اجوبه الشبهات حول شعائر الحسيني

اشارة

سرشناسه : عبادي، علي حمود عناد

عنوان و نام پديدآور : اجوبة الشبهات حول شعايرالحسيني/ علي حمود العبادي.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1434 ق.= 1392.

مشخصات ظاهري : 200 ص.؛21/5×14/5س م.

شابك : 36000ريال:978-964-540-419-0

وضعيت فهرست نويسي : فاپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه: ص. [187] - 194؛ همچنين به صورت زيرنويس.

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 4 - 61ق -- سوگواري ها -- فلسفه

موضوع : شعاير و مراسم مذهبي

رده بندي كنگره : BP260/3/ع13الف3 1392

رده بندي ديويي : 297/74

شماره كتابشناسي ملي : 3023057

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

كلمة المعهد

قال رسول الله (ص) : «حسين مني و أنا من حسين أحبَّ الله من أحبَّ حُسيناً» (1)ستبقى دائماً ثورة الإمام أبي عبدالله الحسين عاملاً للقيام ضد الظالمين و الجائرين على طول التاريخ، و ضامناً لبقاء الإسلام؛ لما لها من دور أساسي في بناء و تحريك الثورات في العالم المعاصر، و بالخصوص الثورة الإسلامية الإيرانية التي باتت غير خفية على أحدٍ من العالمين؛ و لهذا السبب صارت مورد هجوم الأعداء الظالمين و حكّام الجور الذين تسلطوا على رقاب الأمة بواسطة وعاظ السلاطين المتحكمين بمصير الأمة، ووجّهوا أفكارهم المعادية، وشبهاتهم الواهية وافترائاتهم الكاذبة حول ثورة الإمام الحسين (ع) ، ومن هذه الجهة تطلب الأمر الإجابة عن هذه الشبهات وعرضها على المجتمع الإسلامي وقد قام الأستاذ علي حمود العبادي، بأجوبة محققة ودامغة لإبطال و دحض ما افترى به حول واقعة عاشوراء، يضيء بها مشعل الهداية لطلاب الحق ومريديه. في الختام لم يبق لنا الاّ أنْ نتقدم له بالشكر الجزيل لما بذله من جهود مَضنية وجبّارة في هذا المسار ونرجوله من العلي القدير أنْ يُوفّقه لما يحب ويرضى.

إنّه ولي التوفيق

معهد الحج والزيارة

قسم الكلام والمعارف الإسلاميه


1- مسند احمد، ج 4، ص 172.

ص: 6

ص: 7

تقديم

. . . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبابِ (1) .

بادئ ذي بِدء نقول إنَّ للشعائر الحسينية أدواراً كبيرةً مُهمَّة في بناء المجتمع الإسلامي والانساني لا يمكن الوقوف عليها في هذه العُجالة، فهي ليست ضرباً من الانكسار النفسي كما يُصوِّرها البعض، ولا هي مجرَّد تقاليد اجتماعية فارغة من الأفكار والمفاهيم الرسالية، كما أنَّها ليست سلوكاً سلبياً خالياً من الأهداف والنتائج التي تُسهم في تغيير المجتمع، بل هي تحمل في طيّاتها الأهداف العظيمة والكبيرة.

ولعلَّ من الأهداف العظيمة هو كون الشعائر الحسينية تعدّ ممارسة إعلامية تُساهم في إعلاء كلمة الحق وإبقاء المذهب، والدعوة إلى مكافحة الظلم والجور في كل عصر من الأعصار، فضلاً عمّا تخلقه من ارتباط وحب عاطفي مع أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ، الذي يشكِّل القاعدة التحتية لبناء الفكر السليم عند الإنسان المؤمن، وبناء أساس عقائدي متين يستند عليه.

مضافاً إلى ما لها من الدور الكبير في خلق عامل وحدوي؛ من خلال


1- الزمر: 1٨.

ص: 8

المشاركة الجماهيرية في المواساة لأهل البيت (عليهم السلام) .

وهذا ما نلمسه في نصوص أهل البيت (عليهم السلام) الطافحة في التأكيد على هذا المعنى بصورة واضحة، من خلال الحثّ على المواساة والحُزن في مصابهم.

ومن هنا كانت هذه الشعائر تُمثِّل أحد الأعمدة التي يقوم عليها المذهب، جنباً إلى جنب مع المرجعية التي تمثِّل الإدارة والعقل الموجِّه، في حين أنَّ الشعائر تمثِّل العنصر الجامع والموحِّد بين أبناء المذهب، على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم.

سِرُّ القوَّة فى تأثير الشعائر الحسينية

لا يخفى أنَّ سر القوة في تأثير الشعائر الحسينية هو أنَّ الشعائر حينما تتحوّل إلى مُتبنيّات لدى الإنسان، وتكون جزءاً من شخصيته؛ تصبح عنده عملية المساس بها مساساً لشخصيته، وحينما تكون هذه الأفكار مستوحاة من الرسالة؛ يكون الانتصار لها والدفاع عنها انتصاراً ودفاعاً عن شخصيته الرسالية وتأكيداً لها، لا أنْ يكون ذلك تأكيداً لذاتيته وأنانيته؛ وبذلك يهتز الإنسان بكل مشاعره متى ما مُسّت رسالته وأهدافه؛ وبذلك يتحوّل هذا الإحساس المُرهف إلى رصيدٍ رسالي يصون الرسالة و رجالها وأهدافها من كل عدو.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنَّ لغة المشاعر يفهمها ويحياها الناس كافة، بمختلف طوائفهم ومستوياتهم، وبذلك تتوفر أهمّ ركيزتين أساسيتين لعملية بناء المشاعر بناءً رسالياً؛ من خلال تعميق الجانب النوعي من الإحساس والشعور، وتكتيل الجانب الكمّي لذوي الإحساس، وهذا هو سر القوة في عملية إثارة المشاعر.

ص: 9

ومن هذا المنطلق نفهم مغزى تلك الروايات المكثَّفة التي أشارت إلى ضرورة الالتزام ودوام هذه الشعائر في الوسط الشيعي.

وعلى هذا الأساس تنبثق أهميّة البحث في هذه الشعائر والدفاع عنها، لأنَّ هناك الكثير من الأقاويل والإثارات والتُهم على الشيعة، من دون تمحيص وعلم، منذ القديم وحتى الآن، ومن دون أن يُكلّف المشغفون أنفسهم عناء الفهم والإصغاء إلى الدليل.

ولا غرابة أن يقتفي الخَلَف آثار السلف ما دام الأمر يتعلَّق بالشيعة؛ ذلك لأنَّ كل شيء تطوّر إلاّ الكتابة عن الشيعة، ولكل شيءٍ نهاية إلاّ الافتراء على الشيعة، ولكل حكم مصدره ودليله إلاّ التُهم على الشيعة.

منهج البحث

التزمتُ في هذا البحث منهجاً تبدو معالمه من خلال النقاط التالية:

* الاستناد على النصوص القرآنية.

* الاستناد على روايات أهل البيت (عليهم السلام) .

* الاستناد على روايات أهل السُنَّة.

* الاستناد والاستشهاد بأقوال علماء الفريقين.

* حرصت على الإفادة من المصادر والمراجع القديمة لأصالتها.

* خرَّجت الأحاديث الواردة من مصادر العامّة من المصادر الأساسية المُعتمَدة لديهم.

* التزمت بأنْ لا أنسب أيّ قول من أقوال علماء الفريقين إلاّ من خلال الكتب المُعتبرَة والموثَّقة لدى كل طرف.

ص: 10

ص: 11

الإهداء

أسأل الله تعالى أن يتقبَّل منّي هذه البضاعة المُزجاة بأفضل القبول، متضرّعاً إليه أن يرفع أجر هذا العمل إلى الأرواح الطاهرة من أهل البيت (عليهم السلام) ، وكذلك إلى سيدتي عقيلة الهاشميين، ولبوة الطالبين، شريكة أخيها الحسين في المصاب، العالمة غير المُعلَّمة، والفهمة غير المُفهَّمة؛ راجياً أن تكون موضع رضاهم (عليهم السلام) .

كما أُهدي ثواب هذا العمل إلى روح والدي، وأسأله تعالى أن يتغمَّده بفاضل رحمته.

وفي الختام أقول:

يا فاطمة قوم--ي إلى الطفوف

هذا حُسينٌ طعمة السيوف

علي حمود عناد العبادي

17 ربيع الأول 1431ه. ق

ص: 12

ص: 13

الفصل الأوّل: الشعائر الحسينية وما يتعلق بالجواب عن الشبهات فيها بنحو كلي

اشارة

الشبهة الأولى: الشعائر الحسينية بدعة

الشبهة الثانية: لزوم تبدّل دين الله في المعنى العرفي للشعائر

الشبهة الثالثة: يجب الفرح بشهادة الحسين (ع) لا البكاء والجزع

الشبهة الرابعة: البكاء على الميّت تعذيب

وبدعة

الشبهة الخامسة: روايات البكاء يرفضها العقل

لعدم معقوليّة ثوابها

ص: 14

ص: 15

الشُبهة الاُولى: الشعائر الحسينية بِدعة

اشارة

تفصيل الشبهة:

من معتقدات المذهب الوهابي وأتباع ابن تيمية- من علماء الحنابلة- حرمة إقامة مجالس على النبي (ص) والأوصياء (عليهم السلام) ، لا سيما الإمام الحسين (ع) ؛ بدعوى أنَّ ذلك من الشرك والبدعة، ومخالفة للشرع والدين. وقد بذل ابن تيمية قصارى جُهده للوقوف بوجه العقائد الشيعية وتفنيدها؛ وذلك عن طريق تفسير بعض الآيات ونقل جملة من الروايات، ثُمَّ جاء من بعده تلميذه «ابن القيم» ، فنشر آراءه وزاد من الدفاع عنها في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد) .

قال ابن تيمية: «ومن حماقاتهم [أي الشيعة] إقامة المآتم والنياحة على مَن قُتل من سنين عديدة. ومن المعلوم أنَّ المقتول وغيره من الموتى؛ إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم، كان ذلك ممّا حرَّمه الله ورسوله.

وهؤلاء الشيعة يأتون من لطم الخدود وشقّ الجيوب، ودعوى الجاهلية وغير ذلك من المنكرات، بعد موت الميت بسنين كثيرة؛ ما لو فعلوه عقب موته لكان ذلك من أعظم المنكرات التي حرَّمها الله ورسوله، فكيف بعد هذه المدة الطويلة. . .

ص: 16

ومن المعلوم أنّه قد قُتل من الأنبياء وغير الأنبياء ظلماً وعدواناً مَن هو أفضل من الحسين» (1).

وفي موضع آخر قال: «وكذلك حديث عاشوراء. . . وأقبح من ذلك وأعظم ماتفعله الرافضة من اتّخاذه مأتماً يُقرأ فيه المصرع، وينشد فيه قصائد النياحة» (2).

وقال كذلك: «ثُمَّ إنَّ هؤلاء الشيعة وغيرهم يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي (ص) ما لا يُوصَف، وإنَّها بنت بيت الأحزان، ولا يجعلون ذلك ذمّاً لها، مع أنَّه حزن على أمرٍ فائت لا يعود. وأبو بكر إنَّما حزن عليه في حياته خوف أن يُقتَل، وهو حزن يتضمَّن الاحتراس، ولهذا لمَّا مات لم يحزن هذا الحزن؛ لأنَّه لافائدة فيه!» (3).

جواب الشُبهة

قبل الورود في الإجابة على الشُبهة، ينبغي البحث في الأُمور التالية:

الأمر الأوّل: البحث في معنى الشعائر لغة؛

الأمر الثاني: الاستدلال على أنَّ الشعائر ليس لها حقيقة شرعية، وأنَّها باقية على المعنى اللغوي؛

الأمر الثالث: مناقشة الاستدلال على أنَّ شعائر الله لها حقيقة شرعية؛

الأمر الرابع: في معنى البِدعة؛

الأمر الأوَّل: البحث في معنى الشعائر لغة

قال ابن فارس: «شعر: يدلّ على عِلْم عَلَم. . . والشعار: الذي يتنادى به


1- منهاج السنة، ابن تيميه، ج1، صص52-55.
2- المصدر السابق، ج٨، ص151.
3- المصدر السابق، ص45٩.

ص: 17

القوم في الحرب ليعرف بعضهم بعضاً، والأصل قولهم: شعرت بالشيء، إذا علمته وفطنت له، وليت شعري، أي: ليتني علمت» (1).

وقال محمد بن عبدالقادر: «والشعائر: أعمال الحج وكل ما جُعل علماً لطاعة الله تعالى» (2).

ونقل ابن منظور في لسانه عن الزجاج: «قال. . . شعائر الله: يعني بها جميع متعبّدات الله التي أشعرها الله، أي جعلها أعلاماً لنا، وهي كل ما كان من موقف أو مسعى أو ذبح. وإنَّما قيل شعائر لكل عَلَم ممّا تعبّد به؛ لأنَّ قولهم شعرت به: علمته، فلهذا سُمّيت الأعلام التي هي متعبدات الله تعالى شعائر» (3).

وقال ابن منظور: «والشعار: العلامة» (4).

وقال الشيخ الطبرسي (رحمة الله) : «الشعائر المعالم» (5). ونحوها من كلمات اللُغويين.

ويتضح ممّا تقدَّم أنَّ المعاجم اللغوية تلتقي على معنى مشترك للشعائر، وهو العلامية، أي أنَّ معنى الشعيرة هو العلامة.

وقد استعمل هذا المعنى في الشعائر المنتسبة إلى الله تعالى، كما هو واضح ممّا تقدَّم من استعمال لفظ الشعيرة في كل ما اتُّخذ شعاراً للدين وعلامة ومَعْلماً من معالم الشريعة.

وعلى هذا الأساس يمكن تعميم عنوان الشعائر لتشمل كلّ من الملائكة والأنبياء والأئمّة، والكتب السماوية وكتب الأحاديث والمساجد،


1- معجم مقاييس اللغة، أبوالحسين احمد بن فارس زكريا، ج 3، صص 1٩3 و 1٩4.
2- مختار الصحاح، محمد بن عبد القادر، ص 1٨٠.
3- لسان العرب، ابن منظور، ج 4، ص 415.
4- المصدر السابق، ص 413.
5- مجمع البيان، ج 1 و 2، ص 23٩.

ص: 18

والأولياء الشهداء والعلماء والفقهاء الكبار ومشاهدهم؛ لأنَّها من أعلام الهُدى وعلامات دين الله ومتعبّدات أوامره وشرايعه.

الأمر الثاني: الاستدلال على أنَّ شعائر الله ليست لها حقيقة شرعية

اشارة

لكي يتضح أنَّ شعائر الله تعالى ليست لها حقيقة شرعية، لابدّ من إعطاء لمحة إجمالية عن الحقيقة الشرعية.

لمحة إجمالية في معنى الحقيقة الشرعية

هنالك معان شرعية مُستحدَثة من قِبل الشارع، بمعنى أنَّ الشارع قد نقل ألفاظاً كانت موضوعة لغة في معانٍ معيّنة ووضعها في معنى خاص في الشريعة. فإذا نقل الشارع تلك الألفاظ من معانيها اللغوية ووضعها للمعاني الشرعية، على نحو الوضع التعييني أو التعيُّني؛ عند ذلك تثبت الحقيقة الشرعية لذلك المعنى، وإلاَّ فلا تثبت الحقيقة الشرعية، نعم تثبت الحقيقة المُتَشَرّعة، كما حصل ذلك النقل بعد عصر الشارع على لسان أتباعه المُتشرِّعة.

من قبيل لفظ (الصلاة) ، فإنَّه موضوع لغة في الدعاء- كما يقال- وقد استعملت في لسان الشارع في الواجب الخاص والفعل المعهود المشتمل على أجزاء وشرائط.

فهل نقل لفظ الصلاة ووضعه الشارع إلى هذا الواجب المعيّن، أو أنَّه لم يضع اللفظ للفعل الخاص، بل استعمله فيه مجازاً وبالقرينة؟

والثمرة من هذا النزاع تظهر في الألفاظ الواردة في كلام الشارع مجرَّدة عن القرينة، سواء كانت في القرآن الكريم أم السنة، فعلى القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وأنَّ الشارع وضع اللفظ لمعنى معيَّن، فهنا يجب

ص: 19

حمل الألفاظ على المعاني الشرعية، أمَّا على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية، فسوف تحمل الألفاظ الواردة في كلام الشارع والمجرَّدة عن القرينة على المعاني اللغوية.

وممَّا تقدَّم يتضح أنَّ شعائر الله ليست لها حقيقة شرعية، لِما تقدّم من الأدلة المتقدّمة من أنَّ استعمال لفظ الشعائر في مناسك الحج لا يدلّ على وضع اللفظ لذلك المعنى؛ لأنَّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة، كما حُرّر في محلّه في علم الأُصول، ولِما يأتي من مناقشة ما استدلّ به من أنَّ للشعائر حقيقة شرعية.

فالشعائر باقية على حقيقتها اللغوية، وكل ما يصدق عليه عُرفاً أنَّه من معالم الله تعالى يدخل في شعائر الله تعالى، ومن ثَمَّ يكون داخلاً في عموم قوله تعالى وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ . . . ، وعلى هذا فتكون شاملة لجميع ما يصدق عليه أنَّه من معالم دين الله وعلاماته، وكل ما اتُّخذ شعاراً للدين وعلامة للشريعة، فيشمل كل من الملائكة والأنبياء والأئمّة، والكتب السماوية وكتب الأحاديث، والمساجد والأولياء والشهداء والعلماء والفقهاء الكبار ومشاهدهم؛ لأنَّها من أعلام الهدى وعلامات دين الله، ومتعبدات أوامره وشرايعه.

أقوال العلماء في معنى الشعائر
١- أقوال علماء الشيعة في معنى الشعائر

من جملة الأدلة عندنا على أنَّ الشعائر ليست لها حقيقة شرعية هو فهم الفقهاء القدماء والمتأخّرين، لا سيما القدماء منهم؛ نظراً إلى قربهم من عصر النص وتبادر مرتكزات عهد الشارع إلى أذهانهم، حيث فهموا من معنى شعائر الله المعنى اللغوي لها، وهو العلامة، واليك جملة من كلماتهم:

ص: 20

أ) جعل السيد الرضي (رحمة الله) جملة (لا إله إلا الله) ، وما يتبعها من الأذكار والعبادات، من شعائر الإسلام، حيث قال: «هذه الكلمة وما يتبعها من شعائر الإسلام» (1).

وقال أيضاً: «الصلاة أفضل شعائر الإسلام، وأظهر معالم الإيمان» (2).

ب) قال علي بن بابويه (رحمة الله) :

«جميع الفرائض المفروضة على جميع الخلق، إنّما فرضها الله على أضعف الخلق قوة، مع ما خص أهل القوة على أداء الفرائض في أفضل الأوقات وأكمل الفرض، كما قال الله عزوجل وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ » (3).

ج) قال المحقّق الحلّي (رحمة الله) :

«ويجب المهاجرة عن بلد الشرك على مَن يضعف عن إظهار شعائر الإسلام، مع المكنة، والهجرة باقية ما دام الكفر باقياً» (4).

وقال علامة الحلى في الاستدلال لإثبات وجوب صلاة العيد: «ولأنَّها من شعائر الدين الظاهرة وأعلامه، فتكون واجبة على الأعيان، كالجمعة» (5).

وقال:

«الجماعة مشروعة في الصلوات المفروضة اليومية، بغير خلاف بين العلماء كافة، وهي من جملة شعائر الإسلام وعلاماته» (6).


1- المجازات النبوية، شريف الرضى، صص 1٨2و 227.
2- المصدر السابق، ص 315.
3- الفقه الرضوي، ص 77.
4- شرايع الإسلام، محقق حلى، ج 17، ص 234
5- تذكرة الفقهاء، علامه حلى، ج 4، صص 11 -2٠.
6- تذكرة الفقهاء، ج4، ص227.

ص: 21

د) قال الشهيد الثاني (رحمة الله) :

«يجوز تعظيم المؤمن بما جرت به عادة الزمان. . . ؛ لدلالة العمومات عليه، قال تعالى: ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ، وقال تعالى: ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ » (1).

ه) قال العلامة المجلسي (رحمة الله) :

«قال في كنز العرفان: اتَّفق المُفسّرون على أنَّ المراد بالنداء الأذان، والنداء إلى الصلاة مشروع بل مرغوب فيه ومن شعائر الإسلام» (2).

و) صرَّح صاحب الجواهر (رحمة الله) :

إنَّ التعدّي على التربة الحسينية وتربة الشهداء والعلماء، وكثير من المحترمات؛ في الحكم بِحرمة إهانتها، واستحباب تعظيمها، وبأنَّ تعظيمها من قبيل تعظيم شعائر الله، حيث قال: «والحاصل كل ما ثبت فيه جهة احترام من الشرع، جرى عليه الحكم، وإن لم يكن مطعوماً بالفعل. . . كما أنَّه لا فرق في عدم جواز الاستنجاء به بين الإزالة للنجاسة أو التطهير الشرعي.

ثُمَّ إنّه يفهم من كثير من الأصحاب، بل لم أعثر فيه على مخالف؛ جريان الحكم في كل محترم، كالتربة الحسينية وغيرها، وما كُتب اسم الله والأنبياء والأئمّة أو شيء من كتاب الله عليه، بل قد يُلحق به كتب الفقه والحديث ونحوها، بل قد يتمشى الحكم في المأخوذ من قبور الأئمّة، من تراب أو صدوق أو غيره، بل قد يلحق بذلك المأخوذ من قبور الشهداء والعلماء بقصد التبرّك والاستشفاء، دون ما لا يُقصَد؛ إذ


1- القواعد والفوائد، ج2، ص16٠.
2- بحار الأنوار، ج ٨1، ص 1٠3.

ص: 22

الأشياء منها ما ثبت وجوب احترامها من غير دخل للقصد فيه، ومنها ما لا يثبت له جهة الاحترام إلاّ بقصد أخذه متبركاً به أو مستشفياً به، ومنها ما يُؤخَذ من الإناء من طين كربلاء وغيرها، فإنَّه لا يجري عليه الحكم إلاّ إذا أُخذ بقصد الاستشفاء والتعظيم والتبرّك» .

ثُمَّ يُبيِّن (رحمة الله) وجه ارتباط ذلك بالشعائر بقوله:

«ولا يخفى عليك أنَّه لا يليق بالفقيه المُمارس لطريقة الشرع العارف للسانه أن يتطلب الدليل على كل شيء بخصوصه، من رواية خاصة ونحوها، بل يكتفي بالاستدلال على جميع ذلك بما دلَّ على تعظيم شعائر الله، وبظاهر طريقة الشرع المعلومة لدى كل أحد. أترى أنَّه يليق به أن يتطلب رواية على عدم جواز الاستنجاء بشيء من كتاب الله؟ !» (1).

ز) وقال العلامة الطباطبائي، في قوله تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ :

«الشعائر هي العلامات الدالة، ولم يقيَّد بشيء، مثل الصفا والمروة وغير ذلك، فكل ما هو من شعائر الله وآياته وعلاماته المذكورة له فتعظيمه من تقوى الله، ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى» (2).

ح) قال الطبرسي في نفس الآية المباركة: «أي: معالم دين الله، والأعلام التي نصبها لطاعته» (3). حيث لم يُقيّدها بشيء مثل الصفا أو المروة أو غير ذلك.

وبهذا يتَّضح أنَّ المعنى الاصطلاحي للشعائر هو عين المعنى اللغوي،


1- جواهر الكلام، ج 2، صص 51 و 52.
2- تفسير الميزان، ج1، ص4٠7.
3- تفسير مجمع البيان، للطبرسي، ج7، ص15٠.

ص: 23

الشامل لجميع ما يصدق عليه علامة الدين ومعالمه، وكل ما اتُّخذ شعاراً للدين وعلامة للشريعة.

٢- أقوال علماء السُنَّة في معنى الشعائر

هنالك العديد من الشواهد في كلمات العلماء من الفقهاء والمُحدِّثين من أهل السُنَّة تشهد على فهمهم لعمومية مفهوم الشعيرة والشعائر، وشموله لجميع معالم الدين الإسلامي. وهذه الشواهد كثيرة جداً، لذا نقتصر على بعض منها:

أ) قال القرطبي:

« مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي: من معالمه ومواضع عبادته، وهي جمع شعيرة» (1).

وفي موضع آخر قال: «سُمِّي مَشعراً من الشعار، وهو العلامة» (2).

ب) أُخرج عن عطاء قوله:

«شعائر الله: جميع ما أمر ونهى عنه. . وقال الحسن: دين الله كلّه» ، وقال بعد ذلك: «قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدَّم على غيره لعمومه» (3). وقال أيضاً في موضع آخر: «فشعائر الله أعلام دينه» (4).

ج) قال المباركفوري:

«قال في تفسير الخازن: شعائر الله أعلام دينه، وأصلها من الإشعار، وهو الإعلام، واحدتها شعيرة، وكل ما كان مَعْلَماً لقربان يتقرّب به إلى


1- تفسير القرطبي، ج2، ص1٨٠.
2- المصدر السابق، ص 42.
3- المصدر السابق، ص 1٨٠.
4- المصدر السابق، ج5، ص37.

ص: 24

الله تعالى، من صلاة ودعاء وذبيحة، فهو شعيرة من شعائر الله، ومشاعر الحجِّ مَعالِمه» (1).

وقال النووي:

«شعائر الإسلام هي جمع شعيرة بفتح الشين، قال أهل اللغة والمفسّرون: هي متعبدات الإسلام، ومعالمه الظاهرة، مأخوذة من (شَعرت) أي: علمت، فهي ظاهرات معلومات» (2).

وأمّا الأمور التي عدّها علماء وفقهاء أهل السُنَّة بأنَّها من مصاديق شعائر الله ودين الإسلام، فهي كثيرة جداً، نستعرض منها ما يلي:

1- «الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها» (3).

2- «. . . . من شعائر الإسلام، وهي: العيد، والكسوف، والاستسقاء» (4).

3- «من شعائر الله: الوقوف، والرمي، والطواف، والسعي» (5).

4- «الأذان والإقامة من شعائر الإسلام، فتختص بالفرائض» (6).

د) قال أبوبكر الكاشاني:

«والأذان والإقامة، لأنَّهما من شعائر الإسلام، فتختص بالفرائض» (7).


1- تحفة الأحوذي، المباركفوري، ج3، ص5٠٩.
2- المصدر السابق، ج 5، ص 16٠.
3- زاد المسير، ابن الجوزي، ج 2ص 232
4- شرح مسلم، النووي، ج 6، ص 7٠؛ الديباج على مسلم، السيوطي، ج 2، ص 3٨5؛ عون المعبود، العظيم آبادي، ج 4، ص 226.
5- تحفة الأحوذي، ج 3، ص5٠3؛ المصنف، ابن أبي شيبة الكوفي، ج 4، ص 36٠.
6- كشف القناع، البهوتي، ج1، ص273؛ المجموع، النووي، ج3، ص٨٠؛ المغني، ابن قدامة، ج1، ص427.
7- بدائع الصنائع، أبوبكر الكاشاني، ج 1، ص 171.

ص: 25

وقد عدَّ ابن قدامة الأذان من الشعائر، حيث قال: «لأنَّه من شعائر الإسلام الظاهرة، فكان فرضاً كالجهاد» (1).

ه) قال النووي:

«الفقهاء والمتفقّهين يجب إكرامهم وتعظيم حُرماتهم» (2)، واستدلَّ بقوله تعالى: ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (حج: 3(3) وقوله: وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ (حج:30)

وممَّا تقدَّم يتَّضح أنَّ الشعائر بمفهومها الشرعي لا تختص بمناسك الحج، أو بخصوص العبادات، وإنَّما تشمل كل ما له دور في إظهار المعالم الأساسية والرئيسة في الشريعة، ونشر أحكام الدين، فلم يتصرَّف الشارع في كيفية تطبيقها وتحقيقها خارجاً، إلاَّ في بعض الموارد، كما في مناسك الحج، أمّا غير ذلك، فيبقى تابعاً للعُرف، كما هو الحال في البيع في قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ، حيث ترك الشارع المقدَّس تعيين أفراد ومصاديق حقيقة وماهية البيع إلى ما عليه العُرف.

الأمر الثالث: مناقشة ما استُدلَّ به على أنَّ شعائر اللّه لها حقيقة شرعية

اشارة

استدل على أنَّ شعائر الله لها حقيقة شرعية بما يلي:

الدليل الأوَّل
اشارة

كثرة استعمال الشارع لفظ الشعائر في خصوص مناسك الحج، كما في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (البقره: (4)57 وقوله: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ


1- المغني، ابن قدامة، ج 1، ص 427.
2- المجموع، النووي، ج 1، ص 24.
3- المجموع، النووي، ج 1، ص 24.
4- المغني، ابن قدامة، ج 1، ص 427.

ص: 26

مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ (الحج: 36 ، ومن الواضح أنَّ كثرة الاستعمال تُوجب ثبوت الوضع التعيّني، بل أنَّنا لو أجرينا مسحاً ميدانياً للفظ شعائر الله فلا نجد أنَّه ورد في آية أو رواية في غير مناسك الحج.

مناقشة الدليل الأول

1- إنَّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة كما تقدَّم.

2- إنَّ الجعل في قوله تعالى: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها . . . لا يدل على وضع لفظ شَعائِرِ اللَّهِ لمناسك الحج تعييناً؛ وذلك لأنَّ الجعل المذكور بمعنى جعل وجوب ذبح البدن، المُعبَّر عنه بالهدي، لعدم قابلية البدن نفسها لجعلها من شعائر الله، كما هو واضح، وإن كان بخلقتها- المجعولة بالجعل التكويني- من آيات الله، كسائر الحيوانات والمخلوقات.

وعليه، فالجعل في هذه الآية بمعنى جعل وجوب الهدي، لا بمعنى وضع اللفظ للمعنى، فلا دليل على وضع لفظ (شعائر الله) لمناسك الحج تعييناً.

الدليل الثاني
اشارة

بعدما علمنا أنَّ الشارع قد جعل مناسك الحج من شعائر الله تعالى، فيعلم منه اختصاص هذا اللفظ بالمناسك خاصة؛ وذلك لأنَّ الجعل التشريعي من أسباب الوضع التعييني.

مناقشة الدليل الثاني

1- ما تقدَّم آنفاً، من عدم الدليل على وضع لفظ (شعائر الله) لمناسك الحج بالوضع التعييني.

ص: 27

2- عدم ثبوت الوضع التعيّني للفظ (شعائر الله) في المناسك؛ وذلك لأنَّ

الوضع التعيّني تابع لكثرة استعمال اللفظ، ولا يخفى أنَّ كثرة استعمال لفظ (شعائر الله) في المناسك، إلى حد توجب تبادر خصوص لفظ الحج إلى أذهان المسلمين؛ غير ثابت، بل مقطوع العدم.

نعم، هناك موارد تصرّف فيها الشارع وجعلها شعيرة وعلامة، إلاّ أنَّ هذا التصرّف هو تصرّف في مصاديق الشعائر، كما هو الحال في مناسك الحج؛ فالشارع جعل هذه المناسك من أفراد ومصاديق الشعائر، لا أنَّه تصرَّف في ماهية وحقيقة الشعائر، كما يأتي توضيحه في الجواب على الشبهة الثانية.

وعلى هذا الأساس، لا دليل على وضع لفظ (شعائر الله) لمناسك الحج، لاتعييناً ولا تعيناً، وليس من الحقيقة الشرعية ولا المتشرعة، وعليه لابد من الالتزام ببقائه على معناه اللغوي، وهو العلائم والمعالم والأمارة.

نعم، استعمله الشارع في بعض مصاديق معناه الموضوع له، ولِما كانت من هذهِ المصاديق، وهي المناسك، لكنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

3- فهم الفقهاء- من القدماء والمتأخرين- أنَّ لفظ الشعائر هو المعنى اللغوي، لا سيما القدماء منهم، نظراً إلى قربهم من عصر النص، وتبادر مرتكزات عهد الشارع إلى أذهانهم، كما تقدَّم في مطاوي البحث.

4- على فرض الشكّ في المعنى المتبادر منه في عصر الشارع، يثبت المعنى اللغوي للشعائر؛ لأصالة عدم النقل.

وممّا تقدّم يتضح: أنَّ كل شيء كان علامة على دين الله، ومظهراً للشريعة المحمدية، ودليلاً ومعرفاً للإسلام، ومنادياً إلى الله ورسوله (ص)

ص: 28

، ومَعْلَماً لكتاب الله وسنة نبيه، سيماء الإسلام والقرآن؛ يكون في ارتكاز المتشرّعة من شعائر الله، بلا فرق بين عصر الشارع وبين عصرنا هذا.

الأمر الرابع: في معنى البدعة

إنَّ الذي عليه أهل التحقيق والنظر أنَّ البدعة تتحقَّق بما يلي:

أ) إدخال ما ليس من الدين في الدين فيكون من قبيل الافتراء على الله وعلى رسوله والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) .

ب) نفي أو إنكار أو جحود ما ثبت باالادلة الصحية أنّه من ديننا الذى يرتضيه الله ورسوله وآله الاطهار عقائدياً كان أو فقهياً.

بعد بيان هذه الأمور المتقدّمة؛ يتضح أنَّ الشعائر الحسينية من الشعائر الدينية، وهو ما نتعرّض له في البحث الآتي.

النتيجة: الشعائر الحسينية من الشعائر الدينية

بعدما بيَّنا الأمور المتقدمة، من أنّ الشعائر باقية على المعنى اللغوي، وأنَّ المقصود من الشعائر العلامة، وليس المراد منها علائم وجوده سبحانه؛ لأنَّ العالم برمَّته علائم وجوده، بل علائم دينه، ولذا يصف الله " الصفا والمروة " بأنَّهما من شعائر الله، إذ يقول: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ (البقره: 15٨) ويقول: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ (الحج: 36) ويقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ (المائده:2 ، وليس المراد إلاّ كونها علامات دينه.

فإذا وجب تعظيم شعائر الله بتصريح القرآن، مُعلّلاً بأنَّها من تقوى القلوب؛ جاز تعظيم الأنبياء والأولياء، باعتبارهم أعظم آية لدين الله، وأعظم تعظيم وأفضل تكريم. فهم الذين بلَّغوا دين الله إلى البشرية؛ فيكون

ص: 29

حفظ قبورهم وأضرحتهم وآثارهم عن الاندراس والاندثار خير تكريم وتعظيم لهم.

وإنْ شئت قلت: إنَّ تعظيم كل شيء بحسبه، فتعظيم الكعبة يكون بسترها بالأستار، وتعظيم البدن الذي هو من شعائر الله بالمواظبة على إبلاغها إلى محلّها وترك الركوب عليها وتعليفها، وتعظيم الأنبياء والأولياء في حياتهم بنحوٍ وبعد وفاتهم بنحوٍ آخر. فكلّ ما يعدّ تعظيماً وتكريماً يجوز بنص هذه الآية من غير شكٍ ولا شُبهة.

و ورود الآية في مشاعر الحج وشعائره لا يكون دليلاً على اختصاصها بها؛ فإنَّ قوله تعالى وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ ضابطة كلّية ومبدأ هام، ينطبق على مصاديقه وأفراده وجزئياته الكثيرة.

ومن هنا يتَّضح أنَّ الشعائر الحسينية من الشعائر الدينية، وأنَّ تعظيمها من تعظيم الشعائر الإلهية، فكما أنَّ مثل الكعبة والصفا والمروة ومنى وعرفات جديرة بالتقديس والاحترام؛ لارتباطها بمفهوم شعائر الله، لمجرَّد انتسابها إليه وتعلّقها به، فمن باب أولى تعظيم أولياء الله تعالى؛ فتعظيم الإمام الحسين (ع) ، من خلال إقامة العزاء عليه، من مصاديق تلك الشعائر الإلهية، ولا يكون ذلك إدخال ما ليس من الدين في الدين، ليُقال أنَّه بِدعة كما يُدَّعى.

يضاف إلى ذلك، أنَّ وصية الرسول (ص) بالإحسان لذويه تُمثِّل دليلاً آخر على صدقه في مراسم العزاء، فقد جاء في القرآن الكريم على لسان النبي (ص) ، وخطاباً للمؤمنين: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (الشوري: 22

إذاً، فقد اقترن أجر الرسالة بمودَّة ذوي قربى الرسول، والمودَّة متجلّية في البكاء على مصائبهم وإقامة العزاء عليهم.

ص: 30

ص: 31

الشبهة الثانية: لزوم تبدّل دين الله فى المعني العرفى للشعائر

اشارة

تفصيل الشبهة

1- إنَّ شعائر الله هي علائم عبادته ومعالم دينه، وعلى هذا فلابدّ أن يكون جعلها بيد الشارع، ولا يحق لغير الشارع، من عقلاءٍ أو عُرف، أن يجعلوا شعائر وعلائم، فشعائر الله تعالى ليست علائم عقلائية أو عُرفية مرتبطة بشؤون العرف والعقلاء- من قبيل شعائر الحرب والثورات والنهضات والأحزاب السياسية- لكي يكون جعلها واعتبارها بأيدي العرف والعقلاء. وعلى هذا فلا بدّ أن يكون جعلها ووضعها بيد الله، لذا يقول تعالى: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ (انعام:57 ، ممّا يكشف عن أنَّ الجعل بيد الشارع المقدَّس.

2- لو فرضنا أنّ جعل الشعائر الدينية بيد أهل العُرف؛ للزم تبدّل دين الله وتغيُّر شريعته، ولصارت أحكام الله تابعة لسلائق الناس وعاداتهم ورسومهم، بل لَيلزم أن تكون عادة كل إقليم ورسم كل قبيلة شعاراً من شعائر الله.

