي الفقه حتى عدّ أبرز فقهاء الصحابة وقرَّائهم؛ وكان صاحب همة عالية في خدمة الناس، ولا يبخل عليهم بعلمه؛ فمع أنه كثير العبادة، لكنه طالما فرغ نفسه لتعليم الآخرين؛ فعن أبي العالية: كان اُبيّ بن كعب صاحب عبادة، فلما احتاج إليه الناس، ترك العبادة، وجلس للقوم.

سأله النبي (ص) يوماً: يا أبا المنذر، أي آية من كتاب الله أعظم؟

فأجاب قائلاً: الله ورسوله أعلم.

وأعاد النبي (ص) سؤاله: يا أبا المنذر، أي آية من كتاب الله أعظم؟

وأجاب أبي: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.

فضرب الرسول (ص) صدره بيده، ودعا له بخير، وقال له والغبطة تتألق على محياه: ليُهْنِكَ العلم أبا منذر! (أي هنيئًا لك العلم).

وعن أبي بن كعب أنّ رسول الله (ص) صلّى بالناس، فترك آية فقال: أيُّكم أخذ عليّ شيئاً


1- الفرقان: 77.
2- أنظر: جامع البيان، للطبري في تفسيره للآيات المذكورة.

ص: 592

من قراءتي؟

فقال اُبيُّ: أنا يا رسول الله، تركتَ آية كذا وكذا.

فقال النبي (ص): قد علمتُ إنْ كان أحدٌ أخذها عليّ فإنّكَ أنت هو.

وأخرج الأئمة أحاديثه في صحاحهم، وعدّه مسروق في الستة من أصحاب الفتيا، وممن روى عنه من الصحابة عمر، وكان يسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات؛ ولما مات في خلافة عمر بن الخطاب _ على رواية _ قال عمر: اليوم مات سيد المسلمين.

وكان واحداً من الستة أصحاب الفُتْيَا _ كما روي _ الذين أذن لهم رسول الله (ص) بالحكم في حوائج الناس، وفض المنازعات التي تحدث بينهم، وردِّ المظالم إلى أهلها، وكان منهم الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن حارثة... ومما قاله (ص) فيه: «وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب».(1)

قصة الخضر وموسى

ومن معرفته العالية في كتاب الله تعالى، والرواية عن رسول الله (ص) وفي التاريخ، من ذلك قصة الخضر وموسى: فقد روى أبيّ بن كعب في ذلك عنه (ص) ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد، قال: قلت لابن عباس: إنّ نوفاً يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى، فقال: كذبَ عدو الله، حدثنا أبيّ بن كعب عن رسول الله (ص) قال: إنّ موسى قام في بني إسرائيل خطيباً فقيل: أيّ الناس أعلم؛ فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: بل عبدٌ لي عند مجمع البحرين، فقال: يا ربّ! كيف به? قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكْتل فحيث تفقده فهو هناك.

قال: فأخذ حوتاً فجعله في مكتل، ثم قال لفتاه: إذا فقدتَ هذا الحوت فأخبرني؛ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا صخرة، فرقّد موسى فاضطرب الحوت في المكتل، فخرج فوقع في البحر، فأمسك الله عنه جَرْية الماء فصار مثل الطاق، فصار للحوت


1- أنظر: الترمذي وابن ماجه.

ص: 593

سرَباً، وكان لهما عجباً.

ثم انطلقا، فلما كان حين الغذاء قال موسى لفتاه: {آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً} قال: ولم يجد موسى النصَب حتى جاوز حيث أمَره الله، قال: فقال: {أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}.

{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} قال: فقال: {ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً}، قال: يقّصان آثارهما.

قال: فأتيا الصخرة فإذا رجل نائم مسجَّى بثوبه، فسلّم عليه موسى فقال: وأنَّى بأرضنا السلام! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل? قال: نعم، قال: يا موسى، إني على علْم من علم الله، علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه، قال: فإني أتبعك على أن تعلمني ممَّا عُلمْتَ رُشْداً.

{قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}. فانطلقا يمشيان على الساحل، فإذا بملاح في سفينة، فعرف الخضر، فحمله بغير نَوْل، فجاء عصفور فوقع على حرفها فنقر _ أو فنقد _ في الماء، فقال الخضر لموسى: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما نقر_ أو نقد _ هذا العصفور من البحر.

قال أبو جعفر: أنا أشكُّ، وهو في كتابي هذا "نقر" قال: فبينما هم في السفينة لم يُفجأ موسى إلا وهو يتد وتداً أو ينزع تخْتاً منها، فقال له يا موسى: حمَلنا بغير نَوْل وتخرقها لتُغْرقَ أهْلها! {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ}.

قال: فكانت الأولى من موسى نسياناً، قال: ثم خرجا فانطلقا يمشيان، فأبصرا غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ برأسه فقتله، فقال له موسى: {أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}.

فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية استطعما أهلها، فلم يجدا أحداً يطعمهم ولايسقيهم، فوجدا

ص: 594

فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه بيده _ قال: مسحه بيده _ فقال له موسى: لم يُضيفونا ولم ينزلونا، {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} قال: فقال رسول الله (ص): «لوددت أنه كان صبَر حتى يقصّ علينا قصصهم».

وعن العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهريّ، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحُرّ بن قيس بن حصن الفزاريّ في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى (ع) الذي سأل السبيلَ إلى لقائه، فهل سمعت رسول الله يذكر شأنه? قال: نعم إني سمعت رسول الله (ص) يقول: «بينا موسى (ع) في ملأٍ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك? قال موسى: لا، فأوحى إلى موسى: بَلى عبدنا الخضر، فسأل موسى السبيلَ إلى لقائه، فجعل الله الحوت آية، وقال له: إذا افتقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت، في البحر فقال فتى موسى لموسى: {أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} وقال موسى: {ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً}، فوجدا الخضر، فكان من شأنهما ما قصّ الله في كتابه».(1)

أبيّ في كتب الرجال

سجل أبي بن كعب مكاناً متميزاً في كتب الرجال، كما هو في كتب التاريخ والتراجم.

رجال الطوسي

(أبي) بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، يكنى أبا المنذر، شهد العقبة مع السبعين، وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، شهد بدراً والعقبة الثانية وبايع لرسول الله (ص).


1- تاريخ الطبري1 : 221 _222 ؛ في قصة الخضر وموسى وفتاه يوشع ؛ فتح الباري 10: 24.

ص: 595

معجم رجال الحديث

قال الشيخ: «أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، من أصحاب رسول الله (ص) يكنى أبا المنذر، شهد العقبة مع السبعين، وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله (ص) بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، شهد بدراً والعقبة الثانية، وبايع لرسول الله (ص).

وذكره البرقي وقال: «عربي مدني من بني الخزرج».

وعده في آخر رجاله من الإثني عشر الذين أنكروا علي أبي بكر.

وذكره _ كذلك _ الصدوق في الخصال في أبواب الإثني عشر. (1)

وفي سير أعلام النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي (748ه) وأيضاً في أسد الغابة وفي الإصابة والاستيعاب ومستدرك الحاكم كما في غيرها:

أبي بن كعب بن قيس بن زيد بن معاوية بن عمر بن مالك بن النجار، سيد القراء، أبو المنذر الأنصاري شهد العقبة الثانية وبدراً، جمع القرآن في حياة النبي (ص) وعرض على النبي (ص) وكان رأساً في العلم والعمل؛ وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله عزّوجل.

وقال عنه الرسول (ص): (اقرأ أمتي أبي). (2)

وقال الألباني: صحيح. (3)

قال الواقدي: هو أول من كتب للنبي (ص) وأول من كتب في آخر الكتاب وكتب فلان بن فلان، توفي في سنة 22ه_ بالمدينة، وقيل: في خلافة عثمان سنة 30ه. (4)


1- معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي 1: 375.
2- الترمذي وابن ماجه.
3- أنظر: مشكاة المصابيح (6065).
4- أنظر: سير أعلام النبلاء 1: 389_402. وفي أسد الغابة 1: 61 _ 62. وفي الإصابة 1: 26_27. والاستيعاب، والمستدرك للحاكم وغيرها.

