سبيل الهدي الي الحق

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي ، جعفر، ‫ 1308 -

عنوان و نام پديدآور : سبيل الهدي الي الحق/ جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر ‫ ، 1434 ق. ‫ = 1392.

مشخصات ظاهري : ‫ 211 ص. ‫؛21×11س م.

شابك : ‫ 38500ريال ‫ : ‫ 978-964-540-422-0

وضعيت فهرست نويسي : فاپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها

رده بندي كنگره : ‫ BP212/5 ‫ /س2س2 1392

رده بندي ديويي : ‫ 297/417

شماره كتابشناسي ملي : 3043166

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

كلمة المعهد

إنّ رسول الله (ص) قد أبلغ وحي السماء إلى مدّة 23 عاماً، وأدّى ما أمره الله عزّ وجلّ على أفضل وجهٍ، فهدى الناس إلى دين الحقّ وبيّن لهم تعاليمه ووضّح حقائقه خلال هذه المدّة بشكلٍ تدريجيٍّ. وفي الثامن عش-ر من شهر ذي الحجّة للسّنة العاشرة بعد الهجرة أكمل دين الله في غدير خُم قبل أن ينتقل إلى جوار ربّه، وذلك حينما صدع بولاية الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) ونصبه للمسلمين إماماً بأمرٍ من الله جلّ شأنه.

ونبيّنا الكريم (ص) قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى استودع المسلمين ثقلين عظيمين، هما كتاب الله وعترته أهل بيته (ع) ، وأمرهم بالتمسّك بهما ليهتدوا إلى سواء السبيل ويبلغوا درجة الكمال المنشود لينجوا من الضلال؛ فقال بصريح العبارة: (إِنِّي تاركٌ فيكُم الثَّقَلَينِ، كتابَ اللهِ وعترتي؛ ما إنْ تمسَّكتُم بهما لنْ تَضِّلوا بعدي) .

ولكن للأسف الشديد بعد رحلته صلوات الله عليه لم يعمل المسلمون بما أمرهم به وأعرضوا عن وصيّته، ففرّقوا بين القرآن والعترة لأسباب لا مجال إلى ذكرها هنا، وإثراً لذلك عانى المجتمع الإسلاميّ من مشاكل جمّة واتّسعت

ص: 6

رقعة الخلافات الطائفيّة، واستغلّ أعداءُ الدين جهلَ الناس وزرعوا الفِتن بينهم وروّجوا الشبهات العقائديّة فأوقعوا بين المسلمين ونهبوا ثروات البلاد الإسلاميّة، فساد الفقر والجهل بين أهلها.

وفي عصرنا الراهين وبعد مضيّ أكثر من ألف وأربعمائة عامٍ على بزوغ شمس الحقيقة في ربوع المعمورة، أعادت القوى الانتهازيّة والاستعماريّة العالميّة الكرّةَ تارةً أُخرى وصالوا في الميدان بنفس أُسلوب أسلافهم من أعداء الإسلام، فأراقوا دماء الرجال والنساء والأطفال الأبرياء وقطّعوهم إرباً إرباً دون رحمةٍ وبمنتهى القسوة في بعض البلدان الإسلاميّة، مثل العراق وأفغانستان، مستخدمين شتّى أنواع الأسلحة المدمّرة، راجين من ذلك الفوز بجنّة النعيم! وتارةً أُخرى عاد الخوارج إلى الميدان وتجسّدت من جديد جرائمهم التي ارتكبوها في عصر صدر الإسلام.

وبالطبع فإنّ العلماء والمفكّرين في هذه الظروف الصعبة يتحمّلون مسؤوليّةً خطيرةً، فمن ناحيةٍ يجب عليهم بيان الحقائق للناس، ومن ناحيةٍ أُخرى فهم مكلّفون بالتصدّي للشبهات المطروحة؛ إذ إنّهم من خلال ترويج المعارف الدينيّة سكونون قادرين على اجتثاث هكذا أفكار زائفة من مجتمعنا الإسلاميّ، وبالتالي سيحفظون كيان المجتمع الإسلامي من التفرقة والتشرذم.

الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ يحمل هكذا رسالة، وقد دوّنه الأُستاذ والفقيه والحكيم آية الله الشيخ جعفر السبحاني (حفظه الله) ، راجين من الله تعالى أن يحفظه ويُطيل عمره. فقد بيّن فيه معقتدات أتباع مذهب أهل البيت (ع) بإيجازٍ، ودحض الشبهات الواهية التي يتشبّث بها البعض

ص: 7

لتحريف هذه المعتقدات الصحيحة.

نسأل البارئ عزّ وجلّ أن يكون هذا النتاج نبراساً يهتدي به طلاب الحقّ والحقيقة.

إنّه وليّ التوفيق

معهد الحجّ والزيارة

قسم الكلام والمعارف

ص: 8

ص: 9

مقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد وآله الطاهرين.

لا يشك ذو مسكة أنّ المسلمين في هذا العصر بأمسّ الحاجة إلى توحيد الكلمة وتقريب الخطي من الأزمنة السابقة. إذ إنّنا نعيش في وقت عصيب تحالفت فيه قوى الكفر والاستعمار على محق الإسلام ومحاصرة المسلمين بمختلف الأساليب.

وهذا ما يدعو المسلمين إلى التآلف والتكاتف ونبذ عوامل التفرقة والتشتّت.

وقد حثّ سبحانه في العديد من الآيات على التآزر والتلاحم والاعتصام بحبل الله؛ قال تعالى: ( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (آل عمران: 1٠3) .

كما حذّر سبحانه من التفرّق والتشتّت مخاطباً نبيّه الكريم بقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (الانعام: 15٩) .

وانطلاقاً من هذه الآيات يجب على كلّ مثقف وكاتب مسلم أن يسلك في

ص: 10

محاضراته ومقالاته وكتاباته سبيل الوحدة، ويتحرّز عمّا يوجب العداء والبغضاء.

إنّ عناصر الوحدة - ولله الحمد - بين الشيعة وسائر الفرق الإسلامية كثيرة لا تحص-ى. ولذا يجدر بنا جميعاً التمسّك بالأُصول المتّفق عليها والإغماض عن عناصر الفرقة، غير أنّ هذا الإغماض لا يعني أبداً إيقاف البحث الموضوعي والدراسة المنطقية في هذه المجالات، فإنّ ممارستهما على ضوء الكتاب والسنّة والعقل وبأسلوب لا يخلّ بنظام الوحدة، أمر مهمٌ في تجلية الحقائق وتنمية الوعي لدى المسلمين.

وتحقيقاً لهذه الأهداف قمنا بتأليف هذا الكتاب على ضوء المصادر الصحيحة في المسائل الّتي اتّفق فيها المسلمون (كما في مباحث التوحيد والنبوة والمعاد) وما اختلفوا فيه من المسائل الفرعية العملية.

ومن يطالع هذا الكتاب يجد أنّ الغاية منه إنّما هي توضيح الحق وإبرازه، وإماطة اللثام عن وجه الحقيقة، دون أن يرافق ذلك هدف أو غاية أُخرى.

والله من وراء القصد

جعفر السبحاني

ص: 11

الفصل الأول: تأريخ نشأة التشيع وانتشاره

١- متى نشأ التشيّع؟

اشارة

السؤال: هناك نظريات عديدة قد طرحت حول نشأة التشيّع، نرجوأن تبيّنوا متى نشأ التشيّع؟

الجواب: العادة أن تطرح هذه الأسئلة حول النحل الكلامية والفرق المذهبية التي ظهرت بعد وفاة النبيّ (ص) ، فيقال مثلاً: متى وكيف نشأ المذهب الأشعري؟

فيقال في الجواب: إنّ المذهب الأشعريّ هو مذهبٌ كلاميٌّ، وقد أسّسه أبوالحسن الأشعريّ (1)في أوائل القرن الرابع الهجريّ.

يُذكر أنّ هذا المذهب قد نشأ مقابل مذهب المعتزلة الذي هو مذهبٌ كلاميٌّ أيضاً، حيث أسّسه واصل بن عطاء (2)تلميذ الحسن البصريّ (3)ففي مثل هكذا موارد، يمكن تعيين تأريخٍ محدّدٍ.


1- ابوالحسن الأشعريّ، تأريخ الولادة (26٠ه) ، تأريخ الوفاة (324ه) .
2- واصل بن عطاء، تأريخ الولادة (٨٠ه) ، تأريخ الوفاة (13٠ه) .
3- الحسن البصريّ، تأريخ الوفاة (11٠ه) . .

ص: 12

وكذا هو الحال بالنسبة الى المذاهب الفقهية.

فالمذهب الحنفيّ على سبيل المثال، قد أسّسه أبو حنيفة (1)، والمذهب الشافعيّ قد أسّسه محمدبن إدريس الشافعيّ (2)، وكذا هو الحال لسائر المذاهب الاسلاميّة، إذ لكلّ مذهبٍ تأريخ تأسيس محدّد، أمّا التشيّع فليس من المذاهب الكلاميّة أو الفقهيّة حتى يُقال إنّه نشأ بعد وفاة رسول الله (ص) .

تأريخ التشيّع في الواقع هو تأريخ الإسلام، والتشيّع في الحقيقة هو نفس الإسلام الذي جاء به رسول الله (ص) ومن أهمّ تعاليمه استمرار القيادة والإمامة عن طريق شخص يعيّنه الله تعالى ويُعرّفه رسول الله (ص) للأمّة. وهذا الأصل البنّاء هو الذي يضمن بقاء الإسلام، ويبيّن واقع التشيّع. وقددعا رسول الله (ص) أيام حياته إلى هذا الأصل فآمن به بعض الصحابة وأقرّوا به بعد وفاته.

وهؤلاء هم روّاد الشيعة في عص-ر النبيّ (ص) وبعد وفاته، ولكنّ بعض الصحابة لم يُذعنوا الى هذا الاصل بعد التحاق رسول الله (ص) بالرفيق الاعلى وأوكلوا قيادة الأمّة الى شخص آخر.

إذن، تأريخ ظهور التشيّع بهذا المعنى هو نفس تأريخ ظهور الاسلام، وتعاليمه هي نفس تعاليم الاسلام، والأصل الذي يعتمد عليه الشيعة في تعيين إمام المسلمين بعد رسول الله (ص) والذي يؤمنون به كأصلٍ أقرّه الله تعالى، هو في الحقيقة أصلٌ ثابت من الأصول الاسلاميّة التي جاء بها نبيّنا الكريم (ص) وصدع بها في حياته.


1- أبوحنيفة، تأريخ الولادة (٨٠ه) ، تأريخ الوفاة (15٠ه) .
2- محمّدبن إدريس الشافعي؛ تأريخ الولادة (15٠ه) ، تأريخ الوفاة (2٠4ه) . .

ص: 13

المنهج العقلاني في طريقة اختيار الخليفة

اشارة

قبل تصفّح كتب الحديث الش-ريف ومصادر التأريخ من الض-روريّ أن نتحدّث عن خلافة النبي (ص) من الناحية الاجتماعية وأن نتعرّف على الظروف التي كانت تحيط بالمنطقه أواخر حياته، وخلاصة الكلام هل عيّن الرسول (ص) شخصاً لولاية الأمر وإدارة شؤون الأمّة من بعده أم ترك الأمر للمهاجرين والأنصار والتحق بالرفيق الأعلى؟

وتكشف الاستقراءات الاجتماعية بوضوح أنّه (ص) عيّن شخصاً لولاية الأمر من بعده، وأنّه (ص) كان مقدَّماً بأمر الله (اختيار الله) على (اختيار الأمّة) ؛ لأنّ الأمّة الإسلامية كانت زمان رحيله (ص) مهدّدة من قبل ثلاثة تيارات معادية وقويّة، وهي المجوس عَبَدة النار من الشرق، والروم المسيحيون من الغرب، والطابور الخامس المتجسّد بحركة النفاق في صميم المجتمع الإسلامي، وكانت هذه حركة قويّة جدّاً ومتغلغلة في صميم المجتمع بشهادة الآيات القرآنية الكثيرة التي نزلت بشأن المنافقين في مختلف السور القرآنية.

فكانت مصلحة المجتمع الإسلامي أنذاك تقتض-ي - دون شكّ - أن يعيّن النبي (ص) شخصاً قويّاً، عالماً، واعياً، زاهداً، تقيّا لخلافة الأمّة من بعده، ويبذل غاية جهده للحفاظ على كيان الأُمّة الإسلاميّة ومواجهة التيّارات الخطيرة الثلاثة. ولا شكّ في أنّ غضّ الطرف من قبل النبي (ص) إزاء أمر الخلافة كان سيؤدّي إلى نشوء تيّار خطير آخر - إضافة إلى التيّارات الثلاثة - وهو تيّار الصراع بين المسلمين حول الخلافة، وقد يؤدّي هذا التيّار إلى نشوب حرب داخلية تقضي على المجتمع الإسلامي من الداخل. فهذه الحقائق التأريخيّة تكشف لنا ضرورة تقديم تدخّل الأمر الإلهي في تحديد من يتولّى الأمر بعد

ص: 14

الرسول (ص) على إيكال الأمر للناس ليختاروا الخليفة بأنفسهم في ظلّ تلك الظروف العسيرة.

وبعبارة أخرى، فإنّ الأمر لا يتعدّى نظريتي (النصّ) أي: اختيار الخليفة بواسطة النبي بأمر الله، و (الشورى) أي: إيكال الأمر إلى اختيار المهاجرين والأنصار. ونودّ هنا تسليط الضوء على موقف النبي (ص) في هذا المجال؛ لأنّ المسألة تتمحور حول ثلاث نظريّات، هي:

1. لم يتحدّث النبيّ (ص) قطُّ حول من يتولّى الأمر من بعده.

2. أعلن النبي (ص) موقفه من الخلافة من بعده، وأوكلها إلى الشورى.

3. اختار - بأمر من الله - شخصاً صالحاً لقيادة الأمّة الإسلاميّة ونصّبه لخلافته، وأخبر الناس بذلك.

أمّا النظريّة الأولى، فهي لا تنسجم مع كمال الدين واستمراره إلى يوم القيامة؛ لأنّ الاسلام دين اجتماعي ولا تقتص-ر تعاليمه على العبادات الشخصيّة والمناجات الفرديّة، بل هو أطروحة شاملة تُغني البشريّة من جميع النواحي، وتلبّى احتياجاتها إلى يوم القيامة، ولا يمكن القول: بأنّ من جاء بهذا الدين أهمل مسألة الحكم، وهي مسألة تضمن بقاء الدين ولم يكن له أيّ موقف في هذا المجال.

أمّا النظريّة الثانية، فهي نظريّة يمكن الإذعان بها إلى حدٍّ ما؛ لأنّها تكشف أنّ الرسول (ص) لم يهمل أمر الخلافة من بعده. ولكن هذه النظريّة تبقى مبتوره؛ لأنّ خلافة النبيّ (ص) لو كانت قائمة على الشورى، فكان يجدر برسول الله (ص) أن يبيّن ضوابطها وشروطها بدقّة، وأن يمارسها على الصعيد العمليّ خلال حياته ليتعلّم المسلمون كيفيّتها ولكي لا يتحيّروا أو يضلّوا بعد وفاته.

ص: 15

ولكن كتب الحديث والسيرة لم تبيّن نصّاً واحداً يكشف بأنّ نظام الحكومة في الإسلام هو نظام قائم على الشورى، بل حتّى الطريقة التي تمّ اتّباعها بعد الخليفة الأوّل لم تكن قائمة على الشورى، حيث قائمة على تعيين الخليفه اللاحق من قبل الخليفة السابق. والحكومة في الإسلام ليست أمراً بسيطاً ليتمّ تحديد إطارها بعبارة واحدة، وهي قوله تعالى: ( وأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38) ، بل الحكومة تشمل نطاقاً واسعاً من الأحكام والأمور التي تستدعي من الرسول (ص) بيان تفاصيلها وشروطها.

أمّا النظريّة الثالثة، فهي أرجح من النظريّتين الأولى والثانية، حيث يمكن اثبات صحّتها من أحاديث رسول الله (ص) وسيرته المباركة.

وبعد هذا التحليل الاجتماعيّ، سوف نتطرّق الى الجواب عن السؤال الذي طرحناه استناداً إلى الحديث والتأريخ.

١. الشيعة في أحاديث رسول الله (ص)

يعود تأريخ تسمية أتباع الإمام علي (ع) بالشيعة إلى زمان حياة رسول الله (ص) ، وهناك الكثير من الأحاديث التي تثبت هذه الحقيقة، وتبيّن بأنّ الرسول (ص) هو الذي أطلق هذا الإسم على أتباع الإمام علي (ع) ، وقد نقل المحدّثون والمفسّرون بأنّه عندما أنزل الله قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البيّنة: 7) التفت النبي (ص) إلى عليّ، وقال له:

«هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين» .

وقال (ص) في حديث آخر:

«أنت وشيعتك، موعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين»

ص: 16

والأحاديث التي تثبت نزول هذه الآية بشأن شيعة الإمام علي (ع) وتؤكّد على أن رسول الله (ص) هو الذي سمّاهم (شيعة) ، كثيرةٌ وقد رُويت في مختلف المصادر. (1)

إذن، الرسول (ص) هو الذي سمّى أتباع الإمام علي (ع) بالشيعة، وهذا الأمر بحدّ ذاته يعدّ مؤشراً على تعيين الخليفة بعد رسول الله (ص) .

٢. الإمامة في أحاديث الرسول (ص)
اشارة

لا شكّ في أنّ مقام الإمامة يختلف عن مقام النبوّة، فالنبيّ هوالذي يتلقّى الوحي وهو المؤسّس للدين، لكنّ الإمام لا يتلقّى الوحي ولا يعدّ موسّساً للدين، وانّما مهمّته بعد النبي (ص) هي أداء الوظائف التي كان النبي يقوم بها في مجال بيان الأحكام وتنفيذها. فالإمام هو المرجع لبيان الأحكام والعقائد الإسلامية وإدارة شؤون الأمة.

إنّ الأدلّة على خلافة الإمام علي (ع) بعد الرسول (ص) كثيرة جدّاً، ولكنّنا نكتفي في هذا المقام بثلاثة أدلّة، وهي: حديث (يوم الدار) الذي يعود تأريخه الى بداية الدعوة الإسلامية، وحديث (المنزلة) الذي يعود تأريخه الى مرحلة متقدّمة من الدعوة الاسلامية، وحديث (الغدير) الذي يعود تأريخه الى آخر أيّام حياة الرسول (ص) .

أ) حديث يوم الدار (الامامة قرينة النبوة)

حسب الأحاديث الشريفة نجد أنّ النبيّ (ص) عندما أعلن نبوّته في يوم الدار لبني هاشم، أعلن في نفس الوقت خلافة الإمام علي (ع) من بعده، وهذا


1- المصادر التي تشير إلى هذه الحقيقه كثيرةٌ، منها الدرالمنثور، ج 6، ص 5٨٩؛ الصواعق المحرقة، ص161؛ نهاية ابن اثير، ج 4، ص 1٠4؛ مناقب ابن المغازلي، ص 2٩3.

ص: 17

ما يكشف بأنّ النبوّة مقرونة تماماً بالإمامة وأنّهما منصبان من قبل الله تعالى. وقد رُويت قضيّة يوم الدار في المصادر التأريخية كما يلي:

بعد مضي ثلاث سنوات من بعثة الرسول ودعوته سرّاً، خاطبه الله تعالى بقوله: ( وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) ، فدعى الرسول (ص) أكثر من أربعين شخصاً من أقربائه وكانوا كلّهم من وجوه بني هاشم، وأعدّ لهم وليمة، فلمّا أنهوا تناولهم للطعام، قال لهم:

يا بني عبدالمطلب، إنّي - والله - ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يوازرني على هذا الأمر يكون أخي ووصيّي ووزيري فيكم؟

ثمّ أمهلهم الرسول ليجد من يوافق دعوته، فهيمن الصمت والاستغراب والحيرة على أهل المجلس وأطرق الجميع برؤوسهم إلى الأرض.

فكسر علي بن أبي طالب (ع) حاجز الصمت ونهض من مكانه وكان له من العمر أقل من 15 عاماً، وقال: «

أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه » ، ثمّ مدّ يده ليبايع الرسول (ص) ، فأمره الرسول بالجلوس، ثمّ كرّر (ص) دعوته ثانية، فلم يقم إلّا علي (ع) ، وفي هذه المرّة أيضاً أمره الرسول (ص) بالجلوس، وكرّر الرسول دعوته ثالثة، وفي هذه المرّة أيضاً أحجم القوم عن تلبية دعوته، ولم يقم إلّا علي ليعلن استعداده لمؤازرة النبي (ص) والدفاع عن أهدافه المقدّسة. فعند ذلك أخذ الرسول بيد علي (ع) قال مقولته المشهورة في مجلس كبار بني هاشم وهي قوله (ص) :

«إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا» . (1)


1- تاريخ الطبري، ج2، صص 31٩ - 321؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، صص 62 و63؛ السيرة الحلبيّة، ج71، ص 311؛ تاريخ ابن عساكر، ج1، ص 65؛ تفسير خازن، ج3، ص371، وغير ذلك من المصادر المتوفّرة. .

ص: 18

ويكشف هذا الحديث بوضوح بأنّ تأريخ التشيّع هو تأريخ الإسلام نفسُهُ، والنبوّة قُرنت بالإمامة من اليوم الأوّل لإعلان الدعوة الاسلاميّة.

والحقيقة أنّ هذه الحادثة هي ليست الموقف الوحيد الذي عيّن فيه الرسول (ص) وصيّه والخليفة من بعده للمسلمين، بل أكّد على هذا الأمر بعدها في العديد من المناسبات وسنشير إلى هذه الموارد بإيجاز.

ب) حديث المنزلة

حديث المنزلة هو أحد الأحاديث المعروفة التي رواها المحدّثون و أصحاب السير في كتبهم. وفحوى الحديث أنّ الرسول (ص) عندما خرج إلى غزوة تبوك لم يأخذ معه علي بن أبي طالب (ع) ؛ لأن الضرورة اقتضت بقاءه في المدينة من أجل التصدّي لفتنة المنافقين، ولكن الأعداء قاموا ببث الإشاعات وادّعوا وجود بعض الاختلافات بينه وبين رسول الله (ص) وأنها السبب الذي دعا رسول الله (ص) الى عدم اصطحابه لتبوك لذلك ذهب الإمام علي (ع) إلى الرسول (ص) وأخبره بما يقوله المنافقون، فأجابه:

كذبوا، ولكنّي خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى - يا علي - أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. (1)

ويكشف هذا الحديث بوضوح بأنّ الإمام علي (ع) يحظى بكلّ ما كان لهارون (ع) من منصبٍ وسلطةٍ باستثناء النبوّة، ومن أبرز هذه المناصب هي: الوزارة؛ لأنّ هارون كان وزيراً لموسى (ع) ، وذلك كما قال تعالى:


1- صحيح البخاري، ج6، ص 3؛ صحيح مسلم، ج7، ص 12٠؛ سنن ابن ماجه، ج 1، ص 55؛ سيرة ابن هشام، ج 2، صص 51٩ و52٠. .

ص: 19

(واجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي) (طه: 2٩ و 3٠)

واستثناء النبوّة في كلام الرسول (ص) يثبت امتلاك الامام علي (ع) جميع مناصب هارون (ع) ما عدى النبوّة. والخلافة التي ذكرت في هذا الحديث غير مختصّة بغزوة تبوك، بل حقيقة عامّة، وغزوة تبوك هي إحدى مصاديقها. وإذا كان المقصود من الحديث أن الإمام علي (ع) هو خليفة الرسول (ص) في هذه الغزوة فقط، لم يكن هناك أيّ داعٍ ليبيّن (ص) هذه القاعدة بصورة عامّة مع استثناء النبوّة.

ج) حديث الغدير

خلاصة قضيّة الغدير التي كانت في أواخر أيّام الرسالة، والتي أكّد فيها الرسول (ص) على خلافة الإمام علي (ع) من بعده، هي: توجّه الرسول (ص) في السنة العاشرة للهجرة إلى مكّة المكرّمة لأداء فريضة الحجّ وتعليم مناسكها للمسلمين، ورافقه في هذا السفر ما يقارب عشرة آلاف شخصٍ، وقد ألقى خطباً قيّمةً في عرفة ومنى.

وعندما انتهت مناسك الحجّ، ترك المسلمون مكّة المكرّمة عائدين إلى أوطانهم، ولمّا اقتربت القوافل من غدير يُدعى (غدير خم) نزل الوحي على الرسول (ص) وأمره بالتوقّف، فأنزل الله على الرسول (ص) : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة:67) .

وفي هذه الأثناء ارتفع صوت الأذان في تلك الصحراء، ثمّ ألقى الرسول (ص) خطبةً جاء فيها:

الحمد لله نستعينه ونؤمن به، ونتوكّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ، ولا مضلّ هدى، وأشهد أن لاإله إلّا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله أيّها الناس. . .

ص: 20

إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون. . . فمن كنت مولاه فعلي مولاه» .

قالها ثلث مرّات.

ثمّ قال:

اللّهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب.

ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزل أمين وحي الله بقوله:

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة: 3) .

وحديث الغدير من الأحاديث المتواترة، ويكفينا في ذلك أنّ رواة هذا الحديث عن رسول الله (ص) هم: 12٠ راوياً من الصحابة، وراوياً من التابعين. وقد رواه على مرّ 14 قرناً 36٠ شخصاً من علماء أهل السنّة.

وإذا أضفنا رواة وعلماء الشيعة إلى هؤلاء فسيبلغ الحديث الحدّ الأعلى من التواتر. (1)

نكتفى في هذا المقام بهذه الأحاديث الشريفة الثلاثة.


1- صحيح الترمذي، ج5، ص 2٩7؛ سنن ابن ماجه، ج 1، ص 45؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، ج3، ص11٠؛ مسند احمد بن حنبل، ج1، ص ٨٨ و ج2، ص672؛ الخصائص للنسائي، صص 5٠، ٩4، ٩5؛ المصنف لابن أبي شيبة، ج12، ص7٨؛ مشكاة المصابيح، ج3، ص246؛ الرياض النضرة لمحب الدين الطبري، ج 2، ص 16٩. و نحن نكتفى بهذا المقدار من ذكرِ المصادر، و كل من يرغب أن يطلّع على المزيد من هذه المصادر فبامكانه مراجعة الكتب المؤلّفة حول حديث الغدير، و نقترح في هذا المجال كتابي: الف: عبقات الأنوار، تأليف مير حامد حسين الهندي 13٠6ه. ب: الغدير، تأليف العلاّمة عبد الحسين الأميني 132٠-13٩٠ه. .

ص: 21

نشأة التشيّع في ظلّ وصايا النبي (ص)

وقد أدّت هذه الأحاديث وما شابهها إلى أن يلتف بعض الصحابة حول الإمام علي (ع) ، وأن يصبحوا من شيعته وأتباعه.

وكتب المحقّق المعروف محمّد كرد علي في كتابه (خطط الشام) مايلي:

عُرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عص-ر رسول الله (ص) مثل سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له.

ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: أمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة، ولما سئل عن الأربع، قال: «الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والحجّ» .

قيل: فما الواحدة التي تركوها؟

قال: «ولاية علي بن أبي طالب» .

قيل له: وإنّها لمفروضة معهن؟

قال: «نعم هي مفروضة معهنّ» .

ومثل أبي ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، وحُذيفة بن اليمان وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت، وأبي أيّوب الأنصاري، وخالد بن سعيد، وقيس بن سعد بن عبادة. (1)

الشيعة في عصر الرسالة

إنّ مصادر الحديث تزخر بالأحاديث التي أكّد فيها رسول الله (ص) مراراً على إمامة عليّ بن ابي طالب (ع) وخلافته له، وقد اكتفينا بذكر ثلاثةً منها


1- خطط الشام، ج 5، ص 251. .

ص: 22

فحسب. وهذه الأحاديث قد أدّت إلى ظهور التشيّع في بلاد المسلمين منذعهد الرسول (ص) . وآمن بعض الصحابة في عص-ر الرسالة بولاية الإمام علي (ع) وعُرفوا بشيعة عليٍّ، ثمّ تمسّك هؤلاء بما عاهدوا الله عليه بعد رحيل الرسول (ص) ، وحافظوا على بيعتهم للإمام علي والتي يعود تأريخها الى عهد رسول الله (ص) ، فأسّسوا نواة التشيّع في صدر الإسلام، وبالتدريج شقّ التشيّع طريقه وبدأ الشيعة ببيان المكانة الصحيحة للإمامة ووصاية الإمام علي (ع) بعد رسول الله (ص) .

فالتشيّع نشأ في الحجاز، وعندما نقل الإمام علي (ع) مقرّ خلافته إلى العراق بدأ التشيّع ينتشر أكثر فأكثر في مختلف أنحاء العالم.

٢- أقليّة أتباع مذهب أهل البيت (ع) وأكثريّة أتباع مذهب أهل السنّة

سؤال: إذا كان الشيعة أتباع مذهب الحقّ، فلماذا عددهم أقلّ من أتباع مذهب أهل السنّة؟

الجواب: الأكثرية ليست دليلاً على الحقّانيّة مطلقاً، كما أنّ الأقليّة أيضاً ليست دليلاً على عدَم ذلك، فالمؤمنون كانوا على مرّ التأريخ منذ زمان النبي نوح (ع) حتّى زمان خاتم الأنبياء (ص) أقليةً بالنسبة إلى غيرهم، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة في العديد من الآيات عند إشارته إلى دعوة الأنبياء للناس، فقال تعالى عن النبي نوح (ع) الذي لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً: (1)

(وما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (هود: 4٠) .

وقال تعالى في آية أخرى:


1- قال تعالى: ( َلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت: 14) . .

ص: 23

وقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (سبأ: 13) .

وقد حذّر الله تعالى الرسول (ص) من اتّباع الاكثريّة، فقال له:

(إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (الأنعام: 116) .

وخاطب تعالى أيضاً رسول (ص) قائلاً:

(وما أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوحَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف: 1٠3) .

ولوتأمّلنا في العالم، فإنّنا نجد أكبر دولة من ناحية عدد السكّان هي الصين حيث إنّ عدد سكّانها يقارب مليار وثلاثمائة مليون نسمة، بعدها الهند التي يقارب عدد سكّانها مليار نسمة، وأكثر هؤلاء غير مسلمين ومعظمهم يعبدون الأصنام. وإذا كان عدد المسلمين في العالم يقارب مليار وثلاثمائة مليون نسمة، فهو قليلٌ بالنسبة الى عدد سائر غير المسلمين من سكّان العالم البالغ عددهم ستّ مليارات نسمة.

وقد أشار الإمام علي (ع) إلى هذه الحقيقة في حرب الجمل، حيث سأله أحد الأشخاص: أترى أنّ طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على الباطل؟

فقال علي (ع) : «

يا حارث، أنت ملبوس عليك! إنّ الحقّ والباطل لايعرفان باقتدار الرجال، وبإعمال الظنّ، اعرف الحقّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله » . (1)

أضف إلى ذلك فإنّ الشيعة على الرغم من قلّة عددهم بالنسبة إلى عدد سكّان العالم، ولكنّه - في حدّ ذاته - كبير جدّاً؛ ولهذا نجد لهم حضورٌ فعّالٌ في أغلب أنحاء العالم. وأضافة إلى ايران والعراق وأذربيجان والبحرين ولبنان حيث يشكّل الشيعة الأكثريّة فيها، فإنّ الشيعة في جميع البلدان الاسلامية هم


1- بحارالأنوار، ج 22، ص 1٠5. .

ص: 24

أقليات عددها ملفت للنظر، ولهم مساجد ومؤسسات، ومدارس وبرامج ثقافيّة.

ومن الجدير بالذكر أنّ الشيعة كانوا يعرفون بحالة الرفض للسلطة السياسية الحاكمة؛ ولهذا أطلقت هذه السلطات عليهم لقب (الروافض) وذلك ليُبرّروا قمعهم واجتثاثهم. مثلاً نجد السلطان محمود الغزنوي بعد هيمنته على شرق خراسان بادر إلى قمع الشيعة والمعتزلة، فدمّر آثارهم العلميّة وأتلف مكتباتهم ليمحو أثر التشيّع والاعتزال. وكان يدعم باستمرار أهل الحديث والكراميّة، وكان يرى أنّ الشيعة والمعتزلة هم ألدّ أعدائه. (1)

كما أنّ صلاح الدين الأيوبي قام بإبادة الشيعة والقضاء عليهم، وسفك دماء الكثير منهم بعد خيانته للفاطميّين. (2)

وفي العهد العثماني إبّان حكومة السلطان سليم، أصدر أحد فقهاء الحنفية المعروف ب-(نوح) ، فتوى ذُبح على أثرها ٠٠٠/4٠ شيعي في تركيا. (3)

وخلال فترة حكومة الجزّار في لبنان، سفكت دماءالكثير من الشيعة في جبل عامل، وبادرت الحكومة إلى إبادة الشيعة، بحيث تمّ استخدام كتبهم بدل الحطب في أفران المخابز لفترة طويلة. (4)


1- أحد أبناء خراسان يُدعى: عبد الله بن كرّام، و كان يتظاهر بالزهد خدع الكثير من الناس و أدخلهم في مذهبه، و كان السلطان محمود من جملة أتباعه، فلمّا بلغ السلطة أطاح بالشيعة و أهل الكلام. مذكرات القزويني، الحواشي ج 7، ص 6٠، نقلاً عن لغت نامه دهخدا.
2- انظر: أعيان الشيعة، ج 3، ص 3٠؛ تاريخ الشيعة للمظفر، ص 1٩2.
3- انظر: البلاد العربية و الدولة العثمانية للحصري، ص 4٠؛ أعيان الشيعة، ج 1، صص 3٠ و31. و ذكر صاحب الأعيان عدد القتلى 7٠٠٠٠ بدل 4٠٠٠٠؛ الفصول المهمّة لشرف الدين العاملي، ص14٠.
4- انظر: دائرة المعارف اللبنانية لفواد البستاني، ترجمة إبراهيم يحيى. .

ص: 25

نظراً هذه الإبادات الجماعيّة للشيعة، يمكن القول بأنّ بقاء الشيعة في العالم كان معجزةً إلهيّةً.

والملفت للنظر أنّهم تمكّنوا على الرغم من الظروف الصعبة التي مرّوا بها أن يكوّنوا ثقافة رصينة وشاملة، ونبغ بينهم علماء بارزون في مختلف التخصّصات الإسلامية والعلمية، وإلى يومنا هذا (القرن الخامس عشر) بقي التشيّع في ظلّ العناية الإلهية محافظاً على الإسلام الأصيل المحمّديّ ونوره يسطع يوماً بعد آخر في جميع أرجاء العالم، فيهتدي به كلّ يوم المزيد من أبناء البشرية إلى الصراط المستقيم ليُطهّر التأريخ من حجب الجهل والتعصّب.

ص: 26

ص: 27

الفصل الثاني: عقائد الشيعة

١- منزلة أولياء الله وقدراتهم الغيبيّة

اشارة

سؤال: هل أنّ انبياء الله تعالى واولياءه قادرون على الإتيان بأفعال خارقة للعادة إضافة إلى قدراتهم الطبيعيّة؟

الجواب: إنّ نظام الكون هو نظام الأسباب والمسببّات، ونظام العِلل والمعلولات، وكلّ شخص قادر على القيام بفعلٍ ما، فهو يستمدّ قدرته من قدرة الله تعالى، وبمجرّد أن ينقطع هذا المدد، سوف يفقد كلّ إنسان قدرته، ويكون عاجزاً عن القيام بأيّ فعل.

لذا، إنْ صدرت من أولياء الله أعمال خارقة للعادة، فإنّهم لا يقومون بذلك إثر قدرتهم الذاتيّة، وإنّما يفعلون ذلك بإذن الله واستمداداً من قدرته الأزليّة، وإذا سلب الله القدرة منهم، فإنّهم سيفقدون القدرة على إنجاز أيّ فعل سواء كان فعلاً طبيعيّاً أم فعلاً خارقاً للعادة.

إنّ وليّ الله يمتلك قدرة القيام بالأفعال الخارقة للعادة نتيجة تكامله الروحي، فيصل من خلال عبادته وعمله بالتعاليم الإسلاميّة واجتياز

ص: 28

الصراط المستقيم إلى هذا المقام. (1)

والإنسان في ظلّ عبوديّته لله وإخلاصه في العبادة يصل الى درجة التكامل الذاتي الذي لا صلة له بالحياة الفرديّة والاجتماعيّة، وهذا التكامل خارج عن نطاق الجسم والمادّة، وكلّ من يسلك هذا الطريق يبلغ درجاتٍ يلمس آثارها في حياته الدنيا وفي حياته الأُخرى، ولكلّ ولي درجته حسب مستواه.

ما المقصود من مفهوم الكمال؟

عندما نقول: الله تعالى هو الكمال المطلق أو الكمال اللامتناهي، فالمقصود من هذا الكمال هو صفات الله الجماليّة نفسها، من قبيل العلم والقدرة، والحياة والإرادة. والعبد ينال الكمال بمقدار عبوديّته لله تعالى.

والمقصود من نيل الكمال هو نيل المزيد من العلم والقدرة، والتأثير في الإرادة والحياة الأبديّة. ومن هذا المنطلق تكون منزلة العبد أعلى من منزلة الملائكة نتيجة نيله المزيد من الكمال.

ودأب البشريّة الهيمنة على العالم والقيام بما يعجز الإنسان عنه في الحالة الطبيعيّة، ومثال ذلك نجد أنّ بعض المرتاضين يسلكون الطرق المحرّمة والمؤذية لأنفسهم لتقوية أرواحهم ومن أجل نيل المزيد من القوى الخارقة للعادة.

ولكنّ الطريق الصحيح الذي يصل من خلاله الإنسان إلى سعادة الدارين هو طريق العبوديّة والخضوع لله ربّ العالمين، والالتزام بطاعته تعالى. وهذا ما يوصل العبد إلى مقامات تمكّنه من نيل قدرة التصرّف في عالم


1- تنويه: يمكّن للإنسان القيام بالأفعال الخارقة للعادة عن طريق: الرياضة، ولكن هذا طريق محرّم من الناحية الشرعيّة. .

ص: 29

التكوين.

وقد أشار رسول الله في حديث إلى المنازل الرفيعة التي ينالها سالكو طريق الحقّ من خلال عبادتهم الله تعالى حيث ذكر (ص) حديثاً قدسيّاً جاء فيه:

وما تقرّب إليّ عبد بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبص-ره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويديه التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيتهُ. (1)

والتأمل في هذا الحديث القدسي يرشدنا إلى معرفة عظمة الكمال الذي يناله الإنسان من خلال أداء الفرائض والنوافل، وتزداد في هذه الحالة قدرة الإنسان الباطنيّة، بحيث يصل إلى مرحلة يكون فيها قادراً بإذن الله تعالى من سماع ما لا تسمعه الآذان في الأوضاع الطبيعيّة، ويرى ما لا تراه الأعين في الحالة الطبيعيّة، فيصل إلى كلّ مايبتغيه، ويصبح من أحباء الله وينصبّ عمله في دائرة مرضاة الله تعالى.

ولا شكّ في أنّ المقصود من الحديث الذي ذكرناه آنفا أنّه تعالى يوسّع بقدرته دائرة رؤية هذا العبد، ودائرة سمعه ويزيد من قدرته.

آثار العبوديّة والكمال النفساني

من آثار كمال النفس، قدرة التصرّف في العالم -بإذن الله- وبيان ذلك أنّ الإنسان يغدو في ظلّ قدرته التي يكتسبها من التقرّب الى الله تعالى قادراً على التصرّف في العالم بإرادته كما يتصرّف في سلوكه وأفعاله الاختياريّة، ومن هنا


1- الكافي، ج 2، ص 352. .

ص: 30

يمتلك هذا العبد القدرة على القيام بالأعمال الخارقة للعادة؛ أي أنّه يمتلك قدرة التصرّف في عالم التكوين.

القرآن وكرامات الأولياء

اشارة

بيّن القرآن الكريم بعض الكرامات لأنبياء الله تعالى، وهي كرامات تمكّنوا عن طريقها من التصرّف بعالم التكوين بإذن الله عزّوجلّ ونتيجةً لكمالهم الفنسيّ وسنُشير فيمايلي إلى بعض هذه الكرامات بصورة موجزة:

١. تصرّف النبي يوسف (ع) في إعادة بصر أبيه

بكى النبي يعقوب (ع) طيلة سنوات إثر مفارقته ولده يوسف (ع) ، ففقد بسبب هذا البكاء بصره. وبعد سنوات أرسل يوسف (ع) مبعوثاً إلى كنعان ليُلقي رداءه على وجه أبيه يعقوب (ع) ليرتدّ بصيراً: ( فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) (يوسف: (ص)6) .

ولا شكّ في أنّ المؤثّر الحقيقي في هذا المقام هو الله تعالى، لكنّه تعالى جعل إرادة يوسف سبباً لارتداد بصر أبيه، ومكّن النبي يوسف من تحقيق إرادته متى ما شاء.

وتمكّن يوسف من إعادة البصر لأبيه عن طريق سبب بسيط، وهو إلقاء الرداء على وجهه. ونستوحي من ذلك أنّ معجزات وكرامات الأنبياء تتحقّق عبر أمور بسيطه؛ لئلّا يتصوّر الناس بأنّ الأنبياء تصدر منهم المعاجز بتوسيط الأمور العلميّة.

٢. إظهار أعوان سليمان لقدراتهم الفائقة

لا يخفى على أحد بأنّ النبي سليمان (ع) استدعى ملكة سبأ، فقال لمن

ص: 31

حوله في مجلسه قبل وصول ملكة سبأ إليه:

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (النمل:3٨و3) .

و قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ، وهو حسب قول المفسّرين آصف بن برخيا وزير سليمان وابن أخته:

(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) (النمل: 4٠) .

