تاريخ الشيعه و عقيدتهم

اشارة

سرشناسه : قائمي، آفرين خلاصه كننده.

عنوان قراردادي : اضواء علي عقائدالشيعه الاماميه و تاريخهم. برگزيده.

عنوان و نام پديدآور : تاريخ الشيعه و عقيد تهم : تلخيص من اضواء علي عقائد الشيعه الاماميه و تاريخهم/تاليف جعفر السبحاني ؛ الملخص آفرين القائمي.

مشخصات نشر : تهران: مشعر، 1387.

مشخصات ظاهري : 171 ص.

شابك : 12000 ريال:978-964-540-155-7

وضعيت فهرست نويسي : فيپا

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس.

موضوع : شيعه اماميه -- عقايد.

موضوع : ائمه اثناعشر -- سرگذشتنامه.

موضوع : شيعه -- تاريخ.

موضوع : كلام شيعه -- اماميه.

شناسه افزوده : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 - -- اضواء علي عقائد الشيعه الاماميه و تاريخهم. برگزيده.

رده بندي كنگره : BP211/5/س18الف63017 1387

رده بندي ديويي : 297/4172

شماره كتابشناسي ملي : 1338418

ص: 1

المقدّمة

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

سمات العقيدة الإسلامية

للعقيدة الإسلامية صفات متعدّدة؛ منها: سهولة فهمها وتعلّمها؛ لأنّها عقيدة شاملة لاتختص بالفلاسفة والمتكلّمين والمفكرين بالرغم من عمقها، إلّا أنّ ذلك لايعني سذاجتها وابتذالها وعدم خضوعها للبراهين العقلية، فللعقيدة براهينها الواضحة التي يمكن أن يقف عليها كلّ من درسها وإنّ من العوامل التي ساعدت على سرعة انتشار الإسلام في مختلف الحضارات وتغلغله بين الأوساط اتّصافه بسهولة العقيدة ويسرالتكليف ومن المعلوم أنّ الإذعان بشي ءٍ متوقّف على ثبوت مقدّمات بديهية أو نظرية منتهية إليه حتّى يستتبعها اليقين

ص: 6

والإذعان واطمئنان القلب ورسوخ الفكرة في القلب والنفس. وهذا هو الذي يفرض علينا أن نستجيب للعقل، باعتباره العمود الفقري للعقائد التي يبتني عليها صرح النبوّة المحمدية(ص)، ولذلك نرى أنّ الكتاب العزيز يثبت هذا الأصل بدلالة العقل وإرشاده (1). وهذا يفرض علينا أن نفتح قلوبنا لنداء العقل ودعوته.

إنّ رفض العقل في مجال البرهنة على العقيدة- من قبل بعض الفرق- صار سبباً لتغلغل الخرافة في عقائد كثير من الطوائف الإسلامية، وعلى أثر ذلك دخلت أخبار التجسيم والتشبيه في الصحاح والمسانيد عن طريق الأحبار والرهبان الذّين تظاهروا بالإسلام وأبطنوا اليهودية والنصرانية وخدعوا عقول المسلمين، فحشروا عقائدهم الخرافية بين المحدّثين والسذّج من الناس الذين اغترّوا بإسلامهم.

و ليس معنى ذلك أنّ المرجع الوحيد في العقيدة هوالعقل دون الشرع، بل إنّ اللبنات الأوّلية لصرح العقيدة الإسلامية يجب أن


1- انظر: الأنعام: 103 والأعراف: 143 وآل عمران: 190 والأنبياء: 22 والمؤمنون: والإسراء: 42 و ...

ص: 7

تكون خاضعة للبرهان، وأمّا الأمور الفرعية فلا مانع أن تثبت بالنقل بشرطين:

الأول: أن لاتناقض حكم العقل،

و الثاني: ثبوت صدورها عن الشارع،

فعندما نثبت بحكم العقل نبوّة النبي الأكرم(ص) يكون كلّ ما جاء به النبي(ص) حجة في العقائد والأحكام، لكن بشرط الاطمئنان بصدوره عن النبي الأكرم(ص).

و لقد ركّز هذا الكتاب على بيان المشتركات التي تجمع بين الطائفتين(السنّة والشّيعة) على صعيد العقيدة والشريعة والفكر، إلى جانب بيان الفوارق التي ساقها إليهم الدليل والبرهان، هذا في الوقت الذي نذعن فيه لما قاله رائدنا السيد شرف الدين العاملي(رحمة الله) حينما خاطب علماء السنّة بقوله: مايجمعنا؛ أكثر ممّا يفرّقنا.

و تبعه الشاعر المخلق محمد حسن عبدالغني المصري، شاعرالأهرام لمّا قال:

إنّا لتجمعنا العقيدة أُمّةً وي-- ضمّنا دين الهدى أتباعاً

و يؤلّف الاسلامُ بين قلوبنا مهما ذهبنا في الهوى أشياعاً

ص: 8

و في الختام نرجو من الله سبحانه أن يكون هذاالكتاب مساهمة متواضعة في سبيل تقريب الخطى بين المسلمين وتوثيق أواصر الأخوة وتعزير التعاون المشترك بينهم كي يكونوا صفّاً واحداً أمام أعدائهم، إنّه على ذلك لقدير وبالإجابة جدير.

ص: 9

الفصل الاوّل: الشيعة في موكب التاريخ

مبدأ التشيّع وتاريخ نشأته

التشيّع يظهر بأوضح صورة من خلال الالتفاف والمشايعة للوصي الذي اختاره رسول الله(ص) خليفة له بأمرالله تعالى، فإذا اعتبرنا أنّ التشيّع يرتكز أساساً على استمرار القيادة بالوصي، فلانجد له تاريخاً سوى تاريخ الإسلام، والنصوص الواردة عن رسول الله(ص) تدلّ وبوضوح على أنّ الإستجابة اللاحقة استمرار حقيقي لما سبقها في عهد رسول الله(ص)، وإذا كان كذلك فإنّ جميع من استجابوا لرسول الله(ص) وانقادوا له انقياداً حقيقياً يعدّون بلاشك روّاد التشيّع الأوائل وحاملي بذوره؛ فالشيعة هم

ص: 10

المسلمون من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسانٍ في الأجيال اللاحقة، من الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة، ولم يغيّروه ولم يتعدّوا عنه إلى غيره ولم يأخذوا بآرائهم الخاصّة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1)، ففزعوا في الأصول والفروع إلى علي(ع) وعترته الطاهرة(عليهم السلام)، وانحازوا عن الطائفة الأخرى من الذين لم يتعبّدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة، حيث تركوا النصوص وأخذوا بآرائهم.

أخرج ابن عساكر عن جابربن عبدالله قال: كنّا عندالنبي صلّى الله عليه] وآله [وسلّم فأقبل علي](ع) [فقال النبي صلّى الله عليه] وآله [و سلّم

«و الذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»

ونزلت(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (2) فكان أصحاب النبي صلّى الله عليه] و آله [و سلّم إذا أقبل علي](ع) [قالوا: جاء خير البرية. (3)


1- حجرات: 1.
2- البيّنة: 7.
3- الدرّ المنثور للسيوطى: 6/ 589. آية 7: بيّنة ومثلهما عن عائشة و ...

ص: 11

و روى ابن حجر في صواعقه عن امّ سلمة: كانت ليلتي، وكان النبي عندي فأتته فاطمة فتبعها علي- رضي الله عنهما- فقال النبي: يا علي أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنّة (1).

و روى أحمد في المناقب: أنّه قال لعلي: أما ترضى أنّك معي في الجنّة والحسن والحسين وذريتنا خلف ظهورنا وأزواجنا خلف ذريتنا وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا. [ومثله] روى الطبراني (2).

و روى ابن حجر: أنّه مرّ علي على جمع .... فقال(ع): شيعتنا هم العارفون بالله العاملون بأمرالله (3).

و هذه النصوص المتظافرة الغنية عن ملاحظة أسنادها تعرب عن كون علي(ع) متميّزاً بين أصحاب النبي بأنّ له شيعة وأتباعاً ولهم مواصفات وصفات كانوا مشهورين بها في حياة النبي وبعدها.

فبعد هذه النصوص لايصحّ للباحث أن يلتجأ إلى فروض ظنّية أو وهمية في تحديد تكوّن الشيعة وظهورها.


1- الصواعق: 161 ط قاهره. وأيضاً 154.
2- الصواعق: 161.
3- المصدر: 154.

ص: 12

الشيعة في كلمات المؤرخين وأصحاب الفرق

قد غلب استعمال لفظ الشيعة بعد عصر الرسول(ص) تبعاً له فيمن يوالي علياً وأهل بيته ويعتقد بإمامته ووصايته، ويظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات والتّي نشير إلى بعضها:

- روى المسعودي في حوادث وفاة النبي(ص): أنّ الإمام علياً أقام ومن معه من شيعته في منزله بعد أن تمّت البيعة أبي بكر. (1)- وقال محمد بن أحمد بن خالدالبرقي(ت/ 274 ه.(: إنّ أصحاب علي ينقسمون إلى الأصحاب، ثم الأصفياء، ثمّ الأولياء، ثم شرطة الخميس ... ومن الأصفياء سلمان الفارسي والمقداد وأبوذر وعمّار وأبوليلى وشبير وأبوسنان وأبوعمرة وأبوسعيد الخدري وأبوبرزة وجابربن عبدالله والبراءبن عازب وطرفة الأزري. (2)- وقال النوبختي(ت 313 ه. ق): إنّ أوّل فرق الشيعة وهم فرقة علي بن أبي طالب، المسمّون شيعة علي في زمان النبي صلّى الله عليه] و آله [و سلّم وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته. (3)


1- الوصيّة للمسعودي: 121 ط نجف.
2- الرجال للبرقي: 3(ط. تهران)، ولاحظ فهرست ابن النديم: 263 ط. القاهرة وعبارته قريبة من عبارة البرقي.
3- فرق الشيعة: 15.

ص: 13

هذا كلّه يعرب عن أنّ لفيفاً من الأمّة في حياة الرّسول وبعده إلى عصر الخلفاء وما تلاهم كانوا مشهورين بالتشيّع لعلي، وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرّسول وتبعته الأمّة في ذلك، وما زال التشيع ينمو وينتشر بين المسلمين في الأقطار المختلفة.

وإذا كان العنصر المقوّم لإطلاق عبارة الشيعة هومشايعة علي(ع) بعد النبي الأكرم(ص) في الزعامة والوصاية أوّلًا، وفي الفعل والترك ثانياً فإنّه من غير المنطقي محاولة افتراض علّة اجتماعية أوسياسية أو كلامية لتكوّن هذه الفرقة.

روّاد التشيع في عصر النبي (ص)

وسنقتصر في حديثنا على إيراد جملة من أولئك الصحابة الذين اشتهروا بالتشيّع ونسبوا له: عبدالله بن عباس، عبدالله بن جعفر، عون بن جعفر، محمد بن جعفر، من مشاهير بني هاشم (1) و أمّا غيرهم: سلمان الفارسي، المقداد بن الأسود الكندي، أبوذرالغفاري، عماربن ياسر، حذيفة بن اليمان، خزيمة بن ثابت، أبوأيوب الأنصاري مضيف النبي(ص)، سعد بن عبادة، عدي بن حاتم، بلال بن رباح الحبشي، عثمان بن حنيف، حجر


1- فى أصل الكتاب 21 نفرات.

ص: 14

ابن عدي، جابر بن عبدالله الأنصاري، محمد بن أبي بكر، زيد بن صوحان (1) و ...

الكتب المؤلّفة حول روّاد التشيّع

1: صدرالدين السيد علي المدني الحسيني الشيرازي، توفي(1120 ق) .... «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الإمامية».

قام في الباب الأوّل بترجمة 23 صحابياً من بني هاشم لم يفارقوا علياً قط، كما قام في الباب الثاني بترجمة 46 صحابياً.

2: ذكر الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه «أصل الشيعة وأصولها» أسماء جماعة من الصحابه كانوا يشايعون علياً في حلّه وترحاله.

3: كما أنّ الإمام السيد عبدالحسين شرف الدين(1290- 1377 ق) قام بجمع أسماء الشيعة في الصحابة حسب حروف الهجاء، ثم ابتدا بأبي رافع القبطي مولى رسول الله(ص) وختمهم بيزيد بن حوثرة الأنصاري. وأنّه(رحمة الله) قد ذكر ما يربو على المأتين من أسمائهم.

4: قام الخطيب المصقع الدكتور الشيخ أحمد الوائلي بذكر


1- إلى 50 نفرات.

ص: 15

أسماء روّاد التشيّع في عصر الرسول في كتابه «هوية التشيع» فجاء بأسماء مائة وثلاثين من خلّص أصحاب الإمام(ع) من الصحابة الكرام ....

5) «الشخصيات الإسلامية» للشيخ جعفر السبحاني، طبع منه جزءان. والكتاب باللّغة الفارسية، ونقله إلى العربية الشيخ المحقق البارع جعفر الهادي، وطبع ونشر. وأخيراً فإنّ من أراد أن يقف بشكل جلي على روّاد التشيّع في كتب الرجال لأهل السنّة .... يرجع إلى أمثال:

1- الاستيعاب لابن عبدالبرّ(ت 456 ه.)

2- أسد الغابة للجزري(ت 606 ه.)

3- الإصابة لابن حجر(ت 852 ه.)

و غير ذلك من امّهات كتب الرّجال المعروفة.

الشيعة في العصرين: الأموي والعباسي

الشيعة في العصر الأموي

بعد أن لبّى الإمام علي(ع) دعوة ربّه في ليلة الحادي والعشرون من رمضان على يد أشقى الأوّلين والآخرين بويع بالخلافة ولده الامام الحسن(ع)، وكان أوّل من بايعه قيس بن

ص: 16

سعد الأنصاري ثمّ تتابع الناس على بيعته، بيد أنّ الأمور لم تستقم للإمام الحسن(ع) لجملة من الأسباب المعروفة، أهمّها تخاذل أهل العراق أوّلًا، وكون الشيوخ الذين بايعوا علياً والتفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم والمناصب ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن ثانياً، وإنّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً، كما أنّ قسماً من جيشه كانوا من الخوارج أوأبنائهم رابعاً، إلي غيرذلك من الأسباب الّتي دفعت الإمام إلى قبول الصلح مع معاوية.

و قد قام معاوية بتتبّع شيعة علي وقتلهم، توالت المجازر تترى بعد معاوية إلى آخر عهد الدولة الأموية، فلم يكن للشيعة في تلك الأيام نصيب سوى القتل والنفي والحرمان حتى أنّ بقاء التشيّع في هذه العصور المظلمة كان معجزة من معاجزالله سبحانه. وإليك بعض الوثائق من جرائم معاوية:

رسالة الإمام الحسين(ع) إلي معاوية:

«ألست قاتل حُجر وأصحابه العابدين؟ إلى أن قال أولست قاتل الحضرمي؟ ... لاتردنّ هذه الامّة في فتنةٍ، وإنّي أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها ... واتّق الله يا معاوية واعلم أنّ لله كتاباً لايغادر

ص: 17

صغيرة ولاكبيرة إلا أحصيها، واعلم أنّ الله ليس بناس لك قتلك بالظنّة وأخذك بالتهمة وإمارتك صبياً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا

قدأوبقت نفسك وأهلكت دينك وأضعت الرعية. والسّلام» (1)

رسالة الإمام محمّد بن علي الباقر(ع) لأحد أصحابه، حيث قال: إنّ رسول الله(ص) قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس ... فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتّى قُتل، فبويع الحسن(ع) ابنه وعوهد، ثمّ غُدِر به .... فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته .... ثمّ بايع الحسين(ع) من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غَدَروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه. ثمّ لم نزل- أهل البيت(عليهم السلام) نستذلّ ونستضام ونُقْصي ونُمتهَنَ نُحرِم ونُقْتل ونَخاف ولانأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ....

و روَوا عنّا مالم نَقُله ولم نَفْعله ليبغّضونا إلى النّاس، وكان عِظَم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن(ع)، فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظِّنَة، وكان مَنْ يذكر بحبّنا والإنقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت


1- الإمامة والسياسة: 1/ 164، بحارالأنوار: 44/ 214 212.

ص: 18

داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين(ع) ثم جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة ... (1)»

كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرّضهم على لعن علي أو البراءة منه، فملأ منهم المسجد والرحبة، فمن أبى ذلك عرضه على السّيف.» (2)

بيان معاوية إلى عمّاله:

روى أبوالحسن علي بن محمد أبي السّيف المدائني في كتاب «الأحداث»، قال: «كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة!!: «أن برأت الذّمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته» فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، فلم يكن بلد أشدّ بلاءً من العراق ولاسيما الكوفة، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لايستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها، وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولاتديّنوا بها.


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد: 11/ 44- 43.
2- مروج الذهب: 3/ 26.

ص: 19

و قال ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي(عليهما السلام)، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل [الشيعة] إلّا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين(ع) ووَليَ عبدالملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدّين ببغض علي(ع) وموالاة أعدائه (1)

ضحايا الغدر الأموي:

1- حجر بن عدي الكندي سنة 53 ه. ومعه تسعة نفر أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها، قتله معاوية مع أصحابه في مرج عذراء بصورة بشعة يندى لها الجبين.

2- عمرو بن الحمق: ذلك الصحابي العظيم الذي وصفه الإمام الحسين(ع) سيدالشهداء بأنّه: «أبلت وجهه العبادة»؛ قتله معاوية بعد ما أعطاه الأمان.

3- مالك الأشتر: ملك العرب وأحد أشرف رجالاتها وأبطالها، كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية، قتله معاوية بالسمّ في مسيره إلى مصر بيد أحد عمّاله.


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد: 11/ 46.

ص: 20

4- رشيد الهجري: كان من تلاميذ الإمام وخواصّه عرض عليه زيادٌ البراءة واللعن، فأبى، فقطع يديه ورجليه ولسانه وصَلَبه خنقاً في عنقه.

5- جويرية بن مسهر العبدي: أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصَلَبه على جِذع نخلة.

6- قنبر مولى أميرالمؤمنين(ع): ... أن الحجّاج أمر به، فذبح كماتذبح الشاة.

7- كميل بن زياد: طلبه الحجاج فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فاستسلم للحجاج، فلمّا رآهُ قال: إضربوا عنقه.

8- سعيد بن جبير: تابعي معروف بالعفّة والزهد والعبادة، وكان يصلّي في المحراب خلف الإمام زين العابدين(ع)، فلمّا رآه الحجاج أخذ ثم ضربت عنقه.

الشيعة في العصر العباسي

1- كان أوّل من تولّى منهم أبوالعباس السفّاح: بويع سنة 132 ه. ومات سنة 136 ه. وهو وإن لم يتعرّض للعلويّين لكنّه تنكّر لهم ولشيعتهم.

2- ثم جاء بعده أبوجعفرالمنصور(158- 136 ه.): أنّه أسرف كثيراً في الظلم القوة والإجرام بشكل ملفت للأنظار.

ص: 21

وليت شعري أين كان المؤرّخون وأصحاب الكلمات الصادقة المنصفة من هذه المواقف المخزية التي تقشعرّ لها الأبدان وهم يتحدّثون عن هذا الرجل الذي ما آلوا يشيدون بذكره ويمجّدون بأعماله، وهلّا تأمّل القرّاء في سيرة هذا الرجل ليدركوا ذلك الخطأ الكبير. أجل، لقد أسرف هذا الرجل في القتل كثيراً، وكان للعلويين النصيب الأكبر وحصّة الأسد من هذا الظلم الكبير.

3- ثمّ ولي بعده المهدي ولدالمنصور وبقي في الحكم من سنة 158 ه. إلى سنة 169 ه.، ويكفي في الإشارة إلى ظلمه للعلويين أنّه أخذ علي بن العبّاس بن الحسن بن علي بن أبي طالب فسجنه، فدسَّ إليه السمّ فتفسخ لحمه وتباينت أعضاؤه.

4- ولما هلك المهدي بويع ولده الهادي وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر.

5- ثمّ تولّى بعده الرشيد سنة 170 ه. ومات 193 ه. الذي كان له سجلّ أسود في تعامله مع الشيعة، تبلورت أوضح صوره فيما لاقاه منه الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع).

6- ثمّ جاء بعده ابنه الأمين(197- 193 ه.) فتولّى الحكم أربع سنين وأشهراً. يقول أبوالفرج: كانت سيرة الأمين في أمر آلِ أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان فيه من اللهو ثمّ

ص: 22

الحرب بينه وبين المأمون حتّى قتل، فلم يحدث على أحدٍ منهم في أيامه حدث.

7- وتولّى الحكم بعده المأمون(210- 197 ه.) وكان من أقوى الحكام العباسيين بعد أبيه الرشيد.

8- مات المأمون سنة 210 ه. وجاء إلى الحكم ابنه المعتصم.

9- ثم تولّى الحكم بعد الواثق الذي قام بسجن الإمام محمد ابن علي الجواد(ع) ودسّ له السمّ بمكيدة.

10- وولي الحكم بعد الواثق، المتوكل: كان المتوكل شديدة الوطأة على آل أبي طالب غليظاً في جماعتهم، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظنّ والتهمة لهم، وكان من ذلك أن كرب (1) قبر الحسين(ع) وعفّى آثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له لايجدون أحداً زاره إلّا أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة. واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج، فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة النّاس ومنع النّاس من البرّ بهم حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويّات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة.


1- الكرب: إثارة الأرض للزرع.

ص: 23

11- وولي بعده المنتصر ابنه، وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه، فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا، وأوّل ماأحدثه لمّا ولي الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة، وبعث علي بن الحسين مكانه.

12- وقام بعده المستعين بالأمر، فنقض كلّ ما غزله المنتصر من البرّ والإحسان، ومن جرائمه أنّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين(ع)، وأدخل الأسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً، فمن تأخّر ضربت عنقه.

و قد وثّقت هذه الجرائم في كتب التاريخ والأدب، من ذلك القصائد التالية:

1- تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام 246 ه.

2- ميمية الأمير أبي فراس الحمداني 320- 357 ه.

3- جيمية ابن الرومي التي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد.

نعم قد اقترن تاريخ الشيعة بأنواع الظلم والنكال والقتل والتشريد بحيث لم ير الأمويون ولاالعباسيون ولا الملوك الغزانوة ولاالسلاجقة ولا من أتى بعدهم أيّة حرمة لنفوسهم وأعراضهم وعلومهم ومكتباتهم.

ص: 24

هذا هو طغرل بيك أول ملك من ملوك السلاجقة ورد بغداد سنة 447 ه. وشنّ على الشيعة حملة شعواء، وأمر بإحراق مكتبة الشيعة الّتي أنشأها أبونصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي في محلّة بين السورين في الكرخ سنة 381 على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرّشيد، وكانت من الأهمية العلمية بمكان حيث جمع فيما هذا الوزير ماتفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم، كما قاله محمد كردعلي، ونافت الكتب على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار، واكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين. وكان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن أثير.

و توسّعت الفتنة حتّى اتّهجت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام، وهرب أبوجعفر الطوسي ونهبت داره.

