اکاذیب الوهابیه

اشارة

سرشناسه : وردانی، صالح

Wardani, Salih

عنوان و نام پديدآور : اکاذیب الوهابیه/ صالح الوردانی.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1390.

مشخصات ظاهری : 189 ص.: جدول.

شابک : 978-964-540-289-9

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه: ص. [182]- 187؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع : ابن تیمیه، احمدبن عبدالحلیم، 661 - 728ق. -- نقد و تفسیر

موضوع : وهابیه -- دفاعیه ها و ردیه ها

رده بندی کنگره : BP207/6/و4الف7 1390

رده بندی دیویی : 297/416

شماره کتابشناسی ملی : 2320360

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

تقديم

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

اعتمدت الوهابيّة منذ ظهورها، ولازالت تعتمد، على الأكاذيب والأضاليل، وعملت على التستُّر بأهل السنّة والسلف تارة، وبالإجماع تارة أُخرى ..

وكان عمادها في هذه الأكاذيب وهذا التستُّر هو ابن تيميّة، الذي كان ينسب أقواله وفتاويه لأهل السنّة والسلَف والإجماع دائماً، ويتلقّف الوهابيّون أقواله بمنطق التسليم.

وكما كذب ابن تيميّة على أهل السنّة والسلَف، كذب الوهابيّون كذلك، وما بُني على الكذب فهو كذب.

ولم تنحصر أكاذيب الوهابية في محيط نقل أقوال ابن تيميّة ونسبتها لأهل السنّة، بل امتدَّت إلى تراثهم فحرَّفته، ليكون في خدمة عقائدها المنحرفة.

وامتدّت أيضاً إلى المذاهب والاتّجاهات الأُخرى في محيطهم، التي تمَّ السطو على كُتبها وتحريفها؛ لتخدم

ص: 5

مذهبهم، وتُبعد الشُبهات عنهم.

ولمّا كان وضع ابن تيميّة ضعيفاً، ووزنه قليلًا وسط أهل السنّة، قام الوهابيّون بنَسج العديد من الأساطير حول شخصيته، بهدف تضخيمه في أعين المسلمين.

ولقد عمدت الوهابية على بثِّ الأكاذيب؛ لتثبت كونها حركة إصلاحية، بينما هي في الحقيقة- حركة إرهابية، استحلَّت دماء المسلمين وأموالهم، وعملت على اختراق المؤسّسات الإسلامية، وشراء الأقلام والكتَّاب واستخدامهم في الدعاية لها. وما كان لحركة تقوم على الأكاذيب أن تبرز وتدوم إلّا بدعم ومساعدة آل سعود، ومن ورائهم أعداء الإسلام.

كان وجود الوهابيّة ضرورة حتميّة لتفريق المسلمين وتخلّفهم، وتوطين العداوة والبغضاء بينهم.

وهذا الكتاب يؤكِّد، من خلال نصوصه، على أنّ الوهابيّة ليست سوى فرقة ضالَّة دعواها كاذبة، وهي امتداد للفِرق الضالَّة السابقة، فمن ثَمَّ هي لا تُعبِّر عن أهل السنَّة والسلف، بل تتمسّح بهم. وهو ما سوف نعرضه في هذا الكتاب، ونؤكِّده من خلال مصادرهم ونصوصهم.

صالح الورداني

ص: 6

مدخل تأريخي

اشارة

في تاريخ المسلمين، واجه الإسلام العديد من صور التمرّد والانحراف والفِرق الضالّة والمتطرِّفة، وكانت الأصابع التي تحرِّك هذه الفرق وتدعم هذه الحالة، تتركَّز في المنافقين وأصحاب المصالح والنفوذ، من القوى الحاكمة وأعوانهم، بالإضافة إلى أصحاب الأهواء والنفوس المريضة، الذين لا يخلو منهم زمان، ولاتسلم منهم الأديان ..

ومن أخطر الفِرق التي واجهت الإسلام وتركت بصمتها في واقع المسلمين، لتصبح المَثل القائم والنموذج الدائم على الاعوجاج والتطرُّف وتفريق المسلمين، هي فرقة الخوارج، ثُمَّ تلتها فرقة الحنابلة.

بين الخوارج والحنابلة

وهناك تشابه كبير بين الحنابلة والخوارج، من حيث تناول الدِّين، ومن حيث المواقف والسلوك، كذلك هناك تشابه أو تطابق بين العناصر التي تنتمي لهاتين الفرقتين.

ص: 7

الخوارج وردت فيهم الكثير من الروايات النبويَّة التي هي بمثابة نبوءات، والتي تحذِّر الأُمّة منهم، وتكشف تركيبتهم وتحدِّد ملامحهم وتجسِّم الخطر المُحدق منهم.

ومن أهمِّ الملامح التي حدَّدتها هذه الروايات:

* سفهاء الأحلام وحدثاء الأسنان.

* يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم.

* تحقر صلاتك خلف صلاتهم.

* أيديهم كثَفنات الإبل.

* مُحلِّقي الرؤوس.

* يقاتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان.

* سِمتهم المكابرة وغلظة القلوب.

* طبائعهم بدوية أعرابية.

* يتعبَّدون بالقشور ويهملون عظائم الأمور.

والمتأمّل في فرقة الحنابلة يجدها تحمل نفس طباع وملامح فرقة الخوارج.

الخوارج هم أوّل مَن حمل راية التكفير في مواجهة المسلمين، والحنابلة حملوا نفس الراية.

الخوارج أراقوا دماء المسلمين، والحنابلة كذلك.

الخوارج قشريّون مُسطّحون يتعبّدون بالروايات، والحنابلة كذلك.

الخوارج يبالغون في القشور والشكليّات، والحنابلة كذلك.

الخوارج من البَدو والأعراب، والحنابلة كذلك.

ص: 8

الخوارج غلاظ القلوب، والحنابلة كذلك.

الخوارج سِمتهم المكابرة والتحدّي، والحنابلة كذلك.

والأهم من ذلك كلّه، أنَّ الخوارج وقفوا في مواجهة أهل البيت: بقيادة الإمام علي (ع)، وكذلك الحنابلة وقفوا في مواجهة أهل البيت، واعتبروا شيعتهم عدواً دائماً لهم. وهذه من الظواهر المُلفتة في التاريخ.

والسؤال هنا: لماذا ارتبطت حركة الإمام علي بمواجهة الخوارج؟

ولماذا يقف الحنابلة هذا الموقف العدائي من أهل البيت وشيعتهم؟

والجواب هو أنّ حركة الإمام هي امتداد لحركة الرسول (ص)، فمن ثُمَّ لا يملك أحد سوى الإمام القدرة على مواجهة هذه الفرقة. والقدرة هنا لا تنحصر في السيف، فالسيف يملكه الجميع، وإنّما تنحصر في علم الإمام ومقوِّماته الخاصّة، التي ورثها عن الرسول، والتي لا يملكها أحد سواه. وتلك المقوِّمات ورثها عنه أهل البيت:.

من هنا، شكَّل نهج الإمام الخطرَ القائم والدائم لفرقة الخوارج، ومَن سار على نهجها وتتطبّع بطباعها.

الإمام واجه الخوارج باسم الإسلام الذي يمثّله ويعبّر عنه، لا باسم الحاكم.

والخوارج يعلمون حقَّ العلم ويعرفون حقَّ المعرفة أنّ عليّاً هو الناطق الشرعي باسم الدين، وهو الذي يمثِّل الخط

ص: 9

الشرعي، خط الرسول (ص)، ذلك الخط الذي يتهدَّدهم على الدوام.

أمّا الخطوط الأُخرى التي انتحلت الإسلام وتلحَّفت بالرسول، فلا تشكِّل أدنى خطر عليهم، بل تعدّ امتدادات لهم.

ولأجل ذلك .. كانت المواجهة بين الخوارج والإمام مواجهة مصيرية. كذلك المواجهة مع خطِّه ونهجه من بعده.

لقد أصبح الخوارج النموذج الدائم لأعداء أهل البيت: وشيعتهم على مرِّ الزمان. وأهل البيت وشيعتهم شكَّلوا الحصن المنيع الذي يحتمي به الإسلام الحقّ، الذي يكشف ضلالهم واعوجاجهم، وضلال واعوجاج الفِرق التي تولَّدت منهم عبر الزمان، وعلى رأسها فرقة الحنابلة والوهابيّة المعاصرة.

وقد استعرضتْ لنا كتب السُنن وكتب التاريخ والتراجم العديد من الملامح والظواهر والمُمارسات التي تتعلَّق بالخوارج، ممّا اشتهر أمره، ليصبح هؤلاء الخوارج محلّ نبذ ورفض جميع المذاهب والاتّجاهات الإسلامية. وهو الموقف الذي طال الحنابلة فيما بعد؛ ليصبحوا محلّ رفض ونبذ المذاهب الإسلامية، ويتحوّلوا إلى أقلِّ المذاهب شأناً؛ ممّا دفع بهم إلى إعلان الحرب على المذاهب والفقهاء، واتّهامهم بالمروق والزندقة، وإحياء البِدع ونصرة أهل الأهواء وإماتة السُنّة، وغير ذلك من التُهم التي تلقّفتها منهم الوهابية

ص: 10

المعاصرة، وأخذت تلقي بها على المسلمين شيعةً وسُنّة.

إلّا أنّ الحنابلة الذين يحملون صفات الخوارج، من التعبّد بالرواية وسطحيّة الفهم، وضعف العقل وغلظة القلب، والتركيز على الشَكليّات؛ وجدوا في حركة أهل البيت وشيعتهم الخطر الدائم والداهم الذي يتهدَّد مذهبهم وأفكارهم المعوجَّة؛ فحملوا راية العداء والمواجهة لهذه الحركة، وركّزوا جهودهم عليها، محاولين النيل منها وتشويهها، وتحريض المسلمين على شيعتهم.

وكما تسبَّب الخوارج في تفريق المسلمين وزرع الفتنة بينهم، تسبَّب الحنابلة أيضاً في تفريق المسلمين وزرع الفتنة بينهم.

تاريخ الحنابلة

وفرقة الحنابلة قامت على يد أحمد بن حنبل (163- 241 ه)، الذي ينتمي لقبيلة بني شيبان، في العصر العباسي.

وشخصية ابن حنبل ومقوِّماته لم تكن تُتيح له القدرة على البحث والاجتهاد وإعمال العقل، فمن ثَمَّ اتّجه نحو الروايات وأقوال الرجال، فعمل على تدوينها والتعبّد بها، وتعصَّب لهذه الروايات والأقوال واعتبرها الصورة الوحيدة للإسلام، وناصَب العداء كلّ مَن يرفض هذه الروايات والأقوال أو يشكّك فيها، واعتبره من المُبتدعين الضالّين.

ص: 11

من هنا بدأ الصدام مع مَن حوله من الفقهاء وأصحاب المذاهب الأُخرى، والاتّجاهات العقلية وأصحاب الرأي، من الأحناف والشيعة والمعتزلة وغيرهم.

وانجذب نحو ابن حنبل العديد من السَوقة وضعاف العقول والقشريّين، الذين لم يجدوا لهم مكاناً في دائرة المذاهب والاتّجاهات الأُخرى؛ ليُشكلوا إزعاجاً كبيراً للفقهاء والمسلمين، ويُحدثوا الكثير من القلاقل والفتن على ما سوف نُبيِّن.

ونتيجة لسيطرة العقل الروائي على شخصيّة ابن حنبل، واعتماده الكلّي على النقل لاعلى العقل؛ رفض فكرة خلق القرآن التي تبنَّتها بعض المذاهب، وحكم بكُفر القائل بها. كما حكم بكفر تارك الصلاة، فكان أوّل مَن قنَّن للتكفير في واقع المسلمين. وكان من نتيجة هذا الموقف المتطرّف من قِبله، أنْ أصدر المأمون العباسي أمره بالقبض عليه وحبسه وجلده، حتى يرجع عن أفكاره المتطرّفة (1).

واستمرَّ الموقف العدائي، منه ومن أتباعه، طوال عصر المأمون والمعتصم والواثق من بعده، حتى جاء المتوكّل، فتحالف معهم ضدّ المذاهب الأُخرى؛ ممّا أعطاهم دفعة قوية ساعدتهم على مواجهة خصومهم والفتك بهم «2».(2).


1- أنظر البداية والنهاية، اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، أبوالفداء، ج 10، ص 330؛ سيرة ابن حنبل، صالح بن أحمد.
2- قال الحنابلة عن المتوكل: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر في قتل أهل الردّة، وعمر بن عبد العزيز في ردِّ المظالم، والمتوكّل في إحياء السنّة وإماتة التجهّم؛ انظر: تاريخ الخلفاء، ص 346، عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي.

ص: 12

وقد رصدت لنا كتب التاريخ الكثير من الفتن والحوادث المفجعة التي وقعت على يد الحنابلة المتعصّبين، والتي تعدّ صورة مصغّرة لحوادث الخوارج. ومن هذه الحوادث:

حادث الاعتداء على الفقيه المُفسّر الطبري، وقذفه بالمحابر ومطاردته في طرقات بغداد ومحاصرة بيته؛ بسبب قوله: إنّ ابن حنبل ليس فقيهاً؛ ورفضه حديث جلوس الرسول (ص) إلى جوار الله على العرش (1).

ثُمَّ أحدثوا فتنة أُخرى كبيرة في بغداد أيضاً، بسبب قوله تعالى: عسى أنْ يبعثك ربُّك مقاماً محموداً، وذلك في عام 317 ه. قالت الحنابلة: معناها: يقعده الله على عرشه. وقال غيرهم: بل هي: الشفاعة. ودام الخصام واقتتلوا حتى قُتل جماعة كثيرة (2).

كذلك وقعت فتنة كبيرة بينهم وبين الشيعة في بغداد، كاد الشيخ أبو حامد الأسفرايني أن يُقتل فيها (3).

وتمكّن الحنابلة من إقناع الخليفة القادر العبّاسي بأفكارهم، ووضعوا كتاباً في العقيدة أهدوه إليه فنسبه إلى نفسه، وسمّاه (العقيدة القادرية)، وحمل الناس عليه


1- انظر: ترجمة الطبري في كتب التاريخ؛ وانظر: حوادث عام 310 ه، 323 ه، 458 ه و 475 ه.
2- انظر: تاريخ الخلفاء، ص 384. وقد توسّع في أمر هذا الحديث الخلال الحنبلي المتعصّب في سُننه، وحشد العديد من النصوص التي تكفِّر منكره. انظر: باب ذكر المقام المحمود.
3- انظر: حوادث عام 398 ه في كتب التاريخ، والأسفرايني من فقهاء الشافعية.

ص: 13

بتحريض من الحنابلة، واستتاب فقهاء المعتزلة والحنفيَّة فأظهروا الرجوع (1).

واتّجه الحنابلة بعد ذلك، سيراً مع الروايات التي يتعبّدون بها، إلى تبنّي فكرة التجسيم والتشبيه، فيما يتعلّق بصفات الله تعالى، وإعلان الحرب على مُنكري هذه الروايات والمشكّكين فيها. ومن أبرز مواقفهم من خصوم التشبيه والتجسيم من الفقهاء وغيرهم، موقف أبو إسماعيل الهروي، شيخ الحنابلة المتوفّى عام 422 ه، من ابن حبّان صاحب السُنن؛ حيث أخرجه من بلدته سجستان بسبب إنكاره الحدّ لله تعالى! (2).

وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي، المتوفّى عام 458 ه: ألزموني ما شئتم أي: في حقّ الله تعالى- فإنّي ألتزمه، إلّا اللّحية والعَورَة (3). وقد كفَّره صاحب العواصم بسبب هذا القول (4).

وذكر المؤرّخ ابن الأثير في حوادث عام 429 ه.: وفيها أنكر العلماء على أبي يعلي الفراء الحنبلي ما ضمّنه كتابه (إبطال التأويلات) من صفات الله سبحانه وتعالى، المُشعرة بأنّه يعتقد التجسيم، وحضر أبو الحسن القزويني الزاهد بجامع


1- انظر: حوادث عام 408 ه في كتب التاريخ. وقد استتاب الشيعة أيضاً، ونهى عن المناظرة في شي ءٍ من العقائد، ومَن فعل ذلك نكّل به وعُوقب.
2- تذكرة الحفاظ، شمس الدين ذهبي، ج 3، ص 920.
3- انظر: كتابه إبطال التأويل.
4- انظر: النسخة الكاملة من العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي، ج 2، ص 83. وسوف يأتي الحديث عن هذا الكتاب في باب أكاذيبهم على التراث.

ص: 14

المنصور وتكلّم في ذلك، تعالى الله عمّا يقول الظالمون، علواً كبيراً.

وقال في عام وفاة الهروي: وفيها توفّي أبو يعلى الفراء الحنبلي، وهو مصنّف كتاب الصفات، أتى فيه بكلّ عجيبة، وترتيب أبوابه يدلّ على التجسيم المحض.

وكذلك قيل في ابن قُدامه الحنبلي الدمشقي، صاحب كتاب (ذمّ التأويل ولمعة الاعتقاد) (1).

وهناك فتنة شهيرة وقعت على يد الحنابلة بمصر، على يد ابن مرزوق والكيزاني؛ بسبب قولهما بالتجسيم، ممّا أدّى إلى صدور أكثر من فتوى بتكفيرهما وردّتهما، واستتابتهما وطلب قتلهما (2).

وقد ردّ ابن الجوزي على الحنابلة بسبب قولهم بالتجسيم وتبنّيهم التشبيه، مُبرِّئاً ابن حنبل من تُهمة التشبيه التي ألصقوها به، ناقضاً ومُكذِّباً رواياتهم التي اعتمدوا عليها في تبنّي التجسيم (3).


1- انظر: ترجمة ابن قدامه في سير أعلام النبلاء للذهبي ج 22، ص 168؛ وانظر: حوادث عام 620 ه، عام وفاة ابن قدامه، في كتب التاريخ.
2- ابن الكيزاني المصري الشافعي، هو أبو عبد الله محمد إبراهيم بن فرح الأنصاري. قيل عنه: إنّه ابتدع مقالة ضلّ بها اعتقاده وزلّ في مزلقها سداده، وادّعى أنّ أفعال العباد قديمة. والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة مقيمة. توفّي الكيزاني في عام 560 هأنظر: ترجمته في جريدة القصر، وجريدة العصر للأصبهاني. وابن مرزوق هو عثمان بن سلام القرشي، توفّي عام 564 ه، أنظر: ترجمته في طبقات الحنابلة، ج 1، ص 126.
3- سوف يأتي استعراض هذا الرد لاحقاً.

ص: 15

وقد صوّرت الروايات التي اعتنقها الحنابلة الله سبحانه وتعالى على شكل إنسان، يأتي ويذهب وينزل ويصعد ويضحك، وأثبتوا له بالإضافة إلى ذلك الأعضاء البشرية، وصوّروه على صورة شابٍ أمْرَد أو شيخ كبير، وهم بذلك يتّفقون مع تلك الصورة التي أبرزها اليهود والنصارى في كتبهم (1)

وتبدو فكرة التجسيم والتشبيه واضحة بقوّة في كتب الحنابلة القدامى، والوهابيّين المعاصرين، على ما سوف نبيِّن.

يقول عثمان الدارمي: إنّ الله لو شاء لاستقرَّ على ظهر بعوضة (2)

وكان المروزي، صاحب ابن حنبل المتوفّى عام 275 ه، قد صنّف كتاباً يُثبت فيه جلوس الرسول إلى جوار الله على العرش. قال عنه الذهبي: فقام المروزي وقعد وبالغ في الانتصار لذلك، وجمع فيه كتاباً (3)

وقال ابن تيميّة: الله جسم لاكالأجسام. وقال: وليس في كتاب الله ولافي سنّة رسوله قول أحد من سلَف هذه الأُمّة


1- من هذه الروايات: لمّا أُسرى بي، رأيت الرحمن في صورة شاب أمرد، وإذا كأنّه عروس .... وأُخرى تقول: إنّ النبي رأى ربّه في المنام في أحسن صورة، شابّاً موفراً، رجلاه في خف، عليه نعلان من ذهب .... وأُخرى تقول: إنّ الله خلق آدم على صورته ...
2- انظر كتابه: النقض، أبوسعيد عثمان بن سعيد دارمي، ص 457.
3- انظر: العلو للذهبي؛ وانظر: ترجمة المروزي في سير أعلام النبلاء: ج 13، ص 173. وهو يعدّ من الغلاة.

ص: 16

وأئمّتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست جسماً ولاأعراضاً؛ فنفي المعاني الثابتة بالشرع بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولاعقل جهل وضلال (1)

بداية الأُفول

من هنا، ونتيجة لهذه المواقف، نُبذ الحنابلة من قبل المذاهب والحكومات، وأصبحوا من أقلّ مذاهب أهل السنّة شأناً وحجماً، ولم يعد لهم ذكر، خاصةً بعد سقوط الدولة العباسية وفقد بغداد، التي كانت قاعدتهم الكبرى؛ لدورها ومكانتها وتأثيرها، وحلَّت مكانها مُدن وعواصم أُخرى.

انتشر المذهب الحنفي في بلاد ما وراء النهر بدعم من الحكومات التي برزت في تلك البلاد، وانتشرت معه عقيدة الماتريدي الحنفي، التي تناقض عقيدة الحنابلة.