ينبغي علينا التأمّل في مضامين هذه الآيات بحثاً عن السبب الذي مكّن هؤلاء من القيام بهذا الأمر الخارق للعادة، وهو جلب عرش بلقيس الذي يبعُد مسافات إلى مجلس سليمان. فهل أنّ الله تعالى كان هو السبب المباشر لإنجاز هذا الأمر الخارق للعادة؟ وهل هو الذي أحدث هذه الطفرة في الطبيعة وأن العفريت من الجنّ وآصف بن برخيا، مجرّد مظاهر ليس لها أيّ تاثير في هذا المجال؟

أو أنّ سبب هذا الأمر والتأثير يعود إلى الشخص نفسه، كما تنجز الخلائق أفعالها بتأثير منها ولكن باذن الله وبالقدرة التي مكّنها الله منها؟

والفرق بين الذين يقومون بالأمور الخارقة للعادة عن غيرهم أنّهم يمتلكون قدرةً أكثر من غيرهم نتيجة قربهم إلى الله تعالى وأنّهم يقومون بهذه الأمور الخارقة للعادة بإرادتهم، كما يقوم سائر الناس بالافعال الارادية بمحض إرادتهم. ويبدوأنّ الآيات الثلاثة التي مرّ ذكرها تؤيّد الرأي الثاني، ودليل ذلك:

أوّلاً : النبي سليمان (ع) طلب من أتباعه القيام بهذا العمل، وهم كانوا

ص: 32

قادرين على ذلك.

ثانياً : الذي قال بأنّه يجلب عرش الملكة بلقيس قبل أن يقوم سليمان من مقامه، قال بعدها: ( وإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ، فإذا لم تكن إرادة الشخص هي المؤثّرة في أداء هذا العمل، ما كان له أن يقول هذه العبارة.

ثالثاً : قال آصف بن برخيا: ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ، فنسب هذا العمل الخارق للعادة إلى نفسه بقوله: ( أَنَا آتِيكَ بِهِ) .

إذن، بيّن القرآن الكريم مسألة صدور الأمور الخارقةللعادة في هذه الآيات، وأكّد على أنّ إرادة أولياء الله تعالى لها تأثير مباشر على صدور الأمور الخارقة للعادة، وغيرها من المعاجز والكرامات.

رابعاً: بيّن الله سبحانه وتعالى أنّ سبب قدرة آصف بن برخيا على القيام بالعمل الخارق للعادة هو العلم الذي لايتمكن أيّ إنسانٍ من اكتسابه، بل يختصّ به المقرّبون من عباد الله، ولا يكتسبه العبد إلّا بمقدار قربه من الله تعالى.

٣. النبي سليمان (ع) وقدراته الفائقة

صرّح القرآن الكريم بأنّ الريح كانت تجرى بأمر سليمان، وبما أنّ الريح جزء من نظام الكون؛ فعندما بأمر سليمان يكون ذلك دليلاً على تأثير إرادة سليمان في التصرّف في الكون.

قال تعالى: ( ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) (الأنبياء:٨1) .

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تبيّن بص-راحة أنّ جَرَيان الريح وتحديد مسارها كان معلولاً لأمر سليمان وإرادته النافذة، وهذا ما يشير إليه بوضوح

ص: 33

قوله تعالى: ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ) .

ونقرأ في آية أخرى:

(ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورَواحُها شَهْرٌ) (سبأ: 12) .

وهذا يدلّ على قدرة سليمان بأن يجتاز خلال يوم واحد، ما تجتازه الدوابّ أنذاك خلال شهرين، ولا يخفى أنّ الله تعالى سخّر الريح له، ولكن عبارة: ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ) ، تكشف بوضوح تأثير أمر سليمان وإرادته في استثمار هذه الظاهرة الطبيعيّة من قبيل تعيين زمان حركة الريح واتّجاهها وزمان توقّفها.

ويستفاد أيضاً من الآيات المرتبطة بالنبي سليمان (ع) بأنّ الله تعالى مكّنه من السيطرة على الكثير من الظواهر الطبيعة المتمرّدة وسخّرها له، فكان (ع) يسيّرها كما يشاء بإذن الله، منها ما جاء في قوله تعالى: ( وأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) (سباء: 12) .

والمقصود من (عين القطر) هنا (النحاس) الذي هو من المعادن الصّلبة، لكنّ الله تعالى جعله ليّناً له كي يصنع منه ما يشاء.

ومنها تعامله (ع) مع الجنّ، وهي كائنات لا ترى بالعين الطبيعيّة، فمكّنه الله من السيطرة عليهم وتوظيفهم كيفما يشاء.

قال تعالى: ( ومِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ . . . * يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ. . . .) (سبأ: 12و13) .

ويفهم من الآيات المذكورة أنّ قدرة سليمان على تسخير الريح كانت كقدرته على تسخير الظواهر الطبيعيّة الأخرى، وإذن الله في هذا المجال لايعنى تدخّل إرادة الله فقط في تحقّق هذا الأمر، بل إنّ الله عزّ وجلّ جعل لإرادة النبي سليمان الدور في تسخير هذه الظواهر. وكان سليمان بإرادته يجرى الرياح، وبإرادته يسيل القطر، وبإرادته يُسخّر الجنّ؛ ولكنّ هذا كلّه

ص: 34

كان في ظلّ إذن الله عزّ وجلّ.

وجميع هذه التصرّفات دليل على الولاية التكوينيّة، وفحوى هذه الولاية أنّ قرب النبي من الله تعالى يمنحه منزلة، بحيث تكون جميع الأمور الطبيعيّة، وحتى الكائنات غير المرئية -مثل الجن - تحت أمره وسيطرته بإذن الله تعالى.

4. أفعال المسيح الخارقة للعادة

نسب القرآن الكريم بعض التصرّفات الخارقة للعادة للسيّد المسيح (ع) ، وأشار إلى أنّ جميع هذه التصرّفات ناشئة من القوّة الباطنيّة للسيّد المسيح وإرادته المباشرة، فقال تعالى على لسان حاله:

(. . . أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ. . .) (آل عمران:4٩) .

وفي الآيات التالية نسب السيّد المسيح لنفسه القدرة على القيام بالأعمال التاليّة:

1- خلق هيئة الطير من الطين.

2- النفخ في الهيئة المخلوقة من الطين فتكون طيراً حيّاً.

3- إبراء الأكمة.

4- إبراء الأبرص.

5- إحياء الموتى.

وينسب السيّد المسيح هذه الأفعال إلى نفسه، ويرى أنّه الفاعل لها، لا أنّه يطلب من الله فيستجيب الله دعاءه ويقوم الله بهذه الأمور، بل إنّ السيّد المسيح هو الذي يقوم بهذه الأمور، ولكن بإذن الله؛ ولهذا يقول: إنّي أخلق. . . أنفخ. . . أبرئ. . . أحيي. . . بإذن الله.

ص: 35

ويا تُرى هل هذا الإذن لفظي؟

الجواب: لا شكّ في هذا الإذن ليس لفظياً، بل هو إذنٌ باطنيٌّ أي: أنّه تعالى يمنح عبده من الكمال والقوّة بحيث يمتلك القدرة على إنجاز أمور خارقة للعادة.

والشاهد على ذلك أنّ البشريّة كافة تحتاج في تحقّق جميع أمورها إلى إذن الله تعالى، ولا يمكنها القيام بأيّ تص-رّف إلّا في رحاب هذا الإذن، وإذن الله عبارة عن أنّه تعالى يمكّن الفاعل من القيام بأمور خارقة للعادة بقدرته ورحمة.

وإذا كان السيّد المسيح في هذه الآية ينسب هذه الأفعال الخارقة للعادة إلى نفسه، فإنّ الله تعالى أيضاً ينسبها إليه في آية أخرى، حيث قال:

(وإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (المائدة: 11٠) .

ويرجى المزيد من التأمل في مضمون هذه الآية؛ ليّتضح من هو الفاعل لهذه الأمور.

فالله عزّوجلّ لم يقل: أنا أخلق، أنا أبرىء، أو أنا أخرج الموتى، بل قال تعالى: ( إِذْ تَخْلُقُ) ، ( وتُبْرِئُ) و ( إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) ، أي: أنت أيّها المسيح تخلق وتبرىء وتُخرج الموتى، وهل هناك تصريحٌ أفصح من هذا الكلام؟ !

ولكن مع ذلك، فالقرآن الكريم يصرّح بعدم استقلال الإنسان في القيام بأعماله، ويؤكّد على بطلان عقائد المعتزلة والثنويّة الذين يزعمون أنّ الإنسان لا يحتاج في أفعاله إلى الله، ويقولون إنّه يقوم بأفعاله وتصرّفاته بنحو مستقلٍّ ولا حاجة له إلى الله؛ ولهذا نجد السيّد المسيح يقيّد جميع أفعاله بإذن الله، ويراعي في هذا المقام التوحيد في الأفعال.

ص: 36

الولاية التكوينيّة ومسألة الغلوّ

يتصوّر البعض بأنّ الاعتقاد بالولاية التكوينيّة سببٌ للغلوّ في مقام الأنبياء والأوصياء؛ ولكن هذه العقيدة لا صلة لها بالغلو أبداً.

المغالي هو من يدّعي أنّ لعباد الله مقاماً أرفع من مقام العبوديّة، وينسب إليهم صفات الله تعالى وأفعاله؛ فيقول مثلاً إنّ تدبير نظام الخلقة بأيديهم، كما لو ادّعى شخصٌ أن الإمام هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت، أي له اختيارٌ مطلقٌ في ذلك. فهذا هو الغلوّ الذي يستتبع الكفر بالله عزّ وجلّ.

فالواقع أنّ الغلو يعني الاعتقاد بألُوهيّة غير الله تعالى أو الاعتقاد بأن عباده هم مبدأ أفعاله. (1)

وهذا ما لا نجده في الاعتقاد بالولاية التكوينيّة لبعض العباد، فمن يمتلك الولاية التكوينيّة لا يكون إلهاً عن طريق امتلاكه لهذه الولاية، بل يبقى عبداً لله تعالى، وإنّما يكون ممّن مكّنه الله للقيام ببعض الت-صرّفات الخارقة للعادة بإذنه. ومن يمتلك الولاية التكوينيّة لا نعتقد بأنّه يقوم بهذه الأفعال على نحوالاستقلال، وإنّما يقوم بها بإذن الله.

فمن يعتقد بولايتهم التكوينيّة لا يعتقد أنّهم آلهة ولا يعتقد أنّهم يعملون بهذه الولاية على نحوالاستقلال ومن دون إذن الله، بل يؤمن بأنّهم عباد مكرّمون تمكّنوا في ظلّ تقرّبهم إلى الله أن ينالوا منه القدرة التي تتيح لهم -بإذن الله - التصرّف في الكون من أجل الإرشاد والإصلاح.

وبين الاعتقاد بالولاية التكوينيّة لبعض العباد بإذن الله وبين الغلوّ بون


1- أفعال الله تعالى تعني أنه مستقلٌّ في فعلها ولا يحتاج إلى غيره في القيام بها، سواءٌ أكان هذا الفعل طبيعيّاً أم خارقاً للعادة. .

ص: 37

شاسع ومسافة كبيرة ولا يوجد أيّ تشابه بينهما؛ وإذا مكّن الله أحد عباده من القيام ببعض التصرّفات الخارقة للعادة من أجل إرشاد الناس، فهذا لا يعنى أنّه تعالى فَقَدَ شيئاً من قدرته، أو أنّ ذلك العبد خطا خطوة تجاوز فيها مقام العبوديّة.

وما يمتلكه الإنسان الكامل من الله يشبه ما يمتلكه الابن من أبيه، حينما يعمل في متجره، أو كالوكيل الذي يعمل برأس مال موكله.

وقدرة الإنسان الذي يمكّنه الله من الولاية التكوينيّة هي من الله، ولايقوم صاحب هذه الولاية بأيّ فعلٍ إلّا بإذن الله.

فأين يكون الشرك في هذا المقام؟ !

وهل فيه ماينا في التوحيد؟ !

بل هذا عين التوحيد. ألم يمكّن الله الملائكة من إنزال العذاب على بعض الأُمم؟ !

فهل الاعتقاد بتمكّن الملائكة من إنزال هذا العذاب يستلزم الش-رك بالله تعالى؟ !

إذن، إذا مكّن الله أحد عباده من الولاية التكوينيّة، فإنّ هذا التمكين لايوجب أبداً شيئاً من النقص لله عزّ وجلّ، ولا يوجب قَطُّ خروج الله تعالى من سلطانه، فلا توجد أيّة صلة بين الاعتقاد بهذا التمكين الذي هو من الله عزّ وجلّ وبين الشرك أبداً.

٢- التوسّل بأولياء الله

اشارة

هل أنّ التوسّل بأولياء الله جائزٌ؟ وهل هناك ما يؤيّده في الكتاب والسنّة؟

للإجابة على ما ذكر نقول: إنّ التوسّل بأولياء الله يعدّ نوعاً من أنواع

ص: 38

التمسك بالوسيلة التي دعا إليها القرآن الكريم، وقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يبتغوا إليه الوسيلة، فقال تعالى:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 35) .

والجدير بالاهتمام في هذا المقام هو معرفة المقصود من ابتغاء الوسيلة، وكلّ من يتدبّر في هذه الآية، فإنّه يجد بأنّ المقصود هو البحث عن الأسباب التي تقرّب العبد إلى الله تعالى، والأسباب في هذا الصعيد مختلفة، منها:

١. أداء الفرائض

أداء الفرائض يعدّ أحد الأسباب التي تقرّب الإنسان إلى الله تعالى، وقد قال أميرالمؤمنين (ع) :

إنّ أفضل ما توسَّل به المتوسِّلون إلى الله سبحانه وتعالى، الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله. . . وإقام الصلاة فانّها الملّة وإيتاء الزكاة. . . . (1)

٢. التوسّل بأسماء الله تعالى وصفاته

من التوسّل أن يدعو الإنسان ربّه بأسمائه الحسنى وصفاته، وهذا النمط من التوسّل واضح جدّاً في الأحاديث الش-ريفة، ولا سيّما في أدعيّة أهل البيت (عليهم السلام) .

ونكتفى في هذا المقام بالإشارة إلى حديثين:

ألف) نقل الترمذي في سننه، عن عبدالله بن بريدة الأسلمي، قال: سمع النبي (ص) رجلاً يدعو وهو يقول: اللّهم، إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله


1- نهج البلاغة، خطبة 11٠. .

ص: 39

لا إله إلا أنت الأحد الصّمد الّذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. . . .

فقال (ص) :

«لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» . (1)

ب) ورد في الدعاء المروي عن الإمام الباقر والإمام الصادق (ع) المعروف ب-: دعاء السمات:

اللهم، إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم الأعزّ الأجل الأكرم، الذي إذا دُعيت به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت، وإذا دُعيت به على مضائق أبواب الأرض للفرج انفرجت، وإذا دعيت به على الع-سر لليسر تيسّرت. . . . (2)

ويعدّ دعاء الجوشن الكبير النموذج البارز لهذا النوع من التوسّل، وهو دعاء نقرؤه في ليالي القدر.

٣. التوسّل بالقرآن الكريم

من طرق التوسّل أن يقرأ الإنسان القرآن، ويطلب بوسيلته حاجاته من الله تعالى، وهذا النمط من التوسّل في الواقع هو التوسّل بفعل الله؛ لأنّ القرآن كلام الله الذي أنزله على قلب الرسول (ص) .

وقد نقل أحمد بن حنبل عن عمران بن حصين بأنّ الرسول (ص) قال:

«اقرؤوا القرآن وسلوا الله تبارك وتعالى به من قبل أن يجيءَ قوم يسألون الناس به» . (3)


1- سنن الترمذي، ج 5، ص 515.
2- مصباح المتهجّد، الشيخ الطوسي، ص 374.
3- مسند أحمد، ج 4، ص 445. .

ص: 40

والتأمّل في هذا الحديث يكشف لنا جواز التوسل بأيّ شيء له منزلة وكرامة عند الله تعالى، ولهذا يُستحبُّ في ليالي القدر أن يفتح الإنسان القرآن ويقرأ هذا الدعاء:

«اللهم، إنّي اسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الأعظم الأكبر وأسماؤك الحسنى» . (1)

4. التوسّل بدعاء المؤمن

من أسباب التوسّل ونيل مغفرة الله أن يطلب الإنسان من أخيه المؤمن أن يدعوله، وهذا النمط من التوسّل قد اتّفق على جوازه جميع موحّدي العالم، ويكفينا في هذا المجال العلم بأنّ حملة العرش: ( يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (الغافر: 7) .

ولا يقتصر هذا الاستغفار على الملائكة، بل المؤمنون أيضاً يستغفرون لمن سبقوهم بالايمان: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ولِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (الحشر: 1٠) .

وقد طلب رسول الله من أمّته أن تدعو له، فقال (ص) :

«اسألوا الله لي الوسيلة، فإنّها درجة في أعلى الجنّة لا ينالها إلّا رجل، وأرجوا أن أكون أنا» . (2)

وقال (ص) أيضاً:

«سلوا الله لي الوسيلة المنزلة العلية، فإنّه لا يسألها لي عبد مسلم في الدنيا إلّا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» . (3)


1- الإقبال الأعمال، ابن طاووس، ص 41.
2- مسند أحمد، ج 2، ص 365.
3- فيض القدير، ج 4، ص 114؛ مستدرك بحار الأنوار، ج 4، ص 61. .

ص: 41

5. التوسّل بدعاء النبي (ص) في حياته

إنّ رسول الله (ص) هو أشرف الخلق وأكرمهم عند الله، وقد أشار القرآن الكريم إلى منزلته الرفيعة، ولا يسعنا المقام هنا ذكر الآيات التي وردت في هذا الصدد.

ويكفينا لمعرفة منزلة الرسول (ص) أن نعلم بأنّ الله تعالى جعله وقاية للناس من نزول العذاب عليهم وهو (ص) فيهم، فقال تعالى:

(وما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33) .

وما يدلّ على عظمة نبيّنا الكريم أنّ الله تعالى قَرَن اسمه باسمه وجعل طاعته طاعةً له، فقال:

(ومَنْ يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب: 71) .

فهاتان الآيتان والآيات الأخرى تحكي عن عظمة رسول الله (ص) وعُلوَّ مكانة عند الله تعالى، وهذه المكانة لا نظير لها في الكون لذلك فإنّه تعالى لايردّ دعاءه، ولهذا أمر الله عزّ وجلّ المذنبين أن يقصدوا الرسول (ص) ويطلبوا منه أن يستغفر لهم، فقال:

(ولَوأَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء: 64) .

بل أكثر من ذلك، فقد أكّد الله عزّوجلّ على أنّ الاستنكاف عن طلب الاستغفار من الرسول من علامات النفاق، فقال:

(وإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (المنافقون: 5) .

ص: 42

ويُستفاد من بعض الآيات القرآنيّة بأنّ دأب الأمم السابقة أيضاً كان اللجوء إلى الأنبياء وطلب الاستغفار منهم، كما فعل أبناء يعقوب، حيث قصدوه وطلبوا منه أن يستغفر لهم، فقالوا له:

(يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ * قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف: ٩7 و ٩8) .

ولا يوجد أيّ مجال للاعتراض على هذا النمط من التوسّل، ولم نجد أيضاً أيّ مخالف في هذا الصعيد.

الأمر الذي يحوز أهميّةً في هذا المقام هو أنّ المكانة المقدّسة التي يمتلكها الأنبياء هي الوسيلة التي تجعل دعاءهم أقرب للاستجابة، وهذا الأمر هو الذي يحفّز الآخرين على طلب الدعاء منهم.

6. التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله

اشارة

تثبت الأدلّة بأنّ الإنسان الصّالح حيّ عند الله في حياته البرزخيّة، ويمكن الاتّصال به ولا يوجد فرق في طلب الدعاء من هكذا شخص سواء في حياته الدنيويّة أم في حياته البرزخيّة.

ومن هذا المنطلق فإنّ طلب الاستغفار من الرسول مع لحاظ قوله تعالى: ( ولَوأَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء: 64) ، شاملٌ لطلب الاستغفار من الرسول في حياته وبعد رحيله.

ولا شكّ فإنّ دعاء الرسول (ص) أقرب للاستجابة من دعاء غيره وذلك لنقاء روحه و طهارة نفسه ولقربه (ص) من الله عزّ وجلّ.

وكما يجوز للعباد طلب الدعاء من الرسول في حياته، كذلك يجوز لهم

ص: 43

طلب ذلك بعد رحيله؛ لأنّ الرسول بعد وفاته أيضاً حيّ عند ربّه ولا يوجد فرق بين حياته الدنيويّة وحياته البرزخيّة.

والشاهد على أنّ هذه الآية لا تختصّ بحياة الرسول الدنيويّة، هو أنّ سيرة المسلمين منذ عصر الصحابة والتابعين وإلى يومنا هذا هي الالتجاء إلى قبر الرسول (ص) مع الاعتقاد بأنّ هذا القبر هو باب رحمة الله المفتوح. إذ يقصده الزّوار ويؤدّون التحية له ويصلّون عليه، ثمّ يتلون هذه الآية ويطلبون منه أن يستغفر لهم، فكل من يقصد قبر الرسول (ص) يجدّ زوّار قبره على هذه الحالة.

ومن أقوال كبار أهل السنّة حول هذه الآية وطلب الدعاء من الرسول والتوسّل به بعد رحيلة مايلي:

1- محيى الدين النووي، وهو من كبار محدّثي أهل السنّة وهو الشارح لصحيح مسلم، كتب مايلي:

. . . ثمّ يرجع الزائر إلى موقفه الأوّل قبالة وجه رسول الله (ص) ويتوسّل به في حقّ نفسه أو يستشفع به إلى ربّه سبحانه وتعالى، ومِنْ أحسن ما يقول الزائر ما حكاه الماوردي والقاضي أبوالطيب وسائر أصحابنا عن العتبى مستحسنين له. (1)

وقال العتبى إِنَّه كان عند قبر الرسول (ص) ذات يوم فجاء زائر ووقف أمام القبر، وقال: «السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: ( إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) ، وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربّي» . (2)

2- وذكر ابن قدامة صاحب كتاب المغني في موضوع آداب زيارة


1- المجموع، شرح مهذّب الشيرازي و شرح صحيح مسلم، لمحيي الدين النووي، ج ٨، ص 256.
2- المصدر نفسه. .

ص: 44

الرسول (ص) مسألة استحباب زيارة قبر الرسول (ص) ونقل عنه أنّه قال:

«ما من أحد يسلّم عليَّ. . . حتّى أرد عليه السلام» . ثمّ أشار إلى القصة التي ذكرها العتبى وأوردها النووي في كتابه المجموع، وكان هدفه من نقل هذه القصّة بيان استحباب زيارة الرسول (ص) بهذه الطريقة.

3- أشار الغزالي 5٠5ه، في القسم الخاصّ بفضيلة زيارة المدينة وكيفيّة زيارته (ص) ، فقال في آداب زيارة قبر الرسول (ص) :

يقف عند الرأس مستقبل القبلة. . . وليحمد الله عزّ وجلّ وليسجده، وليكثر من الصلاة على رسول الله (ص) ، ثمّ يقول: ( ولَوأَنَّهُمْ. . .) .

اللّهم، إنّا سمعنا قولك، وأطعنا أمرك وقصدنا نبيّك، مستشفعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا. (1)

وهناك الكثير من علماء السنّة يؤيّدون قول من تقدّم ذكرهم، وفيهم من أكّد على جواز ذلك ولكنّنا لم نذكر أقوالهم مراعاةً للاختصار.

أسئلة حول التوسّل
اشارة

من الأعمال التي يؤدّيها المسلمون و ينتقدها الوهابيّون عند قبر الرسول أو في أماكن أخرى، هي التوسّل. ويعترض الوهابيّون على المسلمين إزاء هذا الأمر، وهذا ما سنتطرّق الى بيانه في هذا المقام.

١- هل الدعاء من الميّت عبادة له؟

يعتقد الوهابيون بجواز طلب الدعاء ممّن كان حيّاً وقادراً على إنجاز ما يُطلب منه، ولا يعتقدون بأنّ هذا التوسّل عبادة له، ولكنهّم يعتدون بأنّ


1- إحياء العلوم، ج 1، ص 25٩. .

ص: 45

طلب الدعاء من الميت الذي لا يمتلك القدرة على إنجاز ما يُطلب منه أو طلب أيّ شيء منه يعدّ نوع من أنواع العبادة له، ويكون المتوسّل أو صاحب الطلب مشركاً.

الجواب: أوّلاً : إنّ الحياة والممات لا يعتبران معياراً للعبادة أو التوحيد والشرك، ويا ترى كيف يكون التوسّل بدعاء الحيّ عين التوحيد؟ ولكنّه يكون من الشخص بعد وفاته عين الشرك؟ ! في حين أنّ حقيقة هذا العمل واحدة، ولا فرق في أنّ التوسّل بالدعاء في الحالة الأولى يكون موجّهاً إلى شخص على قيد الحياة، والتوسّل بالدعاء في الحالة الثانية يكون موجّهاً إلى شخص فارق الحياة.

ولا يوجد موحّد قطُّ يعدّ الحياة والممات معياراً للتوحيد والش-رك، نعم، الحياة والممات يمكن أن يكونا معياراً لتحقّق الفائدة من التوسّل بالدعاء أو عدم وجود الفائدة من ذلك، ولكن هذا الأمر لا صلة له بمسألة التوحيد والشرك.

ثانياً : أساس استدلال الذين يعتقدون بأنّ طلب الدعاءمن الميّت شركٌ، هو اعتقادهم بأنّ موت الأنبياء والأولياء نهاية لحياتهم، حيث لا يعتقدون بوجود الحياة البرزخيّة بعد الموت. ولكن لا يخفى على أحد بأنّ الأنبياء والأولياء والشهداء، وحتّى المجرمين أحياء عند ربّهم بعد مفارقة أرواحهم الدنيا.

ثالثاً : إنّما الدعاء أو الطلب يكون شركاً عندما يعتقد الداعي بنوع من الألوهيّة أو الربوبيّته، أو التفويض لمن يتوجّه إليه بالدعاء، وفي هذه الحالة يمكن اعتبار هذا الدعاء والطلب نوع من أنواع العبادة للحي أو الميت.

ص: 46

ولكن التوسّل بالدعاء من الغير، مع الاعتقاد بأنّه من عبادالله المقرّبين، وأنّه تعالى يستجيب له، لا صلة له بالشرك أبداً، وجميع المسلمين يعتقدون بأنّ الرسول (ص) عبدٌ لله تعالى، ولا يعتقد أحد عندما يطلب من الرسول شيئاً، أنَّه إله، أو ربّ، أو أنّه يستجيب لدعاء الناس من دون إذن الله تعالى.

٢- أليس طلب الدعاء من الميت عديم الفائدة؟ !

يعتقد البعض بأنّ الميّت عاجز عن تلبية طلب من يتوسِّل به، ولهذا يكون طلب الدعاء من هكذا شخص عملاً عبثيّاً ولا فائدة فيه.

الجواب : هذا السؤال يعكس الرؤية المادية التي يؤمن أتباعها بأنّ موت الأولياء نهاية لحياتهم، ولا حياة برزخيّة لهم.

ولكن الواقع ليس كذلك، فأولياء الله أحياء عند ربّهم في عالم البرزخ، وهم يسمعون كلامنا ولا تنقطع صلتهم بنا، ولهذا يكون التوسّل بدعائهم أمراً عقلائيّاً وليس لغواً أو عبثاً؛ ولكن هل يلبّى هؤلاء طلبنا أو لا؟

فهذه مسألة ترتبط بحالة مقدّم الطلب وموضوع الطلب.

٣- هل هناك حاجز بيننا وبين من فارقت أرواحهم الحياة؟

يعتقد البعض بوجود حاجز بيننا وبين من فارقت أرواحهم الحياة الدنيا، وهذا الحاجز يمنعنا من الاتّصال بهم، بدليل قوله تعالى:

(ومِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون: 1٠٠) .

الجواب : البرزخ في اللغة العربيّة، يعنى الحائل والمانع.

ولكنّ هذا الحائل يرتبط بعودة الأموات مرّة أخرى إلى الحياة الدنيا مباشرة بعد وفاتهم. فالبرزخ لا يعنى وجود مانعٍ يحول دون ارتباط الأحياء

ص: 47

بأرواح الأموات، ودليل ذلك قوله تعالى:

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هو قائِلُها) (المؤمنون: ٩٩ و 1٠٠) .

أمّا بالنسبة إلى عودة المذنبين بعد وفاتهم إلى الحياة الدنيا لتدارك ما فات، قال تعالى:

(ومِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .

إذن: الحائل يعني المنع من العودة إلى الدنيا، ولا يعني المنع من ارتباط الأحياء بالأموات أو الاطلاع على أحوالهم.

٣- طلب الشفاعة من أولياء الله

السؤال الذي يُطرح هنا هو : ألا يعدّ طلب الشفاعة من الأولياء عبادةً لهم وشركاً بالله تعالى؟

الجواب : الاعتقاد بشفاعة أولياء الله في يوم القيامة يعتبر أصلاً من أصول العقيدة الإسلاميّة التي لا يشكّ أحدٌ بها، أتباع جميع المذاهب الاسلاميّة يعتقدون بشفاعة الأنبياء في يوم القيامة، ولا سيّما خاتم الأنبياء (ص) . والاختلاف الوحيد الذي نشأ بعد ابن تيميّة في القرن الثامن، وبعد محمّد بن عبدالوهاب في منتصف القرن الثاني عشر، هو أنّه هل يصحّ في هذه الدنيا طلب الشفاعة ممّن ثبت في القرآن والسنّة القطعيّة صحّة شفاعتهم يوم القيامة؟ وهل يصحّ مخاطبة كلّ واحد منهم بقولنا: يا وجيها عند الله، اشفع لنا عند الله؟

وقد اتفقت آراء جميع علماء الدين على صحّة طلب الشفاعة من أصحابها، ما عدا ابن تيميّة وابن عبدالوهاب، حيث ذهبا إلى بطلان طلب

ص: 48

الشفاعة من أهلها، وادّعيا أنّ الجائز فقط هو قولنا: اللهمّ اجعل النبيّ شفيعاً لي.

وسنعرض هذه المسألة على كتاب الله وسنّة الرسول من أجل اكتشاف الحقيقة، كما يلي:

ما هي حقيقة طلب الشفاعة؟
اشارة

شفاعة الرسول (ص) وغيره من الشفعاء الصالحين في يوم القيامة لا تعني سوى طلب المغفرة من الله للمذنبين من العباد، وطلب الشفاعة من أهلها -وِفْق هذا المعنى - يعنى طلب الدعاء منهم. ودعاء هؤلاء يكون حسب قربهم من الله ووجاهتهم عنده، فيستجيب لهم ويغفر للمذنبين.

ومن جهة أخرى، فلا ضَير أبداً من طلب الإنسان الدعاء من أخيه المؤمن، بل من الرسول الأعظم فيتسطيع أن يخاطب رسول الله (ص) قائلاً: «يا وجيهاً عند الله، اشفع لنا عند الله» أي: يا وجيهاً عند الله، أُدع الله لنا ليغفر ذنوبنا ويكفّر عن سيئاتنا، أو يلبّى طلبنا.

و (الاستشفاع) في الواقع يعني طلب الشفاعة، ويعني - كما ورد في كتب الحديث والتفسير - طلب الدعاء، فقد خصّص البخاري في صحيحه باباً تحت عنوان: باب إذا استشفعوا إلى الامام ليستسقى لهم لم يردّهم. (1)

إذن، طلب الشفاعة في الواقع، يعني طلب الدعاء، ولا ينبغي الشكّ والترديد في هذا المجال. ولا يخفى حسن طلب المؤمن الدعاء من أخيه المؤمن، فكيف بطلب المؤمن الدعاء من الأنبياء والأولياء؟ !


1- صحيح البخاري، ص 2، باب: الاستشفاع. .

ص: 49

أضف إلى ذلك، فإنّ العديد من الصحابة طلبوا الشفاعة من الرسول في زمان حياته وبعد رحيله أيضاً، ولإثبات ذلك نذكر الأمثلة التالية:

١. حديث أنس بن مالك

نقل الترمذي - وهو أحد مؤلّفي السنن الأربعة - عن أنس بن مالك قوله: سألت النبيّ أن يشفع لي يوم القيامة؟ فقال: «أنا فاعل» . قلت: يا رسول الله، فأنّى أطلبك؟ فقال:

«اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط» . (1)

فأنس يعلم من منطلق فطرته بأنّ طلب الشفاعة لا تعني سوى طلب الدعاء، ولهذا يطلب من الرسول (ص) الشفاعة، ولا يخطر بباله أنّ طلب الشفاعة شرك، كما أنّ الرسول أيضاً لم ينهاه عمّا طلب.

٢. حديث سواد بن قارب

سواد هو أحد أصحاب النبيّ (ص) ، وقد أنشد ذات يوم شعراً حول النبي (ص) وطالباً منه الشفاعة، وقال:

وكُن لي شفيعاً يوم لا ذوشفاعة

بمغن فتيلاً عن سواد بن قاربِ (2)

٣. حديث أبي بكر

عندما توفّي النبي (ص) أقبل أبوبكر فكشف عن وجهه، ثمّ أكبّ عليه فقبّله، وقال:

«بأبي أنت وأمي! طبت حيّاً وميّتاً، اذكرنا يا محمّد، عند ربّك، ولنكن من بالك» . (3)

فعبارة:

«إذكرنا عند ربّك» لا تعني: إلّا طلب الشفاعة.


1- سنن الترمذي، ج 4، ص 621.
2- الإصابة لابن حجر، ج 2، ص ٩5، و قد نقل هذا الطلب بطرقه الستّة.
3- السيرة الحلبية، ج 3، ص 474. .

ص: 50

4. حديث الإمام علي (ع)

رُوى أنّ عليّاً (ع) عندما ولي غسل رسول الله (ص) قال:

«بأبي أنت وأمي أذكرنا عند ربّك واجعلنا من بالك» . (1)

5. حديث الغلام

رُوي عن مصعب الأسلمي أنّه قال: انطلق غلام منّا، وقال لرسول الله (ص) : إنّي سائلك سؤالاً.

قال رسول الله (ص) : «وما هو؟» .

قال: أسئلك أن تجعلني ممّن تشفع له يوم القيامة؟

قال رسول الله (ص) : «من أمرك هذا؟» أو «من علّمك هذا؟» . أو «من دلّك على هذا» .

قال: ما أمرني به أحد إلّا نفسي.

قال رسول الله (ص) : «فانّك ممّن أشفع له يوم القيامة» . (2)

والشواهد من هذا القبيل كثيرة، ولكنّنا نكتفي بهذا المقدار اجتناباً للإطالة.

4. هل القسم بالله على الأولياء شركٌ؟

عندما يدعو بعض الناس الله تعالى فإنهم يذكرون مقام الانبياء والاولياء ثمّ يقسمون عليه بحقّهم ويسألون حوائجهم، فيقولون مثلاً: اللّهم، بحقّ الرسول الأعظم (ص) اشف مرضانا. في حين ليس لأحد حقّ على الله بتاتاً


1- مجالس المفيد، المجلس 12؛ نهج البلاغة، خطبة 235.
2- مجمع الزوائد، ج 1٠، ص 36٩. و قد نقل قضايا كثيرة مشابهة لهذه القضيّة. .

ص: 51

ليقسم عليه به.

لتوضيح ذلك نقول : المقصود من الحقّ هنا المنزلة العليا التي يمتلكها الأنبياء والأولياء عند الله تعالى، وإذا كانت هذه المنزلة حقّاً، فقد منحه الله تعالى لهم، وهذا القول هو عين التوحيد؛ لأنّ الله تعالى بيّن في القرآن الكريم بأنّ له على بعض عباده حقّاً ألزم نفسه القيام به، منها قوله: ( وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47) .

وورد في الحديث عن رسول الله (ص) أنّه قال:

«حقّ على الله عون من نكح التماس العفاف عمّا حرم الله» . (1)

ولو راجعنا الآيات القرآنيّة والأحاديث الش-ريفة، فسنلاحظ أنّ مسألة وجود حقوق للعباد على الله أمر شائع فيها.

وعندما نقول ليس لأحد حقّ على الله تعالى، فالمقصود ليس لأحد حقّ بالذات عليه، ولكن هذا الأمر لا يمنع من أن يتفضّل على العباد ويجعل على نفسه حقّاً لهم، بل قد يصل الأمر إلى أنّه تعالى يملّكهم، ثمّ يستقرض منهم، كقوله تعالى:

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (الحديد: 11) .

وقد علّمنا الرسول (ص) أن نتوسّل إلى الله به، ونقول: «اللّهم. إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد (ص) نبي الرحمة. . .» ، وكلمة «بنبيك» جار ومجرور متعلقة بفعل «أسألك» ، وفعل «أتوجّه إليك» ، ومعنى العبارة التوسّل إلى الله بمنزلة الرسول (ص) وبالحقّ الذى جعله الله على نفسه لرسوله (ص) .

وقد قال الرسول (ص) عند دفن فاطمة بنت أسد:


1- الجامع الصغير للسيوطي، ص 33. .

ص: 52

«اللّهم. . . ، اغفر لامّي فاطمة بنت أسد. . . وأوسع عليها مدخلها، بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي» . (1)

وقد ورد هذا النوع من القَسم على الله بحقّ الأولياء في الصحيفة السجاديّة والأدعية الأخرى المرويّة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) . وللاطّلاع أكثر، يمكن مراجعة هذه المصادر والتعرّف على هذه النصوص.

5. النَّذرُ لغير الله

إنّ الشيعة وغيرهم من المسلمين ينذرون لأولياء الله ويقولون على سبيل المثال:

ننذر هذه الشاة لرسول الله (ص) ، أو للإمام الحسين (ع) ، في حين أنّ النذر لغير الله غير جائز.

لبيان ذلك نقول : النذر لغير الله على قسمين، كمايلي:

أ) النذر لعباد الله من أجل التقرّب اليهم ونيل رضاهم من دون الالتفات إلى رضا الله عزّ وجل.

لاشكّ في أنّ هذا التصرّف نوع من أنواع الش-رك، وهو بمثابة عبادة الأصنام.

ب) النذر لأولياء الله من أجل التقرّب بهذا العمل إلى الله تعالى ونيل رضاه، فيصرف هذا النذر في موارد يرتضيها الله، ويكون ثواب هذا العمل هدية لأحد أولياء الله.

ولا شكّ في أنّ النذر بهذا القصد وبهذه النيّة الطاهرة أمر حسن وممدوح.


1- مستدرك الحاكم، ج 3، ص 1٠٨؛ حلية الأولياء، ج 3، ص 121؛ الاستيعاب في حاشية الإصابة، ج 4، ص3٨2. .

ص: 53

ويسَبّب في حدوث التباسٍ في هذا المجال هو تشابه التعبيرين المذكورين في مقام النذر.

وبما أنّ النذر أمر عباديّ، لذا يجب أن يكون من أجل التقرّب إلى الله تعالى، وعلى (الناذر) أن يكون قصده على سبيل المثال: أتعهّد من أجل نيل رضا الله والتقرّب إليه تعالى أن أذبح شاة وأطعمها للفقراء، وأبعث ثواب ذلك للرسول (ص) فيما لوتحقّقت حاجتي.

وهذه هي الصيغة الصحيحة للنذر.

ولكن الطريقة عند معظم الناس غير واضحة، أوأنّهم يُجرون صيغة النذر مراعاة للاختصار بقولهم: هذا للنبيّ، أو نذرت هذا للنبيّ (ص) .

وعموماً فإن مضمون السؤال هو كون النذر لغير الله باطلاً، ويجب أن يكون النذر لله فقط.

والجواب هو أنّ (اللام) في عبارة (لله عليّ) للتقرّب كما ورد في القرآن الكريم: ( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وفُرادى) (سبأ: 46) .

ولكن اللام في (للنبيّ) لام (الانتفاع) ، كما ورد في القرآن الكريم: ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والْمَساكِينِ) (التوبة: 6٠) .

ومن هنا يتّضح وجود الفرق الجوهري بين عمل الموحّدين وعمل المشركين، فالمشركون يقدمون قرابينهم باسم الأصنام ومن أجل التقرّب إليها، وقد ورد في القرآن في هذا المجال: ( وما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) (المائدة: 5) .

ولكن الموحّدين ينذرون لله ويذكرون اسمه، وإنّما يهدون ثواب عملهم الحسن هذا إلى الأولياء ويتقرّبون بهذه الطريقة إلى الله عزّ وجلّ.

رُوي أنّ شخصاً سأل النبيّ (ص) قائلاً: يا نبي الله، إنّ امّي قد اُفتُلِتَتْ،

ص: 54

وأعلم أنّها لوعاشت لتصدّقت، أفإن تصدّقت عنها أينفعها ذلك؟ قال: «نعم» .

فسأل النبيَّ (ص) : أيّ الصدقة أنفع يا رسول الله؟ قال (ص) : «الماء» .

فحفر بئراً، وقال: هذه لأمّ سعد.

فهذه اللّام هي الداخلة على الجهة التي وجّهت إليها الصدقة لا على المعبود المتقرّب إليه. (1)

فاللّام هنا هي لام الانتفاع، وليست لام التقرّب.

وأصل النذر هو ذبح شاة - على سبيل المثال - وإهداء ثواب ذلك إلى الرسول (ص) ، والتقرّب إلى الله بهذه الهدية التي يقدّمها الناذر للرسول (ص) والرجاء منه تعالى أن يجازيه إزاءها بشفاء المريض الذي نذر لشفائه.

6. الاحتفال بمواليد أولياء الله وإقامة المآتم لهم
اشارة

السؤال الذي يُطرح هنا هو : الاحتفال بمواليد أولياء الله أمر مستحدث ولم يكن متعارفاً في عصر الصحابة، فما هو المسوّغ الشرعي لإقامة لذلك؟

الجواب : التأريخ يشهد بأنّ السلف من المسلمين كانوا يحتفلون في يوم ولادة الرسول (ص) في كلّ عام، وكان الخطباء يقرؤون المدائح للرسول، ومبدأ هذه الاحتفالات غير واضح بصورة دقيقة، ولكن المتيقّن أنّها تعود لمئآت السنين، حيث كانت سائدة في البلاد الإسلاميّة.

قال أحمد بن محمّد المعروف بالقسطلاني ٩2ه، وهو من العلماء المشهورين في القرن التاسع، حول الاحتفالات التي تقام أيّام ولادة الرسول (ص) :


1- فرقان القرآن، ص 133. .