ويترتَّب على ذلك تحليل الحرام وتحريم الحلال؛ إذ رُبَّ فعلٍ ممنوع في الشريعة لا قُبح فيه عند قوم؛ لِما جرت عادتهم على الإتيان به، بل التبرّك به، وبالعكس، رُبَّ فعل جائز في الشريعة جرت عادة قوم من الناس

ص: 32

على تركه وتقبيح فاعله، بل يؤاخذون فاعله ويواجهونه بمواجهة عنيفة مُغضبة، كما نشاهد ذلك في كثيرٍ من الخرافات في أعرافنا، من مختلف الأقوام والقبائل، بل كثيراً مّا نشاهد إسنادهم ذلك إلى الدين.

الجواب:

يتَّضح الجواب بعد بيان عدد من المقدّمات المنهجية والمضمونية، التي تساهم في بناء إطار محدَّد واضح للموضوع، وتحول دون وقوع الالتباس، و هذه المقدمات هي:

المقدّمة الأُولى: في معنى العُرف

العُرف: هو ما تعارف عليه الناس، من قول أو فعل (1)


1- العرف: لغة: قال ابن فارس: «(عرف) العين والراء والفاء أصلان صحيحان يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلاً بعضه ببعض، والآخر يدل على السكون والطمأنينة، فالأوّل العُرف (عرف الفرس) ، وسُمّي بذلك لتتابع الشعر عليه، ويقال جاءت القطا عرفاً عرفاً، أي: بعضها خلف بعض، ومن الباب (العرفة) وجمعها عرف، وهي أرض منقادة مرتفعة بين سهلتين تنبت كأنّها عرف فرس، ومن الشعر في ذلك، والأصل الآخر المعرفة والعرفان، تقول: عرف فلان فلاناً عرفاناً ومعرفة، وهذا أمر معروف. . ومن الباب (العرف) وهي الرائحة الطيبة، وهي القياس، لأنَّ النفس تسكن إليها، يقال: ما أطيب عرفه! قال الله سبحانه وتعالى: وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أي طيبها. مقاييس اللغة، ج4، ص2٨1. ونحو ذلك من تعاريف اللغويين التي تكشف عن أنَّ للعرف معاني متعدّدة على حسب تصريف الكلمة. والعرف اصطلاحاً: ذُكرت هنا تعريفات متعدّدة لا يسع المقام لذكرها، لذا نقتصر على بعضها، بالقدر الذي يلامس البحث. قال الشيخ عبدالوهاب خلاف: «العرف: هو ما تعارفه الناس وساروا عليه، من قول أو فعل أو ترك» . علم أصول الفقة، عبدالوهاب خلاف: ص٩٩. وقال الشيخ كاشف الغطاء: «العرف: هو ما تعارف بين الناس، فعله أو قوله، وهو المسمّى بالعادة العامة، ويسمّى بالسيرة، مع عدم ردع الشارع عنه» . مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني، محمد علي كاشف الغطاء: ص47. ومنه يتَّضح أنّ العرف هو ما تعارف عليه الناس من قول أو فعل. t أقسام العرف: يمكن تقسيم العرف حسب موارد استعماله في كلمات الفقهاء إلى: أ - العُرف العام: وهو عرف عموم الناس الشامل لغير المتشرعة، وقد يُراد منه عرف بلد خاص أو قبيلة خاصة. ب - العرف الخاص: هو عرف صنف خاص من الناس، وقد يراد منه عرف خصوص العلماء والفقهاء. ج - عرف المتشرعة: وهو سلوك المسلمين سلوكاً معيناً، بما هم متشرّعة. د - العرف العملي: هو بناءُ أهل العرف وسيرتهم العملية، ويعبَّر عنه ببناء العقلاء والسيرة العقلائية. ه- العرف القولي المحاوري: وهو بناء أهل العرف في خصوص المحاورات، وما استقرّ عليه دأبهم في استظهار مرادهم من محاوراتهم الرائجة بينهم. وهناك أقسام كثيرة للعرف لا يسع المقام لذكرها.

ص: 33

المقدّمة الثانية: مرجعية العُرف في استكشاف الحكم الشرعي

هنالك موارد عديدة جُعل العرف فيها مرجعاً في استكشاف الحكم الشرعي، وهي جملة من الموارد التي لا يوجد فيها نص من الشارع (1).

المقدّمة الثالثة: مرجعية العُرف في تشخيص مواضيع الأحكام الشرعية

اشارة

لكي تتَّضح مرجعية العرف في تشخيص مواضيع الأحكام الشرعية، ينبغي بيان أقسام مواضيع الأحكام الشرعية.

أقسام مواضيع الأحكام الشرعية

يُقسَّم الموضوع المأخوذ في الحكم الشرعي إلى أقسام متعدّدة:

القسم الأوَّل: المواضيع التكوينية، كالحيض والنفاس وغيرهما.


1- ومن هذه الموارد: الأول: تشخيص بعض المفاهيم، حيث أوكل الشارع أمر تحديدها للعرف، كلفظ الإناء والصعيد والقرء، التي أخذت موضوعاً في لسان الأدلة. الثاني: معرفة واستكشاف مراد المتكلّم عند إطلاق اللفظ. الثالث: ما يُستكشَف به الحجية الأُصولية، من قبيل حجّية الظواهر أو الأخذ بقول الثقة. وغير ذلك من الموارد الكثيرة.

ص: 34

القسم الثاني: المواضيع الشرعية، كالصلاة والصوم والحج والزكاة.

القسم الثالث: المواضيع العرفية، كالغناء مثلاً، أو المواضيع المُستحدَثة التي تدخل ضمن نطاق المواضيع العرفية، كالملكيَّة الفكرية ونحوها.

وبعد بيان هذه المقدّمة في أقسام العرف، يُطرح السؤال التالي، وهو أنَّ القول بأنَّ العرف حجّة في تشخيص المواضيع، هل هو حجة في جميع هذه المواضيع، أم في بعضها؟

وفي الجواب على ذلك نقول: أمَّا بالنسبة للمواضيع التكوينية، فقد اختلف الفقهاء في حكم العرف في تشخيصها، فمنهم مَن أنكر مدخلية العرف في تشخيصها، وجعل أهل الخبرة هم أصحاب الفصل في مثل هذه المواضيع.

أمَّا المواضيع الشرعية، كالصلاة والصوم والحج والزكاة، فمن الواضح أنَّ العُرف لا يمكن أن يتدخَّل فيها؛ لأنَّها من مخترعات الشارع.

أمَّا المواضيع العرفية، كالبيع وما شابه ذلك، فللعُرف مساحة واسعة ودور كبير في تشخيص هذه المواضيع، حيث فسح الشارع المجال أمام العرف في إبداء رأيه. كما أضاء القرآن الكريم هذه المسألة بشكل واضح في قوله تعالى أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ . . . ، الذي يفيد الحكم بحلّية البيع وصحّته وجوازه. . فالشارع لم يتصرّف بماهية البيع ولا بكيفية وجوده إلاَّ ما استثني (1). . لأنَّ كيفية وجوده تابعة إلى العرف، فما يُطلَق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً للحكم الشرعي، وهو الحلية.

وهناك موارد فقهية كثيرة جداً أوكل الشارع أمر تشخيصها إلى


1- من قبيل حرمة وفساد بيع المكيل والموزون بجنسه، وبطلان بيع الكالي بالكالي وغيرها.

ص: 35

العرف، وبهذا تتفاوت الأحكام نتيجة اختلاف الأعراف المحدَّدة (1).


1- هنالك موارد متعدّدة أرجعها أهل البيت: إلى العرف، كما أشارت إلى ذلك رواياتهم الشريفة، منها: أ - صحيح الحلبي، عن أبي عبد الله (ع) أنّه قال في رجل اشترى من رجل طعاماً عدلاً بكيل معلوم، وأنّ صاحبه قال للمشتري: ابتع منّي من هذا العدل الآخر بغير كيل، فإنّ فيه مثل ما في الاخر الذي ابتعت، قال الإمام: «لا يصلح إلاّ بكيل، وقال: وما كان من طعام سمّيت فيه كيلاً فإنّه لا يصلح مجازفة، هذا ممّا يكره من بيع الطعام» . وسائل الشيعة، الباب 4 من أبواب عقد البيع، حديث 2. ومحل الشاهد هو قوله (ع) «ما كان من طعام سمّيت فيه كيلاً» أي: ما يُسمّى وما يُطلَق عليه في العرف أنّه مكيل. ب - محمد بن علي بن الحسين، بإسناده عن الحلبي، عن أبي عبدالله (ع) قال: «ما كان من طعام سمّيت فيه كيلاً فلا يصلح بيعه مجازفة، وهذا ممّا يكره من بيع الطعام» . وسائل الشيعة، الباب 4 من أبواب عقد البيع، حديث 1. حيث أرجع الإمام (ع) كون الطعام مكيلاً أو غير مكيل إلى العرف، لذا قال صاحب الحدائق: «وما كان من طعام سمّيت فيه كيلاً، فإنّه لا يصلح مجازفة، هذا مما يكره من بيع الطعام، فإنَّ ظاهره: أنَّ الرجوع في كونه مكيلاً إلى تسميته كيلاً عرفاً، فكلّما وقع التسمية عليه بأنّه مكيل، فلا يجوز بيعه مجازفة» . الحدائق الناظرة، المحقق البحراني، ج1٨، ص472. وقال الشيخ الأنصاري \ في المكاسب: «الظاهر في وضع المكيال عليه عند المخاطب وفي عرفه، وإن لم يكن كذلك في عرف الشارع» . وغير ذلك من الموارد التي أرجع أهل البيت: إلى العرف، كما في الدم، وتغيير الماء بوقوع النجاسة، ونحوها. شواهد فقهية عرفية من فقه العامة هنالك موارد كثيرة أرجع فقهاء العامة أحكامها إلى العرف، وإليك بعض أقوالهم: أ - قال السرخسي في باب السلم: «ولا بأس بالسلم في العصير في حينه، وزناً أو كيلاً؛ لأنَّه يُوزَن أو يكال كاللبن. . . والأصل أنَّ ما عُرف كونه مكيلاً على عهد رسول الله (ص) فهو مكيل أبداً، وإن اعتاد الناس بيعه وزناً، وما عُرف كونه موزوناً في ذلك الوقت، فهو موزون أبداً، وما لم يُعلَم كيف كان، يعتبر فيه عُرف الناس في كل موضع، إن تعارفوا فيه الكيل والوزن جميعاً فهو مكيل وموزون. هذا عند الإمام وأصحابه، وخالفهم أبو يوسف فقال: إنَّ المعتبر في جميع الأشياء العُرف؛ لأنَّه إنّما كان مكيلاً في ذلك الوقت أو موزوناً في ذلك الوقت باعتبار العُرف لا بنص فيه من رسول الله (ص) . . .» . السرخسي، المبسوط، ج 12، ص 142. ب - جعل مالك العُرف هو الفصل في الخصومة بين العامل وربّ المال، وما يتعامل به الناس، حيث قال: «في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضاً، فربح فيه ربحاً، فقال العامل: قارضتك على أن لي الثلثين. وقال صاحب المال: قارضتك على أن لك الثلث. قال مالك: القول قوله العامل، وعليه في ذلك اليمين، إذا كان ما قال يشبه قراض مثله الناس ذلك نحواً ممّا يتقارض عليه الناس. وإن جاء بأمر يستنكر، ليس على مثله يتقارض الناس، لم يصدَّق، وردّ إلى قراض مثله» . الإمام مالك، كتاب الموطأ، ج 2، ص 7٠1. ج - قال البابرتي: «وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب؛ لأنَّ التضرر بنقصان المالية، ونقصان المالية بانتقاص القيمة، والمرجع في معرفته عُرف أهله» . حيث جعل العرف مرجعاً في تشخيص العيب في المبيع. البابرتي، شرح العناية على الهداية، هامش شرح فتح القدير، ج5، ص153.

ص: 36

النتائج المترتّبة على ما تقدَّم:

النتيجة الأُولى: القاعدة الأوَّلية في المعنى هو بقاؤه على معناه اللغوي.

إذا لم يرد دليل على تصرف الشارع في معنى أو ماهية معيّنة، فإنَّ القاعدة الأوَّلية أنَّ ذلك المعنى يبقى على معناه اللغوي، كما في لفظ البيع في قوله تعالى أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ . ومن هذا القبيل لفظ الشعائر؛ فإنَّه لم يرد دليل على تصرّف الشارع فيها، وعليه فمقتضى القاعدة الأوَّلية أنْ يبقى على معناه اللغوي، كما تقدَّم مفصّلاً في الجواب على الشُبهة الأُولى.

نعم هناك موارد تصرَّف فيها الشارع وجعلها شعيرة وعلامة، إلاَّ أنَّ هذا التصرّف هو تصرّف في مصاديق الشعائر، كما هو الحال في مناسك الحج، فالشارع جعل هذه المناسك من أفراد ومصاديق الشعائر، لا أنّه تصرَّف في ماهية وحقيقة الشعائر.

أمَّا الموارد التي لم يتصرّف فيها الشارع ولم يتَّخذها بخصوصها شعيرة وعلامة، فالمرجع فيها إلى العُرف، فما اتَّخذها عُرف المسلمين شعيرة وعلامة على معنى من المعاني الإسلامية، فحينئذٍ تقع تحت عموم قوله تعالى ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (المائدة: 2

وبهذا يتَّضح أنَّ كون معنى الشعائر هو المعنى اللغوي لا يلزم منه تبدّل دين الله وتغيّر شريعته، ولا يعني أنَّ أحكام الله تابعة لسلائق الناس

ص: 37

وعاداتهم ورسومهم؛ لأنَّ العُرف لم يتصرّف في حُكم الشعيرة، وإنّما ما قام به العُرف هو تطبيق الحكم الشرعي، وهو الأمر بتعظيم الشعائر على ما يصدق عليه أنَّه علامة وشعيرة عرفاً، ومن الواضح أنَّ تطبيق الحكم الشرعي على الفرد الخارجي لايكون ذلك تعدّياً على مارسم الشارع، وليس إحداثاً في الدين ولا ابتداعاً، ولاغير ذلك من المعاني.

النتيجة الثانية: دليل العناوين المستجدّة للشعائر هو أدلّة عموم الشعائر.

هنالك جملة من الأفراد والعناوين المُستجدّة للشعائر يمكن دخولها تحت عموم الشعائر؛ لانطباق العنوان العام على هذه العناوين، لأنَّ حكم هذه العناوين المُستجدَّة ثابت، والجديد فيها هو كون موضوعها حادث، كما هو الحال في العناوين المستجدّة في البيع، كالبيع بواسطة الهاتف ونحوها من الأساليب المُستحدثة. وإليك بعض الشواهد الفقهية على ذلك:

شواهد فقهية على عدم حاجة العنوان المُستجد لدليلٍ خاص

هنالك العديد من الشواهد الفقهية تدلّ على أنَّ حكم العنوان المستجد في كثيرٍ من الأحكام هو عموم الأدلة، التي تشترك فيها بنفس الماهية، ومن هذه الشواهد:

1- دليل استحباب لبس السواد في مأتم الحسين (ع) هو عموم إظهار شعائر الحزن.

استدلَّ صاحب الحدائق (رحمة الله) على استحباب لبس السواد في مأتم الحسين (ع) بعموم أدلة إظهار شعائر الحزن، على الرغم من كون لبس السواد مكروهاً بحدِّ ذاته، حيث قال: «لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين (ع) من هذه الأخبار؛ لِما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار

ص: 38

شعائر الأحزان، ويؤيّده ما رواه شيخنا المجلسي (رحمة الله) عن البرقي في كتاب المحاسن، أنَّه روى عن عمر بن زين العابدين (ع) أنَّه قال: "لمَّا قُتل جدّي الحسين المظلوم الشهيد، لبست نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد، ولم يُغيِّرنها في حرٍّ أو برد، وكان الإمام زين العابدين (ع) يصنع لهنّ الطعام في المأتم» (1).

وقد ذهب السيد اليزدي (رحمة الله) - أيضاً- في أجوبته عن الشعائر الحسينية (2)إلى ما ذهب إليه صاحب الحدائق، من رجحان لبس السواد على الكراهة، لإظهار الحزن على الحسين (ع) .

2- استدلال القمّي بعمومات البكاء على جواز التشبيه في الشعائر الحسينية.

استدلَّ الميرزا القمي (رحمة الله) على جواز التشبيه ضمن الشعائر الحسينية ورجحانه بعمومات البكاء والإبكاء؛ ذلك لإنَّ عمومات البكاء لها مصاديق مختلفة، وأحد المصاديق الموجبة للبكاء والإبكاء هو ما يكون في ضمنه التشبيه والتمثيل الذي يُثير عواطف الناس (3).

ثُمَّ قال: بل يمكن الاستدلال على جواز التشبيه في الشعائر الحسينية، ولو مع فرض القول بحرمة تشبّه الرجل بالمرأة، أو المرأة بالرجل، حيث نقول بأنَّ هذا المصداق من التشبيه في الشعائر إمّا يتعارض مع حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وبالعكس، أو يقع التزاحم، فإذا قلنا بالتعارض، فسوف يتساقطان؛ فيسقط عموم دليل الحرمة وعموم دليل الشعائر، فيبقى


1- المحاسن، احمد بن خالد البرقى، ص 42٠.
2- في حاشيته على رسالة الشيخ جعفر التستري ( طبعة قديمة) .
3- جامع الشتات، ميرزا القمى، ج2، ص 7٨7، (الطبعة الحجرية) .

ص: 39

المصداق من التشبيه في الشعائر على الجواز بإجراء أصالة البراءة، وإذ قلنا إنَّه يقع بينهما تزاحم، فلا شكَّ في تقدّم عمومات البكاء والإبكاء؛ لأرجحيتها وأهمّيتها (1).

وقال الشيخ حسن المظفر (رحمة الله) في كتابه (نصرة المظلوم) ما لفظه: «لا شكَّ أنَّ إظهار الحزن ومظلومية سيدالشهداء (ع) ، والإبكاء عليه وإحياء أمره، بسنخه عبادة المذهب، لا بشخص خاص منه. . ضرورة أنَّه لم ترد في الشريعة كيفية خاصة للحزن والإبكاء وإحياء الذكر المأمور به، ليقتصر عليه الحزين في حزنه والمُحيي لأمرهم في إحيائه، والمبكي في إبكائه. وإذا كان سنخ الشيء عبادة ومندوباً إليه، سرت مشروعيته إلى جميع أفراده من جهة الفردية» (2).

3- أفتى بعض كبار فقهائنا، كالسيد الحكيم \ في كتاب المستمسك؛ بوجوب الشهادة الثالثة في الأذان، بلحاظ أنَّه شعار للمذهب، وتركه يضرّ بالمذهب. وهذا واضح، لأنَّ كل شيء أصبح شعاراً للمذهب فلابد وأن يحافظ عليه؛ لأنَّ المحافظة عليه محافظة على المذهب. حيث قال: «بل ذلك في هذه الأعصار معدود من شعائر الإيمان ورمز التشيّع، فيكون من هذه الجهة راجحاً شرعاً، بل قد يكون واجباً، لكن لا بعنوان الجزئية من الأذان» (3).

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنَّ العنوان المُستجَد من الشعيرة يجب أن يكون حلالاً في نفسه قبل أن يتعنون بعنوان أنَّه شعيرة، أمّا إذا كان حراماً، فيكون مشمولاً لأدلّة عموم.


1- المصدر المتقدّم.
2- نصرة المظلوم، ص 22.
3- مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم، ج5، ص545.

ص: 40

حكم اختلاف الأعراف في ممارسة الشعائر

إذا اختلفت عادات الأعراف في البلدان والأقطار، فوقع الكلام فيما هو المعتبر، كالاختلاف الحاصل في تعيين مفهوم المكيل والموزون في مباحث العِوضين ومسألة الربا، كما أشار إلى ذلك صاحب الجواهر (رحمة الله) بعد بحث طويل، حيث قال: «وبالجملة، فمحلّ الإشكال فيما يُجهَل حاله في زمنهم، من كون العرف العام لا انضباط له، فإنَّ لكلّ قطر عرفاً وعادة، والأحكام متَّحدة لااختلاف فيها، ولا تُناط بالأمور الغير المُنضبطة» (1). ثُمَّ قال: «ومن ذلك كلّه يُعرَف ما في شرح الأُستاذ؛ حيث قال: ثُمَّ الرجوع إلى العادة مع اتّفاقها اتِّفاقي، ولو اختلفت، فلكلّ بلدٍ حكمه كما هو المشهور» (2).

لكنّ المشهور في المقام هو الرجوع إلى العرف الغالب، وإذا لم تكن الغلبة مع واحد من ال-أعراف المتعارضة، فلكلِّ شخصٍ الرجوع إلى عُرف بلده.

وعلى ضوء هذا، فلو اختلفت الأعراف في كيفية ممارسة الشعائر ومصاديقها التي توجب التعظيم والتجليل، أو التي توجب وهن المذهب، أو ما يُخاف به على النفس أو البدن، فحيث أنَّ عنوان التعظيم والإهانة والهتك من العناوين العُرفية المحضة- كما سيأتي بيانها- فلابدّ في إرجاع ذلك إلى عُرف كل مكان وزمان، وعادات ذلك البلد التي تُمارَس فيه تلك الشعيرة، فقد يكون شيء في بلدٍ تعظيماً وفي بلد آخر يُعدّ إهانة، أو بالعكس.

وضابطة ذلك هو الرجوع إلى العُرف الغالب في البلد، وإذا لم تكن الغلبة مع

واحد من الأعراف المتعارضة، فلكلِّ شخصٍ الرجوع إلى عُرف بلده.


1- جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج22، ص 426.
2- المصدر السابق، ص 42٩.

ص: 41

الشبهة الثالثة: يجب الفرح بشهادة الحسين (ع) لا البكاء والجزع!

اشارة

تفصيل الشبهة:

يقول صاحب الشبهة إنَّه يجب الفرح على الشهيد؛ لأنَّ استذكار الشهادة يكون يوم سرور وسعادة؛ إذ أنَّ الشهيد يحقّق بشهادته المراتب والدرجات، ويصل إلى ذروة الحياة في الخُلد، فيوم شهادة الإمام الحسين (ع) وصحبه هو يوم بَهجة أهل البيت (عليهم السلام) وسرورهم، وعليه يكون البكاء على الحسين (ع) بدعة لا دليل عليه.

الجواب:

1- ما سيأتي في الإجابة على الشبهة اللاحقة من أمر النبي (ص) ، بل وسيرته العملية البكاء على الشهداء، من قبيل بكائه على حمزة وجعفر (عليهم السلام) ، فضلاً عن بكائه لفقد الأعزاء من بنيه وصحبه المخلصين. وعلى هذا، فلا يكون البكاء على الشهيد بدعة وبلا دليل.

2- صحيح أنَّ الشهادة هي فرحة اللقاء بالله تعالى. . . لكنَّ الأمر الإلهي جاء من خلال سُنَّة نبيّه وسيرته العملية بلزوم البكاء على الحسين (ع) ، وكذا ما ورد من أهل البيت (عليهم السلام) من الأمر بإحياء هذه الذكرى بالحزن والبكاء والجزع، كما في رواياتٍ متضافرة تأمر بلزوم إظهار الجزع والحزن، وإقامة المآتم والبكاء لفقد سيد الشهداء وأهل بيته وصحبه الأوفياء في تلك

ص: 42

الفاجعة الأليمة؛ لذلك نقرأ في زيارة عاشوراء: «بأبي أنت وأُمّي، لقد عَظُم مصابي بك» ، وكما عبَّر عن هذه الحقيقة (صَعْصَعة) حينما قال في شهادة أميرالمؤمنين: إنَّ الدنيا لفقدك مُظلمة، والآخرة بنورك مُشرقة. فنحن نبكي هذا الفقدان، ويزيدنا ألماً ومرارة وحشية أعدائهم.

فالبكاء على المظلوم، لاسيما الإمام الحسين وصحبه المُضرَّجين بالدماء، حسن ولازم في كل الأوقات إلى القيامة.

فحينما نُلقي نظره عابرة على كلام الإمام المهدي [ في زيارة الناحية، فإنَّها كفيلة بإظهار حقيقة الأمر؛ إذ يقول: «فلأندُبَّنك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً، حسرة عليك وتأسّفاً على ما دهاك وتلهّفاً، حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب» (1). وإليك عدداً من هذه الروايات التي أمرتنا بالبكاء والجزع على الحسين (ع) .

البكاء على الحسين (ع) أهمّ العبادات

أمر أهل البيت أتباعهم في رواياتٍ عديدة بإقامة المآتم على الإمام الحسين (ع) والبكاء عليه، وقد عُدّ هذا الأمر من أهمّ العبادات، وموجباً للتقرّب إلى الله عزوجل. وإليك بعضاً من هذه الروايات التي تلقّاها العلماء بالقبول:

1- عن علي بن الحسن بن فضّال عن أبيه، قال: قال الرضا (ع) : «مَن تذكّر مصابنا وبكى لِما ارتكب منّا، كان معنا في درجاتنا يوم القيامة، ومَن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى، لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون. .» (2).


1- المزار الكبير، محمد بن جعفر المشهدي، ص5٠1.
2- بحار الأنوار، ج 44، ص 27٨.

ص: 43

2- عن السيد بن طاووس (رحمة الله) قال: روي عن آل الرسول (عليهم السلام) أنَّهم قالوا: «مَن بكى وأبكى خمسين فله الجنّة، ومَن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومَن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومَن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومَن بكى وأبكى واحداً فله الجنة، ومَن تباكى فله الجنّة» (1).

3- عن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد الله: «يا أبا هارون، أنشدني في الحسين (ع) قال: فأنشدته فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون -يعني بالرقّة - قال: فأنشدته:

امرِرْ على جَدَثِ الحُسَين

فقُلْ لأَعْظمهِ الزَّكيَّة

قال: فبكى، ثُمَّ قال: زدني، قال: فأنشدته القصيدة الأُخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلمّا فرغت قال لي: يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى عشراً كُتبت لهم الجنة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسةً كُتبت لهم الجنة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كُتبت لهما الجنة، ومَن ذُكر الحسين (ع) عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنّة» (2). 4- عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبدالله (ع) قال: قال لي: «يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين (ع) ، قال: فأنشدته فبكى، ثُمَّ أنشدته فبكى، ثُمَّ أنشدته فبكى، قال: فو الله ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، فقال لي: يا أباعمارة، مَن انشد في الحسين شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومَن أنشد في


1- بحارالأنوار، ج 44، ص 2٨٨.
2- كامل الزيارات، ص111؛ ثواب الأعمال، ص 47؛ بحار الأنوار، ج 44، ص 2٨٨.

ص: 44

الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فبكى فله الجنة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة» (1).

5- عن صالح بن عقبة، عن أبي عبدالله (ع) قال: «مَن أنشد في الحسين بيت شعرٍ فبكى وأبكى تسعةً فله ولهم الجنة، فلم يزل حتى قال: مَن أنشد في الحسين بيتاً فبكى، وأظنّه قال: أو تباكى، فله الجنة» (2).

6- عن الإمام الرضا (ع) ، بعد أن عدَّ مصائب عاشوراء، من القتل، وهتك الحرمات، وأسر النساء والأطفال، وحرق الخيام، ونهب أموال آل الله، وهتك حرمة رسول الله (ص) : «إنَّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلَّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون. . .» (3).

وعن معاوية بن وهب، عن أبي عبدالله (ع) قال: «كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين» (4).

قال المجلسي (رحمة الله) ، صاحب البحار، في ذيل هذه الأحاديث: «أقول: رأيت في بعض تأليفات بعض الثقات من المعاصرين: روي أنَّه لمَّا أخبر النبي (ص) ابنته فاطمة(5) بقتل ولدها الحسين، وما يجري عليه من المحن؛ بكت فاطمة بكاءً شديداً، وقالت: يا أبت، متى يكون ذلك؟ قال: في زمانٍ خال منّي ومنك ومن علي (ع) ، فاشتدَّ بكاؤها وقالت: يا أبت، فمَن يبكي


1- كامل الزيارات، ص 112.
2- المصدر السابق، ص 113.
3- بحارالأنوار، ج45، ص27٩.
4- المصدر السابق، ص2٨٠.
5- بحارالأنوار، ج45، ص27٩.

ص: 45

عليه؟ ومَن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي: يا فاطمة، إنَّ نساء أُمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة، فإذا كان القيامة، تشفعين أنت للنساء وأنا أشفع للرجال، وكل مَن بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة. يا فاطمة، كل عين باكية يوم القيامة إلاّ عين بكت على مصاب الحسين، فإنّها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة» (1).

وفي رواية أُخرى رواها الصدوق في الخصال، عن حمران بن أعين عن أبيه، عن الامام الباقر (ع) أنّه قال: «كان علي بن الحسين (ع) . . . قد بكى على أبيه الحسين (ع) عشرين سنة، وما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتى قال له مولى له: يا بن رسول الله، أما آن لحُزنك أن ينقضي؟ ! فقال له: ويحك، إنَّ يعقوب النبي (ع) كان له اثنا عشر ابناً فغيَّب الله عنه واحداً منهم فابيضَّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟ !» (2).

وفي دعاء الندبة الشريف، الذي يرويه سيدنا ابن طاووس (رحمة الله) في إقبال الأعمال ومصباح الزائر وجمال الأُسبوع، والشيخ المجلسي (رحمة الله) في بحارالأنوار:

«فعلى الأطائب من أهل بيت محمّد وعلي: فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتُذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجّ الضاجّون،

ويعجّ العاجّون، أين الحسن؟ ! أين الحسين؟ ! أين أبناء الحسين؟ !»


1- بحارالأنوار، ج44، ص2٩3.
2- الخصال، الشيخ الصدوق، ص51٨.

ص: 46

وغير ذلك من الروايات التي لا يسع المقام لذكرها (1).

فبالتأمّل في هذه الروايات ونحوها، ممّا يشاركها في المضمون ذاته، يُكشَف لنا بوضوح عن لزوم البكاء وإقامة المأتم والجزع والنواح على سيد الشهداء. وعلى هذا يكون البكاء على الحسين (ع) من العبادات لانها مأمور به من قبل اهل البيت (عليهم السلام) .

الاستدلال القرآني على جواز البكاء

حكى القرآن الكريم حُزن نبيّ الله يعقوب وما ألمَّ به من ضرر جرّاء هذا الحزن، حيث قال تعالى: وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (يوسف: ٨4 و ٨5

ويتضح هذا الاستدلال في كلام الإمام زين العابدين (ع) ، حينما سُئل عن طول حزنه وبكائه وجزعه على أبيه الحسين (ع) ، في الرواية المعتبرة التي رواها ابن قولويه (رحمة الله) بقوله: «أشرف مولى لعلي بن الحسين (عليهم السلام) وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا علي بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فرفع رأسه إليه وقال: ويلك، والله لقد شكى يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت، حتى قال: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ . إنَّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبّحون حولي» (2).

وفي بحار الأنوار رواية أُخرى، أنَّه حين قال له أحد مواليه: «أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فقال له: ويحك، إنّ يعقوب النبي (ع) كان له اثنا عشر


1- انظر: بحار الأنوار، ج45، ص21٨.
2- كامل الزيارات، ص 115.

ص: 47

ابناً، فغيّب الله واحداً منهم فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟ !» (1).

ولكي يتبيّن الاستدلال بشكلٍ واضح، ينبغي إعطاء لمحة إجمالية عن ألفاظ الآية المباركة.

المراد من ابيضّت عيناه: أي أصابها البياض، وهو فقدان البصر، وهو ما يؤكده لنا الإمام الصادق (ع) بقوله: «البكَّاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين، فأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره. . .» (2).

وقد أشار صريح القرآن الكريم بأنَّ يعقوب (ع) لم يُردّ إليه بصره إلى أن شمّ قميص ولده يوسف: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً (يوسف: ٩6 .

والمراد من قوله تعالى تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ، أي: إنّك لا تفتر عن ذكر يوسف ولا تنقطع عنه.

ومعنى حرضاً: أي مُشرفاً على الهلاك أو ميتاً.

وممّا تقدّم يتَّضح جواز بل رجحان إظهار الحزن والجزع والبكاء على أولياءالله، حزناً على مصابهم أو شوقاً إليهم، وإن عُلم أنَّه يؤدِّي إلى الضرر الشديد، كفقدان البصر وانطفاء نور العينين وغير ذلك، بسبب الحزن والغمّ والبكاء والنحيب والجزع لأجل أولياء الله، كما هو واضح من أنَّ ما تعرّض له النبي يعقوب (ع) من هذهِ الأضرار الكبيرة كان بعلمه، وبعلم الآخرين من


1- بحار الأنوار، ج 46، ص 1٠٨.
2- الخصال، ص272.

ص: 48

حوله، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم عن قول أبنائه حيث قالوا: حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ لأنَّهم كانوا يرون بأُمّ أعينهم أيّ ضررٍ وألمٍ يلحقه بنفسه بسبب شوقه وحزنه وجزعه على وليّ الله.

مع أن يعقوب (ع) كان يعلم بحياة ولده، كما يحكي القرآن الكريم ذلك بقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً (يوسف: ٨3 وقوله: قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (يوسف: 86) ، وقوله: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (يوسف: ٨7

وكذلك ما ورد في الروايات الكثيرة التي تؤكّد ذلك، من قبيل ما رواه حنان بن سدير عن أبيه، قال: قلت لأبي جعفر (ع) : أخبرني عن يعقوب حين قال لولده اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ، كان يعلم أنَّه حيّ وقد فارقه منذ عشرين سنة وذهبت عيناه من الحزن والبكاء؟ قال: نعم، علم أنّه حي؛ إنّه دعى ربّه في السحر أن يهبط عليه ملك الموت، فهبط عليه ملك الموت في أطيب رائحة وأحسن صورة، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أليس سألت الله أن يُنزلني عليك؟ قال: نعم، قال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال: يقبضها أعواني متفرّقة وتُعرض عليّ مجتمعة، قال يعقوب: فأسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، هل عُرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ فقال: لا. فعند ذلك علم أنَّه حي.

فقال لولده: اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (1).


1- البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحرانى، ج 2، ص 263.

ص: 49

فبلغ من حزن يعقوب (ع) إلى حدّ أنّه فقد بصره وابيضّ شعره واحدودب ظهره، وأسرع إليه الهرم، وبتعبير الإمام الصادق (ع) حين سُئل عن حزن يعقوب، قال: «حُزن سبعين ثكلى حرّى» (1). ولو لم يكن ذلك من أعظم القربات إلى الله سبحانه وتَعالى لما فعله هذا النبيّ المعصوم (ع) ، ولما قرّره الباري جلّ شأنه في كتابه العزيز.

تقريب الاستدلال

بناءً على ما تقدَّم يمكن الاستدلال على جواز البكاء وإلحاق الضرر والجزع على سيد الشهداء (ع) بالأولويَّة، من جهات متعدّدة، منها:

1- عظم منزلة ومقام سيد الشهداء على نبي الله يوسف (ع) .

2- عظمة مصيبة سيد الشهداء بالقياس مع مصيبة يوسف (ع) ؛ إذ أنَّ مصيبة الحسين (ع) لا يمكن قياسها مع ما جرى ليوسف (ع) .

وبهذا يتبيّن لنا من قصة يوسف (ع) جواز بل رجحان الإضرار بالنفس، حتى درجة فقدان البصر، شوقاً وحزناً على أولياء الله وما جرى عليهم.

التأييد الروائي

1- عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا (ع) : «إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه

حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا. إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب


1- البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحرانى، ج 2، ص 264.

ص: 50

وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام.

ثمّ قال (ع) : «كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر، كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين (صلّى الله عليه)» (1).

2- ما جاء في زيارة الناحية المقدّسة، حيث يقول إمام زماننا [: «فلئن أخّرتني الدّهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمَن حاربك محارباً، ولمَن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنَّك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّ لك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسّفاً على ما دهاك، وتلهّفاً حتّى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب» (2)، وغير ذلك ممّا لا يسع المقام لذكرها.

الروايات الدالّة على استحباب الجزع على سيد الشهداء (ع)

المراد من الجزع في لغة العرب هو نقيض الصبر، قال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية: «صبر الرجل، حبس نفسه عن إظهار الجزع،

والجزع إظهار ما يلحق المصاب من المَضَضِ والغَمّ» (3).

وهذا ما عليه جميع المعاجم اللغوية، لذا فإنَّ كلّ فعلٍ يفعله صاحب المصيبة يُعبِّر به عن عدم صبره، وعن تأثّره الشديد، فهو مصداق من مصاديق الجزع؛ إذ لايوجد في لغة العرب تحديد معيّن لمعنى الجزع؛


1- بحار الأنوار، ج 44، صص 2٨3 و 2٨4.
2- المصدر السابق، ج 1٠1، ص 32٠.
3- انظر: الفروق اللغوية، ابو هلال العسكري، ص2٠٠.

ص: 51

وذلك لأنَّ حقيقة الجزع هو الحزن بلا حدود، وعليه فلا يكون له حدّ معيّن وخاص به.

وأقلّ مراتب الجزع عُرفاً هو العويل والضجيج والصراخ، والبكاء الذي لاينقطع، مصحوباً بلطم الوجه وضرب الرأس ولدم الصدر، إلى غير ذلك ممّا يقع في هذه المرتبة الأقل.

أمَّا المرتبة الأشدّ عُرفاً، فهي ما يكون فيها هلاك النفس، كما هو ظاهر الحديث المتقدّم عن الإمام السجّاد (ع) حين يقول: «فكادت نفسي تخرج، وتبيّنت ذلك منّي عمَّتي زينب الكبرى بنت علي (ع) فقالت: مالي أراك تجود بنفسك يا بقيَّة جدّي وأبي وإخوتي؟ ! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع؟ ! . . .» .