وفي بلاد الشام ومصر، انتشر المذهب الشافعي بدعم الدولة الأيّوبية، وانتشرت معه عقيدة الأشعري المتصادمة مع عقائد الحنابلة.

وفي بلاد المغرب والأندلس ساد المذهب المالكي، وسادت معه عقائد أُخرى، كما سادت الصوفية ..

وفي ظلِّ هذه المتغيِّرات، تقوقع الحنابلة وتناقصوا، ولم يبقَ منهم إلّا بعض الرموز المتفرّقة بين العراق والشام ومصر، ومنذ ذلك الحين لم يعد لهم صوت، ولم تصدر عنهم حركة،


1- انظر: تلبيس الجهمية، أحمد عبدالحليم بن تيمية الحراني أبوالعباس، ج 1، صص 115 و 302.

ص: 17

حتى جاء القرن الثامن الهجري، الذي برز فيه ابن تيميّة، المتوفّى عام 728 ه، محاولًا إحياء أفكار الحنابلة المتطرّفة. وكانت النتيجة أن تصدَّى له فقهاء عصره وناظروه وأوقفوه، إلّا أنّه تمادى في موقفه الشاذّ، وعمل على إبراز فكرة التجسيم والتشبيه التي كان ينادي بها الحنابلة من قبل، وتصدّى لها فقهاء أهل السنّة، بل أضاف إليها فكرة جديدة لم تكن مطروحة من قبل، وهي تحريم شدّ الرحال وزيارة قبر النبي (ص) وقبور الأنبياء والأولياء والصالحين.

ونودي بدمشق- يومئذٍ- أنَّ مَن اعتقد عقيدة ابن تيميّة حلّ دمه وماله، خصوصاً الحنابلة، ثُمَّ جمع الحنابلة من الصالحية- مركز تجمّعهم بدمشق وغيرها، وأشهدوا على أنفسهم أنّهم على معتقد الشافعي (1)

وقد انقسم الفقهاء في مواجهة ابن تيميّة:

منهم مَن نسبه إلى التجسيم.

ومنهم مَن نسبه إلى الكفر والزندقة.

ومنهم مَن طالب بقتله (2)

وابن تيميّة من القائلين بفناء النار، وهو ما دفع بشيخ الشافعية (السبكي الكبير) في زمانه للردِّ عليه، مؤكّداً فساد هذا القول ومخالفته لعقائد أهل السنّة (3)


1- انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر العسقلاني، ترجمة ابن تيميّة، ج 1، ص 144 و 374
2- المرجع السابق.
3- انظر رسالة السبكي: المواعظ والاعتبار ببقاء الجنّة والنار.

ص: 18

هذا وغيره هو ما أدّى إلى حبسه، ومعه تلميذه ابن القيم الجوزية، الذي أُفرج عنه بعد وفاة ابن تيميّة في الحبس، ليجهر بأفكار أستاذه ومعه ابن كثير، ويتمّ القبض عليهما، ويُطاف بهما في الطرقات على حمارٍ معكوسين (1)

وابن القيم كان يحمل الكثير من طبائع ابن تيميّة، وسار على سنّته في النيل من علماء عصره، والتعصّب لفكرة التجسيم، وإنكار شدّ الرحال، وترك الكثير من الآثار التي تدور في محيط هذه الأفكار.

أمّا ابن كثير، فقد اتّجه نحو التركيز على التفسير والتاريخ، فقام بجمع تاريخ الطبري وغيره من التواريخ في كتاب واحد، وقام بتهذيب تفسير الطبري، وليس له آثار تُذكر سوى كتاب في مصطلح الحديث.

وظلّ ابن كثير على التزامه بنهج ابن تيميّة ومعتقداته، ونزعته العدائية للآخر، والتي تبدو بوضوح من خلال عرضه للحوادث التاريخية التي تتعلّق بخصوم الحنابلة، أو الحديث عن أهل البيت، أو رموز المذاهب والتيّارات الأُخرى. وقد اهتمّ الوهابيّون بتاريخه وتفسيره، وقدّموهما على المصادر الأُخرى (2)


1- انظر: الدرر، ج 3، ص 400؛ ودفع شبه مَن شبّه وتمرّد للحصني. وكان ابن القيم قد تبع أستاذه في القول بالتجسيم وإنكار المجاز. انظر: منشورات الوهابيّين في الباب القادم.
2- سمِّي تفسيره بتفسير القرآن العظيم. أمّا تاريخه، فسمّي البداية والنهاية. انظر: ترجمة الإمام الصادق حوادث عام 148 ه، وقارن بينها وبين ترجمته لابن حنبل وابن تيميّة.

ص: 19

الوهابيّون والحنابلة

وهؤلاء الثلاثة هم مَن اعتمد عليهم محمد بن عبد الوهاب في دعوته؛ فهو لم يجد دعماً لأفكاره إلّا من خلال أفكار هؤلاء، ولم يجد عوناً من رموز أهل السنّة سواهم، ولاحتى من الحنابلة القدامى، الذين لم يطرحوا قضيّة التوسّل أو الاستغاثة بالأموات، أو شدّ الرحال أو إنكار إحياء المناسبات، وهي الأفكار التي برز وهو يدعو لها، وجعلها أساس دعوته، والفيصل بين الإسلام والشرك.

وابن عبد الوهاب لم يكن سوى شخصية بدوية جافّة، غليظة القلب لانصيب لها من العلم أو من العقل، فليس في تاريخه ما يشير إلى نبوغه أو اجتهاده، في أيِّ مجال من مجالات العلم، وهو ليس إلّا مجرّد نبت مفاجئ، تحيط به العديد من علامات الاستفهام!

ومن الطبيعي لشخصية تحمل هذه الصفات، أن تميل لطرح ابن تيميّة الشاذ، الذي لايحتاج تناوله لأدوات سوى القدرة على النقل والجهر بما يُنقل، وهو الأمر المتاح لكلِّ الناس.

يروي الشيخ (الزيني دحلان): أنَّ شقيقه سليمان كان من أهل العلم، فكان يُنكر عليه إنكاراً شديداً في كلِّ ما يفعله أو يأمر به، ولم يتبعه في شي ءٍ ممّا ابتدعه. وقال له يوماً: كم

ص: 20

أركان الإسلام يا محمد؟

فقال: خمسة.

فقال: أنت جعلتها ستّة! السادس: مَن لم يتبعك فليس بمسلم. هذا عندك ركن سادس للإسلام!

وقال له رجل يوماً: كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟

فقال: يعتق في كل ليلة مائة ألف، وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كلّه.

فقال له: لم يبلغ مَن اتّبعك عُشر عُشر ما ذكرت، فمَن هؤلاء المسلمين الذين يعتقهم الله تعالى وقد حصرت المسلمين فيك وفيمَن اتّبعك؟!

فبُهت الذي كفر.

وقال له رجل آخر: ما تقول إذا أخبرك رجل صادق ذو دين وأمانة، وأنت تعرف صدقه، بأنَّ قوماً كثيرين قصدوك، وهم وراء الجبل الفلاني، فأرسلت ألف خيّال ينظرون القوم الذين وراء الجبل، فلم يجدوا أثراً ولاأحداً منهم، بل ما جاء تلك الأرض أحد منهم. أتُصدِّق الألف أم الواحد الصادق عندك؟

فقال: أُصدّق الألف.

فقال له: إنّ جميع المسلمين من العلماء، الأحياء والموات، في كتبهم يكذّبون ما أتيت به ويزيّفونه، فنصدّقهم ونكذّبك؟!

فلم يعرف جواباً لذلك.

وقال له رجل آخر: هذا الدِّين الذي جئت به متّصل أم منفصل؟

ص: 21

فقال: حتى مشايخي ومشايخهم إلى ستمائة سنة كلّهم مشركون.

قال له: إذن، دينك منفصل لامتّصل، فممَّن أخذته؟

فقال: وحي وإلهام، كالخضر.

فقال له: إذن، ليس ذلك محصوراً فيك، كل واحد يمكنه أن يدّعي وحي الإلهام الذي تدّعيه ..

ثُمَّ يقول دحلان: وقد اعتنى كثير من العلماء من أهل المذاهب الأربعة بالرد عليه؛ في كتب مبسوطة، عملًا بقول النبي (ص): (إذا ظهرت البِدعة وسكت العالم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). وبقوله (ص): (ما ظهر أهل بدعة إلّا أظهر الله فيهم حُجّته على لسان مَن شاء من خلقه).

فلذلك انتدب للردِّ عليه علماء المشرق والمغرب، من جميع المذاهب، والتزم بعضهم بالردِّ عليه بأقوال الإمام أحمد وأهل مذهبه، وسألوه عن مسائل يعرفها أقلّ طلبة العلم فلم يقدر على الجواب عنها؛ لأنّه لم يكن له تمكّن في العلوم، وإنّما عرف هذه النزعات التي زيّنها له الشيطان.

وكان العلامة الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق قد صنّف كتاباً جليلًا في الردّ عليه، وسأله عن أشياء تتعلّق بالعلوم الشرعية والأدبية، فعجز عن الجواب عن أقلِّها، فضلًا عن أجلّها.

ومن جملة ما سأله عنه، قوله تعالى وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً إلى آخر السورة، التي هي من قصار المفصّل .. كم فيها من

ص: 22

حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية؟!

وكم فيها من مجاز مرسَل ومجاز مركَّب، واستعارة حقيقية واستعارة وفاقية واستعارة تبعيّة واستعارة مطلَقة واستعارة مجرَّدة واستعارة مرشّحة؟

وأين الوضع والترشيح والتجريد والاستعارة بالكناية والاستعارة التخيلية؟

وكم فيها من التشبيه الملفوف والمفروق والمفرد والمركَّب؟

وما فيها من المُجمَل والمفصَّل؟

وما فيها من الإيجاز والإطناب، والمساواة والإسناد الحقيقي والإسناد المجازي، المسمَّى بالمجاز الحكمي والعقلي؟

وأيّ وضع فيها وُضع المُضمَر موضع المظهر وبالعكس؟

وما موضع ضمير الشأن وموضع الالتفات، وموضع الفصل والوصل، وكمال الاتّصال وكمال الانقطاع؟

والجامع بين كل جملتين متعاطفتين؟

ومحل تناسب الجمل، ووجه التناسب ووجه كماله في الحسن والبلاغة؟

وما فيها من إيجاز وقصر وإيجاز وحذف؟

وما فيها من احتراس وتتميم؟

وبيِّن لنا موضع كلّ ما ذُكر ..

فلم يقدر ابن عبد الوهاب على الجواب عن شي ءٍ ممّا

ص: 23

سأله عنه (1)

إلَّا أنّ مقوّمات ابن عبد الوهاب وظروف عصره، لم تكن لتتيح له القدرة على نشر دعوته وتمكينها وسط المسلمين، لولا تحالفه مع ابن سعود، الذي وجد فيه ضالّته المنشودة لتحقيق أطماعه في حكم جزيرة العرب، ووجد ابن عبد الوهاب أيضاً في ابن سعود ضالّته لتحقيق الدعم والانتشار لدعوته.

من هنا، وكما تروي المصادر الوهابية، وضع ابن عبد الوهاب يده في يد ابن سعود، وعاهده قائلًا: الدم الدم، والهدم الهدم (2)

ومن الواضح أنّ الدم هنا هو دم المسلمين.

والهدم هو هدم صروح المسلمين.

وهذه المعاهدة، فضلًا عن كونها تصطدم بنصوص الإسلام الصريحة، تصطدم أيضاً بعقيدة أهل السنّة، التي تنصّ على عصمة دماء المسلمين، وعدم جواز الخروج على الحاكم وإنْ كان فاجراً فاسقاً.


1- انظر: الدُرر السنيّة في الردِّ على الوهابية. ومثل هذه الروايتين اللَّتين جاء بها دحلان، يستخدمهما الوهابيون أيضاً ضدّ خصومهم، باعتبارهم جاؤوا لينقذوا الدين من البدع، أمّا اللغة التي استخدمها السائلون لابن عبد الوهاب، فهو أدنى منها بكثير، هو وأتباعه من العوام وضعاف العقول. وهو وأتباعه أراحوا أنفسهم من الأدوات العقلية والمنطقية، واعتبروها من البدع والضلالات؛ حتى لا يواجهوا بمثل هذه التساؤلات.
2- انظر: تاريخ الجزيرة العربية في عصر محمد بن عبد الوهاب لحسين خزعل، ج 1، ص 160، وانظر: في تاريخ نجد لعثمان بن بشير، ج 1، ص 24.

ص: 24

إلّا أنّ ابن عبد الوهاب ضرب بنصوص الدِّين وعقيدة أهل السنّة عرض الحائط، وانطلق يريق دماء المسلمين في جزيرة العرب بسيوف آل سعود، بحُجة أنّهم مشركون، مُعلناً عصيانه للخليفة العثماني.

ولم تفرز لنا الوهابية سوى مجموعة من الفرق المتعصّبة، التي يتزعّمها ضعاف العقول، الذين يعتمدون على النقل، وهم أشبه بحملة الأسفار، الذين قدّموا لنا صورة طبق الأصل من حنابلة الماضي المشاغبين، المتربّصين بالمسلمين المخالفين لهم.

إلّا أنّ حظ الوهابيّين كان عظيماً بظهور النفط في جزيرة العرب، وهو ما وفَّر لهم الأموال والإمكانيات التي ساعدتهم على نشر عقائدهم وأفكارهم بين المسلمين، وساعدتهم أيضاً في استقطاب الرموز الإسلامية، واختراق مؤسّساتهم وتيّاراتهم في كلّ مكان.

كذلك استغلت الوهابية بروزها في أرض الحرمين في الدعاية والتأثير على المسلمين.

وعليه يمكن القول: إنّه لولا ظهور النفط، ولولا وجود الوهابية في أرض الحرمين؛ لكان من الممكن لها أن تصبح في ذمّة التاريخ، شأنها شأن أيّة دعوة وضيعة أو فرقة ضالّة من الفرق التي ظهرت في واقع المسلمين.

وإذا كان الحنابلة القدامى مجرّد نَقلَةٍ معطَّلو العقول، فإنّ حنابلة العصر من الوهابييّن كذلك، فهم قد انكبّوا على تراث الحنابلة المتطرّفين وتراث ابن تيميّة وبعثوه من رقدته،

ص: 25

ونشروه وسط المسلمين بدعوى أنّه يمثّل خط السلف الصالح، وعقيدة أهل السنّة. وانطلت الخدعة على البسطاء من المسلمين، الذين لايملكون القدرة على التمييز بين عقيدة هؤلاء الحنابلة وعقيدة أهل السنّة.

ص: 26

أكاذيبهم على أهلِ السُنَّة

تبيَّن لنا ممّا سبق مخالفة الحنابلة لأهل السنة في العديد من القضايا العقدية.

وتبيَّن لنا أيضاً تطرّفهم في مواجهة المخالفين لهم من أهل السنّة وغيرهم.

وأنَّه بعد سقوط الدولة العباسية توارى الحنابلة لتحلّ محلّهم مذاهب وعقائد أُخرى، أصبحت هي الممثِّل الشرعي لأهل السنّة.

وعلى رأس هذه المذاهب: المذهب المالكي، والحنفي، والشافعي.

وعلى رأس هذه العقائد: العقيدة الماتريدية التي ارتبطت بالأحناف، والعقيدة الأشعرية التي ارتبطت بالشافعية.

وبرز ابن تيميّة محاولًا إحياء عقائد الحنابلة وفشل، واستمرّت هذه العقائد هي السائدة في واقع المسلمين حتى ظهور الحركة الوهابية، التي عملت على بعث معتقدات

ص: 27

الحنابلة المتطرّفة، وأفكار ابن تيميّة المتصادمة مع أهل السنّة، وتمكَّنت من فرضها في جزيرة العرب بقوَّة السيف.

وعملت الوهابية، ولازالت تعمل، على إثبات صحَّة مذهبها وسلامة أفكارها؛ بادّعاء تمثيلها لأهل السنّة، ونطقها بلسانهم.

ولمّا كان الحنابلة لايمثّلون أهل السنّة، كان الوهابيّون الذين يسيرون على نهجهم، لايمثّلون أهل السنّة أيضاً.

وعلى الرغم من شكِّ العديد من المسلمين في دعوى تمثيل الوهابية لأهل السنّة، إلّا أنَّهم لم يتحرَّكوا للتصدّي لهم وكشف ألاعيبهم، وذلك للأسباب التالية:

* تغلغل الوهابية في المؤسّسات والهيئات الإسلامية.

* إرهاب الفرق الوهابيّة.

* مجاراة الحكومات للنظام السعودي.

من هنا وجد الوهابيّون أمامهم الساحة خالية من المنافسين، فرفعوا شعار السلف وشعار الفرقة الناجية من النار، حتى صدَّقوا أنفسهم أنَّهم الممثّلون للسلف، وأنَّهم الفرقة الناجية من النار.

وفي دائرة هذا الباب، سوف نعمل على كشف صور التضليل والتزييف لعقائد أهل السنّة، التي يحاول الوهابيّون من خلالها دفع المسلمين إلى اتِّباعهم وتبنّي أفكارهم.

أمّا أكاذيب الوهابية على أهل السنّة، فيمكن حصرها فيما يلي:

ص: 28

* أكاذيبهم حول التوحيد.

* أكاذيبهم حول القبور والتوسُّل.

* أكاذيبهم على التراث.

ص: 29

أكاذيبهم حول التوحيد

اشارة

عرضنا فيما سبق نماذج من صور التجسيم والتشبيه التي تبنَّاها الحنابلة في الماضي، وموقف فقهاء أهل السنّة الرافض لها.

وهذا الإنكار كان على أساسين هما:

* إنكار الروايات التي استندوا إليها.

* تأويل هذه الروايات.

والحنابلة لم يعجبهم الموقفيَن، وأعلنوا الحرب على أصحابهما.

وقد تبنَّى الوهابيّون فكرة التجسيم والتشبيه من الحنابلة القدامى وابن تيميّة كما هي، وتعصَّبوا لها كما تعصَّب لها حنابلة الماضي، وأنزلوا لَعناتهم على الرافضين لهذه الفكرة من مسلمي العصر، وأطلقوا عليهم اسم (الجهميَّة)، تماماً كما أطلق الحنابلة في الماضي لفظ (الجهميَّة) على كل مَن رفض رواياتهم أو قام بتأويلها.

ص: 30

وحتى تتَّضح لنا الصورة؛ سوف نستعرض هنا مواقف فقهاء أهل السنَّة من مسألة التجسيم والتشبيه، ومَن تبنَّاها من حنابلة الماضي.

وأوّل ما سوف نعرضه هنا، هو موقف ابن الجوزي الحنبلي، الذي أعلن رفضه لفكرة التجسيم والتشبيه التي تبنّاها أصحابه، واعتبرها لاتعبِّر عن عقيدة الإمام أحمد بن حنبل والسَلَف.

قال ابن الجوزي: (رأيتُ من أصحابنا مَن تكلَّم في الأُصول بما لايصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني، فصنَّفوا كُتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحسِّ، فسمعوا أنَّ الله خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً، زائداً على الذات، وعينيَن وفماً، ولهواتَ وأضراساً، وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين وأصابع وكفَّاً وخنصراً وإبهاماً، وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس، وقالوا: يجوز أنْ يمسّ ويُمَسّ، ويدني العبد من ذاته، وقال بعضهم: يتنفّس. ثُمَّ يرضون العوام بقولهم لاكما يُعقل.

وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسمّوها بالصفات تسمية مُبتدعة، لادليل لهم في ذلك من النقل ولامن العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولاإلى إلغاء ما يوجبه الظاهر

ص: 31

من سمات الحدوث، ولم يقتنعوا بأنْ يقولوا صفة (فِعْلْ) حتى قالوا صفة (ذات). ثُمَّ لمّا أثبتوا أنّها صفات ذات، قالوا: لانحملها على توجيه اللغة، مثل: يد على نعمة وقُدرة، ومجي ء وإتيان على معنى برٍّ ولُطف، وساق على معنى شدَّة. بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارَفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميِّين، والشي ء إنّما يُحمل على حقيقته إذا أمكن.

ثُمَّ يتحرَّجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون نحن أهل السنَّة، وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلقٌ من العوام.

وقد نصحت التابع والمتبوع، فقلت لهم: يا أصحابنا، أنتم أصحاب نقل، وإمامكم الأكبر ابن حنبل يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يُقل، فإيّاكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه.

ثُمَّ قلتم في الأحاديث: تُحمَل على ظاهرها، وظاهر القدم الجارحة؛ فإنّه لمّا قيل في عيسى روح الله، اعتقدت النصارى أنَّ لله صفة، هي روح ولَجَت في مريم. ومَن قال استوى بذاته، فقد أجراه مجرى الحسِّيات، وينبغي ألَّا يُهمل ما يثبت به الأصل، وهو العقل، فإنّا عرفنا به الله تعالى، وحكمنا له بالقِدم، فلو أنَّكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت، ما أنكر عليكم أحد. إنّما حملكم إيّاها على الظاهر قبيح، فلا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح- ابن حنبل ما ليس منه، ولقد

ص: 32

كسيتم هذا المذهب شيئاً قبيحاً، حتى صار لايُقال حنبلي إلّا مجسّم، ثُمَّ زيَّنتم مذهبكم أيضاً بالعصبية ليزيد بن معاوية، ولقد علمتم أنَّ صاحب المذهب أجاز لعنه، وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمّتكم: لقد شانَ المذهب شيئاً قبيحاً لايُغسَل إلى يوم القيامة ..