و أخيراً فلعلّ القارئ الكريم إِذا تأمّل بتدبّر فإنّه سيجد بوضوح أنّه قد تظافرت قوى الكفر والفسق على إهلاك الشيعة وقطع جذورهم، ومع ذلك قد كانت لهم دول ودويلات ومعاهد وكلّيات وبُلدان وحضارات وأعلام ومفاخر وعباقرة وفلاسفة

ص: 25

وفقهاء ومحدّثون ووزراء وسياسيون، وهم يؤلّفون اليوم خُمس المسلمين أو رُبعهم، وقد قال سبحانه:(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) (1)

فرضيات وهمية لنشأة التشيع

اشارة

أنه لافصل هنابين النشأتين: نشأة الإسلام ونشأة التشيع وأنّهما وجهان لعملة واحدة، إلّا أنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات ممّن قادهم الوهم وسوء الفهم إلى اعتبار التشيّع أمراً حادثاً وطارئاً على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن مبدأه ومصدره، وأشدّ تلك الظّنون عدوانية فيه ما تلوكه أشداق بعض المتقدّمين والمتأخّرين هو كونه وليد «عبدالله بن سبأ» ذلك الرجل اليهودي، الذي بزعمهم طاف الشرق والغرب وأفسدالأمور على الخلفاء والمسلمين، وألّب الصحابة والتابعين على عثمان، فقتل في عقر داره، ثمّ دعا إلى علي(ع) بالإمامة والوصاية وإلى النبي بالرجعة وكوّن مذهباً باسم الشيعة!

و سوف نأتي على ذكر كل هذه الفرضية وغيرها من الفرضيات واحدة بعد الأُخرى مع رعاية التسلسل الزمني:


1- الأنفال: 65.

ص: 26

الفرضية الأولى: الشيعة ويوم السقيفة!

قال الطبري: «اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبابكر، فأتاهم ومعه عمر وأبوعبيدة بن الجرّاح، فقال: ما هذا؟! فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير!

فقال أبوبكر: منّا الامراء ومنكم الوزراء- إلى أن قال- فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار- أو بعض الأنصار- لانبايع إلّا علياً.»

و قال اليعقوبي في تاريخه: ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم العباس بن عبدالمطلب والفضل بن عباس والزبيربن العوام وخالد بن سعيد بن العاص والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي وأبوذرالغفاري وعمّار بن ياسر والبراء بن عازب وأبيّ بن كعب. وروى الزبير بن بكار في الموفّقيات: إنّ عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار كانوا لايشكون أنّ علياً هو صاحب الأمر.

من هنا إعتقد البعض أنّ مبدأ التشيّع ونشأته كان في تلك اللحظات الحرجة في تاريخ الإسلام، متناسين أنّ ما اعتمدوه في بناء تصوّراتهم ما ينقضها ويثبت بطلانها. وممّا يؤكد ذلك ويقوي أركانه ما نقلته جميع مصادر الحديث المختلفة من نداءات رسول الله(ص) وتوصياته بحق علي وعترته وشيعته في اكثر من مناسبة ومكان و ...

ص: 27

الفرضية الثانية: التشيّع صنيع عبدالله بن سبأ

اشارة

لنقرأ ما كتبه الطبري حول هذا الوهم المصطنع؛ قال: «إنّ يهودياً باسم عبدالله بن سبأ المْكنّى بابن السوداء في صنعاء أظهر الإسلام في عصر عثمان واندسّ بين المسلمين مبشّراً بأنّ للنّبي الأكرم(ص) رجعة كما أنّ لعيسى بن مريم رجعة، وأنّ علياً خاتم الأوصياء كما أنّ محمداً(ص) خاتم الأنبياء، وأنّ عثمان غاصب حقّ هذا الوصي وظالمه فيجب مناهضته لإرجاع الحقّ إلى أهله، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير والتابعي الصالح. فجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، فنتج عن ذلك قدومهم إلى المدينة وحصرهم عثمان في داره حتى قتل فيما كلّ ذلك كان بقيادة السبأيين ومباشرتهم» (1) هذا هو الذي ذكره الطبري، وقد أخذه من جاء بعده من المؤرّخين وكتّاب المقالات حقيقة مسلّمة، فصارت الشيعة وليدة السبأية في زعم هؤلاء عبرالقرون والأجيال، ومن الّذين وقعوا في هذا الخطأ الفاحش دون فحص وتأمل في حقايق الأمور:


1- تاريخ الطبرى: 3/ 378.

ص: 28

1- ابن الأثير(ت 630 ه.) ...

2- ابن كثيرالشامي(ت 774 ه.) في «البداية والنهاية»

3- ابن خلدون(ت 808 ه.) في تاريخه «المبتدأ والخبر».

4- محمد رشيد رضا مؤسسة مجلة المنار(ت 1354 ه.) ذكره في كتابه «السّنة والشيعة».

5- أحمد أمين(ت 1372 ه.) في كتابه «فجرالإسلام» عام انتشاره(1952 م).

و قد ردّ عليه أعلام العصر بأنواع الردود، فألّف الشيخ المصلح كاشف الغطاء «أصل الشّيعة وأصولها» ردّاً عليه كما ردّ عليه العلّامة الشيخ عبدالله السبيتي بكتاب أسماه «تحت راية الحق».

6- فريد وجدي مؤلّف دائرة المعارف(ت 1370 ه.).

7- حسن إبراهيم حسن، وذكره في كتابه «تاريخ الإسلام السّياسي».

و أمّا المستشرقون المتطفّلون على موائد المسلمين فحدّث عنهم ولاحرج، فمن أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلي ما ألّفه الباحث الكبير السّيد مرتضى العسكري في ذلك المجال (1).


1- عبدالله بن سبأ: 1/ 46- 50.

ص: 29

نظر المحقّقين في الموضوع:

1- إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصّة على وجه لايصحّ نسبته إلا إلى عفاريت الأساطير ومردة الجنّ؛ إذ كيف يصح الإنسان أن يصدّق أنّ يهودياً جاء من صنعاء وأسلم في عصر عثمان واستطاع أن يغري كبار الصّحابة والتابعين ويخدعهم ويطوف في البلاد ناشراً دعواه، بل واستطاع أن يكوّن خلايا ضدّ عثمان ويستقدمهم على المدينة ويؤلّبهم على الخلافة الإسلامية فيها جموا داره ويقتلوه بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان؟! هذا شي ء لا يحتمله العقل وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب.

بل إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين وتصوّرهم أمّة ساذجة يغترّون بفكر يهودي وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكّرون!

2- ... يقول العلّامة الأميني: «لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن وشقّ عصا المسلمين وقدعلم به وبعبثه أمراء الأمّة وساستها في البلاد وانتهى أمره إلى خليفة الوقت فلماذا لم يقع عليه الطلب ولم يبغله القبض عليه، والأخذ بتلكم الجنايات الخطيرة والتأديب بالضرب والإهانة والزّجّ إلى أعماق

ص: 30

السجون؟! ولا آل أمره إلى الإعدام المريح للأمّة من شرّه وفساده كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟! ...» (1) 3- إنّ رواية الطبري عن أشخاص لايصحّ الاحتجاج بهم:

الف: السري: إنّ «السري» الذي يروي عنه الطبري إنّما هو أحد رجلين:

1- السري بن إسماعيل الهمداني الذي كذّبه يحيى بن سعيد وضعّفه غير واحد من الحفّاظ.

2- السري بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد، المتوفّى عام 258 ه.. كذّبه ابن خراش ووهّاه بن عدي وقال يسرق الحديث و. فالاسم مشترك بين كذّابين لايهمّنا تعيين أحدهما.

واحتمال كونه السري بن يحيى الثقة غير صحيح؛ لأنّه توفّي عام 167 ه. مع أنّ الطبري مواليد عام 234 ه، فلا مناص أن يكون السري أحد الرجلين الكذّابين.

ب: شعيب: والمراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول: قال ابن عدي ليس بمعروف.

ج: سيف بن عمر: قال ابن حيان: قالوا: إنّه كان يضع


1- الغدير: 9/ 220- 219.

ص: 31

الحديث واتّهم بالزندقة. وقال ابن معين: ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال السيوطي: وضّاع.

فإذا كان هذا حال السّند فكيف نعتمده في تحليل نشوء طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تؤلّف خُمسهم أو ربعهم، فالاعتماد خداع وضلال لايرتضيه العقل.

عبدالله بن سبأ اسطورة تاريخية:

إنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده وزمن إسلامه ومحتوى دعوته يشرف المحقّق على القول بأنّ عبدالله بن سبأ أقرب ما يكون إلى الاسطورة منه إلى الواقع، وإنّ خصوم الشّيعه أيام الأمويين والعبّاسيين قد بالغوا في أمر عبدالله بن سبأ هذا ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان ووُلاته، من ناحية، وليشنّعوا على علي(ع) وشيعته من ناحية اخرى. إنّ الموارد التي يستنتج منها كون ابن سبأ شخصية وهمية خلقها خصوم الشّيعه، ترجع إلى الأمور التالية:

1- إنّ المؤرّخين الثقات لم يشيروا في مؤلّفاتهم إلى قصّة عبدالله بن سبأ كابن سعد في طبقاته والبلاذري في فتوحاته.

ص: 32

2- إنّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر، وهو رجل معلوم الكذب ومقطوع بأنّه وضّاع.

3- إنّ الأمور التي نسبت إلى عبدالله بن سبأ تستلزم معجزات خارقة لاتتأتّى لبشر، كما تستلزم أن يكون المسلمون الذّين خدعهم في منتهى البلاهة والسخف!

4- عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعمّاله عنه مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمدبن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري.

5- قصّة إحراق علي(ع) إياه وتعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للإحراق تخلو منه كتب التاريخ الصحيحة، ولايوجد لها في هذه الكتب أثر.

6- عدم وجود أثر لابن سبأ وجماعته في وقعة صفين وفي حرب النهروان. (1) و يزيد الحقّ وضوحاً أنّنا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أنّ أئمتهم وعلمائهم يتبرّأون منه أشدّ التّبرؤ.

قال الكشّي وهو من علماء القرن الرابع: «عبدالله بن سبأ كان يدّعي النبوّة وأنّ علياً هو الله! فاستتابه ثلاثة أيام فلم


1- الفتنة الكبرى، دكتور طه حسين: 134.

ص: 33

يرجع فأحرقه في النار في جملة سبعين رجلًا» (1) و مثله الشيخ الطوسي(385- 460 ه.). والعلّامة الحلّي(648- 726 ه.) وابن داود(647- 707 ه.) والشيخ حسن بن زين الدّين(648- 1011 ه.) وأمّا ما نقله عنه سيف بن عمر فليس منه أثر في تلك الروايات. وأين هذا الأفّاك وزمرته من اولئك الذين لايخالفون الله ورسوله وأولى الأمر ولايتخلّفون عن أوامرهم قيد أنملة كالمقداد وسلمان.

الفرضية الثالثة: التشيّع فارسي المنشأ

اشارة

و هناك فرضية ثالثة اخترعها المستشرقون لتكوّن مذهب الشيعة في المجتمع الإسلامي تقول ب- أنّ للمذهب الشيعي نزعة فارسية؛ لأنّ العرب كانت تدين بالحرّية والفرس تدين بالملك والوراثة، ولايعرفون معنى الانتخاب ولمّا انتقل النبي إلى دارالبقاء ولم يترك ولداً، قالوا: علي أولى بالخلافة من بعده. وهذا التصوّر مردود لجملة واسعة من البديهيات، منها:

أوّلًا: أنّ التشيع حسبما عرفت ظهر في عصر النبي الأكرم(ص)، وروّاد التشيع في عصر الرسول والوصي كانوا كلّهم


1- رجال كشي: 9/ 84.

ص: 34

عرباً، ولم يكن بينهم أيّ فارسي سوى سلمان المحمدي(ص). ثمّ إنّ الفرس لم يكونوا الوحيدين ممّن اعتنقوا هذا المذهب دون غيرهم، بل اعتنقه الأتراك والهنود وغيرهم من العرب.

شهادة المستشرقين على أنّ التشيّع عربي المبدأ

1- قال الدّكتور أحمد أمين: الذي أرى كما يدلّنا التاريخ أنّ التشيّع لعلي(ع) بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام.

2- وقال المستشرق فلهوزن: كان جميع سكان العراق في عهد معاوية- خصوصاً أهل الكوفة- شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل ورؤساء العرب.

3- وقال المستشرق جولد تسيهر: هذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربيه بحتة.

4- وأما المستشرق آدم متز فإنّه قال: قد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها عدا المدن الكبرى مثل مكة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن. مثل عمان، وهجروصعدة، أمّا إيران فكانت كلّها سنّة ما عدا قم، وكان أهل إصفهان يغالون في معاوية حتى اعتقد بعض أهلها أنّه نبي مرسل.

ص: 35

5- يقول الشيخ أبوزهرة: أنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب، وليس التشيّع مخلوقاً لهم، ويضيف: وأمّا فارس وخراسان وما راءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الّذين كانوا يتشيّعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أوّلًا، ثمّ العباسيين ثانياً، وأنّ التشيّع كان منتشراً في هذا البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها.

6- وقال السيد الأمين: أنّ الفرس الّذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أوّل الأمر إلا القليل، وجلّ علماء السّنة وأجلّائهم من الفرس كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية.

الفرضية الرابعة: التشيّع فارسي المنحى

والفرق بين هذه الفرضية وسابقتها أنّ هذه النظرية وإن كانت تعترف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الإسلام، وهذا هو الذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت ولفيف من المستشرقين ك-

ص: 36

«فلهوزن» فيما ذهبوا إليه في تفسير نشأة التشيع.

و هذا ما يصرّح به الدكتور أحمد أمين في قوله: أنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع، والمقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمراً وراثياً كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.

إلّا أنّه يلاحظ عليه: أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثياً لم يكن من خصائص الفرس، بل إنّ النظام السائد بين ملوك الحيرة وغسّان وحمير في العراق والشام واليمن كان هوالوراثة.

كما أنّ المناصب المعروفة لدى قريش من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة كانت أموراً وراثية حتّى أنّ النبي الأكرم(ص) لم يغيّرها، بل إنّه أمضاها كما في قضية رفعه لمفاتيح البيت إلى بني شيبة وإقرارهم على منصبهم هذا إلى الأبد!، فإلصاق مسألة الوراثة بالفرس دون غيرهم أمرٌ عجيب لا يقرّه العقلاء مع كونها آنذاك فكرة عامة عالمية؟!

إنّ النبوّة والوصاية من الأمور الوارثية في الشرائع السماوية، لا بمعنى أنّ الوراثة هي الملاك المعيّن، بل بمعنى أنّه سبحانه جعل نورالنبوّة والإمامة في بيوتات خاصّة، فكان يتوارث نبي نبياً ووصي وصياً يقول سبحانه: «ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم

ص: 37

وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب» (1).

ثمّ إنّ من زعم أنّ التشيّع من صنع الفرس مبدأ وصبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس؛ وذلك لأنّ التسنّن كان هو السائد فيهم إلى أوائل القرن العاشر! حتى غلب عليهم التشيّع في عصر الصفويين 905 ه، نعم كانت مدن ري وقم وكاشان معقل التشيّع، ومع ذلك يقول أبوزهرة: إنّ أكثر أهل فارس إلى الآن من الشيعة، وإنّ الشيعة الأوّلين كانوا من الفرس؟! ...

الفرضيه الخامسة: الشيعة ويوم الجمل

ذكر ابن النديم في الفهرست: أنّ علياً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمرالله جلّ اسمه، وتسمى من اتّبعه على ذلك الشيعة ...»

و على ذلك جرى المستشرق «فلهوزن» حيث يقول: بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى فئتين: حزب علي(ع) وحزب معاوية، و «الحزب» يطلق عليه في العربية اسم «الشيعة»! فكانت شيعة علي(ع) في مقابل شيعة معاوية، لكن لمّا تولّى معاوية الملك في دولة الإسلام أصبح استعمال لفظة «شيعة»


1- حديد: 26، وأيضاً: بقره: 124، النساء: 54.

ص: 38

مقصوداً بها أتباع علي(ع)؟!

لكن ما تلونا عليك من النّصوص الدالّة على وجود التشيّع في عصر الرسول(ص) وظهوره بشكل جلي بعد وفاته، وهذا كان قبل أن تشُبّ نار الحرب في البصرة، وهذا دليل على وهن هذا الرأي.

الفرضية السادسة: الشيعة ويوم صفين

زعم بعض المستشرقين (1) أنّ الشيعة تكوّنت يوم افترق جيش علي(ع) في مسألة التحكيم إلى فرقتين.

لكن الثابت هو أنّ ليس جميع من كان في جيشه من شيعته بالمعنى المفروض والواقعي للتشيّع، بل أغلب من انخرط في ذلك الجيش كانوا تابعين له؛ لأنّه خليفة لهم وقد بايعوه على ذلك.

الفرضية السابعة: الشّيعة والبويهيون

تقلّد آل بويه مقاليد الحكم والسلطة من عام 320 ه. إلى 447 ه.، فكانت لهم السلطة في العراق وبعض بلاد إيران كفارس وكرمان وبلاد الجبل وهمدان وإصفهان والريّ، وقد اقصوا عن الحكم في الأخير بهجوم الغزاونة عليهم عام 420 ه.


1- تاريخ الإماميّة: للدكتور عبدالله فياض: 37.

ص: 39

راج مذهب الشيعة في عصرهم واستنشق رجالاته نسيم الحرية بعد أن تحمّلوا الظلم والاضطهاد طيلة حكم العباسيين خصوصاً في عهد المتوكل ومن بعده، غير أنّ تكوّن الشيعة في أيامهم شي ء وكونهم مروّجين ومعاضدين له شي ءٌ آخر، ومن السذاجة بمكان الخلط بين الحالين وعدم التمييز بينهما.

الفرضية الثامنة: الشيعة والصفّويون

إنّ الصفويين هم اسرة الشيخ صفي الدين العارف المشهور في أردبيل المتوّفى عام 735 ه. فعند ما انقرضت دولة المغول قام أحد أحفاد صفي الدين الشاه إسماعيل عام 905 ه. بتسلّم مقاليد الحكم والسيطرة على بلاد فارس.

و استمرّ في الحكم إلى عام 930 ه. ثم ورثه أولاده إلى أن أُقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على إيران عام 1135 ه. ومن وقف على أحوالهم ووقف على تاريخ الشيعة يقف على أنّ عصرهم كان عصر ازدهار التشيّع، وهو أمر لامراء فيه، وليس هو عصر تكوّن التشيّع، فهذا ما لايقنع به إلا السذج والجهلاء.

فلا مرية من القول بخطأ كل الافتراضات السابقة وعدم

ص: 40

حجّيتها في محاولة تثبيت كون التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام، وإنّما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعلي(ع) بعد رحلة النبي(ص) بتنصيصه.

و قد شارك الشيعة جميع المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية بجوانبها المختلفة، يتفقون مع جميع الفرق في أكثر الأصول والفروع وإن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر. وسيوافيك تفصيل عقائدهم في مبحث خاصّ بإذن الله.

ص: 41

الفصل الثاني: الأئمّة الإثنا عشر

اشارة

تعرف الشيعة الإمامية بالفرقة الإثني عشرية، ومبعث هذه التسمية هو اعتقادهم بإثني عشر إماماً من بني هاشم نصّ عليهم رسول الله(ص) كما هو معلوم للجميع، ثمّ نصّ كلّ إمام على الإمام الّذي بعده، بشكل يخلو من الشك والإبهام.

لقد تضافر عن رسول الله(ص) أنّه يملك هذه الأمّة إثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل، وإنّ هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لاتنطبق إلّا على أئمّة الشّيعة والعترة الطاهرة، فيلزم علينا معرفتهم، كيف وهم أحد الثقلين اللّذين تركهما الرّسول(ص) قدوة للأمّة ونوراً على جبين الدّهر.

ومن وقف على حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية يقف

ص: 42

على أنّهم هم المثل الأعلى في الأخلاق والقمّة الساقمة في العلم والعمل والتّقوى والإحاطة بالقرآن والسّنة، وبهم حفظ الله تعالى دينه وأعزّ رسالته.

إلامام الأوّل: «أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب 7»

اشارة

إنّ الإمام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف، ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات في حياته ومناقبه وفضائله وجهاده وعلومه وخطبه وقصار كلماته وسياسته وحروبه مع الناكثين [الطلحة والزبير وأعوانها] والقاسطين [المعاوية وأعوانه] والمارقين [الخوارج]، فالأولى لنا الإكتفاء بالميسور في هذا المجال.

تنصيب علي (ع) للإمامة

لاشكّ في أنّ الدين الإسلامي دين عالمي وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الأمّة الإسلامية من شؤون النبي الأكرم(ص) ما دام على قيد الحياة، وطبع الحال يقتضي أن يوكل مقام القيادة بعده إلى أفضل أفراد الأمّة وأكملهم.

إنّ في هذا المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبي(ص) هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي اتّجاهين:

ص: 43

فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي ولابدّ أن ينصّ على خليفة النبي(ص) من السماء، بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري! أي إنّ على الأمّة أن تقوم بعد النبي(ص) باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد!

إنّ تقسيم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الإسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبي(ص) لابدّ أن يعيّن من جانب الله تعالى ولايصحّ أن يوكل هذا إلى الأمّة؛ فإنّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي(الروم- الفرس- المنافقون) بشنّ الهجوم الكاسح وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الامّة كانت توجب أن تتوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الامّة الإسلامية والسيطرة عليها وعلى مصيرها.

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول: إنّه كان من الواجب أن يتمتّع رسول(ص) الإسلام بتعيين قائد للأمّة، وإنّ تحصين الامّة لم يكن ليتحقق إلّا بتعيين قائد للأمّة وعدم ترك الأمور للأقدار، ولعلّه لهذه الجهة ولجهات اخرى طرح رسول الإسلام(ص) مسألة

ص: 44

الخلافة في الأيام الاولى من ميلاد الرسالة الإسلامية، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتّى الساعات الأخيرة منها، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته ب- «حديث يوم الدّار» و «حديث بدء الدعوة» وفي نهايتها أيضاً ب- «حديث الغدير».

شذرات من فضائله

يطيب لي أن أشير إلى بعض خصائصه قياماً ببعض الوظيفة تجاه ما له من الحقوق على الإسلام والمسلمين عامّة، فنقول: إنّ له خصائص لم يشاركه فيها أحد:

1- ولادته في جوف الكعبة.

2- احتضان النبي الأكرم(ص) له منذ صغره.

3- سبقه الجميع في الإسلام.

4- مؤاخاة النبي(ص) له من دون باقي الصحابة.

5- حمله من قِبل النبي(ص) على كتفه لطرح الأصنام الموضوعة في الكعبة.

6- استمرار ذرّية رسول الله(ص) من صلبه.

7- يصاق النبي(ص) في عينيه يوم خيبر ودعاؤه له بأن لايصيبه حرّ ولا قرّ.

ص: 45

8- إنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق.

9- إنّ النبي(ص) باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائرالأصحاب.

10- تبليغه سورة براءة، عن النبي(ص).

11- إنّ النبي(ص) خصّه يوم الغدير بالولاية.

12- إنّه القائل «سلوني قبل أن تفقدوني».

13- إنّ النبي(ص) خصّه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.

14- إنّ الناس جميعاً من أرباب الأديان وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ.

15- إيثاره للنبي(ص) على نفسه في ليلة المبيت.

الإمام الثاني: «أبو محمد الحسن بن علي المجتبى 8»

اشارة

هو ثاني أئمّة أهل البيت الطاهر وأوّل السبطين وأحد سيدي شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله(ص) وأحد الخمسة من أصحاب الكساء، امّه فاطمة بنت رسول الله(ص) سيدة نساء العالمين.

ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة، وهو أوّل أولاد علي(ع) وفاطمة 3. وروي

ص: 46

عن أنس بن مالك قال: لم يكن أحد أشبه برسول الله(ص) من الحسن بن علي(ع).

و يكفي في إثبات إمامته ما صرّح به النبي(ص) من قوله: «هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا».