ولايخفى أنَّ معنى العبارة: (كادت نفسي تخرج) هو أنَّها قد أوشكت على الموت أو الهلاك. كما هو ظاهر من عبارة (تجود بنفسك) في لغة العرب ولسانهم، التي لا تقال إلاّ لمَن يكون الموت وشيكاً وقريباً جداً منه.

أمّا قوله (ع) : «وكيف لا أجزع وأهلع. . .» ، فهو واضح الدلالة على استحباب الجزع، والهلع أفضليته، الذي هو أفحش من الجزع في لغة

العرب (1). فلو لم يكن محبوباً عند الله سبحانه وتعالى لما فعله المعصوم (ع) .

وفي دعاء الندبة الشريف، الذي يرويه سيدنا ابن طاووس (رحمة الله) في إقبال الأعمال، ومصباح الزائر، وجمال الأسبوع، والشيخ المجلسي (رحمة الله) في بحارالأنوار؛ يقول (ع) مناجياً نادباً:


1- انظر: مجمع البحرين، ج 4، ص 411، مادة هلع.

ص: 52

«هل من معين فأُطيل معه العويل والبكاء؟ ! هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا» . ومن الواضح أنّ معنى الجزوع في قوله (هل. . .) هو صيغة مبالغة للجازع.

وإليك بعض الروايات الدالة على استحباب الجزع.

1- عن معاوية بن وهب، عن أبي عبدالله (ع) قال: «كلّ الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين (ع)» (1).

2- عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبدالله (ع) قال: «سمعته يقول: إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (عليهم السلام) ، فإنَّه فيه مأجور» (2).

3- عن مسمع بن عبدالملك البصري قال: «قال لي أبو عبدالله (ع) : يا مسمع، أنت من أهل العراق؛ أما تأتي قبر الحسين (ع) . . قال لي: أفما تذكر ما صنع به؟ قلت: نعم، قال: فتجزع؟ قلت: إي والله، واستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي. قال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا. . .» (3).

4- عن مالك الجهني، عن أبي جعفر الباقر (ع) في مراسم يوم عاشوراء: «. . . ثُمَّ ليندب الحسين (ع) ويبكيه، ويأمر مَن في داره بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه. . .» (4).

5- ما رواه قدامة بن زائدة عن أبيه، عن إمامنا السجاد (ع) ، حيث قال:

«فإنَّه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا. . . . فكادت نفسي تخرج، وتبيَّنت ذلك منّي


1- بحار الانوار، ج 45، ص314.
2- المصدر السابق، ج 44، ص 2٩1
3- كامل الزيارات، ص1٠٨.
4- المصدر السابق، ص 1٩3.

ص: 53

عمّتي زينب الكبرى بنت علي (عليهم السلام) ، فقالت: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وإخوتي؟ ! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرّعين بدمائهم، مرمّلين بالعرى. . ؟ !» (1).

الحاصل من روايات الجزع

1- لا إشكال في سند هذه الروايات، بل إنَّها في غاية الاعتبار والقبول، كما هو واضح لمَن نظر إلى مسانيدها.

2- إنَّ هذه الروايات واضحة وصريحة الدلالة على أنَّ الجزع على الحسين (ع) مستحبّ مؤكَّد، لاسيما في يوم عاشوراء.

البكاء على الحسين (ع) في مصادر أهل السُنَّة

اشارة

لم يكن الأمر مقتصراً على التراث المروي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وحده، بل يتخطَّاه إلى احاديث الفريق الآخر، التي تسجل التقاء في التأكيد على المضمون ذاته، وإليك إضمامة من هذه الاحاديث.

1- أخرج أحمد و غيره، عن عبدالله بن نجى عن أبيه: أنَّه سار مع علي (ع) وكان صاحب مطهرته، فلمّا حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، فنادى علي (ع) : اصبر أبا عبدالله، اصبر أبا عبدالله بشط الفرات، قلت: وماذا؟ ! قال: دخلت على النبي (ص) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت يا نبي الله، أغضبك أحد؟ ! ما شأن عينيك تفيضان؟ ! قال: بل قام من عندي جبريل قبل فحدَّثني أنّ الحسين يُقتَل بشط الفرات، قال فقال: هل لك إلى أن أشمّك


1- كامل الزيارات، ص4٩٩.

ص: 54

من تربته؟ ! قال، قلت: نعم، فمدَّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا (1).

4- أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن أُمّ سلمة قالت: كان رسول الله (ص) جالساً ذات يوم في بيتي. قال: لا يدخل عليّ أحد، فانتظرت، فدخل الحسين (ع) ، فسمعت نشيج رسول الله (ص) يبكي، فاطّلعت فإذا حسين (ع) في حجره، والنبي (ص) يمسح جبينه وهو يبكي. فقلت: والله ما علمت حين دخل. فقال (ص) : إنّ جبريل (ع) كان معنا في البيت، قال: أتحبّه؟ قلت: أمّا في الدنيا فنعم. قال: إنّ أُمّتك ستقتل هذا بأرضٍ يُقال لها كربلاء، فتناول جبريل من تربتها فأراها النبي (ص) فلمّا أُحيط بحسين(2) حين قُتل، قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء. فقال: صدق الله ورسوله (ص) كربٌ وبلاء» . وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار

والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا (3).

وهذه الرواية تنص على أنَّ النبي (ص) يبكي على مصاب ولده الحسين (ع) حينما جاء جبرئيل بتربة كربلاء.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده، قال: حدّثنا عبد الله، حدّثني أبى، ثنا عفان، ثنا حماد، هو ابن سلمة، أنا عمار، عن ابن عباس، قال: «رأيت النبي (ص) فيما يرى النائم بنصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين


1- مسند أحمد، ج1، ص446. قال أحمد شاكر، إسناده صحيح؛ مجمع الزوائد، ج٩، ص 3٠٠. قال نور الدين الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا؛ مسند أبي يعلى، ج1، ص2٩٨. قال حسين أسد سليم: إسناده حسن؛ مسند البزار، ج3، ص1٠1؛ المصنف، ج7، ص47٨.
2- مجمع الزوائد، ج٩، ص3٠٠.
3- مجمع الزوائد، ج٩، ص3٠٠.

ص: 55

وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم، فأحصينا ذلك اليوم فوجدوه قتل في ذلك اليوم» . وعلَّق شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم (1).

3- أخبرنا أبو عبدالله محمد بن علي الجوهري ببغداد، ثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي، ثنا محمد بن مصعب، ثنا الأوزاعي، عن أبي عمار شداد بن عبدالله، عن أُمّ الفضل بنت الحارث: «أنَّها دخلت على رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله، إنّي رأيت حلماًٍ منكَراً الليلة، قال: ما هو؟ قالت: إنّه شديد، قال: ما هو؟ قالت: رأيت كأنَّ قطعة من جسدك قطعت في حجري، فقال رسول الله (ص) : رأيت خيراً؛ تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك، فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله (ص) . فدخلت يوماً إلى رسول (ص) فوضعته في حجره ثُمَّ حانت منّي التفاتة، فإذا عينا رسول الله (ص) تهريقان من الدموع، قالت، فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت و أُمّي، مالك؟ قال: أتاني جبريل (ع) فأخبرني

أنّ أُمّتي ستقتل ابني هذا، فقلت: هذا! فقال: نعم، و أتاني بتربة من تربته حمراء» . هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه (2).

وغير ذلك من الروايات الكثيرة.

بكاء السماء دماً حزناً على الحسين (ع) في مصادر أهل السُنَّة

1- عن أمير المؤمنين (ع) قال- عندما مرَّ بكربلاء، موضع قبر الحسين (ع) : «فتية من آل محمد يُقتلون بهذه العرصة، تبكي عليهم السماء والأرض» (3).


1- مسند أحمد بن حنبل، ج1، ص2٨3؛ المعجم الكبير، ج3، ص11٠.
2- المستدرك على الصحيحين، ج3، ص1٩4؛ السلسلة الصحيحة للألباني، ج2، ص464، قال الألباني: صحيح.
3- الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، ص 2٩3.

ص: 56

2- وذكر ابن حبان: «إنَّ يوم قتل الحسين بن علي مطرت السماء دماً، فأصبح جرارنا وكل شيء لنا ملأى دماً» (1).

3- عن ابن عباس: «إنَّ يوم قتل الحسين قطرت السماء دماً، وإنَّ هذا الحمرة التي تُرى في السماء ظهرت يوم قتله ولم تُرَ قبله، وإنَّ أيّام قتله لم يُرفَع حجر في الدنيا إلاّ وُجد تحته دم» (2).

4- عن قرة بن خالد قال: «ما بكت السماء على أحد إلاّ على يحيى بن زكريا والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها» (3).

5- قال سليمان القاضي: «مطرنا دماً يوم قتل الحسين» (4).

6- عن ابن عباس قال: «إنَّما حدثت هذه الحمرة التي في السماء حين قُتل الحسين» (5).

7- أخرج الطبراني بسنده عن علي بن مسهر، حدَّثتني أُمّ حكيم، قالت: «قتل الحسين بن علي (ع) وأنا يومئذٍ جويرية، فمكثت السماء أيَّاماً مثل العلقة» (6).

٨- أخرج البيهقي عن نظرة الأزدية، قالت: «لمَّا قُتل الحسين بن علي مطرت السماء دماً، فأصبحت جرارنا وكل شيء لنا ملأى دماً» (7).


1- الثقات، ابن حبان، ج 5، ص 4٨7؛ تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج14، ص 227؛ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج 3، ص 312.
2- ينابيع المودة، القندوزي، ج 3، ص 1٠2.
3- تفسير القرطبي، ج 16، ص 141؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 64، ص 217؛ وانظر: تفسير ابن كثير، ج 4، ص 154، الدر المنثور، السيوطي، ج 4، ص 264.
4- تفسير القرطبي، ج16، ص141؛ ذخائر العقبى، أحمد بن عبدالله الطبري، ص 145؛ وأنظر: التاريخ الكبير، البخاري، ج 4، ص 12٩؛ تاريخ دمشق، ج 14، ص 226.
5- إحقاق الحق، ج 27، ص 37٩.
6- مجمع الزوائد، ج ٩، ص 1٩6. ثُمَّ قال: (ورجاله رجال الصحيح) ؛ دلائل النبوة، البيهقي، ص472؛ المعجم الكبير، ج 3، ص 113؛ تهذيب الكمال، ج 6، ص 443.
7- الثقات، ج5، ص 4٨7؛ دلائل النبوة، البيهقي، ج 6، ص 471.

ص: 57

٩- عن السدي: «لمّا قُتل الحسين بكت السماء، وبكاؤها حمرتها» (1).

1٠- عن هلال بن ذكوان، قال: «لمّا قُتل الحسين مكث الناس شهرين أو ثلاثة، كأنّما لطخت الحيطان بالدم من صلاة الفجر إلى غروب الشمس» (2).

11- وذكر ابن الأثير: «لمّا قُتل الحسين مكث الناس شهرين أو ثلاثة، كأنّها تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع» (3).

12- عن أبي جرادة بسندٍ متّصل: «لمّا قُتل الحسين مطرنا مطراً بقي أثره في ثيابنا مثل الدم» (4).

13- عن جعفر بن سليمان، قال: حدّثتني خالتي أُمّ سالم، قالت: «لمّا قُتل الحسين بن علي، مطرناً مطراً كالدم على البيوت والجرد. قال: وبلغني أنه

كان بخراسان والشام والكوفة» (5).

14- عن يزيد بن زياد، قال: «لمّا قُتل الحسين بن علي احمرَّت آفاق السماء أربعة أشهر» (6).

15- عن أبي جرادة، بسندٍ متّصل عن إبراهيم النخعي: «لمّا قُتل الحسين احمرَّت السماء من أقطارها، ثُمَّ لم تزل حتى تفطرت وقطرت دماً» (7).


1- نظم درر السمطين، الزرندي الحنفي، ص 222؛ جامع البيان، الطبري، ج 25، ص 16٠.
2- تذكرة الخواص، ابن الجوزي، ص 232.
3- تاريخ الطبري، ج 4، ص 2٩6؛ الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 4، ص ٩٠؛ البداية والنهاية، ابن كثير، ج ٨، ص 1٨5؛ أخبار الدول وآثار الأُُوَل، أحمد بن يوسف القرماني، ج1، ص 325.
4- شرح إحقاق الحق، ج 27، ص 3٩2؛ تاريخ حلب، ج 6، ص 264٩.
5- تهذيب الكمال، ج 6، ص 433؛ ذخائر العقبى، أحمد بن عبد الله الطبري، ص 145؛ تاريخ مدينة دمشق، ج14، ص 2٨.
6- الدر المنثور، السيوطي، ج 6، ص 31؛ تفسير القرطبي، ج 16، ص 141؛ وانظر: تاريخ مدينة دمشق، ج 14، ص 227.
7- الذرية الطاهرة النبوية، محمد بن أحمد الدولابي، ص ٩7.

ص: 58

16- وعنه أيضاً بسندٍ متصل عن مسعدة، عن جابر، عن قرط بن عبدالله، قال: «مطرت ذات يوم بنصف النهار، فأصابت ثوبي، فإذا دم، فذهبت بالإبل إلى الوادي فإذا دم، فلم تشرب، وإذا هو يوم قُتل الحسين \» (1).

17- ابن حبان عن حماد بن سلمة وابن علية، عن سليم القاص أبي إبراهيم، قال: «مطرنا يوم قُتل الحسين دماً» (2).

1٨- ما في الصواعق عن أبي نعيم الحافظ، عن نصرة الأزدية، أنَّها قالت: «لمّا قُتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً، فأصبحنا وجبابنا وجرارنا مملوءة دماً» (3).

1٩- في الصواعق أيضاً، قال أبو سعيد: «ولقد مطرت السماء دماً بقي أثره في الثياب مدّة حتى تقطعت» (4).

2٠- فيه أيضاً: «ظنَّ الناس أنَّ القيامة قد قامت» (5).

21- وفي خطط المقريزي روي: «أنَّ السماء أمطرت دماً، فأصبح كل شيء لهم ملآن دماً» (6)، أي يوم قتل الحسين (ع) .

بكاء الأرض دماً عبيطاً على الحسين (ع) في مصادر أهل السُنَّة

1- أخرج الهيثمي عن الزهري، قال: « لم تُرفع حصاة ببيت المقدس إلّا وجد تحتها دم عبيط» . قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. (7)


1- الثقات، ج 4، ص 32٩.
2- المصدر السابق؛ لسان الميزان، ج 3، ص 113.
3- الصواعق المحرقة، ص 2٩4؛ ذخائر العقبى، ص 145.
4- المصدر السابق، ص 2٩5.
5- المصدر السابق؛ نظم درر السمطين، الزرندي الحنفي، ص 22٠.
6- تهذيب الكمال، ج 6، ص 433؛ سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 312.
7- مجمع الزوائد، ج ٩، ص 1٩6؛ المعجم الكبير، ج 3، ص 11٩.

ص: 59

2- وفي خطط المقريزي: «لم يُقلَب حجر من أحجار بيت المقدس، يوم قتل الحسين، إلاّ وجد تحته دم عبيط» ( (1).

3- عن الزهري أيضاً، قال: «ما رُفع بالشام حجر يوم قتل الحسين إلاّ عن دم» . قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (2).

4- عن أبي سعيد، قال: «ما رُفع حجر في الدنيا لمّا قُتل الحسين إلاّ وتحته دماً عبيطاً. لقد مطرت السماء دماً بقي أثره في الثياب مدَّة حتى تقطعت» (3).

5- عن خلاد صاحب السمسم، قال: «حدَّثتني أُمّي، قالت: كنا زمناً بعد مقتل الحسين وأنّ الشمس تطلع مُحمرة على الحيطان والجدر بالغداة والعشي، قالت: وكانوا لا يرفعون حجراً إلاّ وُجد تحته دم» (4).

كسوف الشمس واضطراب الكواكب بعد عاشوراء في مصادر أهل السُنَّة

1- عن عيسى بن حارث الكندي، قال: «لمّا قُتل الحسين، مكثنا سبعة أيّام إذا صلّينا العصر نظرنا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنّها الملاحف المعصفرة، ونظرنا الكواكب يضرب بعضها بعضاً» (5).

2- عن خلف بن خليفة عن أبيه، قال: «لمّا قُتل الحسين اسودَّت السماء وظهرت الكواكب نهاراً، حتى رأيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر» (6).


1- تاريخ مدينة دمشق، ج 14، ص 23٠.
2- مجمع الزوائد، ج ٩، ص 1٩6؛ المعجم الكبير، ج 3، ص 113.
3- نظم درر السمطين، ص 222.
4- تاريخ مدينة دمشق، ج 14، ص 226.
5- مجمع الزوائد، ج ٩، ص 1٩7.
6- تهذيب الكمال، ج6، ص432.

ص: 60

3- عن أبي قبيل، قال: «لمّا قُتل الحسين بن علي كسفت الشمس كسفة، بدت الكواكب نصف النهار، حتى ظننا أنَّها هي» (1). قال الهيثمي: رواه الطبراني، وإسناده حسن (2).

بكاء ملائكة السماء على الحسين (ع) في مصادر أهل السُنَّة

عن زين العابدين (ع) في الشام، قال: «أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء» (3).

ومن حوادث غريبة بعد واقعة عاشوراء في مصادر أهل السُنَّة هي نوح الجنّ على الحسين (ع)

فعن أُمَّ سلمة قالت: «سمعت الجن تنوح على الحسين بن علي» . قال

الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (4).

وعنها أيضاً، قالت: «ما سمعت نوح الجن منذ قبض النبي (ص) إلاّ الليلة، وما أرى مشهور إلاّ قد قتل - تعنى الحسين (ع) - فقالت لجاريتها: اخرجي فسَلي، فأخبرت أنّه قد قُتل، وإذا جنية تنوح:

ألا يا عين فاحتفلي بجهد

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على رهطٍ تقودهم المنايا

إلى متحير في ملك عبدي

وعن ميمونة قالت: «سمعت الجن تنوح على الحسين بن علي» . قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5).


1- السنن الكبرى، البيهقي، ج3، ص337.
2- مجمع الزوائد، ج٩، ص1٩7.
3- نور العين في مشهد الحسين، أبو إسحاق الإسفراييني، ص7٠.
4- المعجم الكبير، ج 3، ص 121؛ مجمع الزوائد، ج ٩، ص 1٩٩.
5- المعجم الكبير، ج3، ص 123؛ مجمع الزوائد، ج٩، ص 1٩٩.

ص: 61

وعن أبي جناب الكعبي قال: «حدَّثني الجصاصون، قالوا: كنا إذا خرجنا إلى الجبان، بالليل عند مقتل الحسين، سمعنا الجن ينوحون عليه ويقولون:

مسح الرسولُ جبينَه

فله بريق في الخدود

أبواه من عليا قريش

وجدّه خير الجدود

(1)

المآتم التي أقامها الرسول (ص) على الحسين (ع) في مصادر السُنَّة
اشارة

إنَّ إقامة المآتم والبكاء والنوح على سيد الشهداء (ع) لم تكن قضية مُستجدّة، بل لها وجود حتى قبل ولادة الحسين (ع) ، وفيما يلي إليك عدداً من هذه المآتم.

١- مأتم يوم ولادة الحسين (ع)

لمّا وُلد الحسين أتت به أسماء النبي (ص) ، فأذَّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثُمَّ وضعه في حجره وبكى، فلما سألته أسماء عن سبب بكائه، أجاب: على ابني هذا، فقالت: إنَّه ولد الساعة! قال: تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي، ثُمَّ أمرها أن لا تخبر فاطمة الزهراء، فإنّها قريبة عهد بولادته (2).

وهذا أوّل مأتم يُقام على الحسين، وهو ساعة ولادته، فرسول الله يبكي عليه ويقيم مراسم العزاء.

٢- مأتم الرَضوعة

فعن أُمّ الفضل، مرضعة الحسين: «أنَّها دخلت يوماً على رسول الله (ص) ،


1- المعجم الكبير، ج3، ص 121؛ مجمع الزوائد، ج٩، ص 1٩٩.
2- انظر: ذخائر العقبى، ج2، ص11٩.

ص: 62

فوضعت الحسين في حجره، فرأت عينا رسول الله تهريقان من الدموع، فلمّا سألته عن السبب، قال: أتاني جبرائيل فأخبرني: أنَّ أُمّتي ستقتل ابني هذا، فقالت أُمّ الفضل: هذا! فقال: نعم» (1).

وهنا النبي (ص) مرة أُخرى يبكي على الحسين، والحسين في السنة الأُولى من عمره لم يتم الرضاعة، فَحَريٌّ بنا أن نسمّيه مأتم الرضوعة.

٣- مأتم أقامه الرسول (ص) عند إخبار الملائكة بمقتل الحسين (ع)

«لما أتى على الحسين (ع) سنة كاملة هبط على رسول (ص) اثنا عشر ملكاً، محمرّة وجوههم، قد نشروا أجنحتهم، وهم يخبرون النبي بما سينزل على الحسين (ع)» (2).

4- مأتم أقامه الرسول (ص) عند إخبار جبرائيل بمقتل الحسين (ع)

«لمّا أتت على الحسين من مولده سنتان كاملتان، خرج النبي في سفر، فلمّا كان في بعض الطريق وقف فاسترجع ودمعت عيناه، فسُئل عن ذلك فقال: هذا جبرائيل يخبرني عن أرضٍ بشاطئ الفرات، يقال لها: كربلاء، يُقتَل فيها ولدي الحسين. . . . ثُمَّ رجع من سفره مغموماً، فصعد المنبر فخطب ووعظ، والحسين بين يديه مع الحسن، ثُمَّ أخبر أصحابه بأنَّ جبرائيل أخبره بأنَّ الحسين مقتول مخذول، فضجَّ الناس في المسجد بالبكاء» (3).


1- انظر: المستدرك، ج3، ص176؛ تاريخ الشام ترجمة الحسين (ع) ، ص1٨3؛ مقتل الحسين، ج1، صص15٨ و 15٩؛ الفصول المهمة، ص154؛ الصواعق المحرقة، ص115؛ الخصائص الكبرى، ج2، ص 125؛ كنز العمال، ج6، ص223؛ الروض النضير، ج1، ص14٨.
2- مقتل الحسين للخوارزمى، ج1، ص 163.
3- المصدر السابق.

ص: 63

وهذه المرّة رسول الله يقيم المأتم في مسجده أمام الصحابة، ورسول الله يقرأ المأتم، والناس يبكون.

5- مأتم آخر حينما تكرَّر إخبار جبرائيل والملائكة بمقتل الحسين (ع)

مأتم آخر أقامه الرسول (ص) ، حينما تكرّر إخبار جبرائيل والملائكة النبي بما يجري على الحسين، وفي أزمنةٍ مختلفة وفي أماكن متفرقة، والنبي (ص) يخبر مَن حوله بما يجري على الحسين، ويبكي ويقيم مأتماً عليه. ففي بيت أُمّسلمة. . وعائشة. . وزينب بنت جحش. . وفي دار أميرالمؤمنين. . . وفي مجمع من الصحابة. . . وفي داره. . . وفي أماكن أُخرى كثيرة؛ أقام النبي المأتم، وأخرج ما أعطاه جبرائيل من تربة كربلاء، وشاهدها كثيرون، وهم يبكون (1).

6- مأتم في بيت عائشة

لما أخبر جبرائيل النبي (ص) بما سيجري على الحسين وأعطاه من تربة كربلاء شيئاً، خرج والتربة بيده وهو يبكي، وأخبر عائشة بما يجري على الحسين، ثُمَّ خرج إلى الصحابة وأخبرهم أيضاً وهو يبكي (2).

٧- مأتم يقيمه الرسول (ص) في اللحظات الأخيرة من حياته

في اللحظات الأخيرة للنبي (ص) قبل موته، ضمَّ الحسين إلى صدره، وقال في حقّه كلمات طيبة، ثُمَّ أُغمي عليه، فلمّا أفاق قال: إنَّ لي ولقاتلك يوم القيامة مقاماً بين يدي ربّي وخصومة. . . (3).


1- انظر: المستدرك، ج 4، ص 3٩٨؛ ذخائر العقبى، ص 147؛ كنز العمال، ج 13، ص 111؛ تاريخ الإسلام، للذهبي، ج3، ص1٠؛ الخصائص الكبرى، للسيوطي، ج2، ص 125.
2- انظر: مجمع الزوائد، ج٩، ص 1٨7.
3- انظر: مقتل الحسين، ج 1، ص173.

ص: 64

8- مأتم لرسول الله (ص) رأته أم سلمة في منامها

شهد النبي (ص) قتل الحسين، كما رأته أُمّ سلمة في المنام، وعلى رأسه ولحيته التراب، فلمّا سألته عن حالته، قال: «شهدت قتل الحسين آنفا» (1).

ورأى ابن عباس النبي في المنام وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فلمّا سأله عن الدم، قال: هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل التقطه منذ اليوم، فاستيقظ ابن عباس من نومه واسترجع وقال: قُتل الحسين، فلمّا أُحصي ذلك اليوم وجدوه قُتل فيه (2).

٩- مأتم عزاء الأنبياء لرسول الله (ص)

بعد قتل الحسين (ع) نزل الأنبياء عند مقتله وهم يعزون رسول الله (ع)

بولده، وكثر البكاء والنحيب عنده (3).

إلى غير ذلك من المآتم العديدة التي أقامها رسول الله (ص) على الحسين (ع) ، وقد أحصاها العلامة الأميني في كتابه (سيرتنا وسنّتنا) إلى ما يقرب من عشرين مأتماً على ولده الحسين (ع) (4).


1- انظر: صحيح الترمذي، ج 13، ص 1٩3؛ المستدرك، ج 4، ص 1٩؛ مصابيح السنة، البغوى، ص2٠7؛ أسد الغابة، ج2، ص 22؛ كفاية الطالب، ص2٨6.
2- انظر: مسند أحمد، ج1، ص2٨3؛ تاريخ بغداد، ج1، ص142؛ المستدرك، ج4، ص4٩7، البداية والنهاية، ج ٨، ص2٠٠.
3- انظر: مقتل الحسين، ج2، ص ٨7؛ نور الأبصار، ص125.
4- انظر: سيرتنا وسنتنا للعلامة الأميني، ص4٩.

ص: 65

الشبهة الرابعة: البكاء على الميّت تعذيب و بدعة

تفصيل الشبهة:

روى البخاري في صحيحة أحاديث تدلّ على أنّ بكاء أهل الميت سبب في عذابه، حيث روى أنَّ رسول الله (ص) قال: «إنَّ الميت ليعذَّب ببكاء الحي» (1).

وروى مسلم في صحيحة، عن عبد الله: «أنّ حفصة بكت على عمر فقال: مهلاً يابنيتي، ألم تعلمي أنَّ رسول الله (ص) قال: «إنَّ الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه» (2).

وفي رواية أُخرى تنسب إليه (ص) أشار فيها إلى تعرّض الميت للعذاب نتيجة النوح عليه: «يعذَّب في قبره بالنياحة عليه» (3).

قال ابن تيمية: «ومن حماقاتهم [أي الشيعة] إقامة المأتم والنياحة على مَن قُتل من سنين عديدة، ومن المعلوم أنَّ المقتول وغيره من الموتى، إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم كان ذلك ممّا حرَّمه الله ورسوله» (4). وعليه يكون البكاء على الحسين (ع) بدعة.


1- صحيح البخاري، ج2، ص٨٠.
2- صحيح مسلم، ج3، ص41.
3- سنن النسائي، ج 4، ص 14.
4- منهاج السنة، ج1، صص52 - 55.

ص: 66

الجواب

أوّلاً: إنَّ هذه الأحاديث، وإن نقلتها صحاحهم وغيرها، لكنّها مناف لِروايات تفسرها، حيث رُوي أنَّ هذه الأحاديث وردت في موت يهودي، أي أنَّ النبي (ص) لمّا سمع بكاءهم على اليهودي قال: أنتم تبكون عليه وأنَّه ليعذب. وإليك الحديث كما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عائشة؛ فعن هشام بن عروة عن أبيه، قال: «ذكر عند عائشة قول ابن عمر (الميت يعذّب ببكاء أهله عليه) ، فقالت: رحم الله أباعبد الله الرحمن، سمع شيئاً فلم يحفظه، إنّما مرَّت على رسول الله جنازة يهودي وهم يبكون عليه، فقال: أنتم تبكون وأنَّه ليعذّب» (1).

فلاشكّ في أن النبي (ص) يشير إلى أنَّ هذا اليهودي من أهل النار، ويعذّب في قبره بسبب عمله وكفره بنبوة خاتم الأنبياء، وهذا لاربط له بعذاب المؤمن بسبب بكاء أهله عليه.

وفي رواية أُخرى، عنها أيضاً، لمّا سمعت قول ابن عمر: الميت يعذّب ببكاء أهله عليه، قالت: إنّما قال رسول الله (ص) : «إنّه ليعذَّب بخطيئته أو بذنبه. . .» (2).

وفي رواية أُخرى أنَّ عائشة أنكرت ما سمعت به من مقالة ابن عمر، وأقسمت بالله أنَّه ما قاله رسول الله (ص) ، لمّا سمعت مقالته من ابن عباس، وإليك الرواية:

قال ابن عباس: دخل صهيب يبكى ويقول: وا أخاه واصاحبا، فقال عمر: يا صهيب، اتبكى عليَّ وقد قال رسول الله (إنَّ الميت يعذّب ببعض


1- صحيح مسلم، ج3، ص44.
2- المصدر السابق.

ص: 67

بكاء أهله عليه) ، فقال ابن عباس: فلمّا مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ماحدَّث رسول الله أنَّ الله يعذّب المؤمن ببكاء أحد، ولكن قال: أنَّ الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه (1).

ثانياً. إنَّ هذه الأحاديث، على فرضِ صدورها عن النبي (ص) ؛ فهي تتعارض مع قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (الأنعام: 164 .

وقد استشهدت عائشة بالآية ردّاً على مَن قال: (أنَّ الميت ليعذّب ببكاء أهله عليه) قائلة: حسبكم القرآن، وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (2).

قال الألباني: «ثُمَّ إنَّ ظاهر هذا الحديث. . . مشكل؛ لأنَّه يتعارض مع بعض أُصول الشريعة وقواعدها المقرَّرة، في مثل قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (3).

وقال النووي - من علماء الشافعية - تعليقاً على هذه الأحاديث: «هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وأنكرت عائشة عليهما ونَسبَتْهما إلى النسيان والاشتباه، واحتجَّت بقوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » (4).

وقال الحاكم النيسابوري: «اتفقَّ الشيخان على إخراج حديث أيوب السختياني عن عبد الله بن أبي مليكة، مناظرة عبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس في البكاء على الميت، ورجوعهما فيه إلى أُمّ المؤمنين عايشة،


1- صحيح مسلم، ج3، ص44.
2- المصدر السابق، ص43.
3- أحكام الجنائز وبدعها، ص 42.
4- شرح صحيح مسلم (المطبوع في هامش القسطاني وزكريا الأنصاري) ، المجلد الخامس، ص 31٨، نقلاً عن عبد الحسين شرف الدين، المجالس الفاخرة، ص 17؛ منتهى الآمال، تاريخ حضرة سيدالشهداء (ع) الخاتمة.

ص: 68

وقولها: (والله ما قال رسول الله (ص) إنَّ الميت يعذَّب ببكاء أحد، ولكنّ رسول الله (ص) قال: إنَّ الكافر يزيده عند الله بكاء أهله عليه عذاباً شديداً، وإنّ الله هو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أُخرى)» (1).

ولقائل أن يقول: يمكن أن تكون علّة نهي النبي عن البكاء على الأموات هو لأجل النياحة الباطلة، أو الجزع والفزع الخارج عن الحدّ، أو الأفعال المنهيَّة حين البكاء، كإدماء الوجه على الميت.

لكنَّ هذا الاحتمال باطل؛ لأنَّ الآية المباركة تصرّح أنَّ الميت لا يتحمّل أوزار غيره، فلا مُسوِّغ أن يتحمَّل الميت أوزار النائحة والقائلة بالباطل.

ثالثاً: إنَّ ذلك يتناقض مع إقرار النبي (ص) عمل نساء الأنصار في البكاء على موتاهنّ في موارد كثيرة، من قبيل اقراره ببكاء صفية، عمَّة النبي (ص) على أخيها حمزة، كما ذكر الواقدي: من أنَّ النبي (ص) كان يومئذ، إذا بكت صفية، يبكي، وإذا نشجت ينشج، (قال) : وجعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكى رسول الله (ص) (2). فمن الغريب أنّه (ص) ينهى لساناً ويبكي عيناً ويحزن قلباً! !

رابعاً: إنَّ ذلك يتناقض مع فعل النبي (ص) وبكائه في موارد كثيرة، بل روي أنَّه (ص) أُغمي عليه من شدّة على حمزة (3). كما بكى أيضاً على جنازة ولده إبراهيم فسأله عبد الرحمن بن عوف قائلاً: «وأنت يارسول الله؟ ! فقال (ص) : «إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا» (4).


1- المستدرك، ج 1، ص 3٨1.
2- الإستيعاب (بهامش الإصابة) ، ج 1، ص275؛ الغدير، ج 6، ص165؛ الإمتاع للمقريزي، ص154؛ الكامل في التاريخ، ج 2، ص17٠؛ مجمع الزوائد، ج 6، ص 12٠؛ الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 4، صص3٠7 و 31٠؛ ذخائر العقبى، ص 1٨٠.
3- المصدر السابق.
4- صحيح البخاري، ج1، ص 155، ويأتي تشبيه البكاء بحزن القلب هنا للدلالة على اتحادهما في حكم الجواز.

ص: 69

وأنَّه (ص) بكى على قبر أُمّه آمنة (1).

ومنها بكاؤه (ص) يوم توفّي عمّه أبو طالب (2). و يوم استشهاد جعفر (3)، وزيد بن الحارثة (4)، وعبدالله بن رواحة (5).

ويذكر الحاكم النيسابوري في مستدركه بكاء فاطمة على قبر الحمزة كل يوم الجمعة: «كانت فاطمة تبكي وتصلّي عند قبر عمّها الحمزة كل يوم جمعة» (6).

وبهذا يتَّضح أنَّ البكاء أصبح من السُنن الإنسانية والدينية المتعارفة في زمن الرسول (ص) ، بحيث وصل إلى الحدّ الذي لا يستطيع أحد أن يشكِّك في حُرمته.

وقد بكى يعقوب، إذ غيّب الله ولده: وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ، (يوسف: ٨4 حتى قيل - كما في تفسير هذه الآية من «الكشاف» -: ما جفت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه. وعن رسول الله (ص) - كما في تفسير هذه الآية من «الكشاف» أيضا -: أنَّه سُئل جبرئيل (ع) : ما بلغ

مِن وَجدِ يعقوب على يوسف؟ قال: وَجدُ سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعةقط (7).


1- المستدرك على الصحيحين، ج1، ص 377؛ وفاء الوفا، السمهودي، ج 2، ص 112.
2- يراجع، السيرة الحلبية، باب أبي طالب وخديجة، ص462, (نقلاً عن المجالس الفاخرة، ص13 . وقد ذكر مؤلّف المحاسن مصادر عديدة لهذا الخبر وما يليه.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- وفاء الوفا، ج3، ص135.
7- الكشاف، ج2، ص45٠؛ تفسير الطبري، ج 13، ص32؛ غرائب القرآن (بهامش تفسير الطبري) ، ج13، ص42؛ تفسير الرازي، ج 5، ص 23٨.

ص: 70

ص: 71

الشبهة الخامسة: روايات البكاء يرفضها العقل لعدم معقولية ثوابها!

اشارة

تفصيل الشبهة:

يذهب أصحاب هذه الشبهة إلى رفض الروايات التي تشير إلى الأجر الوافر على البكاء على الحسين (ع) ، لأنَّها يرفضها العقل، وأنَّها روايات مجعولة (1)، مستدلّين على ذلك باستبعاد أن يكون ذلك الأجر الوافر الذي ورد فيها لمجرّد دمعة تُسكب، أو أنَّ العين اغرورقت بالدمع.

ولذا ذهب البعض إلى القول بأنَّ هذه الروايات، لو سلّمنا بصدورها، فهي صدرت حينما كان ذكر الحسين (ع) والبكاء عليه، وزيارته ورثاؤه وإنشاد الشعر، بمثابة إنكار للمُنكَر وجهاد ضدّ أعداء الله، من بني أُميَّة الظالمة، وهدماً لأساسهم وتقبيحاً وتنفيراً من سيرتهم الكافرة.

وأمّا في زمان لا حرب فيه بين أهل البيت (عليهم السلام) وأعدائهم، كزماننا هذا، فلا يصدق على ذكر الحسين والبكاء عليه عنوان الجهاد، فلا وعد بالجنة. نعم الباكي على الحسين (ع) يشرَّف ويكرَّم، لكن لا يكون أجره الجنة مقابل دمعة.

وقد استدلَّ أصحاب هذا القول بأنَّ هذه الأحاديث لو كانت مُطلَقة


1- الحسني الموضوعات في الآثار والأخبار، صص17٠- 173.

ص: 72

لكلِّ ظرف وزمان، لأفضى إلى اتّكاء الفسّاق والفجّار على البكاء على الحسين (ع) وتركِ الفرائض والأحكام، من الصلاة والصيام وغير ذلك.