وقد وقع غلط المصنّفين الذين ذكرتهم في سبعة أوجه:

الأوّل: إنّهم سمّوا الأخبار أخبار صفات، وإنّما هي إضافات، وليس كلّ مُضاف صفة.

والثاني: إنّهم قالوا إنَّ هذه الأحاديث من المتشابه الذي لا يعلمه إلّا الله تعالى، ثُمَّ قالوا نحملها على ظواهرها، فوا عجبا! ما لا يعلمه إلّا الله أيُّ ظاهر له؟! فهل ظاهر الاستواء إلّا القعود، وظاهر النزول إلّا الانتقال؟!

الثالث: إنَّهم أثبتوا لله تعالى صفات، وصفات الحقِّ لا تثبت إلَّا بما يثبت به الذات من الأدلّة القطعية.

الرابع: إنَّهم لم يفرِّقوا في الأحاديث بين خبر مشهور، كقوله: ينزل إلى السماء الدنيا، وبين حديث لا يصحّ، كقوله: رأيت ربِّي في أحسن صورة، بل أثبتوا بهذا صفة .. وبهذا صفة.

الخامس: إنَّهم لم يفرّقوا بين حديث مرفوع للنبي (ص)، وبين حديث موقوف على صحابي أو تابعي، فأثبتوا بهذا ما أثبتوا بهذا.

السادس: إنَّهم تأوَّلوا بعض الألفاظ في موضع، ولم يتأوّلوها في موضع آخر، كقوله: مَن أتاني يمشي أتيته هرولة، وقالوا

ص: 33

هذا ضرب مثل الأنعام.

ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال: إذا كان يوم القيامة، جاء الله يمشي. فقالوا: نحمله على ظاهره.

قلتُ: فوا عجباً ممَّن تأوّل حديث رسول الله (ص)، ولايتأوَّل كلام عمر بن عبد العزيز!

السابع: إنَّهم حملوا الأحاديث على مقتضى الحسّ، فقالوا: ينزل بذاته، وينتقل ويتحرَّك، ثُمَّ قالوا: لا كما يعقل. فغالطوا مَن يسمع، فكابروا الحسّ والعقل، فحملوا الأحاديث على الحسّيات.

فرأيتُ الردّ عليهم لازماً؛ لئلا يُنسب الإمام إلى ذلك، وإذا سكتُّ نُسبت إلى اعتقاد ذلك، ولايهولني أمر عظيم في النفوس، لأنَّ العمل على الدليل، وخصوصاً في معرفة الحقِّ، لا يجوز فيه التقليد) (1)

ويظهر لنا من كلام ابن الجوزي ما يلي:

أوّلًا: إنَّ الحنابلة اتّجهوا نحو التجسيم والتشبيه.

ثانياً: إنَّهم غالوا في هذا الأمر وتعصَّبوا له.

ثالثاً: إنَّهم اعتمدوا في موقفهم على الروايات وغالوا في شأنها.

رابعاً: إنَّهم خالفوا بذلك مذهب إمامهم ابن حنبل.

خامساً: إنَّهم ادَّعوا تمثيل أهل السنَّة.

سادساً: إنَّ ابن الجوزي الحنبلي رفضهم واعتبرهم منحرفين


1- انظر: دفع شبه التشبيه بأكفّ التنزيه. وابن الجوزي مدخل الكتاب.

ص: 34

عن مذهب ابن حنبل وعن عقيدة السلف.

ونأتي بعد ذلك إلى شاهد آخر من فقهاء أهل السنّة، وهو الحافظ ابن عساكر، الأشعري المُعتقَد.

وعقيدة الأشاعرة تُمثِّل القطاع الأكبر من أهل السنّة، وتليها عقيدة الماتريدي.

وقد أنزل الحنابلة في الماضي، وابن تيميّة من بعدهم، شتّى اللعنات والطعونات على الأشعري وأتباعه، وسار الوهابيّون على هذا النهج المُعادي للأشعري والأشاعرة.

ومن شدَّة موقف الحنابلة في الماضي من الأشعري، وتنقّصهم له ولعناتهم عليه؛ كان ردّ فعل ابن عساكر شديداً. وهو إنْ دلَّ على شئ، فإنَّما يدلُّ على أنَّ أهل السنّة كانوا مجتمعين على الأشعري ومتحيّزين له ضدّ الحنابلة وابن تيميّة أيضاً، وأنَّ الحنابلة لم يكونوا يمثِّلون أهل السنّة في تلك الفترة، وحتى في الفترات اللاحقة على ما سوف نبيِّن.

وهو ما دفع بابن عساكر للردِّ عليهم والدفاع عن الأشعري، وتوجيه سهامه للناقمين على الأشعري والأشاعرة؛ حيث نقل قول أبو القاسم القشيري عن فتنة عام 545 ه:

(هذه قصّة سمّيناها" شكاية أهل السنّة بحاكية ما نالهم من المحنة"، رفعها عبد الكريم بن هوازان القشيري إلى العلماء الأعلام بجميع بلاد الإسلام، ممّا ظهر بنيسابور من قضايا التقدير، في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمئة من الهجرة؛ ما دعا أهل الدين إلى شقِّ صدروهم صبراً، وكشف

ص: 35

قناع صبرهم، مّما أُحدث من لعن إمام الدِّين وسراج ذوي اليقين، محي السنَّة وقامع البدعة، وناصر الحق وناصح الخلق، الزكي الرضي أبي الحسن الأشعري. وهو الذي ذبَّ عن الدِّين بأوضح حُجج، وسلك في قمع المعتزلة وسائر أنواع المبتدعة أبيَن نهج، ولما من الله الكريم على الإسلام.

بزمان السلطان المعظَّم المُحكّم بالقوَّة السماوية في رقاب الأُمم، الملك الأجل شاهنشاه، يمين خليفة الله وغياث عباد الله طغرل بك، أبي طالب محمد بن ميكائيل. وقام بإحياء السنَّة والمناضلة عن الملَّة، حتى لم يبقَ من أصناف المبتدعة حزباً إلّا سلَّ لاستئصالهم سيفاً غضباً، وأذاقهم ذلًا وخسفاً، وعقَّب لآثارهم نسفاً؛ فسعوا إلى عالي مجلس السلطان المعظَّم بنوع نميمة، ونسبوا الأشعري إلى مذاهب ذميمة، وحكوا عنه مقالات لا يوجد في كُتبه منها حرف، وقد وعد الله للحقِّ نصره وظهوره، وللباطل محوه وثبوره.

إلّا أنَّ كُتب الأشعري في الآفاق مبثوثة، ومذاهبه عند أهل السنَّة من الفريقين معروفة ومشهورة، فمَن وصفه بالبدعة علم أنَّه غير محقّ في دعواه، وأنَّ جميع أهل السنَّة خصمه فيما افتراه.

وكتب الفقهاء بخطوطهم: اتَّفق أصحاب الحديث أنَّ أبا الحسن الأشعري كان إماماً من أئمَّة أصحاب الحديث، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلَّم في أصول الديانات على طريقة أهل السنَّة، وردَّ على المخالفين من أهل الزيغ

ص: 36

والبدعة، ومَن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبَّه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنَّة) (1)

ونستنتج ممَّا سبق أنَّ هجوم الحنابلة وابن تيميّة، ثُمَّ الوهابيّين من بعدهم، على الأشعري والأشاعرة، يعني الهجوم على أهل السنَّة، ويعني أيضاً رفض طريقة الأشعري وعقيدته، ممَّا يعني بالتبعية أنَّ الحنابلة وابن تيميّة والوهابيّين لا يمثِّلون أهل السنّة، ويتبنّون التجسيم والتشبيه، الذي تبرّأ منه الأشعري والأشاعرة.

أمّا الشاهد الثالث، فهو الحصني الحنبلي، الذي وضع كتاباً ضدَّ الحنابلة المتطرّفين المُجسِّمين والمُشبّهين في زمانه.

قال في مقدّمة كتابه: فإنَّ سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة، ما دهمني من الحيرة، من أقوام أخباث السريرة، يظهرون الانتماء إلى مذهب السيد الجليل الإمام أحمد، وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد.

والعجب أنَّهم يعظِّمونه على الملأ، ويتكاتمون إضلاله مع بقية الأئمّة، وهم أكفر ممَّن تمرَّد وجحد. ويُضلُّون عقول العوام وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني، وإظهار التعبّد والتقشُّف، وقراءة الأحاديث ويعنون بالمُسند، وكلّ ذلك خُزعبَلات منهم وتمويه، وقد انكشف أمرهم حتى لبعض العوام.

وبهذه الأحرف يظهر الأمر- إنْ شاء الله تعالى- لكلِّ أحد إلّا


1- انظر: تبيين كذب المفتري فيما نسب للأشعري، ج 1، صص 110- 113 بتصرف. وابن عساكر تُوفِّي عام 571 ه.

ص: 37

لمَن أراد الله عزَّ وجل إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد.

وهذا الكلام موجَّه لابن تيميّة وأتباعه، بعد أنْ تجرَّأ بنفي خلود العذاب وسرمديّته، أو القول بفناء النار، وانحرف عن معتقد ابن حنبل.

وقال: إنَّ أهل التشبيه والتجسيم، والمُزدرين سيّد الأوَّلين والآخرين، تبعاً لسلالة القردة والخنازير، لهم وجود وفيهم كثرة، وقد أخذوا بعقول كثير من الناس، لِما يزيِّنون لهم من الإطراء على قدوتهم، وُيزخرفون لهم بالأقوال والأفعال، ويموِّهون لهم بإظهار التنسّك والإقبال على كثرة الصلاة والصوم والحج والتلاوة، وغير ذلك .. ممَّا يحسن في قلوب كثير من الرجال، لاسيّما العوام المائلين مع كل ريح، أتباع الدجَّال. فانقادوا لهم بسبب ذلك، وأوقعوهم في أسرِ المهالك، فرأيت بسبب هذه المكايد والخزعبلات، أنْ أتعرَّض لسوء عقيدتهم؛ قمعاً لهذا الزائغ عن طريق الحقّ، وهم الأئمَّة الأربعة، المُقتدى بهم والمعوَّل عليهم في جميع الأعصار والأقطار، وأذكر ما وقع لهذا الرجل من الحيدة عن طريق هذه الأئمَّة، وأذكر ما انطوى باطنه الخبيث عليه، وما عوَّل في الإفساد بالتصريح أو بالإشارة إليه، ولو ذكرت كثيراً ممّا ذكره ودوَّنه في كتبه المختصرات، لطال جدّاً، فضلًا عن المبسوطات.

قال بعض علماء الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس: لو اطَّلع الحصني على ما اطَّلعنا عليه من كلامه، لأخرجه من قبره وأحرقه.

ص: 38

فأوَّل ما سلكه من المكر والخديعة، أنْ انتمى إلى مذهب الإمام أحمد، وأخذ يدوّن ويذكر أنَّه جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس لذلك حقيقة.

وقال الرسول (ص): (ألا إنَّ الفتنة هنا، ويشير إلى المشرق، حيث يطلع قرن الشيطان).

وفي رواية أُخرى: (خرج رسول الله من بيت عائشة فقال: رأس الكفر ههنا، من حيث يطلع قرن الشيطان).

وهذا المبتدع- ابن تيميّة- من حرّان الشرق، بلدة لا تزال يخرج منها أهل البِدع، كجعد وغيره.

ومن أحاديث الخوارج: (سيماهم التحليق، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم).

فقد أوضحهم سيّد الناصحين (ص)، باعتبار أوصافهم وأماكنهم، إيضاحاً جليّاً لا خفاء فيه ولاجهالة، فلا يتوقَّف في معرفتهم بعد ذلك إلّا مَن أراد الله تعالى إضلاله.

وإذا تمهّد لك أيها الراغب في فكاك نفسك من رِبقة عقائد أهل الزيغ الضالين المضلِّين، والاقتداء بأهل السلامة في الدِّين؛ فاعلم إنَّي نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ، المتّبع ما تشابه في الكتاب والسنّة ابتغاء الفتنة، وتبعه على ذلك خلق من العوام، وغيرهم ممَّن أراد الله إهلاكه، فوجدت فيه ما لاأقدر على النطق به، ولالي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره؛ لما فيه من تكذيب ربِّ العالمين، في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين، وكذا الازدراء

ص: 39

بأصفيائه المُنتخبين، وخلفائهم الراشدين، وأتباعهم الموفَّقين. فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمَّة المتَّقون، وما اتّفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدِّين، فمنه ما دُوّن في المصنّفات، ومنه ما جاءت به المراسيم العُليا وأجمع عليه علماء عصره، ممَّن يُرجع إليهم في الأمور والملمَّات، والقضايا المهمّات، وتضمَّنته الفتاوى الزكيّات من دنس أهل الجهالات، ولم يختلف عليه أحد، كما اشتُهر بالقراءة والمناداة على رءوس الأشهاد، في المجامع والجامعة، حتى شاع وذاع، واتّسع به الباع.

ومن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني، ناصر الدين والدنيا محمد بن قلاوون، وقُرئ على منبر جامع دمشق، نهار الجمعة سنة خمس وسبعمئة، وصورته:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تنزَّه عن التشبيه والنظر. وتعالى عن المثل، فقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ.

أحمده على ما ألهمنا من العمل بالسنَّة والكتاب، ورفع في أيامنا أسباب الشكّ والارتياب.

وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، شهادة مَن يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير، وينزِّه خالقه عن التحيّز في وجهة، لقوله تعالى وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

وأشهد أنَّ سيدنا محمد عبده ورسوله (ص)، الذي نهج سبيل

ص: 40

النجاة لمَن سلك سبيل مرضاته، وأمر بالتفكّر في الآيات، ونهى عن التفكّر في ذاته، وأصحابه الذين علا بهم منازل الإيمان، وارتفع وشيَّد بهم من قواعد الدين الحنيفيّ ما شرع، وأخمد بهم كلمة مَن حاد عن الحقِّ ومال إلى البِدع.

وبعد .. فإنَّ القواعد الشرعية، وقواعد الإسلام المرعيّة، وأركان الإيمان العملية، ومذاهب الدين المرضية، هي الأساس الذي يُبنى عليه، والموئل الذي يرجع كل مَن حاد إليه، والطريق الذي مَن سلكها فاز فوزاً عظيماً، ومَن زاغ عنها فقد استوجب عذاباً أليماً؛ ولهذا يجب أن تنعقد أحكامها، ويؤكّد دوامها، وتنصان عقائد هذه الأُمّة من الاختلاف، وتُزان بالرحمة والعطف والائتلاف، وتخمد ثوائر البدع، ويُفرَّق مَن فرَّقها ما اجتمع.

وكان ابن تيميّة في هذه المدَّة قد بسط لسان قلمه، ومدَّ بجهله عنان كلمه، وتحدَّث بمسائل الذات والصفات، ونصَّ في كلامه الفاسد على أمور مُنكرات، وتكلَّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاهَ بما اجتنبه الأئمَّة والأعلام الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمَّة الإسلام، وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكَّام، وشهر من فتاويه ما استخفَّ به عقول العوام، وخالف في ذلك فقهاء عصر، وأعلام علماء شامه ومصره، وبثَّ به رسائله إلى كلِّ مكان، وسمّى فتاويه بأسماء ما أُنزل بها من سلطان.

ولما اتّصل بنا ذلك، وما سلك به هو ومريدوه من هذه

ص: 41

المسالك الخبيثة، وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخفّ قومه فأطاعوه. حتى اتّصل بنا أنّهم صرّحوا في حق الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم، فقمنا في نصرة الله مُشفقين من هذا النبأ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وعزنا أن يشيع عمَّن تضمنه ممالكه هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله تعالى سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، فإنّه سبحانه وتعالى تنزَّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. فتقدّمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيميّة المذكور إلى أبوابنا، حينما سارت فتاواه الباطلة في شامنا ومصرنا، وصرَّح فيها بألفاظٍ ما سمعها ذو فهم إلّا وتلا قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً.

ولمّا وصل إلينا الجمع، أولوا العقد والحلّ، وذوو التحقيق والنقل، وحضر قضاة الإسلام وحكّام الأنام، وعلماء المسلمين وأئمّة الدنيا والدِّين، وعُقد له مجلس شرعي في ملأ من الأئمّة، وجمع، مَن له دراية في مجال النظر ودفع، فثبت عندهم جميع ما نُسب إليه، بقول مَن يعتمد عليه ويعول عليه، وبمقتضى خطِّ قلمه الدال على منكر معتقده، وانفصل ذلك الجمع، وهم لعقيدته الخبيثة منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه تالين سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ.

وبلغنا أنّه قد استُتيب مراراً فيما تقدَّم، وأخره الشرع الشريف لما تعرّض لذلك وأقدم، ثُمَّ عاد بعد منعه، ولم يدخل

ص: 42

في سمعه. ولمّا ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي، حكم الشرع الشريف أن يُسجن هذا المذكور، ويمنع من التصرّف والظهور، ويكتب مرسومنا هذا بأنْ لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسائل، وينهى عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك، أو يعود له في هذا القول متّبعاً، أو لهذه الألفاظ مستمعاً، أو يسري في التشبيه مسراه، أو يفوه بجهة العلوّ بما فاه، أو يتحدَّث أحد بحرف أو صوت، أو يفوه بذلك إلى الموت، أو ينطق بتجسيم، أو يحيد عن الطريق المستقيم، أو يخرج عن رأي الأئمّة، أو ينفرد به عن العلماء، أو يحيّز الله سبحانه وتعالى في جهة، أو يتعرّض إلى حيث وكيف، فليس لمُعتقِد هذا إلّا السيف.

فليقف كلّ واحد عند هذا الحدّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وليلزم كل واحد من الحنابلة بالرجوع عن كل ما أنكره الأئمّة من العقيدة، والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به، والتمسّك بمسالك أهل الإيمان الحميدة، فإنّه مَن خرج عن أمر الله فقد ضلَّ سواء السبيل، ومثل هذا ليس له إلّا التنكيل، والسجن الطويل مستقرّه ومقيله وبئس المقيل، وقد رسمنا بأن يُنادى في دمشق المحروسة والبلاد الشاميّة، وتلك الجهات الدنيَّة والقَصيَّة، بالنهي الشديد والتخويف والتهديد، لمَن اتّبع ابن تيميّة في هذا الأمر الذي أوضحناه، ومَن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه، ووضعناه من عيون الأُمّة كما وضعناه. ومَن أصرَّ على

ص: 43

الامتناع، وأبى إلّا الدفاع، أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم، وأسقطناهم من مراتبهم مع إهانتهم، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولاولاية، ولاشهادة ولاإمامة، بل ولامرتبة ولاإقامة، فإنّا أنزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد، وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضلّ بها كثيراً من العباد أو كاد، بل كم أضلَّ بها من خلق وعاثوا بها في الأرض الفساد، ولتُثبت المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك، وتسير المحاضر بعد إثباتها على قضاة المالكية، وقد أعذرنا وحذَّرنا وأنصفنا حين أنذرنا، وليُقرأ مرسومنا الشريف على المنابر، ليكون أبلغ واعظ وزاجر لكلّ باد وحاضر، والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه.

كُتب في الثامن والعشرين من شهر رمضان، سنة خمس وسبعمئة.

قال الحصني: وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب عيون التاريخ، وهو ابن شاكر، ويُعرَف بصلاح الدين الكتبي، وكان من أتباع ابن تيميّة، وضُرب الضرب البليغ، لكونه قال للمؤذِّن في مئذنة العروس وقت السحر: أشركت. حين قال:

ألا يا رسول الله أنت وسيلتي

إلى الله في غفران ذنبي وذلّتي وأرادوا ضرب عنقه ثُمَّ جدَّدوا إسلامه، وإنّما ذكر ما قاله لأنَّه أُبلغ في حقّ ابن تيميّة في إقامة الحجَّة عليه، مع أنّه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه، لما فيها من المبالغة في إهانتة قدوته. والعجب أنَّ ابن تيميّة ذكرها وهو سكت عنها!

ص: 44

ابن تيميّة والاستواء

قال الحصني: فمن ذلك ما أخبر به أبو الحسن على الدمشقي في صحن الجامع الأموي عن أبيه، قال: كنّا جلوساً في مجلس ابن تيميّة، فذكر ووعظ وتعرَّض لآيات الاستواء، ثُمَّ قال: واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا.

قال: فوثب الناس عليه وثبة واحدة، وأنزلوه من الكرسي، وبادروا إليه ضرباً باللَكم والنعال وغير ذلك، حتى أوصلوه إلى بعض الحكّام، واجتمع في ذلك مجلس العلماء، فشرعَ يناظرهم.

فقالوا: ما الدليل على ما صدر منك؟

فقال: قوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.

فضحكوا منه، وعرفوا أنّه جاهل لا يجري على قواعد العلم.

فقالوا: ما تقول في قوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ؟

فأجاب بأجوبة تحقّقوا أنّه من الجهلة على التحقيق، وأنّه لا يدري ما يقول.