ص: 55

ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (ص) ، يعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون الس-رور ويزيدون المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم. . . فرحم الله امرءاً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض وأعياه داء. (1)

وقال الحسين بن محمّد بن الحسن المعروف بالديار بكري فى ٩6٠ه، وهو من قضاة مكّة:

لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ويتصدّقون في لياله بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور ويزيدون في المبرّات ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم. (2)

وهاذان النصّان الذان يعود تأريخهما إلى القرن العاشر يثبتان أنّ الاحتفال في يوم ولادة أولياء الله له جذورٌ عريقةٌ في تأريخ الإسلام، وكان علماء المسلمين يؤيّدونها، وكان الاحتفال بيوم ولادة الرسول (ص) عندهم مصداقاً لإظهار محبّتهم ومودّتهم له وأما الدليل الشرعي لهذه الاحتفالات، فهو مايلي:

إجلال الرسول (ص) أصلٌ من أصول الإسلام

أمرنا القرآن الكريم بمودّة الرسول (ص) ، وهذا ما لا يمكن إنكاره أو التشكيك في صحّته، وليس الاحتفال بمولد الرسول (ص) إلّا مصداقاً لتجسيد هذه المودّة. ونكتفي هنا بذكر آيتين في هذا المقام، كما يلي:

1- ( قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وأَبْناؤُكُمْ وإِخْوانُكُمْ وأَزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ


1- المواهب اللدنيّة، ج 1، ص 27.
2- تاريخ الخميس، ج 1، ص 323. .

ص: 56

وأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ واللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (التوبة: 24) .

وتثبت هذه الآية بوضوح أنّ محبّة الله ومحبّة الرسول هما شيءٌ واحدٌ، وهما من الواجبات الإلهيّة. فهذه المحبّة هي تمهيد للعمل بشريعة الرسول وأحكام دينه، أي أنّ العمل بالشريعة يكون في ضوء محبّة النبيّ (ص) .

2. وصف الله تعالى المؤمنين في آية أخرى بقوله: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157) .

وتتضمّن هذه الآية أربعة أوامر للمسلمين، هي:

1. آمنوا به.

2. عزّروه.

3. نصروه.

4. اتبعوا النور الذي أنزل معه.

ومع لحاظ هاتين الآيتين اللتين ورد فيهما الأمر بمحبّة الرسول (ص) وإجلاله واعتُبر ذلك من الفرائض، يطرح هذه السؤال: ألا يكون إجتماع المسلمين في يوم ولادة الرسول (ص) مصداقاً للعمل بهاتين الآيتين؟ !

لا شكّ في أنّ الجواب: نعم.

وكلّ من يزور هذه المجالس يجد فيها التجسيد الواضح لإظهار المودّة والمحبّة والاجلال والتعظيم للرسول (ص) . ومن هنا نستنتج بأنّ لعمل المسلمين هذا جذوراً قرآنيّةً، وهو بعيد كلّ البعد عن البدعة، وإذا كان مستحدثاً، فليس كلّ مستحدث بدعة.

ص: 57

وكيف يكون هذا العمل بدعة وهو يستمدّ، مش-روعيّته من القرآن والسنّة؟ ! وقد قال تعالى في سورة الانشراح حول الرسول (ص) : ( ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (الانشراح: 4) .

وهذا ما يكشف بأنّ من نِعَمِ الله على رسوله أنّه تعالى رفع ذكره، ومن مصاديق رفع ذكر الرسول (ص) هو الاحتفال بمولده وإقامة المجالس المعبّرة عن الفرح والسرور والبعيدة عن اللهو والمعاصي. والإجتماع في يوم مولده من أجل رفع ذكره (ص) والتذكير بالمبادئ والقيم التي دعا الناس إليها.

وقد جعل السيّد المسيح اليوم الذي أنزل الله عليه وأصحابه مائدة من السماء عيداً لاتباعه كافة، وقال: ( رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وآخِرِنا وآيَةً مِنْكَ وارْزُقْنا وأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة: 114) .

وإذا كان يوم نزول المائدة، وهي نعمة محدودة وعابرة، يستحقّ أن يكون عيداً في كلّ عام لأتباع السيّد المسيح؛ فكيف لا يكون مولد الرسول (ص) أو يوم المبعث، وهو نعمة عظمى وخالدة من الله للبشرية، مستحقّاً ليكون يوم عيد وسرور للمسلمين في كلّ عام؟ !

إذن، مبادرة المسلمين بعقد مجالس ذكر فضائل ومناقب الرسول (ص) في كلّ يوم وليلة، وفي كلّ شهر وسنة، وتلاوة الآيات النازلة في حقّ الرسول، وقراءة الأشعار الوارده في مدحه، هي تلبية لأوامر الله في مودّة الرسول (ص) وإجلاله ورفع ذكره.

والسبب في تخصيص عقد مثل هذه المجالس في يوم ولادته (ص) هو أنّها نعمة عظمى أكرم الله بها البش-ريّة كافة؛ ولهذا يجدر بالبش-رية كلّها أن تعظّم هذا اليوم وتعقد الاحتفالات المعبّرة عن شكرهم لله إزاء هذه

ص: 58

النعمة العظمى، دون أن ينسبوا ذلك إلى حكمٍ شرعيٍّ معيّنٍ، إذ إنّ تخصيص ذلك للاحتفال بولادة نبيّهم قد كان بإرادتهم واختيارهم، وليس لشرع دخلٌ فيه.

٧. زيارة قبور الأولياء
اشارة

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : هل أنّ زيارة قبور الأولياء مستحبّةٌ؟

الجواب : إنّ زيارة قبور الأولياء في كلّ مدينة وقرية تنطوي على آثار بنّاءة، منها: إنّ زيارة القبور بصورة عامّة تبيّن للزائر العجز الذاتي للإنسان وزوال القدرات الماديّة، وإنّ الإنسان الواعي يُدرك عند زيارة القبور مدى هشاشة الحياة الدنيويّة، فيبحث عن الحلّ، ويتحرّى لمعرفة هدف الحياة الدنيا، فيتحرّر بهذه الطريقة من الغفلة والأنانيّة، ويتفرّغ إلى التفكير في السعادة الأخرويّة والحياة الأبديّة.

وقد أشار رسول الله (ص) إلى هذا الأمر التربوي، حين قال:

«زوروا القبور؛ فانّها تذكّركم بالآخرة» . (1)

وقال (ص) في حديث آخر حول زيارة القبور:

«. . . فزوروها؛ فإنّ لكم فيها عبرة» . (2)

وهذا النمط من زيارة القبور يرتبط بزيارة قبور عامّة الناس، والأفضل من ذلك هو زيارة قبور الشهداء، لأنّها زيارة الذين جاهدوا بأنفسهم وقدّموا دماءهم في سبيل الله والدفاع عن القيم الإنسانية.


1- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 5٠٠.
2- كنز العمال، ج 15، ص 647. .

ص: 59

ولزيارة قبور الشهداء في سبيل الله آثار تربويّه رفيعة جدّاً، وهي عهد بيننا وبينهم، حيث يعلن الزائر بزيارته هذه وفاءه لهم ولمبادئهم المقدّسة.

ومن أجل بيان هذا الأمر نذكر فيمايلي مثالاً حيّاً يرتبط بهذا المجال:

إنّ زائر بيت الله الحرام يستلم (الحجر الأسود) قبل الطواف ويعلن بهذا الاستلام بيعته للنبيّ إبراهيم (ع) وهو صاحب التوحيد الراسخ، والذي بذل غاية جهده لإعلاء كلمة الله في الأرض، وحيث لا تصل يد الزائر إلى بطل التوحيد فإنّه يضع يده على الأثر الباقي منه ويبايعه بهذه الطريقة.

وقد ورد في الأحاديث الش-ريفة أنّ الحاجّ يقول عند استلامه الحجرالأسود:

«اللّهم، أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة» . (1)

و ينطبق هذا الهدف نفسه على زيارة قبور شهداء بدر وأحد وكربلاء وغيرهم من الشهداء أيضاً.

ويصلّى الزائر لهذه المشاهد أو الأضرحة والقبور على الأرواح الطاهرة لأصحابها ويعلن بيعته لهم، ويعلن مواصلته طريقهم.

وبعبارة أخرى، فإنّ زيارة قبر الشهيد هي تكريم واحترام له، وبما أنّ الشهيد قد قتل دفاعاً عن المبادئ والقيم، فكلّ من ليحترمه، فإنّه يحترم هذه المبادئ والقيم المقدّسة التي قتل من أجلها.

زيارة قبر الرسول (ص)

إنّ زيارة قبر الرسول (ص) وزيارة قبور أوصيائه الأطهار: تعبّر عن تقدير الزائر لتضحيّاتهم في سبيل هداية العباد، وهي في الواقع إقرارٌ بالبيعة


1- وسائل الشيعة، ج 1٠، ص 4٠٠. .

ص: 60

لهم، وقد قال الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حول زيارة قبور الأئمّة المعصومين: «إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم» . (1)

فالزائر لقبر الرسول (ص) وقبور الأئمّة في الواقع يبايعهم ويعاهدهم على اتّباع نهجهم في حياته، ولسان حاله هو:

يا رسول الله (ص) ، إن بايعك المهاجرون والأنصار في الحديبيّة ليدافعوا عن رسالتك السماويّة (2)، وإن بايعتك المؤمنات في مكّة على أن لا يش-ركن بالله (3)، وإذ أمر الله الذين ظلموا أنفسهم أن يأتوك فيستغفروا الله وتستغفر لهم (4)؛ فأنا أيضاً أتيتك يا رسول الله (ص) ، ويا شفيع الأمّة، كي أبايعك وأُعلن دفاعي عن المبادىء التي جئت بها وأعاهدك على الابتعاد عن الش-رك وسائر المعاصي، وأطلب منك أن تسأل الله لي الغفران وكفّارة الذنوب.

وبما أنّ زيارة القبور أمرٌ مستحبٌّ باتّفاق جميع المذاهب الفقهيّة؛ لذلك لم ننقل الأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال، ونكتفى بهذا الحديث، وهو أنّ الرسول (ص) كان يزور البقيع أحياناً ويخاطب أهل القبور قائلاً:

«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون غدَاً مؤجّلون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» . (5)


1- وسائل الشيعة، ج 1٠، ص 346.
2- ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. . .) (الفتح: 18) .
3- ( إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ) (الممتحنة: 12) .
4- ( وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء: 64) .
5- صحيح مسلم، ج 3، ص 63. .

ص: 61

٨- زيارة النِّساء للقبور (الإجابة على سؤالين)

السؤال الذي يطرح هنا هو : هل يوجد محذور من زيارة النساء للقبور؟

الجواب : حكم الرجال والنساء بالنسبة إلى زيارة قبور أعزائهم أو زيارة قبور أولياء الله سواء؛ لأنّ الأحكام الش-رعيّة للرجال والنساء سواء، إلّا في الحالات التي ذكر فيها الحكم الخاصّ بالرجال أو النساء.

فلا يوجد دليل لتخصيص الحكم بالرجال دون النساء، بل الدليل قائم على أنّهم في الحكم سواء.

وقال رسول الله مخاطباً المسلمين كافة:

«زوروا القبور؛ فإنّها تذكركم الآخرة» . (1)

وقال (ص) في حديث آخر حول زيارة القبور:

«فزوروها، فإنّ لكم فيها عبرة» . (2)

وبيان هذا الخطاب بصيغة المذكر لا تعني اختصاص الخطاب للرجال فقط، لأنّنا نعلم بأنّ جميع خطابات القرآن والسنة وردت بصيغة المذكر وهي تشمل الرجال والنساء، الّا مع وجود دليلٍ أو قرينةٍ على عدم الاشتراك، ولهذا نجد الآيات التي تدعو الناس إلى الصلاة والزكاة وردت بصيغة المذكر ولكنّها تشمل النساء أيضاً، كما قال تعالى: ( وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (البقرة: 11٠) .

فالخطاب في هذه الآيات وفق القواعد العربيّة موجّه للرجال، ولكن نتيجة الحكم تشمل الرجال والنساء.


1- سنن ابن ماجه، ج 1، ص 5٠٠.
2- كنز العمال، ج 15، ص 647. .

ص: 62

إذن، نستنتج بأنّ الخطاب في الحديث: «زوروا القبور» يشمل الرجال والنساء.

وإضافة إلى هذا الحديث توجد أحاديث أخرى تدلّ على جواز زيارة القبور للنساء نذكر منها مايلي:

أ) ورد في صحيح مسلم عن رسول الله (ص) أنّه قال:

«فإنّ جبريل أتاني. . . ، فقال: إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» .

قالت عائشة: لما كانت ليلتي التي كان النبيّ فيها عندي، انقلب فوضع رداءه. . . ثمّ انطلقت على إثره حتّى جاء البقيع. . . قالت: قلتُ كيف أقول لهم يا رسول الله؟

قال:

«قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين» . (1)

ومحور الاستدلال هو أنّ الرسول علّم عائشة كيفيّة زيارة القبور. فإذا كانت زيارة القبور محرّمة على النّاس، فلم علّم الرسول زوجته كيفيّة زيارة القبور؟ !

أضف إلى ذلك، عندما كانت عائشة تنقل هذه الواقعة للنساء فإنهنّ علمن بجواز زيارتهن للقبور، وأنّ تكليف زوجة الرسول (ص) وسائر النساء في هذا المجال واحد، دون تمييزٍ.

ب) كانت فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) ، وهي من أهل الكساء: تقصد قبر حمزة في أُحد بعد وفاة أبيها رسول الله (ص) وتصلّي ركعتين عند قبره، وتبكي عليه.

ويقول الحاكم النيسابوري بعد نقله لهذا الحديث الشريف: «هذا الحديث


1- صحيح مسلم، ج 3، ص 64. .

ص: 63

رواته عن آخرهم ثقات» . (1)

فلا يوجد فرق بين رواة هذا الحديث، ورواة الحديث المذكور في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم.

ج) ينقل الترمذي عن عبد الله بن أبي مليلَة، قال: توفّي عبدالرحمن بن أبي بكر في (الحبشى) . قال: فحمل إلى مكّة فدفن فيها. فلمّا قدمت عائشة، أتت قبر عبدالرحمن بن أبي بكر: فقالت: . . . . (2)

د) قال البخاري: مرّ النبي بامرأة عند قبر، وهي تبكي، فقال: «اتّقي الله واصبري» . (3)

ولم ينقل البخاري تتمّة الحديث، إلا أنّ أبي داود ذكرها في سننه فقال: «أتى نبيّ الله على امرأة تبكي على صبيّ لها، فأتته، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك. فقال: «إنّما الصبر عند الصدمة الأولى» . (4)

فاذا كانت زيارةالقبور محرّمة على النساء، لِمَ أمر الرسول (ص) هذه المرأة بالصبر، وكان عليه أن ينهاها عن زيارة القبور بدلاً من أمرها بالصبر على المصيبة؟ !

الإجابة على سؤالين:

حرّم البعض زيارة القبور على النساء واستدلّوا بالحديثين التاليين:

أ)

«لعن رسول الله زائرات القبور!» . (5)


1- مستدرك الحاكم، ج 1، ص 377.
2- سنن الترمذي، ج 3، ص 371.
3- صحيح البخاري، ج 2، ص ٩3.
4- سنن ابي داود، ج 3، ص 1٩2.
5- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 5٠3؛ سنن أبي داود، ج 3، ص 21٨، و ورد في الحديث الثاني عبارة (زوارات) بدل (زائرات) . .

ص: 64

الجواب :

يفتقر هذا الحديث إلى الشرط اللازم للاستدلال؛ لأنّه مع لحاظ الأدلّة السابقة محكوم بالنسخ. والملفت للنظر أنّ بعض محدّثي أهل السنّة ذهبوا إلى نسخ هذا الحديث، من قبيل الترمذي ناقل هذا الحديث، حيث قال: «انّ هذا كان قبل أن يرخّص النبي (ص) في زيارة القبور، فلمّا رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء» . (1)

وقال القرطبي: هذا اللعن إنّما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعلّ السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حقّ الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح، ونحو ذلك. (2)

ثمّ بيّن بأنّ الرسول (ص) استخدم في الحديث عبارة «زوّارات» أي صيغة المبالغة، وهذا ما يكشف أنّه قصد المكثرات من زيارة القبور.

ب) نقل ابن ماجة عن عليّ أنّه قال:

خرج رسول الله، فإذا نسوة جلوس. فقال: ما يجلسكنَّ؟ قلن: ننتظر الجنازة. قال: هل تغسلن؟ قلن: لا. قال: هل تحملنَ؟ قلن: لا. قال: هل تُدْلين فيمن يُدْلي؟ قلن: لا. قال: فارجعن مأزوراتٍ، غير مأجوراتٍ. (3)

الجواب :

هذا الحديث غير معتبر من ناحية السند والدلالة؛ لأنّ السند فيه (دينار بن عمرو) ، وهو برأي أهل الحديث من أهل السنّة مجهول، كذّاب، متروك ومخطئ.


1- سنن الترمذي، ج 3، ص 371.
2- فتح الباري، ج 3، ص 14٩.
3- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 5٠2. .

ص: 65

فيا ترى هل يمكن الاستشهاد بحديث ينقله راوٍ يبلغ درجةً من الضعف إلى هذا المستوى؟

كما أنّ مضمون الحديث - لوسلّمنا بصحّة سنده - لا صلة له بزيارة القبور؛ لأنّ ذمّ النبي (ص) موجّهٌ للنساء اللاتي لم يكن قدومهنّ إلى القبور لأداء فريضة أو عمل مستحب.

والجدير بالذكر أنّ الإسلام هو دين الفطرة ودين التسامح، وقد قال رسول الله (ص) :

«إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق» . (1)

فالأم المؤمنة التي فقدت ابنها الأكبر وقد دفن تحت التراب، لا يسكن ألم فراق ولدها الّا بزيارة قبره، فيا تُرى هل يعدّ منع الأمّ من زيارة قبر ولدها عملاً عقلائيّاً؟

ويا تُرى هل يعقل للشريعة الإسلاميّة، وهي الشريعة المتساهلة والمتسامحة أن يصدر منها هذا النهي؟

ولاريب في أنّ زيارة القبور فيها دروس وعبر وتذكير بالآخرة، وهي مقرونة بقراءة القرآن وسورة الفاتحة، فكيف يمكن حرمان المرأة من هذه الأجواء المعنويّة؟

وبعبارة أخرى : فإنّ الحكمة من زيارةالقبور عبارة عن التذكير بالاخرة وتلقّي الدروس والعبر، وهي أمور لا تختصّ بأمر دون غيره.

ومع ذلك ينبغي أن تكون زيارة القبور منزّهة من أيّ شيء لا يرتضيه الله، ولوسلّمنا بوجود نهي عن زيارة النساء للقبور، فقد يكون هذا النهي موجّهاً في ذلك الزمان للنساء اللاتي لا يراعين الأمور الشرعيّة عند زيارتهن للقبور.


1- مسند احمد، ج 3، ص 1٩٩. .

ص: 66

٩- البناء على القبور
اشارة

السؤال الذي يُطرح هنا، هو: هل يجوز البناء على القبور؟

الجواب : يمكن إثبات مشروعيّة البناء على القبور من طرق مختلفة، منها ما يلي:

١. سيرة السلف الصالح في حفظ قبور الأنبياء

يشهد التأريخ بأنّ بناء قبور الأولياء وصيانتها سنّةٌ بش-ريّةٌ قديمةٌ كانت قبل ظهور الإسلام، حيث كانت قبور أنبياء بني إسرائيل مشيّدة وعامرة، وعندما فتح فيه المسلمون الشام وفلسطين والأردن، فإنّهم حاولوا الحفاظ على هذه القبور، وهي باقية إلى يومنا هذا، ولم يلحق المسلمون بها أيّ ضررٍ، بل قاموا بإعمارها وإعادة بناء البعض منها، وجعلوا لها خَدَمةً من أجل المحافظة عليها.

٢. حفظ الآثار حفظ للأصالة

إنّ حفظ الآثار، ولا سيما الآثار المرتبطة بالرسول (ص) من قبيل قبره الشريف وقبور زوجاته وأبنائه وأصحابه والبيت الذي كان يعيش فيه والمساجد التي كان يصلّي فيها، له فوائد عظيمة سنُشير إلى بعضها بعد بيان مقدّمة.

اليوم وبعد مرور عشرين قرناً من ميلاد المسيح، تحوّل المسيح (ع) وأمّه وكتابه الإنجيل وحواريه في الغرب إلى أسطورة، وقد شكّك بعض المستشرقين بصّحة وجود شخص باسم السيّد المسيح له أم تُدعى مريم وله كتاب اسمه إنجيل، واعتبروه أسطورةً مثل اسطورة قيس وليلى العامريّة.

ص: 67

وذهبوا إلى أنّ هذه الحكايات وليدة الخيال البش-ري. لماذا؟ طبعاً لأنّهم لايمتلكون اليوم أثراً واقعيّاً وملموساً من السيّد المسيح، مثلاً ليست لديهم معلومات دقيقة حول البقعة التي وُلد فيها والبيت الذي كان يعيش فيه والمكان الذي دُفن فيه كما يعتقد النصارى، كما أنّ الكتاب السماوي الذي جاء به قد حُرّف، فالأناجيل الأربعة مدوّنة بأيدي من كتبوها بعد السيّد المسيح، وكلّها تحكي في نهايتها كيفيّة قتل السيّد المسيح ودفنه، ولا صلة مباشرة لها بالسيّد المسيح.

ولهذا فإنّ الكثير من المحقّقين اعتبروا الأناجيل من النصوص الأدبيّة المرتبطة بالقرن الثاني بعد الميلاد، ولكن لوكانت جميع الآثار المرتبطة بالسيّد المسيح محفوظة، لَدلّت بوضوح على حقيقة وجوده، ولم تبقِ لمن يزعم بأنّ السيّد المسيح أسطورة أيّة ذريعة للتشكيك وإلقاء الشبهات حول أصل وجوده.

ولكن المسلمين يخاطبون جميع شعوب العالم بعزمٍ راسخٍ قائلين: إنّ النبيّ محمّد (ص) قد بُعث قبل ألف وأربعمائة سنة في أرض الحجاز لهداية البش-ريّة، وقد نال نجاحاً عظيماً في رسالته وجميع خصائص حياته محفوظة ولا يوجد شكّ في أصل وجوده أبداً، وحتّى البيت الذي عاش فيه موجود، وأثر وجوده في جبل حراء الذي نزل عليه الوحي فيه موجود، ومسجده الذي كان يصلّي فيه موجود، ومكان دفنه في بيته موجود، وكذلك بيوت زوجاته وأهل بيته، وقبور أوصيائه وخلفائه.

فلوكانت هذه الآثار غير موجودة، لأصبح ذلك ذريعة لإنكار أصل وجوده (ص) .

ص: 68

إذن، نستنتج بأنّ تخريب آثار الرسالة والآثار المرتبطة بأهل البيت (عليهم السلام) إضافة إلى كونها هتكاً لحرمتهم وتجاسراً عليهم؛ فإنّها تعدّ محاربة لمظاهر أصالة الإسلام وأصالة رسالة النبي (ص) .

فالدين الإسلامي دين خالد، وقد جاء لهداية البش-ريّة إلى يوم القيامة، والأجيال التي تأتي بعد آلاف السنين يجب عليها الإذعان لأصالة هذا الدين، ولهذا يجب من أجل الحفاظ على هذا الهدف، السعي لحفظ جميع آثار وعلائم صاحب الرسالة. وهذا الأمر سببٌ لحفظ أصالة الدين للاجيال اللاحقة، ويجب علينا أن لا نفعل من شأنه أن يؤدّي الى المصير الذي آلت إليه الديانة النصرانيّة ومؤسسها حيث توجه إليه اليوم أصابع الاتّهام بأنّه مجرّد وهم نسجه الخيال البشري، وأنّه لم يكن له وجود على أرض الواقع.

٣. رفع بيوت الأنبياء

لقد وصف الله تعالى نوره في الآية المعروفة بآية النور، وشبّهه بمشكاةٍ فيها بمصباح، والمصباح في زجاجة، والزجاجة كأنّها كوكب درّي، ثمّ أشار في الآية التالية إلى أنّ مكان هذه المشكاة بيوتٌ مرفوعةٌ، فقال: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُووالْآصالِ) (نور: 36) .

وما يهمّنا في هذا المقام معرفة المقصود من تلك البيوت. ولا شكّ في أنّ البيت غير المسجد؛ لأنّ البيت مشتقّ من البيتوتة بمعنى قضاء الليل في ذلك المكان، كما يقال: مسكن؛ أي المكان الذي يسكن فيه الإنسان.

والمصطلح الذي قد استعمله القرآن الكريم حول مكان العبادة أو المكان الذي يجتمع فيه المسلمون لعبادة ربّهم هو مصطلح (مسجد) وجمعه (مساجد) ، وقد جاءت هذه الكلمة في القرآن 2٨ مرّة بصيغتي الجمع

ص: 69

والمفرد.

لكننا نجد بأنّ القرآن عندما يتحدّث عن (المسكن) و (المأوى) فإنّه يستخدم مصطلح (البيت) بصيغتي الجمع والمفرد، وقد جاء هذا المصطلح 66 مرّة في القرآن. ومن هنا نستنتج بأنّ مصداق البيت غير مصداق المسجد، واعتبار أنّ البيت نفس المسجد هو إدّعاءٌ بلا دليلٍ.

ولا شكّ في أنّ المقصود من البيوت في هذه الآية هي بيوت الأنبياء والأولياء والمتّقين الذين يذكرون الله ليلاً ونهاراً، وقد نقل جلال الدين السيوطي عن أنس بن مالك مايلي:

قال: قرأ رسول الله هذه الآية: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) ، فقام إليه رجل، فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال (ص) : «بيوت الأنبياء» . فقام إليه أبوبكر، فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها؟ -مشيراً إلى بيت على وفاطمة - قال (ص) : «نعم، من أفاضلها» . (1)

إذن، اتّضح لنا أنّ المقصود من البيوت هو بيوت الأنبياء، لا المساجد.

وبقي لنا أن نعرف المقصود من الرفع.

ويوجد هنا احتمالان:

1. المقصود من الرفع هو الرفع الحسّي.

2. المقصود من الرفع هو الرفع المعنوي.

وعلى ضوء الاحتمال الأوّل، يكون المقصود من الرفع هو رفع الجدران وسمكها، كما ورد في قوله تعالى: ( رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (النازعات: 28) .

ولكن حيث يتحدّث القرآن الكريم حول بيوت لها جدران ولها سقوف،


1- الدر المنثور، ج 6، ص 2٠3. .

ص: 70

فلا شك سيكون المقصود من (الرفع) هو الرفع المعنوي، أي رفعة هذه البيوت وعلوّ شأنها، ومن مظاهر هذا الرفع تطهيرها وصيانتها من التلف.

وهذا الرفع والإجلال هو في الحقيقة لعظمة شأن اهلها الذين قطنوها وما انفكوا يذكرون الله فيها بالغدووالآصال، ولم تمنعهم تجارة أو لهو من إقامة الصلاة وأداء الزكاة، لذا رفع الله شأنها وطهّرها وحفظها من التلف.

وكلّنا نعلم بأنّ الرسول (ص) دفن في بيته -أيّ دفن في البقعة التي كان يذكر الله فيها- فعلى ضوء هذه الآية يكون بيته محترماً وذا قداسة؛ لهذا فإنّ تخريب هذا المكان يعتبر مخالفةً صريحةٌ للأمر القرآني ومخالفة للمتوقّع في خصوص التعامل مع هذا المكان.

وبعض بيوت المدينة هي في الواقع مرقد لشخصيّاتٍ عظيمةٍ، فالزهراء (س) - حسب رواية (1)- ُدفنت في بيتها، وهو موجود حالياً، والإمام الهادي والامام العسكري (ع) أيضاً دُفنا في البيت الذي كان يذكران الله فيه. إذن، نستنتج بأنّ هذه البيوت - حسب صريح هذه الآية - أذِنَ الله لها أن ترفع، وتخريبها مخالفة واضحة لقول الله سبحانه وتعالى.

وفي محلّة بني هاشم كانت هناك آثارٌ لبيت الحسنين ومدرسة الإمام الصادق (ع) ، وأنا شخصياً زرت هذه الأماكن عام 13٩4ه، ولكنّها - مع الأسف الشديد - قد أُزيلت حالياً بذريعة توسعة المسجد النبوي، في حين كان يمكن توسيعه مع حفظ هذه الآثار، ولا يوجد تنافي بين هذين الأمرين.


1- الكافي، ج 1، ص 461. .

ص: 71

4. صيانة القبور تدلّ على الرأفة والمودّة

إنّ لزوم محبّة الرسول (ص) وأهل بيته من أصول الإسلام التي تمّ التأكّيد عليها كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، حيث قد قال الرسول (ص) :

«ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما. . .» . (1)

ومحبّة رسول الله (ص) تتجسّد في أُطُر عديدة، منها: نش-ر أحاديثه وحفظ وصيانة آثاره وبناء قبره. وقد نقل الترمذي في سننه: إنّ النبيّ [(ص)] أخذ بيد حسن وحسين [(ع)]، قال:

«من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما، كان معي في درجتي يوم القيامة» . (2)

وكلّنا نعلم بأنّ السبط الأكبر للنبيّ (ص) مدفون في البقيع والسبط الأصغر مدفون في كربلاء، ومرقد كل واحد منهما كان ولا يزال وسيبقى ملجأ الزوّار المسلمين، وأيّ بناء على مرقديهما للحفاظ عليهما إنّما هو تعبير عن المحبّة لهما، فهما سبطي رسول الله (ص) ، وسيكون أجر هذا العمل هو الأجر الذي ورد في الحديث الشريف الذي ذكرناه آنفاً.

واليوم تحاول شعوب العالم أن تحيي - بشتّى الوسائل - ذكرى شخصيّاتها الوطنيّة والمذهبيّة والسياسيّة والعسكرية ومصلحيها على الصعيد الثقافي؛ ولهذا نجدهم يشيّعون جثامين كبار شخصياتهم بتعظيم ويدفنونهم في مباني مجلّلة، ويحاولون إحياء ذكراهم بين الحين والآخر؛ ليكون هؤلاء أسوة لأجيال المستقبل.


1- جامع الأصول، ج 1، ص 37؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 1٠ و ج ٨، ص 56.
2- جامع الأصول، ج ٩، ص 157؛ سنن الترمذي، ج 5، ص 3٠5. .

ص: 72

ونحن المسلمون أيضاً ينبغي علينا أن نكرّم شخصيّاتنا الرفيعة، وهي شخصيات لا مثيل لها، وذلك بأساليب مختلفة، من قبيل البناء على قبورهم وتشييد نُصُب تذكاري لهم، وغير ذلك من الأمور التي تعبّر عن اهتمامنا بإحياء ذكراهم.

ومع لحاظ هذه الأدلّة:

ألف) سيرة السلف الصالح في الحفاظ على قبور الأنبياء.

ب) صيانة الآثار، صيانةٌ للاصالة.

ج) حفظ المباني المرتبطة بالأولياء هو رفعٌ لبيوتهم.

د) حفظ آثار الأولياء دليلٌ على الرأفة والمودّة.

لا يبقى أدنى مجالٍ للشكّ في مسألة بناء القبور، بل هي أدلّةٌ على كون هذا الامر مطلوباً ومرغوباً.

وفي حديث عن الإمام الصادق (ع) حول تشييد قبور الأولياء: قال أبوعبدالله جعفر بن محمّد:

حدّثني أبي عن أبيه، عن جدّه الحسين بن علي (ع) عن علي (ع) : إنّ رسول الله (ص) قال له: والله لتُقتلنّ بأرض العراق وتُدفن بها. قلت: يا رسول الله، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها؟

فقال لي: يا أباالحسن، إنّ الله تعالى جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنّة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحن إليكم وتحتمل المذلة والأذى فيعمّرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلى الله ومودّة منهم لرسوله. (1)


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، ج 6، ص 22؛ وسائل الشيعة، ج 1٠، من أبواب المزار، ب 26، ح1، يرجي مطالعة تكملة الحديث. .

ص: 73

١٠. الصلاة عند قبور الأولياء

السؤال الذي يطرح هنا، هو : هل تصحّ الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء؟ وهل يجوز الدعاء عندها؟

الجواب : من الأمور التي ينهى عنها الوهّابيّون هي مسألة الدعاء وأداء الصلاة عند قبور الأولياء، وقد كان هؤلاء في بادي الأمر يعتقدون بكراهية الدعاء والصلاة عند هذه القبور، ثمّ تحوّلت هذه العقيدة عندهم من الكراهيّة إلى المنع، ثمّ ادّعوا أنّ هذا الدعاء وهذه الصلاة شرك بالله.

وسنعرض هذه المسألة على القرآن الكريم وسيرة المسلمين لتتّضح بشكلٍ جليٍ ّ وكما يلي:

1. أمر الله تعالى حجّاج بيته الحرام أن يؤدّوا الصلاة في مقام إبراهيم، فقال: ( وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وأَمْناً واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة: 125) .

ويطرح في هذا المقام هذا السؤال: عندما أمر الله المسلمين أن يتّخذوا من مقام إبراهيم (ع) مصلّى لهم، هل توجد حكمة أخرى سوى تشجيع المسلمين على التبرّك بمقام إبراهيم (ع) ؟ ! وهل يوجد اختلاف بين مقام إبراهيم (ع) ومقام نبيّنا محمّد (ص) ؟ ! وهل يوجد فرق بين مقام الأنبياء، وبين قبورهم التي تضمّ جثامينهم الطاهرة؟ !

2. ورد في الأحاديث الشريفة المرتبطة بليلة معراج الرسول (ص) :

إنّ النبي نزل في المدينة وطور سيناء وبيت لحم وصلّى فيها، وقال جبرئيل: صلّيت في طيبة، وإليها مهاجرتك، وصلّيت في طور سيناء، حيث كلّم الله موسى، وصليت في بيت لحم، حيث ولد المسيح. (1)


1- الخصائص الكبرى، ج 1، ص 154. .

ص: 74

مع لحاظ هذا الحديث، فهل يمكن ادّعاء وجود اختلافٍ بين مكان الولادة ومكان الدفن؟ !

وهذا الحديث في الواقع يشير إلى معيار عامّ واحد، وهو أنّ الأرض التي عليها أثر من آثار رجال التوحيد وأهل التقوى، فإنّها أرض مباركة، ويجدر بالإنسان اختيار هذه البقاع محلّاً للعبادة، وأنّ عبادة الله تعالى في هذه الأماكن لا تعتبر عبادة للأنبياء والأولياء، وإنّما هي عبادة لله في أماكن مباركة.

أحياناً نجد أنّ امرأةً مؤمنةً بكرامتها وصبرها تجعل بقعةً ما محلاً لعبادة الله تعالى وطاعته مثل موضع قدم هاجر أمّ إسماعيل، فهي صبرت وتحمّلت المصاعب في سبيل الله، فاختار الله موضع قدمها وجعله محلّاً لعبادته، فأمر الحجّاج بالسعي بين الصفا والمروة، كما سعت هاجر. فإذا كان صبر هذه المرأة العظيمة سبباً لأن يصبح موضع قدمها مباركاً ومحلّاً لعبادة الحجّاج، فلماذا لايكون موضع جثمان الرسول (ص) موضعاً مباركاً ومقدّساً في حين المصاعب التي تحمّلتها هاجر، لاتُقارن بالمصاعب التي تحملّها الرسول الأعظم (ص) ؟ !

والطريف أنّ ابن القيّم وتلميذه ابن تيميّة يعترفون بهذه الحقيقة من حيث لا يعلمون، وفقد قال ابن القيّم: «وإنّ عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة، والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه» . (1)

3. عبد المسلمون الله عزّوجلّ من جميع أنحاء العالم مدّة أربعة عش-ر قرناً بجوار مرقد الرسول (ص) ، فإذا كانت الصلاة عند قبور الأنبياء أمراً مكروهاً


1- زاد المعاد لابن القيم، ج 1، ص 17. .

ص: 75

أو محرّماً أوسبباً لبطلان الصلاة، فلماذا لم يعترض أحد الصحابة أو التابعين والعلماء على هذا الأمر؟ !

أضف إلى ذلك، إذا وقف شخصٌ في ناحية الصفّه وصلّى، سيكون قبر النبي (ص) أمامه، فهل يمكن القول بأنّ هذه الصلاة باطلة أو مكروهة؟ !

4. كلّنا نعرف منزلة ابنة رسول الله (ص) ، وهي سيّدة نساء العالمين التي قال عنها الرسول (ص) :

«فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني» . (1)

وهذه السيّدة الزهراء (س) كانت تذهب في أيّام الجمعة إلى زيارة قبر عمّها حمزة، وتبكي وتصلّي عند قبره. (2)

5. بقيت عائشة بعد وفاة رسول الله (ص) سنوات متمادية في حجرته التي دُفن فيها، وكانت تصلّي عند قبره، ولم يعترض عليها أحد.

وذكر السمهودي: «إنّ عائشة قضت حياتها في بيتها وصلّت فيه تمام عمرها، ولم يكن بينها وبين القبر أيّ جدار إلى أن دفن عمر، فبني جدار حال بينها وبين القبور الثلاثة» . (3)

وهذا الحديث يثبت أنّ زوجة النبي صلّت ما يقارب خمسة عشر عاماً عند قبره، ولم يرد في التأريخ أيّ نصّ يُشير إلى أنّها كانت تخرج للصلاة إلى مكان آخر غير حجرتها.

6. لا يخفى على أحد بأنّ (حجر إسماعيل (ع) يتضمّن قبر هاجر وابنها إسماعيل (ع) ، ولم يفتِ أحد ببطلان أو كراهيّة الصلاة عند هذا الحجر.

ولم يحرّم هؤلاء الصلاة عند قبور الشهداء فقط، بل ذهبوا إلى لزوم عدم


1- صحيح البخاري، ج 5، باب مناقب قرابة رسول الله، ح 3714.
2- انظر: السنن الكبرى للبيهقي، ج 4، ص 7٨؛ مستدرك الصحيحين، ج 1، ص 377.
3- وفاء الوفاء للسمهوديّ، ج 2، ص 544. .

ص: 76

النظر إلى حجرة الرسول (ص) عند الدعاء، وأوجبوا الاتّجاه عند الدعاء نحوالقبلة، في حين سأل أبوجعفر المنصور فقيه المدينة مالك بن أنس، وهما في حرم الرسول (ص) : أستقبل القبلة وأدعوا، أم أستقبل رسول الله (ص) ؟

فأجابه مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة؟

بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله. (1)

فهذه الأدّلة الستّة تكشف بوضوح جواز الصلاة عند قبور الأنبياء والأولياء، فيا تُرى هل يعقل أن تكون الأراضي البائرة أفضل للصلاة من مشاهد الأنبياء والأولياء؟

١١. إقامة المآتم للشهداء

السؤال الذي يطرح هنا، هو : ما الحكمة من إقامة المآتم لمن استشهد في سبيل الله؟

الجواب : الحكمة من إقامة هذه المآتم ليست سوى إجلالهم وحفظ مبادئهم القائمة على أساس التضحية من أجل الدين وعدم الخضوع للذلّ والهوان تحت شعار (هيهات منا الذلّة) ، وشعار (الموت بعزّة أفضل من الحياة بذلّة) . فهؤلاء قدّموا أرواحهم من أجل إعلاء كلمة الحقّ وعزّة المؤمنين، وتكريمهم هو تكريم لمبادئهم وقيمهم وسيرتهم الجهاديّة التي ينبغي للجميع تلقّي الدروس والعبر منها.

فالشهداء بمثابة الشمعة التي تحترق لتضيء الطريق للآخرين، والشهيد


1- انظر: وفاء الوفاء للسمهوديّ، ج 4، ص 1376. .

ص: 77

هو الذي يقدّم حياته من أجل تحرير المجتمع من قيود العبوديّة وظلم الحكومات الجائرة. فهل أنّ تكريم هكذا أشخاص يتنافى مع العقل السليم؟ !

فالرسول قد بكى عند موت أشخاص عادييّن، فهل يعقل تقبيح البكاء على الشهداء وإقامة المآتم لهم؟ !

وأكثر مجالس العزاء التي يقيمها المسلمون لشهدائهم، هي مجالس العزاء باسم الإمام الحسين (ع) ؛ لأنّه سيد الشهداء، وهو الذي علّمنا أكثر من غيره كيف نعيش أحراراً ولا نخضع للظلم والطغيان، وهو الذي علّمنا بأن يقطّعنا الأعداء بسيوفهم إرباً إرباً ونستشهد أعزاء أفضل من نحيا حياة ذلٍّ وخنوع.

وقد اختار الإمام الحسين (ع) هذا الطريق واستشهد في هذا السبيل، وقدّم كلّ ما يمتلك وضحّى بكلّ ما لديه من أجل اعلاء كلمة الحقّ.

وقد قال ابن أبي الحديد حول الإمام الحسين (ع) مايلي:

سيّد أهل الإباء، الذي علّم الناس الحميّة والموت تحت ظلال السيوف اختياراً له على الدنيّة، أبوعبد الله الحسين بن على بن أبي طالب، عرض عليه الأمان فانف من الذّل، وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان -إن لم يقتله- فاختار الموت على ذلك. (1)

ومن هذا المنطلق نحصل على أجابة سؤالين آخرين:

1. هل أنّ مذهب الشيعة هو مذهب حزن وبكاء؟

2. لماذا نقيم مجالس العزاء والمآتم على مصائب الإمام الحسين (ع) ، في حين أنّ مصيره (ع) الجنّة؟ فما هي ثمرة البكاء على أهل الجنّة؟


1- شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 24٩. .

ص: 78

أمّا جواب السؤال الأوّل : مذهب الشيعة هو مذهب يدعو إلى الحقّ والعدل والجهاد في سبيل الله، وهو مذهب يقتدي برسول الله الذي كان يذرف الدموع لفقد أعزائه ويحزن قلبه إزاء ذلك.

وبعبارة أخرى : فإنّ قراءة المراثي للإمام الحسين (ع) وشهداء الطف والبكاء على مصائبهم، أمر طبيعي يدلّ على الصلة العاطفية بين الشيعي وأهل البيت (عليهم السلام) ، وهو ترسيخٌ لأُسس مذهب قائم على أساس التضحيّة في سبيل الله والترفّع عن الذلّة، وإذا لم تعقد هذه المجالس ولم تُحيى ذكرى الشهداء في كلّ عام فسوف يُنسى مبدأ الإيثار والشهادة، فالشيعة يحيون المبادىء التي ثار من أجلها الإمام الحسين (ع) بإحيائهم ذكراه في شهري محرّم وصفر.