الجواب:

١- روايات البكاء على الحسين (ع) متواترة

إنَّ نظرة عابرة لمَن عرف بفنون علم الحديث، يجد أنَّ هذه الأحاديث مشتملة على صحاح وحسان، بل تجاوزت حدّ التواتر، فقلّما يوجد موضوع وردت فيه الروايات بالحثِّ والترغيب إليه كموضوع البكاء وإظهار الحزن على الحسين (ع) وذكر مصائبه وإنشاد الشعر فيه، وإليك جملة منها:

أ) ما رواه أحمد بن محمد البرقي، بسندٍ صحيح عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن بكر بن محمد، عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (ع) قال: «مَن ذكرنا عنده، ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر» (1).

ب) ما رواه الصدوق بسندٍ صحيح عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن إسحاق بن سعيد عن بكر بن محمد الأزدي، عن أبي عبد الله (ع) قال: «تجلسون وتتحدّثون؟ ! قال، قلت: جُعلت فداك، نعم، قال: إنَّ تلك المجالس أُحبّها، فأحيوا أمرنا، إنّه مَن ذكرنا وذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذبابة غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر» (2).

ج) صحيحة محمد بن مسلم، التي رواها علي بن إبراهيم، عن أبيه


1- وسائل الشيعة، ج 14، ص5٠1.
2- ثواب الاعمال، الصدوق، ص17٨.

ص: 73

إبراهيم بن هاشم، عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمدبن مسلم، عن أبي جعفر (ع) قال: «كان علي بن الحسين (ع) يقول: أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي (عليهم السلام) دمعة، حتى تسيل على خدِّه؛ بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيما مؤمن دمعت عيناه دمعة حتى تسيل على خدّه؛ لأذى مسّنا من عدوّنا في الدنيا، بوّأه الله مبوء صدق في الجنة، وأيما مؤمن مسَّه أذى فينا، فدمعت عيناه حتى تسيل دمعة على خدّيه، من مضاضة ما أوذي فينا؛ صرف الله عن وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار» (1).

د) ما رواه الصدوق عن محمد بن علي ما جيلويه (2)عن علي بن إبراهيم بن هاشم (صاحب التفسير المشهور) ، عن أبيه إبراهيم بن هاشم (الثقة أيضاً) ، عن الريان بن شبيب (وهو ثقة أيضاً) ، عن الرضا (ع) ، أنَّه قال: «يا ابن شبيب، إن كنت باكياً لشيءٍ فابك للحسين بن علي (ع) ، فإنَّه ذُبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيه. . . ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله- إلى أن قال (ع) : - يا ابن شبيب، إن بكيت على الحسين (ع) حتى تسيل دموعك على خدّيك، غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً. يا ابن شبيب، إن سرَّك أن تلقى الله عز وجل ولا ذنب عليك فزُر الحسين (ع) ، يا ابن شبيب، إن سرّك أن تسكن الغرف المبنية بالجنّة مع النبي وآله (عليهم السلام) ، فالعَنْ قَتَلَة الحسين (ع) . . . .


1- تفسير القمي، ج2، ص2٩1.
2- وثقه عدَّة من متأخري الرجاليين، وهو من الأجلاء.

ص: 74

يا ابن شبيب، إنْ سرَّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمَن استشهد مع الحسين (ع) فقل متى ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. يا ابن شبيب، إن سرَّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان، فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنَّ رجلاً أحبَّ حجراً لحشره الله معه يوم القيامة» (1).

ونحو ذلك من الروايات التي ذكرها صاحب الوسائل في أبواب المزار، التي تصل إلى أكثر من أربعين باباً في الزيارات والبكاء على الحسين (ع) ، وكذا ذكرها أيضاً صاحب البحار (2).

وعلى ضوء هذا، فالروايات بهذا المضمون تصل إلى حدّ التواتر، فالقول بأنّها مجعولة غير صحيح.

٢- الاستبعاد لا يصلح للدليلية

إنَّ مجرّد الاستبعاد لا يصلح أن يكون دليلاً؛ فاستبعاد ذلك الأجر للباكي على الحسين (ع) دعوى بلا دليل.

٣- وفرة الثواب لا يختصّ بالبكاء على الحسين (ع)

إنَّ وفرة الثواب لا يختصّ بالبكاء على الحسين (ع) ، بل يعمّ الكثير من الأعمال الضئيلة في الظاهر التي تتمتَّع بأجرٍ عظيم في الدين؛ فمثلاً البكاء من خشية الله عن صدق وإخلاص يجني الآثار العظيمة، كما تشير إلى ذلك الروايات المتضافرة، فعن أبي جعفر (ع) قال: «كل عين باكية يوم القيامة غير ثلاث: عين سهرت في سبيل الله، وعين فاضت من خشية الله، وعين غضّت عن محارم الله» (3).


1- الوسائل الشيعة، ج14، ص 5٠3.
2- بحار الأنوار، ج٩7.
3- الكافي، الكليني، ج2، ص٨٠.

ص: 75

وعن أبي عبد الله (ع) قال: «ما من عين إلاّ وهي باكية يوم القيامة، إلاّ عيناً بكت من خوف الله، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله عز وجل إلاّ حرَّم الله عز وجل سائر جسده على النار، ولا فاضت على خدّه فرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة، وما من شيء إلاّ وله كيل ووزن، إلاّ الدمعة، فإنَّ الله عز وجل يطفئ باليسير منها البحار من النار، فلو أنَّ عبداً بكى في أمّة لرحم الله عز وجل تلك الأُمّة ببكاء ذلك العبد» (1). وغير ذلك من العشرات بل المئات من الروايات التي تشاركها في المضمون ذاته. وإذا كان الأمر كذلك، فلمَ الاستغراب من الأجر على البكاء على أبي عبد الله الحسين (ع) ؟ ! !

فهل يصح ردّ هذه الروايات أيضاً؟ ! فإن كان لكم ردود على تلك الروايات، فلدينا ما نقوله عن ثواب البكاء وإقامة المأتم.

4- قيمة العمل لا تقاس بحجمه المادّي

يظنّ بعضهم أنَّ دمعةً واحدة ليست بشيء. فأحياناً يكون حجم العمل صغيراً، لكن له قيمة كبيرة وشأن عظيم. فمثلاً: الصلاة التي هي أهمّ الواجبات، ليست إلاّ قياماً وقعوداً وعدّة من أذكارٍ وسُور وأدعية، وكذا الذنب الذي ارتكبه إبليس، لم يكن إلاّ معصية لله في سجدةٍ واحدة؛ إذ لم يلحظ حجم العمل؛ فما يعطي العمل قيمته إنّما هي روحه وحقيقته والآثار المترتّبة عليه.

فانَّنا إذا نظرنا إلى الدمعة التي تُسكَب بإخلاص في مأتم سيد الشهداء من زوايا مختلفة، وبحثناها من حيثيّات متعدّدة، لوجدنا أنَّها ليست بالأمر


1- الكافي، ج 2، ص44٨.

ص: 76

الهيّن؛ فهناك عالم من الحبّ والعشق وراء هذه الدمعة، يعجز الحديث عن بيانه مهما طال؛ حيث تنمّ هذه الدمعة عن عالم من الفهم والاستيعاب خلفها، يعجز أحياناً كل الناس عن خلقها، فيترتَّب عالم من الآثار والبركات عليها لا يساويها شيء في الأثر والبركة، فهي دمعة، لكنّها تربط الإنسان بالأنبياء والأولياء والصلحاء.

5- البكاء على الحسين (ع) يلتقي مع التوبة والشفاعة في عدم الجرأة على الذنوب

من الواضح أنَّ الله تعالى فتح باب التوبة والشفاعة للمؤمنين الى يوم القيامة، ومع ذلك لم يقل أحد أنّهما يؤدّيان إلى جرأة المُذنب وتماديه في معصيته، فالتوبة توجب محو الذنوب، لكن من دون أن تؤدّي التوبة إلى الإغراء في الوقوع في المعاصي، بل يكون باب التوبة مفتوحاً حتى تبلع النفس التراقي، من دون استلزامها للإغراء.

6- إن البكاء مقتضي وليس علة تامة

إنَّ الثواب المترتّب على البكاء على الحسين (ع) إنّما هو على نحو الاقتضاء لا على نحو العلّة التامة، بمعنى أنَّ ذلك الثواب يُعطى إلى الباكي على الحسين (ع) بشرط أن لا يوجد مانع يمنع من تأثير الدمعة أو يلغي أثرها.

ويمكن تقريب ذلك بمثال: كالإنسان الذي يذهب إلى الطبيب ويصف له دواءً رافعاً للمرض المعيَّن، فمن الواضح أنَّ ذلك الدواء يمكن أن يرفع المرض، لكن بشرط أن لايوجد مانع عن تأثيره، كتناول أدوية مضادة لتأثير الأول، أو التعرّض لمسبّبات جديدة تزيد من آثار المرض، وهكذا. . .

ص: 77

وهذا المعنى يشير إليه الرسول الأكرم (ص) حينما قال: «مَن قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومَن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومَن قال لا إله إلاّ الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومَن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش: إنّ شجرنا في الجنة لكثير! ! قال: نعم، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك إنَّ الله يقول «يا أيُّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم» (1). فهذه الآثار تترتَّب ما لم يأتِ مانع فيمنعها أو رافع يرفعها.

٧- الثواب من الله تعالى من باب التفضّل

إنَّ ثواب الله تعالى لعباده على أعمالهم من باب التفضّل، كالجوائز التي تُعطى أحياناً لأعمالٍ بسيطة، فلا يجوز لنا أن نستبعد ثواباً عظيماً على عمل بسيط؛ لأنَّه ليس مقابل ذلك العمل، وإنَّما هو من باب التفضّل منه تعالى، وهو مالك لكل شيء.

٨- مقدار الثواب على حسب درجة الاعتقاد

أجيب عن هذه الروايات التي تعطي الأجر الوافر على البكاء على الحسين (ع) بأنَّها مقيدة، بمعنى أنَّ مقدار الثواب في البكاء على

الحسين (ع) يكون على حسب درجة الاعتقاد والإيمان. ويتَّضح هذا الجواب بعد بيان مقدّمة مدى بيان العلاقة بين العمل والثواب المترتّب على ذلك العمل.


1- بحار الأنوار، ج٨، ص1٨7.

ص: 78

مقدمة: العلاقة بين العمل والأجر والثواب

من الواضح أنَّ الاعتقاد أو الإيمان على درجات، ففي الحديث عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد الله (ع) «يا عبد العزيز، إنَّ الإيمان عشر درجات، بمنزلة السلّم، يُصعَد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشر، فلا تُسقط مَن هو دونك فيُسقطك مَن هو فوقك، وإذا رأيت مَن هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنَّ مَن كسر مؤمناً فعليه جبره» (1).

و عن يحيى بن أبان، عن شهاب، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق، لم يَلُم أحدٌ أحداً، فقلت: أصلحك الله، فكيف ذاك؟ ! فقال: إنَّ الله تبارك وتعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزءاً، ثُمَّ جعل الأجزاء أعشاراً، فجعل الجزء عشرة أعشار، ثُمَّ قسَّمه بين الخلق، فجعل في رجل عُشر جزء وفي آخر عشري جزء، حتى بلغ به جزءاً تاماً وفي آخر جزءاً وعشر جزء، وآخر جزءاً وعشرَي جزء، وآخر جزءاً وثلاثة أعشار جزء، حتى بلغ به جزئين تامين، ثُمَّ بحساب ذلك حتى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزءاً، فمَن لم يجعل فيه إلاّ عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين، وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار، وكذلك مَن تمَّ له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزأين؛ ولو علم الناس أنَّ الله عز وجل خلق هذا الخلق على هذا لم يَلُم أحدٌ أحداً» (2).


1- الكافي، ج 2، صص 44 و 45.
2- المصدر السابق.

ص: 79

وعلى أساس الدرجات الإيمانية الاعتقادية يختلف العطاء الإلهي والأجر والثواب، وإن كان العمل بحسب الظاهر واحداً. ومن الشواهد التي تشير إلى هذه الحقيقة:

1- الروايات الواردة في باب الصلاة أو باب الصوم أو الحج. فالبعض يصوم وليس له من صومه إلاّ الجوع والعطش، كما ورد عن رسول الله (ص) قوله: «كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش» (1)، وبعض يصوم وأجره لا يعرفه إلاّ الله تعالى، وإن كان الصوم بحسب الظاهر واحداً.

2- قراءة القرآن. فالقراءة بحسب الظاهر واحدة، إلاَّ أنَّ البعض يقرأ القرآن فتكون بيوتهم كمصابيح زاهرة لأهل السماء، وبعض آخر يقرأ القرآن والقرآن يلعنه! فعن رسول الله (ص) قال: «كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه» (2).

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في تمايز العطاء والثواب، فتارة يقول تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (الأنعام: 16٠) ، وتارة يقول (من جاء بالحسنة فله سبعمائة حسنة) ، كما في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقره: 261) .

ففي هذه الآية الأُولى نجد أنّه تعالى يعطي للحسنة أوَّلاً أجر بقدر عشر حسنات، وفي الآية الثانية يرتقي بالثواب إلى سبعمائة، ثُمَّ يضاعف ذلك: وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ، ثُمَّ يقول: وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ، والوسعة الإلهية


1- بحار الأنوار، ج67، ص2٨3.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 4، ص 25٠.

ص: 80

لا حدّ لها، وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (ابراهيم: 34 .

كل ذلك إنّما هو قائم على أساس الاستحقاق، فبعض يستحقّ عشرة، ومنهم يستحقّ سبعمائة، ومنهم مَن يستحقّ أكثر، على أساس الاعتقاد والمعرفة.

قال العلامة الطباطبائي: «ومن المعلوم أنَّ العمل- أيّ نوع كان- هو من رشحات العلم، يترشّح من اعتقاد قلبي يناسبه» (1).

وهذه حقيقة يؤكّدها الله تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران: 1٠2 ، وهي واضحة الدلالة على أن التقوى على مراتب ودرجات متعدّدة، وإلاّ لو كانت للتقوى درجة واحدة؛ فلا معنى لأنْ تقول الآية: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ، وهذة مفردة مهمّة سجلها العلامة الطباطبائي في تفسيره بقوله: «فأنبأ أنَّ للتقوى، الذي هو الانتهاء عمّا نهى الله عنه والايتمار بما أمر الله به؛ مرتبة هي حق التقوى. ويُعلَم بذلك أنَّ هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقّة، فللتقوى-التي هو بوجه العمل الصالح- مراتب ودرجات بعضها فوق بعض. وقال أيضا: أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ، فبيَّن أنَّ العمل مطلقاً سواء كان صالحاً أو طالحاً درجاتٌ ومراتب، والدليل على أنَّ المراد بها درجات العمل قوله: وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ونظير الآية قوله تعالى:


1- تفسير الميزان، ج 3، صص 64 - 66.

ص: 81

وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ، وقوله تعالى: وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفيها ما يدلّ على أنَّ درجات الجنة ودركات النار بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها» (1).

وعلى ضوء هذا. . نفهم السرّ في تمايز الناس يوم القيامة في درجاتهم في الجنة، مع أنَّ عملهم في دار الدنيا واحد بحسب الظاهر، فصلاة الليل التي يصلّيها الرسول الأعظم (ص) توصله إلى المقام المحمود، أمّا غيره (ص) من عامة الناس فهو، وإنْ كان يصلّي صلاة الليل، إلاّ أنّها لا توصله إلى ما وصل إليه الرسول الأعظم (ص) ؛ وما ذلك إلاّ لأجل التفاوت في الدرجات الإيمانية الاعتقادية، فالعمل وإن كان بحسب الظاهر واحداً، إلاّ أنَّ التمايز على أساس الإيمان والاعتقاد.

وإذا اتّضحت هذه المقدّمة، نقول: إنَّ الأجر والثواب على البكاء يتناسب طردياً مع درجة الاعتقاد، فالبعض يوجب له الثواب الجزيل ويدخله الجنة، والبعض الآخر له مقدار من الثواب وهكذا. وممّا يشهد لهذه الحقيقة هو الروايات الواردة في زيارة الإمام الحسين (ع) ؛ فبعض الروايات تقول: (مَن زار قبر الحسين كتب الله له حجّة مبرورة) ، وبعضها تقول: (تعدل عمرة) ، وبعضها: (سبعين حجة) ، وبعضها تقول: (يزيد في الرزق ويمدّ في العمرُ مدافع السوء) ، وأُخرى: (كأنَّ الزائر يصافح رسول الله (ص) ، وأَُخرى تقول: (كان كمَن زار الله فوق عرشه) ، أو (غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر) . . . (2)؛ وما ذلك إلاّ لاختلاف درجات الإيمان والاعتقاد. ولا يخفى أنَّ معرفة الناس للإمام، ودرجة إيمانهم واعتقادهم


1- تفسير الميزان، ج 3، صص 64 - 66.
2- انظر: وسائل الشيعة، ج 14، ص 4٠٩.

ص: 82

به (ع) متفاوتة ومختلفة.

وإذا تبيّن ذلك، يتَّضح أنَّ مقدار الثواب المُعطى للباكي على الحسين (ع) إنّما على أساس الاعتقاد والمعرفة بالإمام الحسين (ع) .

ص: 83

خلاصة الفصل الأوّل

- الشُبهة الأُولى: الشعائر الحسينية بدعة.

جواب الشبهة:

بعد المراجعة الدقيقة لمعنى الشعائر في كلمات اللغويين والأعلام من فقهاء الفريقين، يتَّضح أنَّ الشعيرة هي العلامة، فكلُّ ما صدق عليه عُرفاً أنَّه مَعْلَم أو علامة لله تعالى، يُعدّ من شعائر الله تعالى، ويدخل تحت قوله تعالى وَ مَنْ يُعَظِّمْ. . . كما هو الحال في البيع في قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا ، حيث ترك الشارع المقدّس تعيين أفراد ومصاديق حقيقة وماهية البيع إلى العرف.

- الشبهة الثانية: لو كان معنى الشعائر المعنى العرفي، للَزم تبدّل دين الله

الجواب:

1- اذا لم يرد دليل على تصرّف الشارع في معنى أو ماهية معيّنة، فإنَّ القاعدة الأوَّلية أنَّ ذلك المعنى يبقى على معناه اللغوي، كما في لفظ البيع في قوله تعالى أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ، ومن هذا القبيل لفظ الشعائر؛ فإنَّه لم يرد دليل على تصرّف الشارع فيه، وعليه فمقتضى القاعدة الأوَّلية أنْ يبقى على معناه اللغوي، فالشارع وإنْ تصرَّف في بعض الموارد، مثل مناسك الحج، لكنّ الموارد التي لم يتصرّف فيها الشارع ولم يتَّخذها بخصوصها شعيرة

ص: 84

وعلامة، فالمرجع فيها إلى العُرف، فما اتَّخذها عُرف المسلمين شعيرة وعلامة على معنى من المعاني الإسلامية، تدخل تحت عموم قوله تعالى ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ .

2- لو اختلفت الأعراف في كيفية ممارسة الشعائر ومصاديقها التي توجب التعظيم والتجليل، أو التي توجب وهن المذهب، أو ما يُخاف به على النفس أو البدن، فالضابطة هي الرجوع الى العُرف الغالب في البلد، واذا لم تكن الغلبة مع واحد من الإعراف المتعارضة، فلكلّ شخصٍ الرجوع إلى عُرف بلده؛ لأنَّ عنوان التعظيم والإهانة والهَتك من العناوين العُرفية.

- الشبهة الثالثة: يجب الفرح بشهادة الحسين (ع) لا البكاء والجزع

الجواب: 1. ما سيأتي في الإجابة على الشُبهة اللاحقة من أمر النبي (ص) ، بل وسيرته العملية، على البكاء على الشهداء.

2- الروايات المتضافرة التي أمرت بالبكاء على الحسين (ع) ، بل عدَّته أهمّ العبادات، مضافاً الى ما جاء في القرآن الكريم في بكاء النبي يعقوب وجزعه على يوسف، التي تدلّ على جواز البكاء وإلحاق الضرر والجزع على سيد الشهداء (ع) بالأولوية من جهات متعدّدة، منها:

أ- عِظم منزلة ومقام سيد الشهداء على نبي الله يوسف (ع) .

ب- عَظَمَة مصيبة سيد الشهداء بالمقارنة مع مصيبة يوسف (ع) ؛ اذ إنَّ مصيبة الحسين (ع) لا يمكن قياسها مع ما جرى ليوسف (ع) .

ج - ورد في مصادر أهل السُنَّة جملة من الشواهد على ذلك، منها بكاء النبي (ص) على الحسين (ع) و بكاء السماء دماً حزناً على الحسين (ع) وبكاء

ص: 85

الأرض دماً عبيطاً على الحسين (ع) ، وكسوف الشمس واضطراب الكواكب بعد عاشوراء، وبكاء ملائكة السماء على الحسين، ووقوع الحوادث الغريبة بعد واقعة عاشوراء، ونوح الجنّ على الحسين (ع) ، وغير ذلك من المآتم.

- الشبهة الرابعة: البكاء على الحسين بِدعة؛ لأنَّ الميّت يُعذَّب ببكاء أهله

الجواب:

1- إنَّ هذه الأحاديث معارَضة بمثلها، حيث روي أنَّ هذه الأحاديث وردت في موت يهودي.

2- إنَّ هذه الأحاديث، على فرض صدورها عن النبي (ص) ، فهي تتعارض مع قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى . (الأنعام: 164

3- إنَّ ذلك يتناقض مع تقرير النبي (ص) لعمل نساء الأنصار في البكاء على موتاهن، فمن الغريب أنَّه (ص) ينهى لساناً ويبكي عيناً ويحزن قلباً.

4- إنَّ ذلك يتناقض مع فعل النبي (ص) وبكائه في موارد كثيرة.

- الشبهة الخامسة: روايات البكاء يرفضها العقل للأجر، لعدم معقولية ثوابها

الجواب:

1- روايات البكاء على الحسين (ع) متواترة.

2- الاستبعاد لا يصلح للدليلية.

3- وفرة الثواب لا يختصّ بالبكاء على الحسين (ع) ، بل يعمّ الكثير من الأعمال الضئيلة في الظاهر التي تتمتَّع بأجر عظيم، كالبكاء من خشية الله.

ص: 86

4- قيمة العمل لا تُقاس بحجمه المادّي

5- البكاء على الحسين لا يُوجب الجُرأة على الذنوب، كما في التوبة والشفاعة.

6- إنَّ البكاء مقتضي وليس علّة تامة، بمعنى أنَّ ذلك الثواب يُعطى الى الباكي على الحسين (ع) بشرط أن لا يُوجَد مانع يمنع من تأثير الدمعة أو يلغي أثرها.

7- الثواب من الله تعالى من باب التفضّل.

ص: 87

الفصل الثاني: في أجوبة الشبهات المتعلّقة بشعيرة اللّطم

اشارة

الشبهة الأُولى: اللطم لا أصل له في الشريعة.

الشبهة الثانية: اللطم لايدخل تحت عنوان العزاء عرفاً

الشبهة الثالثة: حرمة اللطم على الميت

الشبهة الرابعة: مواكب اللطم بدعة

الشبهة الخامسه: روّاد المواكب لا يلتزمون بأحكام الشريعة

ص: 88

ص: 89

الشبهة الاُولى: اللطم لا أصل له في الشريعة

اشارة

تفصيل الشبهة:

يقول البعض إنَّ الشيعة ابتكروا أشكالاً متعدّدة في إقامة المجالس الحسينية، من قبيل اللطم على الصدور، وضرب الصدور. . . وهي حرام؛ لِما فيها من إلقاء النفس في التَهلُكة والضَرر وغير ذلك.

واستُدلَّ على حرمة اللطم بأصنافٍ من الأدلّة:

الصنف الأوّل: إنَّ اللطم حرام.

الصنف الثاني: اللطم إضرار وإيذاء للنفس.

الصنف الثالث: استقلال العقل بقبح ظُلم النفس أو إيذائها.

الصنف الرابع: مادلَّ على حرمة الوهن والسُخرية بالمذهب.

الصنف الأول: إن اللطم حرام

اشارة

قالوا: إنَّ اللطم حرام لأنَّه بدعة

الجواب

نقول: الذي عليه أهل التحقيق والنظر أنّ البدعة تتحقَّق بما يلي:

أ- إدخال ما ليس من الدين في الدين، من قبيل الافتراء على الله وعلى رسوله والأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) .

ص: 90

ب- نفي أو إنكار أو جحود ما ثبت بالأدلّة الصحيحة أنّه من ديننا الذي يرتضيه الله ورسوله وآله الأطهار (عليهم السلام) ، عقائدياً كان أو فقهياً، أو سلوكاً أخلاقياً وأدبياً.

ومن الواضح أنَّ اللطم ليس مصداقاً لأيٍّ من المعنيَين المذكورين؛ إذ إنّ القول بجواز اللطم وإباحته لا يستلزم إضافة شيء إلى دين الله، ممّا هو ليس منه، ولا يستلزم كذلك نفي أو إنكار أو جحود أيّ شيء من دين الله سبحانه وتعالى؛ إذ غاية الأمر أنَّ اللطم مَظهَر من مظاهر الحزن والجزع على سيد الشهداء (ع) الذين حثَّت عليهما سُنّة المعصومين وأوصت بهما.

بيان ذلك: لا يخفى أنَّ الحزن والجزع على مراتب متعدّدة، ويختلف التعبير في مراتب الحزن والجزع من إنسان لآخر، بحسب انفعاله وتأثّره؛ فقد يكون التعبير عن الحزن بالسكوت والانطواء، أو بالتحسّر والتوجّع، أو بالإكثار من الاسترجاع والحوقلة، أو الإعراض عن الملذّات والمسرّات، أو بالبكاء والنحيب، أو بالصراخ والعويل، أو بلطمِ الوجه ولدم الصدر، أو بضرب الرأس أو الجسد باليد، أو بضرب نفسه بالأرض، أو بحثِّ التراب على الرأس، أو بهجر النوم والفراش، أو بأي فعل آخر يكون بحسب العُرف أو بحسب ذوق أهل المصاب، وبحسب ما يستشعره صاحب المصيبة بأنّه قد فعل شيئاً يُعبِّر فيه عن عظم مصابه ورزيَّته.

ومن الواضح أنَّ اللطم يمثّل أحد مراتب التعبير عن الحزن والجزع على الحسين (ع) ، وعلى هذا الأساس لا ينطبق تعريف البدعة على اللطم.

وعلى أقل تقدير، فإنَّ اللطم يدخل ضمن دائرة المباحات، كما هو مقتضى التمسّك بالأصل العملي، وهو أصالة البراءة (كل شيءٍ لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه) ؛ لعدم وجود الدليل على حُرمته كما ستعرف.

ص: 91

الصنف الثاني: اللطم إضرار وإيذاء للنفس

اشارة

كما في قوله (ص) : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (1)، وأدلّة حرمة إيذاء النفس وإلقائها في التهلكة، كما في قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ . (البقره: 1٩5 وكذلك استُدلّ على الحرمة بأدلّة العسر والحرج، مضافاً إلى ما عُلم من أنَّ الشريعة الإسلامية شريعة سمحاء، كما قال رسول الله (ص) : «أتيتكم بالشريعة السمحة السهلة» .

أي: أنَّ الدليل الذي استدلّوا به على الحرمة هو تلك الأدلّة التي تحرّم الضرر وإلقاء النفس بالتهلكة أو العسر.

الجواب
١- ليس في اللطم ضرر معتدّ به

ليس في اللطم ضرر معتدّ به عند الناس، نعم يمكن أن تكون فيها مشقّة، لكن المشقة لا تسوّغ عدم جواز الفعل أو حرمته. وممّا يشهد لذلك أنَّنا نجد كثير من العبادات والمستحبات فيها مشقّة وتعب، من دون أن يُحكَم بحُرمتها.

والتجربة خير شاهد على عدم وجود الضرر في اللطم، فإنَّنا في كل سنة نرى أمام ناظرينا هذه التجمّعات التي تمارس اللطم، ولم نرَ أحداً مات أو لحق به ضرر منها، كما لم نسمع من الماضين مَن حدَّث عن ذلك، كما ذكر ذلك الشيخ كاشف الغطاء، في (المواكب الحسينية) ، حيث قال: «قد بلغنا من العمر ما يناهز الستين، وفي كل سنة تُقام نصب أعيننا. . . وما رأينا شخصاً مات أو تضرر، ولا سمعنا به في الغابرين» .


1- التهذيب، ج 7، ص 164.

ص: 92

٢- الضرر المسوّغ للحُرمة هو الضرر الكبير

لو فرضنا أنَّ في اللطم ضرر أو عسر، لكنَّ صرف الضرر أو العسر لايمكنه أن يكون مبرّراً للحرمة، إنّما الضرر الكبير الذي لا يقبل الجبران، أو ما كان فيه هلاك النفس. وقد أشار إلى ذلك المحقّق النراقي (رحمة الله) بقوله: «الضابط في التحريم: ما يحصل به الضرر، والضرر الموجب للتحريم يعمّ الهلاك وفساد المزاج والعقل والقوة، وحصول المرض أو الضرر في عضو» (1).

وقال السيد الخوئي (رحمة الله) : «اللطم، وإن كان من الشديد، حزناً على الحسين (ع) من الشعائر المستحبّة؛ لدخوله تحت عنوان الجزع الذي دلَّت النصوص المُعتبرة على رجحانه، ولو أدّى بعض الأحيان إلى الإدماء واسوداد الصدر، ولا دليل على حرمة كل إضرار بالجسد، ما لم يصل إلى حدّ الجناية على النفس، بحيث يُعدّ ظلماً لها، كما أنَّ كون طريقة العزاء حضارية أو لا، ليس مناطاً للحرمة والإباحة، ولا قيمة له في مقام الاستدلال» (2).

إذن، حتى لو فرضنا الضرر في اللطم، إلاّ أنَّ الحرام منه هو الضرر الكبير الذي فيه هلاك النفس، فليس كل ضرر حرام. ومن هنا حكم جملة من الفقهاء على صحّة بعض الأعمال العبادية التي فيها ضرر، فيما إذا كان الضرر غير مُؤدّ إلى الموت أو سرعته، أو إلى مرض مزمن مثلاً، وشبه ذلك من الأضرار التي يُعلَم من الخارج عدم جواز تحمّلها.

فهناك العديد من الموارد التي تكون جائزة مع ما يلزمها من الضرر، من قبيل ثقب أُذني الغلام، الذي اتّفق عليه النص والفتوى (3)، وثقب آذان النساء، والحجامة والفصد، ونحو ذلك.


1- مستند الشيعة، ج15، ص17.
2- السيد الخوئي، صراط النجاة (للشيخ التبريزي) ، ج3، ص443.
3- انظر: الجواهر، ج1، ص263؛ الكافي، ج6، ص4.

ص: 93

وعليه، لو فرضنا أنَّ اللطم فيه ضرر، لكنَّ هذا لا يسوّغ الحُكم بحُرمتهما وعدم صحّتهما لمجرّد هذا الضرر أو العُسر اليسير.

٣- الضرر الموجب للحرمة هو الضرر الشخصي لا النوعي

لو فرضنا أنَّ في اللطم ضرر على النفس، لكنَّ حرمة ذلك مختص بمَن يعتقد أنَّ قيامه بهذا العمل يلحق ضرراً على نفسه، فيكون اللطم حراماً على ذلك الشخص فقط؛ وذلك لأنَّ المرفوع بقاعدة الضرر في العبادات هو الضرر الشخصي، لا النوعي الغالبي، كما هو واضح لمَن تتبَّع كلمات الفقهاء في الموارد المتفرّقة، بمعنى أنَّ الحكم يرتفع عن زيدٍ مثلاً، إذا لزم منه الضرر على شخص زيد، دون الرفع الكُِلّي عن جميع الأشخاص؛ وذلك لما ثبت في محلّه ومقتضى أنَّ الأحكام الشرعية انحلالية، وأنّها من قبيل القضايا الحقيقية، وأنَّ فعليَّة الحكم تابعة لوجود موضوعه، تبعية المعلول لعلَّته، وإلاّ يلزم الخلف والمناقضة.

4- النقض بتجويز الرياضات العنيفة

إنَّنا نستغرب من الّذين يذهبون إلى حرمة اللطم حُزناً وجزعاً على الحسين (ع) بذريعة إيذاء النفس، في الوقت الذي يُجيزون ممارسة الرياضات العنيفة، مثل المصارعة والجودو والكراتيه والكونكفو، وسباق الخيل والدّراجات البخارية والسيارات والزوارق السريعة، والتزلّج في المناطق الخطرة مع القفز من الارتفاعات العالية، إلى غير ذلك من فنون رياضات هذا العصر وغيرها، مع ما تسبِّبه من الآلام الشديدة والجراحات والرضوض والكسور غير البالغة.

ص: 94

5- ذهاب المشهور إلى استحباب اللطم

إنَّ كثيراً من العلماء والمراجع، من السلف إلى المعاصرين، أقرّوا وأمضوا هذه الشعائر، بما فيها اللطم، وحكموا بجوازها واستحبابها، كالشيخ الحر العاملي، والشيخ مرتضى الأنصاري، والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، والشيخ جعفر الشوشتري، والحاج ملا علي الكني، والشيخ فضل الله النوري، والآخوند كاظم الخراساني، والميرزا النائيني، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، والشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، وآخرين (1).

ونذكر نموذجاً لذلك، وهو مقطع من فتوى الميرزا النائيني في جواز اللطم، حيث قال: «. . . لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حدّ الإحمرار والاسوداد، بل يقوى جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور، إلى الحدّ المذكور، بل وإنْ تأدّى كلّ من اللطم والضرب إلى خروج دمٍ يسير على الأقوى» (2).

الصنف الثالث: استقلال العقل بقبح ظُلم النفس أو إيذائها

الجواب

1- إنَّ العقل لا يُدرك ملاكات الأحكام، فلا يمكن أن يحكم بحرمة شيء أو وجوبه، بمعنى استحقاق فاعله أو تاركه الجزاء الأُخروي؛ لِما بُيّن في محلّه أنّ العقل لا يدرك ملاكات الأحكام.

2- لو تأمّلنا في النظر في أحكام العقل، فلا يوجد فيها سوى قبح ظلم النفس، ومن الواضح أنَّ قبح ظلم


1- انظر: فتاوى علماء الدين حول الشعائر الحسينية، صص21- 24.
2- المصدر السابق.

ص: 95

النفس، لو سُلّم كونه دليلاً على الحرمة الشرعية، فهو لا يشمل جميع ما يفعله الإنسان بنفسه من أنواع الأذى والإضرار، ما لم يكن إتلافاً لها أو موجباً لفقد طرف أو حاسّة.

أمّا استهجان بعض أهل الأذواق للشعائر الحسينية، أو لبعض الممارسات فيها، بقولهم: إنَّ هذا الفعل غير معقول، وإنه فعل همجي وحشي جنوني، وغير ذلك من هذه الألفاظ، فالجواب عليه: إنَّ الأذواق لا تصلح دليلاً على الحكم الشرعي، ولذا لم يعتني الفقهاء بها، إلاّ أنْ يقوم الدليل والبرهان السليم الغير متَّكئ على الهوى والمزاج والذوق.

موارد إيذاء أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم في سبيل الله
اشارة

فيما يلي نضع أيدينا على ممارسات وأعمال كثيرة كان يقوم بها أهل البيت (عليهم السلام) ، مع ما فيها من الضرر والإيذاء لنفسهم، التي تكشف بوضوح جواز الإضرار أو الإيذاء للنفس، فيما إذا كان لغرضٍ راجح.

ومن هذه الموارد:

١- تورّم قدم النبي (ص) نتيجة القيام للعبادة

كما ورد عن الإمام السجاد بقوله: «كان رسول الله يقف للصلاة حتى تورم قدماه، ويظمأ حتى يعصب فوه، فأنزل الله طه * ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (طه: 1- 2 . (1)

ونحوها من الأخبار صريحة الدلالة على القيام المُِؤذي الموجب للورم. وأنّه (ص) إنّما يفعل ذلك قاصداً إتعاب نفسه وإيذائها في العبادة.


1- انظر: بحار الأنوار، ج 43، ص٨2.

ص: 96

٢- تورّم قدمَي السجاد (ع)

لا يخفى أنّ الإمامِ السجاد، ذي الثَّفنات، دائم الحزن، نحيف البدن، وقد كلّف نفسه الجهد بالعبادة كما ورد عن ولده الباقر (ع) ، وبالاستدامة على العبادة المُجهدة (اصفرّ لونه [من السهر]، ورمصت عيناه من السهر، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام للصلاة) (1)، وقد رآه أبو حمزة في فناء الكعبة يصلّي، فأطال الصلاة حتى جعل يتوكّأ. . . ومرة على رجله اليسرى. . . (2).

ولا يخفى ما في هذه الأعمال، كالسهر وتورّم القدمين والساقين، من إيذاء للنفس والبدن.

٣- تورّم قدمَي الزهراء (عليهاالسلام) وإضرارها من العبادة

روى الشيخ المجلسي في البحار، عن الحسن (ع) أنَّه قال: «ما كان في الدنيا أعبد من فاطمة3؛ كانت تقوم حتى ورم قدماها» (3). وهذا يكشف لنا بوضوح أنَّ الإمام الحسن (ع) يرى أنَّ العبادة التي تتورّم فيها القدمان من أفضل أفراد العبادة، وأنَّ فاطمة3 كانت تدأب في طول القيام، وأنّ تورّم قدميها ليس باعتباطي.

وجاء في أخبار كثيرة من طرقنا، أنَّ فاطمة3 استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، والمَجل في اليد هو ثخن جلدها بمزاولة الأعمال بالأشياء الصلبة (4).