وكان قد غرَّه بنفسه ثناء العوام عليه، وكذا الحامدين من الفقهاء العارين من العلوم التي بها يجمع شمل الأدلَّة على الوجه المرضي.

وقد رأيت في فتاويه ما يتعلَّق بمسالة الاستواء وقد أطنب فيها، وذكر أموراً كلها تلبيسات وتجرّيات خارجة عن قواعد أهل الحق، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحسن

ص: 45

رؤية، ظنَّ أنّها على منوال مرضي. ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله، (أنّ الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة)، وغيره ممَّا هو كثير في كلامه، يتحقّق بها جهله وفساد تصوّره وبلادته.

وكان بعضهم يسمِّيه حاطب ليل.

وبعضهم يسمِّيه الهدار المهدار.

وكان الإمام العلّامة شيخ الإسلام في زمانه، أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي، يصرِّح بأنّه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول، ويخبر أنَّه أخذ مسألة التفرقة عن شيخه، الذي تلقاها من أفراخ السامرة واليهود، الذين أظهروا التشرّف بالإسلام.

وقد وقفت على المسألة، أعني مسألة التفرقة، التي أثارها اليهود ليزدروا النبي (ص) بها، وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الاشتقاق، وكانوا يقطعون بها على الضعفاء من العلماء، فتصدَّى لهم الجهابذة من العلماء، وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل، والاستعمال الشرعي والعرف، وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الأعناق، ولم يبقَ منهم إلّا الضعفاء في العلم، ودامت فيهم مسألة التفرقة حتى تلقّاها ابن تيميّة عن شيخه، وكنت أظنّ ابتكرها.

واتّفق الحذّاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه، وكثرة خطئه، وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصوّرها، عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم.

ص: 46

ثُمَّ استعرض الحصني بعد ذلك ما ذكره ابن شاكر في تاريخه، في حوادث سنة خمس وسبعمئة، في الثامن من رجب، والمحاكمات التي جرت لابن تيميّة بسبب ما قاله في عقيدته الواسطية، وإشهاد ابن تيميّة على نفسه أنّه شافعي المذهب والمعتقَد.

ثُمَّ عقد له مجلس ثان في أمر العقيدة، بعد أن تظاهر أتباعه بأقواله وقالوا إنَّ الحقّ معه، فأُحضروا إلى مجلس القاضي جلال الدين القزويني، وأُحضر ابن تيميّة، وصُفع ورُسم تعزيره.

ثُمَّ عقد له مجلس ثالث في أمر العقيدة، وطُلب إلى مصر بعد وقوع أشياء كثيرة من الحنابلة فيها، وعقد له مجلس بقلعة القاهرة، بحضور القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء.

وقام الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي فادَّعى على ابن تيميّة في أمر العقيدة، فذكر منها فصولًا، فشرع ابن تيميّة فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وتكلَّم بما يقتضي الوعظ.

فقيل له: يا شيخ، إنَّ الذي تقوله نحن نعرفه، وما لنا حاجة إلى وعظك، وقد ادَّعى عليك بدعوى شرعية فأجب.

فأراد ابن تيميّة أن يعيد التحميد فلم يمكّنوه من ذلك، بل قيل له: أجب.

فتوقَّف وكرّر عليه القول مراراً، فلم يزدهم على ذلك شيئاً وطال الأمر.

وعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه في برجٍ من أبراج

ص: 47

القلعة، فتردَّد إليه جماعة من الأُمراء، فسمع القاضي بذلك، فاجتمع بالأُمراء وقال: يجب عليه التضييق إذا لم يُقتل، وإلَّا فقد وجب قتله وثبت كفره.

ووصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم الدين بن صصري، وكانوا قد بيّتوا على الحنابلة كلّهم بأن يحضروا إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموي بعد الصلاة، وحضر القضاة كلّهم وقضاة العسكر، ونظر الأوقاف وقُرئ مرسوم السلطان، وفيه ما يتعلَّق بابن تيميّة في عقيدته، وإلزام الناس بذلك، خصوصاً الحنابلة، والوعد الشديد عليهم، والعزل من المناصب والحبس، وأخذ الأموال والروح؛ لخروجهم بهذه العقيدة عن الملّة المحمدية.

وأحضروا بعد القراءة الحنابلة، واعترفوا أنّهم يعتقدون ما يعتقده الشافعي.

ثُمَّ حُبس ابن تيميّة بعد ذلك؛ بسبب مسألة الطلاق وقوله بمنع شدّ الرحال.

ونقل الحصني كلامَ الذهبي عمّا ذكر ابن تيميّة في عقيدته الواسطية، وكان ممّا ادُّعي عليه بمصر أنّه قال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى حقيقة، وأنَّه تكلَّم بحرف وصوت.

ثُمَّ نُودي بدمشق وغيرها: مَن كان على عقيدة ابن تيميّة حلَّ ماله ودمه.

ونُقل عن ابن حيّان النحوي الأندلسي، صاحب تفسير (النهر)، أنّه قرأ في كتاب لابن تيميّة بخطِّه، سمّاه (العرش):

ص: 48

أنّ الله يجلس على الكرسي، وقد أخلى مكاناً يقعد فيه رسول الله (ص).

وقال: رأيت في بعض فتاويه أنّ الكرسي موضع القدمين.

وفي كتابه المسمَّى بالتدمريَّة ما هذا لفظه بحروفه.

وقال ابن تيميّة في الكلام على حديث النزول المشهور: إنَّ الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مَرجَةٍ خضراء، وفي رجليه نعلان من ذهب.

وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه، حريصاً على ظاهرها واعتقادها، وإبطال ما نزَّه الله به نفسه في أشرف كتبه.

وهذا الخبيث لا يعرِّج على ما فيه من التنزيه، وإنّما يتَّبع المتشابه ويمعن الكلام فيه، وذلك من أعظم الأدلّة على أنّه من أعظم الزائغين.

واستطرد الحصني، عارضاً العديد من أقوال السلَف المتعلِّقة بصفات الله سبحانه، من باب الردِّ على ابن تيميّة، وإثبات مخالفته لعقائدهم في قوله بالتجسيم، وقِدم العالم، والاستغاثة والتوسّل، وتحريم شدّ الرحال (1)

وقال تقي الدِّين السبكي: أمَّا بعد. فإنّه لمَّا أحدث ابن تيميّة ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مُستتراً بتبعيَّة الكتاب والسنّة،


1- انظر: دفع شبه مَن شبّه وتمرّد على الإمام أحمد، لتقي الدين الحصني الحنبلي الدمشقي.

ص: 49

مظهراً أنّه داع إلى الحق هاد إلى الجنّة، فخرج من الاتّباع إلى الابتداع، وشذَّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجِسمية والتركيب في الذات المقدّس، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وتعدَّى في ذلك إلى استلزام قدم العالم، والتزامه بالقول بأنّه لا أوَّل للمخلوقات، فقال بحوادث لا أوَّل لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة، والمخلوق الحادث قديماً، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملَّة من الملل، ولانِحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين، والتي افترقت عليها الأُمَّة، ولاوقفت به مع أُمّة من الأمم همة. وكلّ ذلك وإنْ كان كفراً شنيعاً، ممّا تقلّ جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع ... (1)

وممّا سبق عرضه يتبيّن لنا:

أنَّ فريق الحنابلة المتطرّفين المُجسّمين، الذين انشقّوا على مذهب ابن حنبل وعقيدته، وانشقّوا بالتالي على عقيدة أهل السنّة، هم الذين انحاز لهم ابن تيميّة وأحيى أفكارهم، وجاء الوهابيّون فانحازوا لابن تيميّة، وأحيوا أفكاره ومعتقداته.

اعتقادات أهل السُنَّة

لخَّص لنا في كتابه (شرح اعتقادات أهل السنّة) اعتقادات


1- انظر: الدرّة المضيئة في الردّ على ابن تيميّة، السبكي.

ص: 50

السلَف في باب تحت عنوان: (ما رُوي من المأثور عن السلف في جمل اعتقاد أهل السنَّة).

أوّلًا: اعتقاد الثوري: القرآن كلام الله غير مخلوق، والإيمان قول وعمل ونيَّة، ويزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي، تقدمة الشيخين، لا نشهد لأحد بجنّة ولانار إلّا للعشرة المبشَّرين، المسح على الخفّين، إخفاء البسملة، الإيمان بالقَدر خيره وشرّه، الصلاة وراء كل برٍّ وفاجر، والجهاد ماض وراء كل أمير، والصبر تحت لواء السلطان، جائر أم عدل.

ثانياً: اعتقاد سفيان بن عيينه: إثبات القدر وتقديم أبي بكر وعمر، والإيمان بالحوض والشفاعة، والميزان والصراط، وعذاب القبر والبعث، والإيمان قول وعمل، والقرآن كلام الله، ولاتقطعوا بالشهادة لمسلم.

ثالثاً: اعتقاد ابن حنبل: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، القرآن كلام الله وليس بمخلوق، الإيمان بالميزان والحوض وعذاب القبر والشفاعة، وأنَّ الله يكلّم العباد يوم القيامة، ليس بينهم وبينه ترجمان، الإيمان قول وعمل، خير هذه الأُمّة أبو بكر وعمر وعثمان، بعد هؤلاء أصحاب الشورى الخمسة، وكلّهم يصلح للخلافة وكلّهم إمام، السمع والطاعة للأئمّة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر، الغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة، البرّ والفاجر، دفع الصدقات إليهم والصلاة خلفهم وعدم الخروج عليهم وقتالهم ..

رابعاً: اعتقاد علي بن المديني: الإيمان بالقدر خيره وشرّه،

ص: 51

التصديق بالأحاديث والإيمان بها، القرآن كلام الله غير مخلوق، الإيمان بالميزان والحوض، وعذاب القبر والشفاعة والمسيح الدجَّال، الإيمان يزيد وينقص، ترك الصلاة كفر، تقديم أبي بكر وعمر وعثمان، السمع والطاعة للأئمّة والأمراء، البرّ والفاجر، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة، البرّ والفاجر، دفع الصدقات إليهم، والصلاة خلفهم، وعدم الخروج عليهم وقتالهم.

وكذلك اعتقادات أبي ثور الكلبي والبخاري، وأبي زرعة وسهل التستري والطبري وغيرهم .. (1)

وكتاب اللالكائي (شرح اعتقادات أهل السنّة) الذي حوى كل هذه العقائد، ليس فيه ذكر لمسألة الاستواء أو الجهة، أو ما يتعلَّق بسائر الصفات، فمثل هذه المسائل لم تأتِ على لسان السلَف، وإنّما توقَّفوا فيها على ما سوف نبيِّن.

والغريب أنّ الوهابيّين تبنّوا هذا الكتاب ونشروه، دون أن يدروا أنّه يكشف أكذوبتهم في نسبة التجسيم والتشبيه لأهل السنّة والسلَف.

كذلك نشرهم لكتاب (صريح السنَّة) للطبري، الذي لم يُشر فيه صاحبه لشي ء يتعلَّق بالصفات كما تبنّاها الحنابلة وابن تيميّة والوهابيّين.

وسوف نعرض هنا نماذج من أقوال السلف، حول مسألة الصفات والاستواء والعرش وغيرها.


1- شرح اعتقادات اهل السنة، ج 1، ص 170، ص 206.

ص: 52

اشتهر من جواب أبي علي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء، فقال: لا نعرف أنباء الغيب إلّا ما كُشف لنا، وقد أعلمنا جلَّ ذكره أنَّه استوى على عرشه، ولم يخبر كيف استوى، ومَن اعتقد أنَّ الله مفتقر للعرش أو لغيره من المخلوقات، أو أنَّ استواءه على العرش كاستواء المخلوقات على كرسيّه، فهو ضالّ مبتدع؛ فكان الله ولازمان ولامكان، وهو الآن على ما عليه كان.

ومنها نزول الربِّ سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه بنزول المخلوقين، ولاتمثيل ولاتكييف، بل يُثبت الحنابلة ما أثبته رسول الله (ص)، ويُمرّون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويَكلون علمه إلى الله تعالى.

وكذلك ما أنزل الله عزَّ اسمه في كتابه من ذكر المجي ء والإتيان، المذكورين في قوله تعالى وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ ... (1)، وفي قوله ... يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ... (2)

ونؤمن بذلك بلا كيف، فلو شاء سبحانه أن يبيِّن لنا كيفية ذلك فعل، فانتهينا إلى ما أحكمه وكففنا عن الذي يتشابه.

وقال مالك 2 إيّاكم والبدع، قيل وما البِدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلَّمون في أسماء الله تعالى وصفاته، وكلامه وعلمه وقدرته .. لا يسكتون عمّا سكت عنه الصحابة والتابعون.

وفي صحف إدريس: لا تروموا أن تحيطوا بالله خبرة؛ فإنّه


1- الفجر: 22.
2- البقرة: 210.

ص: 53

أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين.

قال ابن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه.

وقال بعض السلف: قدم الإسلام لا يثبت إلّا على قنطرة التسليم.

قال الإمام الشافعي (رحمه الله تعالى): (آمنت بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى مراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) نقله عنه الإمام أبو الحسن اللبوذي الحنبلي في كتابه اللُمع في السُنن والبِدع، وقال: بعد وعلى هذا درج أئمّة السلف.

وسيأتي في التتمّة الخامسة ذكر كلام الشيخ الأشعري، وأنّه موافق للإمام أحمد في الاعتقاد، وأنّه يُجري المتشابهات على ما قاله الله من غير تصرّف ولاتأويل، كما هو مذهب السلف، وعليه فلا خلاف ولانزاع والحمد لله (1)

وقال الشافعي: (آمنت بلا تشبيه وصدَّقت بلا تمثيل، واتَّهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك) (2)

وقال ابن حنبل: (إنَّ الله عزَّ وجلّ لم يكن موصوفاً حتى وصفه الواصفون، فهو بذلك خارج عن الدين) (3)


1- انظر: العين والأثر في عقائد أهل الأثر، ج 1، صص 5- 63.
2- انظر: دفع شبه من شبّه وتمرد، ط القاهرة، لتقي الدين الحصني، ص 18.
3- اعتقاد الإمام المبجّل أحمد بن حنبل، ص 1.

ص: 54

وقال القنوجي: (مذهب السلَف إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمّة الإسلام، كمالك والشافعي، والثوري والأوزاعي، وابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المُقتدى بهم، كالفضيل بن عياض وسهل التستري وأبي سليمان الدارني وغيرهم، وكذلك أبو حنيفة، فإنَّ الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء) (1)

وقال الغزالي: (حقيقة مذهب السلف أنَّ كل مَن بلغه حديث من هذه الأحاديث أحاديث الصفات- من عوام الخلق، عليه سبعة أمور: التقديس والتصديق، ثُمَّ الاعتراف بالعجز ثُمَّ السكوت ثُمَّ الإمساك، ثُمَّ الكفّ ثُمَّ التسليم لأهل المعرفة.

أمّا التقديس، فأعني به تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الجسمية.

وأمّا التصديق، فهو الإيمان بما قاله (ص)، وأنَّ ما ذكره حقّ، وهو فيما قاله صادق، وأنَّه حقّ على الوجه الذي قاله وأراده.

وأمّا الاعتراف بالعجز، فهو أن يُقرّ بأنَّ مراده ليست على قدر طاقته، وأنَّ ذلك ليس من شأنه وحرفته.

وأما السكوت، بأنْ لا يسأل عن معناه، ولايخوض فيه، ويعلم أنَّ سؤاله عنه بِدعة، وأنَّ في خوضه فيه مخاطر بدينه، وأنَّه يُوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر.


1- انظر: قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، ص 47، والقنوجي توفّي عام 1307 ه.

ص: 55

وأمّا الإمساك، فأنْ لا يتعرَّض في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل، بلُغة أُخرى، والزيادة والنقصان، والجمع والتفريق، بل لا ينطق إلَّا بذلك اللفظ، وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف.

وأما الكفّ، بأنْ يكفّ باطنه عن البحث فيه والتفكّر فيه.

وأمّا التسليم لأهله، بأن لا يعتقد أنَّ ذلك إنْ خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله (ص)، أو الأنبياء أو الصدّيقين أو الأولياء) (1)

وقال الشوكاني: (ومن جملة الصفات التي مرَّرها السلف على ظاهرها، وأجروها على ما جاء به القرآن والسنّة، من دون تكلُّف ولاتأويل، صفة الاستواء؛ يقولون: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، من استواء على عرشه، على هيئة لا يعلمها إلّا هو، وكيفيّة لا يدري بها سواه، ولانكلِّف أنفسنا غير هذا، فليس مثله شي ء، لا في ذاته ولافي صفاته، ولايحيط عباده به علماً. وهكذا يقولون في مسألة الجهة.

لكن لمّا وقعت تلك القلاقل والزلازل، الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية؛ كثر الكلام فيها وفي مسألة الاستواء وطال، وسيّما بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب، فلهم في ذلك الفتن الكبرى والملاحم العظمى، ومازالوا هكذا في عصر بعد عصر) (2)


1- انظر: إلجام العوام عن علم الكلام، ط القاهرة، ص 15، وهو آخر تصانيفه.
2- انظر: التحف في مذاهب السلف، ص 76، والشوكاني توفّي عام 1255 ه.

ص: 56

وقال ابن قدامه: (ومذهب السلَف الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه، التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله، أو على لسان رسوله، من غير زيادة عليها ولانقص منها ولاتجاوز لها، لا تفسير ولاتأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولاتشبيه بصفات المخلوقين ولاسمات المُحدَثين، بل أمرّوها كما جاءت، وردُّوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلِّم بها.

ونقل عن محمد بن الحسن قوله: اتّفق العلماء كلّهم من الشرق والغرب، على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله (ص)، في صفة الربِّ عزَّ وجلّ، من غير تفسير ولاوصف ولاتشبيه، فمَن فسَّر شيئاً من ذلك فقد خرج ممَّا كان عليه النبي (ص) وفارق الجماعة) (1)

منشورات الوهابية

كان تبنّي الوهابية لطرح ابن تيميّة المُجسّم والمشبّه، واعتباره شيخ الإسلام ومُمثِّل السلَف والأنام، والناطق بلسان أهل السنّة الكرام، والمعبِّر عن إجماع الأمّة دون خلاف وخصام؛ يعدّ دليلًا قاطعاً على تبنّيهم التجسيم والتشبيه.

ولمّا كان ابن تيميّة قد خاصمه الفقهاء ورفضوه، وحذَّروا المسلمين من معتقداته وأفكاره؛ أصبحت معتقدات وأفكار الوهابيّين محلّ رفض الفقهاء، ويجب تحذير المسلمين منها،


1- انظر: ذمّ التأويل. صص 3 و 6 وابن قدامة توفّي عام 620 ه.

ص: 57

وهو ما يوجب الحكم عليها بأنّها لا تعبِّر عن أهل السنّة، بل تتصادم مع معتقداتهم.

وهذا يقودنا للحكم بأنَّ الوهابيّين يكذبون على أهل السنّة والسلف، حين يحاولون إلصاق عقائدهم وأفكارهم بهم.

والوهابيّون يحاولون تضليل المسلمين، عن طريق ما يصدرونه من منشورات عقائدية تدعم فكرة التجسيم والتشبيه، منسوبة لأهل السنّة؛ الأمر الذي ينطلي على العوام والبسطاء، وهم أتباع الوهابيّين، ولاينطلي على أهل العلم والباحثين المحقِّقين النَبهِين.

ومن أمثلة هذه المنشورات:

العرش العبسي.

السنَّة للخلال.

رسالة البربهاري.

نقض عثمان الدارمي.

الصفات للدارقطني.

الاستواء والفوقية والحرف والصوت للجويني.

الأربعين في دلائل التوحيد للهروي.

الحجَّة في بيان المَحجَّة للأصبهاني.

الفتيا وجوابها للهمداني.

اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.

الكافية الشافية في شرح عقيد الفرقة الناجية لابن القيم.

وغير هذا كثير ..

ص: 58

ومن بين منشورات الوهابيّين المعاصرة، التي تدلّ على تبنّيهم معتقد التجسيم والتشبيه، سيراً على نهج إمامهم ابن تيميّة؛ منشور تحت عنوان (العرش)، لمحمد بن عثمان العبسي، المتوفّى عام 297 ه، وهي رسالة صغيرة، حشد فيها مؤلّفها عشرات الروايات التي تتعلَّق بعرش الله سبحانه، والتي تقود إلى التجسيم.

ومن هذه الروايات:

رواية تقول: إنَّ عرشه على سماواته وأرضيه هكذا. وقال بأصابعه مثل القُبَّة. وصف ذلك وهب، وأمال كفّه وأصابعه اليمنى وقال: هكذا، وإنّه ليَئطّ به أطيط الرَحل بالراكب.

ورواية أُخرى تقول: الكرسي موضع القدمين، وله أطيطٌ كأطيطِ الرَحل.

ورواية تقول: العرش مسيرة خمسين ألف سنة.

ورواية تقول: العرش على ملك من لؤلؤة في صورة ديك، رجلاه في التخوم السفلى، وعنقه مثنيّة تحت العرش.