قال المفيد: «كانت بيعته يوم الجمعة الحادي والعشرون من شهر رمضان سنة أربعين من الهجره، فرتّب العمّال وأمّر الأمراء وأنفذ عبدالله بن العبّاس إلى البصرة، ونظر في الأمور، فلّما بلغ معاوية وفاة أميرالمؤمنين وبيعة النّاس ابنه الحسن، دسّ رجلًا من حمير إلى الكوفة ورجلًا من بني العين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار وليفسدا على الحسن(ع) الأمور. فعرف ذلك الحسن فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام في الكوفة، فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأخرج وضربت عنقه.

ثمّ إنّه استمرّت المراسلات بين الحسن(ع) ومعاوية وانجزّت إلى حوادث مريرة إلى أن أدّت إلى الصلح، واضطرّ إلى التنازل عن الخلافة.

شهادته ودفنه (ع):

لمّا نقض معاوية عهده مع الإمام الحسن(ع)، وما كان ذلك

ص: 47

بغريب على رجل أبوه أبوسفيان وامّه هند وهو طليق ابن طلقاء عمد إلى أخذ البيعة ليزيد ولده المشهور بمجونه وتهتّكه وزندقته، وما كان شي ء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي(ع) فدسّ إليه السمّ، فاستشهد بسببه. ومضوا به من جانب روضة رسول الله(ص) إلى البقيع، ودفنوه عند جدّته فاطمة بنت أسد.

و استشهد الحسن(ع) وله من العمر 47 عاماً، وكانت سنة استشهاده 50 من الهجرة النبوية، ولمّا بلغ معاوية موت الحسن(ع) سجد وسجد من حوله! وكبّر وكبّروا معه!

الإمام الثالث: «أبوعبدالله الحسين بن علي 8 سيدالشهداءِ»

هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر وثاني السبطين وسيدي شباب أهل الجنّة وريحانتي المصطفى(ص) وأحد الخمسة أصحاب الكساء(عليهم السلام) وسيدالشّهداء(ع)، أمّه فاطمة بنت رسول الله(ص).

ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة، ولمّا استشهد أخوه الحسن في السنة الخمسين من الهجرة أوصى إليه بالإمامة فاجتمعت الشيعة حوله، يرجعون إليه في حلّهم وترحالهم، وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون إليه ما يكون من الأحداث المهمة التي لا توافق هوى

ص: 48

السلطة الأموية المنحرفة.

و لمّا هلك معاوية في منتصف رجب سنة 60 هجرية كتب يزيد إلى الوليدبن عُتبة والي المدينة أن يأخذ الحسين(ع) بالبيعة له.

فاسترجع الحسين(ع) وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السّلام إذا بليت الأمّة براع مثل يزيد ... وقد سمعتُ جدّي رسول الله(ص) يقول: «الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فأبقروا بطنه» ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله(ص) فلم يفعلوا به ما أمروا، فابتلاهم بابنه يزيد.». ثمّ إنّ الحسين(ع) غادرالمدينة إلى مكة، ولمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فاتّفقوا أن يكتبوا إلى الحسين(ع) رسائل وينفذوا رسلًا طالبين منه القدوم إليهم.

و لما جاءت رسائل أهل الكوفة تترى على الحسين(ع)، أرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل- رضوان الله عليه- إلى الكوفة ممثّلًا عنه لأخذ البيعة له منهم وللتحقّق من جدّية هذا الأمر، ثمّ خرج الإمام من مكة متوجّهاً إلى الكوفة يوم التروية أو يوماً قبله مع أهل بيته وجماعة من أصحابه وشيعته بعد إقامته في

ص: 49

مكة بأربعة أشهر.

و لمّا أخذ الإمام يقترب من الكوفه استقبله الحرّ بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيدالله بن زياد لاستقدامه وإكراهه على إعطاء البيعة ليزيد وإرساله قهراً إلى الكوفة.

و كان الإمام الحسين(ع) يدرك قطعاً أنّه يصبح شهيداً إلّا أنه أراد يسقي بدمائه الطاهرة المقدّسة شجرة الإسلام الوارفة التي يريد الأمويون اقتلاعها من جذورها؛ كما أنّ الإمام أراد أن يكسر حاجز الخوف الذي أصاب الأمّة فجعلها حائرة متردّدة أمام طغيان الجبابرة وحكام الجور وأن تصبح ثورته مدرسة تتعلّم منها الأجيال معنى البطولة والتضحية من أجل المبادئ والعقائد، وقد تحقّق كلّ ذلك بعد استشهاد الإمام(ع)، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

ثمّ إنّه كان لشهادة الحسين(ع) أثر كبير في إيقاظ شعور الأمّة وتشجيعها على الثّورة، فلا مغالاة في قول من قال: إنّ الإسلام محمّدي الحدوث، حسيني البقاء والخلود.

لقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرّم سنة 61 من الهجرة وقيل يوم السبت، وكان قد أدرك من حياة النبي

ص: 50

الأكرم(ص) خمس أو ستّ سنوات، وعاش مع أبيه 36 سنة ومع أخيه 46 سنة، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

الإمام الرابع: «علي بن الحسين بن علي زين العابدين (ع)»

هو رابع أئمّة أهل البيت الطاهر، المشهور بزين العابدين أو سيدهم والسجّاد وذي الثفنات. ولد في المدينة سنة 37 أو 38 ه، ولقد تولّي الإمامة بعد استشهاد أبيه الحسين(ع) في كربلاء.

و أمّا ثروته العلمية والعرفانية فهي أدعيته التي رواها المحدّثون بأسانيدهم المتضافرة والتي جمعت بما سمّي «بالصحيفة السجّادية» المنتشرة في العالم، فهي زبور آل محمد(ص) وحرّي بنا القول إنّ أدعيته(ع) كانت ذات وجهين: وجه عبادي وآخر اجتماعي يتّسق مع مسارالحركة الإصلاحية الّتي قادها الإمام(ع) في ذلك الظرف الصعب، فهو صاحب مدرسة إلهية تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّدالله ويقدّسه وكيف يلج باب التوبة، واخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه أُسلوب البرّ بالوالدين ويشرح حقوق الوالد والولد والأهل

ص: 51

والأصدقاء والجيران ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي، كلّ ذلك بأسلوب تعليمي رائع وبليغ مستلهماً جوانبها من سيرة الأنبياء وسنن المرسلين، وللإمام علي بن الحسين(ع) رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق، وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق.

استشهد بالمدينة عام 94 أو 95 ه. يوم السبت الثاني عشر من محرّم وقيل الخامس والعشرين منه.

الإمام الخامس: «أبوجعفر محمد بن علي الباقر 8»

هو خامس أئمّة أهل البيت الطاهر، المعروف بالباقر، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له، ولد بالمدينة غرّة رجب سنة 57 ه. وقيل 56 ه، واستشهد في السابع من ذي الحجّة سنة 114 ه. وعمره الشريف 57 سنة، عاش مع جدّه الحسين(ع) 4 سنين ومع أبيه(ع) بعد جدّه(ع) 39 سنة، وكانت مدة إمامته(ع) 18 سنة.

روي عنه معالم الدّين بقية الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين، وسارت بذكر كلامه الأخبار وأنشدّت في مدائحه الأشعار. وأمّا مناظراته مع المخالفين فحدّث عنها ولاحرج، وقد

ص: 52

جمعها العلّامة الطبرسي في كتاب الاحتجاج.

ثمّ إنّ الشيعة الإمامية أخذت كثيراً من الأحكام الشرعية عنه(ع) وعن ولده البار جعفر الصادق(ع)، حيث روي عنه(ع) الكثير من الروايات الفقهية التي تناولت مختلف جوانب الحياة. وأمّا ما روي عنه في الحِكم والمواعظ فقد نقلها أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء والحسن بن شعبة الحرّاني في تحفه.

و قد استشهد الإمام محمّد الباقر(ع) عام 114 ه، ودفن في البقيع إلى جنب قبر أبيه.

الإمام السادس: «أبوعبدالله جعفر بن محمّدالصادق 8»

هو الإمام السادس من أئمّة أهل البيت الطاهر(عليهم السلام)، ولقّب بالصادق لصدقه في مقاله، وفضله أشهر من أن يذكر. ولد عام 80 ه، واستشهد عام 148 ه، ودفن في البقيع جنب قبر أبيه محمّد الباقر(ع) وجدّه علي بن الحسين(ع) وعمّ جدّه الحسن بن علي(ع).

نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم، مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريح ومالك بن أنس والثوري وابن عيينة وابوحنيفة وشعبة وأبو أيوب

ص: 53

السجستاني وغيرهم، وعدّوا أخذهم عنه منقبة شرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها.

و إنّك إذا تتّبعت كتب التاريخ والتراجم والسير تقف على اتّفاق الأمّة على إمامته في العلم والقيادة الروحية وإن اختلفوا في كونه إماماً منصوصاً من قبل الله عزّوجلّ، فذهبت الشيعة إلى الثاني نظراً إلى النصوص المتواترة المذكورة في مظانّها.

و لقد امتدّ عصر الإمام الصادق(ع) من آخر خلافة عبدالملك بن مروان إلى وسط خلافة المنصور الدوانيقي، وقضى سنوات عمره الأولى حتّى الحادية عشرة من عمره مع جدّه زين العابدين وحتّى الثانية والثلاثين مع أبيه الباقر(ع)، فاختصّ بعد استشهاد أبيه بالزعامة سنة 114. ه.، واتّسمت مدرسته بنشاط الحركة العلمية في المدينة ومكة والكوفة وغيرها من الأقطار الإسلامية.

و قد اتّسم العصر المذكور الذي عاشه الإمام(ع) بظهور الحركات الفكرية ووفود الآراء الاعتقادية الغريبة إلى المجتمع الإسلامي، وأهمها هي حركة الغلاة الهدّامة، فكانوا يبثّون الأحاديث الكاذبة ويسندونها إلى حملة العلم من آل محمد(عليهم السلام) ليغروا بها العامّة، فكان المغيرة بن سعيد يدّعي الاتصال بأبي

ص: 54

جعفر الباقر(ع) ويروي عنه الأحاديث المكذوبة، فأعلن الإمام الصادق(ع) كذبه والبراءة منه.

ثمّ إنّ الإمام قام بهداية الامّة إلى النهج الصواب، وتربّى على يديه آلاف من المحدّثين والفقهاء، فكانوا أربعة آلاف رجل؛ فإنّ الإمام كان بحقّ سفينة النّجاة من هذا المعترك العسر. إنّ للإمام الصادق(ع) وراء ما نشر عنه من الأحاديث في الأحكام التي تتجاوز عشرات آلاف، والمناظرات مع الزنادقة والملحدين في عصره والمتقشّفين من الصوفية، وقد ضبط المحققون كثيراً منها، وهي في حدّ ذاتها ثروة علمية تركها الإمام(ع).

و أمّا الرواية عنه في الأحكام فقد روي عنه أبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث حتّى أنّ الحسن بن علي الوشّاء قال: أدركتُ في هذا المسجد(مسجد الكوفة) تسعمئة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمد(ع)، بل كان يحضر حلقات درسه الفلاسفة وطلّاب العلم من الأنحاء القصية، وكان الإمام «الحسن البصري» مؤسس المدرسة الفلسفية في مدينة البصرة وواصل بن عطاء مؤسس مذهب المعتزلة من تلاميذه الذين نهلوا من معين علمه الفياض.

و لمّا استشهد الإمام شيّعه عامة الناس في المدينة وحمل إلى

ص: 55

البقيع، ودفن في جوار أبيه وجدّه(ع)، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

الإمام السابع: «أبوالحسن موسى بن جعفرالكاظم 8»

ولد بالأبواء بين مكة والمدينة يوم الأحد في 7 صفر سنة 128 ه.، كان(ع) نموذج عصره وفريد دهره، عظيم الحلم حتّى سمّي لذلك كاظماً، لاقى من المحن ما تنهدّ لهولها الجبال، فلم تحرّك منه طرفاً، بل كان(ع) صابراً محتسباً كحال آبائه وأجداده، يعرف بأسماء عديدة منها: العبد الصالح، والكاظم، والصابر، والأمين.

قال الشيخ المفيد: «هو الإمام بعد أبيه والمقدّم على جميع بنيه، لاجتماع خصال الفضل فيه، وورود صحيح النصوص وجليّ الأقوال عليه من أبيه بأنّه ولي عهده والإمام القائم من بعده.» وقد تولّى منصب الإمامة بعد أبيه الصادق(ع) في وقت شهدت فيه الدولة العبّاسية استقرار أركانها وثبات بنيانها، فشهد الإمام الكاظم(ع) طيلة سني حياته صنوف التضييق والمزاحمة إلّا أنّ ذلك لم يمنعه(ع) من أن يؤدّي رسالته في حماية الدّين وقيادة الأمّة.

و قد قام هارون الرّشيد باعتقال الإمام الكاظم(ع) وإيداعه

ص: 56

السجن لسنين طويلة مع تأكيده على سجّانيه بالتشديد والتضييق عليه، ولم يزل ذلك الأمر حتى نُقل إلى سجن السندي بن شاهك وكان فاجراً فاسقاً، فغالى في سجن الإمام(ع) وزاد في تقييده حتى جاء أمر الرّشيد بدسّ السمّ للكاظم(ع)، فأسرع السندي إلى إنفاذ هذا الأمر العظيم، واستشهد الإمام(ع) بعد طول سجن ومعاناة في عام 183 ه.، واخرج جسمانه الطاهر ووضع على الجسر ببغداد، ونودي بوفاته، ودفن في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش المشهورة في أيامنا هذه بالكاظمية، فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد سجيناً مظلوماً مسموماً ويوم يبعث حيّاً.

الإمام الثامن: «أبوالحسن علي بن موسى الرّضا 8»

ولد في المدينة سنة 148 ه.، هو الإمام الثامن من أئمّة أهل البيت القائم بالإمامة بعد أبيه 183 ه. موسى بن جعفر لفضله على جماعة أهل بيته وبنيه وإخوته في عصره ولعلمه وورعه وكفاءته لمنصب الإمامة، مضافاً إلى النصوص الواردة في حقّه من أبيه على إمامته، وكانت مدّة إمامته بعد أبيه 20 سنة.

و قد عاش الإمام الرّضا(ع) في عصر ازدهرت فيه الحضارة

ص: 57

الإسلامية، وكثرت الترجمة لكتب اليونانيين والرومانيين وغيرهم وازدادالتشكيك في الاصول والعقائد من قبل الملاحدة وأحبار اليهود وبطارقة النصارى ومجسّمة أهل الحديث، وفي تلك الأزمنة اتيحت له(ع) فرصة المناظرة مع المخالفين على اختلاف مذاهبهم، فظهر برهانه وعلا شأنه، يقف على ذلك من اطّلع على مناظراته واحتجاجاته مع هؤلاء. ولمّا انتشر علم الإمام الرضا(ع) وفضله كثر التفاف المسلمين حوله وازدادت أعدادهم ممّا دفع بالخلافة العباسية إلى مناورة ذكية ماكرة. حين استقدم الإمام الرضا(ع) وجملة من وجوه الطالبين إلى مقرّ الحكومة آنذاك في مرو من مدينة رسول الله(ص) وأصرّ على الامام(ع) أن يقبل بولاية العهد.

و كان الإمام في مرو يقصده البعيد والقريب من مختلف الطبقات، وقد انتشر صيته في بقاع الأرض وعظم تعلّق المسلمين به، ممّا أثار مخاوف المأمون وتوجّسه من أن ينفلت زمام الأمر من يديه على عكس ما يتمنّاه وما كان يبتغيه من ولاية العهد هذه، كلّ ذلك وغيره دفع المأمون إلي أن يريح نفسه وقومه من هذا الخطر فدسّ إليه السمّ، واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر 203 ه. وله يومئذٍ 55 سنة.

ص: 58

و دفن في مدينة طوس في قبر ملاصق لقبر هارون الرّشيد، وقبر الإمام الرضا(ع) الآن مزار مهيب يتقاطر المسلمون على زيارته والتبرّك به.

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

الإمام التاسع: «أبوجعفر محمد بن علي الجواد 8»

ولد بالمدينة المنوّرة في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين بعد المائة فورث الشرف من آبائه وأجداده واستسقت عروقه من منبع النبوّة وارتوت شجرته من منهل الرسالة.

قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا(ع) عام 203 ه.، واستشهد ببغداد عام 220 ه.، أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.

أمّا إمامته ووصايته فقدوردت فيها النصوص الوافرة، لقّب بالجواد والقانع والمرتضى والنجيب والتقي والزكي وغيرها من الألقاب الدالّة على علوّ شأنه وارتفاع منزلته.

لمّا استشهد الرضا(ع) كان الإمام الجواد في المدينة وقام بأمر الإمامة بوصية من أبيه وله من العمر تسع أو عشر سنين، وكان المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه(ع)، وهو استقدام أهل البيت من موطنهم إلى دارالخلافة لكي

ص: 59

يشرف على حركاتهم وسكناتهم، فزوّجه ابنته أمّ الفضل وحملها معه إلى المدينة، وكان حريصاً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره، وسكن بها مدّة إلى أن توفي المأمون وبويع المعتصم ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة، فاستقدم الإمام الجواد(ع) إلى بغداد سنة 220 ه.، وبقي فيها(ع) حتّى استشهد في آخر ذي القعدة من تلك السنة، وله من العمر 25 سنة وأشهر، ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش؛ وقال ابن شهر آشوب: إنّه قبض مسموماً، فسلام الله على إمامنا الجواد يوم ولد ويوم مات أو استشهد بالسمّ ويوم يبعث حيا.

الإمام العاشر: «أبوالحسن علي بن محمّد الهادي 8»

ولد عام 212 ه. وهو من بيت الرسالة والإمامة ومقرّ الوصاية والخلافة وثمرة من شجرة النبوة، قام(ع) بأمر الإمامة بعد والده الإمام الجواد(ع)، وقد عاصر خلافة المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتزّ، وله مع هؤلاء قضايا لا يتّسع المقام لذكرها. وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النصّ عليه بالإمامة والإشارة إليه من أبيه بالخلافة.

ص: 60

لقد مارس المتوكل ثمّ أخوه المعتصم من إشخاص الأئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الإقامة في مقرّ الخلافة وجعل العيون والحرّاس عليهم حتّى يطّلعوا على دقيق حياتهم وجليلها.

روى الحفّاظ والرواة عن الإمام أحاديث كثيرة في شتّى المجالات من العقيدة والشريعة. استشهد أبوالحسن في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسرّ من رأى.

الإمام الحادي عشر: «أبومحمد الحسن بن علي العسكري 8»

أبومحمّد الحسن بن علي بن محمّد(عليهم السلام) أحد أئمّة أهل البيت، وهو الإمام الحادي عشر، الملقّب بالعسكري، ولد عام 232 ه.، اشخص والده إلى العراق سنة 236 ه. وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور، وقام بأمر الإمامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده. وقد اجتمعت فيه خصال الفضل وبرز تقدّمه علي كافّة أهل العصر، واشتهر بكمال الفضل والعلم والزهد والشجاعة. وقد روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين يربو عددهم على 150 شخصاً. واسشتهد عام 260 ه.، ودفن في داره الّتي دفن فيها أبوه بسامراء، وخلّف ابنه المنتظر لدولة الحق. وكان قد

ص: 61

أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وشدّة طلب السلطة واجتهادها في البحث عن أمره؛ ولكنّ الله سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما.

و قد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر، ويراد بها سرّ من رأى التي بناها المعتصم وانتقل إليها بعسكره.

الإمام الثاني عشر: «المهدي بن الحسن المنتظر [»

اشارة

هو أبوالقاسم محمد بن الحسن العسكري(ع) الحجة، الخلف الصالح، ولد ب- «سرّ من رأى» ليلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومئتين وله من العمر عند استشهاد أبيه خمس سنين، آتاه الله الحكم صبياً كما حدث ليحيى(ع)، حيث قال سبحانه:(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (1)، وجعله إماماً وهو طفل كما جعل المسيح(ع) نبياً وهو رضيع، قال سبحانه عن لسانه وهو يخاطب قومه في المهد:(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وجَعَلَنِي نَبِيًّا) (2) اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة


1- مريم: 12.
2- همان: 30.

ص: 62

الجهل والظلم والجور، ونشر أعلام العدل وإعلاء كلمة الحق وإظهارالدّين كلّه ولو كره المشركون. (1) فهو بإذن الله ينجي العالم من ذلّ عبودية غير الله، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء، ويقطع أواصر العصبيات القومية والعنصرية، ويمحو أسباب العداوة والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الأمّة وافتراق الكلمة، ويحقّق الله سبحانه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين (2).

و تشهد الأمّة بعد ظهوره عصراً ذهبياً لايبقى فيه على الأرض بيت إلّا ودخلته كلمة الإسلام، ولاتبقى قرية إلّا وينادى فيها بشهادة «لا إله إلّا الله» بكرةً وعشياً.

و إنّما الاختلاف بين الشيعة والسنّة في ولادته، فالشيعة ذهبت إلى أنّ المهدي الموعود هو الإمام الثاني عشر الذي ولد بسامراء عام 255 ه، واختفى بعد استشهاد أبيه عام 260 ه، وقد تضافرت عليه النصوص من آبائه على وجه ما ترك شكاً ولا شبهة، ووافقتهم جماعة من علماء أهل السنّة وقالوا بأنّه ولد


1- صف: 9، توبه: 33، فتح: 28.
2- النور: 55، قصص: 5، الأنبياء: 105، يونس: 82، أنفال: 8.

ص: 63

وأنّه محمد بن الحسن العسكري [. نعم كثير منهم قالوا: بأنّه سيولد في آخرالزمان.

و بما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، فمن رجع إلى روايات أئمّة أهل البيت في كتبهم يظهرله الحقّ.

ثمّ إنّ للمهدي [غيبتين صغرى [260- 329 ه.] وكبرى [329 ه. إلى الآن].

و أمّا من رأى الحجّة(ع) في زمان أبيه وفي الغيبة الصغرى وحتى في الكبرى فحدّث عنه ولاحرج.

أسئلة مهمّة حول المهدي (عج)

السؤال الأوّل: كيف يكون إماماً وهو غائب؟ وما فائدته؟!

إنّ القيادة والهداية والقيام بوظائف الإمامة هو الغاية من تنصيب الإمام أو اختياره، وهو يتوقّف على كونه ظاهراً بين أبناء الأمّة مشاهداً لهم، فكيف يكون إماماً قائداً وهو غائب عنهم؟!

و الجواب على وجهين نقيضاً وحلّاً: أمّا النقض: فإنّ التركيز على هذا السؤال يعرب عن عدم التعرّف على أولياءالله وأنّهم بين ظاهر قائم بالأمور، ومختفٍ قائم بها من دون أن يعرفه

ص: 64

الناس.

حتى نبي زمانه كما يخبر سبحانه عن مصاحب موسى(ع) بقوله:(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (1) فالقرآن إذن يدلّ على أنّ الولي ربّما يكون غائباً ولكنّه مع ذلك لايعيش في غفلة عن أمّته، بل يتصرّف في مصالحها، ويرعى شؤونها من دون أن يعرفه أبناء الأمّة. وليست غيبة الإمام المهدي(ع) بدعاً في تاريخ الأولياء فهذا موسي(ع) ابن عمران قد غاب عن قومه قرابة أربعين يوماً وكان نبياً ولياً. (2) وأمّا الحلّ: فمن وجوه:

الوجه الأوّل: إنّ عدم علمنا بفائدة وجوده في زمن غيبته لايدلّ على عدم كونه مفيداً في زمن غيبته، ولاشك أنّ عقول البشر لاتصل إلى كثير من الأمور المهمّة في عالم التكوين والتشريع، بل لا تفهم مصلحة كثير من سننه وإن كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث، بعيداً عن اللغو، وعلى ذلك فيجب علينا التسليم أمام التشريع إذا وصل إلينا بصورة صحيحة كما


1- كهف: 65- 82.
2- الأعراف: 142 وأيضاً الأنبياء: 87- 88.