1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ص 255.
2- انظر: الكافي، ج 2، ص5٨.
3- بحار الأنوار، ج43، ص76.
4- المصدر السابق، ص٨2.

ص: 97

4- إيذاء أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم بالجوع

كما في الرواية المفسّرة لقوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (الانسان: ٩ - 1٠) . حيث إنَّهم: طَوَوا ثلاثة أيّام لم يطعموا سوى الماء، وأنَّ الحسنين (عليهم السلام) : رآهما النبي (ص) - بعد الثلاثة- يرتعشان من شدّة الجوع كالفَرخين، ورأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها (1). ولا يخفى ما في هذا التجويع من إيذاء للنفس.

5- إيذاء النفس بالمشي للحجّ مع تمكّنهم من الركوب

كما ورد عن الأئمة (عليهم السلام) أنَّهم كانوا يحجّون مُشاة حتى تتورَّم أقدامهم، مع تمكّنهم من الركوب، وقد حجَّ الإمام السجاد (ع) ماشياً مع سقمه وضعف بدنه، وذلك ملازم للمشقة وإيذاء نفسه. وحجَّ الحسن (ع) ماشياً خمس وعشرين حجة، والنجائب تقاد خلفه (2)، وكذا الحسين (ع) في رواية (3).

وقد روي عن الإمام السجاد أنَّ الحسن (ع) كان إذا حجّ، حجّ ماشياً، وربّما مشى حافياً (4). وهذا يعني أنَّ المشي كان من دأبه كلّما حج، وليس صدفة، وأنَّ المصادف هو مشيه حافياً. ولا يخفى ما في ذلك من الضرر، وعلى الأقل من كونه يوجب المشقّة.


1- بحار الأنوار، ج35، ص 24٠.
2- المصدر السابق، ج 43، ص3٩٩.
3- انظر: المصدر السابق، ج 44، ص 1٩2.
4- الكافي، ج 1، ص463.

ص: 98

6- إيذاء الإمام السجاد نفسه بالبكاء على أبيه (عليهم السلام)

لا يخفى أنَّ الإمام السجاد (ع) اتّخذ البكاء على أبيه (ع) دأباً، والامتناع من تناول الطعام والشراب حتى يمزجها بدموع عينيه، ويغمى عليه في كل يوم مرة أو مرتين تأثّراً وانفعالاً من مُصيبة أبيه.

وقد بكى النبي يعقوب (ع) على ولده يوسف (ع) حتى ابيضّت عيناه من الحزن، وخافوا عليه من الهلاك، أو أشرف عليه: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (يوسف: ٨5 . فلو كان هذا وذاك حراماً ذاتاً، أو قبيحاً عقلاً، فلا يمكن أن يصدر من الإمام السجاد (ع) ، أو من يعقوب النبي (ع) ، إذ لا يُتصوَّر في حقهما أن يُخالفا الشرع، أو أن يكونا غير قادرين على إدراك قُبح هذا الأمر.

٧- أمر الأئمّة (عليهم السلام) بزيارة الحسين (ع) مع احتمال وجود الضرر أو احتمال الموت

هنالك عدد وافر من النصوص الدالة على جواز التعرّض للأذى في خصوص مراسم إحياء ذكرى الإمام الحسين (ع) ، وهي على طوائف:

منها: ما دلَّ على جواز أن يعرِّض الإنسان نفسه للقتل في سبيل إحياء ذكرى الإمام الحسين (ع) ، من قبيل ما روي عنهم (عليهم السلام) ، من الحثِّ على زيارة الإمام الحسين (ع) ولو مع احتمال الموت غرقاً، فقد ذُكر أنَّه قيل للإمام الصادق (ع) : يا بن رسول الله، إنَّ بيننا وبين قبر جدك الحسين لبحراً، وربّما انكفأت بنا السفينة في البحر، فقال: «لا بأس، فإنّها انكفأت، انكفأت في الجنة» (1).


1- انظر: كامل الزيارات، ص 134.

ص: 99

وفي نص آخر يقول (ع) : «ومَن أتاه بسفينة فكفت بهم سفينتهم، نادى مناد من السماء: طبتم وطابت لكم الجنة» (1).

وفي نص آخر يقول (ع) : «. . . أما تعلم أنّها إذا انكفت بكم نوديتم: ألا طبتم وطابت لكم الجنة؟ !» (2).

وعن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (ع) : ما تقول في مَن زار أباك على خوف؟

قال: «يؤمّنه الله يوم الفزع الأكبر، إلخ. . .» (3).

وعن ابن بكير، عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له: إنّي أنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك، فإذا خرجت فقلبي وحل مشفق حتى أرجع، خوفاً من السلطان، والسُعاة، وأصحاب المسالح.

فقال: «يا ابن بكير، أما تحب أن يراك الله فينا خائفاً؟ ! أما تعلم أنَّه مَن خاف لخوفنا أظلَّه الله في ظلّ عرشه. . . الخ. . .» (4).

بل نجد أنَّهم (عليهم السلام) قد شجّعوا مواليهم على الزيارة، رغم وجود الخوف المستمر، وأنَّ عيون الظَلَمَة ترصد الطرق، وتأخذ كل مَن يحاول الوصول إلى كربلاء، ليواجه الأذى والتنكيل.

وقد ذكر البعض أنَّ بعض الشيعة كان يرضى بقطع يده في سبيل أن يحصل على إجازة زيارة كربلاء، وما إلى ذلك؛ لأنَّه أدرك أنَّ الحفاظ على الشعائر أولى من حفظ النفس.


1- انظر: كامل الزيارات، صص 134 و 135.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق، ص 125.
4- المصدر السابق، ص126.

ص: 100

ولا ننسى دعاء الإمام الصادق (ع) وهو يناجي ربّه سبحانه وتعالى في سجوده، ويدعو لتلك الوجوه التي تضرَّرت بحرارة الشمس لأجل زيارة الحسين (ع) ، حيث يقول: «اللّهم. . فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس» (1).

وحاصل ما تقدّم أنّ الضرر الممنوع والمحرّم هو:

أوَّلاً- الضرر الذي ليس له هدف ولا غايةٍ سوى الإضرار بالنفس، كالضرر الناشئ من قطع الإنسان لعضوٍ من أعضائه، من دون منفعة، أو الضرر الذي يكون اعتباطياً وسَرفاً وبطراً من دون وجود غرض عقلائي مُعتدّ به، وغير ذلك.

ثانياً: الضرر الزائد على المطلوب من الضرر في بعض الأُمور الراجحة التي تستلزم مقداراً من الضرر، فيتعمّد الإنسان في إضرار نفسه أكثر مع علمه بذلك.

ومن الواضح أنَّ اللطم حُزناً وجزعاً على أبي عبد الله (ع) ، مع أنّه لا ضرر فيه يُعتدّ به، كما هو ثابت عند أرباب المواكب وأهل الخبرة، ومع ذلك فحتى لو افترضنا وجود الضرر فيه، فإنَّه لا يندرج بأيّ وجه من الوجوه تحت أيّ واحدٍ من هذه الأنواع الثلاثة المُحرَّمة.

الصنف الرابع: مادلَّ على حرمة الوهن والسُخرية بالمذهب

اشارة

قالوا: إنّ اللطم حزناً وجزعاً على سيد الشهداء (ع) حرام؛ لأنّه يؤدّي إلى توهين للمذهب، وكل ما يؤدّي إلى وهن المذهب فهو حرام؛ والسبب في ذلك هو:


1- الكافي، ج4، ص5٨3.

ص: 101

1- أنّ اللطم خرافة.

2- اللطم يُسبِّب استهزاء الآخرين بالشيعة، لأنَّه ظاهرة متخلّفة وهمجيّة.

الجواب:

أمّا القائلين بأنَّ اللطم خرافة، فالجواب يتَّضح بعد بيان معنى الخرافة.

معنى الخرافة: أصل الخرافة في اللغة هي اسم رجل استهوته الجنّ فكان يُحدّث بما رأى، فكذّبوه فقالوا: (حديث خرافةٍ يا أُمّ عمرو) (1)، وأجروه على كل ما يكذّبونه من الأحاديث، وعلى كل ما يستملح ويتعجّب منه. ويروى عن النبي (ص) أنَّه قال: «خرافة حق» (2).

وبهذا يتَّضح أنَّ معنى الخرافة هو كل ما هو غير حقيقي، فلو اعتقدنا بوجود شيءٍ لا وجود له حقيقة فهو اعتقاد خرافي، ولو تحدّثنا عن شيء لاوجود له حقيقة، وأخبرنا عنه أنواعاً من الأخبار ووصفناه بشتّى الأوصاف، فذلك حديث خرافي.

وإذا تبين ذلك، نقول: إنَّ اللطم ليس أمراً خرافياً؛ لأنَّ اللطم أمر واقعي وله أدلّته المعروفة، فإنَّ اللطم على الحسين (ع) يمثّل مظهراً و تعبيراً عمليّ عن ذلك الحزن والجزع، حُزناً وجزعاً على الحسين (ع) ، وهو ما أمرت به النصوص الشريفة الموجودة في الواقع الخارجي.

وما يجدر الالتفات إليه هو أنَّنا لا نقول بأنّ اللطم جزء من الدين، ولم يقل أحد بذلك أبداً، إنَّما نقول: اللطم -كما هو واضح للجميع- وسيلة تُعبّر عن الحزن والجزع اللّذين أمرت بهما شريعة الله ودينه في النصوص


1- انظر: مجمع البحرين، ج 5، صص 43 و 44؛ ومادّة (خرف) في المنجد في اللغة، ص ٩7٩.
2- انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ج2، ص25.

ص: 102

الروائية المتضافرة.

وبهذا يتَّضح أنَّ القول بكون اللطم حزناً وجزعاً على الحسين (ع) ، خرافة غير صحيح، وأنَّه قول مُجانب للصواب.

وأمّا الجواب على القائلين بأنّ اللطم ظاهرة متخلّفة توجب وهن وهتك المذهب؛

لكي يتّضح الجواب بشكل واضح، ينبغي الكلام في مقدّمتين: إحداهما في معنى الوهن والهتك ومنشأهما، والثانية في إعطاء الضابطة في معرفة ما يوجب الوهن والإهانة والهتك.

المقدّمة الأُولى: معنى الوهن والهتك ومنشأهما

الوهن في اللغة هو الضعف، قال ابن منظور: «الوهن: الضعف في العمل والأمر، وكذلك في العظم ونحوه. وفي التنزيل العزيز: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ، جاء في تفسيره: ضعفاً على ضعف، أي لزمها بحملها إيّاه تضعف مرّة بعد مرّة» (1).

أمّا الهتك، فهو كشف الستر، قال ابن منظور: «الهتك: خرق الستر عمّا وراءه، والاسم الهتكة، بالضمّ. والهتيكة: الفضيحة. وفي حديث عائشة: فهتك العرض حتى وقع بالأرض. والهتك: أن تجذب ستراً فتقطعه من موضعه أو تشقّ منه طائفة يرى ما وراءه، ولذلك يقال: هتك الله ستر الفاجر. ورجل مهتوك الستر: متهتكه. وتهتّك أي: افتضح» (2).

ولا يخفى أنّ منشأ الهتك والستر الذي يُدّعى أنّه يلزم من إقامة الشعائر


1- انظر: لسان العرب، ج 13، ص 453، مادَّة (وهن) ؛ الصحاح للجوهري، مادَّة (وهن) .
2- لسان العرب، ج1٠، ص5٠2؛ الصحاح للجوهري، مادة (هتك) .

ص: 103

الحسينية، المتضمّنة للّطم، هو استهزاء الآخرين - سواء كانوا من المذاهب الأُخرى أو من قبل المِلل الأُخرى أو من ابناء نفس المذهب - بهذه الشعائر.

المقدِّمة الثانية: الوهن والهتك من العناوين العُرفية

لا يخفى أنَّ الميزان والمرجع في تعيين مصداق الوهن للمذهب هو العُرف؛ لأنَّ الوهن والهتك من العناوين العُرفية المحضة، وعلى هذا الأساس فإنَّ كل نحو من العزاء إذا صدق عليه في نظر عُرف العقلاء أنَّه ممّا يُوجب وهن المذهب وهتكاً بساحة الشعائر الحسينية، وتحقيراً لنهضة سيد الشهداء المقدّسة، ومؤديا إلى ضعف إيمان المؤمنين، فهو حرام؛ لأنَّه نقض لغرض الشارع المقدّس ومُوهن للمذهب، لأنَّ غرض الشارع هو الرفعة والعُلو للمذهب الحق.

والدليل على كون عنوان الهتك والوهن عناوين عرفية، هو أنَّ الخطابات الشرعية مُلقاة على أهل العرف على سبيل القضايا الحقيقية، والمرجع في تعيين مصاديق العناوين العرفية المحضة إنّما هو أهل العرف، كما تقدّم في جواب الشبهة الثانية.

حكم ما لو تعارضت الأعراف

إذا تعارضت الأعراف فيكون لكل بلدٍ حكمه، فقد يكون فرد من العزاء مصداقاً للتعظيم في بلد معيّن، وفي بلدٍ آخر مصداقاً للوهن، كما أفتى بذلك السيد الإمام الخميني في تحرير الوسيلة، في ضابطة صدق المكيل والموزون من الربا (1).


1- انظر: تحرير الوسيلة، ج1، ص 53٩.

ص: 104

وهذا هو الضابط في حكم ما اختلف بين البلاد في صدق عنوان المُوهِن عليه من بعض أنحاء العزاء الحسيني، فإذا طرأ عنوان الموهن على بعض ما يُفعَل في العزاء الحسيني، لا إشكال في حرمته؛ لأنَّه نقض للغرض ومُوهن للمذهب. وإنّما تشخيص ذلك إلى أهل العرف.

نعم، إذا صدق عنوان الوهن والهتك على نحوٍ من العزاء في غالب البلاد، يصير خطاب حرمة إهانة الشعائر الدينية فعلياً مُطلقاًَ، ويحرم ذلك النحو من العزاء في جميع البلاد.

وعند انجرار تشخيص ذلك إلى الاختلاف والالتباس، وخيف على المؤمنين من حصول الشقاق بينهم، حينئذ يُرجَع إلى الفقيه الحاكم، كما يتَّضح من البحث الآتي.

بعض الموارد التي لا يصدق عليها عنوان الوهن والهتك
اشارة

لا يخفى أنَّه ليس كل استهزاء يوجب الهتك والوهن للمذهب، وفيما يلي نشير إلى بعض هذه الموارد.

المورد الأوّل: الوهن الناشئ نتيجة اختلاف الأعراف

إذا كان منشأ الوهن هو الاستهزاء نتيجة الاختلاف في الأعراف والعادات، فمن الواضح أنَّ مثل هذا الاستهزاء لا يؤدي إلى الهوان والهتك للمسلمين، لأنَّ كل بلد أو ملّة أو مذهب له عادات خاصة به، واختلاف الشعائر أو الطقوس حسب الملل والبلدان، المختلفة في شعيرة منصوبة، تدلّ على معنى محترم عندهم، واستهزاء الآخرين بذلك لا يؤدّي إلى كشف عوار المؤمنين أو هتك سترهم.

ص: 105

وبهذا يتَّضح أنَّنا لو سلّمنا بحرمة اللطم لأجل الوهن للمذهب، إلاّ أنَّ ذلك ينحصر في المواضع التي يصدق فيها الوهن.

وعلى هذا الأساس، فلو فرضنا في مكان أنَّه لا يحصل وهن، بل تقوية، فإنَّه لا ينبغي الالتزام بالتحريم.

المورد الثاني: الوهن الناشئ من الاستهزاء بالمعتقدات والأحكام الدينية

عند إجراء مسح ميداني لحياة أنبياء الله تعالى، نلمس بوضوح ماواجهوه من سخرية من قبل أعداء الله، الذين ما زالوا يسخرون بديننا وعقيدتنا، وفقهنا وأحكامنا وعباداتنا، ومناسكنا وآدابنا وأعرافنا وتأريخنا، وهو ما يكشف عنه القرآن الكريم، الذي يصرّح بأنَّ جميع الرُسل والأنبياء السابقين (عليهم السلام) كانوا معرض استهزاء وسخرية من قِبل أعدائهم وأقوامهم، لاسيما نبيّنا الأعظم، وهو القائل: «ما أُوذي نبيّ مثل ما أُوذيت» ، وهكذا الأمر بالنسبة لأهل البيت (عليهم السلام) .

النصوص القرآنية التي تشير إلى استهزاء أعداء الله بالأنبياء وشرائعهم

يُضيء القرآن الكريم هذه المسألة بأروع بيان، والمهمّة ذاتها تنهض بها النصوص الروائية، إذ ثمَّة عدد وافر من الروايات تتحدَّث عن مسألة استهزاء أعداء الله تعالى بالشرائع والأحكام الدينية، وفيما يلي إضمامة من النصوص القرآنية والروائية:

1- قوله تعالى: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ . ( الأنعام: 1٠)

2- قوله تعالى: وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌَ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ . (هود: 3٨)

ص: 106

3- قوله تعالى: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (الرعد: 32

4- قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الحجر: 1٠ - 11

5- قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (البقره: 212

6- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (المائده: 57 - 5٨)

7- قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الأنعام: 5

٨- قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (هود: ٨)

٩- قوله تعالى: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (الكهف: 56

1٠- قوله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (الكهف: 1٠6

11- قوله تعالى: وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (الأنبياء: 36

ص: 107

12- قوله تعالى: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الأنبياء: 41

13- قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (المؤمنون: 1٠٩ - 111

14- قوله تعالى: وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (الفرقان: 41

15- وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الشعراء: 5 و 6

16- قوله تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّوأى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (الروم: 1٠)

17- قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (لقمان: 6

1٨- قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (يس: 3٠)

1٩- قوله تعالى بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ * وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (الصافات: 12 - 14

2٠- قوله تعالى: وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَْشْرارِ *

أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصارُ (ص: 62 و 63

21- قوله تعالى: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الزمر: 4٨)

ص: 108

22- قوله تعالى: وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (الزمر: 55 و 56

23- قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (غافر: ٨3

24- قوله تعالى: وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الزخرف: 6- 7

25- قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ * فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (الزخرف: 46 و 47

26- قوله تعالى: وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (الجاثية: ٩)

27- قوله تعالى: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الجاثية: 33

2٨- قوله تعالى: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (الجاثية: 35

2٩- قوله تعالى: إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الأحقاف: 26

3٠- قوله تعالى: أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ

(النجم: 5٩ و 6٠)

ومن جميع ما تقدّم يتَّضح أنّ الاستهزاء والسخرية قد واجهها جميع الأنبياء والاوصياء وأتباعهم، وقد تركّز ذلك الاستهزاء والسخرية على

ص: 109

الذين آمنوا ودينهم و صلاتهم و قرآنهم، و كلّ ما يمتّ للدين والعقيدة والعبادة والأحكام الشرعية بصلة، من قريب أو من بعيد.

موقف القرآن الكريم من المستهزئين بالأنبياء ودين الله

بيَّن القرآن الكريم الموقف الشرعي أزاء هؤلاء في مواضع متعدّدة، منها:

1- قوله تعالى: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (النساء: 14٠)

2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (المائدة: 57

3- وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور (آل عمران: 1٨6

4- وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (الفرقان: 63

5- وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌَ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (هود: 3٨)

ونحو ذلك من النصوص المتضافرة.

حاصل ما تقدم: يتّضح ممّا تقدم أنّ الموقف الشرعي الذي يحدّده القرآن الكريم إزاء هؤلاء يتلخّص بما يلي:

1- النهي عن الحضور في مجالس المستهزئين.

ص: 110

2- لا يجوز اتّخاذ هؤلاء أولياء

3- أن لا نلقي إليهم بالمودَّة.

4- الصبر والثبات في مواجهة أذاهم وسخريّتهم واستهزائهم.

5- أن يكون المؤمن في حالة من السموِّ والترفّع عن هؤلاء، وأن لا يعبأ بهم ولا يُظهر لهم ولا لاستهزائهم أي قيمة، كما في قوله تعالى: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ، وقوله: قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ .

6- أن لا يكون هذا الاستهزاء مسوّغاً أو ذريعة في إلغاء الشيء الصحيح في نفسه، أو أن يحرّم ما هو جائز أو راجح في الشريعة المقدّسة.

موقف أهل البيت (عليهم السلام) من المستهزئين بالعقائد الإسلامية والشعائر الحسينية

هنالك عدد وافر من النصوص الروائية التي تتحدّث عن موقف أهل البيت (عليهم السلام) إزاء المستهزئين بالعقائد الإسلامية والشعائر الحسينية، وما هو واجب الشيعي تجاه ذلك:

1- عن النبي (ص) مخاطباً أمير المؤمنين علياً (ع) : «فابشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم وقرة العين، بما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكنّ حثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم بزيارتكم، كما تعيّر الزانية بزناها، أُولئك شرار أُمّتي، لا أنالهم الله بشفاعتي ولا يردون

حوضي» (1).

2

- عن ذريح المحاربي قال: «قلت لأبي عبد الله (ع) : ما ألقى من قومي ومن بنيّ، إذا أنا أخبرتهم بما في إتيان قبر الحسين (ع) من الخير، أنّهم


1- الوسائل، ج1، ص 2٩٨؛ التهذيب، ج 2، ص 7.

ص: 111

يكذّبوني ويقولون: إنّك تكذب على جعفر بن محمد. قال: يا ذريح، دع الناس يذهبون حيث شاؤوا، والله أنَّ الله ليباهي بزائر الحسين بن علي والوافد يفده الملائكة المقرّبين وحملة عرشه» (1).

3- من دعاء الإمام الصادق (ع) في سجوده لزوار جدّه الحسين (ع) : «اللّهم يا مَن خصّنا بالكرامة. . . . اغفر لي ولأخواني وزوّار قبر أبي الحسين، الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبةً في برّنا، ورجاءً لِما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك، وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضاك. . . . اللّهم إنَّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، خلافاً منهم على مَن خالفنا. . .» (2).

4- عن الإمام الصادق (ع) : «الحمد لله الذي جعل في الناس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا مَن يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهذؤنهم ويقبّحون ما يصنعون» (3).

5- من حديث قدامة بن زائدة عن أبيه، قال: قال علي بن الحسين (عليهم السلام) : «بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبدالله الحسين (ع) أحياناً؟ فقلت:

إنّ ذلك لكما بلغك، فقال لي: فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأُمَّة من حقنا؟ فقلت: والله ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه، فقال: والله إنّ ذلك


1- كامل الزيارات، ص 155؛ بحار الأنوار، ج 1٠1، ص 75.
2- المصدر السابق، ص 125؛ المصدر السابق، ص ٨.
3- المصدر السابق، ص 33٩؛ المصدر السابق، ص 73.

ص: 112

لكذلك؟ ! فقلت: والله إنّ ذلك لكذلك، يقولها ثلاثاً، وأقولها ثلاثاً فقال: ابشر ثُمَّ ابشر ثُمَّ أبشر. . .» (1).

وبهذا يتَّضح أنَّ الروايات الشريفة تصرّح وتبيّن بوضوح ما يلقاه شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من استهزاء وسخرية بسبب زيارتهم لقبور الأئمة (عليهم السلام) ، ولاسيما زيارة الحسين (ع) ويتمثّل موقف أهل البيت (عليهم السلام) في ضرورة إحياء أمرهم، لاسيما واقعة عاشوراء.

واللطم حزناً وجزعاً على سيد الشهداء (ع) هو أحد هذه الأمور التي تساهم في إحياء ذكرى عاشوراء، وأنَّ الموقف الشرعي من الاستهزاء والسخرية من اللطم حزناً وجزعاً على الحسين (ع) هو عدم الالتفات لِما يقوله هؤلاء.

ومن جميع ما تقدّم يتَّضح:

إنّ ما استند إليه المانعون للّطم حزناً وجزعاً على الحسين (ع) -كقولهم بأنَّ اللطم بدعة، وأنّه ضرر، وأنَّه سبب لتوهين المذهب - لايمكن أن يكون أساساً أو مستنداً أو ملاكاً للحرمة.

حكم الفقيه هو المتَّبع في حالة الاختلاف

عند حصول الاختلاف والالتباس بين الناس في تشخيص الوهن، ممّا

يُخاف من هذا الاختلاف من إيجاد الشقاق بين المؤمنين، فالمتَّبع في ذلك حُكم ولي أمر المسلمين، ويجب على الجميع إطاعته فيما لو حكم في ذلك، ولا يجوز لأحدٍ ردَّه؛ فإنَّ الراد على الفقيه الجامع الحاكم رادّ على الله ورسوله، كما ورد في النصوص عن أهل البيت (عليهم السلام) (2)كامل الزيارات، ص 273.

(3)كامل الزيارات، ص 273.

(4)كامل الزيارات، ص 273.

(5)


1- كامل الزيارات، ص 273.
2- ولأجل بيان حكم الفقيه ينبغي إعطاء لمحة موجزة عن الفرق بين الحكم والفتوى. الفرق بين الحكم والفتوى: قبل بيان الفرق يجدر الالتفات إلى أنّ المقصود من الحكم المبحوث عنه في المقام هو الحكم الولائي الحكومي، لا الحكم التكليفي المنقسم إلى الأحكام الخمسة، ولا الحكم الوضعي، كالصحّة والفساد والملكية والزوجية والطهارة والنجاسة ونحو ذلك. ويمكن تلخيص الفرق بين الحكم والفتوى بما يلي: أوَّلاً: الفتوى تتعلّق بالحكم الكلّي والحكم يتعلّق بالقضايا الشخصية. إنّ الفتوى تتعلّق بالحكم الكلي، ولا ربط لها بالقضية الشخصية الخارجية، نعم يمكن أن يُطلَق عليها لفظ الفتوى توسّعاً ومجازاً، بخلاف الحكم، فإنّه يتعلَّق بالقضايا الجزئية الشخصية، من قبيل حكم الحاكم في موارد إجراء الأحكام الجزائية، من الحدود والقصاص والديات، وكذا الحكم الصادر منه في الأُمور السياسية، أي فيما يرتبط بشؤون الحكومة، كنصب الأُمراء والوزراء ومسؤولي الحكومة، وعملها، وعزلهم، وكذا الحكم الصادر في جهة عمران البلاد وتخطيط المدن، كالحكم بإحداث الطرق وتوسيع الشوارع في أملاك الناس باقتضاء أو تخريب المساجد والبيوت والأماكن الواقعة في مسير الطرق، لما تقتضيه المصلحة والضرورة، وكذا الحكم الصادر في الأمور القضائية، كالحكم في المرافعات لفصل الخصومات وقلع مادة النزاع، كالحكم بتعزير شخص معيّن. ومن الواضح أنّ هذه قضايا جزئية وليست كلية. فالحكم يرجع في الحقيقة إلى التطبيق، حكم كلي على مورد جزئي وقع فيه النزاع والخصومة بين المترافعين، فإنَّ إنشاء الإنفاذ من جانب الحاكم يبتني على تطبيقه الحكم الشرعي الكلّي، الذي استنبطه من الأدلة على مورد الإنشاء والإنفاذ. أمّا الفتوى، فهي ترجع إلى استنباط المجتهد حكماً شرعياً كلياً من أدلّته التفصيلية، وإعلانه للمقلّدين، على نحو القضية الحقيقية، وإن كانت أحياناً بصورة التطبيق على مورد، بإلقاء قضية شخصية خارجية باقتضاء سؤال السائل، إلا أنَّها ترجع في الحقيقة إلى إعلان حكم كلي. ثانيا: الفتوى حكم مجعول من الله، والحكم مجعول بإنشاء الحاكم. إنَّ الفتوى حكم مجعول من الله تعالى، أمّا الحكم فهو مجعول بإنشاء الحاكم، وبعبارة أُخرى، إنَّ الحكم هو إنشاء إلزام وإنفاذ من جانب القاضي بالاستناد إلى دليل شرعي، ولكن الفتوى إخبار الفقيه عمّا استنبطه من الأدلّة من الحكم الشرعي الكلّي في مقام الاجتهاد. وإلى ذلك أشار صاحب الجواهر بقوله: «إنّ الحكم إنشاء قول في حكم شرعي متعلّق بواقعة مخصوصة، كالحكم بأنَّ الدار ملك لزيد، وأنّ هلال شهر رمضان سنة كذا قد حصل، ونحو ذلك ممّا هو في قضايا شخصية، والفتوى حكم شرعي على وجه كلّي، كقوله: المعاطاة جائزة، أو شخصي يرجع إلى كلي، كقوله لزيد إن صلاتك باطلة، لأنَّك تكلّمت فيها مثلاً، إذ مرجعه إلى بطلان صلاة مَن تكلّم في صلاته، وزيد منهم» . الجواهر: ج2
3- ، صص 3و4. وقال السيد الخوئي: «الفرق بينه وبين الفتوى أنَّ الفتوى عبارة عن بيان الأحكام الكلية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها، وهي - أي الفتوى - لا تكون حجة إلاّ على مَن يجب عليه تقليد المفتي بها، والعبرة في التطبيق إنّما هي بنظره دون نظر المفتي. وأمّا القضاء، فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي هي مورد الترافع والتشاجر، فيحكم القاضي بأنَّ المال الفلاني لزيد، أو أنَّ المرأة الفلانية زوجة فلان، وما شاكل ذلك، وهو نافذ على كل أحدٍ، إذا كان أحد المتخاصمين أو كلاهما مجتهداً» مباني تكملة المنهاج: ج
4- ، ص3. ثالثاً: تقدّم حكم الحاكم على الفتوى. إنّ حكم الحاكم لا يجوز نقضه من احد، ولو كان المحكوم عليه مجتهداً، إلاّ إذا ادّعى جور الحاكم في حكمه أو خطأ مستنده، وشكى في ذلك إلى حاكم آخر، فيجوز له حينئذٍ نقضه، إذا ثبت له شرعاً جور الحاكم الأوّل في حكمه، أو بأنَّ مسنده في الحكم خاطئ. وهذا بخلاف الفتوى، فيجوز للمقلّد نقضه بالرجوع إلى مجتهد آخر أعلم من الأول. وعلى هذا الأساس، فلا إشكال في تقدّم الحكم الحكومي على الفتوى، عند المزاحمة في المسائل الخلافية؛ لتوقّف فصل الخصومات وحفظ النظام وإجراء الحدود وقلع مادة النزاع والفساد على نفوذ الحكم، وإلاّ فإنّه يؤدّي إلى الفساد والاختلال في نظام معاش الناس وحياتهم؛ ولأجل ذلك لا يجوز نقض حكم الحاكم بأي شيءٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ، لا بالفتوى ولا بحكم حاكم آخر. قال السيد اليزدي في العروة: «كما لا يجوز نقض الحكم بالحكم، كذلك لا يجوز نقضه بالفتوى» . العروة الوثقى، ج3، ص27. وقال صاحب الجواهر: «وينقض إذا خالف دليلاً علمياً لا مجال للاجتهاد فيه، أو دليلاً اجتهادياً لا مجال للاجتهاد بخلافه إلاّ غفلة ونحوها، ولا ينقض في غير ذلك؛ لأنّ الحكم بالاجتهاد الصحيح حكمهم، فالراد عليه راد عليهم: والراد عليهم على حدّ الشرك بالله (تعالى) ، من غير فرق بين اقتضائه نقض فتوى و عدمه، للإطلاق. ومن هنا جاز نقض الفتوى بالحكم دون العكس» . الجواهر، ج4٠، ص
5- ٠3.

ص: 113

ص: 114

ص: 115

الشبهة الثانية: اللطم لا يدخل تحت عنوان العزاء عرفاً

تفصيل الشبهة:

أنَّ اللطم، وإنْ سلّمنا أنّه لا يوجب ضرر النفس، لكنّه لا يعدّه العُرف من العزاء والشعائر الحسينية؛ وعليه لابد من إثبات انخراط اللطم في حقيقة مصاديق العزاء أوّلاً، ثُمَّ يأتي الكلام في جوازه أو عدمه.

واستدل على أنَّ اللطم خارج عن عنوان العزاء الحسيني بعدم تأييد العرف العام لإقحام اللطم في مصاديق رثاء الموتى ومواساتهم.

الجواب:

تقدَّم أنَّ معنى الشعائر ووجودها هو أنْ يتخذها العُرف والمتشرّعة شعيرة، بشرط أن يتواضع عليها العرف، فقبل أن يتّخذها العرف شعيرة لاتدخل تحت عنوان الشعائر، فتتحقق شعيريّتها بعد أن تتفشّى وتُنشَر ويتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرة عرفاً، وحينئذ يشملها عموم وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج: 32 ولا يشترط أن تكون الشعيرة متَّخذة سابقاً في العُرف مصداقاً من مصاديق رثاء الموتى ومواساتهم، إذ قد تكون شعيرة عند العُرف مصداقاً للعزاء الحسيني، ولاتكون مصداقاً من رثاء الموتى؛ إذ لا ملازمة بين الأمرين.

ص: 116

ص: 117

الشبهة الثالثة: اللطم حرام بالأدلّة الدالَّة على حرمة اللطم على الميّت

اشارة

تفصيل الشبهة:

هنالك نصوص عديدة تنهى عن اللطم والجزع على الميّت، كما هو واضح، وعلى هذا يكون اللطم والجزع حرام.

الجواب:

1- إنَّ تلك النصوص الناهية عن اللطم والجزع على الميت مخصَّصة بما ورد من النصوص المجوّزة والمُرغّبة للّطم والجزع على الحسين (ع) .

2- إنَّ الإجماع قائم على أنَّ عدم الجواز مخصوص باللطم والجزع على الأموات، كما حكي ذلك في المبسوط حيث قال: « البكاء ليس به بأس، وأمّا اللطم والخدش وجزّ الشعر والنوح، فإنَّه كلّه باطل محرّم إجماعاً» (1). ومن الواضح أنَّ الإجماع دليل لُبّي يُؤخَذ بالقدر المتيقّن، وهو اختصاصه بالأموات غير أهل البيت (عليهم السلام) ؛ لأنَّ الدليل اللُبي لا يمكن أن يكون مطلقاً ولو للأفراد المشكوكة.

هل معقد الاجماع نهي اللطم على جميع الأموات

فالجواب: إنَّ النسبة بين الإجماع وبين النصوص المجوّزة للًّطم والجزع على الحسين (ع) ، عموم مطلق، ومقتضى الصناعة أن يخصَّص الإجماع بها.


1- المبسوط، ج 1، ص 1٨٩.

ص: 118

عائشة تلطم على رسول الله (ص)

أخرج عدّة من الحفّاظ، منهم أحمد في مسنده، بسندٍ صحيح عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: سمعت عائشة تقول: «مات رسول الله (ص) بين سحري ونحرى وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً، فمن سفهي وحداثة سنّي أنَّ رسول الله (ص) قُبض وهو في حجري، ثُمَّ وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي» (1).

ومعنى الإلتدام هو: ضرب الخدّ باليد. فعائشة من الصحابيات وقد لطمت عند وفاة رسول الله (ص) هي والصحابيات، ولم يردَعها أحد من الصحابة، فعلى مبنى اهل السنه يكون هذا الفعل دليلاً على الجواز.


1- مسند أحمد، ج6، ص1٩٨. قال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وقال شعيب الارناؤوط: إسناده حسن؛ مسند أبي يعلى، ج٨، ص232. قال حسين اسد سليم: إسناده حسن.

ص: 119

الشبهة الرابعة: مواكب اللطم لم تكن في عهد الأئمة: وزمانهم

تفصيل الشبهة:

استدلَّ البعض على عدم شرعية هذه الطقوس بأنَّها لم تكن على عهد الأئمّة الأطهار، فمواكب العزاء الحسيني، بما يتضمّنه اليوم من ممارسات وبهذه الهيئة المعروفة في زماننا هذا؛ لم تكن موجودة في زمان الأئمة (عليهم السلام) ، وكذلك سائر الشعائر الحسينية الجماهيرية، من مواكبٍ على اختلاف أنواعها، لم تكن هي الأُخرى موجودة أيضاً، وما لم تكن كذلك فلا مشروعيَّة لها.

الجواب:

1- إنَّ جملة من هذه الشعائر كانت موجودة في عهد الأئمّة (عليهم السلام) ؛ ففي العديد من الروايات نجد أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) يأمرون شيعتهم بإقامة مجالس العزاء على الإمام الحسين (ع) ، كما سوف نشير إليها لاحقاً.

2- قد تكون المجالس آنذاك ليست بهذا الشكل من الكثرة، والسبب في ذلك يكمن في أنَّ الشيعة في عهد الأئمّة (عليهم السلام) كانوا في حالة خوف شديد من السلطات الحاكمة، فهم يعيشون التقيّة آنذاك، فعدم وجود الشعائر في وقت الأئمّة (عليهم السلام) بهذه الكثرة وبهذا الهيئات؛ هو لأجل عدم تمكّنهم من إقامتها، ولا يدل على عدم المشروعية في هذه الأزمنة.

ص: 120

ولو كانت الشيعة في ذاك الوقت تعيش مثل هذه الأزمنة، من حيث إمكانية إظهار الشعائر وإقامتها، لفعلوا ذلك.

فمواكب العزاء الحسيني، بما يتضمنه اليوم من ممارسات وبهذه الهيئة المعروفة في زماننا هذا، لم تكن موجودة في زمان الأئمة (عليهم السلام) ، أمّا الأُصول النظرية لهذه المواكب، من دون تحديد لهيئةٍ معيّنة لها، فهذا ما تضافرت به النصوص عن المعصومين (عليهم السلام) ، من بكاء وإبكاء، وإظهار حزن وجزع على سيد الشهداء (ع) ، وتأكيدٍ على زيارته، وذكر مصيبته على كلّ حال، حتى عند شربنا للماء، مع لعن أعدائه وقتلته (لعنة الله عليهم جميعاً) ، والبراءة منهم ومن أفعالهم، إلى غير ذلك من الأمور التي لها مدخلية مباشرة أو غير مباشرة في إحياء القضية الحسينية.