ورواية تقول: أرسل ابن عمر إلى ابن عباس يسأله: هل رأى محمد ربَّه؟

فأرسل إليه ابن عباس: أنْ نعم.

فردَّ عليه ابن عمر رسوله: أنْ كيف رآه؟

قال: رآه في روضة خضرة، روضة من الفردوس، دونه فراش من ذهب على سرير من ذهب، يحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة

ص: 59

أسد، وملك في صورة نسر (1)

وفي قصيدة لعبد الله بن سليمان الأشعث، المتوفّى عام 316 ه، ذمَّ فيها أهل البِدع ومدح أهل الحديث قال:

وقل يتجلّى الله للخلق جهرة كما البدر لا يخفى وربّك أوضح

وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا بمصداق ما قلنا حديث مصرّح

وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه وكلتا يديه بالفواصل تفضح

وقل ينزل الجبار كل ليلة بلا كيف جلّ الواحد المتمدّح

روى ذاك قوم لا يُردّ حديثهم ألا خاب قوم كذّبوا وقبحوا (2)

وفي كتاب (السُنَّة) لأبي بكر الخلال، المتوفّى عام 311 ه. قال في باب ذكر المقام المحمود عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.

استعرض الروايات التالية:

* إذا كان يوم القيامة، جي ء بنبيّكم صلى الله عليه وسلّم فأُقعد بين يدي الله على كرسيّه.

* إنَّ محمداً يوم القيامة بين يدي الربِّ على كرسي الربّ.

* إنَّ الله يجلسه معه على العرش.

وروى ما يلي:

* مَن ردَّه- أي حديث الجلوس- فقد ردَّ على الله، ومَن كذَّب بفضيلة النبيّ فقد كفر بالله العظيم.

* مَن ردَّ هذا فهو متهم على الله ورسوله، وهو عندنا


1- العرش، حديث رقم 11 و 38 و 60 و 62 و 68.
2- ص 9، وما بعدها.

ص: 60

كافر.

* لا يردّ هذا إلّا متّهم.

* مَن ردَّ هذا الحديث فهو جهمي.

* لا يردّه إلّا أهل البِدع.

* مَن رد فضيلة الرسول (ص) فهو عندنا كافر مرتدّ عن الإسلام (1)

وقد تسبَّب الحنابلة بتبنّيهم هذه الرواية في إحداث العديد من الفتن مع خصومهم من أهل السنّة، وقد اعتدوا على الطبري المفسِّر، بسبب رفضه لهذه الرواية.

وقال الذهبي: (يقعد أو يجلس على العرش .. لهذا القول طُرق خمسة، وأمّا قضية قعود نبيّنا على العرش، فلم يثبت في ذلك نصّ، بل في الباب حديث واه) (2)

ونشر الوهابيّون (شرح السنّة) للبربهاري الحنبلي المتطرّف، المتوفّى عام 329 ه.

يقول في مقدّمة رسالته: (اعلم أنّ الإسلام هو السنّة، والسنّة هي الإسلام، ولايقوم أحدهما إلا بالآخر. فمن السنَّة لزوم الجماعة، ومَن رغب عن الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عُنقه، وكان ضالًّا مضلًّا.

والأساس الذي بنينا عليه الجماعة هم أصحاب الرسول (ص)، وهم أهل السنّة والجماعة، فمَن لم يأخذ عنهم فقد ضلَ


1- ح 1/ 209 باب رقم 24.
2- شرح منظومة ابن القيم، ج 1، ص 233.

ص: 61

وابتدع، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار).

وهذه دعوة صريحة للتمسّك بالرواية والجماعة، التي هي جماعة الحنابلة، التي يحاول أن يُظهر لنا البربهاري أنّها الممثّل الوحيد للإسلام.

وهذا الكلام هو امتداد لكلام ابن حنبل السابق، الذي ينفي الإسلام عن الاتّجاهات الأُخرى، التي تتبنَّى رؤية مختلفة تجاه الصحابة والروايات.

يقول البربهاري: (ولايخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يردّ آية من كتاب الله، أو يردّ شيئاً من آثار رسول الله، أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله. وإذا فعل شيئاً من ذلك، فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام).

ويبدو الغُلو والتطرّف في هذا الكلام من خلال ربط البربهاري الردّة عن الدين بإنكار الروايات، لا بإنكار القرآن وحده، وهو بهذا يكون قد ساوى بين الروايات وبين كتاب الله، وهذا قمَّة الغُلو والضلال. ثُمَّ قام بوضع بذرة العداء والمواجهة مع تيَّار الشيعة والمعتزلة والتصوّف؛ حين اعتبرهما من المُصلِّين لغير الله والذابحين لسواه، من الخارجين المرتدّين. وهو كلام موجَّه للتيار الصوفي والشيعي السائد في محيطهما فكرة التوسّل وزيارة الأضرحة والمقامات، والاحتفال بأصحابها، وهي الفكرة التي رفعت لواءها في العصر الحديث الحركة الوهابيّة، وبطشت بالمسلمين في جزيرة العرب على أساسها؛ باعتبار أنَّ الذين يتوسّلون بالأموات من الأولياء

ص: 62

والصالحين، وينذرون عند الأضرحة والمقامات ويقيمون الشعائر فيها؛ إنّما هم مشركون.

ثُمَّ أعطى البربهاري الرخصة الشرعية للحنابلة، كي يقوموا بواجبهم في مواجهة هؤلاء الخارجين عن الإسلام في منظوره.

وهو ما يقوم به الوهابيّون، والجماعات من حنابلة العصر، ويطبّقونه تطبيقاً عملياً في مواجهة المخالفين لهم، تحت شعار جهاد أصحاب البدع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويطالب البربهاري المسلمين بأن يصمّوا آذانهم ويغلقوا عقولهم، حين تواجههم رواية من الروايات التي تتعلّق بصفات الله تعالى تُثير الشكّ في نفوسهم.

يقول: (وكلّ ما سمعت من الآثار ممّا لم يبلغه عقلك، مثل:

قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان ..

وأنَّ الله ينزل إلى السماء الدنيا وينزل يوم عرفه ويوم القيامة ..

وأنَّ الله يضع قدمه في النار ..

وخلق آدم على صورته ..

وأشباه هذه الأحاديث، فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض والرضا، ولاتفسِّر شيئاً من هذا بهواك؛ فإنَّ الإيمان بها واجب، فمَن فسَّر شيئاً من هذا بهواه فهو جَهمي).

ص: 63

وهذه الأحاديث رفضها الشيعة والمعتزلة، وغيرهم من أهل الرأي والعقل.

كذلك قام بتأويلها الخلَف- أي مَن جاء بعد القرن الثالث وصرفها عن ظاهرها الذي يقود إلى التشبيه والتجسيم، كمحاولة لتجنّب رفضها والوقوع في الحرج أمام روايات يُسلِّم بها كافّة فقهاء أهل السنَّة.

واعتبار البربهاري مَن يفسِّر هذه الروايات أو يرفضها من الجهميَّة، يعني أنَّه من الكفّار؛ لكون الجهمي كافر في منظور الحنابلة.

وهو بهذا يحكم بكفر الخلَف من أهل السنّة الذين اتَّجهوا إلى تفسير هذه الروايات، بالإضافة إلى الشيعة والمعتزلة.

ويمضي البربهاري في تحريض المسلمين وتوطين الإرهاب في واقعهم بقوله: (وإذا سمعت الرجل يطعن في الآثار ولايقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله (ص)، فاتّهمه على الإسلام؛ فإنّه رجل ردي ء المذهب والقول).

ثُمَّ يقول: (وإيّاك والنظر في الكلام، والجلوس إلى أصحاب الكلام، وعليك بالآثار وأهل الآثار وإيّاهم فاسأل، ومعهم فاجلس، ومنهم فاقتبس ..

وإذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فاحذره واعرفه، فإنّه صاحب هوى).

ثُمَّ يختتم كلامه بمقالةٍ تنطق كفراً، يقول:

(فمَن أقرَّ بما في هذا الكتاب وآمن به واتَّخذه إماماً، ولم

ص: 64

يشكّ في حرف منه، فهو صاحب سنَّة وجماعة، كامل قد كملت به الجماعة.

ومَن جحد حرفاً ممّا في هذا الكتاب أو شك فيه أو وقف- أي لم يشك ولم يجزم أو يقرّ بصحّته-، فهو صاحب هوى) (1)

وهذا الكلام لا يجوز أن يُقال إلّا في حق كتاب الله تعالى، وهو برهان على تعصّبه لنفسه وإطراءه لها. وليس هذا من صفات أهل العلم، إنّما هو من صفات الحنابلة حملة الأسفار، أعداء العقول، ضيِّقو الأُفق، شديدو التطرّف قليلو الفهم. وهي من الصفات التي ورثها عنهم الوهابيّون والفرق المعاصرة.

ومن بين منشورات الوهابيّين، كتاب تحت عنوان (نقض عثمان بن سعيد الدارمي على المريسي الجهمي العنيد)، المتوفّى عام 380 ه، وهو ردّ على مَن أسموهم بالجهميَّة وأنصار التأويل.

قال الدارمي في مقدّمته: (أمّا بعد .. فقد عارض مذهبنا في الإنكار على الجهمية ممَّن بين ظهريكم معارض، وانتدب لنا منهم مناقض، ينقض ما روينا فيهم عن رسول الله (ص) بتفاسير المضلّ المريسي، بشر بن غياث الجهمي، فكان من صنع الله لنا في ذلك، اعتماد هذا المعارض على كلام بشر؛ إذ كان مشهوراً عند العامّة بأقبح الذكر، مُفتضحاً بضلالاته في كل مصر، ليكون بذلك أعون لنا على المعارض عند الخلق، وأنجع في قلوبهم لقبول الحق ومواضع الصدق.


1- الرسالة السنة، ص 58.

ص: 65

والمريسي ومَن سمَّاهم الحنابلة بالجهمية، يقولون بالتأويل ويرفضون التجسيم والتشبيه، ويعتبرون هؤلاء الحنابلة حَشوية مُشبِّهة.

وأقوالهم منتشرة بين أغلبية المسلمين، كما أشار صاحب الردِّ في مقدّمته، فهي تتوافق مع أقوال الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والشيعة في كثير من الجوانب.

والحنابلة يحاولون من خلال منشوراتهم تشويه هذا الاتّجاه وتحريض المسلمين عليه، والحقّ أنَّ حربهم على هذا الاتّجاه- في حقيقتها- هي حرب على أهل السنّة.

وقد تصدَّى الدارمي للمعارض المتبنّي لخطِّ المريسي بسرد عشرات الروايات التي تتعلَّق برؤية الله وتكليمه يوم القيامة، من قِبل المؤمنين ودون ترجمان. وروايات العرش، وغيرها من الروايات التي يعتمد عليها الحنابلة عادة في مواجهة خصومهم.

ووضع باباً تحت عنوان: (الإيمان بأسماء الله وأنَّها غير مخلوقة)، رفض فيه بقوّة فكرة تأويل أسماء الله، التي نسبها للمعارض.

وقال: (مَن ادّعى أنَّ صفة من صفات الله تعالى مخلوقة أو مستعارة فقد كفر وفجر).

ووضع باباً عنوانه: (ادّعاء المعارض أنَّ الله لا يُدرَك بالحواس الخمس).

وباب تحت عنوان (النزول) قال فيه: (إنَّ المعارض أنكر

ص: 66

حديث النزول، وادّعى أنَّ الله لا ينزل بنفسه، وإنّما ينزل أمره ورحمته، وهو على العرش بكلِّ مكان من غير زوال).

وكان ردّه هو: (وهذا من حُجج النساء والصبيان، ومَن ليس عنده بيان ولالمذهبه برهان؛ لأنَّ أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان).

وكلامه هذا إشارة واضحة للتجسيم، وأنّ الله تعالى ينزل بجسمه من السماء.

واستنكر تأويل المعارض لصفات الله على تفسير بشر المريسي.

وقال في باب الحدِّ والعرش: (وادَّعى المعارض أنَّه ليس لله حدّ ولاغاية ولانهاية، وهذا هو الأصل الذي بنى عليه (جهم) جميع ضلالاته، واشتقّ منها أُغلوطاته).

وهذه إشارة أيضاً إلى التجسيم؛ حيث يؤكّد تبنّيه فكرة الحدّ لله تعالى.

ونقل قول عبد الله بن المبارك: (مَن ادّعى أنَّه ليس لله حدّ فقد ردَّ القرآن، ومَن لايعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آياته).

وقال: (وقد اتَّفقت الكلمة، من المسلمين والكافرين، أنَّ الله في السماء وحدوده بذلك، إلّا المريسي الضالّ وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحدث قدعرفوه بذلك).

وفي رسالة للدارقطني، المتوفّى عام 385 ه، تحت عنوان (الصفات)، روى في باب ما جاء في القدمين رواية تقول:

ص: 67

(يلقى في النار وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الله رجله أو قدمه فيها فتقول- أي النار-: قط قط.

وروى فيما جاء في اليدين الروايات التالية:

(عرشه على الماء وبيده الأُخرى الميزان).

(أوّل ما خلق القلم فأخذه بيده اليمنى).

(كتب بيده على نفسه أن رحمتي سبقت غضبي).

(إنَّ الله يبسط يده).

وما جاء في الأصابع روى:

(يحمل الخلائق على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، والخلائق كلّها على إصبع).

وروى بالإضافة إلى ذلك:

(ضحك الله .. ويتجلّى ربّنا ضاحكاً).

(الكرسي له أطيط كأطيط الرحل بالراكب، أو الرحل الجديد، إذا ركب من ثقله).

(خلق الله آدم على صورته، وطوله ستّون ذراعاً).

ونقل قول وكيع: (مَن رأيتموه ينكر هذه الأحاديث فاحسبوه، مع الجهمية).

وقول الزهري: (سلِّموا للسنَّة ولاتعارضوها) (1)

وهذه الرسالة التي نشرها الوهابيّون مؤخّراً إنّما تبنّوها لما فيها من روايات تدعم مذهبهم التجسيمي الذي يتبنّونه، إلّا أنَّ فقهاء أهل السنّة وإن كانوا لم يرفضوا هذه الروايات، إلّا


1- انظر حديث رقم 2، 13، 14، 16، 19، 21، 30، 34، 35، 38، 47، 60 و 68.

ص: 68

أنّهم قاموا بتأويلها على وجه المجاز؛ الأمر الذي يرفضه الوهابيّون، سيراً مع نهج إمامهم ابن تيميّة؛ ممّا يؤكّد تبنّيهم للتجسيم، ومخالفتهم عقائد أهل السنّة.

ونشر الوهابيون رسالة في (الاستواء والفوقية والحرف والصوت) لأبي محمد الجويني، المتوفّى عام 438 ه. يقول الجويني في رسالته:

(إنّني كنت بُرهة من الزمن متحيّراً في ثلاث مسائل:

مسألة الصفات.

ومسألة الفوقيَّة.

ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد.

وكنت متحيّراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك، من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها والوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولاتعطيل ولاتشبيه ولاتمثيل؛ فأجد نصوص في كتاب الله وسنّة رسوله (ص) ناطقة مُنبِّئة بحقائق هذه الصفات، وكذلك في إثبات العُلو والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت، ثُمَّ أجد المتأخِّرين من المتكلّمين في كتبهم منهم مَن تأوّل الاستواء بالقهر والاستيلاء، وتأوَّل النزول بنزول الأمر، وتأوَّل اليدين بالقُدرتين أو النعمتين، وتأوَّل القَدم بقدم صدق عند ربّهم، وأمثال ذلك .. ثُمَّ أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائماً بالذات، بلا حرف ولاصوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.

ص: 69

ومَن ذهب إلى هذه الأقوال وبعضها قوم لهم في صدري منزلة، ولي فيهم الاعتقاد التامّ لفضلهم وعلمهم، ثُمَّ إنَّني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقروناً بها، فكنت كالمتحيِّر المضطرب في تحيّره، المُتململ من قلبه في تقلّبه وتغيّره.

وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول؛ مخافة الحصر والتشبيه. ومع ذلك، فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنَّة رسوله (ص)، أجدها نصوصاً تُشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول قد صرَّح بها مُخبراً عن ربِّه، واصفاً بها، وأعلم بالاضطرار أنَّه كان يحضر في مجلسه الشريف العالم والجاهل، والزكي والبليد والأعرابي والجاف، ثُمَّ لا أجد شيئاً يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربّه بها، لا نصّاً ولاظاهراً، ممَّا يصرفها عن حقائقها، ويؤوِّلها كما تأوَّلها هؤلاء مشايخي الفقهاء المتكلّمين، ولم أجد عنه (ص) أنَّه كان يحذِّر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لديه، من الفوقيّة واليَدين وغيرها، ولم ينقل عنه مقالة تدلّ على أنَّ لهذه الصفات معان أُخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها، مثل فوقية المرتَّبة، ويد النعمة والقدرة، وغير ذلك ..

وأجد الله عزَّ وجلّ يقول:

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى

يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ

ص: 70

إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ

أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ

ثُمَّ أجد الرسول (ص) لمَّا أراد الله أن يخصّه بقربه، عرج به من سماء إلى سماء.

وفي الحديث الصحيح للجارية التي سألها الرسول أين الله؟!

فقالت: في السماء، فلم يُنكر عليها بحضرة الصحابة، وقال: (أعتقها، فإنَّها مؤمنة).

وحديث: (إنّ الله فوق عرشه، فوق سماواته، فوق أرضه مثل القُبَّة، وأشار النبي بيده مثل القبَّة).

وحديث: (ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء)).

قال: (إذا علمنا ذلك واعتقدناه، تخلّصنا من شبه التأويل وعماوة التعطيل، وحماقة التشبيه والتمثيل، وأثبتنا علوّ ربّنا وفوقيّته واستواءه على عرشه، كما يليق بجلاله وعظمته، والحقّ واضح في ذلك، والصدور تنشرح له؛ فإنّ التحريف تأباه العقول الصحيحة، مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره، والوقوف في ذلك جهل وغَي، مع كون أنَّ الربَّ تعالى وصف لنا نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها. فوقوفنا على إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إيّاها، فما وصف لنا نفسه بها إلّا لنُثبت ما وصف به نفسه لنا، ولانقف في ذلك. وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة).

ص: 71

ثُمَّ قال عن مسألة الحرف والصوت: (والتحقيق هو أنَّ الله تعالى قد تكلَّم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته، فإنَّه قادر، والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولاإلى لهوات، وكذلك له صوت كما يليق به يسمع، ولايفتقر ذلك الصوت المقدَّس إلى الحلق والحنجرة، ولايُنفى الحرف ولاالصوت عن كلامه سبحانه؛ لافتقارهما منّا إلى الجوارح واللهوات، فإنّهما من جانب الله تعالى لا يفتقران إلى ذلك) (1)

وعلى الرغم من ذكر المؤلّف أنّ مسألة الحرف والصوت في القرآن، لا نجد أثراً للنصوص القرآنية حول هذه المسألة في رسالته!

وما يمكن قوله حول هذه الرسالة: هو أنَّ صاحبها يبدو أنّه واحد من الحنابلة المتخفّين في زيِّ الشافعية الأشعرية، الذي يريد أن يصوّر لنا مدى التيه والحيرة التي عاشها مع أهل التأويل، وكيف أنَّ الله لطف به وكشف له عن وجه الحق، كشفاً اطمئنَّ إليه خاطره وسكن به سرّه، حسب تعبيره، فاتَّجه نحو مذهب الحقّ، مذهب الحنابلة المجسّمين والمشبّهين.

وكيف له أن يُثني على شيوخه ومَن تتلمذ على أيديهم بقوله: (لهم في صدري منزلة، ولي فيهم الاعتقاد التام، لفضلهم وعلمهم)، ثُمَّ يأتي ويتّهمهم بالحَمَق والجهالة؟!

أليست هذه هي لغة الحنابلة المتعصِّبين؟!


1- ص 2 و مابعدها وص 19.

ص: 72

والمُتمعّن في هذه الرسالة يجد أنَّ كاتبها لم يأتِ بشي ء جديد؛ فهو ردَّد الروايات التي يستند عليها الحنابلة، وقال بمقالتهم واستخدم لُغتهم، وهذا وحده لا يكفي مَن هو على قدره من العلم الذي استقاه من هؤلاء الذين يعظّمهم، ليخرجه من الحيرة والاضطراب، من اختلاف المذاهب والأقوال التي عاشها وعبَّر عنها.

وهذا دليل آخر على كونه من الحنابلة المتآمرين على أهل العقل والتأويل.

وحوَت (رسالة الأربعين في دلائل التوحيد) لعبد الله الهروي، المتوفّى عام 481 ه، الأبواب التالية:

* باب في إيجاب قبول صفات الله من كافة الخلق.

* باب في الردِّ على مَن رأى كتمان أحاديث صفات الله.

* باب في بيان أنَّ الله شي ء.

* باب في بيان أنَّ الله شخص.

* باب في بيان إثبات النفس لله.

* باب في الدليل على أنَّ الله في السماء.

* باب في الدليل على أنَّ الله على العرش.

* باب في وضع الله قَدَمه على الكرسي.

* باب في إثبات الحدّ لله.

* باب في إثبات الجهة لله.

* باب في إثبات الوجه.