ص: 596

ولاؤه لأهل البيت:

مما كتب عنه يظهر أنه كان محباً لأهل بيت النبوة والرسالة، ومن أوائل الصحابة الذين تابعوا مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وناصروهم بالحجة والدليل، وصدحوا بحقهم أمام الآخرين.

ففي تعليقة البهبهاني على منهج المقال: في المجالس ما يظهر منه جلالته وإخلاصه لأهل البيت (عليهم السلام).

والظاهر أنّ مراده بالمجالس مجالس المؤمنين ففيها ما تعريبه: في الكامل البهائي أنّ أبي بن كعب قال: مررت عشية يوم السقيفة بحلقة الأنصار، فسألوني من أين أتيت؟ قلت: من عند أهل بيت رسول الله (ص)؛ فقالوا: على أي حال تركتهم؟ قلت: ما يكون حال قوم لم يزل بيتهم محط قدم جبرائيل ومنزل رسول الله (ص) إلى اليوم، وقد زال ذلك عنهم اليوم، وخرج حكمهم من أيديهم، ثم بكى أبيّ وبكى الحاضرون.

وفي الدرجات الرفيعة للسيد علي خان الشيرازي: وروي عن اُبيّ، وذكر مثله، وفي زيارته لأهل البيت في ذلك الوقت، واجتماعه معهم، وعدم اجتماعه مع الناس، وتوجعه لهم، أكبر دليل على إخلاصه في حبهم. وذكره في كتابه الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، وقال: من فضلاء الصحابة، شهد العقبة... إلى آخر عبارة الشيخ الطوسي في رجاله؛ ثم قال: كان يسمى سيد القراء.

والسيد المرتضى عدّه من الشيعة، وكذا المحقق السيد محسن الأعرجي في العدة.

وفي احتجاج الطبرسي عن أبان بن تغلب أنه قال لأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع): جعلت فداك، هل كان أحد في أصحاب رسول الله (ص) أنكر على الخليفة الأول فعله وجاوسه مجلس رسول الله (ص)؟

قال: نعم، كان الذي أنكر عليه اثنا عشر رجلاً من المهاجرين... ومن الأنصار... وأبي بن كعب.. فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم، فقال بعضهم: والله لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله (ص)؛ وقال آخرون منهم: والله لئن فعلتم ذلك فقد أعنتم على أنفسكم، قال الله عزّوجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.

ص: 597

فذهبوا إلى أميرالمؤمنين (ع) واستشاروه، فقال لهم في كلام طويل: وأيم الله، لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً، ولكنكم كالملح في الزاد، وكالكحل في العين، إلى أن قال: فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل، فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم؛ ليكون ذلك أوكد للحجة، وأبلغ للعذر، فساروا حتى أحدقوا بالمنبر يوم الجمعة.

فلما صعد المنبر، قال المهاجرون للأنصار: تقدموا وتكلموا، فقال الأنصار: بل تقدموا وتكلموا أنتم، فإنّ الله قدمكم في الكتاب، فأول من تكلم خالد بن سعيد بن العاص، ثم باقي المهاجرين من الأنصار. وروي أنهم كانوا غيّباً عن وفاة رسول الله (ص)... ثم قام أبي بن كعب فقال: يا فلان! لا تجحد حقاً جعله الله لغيرك، ولا تكن أول من عصى رسول الله (ص) في وصيه، وصدف عن أمره، وأردد الحق إلى أهله تسلم، ولا تتماد في غيك فتندم، وبادر الإنابة يخف وزرك، ولا تخص نفسك بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك، فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى ربك، فيسألك عما جنيت، وما ربك بظلام للعبيد.

وروى له في الاحتجاج أيضاً خطبة طويلة يحتج بها على القوم، ويذكر فضائل أميرالمؤمنين (ع) وأنه أحق بالخلافة. (1)

من روى عنه

بعد أن رَوى أبى بن كعب أحاديث عن رسول الله (ص) راح يروي عنه الجماعة من الصحابة والتابعين؛ ومن الذين رووا عنه:

أبو أيوب الأنصاري، وابن عباس، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبدالله بن الحارث بن نوفل، وعبدالرحمن بن أبي ليلى، وعبدالرحمن بن أبزى، وسعيد بن المسيب، وعمر بن الخطاب، ومسروق بن الأجدع، وزر بن حبيش الأسدي، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عمرو


1- أنظر: ما كتبه السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة، الجزء الأول: وعده في طبقات المفسرين من الشيعة، وفي الجزء السادس: 201 _ 210.

ص: 598

بن العاص، وسهل بن سعد، وعبادة بن الصامت، و أبو موسى، وسليمان بن صرد الخزاعي، وعطاء بن يسار، والمغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو الأسود الدؤلي، وأبو هريرة، وسهل بن سعد، كما روى عنه أولاده: الطفيل بن اُبيّ بن كعب، ومحمد، وعبدالله.

من مروياته

له العديد من الروايات، يروي بعضها بنفسه، وبعضها الآخر يشترك معه آخرون، ومنها:

عن عثمان وابن مسعود وأبي: أنّ رسول الله (ص) كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمهم القرآن والعمل جميعاً.

وعن أبي نفسه قال: قال لي رسول الله (ص): إني أمرت أن أقرأ عليك القرآن.

قال: قلت: يا رسول الله (ص) وسميت لك؟ قال: نعم.

وعنه: كان رسول الله (ص) إذا ذهب ربع الليل قام فقال: أيها الناس! أذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه.

وعنه: قال لي رسول الله (ص): ألا أعلمك مما علمني جبريل (ع)؟ قال: قلت: نعم، يا رسول الله! قال: قل أللهم اغفر لي خطاياي، وعمدي، وهزلي، وجدي، ولاتحرمني بركة ما أعطيتني، ولا تفتنّي فيما حرمتني.

وعنه، قال: قال رسول الله (ص): بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فلم يكن له في الآخرة من نصيب. (1)

زهده و ورعه و تقواه

عرف هذا الصحابي العالم الجليل بزهده وورعه وتقواه، فقد ورد عن جُندب بن عبد الله البجلي قال: أتيت المدينة ابتغاء العلم، فدخلت مسجد رسول الله (ص) فإذا الناس فيه حَلَقٌ


1- أنظر: مختصر تاريخ دمشق: 4 : 197 _ 205 ؛ حلية الأولياء 1 : 250 _ 256.

ص: 599

يتحدّثون، فجعلت أمض_ي الحَلَقَ حتى أتيتُ حلق_ةً فيها رجل شاحبٌ عليه ثوبان كأنّما ق_دم من سفر. فسمعته يقول: «هلك أصحاب العُق_دة ورب الكعب_ة، ولا آسى عليهم»... أحسبه قال: مراراً... فجلست إليه فتحدّث بما قُضيَ له ثم قام، فسألت عنه بعدما قام قلت: من هذا؟.

قالوا: هذا سيد المسلمين أبي بن كعب.

فتبعته حتى أتى منزله، فإذا هو رثُّ المنزل رثُّ الهيئة، فإذا هو رجل زاهد منقطعٌ يشبه أمره بعضه بعضاً...هذا في زهده.

قال أبي بن كعب: يا رسول الله (ص) إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك في

صلاتي؟

قال: ما شئت، وإن زدت فهو خيرٌ... قال: الرُّب_ع؟..... قال: ما شئ_ت، وإن زدت فهو خيرٌ.. قال: أجعلُ النص_ف؟.

قال: ما شئ_ت، وإن زدت فهو خيرٌ.

قال: الثلثي_ن؟

قال: ما شئ_ت، وإن زدت فهو خيرٌ.

قال: اجع_ل لك صلاتي كلّها؟

قال: إذاً تُكف_ى همَّك ويُغفَر ذنبُك.

وبعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى، ظل أبيّ على عهده في عبادته وقوة دينه، وكان دوماً يذكر المسلمين بأيام الرسول (ص) ويقول: لقد كنا مع الرسول (ص) ووجوهنا واحدة، فلما فارقنا اختلفت وجوهنا يميناً وشمالاً.

وعن الدنيا يتحدث ويقول: إنّ طعام ابن آدم، قد ضرب للدنيا مثلاً، فإن ملحه وقزحه فانظر إلى ماذا يصير؟

وحين اتسعت الدولة الإسلامية ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم، أرسل كلماته المنذرة: هلكوا ورب الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى عليهم، ولكن آسى على من يهلكون

ص: 600

من المسلمين.. وكان أكثر ما يخشاه هو أن يأتي على المسلمين يوم يصير بأس أبنائهم بينهم شديد.

وكان أبي بن كعب من ورعه وتقواه يبكي إذا ذكر الله تعالى، ويهتز كيانه حين يرتل آيات القرآن أو يسمعها، وكان إذا تلا أو سمع قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}،(1) يغشاه الهم والأسي.

وقد روي أنّ رجلاً من المسلمين، قال: يا رسول الله! أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا وما نلاقيها؟ قال: (كفارات)، فقال أبي ابن كعب: يا رسول الله! وإن قَلَّتْ؟ قال: «وإن شوكة فما فوقها».

فدعا أبي أن لا يفارقه الوَعْك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عمرة ولا جهاد، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فقال أبو سعيد الخدري: فما مس إنسان جسده إلا وجد حرَّه حتى مات. (2)

وقد كان اُبيّ مستجاب الدعوة، فيحكي ابن عباس أنّ عمر بن الخطاب قال لجمع من الصحابة: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا؛ فكان ابن عباس مع أبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فدعا أبي قائلاً: أللهم اصرف عنا أذاها، فلحق ابن عباس وأبي الناس، فوجدوا أنّ رحالهم ابتلت: فقال عمر: ما أصابكم؟ (أي: كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيَّاً قال: أللهم اصرف عنا أذاها، فقال عمر: فهلا دعوتم لنا معكم.

وقعة الجابية

شهد أب_ي بن كع_ب مع عم_ر بن الخطاب وقعة الجابي_ة، وقد خط_ب عم_ر بالجابية فقال: أيها الناس من كان يري_د أن يسأل عن القرآن فليأتِ اُب_يَّ بن كع_ب.


1- الأنعام: 65.
2- رواه أحمد وابن حبان.

ص: 601

وأبي هو الذي كتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس، حيث جاء عن أبي الحويرث، قال: كان يهود من بيت المقدس، وكانوا عشرين رأسهم يوسف بن نون، فأخذ لهم كتاب أمان، وصالح عمر بالجابية، وكتب كتاباً، ووضع عليهم الجزية، وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، أنتم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم ما لم تحدثوا أو تؤوا محدثاً، فمن أحدث منهم أو آوى محدثاً، فقد برئت منه ذمة الله، وإني بريء من معرة الجيش؛ شهد معاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن جراح، وكتب أبيّ بن كعب».(1)

أقواله و وصاياه

وكان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من الذين لا يطلبون من الدنيا عرضاً، فليس لها نصيب في قلوبهم، فعندما اتسعت بلاد المسلمين ورأى الناس يجاملون ولاتهم في غير حق قال:

هلكوا وربِّ الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى (أحزن عليهم) ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.

وقال: ما ترك أحد منكم لله شيئاً إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به وأخذه من حيث لا يعلم إلا آتاه ما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. وقال له رجل _ ذات يوم _: أوصني فقال له اُبيُّ: اتخذ كتاب الله إماماً، وارض به قاضياً وحكماً، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لايتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم.

قال رجل لأبي بن كعب: أوصني يا أبا المنذر، قال: لا تعترض فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحترس من صديقك، ولا تغبطن حياً إلا بما تغبطه به ميتاً، ولا تطلب حاجة إلى من لا يبالي ألا يقضيها لك.

وجاء رجل إلى أبيّ فقال: يا أبا المنذر! آية في كتاب الله قد غمتني؛ قال: أي آية؟ قال:


1- مختصر تاريخ دمشق 4 : 197.

ص: 602

{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال: ذاك العبد المؤمن ما أصابته من نكبة مصيبة فيصبر، فيلقى الله تعالى، فلا ذنب له.

وعنه أنه قال: المؤمن بين أربع؛ إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل. فهو يتقلب في خمسة من النور، وهو الذي يقول الله: {نُورٌ عَلى نُورٍ}.(1) كلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور يوم القيامة.

والكافر يتقلب في خمسة من الظلم؛ فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه في ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة. (2)

رافقته الحمى!

عاش أبو المنذر رضوان الله تعالى عليه حياته مريضاً بالحمى، وقد لازمته، لكنها لم تثنه عما يريد، فقد واصل حياته _ بعزم وهمة عالية قل نظيرها _ مجاهداً في ميادين النزاع دفاعاً عن الدين الذي آمن به بصدق وإخلاص؛ و متعلماً وعالماً ومعلماً في مدرسة القرآن الكريم، والصحبة النبوية المباركة.

كيف لا يكون كذلك، وقد أبكاه ما سمعه من رسول الله (ص) حين قال (ص) له: أمرت أن أقرئك القرآن.

فقال أبي له: أو ذكرت هناك؟

قال: نعم.

فبكى أبي، فلا أدري أشوق أم خوف.

وقال أبي: انطلقت إلى رسول الله (ص) فضرب بيده صدري.

ثم قال: أعيذك بالله من الشك والتكذيب.

قال: ففضت عرقاً، وكأني أنظر إلى ربي فرقاً!


1- النور: 35.
2- أنظر: حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني 1 : 252 _253.

ص: 603

كل هذا وغيره جعل أبيّاً متعالياً على مرضه وآلامه وأوجاعه، وأعظم ثباتاً في كدحه وجهاده، وجعله أكثرعزماً في خدمته للقرآن الكريم، الذي تميزت به حياته المباركة.

سأل أبيّ الرسول (ص) جزاء الحمَّى؟

قال: تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق.

فقال أبي: أللهم إني أسألك ح_مّى لا تمنعني خروج_اً في سبيلك، ولا خروج_اً إلى بيتك، ولا مسجد نبيك، فلم يمس أبي إلا وبه ح_مّى.

وعن عب_دالل_ه بن أبي نصير قال: عُدْنا أبي بن كع_ب في مرضه، فسمع المنادي

بالأذان فقال: (الإقامة هذه أو الأذان؟)... قلنا: (الإقام_ة)... فقال: (ما تنتظرون؟ ألا تنهضون إلى الصلاة؟)... فقلنا: (ما بنا إلا مكانك)... قال: (فلا تفعلوا قوموا، إنّ

رسول الله (ص) صلى بنا صلاة الفجر، فلمّا سلّم أقبل على القوم بوجهه فقال: (أشاهدٌ فلان؟ أشاهدٌ فلان؟).

حتى دعا بثلاثة كلهم في منازلهم لم يحضروا الصلاة فقال: إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْواً، واعلم أنّ صلاتك مع رجل ٍ أفضل من صلاتك وحدك، وإن صلاتك مع رجلين أفضل من صلاتك مع رجل، وما أكثرتم فهو أحب إلى الله، وإن الصفّ المقدم على مثل صف الملائكة، ولو يعلمون فضيلته لابتدروه، ألا وإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحدَه أربعاً وعشرين أو خمساً وعشرين.

قال الرسول (ص): «ما مِنْ شيءٍ يصيب المؤمن في جسده إلا كفَّر الله عنه به من الذنوب..». فقال أبي بن كعب: أللهم إنّي أسألك أن لا تزال الحُمّى مُضار ِعةً لجسدِ أبي بن كعب حتى يلقاك، لا يمنعه من صيام، ولا صلاة، ولا حجّ، ولا عُمرة، ولا جهاد في سبيلك، فارتكبته الحمى، فلما تفارقه حتى مات، وكان في ذلك يشهد الصلوات، ويصوم، ويحج، ويعتمر، ويغزو.