وقد تقدّم في الإجابة على الشبهات السابقة من أنَّ روايات أهل البيت (عليهم السلام) لم تحدّد لنا طريقة التعبير عن الحزن على سيد الشهداء (ع) ، ولم تجعل الأمر توقيفيّاً على نحو معيّن أو كيفية مخصوصة، بل فتحت الباب بتأكيد معنى الجزع واستحبابه، واستحباب إظهاره على أبي عبدالله (ع) ، كل بحسب فهمه وطريقته المعتادَة عُرفاً.

ص: 121

الشبهة الخامسه: روّاد المواكب لا يلتزمون بأحكام الشريعة

الجواب:

أوّلاً: إنَّ دعوى روّاد مواكب اللطم ممَّن لا يلتزمون بأحكام الشريعة دعوى عُهدتها على مدَّعيها، إذ نجد أنَّ الكثير من أهل العلم والعلماء والمثقّفين يشاركون في هذه المواكب في مختلف بقاع العالم.

ثانياً: لو فُرض صحة هذا القول، وتبيَّن أنَّ أكثر المشتركين في مواكب اللّطم الحسيني من الذين لا يلتزمون بأحكام الشريعة وواجباتها، وسلَّمنا بأنَّ جميع المواكب بهذه الشاكلة؛ لكنَّ هذا لا يبرّر ولا يمكن أن يكون دليلاً على حرمة اللطم، ولا يبرّر أن يكون موقف المتشرّعة إزاء هذه المواكب موقف المعادي.

فلو حُرِّم هذه الفعل الراجح شرعاً لأجل أنَّ أكثر المشتركين في مواكب اللطم الحسيني من الذين لا يلتزمون بأحكام الشريعة؛ فيلزم أن يكون كل عمل شرعي يمارسه جمع كثير ممَّن يسيئون التصرّف في أعمال أُخرى، لابدّ من منعه والوقوف ضدّه، وهذا يعني أن نمنع الحجّ، بناءً على ما ورد عنهم: «ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج. . .» (1)، وغير ذلك، وهذا لم يقل به عاقل.


1- انظر: بصائر الدرجات، ص2٩1.

ص: 122

ص: 123

خلاصة الفصل الثاني

- الشبهة الأُولى: اللطم لا أصل له في الشريعة

- الدليل الاوَّل: إنَّ اللطم بدعة

الجواب:

إنَّ الذي عليه أهل التحقيق والنظر أنّ البدعة هي ادخال ما ليس من الدين في الدين، ومن الواضح أنَّ اللطم ليس مصداقاً للبدعة، لأنّ اللطم مظهر من مظاهر الحزن والجزع على سيد الشهداء.

وعلى أقلِّ تقدير، فإنَّ اللطم يكون مباحاً، كما هو مقتضى التمسّك بالأصل العملي، وهو أصالة البراءة، لعدم وجود الدليل على حرمته كما ستعرف.

الدليل الثاني: اللطم إضرار وإيذاء للنفس وهو حرام

الجواب:

1- ليس في اللطم ضرر معتدّ به عند الناس، وإنّما هو مثل الحجامة والفصد المفيدين للبدن.

والتجربة خير شاهد على عدم وجود الضرر في اللطم، فإنّنا في كل سنة نرى أمام ناظرينا هذه التجمّعات التي تمارس اللطم.

2- لو فرضنا أنَّ في اللطم ضرر، لكنَّ صِرف الضرر أو العسر لا يمكنه

ص: 124

أن يكون مُبرراً للحرمة، إنّما الضرر الكبير الذي لا يقبل الجبران، أو ما كان فيه هلاك النفس، فهناك العديد من الموارد التي تكون جائزة مع ما يلزمها من الضرر، من قبيل ثقب أُذني الغلام الذي اتَّفق عليه النص والفتوى، وثقب آذان النساء ونحو ذلك.

3- لو فرضنا أنَّ في اللطم ضرر على النفس، فالمرفوع بقاعدة الضرر في العبادات هو الضرر الشخصي، لا النوعي الغالبي.

4- النقض بتجويز الرياضات العنيفة، كالمصارعة والجودو والكراتيه والكونكفو وسباق الخيل والدّراجات البخارية. . .

5- إنَّ كثيراً من العلماء والمراجع، من السلف إلى المعاصرين، أقرّوا وأمضوا هذه الشعائر من اللطم، وحكموا بجوازها واستحبابها

- الدليل الثالث: حرمة ما استقلّ به العقل بقبح ظلم النفس أو إيذائها

الجواب:

1- إنَّ العقل لايدرك ملاكات الأحكام.

2- إنَّ قبح ظلم النفس، لو سُلّم كونه دليلاً على الحرمة الشرعية، فهو لايشمل جميع ما يفعله الإنسان بنفسه من أنواع الأذى والإضرار، ما لم يكن إتلافاً لها أو موجباً لفقد طرف أو حاسة.

وهنالك جملة من موارد إيذاء أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم في سبيل الله، التي تكشف بوضوح جواز الإضرار أو الإيذاء للنفس، فيما اذا كان لغرض راجح، كتورّم قدم النبي (ص) نتيجة القيام للعبادة ونحوها.

الدليل الرابع: اللطم يوجب وهن المذهب لِما يلي

1- إنّ اللطم خرافة.2 - اللطم يسبّب استهزاء الآخرين بالشيعة.

ص: 125

- الجواب: إنَّ معنى الخرافة هو كل ما هو غير حقيقي، وعليه فلا يكون اللطم خرافة؛ لأن اللطم أمر واقعي وله أدلّته المعروفة، فإنَّ اللطم على الحسين (ع) يمثّل مظهراً و تعبيراً عمليّ عن ذلك الحزن والجزع، حزناً وجزعاً على الحسين (ع) ، وهو ما أمرت به النصوص الشريفة.

وما يجدر الالتفات اليه هو أنَّنا لا نقول بأنّ اللطم جزء من الدين، ولم يقل أحد بذلك أبداً، إنّما نقول: اللطم وسيلة تعبّر عن الحزن والجزع.

الجواب على القائلين بأنَّ اللطم يوجب وهن وهتك المذهب

لا يخفى أنَّ الميزان والمرجع في تعيين مصداق الوهن للمذهب هو العُرف؛ لأنَّ الوهن والهتك من العناوين العُرفية المحضة، وعلى هذا الأساس، فإنَّ كل نحو من العزاء اذا صدق عليه في نظر عُرف العقلاء أنَّه ممّا يوجب وهن المذهب، وهتكاً بساحة الشعائر الحسينية، وتحقيراً لنهضة سيد الشهداء المقدسة، ومؤدّياً الى ضعف إيمان المؤمنين، فهو حرام؛ لأنَّه نقض لغرض الشارع المقدّس ومُوهن للمذهب، لأنَّ غرض الشارع هو الرفعة والعُلو للمذهب الحق.

وإذا تعارضت الأعراف، فيكون لكلّ بلد حكمه، فقد يكون فرد من العزاء مصداقاً للتعظيم في بلد معيّن، وفي بلد آخر مصداقاً للوهن.

وعند انجرار تشخيص ذلك إلى الاختلاف والالتباس، وخيف على المؤمنين من حصول الشقاق بينهم، حينئذ يُرجَع الى الفقيه الحاكم.

- بعض الموارد التي لا يصدق عليها عنوان الوهن والهتك

المورد الأوَّل: الاستهزاء الناشئ نتيجة اختلاف الأعراف

المورد الثاني: الاستهزاء بالمعتقدات والأحكام الدينية من قِبل أعداء الله الذين ما زالوا يسخرون بديننا وعقيدتنا، وفقهنا وأحكامنا، كما في قوله

ص: 126

تعالى: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الأنعام: 1٠) ونحوها.

حكم الولي الفقيه هو المتَّبع في حالة الاختلاف

عند حصول الاختلاف والالتباس بين الناس في تشخيص الوهن، ممّا يخاف من هذا الاختلاف في إيجاد الشقاق بين المؤمنين، فالمتَّبع في ذلك حكم ولي أمر المسلمين، ويجب على الجميع إطاعته فيما لو حكم في ذلك، ولا يجوز لأحد ردّه؛ فإنَّ الراد على الفقيه الجامع الحاكم رادّ على الله ورسوله، كما ورد في نصوص أهل البيت (عليهم السلام) .

الشبهة الثانية: اللطم لا يدخل تحت عنوان العزاء عُرفاً

- الجواب: تقدَّم أنَّ معنى الشعائر ووجودها هو أن يتَّخذها العُرف والمُتشرّعة شعيرة، بشرط أن يتواضع عليها العُرف، وحينئذ يشملها عموم وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ. . . .

الشبهة الثالثة: اللطم حرام بالأدلة الدالة على حرمة اللطم على الميّت

- الجواب:

1- إنَّ النصوص الناهية عن اللطم والجزع على الميت مخصَّصة بما ورد من النصوص المجوزّة لللطم والجزع على الحسين (ع) .

2- الإجماع على أنَّ عدم الجواز مخصوص باللطم والجزع على الأموات.

- الشبهة الرابعة: مواكب اللطم لم تكن في عهد الأئمّة (عليهم السلام) وزمانهم

الجواب:

1- إنّ جملة من هذه الشعائر كانت موجودة في عهد الأئمّة (عليهم السلام) .

ص: 127

2- السبب في عدم كون المجالس بالشكل الموجود عندنا اليوم، يكمن في أنَّ الشيعة كانوا في حالة خوف شديد من السلطات الحاكمة.

- الشبهة الخامسة: روّاد هذه المواكب ممَّن لا يلتزمون بأحكام الشريعة

- الجواب:

لو فُرض أنَّ أكثر المشتركين في مواكب اللطم الحسيني من الذين لايلتزمون بأحكام الشريعة وواجباتها، فإنَّ هذا لا يبرّر ولا يمكن أن يكون دليلاً على حرمة اللطم، وإلاّ يلزم أن يكون كل عمل شرعي يمارسه جمع كثير ممَّن يُسيئون التصرّف في أعمال أُخرى؛ لابدّ من منعه والوقوف ضدّه، وهذا يعني أن نمنع الحج بناءً على ما ورد عنهم (عليهم السلام) : (ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج. . .) ، وغير ذلك، وهذا لم يقل به عاقل.

ص: 128

ص: 129

الفصل الثالث: في الأجوبة على الشبهات حول تحريف واقعة كربلاء

اشارة

الشبهة الأولى: تحريف عاشوراء من خلال الكذب على المنابر

الشبهة الثانية: التحريف في عاشوراء اعتماداً على قاعدة التسامح

الشبهة الثالثة: نسبة كلمات إلى الإمام الحسين لا تليق بمقامه

الشبهة الرابعة: التحريف فى هدف الثورة الحسينية

الشبهة الخامسة: حُرمة سماع الرجال لصياح وصراخ النساء.

الشبهة السادسة: ما ورد في زيارة الناحية غير معقول!

الشبهة السابعة: إحياء عاشوراء فتنة تفرق المسلمين

الشبهة الثامنة: علم الإمام بالغيب وإشكالية الإلقاء بالتهلكة

الشبهة التاسعة: زيارة الاربعين بدعة

الشبهة العاشرة: عدم وجود مصادر تاريخية موثّقه

الشبهة الحادية عشر: لادليل على لبس السواد في عاشوراء

ص: 130

ص: 131

يقول البعض إنّ هناك الكثير من التحريف والتزييف والاختلاق الذي عارض ثورة الحسين (ع) وقد تنوَّع التحريف، فتارة تناول التحريف في وقائع الواقعة، من خلال سرد القصص والأساطير الكاذبة التي حكيت بمهارة عالية في واقعة عاشوراء، والتي لا زالت تُلقى على المنابر، وتارة أُخرى تركّز على تحريف هدف الثورة الحسينية، وفيما يلي نعرض هذه الشبهات مع مناقشتها.

الشبهة الأولى: تحريف عاشوراء من خلال الكذب على المنابر

اشارة

تفصيل الشبهة

قالوا بأنَّ هناك عدد من الأمور المعلوم كذبها وهي تُتلى على المنابر، مع عدم وجودها في خبرٍ صحيح، ولم تُنقل في كتاب مُعتَبر، من قبيل قولهم إنَّ عدد الذين حاربوا الإمام الحسين (ع) كان ستمائة ألف من الخيالة، ومليوناً من المُشاة (1). . . وأنَّ طول رمح سنان بن أنس (لعنه الله) ، والذي يقال أنّه هو الذي احتزّ رأس الإمام الحسين (ع) ، ستون ذراعاً، وأنَّ هذا الرمح قد بعثه الله إليه من الجنة.

أو أنَّ عددهم كان ثمانمائة ألف (2)، وأنَّ الإمام الحسين (ع) قد قتل


1- الملحمة الحسينية، ج1، ص34.
2- المصدر السابق، ج3، ص23٩.

ص: 132

منهم ثلاثمائة ألف، وقتل العباس (ع) منهم خمسة وعشرين ألفاً (1)، ونحو ذلك من الأخبار الكاذبة التي لازالت تُتلى على المنابر.

الجواب

لكي يتضح الجواب بشكل بيّن، لابد من بيان مقدّمة في أنَّ ثبوت القضية التاريخية لا يتوقّف على وجود سند صحيح أو لا.

هل يتوقَّف ثبوت القضية التاريخية على سندٍ صحيح؟

إنَّ ثبوت أيّة قضية تاريخية لا يتوقّف على وجود سندٍ صحيح وفق المصطلح الرجالي (2)، وإنّما يكفي الوثوق بصدورها، بل يكتفي البعض


1- انظر: الملحمة الحسينية.
2- ولا يخفى الفرق بين الخبر المكذوب والموضوع، وبين الخبر الضعيف. الخبر المكذوب: هو الخبر الموضوع، وهو أحد أقسام الخبر الضعيف، لكن يتميّز عن غيره من أقسام الخبر الضعيف، بأنّه - أي الخبر المكذوب- خبر موضوع، بخلاف بقية أقسام الخبر الضعيف، التي ترجع أسباب الضعف فيه إلى وجود مجروح بالفسق في طريقه، أو يشتمل على مجهول الحال، ونحو ذلك، ويمكن معرفة الخبر المكذوب بما يلي: أوّلاً: إقرار واضعه أو بمعنى إقراره. ثانياً: وجود قرينة في الواضع أو الموضوع له على الوضع، ولأهل العلم بالحديث ملكة قوية، يميزون بها ذلك، من خلال القرائن الدالة على ذلك. انظر: نهاية الدراية، السيد الصدر، ص 3٠٩. ثالثاً: أن يكون مفاد الخبر مخالفاً لما عُلم بالضرورة. رابعاً: أن يكون مخالفاً لدليل العقل ومقتضاه، ولا يمكن حمله على وجه مقبول. خامساً: أن يكون مخالفاً للدليل الشرعي الثابت، ولا يمكن تأويله بوجهٍ يوافق أدلّة الشرع. سادساً: أن يكون الخبر مروياً من طريق مَن عُرف بالكذب أو الوضع واشتهر بذلك. سابعاً: أن يكون الخبر المروي، رواه مَن ورد تكذيبه ولعنه وذمه على لسان الأئمّة: . أمّا الخبر الضعيف - غير الموضوع - فهو أن يشتمل طريقه على مجروح بالفسق، أو يشتمل على مجهول الحال ونحو ذلك. إنّ درجات الضعف في الخبر الضعيف متفاوتة بحسب بعده عن شروط الصحة؛ فكلّما بعُد بعض رجاله عنها، كان أشدّ ضعفاً، كما هو الحال في تفاوت درجة الصحة في الصحيح و الحسن والموثق.

ص: 133

بعدم وجود داع إلى الكذب لصحة الأخذ بالرواية، ولو من كتب غير الشيعة الإمامية، وهذا ما نلمسه واضحاً في تعاطي الجميع مع الكتب التاريخية، وما جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً من العمل بالوقائع التاريخية، التي لم يذكر فيها أي سند، حيث إنّها ترسل في كتب التاريخ مسلّمة، ولذلك إذا نقل المؤرّخ في كتابه واقعة منها، لا يقال إنّها من الأمور المكذوبة؛ لأنّه لم يسندها مُعَنْعَنَة إلى مَن شهد تلك الواقعة، ولا يعدّ من ناقلي الكذب لمجرَّد أنَّه نقل غير مسند عن رجال قد زُكّي كل واحد منهم بشهادة عدل أو عدلين.

إذاً، هناك فرق بين ثبوت الواقعة التاريخية وبين استنباط الحكم الشرعي، فإنَّ الضابطة في استنباط الأحكام الشرعية هي الحجة الشرعية، بأن تكون الرواية إمّا صحيحة أو موثّقة أو حسنة، على ضوء المباني في حجّية الرواية، أمّا الخبر الضعيف فليس حجة شرعية بحسب الرؤية الشرعية، نعم قد ينفع في الاستنباط، كما إذا أُخذ أحد القرائن المحتملة على الحكم، وباعتضاده مع قرائن أُخرى يصل إلى القطع بالحكم.

أمّا ثبوت الحقيقة التاريخية، فلا يخضع لضابطة استنباط الأحكام، بل قد تكون الرواية حجة بحسب موازين الاستنباط، بأن تكون الرواية صحيحة، أو موثّقة، إلاّ أنّها على الرغم من ذلك لا تُثبت الواقعة التاريخية لوجود قرينة على كذبها مثلاً.

من خلال ما تقدم ننتهي إلى النتائج التالية:

النتيجة الأُولى: إثبات ما وقع في عاشوراء لا يتوقّف على وجود سند صحيح

لا يخفى أنَّ إثبات ما وقع في عاشوراء لا يتوقّف على وجود سند

ص: 134

صحيح، لِما ثبت في المقدّمة الثانية من أنَّ ثبوت أيّة قضية تاريخية لايتوقّف على وجود سندٍ صحيح، وفق المصطلح الرجالي، وإنّما يكفي الوثوق بصدورها، بل يكتفي البعض بعدم وجود داع إلى الكذب؛ لصحّة الأخذ بالرواية.

وعلى هذا الأساس، فلا يصحّ إنكار ورفض أي واقعة بذريعة عدم وجود سند صحيح على نقلها. نعم، ما يربط منها بحكم شرعي، أو نسبة شيء إلى المعصوم (ع) ، لابد أن يخضع لموازين الرواية في أحكام الاستنباط.

وعليه فلابد من تحرّي قرائن أُخرى، غير صحّة الحديث أو ضعفه، لإثبات تلك الواقعة التاريخية من عدمها.

النتيجة الثانية: معنى نقل الخبر الكاذب

اشارة

إنّ القول بأنَّ أصحاب المنابر ينقلون أخباراً كاذبة غير صحيح، وذلك لوجود فرق بين نقل أخبار غير معلومة الصدق، وبين الأخبار المعلومة الكذب، ولكي يتَّضح ذلك، لابدّ من بيان الأُمور التي يتحقّق بها الكذب المحرَّم.

ما يتحقّق به الكذب المحرَّم في نقل واقعة عاشوراء

يتحقق الكذب المحرّم في نقل واقعة عاشوراء بأحد أمرين:

الأوّل: أن يقرأ القارئ خبراً من تأليف نفسه وينسبه إلى غيره، من دون أن ترد به رواية- ولو مرسلة- ولا وُجد في كتاب مُعتبَر.

الثاني: أن يعلم القارئ بأنَّ ما ينقله كذباً، وإن كان كلاماً لغيره.

ص: 135

ومن الواضح أنَّ فرض أن يأتي خطيب بخبرٍ من تأليف نفسه بعيد جداً، ولم نسمع أحداً من أصحاب المنابر، حتى من الدرجات الدُنيا، أو من غير أهل الورع، مَن نقل خبراً من تأليف نفسه، أو يعلم بأنَّه كذب، وإنّما ينقل عن غيره من نقلَةِ الحديث الموثوق بهم، غير المعلوم عنده كذب حديثهم. ومن الواضح أن نقل الحديث بهذه الصورة إنّما تقع عهدته على راويه، لا على ناقل روايته، فما ينقله لا يكون كاذباً، وإن كان المقروء كذباً واقعاً، ولا ناقلاً لِما هو معلوم الكذب. نعم، قد يوجد مَن تسوّل له نفسه تأليف القصص والحكايات، لكن مثل هؤلاء من ضعفاء النفوس لا يحتجّ بكلامهم، وينكشف حالهم ولو بعد مدّة.

النتيجة الثالثة: الخبر المكذوب هو الذي قُطع بوضعه

على ضوء المقدّمة الثانية، يتّضح أنَّ الخبر المكذوب هو الذي قُطع بوضعه، أمّا الذي لا يقطع بكذبه من الأخبار الضعيفة، فيكون مشكوك الصحّة، ومن الواضح أنَّ مشكوك الصحة لايصحّ وصفه بالكذب، أو وصفه بأنَّه خبر مجعول. نعم، يحتاج إلى المزيد من التقصّي والتتبُّع والشواهد والدلائل.

النتيجة الرابعة: ما قيل من الوقائع المكذوبة لا تصل إلى أصابع اليد الواحدة

في الإجابة على ما قيل من وجود أخبار كاذبة في واقعة عاشوراء نقول:

1- عند إجراء مسح ميداني لما ادُّعي أنَّه من الأخبار المكذوبة، ممّا يتَّصل بأحداث عاشوراء، لم يحصل لنا القطع واليقين بوجود مثل هذا الأخبار الكاذبة، ولو سلَّمنا بذلك، لوجدنا تلك الأخبار لا تتجاوز أصابع

اليد الواحدة في تلك الواقعة، التي تبلغ مُجرَيات الأحداث فيها وما سبقها

ص: 136

ولحقها العشرات بل المئات، لا سيما فيما يرتبط بالجزئيات والتفاصيل. فهل سمع أحد من أحدِ الخطباء يقول إنَّ طول رمح سنان بن أنس (لعنه الله) ، والذي اجتزَّ رأس الإمام الحسين (ع) ، ستون ذراعاً، وإنَّ هذا الرمح قد بعثه الله إليه من الجنة؟ !

فمثل هذه الأحاديث، لو سلّمنا بكذبها، فهي لم تُتْلَ على المنابر كما ادُّعي. نعم، قد تكون موجودة في بطون أحدى الكتب، لكن هذا لا يعني أنَّها تتلى على المنابر، أو أن يقال بأنَّ واقعة عاشوراء محرَّفة وغير ذلك من التهويل.

2- عند مراجعة ما ادُّعي من الأخبار الكاذبة، نلمس بوضوح أنَّ جميع تلك الأخبار لم تك بتلك الدرجة من الأهميّة، بحيث يمكن وصف الواقعة بالكذب والتحريف، فلو سلّمنا بكذب هذه الموارد، فلا يستحقّ كل هذا التهويل والتحذير، والوصف بالهتك والفضيحة والتشكيك و نحو ذلك.

3- إنَّ جملة من الأخبار التي ادُّعي أنّها أخبار كاذبة، لم تكن كذلك، وإنَّما هي أخبار ضعيفة، وتقدَّم أنَّ الخبر الضعيف لا دليل على كذبه واقعاً، نعم، فيه احتمال الكذب، لا أنَّه مقطوع الكذب.

ص: 137

الشُبهة الثانية: التحريف في عاشوراء اعتماداً على قاعدة التسامح

تفصيل الشبهة:

قاعدة التسامح في أدلّة السُنَن تقول: إنَّنا إذا فهمنا من خبرٍ ضعيف لايحتوي على تمام شرائط الحجّية ثواباً على عملٍ ما، ولم يكن لدينا دليل آخر، أمكننا في هذه الحالة العمل بهذا الخبر ونحصل على الثواب منه، رغم أنَّ هذا الخبر ضعيف، وقد يكون مجعولاً موضوعاً، لم يصدر عن أي معصوم أصلاً، ومن الواضح أنَّ قاعدة التسامح في أدلّة السُنَن ينحصر دورها في صعيد علم الفقه.

إلاّ أنَّه المؤسف أنَّ البعض أجرى هذه القاعدة في الاعتماد على الأخبار الضعيفة من كتب الشيعة في عاشوراء الحسين، وهي أكبر المعالم الثقافية الشيعية التي ترتبط بالجانب الفكري في كثيرٍ من مفاصلها.

بل اعتمد البعض على الطبري وابن الأثير! بل نرى أنَّ بعضهم يجعل محور بحثه في وقائع عاشوراء قائماً على نتاجات هذين الشخصين، إلى جانب ابن خلدون، مع أنَّ الطبري وابن خلدون لولم نشكِّك في كونهما مُغرضَين، فلا شكّ في كونهما مُخالفين.

الجواب

1- ممّا تقدَّم في الإجابة على الشبهة المتقدّمة، يتّضح أنّ وقائع عاشوراء،

ص: 138

وما احتفّ بها وما سواها مما يقرأه الذاكرون؛ لم تتضمَّن أحكاماً إلزامية ليُنظر في سندها ويُعرَف أنَّه من قسم الصحيح أو الموثّق أو الحسن، ولا حُكماً غير إلزامي ليقع الكلام في تحكيم أخبار التسامح في أدلّة السُنن فيها.

2- اتَّضح آنفاً أنَّ ثبوت الحقيقة التاريخية لا يخضع لضابطة استنباط الأحكام الشرعية، وإنّما يخضع لسنخ آخر من التعامل مع القضايا التاريخية وما جرى في التاريخ، والسِيَر والقصص والمواعظ والفضائل والمصائب وأخبار الوقائع، وهو أن يكون الضرر فيها مأموناً على تقدير كذبه في نفس الأمر، وأن لا يكون ممَّا لا تنفيه فطرة العقول.

فالإخبار عن هذهِ الأمور هو إخبار لا يتضمّن الأحكام الشرعية، ليجري عليها حكمه من لزوم التصحيح أو قاعدة التسامح في أدلّة السُنن.

وهذا ما نلمسه واضحاً في تعاطي الجميع مع الكتب التاريخية، وما جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً من العمل بالوقائع التاريخية التي لم يذكر فيها أي سند، حيث إنّها تُرسل في كتب التاريخ مُسلَّمة، ولذلك إذا نقل المؤرِّخ في كتابه واقعة منها، لا يقال إنّها من الأمور المكذوبة، لأنَّه لم يُسندها مُعَنْعَنَة إلى مَن شهد تلك الواقعة، وكذلك إذا نقل الواقعة نفسها ناقل من ذلك الكتاب، فلا يُعدّ من ناقلي الكذب لمجرِّد أنَّه نقل غير مُسنَد عن رجال قد زُكّي كل واحد منهم بشهادة عدل أو عدلين.

وقد نسب الشهيد الثاني في (شرح الدراية) إلى الأكثر جواز العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ والفضائل، واستحسن ذلك، ما لم يبلغ الخبر في الضعف حدّ الوضع والاختلاق (1).

والمراد بالعمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب هو: نقلها


1- الرعاية في أحكام الدراية، الشهيد الثاني، ص٩4.

ص: 139

واستماعها وضبطها في القلب، وذلك ممّا لا محذور فيه عقلاً، لفرض أمن المضرّة فيه على تقدير الكذب، وشرعاً لأنَّه لا يُعدّ عرفاً من الكذب حتى تترتَّب عليه أحكامه، وليس ثمّة عنوان آخر من العناوين المحرَّمة يشمله حتى يُقال لأجله بعدم الجواز.

قال الشيخ الأنصاري - بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشهيد الثاني - «المراد بالعمل بالخبر الضعيف (1)في القصص والمواعظ، هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب، وترتيب الآثار عليها، عدا ما يتعلّق بالواجب والحرام. والحاصل أنَّ العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء، وهذا أمر وجداني لا يُنكَر، ويدخل في ذلك [حكاية] فضائل أهل البيت ومصائبهم، ويدخل في العمل- أي: العمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب وشبهها- الإخبار بوقوعها- أي: الفضائل والمصائب- من دون نسبة إلى الحكاية على حدّ الاجتهاد بالأمور المذكورة الواردة بالطُرق المُعتمدَة، كأن يقال: كان أمير المؤمنين (ع) يقول كذا. . . ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيد الشهداء كذا وكذا. ولا يجوز ذلك في الأخبار الكاذبة، وإن كان يجوز حكايتها، فإنَّ حكاية الخبر الكاذب ليست كذباً، مع أنّه لا يبعد عدم الجواز إلاّ مع بيان كونها كاذبة» (2).

وبهذا يتَّضح أنَّ ثبوت الحقيقة التاريخية إنّما يخضع لسنخٍ آخر من التعامل مع القضايا التاريخية وأخبار الوقائع، وهو أن يكون الضرر فيه مأموناً على تقدير كذبه في نفس الأمر، وأن لا يكون ممّا لا تنفيه فطرة العقول. ولم يخضع لضابطة

استنباط الأحكام الشرعية ليُقال أنَّه من باب التسامح في أدلّة السنن.


1- المراد بالضعيف: ما لم يُعلَم أو يظن بكونه مختلقاً. ولذا قيّد الشهيد ذلك بما لم يبلغ حدّ الوضع.
2- الرسائل الفقهية، الشيخ الأنصاري، ص15٨.

ص: 140

ص: 141

الشبهة الثالثة: نسبة كلمات إلى الإمام الحسين لا تليق بمقامه

تفصيل الشبهة:

من جملة الأمور التي ادُّعي أنّها محرّفة وكاذبة في الثورة الحسينية، هي نسبة بعض الكلمات التي لا تليق بمقام الإمام الحسين (ع) ، ومن هذه الكلمات:

1- قول الحسين (ع) لأخته زينب: «أُخيَّة، كسرتِ قلبي» .

حيث قالوا إنَّ السيدة زينب جاءت ووقفت على جسد أبي عبدالله (ع) ، وهو يحتضر، فرمقها بطرفه وقال لها الحسين (ع) : «ارجعي إلى الخيمة، فقد كسرت قلبي، وزدت كربي» .

2- قول الحسين (ع) : اسقوني شربة من الماء.

3- قول الإمام الحسين (ع) : «هل من ناصر ينصرني»

وغير ذلك من الكلمات البعيدة كل البُعد عن سيد الشهداء (ع) أن يتلفّظ بمثل تلك الكلمات الذليلة أمام عدوّه، فينطق بلسان الالتماس ذليلاً، ويترجّى أُولئك المنحطّين العازمين على قتله أن يسقوه جرعة ماء بحقّ جدّه رسول الله (ص) ! مع أنَّ الحسين (ع) ، شعاره «هيهات منا الذلّة» ، وقوله: «موتٌ في عزّ، خير من حياة في ذلّ» وكان يقول:

ص: 142

الموت خير من ركوب العَار

والعَار أولى من دخول النار

(1) فكيف يمكن أن ينسجم هذا الإباء ورفض الذلّ وقوّة القلب وصلابة الموقف أمام العدوّ مع طلب الماء بهذا الشكل؟ ! حيث قالت الرواية: «. . . ثُمَّ إنّ الحسين (ع) أقبلَ على عُمر بن سعد وقال له: أُخيّرك في ثلاث خصال، قال: وما هي؟ قال: تتركني حتى أرجع إلى المدينة، إلى حرم جدي رسول الله، قال: مالي إلى ذلك سبيل، قال: اسقوني شربة من الماء، فقد نشفت كبدي من الظمأ. فقال: ولا إلى الثانية سبيل، قال: وإن كان لابدّ من قتلي فليبرز إليَّ رجل بعد رجل، فقال: ذلك لك، فحمل على القوم» . وفي خبرٍ آخر فيه: « بينما الحسين (ع) واقف في ميدان الحرب يوم الطف، وهو يستعطف القوم شربة ماء، وهو ينادي: هل من راحم يرحم آل الرسول المختار؟ هل من ناصر ينصر الذريّة الأطهار؟ هل من مُجير لأبناء البتول؟ هل من ذابّ يذبُّ عن حرم الرسول؟ إذ أتى الشمر اللعين إليه حتى صار بالقرب منه ونادى: أين أنت يا حسين؟ فقال: ها أنا ذا، فقال: أتطلب منّا شربة من الماء؟ ! هذا مطلب محال» (2). إلى غير ذلك من الكلمات التي لا تتناسب مع مقام الإباء والعزّة للإمام الحسين (ع) . الجواب:

1- إن قول الحسين (ع) لأُخته زينب (كسرتِ قلبي) ، حينما جاءته ووقفت على جسده الشريف، وقوله (ع) «هل من ناصر ينصرني» ، وقوله (ع) «اسقوني شربة من الماء» ، كل ذلك لا دليل على عدم صدوره، ودليلهم على عدم صدور ذلك ليس سوى الاستبعاد، ومجرّد الاستبعاد لايصلح


1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج2، ص224.
2- انظر: موسوعة كلمات الحسين (ع) ، ص61٠.

ص: 143

دليلاً، كما هو واضح.

2- إنَّ الإمام الحسين (ع) وأهل بيته بعيدون عن الذل أمام الأعداء، لكن الذي نقوله هو أنّ الإمام الحسين (ع) كان يعلم بمدى جريمة وبشاعة وانحطاط أعداءه، فأراد (ع) أن يبيِّن ذلك للناس ويُطلعهم على حقيقة هؤلاء الظلمة.

3- إنَّ مَن يفهم فلسفة عاشوراء، لا يتفوَّه بمثل هذه الادّعاءات البعيدة كل البعد عن منطق الدليل والبرهان، فإنَّنا عندما ندقّق في واقعة عاشوراء نجد أنَّ من جملة أهدافها إثارة عواطف الناس، كما هو واضح لمَن له أدنى تأمّل في كيفية إدارة الإمام الحسين (ع) للواقعة، وهذا ما نلمسه واضحاً في تقديمه للصبيان والأطفال، والعبارات الكثيرة التي تُثير وتأجّج العواطف، التي منها ما جعله المشكّك دليلاً على التحريف في الواقعة، كقول الإمام الحسين (ع) : «اسقوني شربة من الماء» ، وقوله (ع) «هل من ناصر ينصرني» ، ونحوها.

ومن الواضح أنَّ تأجيج العاطفة يساهم في إشعال روح الحماسة لدى الناس، ممّا يدفعهم إلى رفض الظلم والظالمين، ونبذ الخوف والذل، والوقوف بوجه كل يزيد. ومن الواضح أنَّ مثل هذا الهدف يُعدّ من أهمّ أهداف ثورة الإمام الحسين (ع) .

وخير شاهد على ذلك هو خوف الحكّام الظلمة من هذه الشعائر، الأمر الذي دعاهم إلى محاربتها ومنعها.

فعنصر العاطفة والحماسة عنصران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، وكلّما ازدادت العاطفة، نتج عن ذلك إثارة بركان الحماسة والوقوف بوجه الظلمة، ولهذا نجد في خطابات الإمام الحسين (ع) مايثير

ص: 144

العاطفة والوجدان، من قبيل قوله (ع) (هل من راحم يرحم آل الرسول، هل من ناصر ينصرنا. . .) كما روى ذلك عبد الحميد حيث قال: «بينما الحسين (ع) واقف في ميدان الحرب يوم الطف، وهو يستعطف القوم شربة ماء، وهو ينادي (هل من راحم يرحم آل الرسول المختار، هل من ناصر ينصر الذرية الأطهار، هل من مجير لأبناء البتول، هل من ذاب يذب عن حرم الرسول) . . .» (1).


1- كلمات الإمام الحسين، الشيخ الشريفي، ص 3٩7.

ص: 145

الشبهة الرابعة: التحريف في هدف الثورة الحسينية

تفصيل الشبهه:

قالوا إنَّ الإمام الحسين من الشخصيات التي ظُلمت مرتين، فالظلم الأوَّل كان عندما قتلوه، والآخر عندما سعوا في طمس أهدافه وتحريفها، فظلموه في عاشوراء، وتكرر الظلم في أكثر منها، حتى وصل الأمر إلى أن يقال إنَّ الحسين (ع) قُتل من أجل أن يبكي عليه الناس فتُغفر ذنوبهم لاغير. مع أنّ الهدف الأساس من الثورة الحسينية هو الحماسة والثورة والجهاد ضدّ الظلمة.

الجواب:

1- تقدَّم آنفاً أنَّ مَن يقف على فلسفة عاشوراء يجد أنَّ من جملة أهدافها هو إثارة عواطف الناس، كما هو واضح لمَن له أدنى تأمّل، وهذا الأمر نلمسه واضحاً في كيفية إدارة الإمام الحسين (ع) للواقعة، من خلال تقديمه للصبيان والأطفال، ونحو ذلك من الأمور التي تُثير وتؤجّج العواطف، ومن الواضح أنَّ إثارة وتأجيج العاطفة يُساهم في رفض الظلم والظالمين، الذي يعدّ من أهداف ثورة الإمام الحسين (ع) . وبهذا يتَّضح أنَّ عنصري العاطفة والحماسة عنصران متلازمان لا ينفكان، وكلّما ازدادت العاطفة، نتج عن ذلك إثارة بركان الحماسة والوقوف بوجه الظلمة، وما يشهد

ص: 146

لذلك قوة محاربة الظلمة لهذه الشعائر، لكونها تهدّد عروشهم.

ويتَّضح كذلك أنَّ العاطفة لا تحجّم عاشوراء ولا تختصرها في البكاء واللطم ونحو ذلك، بل أنَّ العاطفة والبكاء تُذكي روح الحماسة وبذل النفس في سبيل الأهداف العُليا، ونبذ الخوف والذل، والوقوف بوجه كل يزيد.