* باب في إثبات الصورة.

ص: 73

* باب في إثبات العينين.

* باب في إثبات اليدين.

* باب في إثبات الخطّ لله.

* باب في الأصابع.

* باب في إثبات الضحك.

* باب في إثبات القَدم.

* باب في الدليل على أنَّ القَدَم هي الرجل.

* باب في الهرولة لله.

* باب في إثبات نزوله إلى السماء الدنيا.

* باب في رؤية النبي ربَّه ليلة المعراج بعينيه رؤية اليقظة.

* باب في رؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة عيانا.

وفي منشور آخر باسم (الحجَّة في بيان المحجَّة) لأبي القاسم الأصبهاني، المتوفّى عام 535 ه، وُضع فصل تحت عنوان: (في ذكر مَن عاب الكلام وذمَّه من الأئمّة). ونقل قول مالك: إيَّاكم والبِدع.

فقيل: وما البدع؟

قال: أهل البدع الذين يتكلّمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولايسكتون عمّا سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.

وقول مالك هذا يعدّ حجّة على الحنابلة والوهابيّين، الذين خاضوا في أسماء الله وصفاته، وأشعلوا الحروب والمعارك

ص: 74

بسببها، بل وكفّروا خصومهم على أساسها.

ووضع الأصبهاني فصلًا في إثبات الرؤية.

وفصلًا آخر في إثبات اليد والوجه لله تعالى.

وفصلًا في التغليظ في معارضة الحديث بالرأي والمعقول.

وفصلًا في ذكر النظر في الحديث والأثر، وما فيه من الخير والبركة.

ثُمَّ قال: (وما نعتقده أنَّ لله (عزّ وجلّ) عرشاً، وهو على العرش، والعرش مخلوق من ياقوت أحمر. ومَن قال العرش ملك، أو الكرسي ليس بالكرسي الذي يعرفه الناس، فهو مبتدع).

ووضع فصلًا في بيان أنَّ الله يكلِّم عباده المؤمنين يوم القيامة.

وفصلًا في الردِّ على الجهميَّة الذين أنكروا صفات الله حسب تصوّر الحنابلة، وسمّوا أهل السنَّة مُشبِّهة.

واستعرض رواية: خلق الله آدم على صورته ..

ورواية: نزول الله ..

ورواية: قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن.

وقال: (إنَّ الذين نفوا الصفات، أبطلوا ما أثبته الله تعالى، وإنَّ الذين تأوَّلوها خلاف الظاهر، خرجوا من ذلك إلى ضرب من التعطيل والتشبيه).

وختم كتابه بالفصول التالية:

* فصل في أنَّ أهل الكلام ليسوا من العلماء.

ص: 75

* فصل في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم والاستماع إليهم.

* فصل في اجتناب البدع والأهواء.

ونشر الوهابيّون رسالة تحت عنوان: (الفتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد) لأبي العلاء الهمذاني، المتوفّى عام 569 ه.

قال الهمذاني في مقدّمته: (وإنّما الشكوى إلى الله تعالى من قومٍ إلى مذهب أحمد ينتمون، وبالسنّة يتوسّمون، ويدّعون التمسّك بقوله وفعله، ويقرُّون بفضله ونُبله، وهم مع ذلك يُخالفون نصوصه، ويطرحون عمومه وخصوصه، وجميع ما يرد عليهم من السنّة الثابتة ينفرون ويجبنون منه، ويسلّطون على ما جاء في الصفات والأخبار والآيات ما سلّطه المتكلّمون من التأويل، ويسلكون فيه مسالك أهل الإلحاد والتعطيل.

فمن ذلك أنَّهم قالوا: إنَّ هذه الأحاديث الواردة في الصفات، جميعها، إنّما رواها حماد بن سلمة، وكان يُلقيها إليه شيطان ليُضلّ بها أهل الحق، وما صحَّ منها من أخبار فهو أخبار آحاد، لا يوجب العمل ولايصحّ الاحتجاج به.

وإذا أريناهم كلام السلَف عليها قالوا هذا مذهب أهل الحديث، ولايلزم الفقهاء الأخذ به، وما سمعوه من أحاديث الصفات، تأوَّلوه وصرفوه عن حقيقته أو ردُّوه.

ومن ذلك أنَّهم ينكرون إطلاق القول بأنَّ الله تعالى في السماء.

وينكرون القول بأنَّ الله سبحانه في جهة العلو.

ص: 76

وعرضنا عليهم كتب السنَّة، ككتاب التوحيد لابن مندة، والحجَّة لأبي الفضل، فقالوا هذه صحف لا تنطق.

وكثير من أصحابنا يخالط أرباب الكلام والجدال، وينقل عنهم فظيع الأقوال).

وفي رسالة (إثبات صفة العُلو) قام ابن قدامه المقدسي، المتوفّى عام 620 ه، بترتيب أبوابها كما يلي:

* باب ذكر الأحاديث الصريحة في أنَّ الله تعالى في السماء.

* باب ذكر الأخبار الواردة بأنَّ الله تعالى فوق عرشه.

* فصل في أقوال الصحابة في أنَّ الله في السماء.

وروى ما يلي:

(إنَّ الله خلق سموات سبع، فاختار العُليا فسكنها. ما بين السماء القصوى وبين الكرسي خمسمئة سنة، وبين الكرسي والماء خمسمئة سنة، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش).

مَن أنكر أنَّ الله في السماء فقد كفر.

قلت لابن المبارك: كيف نعرف ربَّنا؟

قال: في السماء السابعة.

قال أبو عمر: أهل السنّة مُجمعون على الإقرار بالصفات، الواردة كلّها في القرآن والسنّة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز.

وفي كتاب (اجتماع الجيوش الإسلاميّة على غزو المعطّلة

ص: 77

والجهميّة) قال ابن القيم:

وقوله تعالى (ثُمَّ استوى على العرش) يتضمن إبطال قول المعطّلة والجهمية، الذين يقولون ليس على العرش شي ء، وإنَّ الله ليس مستوياً على عرشه، ولاترفع إليه الأيدي، ولاينزل من عنده جبريل، ولاينزل هو كل ليلة إلى السماء الدنيا، ولايراه المؤمنون في الدار الآخرة عياناً بأبصارهم، ولاتجوز الإشارة إليه بالأصابع إلى فوق).

ونقل قول ابن تيميّة: (وهذا كتاب الله من أوَّله إلى آخره، وسنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمّة، مملوء ممَّا هو نص أو ظاهر في أنَ الله سبحانه وتعالى فوق كلّ شي ء، وأنَّه فوق العرش فوق السموات السبع، مستوٍ على عرشه).

وروى عن الرسول (ص) قوله: (إنَّه لفوق سمائه على عرشه، وإنَّه لهكذا، وإنَّه ليئطّ به أطيط الرحل بالراكب) (1)

وقال تحت عنوان: (باب ردّ ادّعائهم المجاز في الاستواء): (أمّا ادّعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل (استوى) استولى، فلا معنى له، ومن حقّ الكلام أن يُحمل على حقيقته حتى تتَّفق الأُمّة أنّه أُريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتّباع ما أنزل إلينا من ربّنا تعالى إلّا على ذلك، ولو ساغ ادّعاء المجاز لكلِّ مُدَّع، ما ثبت شي ء من العبادات).

ونقل قول مالك القيرواني في رسالته: (وأنَّه فوق عرشه


1- ص 45.

ص: 78

المجيد بذاته). وذكر في كتابه (المفرد في السنّة): (تقرير العلوِّ واستواء الربِّ تعالى على عرشه بذاته أتمّ تقرير، وأنَّ الله كلَّم موسى بذاته وأسمعه كلامه، وأنَّه فوق سمواته على عرشه دون أرضه).

وقول القاضي عبد الوهاب، إمام المالكية بالعراق: بأنَّ الله سبحانه استوى على عرشه بذاته. ونقل ابن تيميّة عنه هذا القول في غير موضع من كتبه، ثُمَّ قال مُعلّقاً: (وكلّ ما قدّمت .. دليل واضح في إبطال قول مَن قال بالمجاز في الاستواء).

وجعل ابن القيّم فصلًا في بيان أنَّ العرش فوق السموات، وأنَّ الله سبحانه وتعالى فوق العرش، وذكر أنَّ أبا الحسين العمراني، صاحب البيان، له كتاب لطيف في السنّة على مذهب أهل الحديث، صرَّح فيه بمسألة الفوقية والعُلو والاستواء حقيقة، وتكلَّم الله بهذا القرآن العربي المسموع بالآذان حقيقة.

وقال إنَّ الله سبحانه له قدماً؛ لقول النبي (ص) حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه، وأنّه يضحك ويهبط إلى سماء الدنيا، وأنّ له إصبعاً.

واحتج في نهاية كتابه بأقوال الشعراء والجنّ وحمر الوحش.

وختم كتابه برواية عن عبد الله بن وهب تقول: (أكرموا البقر؛ فإنَّها لم ترفع رأسها إلى السماء منذ أن عُبد العجل؛

ص: 79

حياءً من الله عزَّوجلّ) (1)

ومن بين المنشورات الصارخة التي تؤكِّد التجسيم، والتي باركها الوهابيّون، نُونيَّة ابن القيم، المسمّاة ب (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية)، وهي قصيدة موجّهة للجهمية وأنصار التأويل والمجاز، ويدعو فيها للتجسيم صراحة.

وقام واحد من الوهابيّين بشرحها تحت عنوان (توضيح المقاصد وتصحيح القواعد)، وهو أحمد بن إبراهيم بن عيسى، المتوفّى عام 1329 ه.

قال الشارح في مقدّمته: (المنظومة المشهورة في الطريقة السنّية والعقيدة الحنيفيّة، المسمّاة بالكافية الشافية، لم ينُسج على منوالها، ولم تسمح الدهور بشكلها وأمثالها، وموضوعها المحاكمة بين الطوائف، وإثبات صفات الباري على رغم كلّ مُخالف).

ومن بين أبيات هذه المنظومة:

بل عطّلوا منه السموات العُلى والعرش أخلوه من الرحمن

ونفوا كلام الرب جل جلاله وقضوا له بالخلق والحدثان

قالوا وليس لربِّنا سمعٌ ولابصرٌ ولاوجهٌ فكيف يدان

وكذاك ليس لربِّنا من قدرةٍ وإرادة أو رحمة وحنان

كلا ولاوصف يقوم به ذات مُجرَّدة بغير مَعان

وحياته هي نفسه وكلامه هو غيره فاعجب لذا البهتان

وكذاك قالوا ما له من خلقه أحد يكون خليله النفسان

وخليله المحتاج عندهم وفي ذا الوصف يدخل عابد الأوثان


1- صص 112 و 209 و مابعدها ..

ص: 80

ولأجل ذا ضحّى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان

إذ قال إبراهيم ليس خليله كلّا ولاموسى الكليم الدان

شكر الضحيّة كل صاحب سُنَّة لله درّ من أخي قربان

وقضى بأنَّ الله ليس بفاعل فعلًا يقوم بلا برهان

بل فعله المفعول خارج ذاته كالوصف غير الذات في الحُسبان

ولنا الأئمّة كالفلاسفة الأُلي لم يعبئوا أصلًا بذي الأديان

ما فيهم مَن قال إنَّ الله فوق العرش خارج هذه الأكوان

أمّا الذي قال إنَّ كلامه ذو أحرف قد رُتِّبت ببيان

وكلامه بمشيئة وإرادة كالفعل منه كلاهما سيّان

فهو الذي قد قال قولًا يعلم العقلاء صحّته بلا نكران

ولأيِّ شي ء دائماً كفرتم أصحاب هذا القول بالعدوان

لا تنصرنّ سوى الحديث وأهله هم عسكر القرآن والإيمان

هذا وأصل بليّة الإسلام من تأويل ذي التحريف والبطلان

هذا الذي فرق السبعين بل زادت ثلاثاً قول ذي البرهان (1)

وتبدو من خلال هذه الأبيات فكرة التجسيم بوضوح.

ومن الطريف أنَّ ابن القيّم الذي أنكر المجاز، سيراً على سنَّة إمامه ابن تيميّة، واعتبره طاغوتاً، وقع في المجاز وقال به؛ حين أطلق على كتبه أسماءً مجازية (2)


1- صص 50 و 110 و 242 وما بعدها ..
2- مثل: كتابه الصواعق المرسلة، الذي جعل فيه فصلًا عنوانه في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات، وهو طاغوت المجاز. وتأمّل نسبة المجاز للجهمية مع كونه من حقائق اللغة وثوابتها، وهو ما يشير إلى تخبّط ابن القيّم، كما هو حال إمامه.

ص: 81

وقد تصدَّى للردِّ على ابن القيّم في قصيدته التجسيمية هذه العديد من الفقهاء، على مستوى الماضي والحاضر (1)

أقوالُ ابن تيميّة

وتبنّى الوهابيّون تراث ابن تيميّة بالكامل، واعتبروه الفقيه الأوحد، وممثِّل السلَف والناطق الشرعي بلسانهم.

وهذه أكذوبة من أكاذيب الوهابية التي خدعوا بها المسلمين، فلم يكن ابن تيميّة ممثّلًا للسلف ولاناطقاً بلسانهم، ولم يكن سوى واحد من الفقهاء الشاذّين عن الإجماع وعقيدة الأمّة.

أمّا مخالفته الإجماع، فيتمثَّل في العديد من القضايا والمسائل الشاذّة التي قال بها وتبنّاها. وأمّا شذوذه عن عقيدة الأُمّة، فيتمثّل في تبنّيه عقيدة التشبيه والتجسيم، وهو محور حديثنا هنا.

وتبنّي الوهابيّون لتراث ابن تيميّة، يعني تبنّيهم لقضية التشبيه والتجسيم، التي طرحها خلال العديد من رسائله وأقواله وفتاويه.

والمسائل العقائدية التي شذّ بها ابن تيميّة، وأدّت إلى صدام الفقهاء معه وإعلان الحرب عليه، وصدور شتّى الأحكام عليه، تتركّز فيما يلي:


1- انظر: السيف الصقيل في الردِّ على ابن زفيل ابن القيم للسبكي، تحقيق: زاهد الكوثري.

ص: 82

* قوله بالجسميّة والجهة والانتقال لله تعالى.

* وقوله إنَّ الله يتكلَّم بصوت وحرف.

* وقوله الله بقَدر العرش.

* وقوله بإنكار المجاز.

* وقوله إنَّ الله سبحانه محلّ الحوادث.

* وقوله بفناء النار.

قال الحافظ وليّ الدين العراقي: (وأمّا الشيخ تقي الدين ابن تيميّة، كما قيل، علمه أكثر من عقله، فأدَّاه اجتهاده إلى خرق الإجماع في مسائل كثيرة، قيل إنَّها تبلغ ستين مسألة، فأخذته الألسنة بسبب ذلك، وتطرّق إليه اللوم، وامتُحن لهذا السبب، وأسرع علماء عصره في الردِّ عليه وتخطئته وتبديعه، ومات مسجوناً بسبب ذلك) (1)

وقال ابن حجر الهيتمي: (ابن تيميّة عبدٌ خذله الله تعالى وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه، بذلك صرَّح الأئمّة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومَن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتَّفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد، أبي الحسن السبكي، وولده التاج، والشيخ الإمام العزّ بن جماعة، وأهل عصرهم، وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية.

ولم يقصر اعتراضه على متأخّري الصوفية، بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب. والحاصل أنْ لا


1- انظر: الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكّية.

ص: 83

يُقام لكلامه وزن، بل يُرمى في كل وعر، ويعتقد فيه أنَّه مبتدع ضالّ ومضلّ، جاهل غال، أجارنا الله من مثل طريقته وعقيدته) (1)

وقال الذهبي: (وقد رأيتُ ما آلَ إليه أمره من الحطِّ عليه، والهجر والتضليل والتكفير، والتكذيب بحقّ وبباطل، فقد كان قبل أنْ يدخل في هذه الصناعة الفلسفة- منوّراً مضيئاً، على محياه سيما السلف، ثُمَّ صار مظلماً مكشوفاً، عليه قُتمة عند خلائق من الناس، ودجَّالًا أفاكاً كافراً عند أعدائه.

يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنّفاتهم مرّات، يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك، بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار) (2)

وكان ابن تيميّة قد أنكر المجاز، وسار على قوله تلميذه ابن القيّم، وكلاهما أسرفا وبالغا في استخدام لغة الحقيقة، حتى وقعا في التجسيم.

يقول منصور عويس: (إنَّ إنكار ابن تيميّة للمجاز تقوّيه أنَّه مُشبِّه، وإنْ ادَّعى التنزيه، ومُجسِّم، وإنْ ادّعى التقديس، لأنَّ مفهوم مذهب السلف عند غيره لم يمنع التأويل الإجمالي، وإنْ سكت عن التأويل التفصيلي، أو بعبارة أُخرى، أنَّ غيره منع إسناد الظاهر الموهم للتشبيه، ثُمَّ فوَّض المعنى إلى الله تعالى.


1- انظر: الفتاوى الحديثية، ص 85 وما بعدها ..
2- انظر: رسالته لابن تيميّة في الإعلان بالتوبيخ لمَن ذمّ التاريخ للسخاوي. والذهبي كان من تلاميذ ابن تيميّة.

ص: 84

ثُمَّ إنَّ هؤلاء المتمّسحين في السلَف متناقضون؛ لأنَّهم يُثبتون تلك المتشابهات على حقائقها، ولاريب أنَّ حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث، كالجسمية والتجزّؤ والحركة والانتقال.

ولو أنصف هؤلاء، لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة، واكتفوا بتنزيه الله تعالى عمّا توهمه ظاهرها من الحدوث ولوازمه، ثُمَّ فوَّضوا الأمر في تبيين معانيها إلى الله وحده، وبذلك يكونون سلفيِّين حقّاً. لكنّها شبهات عرضت لهم في هذا المقام، فشوَّشت حالهم، وبَلبَلت أفكارهم) (1)

وهذا الكلام يقصد به: أنَّه لو كان ابن تيميّة، والوهابيّون الذين ساروا على سنّته، التزموا بعقيدة السلف، لأغنوا أنفسهم عن هذا التيه والبَلبَلَة والتلبيس، الذي ألحق الضرر بعقول المسلمين وفرَّق صفوفهم.

وقال الكوثري: (والحاصل أنَّ التفويض مع التنزيه مذهب جمهور السلَف، لانتفاء الضرورة في عهدهم، والتأويل مع التنزيه مذهب جمهور الخلف، حيث عنى لهم ضرورة التأويل؛ لكثرة الساعين في الإضلال في زمنهم.

وليس بين الفريقين خلاف حقيقي؛ لأنَّ كليهما منزِّه، ومن أهل العلم مَن توسّط بين هؤلاء وهؤلاء.

وأمَّا المشبِّهة، فنراهم يقولون: نحن لا نؤوِّل، بل نحمل آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها، وهم في قولهم هذا


1- انظر: ابن تيميّة ليس سلفياً، الفصل الرابع، صص 42 و 58 و 59.

ص: 85

غير منتبهين إلى أنَّ استعمال اللفظ في الله سبحانه بالمعنى المراد عند استعماله في الخلق تشبيه صريح، وحمله على معنى سواه تأويل. على أنَّ الأخبار المحتّج بها في الصفات إنّما هي في الصحاح المشاهير دون الوحدان والمفاريد والمناكير، والمنقطعات والضعاف والموضوعات. مع أنَّهم يسوقونها جميعها في مساق واحد، في كتب يسمّونها: التوحيد، أو الصفات، أو السنَّة، أو العلو، ونحوها ..) (1)

ويعدُّ ابن تيميّة وأتباعه من الفريق الثالث، فريق المشبِّهة والمجسّمة.

وأشار الشيخ محمد أبو زهرة إلى أنَّ ابن تيميّة، في تصويره لمذهب السلَف، يقول بظاهر النصوص القرآنية، وأنَّ تصويره فيه نظر. ثُمَّ استعرض كلام ابن تيميّة: ليس في كتاب الله ولافي سنّة، ولاعن أحد من سلفِ الأمّة، ولامن الصحابة والتابعين، ولاعن الأئمّة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف، حرف واحد يخالف ذلك، ولانصّاً ظاهراً، ولم يقل أحد منهم إنَّ الله ليس في السماء، ولاأنَّه ليس على العرش، ولاأنَّه في كل مكان، ولاأنَّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولاأنَّه لا داخل العلم ولاخارجه، ولامتّصل ولامنفصل، ولاأنّه لا تجوز الإشارة الحسّية إليه بالأصابع ونحوها.


1- انظر: مقدمة السيف الصقيل.

ص: 86

وقال معلّقاً: (وعلى ذلك يقرّر ابن تيميّة أنَّ مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن، من فوقية وتحتيّة واستواء على العرش، ووجه ويد ومحبَّة وبغض، وما جاء في السنّة من ذلك أيضاً، من غير تأويل، وبالظاهر الحرفي.

فهل هذا هو مذهب السلف حقا؟!) (1)

ونقول في الإجابة عن ذلك: لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري، وادَّعوا أنَّ ذلك مذهب السلف، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت، وأثبتوا أنَّه يؤدِّي إلى التشبيه والجسمية لا محالة.