ص: 604

وفاته رضوان الله تعالى عليه

اختلف في سنة وفاته فقيل: في السنة التاسعة عشرة للهجرة النبوية الشريفة، وقيل: في سنة عشرين منها، وقيل: بعد ثلاث وعشرين سنة من الهجرة، وقيل: في سنة ثلاثين، وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: قبل مقتل الخليفة الثالث عثمان؛ وقيل: في زمن الخليفة عمر، وقيل: في زمن عثمان، ولعل الثاني هو الأصحّ، أي في سنة ثلاثين، وقد ارتضاه كل من الواقدي وابن سعد، وهو أثبت الأقاويل كما عبرا عنه.

ومن الدلائل عليه: خبر محمّد بن سيرين:

قال محمّد بن سيرين: إنّ عثمان بن عفان، جمع إثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم اُبي بن كعب، وزيد بن ثابت في جمع القرآن.

وقبله ابن الأثير صاحب أسد الغابة في معرفة الصحابة حيث قال: وقيل: سنة ثلاثين في خلافة عثمان، قال: وهو الصحيح؛ لأن زر بن حبيش لقيه في خلافة عثمان.

ولما مات قال ابن ضمرة: رأيت أهل المدينة يموجون في سككهم، فقلت: ما شأن هؤلاء؟

فقال بعضهم: ما أنت بأهل البلد؟

قلت: لا.

قال: فإنه قد مات اليوم سيد المسلمين، أبي بن كعب.

ويقول آخر وهو عُتيّ السع_ديّ: قدمت المدينة في ي_وم ريح ٍ وغُبْ_رةٍ، وإذا الناس يموج بعضهم في بع_ض.

فقلت: ما لي أرى الناس يموج بعضهم في بعض؟

فقال_وا: أما أن_ت من أهل هذا البل_د؟

قلت: لا.

قالوا: مات الي_وم سيد المسلمين، أبيّ بن كعب.

حقاً لقد كنت من أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه!

فسلام عليك _ أبا المنذر _ في الخالدين مع الأبرار والصالحين!

ص: 605

(25) أبو رافع، مولى رسول الله9

اشارة

محمد سليمان

تمهيد

إنّ هذا الصحابي الجليل سجل وجوداً متميزاً في مدرسة الصحبة المباركة لرسولالله (ص) وراح يستفيد منها بجد وإخلاص وتفان, إيماناً، و جهاداً، و علماً، ومعرفة وصدقاً, حتى غدا موضع رضا عند المسلمين, يتضح هذا من خلال اتفاق مذاهبهم على أنه من الثقات الذين تسمع رواياتهم وأقوالهم وعلومهم, وهذا لايعني أنّ المشتركات معدومة بين مذاهب المسلمين, وأنّ ما ذكرناه هو المشترك الوحيد بل هناك العديد من المشتركات, وهي كثيرة مما يسهم في تثبيت أواصر العلاقة الطيبة, وبالتالي إرساء الوحدة الإسلاميّة, ودعائم التقريب بينهم.

إنّ أبا رافع كما غيره من الصحابة كجابر الأنصاري, وأبي سعيد الخدري, وأبي بن كعب... يشكلون قواسم مشتركة بين المسلمين، فهم شخصيات حظي كل واحد منهم بصحبة مباركة في مدرسة رسول الله (ص) ورواة وثقوا من قبل مختلف الأطراف، وراح يعتمدهم علماء الرجال, والحديث, والفقهاء الأعلام من المسلمين جميعاً.

ص: 606

إنّ هذا الصحابي _ أبا رافع _ مع أنه اختلف في اسمه, أهوأسلم, وهوالأشهر, أم إبراهيم, وقيل: هرمز, أو ثابت, أو سنان, أويسار, أوقرمان, أوعبدالرحمن, أويزيد, فالأقوال في أسمائه عديدة كماوردت في كتب التاريخ والرجال, إلا أنّ كنيته <أبو رافع> يبدو أنها موضع اتفاق, وقد غلبت عليه في حياته, وفيما كتب عنه, أو فيما نقل عنه من آراء, وأقوال, وروايات, وأحاديث... علماً أنه كان من السابقين إلى الرواية, والتأليف, والتدوين, والعلم.

وقدآمن برسول الله (ص) وأسلم في مكة المكرمة, وقد كان من الصحابة المميزين لرسول الرحمة محمد (ص) ثم راح أبو رافع يشهد حروب النبي (ص) كلها إلا بدراً, لأنه كما في الخبر أنه آمن وأسلم قبل معركة بدر, وكتم إسلامه مع عم النبي (ص) العباس بن عبدالمطلب.

وفي خبر آخر أنه قدم بكتاب قريش إلى المدينة على رسول الله (ص) وأظهر إسلامه ليقيم بها, فرده رسول الله (ص) و قال: <إنا لا نحبس البرد ولا نخيس العهد>.(1)

فيما كان حاضراً في معركة أحد, وفي معركة الخندق, وما بعدهما من المشاهد.

قال رسول الله (ص) فيه:

خرج رسول الله (ص) إلى الناس فقال: يا أيها الناس من أحب أن ينظر إلى أميني على نفسي وأهلي, فهذا أبو رافع أميني على نفسي وأهلي.

وفيه قول القائل من قصيدة:

وحسبك من قوم ٍ كرام ٍ أصادق ٍ

أبو رافع القبطي منهم أسلم

وكان ممن أخبره النبي (ص) أنه يصيبه بعده فقر, ونهاه أن يكنز فضول المال, وأعلمه عقوبة من يحوز المال ويكثره.

عن الزهري، عن سليم مولى أبي رافع، عن أبي رافع مولى النبي (ص) قال النبي (ص): كيف بك يا أبا رافع! إذا افتقرت؟

قلت: أفلا أتقدم في ذلك؟

قال: بلى ما مالك؟


1- أنظر: حلية الأولياء 1 : 183_184.

ص: 607

قلت: أربعون ألفاً وهي لله عزّوجل.

قال: لا, أعط بعضاً وأمسك بعضاً, وأصلح إلى ولدك.

قال: قلت: أولهم علينا يا رسول الله حق كما لنا عليهم؟ قال: نعم, حق الولد على الوالد أن يعلّمه الكتاب.

وقال عثمان بن عبدالرحمن: كتاب الله عزّوجل, والرمي, والسباحة, زاد يزيد: وأن يورثه طيباً.

قال: ومتى يكون فقري؟

قال: بعدي.

قال أبوسليم: فلقد رأيته افتقر بعده، حتى كان يقعد فيقعد فيقول: من يتصدق على الشيخ الكبير الأعمى, من يتصدق على رجل أعلمه رسول الله (ص) أنه سيفتقر بعده، من يتصدق فإنّ يد الله هي العليا، ويد المعطي الوسطى، ويد السائل السفلى؟ ومن سأل عن ظهر غنى كان له شية يعرف بها يوم القيامة، ولا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى.

قال: فلقد رأيت رجلاً أعطاه أربعة دراهم، فرد منها درهماً، فقال: يا عبدالله لا ترد على صدقتي.

فقال: إنّ رسول الله (ص) نهاني أن أكنز فضول المال.

قال أبو سليم: فلقد رأيته بعد استغنى، حتى أتى له عاشر عشرة؛ وكان يقول: ليت أبارافع مات في فقره _ أو وهو فقير _ قال: ولم يكن يكاتب مملوكه إلا بثمنه الذي اشتراه به. (1)

حبه وولاؤه للإمام علي (ع)

لقد كان أبو رافع من الرواد الاوائل الذين وقفوا إلى جانب الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وهو ثابت العقيدة، ولم يفارقه، وظلّ من الذين لم يغيروا، ولم يبدلوا موقفهم


1- حلية الأولياء 1 : 184 _ 185.