فالبكاء مثلاً تعبير عن خنجر في صدور أعدائه (عليهم السلام) ، ولهذا السبب نجد أنَّ بعض الروايات توصي أيضاً بالتباكي، ممّا يكشف عن أنَّ التأكيد على التظاهر بالبكاء يدلّنا على أنَّ فلسفة البكاء هي إثارة العاطفة، التي ينتج عنها الاستعداد للتضحية والفداء وبذل النفس والوقوف بوجه الظلمة، وبهذا يتَّضح أنَّ العاطفة والحماسة في عاشوراء وجهان لعملة واحدة.

2- إنَّ لواقعة استشهاد الإمام الحسين (ع) في سبيل الإسلام من الأثر والأهمّية ما أبكى أولياء الله ورُسله قبل وقوعها، وقد وردت روايات تتحدَّث عن بكاء إبراهيم الخليل، وعيسى وحوارييه، ومحمد المصطفى^، وعلى المرتضى (ع) ، وفاطمة الزهراء3، على الإمام الحسين (ع) .

فإنَّ عظم الفاجعة أكبر وأفجع من أن يتصوَّر. . . وهي لا تزال حيةً تستجري دموع العيون على ما انقضى من عمرها من قرون.

ولذلك يصفها الإمام الحسن بوصف مُؤلم، وذلك حينما دخل عليه الإمام الحسين (ع) فلمّا نظر إليه الإمام الحسن (ع) بكى، فقال الحسين (ع) : ما يبكيك؟ قال: أبكي لِما يُصنَع بك، فقال الحسن (ع) : إنّ الذي يؤتى إليّ سمّ يدسّ إليَّ فأُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله، يزدلف إليك

ص: 147

ثلاثون ألف رجل يدَّعون أنَّهم من أُمّة جدّنا محمد (ص) ، وينتحلون الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها يُحلّ الله ببني أُميّة اللعنة، وتمطر السماء دماً ورماداً، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش والحيتان في البحار» (1).


1- اللهوف في قتلى الطفوف، السيد بن طاووس، ص11٩.

ص: 148

ص: 149

الشبهة الخامسة: حُرمة سماع الرجال لصياح وصراخ النساء

تفصيل الشبهه:

قالوا إنَّ صياح النساء وعويلهنَّ، بمَسمَع من الرجال الأجانب حرام؛ لأنَّ صوتهنَّ عورة، وعليه فيجب عدم السماع لذلك في الشعائر الحسينية.

الجواب:

أوَّلاً: لا دليل على حرمة سماع الرجال لصوت أو صياح المرأة، نعم الذي هو محلّ البحث بين الفقهاء هو الاستماع لصوت المرأة، فقد ذهب البعض إلى تحريم ذلك مطلقاً، والآخر قيَّده بما إذا كان عن تلذّذ وريبة، وأمّا التكلّم والسماع بلا استماع من الرجل، فلم يقل أحد بتحريمه.

نعم ذهب البعض إلى حرمة صياح المرأة على الميت، لكن الحرمة ليس لأجل أنَّ صوتها عورة، بل لأنَّه من الجزع المنهي عنه بالروايات، كقوله (ع) : «كلّ الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين» (1).

ولعلَّ المُستشكِل اعتمد على الرواية التي تفيد أنَّ (المرأة عورة) ، كما في الرواية التي رواها هشام عن الصادق (ع) هكذا: «النساء عيّ وعورة، فاستروا العورات بالبيوت، واستروا العيّ بالسكوت» (2).


1- انظر: الوسائل الشيعه، ج1٠، ص3٩5.
2- الكافي، ج5، ص 535.

ص: 150

لكنّها صريحة في أنّ الأمر بالسكوت ليس لأجل أنّها عورة، أو أنّ صوتها عورة.

لا سيما وقد ورد أنَّ فاطمة الزهراء3 كانت تبكي (1)إلى الحدِّ الذي تأذّى منه أهل المدينة، ومن الواضح أنَّ البكاء إلى الحدّ الذي يُؤذي شيوخ قريش هو البكاء المقارن للصياح، وإلاّ لما اعترض عليه المعترضون.

ثانياً: لو سلّمنا أنَّ الصياح والصراخ حرام أو مكروه، إلاّ أنَّه كذلك على غير الحسين (ع) ، أمَّا على الحسين (ع) ، فهو مستحب؛ لما دلَّ من الروايات الدالَّة على استحباب الجزع على الحسين (ع) ، والصياح من مظاهر الجزع على الحسين (ع) .

هذا مضافاً إلى وجود الروايات الدالة على استحباب الصياح على الحسين (ع) كإطلاق قول الحجة (ع) في دعاء الندبة: «فعلى الأطايب من أهل بيت محمد وعلي فليبك الباكون، وإيّاهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتُذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجّ الضاجّون، ويعجّ العاجّون» (2).

وفي حديث معاوية بن وهب عن الصادق (ع) : «اللّهمّ ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا» (3). ومعنى الصرخة: هي الصيحة الشديدة (4).

ثالثاً: لا يخفى أنَّ الأئمّة: عقدوا في دورهم المجالس الحسينية التي وقع فيها صياح النساء بمَسمع من الرجال الأجانب وأمروا بها، فقد رُوي أنَّ


1- الخصال، ج1، ص273.
2- إقبال الأعمال، ص2٩.
3- كامل الزيارات، ص117.
4- القاموس المحيط، ج1، ص273.

ص: 151

دعبل بن علي لمّا أنشد الرضا (ع) تائيَّته المشهورة، وانتهى إلى قوله:

أفاطمُ لو خِلْتِ الحُسَين مُجدّلاً

وقدْ ماتَ عطشَانَاً بشَطِّ فُراتِ

إذاً لَلَطَمْتِ الخَدَّ فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

لطمت النساء وعلا صراخ مَن وراء الستر، وبكى الرضا (ع) بكاءً شديداً، حتى أُغمي عليه مرَّتين (1). وعن عبد الله بن غالب قال: دخلت على أبي عبد الله (ع) فأنشدته مرثية الحسين (ع) ، فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع:

لَبليّة تسقو حسيناً

بِمَسقاة الثَّرى غير التُّرابِ

فصاحت باكية من وراء الستر: وا أبتاه (2). وروى أبو الفرج الأصفهاني (3)بسندٍ معتبر، أنَّه لمّا دخل السيد الحميري على الصادق (ع) ، أقعدَ حرمه خلف الستر، ثُمَّ استنشده في رثاء جده الحسين (ع) فأنشده أبيات كثيرة، قال - يعني راوي الحديث-: فرأيت دموع جعفر تنحدر على خديه، وارتفع الصراخ من داره حتى أمره بالإمساك، فأمسك.

وتقدَّم أنَّ معنى الصراخ: هو الصوت، أو شديده (4).

وقد جرى نحو هذه المآتم التي تصرخ فيها النساء بمَسمَع من الرجال للصادق (ع) في غير قصّة الحميري أيضاً (5).

رابعاً: لو سلّمنا أنَّ صياح النساء بمسمع الرجال الأجانب حرام، لكن بمقتضى القواعد الأُصولية هو عدم حرمة الواجب المقارن للمحرَّم ما


1- بحار الأنوار، ج45، ص44٨.
2- كامل الزيارات، ص21٠.
3- الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، ج 7، ص24٠.
4- الصحاح، ج 1، ص426.
5- انظر: كامل الزيارات، ص211.

ص: 152

لم يكن المحرَّم المقارن ملازماً لذات الواجب، وإلاّ - أي لو كانت الأعراض المفارقة الاتّفاقية توجب حرمة الواجب الذي اقترنت به- لحرمت الصلاة حال النظر إلى الأجنبية حال الصلاة، وهو خلاف ما أُجمع عليه من صحّة الصلاة وإن اقترنت بالنظر للأجنبية.

ص: 153

الشبهة السادسة: ما ورد في زيارة الناحية غير معقول!

اشارة

تفصيل الشبهة:

ورد في زيارة الناحية قول الإمام الحجة (ع) : «. . . فخرجن من الخدور ناشرات الشعور. . .» ، وهو بعيد لمنافاته مع لزوم الستر.

الجواب:

يمكن توجيه هذه العبارة بما يلي:

الأوَّل: لم يكن خروج النساء أمام الأجانب

يمكن أن نقول إنَّ النساء خرجن من خدورهن ولم يخرجنَ بهذه الحالة إلى المعركة وأمام الرجال الأجانب، أي: خرجن إلى ما يقرب من المخيّمات الأُخرى، لا سيما مع ما ورد في بعض المصادر التاريخية من أنَّ الإمام الحسين (ع) أمر في اليوم التاسع بأن تُجعل خيام النساء متوسطة في المخيم، بحيث تحيطها باقي الخيمات من الجهات المختلفة، لكي تكون النساء في حالة حماية أكثر، وحينما جاء جواد الحسين (ع) وعرفنَ بحلول المصيبة، خرجن من خيماتهنَّ إلى خارجها، ولكنّهنّ لم يخرجن إلى خارج المخيم، وإنّما بقين في تلك الحالة بين المخيّمات الأُخرى، بحيث لم يكن بمرأى الرجال الأجانب.

ص: 154

الثاني: النساء اللاتي خرجن لسنَ نساء أهل البيت (عليهم السلام)

بناءً على ما نعرفه من التزام نساء أهل البيت (عليهم السلام) بالحجاب والعفاف، ومحافظتهنّ عليه، يمكن القول إنَّ النساء اللاتي خرجن من المخيم بتلك الصورة لسن نساء أهل البيت (عليهم السلام) ، فيمكن أن يكن غيرهنّ ممَّن حضرن كربلاء؛ لأنَّ جملة النساء اللاتي كنَّ في كربلاء كانت من مختلف القبائل العربية، وقد يكون فيهنّ نساء يسرع إليهن الخوف، إذ لم يكن كل مَن حضر من النساء في كربلاء في مستوى زينب (س) ، من حيث المعرفة والصلابة والثبات.

ص: 155

الشبهة السابعة: إحياء عاشوراء فتنة تفرِّق المسلمين

اشارة

تفصيل الشبهة:

يدّعي البعض أنَّ إحياء واقعة كربلاء وإقامة المجالس الحسينية، يعني إحياء فترة فتنة حدثت بين المسلمين، فتكون مدعاةً لبثِّ الفرقة والتنازع بين المسلمين؛ نظراً لما تتضمَّنه من طعن ولعن لبعض الصحابة. وفي هذا الصدد يقول ابن حجر في الصواعق المحرقة، نقلاً عن الغزالي: «لا ينبغي للخطيب وغيره رواية مقتل الحسين، وأيضاً رواية ما يدور بين الصحابة من سجالات وخصام؛ لأنَّ ذلك يستوجب الطعن بأعلام الإسلام والدين. . .» (1).

مضافاً إلى أنَّ السنة أهل يحترمون بني أُميَّة، فيكون الحديث عن بني أُميّة بشكل سلبي يترك نتائج سلبية على واقع الوحدة الإسلامية، وعلى هذا الضوء، يكون إحياء مجالس العزاء في كل سنة هي إثارة للحساسيات التاريخية التي تقتحم الحساسيات المذهبية الموجودة فيما بين المسلمين.

الجواب:

١- إنَّ الغزالي نفسه لا يلتزم بهذا المنهج

إنَّ الغزالي وغيره، ممَّن يُدلون بهذه النصائح، لم يعملوا بها، فنجدهم


1- الصواعق المحرقة، ص223.

ص: 156

قد سكتوا وتغاضبوا في رسائلهم وكتبهم وحواراتهم ونزاعاتهم الفكرية والدينية التي خاضوها مع الفرق والمذاهب، كما هو واضح لمَن له أدنى اطّلاع على مباحث علم الكلام وتاريخ الحضارة الإسلامية، حيث نلمس بوضوح شدَّة تطرّف الغزالي وأتباعه في مواقفهم من الشيعة.

وعلى أيَّة حال، فإنَّنا نقول للغزالي وأتباعه: إنَّنا نؤمن بمبدأ الوحدة، وأنَّها من أهمّ الأصول والفروع في الوقت الحاضر، لكنَّنا لا نرى في إقامة العزاء على الحسين (ع) أيّة منافاةً للوحدة بين المسلمين.

٢- إقامة أهل البيت (عليهم السلام) للعزاء الحسيني في مختلف الظروف

إنَّ موقف الشيعة في إقامة العزاء الحسيني لم يكن مستنداً لاجتهادات شخصية، إنَّما استندوا في ذلك للعديد من الروايات الشريفة، التي تؤكّد على لزوم إحياء ذكرى فاجعة عاشوراء.

ومن هنا نجد أنَّ الأئمة (عليهم السلام) وعلماء الشيعة الأعلام لم يتركوا ذكر مصائب أبي عبد الله (ع) حتى في أصعب ظروفهم السياسية، بل كانوا يقومون بواجبهم وِفقاً لما يتناسب مع الظروف الحاكمة في عصرهم.

٣- وجود العلاقة الوثيقة بين التاريخ وعمل التربوي

من الواضح أنَّ هنالك ارتباط وثيق بين دراسة التاريخ وبين عمل التربوي، وذلك لأنَّ الإنسان المسلم لا يتسنّى له الاطلاع على الحق والحقيقة من دون الوقوف على تاريخ ذلك الدين أو المذهب الذي ينتمي إليه، ويطَّلع على تاريخ أعلامه وحَمَلَته.

مضافاً إلى أنَّ الإنسان مسؤول عمّا يتَّخذه من مواقف تجاه الآخرين،

ص: 157

سواء كانوا في الماضي أم الحاضر؛ لِما ورد عن الرسول (ص) أنَّه قال: «مَن أحبّ عمل قوم أُشرك معهم، ومَن أحب حجراً حُشر معه» (1). ونحوها من الروايات التي جاءت بألفاظٍ متعدّدة وبطُرق مستفيضة في مصادر الفريقين.

ومن الواضح أنَّ الحديث الشريف، وهو قوله: «مَن أحبَّ عمل قوم. . .» مطلق وشامل لكل قوم، وإنْ لم يكونوا من المعاصرين لذلك العمل أو الفعل الذي قام به جماعة أو فرد، ويمتدّ هذا الشمول إلى أعماق التاريخ منذ صدر البشرية، بل يتَّسع لما سيأتي من أُمم وأقوام لاحقه أنبأ القرآن الكريم عن أحوالهم.

وهذا هو معنى التولّي والتبرّي، أو الولاء والبراءة، الذي يُمثِّل عنصر تربوي بالغ الأهمّية والتأثير في النفس الإنسانية، تجاه الفئات والنماذج البشرية المختلفة، سواء كانت في الماضي أم الحاضر أم المستقبل.

ومن هنا يتَّضح أنَّ باب المحبَّة باب بالغ الأهمّية، لأنَّه يفتح للإنسان من صحائف الأعمال ما يتجاوز حدود عمره القصير، إلى مساحات زمنية شاسعة، ولذا يُثاب بثوابهم.

وهذا المنهج القرآني لا يرمي إلى التربية على الأحقاد والكراهية، ولايهدف إلى إشعال ضغينة أو سخيمة، بل فلسفته هو أن يتربّى الإنسان على كيفية التمييز بين الموقف الصحيح ليتبناه، وبين الموقف الفاسد لينبذه، من خلال على اطّلاعه على التاريخ.

وعلى هذا الضوء تتَّضح ضرورة البحث والتنقيب عن التاريخ

الإسلامي، ليتبيّن للمسلم مواقف وأعمال الأقوام والجماعات، لكي يتحمّل


1- عيون أخبار الرضا (ع) ، ج2، ص62٨؛ بحارالأنوار، ج 2٩، ص16؛ صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب علامة الحبّ في الله؛ صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب المرء مع مَن أحبّ.

ص: 158

مسؤولية موقفه إزاء هؤلاء، من محبَّة وتضامن وولاء، أو كراهة وقطيعة أو براءة.

وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) في تفسير قوله تعالى: فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (الشعراء: 175 ، قال (ع) : «إنّما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمَّم الله بالعذاب لِما عمّوه بالرضا، فقال سبحانه: فأصبحوا نادمين. . .» (1).

وعن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول في قول الله: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قال (ع) : «وقد عُلم أنَّ هؤلاء لم يقتلوا، ولكن كان هواهم مع الذين قتلوا، فسمّاهم الله قاتلين، لمتابعة هواهم ورضاهم لذلك الفعل» (2).

كما قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (البقره: 141 ، وهذه الآية تدل على أنّ التاريخ ليس مسؤولية الجيل الحاضر، وإنّما هو مسؤولية الذين صنعوه، وأنَّ الحاضرين لا يُسألون عن أعمال الماضين، لأنَّه لا معنى لأن يتحمّل الإنسان الحاضر مسؤولية تاريخ لم يصنعه، أو يحمّل الآخرين مسؤولية تاريخ لم يصنعوه، لأنَّ مسألة الآباء والأجداد هي مسألتهم هم، وإنَّما القضية أنَّنا نُسأل عن صنع تاريخنا، وعن أعمالنا، وعن الدليل الذي نعتمده، ولا نُسأل عن دليل الأسلاف، ولا عذر في تقليد الأسلاف فيما عملوه وفعلوه.


1- بحار الأنوار، ج11، ص17٠.
2- تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ج 1، ص 2٠٨.

ص: 159

4- قراءة التاريخ لأجل الاعتبار

لقد علّمنا القرآن الكريم أن نذكر التأريخ لنعتبر به، كما في قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الأَبْصارِ (الحشر: 2 ، وقوله: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَلْبابِ (يوسف: 111 . فهناك فرق بين أن ننقل التاريخ لإثارة الأحقاد، وبين أن ننقل التاريخ لنعتبر به، ولنأخذ منه التجربة والفكرة، كما يلاحظ ذلك في تأكيد القرآن على سرد القصّة التاريخية، لِما لها من دور كبير في العبرة، التي تمثّل الدرس الذي يمكن أن يأخذه العاقلون، فيما يمكن لهم استيحاؤه من التاريخ لمصلحة الحاضر.

فطرح قضية الإمام الحسين (ع) مع جيش عبيد الله بن زياد، يمثّل درساً كبيراً للمسلمين في من له حق الحكم والخلافة، وهل يمكن لمثل (يزيد) أن يحكم المسلمين؟ ! وقد أشار الإمام الحسين لذلك بوضوح، عندما أعطى من نفسه شخصية النموذج الصالح للحاكم، وأعطى (يزيد) شخصية النموذج الطالح، الذي يجب على المسلمين محاربته وعدم السماح له أن يتقلّد مقاليد الحكم، حيث قال (ع) : «نحن أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ومُختلَف الملائكة، ويزيد رجل شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، مُعلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله» ، وهذا درس بليغ يجب على الناس يقتدوا بأمثال الحسين، وأن يتجنَّبوا أمثال يزيد من حُكّام الجور.

اذاً، عندما نقرأ التاريخ ونطلع على قضية الامام الحسين (ع) فانما سوف نهتدى الى شخصية التي تمثل القيم الانسانيه واروع المراتب الروخية تلك الشخصية الّتى انفتحت على الله تعالى وعاشت عمق الاسلام، وانطلقت مع الناس في انفتاح ومحبّة، وتحرّكت فى خط القضايا المتصلة بالجانب

ص: 160

الاسلامي في حركيته في الواقع بينما في الوقت نفسه سوف تطلع على شخصية مضادة تماماً لتلك الشخصية الفذه الاوهي شخصية يزيد عليه لعائن الله الفاسق الذي لا يمتلك اي التزام في المحرمات الشرعية كشرب الخمر، وقتل النفس المحترمة، ولا يمتلك آية قيمة روحية او اخلاقيه.

5- دور مجالس العزاء في توعية الناس

إنَّ مجالس العزاء الحسيني كانت ولا تزال تمثّل عامل إرشاد للمسلمين، ودروساً للجماهير الجالسة تحت منابرها؛ فتشرح لهم عقائد دينهم واحكامهم الشرعية، إلى غير ذلك من قصص التاريخ والسياسة في الدين وغيره. لقد كانت تلك المجالس مَنهلاً لرجال التقوى والصلاح، والباحثين على الحقّ وأهله، ومُنطلقاً للوقوف بوجه الباطل وأهله، فلا يعني تركها إلاّ تركاً لجانب مهمّ من نظام التعليم الديني؛ لذا علينا أن ننتبه للمُحدقين بنا من أعداء الدين والإنسانية، كي لا يفسدوا علينا ما حقّقه الشيعة من أشواط على طريق الوحدة والتضامن بين المسلمين.

ص: 161

الشبهة الثامنة: علم الإمام بالغيب وإشكالية الإلقاء بالتهلكة

تفصيل الشبهة:

بناءً على ما تذهب إليه الشيعة من علم الأئمّة (عليهم السلام) بالغيب، نقول: إنَّ الإمام الحسين (ع) لو كان عالماً بما يصيبه في مسيرته إلى كربلاء، فهو يتنافى مع وجود النهي القرآني عن إلقاء النفس في التهلكة.

الجواب:

إنَّ السيرة الحسينية تتضمّن عدّة إشارات تفيد بأنَّه كان عالماً بمصيره، من خلال الأحاديث المرويَّة عن رسول الله (ص) ، وفيما أثاره في حواره مع الذين طلبوا منه العودة عن قراره بالسفر إلى العراق، وفيما تحدّث به إلى القوم الذين رافقوه من مكة، حيث أعلن لهم النهاية المحتومة التي سينتهي إليها في سفره ذاك.

أمّا كيف يتلاءم ما أقدم عليه الإمام الحسين (ع) مع علمه بمصيره، فالجواب على ذلك يتوقّف على بيان المقدّمة الآتية، التي تفيد أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) يعملون بالعلوم الظاهرية، وأنّهم يؤدّون تكاليفهم المفروضة عليهم، سواء علموا بمصيرهم أم لا.

مقدمة: أهل البيت يعملون بالعلوم الظاهرية

من الواضح أنَّ أهل البيت يعملون بتعليم الله لهم بالعلوم الظاهرية،

ص: 162

وأنهم (عليهم السلام) يؤدّون تكاليفهم سواء علموا بمصيرهم أم لا وعلمهم بما يصيرون اليه ليس من القاء النفس فى التهلكة وانماهم يعملون بوظيفتهم الشرعية بامرالله تعالى وكل فعل اذا كان بامر الله تعالى لا يسمى القاء النفس بالتهلكة و انما هو من باب الاختبار والاختيار كما فعل تعالى بابراهيم (ع) وابنه اسماعيل وكقضية اليهود حيث امرالله بان يقتلوا انفسهم وغير ذلك من الموارد بارادة الله تعالى فهم (عليهم السلام) - بناءً على ما وصلوا إليه من درجة عالية من العصمة والقرب إلى الله تعالى- يُقدمون على امتثال ما عليهم من تكاليف إلهية وإن علموا أنَّها سوف تودي بحياتهم، وتعرّضهم إلى القتل والأذى والدمار وسبي العيال. . . .

فمثلاً الإمام أمير المؤمنين (ع) حينما يُقدم إلى المسجد ويعلم أنَّه سوف يموت، إنَّما هو لأجل أنَّ تكليفه الإلهي اقتضى ذلك، فإقدامه إنّما كان بمحض إرادته، امتثالاً لأمر مولاه؛ ولذا في الرواية عن الرضا (ع) ، حينما سأله السائل عن سبب خروج أمير المؤمنين إلى المسجد مع علمه بما يحصل، كان جوابه (ع) قوله: «لكنه خير» (1)، وهو دال بصراحة على انقياد الإمام أمير المؤمنين وطاعته لله تعالى.

إنَّ ذلك تكليف الهي لابد للإمام من امتثاله، وهكذا الأمر بالنسبة لباقي الأئمة (عليهم السلام) ، كالإمام الحسين (ع) الذي يصرّح بأنَّ ما قام به إنّما هو لأجل امتثاله للتكليف الإلهي، الذي اقتضى التضحية بنفسه في سبيل إصلاح الأُمّة، لذا يقول (ع) في جواب مَن يسأله عن ذلك، بأنَّ قتله قضاء محتوم وأمر واجب (2).


1- ( ( الكليني، ج1، ص25٩.
2- الهداية الكبرى، الحصيني، ص2٠3.

ص: 163

ومن هنا نجد في الحديث الشريف: «نحن نصبر وشيعتنا أصبر، لأنّنا نصبر على ما نعلم، وهم يصبرون على ما لا يعلمون» (1).

فهم (عليهم السلام) وإنْ علموا الغيب، وعلموا بمصائرهم، إلاّ أنَّ هذا العلم لا يؤثّر على سلوك وحركة الإمام (ع) ، لأنَّ تكاليفهم الشرعية ليست قائمة على هذا اللون من العلم، وإنَّما هي قائمة على ما تمليه الأسباب والعلوم الظاهرية، وهذا المعنى يقرّره العلامة المجلسي بقوله: «إنَّ أحكامهم الشرعية منوطة بالعلوم الظاهرة لا العلوم الإلهامية» (2).

وقال الشيخ المفيد في خصوص علم أمير المؤمنين (ع) بموته: «إذا كان لا يمتنع أن يتعبّده الله بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل، ليبلغه الله بذلك من عُلو الدرجة ما لا يبلغه إلاّ به، ولعلمه تعالى بأنّه يطيعه في ذلك طاعةً لو كلّفها سواه لم يؤدّها، ويكون في المعلوم من اللطف بهذا التكليف لخلق من الناس ما لا يقوم مقامه غيره، فلا يكون بذلك أمير المؤمنين (ع) ملقياً بيده إلى التهلكة، ولا مُعيناً على نفسه معونة مستقبحة في العقول» (3).

فالإمام (ع) إذا علم أنَّ الله تعالى أراد منه الإقدام على أمرٍ مُعيَّن، فهو يُقدم وإن علم أنّه يموت، وهذا ليس من الإلقاء في التهلكة كما قيل؛ لأنَّه طاعة وامتثال لله تعالى، لما فيه المصلحة للدين والأُمّة، والفوز بالدرجات الرفيعة والكرامة الإلهية.

كما رخّص الله للمجاهدين أن يتحرّكوا في الساحات التي تؤدّي بهم


1- بحار الأنوار، ج32، ص175.
2- المصدر السابق، ج4٨، ص236.
3- المسائل العكبرية، الشيخ المفيد، ج6، ص7٠.

ص: 164

إلى القتل فرادى أو جماعات، لأنَّ الإسلام يفرض عليهم ذلك، ممّا يجعل دائرة الجهاد خارجة عن دائرة حركة إلقاء النفس بالتهلكة.

فإقدام الإنسان المجاهد على المعركة، سواء علم بأنَّه يموت أم لا، ولعلّ أوضح مثال على ذلك هم أصحاب الحسين (ع) ، حينما أخبرهم (ع) بأنَّهم سوف يُقتلون، فإنَّ علمهم بنتيجة الإقدام إلى المعركة لن يؤثّر في أداء ما عليهم من تكليف وإقدامهم على الموت، وهذا بخلاف بعض مَن فرُّوا وتخاذلوا عن نصرة الإمام الحسين (ع) ؛ لمّا علموا بمصيرهم وأنّهم سوف يقتلون في المواجهة.

وإذا اتَّضحت هذه المقدمة، نقول: إنَّ علم الإمام الحسين (ع) بمصيره لا يدخل تحت عنوان إلقاء النفس بالتهلكة؛ لأنَّه (ع) علم بتكليفه من لزوم القيام بتلك المهمّة الجهادية الموكولة إليه، ورأى فيها إلزاماً شرعياً، فيما هي من الأهمية الكبرى للمصلحة الإسلامية العُليا أن يُقدم على ذلك وإنْ كلّفته حياته؛ لأنَّ المرحلة التي كان يتحرّك فيها لا تستجيب لأيّة مصلحة إسلامية في الصلح، خلافاً للمرحلة السابقة التي عاشها مع أخيه الإمام الحسن (ع) في حربه مع معاوية.

وهكذا نرى أنَّ الموقف كان حاسماً في الإصرار على الثورة في خطّ الشهادة، ولذلك وقف في كربلاء ليرفض كل العروض التي قدَّمها إليه ابن زياد عبر جماعته، في تقديم السلامة له ولأهل بيته ولأصحابه، بشرط أن يتنازل ليزيد، ويدخل في عملية صُلح جديد معه.

ص: 165

الشبهة التاسعة: زيارة الأربعين بِدعة

تفصيل الشبهة:

قالوا إنَّ يوم الأربعين من صفر ليس هو إلاّ زيارة جابر الأنصاري، وليس في هذا اليوم تجديد للعزاء لآل البيت (عليهم السلام) ؛ إذ لم يلتقِ الإمام زين العابدين (ع) بالصحابي جابر الأنصاري في كربلاء، لأنَّه من البعيد أن يكون وصول عائلة الحسين إلى كربلاء يوم الأربعين، والسبب في ذلك هو أنَّ المدَّة التي يستغرقها مسير القافلة من الشام إلى كربلاء لا يقل عن الثلاثة والعشرين يوماً، إذا كان المسير بواسطة الجمال وكانت الحركة مقتصرة على النهار دون الليل، كما أفاد ذلك أصحاب المسافات، ولمّا كان الأمر كذلك، فمعناه أنَّ وصول القافلة إلى كربلاء كان في اليوم الثالث عشر من ربيع الأوَّل، وأمّا لو افترضنا أنّ المسير كان ليل نهار، فالمدَّة التي تحتاجها القافلة للوصول إلى كربلاء هو إحدى عشر يوماً، وهذا معناه أنَّ وصول القافلة كان في غرّة ربيع الأوَّل.

والمرجَّح أنَّ المسير من الشام إلى كربلاء لم يكن ليل نهار، وذلك لأنَّ المُجمَع عليه بين المؤرّخين أنَّ يزيد لمّا وجد غضب الناس عليه، واستنكارهم لقتله الحسين (ع) وسبي عائلته، أوصى النعمان بن بشير أن يسير بقافلة الحسين سيراً رفيقاً إلى المدينة المنورة، وهو يقتضي بأن

ص: 166

لايجهد بهم المسير، فوصول القافلة إلى كربلاء كان بنحو التقريب في اليوم الثالث عشر من ربيع الأوَّل، وقد تفرَّد ابن طاووس في اللهوف بنقل خبر وصول قافلة الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء يوم الأربعين.

ومن هنا استُبعد خبر وصول القافلة في يوم الأربعين جمعٌ من المحقّقين، كالشيخ الطوسي والعلاّمة الحلي والمجلسي والمحدّث النوري وغيرهم.

الجواب:

1- الثابت أنَّ يوم الأربعين هو يوم الزيارة وتجديد العزاء على الحسين (ع) ، وهو يوم زيارة لسيد الشهداء، وزيارة يوم الأربعين من علامات المؤمن، كما روى الشيخ الطوسي (رحمة الله) عن الإمام العسكري (ع) أنَّه قال: «علامات المؤمن خمس: صلاة الخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» (1).

2- روى الشيخ الصدوق بسنده عن فاطمة بنت علي (صلوات الله عليهما) ، تقول: «ثُمَّ إنَّ يزيد (لعنه الله) أمر بنساء الحسين (ع) فحُبسن مع علي بن الحسين (عليهم السلام) في محبس لا يكنّهم من حرًٍ ولا قر، حتى تقشَّرت وجوههم، ولم يُرفَع ببيت المقدس حجر عن وجه الأرض إلاّ وُجد تحته دم عبيط، وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنَّها الملاحف المعصفرة، إلى أن خرج علي بن الحسين (عليهم السلام) بالنسوة، وردّ رأس الحسين (ع) إلى كربلاء» (2).

مضافا الى هذا أنَّ عائلة الحسين (ع) لم يبقوا في الشام الى السنة الثانية، بل عادوا في نفس السنة (3).


1- تهذيب الاحكام، الشيخ الطوسي، ج6، ص52.
2- الأمالي، ص232.
3- انظر: اقبال الأعمال، ص5٨٩.

ص: 167

وعلى أيّة حال، فنحن لا نرى أي مانع الالتزام بالرواية، وأن مجيء العائلة كان في يوم الأربعين، فمن الناحية التاريخية كان دخول السبايا إلى الشام في أوَّل يوم من صفر كما رواه الكفعمي والبهائي والمحدّث الكاشاني، وكان بقاؤهم في الشام خمسة أو سبعة أيّام، ثُمَّ عودتهم إلى كربلاء، مع ملاحظة أنَّ ذهابهم كان أكثر من ذلك، لتوقّفهم في الكوفة، ولأنّهم كانوا يريدون التفرّج عليهم في رحلة الذهاب، بخلاف ذلك في رحلة العودة، وعلى أيّ حال، فإنّ خمسة عشر يوماً، أو ثلاثة عشر يوماً كافية للوصول إلى كربلاء في رحلة العودة.

3- لو سلّمنا أنَّ خبر وصول قافلة الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء يوم الأربعين هو خبر تفرَّد بنقله ابن طاووس، إلاّ أنَّ ذلك لا يدل على كذب الخبر وتحريفه، فلعلَّ السيد بن طاووس قد نقل ذلك عن كُتب لم تصل إلينا، كما ينقل ذلك السيد بن طاووس نفسه بأنَّ المصادر توفّرت عنده كثيرة جداً، لكنَّها لم تصل بأيدينا، وعلى هذا الأساس، فاذا ذكر أحد المتقدّمين واقعة تاريخية، مع كون الناقل غير منحرف في عقيدته، فلا يصحّ اعتبار تلك الواقعة كذباً وتحريفاً، فضلاً عن أنَّ شأن السيد بن طاووس أجلّ من أن يُتَّهم باختراع الأكاذيب.

4- إنَّ مَن ذهب إلى استبعاد وصول قافلة الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء يوم الأربعين، كالشيخ الطوسي والعلّامة الحلّي وغيرهم- كما يدَّعى- فذهابه

إلى ذلك مجرد استبعاد فقط، فهم لم يجزموا بعدم وصول القافلة في يوم الأربعين، ولا يخفى الفرق بين الاستبعاد والجزم. وعلى ضوء هذا، فلا يصحّ القول بأنّ زيارة الحسين وإقامة العزاء يوم الأربعين بأنَّه بدعة، وأنه إدخال شيء ليس من الدين في الدين.

ص: 168

مضافاً إلى ما تقدَّم من الفرق بين زيارة الحسين (ع) يوم الأربعين،

التي وردت في الروايات وقامت عليها سيرة المتشرّعة، وبين وصول القافلة يوم الأربعين.

ص: 169

الشُبهة العاشرة: عدم وجود مصادر تاريخية لواقعة عاشوراء

تفصيل الشبهة:

قالوا إنَّ واقعة عاشوراء تفتقر إلى المصادر التاريخية، فإنَّنا حينما نستقرأ المصادر التاريخية القديمة نجد أنَّ أقدم مصدر وثَّق وقائع عاشوراء هو مقتل أبي مخنف، لكنّ الشيء المُؤلم هو أنَّ هذا الكتاب لم يصلنا، وما تبقّى منه أكثره عن طريق الآخرين من غير الشيعة، وخصوصاًَ المؤرِّخ المعروف أبو جعفر الطبري.

الجواب:

1. أمَّا بشأن شخصية أبي مخنف، الذي يتصدَّر مقتله قائمة أترابه من المقاتل، فهو أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الغامدي 157ه) ، من أصحاب بعض الأئمّة، كالصادق (ع) (1)، وله روايات عنه أيضاً (2)، وكان والده من أصحاب الإمام علي (ع) ، وجدّه مخنف بن سليم (سليمة) الأزدي، من صحابة الرسول (ص) والإمام علي (ع) ، وكان جدّه عاملاً لأميرالمؤمنين (ع) على أصفهان وهمدان في فترة خلافته، وفي معركة الجمل كان مخنف حامل لواء قبيلته (الأزد) ، حتى استشهد (3)هو واثنين من أخوته (4).


1- الفهرس، الطوسي، ص 155.
2- أنظر: رجال النجاشي، تحقيق محمد هادي اليوسفي.
3- وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري.
4- أنظر: تاريخ الطبري، ج 13، ص 36.

ص: 170

ويعدّ أبو مخنف من ثقات المحدّثين، حتى قال عنه ابن النديم: «أبومخنف: بأمرِ العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره» (1).

2. وأمّا بشأن ما دوَّنه من مقتل الحسين (ع) ، فإنَّ روايات هذا المقتل قد شقَّت طريقها إلى بطون الكتب التاريخية؛ فروى لنا الطبري في تاريخه قسماً كبيراً منها، مع ذكر أسانيدها كاملةً، وتناقلها عنه سائر المؤرّخين، ومن الممكن تحصيل جلّ هذه الروايات في مؤلّفات أبي الفرج الأصفهاني، والشيخ المفيد، ومسكويه والرازي، وأبي حنيفة الدينوري، والبلاذري، وابن كثير، لكنّ هذه الكتب وإن لم تذكر مصدرها في النقل، إلاّ أنَّ وحدة مضمون النصوص بينها تكشف رجوعها إمّا إلى تاريخ الطبري أو مقتل أبي مخنف.

3. من الخصوصيات التي تتميّز بها روايات أبي مخنف هي اتّصالها بشاهد العيان، بواسطة أو واسطتين فقط؛ وذلك لأنَّه قد دوَّن مقتله بعد أقلّ من ستين أو سبعين عاماً على الحادثة، وفي هذه المدّة كانت واقعة عاشوراء حديث الناس في المجالس والأسواق. ولا يخفى ما في هذه الميزة من أهمّيةٍ عند الباحث التاريخي، إذ قلّما يحظى مصدر تاريخي بهذا التوثيق المباشر والسريع، لا سيما في تلك الحقب.

4. إنَّ رواة الواقعة لا ينحصر فيما رواه أبو مخنف من روايات، بل هناك العديد من الرواة لهذه الواقعة، وفيما يلي نشير إلى لمحة إجمالية عن رواة الواقعة، ومنهم:

أ) الإمام السجاد (ع) ، حيث وردت عنه روايات متعدّدة تكشف عن تفاصيل هامّة فيما حصل في ليلة عاشوراء وما أعقبها من أحداث.