ص: 65

عرفت من تواتر الروايات على غيبته.

الوجه الثاني: إنّ الغيبة لاتلازم عدم التصرف في الأمور وعدم الإستفادة من وجوده.

كما دلّت الروايات على أنّه يغيث المضطرين ويعود المرضى، وربّما يتكفّل- بنفسه الشريفة قضاء حوائجهم وإن كان الناس لايعرفونه.

الوجه الثالث: إنّ الصلحاء من الأمّة الّذين يستدرّ بهم الغمام، لهم التشرّف بلقائه والاستفادة من نور وجوده، وبالتالي تستفيد الأمّة بواسطتهم.

الوجه الرابع: لايجب على الإمام أن يتولّى التصرّف في الأمور الظاهرية بنفسه، بل له تولية غيره على التصرّف في الأمور كما فعل الإمام المهدي- ارواحنا له الفداء- في غيبته. ففي الغيبة الصغرى: كان له وكلاء أربعة يقومون بحوائج النّاس، وكانت الصّلة بينه وبين الناس مستمرّة بهم، وفي الغيبة الكبرى نصب الفقهاء والعلماء العدول العالمين بالأحكام للقضاء وتدبير الأمور وإقامة الحدود، وجعلهم حجة على الناس، فهم يقومون في عصرالغيبة بصيانة الشرع عن التحريف وبيان الأحكام ودفع الشبهات وبكل ما يتوقّف عليه نظم أمور الناس. ولغيبته(ع)

ص: 66

فوائد كثيرة اخر تذكر في مجالها.

السؤال الثاني: لماذا غاب المهدي [؟!

الجواب: أنّ هذا السؤال يجاب عليه بالنقض والحلّ؛

أمّا النقض: الاعتراف بقصور أفهامنا أولى من ردّ الروايات المتواترة، بل هو المتعيّن.

و أما الحلّ: فإنّ الإمام المهدي(ع) فلو كان ظاهراً لأقدموا على قتله إطفاءً لنوره، فلأجل ذلك اقتضت المصلحة أن يكون مستوراً عن أعين النّاس إلى أن تقتضي مشيئة الله سبحانه ظهوره بعد حصول استعداد خاص في العالم لقبوله والإنضواء تحت لواء طاعته.

السؤال الثالث: الإمام المهدي [وطول عمره؟!

الجواب من وجهين: نقضاً وحلّاً؛

أمّا النقض: فقد دلّ الذكر الحكيم على أنّ شيخ الأنبياء عاش قرابة ألف سنة، قال تعالى:(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً). (1)


1- العنكبوت: 14.

ص: 67

و قد تضمّنت التوراة أسماء جماعة كثيرة من المعمّرين، وذكرت أحوالهم في سفر التكوين، وقد قام المسلمون بتأليف كتب حول المعمّرين.

و أمّا الحلّ: فإنّ السؤال عن إمكان طول العمر يعرب عن عدم التعرّف على سعة قدرة الله سبحانه:(وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ). (1) أضف إلى ذلك ما ثبت في علم الأحياء، من إمكان طول عمر الإنسان إذا كان مراعياً لقواعد حفظ الصحة، وأنّ موت الإنسان في فترة متدنية ليس لقصور الإقتضاء، بل لعوارض تمنع عن استمرار الحياة، ولو أمكن تحصين الإنسان منها بالأدوية والمعالجات الخاصّة لطال عمره ما شاء.

فلو فرض في حياة شخص اجتماع موجبات الصحة من كلّ وجه طال عمره إلى ما شاء الله.

السؤال الرابع: ما هي علائم ظهوره؟!

الجواب: إنّ ماجاء في كتب الأحاديث من الحوادث والفتن الواقعة في آخرالزمان ... عبارة عن أمور، عدّة منها:


1- الأنعام: 91.

ص: 68

1- النداء في السماء.

2- الخسوف والكسوف في غير مواقعهما.

3- الشقاق والنفاق في المجتمع.

4- ذيوع الجور والظلم والهرج والمرج في الامّة.

5- ابتلاء الإنسان بالموت الأحمر والأبيض.

6- قتل النفس الزّكية.

7- خروج الدجّال.

8- خروج السفياني.

و غيرذلك ممّا جاء في الأحاديث الإسلامية. هذه هي علامات ظهوره، ولكن هناك أمور تمهّد لظهوره وتسهّل تحقيق أهدافه نشير إلى أبرزها:

1- الاستعداد العالمي.

2- تكامل العقول.

3- تكامل الصناعات.

4- الجيش الثوري العالمي.

ص: 69

الفصل الثالث: دورالشيعة في بناء الحضارة الإسلامية

تمهيد:

إنّ الحضارة الإسلامية تعدّ بلا شكّ من أكبر الحضارات في تاريخ الإنسان وأكثرها اهتماماً بالعلم والفلسفة والأدب والفنون، وهي الأساس الوطيد الذي قامت عليه حركة النهضة الأوروبية، إنّها حضارة حقيقية ترتكز على أُسس أخلاقية وعقائدية سماوية، ضربت جذورها في أعماق البناء الإنساني واستطاعت أن تجعل منه وكما أراد خالقه له أن يكون خليفته في أرضه.

إنّ مؤسس الحضارة الإسلامية هو النبي الأكرم(ص)، وقد جاء

ص: 70

بسنن وقوانين دفعت البشرية إلى مكارم الأخلاق كما دفعتهم إلى متابعة العلوم والفنون واستغلال الموارد الطبيعية وتكوين مجتمع تسود فيه النظم الاجتماعية المستقيمة، فأصبحت لهم قوّة اقتصادية ونظم سياسية وتقاليد دينيّه وخُلقيّه، وأُعطوا العلوم المختلفة جلّ اهتمامهم، فبرز منهم العديد من العلماء المتفوّقين والبارعين في شتّى مناحي العلم، ورفدوا حركة تطوّر الحضارة البشرية بجهودهم المخلصة.

و الذي يطيب لنا هنا ذكر مشاركة الشيعة في بناء هذه الحضارة:

أوّلًا: قدماء الشيعة وعلم البيان.

ثانياً: قدماء الشيعة وعلم النحو:

إنّ دراسة القرآن بين الأمّة ونشر مفاهيمه يتوقّف على معرفة العلوم الّتي تعدّ مفتاحاً له، إذ لولا هذه العلوم ونضجها لحرم جميع المسلمين حتّى العرب منهم من الاستفادة من القرآن الكريم، فقام أبوالأسود الدؤلي بوضع قواعد نحوية بأمر الإمام أميرالمؤمنين(ع)، فأبوالأسود إمّا واضع علم النحو أو مدوّنه، وكان من سادات التابعين، وقد صاحب علياً، وشهد معه صفين، ثمّ أقام في البصرة. توفّي سنة 69 ه.

ص: 71

وكان الخليل من أصحاب الإمام الصادق(ع) ومن شيعته، وممّن ألّف في علم النحو من قدماء الشيعة عطاء بن أبي الأسود وحمران بن أعين أخو زرارة بن أعين وأبوعثمان المازني وبكر بن محمد ويعقوب بن إسحاق السكّيت الذي قتله المتوكل لأجل تشيّعه عام 244 ه.، وقد خلّف بضعة وعشرين أثراً في النحو واللغة والشعر.

وكذلك ابن حمدون وأحمد بن إبراهيم وأبواسحاق النّحوي وثعلبة بن ميمون وقتيبة النحوي الجعفي الكوفي، هذا في القرون الأولى.

وأمّا من تلاهم من الأعلام بينهم شخصيات بارزة كالشريف المرتضى والشّريف الرضي وابن الشجري، ونجم الأئمّة الرّضي الاسترآبادي.

ثالثاً: قدماء الشيعة وعلم الصّرف:

إنّ أوّل من دوّن الصرف أبوعثمان المازني، وكان قبل ذلك مندرجاً في علم النّحو، كما ذكره في كشف الظنون وشرحه أبوالفتح عثمان بن جنّي المتوفّى في 392 ه.، وأبسط كتاب في الصرف ما كتبه نجم الأئمّة محمّد بن الحسن الأسترآبادي الغروي، وله شرح الشافية في الصرف كما له شرح الكافية في

ص: 72

النحو، وكلا كتابيه جليل الخطر محمود الأثر قد جمع فيهما بين الدلائل والمباني.

رابعاً: قدماء الشيعة وعلم اللغة:

ونريد بعلم اللّغة: الاشتغال بألفاظ اللغة من حيث اصولها واشتقاقاتها ومعانيها، وقد ظهر في ميدان هذاالعلم المهمّ جملة واسعة من علماء الشيعة. ومن هؤلاء الأفاضل:

1- الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي الأزدي، وهو أول من ضبط اللّغة وأوّل من استخرج علم العروض إلى الوجود، فألّف كتابه «العين»، ورتّب ذلك على حروف الهجاء. والخليل من أعلام القرن الثاني الهجري، وكان إمامي المذهب.

2- أبان بن تغلب بن رباح الجريري: من أصحاب الباقر والصادق(ع).

3- ابن حمدون النديم.

4- أبوبكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي صاحب «الجمهرة في اللغة»، واختصره الصاحب بن العباد وسمّاه «جوهرة الجمهرة»، ومن كتبه في اللغة «المحيط» عشرة مجلّدات.

خامساً: قدماء الشيعة وعلم العروض:

الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري وكافي الكفاة الصاحب

ص: 73

بن عباد، له كتاب «الإقناع في العروض» وهبةالدين الشهرستاني(1301- 1386 ه.) والشيخ مصطفى التبريزي(1298- 1338 ه.) وأبوالمجد الشيخ محمد رضا الإصفهاني(1286- 1362 ه.).

سادساً: قدماء الشّيعة وطرائف الشعر:

و نريد بالشعر ما يحتوي على المضامين العالية في الحياة وما يبثّ روح الجهاد في الإنسان، فإنّا نعني بحديثنا هنا أولئك الشعراء الذين أوقفوا أشعارهم في خدمة كلمة الحق وإعلاء شأن الدّين الحنيف. وإليك أسماء بعض من شعراء الشيعة:

قيس بن سعد بن عبادة سيد الخزرج والصحابي الكبير والكميت بن زيد والسيد الحميري(ت 173 ه.) أبوهاشم إسماعيل بن محمد الملقّب بالسيد ودعبل الخزاعي(المتوفّى 246 ه.) يرجع نسبه إلى بديل بن ورقاء الخزاعي الذي دعا له النبي(ص) والأمير أبوفراس الحمداني(320- 357 ه.) وابن الحجّاج البغدادي(المتوفّى 321 ه.) ...؛ الشريف الرضي(359- 406 ه.) والشريف المرتضى(355- 436 ه.) ومهيارالديلمي(المتوفّى 448).

سابعاً: قدماء الشّيعة وعلم التفسير:

ص: 74

إنّ أئمّة أهل البيت- بعد الرسول الأكرم(ص)- هم المفّسرون الحقيقيون للقرآن الكريم، حيث فسّروا القرآن بالعلوم الّتي نحلهم الرسول(ص) بأقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم الّتي لاتشذّ عن قول الرسول(ص) وفعله وتقريره.

و قد قام فضلاء الشيعة من صحابة الإمام علي(ع) والتابعين له إلى العصر الحاضر إما بتفسير جميع سوره أو بعضها، والغالب على التفاسير المعروفة في القرون الثلاثة الاولى هو التفسير بالأثر، ولكن انقلب النمط إلى التفسير العلمي والتحليلي من أواخر القرن الرابع، فأوّل من ألّف من الشيعة على هذا المنهاج هو الشريف الرضي(359- 406 ه.) مؤلّف كتاب «حقائق التأويل» في عشرين جزءاً.

ثمّ الشريف المرتضى في أماليه المعروف به «الدرر والغرر» ثم الشيخ الأكبر الطوسي(385- 460 ه.) مؤلّف «التبيان في تفسير القرآن» في عشرة أجزاء كبار.

واستمرار الأمر إلى عصرنا هذا، فقد قامت الشيعة في كلّ قرن بتأليف عشرات التفاسير وفق أساليب متنوّعة ولغات متعدّدة، لايحصيها إلّا المتوغّل في المعاجم فبلغ عددهم(122) مفسّراً معروفاً.

ص: 75

ثامناً: قدماء الشيعة وعلم الحديث:

قام الإمام أميرالمؤمنين علي(ع) بتأليف عدّة كتب في زمان النّبي(ص)، فقد أملى رسول الله كثيراً من الأحكام عليه وكتبها الإمام، واشتهر بكتاب علي، وتبعه ثلّة من الصحابة الذين كانوا شيعة له. وإليك أسماء من اهتمّ بتدوين الآثار وما له صلة بالدّين وإن لم يكن حديث الرسول(ص): أبورافع وسلمان فارسي وأبوذر غفاري وأصبغ بن نباتة المجاشعي وعبدالله بن أبي رافع المدني وربيعة بن سميع وسليم بن قيس هلالي وعلي بن أبي رافع وعبيدالله بن الحرّ الجعفي والإمام السّجاد زين العابدين علي بن الحسين(ع) وجابربن يزيد بن الحارث الجعفي وجارود بن منذر.

وأنّهم لم يقيموا لمنع الخلفاء وزناً ولاقيمة، وبذلك حفظوا نصوص النبي الأكرم(ص) وأهل بيته وقدّموها إلى المجتمع الإسلامي، فعلى جميع علماء المسلمين أن يتمسّكوا بهذا الحبل الذي هو أحد الثقلين.

تاسعاً: قدماء الشيعة والفقه الإسلامي:

إنّ الفقه الشيعي هو الشجرة الطيبة الراسخة الجذور المتّصلة الأسس بالنّبوة والتي امتازت بالسعة والشمولية والعمق والدقّة

ص: 76

والقدرة على مسايرة العصور المختلفة، يعتمد في الدرجة الاولى على القرآن الكريم، ثم على السّنة المحمّدية المنقولة عن النبي(ص) عن طريق العترة الطاهرة أو الثقات من أصحابهم والتابعين لهم بإحسان، وكذلك يتخذ من العقل دليلًا وأيضاً الإجماع الكاشف عن وجود النصّ في المسألة أو موافقة الإمام المعصوم مع المجمعين في عصر الحضور، ولم يقفل باب الاجتهاد منذ رحلة النبي(ص) إلى يومنا هذا، بل فتح بابه طيلة القرون، فأنتج عبرالعصور فقهاء عظاماً وموسوعات كبيرة لم يشهد التاريخ لها ولهم مثيلًا، كزرارة بن أعين ومحمد ابن مسلم وبريد بن معاوية والفضل بن يسار وجميل بن دراج وعبدالله بن مسكان وعبدالله بن بُكير وحمّاد بن عثمان وحمّاد بن عيسى وأبان بن عثمان ومحمد بن أبي عمير والحسن بن محبوب، وكلّهم خرّيجو مدرسة أهل البيت، ولقد خلّفوا آثاراً علميةً باسم الأصل والكتاب والنوادر والجامع والمسائل وعناوين أخرى، فخلّفوا جوامع فقهية مهمّة كانت ولازالت خير زاد للمسلمين. ومن هؤلاء الأعلام: أيضاً صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن خالد البرقي(ت 274 ه.) صاحب كتاب المحاسن وغيره ومحمد بن أحمد بن يحيى الأشعري القمّي(ت 293 ه.) وأحمد

ص: 77

ابن محمد بن أبي نصر البزنطي(ت 221 ه.(.

علي بن الحسين بن بابويه(ت 329 ه.) وجعفر بن محمّد بن قولويه أستاذ الشيخ الصّدوق ومؤلّف كامل الزيارات ومحمّد بن علي بن الحسين الصدوق(306- 381 ه.) مؤلّف كتاب من لايحضره الفقيه والمقنع والهداية ومحمد بن أحمد بن الجنيد المعروف بالإسكافي(385 ه.) والشيخ المفيد(336- 413 ه.) والسيد المرتضى(355- 436 ه.) والشيخ الكراجكي(ت 449) والشيخ الطوسي(385- 460 ه.).

و يشهد الله أنّ علماء الشيعة قاموا بهذه الجهود في ظروف قاسية ورهيبة، وكانت الحكومات الظالمة ومرتزقتها لاينفكون عن مطاردتهم وإيداعهم في السجون وعرضهم على السّيف، وأين هؤلاء من الفقهاء الذين تنعّموا بالهدوء والاستقرار واستقبلتهم السلطات الحاكمة بصدر رحب واجيزوا مقابل أبيات معدودة من الشعر الرخيص أو كتيب أو رسالة صغيرة بالهبات والعطايا؟! كابن مالك.

عاشراً: قدماء الشيعة وعلم أصول الفقه:

إنّ افتقاد النصّ في مجال التشريع الّذي واجه فقهاء أهل السنّة بعد رحلة النبي(ص) هو الّذي دعاهم إلى التفحّص عن

ص: 78

الحلّ لهذه الأزمة حتّى تسدّ حاجاتهم الفقهية، فعكفوا على المقاييس الظنيّة الّتي ما أنزل الله بها من سلطان كالقياس والاستقراء والاستحسان وسدّ الذرائع وسنّة الخلفاء أو سنّة الصحابة أو رأي أهل المدينة إلى غير ذلك من القواعد أسّسوا عليها فقههم عبر قرون متمادية.

و أمّا الشّيعة فحيث إنّهم لم يفتقدوا سنّة الرسول(ص) بعد وفاته لوجود باب علم النبي(ص) علي(ع) والأئمة المعصومين- بين ظهرانيهم، فلم تكن هناك أيّة حاجة للعمل بتلك المقاييس.

نعم انبرى أئمّة أهل البيت إلى إملاء ضوابط وقواعد يرجع إليها الفقيه عند فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه إلى غير ذلك من الحالات الّتي يواجه بها الفقيه، وتلك الأصول هي الّتي تكون أساساً لعلم أصول الفقه.

نعم، يمكن عدّها مرحلة أولى ونواة بالنسبة إلى المرحلة الثانية. وأمّا المرحلة الثانية فقد امتازت بالسعة والشمول بإدخال كثير من المسائل الأدبية والكلامية في علم أصول الفقه. وأوّل من فتح هذا الباب للشيعة على مصراعيه: معلّم الأمّة الشيخ المفيد(336- 413 ه.) والسيد المرتضى والشيخ الطوسي(385- 460 ه.) وابن زهره المتوفى عام(585 ه.)

ص: 79

الشيخ سديدالدين الحمصي المتوفّى حدود سنة(600 ه.). وقد تلتها مراحل أخرى إلى أن بلغت في القرن الرابع عشرذروتها وقمّتها، شكرالله مساعيهم.

حادي عشر: قدماء الشيعة وعلم المغازي والسير:

لقد قيّض الله سبحانه رجالًا في الشيعة ضبطوا سيرة النبي ومغازيه، منهم:

1- ابن إسحاق، محمد بن إسحاق(ت 151 ه.) من أصحاب الإمام الصادق(ص).

2- عبيدالله بن أبي رافع، وهو من أصحاب الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(ع) أنّه ألّف في مغازي الإمام علي(ع).

3- جابر الجعفي(ت 128 ه.).

4- أبان بن عثمان الأحمر البجلّي الكوفي.

5- أبومخنف لوط بن يحيى الأزدي الغامدي.

6- نصر بن مزاحم(212 ه.).

7- هشام بن محمّد بن السائب الكلبي(المتوفّى 206 ه.).

ثاني عشر: قدماء الشّيعة وعلم الرّجال:

اهتمّ علماء الشيعة بعد عصر التابعين بعلم الرجال وأولوه

ص: 80

اهتماماً كبيراً، فبرزت منهم ثلّة كبيرة من سادات هذا العلم. وسنحاول هنا أن نذكر أوائل المؤلّفين، منهم: علي بن الحسن بن فضّال من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري(ع).

الحسن بن محبوب السرّاد(150- 224 ه.) من أصحاب الصادق(ع)، أبوعمر الكشّي، الشيخ أبوالعبّاس أحمد بن علي النجاشي(372- 450 ه.)، والشيخ الطوسي(385- 460 ه.)، وتوالى التأليف في علم الرّجال كما في قرينه علم الدراية إلى عصرنا هذا، فبلغوا قرابة خمسمائة مؤلّف، شكّرالله مساعي الجميع.

ثالث عشر: قدماء الشيعة والعلوم العقلية:

إنّ المسلمين سوى قليل منهم صاروا بين مشبّه ومعطّل، وبذلك استغنوا عن أيّ تعقّل وتفكّر غير أنّه سبحانه شملت عنايته أمّة من المسلمين رفضوا التشبيه والتعطيل، وسلكوا طريقاً ثالثاً، وقالوا بأنّه يمكن للإنسان التعرّف على ماوراء الطبيعة بما فيها من الجمال والكمال بلا تشبيه.

ترى ذلك في كلام الإمام علي(ع) بوضوح في أحاديثه وخطبه ورسائله، فإنّ خطب الإمام علي(ع) ورسائله وقصار حكمه كانت هي الحجر الأساس لكلام الشيعة وآرائهم في العقائد والمعارف، ولم يتوقّف نشاط الشيعة في ذلك المجال، فواصل

ص: 81

الأئمّة من بعده عليهم وعليه السلام- في حياتهم تربية شيعتهم، فشحذوا عقولهم بالدعوة إلى التدّبر والتفكّر في المعارف حتى تربّى في مدرستهم عمالقة الفكر من عصر سيد الساجدين(ع) إلى عصر الإمام العسكري(ع).

و من هؤلاء: زرارة بن أعين ومحمد بن علي بن نعمان بن أبي طريفة البجلّي الّذي يلقّب ب- «مؤمن الطاق» وهشام بن الحكم وقيس الماصر الذي تعلّم الكلام من علي بن الحسين(ع) والفضل بن شاذان بن خليل أبومحمد الأزدي النيشابوري وشيخنا المفيد(336- 413 ه.)

و بعد أودّ أن اشير إلى بعض أساتذة الفلسفة:

الشيخ أبوعلي بن سينا:(370- 428 ه.) أكبر فيلسوف إسلامي شيعي ظهر في المشرق، وقد ذاع صيته شرقاً وغرباً.

نصيرالدين الطوسي(597- 672 ه.).

الشيخ كمال الدين. ميثم بن علي بن ميثم البحراني(636- 699 ه.)، له «قواعد المرام في الكلام».

العلّامة الحلّي(648- 726 ه.)، له «الجوهر النضيد» وكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد شيخ الطوسي.

قطب الدين الرازي(ت 766 ه.) تلميذ العلّامة الحلّي

ص: 82

واستاذ الشهيد الأوّل

إلى غير ذلك كالفاضل المقداد(ت 808 ه.)، والسيد محمدباقر المعروف بالداماد(ت 1040 ه.) وتلميذه المعروف بصدرالمتألهين مؤلّف الأسفار الأربعة(971- 1050 ه.) وغيرهم حتّى عصرنا الحاضر.

رابع عشر: قدماء الشيعة والعلوم الكونية:

إنّ بيت آل نوبخت بيت شيعي عريق، فقد قاموا بترجمة الكثير من كتب العلوم والمعرفة من اللغة الفارسية إلى العربية، كما برع منهم من له باع طويل في كثير من العلوم ومنها العلوم الكونية والنّجوم.

- أبوعلي أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه: من أعيان الشيعة وأعلام فلاسفتهم، صنّف في علوم الأوائل، وله تعليقات في المنطق ومقالات جليلة في أقسام الحكمة والرياضة.