ص: 608

القوي الواعي من إمامة علي (ع)، وحقه المشروع في إمامة الأمة على الأصعدة كافة.

وما أن بويع الإمام علي (ع) بالخلافة سنة 35 هجرية، وخرج من المدينة المنورة إلى العراق، توجه معه أبو رافع، وكان ملازماً إياه ملازمة الظل لصاحبه، وشهد مع الإمام (ع) أيضاً جميع مواقفه وحروبه، وعدّ من أبرار الشيعة وصالحيهم، وكان عمره يوم توجه إلى العراق خمساً وثمانين سنة؛ وعينه الإمام كاتباً له بالكوفة، كما كان صاحب بيت مال المسلمين بالكوفة والمسؤول عنه.

وكان ولداه علي وعبيد الله من أصفياء علي (ع) وكانا كاتبين أيضاً عنده.

وبعد استشهاد الإمام أميرالمؤمنين (ع) ذهب أبورافع مع الإمام الحسن (ع) إلى المدينة، ووضع الإمام الحسن المجتبى (ع) نصف بيت أبيه تحت تصرفه.

حقاً لقد كان أحد الصحابة الأبرار لرسول الله (ص) ومن مواليه المخلصين، وكان أيضاً من الوجوه البارزة في دائرة التابعين للإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فحظي من خلال ذلك بهاتين الصحبتين، مماجعله ذا منزلة كبيرة ومكانة عالية، وذكرطيّب واستقامة يمدح عليها الرجل.

لقد كان أبورافع قبطياً من مصر وكان في سني حياته الأولى غلاماً للعباس، عمّ النبي (ص).

وقيل وكما في تاريخ الطبري عند ذكره موالي رسول الله (ص) ويسميه رويفع، وهو أبورافع مولى رسول الله (ص) اسمه أسلم، وقال بعضهم: اسمه إبراهيم، واختلفوا في أمره، فقال بعضهم: كان للعباس بن عبدالمطلب، فوهبه لرسول الله (ص) فأعتقه رسول الله (ص).

وقال بعضهم: كان أبورافع لأبي أحيحة سعيد بن العاص الأكبر، فورثه بنوه، فأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم منه، وقتلوا يوم بدر جميعاً، وشهد أبورافع معهم بدراً، و وهب خالد بن سعيد نصيبه منه لرسول الله (ص) فأعتقه رسول الله (ص).

والمشهور أنّ العباس هو الذي وهبه للنبي (ص) ولمّا أسلم العباس، وبلغ أبورافع رسول الله (ص) وبشره بإسلام عمه العباس، أعتقه، وكان إسلام أبي رافع بمكة مع إسلام

ص: 609

أم الفضل، فكتموا إسلامهم فترة، وكان على ثقل النبي (ص) أي على متاعه، والثقل هو متاع المسافر كما في لسان العرب.

وزوجه مولاته سلمى، وشهدت سلمى خيبر، وولدت له عبيد الله بن أبي رافع.

وفي تاريخ الطبري: له ابنان وهما من موالي رسول الله (ص) وابنه البهي _ اسمه رافع، و أخو البهي عبيدة الله بن أبي رافع _ وكان يكتب لعلي بن أبي طالب (ع) فلما ولي عمرو بن سعيد المدينة دعا البهي، فقال: من مولاك؟فقال: رسول الله (ص) فضربه مأة سوط، وقال: مولى من أنت؟ قال: مولى رسول الله (ص) فضربه مأة سوط، فلم يزل يفعل به ذلك كلما سأله: مولى من أنت؟ قال: مولى رسول الله (ص) حتى ضربه خمسمأة سوط، ثم قال: مولى من أنت؟ قال: مولاكم؛ فلما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد، قال البهي بن أبي رافع:

صحت ولا شلت وضرت عدوها

يمين هراقت مهجة ابن سعيد

هوابن أبيالعاص مراراً وينتمي

إلى أسرة طابت له و جدود. (1)

وقد يكون له أولاد آخرون، كما عليه بعض المصادر في ذكر من روى عن أبي رافع.

هاجر الهجرتين

الأولى: مع جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، كما ذكر ذلك بعض علماء الرجال، إلا أني لم أجد فيما لدي من مصادر، كالسيرة النبوية لابن هشام، الذي ذكر أسماء المهاجرين إلى الحبشة، وكذا تاريخ الطبري.

والهجرة الثانية له: مع رسول الله (ص) إلى يثرب، المدينة المنورة فيما بعد.

وضحك النبي (ص)

ونحن نذكر سلمى، نشير إلى لطيفة أضحكت النبي (ص) كما جاء في رواية في صحيح مسلم: فعن عائشة قالت: أتت سلمة امرأة أبي رافع مولى رسول الله (ص) إلي رسول الله (ص)


1- تاريخ الطبري 2 : 216.

ص: 610

تستأذنه على أبي رافع قد ضربها، قالت: قال رسول الله (ص) لأبي رافع: مالك و لها يا أبا رافع؟ قال: تؤذيني يا رسول الله!

فقال رسول الله (ص):

لم آذيته يا سلمى؟

قالت: يا رسول الله ما آذيته بشيء، ولكنه أحدث وهو يصلي، فقلت له: يا أبا رافع إنّ رسول الله (ص) قد أمر المسلمين إذا أخرج من أحدهم الريح أن يتوضأ، فقام فضربني، فجعل رسول الله (ص) يضحك ويقول: «يا أبا رافع إنها لم تأمرك إلاّ بخير».(1)

نعم، قد يظن بعض الناس بمن يأمرهم بالخير، أنه شر يستوجب ردة فعل منهم.

معاناته

ومما ورد عن معاناته ونقلته كتب التاريخ وعلماء الرجال ما حدث له، ونحن نكتفي باللفظ الذي نقلته سيرة ابن هشام، عن ابن إسحاق:

وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال أبورافع، مولى رسول الله (ص): كنت غلاماً للعباس بن عبدالمطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل، و أسلمت و كان العباس يهاب قومه و يكره خلافهم و كان يكتم إسلامه، و كان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبولهب قد تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، و وجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.

قال: و كنت رجلاً ضعيفاً، و كنت أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، و عندي أم الفضل جالسة، و قد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبولهب يجر رجليه بشرٍّ حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري،


1- مسند أحمد بن حنبل 6 : 272.

ص: 611

فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبوسفيان ابن الحارث بن عبد المطلب _ قال ابن هشام: واسم أبي سفيان المغيرة _ قد قدم، قال: فقال أبولهب: هلم إلي فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي! أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلاّ أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً، على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء.

قال أبورافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبولهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة؛ قال: و شاورته فاحتملني، فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً، فقامت أمّ الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فعلت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما عاش إلاّ سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. (1)

أبو رافع وعلماء الرجال

أثنى عليه كثيراً علماء الرجال، و مدحوه، و ذكروا سيرته، وسيرة أبنائه، وما نقل عنه من أقوال رائعة، تدل على ولائه لرسول الله (ص) و لأهل البيت (عليهم السلام) وأنّ أبارافع بايع البيعتين، وصلى القبلتين، و هاجر ثلاث هجرات، و ما قاله رسولالله (ص) عنه.

وهنا أنا أكتفي بما ذكره السيد الخوئي؛ وهو يترجم لأبي رافع رضوان الله تعالى عليه، وينقل أقوال بعض علماء الرجال، فهذا النجاشي العالم الرجالي بعد أن عدّه من السلف الصالح قال:... أبورافع مولى رسول الله (ص) واسمه أسلم، كان للعباس بن عبدالمطلب، رحمه الله، فوهبه للنبي (ص) فلما بشر النبي بإسلام العباس أعتقه.

أخبرنا أبوالحسن أحمد بن محمد الجندي، قال: حدثنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحرث الوراق والحسين (الحسن) بن فهم، عن محمد بن سعد كاتب الواقدي، قال أبورافع: ألحمد لله


1- سيرة ابن هشام 2 : 646.

ص: 612

الذي أكمل لعلي منيته، و هنيئاً لعلي بتفضيل الله إياه، ثم التفت.. و ذكر هذا الحديث.