وكيف لا يؤدّي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة؟! ولذلك تصدَّى لهم الإمام الفقيه الخطيب الحنبلي ابن الجوزي، ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أن يكون ذلك مذهب الإمام أحمد (2)

قال ابن تيميّة: (وأمَّا التأويل المذموم والباطل، فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأوَّلونه ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله، بغير دليل يوجب ذلك، ويدَّعون أنَّ في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل، ويصرفونه إلى معاني هي نظير المعاني التي نفوها عنه، فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإنْ كان الثابت حقاً ممكناً، كان المنفيّ مثله، وإنْ كان المنفي باطلًا ممتنعاً، كان


1- انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية.
2- انظر: دفع شبه التشبيه.

ص: 87

الثابت مثله.

وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً، ويحتجّون بقوله تعالى (وما يعلم تأويله إلّا الله)، قد يظنّون إنّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يُفهم منه شي ء، وهذا مع أنَّه باطل، فهو متناقض) (1)

ويقول منصور عويس: (وابن تيميّة قد خالف غيره في تصوير مذهب السلف، حيث قال بظاهر النصوص، ثُمَّ تناقض مع نفسه فقال: (وإجراؤها على ظاهرها، مع نفي الكيفيّة والتشبيه عنها. أمّا غيره فقال: إنَّ الظاهر الموهم للتشبيه غير مراده، ثُمَّ تفويض المعنى بعد ذلك إلى الله تعالى.

وابن تيميّة يعارض اتّجاه التأويل- بحسب طريقته هو-؛ وذلك أنَّه ينفي أن يكون في ظاهر اللفظ محذوراً، كما يعارض اتّجاه التفويض لله تعالى، من حيث تحديد المعنى الخاص بالنص- بحسب طريقته أيضاً-؛ وذلك أنّه ينفي أن يكون في القرآن مالا يفهمه أحد).

وقال: (فابن تيميّة، باعتبار تصويره لمذهب السلف، يُعتبَر غير سلَفي، باعتبار فهم غيره في تصوير مذهب السلف).

وعلى كلٍّ، فهل ابن تيميّة التزم المنهج الذي حدَّده في تصويره مذهب السلف، حتى يمكن القول بأنَّه سلفي متناسق الرأي، أم أنَّه حائد عن مذهب السلف، سواء كان بالنسبة لتصويره هو، أو تصوير غيره لمذهب السلف؟!


1- انظر: الرسالة التدمرية ونقض التدمرية لسعيد فوده.

ص: 88

والواقع أنَّ ابن تيميّة ليس سلفياً في كلا الأمرين، والتطبيق العملي لكلامه يؤكِّد ذلك (1)

ومجموع فتاوى ابن تيميّة التي وصلت إلى سبع وثلاثين مجلداً تمَّ طبعها من قِبل الوهابيّين، وعلى نفقة خادم الحرمين، ووزَّعت مجّاناً على العديد من المؤسّسات والرموز الإسلامية، وتحمَّست لنشرها، بدعم من الوهابيّين، العديد من دور النشر السلفيّة، التي تسير في ركاب الوهابيّين.

وقد حوَت هذه الفتاوى العديد من النصوص التي تؤكّد التجسيم والتشبيه، وإثبات الجِهة والتحيّز لله سبحانه، وقيام الحوادث به، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

قال ابن تيميّة في الفتاوى: (ولانريد بالتحيّز أن يكون قد أحاط به، بل نريد بالتحيّز الذي في الجهة أن يكون بحيث يُشار إليه بالحسّ، إنَّه هاهنا أو هناك. ولاريب أنَّ ما كان فوق العالم، فلابدّ أن يُشار إليه بأنّه هناك، وهذا هو القول بالتحيّز والجهة عندنا) (2)

وقال: (وليس في شي ء من ذلك- أي في الآيات والأحاديث والمأثور- نفي الجهة والتحيّز عن الله، ولاوصفه بما يستلزم لزوم ما بيَّناه بعد ذلك) (3)

وعدَّ الخارجين عن رأيه خارجين عن الدِّين، وقال: (... إنَّ هذا الكلام ليس من دين الله، ولامن الإيمان، ولامن سبيل


1- ابن تيميّة ليس سلفيّاً، الفصل الثاني، صص 25 و 26.
2- انظر: الفتاوى، ابن تيميّة، ج 5، ص 264.
3- المرجع السابق، ص 278.

ص: 89

المؤمنين، ولامن طاعة الله ورسوله، وإذا كان كذلك، فمَن التزمَ اعتقاده فقد جعله من الإيمان والدِّين، وذلك تبديل للدين، كما بدَّله اليهود والنصارى ومبتدعة هذه الأمَّة) (1)

وقال: (فيُقال لمَن نفي: أتريد بالجهة ما وراء العلم؟

فلا ريب أنَّ الله فوق العالم، مُباين لمخلوقاته.

وكذلك يُقال لمَن قال (الله في جهة): أتريد بذلك أنَّ الله فوق العالم ..

أو تريد به أنَّ الله داخل في كل شي ء من المخلوقات؟

فإنْ أردت الأُولى فهو حق.

وإنْ أردت الثانية فهو باطل) (2)

وقال: (فهذا كلّه وما أشبهه، شواهد ودلائل على الحدّ، ومَن لم يعترف به، فقد كفر بتنزيل الله وجحد آياته) (3)

وقال: (مَن زعم أنَّ الرحمن على العرش استوى خلاف ما يقرّ في نفوس العامّة، فهو جهميّ، فإنَّ الذي أقرَّه الله تعالى وفطر عباده وجبلهم عليه، أنَّ ربّهم فوق سماواته) (4)

وقال: (ولو قد شاء- أي الله سبحانه لاستقرَّ على ظهر بعوضة، فاستقلّت به بقدرته ولطف ربوبيّته، فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض؟!) (5)


1- المرجع السابق، ص 18.
2- المرجع السابق.
3- المرجع السابق، ج 3، ص 42؛ وانظر: الرسالة التدمرية، فصل تنازع الناس في الجهة والتحيّز؛ وانظر أيضاً: رسالة في نفي الجهة للكلابي.
4- المرجع السابق، ج 5، ص 127.
5- المرجع السابق، ج 5، ص 127.

ص: 90

وقال: (الكلام في وصف الله بالجسم نفياً وإثباتاً بدعة، لم يقل بها أحد من سلفِ الأمّة وأئمّتها؛ إنَّ الله ليس بجسم، كما لم يقولوا إنَّ الله جسم) (1)

وقال: (وأمَّا قولك ليس مركّباً، فإن أردت به أنَّه سبحانه ركَّبه مركِّب، وكان متفرّقاً فتركَّب، وأنَّه يجب تفرّقه وانفصاله، فالله تعالى منزَّه عن ذلك) (2)

وقال منصور عويس معلّقاً: فمن هذا النص نرى أنَّ ما ينفيه في التركيب بالنسبة لله تعالى ليس ذات التركيب، وإنّما ينفي أن يركِّبه مركِّب، كما ينفي أنَّه كان متفرّقاً فتركَّب. فمعنى هذا أنَّ ما يثبته هو التركيب الذي لم يسبق تفرّقه، كما يشير النص إلى أنَّه لا يمكن تفرّقه وانفصاله (3)

ونقل كلام أبو بكر بن الخلال: (إنَّ أبا عبد الله سُئل عمَّن زعم أنَّ الله لم يتكلَّم بصوت.

قال: بلى، تكلَّم بصوت، وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها، لكلِّ حديث وجهة) (4)

وروى عن المروزي، قال: (سمعت أبا عبد الله وقيل له: إنَّ عبد الوهاب قد تكلّم وقال: مَن زعم أنَّ الله كلّم موسى بلا صوت فهو جهمي، عدّو الله وعدّو الإسلام.


1- المرجع السابق، ج 5، ص 192.
2- انظر: بيان تلبيس الجهمية، ج 1، ص 268.
3- ابن تيميّة ليس سلفياً.
4- موافقة صحيح المنقول، ج 2، ص 29. وقد ردَّ الذهبي كلام ابن تيميّة هذا في سير أعلام النبلاء، ج 16، ص 97.

ص: 91

فتبسَّم أبو عبد الله وقال: (ما أحسن ما قاله، عافاه الله) (1)

وقال ابن تيميّة: (إنَّ الله تعالى متكلّم بصوت، كما جاءت الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد) (2)

وقد اعترف الوهّابي المصري خليل هراس، أنَّ ابن تيميّة يرى أنَّ الله يتكلّم بحرف وصوت، تكلُّم القرآن العربي بألفاظه ومعانيه، بصوت نفسه، كما تكلَّم بالتوراة العبرية كذلك (3)

وقال الدارقطني: (الصوت ليس بصفة لكلام الله تعالى، وإنّما هو صفة للمنادي الذي يأمره الله تعالى بالنداء يوم القيامة، وأنَّ كل ما أُضيف إلى الله تعالى لا يجب أن يكون صفة له، ومَن زعم هذا فقد كفر وأشرك) (4)

ووضع الباقلاني فصلًا تحت عنوان: (الردّ على مَن زعم اتّصال كلام الله بالصوت) (5)

وقال ابن تيميّة: (والنُفاة متَّفقون على أنَّ ظواهر النصوص تجسيم عندهم، وليس عندهم بالنفي نصّ، فهم معترفون بأنَّ قولهم هو البدعة، وقول منازعيهم أقرب إلى السنّة.

وأمّا ذكر التجسيم وذمّ المجسّمة، فهو لا يُعرف في كلام أحد من السلف والأئمّة، كما لا يُعرف في كلامهم أيضاً القول


1- الفتاوى، ج 5، ص 127.
2- انظر: شرح الأصفهانية.
3- انظر: ابن تيميّة السلفي.
4- انظر: موسوعة أقوال الدارقطني، ج 1، ص 50.
5- انظر: الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل للباقلاني: ج 1، ص 183.

ص: 92

بأنّ الله جسم أو ليس بجسم، بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه على الجهمية نفي التجسيم) (1)

وقال: (ليس في كتاب الله ولافي سنّة رسوله، ولاعن أحد من سلف الأمّة، ولامن الصحابة والتابعين، ولامن الأئمّة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف؛ حرف واحد يخالف ذلك، ولانصّاً ظاهراً، ولم يقل أحد منهم أنّ الله ليس في السماء، ولاأنّه ليس على العرش، ولاأنّه في كل مكان) (2)

وقال: (فاسم المشبِّهة ليس له ذكر بذم في الكتاب والسنّة، ولاكلام أحد من الصحابة والتابعين) (3)

ونقل قول عثمان بن سعيد وغيره: (إنَّ الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرّك. وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهميّة، نُفاة الصفات الذين اتّفق السلَف والأئمّة على تضليلهم وتبديعهم) (4)

وحول قيام الحوادث بالله تعالى، قال: (لهذا كان كثير من المسلمين، كالكلابين ومَن وافقهم، يقولون بإثبات الصفات للواجب، دون قيام الحوادث به، فإذا لم يكن لكم حجَّة على نفي قيام الحوادث به، إلَّا ما هو حجّة لكم على نفي الصفات، كانت الأدلّة الدالّة على بطلان قولكم كثيرة جداً) (5)


1- انظر: درء تعارض العقل والنقل، أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: ج 1، ص 249.
2- انظر: الحموية الكبرى.
3- انظر: بيان تلبيس الجهمية أو نقض أساس التقديس، ج 1، ص 109.
4- موافقة صحيح المنقول.
5- درء تعارض العقل والنقل، تقي الدين أحمد بن عبدالسلام بن عبدالحليم بن تيمية، ج 1، ص 355.

ص: 93

وقال: (المُثبتون السمعيات الكثيرة المتواترة بخلاف النُفاة، فإنّه ليس معهم شي ء من السمع، وإنّما يدّعون قيام الدليل العقلي على امتناع قيام الحوادث به) (1)

وقال: (وقد احتجَّ أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به، بحُجج ضعيفة) (2)

وقال: (وقالت الطائفة الثالثة ممَّن سلك مسلك أُولئك المتكلّمين: بل نقول إنَّه يتكلّم بمشيئته وقدرته، كلاماً قائماً بذاته، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنّة، وإجماع السلف والأئمّة. وإن لزم من ذلك قيام الحوادث به، فلا محذور في ذلك شرعاً ولاعقلًا، بل لازم لجميع طوائف العقلاء، وعليه دلَّت النصوص الكثيرة، وأقوال السلف والأئمّة. ونقول: إنَّه يتكلّم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي، وإنَّه نادى موسى بصوت سمعه موسى، كما دلَّت على ذلك النصوص وأقوال السلف) (3)

وقال: (فلا يجوز أن يُنفى قيام الحوادث بذاته؛ لعدم ما يثبت ذلك) (4)

وقال: (وهو أنَّه لم يزل متكلّماً بحروف متعاقبة لا مجتمعة، وهذا يستلزم قيام الحوادث به، فمَن قال بهذا، لم يكن تناقض


1- المرجع السابق، ج 2، ص 218.
2- المرجع السابق، ج 4، ص 57.
3- الفتاوى، ج 9، ص 284، و انظر ج 12، ص 44.
4- درء تعارض العقل والنقل، ج 4، ص 60.

ص: 94

الكرامية حجَّة عليه، ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل) (1)

وقول ابن تيميّة بقيام الحوادث بالله تعالى وبذاته قالت به الكرامية، ويظهر أنَّه نقله منهم.

وقال: (وتجد كثيراً من متكلّمة أهل الحديث، كأبي الحسن ابن الزاغوني، وأبي بكر ابن العربي، يحكون الإجماع على امتناع قيام الحوادث به، وهذه من جملة الإجماعات التي يطلقها مَن يطلقها حسب ما ظنّه) (2)

وقال: (إنّ كثيراً من نُفاة الصفات، المعتزلة وغيرهم، يجعلون مثل هذا حجَّة في نفي قيام الصفات، أو قيام الحوادث به مطلقاً، وهو غلط منهم (3)

واعترف مصنّفوهم أنّه لا يقوم لهم دليل عقلي، بل ولاسمعي، على نفي قيام الحوادث به، إلّا ما ينفي الصفات مطلقاً، وذلك في غاية السوء) (4)

وقال في مواجهة المعارضين:

(ولاأقمتم حجَّة على استحالة قيام الحوادث ..

بطل الاستدلال على امتناع قيام الحوادث ...

إنَّه لا حجّة على امتناع قيام الحوادث بالربِّ) (5)


1- المرجع السابق، ص 127.
2- المرجع السابق، ج 8، ص 98.
3- منهاج السنة، احمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني أبوالعباس، ج 2، ص 281.
4- المرجع السابق، ص 359.
5- الفتاوى، ج 5، ص 238.

ص: 95

وقال: (فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالربّ، قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دلَّ عليه العقل والشرع.

فإذا قالوا لنا: هذا يستلزم منه أن تكون الحوادث قامت به ..

قلنا: ومَن أنكر هذا قبلكم من السلَف والأئمّة؟!

ونصوص القرآن والسنّة تتضمّن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومَن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته) (1)

أمّا موقف فقهاء أهل السنّة ممّا سبق طرحه من كلام ابن تيميّة، فهو ما يلي:

قال القرطبي: (قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ .. هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وإجراء، وقد بيَّنا أقوال العلماء فيها في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى)، وذكرنا فيه هناك أربعة عشر قولًا.

والأكثر من المتقدّمين والمتأخّرين أنّه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه من الجهة والتحيّز، فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه، عند عامّة العلماء المتقدّمين وقادتهم من المتأخّرين، تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم؛ لأنّه يلزم من ذلك- عندهم- متى اختصّ بجهة، أن يكون في مكان أو حيّز، ويلزم على المكان والحيّز الحركة والسكون للمتحيّز، والتغيّر والحدوث، هذا قول المتكلّمين. وقد كان السلف الأوّل لا يقولون بنفي الجهة ولاينطقون بذلك، بل


1- منهاج السنة، ج 1، ص 2.

ص: 96

نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبرت رُسله. ولم ينكر أحد من السلف أنَّه استوى على عرشه حقيقة، وخُصّ العرش بذلك لأنّه أعظم مخلوقاته، وإنّما جهلوا كيفية الاستواء، فإنّه لا يعلم حقيقته.

قال مالك: الاستواء معلوم- يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وكذا قالت أم سلمة) (1)

وقال البيهقي عن العرش والاستواء: (اتَّفقت أقاويل هذا التفسير على أنَّ العرش هو السرير، وأنّه جسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله، وتعبُّدهم بتعظيمه والطواف به.

وقال بعض أهل السنّة: معناه ارتفع، وبعضهم: معناه علا، وبعضهم: معناه المُلك والقدرة.

وأمّا تفسير (استوى)/ (عَلا) فهو صحيح، وهو المذهب الحق، وقول أهل السنَّة) (2)

وقال ابن حنبل: (هو العُلو والارتفاع، ولم يزل الله تعالى عالياً مرتفعاً مثل قبل أنْ يخلق عرشه، فهو فوق كل شي ء، والعالي على كل شي ء، وإنّما خصَّ العرش؛ لمعنى فيه مخالف لسائر الأشياء، والعرش أفضل الأشياء وأرفعها، فامتدح الله نفسه بأنَّه على العرش استوى، أي عليه علا، ولايجوز أن يُقال استوى بمُماسَّة ولابملاقاة، تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً.


1- تفسير القرطبي: ج 7، ص 219، والقرطبي توفّي في عام 671 ه.
2- انظر: الأسماء والصفات، ج 2، ص 375، باب ما جاء في العرش والكرسي.

ص: 97

والله تعالى لم يلحقه تغيّر ولاتبدّل، ولاتلحقه الحدود، قبل خلق العرش ولابعد خلق العرش) (1)

وقال الجويني: (فإنَّ الحوادث لا تقوم إلّا بحادث، وبطل قيام كلامه بجسم؛ إذ يلزم أن يكون المتكلّم جسم. وخالف إجماع الأُمّة طائفة نبغوا من سجستان ولُقّبوا بالكرامية، وزعموا أنّ الحوادث تطرأ على ذات الباري، تعالى عن قولهم، وهذا نصّ مذهب المجوس).

قال الجويني: (والدليل على استحالة قيام الحوادث بذات الباري تعالى، أنَّها لو قامت به، لم يخل عنها، وما لم يخل عن الحوادث حادث) (2)

وابن تيميّة، الذي كانت سنّته نسبة خصومه إلى الفرق الضالّة والديانات الأُخرى، وقع فيما اتّهم به الآخرين، وتبنّى معتقد خصومه، أو خصوم أهل السنّة حسب تصوّره؛ تبنّى القول بفناء النار، وهو قول جهم بن صفوان، وقيام الحوادث بالله تعالى، وهو قول الكرامية، والأدهى والأمَر أنَّ معتقد قيام الحوادث بالله يقول به المجوس أيضاً!

والأغرب من ذلك أنَّ ابن تيميّة أثنى على الكرامية المتَّهمين بالتجسيم ومدحهم، وهم المكفَّرين من قِبل أهل السنّة (3). والسؤال هنا هو: ما موقف الوهابييِّن من هذه


1- انظر: العقيدة، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ج 1، ص 108.
2- لمع الأدلّة في قواعد أهل السنّة: باب نقض فكرة قيام الحوادث بذات الباري تعالى، ج 1/ 102. والجويني الأشعري توفّي في عام 478 ه.
3- انظر: منهاج السنة، ج 1، صص 143، 156 و 180 و قد ربط أقوال الكرامية بأقوال أهل السنة.

ص: 98

الإشكالية التي أوقعهم فيها ابن تيميّة؟

قال أبو سعيد النيسابوري: (وإذا ثبت كلام النفس، وبطل أن يكون الكلام بمعنى الفعل، فقد ثبت كونه تعالى متكلِّما، فلابدّ وأن يكون كلامه قديماً؛ لأنَّه لا يجوز قيام الحوادث بذاته) (1)

وقال أبو الفتح الشهرستاني: (وممّا أوجب التشبيه؛ قيام الحوادث بذاته، وقد ذهبت الكرامية إلى جواز ذلك) (2)

وقال الرازي: (إنَّ قيام الحوادث بذات الله تعالى محال؛ لأنَّ تلك الذات وإن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها، لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات، وإن لم تكن كافية فيه، فحينئذ تكون تلك الذات واجبة الاتّصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها، وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شي ء منفصل، والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته؛ ينتج أنَّ الواجب لذاته ممكن لذاته، وهو محال) (3)

وقال الخطيب الرازي: (إنَّه يستحيل قيام الحوادث بذات الله تعالى، خلافاً للكرامية، والدليل عليه أنَّ كل ما كان قابلًا


1- انظر: الغنية في أصول الدين، ج 1، ص 68. والنيسابوري توفّي عام 478 ه.
2- انظر: نهاية الإقدام في علم الكلام، ج 1، ص 69. والشهرستاني توفّي عام 548 ه.
3- انظر: مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير، ج 1، ص 113. والرازي شافعي المذهب وتوفّي عام 604.

ص: 99

للحوادث، فإنَّه يستحيل خلوّه عن الحوادث، وكل ما كان يمتنع خلوّه عن الحوادث، فهو حادث، ينتج: أنّ كل ما كان قابلًا للحوادث، فإنّه يكون حادثاً.