- جابر بن حيان(رحمة الله): في علم الكيمياء.

- المحقق الطوسي(رحمة الله): في علم الفلك.

- أحمد بن أبي يعقوب بن واضح: هو أوّل جغرافي في العرب.

- أبوالحسن علي بن الحسين المسعودي(ت 346 ه.) فقد ألّف في التاريخ والجغرافية وتقويم البلدان.

ص: 83

بلدان الشيعة وأماكن تواجدهم

ينتشر الشيعة في جميع أنحاء العالم بنسب مختلفة، وربّما تعدّ بعض البلدان معقل الشيعة ومزدحمها حيث يكون المذهب السائد فيها هو مذهب التشيّع في حين تتفاوت هذه النسبة في بلدان اخرى. وإليك أسماء بعضها، وهي:

إيران والعراق وسورية والسعودية وتركيا وأفغانستان والباكستان والهند واليمن ومصر والإمارات العربية المتّحدة والبحرين والكويت وعمان والتّبت والصين وآذربيجان وطاجيكستان وباقي الجمهوريات المتحرّرة بانحلال الاتحاد السوفيتي، وماليزيا وأندونيسيا وسيلان وتايلند وسنغافورة وشمال أفريقيا والصومال والأرجنتين وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وألبانيا والولايات المتحدة وكندا وغيرها من الدول المختلفة الّتي يضيق المجال بحصرها.

إنّ في هذه الشريعة الغرّاء من سمات العدل والمساواة ورفض التمييز العنصري والنظام الطبقي وأنّ الناس فيه كأسنان المشط لافضل لأعجمي على عربي ولا لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى، فكان ذلك هو الدافع المهمّ للشعوب للدخول في

ص: 84

الإسلام والانضواء تحت رايته، من غير فرق بين قوم دون قوم وشعب دون شعب. وإنّ السبب الحقيقي لولائهم وجنوحهم إلى أهل البيت هو أنّهم شاهدوا أنّ علياً وأهل بيته خلافاً للخلفاء عامّتهم يكافحون فكرة القومية ويطبّقون المساواة، فكان ذلك نواة لبذر الولاء في قلوب بعضهم، يرثه الأبناء من الآباء وإن لم يكن الحب يوم ذاك ملازماً للقول بخلافتهم عن الرسول وإمامتهم بعده، بل كان حبّاً وودّاً خالصاً لأسباب نفسية لا قيادية

نسأله سبحانه أن يرفع كلمة التوحيد في ربوع العالم، ويوفّق المسلمين لتوحيد الكلمة ورصّ الصفوف، إنّه على ذلك لقدير.

ص: 85

الفصل الرابع: مع الشيعة الإمامية في عقائدهم

تمهيد:

إنّ المناهج الكلامية فرّقت المسلمين إلى مذاهب، حدثت في أواخر القرن الأول الهجري، واستمرّت في القرون التالية، فنجمت عنها فرق إسلامية مختلفة كالمرجئة والجهمية والمعتزلة والحشوية والأشعرية والكرامية بفرقهم المتشعّبة فإنّ المرء لايجد لها تاريخاً متّصلًا بزمن النبي الأكرم(ص)، فالخوارج مثلًا كانوا فرقة سياسية نشأت في عام(37 ه.) أثناء حرب صفّين ثمّ تبدّلت إلى فرقة دينية في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني، والمرجئة ظهرت في الأوساط الإسلامية عند اختلاف

ص: 86

النّاس في الخليفة عثمان والإمام علي، ثمّ تطوّرت إلى معنى آخر، وكان من حصيلة التطوّر هو تقديم الإيمان وتأخير العمل!

و الجهمية نتيجة أفكار «جهم بن صفوان» المتوفّى سنة(128 ه.).

و المعتزلة تستمدّ اَصولها من واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري المتوفّى عام(130 ه.)، وهكذا القدرية والكرامية والظاهرية والأشعرية، فجميعها فرق نتجت عن البحث الكلامي وصقلها الجدل عبر القرون، فلاتجد لهذه الفرق سنداً متصلًا بالنبي الأكرم(ص)؛

و أمّا عقائد الشيعة الإمامية فعلى النقيض من ذلك، ولا صلة في نشأتها بينها وبين تلك الفرق؛ لأنّها اخذت أساساً من مصادر التشريع الحقيقية للإسلام، وهي: الذكر الحكيم أوّلًا، والسّنة النبوية ثانياً، وخطب الإمام علي(ع) وكلمات العترة الطاهرة(عليهم السلام) الصادرة من النّبي الأكرم(ص) ثالثاً. فلأجل ذلك يحدّد تاريخ عقائدهم بتاريخ الإسلام وحياة أئمّتهم الطاهرين.

إلّا أنّ الأمر الجدير بالذكر هو أنّ المرتكز الأساسي لبناء العقيدة الخاصّة بالشيعة الإمامية هو الاعتقاد بأنّ الإمام علياً منصوص عليه بالوصاية الخاصة على لسان النبي الأكرم(ص)

ص: 87

وأنّه وعترته الطاهرة هم المرجع الأعلى بعد الذكر الحكيم، وهذا هو العنصر المقوّم للتشيع.

و أمّا سائر الاصول فإنّها عقائد إسلامية لاتختصّ بالشيعة الإمامية وحدها.

الفرق بين الشيعة الإمامية والمعتزلة

إنّ المتأمل في مجمل عقائد هاتين الفرقتين يمكنه أن يتبيّن بوضوح جوانب الاتّفاق والاختلاف بينهما:

الشفاعة: قالت الإمامية والأشاعرة: إنّ النبي(ص) يشفع لأهل الكبائر بإسقاط العقاب عنهم أو بإخراجهم من النّار؛ وقالت المعتزلة: لايشفع(ص) إلّا للمطيعين المستحقّين للثواب، وتكون نتيجة الشفاعة ترفيع الدرجة.

مرتكب الكبيرة: هو عند الأمامية والأشاعرة مؤمن فاسق، وقالت المعتزلة: بل منزلته بين المنزلتين، أي بين الكفر والإيمان.

الجنّة والنار: قالت الإمامية والأشاعرة: إنّهما مخلوقتان الآن بدلالة الشرع على ذلك، وأكثر المعتزلة يذهب إلى أنّهما غير موجودتين.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: اتّفق المسلمون على

ص: 88

وجوبهما؛ فقالت الإمامية والأشاعرة: يجبان سمعاً، ولولا النصّ لم يكن دليل على الوجوب، خلافاً للمعتزلة الذين قالوا: بوجوبهما عقلًا.

الإحباط: اتفقت الإمامية والأشاعرة على بطلان الإحباط، وقالوا: لكلّ عمل حسابه الخاصّ، ولاترتبط الطاعات بالمعاصي ولاالمعاصي بالطاعات، والإحباط يختصّ بذنوب خاصّة كالشرك وما يتلوه، بخلاف المعتزلة حيث قالوا: إنّ المعصية المتأخرة تسقط الثواب المتقدّم فمن عبدالله طول عمره ثمّ كذب فهو كمن لم يعبد الله أبداً!

الشرع والعقل: تشدّدت المعتزلة في تمسّكهم بالعقل، وتشدّد أهل الظاهر في تمسّكهم بظاهر النصّ، وخالفهما الإمامية.

اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّ قبول التوبة بفضل من الله، ولايجب عقلًا إسقاطها للعقاب، وقالت المعتزلة: إنّ التوبة مسقطة للعقاب على وجه الوجوب.

اتّفقت الإمامية على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك.

اتّفقت الإمامية على أنّ الإنسان غير مسيّر ولا مفوّض إليه، بل هو في ذلك المجال بين الأمرين، بين الجبر والتفويض،

ص: 89

وأجمعت المعتزلة على التفويض.

اتفقت الإمامية والأشاعرة على أنّه لابدّ في أوّل التكليف وابتدائه من رسول، وخالفت المعتزلة وزعموا أنّ العقول تعمل بمجرّدها عن السمع.

هذه هي الاصول التي خالفت الإمامية فيها المعتزلة، ووافقت فيها الأشاعرة.

الفرق بين الشيعة الإمامية والأشاعرة

هناك اصول خالفت الإمامية فيها الأشاعرة، مخالفة بالدليل والبرهان وتبعاً لأئمتهم. ونذكر المهّم منها:

1- اتّحاد [عينية] الصفات الذاتية مع الذات: إنّ لله سبحانه صفات ذاتية كالعلم والقدرة، فهي عند الأشاعرة صفات قديمة مغايرة للذات زائدة عليها، وهي عند الإمامية عين الذات، وعند المعتزله الذات معطّلة من الصفات والذات نائبة مناب الصفات، بمعنى أنه ليس لها علم ولكن فعلها عن علم وليس لها قدرة ولكن فعلها عن قدرة.

2- الصفات الخبرية الواردة في الكتاب والسنّة، كالوجه والأيدي والاستواء وأمثالها، فالشيعة الإمامية يؤوّلونها تأويلًا مقبولًا، لا تأويلًا مرفوضاً، أي إنّ معنى:(بَلْ يَداهُ

ص: 90

مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (1) أنّه بري ءٌ من البخل، بل هو باذل وسخي وقادر على البذل؛ وأمّا الأشاعرة وأهل الحديث والحنابلة فهم يفسّرونها بالمفهوم التصوّري ويقولون: إنّ لله سبحانه يدين، إلّا أنّهم يتهرّبون عن التجسيم والتشبيه بقولهم: بلا كيف أو لا كأيدينا!

3- أفعال العباد عند الإمامية صادرة من نفس العباد، فالإنسان هو الفاعل لأفعاله بقدرة مكتسبة من الله، وإنّ قدرته المكتسبة هي المؤثّرة بإذن من الله سبحانه.

و أمّا الأشاعرة فذهبوا إلى أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه، فليس للإنسان فيها صنع ولا دور وليس لقدرته أيّ تأثير في تحققّ الفعل، وأقصى ما عندهم أنّ إرادة الإنسان للعقل تقارن إيجاد الله سبحانه فعله في عالم التكوين والوجود، فقالوا: «إنّ الله هو الخالق، والإنسان هو الكاسب» إلّا أنّها نظرية غريبة غير مفهومة ومليئة بالألغاز التي عجز عن فهمها وإيضاحها حتّى مبتدعوها أنفسهم!

4- إنّ الاستطاعة في الإنسان على فعل من الأفعال تقارنه تارة وتتقدّم عليه أخرى، فلو أريد من القدرة: العلّة التّامة فهي


1- مائده: 64.

ص: 91

مقارنة، ولو أريد العلة الناقصة فهي متقدّمة، خلافاً للأشاعرة فقد قالوا بالتقارن مطلقاً.

5- رؤية الله بالأبصار في الآخرة: فهي مستحيلة عند الإمامية والمعتزلة، ممكنة عند الأشاعرة.

6- كلامه سبحانه عند الإمامية هو فعله، فهو حادث لاقديم، وهذا خلافاً للأشاعرة: فكلامه عبارة عن الكلام النفسي القائم بذاته، فهو قديم كقدم الذات.

7- التحسين والتقبيح العقليان: ذهبت الإمامية إلى أنّ العقل يدرك حسن بعض الأفعال أو قبحها، بمعنى أنّ نفس الفعل من أيّ فاعل صدر، سواء أكان الفاعل قديماً أو حادثاً، واجباً أو وممكناً، يتّصف بأحدهما ويتلّقاه حكماً مطلقاً سائداً على مرّ الحقب والأزمان، لا يغيّره شي ءٌ؛ وهذا خلافاً للأشاعرة، فقد عزلوا العقل عن إدراك الحسن والقبيح، وبذلك خالفوا الإمامية والمعتزلة في الفروع المترتّبه عليه.

هذا، وإنّ الشيعة وإن خالفوا في هذه الاصول طائفة من الطوائف الإسلامية ووافقوا طوائف اخرى، ولكن هناك اصول اتّفق الجميع فيها دون استثناء، أفما آن للمسلمين أن يتّحدوا في ظلّ هذه الاصول المؤلّفة لقلوبهم، ويستظلّوا بظلالها ويتمسّكوا

ص: 92

بالعروة الوثقى، ولا يصغوا إلى النعرات المفرّقة المفترية على الشيعة وأئمتهم؟!

الفرق بين الشيعة الإمامية وسائِر الفرق

إذا تعرّفت على الفوارق الموجودة بين الشيعة وبعض طوائف المسلمين؛ فهلمّ معي إلى الفوارق الجوهرية بينهم وبين سائر الطوائف التي صيّرتهم إلى الفرقتين متمايزتين واكثرها يرجع إلى مسألة القياده والخلافة بعد الرسول الأكرم(ص)، فنأخذ بالبحث عنها على وجه الإجمال.

المسألة الاولى: «وجوب تنصيب الإمام على الله سبحانه»

تتّفق جميع الفرق الإسلامية على أصل وجوب نصب الإمام سوى العجاردة من الخوارج ومنهم حاتم الأصمّ أحد شيوخ المعتزلة(ت 237 ه.).

فالشيعة يذهبون إلى وجوبه على الله تعالى، وباقي الفرق على الامّة!

و ليس المراد من وجوبه على الله سبحانه هو إصدار الحكم من العباد على الله سبحانه حتّى يقال(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (1)، بل


1- يوسف: 40.

ص: 93

المراد كما ذكرنا غير مرّة: أنّ العقل- حسب التعرّف على صفاته سبحانه، من كونه حكيماً غير عابث- يكشف عن كون مقتضى الحكمة هو لزوم النصب، فالعباد أقصر من أن يكونوا حاكمين على الله سبحانه.

ثم إنّ اختلاف المسلمين في كون النصب فرضاً على الله أو على الأمّة ينجم عن اختلافهم في حقيقة الخلافة والإمامة عن رسول الله(ص)، فمن ينظر إلى الإمام بوصفه رئيس دولة ليس له وظيفة إلّا تأمين الطرق والسبل وتوفير الأرزاق وإجراء الحدود والجهاد في سبيل الله إلى غير ذلك ممّا يقوم به رؤساء الدول بأشكالها المختلفة، فقد قال بوجوب نصبه على الأمّة، إذ لايشترط فيه من المواصفات إلّا الكفاءة والمقدرة على تدبير الامور، وهذا ما يمكن أن تقوم به الأمّة الإسلامية.

و أمّا على القول بأنّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة، فمن المتّفق عليه أنّ تعهّد هذا الأمر يتوّقف على توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلّا إذا حظي بعناية إلهيّة خاصّة، فيخلف النبي في علمه بالاصول والفروع وفي سدّ جميع الفراغات الحاصلة بموته، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر لاتتعرّف عليه الأمّة إلّا عن طريق الرسول، ولا يتوفّر وجوده إلّا بتربية غيبّية

ص: 94

وعناية سماوية خاصّة. وهكذا فمن جعلها سياسة زمنية وقتية يشغلها فرد من الأمّة بأحد الطرق قال في حقه: «بأنّ الإمام بعد الرسول أشبه برئيس الدولة أو أحد الحكام وتنتخبه الأمّة الإسلامية ... ولانرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولاننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة ما لم يؤمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة؛ والحجّ والجهاد ماضيان مع اولي الأمر من المسلمين برّهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، ولا يبطلهما شي ءٌ ولاينقضهما (1)»

و قد استدلّت الإمامية على وجوب نصب الإمام على الله سبحانه بأنّ: وجود الإمام الذي اختاره الله سبحانه مقرّب من الطاعات ومبعّد عن المعاصي. ثمّ إنّك قد تعرّفت على أنّ الرّسول الأكرم(ص)- وبوحي من الله سبحانه- قام بنصب إماماً للأمّة ليقود أمرهم ويسدّ جميع الفراغات الحاصلة بلحوقه بالرفيق الأعلى وبذلك حسم مادة النزاع وقطع الطريق على المشاغبين، ولكنّه- وللأسف- تناست الأمّة وصية الرسول(ص) وأمره.


1- العقيدة الطحاوية: 387 379 و ....

ص: 95

المسألة الثانية: «عصمة الإمام»

اشارة

تفرّدت الإمامية من بين الفرق الإسلامية بإيجابها عصمة الإمام من الذّنب والخطأ، مع اتّفاق غيرهم على عدمها.

حقيقة العصمة

العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لايترك واجباً ولا يفعل محرّماً، مع قدرته على الترك والفعل، و إلّا لم يستحق مدحاً ولاثواباً. وإن شئت قال: إنّ المعصوم قد بلغ من التقوى حدّاً لا تتغلّب عليه الشهوات والأهواء وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبداً.

و ليست العصمة فكرة ابتدعتها الشيعة، وإنّما دلّهم عليها في حقّ العترة الطاهرة كتاب الله وسنّة رسوله، قال سبحانه:(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا) (1)، وليس المراد من الرجس إلّا الرجس المعنوي، وأظهره هو الفسق.


1- الأحزاب: 33.

ص: 96

و قال رسول الله(ص):

«علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه كيفما دار»

و من دار معه الحقّ كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطأ؛ وقوله في حقّ العترة،

«إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً»

، فإذا كانت العترة عدل القرآن والقرآن هو كلام الله تعالى، فمن المنطقي أن تكون معصومة حتى لا يخالف أحدهما الآخر.

«الدليل على لزوم عصمة الإمام بعد النبي (ص)»

يمكن الاستدلال على لزوم العصمة في الإمام بوجوه متعدّدة نورد أهمّها:

الوجه الأوّل: إنّ الإمامة إذا كانت استمراراً لوظيفة النبوّة والرسالة وكان الإمام يملأ جميع الفراغات الحاصلة جرّاء رحلة النبي الأكرم(ص) فلامناص من لزوم عصمته؛ وذلك لأنّ الغاية هي هداية الأمّة إلى الطريق المهيع، ولايحصل ذلك إلّا بالوثوق بقوله والاطمئنان بصحّة كلامه، فإذا جاز على الإمام الخطأ والنسيان والمعصية والخلاف ضعفت ثقة الناس به، فتنتفي الغاية من نصبه.

الوجه الثاني: قوله سبحانه:(أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ

ص: 97

وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (1) والاستدلال مبني على دعامتين:

1- إنّ الله سبحانه أمر بطاعة اولي الأمر على وجه الإطلاق، ولم يقيد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشي ءٍ.

2- إنّ من البديهي كونه سبحانه لايرضى لعباده الكفر والعصيان. (2) من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر ونهي ناهٍ أو يقدمون عليه بعد صدور أمر ونهي من اولي الأمر.

فستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة، وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره؟! (3) الوجه الثالث: قوله سبحانه:(وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). (4) والاستدلال بالآية على عصمة الإمام يتوقّف على تحديد مفهوم الإمامة الواردة في الآية وأنّ المقصود منها غير النّبوة والرسالة؛ لانّ إبراهيم كان نبياً ورسولًا وقائماً


1- نساء: 59.
2- زمر: 7.
3- مفاتيح الغيب: 10/ 144.
4- بقره: 124.

ص: 98

بوظائفهما طيلة سنين حتى خوطب بهذه الآية، فالمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوّة وقدرة. وحكومة إلهية يبلغ المجتمع بها إلى السعادة.

ما هو المراد من الظالم؟

أنّ الإمامة منصب إلهي لايناله الظالمون؛ لأنّ الإمام هو المطاع بين الناس المتصرّف في الأموال والنفوس، فيجب أن يكون على الصراط السوي، والظالم المتجاوز عن الحدّ لايصلح لهذا المنصب؛ كما أنّ الظالم الناكث لعهدالله والناقض لقوانينه وحدوده على شفا جرف هارٍ لايؤتمن عليه ولاتلقى إليه مقاليد الخلافة؛ لانّه على مقربة من الخيانة والتعّدي وعلى استعداد لأن يقع أداة للجائرين. إنّ المتلبس بالظلم- ولو آناً ما- يسلب عن الإنسان صلاحية الإمامة وإن تاب من ذنبه؛ فإنّ الناس بالنسبة إلى الظلم على اقسام أربعة:

1- من كان طيلة عمره ظالماً.

2- من كان طاهراً ونقياً في جميع فترات عمره.

3- من كان ظالماً في بداية عمره وتائباً في آخره.

4- من كان طاهراً في بداية عمره وظالماً في آخره.

ص: 99

إنّ من غير المعقول والبديهي أن يسأل خليل الله تعالى الإمامة لأصحاب القسمين الأوّل والرابع من ذرّيته، لوضوح أنّ الغارق في الظلم من بداية عمره إلى آخره أو المتّصف به أيام تصدّيه للإمامة لايصلح أن يؤتمن عليها.

و لمّا كان الله تعالى قد نفى امتلاك الإمامة من قبل الظالم مطلقاً حتى لو كان الظالم فيما سبق وهو القسم الثالث، فلا مناص من الجزم بتعلّقها بالقسم الثاني وحده دون باقي الأقسام.

العصمة في القول والرأي

إنّ الأئمّة معصومون عن العصيان والمخالفة أوّلًا وعن الخطأ والزلّة في القول ثانياً، وما ذلك إلّا لأنّ كلّ إمام من الأوّل إلى الثاني عشر قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكلّ ما في هذين الأصلين، بحيث لا يشذّ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلًا وتأويلًا، ولاشي ء من سنّة رسول الله(ص) قولًا وفعلًا وتقريراً، وكفي بمن أحاط بعلوم الكتاب والسّنة فضلًا وعلماً وقد أخذ أهل البيت(عليهم السلام) علوم الكتاب والسّنة وفهموها عن رسول الله(ص) تماماً كما أخذها ووعاها رسول الله(ص) عن جبرئيل وكما وعاها جبرئيل عن الله، ولافرق أبداً في شي ءٍ إلّا بالواسطة، ومنهم انتقلت هذه العلوم إلى الآخرين.

ص: 100

المسألة الثالثة: «الإمام المنتظر [»

إنّ جميع المسلمين يتفقون أساساً على فكرة قيام المهدي وما سيعمّ الأرض في عهده من العدل والأمن والخير العميم وإن كان هناك اختلاف ما يذكر في مضمون هذا الأمرالعظيم؛ فإنّ الأكثرية من أهل السّنة يقولون بأنّه سيولد في آخرالزمان، وأمّا الشيعة ولاستنادهم على جملة واسعة من الروايات والأدلة الصحيحة يذهبون إلى أنّه ولد في «سرّ من رأى» عام 255 ه. وهو يحيى حياة طبيعية كسائرالناس غير أنّ الناس يرونه ولايعرفونه، وسوف يظهره الله سبحانه ليحق عدله. (1)

المسألة الرابعة: التقية

اشارة

«مفهومها، غايتها، دليلها، حدّها في ضوء الكتاب والسنّة»

التقية، اسم ل- «اتّقى؛ يتّقي» والتاء بدل من الواو، وأصله من «الوقاية»، ومن ذلك إطلاق التقوى على إطاعة الله، لأنّ المطيع يتّخذها وقاية من النّار والعذاب، والمراد هو التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل، مخالف للحقّ، وهو إظهار الكفر وإبطان الإيمان أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحقّ، فهي تقابل


1- نور: 55، الأنبياء: 105 وقصص: 5.

ص: 101

النفاق؛ فانّ النفاق عبارة عن إظهار الإيمان وإبطان الكفر والتظاهر بالحقّ وإخفاء الباطل.

«غايتها»

الغاية من التقية: هي صيانة النّفس والعِرض والمال؛ وذلك في ظروف قاهرة لايستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحقّ صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضارّ وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة، كلجوء الحكومات الظالمة إلى الإرهاب والتشريد والنفي والقتل والتنكيل ومصادرة الأموال وسلب الحقوق الحقّة، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقّاً محيص عن إبطانها إلى أن يحدث الله بعد ذلك أمراً، كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم. (1) فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها وكانت هذه غايتها وهدفها، فهو أمر فطري يسوق الإنسان إليه قبل كلّ شي ءٍ عقله ولبّه، وتدعوه إليه فطرته؛ ولأجل دعم هذا الأصل الحيوي ندرس دليله من القرآن والسّنة.