وأخبرنا محمد بن جعفر الأديب، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد في تاريخه، أنه يقال: إنّ اسم أبي رافع إبراهيم، وأسلم أبو رافع قديماً بمكة، وهاجر إلى المدينة، وشهد مع النبي (ص) مشاهده، ولزم أميرالمؤمنين (ع) من بعده، وكان من خيار الشيعة، وشهد معه حروبه، وكان صاحب بيت ماله بالكوفة، وابناه عبدالله وعلي، كاتبا أميرالمؤمنين (ع).

أخبرنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا أبوالحسين أحمد بن يوسف الجعفي، قال: حدثنا علي بن الحسين (الحسن) بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن عبدالله بن علي بن الحسين، قال: حدثنا إسماعيل بن الحكم الرافعي، عن عبدالله بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه عن أبي رافع، قال: دخلت على رسول الله (ص) وهو نائم أو يوحى اليه، وإذا حية في جانب البيت، فكرهت أن أقتلها فأوقظه، فاضطجعت بينه وبين الحية، حتى إذا كان منها سوء يكون إلي دونه، فاستيقظ وهو يتلو هذه الآية:

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

ثم فرآني إلى جانبه، فقال: ما أضجعك هاهنا يا أبا رافع؟ فأخبرته خبر الحية.

فقال: قم إليها فاقتلها، فقتلتها، ثم أخذ رسول الله (ص) بيدي، فقال: يا أبا رافع كيف أنت وقوماً (قوم) يقاتلون علياً، هو على الحق، و هم على الباطل، يكون في حق الله جهادهم، فمن لميستطع جهادهم فبقلبه، فمن لم يستطع فليس وراء ذلك شيء، فقلت: أدع لي إن أدركتهم أن يعينني الله، ويقويني على قتالهم، فقال: أللهم إن أدركهم فقوّه، وأعنه؛ ثم خرج إلى الناس، فقال: يا أيها الناس من أحب أن ينظر إلى أميني على نفسي وأهلي، فهذا أبورافع أميني على نفسي.

قال عون بن عبد (عبيد) الله بن أبي رافع: فلما بويع علي، وخالفه معاوية بالشام، وسار طلحة والزبير إلى البصرة، قال أبورافع: هذا قول رسول الله (ص) سيقاتل علياً قوم يكون

ص: 613

حقاً في الله جهادهم، فباع أرضه بخيبر وداره، ثم خرج مع علي (ع) وهو شيخ كبير له خمس وثمانون سنة، وقال: الحمد لله لقد أصبحت لا أجد بمنزلتي، لقد بايعت البيعتين: بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، وصلّيت القبلتين، وهاجرت الهجر الثلاث.

قلت: وما الهجر الثلاث؟ قال: هاجرت مع جعفر بن أبي طالب رحمه الله إلى أرض الحبشة، وهاجرت مع رسول الله (ص) إلى المدينة، وهذه الهجرة مع علي بن أبي طالب (ع) إلى الكوفة، فلم يزل مع علي حتى استشهد علي (ع).

فرجع أبورافع إلى المدينة مع الحسن (ع) ولا دار له بها ولا أرض، فقسم له الحسن (ع) دار علي (ع) بنصفين، وأعطاه سنح أرض أقطعه إياها، فباعها عبيدالله بن أبي رافع، من معاوية بمأة ألف وسبعين ألفاً.

وبهذا الإسناد عن عبيدالله بن أبي رافع في حديث أم كلثوم بنت أميرالمؤمنين (ع) إنها استعارت من أبي رافع حلياً من بيت المال بالكوفة.

ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا؛ أخبرنا محمد بن جعفر النحوي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا حفص بن محمد بن سعيد الأحمسي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري، قال: حدثنا علي بن القاسم الكندي، عن محمد بن عبيدالله بن أبيرافع، عن أبيه عن جده أبي رافع، عن علي بن أبي طالب (ع) إنه كان إذا صلى قال في أول الصلاة:... وذكر الكتاب إلى آخره باباً باباً، الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والقضايا.

وروى هذه النسخة من الكوفيين أيضاً، زيد بن محمد بن جعفر بن المبارك، يعرف بابن أبي إلياس، عن الحسين بن حكم الحبري، قال: حدثنا حسن بن حسين بإسناده، وذكر شيوخنا أنّ بين النسختين اختلافاً قليلاً، ورواية أبي العباس أتم.

ولابن أبي رافع كتاب آخر، وهو علي بن أبي رافع تابعي من خيار الشيعة، كانت له صحبة من أميرالمؤمنين (ع) وكان كاتباً له، وحفظ كثيراً، وجمع كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء، والصلاة، وسائر الأبواب.

ص: 614

أخبرني أبوالحسن التميمي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا علي بن القاسم البجلي قراءة عليه، قال: حدثني أبوالحسن علي بن إبراهيم بن المعلى البزاز، قال: حدثنا عمر بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين، قال: حدثني أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن عبيدالله بن أبي رافع، وكان كاتب أميرالمؤمنين (ع) أنه كان يقول: إذا توضأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده، وذكر الكتاب.

قال عمر بن محمد: وأخبرني موسى بن عبدالله بن الحسن، عن أبيه، أنه كتب هذا الكتاب عن عبيدالله (عبدالله) بن علي بن أبي رافع، وكان يعظمونه ويعلمونه.

قال أبو العباس بن سعيد: حدثنا عبدالله بن أحمد بن مستورد، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم النهدي، قال: سمعت موسى بن عبدالله بن الحسن، يقول: سأل أبي رجل عن التشهد، فقال: هات كتاب ابن أبي رافع، فأخرجه فأملاه علينا، وقد طرق عمر بن محمد هذا الكتاب إلى أميرالمؤمنين (ع).

أخبرنا أبوالحسن التميمي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا الحسن بنالقاسم، قال: حدثنا معلى، عن عمر بن محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن عبيدالله بن محمد بن عمر بن علي، قال: حدثني أبي، عن أبيه محمد، عن جده عمر بن علي بن أبي طالب عن أميرالمؤمنين (ع)؛ وذكر أبواب الكتاب.

قال ابن سعيد: حدثنا الحسن، عن معلى، عن أبي زكريا يحيى بن السالم (سالم)، عن أبي مريم، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن علي أميرالمؤمنين من ابتداء باب الصلاة في الكتاب، و ذكر خلافاً بين النسختين.

وقال العلامة: ثقة، شهد مع رسول الله (ص) ولزم أميرالمؤمنين بعده، وكان من خيار الشيعة.

وعده الشيخ في رجاله في أصحاب رسول الله (ص).(1)


1- أنظر: معجم رجال الحديث _ للسيد الخوئي 1 :52 ؛ وانظر رجال النجاشي وغيرهما.

ص: 615

آثاره العلمية ومروياته

تميز هذا الصحابي الجليل بعلميته وفضله، فقد حقق أسلم أبو إبراهيم القبطي مكاناً رائداً، وموقعاً علمياً كبيراً، واحتراماً واسعاً، حتى عدّ من خيار أصحاب رسول الله (ص) على مستوى العلم، فهو من أول من ألف كتاباً في الفقه الإسلامي، وهو كتاب كبير عنوانه: السُّنن والقضايا والأحكام، يشتمل علي الفقه، في أبوابه المختلفة، رواه جمع من المحدّثين الكبار، وفيهم ولده.

وله كتب اُخري، منها: كتاب أقضية أميرالمؤمنين (ع) وكتاب الديات، وغيرهما، ويعتقد بعض العلماء أنها قاطبة أبواب ذلك الكتاب الكبير، وفصوله، وهو أول من جمع الحديث النبوي الشريف.

وعن عبيد الله بن علي، عن جدته سلمى، قالت: رأيت عبد الله بن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئاً من فعل رسول الله (ص).