1- الفهرس، ابن النديم، ص 15٨.

ص: 171

ب) الإمام الباقر (ع) ، الذي كان له من العمر ثلاث أو أربع سنوات، فقد روى أيضاً عدداً من روايات الواقعة وما أعقبها من أحداث.

ج) أبناء الإمام الحسن (ع) ، من غير ما استُشهد منهم، حيث نجا بعضهم ووقعوا في أسر الأعداء، من قبيل عمرو بن الحسن (1)، والحسن المثنى، زوج فاطمة بنت الحسين (ع) (2), حيث ذهب إلى القتال فقاتل حتى قتل منهم سبعة عشر رجلاً، ولمَّا أثقلته الجراحات سقط بين القتلى، فظنَّ العدوّ أنّه قد مات (3)، وحينما جاؤوا لحزِّ الرؤوس عن الأجساد وجدوه حياً، وكان خاله أسماء بن خارجة حاضراً في جيش ابن سعد، فطلب منهم أن يهبوا له ابن أُخته (4)، إلى أن يصل إلى ابن زياد ليقرّر مصيره، فوهبوه له، وبعد معالجة جراحاته أرسله خاله إلى المدينة، وقد كان الحسن المثنّى شاهداً على الواقعة برمَّتها.

د) أبناء الإمام الحسين (ع) وأخواته وأزواجه، وأقرباء بعض الشهداء ممَّن وقع في الأسر، وكذلك مَن بقي من عوائل أصحاب الحسين (ع) ، فقد شهدوا فاجعة عاشوراء وما أعقبها.

5. المقاتلين مع الحسين (ع) الذين نجوا من القتل لأسباب ذكرتها كتب السير والتاريخ، وهم:

أ) غلام عبد الرحمن عبد ربّه الأنصاري الخزرجي، حيث إنّه كان


1- تاريخ الطبري، ج 4، ص 332.
2- الإرشاد، ص 1٩6.
3- اللهوف، ص1٩1.
4- إن علاقة القرابة بين الحسن المثنى وأسماء بن خارجة من جهة أنَّ أُمّ الحسن المثنى كانت من قبيلة أسماء، ووفقاً لتقاليد العرب في ذلك يكون أسماء خالاً للحسن المثنى.

ص: 172

حاضراً في كربلاء بُصحبة مولاه عبد الرحمن، وروى بعض وقائع عاشوراء (1).

ب) عقبة بن سمعان، الذي وقع في أسر ابن زياد يوم عاشوراء (2).

ج) ابن ثمامة الأسدي، بعدما وقع في الأسر، جاءت قبيلته وخلّصته من الأسر واصطحبوه معهم إلى الكوفة (3).

د) الضحاك بن عبدالله المشرقي الهمداني، حيث قاتل جيش ابن سعد حتى اللحظة الأخيرة، ومن ثمَّ وجد لنفسه مهرباً من المعركة، وعاش بعد الحادثة مدّة طويلة روى فيها وقائع كثيرة عن الحادثة، وممَّن رووا عنه أبو مخنف، حيث روى عنه مجموعةً من الروايات، بحسب نقل الطبري.

مضافاً إلى آخرين كانوا في جيش عمر بن سعد، من قبيل حميد بن مسلم، وشبت بن ربعي، الذي عاش تحت وطأة الضمير وعذاباته (4)، وغيرهم.

6. وجود عدد من المصادر التاريخية التي نقلت بعض وقائع عاشوراء دون ذكر الأسانيد، وما يسترعي الالتفات إليه هو أنَّ هذه الروايات تلتقي مع تلك النصوص في المضمون ذاته، من قبيل ما ذكره الصدوق في أماليه (5)، وابن أعثم الكوفي (6)في كتاب الفتوح، واليعقوبي في تاريخه، والمسعودي في مروج الذهب.


1- أنظر: تاريخ الطبري، ج4، ص 321.
2- المصدر السابق، ص 347.
3- الفهرس، الطوسي، ص 155.
4- أنظر: تاريخ الطبري، ج4، ص 332.
5- انظر: الأمالي، المجلس3٠ و31، صص 215 - 22٨.
6- الفتوح، لابن أعثم الكوفي، الفصل السادس.

ص: 173

إلى غير ذلك من المقاتل الأُخرى التي لم تصل إلينا، كمقتلٍ للأصبغ ابن نباته - الذي هو من أصحاب الإمام - و مقتل الحسين المنسوب لهشام الكلبي، أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) ، ومقتل لجابر الجعفي 12٨ ه-) ، وهو من المعاصرين للأئمَّة أيضاً، لكن لم يصلنا منه سوى الاسم والعنوان.

ولا يخفى أنَّ هذه الوفرة في العناوين ومؤلّفيها إن دلَّت على شيء، فإنَّما تدلّ على اهتمام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) البالغ بقضية الامام الحسين (ع) ، والتأكيد على نشر مبادئها، وحرصهم على توثيق الحادثة والحفاظ على حقائقها.

نعم، كانت في مقابل هذه المساعي الحميدة لصيانة تاريخ الحسين ورسالته، محاولات خبيثة يمارسها الأمويّون وسائر سلاطين الجور، لتحريف خط عاشوراء ودسّ السم بين طياته لمحو حقيقته الخالدة عن صفحات التاريخ؛ ولهذا السبب فقدت المكتبة التاريخية العديد من الرسائل والمدوَّنات في القرون الأُولى، على أنَّ ما وصلنا من أحاديث وروايات في هذا المجال ليس قاصراً عن المطلوب، بل كفيل بغرض التوثيق.

و لايخفى أثر ودور وصايا أهل البيت (عليهم السلام) وتوجيهاتهم في خصوص واقعة عاشوراء ونشر تعاليمهما، فهناك الكثير من الروايات المتواترة المتعلّقة بكربلاء، ونصوص يتّصل سندها بالمعصومين (عليهم السلام) .

ص: 174

ص: 175

الشبهة الحادية عشر: لا دليل على لبس السواد في عاشوراء

تفصيل الشبهة:

يقول البعض إنَّ لبس السواد حزناً على الإمام الحسين في عاشوراء وبقية مناسبات عزاء المعصومين (عليهم السلام) لا دليل عليه، وهو يتنافى مع الفتوى المعروفة في فقهنا بكراهة لبس السواد في الصلاة.

الجواب:

1- لا إشكال ولا ريب، ولا خلاف بين الشيعة الإمامية، في أنَّ لبس السواد من أوضح مصاديق تعظيم الشعائر التي أمرنا الله تعالى بتعظيمها في قوله: ذلك ومَن يُعظِّم شعائر الله فإنَّها من تقوى القلوب، وكذلك أنَّها من مظاهر الجزع الذي دلَّت النصوص الكثيرة التي تقدمت عليه.

2- على فرض ثبوت كراهة لبس السواد في الصلاة- الذي يعني قلّة الثواب- فهي مخصَّصة بغير ما كان لإظهار الحزن على الحسين (ع) ؛ للروايات المتضافرة التي دلَّت على الأمر بإظهار شعائر الأحزان.

3- إنَّ نظرةً عاجلة للروايات الناهية عن لبس السواد، نجد أنَّها ناظرة إلى كون السواد بمعنى التشبّه بجبابرة بني العباس، الذين اتَّخذوا السواد لباساً رسمياً لهم، وأجبروا المسلمين عليه، أمّا في العصور والأزمان التي لاتشير إلى هذا الشعار، فمن الواضح أنَّ الكراهة ترتفع لارتفاع ملاكها،

ص: 176

وهو التشبّه بجبابرتهم. وعلى هذا، فكراهة السواد في الروايات غير ناظرة إلى لبس السواد حزناً على الحسين (ع) .

حيث ثبت تاريخياً أنَّ العباسيّين اتَّخذوا الرايات السود شعاراً لهم في حركتهم، وذلك لأجل إيهام الناس بأنَّهم المقصودون من أحاديث النبي (ص) في المهدي (ع) والرايات السود التي تمهّد له من المشرق، ثُمَّ قاموا بأمر أنصارهم بلبس الثياب السود، بذريعة أنَّه حزن على الإمام الحسين (ع) ، ولهذا عُرفوا باسم (المسودة) (1)، وبعد أن أحكموا سيطرتهم على السلطة، أجبروا أعضاء دولتهم بلبس السواد، وبعد ذلك أجبروا الناس بلبس السواد، ومن الروايات التي تشير إلى هذه الحقيقة:

أ- مناقب آل أبى طالب، عن تاريخ الطبري: «أنَّ إبراهيم الإمام أنفذ إلى أبي مسلم لواء النصرة وظلّ السحاب، وكان أبيض طوله أربعة عشر ذراعاً، مكتوب عليه بالحبر: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (الحج: 3٩) . فأمر أبو مسلم غلامه أرقم أن يتحوّل بكل لون من الثياب، فلمّا لبس السواد قال: معه هيبة، فاختاره خلافاً لبني أُميّة وهيبة للناظر. وكانوا يقولون: هذا السواد حداد آل محمد وشهداء كربلاء، وزيد ويحيى» (2).

ب- وذكر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: «أخبرنا يحيى بن علي قال: حدَّثنا عمر بن شبة قال: حدَّثنا علي بن الجعد قال: رأيت أهل الكوفة أيام أخذوا بلبس السواد، حتى أنَّ البقالين إن كان أحدهم ليصبغ الثوب بالأنقاس ثُمَّ يلبسه» (3). والأنقاس: الحبر الأسود.


1- انظر: الكافي، ج٨، ص331.
2- مناقب آل أبى طالب، ج3، ص ٨6.
3- مقاتل الطالبيين، ص212.

ص: 177

وفي موضع آخر قال: «عن عبدالله بن الحسين بن عبدالله بن إسماعيل بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب: امتنع من لبس السواد وخرقه لمّا طُولب بلبسه، فحبس بسُرَّ مَن رأى حتى مات في حبسه، رضوان الله عليه» (1).

ج- وقال ابن كثير في البداية والنهاية: «اجتمع الأوزاعي بالمنصور حين دخل الشام، ووعظه وأحبَّه المنصور وعظّمه، ولمّا أراد الانصراف من بين يديه، استأذنه أن لا يلبس السواد فأذن له، فلمّا خرج قال المنصور للربيع الحاجب: الحقه فاسأله لِمَ كره لبس السواد، ولا تُعلمه أنّي قلت لك. فسأله الربيع فقال: لأنَّي لم أرَ مُحرماً أحرم فيه، ولا ميتاً كُفّن فيه، ولا عروساً جليت فيه، فلهذا أكرهه» (2). وقد ذكر اليعقوبي في تاريخه، والمسعودي في التنبيه والأشراف تفاصيل كثيرة في هذا المجال، كلها تشير إلى أنَّ بني العباس اتَّخذوا السواد شعاراً لهم (3).

4- فعل المعصوم وتقريره في جواز لبس السواد حزناً على أهل البيت (عليهم السلام) .

هنالك عدد وافر من الروايات تؤكّد أنَّ الأئمّة المعصومين قد لبسوا السواد حزناً على الحسين (ع) وغيره من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، ومن هذه الروايات:

أ- روى المجلسي عن البرقي في كتاب المحاسن، أنَّه روى عن عمر ابن زين العابدين (ع) أنَّه قال: «لمّا قُتل جدي الحسين المظلوم الشهيد، لبس نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد، ولم يغيّرنها في حرٍّ أو برد، وكان الإمام زين العابدين يصنع لهنّ الطعام في المأتم» (4).


1- مقاتل الطالبيين، ص3٩3.
2- البداية والنهاية، ج 1٠، ص 127.
3- انظر: تاريخ اليعقوبي، ج2، صص 44٨ و 453؛ التنبيه والأشراف، المسعودي، ص 3٠2.
4- بحار الأنوار، ج 4، ص 16٠.

ص: 178

ب- روى الحرّ العاملي في وسائل الشيعة، عن الحسن بن ظريف بن ناصح، عن أبيه، عن الحسين بن زيد، عن عمر بن علي بن الحسين، قال: «لمّا قتل الحسين بن علي (ع) ، لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لايشتكين من حرٍّ ولا برد، وكان علي بن الحسين (ع) يعمل لهنَّ الطعام للمأتم» (1).

ج- روى المجلسي في البحار: «. . . فلمّا أصبح استدعى حرم رسول الله (ص) فقال لهنّ: أيما أحبّ إليكنّ: المقام عندي، أو الرجوع إلى المدينة؟ ولكم الجائزة السَنية، قالوا: نحبّ أوَّلا أن ننوح على الحسين، قال: افعلوا ما بدا لكم، ثُمَّ أُخليت لهن الحجر والبيوت في دمشق، ولم تبقَ هاشمية ولا قرشية إلاّ ولبست السواد على الحسين، وندبوه- على ما نُقل- سبعة أيّام، فلمّا كان اليوم الثامن، دعاهنَّ يزيد، وعرض عليهنّ المقام فأبين، وأرادوا الرجوع إلى المدينة، فأحضر لهم المحامل وزيَّنها وأمر بالأنطاع الأبريسم» (2).

د- ذكر ابن أبي الحديد «أنَّه لمّا رجع الحسن من دفن أبيه، خرج إلى الناس ليخطب فيهم وعليه ثياب سُود، وهو يبكي لفقد أبيه» (3).

وذكر ابن أبي الحديد أيضاً أنَّ الإمام الحسن والحسين لبسا السواد على

أبيهما ستّة أشهر (4)، وغير ذلك من الروايات الكثيرة، ممّا تشاركها في المضمون ذاته.


1- وسائل الشيعة، ج2، ص357.
2- بحار الأنوار، ج 45، ص 1٩5.
3- انظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج4، ص٨.
4- المصدر السابق.

ص: 179

خلاصة الفصل الثالث

- الشبهة الأُولى:

تحريف عاشوراء من خلال الكذب على المنابر، من قبيل قولهم إنَّ عدد الذين حاربوا الإمام الحسين (ع) كان ستمائة ألف من الخيالة، ومليوناً من المُشاة. . . ونحو ذلك من الأخبار الكاذبة.

الجواب:

1- تقدَّم أنَّ إثبات ما وقع في عاشوراء لا يتوقّف على وجود سند صحيح، لأنَّ ثبوت أية قضية تاريخية لا يتوقّف على وجود سند صحيح وِفق المصطلح الرجالي، وإنّما يكفي الوثوق بصدورها، بل يكتفي البعض بعدم وجود داع إلى الكذب لصحّة الأخذ بالرواية، وعلى هذا الأساس، فلا يصحّ إنكار ورفض أي واقعة بذريعة عدم وجود سند صحيح على نقلها. نعم، ما يربط منها بحُكمٍ شرعي أو نسبة شيء الى المعصوم (ع) ، لابد أن يخضع لموازين الرواية في أحكام الاستنباط.

2- يتحقَّق الكذب المحرَّم في نقل واقعة عاشوراء، بأن يقرأ القارئ خبراً من تأليف نفسه وينسبه إلى غيره، وإمّا أن يعلم القاريء بأنَّ ما ينقله كذب، وإن كان كلاما لغيره. ومن الواضح أنَّ فرض أن يأتي خطيب بخبرٍ من تأليف نفسه بعيد جداً، ولم نسمع أحداً من أصحاب المنابر، حتى

ص: 180

من الدرجات الدُنيا، أو من غير أهل الورع، مَن نقل خبراً من تأليف نفسه، أو يعلم بأنَّه كذب، وإنّما ينقل عن غيره من نَقَلَة الحديث الموثوق بهم، غير المعلوم عنده كذب حديثهم، وعهدة ذلك تقع على راويه، لا على الناقل.

3- إنّ ما ادُّعي من الأخبار المكذوبة، لو سلَّمنا بها، لوجدنا تلك الأخبار لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، في تلك الواقعة التي تبلغ مجريات الأحداث فيها وما سبقها ولحقها المئات.

4- ما ادُّعي من الأخبار الكاذبة لم تك بتلك الدرجة من الأهمّية، بحيث يمكن وصف الواقعة بالكذب والتحريف.

5- إنَّ جملةً من الأخبار التي ادُّعي أنَّها أخبار كاذبة، لم تكن كذلك، وإنَّما هي أخبار ضعيفة، وتقدّم أنَّ الخبر الضعيف لا دليل على كذبه واقعاً.

- الشبهة الثانية:

التحريف في عاشوراء اعتماداً على قاعدة التسامح

- الجواب:

1- إنّ وقائع عاشوراء لم تتضمّن أحكاماً إلزامية ليُنظر في سندها، ولا حُكماً غير إلزامي ليقع الكلام في تحكيم أخبار التسامح في أدلّة السنن.

2- اتَّضح آنفاً أنَّ ثبوت الحقيقة التاريخية لا يخضع لضابطة استنباط الأحكام الشرعية، وإنَّما يخضع لسنخٍ آخر من التعامل مع القضايا التاريخية وما جرى في التاريخ، والسير والقصص والمواعظ والفضائل، وهو أن يكون الضرر فيها مأموناً، على تقدير كذبه في نفس الأمر، وأن لا يكون ممّا لا تنفيه فطرة العقول.

ص: 181

- الشبهة الثالثة:

نسبة كلمات الى الإمام الحسين لا تليق بمقامه، كقول الحسين (ع) لأخته زينب: (أُخيّة، كسرتِ قلبي) ، وقوله: (اسقوني شربة من الماء) وقوله: (هل من ناصر ينصرني) ، وغير ذلك من الكلمات البعيدة كل البُعد عن سيد الشهداء (ع) .

- الجواب:

1- إنّ دليلهم على عدم صدور ذلك ليس سوى الاستبعاد، ومجرّد الاستبعاد لا يصلح دليلاً.

2- إنَّ الإمام الحسين (ع) أراد أن يبيّن ذلك للناس ويُطلعهم على حقيقة هؤلاء الظلمة.

3- إنَّ مَن يفهم فلسفة عاشوراء لا يتفوّه بمثل هذه الادّعاءات البعيدة؛ لأنّ من جملة أهدافها هي إثارة عواطف الناس، ومن الواضح أنَّ تأجيج العاطفة يساهم في إشعال روح الحماسة لدى الناس، ممّا يدفعهم الى رفض الظلم والظالمين، ونبذ الخوف والذلّ، والوقوف بوجه كل يزيد.

- الشبهة الرابعة:

التحريف في هدف الثورة الحسينية. لأنَّ الهدف الأساس من الثورة الحسينية هو الحماسة والثورة والجهاد ضدّ الظلمة، لكنَّهم حصروه بالبكاء، الى أن قيل إنَّ الحسين (ع) قُتل من أجل أن يبكى عليه.

- الجواب:

1- إنَّ عنصري العاطفة و الحماسة عنصران متلازمان لا ينفكان، وكلّما ازدادت العاطفة نتج عن ذلك إثارة بركان الحماسة والوقوف بوجه الظلمة، وما يشهد لذلك قوة محاربة الظلمة لهذه الشعائر.

ص: 182

2- إنّ عظم الفاجعة أكبر وأفجع من أن يتصوّر. . وهي لا تزال حيةً تستجري دموع العيون على ما انقضى من عمرها من قرون. فلها من الأثر والأهمّية ما أبكى أولياء الله ورُسله قبل وقوعها.

- الشبهة الخامسة:

انّ صياح النساء و عويلهنّ بمسمع من الرجال الاجانب حرام؛ لان صوتهنَّ عورة وعليه فيجب عدم السماع لذلك فى الشعائر الحسينيه.

الجواب:

لادليل على حرمة السماع، واما الاستماع فقد وقع البحث فيه فجوزّه البعض بشرط عدم التلذذ والريبة وقد عدّ بعضهم الصياح من مصاديق الجزع، فحرّمه لذلك لكن يردّ، الثابت من بكاء بضعة رسول الله (ص) حتى تاذى منها اهل المدينه فكلموا الامام فى ذلك ولازمه انه كان بصوت مسموع يتأذى منه السامع.

مضافاً الى ان البكاء بصوت الصياح والصراخ على الحسين (ع) قد دل الدليل الخاص على استحبابه وهو مجموعة من الروايات المستفيضة.

ويؤيده سيرة الائمة: حيث عقدوا مجالس الحسين (ع) فى منازلهم وضوبوا ستراً للنساء.

حتى كانت اصواتها عند البكاء تُسمع من الحاضرين ومضافاً ايضاً الى أن مقتضى القواعد الاصولية هو عدم الحرمة فى المورد؛ فلا يحرم الواجب المقارن للحرام مالم يكن مقارناً لذات الواجب والاّ لحرمت الصلاة حال النظر الى الاجنبيّة اثناء الصلاة.

- الشبهة السادسة:

ما ورد في زيارة الناحية غير معقول، حيث ورد في زيارة الناحية قول

ص: 183

الإمام الحجة (ع) : «. . . فخرجنَ من الخدور ناشرات الشعور» ، وهو بعيد لمنافاته ولزوم الستر.

الجواب:

يمكن توجيه هذه العبارة بما يلي

الأوَّل: لم يكن خروج النساء أمام الأجانب، بل خرجن الى ما يقرب من المخيمات الأُخرى، لا سيما مع ما ورد من أنَّ الإمام الحسين (ع) أمر بأن تُجعل خيام النساء متوسّطة في المخيم.

الثاني: النساء اللاتي خرجنَ لسنَ من نساء أهل البيت (عليهم السلام) .

- الشبهة السابعة:

إحياء عاشوراء فتنة تفرّق المسلمين

الجواب:

1- إقامة أهل البيت (عليهم السلام) للعزاء الحسيني في مختلف الظروف.

2- وجود العلاقة الوثيقة بين التاريخ والعقيدة، وذلك لأنَّ الإنسان المسلم لا يتسنّى له الاطّلاع على الحق والحقيقة من دون الوقوف على تاريخ ذلك الدين أو المذهب الذي ينتمي اليه، مضافاً الى أنَّ الإنسان مسؤول عمّا يتَّخذه من مواقف تجاه الآخرين، سواء كانوا في الماضي أم الحاضر.

3- قراءة التاريخ لأجل الاعتبار.

- الشبهة الثامنة:

التنافي بين علم الإمام بالغيب وبين إلقاء نفسه بالتهلكة

- الجواب: من الواضح أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) - بناءً على ما

وصلوا إليهم من درجة عالية من العصمة والقُرب إلى الله تعالى - يقدمون على امتثال ما

ص: 184

عليهم من تكاليف إلهية وإن علموا أنَّها سوف تودي بحياتهم، وتعرّضهم إلى القتل والأذى والدمار وسبي العيال. . .

والإمام الحسين (ع) وإنْ علم بمصيره، لكنَّ ذلك لا يدخل تحت عنوان إلقاء النفس بالتهلكة؛ لأنَّه (ع) علم بتكليفه من لزوم القيام بتلك المهمّة الجهادية الموكولة إليه، للمصلحة الإسلامية العُليا.

- الشبهة التاسعة:

زيارة الأربعين بِدعة؛ لأنَّ السجّاد لم يلتقِ بالصحابي جابر الأنصاري في كربلاء، لانَّه من البعيد أن تصل عائلة الحسين إلى كربلاء يوم الأربعين.

- الجواب:

1- الثابت أنَّ يوم الأربعين هو يوم الزيارة وتجديد العزاء على الامام الحسين (ع) ، وهو يوم زيارة لسيد الشهداء، وأنَّها من علامات المؤمن.

2- إنَّ خبر وصول قافلة السبايا يوم الأربعين لم يتفرّد به ابن طاووس، فقد روى الخبر كل من الشيخ المفيد في مسار الشيعة، والشيخ الصدوق (رحمة الله) ، وذكره أيضاً كل من البيروني في الآثار الباقية. . . .

وعليه فلا مانع من الالتزام بالرواية وأنّ مجيء العائلة كان في يوم الأربعين.

3- لو سلّمنا تفرّد ابن طاووس بنقل الخبر، إلاّ أنَّ ذلك لا يدلّ على كذب الخبر وتحريفه، فلعلّ السيد بن طاووس قد نقل ذلك عن كُتب لم تصل إلينا، كما ينقل ذلك السيد بن طاووس نفسه بأنَّ المصادر توفّرت عنده كثيرة جداً، لكنّها لم تصل بأيدينا، فضلاً عن أنَّ شأن السيد بن طاووس أجلّ من أن يُتَّهم باختراع الأكاذيب.

ص: 185

4- إنَّ ما ذهبوا إليه هو مجرَّد استبعاد فقط، والاستبعاد لايصلح دليلاً.

- الشبهة العاشرة:

عدم وجود مصادر تاريخية لواقعة عاشوراء، والمصدر الوحيد هو مقتل أبي مخنف، وهو لم يصل إلينا

- الجواب:

1- إنَّ روايات هذا المقتل قد شقَّت طريقها إلى بطون الكتب التاريخية؛ فروى لنا الطبري في تاريخه قسماً كبيراً منها، مع ذكر أسانيدها كاملةً، وتناقلها عنه سائر المُؤرّخين.

2- إنَّ رواة الواقعة لا ينحصر فيما رواه أبو مخنف، بل هناك العديد من الرواة لهذه الواقعة، من قبيل الإمام السجاد (ع) ، والإمام الباقر (ع) وأبناء الإمام الحسن (ع) ، من غير ما استشهد منهم، وأبناء الإمام الحسين (ع) وأخواته وأزواجه، وأقرباء بعض الشهداء ممَّن وقع في الأسر، والمقاتلين مع الحسين (ع) الذين نجوا من القتل، مضافاً الى آخرين كانوا في جيش عمر بن سعد، من قبيل حميد بن مسلم، وشبث بن ربعي، وغيرهم.

3- وجود عدد من المصادر التي نقلت بعض وقائع عاشوراء دون ذكر الأسانيد، من قبيل ما ذكره الصدوق في أماليه، وابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح، واليعقوبي في تاريخه، والمسعودي في مروج الذهب.

- الشبهة الحادى عشر:

لا دليل على لبس السواد في عاشوراء

- الجواب:

1- إنَّ لبس السواد من أوضح مصاديق تعظيم الشعائر التي أمرنا الله

تعالى بتعظيمها في قوله: (ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ) ، وكذلك أنّها من

ص: 186

مظاهر الجزع الذي دلَّت النصوص الكثيرة التي تقدمت عليه.

2- على فرض ثبوت كراهة لبس السواد في الصلاة- الذي يعني قلّة الثواب- فهي مخصَّصة بغير ما كان لإظهار الحزن على الحسين (ع) .

3- إنَّ الروايات الناهية عن لبس السواد نجد أنَّها ناظرة الى كون السواد بمعنى التشبّه بجبابرة بني العباس، أمّا في العصور التي لا تُشير الى هذا الشعار، فإنَّ الكراهة ترتفع؛ لارتفاع ملاكها، وهو التشبُّه بجبابرتهم.

4- هنالك عدد وافر من الروايات تؤكّد أنَّ الائمَّة المعصومين قد لبسوا السواد حزناً على الحسين (ع) وغيره من الائمَّة المعصومين (عليهم السلام) .

ص: 187

المصادر

* القرآن الكريم

1. إحقاق الحق (الملحقات) ، المرعشي النجفي، قم، 14٠٩ه.

أحكام الجنائز وبدعها، محمد ناصر الألباني، ط4، بيروت، المكتب الإسلامي، 14٠6ه.

الإرشاد، الشيخ المفيد، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط2، بيروت، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، 1٩٩3م.

2. الإستيعاب، ابن عبدالبر، علي محمد البجاوي، بيروت، دار الجيل، 1412ه.

أُسد الغابة، ابن الأثير، بيروت، دار الكتاب العربي.

الإصابة، ابن حجر، الشيخ عادل أحمد عبد الموجود / الشيخ علي محمد معوض، بيروت، دارالكتب العلمية، 1415ه.

3. الأغاني، أبوالفرج الأصفهاني، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

4. اقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، طهران، دار الكتب الإسلامية.

5. الإمتاع، للمقريزي، تحقيق وتعليق: محمد عبد الحميد النميسي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1٩٩٩م.

6. بحارالأنوار، العلامة المجلسي، ط2 (المصححة) ، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1٩٨3م.

7. بدائع الصنائع، أبوبكر بن مسعود الكاشاني، ط1، باكستان، المكتبة الحبيبية، 14٠٩ه.

ص: 188

٨. البداية والنهاية، ابن كثير، تحقيق وتدقيق وتعليق: علي شيري، ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 14٠٨ه.

٩. البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحراني، مؤسسة دار المجتبى.

1٠. تاريخ الإسلام، الذهبي, ط1، دار الكتاب العربي، 14٠7ه.

11. تاريخ الطبري، الطبري، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، ط4، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1٩٨3م.

12. التاريخ الكبير، البخاري، ديار بكر، المكتبة الإسلامية.

13. تاريخ اليعقوبي، ابن واضح اليعقوبي، بيروت، دار صادر.

14. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415ه.

15. تحرير الوسيلة، السيد الخميني، ط2، النجف الأشرف، مطبعة الآداب، 13٩٠ه.

16. تذكر الفقهاء، العلامة الحلي، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط1، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، 1414ه.

17. تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي، بيروت، مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام) ، 1٩٨1م.

1٨. تفسير ابن كثير، ابن كثير، ط 3، بيروت، دارالفكر.

1٩. تفسير الرازي، الرازي، ط3.

2٠. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، تحقيق: الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية.

21. تفسير القرآن (الجامع لأحكام القرآن) ، القرطبي، تحقيق وتصحيح: أحمد عبد العليم البردوني.

22. تفسير القمي، تصحيح وتعليق وتقديم: السيد طيب الموسوي الجزائري، مطبعة النجف، 13٨7م

ص: 189

.

23. التفسير غريب القرآن، فخر الدين الطريحي، تحقيق: محمد كاظم الطريحي، قم، انتشارات زاهدي.

24. تفسير مجمع البيان، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1415ه.

25. تهذيب الأحكام، الطوسي، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1364ه. ش.

26. تهذيب الكمال، المزي، بيروت، مؤسسة الرسالة.

27. الثقات، محمد بن حبان التميمي، ط1، بيروت، مؤسسة الكتب العلمية، 13٩3ه.

2٨. ثواب الأعمال، أبوجعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية، ط2، قم، منشورات الرضي، 1412ه.

2٩. جامع البيان، الطبري، تحقيق: لجنة من العلماء والمحقّقين الأخصائيين، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1٩٩5م.

3٠. جامع الشتات، الميرزا القمي، ط 1، مؤسسة كيهان، 1413ه.

31. جواهر الكلام، الشيخ حسن النجفي، ط3، دارالكتب الإسلامية، 14٠٩ه.

الخصال، الصدوق، قم، منشورات جماعة المدرسين التابعة لجماعة المدرسين.

32. خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، العلامة الحلي، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، ط1، مؤسسة النشر الإسلامي، 1417ه.

33. الدر المنثور في التفسير المأثور، السيوطي، بيروت، دار الفكر، 1٩٩3م.

34. درر السمطين، الزرندي الحنفي، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، ط1، بيروت، مؤسسة المحمودي للطباعة والنشر، 13٩٨ه.

35. دلائل النبوة، أبي بكر أحمد البيهقي، ط2، المكتب الإسلامي، 1423ه.

ص: 190

36. الديباج على مسلم، السيوطي، المملكة العربية السعودية، دار ابن عفان للنشر والتوزيع.

37. ذخائر العقبى، أحمد بن عبدالله الطبري، مكتبة القدسي، 1356ه.

3٨. الذرية الطاهرة النبوية، محمد بن أحمد الدولابي، تحقيق: سعد المبارك الحسن، ط1، الكويت، الدار السلفية، 14٠7ه.

3٩. رجال النجاشي، النجاشي، قم المشرفه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

4٠. الرسائل الفقهية، الأنصاري، تحقيق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، ط1.

41. الرعاية في احكام الدراية، الشهيد الثاني، تحقيق: عبدالحسين محمد علي بقال، ط2، قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، 14٠٨ه.

42. الروض النضير، تحقيق: مؤسسة أمير المؤمنين للتحقيق، ط1، قم، 141٩ه.

43. زاد المسير، ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، 14٠4ه.

44. سلسة الأحاديث الصحيحة، محمّد ناصر الألباني، الرياض، مكتبة المعارف.

45. السيرة الحلبية، بيروت، دارالمعرفة، 14٠٠ه.

46. سيرتنا وسنتنا، الأميني، دار الغدير.

47. شرايع الإسلام، المحقق الحلي، تحقيق و تعليق: السيد صادق الشيرازي، ط2، قم، أمير، 14٠٩ه.

4٨. شرح صحيح مسلم، النووي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1٩٨7م.

4٩. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، ط 1، دار إحياء الكتب العربية، 1٩5٩م.

5٠. الشيخ الصدوق، الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية، ط1، قم، مؤسسة البعثة، 1417ه

ص: 191

.

51. الصحاح، الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، ط4، بيروت، دار العلم للملايين، 1٩٨7م.

52. صحيح سُنن الترمذي، الألباني، الرياض، مكتبة المعارف.

53. صراط النجاة، السيد الخوئي، ط1، 1٩٩7م.

54. علم اصول الفقه، عبدالوهاب خلاف، ط٩، الكويت، دار القلم، 13٩٠ه. ق.

عون المعبود، العظيم آبادي، بيروت، دار الكتب العلمية.

55. عيون أخبار الرضا (ع) ، أبوجعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه الصدوق، تحقيق: حسين الأعلمي، بيروت، مؤسسة الأعلمي.

56. الغدير، الأميني، إعداد: الشيخ فارس تبريزيان الحسون.

57. فتاوى علماء الدين حول الشعائر الحسينية، بيروت، مؤسسة المنبر الحسيني.

5٨. فتح الباري (شرح صحيح البخاري) ، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، بيروت، دارالمعرفة، 137٩.

5٩. الفتوح، ابن أعثم الكوفي، تحقيق: الدكتور سهيل زكار، بيروت، دار الفكر.

6٠. الفروق اللغوية، أبوهلال العسكري، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، ط1.

61. الفصول المهمَّة في معرفة الأئمَّة، ابن الصباغ المالكي، دار الحديث للطباعة والنشر، 1411ه.

62. فهرست ابن النديم البغدادي، تحقيق: رضا.

الفهرست، الطوسي، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية.

63. القاموس المحيط، الفيروز آبادي.

64. الكافي، الكليني، تحقيق: علي أكبر غفاري، ط2، دار الكتب الإسلامية، 13٨٨ه.

65. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، بيروت، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، 13٨6- 1٩66

ص: 192

.

66. الكشاف (هامش) ، الزمخشري، منشورات البلاغة، طبعة مصوَّرة.

67. كشف القناع، البهوتي، تقديم: كمال عبدالعظيم العناني، تحقيق: أبو عبدالله محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، ط1، بيروت، منشورات محمد علي بيضون- دار الكتب العلمية، 141٨ه.

6٨. كنز العمال، المتقي الهندي، تحقيق ضبط وفهرسة: الشيخ صفوة السقا، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1٩٨٩م.

6٩. لسان العرب، ابن منظور، قم، نشر أدب الحوزة، 14٠5ه.

7٠. المجازات النبوية، الشريف الرضي، تحقيق وشرح: طه محمد الزيتي، قم، منشورات مكتبة بصيرتي.

71. المحاسن، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، تحقيق: جلال الدين الحسيني، طهران، دار الكتب الإسلامية.

72. محمد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات، تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا محسن كوچه باغي، طهران، مطبعة الأحمدي.

73. المزار الكبير، محمد بن جعفر المشهدي، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، ط1، مؤسسة النشر الإسلامي، 141٩ه.

74. المسائل العكبرية، الشيخ المفيد، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط2، قم المقدسه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

75. مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ، ط1، 14٠٨ه.

76. مستمسك العروة الوثقى، محسن الحكيم، مكتبة السيد المرعشي، 14٠4ه.

77. مستند الشيعة، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

7٨. مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث.

ص: 193

7٩. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، بيروت، دار صادر.

٨٠. مصابيح السنة، البغوي.

٨1. مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني، محمد علي كاشف الغطاء، النجف الأشرف، مطبعة الآداب، 14٠٨ه.

٨2. المصنف، ابن أبي شيبة الكوفي، تحقيق وتعليق: سعيد اللحام، ط1، بيروت، دارالفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 14٠٩ه. .

٨3. معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإعلام الإسلامي، 14٠4ه.

٨4. المغني، ابن قدامة، بيروت، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع.

٨5. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ط1، دفتر نشر الكتاب، 14٠4ه.

٨6. مقاتل الطالبيين، تقديم وإشراف: كاظم المظفر، ط2، النجف الأشرف، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، 1٩65م.

٨7. مناقب آل ابي طالب، ابن شهر آشوب، تحقيق: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، النجف الأشرف، مطبعة الحيدرية، 1٩56م.

٨٨. منهاج السنة، ابن تيمية، تحقيق: الدكتور محمد رشاد، ط1.

٨٩. موسوعة كلمات الحسين (ع) ، ط3، دار المعروف للطباعة والنشر، 1٩٩5م.

٩٠. الموضوعات في الآثار والأخبار- عرض ودراسة، الحسني، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1365.

الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي، قم المقدسة، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية.

٩1. نهاية الدراية، السيد الصدر، تحقيق: ماجد الغرباوي، قم، اعتماد.

ص: 194

٩2. النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي / محمود محمد الطناحي، ط 4، قم، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، 1364ش.

٩3. نور العين في مشهد الحسين، أبو إسحاق الاسفرائيني، ط1، تونس، المنار، 14٠٠ه.

٩4. الهداية الكبرى، الحصيني، ط4، بيروت، مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع، 1411ه.

٩5. وسائل الشيعة، الحر العاملي، تحقيق و نشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط2، قم المقدسة، 1414ه.

وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري، القاهرة، المؤسسة العربية للطبع والنشر.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.