وأمّا الجواب على السؤال الثاني : فإنّنا لا نبكي على الإمام الحسين (ع) ؛ لأنّه الآن في الجنّة، بل يسرّنا نيل الإمام الحسين (ع) درجة عند الله باستشهاده في سبيله؛ وإنّما نبكي للمصائب التي تجرّعها سبط الرسول، حيث قتلوه عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، لا ناصر له ولا معين، وسفكوا دماء أهل بيته وأنصاره وهم عطاشى. فالحمزة أيضاً استشهد وذهب إلى الجنّة، ولكن مع ذلك بكى عليه رسول الله (ص) ، بكى؛ لأنّ حمزة استشهد مظلوماً، ومثلّت هند زوجة أبوسفيان بجسده وأخرجت كبده ولاكته بأسنانها.

وعموماً فالحديث حول الحكمة من استشهاد الامام الحسين (ع) طويل، ونحن نكتفى بهذا المقدار، ونوكل الحديث عنه إلى مناسبةٍ أُخرى.

ص: 79

الفصل الثالث: منزلة القرآن الكريم عند الشيعة

١. منزلة القرآن الكريم عند الشيعة

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : هل يصحّ القول بأنّ الشيعة يعتقدون بتحريف القرآن الكريم؟

الجواب : يعتقد الشيعة أنّ القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي لم يحرّف، ولا يوجد عند المسلمين كتاب أصحّ منه، وجميع الكتب الأخرى غير القرآن عُرضةٌ للنقد والمناقشة.

فالقرآن هو سند العقيدة والشريعة، لذا ينبغي للمسلمين أن يرجعوا في معتقداتهم وأحكامهم إليه، وهو الحَكَم عند الاختلاف في أيّة مسألة.

ولم يكن بأيدي الشيعة على مرّ العصور قرآن يختلف عن القرآن الموجود بين أيدينا اليوم.

وأمّا ادّعاء تحريف القرآن المنسوب إلى الشيعة، فهو افتراء وبهتان من قبل بعض الأعداء أو المغفلين. وقد تمسّك هؤلاء ببعض الأحاديث الموجودة في المصادر الروائية الشيعيّة، والتي توهم بتحريف القرآن؛ في حين أنّها لا قيمة لها عند الشيعة، وذلك لتعارضها مع القرآن الكريم.

ص: 80

وإذا كان مجرّد وجود بعض الأحاديث في مصادر الشيعة التي تدلّ ظواهرها على تحريف القرآن يُتغذ ذريعةً لاتّهام الشيعة بهذه العقيدة، فما بال مصادر الحديث عند المذاهب الأخرى التي تزخر بالأحاديث الدالّة بظاهرها على هذا التحريف؟ ! فلماذا لا يتّهمهم أحد بأنّهم يذهبون إلى تحريف القرآن؟ !

وكما قلنا مراراً، ليس كلّ ما يرد في الأحاديث التي ينقلها أصحاب مذهب معيّن يمكن اعتباره دليلاً على معتقداتهم، وذلك لأنّ الأحاديث بحاجة إلى غربلة، وإنّما العقيدة تستنبط من الآيات القرآنية المحكمة والأحاديث الشريفة الصحيحة والأدلّة العقليّة القطعيّة الواضحة.

وسنذكر في هذا المقام ما أشار إليه كبار علماء الشيعة حول نفي تحريف القرآن، لكن نودّ قبل ذلك أن نثبت أصل عدم تحريفه، كمايلي: إنّ معظم الذين يحاولون ترويج شبهة تحريف القرآن هم من المسيحيين واليهود؛ لأنّ كتبهم السماويّة محرّفة ولا اعتبارلها، ولهذا يحاولون الإطاحة بالقرآن الكريم والتقليل من قيمته.

ولكنّ التأريخ يشهد بض-رسٍ قاطع على أنّ نسخ التورات قد فقدت صراراً على مرّ العصور، ولا سيّما عندما غزا بخت نصّر بيت المقدّس، ثم كتبه بعض علماء اليهود بأقلامهم.

ويشهد التأريخ أيضاً بأنّ الأناجيل الأربعة دوّنت بعد سنوات من حياة السيّد المسيح، وأمّا الإنجيل الذي نزل من الله على السيّد المسيح، فلا أثر له ولا وجود له في الواقع الخارجي. (1)


1- راجع كتب: قاموس كتاب المقدس؛ الهدى إلى دين المصطفى. .

ص: 81

فالذين أسّسوا جميع أصولهم العقائديّة ومعارفهم الدينيّة على أمثال هذه الكتب التي لا صلة لها بالسماء، يدّعون بأنّ القرآن الكريم أيضاً لاقى نفس مصير التوراة والإنجيل؛ ولهذا يزعمون تحريفه.

في حين جميع الطُّرق التي جُمع فيها القرآن في جميع مراحل التأريخ الإسلامي غير قابلة للقياس مع تأريخ التوراة والإنجيل في العهود اليهوديّة والمسيحيّة ومختلفة عنها اختلافاً جذريّاً.

ونستلهم من التأريخ بأنّ القرآن الكريم لم يواجه المصير الذي حلّ بالتوراة والإنجيل من إبهام وتعقيد، ويجدر بنا في هذا المقام الإشارة إلى أمرين يتكفّلان الإجابة عن الكثير من الأسئلة والإشكالات المطروحة بشأن القرآن:

1. القرآن الكريم كتاب غيّر جميع شؤون حياة المسلمين الاجتماعيّة، والقرآن قضى على الحياة الجاهليّة وقدّم للبش-ريّة حياة جديدة مبتنية على أساس الإيمان والأصول الإنسانيّة.

إذن، القرآن كتاب له صلة بشؤون حياة المسلمين الأساسيّة، وكان المسلمون يستلهمون منه ما ينفعهم في شؤونهم السياسيّة والاقتصاديّة، والقوانين الأخلاقية، وحتى الآداب والتقاليد العائليّة، فصلتهم بهذا الكتاب وثيقةٌ جدّاً، وهم يقرؤونه كلّ يوم خمس مرّات في صلواتهم، ويرجعون إليه، ثمّ السنّة للانتفاع منهما في جميع شؤون حياتهم.

فالكتاب المتجذّر إلى هذا الحدّ في نفوس الناس، وهو المرجع لهم في جميع أبعاد حياتهم لا يمكن تحريفه دون أن يلتفت الخواصّ والعوامّ إلى ذلك.

ومدى احتمال وقوع تحريف القرآن دون أن يعلم أحدٌ بذلك فهو بمقدار احتمال وقوع التحريف في الدستور لشعب كبير من دون التفات أحد إلى

ص: 82

هذا التحريف!

ويا تُرى هل يمكن تحريف بنود الدستور لأمّة من دون علم أبنائها بذلك، ومن دون صدور أيّ اعتراض منهم؟ !

إنّ دور القرآن الكريم في حياة المسلمين الاجتماعيّة أسمى بكثير من دور الدستور في حياة الأمم في يومنا هذا، ولوكان ثمّة تحريف في القرآن، لواجه ردود فعلٍ شديدةٍ واعتراضاتٍ واسعة من قبل المسلمين.

2. إنّ جمع القرآن الكريم في زمن النبي (ص) والاهتمام الكبير الذي كان يوليه (ص) والمسلمون في حفظه وتدوينه، يثبت لنا استحالة نقصان -ولوكلمة واحدة - من هذا الكتاب المقدّس.

وكما يشهد التأريخ، كان حول النبيّ (ص) عدد كبير من الكتّاب، بحيث يبلغ عددهم ثلاثة وأربعين شخصاً كانت مهمّتهم كتابة ما يأتي به الوحي، فكان الرسول يملي عليهم كلّ آية وكلّ سورة تنزل عليه، وهم يكتبونها، وكان المسلمون يهتمون بحفظ القرآن اهتماماً بالغاً.

وأكثر من اهتمّ بكتابة القرآن الكريم هو عليّ بن أبي طالب (ع) وزيد بن ثابت.

ومن هذا المنطلق توجد حالياً بأيدي المسلمين نسخ متعدّدة من القرآن الذي كتبه هؤلاء، كما كان يوجد في السابق نسخ متعددّة من القرآن يستفيد منها المسلمون ويتلونه ليلَ نهارَ.

كما أنّ عدداً كبيراً من المسلمين في عصر صدر الإسلام كانوا من حفّاظ القرآن، بحيث بذلوا غاية جهدهم لئلّا تفوتهم كلمة واحدة، وعُرفوا بالقرّاء، وقد كان الناس يلجؤون إليهم لتعلّم القرآن.

وكان مدى اهتمام المسلمين والقرّاء في حفظ القرآن والحفاظ عليه كبيراً

ص: 83

جدّاً، بحيث وقع اختلاف ذات يوم بين أُبي بن كعب وعثمان حينما كان خليفةً حول قوله تعالى: ( والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ، فادّعى عثمان بأنّ: الَّذِينَ نزلت بدون (واو) ولهذا يجب حذف الواو من المصاحف. ولكنّ أُبي اعترض عليه وبيّن له بأنّ (الواو) جزء من الآية، ثمّ انفعل أُبي، وقال: لتلحقنّها أو لأضعن سيفي على عاتقي، فألحقوها. (1)

فإذا كان الحديث حول تغيير حرف واحد من القرآن أدّى إلى هذا الاختلاف الكبير، فكيف يمكن القول بأنّ القرآن محرّف وبعض آياته محذوفة؟ !

أضف إلى ذلك، ينبغي الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم بنفسه أشار إلى نفي التحريف عنه، كما في قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر: ٩) .

وقد صرّح المفسّرون وعلماء الكلام بأنّ علماء المسلمين أجمعوا على نفي تحريف القرآن، وإذا كان بين العلماء من يعتقد بتحريف القرآن، فسبب ادّعائه هذا في الواقع بعض الروايات المدسوسة التي وضعها بعض المغرضين في كتب الحديث، ولا شكّ، في أنّ هذه الروايات عديمة القيمة، أو أنّها لا تدلّ على التحريف الحقيقي، كما فهم منها هؤلاء العلماء.

٢. مصحف فاطمة الزهراء (س)

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : يُقال: للشيعة قرآن آخر يُدعى (مصحف فاطمة) ، فما هو مدى صحّة هذا القول؟


1- الدر المنثور، ج 4، ص 37٩. .

ص: 84

الجواب : المصحف لغة: من أصحف، بمعنى ما جُعل فيه الصحف. وإنّما سمّي المصحف مصحفاً لأنّه جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين، وقد قال تعالى: ( وإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (التكوير: 1٠) ، وقال أيضاً ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ ومُوسى) (الأعلى: 1٨ و 1٩) .

وينقل ابن أبي داود السجستاني حول جمع القرآن في مصحف واحد، عن محمّد بن سيرين:

لما توفّى النبي (ص) أقسم علي أن لا يرتدي برداء إلّا جمعةٍ حتّى يجمع القرآن في مصحف.

ونقل أيضاً عن أبوالعالية:

إنّهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر.

وقال أيضاً:

«وأمر بالقرآن فجُمع، وكان أوّل من جمعه في المصحف» . (1)

وهذا يدلّ على أنّ المقصود من المصحف في ذلك الزمان هو الكتاب الكبير أو الكتاب المجلّد الذي يحفظ الصفحات من البعثرة، ثمّ أصبح اسم المصحف بمرور الزمان من الأسماء المختصّة بالقرآن.

وحتّى الأحاديث الشريفة الواردة في مصادر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً تبيّن بأنّ اسم المصحف يُطلق سابقاً على الكتاب أو الدفتر المكتوب.

قال الإمام الصادق (ع) : «

من قرأ القرآن في المصحف متّع ببصره » . (2)

وقال (ع) في حديث آخر: «

قراءة القرآن في المصحف تخفّف العذاب عن


1- كتاب المصاحف للحافظ أبي بكر عبدالله بن أبي داود السجستاني، صص ٩-1٠.
2- كتاب المصاحف للحافظ أبي بكر عبدالله بن أبي داود السجستاني، صص ٩-1٠.

ص: 85

الوالدين » . (1)

وذكر المؤرّخون في ترجمة خالد بن معدان: «كان علمه في مصحف له أزرار وعرى» . (2)

وكان خالد بن معدان من التابعين، وقد لقي سبعين رجلاً من الصحابة، وقد أورد ابن الأثير ترجمته في مادة (كلاعي) . (3)

إذن، لفظ (المصحف) كان يستخدم بمعنى: الكتاب حتّى نهاية القرن الأوّل، ثمّ بمرور الزمان اختصّ بالقرآن الكريم.

بناءاً على هذا، ينبغي أن لا نستغرب من أن يكون لبنت رسول الله (ص) مصحفاً تجمع فيه ما تعلّمته من أبيها وغير ذلك من علومها ومعارفها لتتركه كأفضل ميراث لأبنائها.

ومن حسن الحظ فقد كشف أبناء الزهراء (س) ، عن حقيقة هذا المصحف، وأثبتوا أنّ هذا المصحف ليس إلّا الكتاب المتضمّن للمعلومات المدوّنة.

وقال الإمام الصادق (ع) في حديث آخر حول مصحف فاطمة (س) : «

والله، ما فيه من قرآنكم حرف واحد » ، قال الراوي، قلت: هذا والله العلم، قال (ع) : «

إنه لعلم وما هو بذلك » . (4)

ومن هنا يتّضح لنا أنّ مصحف فاطمة (س) شيء والقرآن الكريم شيء آخر، وكلّ من يحاول جعل مصحف فاطمة (س) ذريعة لاتّهام الشيعة بالقول


1- الكافي، ج 2، ص 613.
2- المصاحف للسجستاني، صص 134 و 135.
3- اللباب في تهذيب الانساب، ج 3، صص 62 و 63.
4- ارشاد الساري بشرح صحيح البخاري، ج 6، ص ٩٩. .

ص: 86

بتحريف القرآن، فهو مفترٍ أو جاهل.

وسنبيّن حقيقة مصحف فاطمة (س) للقرّاء الأعزاء فيما يلي:

المحدَّث في الإسلام

من الأمور المتعارفة بين علماء المسلمين وجود (المحدَّثين) من بين المسلمين. و (المحدَّث) ليس نبيّاً، ولا ينزل عليه الوحي، بل هو ممن تحدِّثه الملائكة فيسمع حديثهم، ولهذا يطلق عليه (محدَّث) ؛ وقد نقل البخاري مايلي: قال النبيّ (ص) : «

لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمّتي منهم أحد فعمر » . (1)

فالروايات الواردة حول (المحدَّثين) بين المسلمين منقولة في كتب الفريقين، والمقام هنا لا يسع لبيان ما ذكره العلماء حول هذا الأمر. وقد ذكر الذين شرحوا صحيح البخاري ما فيه الكفاية لبيان معنى (المحدَّث) .

وخصّص الشيخ الكليني في كتاب الكافي باباً تحت عنوان: إنّ الأئمّة [(ع)] محدّثون مفهّمون، حيث نقل بعض الأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال، وجميع هذه الأحاديث تشير إلى أنّ المحدّث هو من تحدِّثه الملائكة فيسمع صوتها، ولكنّه لايرى لها شخصاً، ولهذا قال الكليني: الأئمّة علماء صادقون مفهّمون محدّثون. (2)

فاطمة محدّثة

كانت فاطمة بنت رسول الله (ص) محدَّثة؛ لانّها بلغت من الكمال درجةًً


1- بخاري، ج 2، ص 1٩4.
2- الكافي، ج 1، صص 325 - 327. .

ص: 87

عُليا، فكانت تسمع صوت الملائكة، ولكنّها لا ترى لهم شخصاً. وازداد حديث الملائكة مع الزهراء (س) بعد رحيل والدها، حيث هيمن عليها الحزن والغم، فكان يأتيها جبرئيل بأمر من الله عزّ وجلّ ويبيّن لها بعض أخبار المستقبل، ويسليها بهذه الطريقة.

وقد قال الإمام الصادق (ع) حول مصحف فاطمة (س) :

انّ الله تعالى لمّا قبض نبيّه (ص) دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجل، فأرسل الله إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدّثها، فشكت ذلك إلى أميرالمؤمنين (ع) ، فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي. فأعلمته بذلك فجعل أميرالمؤمنين يكتب كلّما سمع حتّى أثبت من ذلك مصحفاً، قال ثمّ قال: أمَا إنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون. (1)

٣. مصحف علي (ع)

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : هل كان للإمام علي (ع) مصحف خاصّ به؟

الجواب : يطرح هذا السؤال على نحوين:

يُقال تارةً: ما هو المقصود من مصحف علي (ع) ؟

ويُقال تارةً أخرى: ما هو المقصود من كتاب علي (ع) ؟

المقصود من مصحف علي (ع) هو ما جمعه الإمام علي (ع) من القرآن حسب ترتيب النزول. وروى ابن نديم في (الفهرست) عن علي (ع) أنّه رأى من الناس طيرة عند وفاةالنبي، فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداءه حتّى


1- الكافي، ج 1، باب فيه ذكر الصحيفة، ح 2. .

ص: 88

يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيّام حتّى جمع القرآن.

وقال اليعقوبي: «رَوى بعضهم أنّ علي بن أبي طالب [(ع)] كان جمعه -القرآن - لمّا قبض رسول الله. . . فقال: «هذا القران جمعته» . وكان قد جزّأه سبعة أجزاء، ثمّ ذكر كلّ جزء، والسور الواردة فيه» .

والتأمّل في الأجزاء التي ذكرها اليعقوبي عن قرآن الإمام علي (ع) يكشف عن عدم وجود أيّ اختلافٍ بين عدد السور التبي جمعها الإمام علي (ع) مع عدد سور القرآن الموجود بين أيدينا حالياً، وإذا كان هناك اختلافٌ، فإنّه يرتبط بكيفيّة جمع سور القرآن.

وإذا كان الإمام علي (ع) قد جمع القرآن، فلا منافاة في هذا العمل مع حفظه من التحريف؛ لأنّ الإمام علي (ع) لم يتفرّد في جمع القرآن، بل إنّ عبدالله بن عبّاس أيضاً جمع القرآن، ووجود الاختلاف في كيفيّة الجمع لا تعني وجود التحريف.

وقد حان الوقت الآن للإجابة على الشقّ الثاني من السؤال:

كتاب علي (ع) هو كتاب دوّنه الإمام علي (ع) في عهد الرسول (ص) ، وهو يتضمّن مسائل الحلال والحرام والتعاليم الدينيّة الأخرى التي أملاها عليه الرسول (ص) . فهو كتاب عُرف بأنّه إملاءٌ من رسول الله (ص) بخطّ الإمام علي (ع) . وقد توارثه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، وكان الإمامان الباقر والصادق (ع) يعتمدان عليه كمصدر من مصادر الأحكام الإسلاميّة.

ورَوى النجّاشي، وهو أحد علماء الرجال الشيعة، في ترجمة لمحمّد بن عذافر الصيرفي، مايلي:

عن عذافر الصيرفي قال: كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر (ع) ، فجعل يسأله، وكان أبوجعفر (ع) له مكرّماً، فاختلفا في شيء، فقال أبوجعفر (ع) :

ص: 89

«يا بني قم، فأخرج كتاب عليّ» . فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً وفتحه (ففتحه) ، وجعل ينظر حتّى أخرج المسألة.

فقال له أبوجعفر هذا خطّ علي (ع) وإملاء رسول الله (ص) ، وأقبل على الحكم. وقال: «يا أبا محمد، اذهب أنت وسلمة وأبوالمقدام، حيث شئتم يميناً وشمالاً، فوالله، لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل (ع)» . (1)

وقد بيّنت الأحاديث الشريفة الأخرى بأنّ كتاب عليّ (ع) طوله سبعون ذراعاً، وهو على شكل طومار ملفوف.

وللإمام علي (ع) كتاب آخر يدعى (الصحيفة) ، وهو كتاب خاصّ بأحكام الديّات، قد نُقلت عن هذه الصحيفة الكثير من الأحاديث في المصادر الروائيّة.

وقد قام المحقّق الميرزا علي الميانجي بجمع الأحاديث المرويّة عن كتاب الصحيفة. (2)

ونحن أيضاً قد تحدّثنا بتفصيلٍ عن كتاب علي (ع) وصحيفته في كتابنا (تأريخ الفقه الإسلامي وأدواره) ، وبيّنا فيه الكثير من المسائل المرتبطة بكتاب علي (ع) وصحيفته بصورة مفصلة. (3)

وفي الختام نلفت الانتباه إلى أنّ الإمام علي (ع) وأبناءه وشيعتهم منذ وفاة الرسول (ص) ، ورغم منع تدوين الحديث من قبل السلطات الحاكمة، قد أعاروا أهميّة لتدوين الحديث وحفظ سنّة الرسول (ص) ، ولم يردعهم هذا المنع


1- رجال النجاشي، ترجمة رقم: ٩67.
2- مكاتيب الرسول، ج 1، صص 67-71.
3- انظر: تاريخ الفقه الاسلامي و أدواره، ص 11٨. .

ص: 90

السياسي عن تدوين الحديث، حيث دام هذا المنع مائة عام، إلا أنّه حُكِم بالفشل، واهتمّ بعد ذلك سائر المسلمين بجمع الحديث. وجمع الحديث يعدّ موضوعاً مستقلاً يتطلّب بحثاً تفصيلياً لامجال له هنا.

4. شبهة الاهتمام بالدعاء أكثر من الاهتمام بالقرآن

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : لماذا يهتمّ الشيعة بكتب الدعاء أكثر من اهتمامهم بالقرآن الكريم؟

الجواب : لا يوجد في التعاليم الدينيّة التي وصلتنا عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ما يُشير إلى أنّ الدعاء أهمّ من القرآن الكريم، فالقرآن هو المعجزة الإلهيّة الخالدة، وهو آخر كتابٍ سماويٍ ّ، كما أنّ الكثير من الأحاديث الش-ريفة قد أكّدت على ضرورة قراءته وحفظه وتلاوته بصوت حسن، وهناك الكثير من الكتب دُوّنت حول أهميّته.

ويكفى في هذا المجال مراجعة كتاب (القرآن الكريم في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)) ، وهو الكتاب الذي نُشر في إيران ومصر، وكلّ من يراجع هذا الكتاب يجد عظمة القرآن وأهميته عند أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) .

وتُعير الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في يومنا هذا اهتماماً كبيراً بمسألة حفظ القرآن الكريم، سواء للرجال أم النساء، وحتّى الجيل الناشيء، بحيث نجد بعض الأطفال الذين كان لهم من العمر خمس سنوات أو أقلّ حفظوا القرآن وحازوا على جوائز متعدّدة في المسابقات الدوليّة والمسابقات المحليّة التي تقام سنوياً في إيران، والتي يُدعى فيها حكّام دوليّون. وتعقد هذه المسابقات في مجال الحفظ، والترجمة، والتفسير، ويمنح الفائزون الجوائز من أجل تشجيعهم على الاهتمام بالقرآن الكريم.

ص: 91

كما أسّست الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية قناة خاصّة بالقرآن الكريم تبث برامجها بصورة متواصلة ليلَ نهارَ.

وأمّا اهتمام الشيعة بالأدعيّة، ولا سيّما دعاء كميل ودعاء الندبة، وقراءتهم لهما بصورة جماعيّة في ليالي الجمعة وصباح أيام الجمعة، أدّى إلى توهّم البعض بأنّ الشيعة تهتمّ بالدعاء أكثر من القرآن! ولكن الواقع ليس كذلك، بل الحقيقة هي أنّ الشيعة والسنّة كلاهما يهتمان بالقرآن الكريم، ولكن أهل السنّة لايهتمون بالدعاء كما يهتمّ الشيعة به؛ لأنّهم لا يمتلكون أدعية مثل الشيعة الذين لديهم عدد كبير منها وصلهم عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) ، وهذا ما أدّى إلى قلّة أهل السنّة بالدعاء.

ومن المؤكّد أنّ الدعاء ومناجاة الله من أسمى مراتب العبادة، وقد ورد في الحديث الشريف: «

الدعاء مخّ العبادة » . (1)


1- سفينة البحار، ج 1، مادة: دعا. .

ص: 92

ص: 93

الفصل الرابع: الإمامة عند الشيعة

١. الإمامة في القرآن

اشارة

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : إذا كانت الإمامة من أصول الدين، فلماذا لم يشر القرآن الكريم إلى ذلك؟

الجواب : لا يوجد خلاف بالنسبة إلى ضرورة قيام شخص لائق بتولّي زمام الأمور في المجتمع بعد رحيل الرسول (ص) ، وهذا ما يحكم به عقل كلّ انسان منصف؛ وأمّا القرآن الكريم، فقد أشار إلى الإمامة بصورة عامّة، وليس الأمر، كما ورد في السؤال بأنّ القرآن لم يشر إليها.

وأمّا الآيات القرآنيّة التي ذُكرت فيها إلى الإمامة، فهي كالآتي:

١. آية الولاية

( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ) (المائدة: 55) ، وشأن نزول هذه الآية، كما نقل الكثير من المفسّرين ورواة الحديث، كما يلي:

دخل سائل إلى مسجد الرسول (ص) ، وطلب المساعدة ممّن كان في المسجد،

ص: 94

فلم يعطه أحد شيئاً، وكان الإمام علي (ع) في الركوع، فأشار للسائل ومدّ يديه ليأخذ خاتمه، فتقدّم السائل وأخرج الخاتم من يد الإمام وذهب لشأنه.

وعندما اطّلع الرسول على هذه الواقعه، قال (ص) : «اللّهم، اجعل لي وزيراً من أهلي، كما جعلت هارون من موسى، فأوحى الله عزّ وجل إليه أنّ علياً وزيرك وناصرك. . .» . (1)

وقد ذكر شأن نزول هذه الآية - إضافة إلى علماء الشيعة - 66 شخصاً من كبار علماء الحديث والكلام من أهل السنّة في مصادرهم مع اختلاف يسير، وقد جمع العلّامة الأميني هذه المصادر في كتابه القيّم «الغدير» . (2)

وأما بالنسبة إلى صلة هذه الآية بمسألة الإمامة، نقول:

الولاية في هذه الآية تعني استلام زمام الأمور، ولهذا يُقال للأب والحاكم (ولي) . ويُقال (الأب وليّ الطفل) ، و (الحاكم وليّ القاصر) .

وبما أنّ الكلام في هذه الآية يدور حول (ولي المؤمنين) فالمقصود من ذلك هو الإمامة والحاكميّة.

وكذلك فإنّ القرائن الموجودة في الآية وشأن نزولها دليلٌ على أنّ المقصود من: (الولاية) هنا الإمامة والحاكميّة.

ومن هذه القرائن نذكر مايلي:

1. إذا كان المقصود من (الولي) في (وليكم) ما عدا الولاية والزعامة الدينيّة والحاكميّة السياسيّة، وأُريد منها (المحبّ) و (الناصر) ، فسيكون حص-ر الولاية - أي حص-ر المحبّة والنص-رة - في الله والرسول، والمتصدّق


1- بحار الأنوار، ج 23، ص 221.
2- انظر: الغدير، ج 3، صص 156- 162. .

ص: 95

بالخاتم سيكون حصراً لا معنى له؛ لأنّ المؤمنين بعضهم محبّ وناصر لبعض، ولا تختص المحبّة بهؤلاء الثلاثة.

2. يبدومن الآية بأنّ هؤلاء الثلاثة فقط لهم الولاية على المسلمين، ومن هنا نستنتج بأنّ من تكون له الولاية يغاير من عليه الولاية، وإذا كان الولي في هذه الآية يعنى القائد والحاكم، فالسبيل لتمييز من له الولاية ومن عليه الولاية هو أمر ممكن.

ولكن إذا قلنا إنّ الولي في هذه الآية يعني المُحبّ والناصر، فلا يمكن تمييز من له ومن عليه الولاية؛ لأنّ كلّ واحد من المؤمنين محبّ وناصر للآخر.

3. إذا كان المقصود من الولي في هذه الآية المُحبّ والناصر، فكان المفروض الاكتفاء بقوله: ( الَّذِينَ آمَنُوا) وعدم ذكر قوله: ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ) ؛ لأنّ جميع المؤمنين أحدهم محبّ وناصر للآخر، سواء تصدّقوا في حالةالركوع أم لم يتصدّقوا في تلك الحالة.

لذا، نستنتج بأنّ المقصود من الولاية هنا القيادة والحاكمية.

وهذا ما أشار اليه الرسول (ص) بقوله للإمام علي (ع) : «

أنت ولي كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة » . (1)

وعبارة: «بعدي» أفضل شاهد على أنّ المقصود من الولاية في هذا المقام هو القيادة والحاكميّة في الأمور الدينيّة والدنيوية، وليس المقصود منها المحبّة والنصرة؛ لأنّ المسلمين مكلّفون بمحبّه الإمام علي (ع) ونص-رته في زمن رسول الله (ص) وبعد رحيله (ص) ، ولا يوجد معنى لتخصيص هذه المحبّة والنصرة بعد الرسول (ص) .


1- المستدرك للحاكم، ج 3، ص 111؛ مسند أحمد، ج 4، ص 437. .

ص: 96

٢. آية أولي الأمر

إنّ الآية السابقة ليست الآية الوحيدة المرتبطة بالإمامة والولاية، بل إنّ آية إطاعة أولي الأمر هي أيضاً من الآيات التي أشارت إلى مسألة الإمامة، وهذه الآية قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 5٩) .

وأولو الأمر في هذه الآية هم من تجب طاعتهم إلى جانب طاعة الله وطاعة الرسول (ص) ، وقد قال الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية:

اعلم: أنّ قوله ( وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يدلّ عندنا على أنّ إجماع الأمّة حجّة، والدليل على ذلك، أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ؛ إذ لولم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ والخطأ لكونه خطأ منهيٌّ عنه. . .

فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الأية لا بدّ وأن يكون معصوماً. (1)

وهاتان الآيتان: آية الولاية وآية أوُلي الأمر تشيران إلى مسألة الإمامة بصورة مستقلّة، وتوجد آيات أخرى من قبيل آية إكمال الدين فانّها لا تشير إلى الإمامة بصورة مستقلّة؛ وإنّما هي ذات صلةٍ بالإمامة ولها شأن نزول مختصٍّ بها.


1- مفاتيح الغيب المعروف بتفسير الرازي، ج 1٠، ص 144. .

ص: 97

٣. آية إكمال الدين

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة: 3) .

ذكر المفسّرون وجماعة من المحدّثين أنّ هذه الآية نزلت في حجّة الوداع وفي يوم غدير خم، وهو اليوم الذي نصّب فيه الرسول (ص) الإمام علي (ع) للإمامة بشكلٍ رسميٍّ. (1)

وبعد بيان هذه الآيات الثلاثة، يثبت لنا أنّ مسألة الإمامة جاءت في القرآن الكريم، وأنّ القرآن لم يهملها قَطُّ.

٢. أسماء الأئمَّة في القرآن الكريم

اشارة

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : لماذا لم يذكر القرآن الكريم أسماء الأئمّة الاثني عشر؟

الجواب : إنّ منهجية القرآن التعليميّة هي بيان القضايا والأصول العامّة بشكلٍ كليٍّ، وترك بيان المصاديق والتفاصيل على عاتق الرسول (ص) . وقد كلّف الله تعالى الرسول - إضافة إلى تلاوة القرآن للناس - أن يبيّن لهم أيضاً ما نزل إليهم، وقال تعالى: ( وأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44) .

وإذا تأملنا في هذه الآية نجد أنّ الله تعالى قال للرسول (ص) : ( لِتُبَيِّنَ) ولم يقل: (لتقرأ) أو (لتتلو) ، وهذا يثبت أنّ مهمّته -إضافة إلى القراءة والتلاوة -


1- الدر المنثور، ج 2، ص 2٩٨؛ فتح القدير، ج 2، ص 57؛ ينابيع المودّة، ص 12٠؛ تفسير المنار، ج6، ص 463؛ و قد نقل العلّامة الاميني (رحمه الله) في كتابه الغدير 16 مصدراً جاء فيها بأنّ شأن نزول آية إكمال الدين هو يوم الغدير. انظر: الغدير، ج 1، صص 447- 45٨. .

ص: 98

هي تبيين حقائق القرآن للناس.

إذن، فإنّ المرجع لبيان المصاديق والتفاصيل هو الرسول (ص) ، لا القرآن الكريم، ولهذا نجد من نماذج منهجيّة القرآن في خصوص التعريف بالأشخاص هي كما يلي:

١. التعريف بالاسم

يقتضي الأمر في بعض الأحيان أن يذكر القرآن اسم من يبتغي التعريف به، كما في قوله تعالى: ( ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف: 6) .

٢. التعريف بالعدد

يقتضي الأمر تارةً أن يشير القرآن الكريم إلى عدد من يبتغي التعريف بهم، كما في قوله تعالى: ( ولَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَ-رَ نَقِيباً) (المائدة: 11) .

٣. التعريف بالصفة

اشارة

يقتضي الأمر في بعض الأحيان أن يشير القرآن الكريم إلى صفة من يبتغي التعريف بهم، وذلك كما جاء تعريف نبيّنا الكريم (ص) في التوراة والإنجيل: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (الاعراف: 157) .

لذا، حسب هذه المنهجيّة فإنّ تصوّر ذكر القرآن الكريم أسماء الأئمّة الاثنى عشر مع ذكر أسماء آبائهم وأمّهاتهم، هو تصوّرٌ في غير محلّه؛ لأنّ المصلحة أحياناً تقتضي التعريف بالاسم، وأحياناً أُخرى تقتض-ي التعريف

ص: 99

بالعدد، أو التعريف بالوصف.

وإذا ما تمسّكنا بهذا الأصل وقلنا بلزوم الذكر الص-ريح لجميع المسائل الخلافيّة في القرآن الكريم؛ لئلّا تكون ذريعة للاختلاف بين المسلمين، فإنّنا سنتوقّع مجيء مئات المسائل الكلاميّة والعقائديّة والفقهيّة والش-رعيّة في القرآن، وهي مسائل أدّى الاختلاف بين المسلمين حولها إلى الحروب وسفك الدماء والجدل على مرّ العصور؛ ولكنَّ القرآن الكريم لم يبيّن هذه المسائل بشكلٍ صريحٍ وتفصيليٍّ لتكون هذه الصراحة فصل الخطاب لحلّ النزاعات والاختلافات، ومن هذه المسائل نذكر على سبيل المثال مايلي:

1. هل صفات الله هي عين ذاته أو زائدة على ذاته تعالى؟

2. ما هي حقيقة صفات الله الخبريّة من قبيل الاستواء على العرش؟

3. هل كلام الله قديم أو حادث؟

4. ما هي حدود الجبر والاختيار؟

فهذه المسائل وما شابهها لم ترد في القرآن بشكل واضحٍ ومفصّلٍ بحيث تكون فصل الخطاب لحلّ النزاع، وإنّما وردت حولها آيات عامّة يمكن الاعتماد عليها في الاستنباط.

والحكمة هنا هي أن القرآن دعا الناس للتفكّر والتأمّل في مضامين آياته، وبيان القرآن الكريم لجميع المسائل بصورة تفصيليّةٍ من أجل إرضاء جميع الناس خلاف هذا الأصل القرآني.

التعريف بالاسم لا يُزيل الاختلاف

يظنّ السائل بأنّه لو ورد في القرآن اسم أحد الأئمّة أو أسماء الأئمّة فسيكون هذا الأمر سببا لإزالة الاختلاف بين المسلمين، ولكن الواقع خلاف

ص: 100

ذلك؛ لأنّه تعالى صرّح في بعض الموارد بالأسماء، ولكن هذا التصريح لم يحلّ الاختلاف.

ومثال ذلك أنّ بني إسرائيل طلبوا من الله تعالى أن يعيّن لهم ملكاً يقاتلون تحت إمرته ليستعيدوا أراضيهم المغصوبة ويحرّروا أسراهم من العدو، قال تعالى: ( إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (البقره: 246) .

فعرّف لهم النبيّ باسمه الصريح، فقال: ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) (البقره: 247) .

وهذا ما يكشف بأنّ الله تعالى عرّف لهم من يجب عليهم طاعته بالاسم، لئلّا تبقى ذريعةٌ لأحد في مخالفته أو التمرّد عن أوامره، ولكنهم قالوا: ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا ونَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) (البقره: 247) .

وهذا ما يكشف بأنّ ذكر الاسم لا يكفي لحلّ الاختلاف، بل إنّ الأمر يستدعي أن يكون المجتمع مستعدّاً لطاعة الأوامر الإلهيّة.

وما يدريك، لعلّ ذكر اسماء الأئمّة الاثني عش-ر كان سبباً للمزيد من طغيان الحكّام، وسبباً لقتلهم أبناء الناس للوقوف بوجه ولادة الأئمّة: ، وذلك كما فعل فرعون عندما قتل أبناء بني إسرائيل وذلك في قصّة ولادة النبيّ موسى (ع) .

وما يشهد على ذلك أنّ الفترة الزمنية التي ولد فيها الإمام المهدي (ع) كانت مليئة بالضغوط السياسيّة لدى الحكومة إزاء الشيعة، حيث واجهوا ظلماً واضطهاداً، بحيث كان الإمام العسكري (ع) تحت الإقامة الجبريّة لفترة طويلة، لئلّا يُولد له مولود، أو ليقتل بمجرّد ولادته.

وفي الختام نلفت الانتباه إلى أنّ القرآن الكريم يشبه الدستور، فكما

ص: 101

لايجب للناس أن يتوقّعوا من الدستور بيان التفاصيل، فعليهم أيضاً أن لايتوقّعوا من القرآن بيان الأمور التفصيليّة مع ذكر المصاديق والجزئيّات.

ونحن نرى بأنّ الصلاة والصوم والزكاة على الرغم من أهميّتهما بين سائر الفرائض الشرعيّة، ولكن مع ذلك لم يشر القرآن الكريم إلى جزئيّاتها، بل اكتفى ببيان احكامها العامّة وأوكل أمر بيان الجزئيّات إلى الرسول (ص) .

٣. زمان نشوء الاعتقاد بإمامة الأئمّة الإثني عشر

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : متى نشأ الاعتقاد بإمامة الأئمّه الإثني عش-ر؟ هل نشأ هذا الاعتقاد في عهد الرسالة أو بعد وفاة الإمام العسكري (ع) ؟

الجواب : لقد طرحت مسألة خلافة الأئمة الاثني عشر من قِبل قريش - أو من قِبل بني هاشم - زمن الرسول (ص) ، ولكنّ المسلمين تعرّفوا على أسماء هؤلاء الاثني عشر بصورة تدريجيّة، وكان كلّ إمام يعرّف الإمام والوصي الذي يليه.

وتشير الأدلّة القاطعة إلى أنّ الرسول (ص) عيّن الإمام علي (ع) للإمامة والقيادة من بعده في مناسباتٍ مختلفةٍ، ولا سيّما في يوم الغدير. وأعلن بأنّ إمامة علي (ع) أصل من أصول العقائد الإسلاميّة، كما أنَّه أخبر المسلمين بإمامة سبطيه الحسن والحسين (ع) ، وقال:

«الحسن والحسين سبطاي من هذه الأمّة، إن قاما أو قعدا» . (1)

ونصّ الإمام الحسين (ع) من بعده على ولده الإمام زين العابدين (ع) ، ثمّ ورد النصّ من بعده على الإمام الباقر (ع) ، ثمّ الامام الصادق (ع) الذي أحيا


1- البيهقي، الرسالة في نصيحة العامّة، صص 1٨ و 6٨؛ إحقاق الحق، ج 26، ص 4٨. .

ص: 102

سنّة الرسول (ص) وكان إمام المحدّثين والفقهاء. وهكذا كان كلّ إمام ينصّ على الإمام الذي من بعده، وذلك على الرغم من وجود الكبت والاضطهاد الذي كانوا يتعرّضون له.

وكان كلّ إمام يقوم بمهامه حسب استطاعته وقدرته، وكان الشيعة أيضاً يعتقدون اعتقاداً جازماً بإمامة من يرد عليهم النصّ.

وظنّ البعض بأنّ العقيدة بإمامة إثني عش-ر إماماً قد نشأت بعد وفاة الإمام العسكري (ع) ، ولكن هذا الظنّ ناشئ من الجهل بتأريخ التشيّع، ولدينا بحوث مفصّلة حول تأريخ التشيّع، وبإمكان من يرغب بتوسيع نطاق معرفته في هذا المجال أن يراجع هذه البحوث والدراسات.

4. وصاية الإمام علي (ع)

اشارة

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : لماذا تعتقدون بأنّ الامام علي (ع) هو وصيّ رسول الله (ص) ؟

الجواب : أصبح الإمام علي (ع) وصيّاً لرسول الله في مرحلتين، هما:

أ) مرحلة تجهيز الرسول (ص) : أوصى النبيّ (ص) علياً (ع) حين وفاته (ص) بأن يتولّى أمر تغسيله وتكفينه ودفنه؛ ولهذا قام بهذه الأمور بعد وفاة الرسول (ص) ، وهذه الوصاية لاينكرها أحد، وقد اتّفق المسلمون كافةً على أنّ الإمام علي (ع) كان وصيّاً من قبل الرسول للقيام بأمر تجهيزه بعد وفاته.

ب) الوصاية في أمر الخلافة بعد الرسول (ص) : عيّن الرسول (ص) الإمام علي (ع) في مناسباتٍ عديدةٍ وصيّاً من بعده لإدارة شؤون الأمّة، ولونظرنا إلى هذه المسألة بنظرة بعيدة عن التعصّب، نجد أنّ هذه الوصاية كانت واضحة منذ حياة الرسول (ص) ، بحيث كان يُلقّب في تلك الفترة ب-(الوصي) ، وقد ورد هذا

ص: 103

اللقب في الشعر والنصوص الأدبيّة المنقولة من تلك الفترة.

وينقل المف-سّرون ورواة الحديث في خصوص قوله تعالى: ( وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) ، مايلي:

فجمع النبي رؤوس بني هاشم، وقال: «يا بني عبد المطّلب. . . إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر يكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم؟»

ولقد كرّر النبي العبارة الأخيرة ثلاث مرّات، ولم يجبه في كلّ مدّةٍ سوى الإمام علي (ع) الذي أعلن استعداده. لمؤازرة النبي ونصرته.

وفي المرة الثالثة، قال النبي (ص) :

«إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاستمعوا له وأطيعوا» .

وهذا الحديث معروف بحديث: (يوم الدار) ، وقد نقله الكثير من المحدثين وأهل السير. (1)ولا تقتصر مسألة وصاية الإمام علي (ع) على هذا الحديث، بل توجد أحاديث أخرى تثبتها، منها حديث (الثقلين) ، و (السفينة) ، و (الغدير) ، وهي أحاديث معروفة ولم نذكرها مراعاة للاختصار.