حقاً، إنّ صحابياً يكتب عنه حبر الأمة ابن عباس شيئاً من فعل رسول الله (ع) ولاسيما أنّ معه ألواحاً، قد أعدها للكتابة عنه، لهو رجل ذو نصيب وافر من المعرفة، والعلم، والفقه، والصدق، والأمانة.

ولقد روى أبورافع عن رسول الله (ع) وعلي (ع) وعبدالله بن مسعود، وروي عنه أولاده الحسن، ورافع، عبيد الله، والمعتمر، ويقال: المغيرة، وسلمى، وأحفاده، كالفضل بن عبيدالله، والحسن، وصالح، وعبيدالله، كما روى عنه علي بن الحسين (ع) وسليمان بن يسار، وعمر بن الشديد الثقفي، وأبو غطفان بن ظريف المري، وشرحبيل بن سعد، وأبوسعيد المقبري، وجماعة كثيرة، وروى عنه علي بن الحسين (ع) وكأنه شافهه.

و من مروياته

كان أبورافع ممن حظي بمقام كريم في عالم الرواية، وقد أخذ عنه العديد من الروايات، وكان منها:

ص: 616

1_ حديث المنزلة، وهو قول النبي (ص) لعلي (ع): «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى».

2_ حديث الغدير، وهو قول رسول الله (ص): «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا: بلى.

قال (ص): «ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟».

قالوا: بلى.

فأخذ بيد علي (ع) فقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، أللهم وال ِ من والاه و عادِ من عاداه»؛ وله ألفاظ أخرى، لكنها متقاربة.

أبورافع القبطي مولى رسول الله (ص) روى حديثه ابن عقدة في حديث الولاية، وأبوبكر الجعابي في نخبه، وعدّه الخوارزمي في مقتله ممن روى حديث الغدير من الصحابة. (1)

وعده الجزري الشافعي من رواة هذا الحديث. (2)

3_ حديث الثقلين؛ عدّ أبورافع من رواة هذه الأحاديث، وهي تحدد للأمة طريق نجاتها، ونجاحها، وفوزها، وسلامة طريقها إلى الله تعالى ورسوله (ص) وقد روى هذه الأحاديث العديد من الرواة، ونحن هنا نقتصر على رواية أبي رافع، وحديث الثقلين.

فعنه رضوان الله عليه، إنّ رسول الله (ص) قال: أيها الناس! إني تركت فيكم الثقلين: الثقل الأكبر، والثقل الأصغر، فأما الأكبر، هو حبل فبيد الله طرفه، والطرف الآخر بأيديكم، وهو كتاب الله، إن تمسكتم به لن تضلوا، ولن تذلوا أبداً، وأما الأصغر، فعترتي أهل بيتي، إنّ الله اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وسألت ذلك لهما فأعطاني، والله سائلكم كيف خلفتموني في كتاب الله وأهل بيتي.

وفي رواية أخرى عن أبي رافع مولى رسول الله (ص) قال: لما نزل رسول الله (ص)


1- أنظر: رواة حديث الغدير من الصحابة ، كتاب الغدير.
2- أسني المطالب: 4.

ص: 617

غدير خم، مصدره عن حجة الوداع، قام خطيباً بالناس بالهاجرة، فقال: أيها الناس إني تركت فيكم الثقلين: الثقل الأكبر، والثقل الأصغر، فأما الثقل الأكبر فبيد الله طرفه، والطرف الآخر بأيديكم، وهو كتاب الله إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً، وأما الثقل الأصغر فعترتي أهل بيتي، إنّ الله هو الخبير أخبرني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض. (أخرجه ابن عقدة).

قال أبورافع مولى رسول الله (ص): خرجنا مع علي (ع) حين بعثه رسول الله (ص) برايته إلى خيبر، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله، فقاتلهم فضربه يهودي فطرح ترسه من يده فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده، و هو يقاتل حتى فتح الله على يديه، ثم ألقاه من يده؛ فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه؛ وكان فتحها في صفر. (1)

ومن رواياته الأخرى: أنّ رسول الله (ص) بعث رجلاً من بني مخزوم على صدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا حتى آتي رسول الله (ص) فأسأله، فانطلق إلى النبي (ص) فسأله، فقال: الصدقة لا تحل لنا، وإنّ مولى القوم من أنفسهم.

قدم النبي (ص) خيبر، فأصاب الناس برد شديد، فقال النبي (ص): من كان له لحاف فليلحف من لا لحاف له؛ فطلبت من يلحفني فلم أجد أحداً، فأتيت النبي (ص) فأخبرته، فألقى علي من لحافه، فبتنا حتى أصبحنا، فوجد النبي (ص) عند رجليه على فراشه حية، قد تطوقت، فرماها النبي (ص) برجله، و قال: يا أبارافع، أقتلها، أقتلها.

وعن السرية التي أمر بإرسالها رسولالله (ص) إلى اليمن، وكانت بإمرة الإمامعلي (ع) يقول أبورافع: لما وجهه رسول الله (ص) قال: إمض و لا تلتفت! فقال علي (ع): يا رسول الله! كيف أصنع؟ قال (ص): «إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلاتقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً، فإن قتلوا منكم قتيلاً فلا تقاتلوهم، تلومهم حتي تراهم أناة؛ ثم تقول لهم: هل إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا: نعم، فقل: هل لكم أن


1- أنظر: سيرة ابن هشام، فتح خيبر؛ البداية و النهاية، لابن كثير 5 : 318 ؛ الكامل في التاريخ، ابن الأثير 2 : 15.

ص: 618

تصلوا؟ فإن قالوا: نعم، فقل: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردونها على فقرائكم؟ فإن قالوا: نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك؛ و الله لئن يهدي الله على يدك رجلاً واحداً، خير لك مما طلعت عليه الشمس، أو غربت. (1)

وعن بيع عقيل بن أبي طالب لمنزل رسول الله (ص) في مكة، يقول أبورافع: قيل للنبي (ص): ألا تنزل منزلك من الشعب؟

قال: فهل ترك لنا عقيل منزلاً؟

وكان عقيل قد باع منزل رسولالله (ص) ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل لرسولالله (ص) فأنزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك، فأبى رسول الله (ص) قال: لا أدخل البيوت، فلم يزل مضطرباً بالحجون، لم يدخل بيتاً، وكان يأتي إلى المسجد من الحجون. (2)

وفي رجال النجاشي عن أبي رافع: دخلت على رسول الله (ص) و هو نائم، أو يوحى إليه، و إذا حية في جانب البيت، فكرهت أن أقتلها فأوقظه، فاضطجعت بينه و بين الحية، حتى إن كان منها سوء يكون إليّ دونه، فاستيقظ و هو يتلو هذه الآية:

{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ}.(3)

ثمّ قال (ص): «ألحمد لله الذي أكمل لعلي مُنيته، و هنيئاً لعلي بتفضيل الله إيَّاه»؛ ثمّ التفت، فرآني إلى جانبه، فقال (ص): ما أضجَعَكَ هَاهُنا يا أبا رافع؟

فأخبرته خبر الحيّة، فقال (ص): قم إليها فاقتلها، فقتلتها، ثم أخذ رسول الله (ص) (بيدي فقال:) يا أبا رافع، كيف أنت وقوم يقاتلون عليّاً، هو على الحق، وهم على الباطل، يكون في حقِّ الله جهادهم، فمن لم يستطِع جهادهم فبقلبه، فمن لم يستطع فليس وراء ذلك شي ء؟ فقلت: اُدعُ لي إن أدركتهم أن يُعينني الله، ويُقوِّيني على قتالهم؛ فقال (ص): «أللَّهُم إن أدركهم


1- المغازي، للواقدي 3: 1079 و ما بعدها.
2- المصدر نفسه 2 : 829 .
3- المائدة: 55 .

ص: 619

فقوِّه وأعِنْه»؛ ثمَّ خرج إلى الناس، فقال (ص): «يَا أيُّها الناس، مَن أحبَّ أن ينظر إلى أميني على نَفسي وأهلي، فهذا أبورافع أميني على نفسي».