1- قصص: 20.

ص: 102

«دليلها في القرآن والسنّة»

... الآية الاولى:(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمانِ ولكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (1) ترى أنّه سبحانه بجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، قال الطبرسي(رحمة الله): قد نزلت الآية في جماعة اكرهوا على الكفر وهم عمّار وأبوه ياسر وأمّه سميّه.

الآية الثانية: قال سبحانه:(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ... إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (2)، وكلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أيّ توضيح. قال الزمخشري: رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة: مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئنّ بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع.

الآية الثالثة: قال تعالى:(وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ... فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ


1- نحل: 106.
2- آل عمران: 28.

ص: 103

سُوءُ الْعَذابِ) (1) وما كان ذلك إلّا لأنّه بتقيته إستطاع أن ينجي نبي الله من الموت.

«الظروف العصيبة الّتي مرّت بها الشيعة»

اشارة

الّذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم وأبناء دينهم إنّما هوالخوف من السلطات الغاشمة؛ فلو لم يكن هناك في غابرالقرون- من عصرالأمويين ثمّ العباسيين والعثمانييّن أيّ ضغط على الشيعة، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضية بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك، فهل من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها ولكن ياللأسف!

قال العلّامة الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرّية، إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها، لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أيّة أمّةٍ اخرى ... ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أيّ قوم؛ ... متبعة في ذلك سيرة الأئمّة من آل محمد(عليهم السلام) وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل: ما روي عن صادق آل البيت(عليهم السلام) في الأثر الصحيح: «التقية ديني ودين آبائي» و «من لاتقية له لا دين له».


1- غافر: 28.

ص: 104

حدّ التقية

إنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود خوف على النفس والنفيس، وأمّا الأمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقية.

و الحاصل: أنّ الشيعة إنّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار، وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرّر للتقية إلّا في موارد خاصّة؛ إذ أنّ الشيعة لم تلجأ إلى التقية إلّا بعد أن اضطرّت إلى ذلك.

«التقية المحرّمة»

إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم كهدم الدين وخفاء الحقيقة علي الأجيال الآتية وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومقدّساتهم؛ فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية مثلًا محرّمة، إذ فيها الذلّ والهوان ونسيان المثل والرجوع إلى الوراء، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف، وإنّما تحدّدها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.

ص: 105

و من هذا الباب ما إذا كان المتقّي ممّن له شأن وأهمية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك ممّا يعدّ موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه؛ فانّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين واصوله، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط فلا موضع للتقية لغاية الصيانة.

نحن ندعو المسلمين للتّأمل في الدواعي الّتي دفعت بالشيعة إلى التقية، وأن يعلموا قدر الإمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين، فإنّ لكلّ فقيه مسلم رأيه ونظره وجهده وطاقته. إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمّة أهل البيت في العقيدة والشريعة ويرون رأيهم؛ لأنّهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأحد الثقلين اللّذين أمر الرسول بالتمسّك بهما في مجال العقيدة والشريعة، وهما حجة على الجميع!

المسألة الخامسة: «البداء عند الشيعة الإمامية»

اشارة

لتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدّمات:

المقدمة الأولى: اتّفقت الشيعة على أنه سبحانه عالم بالحوادث

ص: 106

كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها، لايخفى عليه شي ء في الأرض ولا في السّماء، فلا يتصوّر فيه الظهور بعد الخفاء ولا العلم بعد الجهل، ويدلّ عليه الكتاب والسّنة، مضافاً إلى البراهين الفلسفية المقررّة في محلّها:

أمّا من الكتاب: قوله سبحانه:(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ ولا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). (1) و أمّا الأخبار: قال الإمام موسى الكاظم(ع): لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء.»

و أمّا العقل: فقد دلّ على امتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء؛ لاستلزامه كون ذاته محلّاً للتغيّر والتبدّل المستلزم للتركيب والحدوث إلى غير ذلك ممّا يستحيل عليه سبحانه.

المقدّمة الثانية: كما دلّت الآيات والأحاديث على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والإيجاد والتدبير والتربية، دلّت على أنّ مصير العباد يتغيّر بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم، من الصدقة والإحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين من الأمور الّتي تغيّر


1- الحديد: 22.

ص: 107

المصير وتبدّل القضاء، كما أنّ المحرّم الأعمال وسيئها من قبيل البخل والتقصير وسوءالخلق وقطيعة رحم تأثيراً في تغيير مصيرهم.

فليس للإنسان مصير واحد ومقدّر فارد، يصيبه على وجه القطع والبتّ، ويناله شاء أو لم يشأ. وهذا ممّا لا يمكن لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة.

البداء في مقام الثبوت

إنّ حقيقة البداء أنّه سبحانه- على خلاف ما اعتقده اليهود والنصارى في حقه (1)- يداه مبسوطتان(في كلّ شي ءٍ) يمحو ويثبت حسب مشيئته الحكيمة وإرادته النافذة، ومن شعب هذا الأمر هو أنّه سبحانه: يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما (2) وينزل الرحمة والبركة كما ينزل البلاء والنقمة، ولاتصدر عنه الأمور جزافاً واعتباطاً، بل حسب ما تقتضيها حال العباد من حسن الأفعال وقبحها وصالح الأعمال وطالحها؛ فرّبما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء، ثم يُمحى فيكتب في السعداء أو على العكس بسبب ما يقوم به من أعمال؛ وبناء على ذلك


1- مائده: 64.
2- فاطر: 1 و 11، النحل: 112، الأعراف: 96، الطلاق: 3.

ص: 108

فالبداء بهذا المعنى ممّا يشترك فيه كلّ المسلمين، على مذاهبهم المختلفة، من دون اختصاص بالشيعة.

هذا الأصل يستفاد بوضوح من قوله سبحانه:(يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (1) وأنّه ليس كلّ تقدير حتمياً لا يغيّر ولايبدّل وأنّ لله سبحانه لوحين: لوح المحو والإثبات ولوح «أمّ الكتاب»، والّذي لايتطرّق التغيير إليه هو الثاني دون الأوّل، وأنّ القول بسيادة القدر على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة ومحكمات الكتاب، فكما أنّه سبحانه يداه مبسوطتان، كذلك العبد مختار في أفعاله لامسيّر وحرّ في تصرّفاته لا مجبور، له أن يغيّر مسيره ومقدّره، فالله سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين فيحيي ويميت، كذلك يمحو مصير العبد ويغيره حسب ما يغيّر العبد بنفسه(فعله وعمله)؛ لقوله سبحانه:(إِنَّ اللَّهَ لايُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (2) و ليس في ذلك أيّ محذور ولا مخالفة لعقل ولا الكتاب والسنّة، بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه، هو أيضاً من قدره وقضائه وسننه الّتي لا تبديل لها ولا تغيير.


1- الرعد: 39.
2- همان: 11.

ص: 109

الأثر التربوي للإعتقاد في البداء:

الاعتقاد بالمحو والإثبات وأنّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله، يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه، فتشريع البداء مثل تشريع قبول التوبة والشفاعة وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر كلّها لأجل بعث الرجاء وإيقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة حتّى لاييأسوا من روح الله.

فجميع هذا من باب الرحمة الإلهية لأجل بثّ الأمل في قلب الإنسان؛ وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته وأخبارالهداية.

«البداء في مقام الإثبات»

لقد أشار سبحانه إلى لوح المحو والإثبات بقوله:(يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (1)، فالأحكام الثابتة فيه أحكام معلّقة على وجود شرطها أو عدم مانعها، فالتغيّر فيها لأجل إعواز شرطها أو لوجود مانعها، فمثلًا يمكن أن يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته في الوقت المعيّن المتّصل بالمقتضيات،


1- الرعد: 39.

ص: 110

إلّا أنّه ربمّا يُمحى ويؤجّل ويكتب بدله توفّر الصحّة لفقدان شرط التقدير الأوّل أو طروّ مانع من تأثير المقتضي.

إذا علمت ذلك فاعلم: أنّه ربّما يتّصل النبي أو الولي بلوح المحو والإثبات فيقف على المقتضي من دون أن يقف على شرطه ومانعه، فيخبر عن وقوع شي ما، ولكنّه ربّما لايتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّقه لوجود مانعه، وذلك هو البداء في عالم الإثبات.

«تلميحات للبداء في الذكر الحكيم:»

اشارة

1- قال سبحانه:(قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) (1) وقوله:(وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (2).

2- قوله سبحانه:(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (3) 3- قوله سبحانه:(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (4)


1- الصافات: 101.
2- يونس: 107.
3- يونس: 98.
4- اعراف: 142.

ص: 111

هذه جملة الأخبار الّتي تحدّث بها الذكر الحكيم عن أحداث ووقائع كان النبيون قد أخبروا بحتمية وقوعها على حدّ علمهم، إلّا أنّها لم تتحقّق، وعندها لامناص من تفسيرها بوقوف أنبياء الله تعالى على المقتضي دون العلّة التّامة؛ فعندما يظهر عدم التحقّق يطلق عليه البداء، والمراد به أنّه بدا من الله لنبيه وللنّاس ما خفي عليهم، على غرار قوله سبحانه:(وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (1)، فالبداء إذا نسب إلى الله سبحانه فهو بدا منه، وإذا نسب إلى الناس فهو بدا لهم؛ وبعبارة أخرى: البداء من الله هو إظهار ما خفي على الناس، والبداء من النّاس بمعنى ظهور ما خفي لهم، وهذا هو الحقّ الصراح الذي لايرتاب فيه أحد.

تتمه البحث
الأمر الأول

و بالجمله يجب أن يكون وقوع البداء مقروناً بما يدلّ على صحّة إخبار النبي(ص)، ولا يكون البداء على وجه يعدّ دليلًا على كذبه، ففي هذه الموارد دلّت القرائن على أنّ المخبر كان صادقاً في خبره.


1- زمر: 47.

ص: 112

الأمرالثاني:

إنّ البداء لا يتحقق فيما يتعلّق بنظام النبوّة والولاية والخاتمية والملاحم الغيبية التي تعدّ شعاراً للشريعة؛ لأنّ احتمال البداء فيه ناقض للحكمة وموجب لظلال العباد. وهذا ما يستحيل على الله سبحانه؛ وانّما مصبّ البداء هو القضايا الجزئية أو الشخصية، كما هو الحال في الأخبار الماضية.

المسألة السادسة: «الرجعة في الكتاب والسّنة»

إنّ فكرة الرجعة ممّا يشنّع بها على الشيعة غير أنّ هؤلاء نسوا أو تناسوا أنّ الرجعة بمعنى عود جماعة قليلة إلى الحياة الدنيوية قبل يوم القيامة ثمّ موتهم وحشرهم مجدّداً يوم القيامة ليس شيئاً يضادّ اصول الدين، وليس فيه إنكار لأيّ حكم ضروري، وليس القول برجعتهم إلى الدنيا يلغي بعثهم يوم القيامة، وكيف لايكون كذلك، وقد أخبر سبحانه عن رجوع جماعة إلى الحياة الدنيوية؟! نظير:

1- إحياء جماعة من بني إسرائيل. (1) 2- إحياء قتيل بني إسرائيل. (2)


1- بقره: 55- 56.
2- بقره: 72- 73.

ص: 113

3- موت ألوف من النّاس وبعثهم من جديد. (1) 4- بعث عزير بعد مئة عام من موته. (2) 5- إحياء الموتى على يد عيسى(ع). (3) إنّ الإعتقاد بالذكر الحكيم يجرّنا إلى القول بأنّه ليس كلّ رجوع إلى الدنيا تناسخاً، وإنّما التناسخ الباطل عبارة عن رجوع الإنسان إلى الدنيا عن طريق النطفة والمرور بمراحل التكوّن البشري من جديد ليصير إنساناً مرّةً اخرى.

اتّفقت الشيعة على بطلان التناسخ وامتناعه غير أنّ الرجوع إلى الدنيا من خلال دخول الروح إلى البدن الذي فارقه عند الموت لايعدّ تناسخاً، وإنّما هو إحياء للموتى الذي كان معجزة من معاجز المسيح(ع)، وهو أمر ممكن وأنّ بعض الآيات والروايات تدلّ على أنّه سيتحقّق، قال سبحانه:(وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ* ويَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ


1- همان: 243.
2- همان: 259.
3- آل عمران: 49.

ص: 114

يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (1) لايشكّ من أمعن النظر في سياق الآيات وماذكره المفسّرون حولها في أنّ الآية الاولى تتعلّق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة، وعليه تكون الآية الثانية مكمّلة لها وتدّل على حشر فوج من كلّ جماعة قبل يوم القيامة، والحال أنّ الحشر في يوم القيامة يتعلّق بالجميع لابالبعض.

يقول سبحانه:(وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وتَرَى الأَرْضَ بارِزَةً وحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (2) و هذه الآيات تعرب عن الرجعة التي تعتقد بها الشيعة في حقّ جماعة خاصّة، وأمّا خصوصياتها فلم يحدّث عنها القرآن الكريم، وجاء التفصيل في السّنة.

المسألة السابعة: زواج المتعة

هو عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غيرذلك من الموانع الشرعية بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق؛ فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير


1- نمل: 82- 83.
2- كهف: 47.

ص: 115

طلاق، ويجب عليها مع الدخول بها إذا لم تكن يائسة أن تعتدّ عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض، وإلّا فبخمسة وأربعين يوماً. ... وقد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام، ولم يشك أحدٌ في أصل مشروعيته (1).

وقد صحّ عن عمران بن الحصين إنّه قال «إنّ الله أنزل المتعة وما نسخها بآية اخرى وأمرنا رسول الله(ص) بالمتعة وما نهانا عنها، ثمّ قال رجل برأيه» يريد به عمر بن الخطّاب (2).

إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ، وإنّما أسند التحريف إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من الله عزّوجلّ أو من رسوله لأسند التحريم إليهما، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله(ص) وأنا أنهى عنهما واعاقب عليهما متعة الحجّ ومتعة النساء. ... وحيّ على خير العمل.» وهو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النصّ الواضح! ومن المعلوم أنّ إجتهاده- لو صحّت تسميته بالاجتهاد- حجّة على نفسه لا على غيره، على أنّ الأمر الذي ينبغي الإلتفات إليه وإدراكه بوضوح: أنّ الشيعة ورغم إدراكهم وإيمانهم بحلّية زواج المتعة


1- نساء: 23- 24.
2- صحيح البخاري: 6/ 27.

ص: 116

وعدم تحريمه- وهو ما يعلنون عنه صراحةً ودون تردّد- إلّا أنّهم عملياً لايلجأون إلى هذا الزواج إلّا في حدود ضيّقة وخاصّة، وليس كما يصوّره ويتصوّره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم وبشكل مستهجن ممجوج.

المسألة الثامنة: متعة الحجّ

قوله سبحانه:(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (1) صريح في جوازالتمتعّ بمحظورات الإحرام بعد الإتيان بأعمال العمرة وقبل التوجّه إلى الحجّ، ولم يدّع أحد كونها منسوخة بآية أو قول أو فعل، بل أكّد النبي الأكرم(ص) تشريعه بعمله في العام العاشر من الهجرة. هذا هو الذكر الحكيم المدعم بالسنّة وإجماع الأمّة، ومع ذلك نرى أنّ بعض الصحابة لايروقه متعة الحجّ لا في عصر الرسالة ولا بعده، بل يفتي بتحريمها! وهذا هو الخليفة الثاني ومن لفّ لفّه الذين كانوا يقدّمون الآراء المزعومة على النصوص الشرعية مهما تضافرت وتواترت!


1- بقره: 196.

ص: 117

المسألة التاسعة: مسح الأرجل في الوضوء

اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فذهب الأئمة الأربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده، وقالت الشيعة الإمامية: إنّه المسح، وقال داود بن علي والناصر للحقّ من الزيدية: يجب الجمع بينهما، وهو صريح الطبري في تفسيره، ونقل عن الحسن البصري: أنّه مخيّر بينهما!

و ممّا يثيرالعجب اختلاف المسلمين في هذه المسألة، مع أنّهم رأوا وضوء رسول الله(ص) كلّ يوم وليلة في موطنه ومهجره وفي حضره وسفره، ومع ذلك اختلفوا في أشدّ المسائل ابتلاءً، وهذا يعرب عن أنّ الاجتهاد لعب في هذا المسألة دوراً عظيماً، فجعل أوضح المسائل أبهمها.

إنّ القول بالمسح هو المنصوص عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وهم يسندون المسح إلى النبي الأكرم(ص) ويحكمون وضوءه به، قال أبوجعفر الباقر(ع): «ألا أحكي لكم وضوء رسول الله(ص)؟ ثمّ أخذ كفّاً من الماء فصبّها على وجهه إلى أن قال: ثمّ مسح رأسه وقدميه. ....» وفي ضوء هذه الروايات والمأثورات اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان.

ص: 118

المسألة العاشرة: السجود على الأرض

لعلّ من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلّل من قبل المخلوق لخالقه هو السجود، فليس هناك أوضح في إعلان التذلّل لله تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى، لما فيه من تذلّل أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري، فضلًا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضّة، وإن كان الكلّ سجوداً إلا أنّ العبودية تتجلّى في الأوّل بما لاتتجلّى في غيره (1).

و الإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم، ولا يعدلون عنها إلّا إلى ما أنبت منها من الحصر والبواري بشرط أن لايؤكل ولا يلبس، ولايرون السجود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسّنة المتواترة عن النبي الأكرم(ص) وأهل بيته وصحبه.

كثيراً ما يتصوّر أن الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة، ويتخيّل الحجر المسجود عليه وثناً، وهؤلاء هم الّذين لا يفرّقون بين المسجود له والمسجود عليه! وقاس أمر


1- الوسايل: 1، الباب 1، الحديث 1.

ص: 119

الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر!

نعم، الساجد على التربة غير عابد لها، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان، وسيؤدّي إلى إرباك كلّ المصلّين والحكم بإشراكهم، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لابدّ أن يكون عابداً لها علي هذه المنوال، فيا للعجب العجاب!!

إنّ النبي الأكرم(ص) وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود علي الأرض، وروى الفريقان عن النبي الأكرم(ص) أنّه قال: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»

و عن خالد الجهني، قال: رأى النبي(ص) صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب، فقال(ص) له: «ترّب وجهك يا صهيب (1)»، وعن ميمونة: «ورسول الله(ص) يصلّي على الخمرة فيسجد» (2) إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلّا تسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره خوفاً من أن لايجد أرضاً طاهرةً أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه، وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.


1- المتقى الهندي، كنزالعمال: 7/ 465/ ح 19810.
2- مسند أحمد 331: 1- 335 وأيضاً 302- 309 و 358 و 269 و 179 و 377، و 92- 98.

ص: 120

و أمّا السرّ في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية: أن يتذكر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية أولئك الّذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر، فيكون حينئذٍ في السجود سرّ الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب.

فليس في ذلك أية خزازة وتعسّف أو شي ء يضادّ نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة الله وسنّة رسوله(ص) أو خروج من حكم العقل والإعتبار.

المسألة الحادية عشرة: عدالة الصحابة كلّهم!

اشارة

صحابة النبي الأكرم(ص) هم المسلمون الأوائل الذين رأوا النبي الأكرم(ص) وتشرّفوا بكرامة الصحبة وتحمّلوا جانباً مهمّاً في عملية نشر الدعوة الإسلامية، وبذل جمع منهم النّفس والنفيس في نشرالإسلام، حتّى امتدّ إلى أقاصي المعمورة، فأقاموا اسسه وشادوا بنيانه ورفعوا قواعده. وكلّ من تلا آيات الذكر الحكيم حول المهاجرين والذين اتبعوهم بإحسان لايملك نفسه إلّا أن

ص: 121

يغبط منزلتهم وعلوّ شأنهم بل ويتمنّى من صميم قلبه أن يكون أحدهم ويدرك شأنهم، فإذا كان هذا حال الصحابة في الذكر الحكيم فكيف يتجرّأ مسلم على تكفير الصحابة ورميهم بالردّة والزندقة أو تفسيقهم جميعاً؟!

إنّا لو أحصينا المهتدين في عصر الرسول(ص) والّذين استشهدوا في عهد النبي الأكرم فهم يتجاوزون المئات، ولا يشك أيّ مسلم في أنّهم كانوا مثال المؤمنين الصادقين الأجلاء الّذين:(

صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا

) (1) فإذا كان الحال كذلك واتّفق الشيعي والسنّي على إطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناء عليهم، فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعدّ ذلك من أعظم الخلاف بينهما؟! إنّ موضع الخلاف ليس إلّا في نقطة واحدة وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كلّ من رأى النبي(ص) وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم ادرج في كفنه ولو صدر منه قتل أو نهب أوزني أو غير ذلك!، محتجّين بما نسب إلى رسول الله(ص): «أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم»، بل


1- أحزاب: 23.

ص: 122

يلبسونهم ثوب العصمة!، إلى حدّ كان القدح بالصحابي أشدّ من القدح برسول الله(ص)، فنفي العصمة عن النبي(ص) واتّهامه بالذنب قبل بعثه وبعده كان أمراً سهلًا يطرح بصورة عقيدة معقولة ولا يؤاخذ القائل بها، وأمّا من نسب صغيرة أو كبيرة إلى صحابي فأهون ما يواجهونه به هو الاستتابة وإلا فالقتل. فيجب تحليل المسألة على ضوء الكتاب والسنّة.

الصحابة في القرآن الكريم

أولًا: إنّ القرآن يصنّف الصحابة إلى أصناف مختلفة: فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين والمبايعين تحت الشجرة والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم وأصحاب الفتح إلى غير ذلك من الأصناف المثالية الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً اخر يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية:

1- المنافقون المعروفون. (1) 2- المنافقون المتستّرون الذين لايعرفهم النبي(ص). (2) 3- ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب. (3)


1- منافقون: 1.
2- التوبه: 101.
3- الأحزاب: 11.

ص: 123

4- السمّاعون لأهل الفتنة. (1) 5- المسلمون الذين خلطوا عملًا صالحاً وآخر سيئاً. (2) 6- المشرفون على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر. (3) 7- الفسّاق الّذين لا يصدّق قولهم ولا فعلهم. (4) 8- المسلمون الّذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم. (5) 9- المولّون أمام الكفار. (6) فإنّ هذه الآيات الكريمة تعرب عن أنّ صحابة النبي الأكرم(ص) لم يكونوا على نمط واحد، وعندئذٍ يتحقّق أنّ الصحبة لا تعطي لصاحبها منقبة إلّا إذا كان أهلًا لها وهذا ما ذهبت إليه الشيعة، وهو نفس النتيجة الّتي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقرآن الكريم.

ثانياً: إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار وغيرهم بالمدح والثناء لاتدلّ على أكثر من أنّهم كانوا حين نزول القرآن


1- التوبه: 45- 47.
2- التوبه: 102.
3- آل عمران: 154.
4- الحجرات: 6 وسجده: 18.
5- الحجرات: 14.
6- الأنفال: 15- 16.

ص: 124

مُثلًا للفضل والفضيلة ولكن الأمور إنّما تعتبر بخواتيمها، فكم من مؤمن زلّت قدمه في الحياة فعاد منافقاً أو مرتدّاً وكم من ضالّ شملته العناية الإلهية فبصر الطريق وصار رجلًا إلهّياً!