وقد قال أميرالمؤمنين في إحدى خطبه حول أهل بيت الرسول (ص) :

«وفيهم الوصيّة والوراثة» . (2)

وصاية الإمام علي (ع) في شعر الشعراء المعاصرين لعصر الرسالة

كان الإمام علي (ع) معروفاً بلقب (الوصي) في عصر الرسالة، وبعد ذلك


1- تاريخ الطبري، ج 2، صص 31٩ - 321؛ تاريخ كامل، ابن اثير، ج 12، صص 62 و 63؛ منتخب كنزالعمال في حاشية مسند أحمد، ج 5، صص 41 - 42.
2- نهج البلاغة، خطبة 2. .

ص: 104

العصر أيضاً، وكان شعراء عص-ر النبي (ص) يطلقون هذا اللقب عليه في أشعارهم، ونذكرفيما يلي نماذج منها:

1. عبد الله بن أبي سفيان:

وصيّ النبيّ المصطفى وابن عمّه

فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه 2. عبد الرحمن جعيل:

علياً وصيّ المصطفى وابن عمّه

وأوّل من صلّى أخا الدين والتقى 3. ابن التيهان (شارك في حرب بدر) :

إنّ الوصي إمامنا وولينا

برح الخفاء وباحت الأسرار وقد نقل ابن أبي الحديد الكثير من الأشعار التي أنشدها شعراء عص-ر الرسالة وبعدها، حيث لُقّب فيها الإمام علي (ع) ب-(الوصي) . (1)والاعتراض الوحيد الذي يُطرح هنا، هو ما رُوي من أنّ البعض سألوا عائشة عن وصاية الامام علي (ع) ، فقالت إنّ رسول الله (ص) لم يوص لأحدٍ عند وفاته. (2)

ولكنّ هذا الاستدلال لنفي وصاية الإمام علي (ع) غير صحيح؛ لأنّه على فرض وفاة الرسول (ص) في بيت عائشة وأنّه لم يوصِ إلى أحد في تلك الحالة، فهذا ليس دليلاً على نفي وصاية الإمام علي (ع) ؛ لأنّ الرسول (ص) أكّد على هذا الأمر طيلة فترة حياته، وإذا لم يذكر الرسول (ص) وصاية الإمام علي (ع) في لحظة مفارقته للحياة، فهذا لا يدلّ على نفي وصاية أحد بعده.

وأمّا الادّعاء بأن رسول الله (ص) لم يوصِ مطلقاً حين وفاته، فهو غير ممكن،


1- انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، صص 143-15٠.
2- انظر: صحيح البخاري، ج 1، كتاب الوصايا، ح 2741. .

ص: 105

وكيف يترك الرسول (ص) الوصيّة وهو يقول: «

ما حقّ امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيّته مكتوبة عنده » . (1)

5. مَن هم أولو الأمر؟

السؤال الذي يطرح هنا، هو : ما هو الدليل على تفسير (أولي الأمر) في قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 5٩) . بأشخاص معيّنين؟

الجواب : هناك رأيان حول المقصود من (أولي الأمر) ، هما كالتالي:

1. قادة الجيش.

2. علماء الدين.

وذهب البعض إلى الرأي الأوّل؛ لأنّ لفظ (الأمر) يُف-سّر بإصدار الأوامر، ولكن هذا القول غير صحيح لسببين، هما:

أوّلاً : يحتمل أن يكون المقصود من: (الأمر) هنا هو (الشأن والمنزلة) ، ويكون هذا المعنى أكثر انسجاماً مع الرأي الثاني.

ثانياً : هذه الآية تمهيد للآية التي تليها، حيث سنذكرها لاحقاً، وشأن نزول الأخيرة لا ينسجم مع تفسير أولي الأمر بالأمراء وقادة الجيش، بل ينسجم مع الرأي الثاني.

وذكر المفسّرون حول شأن نزول هذه الآية مايلي: «كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكم إلى محمّد؛ لأنه علم أنّه لا يقبل الرشوة ولا يجور في الحكم. فقال المنافق: لا بل بيني وبينك


1- انظر: صحيح البخاري، ج 1، كتاب الوصايا، ح 273٨. .

ص: 106

كعب بن الأشرف؛ لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة» . فنزلت الآية عن اكثر المفسرين. (1)

وبعد هذه الواقعة نزلت آية أولي الأمر والآية التي تليها. وآية أولي الأمر: هي ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 5٩) .

الآية التي تلي آية أولي الأمر هي: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء: 6٠) .

بناءاً على ما تقدّم ذكره فإنّ الرأي الثاني هو الصحيح؛ لأنّ مسائل القضاء ترتبط بعلماء الدين ولا صلة لها بقادة الجيش. ولكن الكلام يدور هنا حول مصداق هؤلاء العلماء.

فهل الآية تشمل جميع العلماء أو تقصد مجموعة خاصّة متّصفه بالعصمة؟

والجواب كامن في نفس هذه الآية، فنقول:

1. لفظ: ( أُولِي الْأَمْرِ) معطوف على لفظ ( الرَّسُولَ) ، وعامل النصب في كليهما هو فعل واحد، قال تعالى: ( أَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) . وهذا ما يكشف بأنّ المعطوف ( أُولِي الْأَمْرِ) في مرحلة القضاء والحكم يكون في رتبة واحدة مع ( الرَّسُولَ) ، فكما أنّ الرسول معصوم من الذنب والاشتباه كذلك أولو الأمر معصومون، ومن هنا نستنتج بانّ المقصود من علماء الدين في هذه الآية هم العلماء المعصومون.


1- مجمع البيان، ج 2، ص 264. .

ص: 107

2. الطاعة المذكورة في هذه الآية لأولي الأمر، مطلقةٌ وغير محدودةٍ أو مقيّدةٍ، مثلاً لم يرد فيها: (أطيعوا أولي الأمر ما لم تكن في أوامرهم معصية لله) ، فلوكانت الطاعة مقيّدة لصحّ القول بأنّ ( أُولِي الْأَمْرِ) غير معصومين.

ولكن بما أنّ طاعة هؤلاء مطلقة فإنّها تكشف عن لزوم عصمة أولي الأمر، وأنّ أوامرهم لا تخالف الشرع أبداً ولا يعتريها الخطأ والاشتباه.

لذلك نجد أنّ الله تعالى جعل طاعة الوالدين محدودة، فقال: ( ووَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) (العنكبوت: 8) .

فطاعة الوالدين في هذه الآية مقيّدةٌ، بينما طاعة أولي الأمر مطلقةٌ، وهذا يدلّ على أنّ أولي الأمر لهم خصوصيّة تختلف عن الوالدين، بحيث أصبحت طاعتهم مطلقة، وهذه الخصوصيّة هي العصمة.

وكما نعلم، فلا يجوز لنا إطاعة أيّ مخلوقٍ فيما يخالف الش-رع، كما قال رسول الله (ص) :

«لا طاعة لمخلوق في معصيته الخالق» . (1)

وقال تعالى: ( إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (الأعراف: 28) .

فمع لحاظ هاذين النصّين نستنتج التالي:

أ) طاعة أولي الأمر في الآية مطلقةٌ وغير مقيّدةٍ.

ب) طاعة أيّ شخص في أمرٍ مخالفٍ للشرع، حرامٌ.

النتيجة : أولو الأمر لا يأمرون بشيء فيه خلاف الشرع أبداً، فلوكان من الممكن أن تصدر منهم أوامر تخالف الشرع لما أمر الله العباد بطاعتهم بصورة مطلقة.


1- وسائل الشيعة، ج ٨، ص 5٩. .

ص: 108

ومن هنا تثبت عصمة أولي الأمر، وحيث لم تثبت العصمة لأحد بعد رسول الله إلا للأئمّة الاثني عشر (ع) ، يكون المقصود من ( أُولِي الْأَمْرِ) هو الأئمّة الإثني عشر: .

وقد ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أكثر من ثلاثين حديثاً صحيحاً ومرسلاً حول تفسير: ( أُولِي الْأَمْرِ) ، وكلّها تؤكّد على أنّ أولي الأمر هم الأئمّة الإثني عشر: . (1)

6. أسطورة خان الأمين

السؤال الذي يطرح هنا، هو : هل صحيح أنّ الشيعة يكرّرون بعد صلاتهم عبارة (خانَ الأمينُ) ثلاث مرّاتٍ؟

هذا السؤال يتضمّن افتراءاً نسبه البعض إلى أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) من أجل تشويه سمعتهم، ولهذا الإفتراء جذور قد لا يعلمها السائل، وذلك أنّ اليهود كانوا يعتقدون بأنّ النبوة يجب أن تكون في سلالة يعقوب، ولايصحّ لها الخروج من هذه السلالة. ولكن عندما بُعث رسول الله (ص) وجاء ببراهين قاطعة على صحّة نبوّته، حاول اليهود وضع عقباتٍ أمامه فاتهموا جبرئيل بالخيانة وقالوا: (خان الأمين! خان الأمين! خان الأمين!) ؛ لأنّه كان من المفروض أن يعطي النبوّة لأحد أبناء إسحاق، ولكّنه نقلها إلى رجلٍ من أبناء إسماعيل (ع) ، وهذا الأمر هو سبب عداوة اليهود الشديدة مع جبرئيل الأمين.

وقال الفخر الرازي في تفسيره: «زعمت اليهود أنّ جبرئيل (ع) عدوّنا،


1- انظر: تفسير البرهان، ج 1، صص 3٨1- 3٨6. .

ص: 109

أُمر أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا، فأنزل الله هذه الآيات» . (1)

وتظاهر اليهود بمحبّة ميكائيل، فواجههم القرآن الكريم بشدّة، فقال تعالى: ( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وهُدىً وبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (البقره: ٩7) .

فانظر ما يقوله اليهود ضدّ المسلمين، وكيف ينسبه البعض إلى الشيعة؟ !

وكلّ من ينسب هذا البهتان إلى الشيعة، فهو لا يتقي الله، وهو من مُناهضي وحدة المسلمين.

وصلاة الشيعة في يومنا هذا لا تخفى على أحد، فملايين الشيعة يؤدّون صلاتهم أمام أنظار العالم، ومن المستحيل أن تجد واحداً منهم يذكر هذه العبارة، بل الجميع يرفعون أيديهم ويقولون (الله اكبر) ثلاث مرّات، بل إنّ غالبية الشيعة لم يسمعوا بهذه العبارة أبداً.

٧- عصمة الأئمّة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : ما هو الدليل على عصمة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ؟

الجواب : العصمة كيفما عرّفناها فهي أوّلاً وبالذات لله تعالى، فهو تعالى في ظلّ علمه الأزلي، منزّه عن الخطأ والاشتباه، وهو الحكيم المنزّه عن الأفعال التي لا تليق بشأنه.

وهذا التنزيه غير مختصّ بعصمة الله تعالى، بل يشمل سائر الصفات الإلهيّة، فهو تعالى العالم والقادر والحيّ بالذات، وعلم وقدرة وحياة كلّ ما


1- التفسير الكبير، ج 3، ص 1٩5. .

ص: 110

سواه منه تعالى.

بعبارة أخرى : فإنّه تعالى هو الغنيّ المطلق، وما سواه فقيرٌ بالذات.

وقد قال تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ واللهُ هو الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: 15) .

وهذا الغنى الإلهي بالذات هو السبب في غنى كلّ من سواه، وهو مصدر حياة جميع المخلوقات وهو الذي يفيض على عباده العلم والقدرة.

ومسألة العصمة من هذا القبيل أيضاً، فهي قدرةٌ يمنحها الله لبعض عباده حسب اقتضاء المصلحة، فيصطفيهم لتعليم عباده وهدايتهم إلى الحقّ، فيدعمهم بقوّةٍ تصونهم من الخطأ والاشتباه دون أن يسلب منهم الإرادة والاختيار.

وهذه القوّة التي يُطلق عليها (روح القدس) قد تكون كامنةً في ذات المعصوم أو قد تكون مُهيّأةً له في الخارج، كالملاك الذي يصونه من الزَّلل. لذا فإنّ العصمة الذاتيّة في عين اختصاصها بالله تعالى، فهي تصون الأنبياء من الوقوع في الخطأ ومن ارتكاب المعاصي بأنواعها؛ وهذا ينطبق مع معتقدات جميع المسلمين حول عصمة نبيّنا الكريم (ص) الذي هو مصونٌ من الخطأ والذنب. وقد ذكرت أدلّة عصمته في مختلف مصادر المسلمين العقائديّة، شيعةً وأشاعرةً ومعتزلةً، وغيرهم.

وأما عصمة الأئمّة الإثني عشر: عن طريق الأدلّة المنقولة، فهي قطعيّة، نذكر هنا بعضها:

1. الأئمّة: ، كما ورد في حديث الثقلين، هم عِدْلُ القرآن، وهذا ما يلازم المساواة والتشابه بينهم وبين القرآن الكريم، وبما أنّ القرآن هو كلام الله وهو معصوم ومنزّه من الخطأ، فلهذا يكون عِدله أيضاً معصوماً ومنزهاً عن الخطأ.

ص: 111

وقال الرسول (ص) إنّ القرآن والعترة لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، فلوجاز صدور الخطأ من العترة، فهذا لافترقت عن القرآن.

فهل يعقل صدور الخطأ ممّن عرّفهم الرسول (ص) ، بأنّهم ما إن تمسّك بهم العباد لن يضلّوا أبداً؟ !

2. آية التطهير التي تتحدّث عن أهل البيت (عليهم السلام) ، قد بيّنت أنّ إرادة الله التكوينيّة والقطعيّة تعلّقت بتطهيرهم من جميع أنواع الرجس.

والمقصود من إرادة الله هو إذهاب الرجس عن أهل البيت (عليهم السلام) وتطهيرهم، حيث يُفسّر هذا المعنى بتفسيرين، هما:

أ) الإرادة التشريعة. أي أنّ الله شاء تطهير أهل البيت (عليهم السلام) من الرجس شرعاً.

ب) الإرادة التكوينيّة. أي أنّ الله طهّر اهل البيت (عليهم السلام) من الرجس ذاتاً في عالم التكوين.

الإرادة وفق المعنى الأوّل غير مختصّة بأهل البيت (عليهم السلام) ، بل قد تشمل جميع الناس؛ لأنّ الله أمر جميع عباده أن يبتعدوا عن الرجس؛ بينما آية التطهير مختصّة بأهل البيت (عليهم السلام) . إذ قال تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .

فالإرادة المقصودة هنا إرادة خاصّة، ولهذا لا يمكن اعتبار هذه الإرادة تشريعيّةً تشمل جميع البشر.

لذا، نستنتج أنّ المقصود من الإرادة الإلهيّة هنا هي الإرادة التكوينيّة، ولايخفى بأنّ هذه الإرادة في خصوص أفعال أهل البيت (عليهم السلام) تعني منحهم مقوّمات الطهارة، وهي في نفس الحين لا تعني سلب قدرتهم عن فعل القبيح.

ص: 112

وشبّه الشيخ المفيد \ العصمة بقوله: «مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به سمّى ذلك الشيء عصمة له، لما تشبث وسلم به من الغرق، ولو لم يعتصم به لم يسمَّ عصمة» . (1)

والأدلّة التي تثبت عصمة الأئمّةالاثني عش-ر: كثيرة جدّاً، ولكنّنا لم نذكرها في هذا المقام مراعاةً للاختصار.

٨. علم الائمّة: بالغيب

السؤال: العلم بالغيب مختصٌّ بالله تعالى، فكيف يمكن أن يعلم به الأنبياء وأئمّة الشيعة؟

الجواب: العلم بالغيب تارةً يطلق على العلم بالغيب الذاتي الذي ينبع من الذات، وهو غير اكتسابي، وليس له حدودٌ تقيّده؛ وهذا العلم مختصّ بالله، ولا يناظره في ذلك أيّ كائنٍ كان. لأنّ كلّ ما سواه فقير بالذات، وكلّ من يتّصف بالعلم فإنّه يستمدّ علمه من الله، ولا يوجد فرق في هذا المقام بين العلم بالأمور الحسّية أوالأمور الخفيّة. فالإنسان لا يبصر ولا يسمع إلّا بإرادة الله تعالى وقدرته.

وتارة يطلق على العلم بالغيب الغير الذاتي وهو اكتسابي.

وهو إذا تعلقت الإرادة الإلهيّة - حسب اقتضاء المصلحة - تعلّق علم الغيب بأحد الأولياء، فهذا الأمر ممكن ولا يوجد أيّ مانع من تحقّقه، ولايوجد محذورٌ في أن يُطلع الله بعض العباد العاديّين على ما عنده من علم الغيب، فكيف إذا أراد أن يطلع الأنبياء والأولياء على هذا العلم؟


1- أوائل المقالات، ص 135. .

ص: 113

وبما أنّ المخاطبين من كلامنا هذا يُذعنون لما جاء في كتاب الله تعالى، نقلو إنّ القرآن الكريم قد صرّح به وذلك في الآيات التي تشير إلى إنباء الرسل والأنبياء على الأمور الغيبيّة، وكلّ من يتأمّل في هذه الآيات، فإنّه لا يسعه إنكار هذه الحقيقة.

وتنقسم الآيات القرآنيّة الواردة في هذا المجال إلى قسمين، كما يلي:

القسم الأوّل : الآيات التي تصرّح بعلم الأنبياء بالأمور الغيبيّة وتثبت أن الله تعالى أطّلع أنبياءه على الغيب.

القسم الثاني : الآيات التي تكشف بوضوح بأنّ الأنبياء أخبروا في بعض الموارد الخاصّة عن الغيب، وهذه الآيات متمّمة للقسم الأوّل في إثبات علم الأنبياء بالغيب.

أمّا آيات القسم الأوّل، فهي:

أ) (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ولكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ ورُسُلِهِ وإِنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 17٩) .

والمقصود من الآية أنّه تعالى لا يرضى بعدم تمييز الخبيث عن الطيب والمنافق عن المؤمن، ويفعل الله من أجل تحقّق هذا الهدف أمرين هما:

1. الاختبار الذي يتميّز فيه المؤمن الحقيقيّ من المنافق، فقال تعالى:

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .

2. إخبار بعض الرُّسل بالغيب ليعلموا واقع كلّ إنسانٍ وليتمكنوا من تمييز الخبيث من الطيّب، فقال تعالى:

(وما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ولكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) .

نستنتج من هذه الآية أنّ الله يصطفى بعض رسله ليطلعهم على الغيب،

ص: 114

وهذا دليل على علمهم بالغيب.

وإذا تأمّلنا بفحوى هذه الآية، سنلاحظ أنّ هذه الفضيلة ليست لجميع الأنبياء، وإنّما تختصّ ببعضهم دون البعض الآخر، وعبارة: ( مِنْ رُسُلِهِ) هي الشاهد على هذا الأمر؛ لأنّ لفظ: ( مِنْ) يدلّ على التبعيض، والله تعالى إنّما: ( يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ) ليطلعهم على الغيب.

ب) (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَض-ى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجن: 26 و 27) .

ويكشف مضمون هذه الآية بأنّ العلم بالغيب بذاته مختصّ بالله تعالى، وأنّه تعالى لا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى من رسولٍ.

٩. الاخبار الغيبيّه عن الأنبياء

اشارة

وأمّا آيات القسم الثاني، فهي تتضمّن الأخبار الغيبيّة التي حُكيت عن الأنبياء، ولا يخفى بأنّ الأنبياء لا يخبرون بالغيب إلّا عند اقتضاء المصلحة. ونذكر من هذه الآيات مايلي:

١. النبي نوح (ع) وإخباره بالغيب

قال النبيّ نوح (ع) : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (نوح: 26 و 27) .

ونجد في هذه الآية أنّ النبيّ نوح أخبر عن أمرين من أمور الغيب، هما:

أوّلاً : سوف لا يؤمن أحد من قومه في المستقبل.

ثانياً : سوف لا يلد أحد من قومه إلّا فاجراً كفّاراً.

ص: 115

٢. يعقوب ويوسف والإخبار بالغيب

إنّ سورة يوسف مليئة بالأخبار الغيبيّة المرتبطة بالنبيّ يعقوب وابنه العزيز يوسف (ع) . ولوتأمّلنا في هذه السورة، سنجد العديد من الآيات الدالة على علم يعقوب ويوسف بالغيب، نذكر منها موردين فقط:

المورد الأوّل :

عرّف يوسف نفسه في اللقاء الأخير الذي كان له مع إخوته وأعطاهم قميصه ليكون البشارة إلى أبيهم، وفور خروجهم من مصر، قال يعقوب:

(إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولا أَنْ تُفَنِّدُونِ) (يوسف: ٩5) .

وليس إخبار يعقوب عن ريح يوسف، وهو يبعد عنه مسافةً شاسعةً إلّا إخبارٌ بالغيب.

المورد الثاني :

عندما ذكر صاحبا يوسف في السجن ماشاهدا في منامهما له، فقد ف-سّر لها ذلك بصورة صحيحة، وهذا دليلٌ على علمه بالغيب في هذا الخصوص، حيث قال لهما: ( أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) (يوسف: 41) .

3. إن الاخبار بالغيب لم يكن مختصّاً بالانبياء، بل نجد في القرآن شواهد على إخبار غير الأنبياء بالغيب، كما أخبر صاحب موسى ومعلّمه عن ثلاثة حوادث ترتبط بالغيب، وهي:

أوّلاً: خرق السفينة.

ثانياً: قتل الغلام.

ثالثاً: بناء الجدار. (1)


1- انظر: (الكهف: 6٠-٨2) . .

ص: 116

٣. السيّد المسيح وإخباره بالغيب

السيّد المسيح عيسى بن مريم (ع) هو حلقة الوصل بين الأنبياء الماضين ورسول الله (ص) هو أحد المخبرين بالغيب، ووصف نفسه بقوله: ( وأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (آل عمران: 4٩) .

ومن معاجزه: ( أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (الصف: 6) .

وهذه الآيات تدلّ بوضوح علم بعض الرسل والأولياء بالغيب. ونتطرّق فيما يلي إلى الحديث عن علم الرسول (ص) والأئمّة الاثني عشر: بالغيب:

4. إخبار رسول الله (ص) بالغيب

١. الإخبار باستشهاد أمير المؤمنين (ع) على يد أشقى الأشقياء

رأى الإمام علي (ع) الرسول (ص) ذات يوم باكياً، فاستفسر منه عن سبب ذلك، فقال (ص) :

يا علي، ابكي لما يستحلّ منك في هذا الشهر، كأنّي بك وأنت تريد أن تصلّي، وقد انبعث أشقى الأوّلين والأخرين، شقيق عاقر ناقة صالح، يض-ربك ضربة على رأسك فيخضب بها لحيتك. (1)

٢. الإخبار بوفاة أبي ذر وحيداً غريباً

جاء في الحديث الشريف أنّ أباذر تأخّر عن الركب في إحدى غزوات الرسول (ص) ، وتمرّدت ناقته عن الحركة ولم تتحرّك.

فلمّا أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثمّ خرج يتبع أثر رسول الله (ص)


1- تاريخ بغداد، ج 1، ص 135؛ الكامل للمبرّد، ج 2، ص 132؛ نهج البلاغة: خطبة 151. .

ص: 117

ماشياً ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظرٌ من المسلمين، فقال: يا رسول الله، إنّ هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله (ص) : «أبا ذر» . فلمّا تأمّله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبوذر. فقال رسول الله: «رحم الله أباذر، يمش-ي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» . (1)

وفعلاً فقد أثبت المستقبل أنّ إخبار الرسول (ص) عن الغيب كان صحيحاً وذلك أنّ أباذر بقي في منطقه الربذة، وتوفّي هناك وحيداً بعد أن عاش هناك فتره يُرثى لحاله فيها، ولم يكن معه إلّا ابنته.

وهاذان الموردان يدلّان على إخبار الرسول (ص) عن الغيب، ونكتفي بهذا المقدار مراعاة للاختصار، وإلّا فالأخبار المذكورة حول علم رسول الله (ص) بالغيب كثيرة، بحيث يحتاج بيانها إلى تأليف كتاب مستقلّ في هذا المجال.

نستنتج من ذلك أنّ : أولياء الله يهذّبون أنفسهم، فيبلغون في صفاء الس-ريرة إلى درجةٍ يطلعهم الله فيها على الغيب، فيخبرون الناس بالغيب. وقد يكون سبب علمهم بالغيب لأنّهم محدَّثون، أي أنّ الملائكة تحدّثهم وتخبرهم بالغيب بإذن الله تعالى.

5. أميرالمؤمنين (ع) وإخباراته بالغيب

اشارة

أخبر أميرالمؤمنين (ع) والأئمّة الأحد عش-ر: بالغيب لأنّهم كانوا محدَّثين، ومن نماذج إخبار الإمام علي (ع) بالغيب مايلي:

١. غرق مدينة البصرة

فتح الإمام علي (ع) مدينة البصرة في حرب الجمل، وذلك بعد أن قض-ى


1- السيرة لابن هشام، ج 2، ص 523. .

ص: 118

على جيش العدووبعد أن قُتل طلحة والزبير. فدخل بعدها الإمام (ع) المسجد وارتقى المنبر وخطب خطبةً، منها:

«وأيمُ اللهِ، لَتَغرقَنَّ بلدتكم حتّى كأنِّي اَنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة، أو نعامة جاثمة» . (1)

وقال ابن أبي الحديد في هذا الصدد:

فإنّ البصرة غرقت مرتين: مرّة في أيّام القادر بالله، ومرّة في أيّام القائم بالله، غرقت بأجمعها، ولم يبقَ منها إلّا مسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر - حسب ما أخبر به أميرالمؤمنين (ع) - [وقد] جاءها الماء من بحر فارس، من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام وخرجت دورها، وغرقت كلّ ما في ضمنها وهلك كثيراً من أهلها. (2)

٢. سيطرة معاوية على أرض العراق

أخبر الإمام علي (ع) بأنّه سيُلاقي ربَّه قبل معاوية، وأنبأ بأنّ سوف يسيطر من بعده على العراق، لكنّه (ع) لم يصرّح باسم معاوية، بل أشار إلى صفات لاتنطبق إلّا على معاوية، حيث قال (ع) :

أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل. . . ألاَ وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي؛ فأمّا السبّ فسبّوني، فإنّه لي زكاة ولكم نجاة؛ وأمّا البراءة فلا تبرّؤوا مني، فإنّي وُلدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة. (3)


1- نهج البلاغة: خطبة 12.
2- شرح ابن أبي الحديد، ج 1، ص 253.
3- المصدر نفسه. .

ص: 119

٣. الإخبار بمصير الخوارج في حرب النهروان

أتمّ الامام علي (ع) الحجة على الخوارج قبل حرب النهروان، فلمّا عزم على حربهم، قال لاصحابه:

«والله، لا يفلت منهم عش-رة، ولا يهلك منكم عشرة» . (1)

قال ابن أبي الحديد في هذا الصدد: «هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة لاشتهاره ونقل الناس كافة له، وهو من معجزاته وأخباره المفصّلة عن الغيوب» . (2)


1- نهج البلاغة، خطبة 5٨.
2- المصدر نفسه. .

ص: 120

ص: 121

الفصل الخامس: أهل البيت (عليهم السلام)

١. من هُم أهل البيت حسب اعتقاد الشيعة؟

اشارة

لقد تحدّث القرآن عن إرادة الله لإذهاب الرجس عن أهل البيت (عليهم السلام) فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: من هم أهل البيت حسب اعتقاد الشيعة؟

الجواب : السائل يقصد قوله تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب: 33) .

وللحديث عن آية التطهير يتطلّب الأمر تسليط الضوء على أمرين، هما:

1. المقصود من أهل البيت وفي أيّ موارد يستعمل العرب هذا المصطلح؟

2. من هم الذين نزلت بشأنهم هذه الآية؟

بيان مفهوم (أَهْلَ الْبَيْتِ)

مصطلح ( أَهْلَ الْبَيْتِ) مركب من كلمتين، هما:

1. أهل.

2. بيت.

ص: 122

ومفهوم كلّ واحدة من هاتين الكلمتين واضح ولا غبار عليه، ولا حاجة في هذا المقام إلى مراجعة المعاجم اللغوّية. وتستخدم كلمة الأهل في موارد عديدة، منها:

أهل الأمر: من بأيديهم زمام أمور السلطة.

أهل الإنجيل: أتباع الإنجيل، وهم النصارى.

أهل الكتاب: أتباع الكتب السماويّة.

أهل الإسلام: أتباع دين الإسلام.

أهل الرجل: الذين لهم قرابة معه.

أهل البيت (عليهم السلام) الذين تربطهم قرابة ويعيشون في بيت واحد بصورة مشتركة.

أهل الماء: الكائنات الحيّة التي تعيش في الماء أو تعيش في جواره.

إذن، نستنتج ممّا ذكر أنّ كلمة أهل تضاف إلى ما ينتسب إليه الإنسان أو ألى ما يختصّ به أو إلى ما يستأنس به.

ولهذا قال ابن منظور في لسان العرب «أهلُ الرجل أخصّ الناس به» . (1)

بعبارة أخرى :

عندما يُقال ( أهل الرجل ) فالمقصود هو المرتبطون به والذين يعتبرون من أتباعه وذويه، ومن هذا المنطلق يجب القول بأنّ أهل البيت مفهوم واسع يشمل أبناء وزوجات الإنسان.

ولهذا استخدم القرآن هذا المصطلح بشأن زوجة النبي إبراهيم (ع) ، فقد قال تعالى حكايةً عن خطاب الملائكة لإبراهيم (ع) : ( رَحْمَتُ اللهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) (هود: 74) .


1- لسان العرب، ج 1، ص 2٩. .

ص: 123

من هم المقصودون من أهل البيت في آية التطهير؟

اشارة

ذكرنا أن مصطلح أهل البيت (عليهم السلام) هو لفظٌ عامٌّ يشمل الأبناء والزوجات، لذا، فإنّنا إذا لم نجد دليلاً يخرج زوجات النبيّ (ص) من أهل البيت -في آية التطهير- سنحكم بأنهنّ من أهل البيت (عليهم السلام) ولكن لدينا أدلّةٌ وقرائن كثيرة تدلّ على تخصيص أهل البيت في آية التطهير، برسول الله (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين: فقط، لذلك يثبت لنا أنّ زوجات النبيّ (ص) لسن من أهل البيت في آية التطهير. ومن هذه الشواهد والقرائن نذكر مايلي:

١. لفظ (البيت) يدلّ على معنىً معيّنٍ

الألف واللام في (البيت) ليست للجنس أو الاستغراق، وإنّما هي للعهد، وتعني الإشارة إلى البيت المعهود؛ إذ لو كان المقصود من الآية بيوت زوجات النبيّ (ص) للزم أن يُقال: أهل البيوت، لأنّ سياق الأية يدلّ عل الجمع لا المفرد.

فقد قال تعالى: ( وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) (الأحزاب: 33) .

وعبارة ( بُيُوتِكُنَّ) إشارة إلى مجموع غرف نساء النبيّ (ص) ، حيث كانت كلّ غرفة متعلّقة بواحدة منهنّ، ولكن آية التطهير تشير إلى بيت واحد، وهذا يلزم تحديد بيتٍ واحدٍ، ولا يصحّ القول بأنّ المقصود من البيت هو واحد من البيوت المرتبطة بنساء النبيّ (ص) ، لأنّ مفهوم الآية في هذه الحالة يكون مبهماً وغامضاً ومجملاً.

كما لا توجد أيّة قرينة على رجحان أحد بيوت نساء النبيّ (ص) على الآخر.

إذن، نستنتج أنّ هذا البيت يجب أن يكون معزولاً عن بيوت زوجات

ص: 124

النبيّ (ص) ، وهو ليس سوى بيت فاطمة (س) ؛ لأنّه متعلّق بالنبيّ (ص) وفي نفس الوقت يعيش فيه أربعة أشخاص بصورة مشتركة.

ويؤيّد هذا الرأي حديثٌ نقله السيوطى في تفسير آية: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) حيث قال:

عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله هذه الآية: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) فقام إليه رجل، فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء» .

فقام إليه أبوبكر، فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها؟ - مشيراً إلى بيت علي وفاطمة [(ع)] -.

قال: «نعم، من أفاضلها» . (1)

٢. استخدام ضمائر مذكّرة

تحدّث القرآن الكريم في سورة الأحزاب من الآية 2٩ حتّى الآية 34 حول نساء النبيّ (ص) ، وجاءت الضمائر في جميع هذه الآيات بصيغة التأنيث لأنّها مختصّة بنساء النبيّ (ص) وهذا ينطبق مع قواعد النحو في اللغة العربيّة، وقد تضمّنت هذه الآيات أكثر من عش-رين ضميراً مؤنّثاً منها: ( كُنْتُنَّ) ، ( فَتَعالَيْنَ) ، ( أُمَتِّعْكُنَّ) ، ( أُسَرِّحْكُنَّ) ، ( تُرِدْنَ) ، ( لَسْتُنَّ) ، ( اتَّقَيْتُنَّ) ، ( فَلا تَخْضَعْنَ) ، ( قُلْنَ) ، ( قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) ، ( تَبَرَّجْنَ) ، ( آتِينَ) ، ( أَطِعْنَ) ، و ( اذْكُرْنَ) ، إلخ.

ولكن عندما بدأ الحديث عن (أهل البيت) في آية التطهير، وهي الآية 33


1- الدر المنثور، ج 6، ص 2٠3؛ تفسير سورة النور، روح المعاني، ج 1٨، ص 174. .

ص: 125

من سورة الأحزاب تغيّر المخاطب، وتغيّرت الضمائر من المؤنث إلى المذكر. وقال تعالى: ( عَنْكُمُ الرِّجْسَ) ، و ( يُطَهِّرَكُمْ) وهنا ينبغي علينا البحث من أجل معرفة أسباب هذا التغيير.

وسبب هذا التغيير هو أنّ الآية 33 نزلت في حقّ غير نساء النبي (ص) .

وأمّا بالنسبة إلى سبب مجيئها ضمن الآيات المرتبطة بنساء النبي (ص) ، فسوف نتحدّث عنه لاحقاً.

٣. أهل البيت في أحاديث الرسول (ص)

تؤكد الأحاديث المتظافرة، بل المتواترة عن الرسول (ص) على أنّ المقصود من آية التطهير هو النبيّ (ص) فقط والساكنون في بيت فاطمة، وقد نقل هذه الأحاديث مجموعة من الصحابة عن النبي (ص) ، منهم: 1-أبوسعيد الخدري، 2-أنس بن مالك، 3- أبوإسحاق، 4-واثلة بن الأسقع، 5- أبوهريرة، 6-أبوالحمراء، 7- سعد بن أبي الوقّاص، ٨-عائشة، ٩- أمّ سلمة، 1٠-ابن عبّاس.

وقد بيّن رسول الله (ص) في هذه الأحاديث المقصود من اهل البيت (عليهم السلام) ، ونذكر فيما يلي أمرين يثبتان ذلك، هما:

الأوّل : ألقى رسول الله على اربعة من أهل بيته: عباءه أو قطيفته، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين: وعندما طلبت أمّ سلمه أن تلتحق بهم تحت الكساء، لم يوافق الرسول (ص) ، وقال:

«اللهّم، هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» . (1)


1- تفسير الطبري، ج 12، ص ٩. .

ص: 126

الثاني: قصد الرسول (ص) بيت فاطمة (س) مدّة ثمانية أشهر عندما كان يذهب إلى المسجد لصلاة الصبح، وكان يدعو أهله إلى الصلاة، ثمّ تلا هذه الآية: ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ. . .) .

وهاذان الموقفان من الرسول (ص) يكشفان معنى (اهل البيت) في آية التطهير على نحوالتعيين.

ومن الأحاديث الواردة في هذا المجال نذكر مايلي:

قال أبوسعيد الخدري: قال رسول الله (ص) : «نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ، وفي علي، وحسن وحسين وفاطمة» . (1)

ورُوي عن أمّ سلمة أنّها قالت: في بيتي نزلت: ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) . [و] جائت فاطمة إلى رسول الله ببرمة فيها عصيرة تحلّها على طبق، فوضعته بين يديه، فقال: «أين ابن عمّك وابناك؟» . فقالت: «في البيت» . فقال: «ادعيهم» . (2)فجاءت تقود ابنيها كلّ واحد منهما في يد وعلي يمشي في أثرهما حتى دخلوا على رسول الله فأجلسهما في حجره، وجلس علي [(ع)] عن يمينه، وجلست فاطمة [(س)] عن يساره. (3)

فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله (ص) : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) . فأخذ النبيّ (ص) بفضلة ازاره فغشاهم إيّاها، ثمّ أخرج يده من الكساء، وأومأ بها إلى السماء، ثمّ قال: «اللّهم، هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» .


1- تفسير الطبري، ج 12، ص ٩.
2- المصدر نفسه، ج 1٠، ص 1٠.
3- الدر المنثور، ج 5، ص 376. .

ص: 127

قالها ثلاث مرّات.

قالت أمّ سلمة: فأدخلت رأسى في الستر، فقلت: يا رسول الله، وأنا معكم؟ فقال: «إنّك [إلى] خير» . (1)

وقدر ورد مضمون هذه القصّة في مصادر الحديث والتفسير، وكلّ ما رُوي يشير إلى أنّ المقصود من ( أَهْلَ الْبَيْتِ) في آية التطهير خمسة لا غير.

وحتى أفضل وأطهر زوجات النبيّ (ص) أيضاً لم تشارك هؤلاء في هذه الفضيلة.

وكان الرسول (ص) أربعين يوماً حسب رواية أو ثمانية أشهر حسب رواية أخرى، أو تسعة أشهر حسب رواية ثالثة، يقف عند باب بيت علي (ع) عندما كان يقصد المسجد لصلاة الصبح، ويقول: «الصلاة، الصلاة، ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) » . (2)

فمع لحاظ هذه الأحاديث هل يمكن ادّعاء تفسيرٍ آخر لآية التطهير؟

والغريب هو ما ادّعاه رئيس تحرير مجلة (ترجمان الحديث) في لاهور باكستان، وهو إحسان إلهي ظهير، حيث يعتبر نفسه مترجماً لأحاديث رسول الله (ص) ، حيث تجاهل جميع هذه الأحاديث التي تؤكّد على بيان مصداق ( أَهْلَ الْبَيْتِ) في آية التطهير، واستند في كتابه (الشيعة وأهل البيت) إلى رواية عكرمه - وهو من الخوارج - وادّعى أنّ المقصود من ( أَهْلَ الْبَيْتِ) في هذه الآية نساء النبيّ (ص) ، وقال إنّه يصحّ الحاق الأبناء أيضاً ب- ( أَهْلَ الْبَيْتِ) على نحو المجاز.


1- الدر المنثور، ج 5، صص 376 - 377؛ تفسير الطبري، ج 1٠، ص 1٠.
2- راجع: تفسير الطبري، ج 24، صص 5-7؛ تفسير الدر المنثور، ج 5، صص 1٩٨ و 1٩٩. .

ص: 128

والسؤال الآخر هو: لماذا جاءت آية التطهير في سياق الآيات المرتبطة بنساء النبي (ص) ؟

الجواب: نرى في القرآن الكريم أحياناً، أنّه تعالى يتحدّث حول موضوعٍ ما ثمّ ينتقل بدون مقدّمة إلى موضوعٍ آخر، ثمّ يعود مرّةً أُخرى إلى الموضوع الأوّل. ومن ذلك قصّة يوسف (ع) ، عندما انكشفت خيانة زوجة العزيز واطّلع زوجها على الحقيقة، وعندها التفت العزيز إلى زوجته، وقال لها: ( إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف: 28) .

وبصورة مفاجئة يتغيّر خطاب القرآن الكريم، وينتقل إلى يوسف، فيقول تعالى: ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (يوسف: 2٩) .

وأمّا في خصوص آية التطهير، فإنّه يمكن ذكر سببين حول علّة مجيء عبارة ( أَهْلَ الْبَيْتِ) ضمن الآيات التي تتحدّث عن نساء النبي، وهما:

1. نلاحظ أنّ الله تعالى عندما خاطب نساء النبي (ص) توجّه إليهنّ بالتهديد، وقال:

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (الاحزاب: 3٠) .

ثمّ أشار الله إلى ( أَهْلَ الْبَيْتِ) ، ليقدّمهم نموذجاً يلزم على نساء النبيّ (ص) الاقتداء بهم واقتفاء أثرهم.

2. الكثير من مسلمي صدر الإسلام كانوا يبغضون عليّاً (ع) وأهل بيته: ؛ لأنّه (ع) قتل العديد من أبناء قبائلهم وعشائرهم في حروب الإسلام ضدّ الجاهليّة، وبسبب هذا الاستياء العام من الإمام علي (ع) والحقد الدفين في قلوب الكثير إزاءه، فقد ظهرت هذا الأحقاد وبشكلٍ علنيٍّ بعد وفاة

ص: 129

الرسول (ص) ، فانتقموا منه ومن أهل بيته.

إلى هنا نكتفي بهذا المقدار، ونختم الكلام بنقل حديث عن سعد بن أبي الوقّاص، حيث قال: «دعا رسول الله بحسن وحسين وفاطمة وعلي، فضمّهم إليه ونشر عليهم الثوب، والحجاب على أمّ سلمة مض-روب، ثمّ قال: «اللّهم، هؤلاء أهل بيتي، اللّهم، أذهب عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً» . قالت أم سلمة: فأنا معهم يا نبيّ الله؟ قال: «أنت على ملائك وإنّكِ على خير» . (1)

٢. حديث الملائكة مع فاطمة الزهراء

السؤال الذي يطرح هنا، هو : كيف يمكن إثبات صحّة حديث الملائكة مع فاطمة بنت رسول الله (س) ؟

الجواب : ليس هناك شكّ في حديث الملائكة مع الأنبياء من أجل إبلاغ الوحي الإلهي، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ حديث الملائكة غير مختصّ بالأنبياء، بل هناك عباد ليسوا أنبياء، ومع ذلك تحدّثت معهم الملائكة، وهؤلاء يطلق عليهم: محدَّثون.

وقد ورد في أحاديث الفريقين ذكر بعض المحدَّثين، وهم الذين تحدّثهم الملائكة.