أمّ الفضل و أبيلهب

وكانت لأم الفضل وقعة شهيرة يوم بدر، يرويها أبورافع مولى رسولالله (ص) يقول: كنت غلاماً للعباس بن عبدالمطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان أبولهب _ عدو الله _ قد تخلف عن بدر، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، أذله الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.

وكنت رجلاً ضعيفاً أعمل القداح، أنحتها في حجرة زمزم، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاء من أنباء نصر الله للمسلمين، فجاء أبولهب ولم يصدق أنباء النصر، وجاء أبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، فقال أبولهب: إليّ يا بن أخي ما خبر الناس؟

فقال: ما هو إلا لقينا رجال، حتى منحناهم أكتافنا، ولقينا رجال على خيل بلق بين السماء والأرض.

فقلت: تلك الملائكة فلطمني أبولهب لطمة شديدة، وطفق يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فشجت رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما عاش إلاّ سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة فقتله.

أبولهب يموت كمداً!

وفي حديث أبي رافع مولى العباس بن عبدالمطلب، لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر، كبت الله أبا لهب و أخزاه، فقام يجرّ رجليه بشرٍّ حتى جلس، فبينما هو جالس، إذ قال الناس: هذا أبوسفيان بن الحارث بن عبد المطلب، قد قدم.

قال: فقال أبولهب: هلم إليَّ فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه والناس قيام، فقال:

ص: 620

يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضًا _ يلبسون البياض _ على خيل بلق بين السماء والأرض، لايقوم لها شيء، قال أبورافع: _ و كان الإسلام دخلنا و سرنا ذلك _ تلك والله الملائكة، فرفع أبولهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة، فقامت أم الفضل _ زوج العباس _ إلى عمود، فضربت به في رأس أبي لهب فشجته، وقالت: أستضعفته أن غاب سيده؟! فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة _ و هي قرحة تتشاءم منها العرب _ .

أخبرنا أبوالفرج يحيى بن محمود بن سعد الأصفهاني الثقفي إجازة، بإسناده عن أبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد، حدثنا هدبة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبدالرحمن بن أبي رافع، عن عمته سلمى، عن أبي رافع، أنّ رسول الله (ص) طاف على نسائه جمع، فاغتسل عند كل واحدة منهنّ غسلاً، فقلت: يا رسول الله (ص) لو جعلته غسلاً واحداً، قال: هذا أزكي وأطيب.

قال بكير بن الأشج: أخبرت أنه كان قبطياً؛ شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع، عن أبيه: أنّ النبي (ص) بعث رجلاً على الصدقة، فقال لأبي رافع: انطلق معي فنصيب منها، قلت: حتى أستأذن رسول الله (ص) فاستأذنته، فقال: يا أبا رافع، إنّ مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة.

قال سليمان بن يسار: قال أبورافع: لم يأمرني رسول الله (ص) أن أنزل الأبْطَحَ حين خرج من منى، ولكني جئت فنزلت، فجاء فنزل.

الذراع

قال الحافظ أبو يعلى: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا زيد بن الحباب، حدثني قائد مولى عبيدالله بن أبي رافع قال: أتيت رسول الله (ص) يوم الخندق بشاة في مكتل، فقال: يا أبا رافع

ص: 621

ناولني الذراع فناولته، ثم قال: يا أبا رافع! ناولني الذراع فناولته، ثم قال: يا أبا رافع! ناولني الذراع، فقلت: يا رسول الله ألشاة إلا ذراعان؟ فقال: لو سكت ساعة ناولتنيه ما سألتك فيه انقطاع من هذا الوجه.

وقال أبو يعلى أيضاً: ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا قايد مولى عبيدالله، حدثني عبيدالله، أنّ جدته سلمى أخبرته أنّ النبي (ص) بعث إلى أبي رافع بشاة، وذلك يوم الخندق فيما أعلم، فصلاها أبو رافع ليس معها خبز ثم انطلق بها، فلقيه النبي (ص) راجعاً من الخندق، فقال: يا أبا رافع! ضع الذي معك فوضعه، ثم قال: يا أبا رافع! ناولني الذراع فناولته، ثم قال: يا أبا رافع! ناولني الذراع فناولته، ثم قال: يا أبا رافع! ناولني الذراع، فقلت: يا رسول الله! هل للشاة غير ذراعين، فقال: لو سكت لناولتني ما سألتك.

وقد روي من طريق أبي هريرة، قال الإمام أحمد: ثنا الضحاك، ثنا ابن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة أن شاة طبخت، فقال رسول الله (ص): «أعطني الذراع فناولته إياه، فقال: أعطني الذراع فناولته إياه، ثم قال: أعطني الذراع فناولته إياه، ثم قال: أعطني الذراع، فقال: يا رسول الله! إنما للشاة ذراعان قال: أما إنك لو التمستها لوجدتها».(1)

أبو عبيدة، عن جابر، عن ابن عباس، عن أبي رافع مولى رسول الله (ص) [قال]: استسلف رسول الله (ص) بكراً فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً رباعياً خياراً، فقال: اقضه.

أنت أول من

وقال أبو رافع: «أتيت أبا ذر بالربذة أودعه، فلما أردت الانصراف قال لي ولأناس معي: ستكون فتنة، فاتقوا الله، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول له: أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق


1- البداية والنهاية 6 : 122.

ص: 622

الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، وأنت أخي ووزيري، وخير من أترك بعدي، تقضي ديني، وتنجز موعدي».

وهو المناسب لأحاديث أخر، مثل ما عن ابن عباس، قال: لما نزلت:

{إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ }

وضع (ص) يده على صدره فقال: «أنا المنذر، ولكل قوم هاد، وأومأ بيده إلى منكب علي (ع) فقال: أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون بعدي»، وغيره.

عن خيبر

وعن أبي رافع كما أخرج ابن إسحاق في المغازي وابن عساكر: أنّ علياً (ع) تناول باباً عن الحصن _ حصن خيبر _ فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل، حتى فتح الله علينا، ثم ألقاه، فلقد رأيتنا ثمانية نفر نجهد أن نقلب ذلك الباب، فما استطعنا أن نقلبه.

وعن المقريزي: أنّ ابن إسحاق أخرج في سيرته، وابن عساكر في تاريخه، عن أبي رافع مولى سيدنا رسول الله (ص): وأن سبعة لم يقلبوه.

وقال ابن هشام في السيرة: وألقى علي الباب وراء ظهره ثمانين شبراً، وفي رواية أنّ علياً لما انتهى إلى الحصن، اجتذب باب الحصن فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده سبعون رجلاً، حتى أعادوه إلى مكانه.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الإمام علياً (ع) نفسه، إنما يقول عن هذا الحادث: «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية، ولكن بقوة ربانية».(1)

إلا كان له من أمته

وفي المحلى عن أبي رافع مولى رسول الله (ص) أنّ عبدالله بن مسعود حدثه أنّ رسول الله (ص) قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون


1- تاريخ الخلفاء : 167؛ سيرة ابن هشام 3 : 251 ؛ ونهج البلاغة.

ص: 623

وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم يحدث من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الأيمان حبة خردل».(1)

استحباب التأذين

فعن أبي رافع أنه قال: رأيت رسول الله (ص) أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة.

رواه أبوداود والترمذي وقال حديث صحيح؛ وذكره الحاكم في مستدركه.

وفاته

وتوفي أبورافع رضوان الله عليه في خلافة عثمان ودفن في البقيع، وقيل: في خلافة علي (ع) وقيل: توفي بالكوفة سنة أربعين هجرية.

وقيل: إنه أوصى إلى الإمام علي (ع) فكان الإمام علي (ع) يزكي أموال بني أبي رافع وهم أيتام.

لقد توفي هذا الصحابي الجليل رضوان الله تعالى عليه بعد أن سجل اسمه مع {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } فرحمة الله تعالى عليه.

وهو {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً }.(2)


1- المحلى 9 : 361.
2- النساء : 69.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.