ثالثاً: ومن سوء الحظّ أنّ شرذمة قليلة من الصحابة زلّت أقدامهم وانحرفوا عن الطريق، فلا تمسّ دراسة أحوال هؤلاء القليلين وتبيين مواقفهم وانحرافهم عن الطريق المستقيم بكرامة الباقين!

فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته ولزمنا له من التعظيم والتوقير بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله ما هو أهله؛ ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تقبل روايته أمثال مروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وبسر بن أرطاة وبعض بني أمية وأعوانهم؛ ومن جهلنا حاله في العدالة توقّفنا في قبول روايته.

المسألة الثانية عشرة: في عالمية رسالة النبي 9 و خاتميتها

اشارة

تمتاز الشريعة الإسلامية بنقطتين رئيسيتين: الاولى عالميتها وشموليتها،

الثانية: كونها خاتمة الشرائع.

ص: 125

يقول سبحانه:(وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (1) و قال سبحانه:(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (2) لقد بعث الرّسول الأعظم(ص) سفراءه إلى أنحاء المعمورة لنشر دعوته فيها وبيد كلّ واحد منهم كتاب يعبّر عن عالمية دعوته.

كما أنّ اجتياح جيوش المسلمين ورجالهم أرض غيرالعرب واستقرار الأمّة الإسلامية في أكثر مناطق المعمورة بل معظمها يومذاك، أيضاً يدلّ على عالميتها.

والملمح الثاني هو خاتميتها، والمراد: أنّها آخر الشرائع وأنّ المبعوث بها هو خاتم الأنبياء.

الخاتمية في الذكر الحكيم

قال سبحانه:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (3) و يعاضدها قوله تعالى:(وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (4). ولأجل ذلك كتب الرّسول(ص) إلى قيصر عند ما دعاه إلى الإسلام، قوله سبحانه:(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا


1- سبأ: 28 أيضاً الفرقان: 1.
2- آل عمران: 19.
3- الأعراف: 158.
4- آل عمران: 85.

ص: 126

إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). (1) و قوله سبحانه:(يَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرا) (2) قوله سبحانه:(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ولكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (3) ولقد قرئ لفظ الخاتم بوجهين:

الأول: بفتح التاء، وعليه قراءة عاصم، ويكون بمعنى الطابع الذي تختم به الرسائل والمواثيق، فكان النبي الأكرم(ص) بالنسبة إلى باب النبوّة كالطابع، ختم به باب النبوة واوصد واغلق فلايفتح أبداً.

الثاني: بكسر التاء، وعليه يكون اسم فاعل، أي الذي يختم باب النبوة.

و على كلتا القرائتين فالآية صريحة في أنّ باب النبوة أو بعث الأنبياء ختم بمجي ء النبي الأكرم(ص).

و تمّت كلمة ربك بظهور الدعوة المحمّدية ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب وصارت مستقرّة في محلّها بعد ما كانت تسير


1- آل عمران: 64.
2- الفرقان: 1، أيضاً الانعام: 19 وسبأ: 28.
3- الأحزاب: 40.

ص: 127

دهراً طويلًا في مدارج التدرّج بنبوّة بعد نبوّة، وشريعة بعد شريعة.

الخاتمية في الأحاديث النبوية

ورد على لسان النبي الأكرم(ص):

«أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لانبي بعدي- أو ليس بعدي نبي- ولا ينبغي أن أذهبُ إلّا وأنت خليفتي»

والحديث على لسان المحدّثين حديث المنزلة.

وقال رسول الله(ص): مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمّها وأكملها إلّا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجّبون منها ويقولون: لولاموضع هذه اللّبنة؛ قال رسول الله(ص):

«فأنا موضع اللّبنة جئت فختمت الأنبياء»

. وقال رسول الله(ص):

«إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت، ولا رسول بعدي ولا نبي.»

وقال رسول الله(ص):

«ارسلت إلى الناس كافّة، وبي ختم النبيون.»

وقال رسول الله(ص):

«فضّلت بسّتٍ: أعطيتُ جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً، وارسلتُ إلى الخلق كافّة، وختم بي النبيون»

ص: 128

الخاتمية في أحاديث العترة الطاهرة

قال الإمام علي(ع) وهو يلي غسل رسول الله(ص) وتجهيزه:

«بأبي أنت وأمّي لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبارالسّماء».

و قال الإمام الصادق(ع): ...

«حلال محمد 9 حلال أبداً إلى يوم القيامة لايكون غيره ولا يجي ءُ غيره».

أسئِلَة حول الخاتمية

السؤال الأوّل:

إنّ القرآن الكريم ينصّ على أنّ المؤمنين بالله وباليوم الآخر من جميع الشرائع سينالون ثواب الله وأنّه لاخوف عليهم ولا هم يحزنون (1)؛ ومعنى ذلك: أنّ أتباعها ناجون شأنهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماماً، فكيف تكون رسالته خاتمة الشرائع؟!

الجواب:

إنّ غاية ما يتوخّاه القرآن- في هذه الآيات- إنّما هو فقط نسف وإبطال عقيدة اليهود والنصارى، وليعلن مكانه بأنّ النجاة


1- البقره: 62 و 112 والمائدة: 69 والحج: 17.

ص: 129

إنّما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح، فليست الأسماء ولا الأنساب هي الّتي تنجي أحداً في العالم الآخر، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح، وهذا الباب مفتوح في وجه كلّ إنسان يهودياً كان أو نصرانياً أو غيرهم.

حتّى أنّ أهل الكتاب لو امنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفّرنا عنهم سيئاتهم. إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاث على إقرار الإسلام لشرعية الشرائع بعد ظهوره.

السؤال الثاني: لماذا ختمت النبوّة التبليغية؟!

إنّ الأنبياء كانوا على قسمين: منهم من كان صاحب شريعة، ومنهم من كان مبلّغاً لشريعة من قبله من الأنبياء، كأكثر أنبياء بني إسرائيل الّذين كانوا يبلّغون شريعة موسى بين أقوامهم. فهب أنّه ختم باب النبوة التشريعية لكون الشريعة الإسلامية متكاملة، فلماذا ختم باب النبوّة التبليغية؟!

و الجواب عنه: غنى الأمّة الإسلامية عن هذا النوع من النبوّة؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ النبي الأكرم(ص) ترك بين الأمّة الكتاب والعترة وعرّفهما إليها بيّن أنّه لن تضّل الأمّة مادامت متمسّكة بهما.

ص: 130

الوجه الثاني: أنّ علماء الأمّة المأمورين بالتبليغ بعد التفقّه أغنوا الأمّة عن أيّة نبوّة تبليغية، قال سبحانه:(

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

) (1) وقال سبحانه:(

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر

) (2) السؤال الثالث: لماذا حرم الخلف من المكاشفة الغيبية والاتصال بعالم الغيب واستطلاع ما هناك من المعارف والحقائق؟!

الجواب: إنّ الفتوحات الغيبية من المكاشفات والمشاهداة الروحية لم توصد بابها، وإنّما أوصد منها باب خاص وهو باب النبوّة، فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والإلقاءات في الروع غير مسدود بنصّ الكتاب العزيز، قال سبحانه:(

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً

) (3) أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرّقون به بين الحقّ والباطل، قال سبحانه:(

وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ

) (4)


1- التوبة: 122
2- آل عمران: 104
3- الأنفال: 29
4- الحديد: 28

ص: 131

و هناك روايات تدلّ بوضوح على انفتاح هذاالباب في وجه الإنسان: كما قال رسول الله(ص): «إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت ولارسول بعدي ولا نبي» فشقّ ذلك على الناس! فقال: «ولكن المبشّرات». فقالوا: يا رسول الله(ص) وما المبشّرات؟ فقال(ص): «رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوّة» (1).

السؤال الرابع: كلّما تكاملت جوانب الحضارة وتشابكت وتعدّدت ألوانها واجه المجتمع أوضاعاً وأحداثاً جديدة وطرحت عليه مشاكل طارئة لاعهد للأزمنة السابقة بها، وما جاء به الرسول لايجاوز قوانين محدودة، فكيف تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية؟!

الجواب: إنّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الإنسانية واستغناءه عن كلّ تشريع سواه، يتوقّف على وجود أمرين فيه:

الأوّل: أن يكون التشريع ذا مادّة حيوّية خلّاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الأمّة والأخصّائيون منهم على استنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الأعصار.

الثاني: أن ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة وانطلاق مع مرونة خاصة تماشى جميع الأزمنة والأجيال وتسايرالحضارات


1- الترمذي، السنن: 3/ 364.

ص: 132

الإنسانية المتعاقبة، وقد أحرز التشريع الإسلامي كلا الأمرين؛ أمّا الأوّل فقد أحرزه بتنفيذ أمور:

الف: الاعتراف بحجّية العقل في مجالات خاصّة من الأحكام الّتي تعدّ من ثمرات القول بالتحسين والتقبيح العقليين.

ب: إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد عند العدلية، فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله ولا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه، ويشهد بذلك كتاب الله في موارد:

يقول سبحانه:

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

) (1) و يقول سبحانه:(

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ

) (2) و قد تضافرت النصوص عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) على أنّ الأحكام الشرعية تخضع لملاكات، قال الإمام الطاهر على بن موسى الرضا(ع): إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلًا ولاشرباً إلّا


1- المائدة: 191.
2- عنكبوت: 45.

ص: 133

لما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد»،

و قال(ع) في الدم:

«أنّه يسي ء الخُلق ويورث القسوة للقلب وقلّة الرأفة والرحمة، ولايؤمن أن يقتل ولده ووالده!»

. ج: إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب مشتمل على أصول وقواعد عامة تفي باستنباط آلاف الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون والأجيال، روى الكليني عن أبي عبدالله(ع) أنّه قال:

«ما من شي ءٍ

إلّا

وفيه كتاب أو سنّة.»

نعم! تتجلّى حيوية مادة التشريع إذا أخذنا بسنّة رسول الله المروّية عن طريق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الذين أغنوا الأمّة الإسلامية عن اعتماد الأدلّة الظنّية كالقياس والاستحسان.

د: تشريع الاجتهاد وعدم غلق بابه عند الشيعة بعد رحيل صاحب الرسالة إلى يومنا هذا، وبذلك أنقذوا الشريعة من الانطماس، وأغنوا الأمّة الإسلامية عن التطلّع إلى موائد الغربيين.

ه.: حقوق الحاكم الإسلامي أو ولاية الفقيه الّتي من شأنها أن توجّه المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية؛ لأنّه

ص: 134

يتمتّع بمثل ما يتمتّع به النبي(ص) والامام(ع) من النفوذ المطلق إلّا ما كان من خصائص النبي(ص) والأئمّة(عليهم السلام).

المرونة التشريع الإسلامي:

و قد تمثّلت بأمور:

الأمر الأول: كونه جامعاً بين الدعوة إلى المادّة والروح على وجه يطابق الفطرة الإنسانية، وجعل الفطرة مقياساً للحلال والحرام، وشرّع للإنسان ما يسعده في الدنيا والآخرة على ما هو مفصّل في محلّه.

الأمر الثاني: النظر إلى المعاني لا إلى الظواهر: فإنّ الإسلام دعا إلى تأمين حاجات الإنسان من الملبس والمسكن وإشاعة العلم والتربية، وهذا هو اللبّ، وأمّا الأشكال والأنماط لهذا التشريع فمتروك إلى مقتضيات العصور.

الأمر الثالث: الأحكام التي لها دورالتحديد، وقد اصطلح عليها الفقهاء بالأدلّة الحاكمة لأجل حكومتها وتقدّمها على كلّ حكم، مثلًا قوله سبحانه:(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (1) حاكم على كلّ تشريع استلزم العمل به حرجاً لايتحمّله


1- حج: 78.

ص: 135

للمكلّف عادة فهو مرفوع في الظروف الحرجة؛ ومثله قوله(ص): «لا ضرر ولا ضرار»، فكلّ حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً فهو مرفوع في تلك الشرائط نعم، تشخيص الحاكم من المحكوم وما يرجع إلى العمل بالحاكم من الشرائط يحتاج إلى الدّقة والإمعان والتفّقه والاجتهاد.

السؤال الخامس: إنّ مقتضي كون الإسلام ديناً خاتماً ثبات قوانينه وتشريعاته، ومن المعلوم أن المجتمع الإنساني لم يزل في تطوّر وتغير فكيف يمكن للقانون الثابت معالجة متطلّبات المجتمع المتغيّر؟

و الإجابة عنه تتوقّف على بيان ما هو الثابت من حياة الإنسان عن متغيّرها:

إنّ الجانب الثابت من حياة الإنسان:

1- الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة التّي لا تتغيّر ولا تتبدّل مادام الإنسان إنساناً، فإذا كان التشريع معدّلًا، إياها عن الإفراط والتفريط ومرتكزاً على العدل والاعتدال فذلك التشريع خالداً في ظلّ خلود الغرائز.

2- إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر لاينكر، فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً رغم كلّ الدعايات السخيفة المنكرة لذلك الاختلاف، ولكلّ من الرجل والمرأة

ص: 136

متطلّب وفق تركيبه، فإذا كان التشريع متجاوباً مع التركيب والفطرة يكون خالداً حسب خلود الفطرة والتركيب.

3- الروابط العائلية كعلاقة الأب بولده وبالعكس علاقات طبيعية مبنية على الفطرة، فالأحكام الموضوعية وفق هذه الروابط من التّوارث ولزوم التكريم ثابتة لاتتغيّر بتغيير الزمان.

4- إنّ في حياة الإنسان قضايا أخلاقية ثابتة عبرالزمان لايتسرّب إليها التغيير ككون الظلم قبيحاً والعدل حسناً.

إنّ هناك موضوعات في الحياة الإنسانية لن تزل ذات مصالح ومفاسد أبدية، فمادام الإنسان إنساناً فالخمر يزيل العقل والميسر ينبت العداوة في المجتمع.

الجانب المتغيّر في الحياة الإنسانية:

إنّ للإنسان جانباً آخر في حياته لايزال يتغيّر من حال إلى حالٍ، فمثل هذا يتطلّب تشريعات متغيّرة حسب تغيّره وتبدّله، ومن حسن الحظّ أنّه ليس في الإسلام الخاتم تشريع ثابت لهذا الجانب، وسوّغ للمجتمع البشري إدارة شؤون حياته في مجال العمران والبناء وتطور الحياة المختلفة في مجال الثقافة والدفاع والإقتصاد في ظلّ إطارعام يتجاوب مع التغيّر والتطوّر ضمن شروط معلومة في الفقه الإسلامي، وحدوده عبارة أن لايزاحم

ص: 137

سعادة الإنسان وأن لايكون فيه ضرر على روحه وجسمه والقيم الّتي بها يمتاز عن الحيوان.

الشيعة والخاتمية:

إنّ هناك شبهات ضئيلة في المقام تطرح من جانب اناس لاعرفان لهم بمذهب الشيعة. فمن ذلك اتهام الشيعة بأنّ عندهم كتباً غير القرآن، ككتاب علي، وسنبيّن ذلك مفصّلًا

1- كتاب علي (ع) وإملاء رسول الله (ص)

إنّ الإمام علي بن ابي طالب(ع) كان وليد البيت النبوي(ص)، وكان مع الرسول الأعظم منذ نعومة أظفاره إلى رحيل رسول الله(ص) عن الدنيا، وبذلك صار باب علم النبي(ص)، ولمثل هذا النوع من التلاحم يصف علي(ع) حاله مع النبي(ص) ويقول: «إني إذا كنت سألته أنبأني، وإذا سكتّ ابتدأني».

كان رسول الله(ص) يأمر علّياً(ع) أن يكتب كلّ ما يملي عليه؛ فقال(ع) مرّة لرسول الله(ص): «يا نبي الله أتخاف علي النسيان؟!» قال(ص) لست أخاف عليك النسيان، وقد دعوت الله أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن أكتب لشركائك!»

قال(ع): قلت: ومن شركائي يا نبي الله(ص)؟! قال(ص): الأئمّة

ص: 138

من ولدك.»، وكان من جملة ما أملاه عليه رسول الله(ص) وكتبه علي(ع) بخطّه كتاب طوله سبعون ذراعاً في عرض الأديم، وهذا هو المعروف بكتاب علي(ع) وصحيفته، وكانت الأئمة بعد الإمام يصدرون عنه ويروون عنه ويستشهدون في مواقع خاصّة به، وبذلك صار الإمام هو المدوّن الرسمي للحديث النبوي(ص) وإن كان بعض الصحابة شاركه في ضبط الحديث النبوي، لكن صحائفهم وكتبهم احرقت!- ويا للأسف في عصر الخلفاء، لكن بقي كتاب الإمام غضّاً طرياً مصوناً من الشرّ يرثه إمام بعد أمام. إذن تبين أنّ كتاب علي(ع) لم يكن إلّا جامعاً حديثياً وكان تدويناً مبكراً للسّنّة النبوّية المطهّرة، فتسمية أئمة أهل البيت(عليهم السلام) له تارة بكتاب علي(ع) واخرى بالجامعة وثالثة بصحيفة علي والكتاب يعرب عن عناية الإمام بضبط أحاديث الرّسول(ص)، كما يعرب عن عناية سيدالثقلين(ص) بكتابة حديثه ليبقى على مر العصور والقرون، لا يعتريه الوضع والخدش.

مصحف فاطمه 3: لاشك أنّه كان عند فاطمة مصحف، حسبما تضافرت عليه الروايات، ولكن المصحف ليس اسماً مختصاً بالقرآن، حتى تختص بنت المصطفى(ص) بقرآن خاص، وإنّما كان كتاباً فيه الملاحم والأخبار، فقد روى أبوعبيدة عن

ص: 139

أبي عبدالله(ع) قال: «إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله خمس وسبعين يوماً، وكان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل(ع) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها في ذرّيتها، وكان علي(ع) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة 3.» ولعلّ القارئ يسأل نفسه عن فاطمة 3 هل كانت محدّثة تحدّثها الملائكة كما ورد في الرواية السابقة؟

إنّ فاطمة 3 لا تقلّ شأناً عن مريم البتول ولا عن امرأة الخليل (1)، قال سبحانه:(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (2) إلى غير ذلك من الآيات الواردة في سورتي آل عمران ومريم.

فإذا كانت مريم وامرأة الخليل محدّثتين ففاطمة سيدة نساءالعالمين 3 أولى بأن تكون محدّثة.

ما هو مصدر روايات أهل البيت؟

إنّ لعلوم أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) مصادر مختلفة:

1- النقل عن آبائهم(عليهم السلام) عن رسول الله(ص)، من دون أن


1- هود: 73 69 وقصص: 7.
2- آل عمران: 42.

ص: 140

يتوّسط بين الأسانيد شخص بين آبائهم وأجدادهم.

2- النقّل عن كتاب علي(ع).

3- الإلهام أو تحديث الملائكة، فما كان يخبرون به من الملاحم أو يجيبون عن الأسئلة، فالكلّ ممّا كان يلقي في روعهم. وهذا النوع من المصدر وإن كان ثقيلًا على من لم يعرف مقاماتهم، إلّا أنّه صحيح لمن درس حياتهم. إنّ المحدَّث- بصيغة المفعول- من تكلّمه الملائكة بلانبوّة ولا رؤية صورة، أو يلهم ويلقى في روعه شي ء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره، فالمحدَّث بهذا المعنى ممّن اتفق عليه الفريقان: الشيعة والسنّة ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في مصداقه! وقبل ذلك نجد المحدَّث في الامم السالفة، فهذا صاحب موسى(ع) (1) ومريم البتول (2) وأمّ موسى(ع) (3).

و بذلك يعلم أنّ الإخبار عن الغيب بإذن من الله سبحانه، «لايلازم كون المخبر نبياً، وأنّ تكلّم الملائكة مع إنسان لايصلح دليلًا على كونه مبعوثاً من الله سبحانه للنبوّة؛ ولو اعتمدت


1- الكهف: 82 60.
2- آل عمران: 42.
3- القصص: 7.

ص: 141

الشيعة على علم الأئمّة فلكونهم وارثين لعلم النبي(ص) ووارثين لما عند علي(ع) من الكتب الّتي كتبها بإملاء من رسول الله(ص) أو محدَّثين تلقى في روعهم الإجابات على الأسئلة، فلا يدلّ على أنّهم أنبياء، ومن نسبهم إلى تلك الفرية الشائنة بحجة إخبارهم عن الملاحم فقد ضلّ عن سواء السبيل، ولم يفرّق بين النبوّة والرسالة والتحدّث.

ص: 142

ص: 143

الفصل الخامس: «رؤية الله» في ضوء الكتاب

والسّنة والعقل

إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلامية بحيث يكفّر منكرها أحياناً أو يفسّق حتّى أنّ الإمام الأشعري قال في الإبانة: وندين بأنّ الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول الله(ص)!

ثمّ إنّهم اختلفوا في الدليل على الرؤية؛ ففرقة منهم اعتمدوا على الأدلّة العقلية دون السمعية، كسيف الدين الآمدي أحد

ص: 144

مشايخ الأشاعرة في القرن السابع(551- 631 ه.)، وفرقة اخرى كالرازي وغيره قالوا: العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو السمع، وعليه الشيخ الشهرستاني في نهاية الأقدام.

«الرؤية بالأبصار لا بالقلب ولا بالرؤيا»

محل النزاع بين الأشاعرة ومن قبلهم الحنابلة وأصحاب الحديث وبين غيرهم من أهل التنزيه: هو رؤية الله سبحانه بالأبصار، وأمّا الرؤية بغيرها فخارجة عن مجاله، فإذا كانت الحنابلة والأشاعرة مصرّين على جواز الرؤية، فأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ومن تبعهم من الإمامية والمعتزلة والزيديه قائلون بامتناعها في الدنيا والآخرة.

و قد نجم في ظلّ العراك الفكري بين العلويين والأمويين منهاجان في مجال المعارف، كلّ يحمل شعاراً، فشيعة الإمام علي(ع) وأهل بيته(عليهم السلام) يحملون شعار التنزيه والاختيار، والأمويون وشيعتهم يحملون شعار التشبيه والجبر. وقد اشتهر منذ قرون القول بأنّ: التنزيه والاختيار علوّيان والتشبيه والجبر أمويان قال الرازي في تفسير قوله:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) (1)


1- الشورى: 11.

ص: 145

«احتجّ علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية على نفي كونه جسماً مركبّاً من الأعضاء والأجزاء حاصلًا في المكان والجهة (1)» واعلم أنّ محمّد بن إسحاق بن خزيمة ولد عام 311 ه. وقد ألّف «التوحيد وإثبات صفات الرّب»، وكتابه هذا مصدر المشبّهة والمجسّمة في العصور الأخيرة وقد اهتمّت به الحنابلة وخصوصاً الوهابية، فقاموا بنشره على نطاق واسع، وهم يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً!

«الرؤية في كلمات الإمام علي 7»

قد سأله الإمامَ ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربّك يا أميرالمؤمنين(ع)؟! فقال(ع) «أفأعبد مالا أرى»؟! فقال فكيف تراه؟! فقال(ع):

«لاتدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان؛ قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مباين»

. (2) و قال(ع):

«الحمد لله الذي لاتدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولاتراه النواظر، ولا تحجبه السواتر» (3)


1- مفاتيح الغيب: 27/ 150. ...
2- نهج البلاغه، الخطبة: 174.
3- نهج البلاغه، الخطبة: 180.

ص: 146

للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا(ع): إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها وما أجمع المسلمون عليه أنّه لايحيط به علماً ولاتدركه الأبصار وليس كمثله شي ء.