والمحدَّث هو الذي يصل إلى درجةٍ من الكمال، بحيث يتمكّن من استماع الأصوات البرزخيّة التي يعجز عامة الناس عن سماعها، وهذا الكمال هو الذي يمكّن هؤلاء من الارتقاء المعنوي حتى يصل بهم المستوى حدّ التمكّن


1- جامع الأصول، ج 1٠، صص 1٠1 و 1٠2؛ الدر المنثور، ج 5، ص 1٩٨. .

ص: 130

من استماع حديث الملائكة معهم.

وقد ورد في الأحاديث الش-ريفة بأنّ فاطمة بنت رسول الله كانت (محدَّثة) . (1)

يعتقد البعض بأنّ الملائكة لا تتحدّث مع غير الأنبياء، ولكنّ هذه العقيدة تخاف القرآن الكريم، حيث أشار إلى حديث الملائكة مع مريم بنت عمران، وذلك في قوله تعالى: ( وإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (النساء: 42) .

فحديث الملائكة مع شخص لا تعني نبوّته، بل تعني بلوغه أعلا درجات الإيمان. وقد ذكر القرآن الكريم أيضاً حديث الملائكة مع زوجة ابراهيم: ( قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود: 73) .

ومسألة الإلهام والفتوحات الغيبيّة في خصوص أولياء الله مسألة كلاميّة وفلسفيّة واسعة جدّاً، بحيث لا يمكن تفصيلها في هذا الكتاب الموجز.

ولكن يمكن القول باختصارٍ إنّ عص-ر النبوّة والرسالة - بمعنى قيادة البش-رّية عن طريق الوحي التش-ريعي - قد انتهى، ولا يوجد نبيّ بعد رسول الله (ص) ، إلا أنّ الإلهام لم ينقطع، وبإمكان أيّ إنسان أن يرى ويسمع ما لا يراه ولا يسمعه عامّة الناس وذلك عن طريق تهذيب نفسه.

وقد قال تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (الانفال: 2٩) .

وقال أميرالمؤمنين في وصف السالك الطريق إلى الله سبحانه: «قد أحيا


1- انظر: بحارالأنوار، ج 43، ص 7٩. .

ص: 131

عقله وأمات نفسه، حتّى دقّ جليلُهُ ولطف غليظُهُ، وبرق له، لا مع كثير البرق، فأبان له الطريق وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربّه» . (1)

٣. كيفيّة الصلاة على النبي (ص)

السؤال الذي يطرح هنا، هو : كيف نصلّي على النبيّ محمّد (ص) ؟

الجواب : الصلاة على أشرف الخلف هو عمل يرتضيه الله تعالى، وقد سبق الله تعالى الجميع في الصلاة على النبيّ، فقال: ( إِنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الاحزاب: 56) .

وذكر الصلوات في أيّ زمان وفي جميع الحالات هو أمر مستحبّ، ولهذا لم تحدّد هذه الآية وقتاً أو مكاناً خاصّاً للصلاة على النبي (ص) ، وإنّ كان لبعض الأحيان أولويّة للصلوات، ولا سيّما عند ذكر أو استماع اسم النبيّ صلوات الله عليه وآله.

وأمّا كيفيّة الصلاة على النبيّ (ص) ؛ فقد ورد في صحيح البخاري عن عبدالله بن عيسى أنّه سمع عبدالرحمن [بن أبي ليلى]، قال (ع)

لقيني كعب بن عجزه، فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبيّ؟ ! فقلت: بلى، فاهدها. فقال: سألْنا رسول الله فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإنّ الله قد علمنا كيف نسلّم؟ قال (ص) قولوا: «اللّهمّ، صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل


1- نهج البلاغة: خطبة 22٠. .

ص: 132

إبراهيم إنّك حميد مجيد، اللّهمّ، بارك على محمّد وعلى آل محمّدكما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنّك حميد مجيد» . (1)

ويتّضح من هذه الحديث لزوم ذكر آل محمّد عند الصلوات على النبيّ محمّد (ص) لتكون الصلاة كاملة.

وقول البعض في يومنا هذا بعد ذكر النبيّ «صلّى الله عليه وسلّم» ، هو في الحقيقة مخالفٌ تماماً لما أمر به رسول الله (ص) .

ونقل ابن حجر الهيثمي (٨٩٩ -٩74ه) مايلي: «إذ قال رسول الله: «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء» . فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: «تقولون: اللّهمّ، صلّى على محمّد وتسكتون، بل قولوا: اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد» . (2)

إذن، نستنتج ممّا ذكر أنّ: صلاة الشيعة على النبيّ هي صلاة كاملة ومطابقة للأحاديث المرويّة في صحيح البخاري الذي هو أصحّ كتب الحديث عند أهل السنّة.

ويجدر أيضاً عند الصلاة على محمّد وآل محمّد أن نقول بعدها: «كما صليّت على ابراهيم وآل ابراهيم» .

ولكن هذه العبارة تُترك في بعض الأحيان مراعاة للاختصار، كما أنّ الرسول (ص) أيضاً في الحديث الثاني الذي ذكرناه لم يذكر هذه العبارة.

أضف إلى ذلك، فإنّ عبارة «كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم» ، ليست جزءاً من الصلاة، بل هي عبارة تعلّمنا بأنّه كما يلزم الصلاة على


1- صحيح البخاري، ج 4، ص 1٨٨؛ كتاب بدء الخلق، ج 6، ص 67؛ باب تفسير سورة الأحزاب، ج 7، ص 157.
2- الصواعق المحرقة، ص 146. .

ص: 133

آل إبراهيم إضافة إلى الصلاة على إبراهيم، فإنّه يلزم علينا أن نصلّي على آل محمّد كما نصلّي على النبيّ محمّد (ص) ، وألّا نفصل في الصلاة بين محمّد وآل محمّد فتكون مبتورةً.

والملفت للنظر أنّه لا يوجد في الصحيحين ولا الكتب الأخرى، أيّ حديثٍ عن الصلاة على الصحابة، في حين نجد أهل السنّة عندما يريدون أداء الصلاة على محمّد كاملة، فإنّهم يقولون: اللهم صلِّ على محمّد وعلى آله وصحبه.

4. الغلو في أهل البيت (عليهم السلام)

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : ألا يُغالي الشيعة في عقيدتهم بأهل البيت (عليهم السلام) ؟

الجواب : الغلوّ في اللغة العربيّة يعني تجاوز الحدّ.

ومثال ذلك أن يُقال عن طبيب عادي بأنّه متخصّص في أمراض القلب، أو أن يفرط الإنسان في بيانه لصفات الآخرين الظاهريّة والباطنيّة. وبما أنّ الغلوّ مذموم، فقد نهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلوّ في دينهم قائلاً:

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: 171؛ المائدة: 77) .

وقد عرّف أميرالمؤمنين (ع) سلوك وتصرّفات وحديث أهل البيت بأنّها الحدّ للشريعة والعقيدة الحقّة، فقال:

«نحن النُمرقة الوسطى، بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي» . (1)

لذلك فإنّ اتّهام أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بالغلوهو اتّهام باطل، وهو ناشئ من الجهل بعقائدهم ومبانيهم الفكريّة وأدلّتهم التي يعتمدون عليها.


1- نهج البلاغه، الحكمة 1٠٩. .

ص: 134

والمغالي - في الواقع - هو الذي يعتقد بأنّ للأئمّة: مقاماً يفوق مقام العبوديّة، أو يرى أنّهم آلهةً.

ومثال ذلك أن يقول بأنّهم خلقوا الأرض والسماء، وهذا هو الش-رك في الخالقيّة؛ أو يعتقد بأنّهم أرباب من دون الله، بحيث لديهم القدرة الذاتية بأنّ يرزقون ويحيون ويميتون، وهذا هو الش-رك في الربوبيّة؛ أو يعتقد بأنّ الله فوّض إليهم أمر التشريع، وأنّهم يحرّمون ما أحلّه الله، ويحلّلون ما حرّمه، وهذا هو الشرك في التشريع.

وأتباع أهل البيت (عليهم السلام) لا يتجاوزن التوحيد الحقيقي في جميع مراتبه قيد أُنملة، ويعتقدون بأنّ الخالف والربّ والمش-رّع الحقيقي هو الله تعالى، ويؤمنون بأن الأئمّة: عباد الله مكرمون، ولهم منزلة رفيعة عند الله.

ويعتقد الشيعة بأنّ الأئمّة: إذا صدر منهم أمر خارق للعادة أو استجاب الله دعاءهم وغيّر بدعائهم شيئاً من الكون؛ فكلّه إنمّا هو بتأثيرٍ مباشرٍ من الله تعالى وبإذنه وكما أنّ صدور المعجزة من الأنبياء لا يخرجهم من مقام عبوديّتهم لله، فكذلك الأئمّة: تصدر منهم الأمور الخارقة للعادة بإذن الله، ولا يثبت هذا الأمر مقاماً يخرجهم من كونهم عباداً لله تعالى.

فشفاعة الأئمة: في يوم القيامة هي بإذن الله تعالى، والتوسّل بهم إنّما يجوز لمنزلتهم العظيمة عند الله تعالى.

وليس ذكر فضائلهم ومناقبهم إلّا تعبيرٌ وإظهارٌ لمودّتهم ومحبّتهم التي دعا إليها القرآن الكريم، ودعت إليها السنّة الش-ريفة. ولا يخفى على أحد بأنّ مودّة ذوي القربى أصل من أصول الكتاب والسنّة. (1)


1- انظر: سنن الترمذي، كتاب المناقب، ح 3772، 37751؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 177. .

ص: 135

وأمّا العقيدة باطّلاع الأئمّة: على علم الغيب فهي تعني أنّ الله تعالى هو الذي يخبرهم بذلك، لا أنّهم يعلمون الغيب بأنفسهم ومن دون إذن الله تعالى.

وقد ارتقى أميرالمؤمنين (ع) المنبر بعد فتح البص-رة، وأخبر عن مستقبل مدينة البصرة، فقال له أحد أصحابه: قد أعطيت علم الغيب؟ فضحك (ع) ، وقال للرجل:

«ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلّم من ذي علم. . . فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه» . (1)

إذن، علم الغيب الذاتي -غير الاكتسابي- هو لله فقط؛ وأمّا اطّلاع ما سوى الله على الغيب، فإنّه علم اكتسابي.

وأما قوله تعالى: ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (النمل: 65) . فالمقصود هو: العلم بالغيب الذاتي والأزلي الذي لا يعلمه إلّا الله، وكلّ ما سوى الله، فإنّه محتاج إليه تعالى في كلّ شيء.

لذا، لا يمكن اعتبار هذه الأمور للأئمّة: غلوّاً في حقّهم: .

وقد تبَّرأ الأئمّة: دائماً من الغلاة، وللإمام الرضا (ع) دعاء يتبرَّأ فيه من غلاة زمانه، ويدين فيه الذين شاهدوا صدور بعض الأمور الخارقة للعادة عن الأئمّة: فافرطوا في وصف مقامهم ومنزلتهم، فقال (ع) في هذا الدعاء:

اللّهمّ إنّي أبرأ اليك من الّذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللّهمّ، لك الخلق ومنك الرزق وإيّاك نعبد وإيّاك نستعين، اللّهمّ أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلين وآبائنا الآخرين، اللّهم، لا تليق الربوبيّة إلّا بك ولا تصلح الإلهيّة إلّا لك، من زعم أنّا أرباب فنحن منه بُرآء، ومن زعم أنّ إلينا الخلق وعلينا


1- نهج البلاغة، خطبة 12٨. .

ص: 136

الرزق فنحن بُرآء منه. . . اللّهمّ، انّا لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون. (1)

استثمار الأئمّة: الأسباب الطبيعيّة

لا يمكن لأيّ إنسان أن يصبح بديلاً عن وسائط فيض الله تعالى مهما كان مقامه، بل هو ليس سوى منتفع من هذه الوسائط. فأشعة الشمس ونزول المطر كلّها أسباب توفّر العيش لحياة الأنبياء: والأئمّة: وأولياء الله، كما أن الوحي يصل إلى الرسول بواسطة الملك، وملك الموت هو الذي يقبض روحه (2)، ولكلّ إنسان حفظة من الملائكة يحرسونه ويساعدونه في تنمية ملكاته وفضائله الأخلاقيّة. (3)

إذن، جميع الناس - وحتّى الأنبياء والأئمّة: -جزء من نظام الأسباب والمسبّبات في هذا العالم، وليس بإمكانهم إلغاء هذا النظام، وإنّما حقيقة الأمر أنهم يتمكّنون، إذا اقتضت المصلحة، أن يكونوا منشأً للكرامات والتحكّم في العالم؛ وذلك أيضاً لا يكون إلّا بإذن الله تعالى، وفي ظلَّ قدرته وسلطانه.


1- بحارالأنوار، ج 25، ص 243.
2- قال تعالى في هذا المجال: ( وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (الأنعام: 61) .
3- قال اميرالمؤمنين (ع) : «و لقد قرن الله به (ص) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم» . نهج البلاغة، الخطبة 234. .

ص: 137

الفصل السادس: المهدوية في الإسلام

١. ولادة الإمام المهدي (عج)

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : هل ولد الإمام المهدي؟ وهل كان للإمام الحسن العسكري (ع) ابن ليخلفه في الإمامة؟

الجواب : اتّفق جميع علماء الشيعة على أنّ الإمام المهدي ولد في 15 شعبان عام 255ه، وقيل إنّه ولد عام 256ه، وأُمّه نرجس. وكانت ولادته [ في سامرّاء في بيت الإمام الحسن العسكري (ع) ، وقد ورد في هذا المجال أحاديث كثيرة روُيت عن أبيه الإمام العسكري (ع) ، ولكنّنا لم نذكرها مراعاة للاختصار.

وحيث كانت ولادة الإمام المهدي (عج) تشكّل خطراً كبيراً على جميع السلطات الجائرة آنذاك، فقد بذل العباسيّون قُصارى جهودهم ليمنعوا من تحقّق هذه الولادة، أو ليفتكوا به إن وُلد. وكان هذا الأمر من أسباب إبقاء الإمام العسكري في الإقامة الجبريّة في سامراء.

وكانت ولادة الإمام المهدي (عج) كولادة النبيّ موسى (ع) ، حيث حفظه الله تعالى من شرّ سلطة بني العّباس ليكون خاتم الأوصياء بعد الإمام

ص: 138

العسكري (ع) .

ومن الذين حضروا ولادة الإمام المهدي وشاهدوه بعد ولادته: السيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد (ع) ، وهي عمّة الإمام الحسن العسكري (ع) ، وقالت:

«بعث إليّ أبومحمّد (ع) سنة خمس وخمسين ومائتين في النصف من شعبان، وقال:

يا عمّة إجعلي الليلة إفطارك عندي، فإنّ الله عزّ وجلّ سي-سرّك بوليّه وحجّته على خلقه خليفتي من بعدي.

قالت حكيمة: فتداخلني السرور الشديد وأخذت ثيابي عليّ وخرجت من ساعتي حتّى انتهيت إلى أبي محمّد، وهو جالس في صحن داره وجواريه حوله، فقلت: جعلت فداك يا سيدي، الخلف ممّن هو؟ قال: «من سوسن» . فأدرت طرفي فيهن، فلم أرجارية عليها أثر غير سوسن.

وقالت حكيمة: فلمّا أن صلّيت المغرب والعشاء، أتيت بالمائدة، فأفطرت أنا وسوسن وبايتّها في بيت واحد، فغفوت غفوة، ثمّ استيقظت، فلم أزل مفكّرة فيما وعدني أبومحمّد (ع) من أمر ولي الله (ع) ، فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم من كلّ ليلة للصلاة، فصلّيت صلاة الليل حتّى بلغت إلى الوتر، فوثبت سوسن فزعة وخرجت [فزعة] وأسبغت الوضوء، ثمّ عادت فصلّت صلاة الليل، وبلغت إليّ الوتر.

فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب فقمت لأنظر فإذا بالفجر الأوّل قد طلع، فتداخل قلبي الشكّ من وعد أبي محمّد، فناداني من حجرته: لا تشكّي، وكأنّك بالأمر الساعة قد رأيته إن شاء الله تعالى. . . .

ص: 139

. . . فإذا أنا بولي الله متلقياً الأرض بمسجاده. . . فاتيته به» . (1)

وبسبب المراقبة الشديدة من قبل الحكومة العباسيّة، كان من الصعب جدّاً رؤية الإمام المهدي (عج) في حياة الإمام العسكري (ع) ، ولكن مع ذلك فقد التقى به المقرّبون في ذلك الوقت، ومنهم:

1. أبوغانم الخادم، قال: وُلِد لأبي محمّد ولدٌ فسمّاه: محمّداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال:

«هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتد إليه الأعناق بالانتظار» (2).

2. الحسن بن الحسين بن العلوي قال:

«دخلت على أبي محمّد الحسن بن علي (ع) فهنأته بولادة ابنه القائم (3)» .

3. الحسن بن المنذر عن حمزة بن أبي الفتح، قال: جاءني يوماً، فقال لي: البشارة ولد البارحة في الدار مولود لأبي محمّد، وأمر بكتمانه. قلت: وما اسمه؟ قال: سمّي ب-محمّد. (4)

4. أحمد بن اسحاق قال:

دخلت على أبي محمّد الحسن بن علي، وأنا اُريد أن أسأله عن الخلف بعده، فقال لي مبتدأً: «يا أحمد بن إسحاق إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلّ الأرض منذ خلق آدم ولا تخلوا إلى يوم القيامة من حجّة الله على خلقه، [به] يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزّل الغيث، وبه يُخرج بركات الأرض» .

قال: فقلت له: يابن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (ع)


1- الغيبة للشيخ الطوسي، ص 141.
2- إثباة الهداة، ج 6، ص 431.
3- المصدر نفسه، ص 433.
4- المصدر نفسه، ص 43٩. .

ص: 140

فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام كأن وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال «يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله عزّ وجلّ وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنّه سميُّ رسول الله وكنيّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت جوراً وظلماً» . (1)

فهولاء أبرز شخصيّات الشيعة التي إلتقت بالإمام المهدي (عج) في حياة الإمام العسكري (ع) ، وإن كان اللقاء بالإمام المهدي لم يقتصر على هولاء بل رآه أكثر من هذا العدد في بيت الامام الحسن العسكري (ع) وبحضوره. (2)

وفي الختام نلفت الانتباه إلى أنّ بعض كبار علماء أهل السنّة صرّحوا بولادة الإمام المهدي (عج) ، وللاطّلاع على أقوال هؤلاء العلماء مراجعة كتاب (منتخب الأثر) ، الطبعة الجديدة، الصفحة 71 إلى ٩2. وقد ذكر مؤلّف هذا الكتاب 6٨ شخصاً من أهل السنّة صرّحوا في كتبهم بولادة الإمام المهدي ابن الإمام العسكري (ع) .

٢. سبب غيبة الإمام المهدي (عج)

السؤال الذي يُطرح هنا، هو : ما هو سبب غيبة الإمام المهدي (عج) ؟

ولماذا لايعيش مع الناس كسائر الأئمّة: ؟

الجواب : غيبة الإمام المهدي (عج) هي سرّ من أسرار الله تعالى، بحيث لايمكننا الإحاطة بكُنهها. إنَّ غيبة الأنبياء عن أممهم لفترة مؤقّتة، هو أمر قد تحققّ في الأزمنة السالفة، مثل غيبة موسى بن عمران مدّة أربعين يوماً عن


1- بحارالأنوار، ج 52، ص 23.
2- المصدر نفسه، صص 25، 7٨، ٨6؛ اثبات الهداة بالنصوص و المعجزات، ج 6، صص311، 425 و ج 7، ص 16؛ ينابيع المودّة، باب ٨2. .

ص: 141

أمّته عندما ذهب إلى ميقات ربّه (1)، وغيبة السيّد المسيح بمشيئة الله عندما أراد الأعداء قتله، (2)وغيبه النبيّ يونس في الفتره التي قضاها في بطن الحوت. (3)

فالأمر الذي يبلغنا عن طريق النقل المتواتر، ولكنّنا لا نتمكّن من الإلمام بأسبابه، علينا، أن لا نشكّ في صحّته أو نتردّد في حقيقته، لأنّنا إذا اتبعنا هذه المنهجية فسوف نُشكّك في معظم الأحكام الإلهيّة وكذلك سنتردّد في ضروريات الدين الإسلامي.

وغيبة الإمام المهدي لا تُستثنى من هذه القاعدة، وعدم الاطلاع على السرّ الحقيقي لا يعتبر مسوغاً للشكّ في أصل الغيبة أو إنكارها من الأساس.

ولكن مع ذلك يمكن فهم السرِّ من غيبة الإمام المهدي بمستوى العقل البشري. فالإمام المهدي هو خاتم الأوصياء، وهو الموعود الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً وسيرفع راية التوحيد في جميع أنحاء العالم. وهذا الهدف لا يتحقّق إلا بعد مض-يّ زمانٍ يستعدُّ فيه الناس روحاً وعقلاً لاستقباله ومؤازرته في إقرار العدل والحرية.

ولا شكّ أنّ ظهور الإمام بعد مدّةٍ قصيرةٍ من غيبته سوف لا يؤدّي إلى انفجار ثورةٍ عالميّةٍ شاملةٍ، لأنّه إن قام قبل توفّر الشروط اللازمة لدى الناس، فسوف يكون مصير كمصير سائر حجج الله الذين استشهدوا قبل أن يتمكّنوا من تحقيق الهدف المنشود.

وقد أشار أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) إلى هذه الحقيقة في أحاديثهم الشريفة، كما


1- ( وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (الأعراف: 142) .
2- (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء: 158) .
3- ( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (الصافات: 14٠) . .

ص: 142

قال الإمام الباقر (ع) : «إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم» فسأله الراوي: ولم؟ فقال (ع) : «يخاف» . وأومأ بيده إلى بطنه. (1)

أضف إلى ذلك، توجد أحاديث بيّنت أنّ سبب غيبة الإمام المهدي (عج) هو تمحيص الناس، أي أنّه وسيلة أراد الله تعالى بها أن يختبر البشريّة يرى مدى إيمانها وصبرها في هذا المجال. (2)

وخلاصة الكلام هو أنّ الإمام المهدي خاتم الأوصياء، وهو الذي أعدّه الله لقيادة الحكومة الإلهيّة الموحّدة، ولا يتحقّق هذا الأمل العالمي إلّا بعد بلوغ البشريّة مرحلة الاستعداد لتقبّل الإمام، والانقياد إلى أوامره. ودون ذلك فظهور الإمام (عج) قبل أوانة سيؤدّي إلى قتله وعدم تحققّ الهدف المنشود الذي غاب من أجله. ولهذا غاب الإمام المهدي (عج) ، ولكنّه مع ذلك يعيش بين الناس ويَرونه، ولكنّهم لا يعرفونه بأنّه الإمام المهدي (عج) ، وهذه هي الوسيلة التي تصونه من شرّ الأعداء.

أضف إلى ذلك، بما أنّ حكومة الإمام المهدي (عج) حكومة عالميّة، فإنّها لاتتحقّق إلّا بعد توفّر الشروط المطلوبة، ولم تكن هذه الشروط متوفّرة حين ولادة الإمام (عج) ، كما أنّها لم تتوفّر لحدّ الآن، ومتى ما توفّرت فسيأذن الله تعالى له ليظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.

٣. انتفاع الناس من الإمام المهدي (عج) في زمن غيبته

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : ماذا ينتفع الناس من الامام المهدي (عج) في زمن غيبته؟


1- كمال الدين، باب 14، ح ٨، ٩، 1٠.
2- انظر: بحارالأنوار، ج 52، صص 1٠2، 113 - 114. .

ص: 143

الجواب : قسّم القرآن الكريم أولياء الله إلى وليٍّ ظاهرٍ يعرفه الناس بشخصه، ووليٍّ غائبٍ عن أنظار الناس، بحيث لا يعرفونه شخصه، على الرغم من وجوده بينهم واطلاعه على أحوالهم.

وقد أشار القرآن الكريم في سورة الكهف إلى هذين القسمين، فأحدهما موسى بن عمران حيث كان حجة الله الظاهر، والآخر هو الخض-ر (ع) الذي كان حجة الله الغائب، الذي صحب موسى لفترهٍ قصيرةٍ.

وهو حجّة الله الغائب الذي لا يعرفه أحد حتّى النبيّ موسى (ع) ، وإنّما تعرّف عليه موسى بإرشاد من الله تعالى واكتسب منه علماً. قال تعالى: ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف: 65 و66) .

ثم يبيّن القرآن الكريم بعض الأعمال النافعة التي يقوم بها الخض-ر، وهو حجّة الله الذي لا يعرفه أحد. ونستوحي من ذلك أنّ حجّة الله الغائب على الرغم من عدم معرفة الناس له، لكنّه يقوم بأعمال لها آثار وبركات. (1)

والإمام المهدي (عج) أيضاً هو حجّة الله الغائب، وهو كالخض-ر، حيث لايعرفه أحد بشخصه، ولكنه يقوم بأمور نافعة للناس. إذن، غيبة الإمام لاتعني انفصاله عن المجتمع، بل هو، كما جاء في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) كالشمس المحتجبة وراء السحاب ولا يراها أحد. ولكنّ بركاتها تعمّ الأرض وأهلها.

قال رسول الله (ص) :

«إي والذي بعثني بالنبوّة إنّهم لينتفعون به، ويستضيؤون بنور ولايته في غيبته


1- (الكهف: 71-٨2) . .

ص: 144

كانتفاع الناس بالشمس، وإن جلّلها السحاب» . (1)

فأنوار وجود الإمام المهدي (عج) تشعّ وراء سُحُب الغيبة ولها تأثيرها في أوسع نطاق ممكن، وحرمان الإمام من بيان المسائل العلميّة والتربويّة للناس بصورة مباشرة؛ وعدم تصديه لزمام الحكم لا يعني أنّه لا نشاط له في مجال هداية البشريّة، بل له مهام يؤدّيها، منها:

أ) الحفاظ على دين الله

يواجه الدين التحريف بمرور الزمان بسبب امتزاج تعاليمه بالأهواء والآراء الشخصيّة وهيمنة المذاهب والتيارات المختلفة عليه، فيؤدّي هذا الأمر إلى تحريف مفاهيمه السماويّة.

وإنّما الإمام المعصوم وحده قادرٌ على حفظ ما جاء به الرسول (ص) من دون أن تشوبه شائبة، ولهذا عندما تعمّ الشبهات في المجتمع ويواجه الناس التزلزل العقائدي، يكون الإمام المعصوم هو الوحيد القادر على تصحيح مسار الأمّة وصيانتها من الانحراف.

وكلّنا نعلم بأنّ كلّ مركزٍ هامٍّ فيه خِزانةٌ لحفظ الوثاق المهمّة كي تحفظ من السرقة والتلف.

فقلب الإمام المعصوم بمثابة هذه الخزانة، وهو يحفظ ما جاء به الرسول (ص) ويصونه من جميع أنواع التحريف ومن جميع الشوائب والأدران.

وهكذا يحفظ الله تعالى دينه من الانحراف، والإمام يؤدّي مهمّته في زمان غيبته دون أن يطّلع أحد عليه بشخصه.


1- بحارالأنوار، ج 52، ص ٩3، نقلاً عن: كمال الدين للشيخ الصدوق. .

ص: 145

ب) مهمّة الإمام في إعداد النخبة الواعية في غيبته

صلة الإمام المهدي (ع) بالناس لا تنقطع في زمن غيبته، بل له صلة وثيقة بفئةٍ قليلة، وهم الذين يجد فيهم الإخلاص والاستعداد التامّ للالتحاق بركبه من أجل القيام بالإصلاح العالمي، وغيبته لا تعني عدم قدرة الناس على رؤيته، بل الإمام (عج) يُرى وله حياته الطبيعية، ولكن لا يعرفه الناس بشخصه، لأنّه يعيش بين الناس، ويصطفي أصحاب القلوب المستعدّة ويعمل على رفع مستواهم المعنوي.

وكلّ إنسان بمقدار استعداده يستفيض من ألطاف الإمام المهدي (ع) ، وكلّ مَن يلتقي به فإنّه يخطى ببركاته حسب ما يستحقّه، فترى البعض يلتقي بالإمام عدّة ساعات والآخر يلتقي به عدّة أيّام، وغيره يعاشر الإمام عدّة سنوات، وكلّهم لا يعلمون بأنّهم يرون الإمام المهدي (عج) .

فالشمس الغائبة وراء السحاب تكون غائبة لمن هو تحت السحاب، ولكن الذين يمكنهم الارتفاع إلى عنان السماء واجتياز السحاب، فإنّهم قادرون على خرق الحجب ورؤية الشمس بصورةٍ مباشرةٍ.

لذا، يجب على كلّ من يريد رؤية نور الشمس أن يُزيح الحُجب ويجتاز السحاب بأعماله الصالحة وانتظاره الفرج.

ج) . الهداية التكوينيّة

لا يخفى على أحد بأنّ للشمس إشعاع غير مرئي يدعى الأشعة تحت الحمراء، أو الاشعة فوق البنفسجيّة، فضلاً عن نورها المرئيّ الذي يتجزّأ إلى سبعة ألوانٍ.

ولحجة الله أيضاً - سواء كان نبيّاً أو إماماً - إضافة إلى هدايته عن طريق

ص: 146

بيان الأحكام الش-رعيّة، هدايةٌ باطنيّةٌ لها تأثيرها المعنوي على القلوب والأفكار، ويمكننا تسمية هذه الهداية بالهداية التكوينيّة. وفي هذه الهداية لاتستخدم الكلمات والعبارات وأنّما تأثيرها باطنيٌّ يجذب الانسان نحو حجّة الله تعالى.

ولوجود الإمام المهدي (عج) وراء سحاب الغيبة أيضاً هذا التأثير التكويني، فهو ينفذ في القلوب المستعدّة ويترك أثره الإيجابي فيها؛ ويربّي بعض الأشخاص بهذه الطريقة. فنحن لا نرى الأمواج المغناطيسيّة الموجودة في الأرض ولا نشعر بها، ولكنّنا نرى أثرها على البوصلة، وبهذه الطريقة استطاع الانسان أن يهتدي الى مقصده في الصحاري والبحار والفضاء.

والملايين في العالم يتعرّفون على المسار الصحيح لحركتهم في السفر عن طريق هذه الأمواج غير المرئيّة، ولذا، ليس من العجيب قولنا إنّ للإمام الحجّة الغائب آثاراً معنويّةً يستقطب من خلالها قلوب ونفوس الكثير من الناس من أجل هدايتهم إلى الحقّ.

ولا يخفى بأنّ الأمواج المغناطيسيّة الموجودة في الأرض لا تُحرّك كلّ قطعة حديد، وإنّما تحرّك العقربات الظريفة والحساسة التي تمتلك خصوصية المغناطيسيّة فقط، والتي يكون بينها وبين الأمواج سنخيّة وتشابه.

وكذلك فجميع القلوب لا تتأثر بهداية الامام (ع) التكوينيّة وإنّما يكون هذا التاثير نافذاً في القلوب المستعدّة لاستقبال ما يفيضه الإمام إليها.

وبركات الإمام المهدي (عج) وآثاره في زمان الغيبة كثيرة جدّاً، ولا يسعنا المقام هنا الحديث عنها بالتفصيل، وإنّما اكتفينا بهذا المقدار مراعاة للاختصار.

والحمد لله فقد تناول الباحثون هذا الموضوع بالشرح والتحليل في مختلف جوانبه، وبإمكان الراغبين بالاطلاع على هذا الموضوع مراجعتها.

ص: 147

4. الإمام المهدي والعمر الطويل

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو: ولد الإمام المهدي عام 255ه، ويمرّ لحدِّ الآن أكثر من ألف عام على ولادته، فكيف يمكن لإنسانٍ أن يعيش كلّ هذه المدّة؟

الجواب : يمكن تفسير هذا الأمر بتفسيرين، كما يلي:

١. تفسير غيبيٌّ

أشار القرآن الكريم والأحاديث الش-ريفة إلى بعض الناس الذين لاتنسجم أعمارهم مع الأعمار المألوفة عندنا، منها قوله تعالى حول النبي نوح (ع) : ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت: 14) .

وتشير هذه الآية، إلى فتره تبليغ النبي نوح (ع) فقط، ولا تشير إلى الفتره التي عاشها بعد الطوفان أو قبل التبليغ.

وأشار الله تعالى أيضاً إلى النبي يونس (ع) قائلاً ( فَلَولا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات: 143 و 144) .

فالله القادر على إبقاء النبي يونس (ع) حيّاً إلى يوم القيامة في بطن الحوت، كيف لايسعه إبقاء الامام المهدي (عج) وهو حجّته على الأرض حيّا لفتره تفوق الحدِّ الطبيعي لحياة الإنسان العادي؟ ! قال تعالى: ( وما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام: ٩1) .

وينبغي أن نعرف بأنّ طول عمر الإمام المهدي (عج) هو لطفٌ إلهيٌّ، ولولا هذا اللّطف لما تمكّن من البقاء حيّاً طيلة هذه الفترة التي غاب فيها، حيث حفظه الله تعالى من مكائد الدهر ومصائبه.

٢. تفسير طبيعيٌّ

إنّ علم الطب وعلم الأحياء لم يضعا حدّاً لعمر الإنسان، بحيث يكون من

ص: 148

المستحيل للإنسان تجاوز هذا الحدّ، ومن خلال تشخيص أسباب الشيخوخة والموت المبكّر والعمل على مكافحة ذلك، سوف يتيسّر رفع نسبة عمر الإنسان، وكما نلاحظ اليوم فإنّ تطوّر علم الطب ارتفاع مستوى الصحة العامّة في البلدان المتطوّرة قد أدّيا إلى زيادة أعمار الناس فيها. مثال ذلك كان متوسط العمر في أمريكا عام 1٩٠1 للرجال 23/4٨ وللنساء ٨٠/51، ولكنَّ هذه النسبة ارتفعت في عام 1٩44 وأصحبت للرجال 5٠/63 وللنساء ٩5/6٨.

ويعود سبب هذا الارتفاع إلى ارتقاء مستوى التغذيّة والصحّة في فترة الطفولة وتطوير أساليب العلاج والوقاية الصحيّة، ولا سيّما الوقاية من الأمراض المسريّة، ولكنّنا نجد بأنّ الطب لم يتمكّن لحدّ الآن من علاج بعض الأمراض المستعصية من قبيل تصلّب الشرايين. (1)

وهذه الاحصائيّات تعود إلى الفترة الماضية، وأمّا الآن، فقد تطوّرت وسائل الصّحة والعلاج، وارتفعت نسبة العمر في جميع أنحاء العالم، ففي إيران مثلاً قد تحقّق هذا الأمر أيضاً.

ولطول العمر صلة وثيقة بالوراثة والأجواء التي يعيش فيها الإنسان، ونوع العمل الذي يقوم به، ومدى الضغوط النفسية والعصبية التي يواجهما في حياته، كما للتغذية المناسبة أيضاً دور أساسي في هذا المجال.

وطول العمر بذاته لا يعتبر العلّة للموت، بل إنّ الموت يحدث بسبب على الأمراض والعادات المضرّة التي تؤدّي إلى استهلاك أعضاء البدن وتعطّلها عن العمل والنشاط. ونحن نشاهد في زماننا هذا الكثير ممّن تجاوزت أعمارهم مائة عام.


1- انظر: دادگستر جهان، صص 177-1٨2. .

ص: 149

ويعود سبب ذلك للظروف المناخيّة والتغذيّة الطبيعيّة والصحيّة التي يمتع بها هؤلاء.

وهناك الكثير من المعمّرين في تأريخ البش-رية حيث فاقت أعمارهم الحدَّ الطبيعيّ، وقد ألّفت العديد من الكتب حول هؤلاء تحت عنوان: (المعمّرون) .

5. تأخّر ظهور الإمام المهدي (عج)

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : ما هي أسباب تأخر ظهور الإمام المهدي (عج) ؟

الجواب : تختلف طريقة الإمام المهدي (عج) في إحياء دين الله تعالى عن طريقة الأنبياء وسائر الأئمّة: الذين سبقوه؛ لأنّه لا يقتص-ر على مجرّد الدعوة والإرشاد، بل يظهر لينشر العدل والدين في جميع أنحاء العالم، أي أنّ مهمّته هي نشر جميع تعاليم الإسلام في جميع ربوع العالم.

ولاريب في أنّ ظهور الإمام المهدي (عج) للقيام بثورة عالميّة لملء الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، يستدعي توفّر شروط ومقدّمات، وهي تستلزم نضج البشريّة وبلوغها مرحلة قبول هذه الثورة العظمى، ومن هذه المقدّمات نذكر مايلي:

١. الاستعداد النفسي

إنّ أهمّ أمرٍ يجب تحقّقه لظهور الامام المهدي (عج) هو رغبة الناس الشديدة لنشر العدل وإقرار الحقّ، وإذا لم يبلغوا هذه المرحلة فلن يكون لديهم اهتمام بما يدعوهم الإمام المهدي (عج) إليه، فقانون (العرض والطلب) لا يحكم في النظام الاقتصادي فحسب، بل هو قانون ينطبق على جميع الأصعدة، ومنها البرامج المعنويّة والأصول الاخلاقيّة والمدارس السياسية والثورية.

ص: 150

وما لم ينشأ طلب في أعماق قلوب الناس لش-يء، فسيكون عرض ذلك الشيء غير مرغوب فيه.

قال الإمام الباقر (ع) :

«إذا قام قائمنا وضع الله يديه على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكملت به أحلامهم» . (1)

وبالطبع فإنّ مرور الزمان وفشل القوانين الماديّة وانقطاع السُّبُل ووصول البشريّة إلى حافة الهاوية واندلاع الحروب إلى استيعاب هذه الحقيقة وهي أنّ القوانين الماديّة، والمنظمات التي يُطلق عليها اسم المنظمّات الدوليّة، لا يسعها حلّ مشاكل البشريّة ولا تتمكّن من بسط العدل في العالم.

بل هي السبب في فشل البش-ريّة، وعندما يهيمن اليأس والجزع على الناس، سوف يُطالبون بثورةٍ عالميةٍ تحت راية قائدٍ دينيٍّ متكاملٍ ينقذهم ممّا هم فيه من جورٍ وظلمٍ.

ولا يخفى بأنّ هذا الأمر يتطلّب زمناً طويلاً لتثبت التجارب المرّة للبش-رّية بأنّ جميع الأنظمة الماديّة والمؤسّسات البش-ريّة عاجزة عن تحقيق العدل وإحقاق الحقّ وتثبيت الأمن والاستقرار، ومن هنا تنشأ في نفوس الناس حالة التعطّش لسيادة العدل الإلهي على الأرض، وتتهيأ الأرضيّة لظهور المصلح العظيم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. (2)

٢. تكامل علوم البشر وثقافاتهم

إنَّ الحكومة العالميّة المبتنية على أساس العدل بحاجة ماسّة إلى تطوّر


1- الكافي، ج 1، ص 25.
2- من علامات ظهور الإمام المهدي (عج) أنّ الأرض تمتليء ظلماً و جوراً، و هذا ما أشارت إليه العديد من الأحاديث الشريفة، و هذا الظلم هو الذي يهيّئُ الأرضيّةَ لظهور المصلح العالمي ليملأ الأرض قسطاً و عدلاً. .

ص: 151

العلوم وارتقاء المستوى الثقافي على الصعيد الاجتماعي هذا التطوّر والرقيّ لايتحقّق إلّا بعد النضوج الفكريّ ومرور الزمان.

٣. تكامل وسائل الاتّصال

لا شكّ في أنّ تأسيس حكومة عالميّة يسودها العدل تتطلّب وجود وسائل اتّصالات متكاملة ليتسنى من خلالها اِبلاغ الناس بالمقرّرات والأحكام اللازمة في أسرع وقت ممكن، وهذا الأمر أيضاً لا يتحقّق إلّا عن طريق تكامل الصناعة البشريّة ومرور الزمان.

4. تربية الكوادر الكفوءة

لا تتحقّق أهداف حكومة المصلح العالمي إلّا بعد امتلاكها الكادر المتمتّع بالحيويّة والنشاط، وهذا الأمر بحاجة إلى مرور الزمان.

وبشكلٍ عامٍّ، فإنّ غيبة الإمام المهدي (عج) هي اختبار إلهي للبش-رية، والاختبار بالطبع يكشف البواطن ويزرع في نفوس الناس روح الصبر الصمود والاستقامة، وغيرها من الفضائل الأخلاقيّة. والهدف من جميع الاختبارات الإلهيّة للأنبياء والأولياء: هو بلوغ المراتب العليا عند الله تعالى، ومن هنا ابتلى اللهُ إبراهيمَ، فلمّا وجده لائقاً اصطفاه للإمامة. وهكذا سائر الناس، كلٌّ حسب استعداده، وكلّ من يفوز في الاختبارات الإلهيّة يكون مؤهّلاً للانخراط في ركب الإمام المهدي (عج) عند ظهوره.

وعموماً فهذه المقدّمات الأربعة تحتاج إلى زمان لتتهيأ الأرضيّة وتتهيأ الأجواء وتتهيأ النفوس لتقبّل الحكومة العالميّة المبتنية على أساس الحقّ والعدل، وهذا ما يكشف لنا جزءاً من حكمة غيبة الإمام المهدي (عج) .

ص: 152

ص: 153

الفصل السابع: المسائل الفقهية

١. طريقة غسل اليدين عند الوضوء

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لماذا يغسل الشيعة أيديهم في الوضوء من الأعلا إلى الأسفل في حين أهل السنّة يغسلونها من الأسفل الى الأعلا؟

الجواب : نحن نعلم أنّ الوضوء من مقدّمات الصلاة. قال تعالى:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة: 6) .

وسيتضح لنا فيما يلي سبب غسل الشيعة أيديهم في الوضوء من الأعلا إلى الأسفل:

1. لكلمة (اليد) في اللغة العربيّة استعمالات مختلفة، فهي قد تُطلق على الأصابع فقط، أو من الأصابع إلى المعصم، أو من الأصابع إلى المرفق، أو من الأصابع إلى الكتف.

2. المقدار الواجب في غسل الأيدي هو القسم الواقع بين المرافق وأطراف الأصابع، والمقصود من ( إِلَى) هنا تحديد الجزء الذي يجب غسله، وليس المقصود أن تبدأ عمليّة الغسل من الأصابع وتنتهى إلى المرافق.