«الرؤية في منطق العلم والعقل»

إنّ الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقّق إلّا إذا كان الشي ء مقابلًا أو حالًّا في المقابل، كما في رؤية الصور في المرآة؛ وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة، فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه، فلا يمكن تحقّقها فيما إذا تنزّه الشي ء عن المقابلة أو الحلول في المقابل. وبعبارة واضحة: أنّ العقل والنقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولاجسماني ولا في جهة، والرؤية فرع كون الشي ء في جهة خاصّة، وما شأنه هذا يتعلّق بالمحسوس لا بالمجرّد

و لقائل أن يسأل: أنّه لو وقعت الرؤية على ذاته سبحانه فهل تقع على كلّه أو بعضه؟! فلو وقعت على الكلّ تكون ذاته محاطة لا محيطة، وهذا باطل بالضرورة ولو وقعت على الجزء تكون ذاته ذات جزء مركّب.

ص: 147

«محاولة يائسة في تجويز الرؤية»

1- الرؤية بلاكيف: هذا العنوان هو الّذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة، وربّما يعبّر عنه خصومهم بالبلكفه، ومعناه أن الله تعالى يرى بلا كيف وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه بلا كيف، أي منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.

و بعبارة اخرى: أنّ الحنابلة والأشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية كاليد والرجل والقدم والوجه في الكتاب والسّنة يجب أن تفسّر بنفس معانيها اللغوية، ولايجوز لنا حملها على معانيها المجازية كالقدرة في اليد مثلًا؛ ولمّا رأوا أنّ ذلك بلازم التجسيم التجأوا إلى قولهم «يد بلاكيف، ولكنّهم خفي عنهم أنّ الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقوّمة لمفاهيمها، فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللّغوي، فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه «بلاكيف»؟! ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين، فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها، فإثباتها بلاكيف يلازم نفي أصل الرؤية، وقد عرفت أنّ الكلام في النظر بالبصر والرؤية بالعين، لا الرؤية بالقلب أو في النوم.

2- اختلاف الأحكام باختلاف الظروف: إنّ بعض المثّقفين الجدد لمّا أدركوا بعقولهم أنّ الرؤية لاتنفكّ عن الجهة التجأوا

ص: 148

إلى القول بأنّ كلّ شي ءٍ في الآخرة غيره في الدنيا، ولعلّ الرؤية تتحقّق في الآخرة بلاهذا اللازم السلبي!

3- عدم الإكتراث بإثبات الجهة!

الدكتور أحمد بن محمّد خرّيج جامعة أمّ القرى [مكة] .... تخلّص عن الالتزام بإثبات الجهة لله بقوله: إنّ إثبات صفة العلوّ لله تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسّنة في مواضع كثيرة جداً! فلاحرج في إثبات رؤية الله تعالى من هذا العلوّ الثابت له تبارك وتعالى، ولايقدح هذا في التنزيه. ويرد عليها ما يرد على الأولى مضافاً لها إلى ما سيوافك من الآيات القرآنية.

موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية:

إنّ الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى تنزيهه عن الجسم والجسمانية وأنّه ليس له مثل ولانظير ولا ندّ ولا كف ء، وأنّه محيط بكلّ شي ءٍ ولايحيطه شي ءٌ إلى غير ذلك من الصفات المنزّهه، نشير إلى بعض منها:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) (1)(وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (2)(هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما


1- الشورى: 11.
2- التوحيد: 4.

ص: 149

كُنْتُمْ) (1)(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ) (2)(لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (3) فهو مع الأشياء معية قيومية لامعية مكانية؛ وذلك مقتضى كونه قيوماً وما سواه قائماً به، ولايمكن للقيوم الغيبوبة عمّا قام به، فالجميع محاط وهو محيط، ومن كان بهذه المنزلة لاتدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولايقع في أفقها، ولكنّه لكونه محيط، يدرك الأبصار!

فمن تلا هذه الآيات وتدبّر فيها يحكم بأنّه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه، مع أنّه كان ولاعلوّ ولاجهة، بل هو خالقهما، وهو محيط بكلّ شي ء.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فانّما يطرحها ليؤكد عجزالإنسان عن نيلها، ويعتبر سؤالها وتمنّيها من الإنسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلّعاً إلى ما هو دونه، قال سبحانه:(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (4) وقال سبحانه:


1- الحديد: 4.
2- فصلت: 5.
3- الأنعام: 103.
4- البقره: 55.

ص: 150

(أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (1) وقال سبحانه:(قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) (2) فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد بل وإماتة وإنزال عذاب يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابلية الإنسان، وطلبه لها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال. هذا بغضّ النظر عن الدنيا والآخرة، ولاصلة لها بظرف السؤال.

دراسة أدّلة النافين

الآية الأولى:(لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ) (3). الاستدلال بالآية يتوقّف على البحث في مرحلتين:

المرحلة الاولى: في بيان مفهوم الدرك لغةً.

الدرك في اللغة «اللحوق والوصول». وأدركته ببصري أي رأيته. فالإدراك بالبصر: إلتحاق من الرائي بالمرئي بالبصر.

المرحلة الثانية: في بيان مفهوم الآية: أنّه إذا تعالى عن تعلّق الأبصار فقد خرج عن حيطة الأشياء، و «اللطيف» هو الرقيق النافذ في الشي ء و «الخبير» من له الخبرة الكاملة، فإذا كان


1- النساء: 153؛ أيضا الفرقان: 21.
2- الأعراف: 143.
3- الأنعام: 103.

ص: 151

تعالى محيطاً بكلّ شي ءٍ لرقّته ونفوذه في الأشياء، كان شاهداً على كلّ شي ءٍ ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غيرأن يشغله شي ء عن شي ء أو يحتجب عنه شي ء بشي ءٍ، وإنّ لفظ الأبصار صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهو يفيد الاستغراق أي لايدركه أحد من ذوي الأبصار.

الآية الثاني:(وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (1) بيانها: أنّ الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على جزئها، فهي نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه، وقد قال:(وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (2) الآية الثالثة:(قالَ لَنْ تَرانِي). (3) المفهوم الصحيح للآية: هو تعاليه سبحانه عن الرؤية، وأنّ سؤاله الرؤية أمر عظيم فظيع لايمحى أثره إلّا بالتوبة؛ وذلك لوجوه:

1- الإجابة بالنفي المؤبّد الدّال على عدم تحققها أبداً لا في


1- طه: 110.
2- طه: 110.
3- الأعراف: 143.

ص: 152

هذه الدّنيا ولا في الآخرة.

2- تعليق الرؤية على أمر غير واقع: علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي كان عليها عند التجلّي وعدم تحوّله إلى ذرّات ترابية صغار بعده، والمفروض أنّه لم يبق على حالته السابقة وبطلت هوّيته وصارت تراباً مدكوكاً، فإذا انتفى المعلّق عليه(بقاء الجبل على حالته) ينتفي المعلّق، وهو الرؤية.

3- تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية:

تذكر الآية أنّ موسى لمّا أفاق فأوّل ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه وقال: «سبحانك»؛ وذلك لأنّ الرّؤية لاتنفكّ عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص؛ فنزّمه سبحانه عنها، فطلبها نوع تصديق لها.

4- توبته لأجل طلب الرؤية: إنّ موسى بعد ما أفاق أخذ بالتنزيه أوّلًا والتوبة والإنابة إلى ربّه ثانياً، وظاهرالآية أنّه تاب من سؤاله، كما أنّ الظاهر من قوله «وأنا أوّل المؤمنين» أنّه أوّل المصدّقين بأنّه لايرى بتاتاً.

ص: 153

شبهات المخالفين

الشبهة الاولى:

لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها الكليم، ولاشكّ في كون موسى عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى، وحيث سألها علمنا أنّ الرؤية جائزة على الله تعالى!

الجواب: أنّ القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان قومه حيث كانوا مصرّين على ذلك، انظر قوله سبحانه:(قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) (1) ولقوله تعالى:(فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (2) و توضيح ذلك: أنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه، قال قومه: لن نؤمن بك حتّى نسمع كلامه كما سمعت، فاختارمنهم سبعين رجلًا لميقاته وسأله سبحانه أن يكلّمه؛ فلمّا كلّمه الله وسمع القوم كلامه، قالوا:(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (3) فعند ذلك(أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (4). فقد


1- الأعراف: 155.
2- النساء: 153.
3- البقره: 55.
4- البقره: 55 والنساء: 153؛ ر. ك. الصدوق، التوحيد: 121/ ح 24 باب ماجاء في الرؤية.

ص: 154

اتّضح ممّا ذكرنا عدم دلالة الآية على إمكان رؤيته سبحانه بطلب موسى(ع).

الشبهة الثانية:

إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل له، فلّما رآهُ(سبحانه) اندكّت أجزاؤه، فإذا كان الأمر كذلك ثبت أنّه تعالى جائز الرؤية، وأقصى ما يقال: إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم، ثم خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات الله. (1) لكن يلاحظ على هذا الكلام: ليس في الآية أي دليل عليه، وظاهر الآية أنّه سبحانه تجلّى للجبل وهو لم يتحمّل تجلّيه، لا أنّه رآه وشاهده! وأمّا التجلّي، فكما يحتمل أن يكون بالذات، كذلك يحتمل أن يكون بالفعل، فمن لم يتحمّل تجلّيه بفعله وقدرته، فالأولى أن لا يتحمّل تجلّيه بذاته، وعندئذٍ فمن المحتمل جدّاً أن يكون تجلّيه بآثاره وقدرته وأفعاله.

لذا لايمكن التمسّك به وطرح الدلائل القاطعة عقلًا ونقلًا على امتناع رؤيته.


1- الرازي، مفاتيح الغيب: 24/ 232.

ص: 155

رؤية الله في الذكر الحكيم: «دراسة أدلة المثبتين»

استدّل القائلون بجواز الرؤية بآيات متعدّدة، والمهّم فيها هو الآية الآتية، أعني قوله سبحانه:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (1)

فإنّ المثبتين يركّزون على أنّ الناظرة بمعنى الرؤية، كما أنّ نافيها يفسّرونها بمعنى الانتظار، مع أنّ تسليم كونه بمعنى الرّؤية غير مؤثّر في إثبات مدّعيها كما سيظهر؛ والحقّ عدم دلالتها على جواز رؤية الله بتاتاً؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّه سبحانه استخدم كلمة «وجوه» لا «عيون»، والعجب أنّ المستدلّ غفل عن هذه النكتة التّي تحدّد معنى الآية وتخرجها عن الإبهام والتردّد بين المعنيين.

الثاني: نحن نوافق المثبتين بأنّ النظر إذا استعمل مع «إلى» يكون بمعنى الرؤية لكن الذي يجب أن نلفت إليه نظر المستدلّ هو أنّه ربّما يكون المعنى اللغوي ذريعة لتفهيم معنى كنائي ويكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي، فلو قلنا: زيد كثير الرماد، المراد هنا جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه، وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء، فلاشك أنّ


1- قيامة: 22، 23.

ص: 156

المراد منه: يرجون رحمته، والمراد من قوله:(لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (1) هو طردهم عن ساحته وعدم شمول رحمته لهم وعدم تعطّفه عليهم، لاعدم مشاهدته إياهم.

و الحاصل: أنّ النظر إذا اسند إلى «العيون» يكون المعنى المراد الاستعمالي والجدّي هو الرؤية على أقسامها، وإذا اسند إلى «الشخص الفقير» أو إلى «الوجوه» فيراد به الرؤية استعمالًا والانتظار جدّاً.

ثم إنّ لصاحب الكشاف هنا كلمة جيدة، حيث يقال بهذا الصدد: «يقال: «أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي» يريد معنى التوقّع والرّجاء.» (2)

«خمس آيات على مائدة التفسير»

إنّ أصحاب القول بالرؤية يتمسّكون ببعض الآيات مما لا دلالة له على مدّعاهم، بل لا صلة بينه وبين القول بالرؤية:

الآية الاولى:(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (3)


1- آل عمران: 77.
2- الأعراف: 144.
3- الزمخشري، الكشاف: 3/ 294.

ص: 157

قيل: إنّ الاستدلال بهذه الآية على جواز الرؤية قوي؛ لأنّ الله تعالى عدّد لموسى(ع) هذه النعم التي أنعم الله بها عليه لما منعه من حصول جائز طلبه منه، فذكر ما ذكر تسلية له، ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر وذلك مثل خطابه لنوح(رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) (1) اقول: أنّ إثبات الرؤية بها تحميل للنظرية على الآية، وليس تفسيراً لها؛ لو لم نقل إنّ الآية وردت على خلاف ما يدّعيه، فإنّما وردت في مورد الامتنان على موسى(ع) وموعظة له أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته وكلامه ويشكره ولايزيد عليه.

الآية الثانية:(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزِيادَةٌ) (2) فقد فسّرت الحسنى بالجنّة والزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم!

الجواب:

- وإنّ سياق الآية يدلّ على أنّ المراد من الزيادة هو الزيادة على الاستحقاق، قال سبحانه:(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا


1- هود: 45 و 46.
2- يونس: 26.

ص: 158

الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (1) و قال سبحانه:(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ولَدَيْنا مَزِيدٌ) (2) فإنّ المراد أحد المعنيين، إمّا زيادة على ما يشاؤونه مالم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم، أو الزيادة على مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم.

الآية الثالثة:(وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً ومُلْكاً كَبِيرا) (3) قال الرازي: فانّ إحدى القراءات في هذه الآية في «ملكاً» بفتح ميم وكسر اللام وأجمع المسلمون على أنّ ذلك الملك ليس إلّا الله». (4) الجواب:

و يلاحظ على كلامه: إنّ المسائل العقائدية يستدلّ عليها بالأدلّة القطعية لا بالقراءات الشاذّة، وسياق الآية يدلّ على أنّه هو المُلك- بضمّ الميم وسكون اللّام- وكأنّه سبحانه يقول: وإذا رميت ببصرك الجنة رأيت نعيماً لايوصف وملكاً كبيراً لا يقدّر قدره.

الآية الرابعة: آيات اللقاء:(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) (5)،


1- النساء: 174.
2- ق: 35.
3- الإنسان: 20.
4- الرازي، مفاتيح الغيب: 13/ 131.
5- الكهف: 110.

ص: 159

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) (1)،(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (2).

وجه الاستدلال: أنّ الآيات تنسب اللقاء إلى الله تعالى، ومقتضى الأخذ بالظاهر هو تحققّ اللقاء بالمشاهدة والمعاينة.

لكنّ هذا الاستدلال يلاحظ عليه: أنّ اللقاء كما أضيف في هذه الآيات إليه سبحانه اضيف إلى غيره في آيات أخرى، فتارة أضيف إلى لفظ «الآخرة»، قال سبحانه:(وَ قالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِلِقاءِ الآْخِرَةِ) (3) وأخرى إلى لفظ «اليوم» قال سبحانه:(وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (4) وقال سبحانه:(وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (5) وعلى ذلك يكون المراد من الجميع هو لقاء الناس يوم الجزاء، وإنّما سمّي هذا بلقاء الرّب أو لقاء الله لما تعلّقت المشيئته على مجازاة المحسنين والمسيئين في ذلك اليوم.

و الّذي يدلّ على أنّ المراد من اللقاء ليس هو الرؤية: أنّ الرؤية تختصّ بالمؤمنين ولا تعمّ الكافرين، مع أنّه سبحانه يعمّم اللقاء بالمؤمن والكافر، فلم تبق أيّة فضيلة وزيادة


1- البقرة: 223.
2- الأحزاب: 44.
3- المؤمنون: 33 وأيضاً الأعراف: 147.
4- الزمر: 71.
5- الجاثية: 34.

ص: 160

تختصّ بالمؤمنين.

و في الختام نقول: إنّ منزلة آيات اللقاء هي منزلة آيات الرجوع إلى الله، قال سبحانه:(إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (1)، ولم نر سلفياً أو أشعرياً يستدلّ بها على رؤية الله سبحانه، مع أنّ وزان الجميع واحد.

ألآية الخامسة: آية الحجب:(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (2) قال الآلوسي: لايرونه تعالى وهو حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين، فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية؛ لأنّ المحجوب لايرى ما حجب. واحتج بالآية مالك والشافعي وأنس ابن مالك.

و يلاحظ على هذا الكلام: أنّ الآية بصدد تهديد المجرمين، وهذا لايحصل إلّا بتحذيرهم وحرمانهم من رحمته وتعذيبهم في جحيمه، فالمراد أنّ هؤلاء محجوبون يوم القيامة عن رحمته وإحسانه وكرمه، وبعد ما منعوا من الثواب والكرامة يكون مصير هؤلاء إلى الجحيم وإنّ الله سبحانه ذكر نعم الجنّة الكثيرة ومقامات المؤمنين ولو كانت الرؤية من أماثل نعمه سبحانه فلماذا لم يذكرها بوضوح كسائر النعم؟!


1- البقرة: 156.
2- همان: 156.

ص: 161

رؤية الله في الأحاديث النبوية

بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصّحاح والمسانيد ودلالتها علي المطلوب، لكنّ الكلام في حجية الروايات الّتي تعارض الذكر الحكيم وتباينه؛ فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب، فلِماذا لايكون مهيمناً على السنن المروية عن الرسول(ص)، التي دوّنت بعد مضى 143 سنة من رحيله(ص)! ولم تصن عن دسّ الأحبار والرهبان! قال سبحانه:

(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (1) و لا يعني ذلك: حذف السّنة من الشريعة ورفع شعار حسبنا كتاب الله، بل يعني التأكد من صحّتها ثمّ التمسّك بها في مقام العمل والاعتقاد!

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ) (2)


1- المائده: 48.
2- ق: 37.

ص: 162

الرؤية القلبية

كان المرتقب من أئمّة الحديث والكلام الإشارة إلى قسم آخر من الرؤية الّذي ليس هو بعين مادية ولا بصر جسماني، إنّما هي رؤية أخبر عنها الكتاب ولا تتوقّف على الجهة والمقابلة ولاالتجسيم والمشابهة، قال سبحانه:(وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (1) قال العلّامة الطباطبائي: «إنّه تعالى يثبت في كلامه قسماً للرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرّية الحسّية؛ وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشي ء بنفسه من غير استعمال آلة حسّية أو فكرية، بل يجده وجداناً من غير أن يحجبه عنه حاجب. والذي يتجلّى من كلامه سبحانه أنّ هذاالعلم المسمّى بالرؤية واللقاء يتمّ للصالحين من عبادالله يوم القيامة، قال تعالى:(يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (2) فهذا هو العلم الضروري الخاص. (3) الذّي لايتردّد إليه الريب.

و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون».


1- الأنعام: 75.
2- الميزان: 8/ 253 252.
3- الانشقاق: 6.

ص: 163

تكفير «إبن باز» لمن لايقول بالرؤية

غير أنّ مفتي السعودية عبدالعزيز بن باز غالي في الموضوع؛ وذلك في الفتوى الصادرة في 8/ 1407 ه. المرقّمة 717/ 2 جواباً على سؤال وجّهه عبدالله بن عبدالرحمن يتعلّق بجواز الاقتداء والائتمام بمن لايعتقد بمسألة الرؤية في يوم القيامة؛ فأفتى: بأنّ من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لايصلّى خلفه وهو كافر عند أهل السنّة والجماعة!

و قال أبوبكر المروزي: من زعم أنّ الله لايري في الآخرة فقد كفر، وقال من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي، والجهمي كافر!

و قال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرؤية، من كذّب بها فهو زنديق، وقال: من زعم أنّ الله لا يرى فقد كفر بالله! وكذّب بالقرآن! وردّ على الله أمره! يستتاب فإن تاب وإلّا قتل!

تحليل هذه الفتيا:

1- إنّ هذه الفتوى لاتصدر عمّن يجمع بين الرواية والدّراية، وإنّما متفرّعة على القول بأنّ الله مستقرّ على عرشه فوق السّماوات.

ص: 164

2- إنّ النبي الأكرم(ص) كان يقبل إسلام من شهد بوحدانيته سبحانه ورسالة النبي(ص)، وهذا هو البخاري يروي في صحيحه: أنّ الإسلام بني علي خمس، وليس فيه شي ءٌ من الإقرار بالرؤية، وهل النبي(ص) ترك ما هو مقوّم الإيمان والإسلام؟!

3- إنّ الرؤية مسألة اجتهادية تضاربت فيها أقوال الباحثين من المتكلّمين والمفسّرين وكلّ طائفة تتمسّك بلفيف من الآيات؛ فتمسّك المثبت بقوله سبحانه:(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وتمسّك النافي بقوله سبحانه(لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ) فكيف يكون إنكار النافي ردّاً للقرآن، ولا يكون إثبات المثبت ردّاً له؟!

و إذا جاز التأويل لطائفة، فكيف لايسوغ لطائفة اخرى؟!

4- ما معنى قول من يقول في مقابل المنكر للرؤية: السيف السيف!؟ بدل أن يقول: الدراسة الدراسة، الحوار الحوار!

أليس شعار «السيف السيف» ينمُّ عن طبيعة عدوانية قاسية ونفسية خالية من الرحمة والسماحة؟! وأنا أُجلّ إمام دارالهجرة عن هذه الكلمة!

5- إنّ نفي الرؤية شعارُ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وشعار الإمام أميرالمؤمنين علي(ع) في خطبه وكلماته قبل أن يولد جهم وأذنابه، ولأجل ذلك اشتهر: «العدل والتنزيه علوّيان والجبر والتشبيه أموّيان»!

ص: 165

الخاتمة

لقد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها، وهي أصفى من أن تكدّر صفوها الشُّبه؛ ومن قرأ مباحث هذا الفصل بإمعان وتأمّل وقف على أنّ الحقّ مع النافين للرؤية وأنّه ليس للمثبتين دليل لا عقلي ولا نقلي.

فالمسلم مادام له حجّة على عقيدته ولم يكن مقصّراً في سلوكها لايحكم عليه بشي ءٍ من الكفر والفسق ولاالعقاب ولا العذاب وأظنّ أنّه لو انعقد مؤتمر علمي في جوّ هادئ واستعدّت الطائفتان للتّأمل في براهين النافين والمثبتين لقلّ الخلاف وتقاربت الطائفتان. نعم إنّ خلافاً دام قروناً لاينتهي بأسبوع أو شهراً وبعقد مؤتمر ومؤتمرين، ولكن الرجاء تقريب الخطى وعدم تكفير إحدى الطائفتين للطائفة الأخرى.

إنّ من كتب حول الرؤية من إخواننا أهل السنّة- من غير

ص: 166

فرق بين النافي والمثبت- فقد دقّ كلّ باب ورجع إلى كلّ صحابي وتابعي ومتكلّم وفيلسوف، ولم يدقّ باب أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وفي مقدّمتهم الإمام علي(ع) باب علم النبي(ص) وأقضى الأئمّة وأحد الثقلين اللّذين تركهما النبي(ص) لهداية الأمّة. فقد طفحت خطبه التوحيدية بتنزيهه سبحانه عن رائحة التجسيم وشوب الجهة وإمكان الرؤية، فبلّغ رسالات الله الّتي تعلّمها في أحضان النبي(ص) بأبلغ بيان. وإذا ذهبت العدلية كالمعتزلة والإمامية إلى امتناع الرؤية فمنه أخذوا ومن منهجه تعلّموا، فبلغوا الغاية في التنزيه حسب إرشاداته، كما صرّح بذلك غير واحد من أئمّة العدلية(ع)؛ وقد ذكرنا بعض خطبه فيما مضى، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى خطبه في نهج البلاغة، وإلى كلمات أبنائه الطاهرين(عليهم السلام) في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق(رحمة الله).

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أميرالمؤمنين، علي بن أبي طالب،

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

تم التلخيص في مدينة قم المشرفة

15 الربيع الثاني من عام 1425 ه. ق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.