ص: 154

إذن، نستنتج بأنّ لليد معاني متعدّدة، وهذه الآية في مقام بيان المقدار المطلوب لغسل الأيدي. فأكّدت على المقدار الذي يجب غسله هو ( إِلَى الْمَرافِقِ) ، وهي ليست في مقام بيان كيفيّة الغسل ومن أين يبدأ وإلى أين ينتهي؟

ومثال ذلك أن يقول الطبيب للمريض: يجب عليك أن تغسل رجليك إلى الركبتين. ولا يخفى بأنّ مقصود الطبيب هنا تحديد المقدار الذي يجب غسله، وليس المقصود لزوم غسل الرجل، بحيث يبدأ الغسل من أصابع الرجل، وينتهى إلى الركبتين.

فالآية بصدد بيان المقدار المطلوب غسله من الأيدي في الوضوء، وأمّا كيفية الوضوء، فقد بيّنتها السنّة والأحاديث الشريفة الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، وهي صريحة بأنّ الكيفيّة التي أرادها الله تعالى هي غسل الأيدي ابتداءاً من المرافق.

وهذه الطريقة أيضاً هي الطريقة المتعارفة عند عامة الناس عندما يُؤمروا بغسل أيديهم، فإذا قلت لشخص: اغسل يديك إلى الكتف، فإنّه لا يفهم لزوم بدء غسلها من الأصابع باتّجاه الكتف، بل يفهم بأنّ عليه أن يغسل يديه، فيغسلها بصورة لا شعوريّة من الأعلا إلى الأسفل.

٢. مسح الرجلين بدلاً من غسلهما

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لماذا يمسح الشيعة أرجلهم في الوضوء بدلاً من غسلها؟

الجواب : أمرنا القرآن الكريم وكذلك الأحاديث الش-ريفة بمسح أرجلنا في الوضوء، لا غسلها.

فالآية السادسة من سورةالمائدة تكشف بأنّ الوضوء يتحقّق بأمرين، هما:

ص: 155

1. غسل الوجه واليدين.

2. مسح الرأس والرجلين.

وهذا ما يمكن الإلمام به من خلال المقارنة بين العبارتين التاليتين في قوله تعالى:

1. (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) .

2. (وامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) .

فلوعرضنا هاتين العبارتين على شخص عربي، غير مطلّع على الاختلافات الفقهيّة المطروحة حول هذه الآية، فإنّه سيقول من دون شكّ بأنّ الوضوء هو غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين.

ومن الناحية اللّغوية، فلفظ ( أَرْجُلَكُمْ) يجب عطفه على كلمة ( رُؤُسَكُمْ) . وهذا يُثبت لزوم مسح الأرجل، ولا يمكن عطف ( أَرْجُلَكُمْ) على ( أَيْدِيكُمْ) وادّعاء وجوب غسل الأرجل؛ لأنّ هذا العطف تتبعه جملة اعتراضية بين المعطوف ( أَرْجُلَكُمْ) والمعطوف عليه ( أَيْدِيكُمْ) وهي عبارة ( فَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) . وهذا الأمر لايطابق قواعد اللغة العربيّة، ويوجب الوقوع في الخطأ في فهم المقصود.

علماً بأنّ مسح الأرجل لا يوجد فرق بين قراءة الجر وقراءة النصب، وعلى ضوء القراءتين تكون ( أَرْجُلَكُمْ) معطوفة على ( رُؤُسَكُمْ) ، ولكن مع هذا الفرق بأنّها اذا كانت معطوفة على لفظ رؤوسكم، فهي مجرورة، وإذا كانت معطوفة على محلّها فهي منصوبة.

وقد تحدّث علماء الإماميّة عن آية الوضوء في بحوث كثيرة، وقد أشار الطبرسي في مجمع البيان إلى بعض هذه البحوث. (1)


1- انظر: مجمع البيان، ج 2، صص 163-167. .

ص: 156

منشأ الاختلاف

اشارة

تكشف آية الوضوء بأنّ المطلوب في الوضوء، هو مسح الأرجل، ومضمون الآية لا يخلومن أمرين:

1. غسلتان: غسل الوجه واليدين.

2. مسحتان: مسح الرأس والرجلين.

وعندما كان يسأل ابن عبّاس عن كيفيّة الوضوء، فإنّه كان يقول:

نزل القرآن بالمسح. ويقول أيضاً: «نزل القرآن بالمسح وجرت السنّة بالغسل» . (1)

والجدير بالبحث هنا هو معرفة سبب نشوء الاختلاف، وذلك من خلال دراسة الأحاديث الشريفة ودراسة تأريخ تش-ريع الوضوء، وهناك سببان لذلك، هما كما يلي:

١. السلطات الحاكمة

كان للسلطات الحاكمة بعد وفاة الرسول (ص) الدور الأساسي في تغير حكم المسح على الأرجل في الوضوء، ولا سيّما في زمن الحجّاج بن يوسف الذي كان يصرّ على غسل الرجلين معتقداً أنّه أفضل، لأنّه يؤدّي إلى نظافة أرجل المصلّين.

وعندما علم الصحابيّ أنس بن مالك بأنّ الحجّاج أمر بغسل الرجلين في الوضوء، سخط سخطاً شديداً. فقد ذكر المؤرخون والمفسرون مايلي:

عندما قال الحجّاج: «إغسلوا بطونهما وظهورهما» ، غضب أنس لذلك،


1- الدر المنثور، ج 3، صص 1 - 4. .

ص: 157

وقال: «صدق الله، وكذب الحجّاج، قال الله تعالى: ( وامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ) » . (1)

وكان إصرار حكومة بني أميّة على غسل الرجلين شديداً جدّاً، بحيث لم يجرؤ أحد من الفقهاء آنذاك بالاعتراض عليهم.

روى أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه:

اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله. فلمّا اجتمعوا، قال: هل فيكم أحد غيركم؟

قالوا: لا. فدعا بجفنةٍ فيها ماءٌ، فتوضّأ ومضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثمّ صلّى. (2)

٢. تقديم المصلحة الخاصّة على النصّ القرآني

من الأمور التي أدّت إلى نشوء الكثير من البدع هي مسألة تقديم المصلحة على الكتاب والسنّة، وقد أشرنا في كتابنا (البدعة) إلى بعض البدع التي نشأت لهذا السبب، ومن هذه البدع بدعة غسل الأرجل في الوضوء.

أبوبكر الرازي المعروف بالجصّاص (ف 37٠ه) ذكر في كتابه (أحكام القرآن) ، بأنّ آية الوضوء من ناحيه وجوب المسح أو وجوب الغسل مجملة، والاحتياط يقتضي غسل الأرجل؛ لأنّ من يغسل رجله فقد قام بالغسل والمسح معاً. (3)

ولكن الادّعاء بأنّ آية الوضوء مجملة، لا ينسجم مع مضمون الآية الذي


1- انظر: تفسير الطبري، ج 6، ص ٨2؛ تفسير القرآن لابن كثير، ج 2، ص 2٠.
2- مسند أحمد، ج 5، ص 342؛ المعجم الكبير للطبراني، ج 3، ص 2٨.
3- انظر: أحكام القرآن، ج 2، ص 346. .

ص: 158

هو بيان وظيفة المكلّف، أضف إلى ذلك فإنّ الاحتياط يقتضي أن يتوضّأ المرء مرّتين؛ لأنّ المسح يختلف عن الغسل. وصاحب تفسير (المنار) لا ينكر ظهور الآية في لزوم المسح على الأرجل، ولكنّه يقول إنّ مسح الأرجل المتّسخة يزيد في وساختها.

ولكنّه غفل بأنّ الوضوء غير مختصّ بالبدو والأشخاص الذين لايهتمون باالنظافة، بل التشريع الإلهي يشمل أهل المدينة والبادية معاً، وأحكام الله لاتتغيّر إلى قيام الساعة.

ونسأل مؤلف المنار: ما هي الفائدة المتوخّاة من المسح على الرأس بأصبع واحد - كما أجازه الشافعي -؟

فلماذا يكون المسح على الرأس باصبع واحد جائزاً، ولكنّ المسح على الأرجل غير جائزٍ؟ !

أضف إلى ذلك، فأنّ الحكمة من الوضوء لا تقتصر على النظافة، بل هي عبادة. وهو واجبٌ على أنظف الناس أيضاً، والإنسان غير النظيف - أيضاً - ينبغي عليه أن يغسل رجليه أولاً، ثمّ يتوضّأ.

تحدّثنا حتى الآن عن آية الوضوء. وأمّا أدلة السنّة على لزوم مسح الأرجل في الوضوء فهي كما يلي:

قد يتصوّر البعض بأنّ كتب أهل السنّة لا تتضمّن أحاديث نبوية حول لزوم المسح على الأرجل في الوضوء، ولكنّ الواقع ليس كذلك، حيث عثرت على أكثر من ثلاثين حديثاً، كلّها تبيّن بأنّ النبي (ص) والصحابة كانوا يمسحون على الأرجل في وضوئهم.

فالدلالة الواضحه لآية الوضوء والأحاديث النبويّة على لزوم المسح توجب على فقهاء أهل السنّة أن يعيدوا النظر في هذه المسألة.

ص: 159

وهذا ما يقرّبهم إلى الوحدة الإسلاميّة على الصعيد العملي، كما أنّهم إذا أفتوا بلزوم المسح على الأرجل في الوضوء فإنّهم سيتبعون بموقفهم هذا الكثير من كبار الصحابة والتابعين، منهم:

1. أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي قال:

«رأيت رسول الله يمسح ظاهرهما» . (1)

2. جابر بن عبد الله، حيث نقل عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين:

- المعروف بباقر العلوم، وهو الذي اتّفق الجميع على عظمته وجلالة قدره وفقاهته (2)- أنّه (ع) قال له: «امسح على رأسك وقدميك» . (3)

3. عن بسر بن سعيد أنّه قال:

«أتى عثمان المقاعد، فدعا بوضوء فتمضمض واستنشق، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثمّ قال: «رأيت رسول الله هكذا توضّأ. . .» . (4)

4. عن حمران أنّه قال: «دعا عثمان بماء فتوضّأ، ثمّ ضحك، ثمّ قال: ألا تسألوني ممّ أضحك؟ قالوا: يا أميرالمؤمنين ما أضحكك؟ قال: رأيت رسول الله توضّأ كما توضّأت، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً، ومسح برأسه وظهر قدميه» . (5)

5. رُوي في مسند عبدالله بن زيد المازني: «إنّ النبي توضّأ فغسل وجهه ثلاثاً،


1- مسند أحمد، ج 1، ص 153.
2- تذكرة الحفاظ، ج 1، ص 124.
3- تفسير الطبري، ج 6، ص ٨2.
4- مسند أحمد، ج 1، ص 1٠٩.
5- كنز العمال، ج ٩، ص 436. .

ص: 160

ويديه مرتين، ومسح رأسه ورجليه مرتين» . (1)

6. عبد الله بن عبّاس كان يقول دائماً: «إنّ الوضوء غسلتان ومسحتان» . (2)

7. رُوي عن عامر الشعبي أنّه قال: «أمر أن يمسح بالصعيد في التيمّم ما أمر أن يغسل بالماء، وأهمل ما أمر أن يمسح بالماء» . (3)

٨. قال الصحابيّ رفاعة بن رافع إنّ رسول الله (ص) كان يمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين. (4)

٩. الصحابيّ أبومالك الأشعري كان يعلم عشيرته وضوء النبي (ص) ، وكان يمسح على رأسه وظهر قدميه. (5)

1٠. روى الصحابي رفاعة بن رافع عن رسول الله (ص) أنّه قال:

«لا تتمّ صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمر الله، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين» . (6)

ونحن نكتفي في هذا المقام بذكر أقوال ومواقف هؤلاء العش-رة من الصحابة والتابعين الذين كانوا يمسحون على أرجلهم في الوضوء، ومن أراد المزيد، فليراجع كتابنا (الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف) . (7)

٣. (حيّ على خير العمل) في الأذان

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لماذا يقول الشيعة في الأذان والإقامة عبارة


1- كنز العمال، ج ٩، ص 451.
2- تفسير الطبري، ج 6، ص ٨2.
3- المصدر نفسه.
4- سنن ابن ماجه، ج 1، ح 46٠؛ سنن النسائي، ج 2، ص 226.
5- مسند احمد، ج 5، ص 342.
6- مسند احمد، ج 5، ص 342.
7- المجلّد الأوّل، صص 56 - ٩5. .

ص: 161

(حيّ على خير العمل) ؟

الجواب : يقول الشيعة في الأذان عبارة (حيّ على خير العمل مرّتين، وذلك بعد عبارة (حيّ على الفلاح) .

وقد ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بأنّها جزء من الأذان. ولمعرفة سبب حذف هذه العبارة من الأذان عند أهل السنّة، فلابدّ من البحث من أجل معرفة ذلك.

ذكرنا آنفاً مسألة تقديم المصلحة، ويجد كلّ متأمّل في التأريخ الإسلامي بأنّ هذه المسألة اشتهرت في عصر الخليفة الثاني، بحيث أدّى الأمر إلى تقديم المصلحة على الكتاب والسنّة في العديد من الموارد.

ومثال ذلك أننّا نجد في عصر الرسول (ص) وفي زمن الخليفة الأوّل وحتّى في وقتٍ من خلافة الخليفة الثاني، كان إيقاع الطلاق ثلاث مرّات في المجلس الواحد يعدّ إيقاعاً واحداً، ولكن في منتصف فتره خلافة الخليفة الثاني تغيّر الحكم، وأصبح إيقاع الطلاق ثلاث مرّات في المجلس الواحد يعدّ ثلاث إيقاعات، ولا يكون للزوج بعد ذلك حقّ الرجوع إلى زوجته. (1)

وسنوضّح أنّ حذف عبارة: (حيّ على خير العمل) من الأذان أيضاً، قد كان في عهد الخليفة الثاني.

وتثبت البحوث التأريخية بأنّ عبارة (حيّ على خير العمل) كانت من الأجزاء الثابتة والأساسيّة في الأذان، وكان المؤذّنون يقولونها في أذانهم في عهد النبي (ص) ، وبعد وفاته أيضاً ثمّ حذفت السلطة هذه العبارة من الأذان لسبب أو أسباب ما.


1- الانتصار، ص 137، باب وجوب قول: «حي على خير العمل» . .

ص: 162

أ) قال السيّد المرتضى: «وقد روت العامة أنّ ذلك: (حي على خير العمل) ممّا كان يقال بعض أيّام النبي (ص) ، وإنّما ادّعي أنّ ذلك نسخ ورفع» . (1)

ب) قال ابن عربي في الفتوحات المكيّة: «في غزوة الخندق، إذ كان الناس يحفرون، فجاء وقت الصلاة فنادى منادي من أهل الخندق: (حيّ على خير العمل) - فما أخطأ من جعلها في الأذان، بل اقتدى - إن صحّ الخبر- أو سنّ سنّة حسنة» . (2)

ج) قال شرف الدين المعروف بالسياغي المتوفّى سنة 1221هفي كتاب (الروض النضير) : «الصحيح أنّ الأذان شرع بحيّ على خير العمل؛ لأنّه اتّفق على الأذان به يوم الخندق» . (3)

د) . وأتباع المذاهب الإسلاميّة الثلاث: الإماميّة والزيديّة والإسماعيليّة، الذين هم أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، يعتقدون بأنّ عبارة: (حيّ على خير العمل) جزء من الآذان. (4)

ونذكر فيما يلي بعض الأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال:

1. نقل المتّقي الهندي في كنز العمّال عن معجم الطبراني: «كان بلال يؤذّن بالصبح، فيقول: حيّ على خير العمل» . (5)

2. نقل الحافظ العلوي الزيدي 367-445هفي رسالته «الأذان بحيّ على خير العمل» ، عن الصحابيّ أبي محذورة أنّه قال: «كنت غلاماً صيّتاً


1- الفتوحات المكيّة، ج 1، ص 4٠٠.
2- الاعتصام بالكتاب والسنة، صص 175 - 21٠.
3- الروض النضير، ج 1، ص 542.
4- انظر: كتاب الاذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي، ص ٩1.
5- كنز العمّال، ص 243. .

ص: 163

فأذّنت بين يدي رسول الله، فلما انتهيت إلى حيّ على الفلاح، قال النبي (ص) : «

ألحق فيها: حيَّ على خير العمل (1)» .

وأجمع أهل السير بأنّ (حي على خير العمل) كانت جزءاً من الأذان في غزوة حنين، (2)وقد وقعت هذه الغزوة في أواخر السنة الثامنة للهجرة، حيث وقعت بعد فتح مكّة.

وهذا يدلّ على أنّ (حيّ على خير العمل) كانت جزءاً من الأذان في عهد الرسول (ص) .

في رسالة (الأذان بحيّ على خير العمل) ، تأليف الحافظ العلوي الزيدي وهو من علماء الزيديّة، وفي رسالة (الاعتصام بحبل الله) ، تأليف الإمام القاسم بن محمّد الزيدي 1٠2٩ه، وهو أيضاً من علماء الزيديّة، ذكرت قائمة تتضمّن أسماء كبار الصحابة والتابعين الذين كانوا يقولون في أذانهم (حيّ على خير العمل) .

ولم نذكر أسماء هؤلاء الصحابة مراعاة للاختصار، ومن أراد التعرّف على أسمائهم، فليراجع هاتين الرسالتين.

إذن، يجب علينا أن لا نتردّد في أصل تش-ريع هذا الجزء من الأذان، بل يجب على من حذف هذا الجزء من الأذان أن يُبرّر فعله في حذف ما شرّع الله تعالى.

ولكن مع الأسف لا يوجد سبب يبرّر به هؤلاء عملهم هذا إلّا تقديم مصالحهم الشخصيّة على الشرع.


1- الاذان بحي على خير العمل، صص 26، 27، 2٩؛ الاعتصام بحبل الله، تأليف الإمام قاسم بن محمّد الزيدي 1٠2٩ه.
2- انظر: مسند أحمد، ج 3، ص 4٠٨. .

ص: 164

وينقل الحافظ العلوي في رسالة (الأذان بحيّ على خير العمل) حديثاً، عن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي، يبيّن أنّ آل الرسول (ص) أجمعوا على أنّ (حيّ على خير العمل) هي جزء من الأذان.

وكان المؤذّنون في زمن أبي بكر يذكرون هذا الجزء في أذانهم، ولكن عندما سيطر عمر على الخلافة قال: «دعوا حيّ على خير العمل، لئلّا يشتغل الناس عن الجهاد، فكان أوّل من تركها» . (1)

وذكر المحقّق المعروف، سعد الدين التفتازاني 712-77٩هفي شرح المقاصد حديثاً ذكره أيضاً المتكلّم الأشعري المعروف علاء الدين القوشجي ٨7٩ه، جاء فيه:

«خطب عمر بن الخطّاب. وقال: أيّها الناس، ثلاث كنّ على عهد رسول الله أنا أنهى عنهن وأحرّمهن، وأعاقب عليهن، وهي: متعة النساء، ومتعة الحجّ، وحيّ على خير العمل» . (2)

ونَهيُ عمر في هذا المجال على ضوء المصلحة التي رآها، هو حجّة على نفسه فقط، ولا يحقّ له فرض رأيه على الآخرين، ولا سيّما على أجيال المستقبل.

والحقيقة أنّ كلام عمر في هذا المجال هو اجتهاد في مقابل النصّ. وإذا اتّضح واقع الأمر لمن جاء بعد عمر، فعليهم أن يقدّموا السنّة ويرفضوا البدعة، ولا سيمّا مع تغيّر معيار اجتهاد عمر وانتفاء وجود جهاد ضدّ الكفر والشرك.


1- الأذان بحي على خير العمل، ص 2٩.
2- شرح المقاصد، ص 2٨35؛ شرح القوشجي، مبحث الإمامة. .

ص: 165

وحيث إنّ قبول هذه البدعة غير جائزٍ، فقد رفضه بعض علماء أهل السنّة وأصرّوا على لزوم ذكر (حيّ على خير العمل) في الأذان والإقامة.

ومن هؤلاء برهان الدين الحلبي ٩75-1٠44هالذي حيث قال في كتابه السيرة: «ونقل عن إبن عمر وعن الإمام زين العابدين [(ع)] أنّهما كانا يقولان في أذانيهما بعد: (حيّ على الفلاح) ، (حيّ على خير العمل)» . (1)

وقد تحوّلت عبارة: (حيّ على خير العمل) إلى شعار ضدّ المخالفين، فلهذا نجد على مرّ العصور أنّ الموافق والمخالف قد استخدماها، ومن ذلك: نجد في ثورات الحسنيين عندما هيمن الحسين بن علي بن الحسن (صاحب فخّ) على المدينة، ارتقى عبدالله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ [(ص)] عند موضع الجنائز، فقال للمؤذن: أذّن بحيّ على خير العمل. (2)

كما نجد بأن الشيعة في ظلّ دولة آل بويه، حيث كان لهم ميول شيعيّة، رفعوا شعار (حيّ على خير العمل) في أذانهم، ثمّ عندما جاء من بعدهم السلاجقة منعوا المؤذّنين من ذلك.

والغريب أنّهم أمروا أن يُقال في أذان الصبح بدل (حي على خير العمل) عبارة (الصلاة خير من النوم) مرّتين. وكان ذلك في عام 44٨ه.

4. الشهادة بولاية الإمام علي (ع) في الأذان

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لماذا يقول الشيعة في أذانهم (أشهد أنّ عليّاً ولي الله) ؟


1- السيرة للحلبي، ج 2، ص 3٠5.
2- مقاتل الطالبيين، صص 2٨4 - 356. .

ص: 166

الجواب : يقول الشيعة في أذانهم (أشهد أنّ عليّاً ولي الله) بعد (أشهد أنّ محمّداً رسول الله) ، وهذه الطريقة سائدة في جميع بلدان الشيعة، ويجدر بنا في هذا المقام بيان أمور، منها:

1. أجمع فقهاء الشيعة على أنّ الشهادة الثالثة (أشهد أنّ عليّاً ولي الله) ليست جزءاً من الأذان؛ ولهذا عندما يذكرون أجزاء الأذان يقولون إنّها ثمانية عشر جزءاً، وهي عبارة عن:

1. التكبير (أربع مرّات) .

2. أشهد أن لا اله الّا الله (مرّتان) .

3. أشهد أنّ محمّداً رسول الله (مرّتان) .

4. حيّ على الصلاة (مرّتان) .

5. حيّ على الفلاح (مرّتان) .

6. حيّ على خير العمل (مرّتان) .

7. الله أكبر (مرّتان) .

٨. لا إله إلّا الله (مرّتان) .

وهذا ما اتّفق عليه جميع فقهاء الشيعة.

2. إذا قرأ شخص الشهادة الثالثة، وهو يعتقد بأنّها جزء من الأذان، فقد ارتكب فعلاً محرّماً.

3. ذكر الشهادة الثالثة في الأذان من دون قصد الجزئيّة جائزٌ أو مستحبّ، وهذا الاستحباب مبتنى على أمرين، هما:

أ) الإمام علي (ع) هو ولي الله، وقد شهد بذلك القرآن الكريم وأحاديث الرسول (ص) .

ب) أمرنا الإمام الصادق (ع) بأنّنا إذا قلنا: «أشهد أنّ محمّداً رسول الله» ،

ص: 167

فعلينا أن نتبعها بقولنا: «أشهد أن عليّاً ولي الله» .

وأمّا بالنسبة إلى ولاية الإمام علي (ع) ، فخير شاهد عليها في الأحاديث الشريفه هو حديث الغدير، والأحاديث المتواترة الواردة عن الرسول (ص) كقوله:

«يا عليّ، أنت ولي كلّ مؤمن بعدي» . (1)

وأما القرآن الكريم أيضاً، فقد شهد للإمام علي (ع) بالولاية، وقال تعالى: ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ * ومَنْ يَتَوَلَّ اللهَ ورَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (المائدة: 55 و56) .

وقد اتّفقت آراء المف-سّرين بأنّ هذه الآية نزلت في شأن أميرالمؤمنين علي (ع) ؛ وذلك عندما دخل فقيرٌ إلى مسجد الرسول (ص) ، وطلب المساعدة من الناس، وكان الإمام علي (ع) راكعاً، فمدّ يده إلى الفقير، وأشار إليه بأن يأخذ الخاتم الذي كان فيها، وعندئذ نزلت هاتان الآيتان.

والشواهد الدالّة على هذه الآية كثيرةٌ ولا مجال لذكرها بالتفصيل هنا، ولكن نشير - على سبيل المثال - إلى بعض المصادر في الهامش. (2)

إذن، يتّضح لنا من هذه الآيات ومن الآيات والأحاديث الكثيرة الأخرى بأنّ الإمام عليّ (ع) هو ولي الله.

وأمّا بالنسبة إلى ماقاله الامام الصادق (ع) ، فقد نقل القاسم بن معاوية،


1- كنز العمّال، ج 6، ص 3٩6.
2- تفسير الطبري، ج 6، ص ٨6؛ أحكام القرآن لابي بكر الجصّاص، ج 2، ص 542؛ أسباب النزول، ص14٨؛ الكشاف، ج 1، ص 422. و قد نقل العلامة الأميني 66 مصدراً من مصادر أهل السنّة تبيّن بأنّ شأن نزول هاتين الآيتين هو الإمام علي بن أبي طالب (ع) ، و حتّى حسّان بن ثابت كان حاضراً في هذه الواقع فانشد: فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع فدتك نفوس القوم يا خير راكع

ص: 168

وهو من أصحاب الإمام الصادق والإمام الكاظم (ع) عن الصادق (ع) قوله: «

إذا قال أحدكم لا إله الا الله، محمّد رسول الله فليقل: علي أميرالمؤمنين » . (1)

نستنتج ممّا تقدّم بأنّه لا يوجد أحد من الشيعة يعتقد بجزئية الشهادة الثالثة في الأذان، وبعض الشيعة أيضاً يذكرون هذه الشهادة في الإقامة مرّة واحدة ليميزها بهذه الطريقه عن أجزاء الإقامة، وبهذه الصورة لا محذور من ذكر الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة.

5. عدم تكتّف الشيعة في الصلاة

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لماذا لا يتكتّف الشيعة في الصلاة؟

الجواب : وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة هو أمرٌ مستحبٌّ عند فقهاء المذاهب الثلاثة، من بين مذاهب أهل السنّة الأربعة.

قالت الحنفية: إنّ التكتّف مسنون وليس بواجب، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى، تحت سرّته، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها.

وقالت الشافعية:

«يسنُّ للرجل والمرأة، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يس-راه تحت الصدر وفوق السرّة ممّا يلى الجانب الأيسر» .

وقالت الحنابلة:

«إنّه سنّة، والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، ويجعلها تحت السرة» .


1- الاحتجاج للطبرسي، ص ٨3. .

ص: 169

وشذّ عنهم المالكية، فقالوا:

يُندب إسدال اليدين في الصلاة الفرض.

وقالت بذلك جماعة أيضاً قبلهم، منهم: عبدالله بن الزبير، وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن جريح، والنخعي، والحسن البصري، وابن سيرين وجماعة من الفقهاء.

والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين التكتّف والسدل. (1)

وأمّا الشيعة الإمامية، فالمشهور عندهم أنّه حرام ومبطل للصلاة، وشذّ منهم من قال بأنّه مكروه، كالحلبي في الكافي. (2)

كيفيّة صلاة النبي (ص)

اشارة

إنّ علماء مذاهب أهل السنّة، باستثناء المالكيّة، قد اعتبروا التكتّف في الصلاة سنّةً وتحدّثوا كثيراً عن ذلك، لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة، فضلاً عن كونه مندوباً، بل يمكن أن يُقال: إنّ الدليل على خلافهم، والروايات المرويّة عن الفريقين والتي تُبيّن صلاة الرسول (ص) ، لم يُذكر فيها التكتّف مطلقاً؛ ولو كان هذا الأمر مندوباً لما تركه رسول الله (ص) ، لأنّه لايترك المندوب أبداً.

وإليك ثلاثة نماذج من هذه الروايات: واحدةٌ عن طريق الشيعة، والأخريان عن طريق أهل السنّة، وهي تُبيّن كيفيّة صلاة النبيّ (ص) وليست فيها أيّة إشارة إلى التكتّف، فضلاً عن ذكر تفاصيله.


1- انظر: الفقه على المذاهب الخمسة لمحمّد جواد مغنية، ص 11٠؛ رسالة مختصرة السدل للدكتور عبدالحميد، ص 5.
2- جواهر الكلام، ج 11، صص 15و 16. .

ص: 170

أ) حديث أبي حميد الساعدي

روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدّثين، ونحن نذكره هنا بنص البيهقي. قال:

أخبرنا أبوعبدالله الحافظ: فقال أبوحميد الساعدي: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله (ص) ، قالوا: لِمَ، ما كنت أكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة! قال: بلى. قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول الله (ص) إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكَبيه، ثمّ يكبّر حتّى يقرّ كلّ عضو منه في موضعه معتدلاً، ثمّ يقرأ، ثمّ يكبّر ويرفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه، ثمّ يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثمّ يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع ثمّ يرفع رأسه، فيقول: «سمع الله لمن حمده» ، ثمّ يرفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه حتّى يعود كلّ عضو منه إلى موضعه معتدلاً، ثم يقول: «الله أكبر» ، ثمّ يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثمّ يرفع رأسه، فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يعود، ثم يرفع فيقول: «الله أكبر» ، ثمّ يثني برجله فيقعد عليها معتدلاً حتّى يرجع أو يقرّ كل عضو موضعه معتدلاً، ثمّ يصنع في الركعة الأُخرى مثل ذلك، ثمّ إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه كما فعل أو كبّر عند افتتاح صلاته، ثمّ يصنع مثل ذلك في بقيّة صلاته، حتّى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متورّكاً على شقّه الأيسر.

فقالوا جميعاً: صدَق هكذا كان يصلّي رسول الله (ص) . (1)


1- سنن البيهقي، ج 2، صص 72 - 73، 1٠1- 1٠2؛ سنن أبي داود، ج 1، ص 1٩4؛ سنن الترمذي، ج 2، ص ٩٨؛ مسند أحمد، ج 5، ص 424، و ابن خزيمة في صحيحه، باب الاعتدال في الركوع، برقم 5٨7. .

ص: 171

وهذا الحديث الذي يوضّح كيفيّة صلاة رسول الله (ص) مرويٌّ في مصادر أهل السنّة.

وأمّا الحديث الذي اخترناه من مصادر الشيعة في هذا المجال، فهو:

ب) حديث حمّاد بن عيسى

روى حمّاد بن عيسى، عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال:

«ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستّون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة!» .

«قال حمّاد: فأصابني في نفس-ي الذلُّ، فقلت: جعلت فداك! فعلّمني الصلاة؟ فقام أبوعبدالله [(ع)] مستقبلَ القبلة منتصباً فأرسل يديه جميعاً على فخذيه، قد ضمّ أصابعه وقرّب بين قدميه حتّى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، واستقبل بأصابع رجليه (جميعاً) لم يُحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة، فقال: «الله أكبر» ، ثمّ قرأ الحمد بترتيل، وقل هو الله أحد، ثمّ صبر هنيئة بقدر ما تنفس، وهو قائم، ثم قال: «الله أكبر» ، وهو قائم ثمّ ركع وملأ كفّيه من ركبتيه مفرّجات، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتّى استوى ظهره، حتّى لوصبت عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردّد ركبتيه إلى خلفه، ونصب عنقه، وغمض عينيه ثمّ سبح ثلاثاً بترتيل وقال: «سبحان ربي العظيم وبحمده» ، ثمّ استوى قائماً، فلمّا استمكن من القيام قال: «سمع الله لمن حمده» ، ثمّ كبّر وهو قائم، ورفع يديه حيال وجهه، وسجد، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه وقال: «سبحان ربي الأعلى وبحمده» -ثلاث مرات- ولم يضع شيئاً من بدنه على شيء منه.

وسجد على ثمانية أعظم: الجبهة، والكفّين، وعيني الركبتين، وأنامل إبهامي

ص: 172

الرجلين، والأنف، فهذه السبعة فرض.

ووضع الأنف على الأرض سنّة، وهو الإرغام، ثمّ رفع رأسه من السجود فلمّا استوى جالساً قال: «الله أكبر» ، ثمّ قعد على جانبه الأيس-ر، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى، وقال: «أستغفر الله ربّي وأتوب إليه» ، ثمّ كبّر، وهو جالس وسجد الثانية، وقال، كما قال في الأُولى ولم يستعن بشيء من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود.

وكان مجنّحاً، ولم يضع ذراعيه على الأرض، فصلّى ركعتين على هذا» .

ثم قال:

يا حمّاد هكذا صلّ، ولا تلتفت، ولا تعبث بيديك وأصابعك، ولا تبزق عن يمينك ولا (عن) يسارك، ولا بين يديك. (1)

نلاحظ أنّ الروايتين بصدد بيان كيفيّة الصلاة المفروضة على الناس، وليست فيهما أيّة إشارة إلى التكتّف بأقسامه المختلفة، فلوكان سنّة لما تركه الإمام في بيانه، وهو بعمله يجسّد لنا صلاة الرسول (ص) ؛ لأنّه أخذه عن أبيه الإمام الباقر (ع) ، وهو عن آبائه، عن أميرالمؤمنين: ، عن الرسول الأعظم (ص) فيكون التكتّف بدعة؛ لأنّه إدخال شيء في الشريعة وهو ليس منها.

ج) حديث المسيء في صلاته

روى محدّثوا أهل السنّة أنّ رجلاً كان يصلّي والنبي (ص) ينظر إليه، فلمّا فرغ من صلاته جاء إلى النبي (ص) فسلّم عليه فردّ عليه السلام، ثمّ قال: «ارجع، فصلِّ فإنّك لم تصلِّ» .


1- الوسائل، ج 4، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، ح 1؛ الباب 17 منه، ح 1، 2. .

ص: 173

فرجع وعمل في صلاته الثانية كما عمل في صلاته الأُولى، ثمّ جاء إلى النبيّ (ص) فقال له: «ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلِّ» ثلاث مرّات.

فأقسم الرجل أنّه لا يُحسِنُ من الصلاة إلّا ما فعل. فعندما اشتاق إلى العلم، وتهيّأ لقبوله، علّمه النبي (ص) كيف يصلّي. وقد روى هذا الحديث أبوهريرة، حيث قال:

إنّ النبيّ (ص) ، قال: «إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة، فكبّر به، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثمّ أركع حتّى تطمئن راكعاً، ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائماً، ثمّ اسجد حتّى تطمئن ساجداً، ثمّ ارفع حتّى تطمئن جالساً، ثمّ اسجد حتّى تطمئن ساجداً، ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها. (1)

فلوكان التكتّف سنّة مؤكّدة أو أمراً مندوباً، لذكره النبي (ص) .

رأي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)

نستنتج ممّا ذكر أنّ التكتّف في الصلاة يتعارض مع سنّة رسول الله (ص) ، لذلك فقد نهى عنه الأئمّة: ، واعتبروه فعلاً من طقوسى المجوس الذين يفعلونه بين يدي ملوكهم.

ونذكر فيها يلي بعض ما روي عنهم بهذا الصدد:

1. روى محمّد بن مسلم أنّه قال للإمام الصادق أو الباقر (ع) : الرجل يضع يده في الصلاة - وحكي - اليمنى على اليس-رى؟ فقال (ع) :

«ذلك التكفير، لا يُفعل» . (2)

2. روى زرارة، عن أبي جعفر (ع) أنّه قال:

«وعليك بالإقبال على صلاتك،


1- صحيح البخاري، ج 1، ص 1٨٩؛ صحيح مسلم، ج 2، ص 11.
2- وسائل الشيعة، ج 4، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، ح 1. .

ص: 174

ولا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس» . (1)

3. روى الصدوق بإسناده عن الإمام علي (ع) أنّه قال:

«وعليك بالإقبال على صلاتك، ولا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس» . (2)

4. روى الصدوق بإسناده عن الإمام علي (ع) أنّه قال:

«لا يجمع المسلم يديه في صلاته، وهو قائم بين يدي الله عزّوجلّ يتشبّه بأهل الكفر» . يعني: المجوس. (3)

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى حديثٍ للدكتور علي السالوس. فهو بعد أن نقل آراء فقهاء الفريقين، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله: «وأُولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والإبطال، أو التحريم فقط، يمثّلون التعصّب المذهبي وحبّ الخلاف، تفريقاً بين المسلمين» . (4)

ولكن، ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والبحث في الكتاب والسنّة إلى أنّ التكتّف أمر شُرِّع بعد النبي الأكرم (ص) ؟ وكان الناس يُؤمرون بذلك أيّام الخلفاء، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضاً أو استحباباً، فقد ابتدع في الدين ما ليس منه. فهل جزاء من اجتهد أن يُرمى بالتعصّب المذهبي وحبّ الخلاف؟ !

ولوصحّ ذلك، فهل يمكن وصف الإمام مالك بالتعصّب وحبّ الخلاف؟ لأنّه كان يكره التكتّف مطلقاً، أو في الفرض.

فهل يصحّ رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحبّ الخلاف؟ !

أجل، لماذا لا يكون التكتّف مثالاً للتعصب المذهبي وحبّ الخلاف بين المسلمين؟ !


1- وسائل الشيعة، ج 4، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، ح 2.
2- المصدر نفسه، ح 3.
3- المصدر نفسه، ح 7.
4- فقه الشيعة الإمامية و مواضع الخلاف بينه و بين المذاهب الأربعة، ص 1٨3. .

ص: 175

6. السجود على الأرض

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لماذا يسجد الشيعة الإماميّة في صلاتهم على التربة؟

الجواب : السجود وفق حكم الشريعة الإسلاميّة لا يصحّ إلّا لله تعالى، وهذا ما اتّفق عليه جميع الفقهاء المسلمين.

وإذا كان ثمّة اختلاف في هذا المجال، فهو يتعلّق بما يجب السجود عليه. ويعتقد الشيعة بوجوب السجود على شيئين:

1. الأرض. من قبيل التراب والأحجار، وما شابههما.

2. ما أنبتتْهُ الأرض، ممّا لا يُؤكل ولا يُلبس.

وخالف فقهاء السنّة ذلك، حيث أجازوا السجود على ما يلبس من قبيل القطن والكتان، والشعر والصوف، وغير ذلك، ما عدا الشافعي، حيث قال: «لا يجوز السجود على شيءٍ هو حاملٌ له ككور العمامة، وطرف الرداء، وكم القميص» . (1)

وما يهمّنا هنا، هو معرفة سيرة الرسول (ص) في هذا المجال؛ لأنّ الرسول (ص) هو الأسوة والقدوة لنا في معرفة ما أراد الله منّا في العبادة، ولايحقّ لأحد أن يقدّم قوله على قول النبيّ (ص) .

وإذا دقّقنا النظر في الأحاديث الش-ريفة الواردة في الصحاح والسنن، سنلاحظ أنّ النبيّ (ص) بيّن ما يصحّ السجود عليه في ثلاث مراحل هي:

المرحلة الأولى: السجود على الأرض

كان الواجب على المسلمين في هذه المرحلة السجود على الأرض بما فيها


1- انظر: الخلاف للشيخ الطوسي، ج 1، صص 357 - 35٨. .

ص: 176

من تراب ورمل وحصى وطين، ولم تكن هناك أيّة رخصه لغيرها.

وقد اشتكى في هذه المرحلة بعض الصحابة من شدّة حرّ الحصى، فكانوا يقومون بتبريدها قبل الصلاة. فلوكان السجود على الثوب جائزاً لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود.

المرحلة الثانية: الترخيص في السجود على الخُمر والحُصر

هناك نصوص تذكر ترخيص النبيّ (ص) بأمر من الله تعالى السجود على ما أنبت الأرض، فسهل للصحابة بذلك أمر السجود.

المرحلة الثالثة: الترخيص في السجود على الثياب لعذر وضرورة، مثل شدّة الحرّ، ولايجوز ذلك عند عدم الضرورة

اشارة

ومن هنا يظهر بوضوح أنّ ما إلتزمت به الشيعة هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة.

الحكمة من السجود على التراب في الأحاديث النبويّة

أكّد رسول الله (ص) على أنّ علّة السجود على التربة هو إظهارٌ للخضوع إلى الله تعالى وإرغامٌ للنفس أمامه. (1)

ورُوي أنّ هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق (ع) عن علّة السجود على الأرض؛ فقال (ع) :

لانّ السجود خضوع لله عزّوجلّ، فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس؛ لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده، في


1- راجع: النهاية، ص 2، ماده: رغم. .

ص: 177

عبادة الله عزّوجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها. (1)

ورَوى ابن حجر في شرح صحيح البخاري: «كان عمر بن عبدالعزيز الخليفة الأموي لا يكتفى بالخمرة، بل كان يضع عليها التراب ويسجد عليه. (2)كما أنّ عروة بن الزبير أيضاً كان لا يسجد إلّا على الأرض» . (3)

وكان مسروق - وهو من التابعين - إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها. (4)

وقال ابن أبي شيبه - وهو شيخ البخاري -: «الصلاة على الطنفسه محدث» .

والطنفسه هي السجادة، أو أيّ بساط له حمل وسماكه، ومُحدَث يعني: لم يكن على عهد رسول الله (ص) . (5)

السجود على تربة الإمام الحسين (ع)

إنّ السرّ في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينيّة، هو أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة، تضحيّة ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته (ع) ، والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ، ومقارعةً للجور والفساد.

ولمّا كان السجود من أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث: «أقرب ما يكون


1- وسائل الشيعة، ج 3، ب 1 من أبواب ما يسجد عليه، ح 1.
2- فتح الباري، ج 1، ص 41٠؛ شرح الاحوذي، ج 1، ص 272.
3- انظر: المصدر نفسه.
4- انظر: الطبقات الكبرى، ج 6، ص 7٩.
5- المصنّف، ج 1، ص 43٨. .

ص: 178

العبد إلى ربّه حال سجوده» فعند ما يضع العبد جبهته على تلك التربة الزاكية، يجدر به أن يتذكّر أُولئك الذين ضحَّوا بأنفسهم في سبيل الحقّ.

ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود التربة الحسينية يخرق الحجب السبع كما في الخبر. فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب. (1)

وقال العلّامة الأميني: «نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لبناً وأقراصاً نسجد عليها، كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة ومعلّم السنّة بها، وحاشاه من البدعة» .

فليس في ذلك أيّ تعسّف أو مخالفة لنداء القرآن الكريم أو لسنّة رسول الله (ص) وهو ليس خروج من حكم العقل.

واتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة ليس واجباً ولا يعتبر من ضرورّيات المذهب، ولا فرق بين التربة الحسينية وغيرها ممّا يصحّ عليه السجود في صحة الصلاة، خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم.

فالسجود على تربة الإمام الحسين (ع) لا يعني الخروج عن مبدأ التوحيد مطلقاً، بل إنّه يزرع في نفس الانسان الإخلاص لله تعالى والتضحية في سبيل الحقّ؛ والذين يدّعون أنّ السجود على تربة كربلاء شركٌ، فإنّهم لايعرفون من هو المسجود له وما هو المسجود عليه! فسجود الشيعة في جميع الأحوال هو لله تعالى فحسب، سواءٌ أكان على التراب أم الحصير أم تربة كربلاء أم تربة المدينة المنوّرة أم على حجرٍ من أحجار الصفا والمروة.


1- الأرض و التربة الحسينيّة، ص 24. .

ص: 179

ورُوي عن علي بن عبدالله بن عبّاس، وهو من التابعين، أنّه كتب إلى (مرزين) أن أبعث إليّ بلوح من أحجار المروة أسجد عليه. (1)

فإذا كان حجر من جبل مروة شاهداً لتضحيات أمرأة مؤمنة، فكربلاء شهدت تضحيّات آل الرسول (ص) .

وورد بإسناده عن معاوية بن عمّار قال: «كان لأبي عبدالله (ع) خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبدالله، فكان إذا حض-رته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه» . (2)

٧. الجمع بين الصلاتين في زمانٍ واحدٍ

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لماذا يصلّي الشيعة الصلوات الخمس في ثلاثة أوقات؟

الجواب : مسألة (الجمع بين الصلاتين) تعتبر من المسائل الفقهيّة المهمّة والحسّاسة، وقد بحثها محقّقي الشيعة بدقّة، ومن الأمور التي ينبغي الالتفات إليها في هذا الصدد، هي: (3)

1. اتّفقت كلمة الفقهاء على رجحان الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة جمعاً حقيقيّاً دون فاصلةٍ زمانيّةٍ فأجمعوا على أنّ الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة في وقت


1- أخبار مكّة، الأزرقي، ج3، ص 151.
2- وسائل الشيعة، ج 5، ص 366.
3- أُلفت كتب قيمة حول الجمع بين الصلاتين منها: رسائل فقهيه تأليف: العلّامة شرف الدين العاملي؛ الجمع بين الصلاتين تأليف نجم الدين العسكري؛ و الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف لمؤّلف هذا الكتاب. و ما نذكره هنا موجد لبحث قام به السيّد رضا حسيني نسب في كتابه الشيعة تجيب. .

ص: 180

العشاء سنّة.

2. ذهب معظم فقهاء أهل السنّة إلى جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، ولكن أتباع المذهب الحنفيّ قالوا: لا يجوز الجمع الا في العرفة والمزدلفة.

3. اتّفق الشيعة على جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً، ولكلّ من صلاة الظهر والعص-ر، وصلاة المغرب والعشاء وقت خاصّ ووقت مشترك.

فإذا زالت الشمس دخل الوقتان - أي: وقت الظهر والعص-ر - إلّا أنّ صلاة الظهر يؤتى بها قبل العصر، وعلى هذا فالوقت بين الظهر والمغرب هو وقت مشترك بين الصلاتين، غير أنّه يختص بالظهر بمقدار أربع ركعات من بداية الزوال، وبالعصر بمقدار أربع ركعات الى حين المغرب، وما بينهما هو وقت مشترك.

فلوصلّى الظهر والعصر في أيّ وقتٍ بين الزوال والمغرب، فقد أتى بهما في وقتهما؛ وذلك؛ لأنّ هذا الوقت مشتركٌ بينهما، غير أنّه يختص بالعصر بمقدار أربع ركعات في آخر الوقت ولا يصحّ إتيان الظهر فيه أداءاً.

وبما أنّ لأهل السنّة رأي خاصّ في تقسيم الوقت -من الزوال حتّى الغروب- فإنّهم لا يعتقدون بالوقت المشترك بين الظهر والعص-ر؛ لأنّهم يذهبون إلى أن الوقت في أوّل الزوال إلى بلوغ ظلّ الشاخص بمقدار طوله خاصٌّ بصلاة الظهر، ولا يصح أداء صلاة العصر فيه، وبعد هذه الوقت يبدأ وقت صلاة العصر حتّى المغرب.

وعلى ضوء هذه العقيدة فلا يمكن الجمع بين الصلاتين، ويعتقد الشيعة بأنّ هذا التقسيم يرتبط بوقت الفضيلة لا وقت الأداء أيّ: الأفضل أداء صلاة

ص: 181

العصر بعد بلوغ ظلّ الشاخص بمقدار طوله، ولكن إذا صلّى الإنسان صلاة العصر قبل ذلك فإنّه مُجزئ.

ومن جهة أخرى توجد أحاديث كثيرة تبيّن بأنّ الرسول (ص) جمع بين الصلاتين في السفر، وأحياناً في الحضر، ومن دون أيّ عذر، وقد اضطرّ أهل السنّة إلى التكلّف في تفسير هذه الأحاديث. وإليك فيما يلي تفسير الشيعة وأهل السنّة لهذه الأحاديث:

أ) يعتقد الشيعة بأنّ هذه الأحاديث تدلّ على جواز أداء صلاة العصر بعد صلاة الظهر، وأيضاً تدلّ على جواز أداء صلاة العشاء بعد صلاة المغرب، وليس لها صلةٌ بزمانٍ أو مكانٍ خاصٍّ، بل يجوز الجمع بين الصلاتين في كلّ مكان وفي أيّ زمانٍ كان.

ب) وهناك من لا يعتقد بالوقت المشترك، ويف-سّر هذه الأحاديث بأنّها تدلّ على أداء صلاة الظهر في آخر وقتها وأداء صلاة الع-صر في أوّل وقتها.

والتأمل في حكمة الجمع بين الصلاتين يكشف بأنّ تفسير أهل السنّة لهذه الأحاديث لا صحّة له؛ لأنّ الحكمة من جواز الجمع بين الصلاتين هو تسهيل الأمر لأبناء الأمّة الإسلاميّة، ليمكنهم الجمع بين الصلاتين في الوقت المشترك.

وإذا قلنا بأنّ النبيّ (ص) جمع بين الصلاتين، بحيث صلّى الظهر في آخر وقتها، وصلّى الع-صر في أوّل وقتها، فهذا الأمر لا يكون لتيسير الأمر للمسلمين؛ إذ إنّ معرفة آخر الوقت لصلاة الظهر بدقّةٍ، ثمّ أداء صلاة الع-صر مباشرة بعد صلاة الظهر في أوّل وقتها، يعتبر أمراً شاقّاً ومعقّداً ولايتسير فيه.

ص: 182

٨. الخمس في غير الغنائم الحربيّة

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : يوجب فقهاء أهل السّنة الخمس في الغنائم الحربيّة فقط، فلماذا وسّع فقهاء الشيعة نطاق الخمس، وقالوا بوجوبه في غير الغنائم الحربيّة؟

الجواب : كما أنّ الخمس واجب في الغنائم الحربيّة، فهو أيضاً واجب في الغنائم الأخرى؛ وذلك وِفْق الشروط التي بيّنها الفقهاء في مبحث الخمس، وسنبحث هذه المسألة في القرآن والسنّة:

قال تعالى: ( واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي الْقُرْبى والْيَتامى والْمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ واللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال: 41) .

هل تحدّثت هذه الآية حول الغنائم الحربية فقط، أم أنّ مدلولها أوسع من ذلك؟

للإجابة على هذا السؤال يجب علينا أوّلاً معرفه معنى غنم في اللغة.

المتعارف من استخدام لفظ الغنيمة في الكتب الفقهيّة هو الغنائم الحربيّة، ولكنّ هذا الاستخدام لا يدلّ على حصر دلالة الآية في الغنائم الحربيّة فقط، بل إطلاق الآية يشمل كلّ شيء يغنمه الإنسان.

وقد ذكر علماء اللّغة العربية عدّة معانٍ لمفردة (الغنيمة) ولم يقيدّوها بالغنيمة الحربيّة: ونذكر فيما يلي بعض أقوالهم:

1. قال الخليل بن أحمد الفراهيدي المولود سنة17٠ه: «الغنم: الفوز بالشيء في غير مشقة» . (1)


1- كتاب العين، ج 4، ص 426، مادة: غنم. .

ص: 183

2. قال الأزهري: «غنم، تعني الحصول على شيء، والاغتنام عبارة عن الانتفاع من الغنيمة» . (1)

3. قال ابن فارس: «لغنم اشتقاق واحد يحكي عن الفوز بالش-يء، وهو يستخدم في الغنائم الحربية» . (2)

ونكتفى في هذا المقام بهذا المقدار من كلام رجال اللّغة العربية، وما يهمّنا من هذه الأقوال هو أنّ (غنم) تعني مطلق ما يحصل عليه الإنسان من ممتلكات. (3)

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن بمعنى النفع، حيث قال تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ولا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) (النساء: ٩4) .

فعبارة: ( فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ) في هذه الآية تدلّ على أجري الدنيا والآخرة، دون تقيد ذلك بالمغانم الحربيّة، بل يمكن القول بأنّ المقصود منه الأجر الأخروي في مقابل عَرض الحياة الدنيا.

ونقل ابن ماجة في سننه عن رسول الله (ص) أنّه قال عند استلامه الزكاة:

«اللّهمّ، اجعلها مَغنماً ولا تجعلها مَغرماً» . (4)

ونقل أحمد بن حنبل عن رسول الله (ص) أنّه قال:

«غنيمة مجالس الذكر، الجنّة» . (5)


1- انظر: تهذيب اللغة، مادة: غنم.
2- انظر: مقاييس اللغة: مادة: غنم.
3- انظر: النهاية لابن الاثير؛ و القاموس للفيروزآبادي؛ تاج العروس للزبيدي: مادة: غنم.
4- سنن ابن ماجة، كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة، ح 17٩7.
5- مسند أحمد، ج 2، صص 33٠، 374، 524. .

ص: 184

وقد وصف الرسول (ص) شهر رمضان بأنّه:

«غنم للجنّة» . (1)

وأفضل دليل على أنّ المقصود من الغنائم في هذه الآية لا ينحص-ر في الغنائم الحربيّة؛ وذلك أنّ الآية وعلى الرغم من نزولها في الغنائم الحربيّة، لكن حكمها غير مختصّ بشأن النزول. ولهذا ذهب جميع فقهاء المذاهب الأربعة ألى أنّ الإنسان لوحصل على مغنم في غير حرب، فعليه أن يدفع خمس ذلك المال، واستدلّوا بهذه الآية.

الخمس في المعادن

الخمس في المعادن هو جزءٌ من الضرائب التي تجبيها الحكومة الإسلاميّة وهو من الأحكام التي أوجبها الإسلام، ويستدلّ فقهاء المذهب الحنفي على وجوب الخمس في المعادن بدليلين، هما:

1. آية الغنيمة التي ذكرناها آنفاً.

2. حديث الرسول (ص) :

«وفي الركاز الخمس» . (2)

والتتبع في كتب الحديث يكشف بأنّ هذه العبارة للرسول (ص) وردت في العديد من الأحاديث الأخرى.

الخمس في المكاسب

اشارة

يعتقد فقهاء الشيعة بوجوب الخمس فيما يكسبه الفرد بعد استخراج مؤونة سنته منه، وفي هذه المسألة شروط أخرى لا يسعنا المقام بيانها؛ لأنّ


1- مسند أحمد، ج 2، ص 377.
2- الفقه الاسلامي و أدلّته، ج 2، ص 776؛ مسند أحمد، ج 1، ص 314؛ سنن ابن ماجه، ج 2، ص٨3٩. .

ص: 185

هدفنا هنا هو إثبات رأي الإماميّة لنلاحظ مدى تطابقه مع الأحاديث الشريفة المرويّة عن رسول الله (ص) في مصادر أهل السنّة، وبما أنّ منهجنا في هذا الكتاب هو الاختصار، فلهذا نكتفى بنقل بعض هذه الأحاديث فيما يلي:

١. وفد (عبد القيس)

في شرق الحجاز، كان موطناً لقبيلة عبدالقيس واليوم يقطنه أبناء القطيف والأحساء، وأهالي البحرين في يومنا هذا ينتسبون إلى هذه القبيلة.

رئيس هذه القبيلة (عبدالقيس) جاء إلى رسول الله (ص) ، وأخبره بأنه لايستطيع المجيء إليه إلّا في الأشهر الحرام؛ وذلك لوجود قبائل تعيش في طريق المدينة ولا تسمح لقبيلة قيس المجيء إلى المدينة إلّا في هذه الأشهر، وطلب (عبدالقيس) من الرسول (ص) أن يعلّمه الاحكام الإسلاميّة اللّازمة لينشرها بين قومه، وجاء في الحديث:

فامرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال أمرهم بالإيمان بالله وحده، وقال هل تدرون ما الإيمان بالله. . . ؟ شهادة أن لاإله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاه الزكاة، وصوم رمضان وأن تؤدّوا خمساً من المغنم. (1)

وعلينا التأمّل بدقّة في هذا الحديث، فما المقصود من المغنم؟ يوجد احتمالان في معنى النصّ:

1. الغنائم الحربيّة.

2. المكاسب.

ولا شكّ في انتفاء الاحتمال الأوّل، لأنّ وفد بني عبدالقيس صرّح بعدم


1- صحيح البخاري، ج 4، ص 25٠؛ صحيح مسلم، ج 1، صص 35 و 36. .

ص: 186

تمكّنه من المجيء إلى المدينة إلّا في الأشهر الحُرُم، كما أنّ الجهاد مع العدو لايجوز إلّا بإذن الرسول (ص) . وقد يظنّ البعض بأنّ المقصود من الغنائم هي الغنائم التي يحصلون عليها من خلال غارتهم على الآخرين، ولكن هذا الاحتمال غير صحيح؛ لأنّ النبيّ (ص) نهى عن السلب والنهب. (1)

إذن، نستنتج أنّ الخمس لا يجب في هذا المقام إلّا على الأرباح والمكاسب.

٢. ارسال النبي عمرو بن حزم إلى اليمن

عندما أرسل النبيّ (ص) عمرو بن حزم إلى اليمن، بعث إليه كتاباً تضمّن مايلي:

أمره بتقوى الله في أمره كلّه، وأن يأخذ من المغانم خمس الله وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشرما سقى البعل وسقت السماء، ونصف العشر ممّا سقى الغرب. (2)

ونشير أوّلاً الى معنى بعض المصطلحات الواردة في هذا الحديث:

ألف) العقار: وهي الأرض، والمقصود هنا الأراضي الزراعيّة.

ب) البعل: وهي الأشجار التي لا تحتاج إلى السقي لأنّ جذورها ممتدة إلى الأنهار المجاورة.

ج) الغرب: ويعني الدلوالكبير، والمقصود هو الأشجار التي تُسقى بالدلو.

وقد أشار الرسول (ص) في هذا الحديث - بعد الأمر بتقوى الله- إلى نوعين من الضرائب في الاسلام، وهما:


1- انظر: التاج الجامع للأصول، ج 4، ص 334، نقلاً عن صحيح البخاري.
2- فتوح البلدان، ج 1، ص ٨1؛ سيرة ابن هشام، ج 4، ص 265. .

ص: 187

1. خمس الغنائم

2. زكاة الأرض. تارة عُشر، وتارة نصف العُشر للأراضي التي تُسقى عن طريق المطر، أو عن طريق المياه المجاورة.

وقد بعث الرسول (ص) عمرو بن حزم إلى اليمن ليتولى إمارتها، ولم يبعثه كرجل عسكري ليجاهد المشركين، لأنّ أهل اليمن دخلوا في الإسلام، ومن هنا نفهم بأنّ المقصود من قوله (ص) :

«وأن يأخذ من المغانم خمس الله» أنّ المقصود هو الأرباح والمكاسب.

وتوجد رسائل أُخرى عديدة لرسول الله (ص) بعثها إلى أطراف الحجاز، وكلّها تتضمّن أخذ الخمس من المغانم، ولم يكن من بعثهم الرسول (ص) بهذه الرسائل قادةً عسكريّين، بل كانوا مجرّد أمراء في مناطقهم، وهذا يدلّ على أنّ أخذ خمس المغانم لا يشمل مغانم الحرب فقط.

3. أجاز رسول الله في رسالة إلى جهينة بن زيد بأن ينتفع قومه من الأراضي التي عندهم وأن يستخدم المياه المتوفّرة لديهم، ولكن بش-رط دفع خمسها. (1)

أضف إلى ذلك، فقد أكّد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، وهم عِدل القرآن، على دفع أنّ الخمس من الأرباح واجبٌ، وكلّ من يؤمن بحديث الثقلين يجب عليه أن يتّبع القرآن والعترة (ع) .

وقد بيّنا حكم القرآن والعترة بالنسبة إلى الخمس في الأرباح والمكاسب.


1- راجع: الوثائق السياسية، ص 265. .

ص: 188

ص: 189

الفصل الثامن: أحداث تأريخية

اشارة

هناك اسئلةٌ تُطرح حول بعض الأحداث التأريخيّة، سوف نجيب عليها في الأبحاث التالية:

١. صلح الإمام الحسن (ع)

السؤال الذي يطرح هنا، هو : هل يمكن اعتبار صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية دليلاً على حسن علاقة أهل البيت (عليهم السلام) بمعاوية؟

الجواب : صلح الإمام الحسن (ع) يعتبر من الحوادث التأريخيّة المرتبطة بعصر صدر الإسلام التي تناولها الكثير من الباحثين بالبحث والتحليل وتحدّث عنها الكثير من الخطباء.

وقد توصّل الجميع إلى هذه النتيجة وهي أنّ الإمام الحسن (ع) هيّأ نفسه من اليوم الأوّل بعد استلامه للخلافة لأن يجاهد أهل الشام، ولم يفكّر بالصلح أبداً، ولهذا عندما بلغه خبر حركة معاوية من الشام نحوالكوفة، جمع الناس في المسجد، ثمّ ألقى خطبة أمرهم فيها بالجهاد ضدّ معاوية، ودعاهم إلى مواجهة الباطل والصبر والتضحية، وتحمّل المصاعب.

ص: 190

وكان الإمام (ع) من خلال معرفته للناس قلقاً من عدم استجابتهم لدعوته وكان الامر كذلك، فقد سكت الجميع إزاء دعوة الإمام (ع) ولم يؤيّده أحد.

فلمّا رأى الإمام الحسن (ع) ذلك قال: ما اقبح هذا المقام؟ الا تجيبون امامكم وابن بنت نبيكم، أين خطباء مضر؟ أين المسلمون؟ أين الخوّاضون من اهل المصر الذين السنتهم كالمخاريق في الدعة، فاذا جدّ الجِدّ فَروّاغون كالثعالب، امّا تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها. (1)

وتكشف هذه الوثيقة التأريخيّة مدى إنهيار نفوس أهل الكوفة ومدى ضعفهم أمام القتال.

ثمّ حاول أصحاب الإمام الحسن (ع) تعبئة الناس، وبعد جهودٍ مضنيةٍ بذلها الإمام، خرج معه عدد قليل واستقرّوا قرب الكوفة في منطقة تدعى (النُخيلة) ، وبعد إقامتهم هناك مدّة عشرة أيّام لم يلتحق به إلّا أربعة ألآف شخص، لهذا اضطرّ الإمام لأن يعود إلى الكوفة ليستنفر الناس.

ولم يقبل الإمام الحسن (ع) الصلح مع معاوية إلّا بعد أن وجد نفسه وحيداً بلا ناصرٍ ولا معينٍ، وقد تفرّق عنه أهل الكوفة لأنّهم ملّوا القتال بعد حروب الجمل وصفين والنهروان. كما كان في جيش الإمام عناصر مزّقها الاختلاف، فضلاً عن خيانة بعض قادة الجيش، وهذا ما أجبر الإمام إلى قبول الصلح مع معاوية.

فخطب (ع) قائلاً: «والله، ما سلّمت الأمر إليه إلّا أنّي لم أجدُ أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتّى يحكم الله بيني وبينه، ولكنّي عرفت


1- مقاتل الطالبين، ص 3٩؛ انساب الاشراف، ص 6٠. .

ص: 191

أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسداً، إنّهم لا وفاء لهم، ولاذمّة في قول ولا فعل، إنّهم لمختلفون ويقولون لنا إنّ قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا» . (1)

وقال (ع) في خطبةٍ أُخرى:

يا عجباً من قوم لا حياء لهم، ولا دين مرّة بعد مرّة، ولو سلّمت إلى معاوية الأمر، فأيم الله، لا ترون فرجاً أبداً مع بني أميّة، والله ليسومنكم سوء العذاب حتّى تتمنون أن عليكم حبشيّاً، ولو وجدت أعواناً ما سلمت له الأمر؛ لأنّه محرّم على بني أميّة؛ فأفٍ وترحاً يا عبيد الدنيا! (2)

نلاحظ ممّا ذكر أنّ الامام الحسن (ع) لم يوافق على الصلح مع معاوية طوعاً، وإنّما رأى ضعف أصحابه، فلم يجد بُدّاً من ذلك ولهذا لا يصحّ اعتبار هذا الصلح دليلاً على حسن العلاقة بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية.

٢. زواج أم كلثوم

اشارة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : هل في زواج عمر مع أمّ كلثوم بنت الإمام علي (ع) دلالة على حسن العلاقة بينهما؟

الجواب : هذا السؤال لا يعدّ سؤالاً تأريخيّاً فحسب، بل له صلة مباشرة بعقيدة الشيعة حول الخلفاء، وقد اثبت الشيعه الامامية بأنّ بيت الزهراء (س) تعرّض للهجوم من الخليفة الأوّل بعد وفاة الرسول (ص) ، وجاء الخليفة الثاني بالحطب لإحراقه، لدرجة أنّ الخليفة الأوّل ندم على ذلك في آخر أيّام حياته.


1- بحارالانوار، ج 44، ص 147؛ الاحتجاج، ص 157.
2- بحارالأنوار، ج 44، ص 44. .

ص: 192

فمع هذه الحوادث، كيف يمكن تصديق زواج الخليفة الثاني من بنت الزهراء؟ ! ولا يعقل قبول الإمام علي (ع) على هذا الأمر.

وقد تمّ بحث هذه المسألة على مرّ التأريخ، حيث كانت مطروحة على طاولة البحث الأكثر من ألف سنة، وبما أنّ منهج هذا الكتاب هو الاختصار، لذلك نكتفي ببيان الأقوال المختلفة المطروحة في علم الكلام وعلم الحديث عند الشيعة حول هذه المسألة:

١. رأي الشيخ المفيد (٣٣6- 4١٣ه)

شكّك الشيخ المفيد في صحّة وقوع هذا الزواج في الرسالة الخاصّة التي ألفها في هذا الصدد، وذكر بأنّ خبر هذا الزواج منقول عن طريق الزبير بن بكّار، وهو ممّن لا يعتمد عليه، بل كان الزبير من أعداء الإمام علي (ع) ؛ ولهذا لا يمكن الوثوق بما ينقله عن بني هاشم.

وما أدّى إلى انتشار هذا الخبر هو أبومحمّد الحسن بن يحيى العلوي، حيث نقله في كتابه (النسب) ؛ ولهذا قبلها البعض.

وأشار الشيخ المفيد إلى وجود بعض المفارقات العجيبة في نقل هذه الواقعة التأريخيّة، منها ما يلي:

1. إنّ الإمام علي (ع) هو الذي قرأ صيغة هذا العقد.

2. وقع هذا الزواج بوساطةٍ من العبّاس عمّ الإمام علي (ع) .

3. وقع هذا الزواج إثر التهديد.

4. تحقّق الزواج، وكان ثمرته ولداً باسم زيد.

5. قُتل عمر قبل وقوع هذا الزواج.

6. كان لزيد بن عمر أيضاً ذريّة.

ص: 193

7. قُتل زيد بن عمر، ولم يكن له وارث.

٨. قُتل زيد وأمّه في يومٍ واحدٍ.

٩. عاشت أمّ كلثوم بعد مقتل ولدها زيد.

1٠. كان صداق أمّ كلثوم أربعين ألف درهماً.

11. كان صداق أم كلثوم أربعة آلاف درهم.

12. كان صداق أم كلثوم خمسمائة درهم.

وهذا الاختلاف الكبير في النقل يثير الشكّ والترديد في النفوس حول أساس القضيّة.

٢. ام كلثوم هي ربيبة الإمام علي (ع)

يعتقد بعض المؤلّفين بأنّ أم كلثوم التي تزوّجت بعمر كانت ربيبة الإمام علي (ع) ، ولم تكن ابنته من صلبه؛ لأنّ أسماء بنت عميس تزوجت من أبي بكر بعد رحيل جعفر بن أبي طالب، وولد لها من هذا الزواج ابنة سميّت أمّ كلثوم، وبعد وفاة أبي بكر تزوجت أسماء مع الإمام علي (ع) وعاشت ابنتها كربيبة في بيت الإمام علي (ع) ، وهذه الربيبة هي التي تزوّجها عمر بن الخطّاب.

وهذا القول ضعيف؛ لأنّ أبا بكر كانت له بنت تدعى أمّ كلثوم، ولكن أمّها هي حبيبة إبنة أحد الأنصار، وهو زيد بن خارجة، وأمّ كلثوم بنت أبي بكر تزوّجت بطلحة بن عبيدالله وأنجبت له أولاداً باسم محمّد وزكريا وعائشة.

وبعد مقتل طلحة تزوجت أمّ كلثوم بعبدالرحمن بن عبدالله.

وأمّا أسماء بنت عميس، فإنّها تزوّجت بأبي بكر ولم تنجب له سوى طفلاً واحداً يدعى محمّد. ولهذا لا يصحّ القول بأنّ أمّ كلثوم التي تزوّجها عمر هي بنت أسماء بنت عميس. وأساساً لم يكن لأسماء بنت من أبي بكر.

ص: 194

وأمّا أم كلثوم بنت أبي بكر، فأمّها (قتيله) ، وهي تزوّجت بطلحة بن عبيدالله ولم تتزوّج بعمر بن الخطّاب. (1)

٣. ردود الفعل المختلفة إزاء خطبة عمر

قال عمر بن الخطاب إنّ السبب الذي دفعه للزواج بأمّ كلثوم هو قول النبي (ص) : «

كلّ نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلّا نسبي وسببي » ، فقال: «كنت قد صحبته فأحببت أن يكون هذا أيضاً» . (2)

ولكن الدافع الأساسي لم يكن سوى أنّه أراد بهذا الزواج أن يتستّر على ما فعله تجاه الإمام علي (ع) وفاطمة الزهراء (س) .

وعندما تقدّم عمر بن الخطّاب إلى خطبة أمّ كلثوم، حاول الإمام علي (ع) رفض طلبه، وبرّر ذلك بتبريرات مختلفة منها:

أ) قال الإمام علي (ع) : إنّها صبيّة.

وكان جواب الخليفة: إنّك -والله- ما بك ذلك، ولكن قد علمنا ما بك. (3)

ب) أصرّ عمر مرّة أخرى على هذا الزواج، فواجهه الإمام (ع) باعذار أخرى.

وقد ذكرت بعض مصادر الفريقين أنّ هذا الزواج قد تحقّق، وكان المتصدّي لهذا الأمر هو العبّاس بن عبدالمطلب، ولكن هل تحقّق هذا الزواج بطيب خاطرٍ أو أنّه كان نتيجة الضغوط الداخليّة والخارجيّة؟

وكلّ من له المام بتأريخ ما جرى بين الإمام علي (ع) وعمر بن الخطّاب،


1- راجع: أسد الغابة، ج 5، ص 3٩5.
2- الطبقات الكبرى، ج ٨، ص 463.
3- المصدر نفسه، ص 464؛ الذرّية الطاهرة لابي بشر دولابي، ص 155. .

ص: 195

يقطع بأنّ هذا الزواج لم يتحقّق بطيب خاطر الإمام علي (ع) .

والدليل على ذلك مايلي:

1. لا شكّ في أنّ صلة أهل البيت (ع) لم تكن وثيقةً مع الخليفة عمر بن الخطّاب، وهجوم عمر على بيت الزهراء (س) وهتكه لحرمة بنت الرسول هو أمرٌ لا يكن أمراً يمكن إنكاره، والشواهد على وقوع هذا الهجوم كثيرة.

2. عمر بن الخطّاب كان فظّاً غليظاً وحادّ المزاج، بحيث عندما اختاره أبوبكر للخلافة اعترض البعض على ذلك، وأشاروا إلى غلظة عمر وسوء خلقه.

3. خطب عمر بن الخطّاب أمّ كلثوم ابنة أبي بكر، فقالت أمّ كلثوم:

«لا حاجه لي فيه، إنّه خشن العيش شديد على النساء» . (1)

إذن، لا يمكن اعتبار هذا الزواج دليلاً على حسن العلاقة بين الطرفين.

وما ورد في مصادر الشيعة أنّه لم يتحقّق في هذا الصعيد سوى إيقاع العقد فقط.

وأمّا تحقّق الزواج فإنّه لم يثبت، وورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) : «

إنّ عليّاً لمّا توفّي عمر أتى أم كلثوم، فانطلق بها إلى بيته » . (2)

وقال المسعودي: «بأنّه لم ينتج من هذا الزواج مولود» . (3)

وقد ذكر في هذا الصعيد بعض المؤرّخين وعلماء الرجال قضايا تتنافى مع كرامة أهل البيت (ع) وعفّتهم، كما أنّ جميع أسانيد هذه الروايات مرفوضة، لذلك لم نذكرها.


1- راجع: تاريخ الطبري، ج 5، ص 5٨.
2- الكافي، ج 6، ص 115.
3- راجع: مروج الذهب، ج 2، ص 321. .

ص: 196

ص: 197

الفصل التاسع: الصحابة

١- روايات الصحابة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لماذا لا يقبل الشيعة روايات الصحابة؟

الجواب : تنقسم الأخبار المرويّة عن رسول الله (ص) إلى ثلاثة أقسام:

1. الخبر المتواتر.

2. الخبر المقرون بالقرائن المفيدة للعلم.

3. خبر الواحد.

وجميع عقلاء العالم يعتمدون على القسمين الأوّل والثاني فقط، ولايهمّهم من يكون الراوي في هذا المجال؛ لأنّ الخبر يبلغ من القوّة، بحيث يوجب العلم، ولا يوجد أيّ مجال للشكّ والترديد.

ولكن ما هو الخبر المتواتر؟ وما هي شروطه؟ أو ما هو الخبر المقرون بالقرائن المفيدة للعلم؟

إنّ كتب علم الأصول - ولا سيّما كتب علم الدراية- بيّنت هذه القضايا كلّها والشيعة أيضاً يعملون بهاذين القسمين من الأخبار.

والنقاش يدور حول القسم الثالث من الأخبار، ونذكر جانباً من ذلك فيما يلي:

بما أنّ الغاية المنشودة من القضايا العقائديّة هي الإيمان والاعتقاد، لذا فإن

ص: 198

خبر الواحد لا اعتبار له؛ لأنّه لا يودّي الغرض، ولكن إذا كان خبر الواحد مرتبطاً بالأحكام الشرعية والمسائل العمليّة، وكان رجال السلسلة السنديّة جميعهم ثقات ولا قدح في عدالتهم، فالشيعة يعملون به، ولا يوجد فرق في هذا المجال بين الصحابة والتابعين.

ولكن إذا كان رواة هذا الحديث مقدوحاً فيهم وضعفاء، فلا يكون لهذا الخبر حجّية، ولا يمكن الاحتجاج بمثل هذا الحديث، وهذا المعيار أيضاً حاكم على الأحاديث المروّية عن أئمّة أهل البيت (ع) .

ومن حسن الحظّ فإنّ بعض أحاديث الرسول (ص) وصلت إلينا عن طرق صحيحة، فمنها ما وصل إلينا عن طريق أئمّة أهل البيت (ع) ، ومنها عن طريق الرواة الثقاة، والشيعة يعتمدون على جميع هذه الأحاديث.

إذن، ما ورد في السؤال المذكور في هذا البحث لا أساس له من الصحّة، وفقهاء الشيعة يعتمدون على الأحاديث الصحيحة الموجودة في كتب البخاري ومسلم وغيرهما من مصادر الحديث لأهل السنّة.

وما يهمّ الشيعة هو صحّة السند ووثاقة الرواة. ونودّ في الختام أن نلفت انتباهكم إلى أنّ الفقه الشيعي لا يعتمد على الروايات المرويّة عن طريق النواصب ومبغضي أهل البيت (ع) ، ولكنّ بعض كتب الحديث تعتمد على هؤلاء وتنقل ما ذكروه، ومنهم على سبيل المثال، عمران بن حطّان الذي وكان رأس الخوارج، وهو في سلسلة أسانيد بعض أحاديث صحيح البخاري وغيره، فنحن لا نعتمد على روايات هؤلاء.

٢. نقد الصحابة

السؤال الذي يطرح هنا، هو : تضعيف الصحابة هو تضعيف للدين؛ لأنّ

ص: 199

الدين بلغنا عن طريق الصحابة، فهل يجوز انتقادهم؟

الجواب : هذا الكلام لا يستند الى قاعدةٍ صحيحةٍ حيث لا يصحّ القول بأنّ روايات جميع الصحابة غير صحيحة، بل يوجد بين الصحابة صلحاء ويوجد غير صلحاء، ويوجد من يمكن الاعتماد عليهم في معرفة ما جاء به الرسول (ص) ، ويوجد من لا يمكن الاعتماد عليهم.

أضف إلى ذلك، فإن الامام علي بن أبي طالب وأهل البيت (ع) حفظوا لنا ما جاء به الرسول (ص) ، ولهذا فإنّ رفض روايات من لا يمكن الاعتماد عليهم من الصحابة لا يؤدّي إلى تضعيف الدين؛ لأنّ الرسول (ص) ترك لأمّته الثقلين: كتاب الله والعترة الطاهرة، وبما أنّ العترة حفظت لنا ما جاء به الرسول (ص) ، فلا يؤدّي عدم الأخذ من غيرهم إلى تضعيف الدين، بل إنّ الكتاب والعترة هما المرجع لمعرفة التشريع، وقد أكّد رسول الله (ص) على أنّ من يتمسّك بهما لن يضلّ أبداً.

والحقيقة أنّ هذا السؤال غريبٌ، إذ يجب للسائل أوّلا السؤال أن يسأل: هل يؤدّي نقد الصحابة إلى تضعيف الدين؟ فنجيب على سؤاله: لا، بل الاعتماد على الصحابة الذين لا يمكن الوثوق بهم بنفسه تضعيف للدين، وعلى كلّ مسلم الاعتماد على المصادر الموثوقة لمعرفة الدين.

فالدين الذي أرسى دعائمه الله ورسوله لا يتزلزل بانتقاد بعض الاشخاص، والله تعالى قد وعد ببقائه حتّى يوم القيامة.

٣. الامام علي (ع) وتأييده للخلفاء

السؤال الذي يطرح هنا، هو : لقد أيّد الإمام عليّ (ع) الخلفاء، فلماذا لايعترف الشيعة بخلافتهم؟

ص: 200

الجواب : لم يكن موقف الإمام عليّ (ع) من الخلفاء من منطلق الاعتراف بشرعيّة خلافتهم، بل كان من منطلق التعاون معهم لحلّ المشاكل الدينيّة والسياسيّة. والدليل على ذلك:

أوّلاً: إنّ الرسول (ص) عيّن الإمام عليّ (ع) إماماً للأمّة من بعده. وقال تعالى: ( وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَض-َى اللهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36) .

فكيف يمكن للإمام عليّ (ع) أن يعترف بخلافة غيره، في حين أنّه قد نُصِّب خليفةً للمسلمين بأمرٍ من الله تعالى وفي مناسباتٍ عديدةٍ، لا سيّما في يوم الغدير. إنّ ولاية الامام عليّ (ع) هي حكمٌ سماويٌّ ولا أحد قادرٌ على نسخه إلا الله تبارك وتعالى.

إذن، إمامة الإمام عليّ (ع) هي ليست حقّاً شخصيّاً له كي يمكنه غضّ النظر عنه أو التنازل عنه لغيره، بل هي أمرٌ ربّانيٌّ لا تبديل له؛ وإن اقتضت المصلحة العامّة سكوته عنه، فذلك لايعني استحقاق غيره لهذا المنصب الخطير.

ثانياً: تأريخ السقيفة وسيرة الإمام عليّ (ع) بعد رحيل الرسول (ص) يثبتان لنا أنّ الامام علي (ع) ، ورغم كلّ ما تعرّض له من ضغوطٍ، لم يمدّ يد البيعة للخلفاء.

وقد كتب معاوية في إحدى رسائله إلى الإمام علي (ع) وذكّره بكيفيّة بيعته لأبي بكر، فأجابه الإمام علي (ع) :

وقلت: إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع ولعمر الله، لقد أردت أن تذمَّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت! وما على المسلم من غضاضةٍ في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه. (1)


1- نهج البلاغة، الرسالة 2٨. .

ص: 201

ثالثاً: إنّ البخاري الذي ألّف صحيحة وفق مصالح السياسة الحاكمة في زمانه، نقل كتاب (المغازي) بسنده عن عائشة:

إنّ فاطمة (س) ، بنت النبي (ص) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبوبكر: إنّ رسول الله قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة، انّما يأكل آل محمّد في هذا المال» وإنّي -والله- لا أُغير شيئاً من صدقة رسول الله. . . .

فأبى أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت، وعاشت بعد النبيّ ستّة أشهر.

فلما توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبابكر. (1)

فهذا الحديث يثبت أنّ الإمام علي (ع) لم يبايع أبي بكر بمدّة ستة أشهر، فلوكانت خلافة أبي بكر مشروعة فكيف تخلّف عنها الإمام علي (ع) ؟

ولماذا رحلت فاطمة الزهراء (س) عن هذه الدنيا، وهي غاضبة على خليفة زمانها؟

كيف يفسّر أهل السنّة هذه المواقف؟

إذن، هناك تناقضٌ في مواقف أهل السنّة، لأنّ مؤرّخيهم قد أكّدوا على أنّ فاطمة الزهراء (س) لم تبايع أبا بكر ولم تكلّمه حتى فاضت روحها الطاهرة. كما أنّهم أذعنوا بعدم مبايعة الإمام علي (ع) لأبي بكرٍ أيام كانت فاطمة (س) حيّةً، لأنّه - حسب زعمهم - قد بايعه بعد ستّة أشهرٍ من حادثة السقيفة. (2)


1- صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، ح 4241.
2- المصدر نفسه، كتاب فرض الخمس، ح 3٠٩3. .

ص: 202

ويعتقد أهل السنّة -كما ورد في مصادر أحاديثهم، ومنها صحيح مسلم - أنّ الرسول (ص) قال:

«مَن مات، وليس في عنقه بيعة مات مِيتة جاهليّة؟» . (1)

ونقل أحمد بن حنبل في مسنده عن رسول الله (ص) :

«مَن مات بغير إمام مات ميتة جاهلية» . (2)

ومن جهه أخرى نقلوا عن الرسول (ص) تأكيده على أنّ الله يرضى لرضا فاطمة (س) ويغضب لغضبها، وأنّها (س) سيّدة نساء العالمين. (3)

فما هو جواب أهل السنّة، والزهراء (س) بنت رسول الله (ص) وسيدة نساء العالمين، وهي من يرضى الله لرضاها ويسخط لسخطها ماتت وليس في عنقها بيعة لأبي بكر؟

فهل يعتقد أهل السنّة - والعياذ بالله - بأنّ فاطمة الزهراء (س) ماتت ميتة جاهليّة؟ أم يعتقدون بعدم شرعيّة خلافة أبي بكر وأنّه لم يكن الإمام الذي يرتضيه الله؟

يترتّب على ذلك أنّ الإمام هو الذي نصّبه الرسول في غدير خمّ، وهو الذي تبعته الزهراء بعد وفاة الرسول (ص) ، وهو الإمام علي (ع) .

رابعاً: أقوال الإمام علي (ع) تدلّ على الخلافة قد غصبت منه، وأنّها حقّ له، وخطبته المعروف ب- (الشقشقية) خير دليلٍ على ذلك.

وقال في إحدى خطبه:


1- صحيح مسلم، باب الأمارة، 5٨، ح ٨٨.
2- مسند أحمد، ج 2، ص ٩6.
3- راجع: مستدرك الحاكم، ج 3، ص156. .

ص: 203

«فوالله، ما زلت مدفوعاً عن حقّي، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيّه صلّى الله عليه وآله حتّى يوم الناس هذا» . (1)

ومن كلام له (ع) :

وقد قال لي قائل إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص! ! فقلت: بل أنتم -والله أحرص- وأبعد، وأنا أخصّ وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه.

فلمّا قرعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبَّ كأنّه بُهِتَ لا يدري ما يجيبني به. (2)

وقال ابن أبي الحديد: «والذي قال له: إنّك على هذا الأمر لحريص! هو سعد بن أبي وقّاص» .

وقالت الإماميّة: هذا الكلام كان يوم السقيفة، والقائل هو أبوعبيدة بن الجرّاح.

وقال (ع) أيضاً: «

اللّهمّ، إنّى أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي » . (3)

إذن، اتّضح لنا أنّ الإمام علي (ع) لم يؤيّد الخلفاء في مسألة الخلافة والإمامة، وكان (ع) دائماً يذكر مظلوميّته في هذا المجال لتتضح الحقائق للأجيال القادمة.

وبالتالى فإنّ الإمام علياً (ع) إنّما تعاون مع الخلفاء في بعض المسائل الدينيّة والسياسيّة، وقد ذكر سبب هذا التعاون بقوله:


1- نهج البلاغة، خطبة 6.
2- المصدر نفسه، خطبة 172.
3- بحارالأنوار، ج 2٩، ص 6٠5. .

ص: 204

فوالله، ما كان يُلقى في روعي، ولا يخطر ببالي، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده (ص) عن أهل بيته، ولا أنّهم منحوه عنّي من بعده فما راعنى، إلّا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محقّ دين محمّد (ص) ، فخشيت إن لم أنص-ر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً. (1)


1- نهج البلاغة، رسالة 62.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.