عند هذا نقول: الأجسام قابلة للحوادث، فيجب كونها حادثة.

ونقول أيضاً: إنَّ الله تعالى يمتنع أن يكون حادثاً، فوجب أن يمتنع كونه قابلًا للحوادث) (1)

قال ابن تيميّة: (والآمدي قدح في الطرق التي اعتمد عليها الرازي كلها، والمقصود هنا ذكر طعن الآمدي في حُجج نفسه التي احتجّ بها على نفي كونه جسماً، ونفي قيام الحوادث به) (2)

وقال ابن عابدين في حاشيته: (وكذا المشبّهة في الصفات، هم الذين يجوّزون قيام الحوادث به تعالى، فيجعلون بعض صفاته حادثة كصفات الحوادث) (3)

وقال ابن حجر حول حديث (كان الله ولاشي ء معه): (وهو أصرح في الردِّ على مَن أثبت حوادث لا أوّل لها من رواية


1- انظر: معالم أصول الدين، ج 1، ص 49. والرازي الخطيب توفّي عام 606 ه. وللتوسّع في هذا الأمر أنظر: غاية المرام في علم الكلام للآمدي، المتوفّى عام 631 ه؛ والفتوحات المكّية لابن عربي، المتوفّى عام 638 ه، على خلاف في سنة وفاته؛ والمواقف للآبجي، المتوفَّى عام 756 ه؛ وشرح المقاصد في علم الكلام للتفتازاني، المتوفّى عام 791 ه؛ وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لشمس الدين الزرعي، المتوفّى عام 751 ه.
2- انظر: درء تعارض العقل والنقل، ج 4، ص 268.
3- انظر: ردّ المحتار على الدرّ المختار- شرح تنوير الأبصار. وابن عابدين توفّي عام 1252 ه.

ص: 100

الباب، وهي من مستشنَع المسائل المنسوبة لابن تيميّة، ووقعت في كلام له على هذا الحديث، يرجّح الرواية التي في هذا الباب على غيرها، مع أنّ قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه على التي في بدء الخلق (أوّل شي ء خلقه الله القلم) لا العكس، والجمع يُقدَّم على الترجيح بالاتّفاق) (1)

ويُثبت حفيد ابن عبد الوهاب تبنّي الوهابيّون لقيام الحوادث به تعالى، بقوله: قلتُ، ومعنى قيام الحوادث به تعالى قدرته عليها وإيجاده لها، بمشيئته وأمره (2)

ويثبتها أيضاً شارح نونيَّة ابن القيّم بقوله: (والقائلون بأنَّ الخلق هو المخلوق، فرّوا من قيام الحوادث بالربّ تعالى) (3)

وقال ابن تيميّة- بالإضافة إلى ما سبق- بفناء النار، ممّا أدّى إلى ثورة فقهاء أهل السنّة عليه، وعلى رأسهم السبكي، الذي قال: (فإنَّ اعتقاد المسلمين أنَّ الجنّة والنار لاتفنيان. وقد نقل أبو محمد بن حزم الإجماع على ذلك، وأنَّ مَن خالفه كافر بالإجماع. ولاشكّ في ذلك؛ فإنّه معلوم من الدين بالضرورة) (4)

ونقل البخاري: (كفرت الجهميّة في غير موضع من كتاب


1- انظر: فتح الباري، ج 13، ص 410، كتاب التوحيد، ج 2، ص 354.
2- انظر: شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ج 1، ص 645. المتوفّى عام 1233 ه.
3- انظر: شرج منظومة ابن القيّم، ج 1، ص 348.
4- انظر: مقدّمة المواعظ؛ والاعتبار ببقاء الجنّة والنّار.

ص: 101

الله؛ لقولهم إنَّ الجنة تفنى، فمَن قال إنَّها تنفذ، فقد كفر، ومَن قال إنَّها لا تدوم، فقد كفر، ومَن قال إنَّها لا تنقطع، فقد كفر، وقد أبلغوا أنَّهم كفّار، وأنَّ نساءهم طوالق) (1)

وقال أبو القاسم الأصبهاني: (مَن قال الجنّة والنار كُتب عليهما الفناء، فقد كفر) (2)

وقال الملطي: (ومنهم صنف زعموا أنَّ الجنّة والنار لم يخلقهما الله بعد، وأنّهما تفنيان بعد خلقهما، تعالى الله عّما يقولون علوّاً كبيراً) (3)

ويظهر لنا من خلال ما سبق أنَّ مجمل الردود على ابن تيميّة، والمحاكمات التي جرت له من قِبل فقهاء أهل السنّة، تدلّ دلالة قاطعة على شذوذه وانحرافه عن منهجهم وعقائدهم، وهو ما يسحب منه الصفة الشرعية في التحدّث بلسانهم ولسان السلَف، وينفي من جهة أُخرى فكرة تعلّقه بالإجماع (4)، وهو يقطع الطريق على الوهابيّين الذين جعلوه إمامهم، ويضعهم في دائرة المشبِّهة والمجسِّمة، ويسحب بساط أهل السنّة من تحت أرجلهم.

ويبدو لنا من كثرة المنشورات الوهابية التي تصدر في الردِّ على الخصوم، فيما يتعلَّق بمسألة الصفات، أنَّ الهجمة عاتية


1- انظر: خلق أفعال العباد؛ وكذلك: حكم ابن حنبل في السنّة، ج 1/ 32.
2- انظر: الحجّة في بيان المحجّة، ج 1، ص 251. والأصبهاني توفّي عام 525 ه.
3- انظر: التنبيه والردّ على أهل الهواء والبدع، ج 1، ص 98. والملطي الشافعي توفّي عام 377 ه؛ وانظر: رفع الأستار لإبطال أدلّة القائلين بفناء النار للصنعاني: المتوفّى عام 1183 ه.
4- انظر: نماذج من هذه الردود في ملاحق الكتاب.

ص: 102

وشديدة عليهم من قِبل فقهاء أهل السنّة.

وهناك معارك مستمرة بين الوهابيّين المعاصرين وخصومهم بسبب قضية التجسيم والتشبيه؛ نتجت عنها العديد من المنشورات، التي تؤكّد لنا ثباتهم على هذا المعتقد (1)

ويبدو أنَّ أحد الوهابيّين المعاصرين أحس بتخبّط ابن تيميّة ومدى انحرافه عن عقيدة أهل السنّة، فأعلن صراحة نقده لمعتقداته ورفضه لها؛ وهو ما يكشف لنا مدى الأزمة التي يعيشها الوهابيّون بسبب تبنّيهم لأفكار ابن تيميّة ومعتقداته، حول التجسيم والتشبيه وقضايا أُخرى (2)

وكان الألباني المحدِّث الوهابي المعاصر قد ردَّ على ابن تيميّة في مسألة قيام الحوادث بالله تعالى، في معرض شرحه لحديث (إنّ أوَّل شئ خلقه الله القلم)، وقال:

(لقد أطال ابن تيميّة الكلام في ردِّه على الفلاسفة،


1- انظر: منهج ودراسات في الأسماء والصفات للشنقيطي؛ وعقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن للتويجري؛ وشرح ابن عثيمين تلميذ ابن باز للمعة الاعتقاد لابن قدامه الحنبلي، والتي قال فيها عن الاستواء: هو استواء حقيقي، معناه العلو والاستقرار، وانظر قوله في عقيدة أهل السنّة والجماعة: ونؤمن أنّ الله على على خلقه بذاته وصفاته، واستواءه على العرش علوّه عليه بذاته، ونؤمن بأنّ الله مع خلقه على العرش، ونؤمن بأنّ لله تعالى عينين حقيقيّتين؛ وانظر: رسالة القول المختار لبيان فناء النار، التي تدافع عن ابن تيميّة.
2- مثل قضية الجهاد، والتصادم مع الحكام، والواقائع التي قامت على أساس فتاوى ابن تيميّة. وقد تراجع قطاع كبير من الوهابيين عن فكرة العنف ومقاتلة مُعطّلي الشرائع، والتزموا بطاعة أُولي الأمر، سيراً مع عقائد أهل السنّة. انظر لنا ثقافة الإرهاب في كتب الوهابية.

ص: 103

محاولًا إثبات حوادث لا أوّل لها، وجاء في أثناء ذلك بما تُحار فيه العقول، ولاتقبله أكثر القلوب، فذلك القول منه غير مقبول، بل هو مرفوض بهذا الحديث، وكم كنّا نودّ أن لا يلج ابن تيميّة هذا المولج، لأنَّ الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام) (1)

وردَّ عليه في قوله بفناء النار، ووجَّه النقد إليه وإلى تلميذه ابن القيّم.

ومن بين ما قاله: (فكيف يقول ابن تيميّة: ولو قدّر عذاب لا آخر له، لم يكن هناك رحمة البتّة، فكأنَّ الرحمة عنده لا تتحقَّق إلّا بشمولها للكفّار المعاندين الطاغين. أليس هذا من أكبر الأدلّة على خطأ ابن تيميّة وبعده هو ومَن اتّبعه، عن الصواب في هذه المسألة الخطيرة) (2)

والعجيب أنَّ واحداً من الوهابيّين لم يعجبه موقف الألباني من مسألة فناء النار، فقام بالردِّ عليه دفاعاً عن ابن تيميّة (3). وقام وهابي آخر بالتصدّي له، وأصدر رسالة في الردِّ عليه (4)

وردَّ الألباني قول ابن تيميّة باستقرار الله سبحانه على ظهر بعوضة، وقال: (وهذا يستلزم نسبة الاستقرار عليه لله تعالى، وهذا ممّا لم يرد، فلا يجوز اعتقاده ونسبته إلى الله


1- انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج 1، ص 208.
2- انظر: مقدّمته على كتاب رفع الأستار لإبطال أدلّة القائلين بفناء النار.
3- انظر: رسالة القول المختار لبيان فناء النار.
4- انظر: رسالة كشف الأستار لإبطال ادّعاء فناء النار.

ص: 104

عزّ وجلّ) (1)

وردَّ الألباني قول ابن تيميّة بقعود الله سبحانه على العرش، ومحمد (ص) إلى جواره، وقال معلّقاً على ما استند عليه ابن تيميّة، من أقوال مجاهد وغيره: (إنَّ قول مجاهد هذا، وإن صحَّ عنه، لا يجوز أن يُتَّخذ ديناً وعقيدة؛ ما دام أنَّه ليس له شاهد من الكتاب والسنّة) (2)

وردَّ الألباني على ابن تيميّة في مسالة إنكاره للمجاز (3)، وردَّ حديث: (خلق الله آدم على صورة الرحمن) (4)، وردَّ قول ابن تيميّة: بأنَّ صفة العلو والفوقية حقيقية، وأنَّ معيّة الله بالعلم، وقول الوهابيّين أنّ معيّته ذاتية (5)

وقال عن المعطّلة: (ينفون علوّه تعالى على خلقه، وأنّه بائن من خلقه، بل يصرّح بعضهم بأنّه موجود بذاته في كل وجود) (6)

وكأن الألباني بقوله هذا ينسب الوهابيّين للمعطّلة.

وأثبت ابن تيميّة الحركة لله تعالى، وردَّ الألباني هذا الكلام (7)

والوهابيّون قد بالغوا في التجسيم والتشبيه، حتى أنّهم تجاوزا غلوّ ابن تيميّة، وهو ما يبدو من قول ابن عثيمين: (إنَ


1- انظر: مقدّمة مختصر العلو.
2- المرجع السابق.
3- المرجع السابق.
4- انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة: ج 3/ 1175 و 1176
5- مقدّمة مختصر العلو.
6- انظر: مقدّمة شرح الطحاوية.
7- مقدّمة مختصر العلو.

ص: 105

لله معيّة حقيقية ذاتية كما ذكرنا، ومَن كان هذا شأنه، كان مع خلقه حقيقة، وإنْ كان فوقهم على عرشه)، وهو ما لم يقله ابن تيميّة (1)

وقد تصدَّى بعض الوهابيّين لابن عثيمين وردّوا مقالته (2)

قال الشيخ الزرقاني: (لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر، فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق، وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه، وتحتمل الكفر والإيمان، حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات. ومن المُؤسف أنَّهم يواجهون العامّة وأشباههم بهذا، ومن الخطر أنّهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح، ويُخيّلون إلى الناس أنّهم سلَفيّون.

من ذلك قولهم: إنَّ الله يُشار إليه بالإشارة الحسيّة من الجهات الست، جهة الفوق.

ويقولون: إنَّه استوى على عرشه بذاته استواءً حقيقياً، بمعنى أنَّه استقرّ فوقه استقراراً حقيقياً. غير أنّهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا، وليس على ما نعرف.

ليس لهم مستند فيما نعلم إلّا التشبّث بالظواهر، وقد علمت أنَّ حمل المتشابهات في الصفات على ظواهرها، مع


1- انظر: عقيدة أهل السنّة والجماعة.
2- انظر: رسالة النقول الصحيحة الواضحة الجلية عن السلف الصالح في معنى المعيّة الإلهية الحقيقية؛ ورسالة الأقوال السلفية النقية في الردّ على مَن قال إنّ معيّة الله ذاتية.

ص: 106

القول بأنَّها باقية على حقيقتها، ليس رأياً لأحد من المسلمين، وإنّما هو رأي لبعض أصحاب الأديان الأُخرى، كاليهود والنصارى، وأهل النِحل الضالّة، كالمُشبِّهة والمُجسِّمة) (1)

وإذا كان ابن تيميّة يدَّعي التمسُّك بنهج السلَف.

والألباني يدَّعي التمسّك بنهج السلف.

وابن عثيمين يدَّعي التمسّك بنهج السلف.

والرادّين عليه يدَّعون التمسّك بالسلف.

وكلّ هؤلاء مختلفون متصادمون ..

فأين الحقيقة إذن؟!

ومَن مِن هؤلاء يمثِّل السلف؟

والجواب هو: أنَّ جميع هؤلاء لا يمثّلون السلف، بل يتمسّحون بهم.

وإذا كان الوهابيّون قد تبرَّؤوا من الأشاعرة والماتريدية والفلاسفة وأهل الكلام، والمذاهب من أهل السنّة في الماضي، إتِّباعا لنهج ابن تيميّة، فهم قد تبرَّؤوا في الحاضر من التيّارات والجماعات الإسلامية، والكتّاب والمفكّرين الذين يخالفونهم من أهل السنّة.

وحالهم في هذا كحال ابن تيميّة الذي لم يرضَ عن أحد، ولم يعجبه أحد، وكلّ مَن خالفه فهو مُبتدع ضالّ.

من هنا، هاجم الوهابيّون جماعة الإخوان المسلمين،


1- انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج 2، ص 187.

ص: 107

وإمامهم حسن البنا.

وهاجموا سيّد قطب.

وهاجموا جماعة التبليغ والدعوة.

وهاجموا المُنشقِّين عليهم.

وهاجموا المقلّدين للمذاهب.

وهاجموا كل مَن لم يلتزم بعقائدهم.

وكل هؤلاء من أهل السنّة.

واعتبروا هؤلاء من الضالّين المبتدعين، المعطّلين للصفات والنافين لها، السائرين على نهج الجهميّة والمُعطّلة (1)

والسؤال هو: مَن الذي يمثِّل أهل السنّة: الوهابيّون، أم هذه المذاهب والتيارات التي يناصبونها العداء؟

والجواب هو أنَّ هذه المذاهب والتيّارات هي التي تمثِّل أهل السنّة؛ لارتباطها بعقائدهم وسلفهم. أمّا الوهابيّون، فيتّبعون عقيدة ابن تيميّة الشاذّة، التي نبذها أهل السنّة وحاربوها.

وقد تبنّى الوهابيّون بدعة ابن تيميّة بتقسيم التوحيد إلى ثلاث أقسام، هي:

توحيد الإلوهية.


1- انظر مثال ذلك: تنبيهات في الردّ على مَن تأوّل الصفات، من إصدار الرئاسة العامّة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء؛ ورسالة المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال، أي كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب، الذي ذكر فيه: إنّ الله لا يتحيّز في مكان. وقال صاحب الرسالة في الردِّ عليه: وهذا قول أهل البدع، كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة؛ وانظر: منشور حقيقة الدعوات الإسلامية في جزيرة العرب.

ص: 108

وتوحيد الربوبيّة.

وتوحيد الأسماء والصفات.

وهي بدعة لم يقل بها أحد من السلف، ولم تقرّها عقيدة أهل السنّة.

والهدف من هذا التقسيم هو إرهاب المخالفين، والضحك على البسطاء وضعاف العقول؛ عن طريق إيهامهم أنَّ الإيمان لا يكتمل إلّا بتبنّي أفكارهم حول أسماء وصفات الله. والهدف منه أيضاً، تبرير تكفير المخالفين.

وهو ما أقرَّه ابن تيميّة والتزم به ابن عبد الوهاب، من أنَّ المشركين كانوا يُقرِّون بتوحيد الربوبيّة دون توحيد الإلوهية، وتمَّ تطبيق هذا المنظور على المسلمين المخالفين الذين أجازوا التوسّل بالرسول (ص)، والاستغاثة به وبالأولياء، والذين اعتُبروا في منظور ابن تيميّة وتابعه ابن عبد الوهاب من المشركين، لكونهم يقرِّون بتوحيد الربوبيّة دون توحيد الإلوهية.

وفكرة كون المشركين والكفار كانوا يوحّدون الربوبيّة من مغالطات ابن تيميّة؛ فكلّ نصوص القرآن تؤكّد أنَّهم لم يكونوا يقرّوا بالربوبيّة ولابالإلوهية.

كذلك الأمر بالنسبة لما أسموه توحيد الأسماء والصفات؛ فكل مَن خالف معتقدهم فيها كان من الخارجين عن الدين.

من هنا .. رفع الوهابيّون شعار التوحيد، وربطوا بين مُشركي الأمس ومخالفيهم؛ كي يموِّهوا على المسلمين،

ص: 109

ويبرِّروا لأنفسهم تكفير المخالفين، بل وإراقة دمائهم واستحلال أموالهم؛ باعتبارهم من المشركين.

قال ابن تيميّة عن الفلاسفة والفقهاء: (أخرجوا من التوحيد ما هو منه، كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله، ولم يعرفوا من التوحيد إلّا توحيد الربوبية، وهو الإقرار بأنَّ الله خالق كل شي ء، وهذا التوحيد كان يقرّ به المشركون، الذين قال الله عنهم: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ (1)

وهو ما قام بتطبيقه على المسلمين ابن عبد الوهاب، حين ظهر ببدعته في جزيرة العرب، واستخدم سيوف آل سعود في إراقة دماء المسلمين، من الفقهاء والأشراف والعامّة، الذين عدَّهم من المشركين المستباحين (2)

والنتيجة التي نخرج بها من وراء ذلك كلّه، هي أنَّ الوهابيّين يكذبون على أهل السنّة، ويدَّعون تمثيل السلَف والتلحّف بالتوحيد.


1- سوف يتمّ استعراض هذه النصوص في الفصل القادم. وانظر: التنديد بمَن عدَّد التوحيد للسقاف، وبحوثه الرائعة الأخرى في هذا المجال.
2- انظر: شرح كتاب التوحيد، ص 119 وما بعدها، ورسائله الأخرى.؛ وانظر خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام؛ والدرر السنيّة لزيني دحلان و تفصيل ذلك في كتابنا ثقافة الإرهاب في كتب الوهابية.

ص: 110

ص: 111

أكاذيبهم حول القبور والتوسُّل

اشارة

اعتاد المسلمون منذ قرون طويلة تكريم أئمّتهم ورموزهم، ببناء قبور خاصة بهم، وبناء القباب فوق هذه القبور.

واعتاد المسلمون- أيضاً- الاحتفال بهؤلاء الأئمّة، وإحياء المناسبات الخاصّة بهم، وزيارة مراقدهم والتوسّل بهم عند الله سبحانه.

ولم يبرز من بين الفقهاء مَن يعترض على هذه الظاهرة أو يستنكرها، أو يعتبرها من البِدع والضلالات، حتى برز ابن تيميّة في القرن الثامن الهجري، وأعلن الحرب على هذه المراقد وعلى أصحابها، وحرّم شدَّ الرحال إليها، ومن بينها قبر الرسول (ص)، واعتبر التوسّل بالرسول وأصحاب هذه المراقد من الشرك، والزيارة والتبرّك بها عبادة لغير الله.

ولم يكن لابن تيميّة من دليل على هذا، سوى بعض الروايات المختلف على صحّتها وعلى تفسيرها بين الفقهاء،

ص: 112

وبعض الأقوال الشاذَّة لبعض الحنابلة؛ وهو ما أدَّى إلى تصدّي الفقهاء له، وإعلان الحرب عليه من قِبلهم، بسبب تبنّيه لمثل هذه الأمور.

وتبنّى ابن عبد الوهّاب أفكار ابن تيميّة، وفرضها على المسلمين في جزيرة العرب بسيوف آل سعود، وجعلها من أساسيّات التوحيد، وحكم على مخالفيه من المسلمين بالشرك والكفر، واستحلَّ دمائهم وأموالهم.

ومنذ ذلك الحين، حمل الوهابيّون راية المواجهة مع المسلمين، متسلّحين بهذه الأفكار، التي عدّوها من المسلَّمات، لتُصبح شغلهم الشاغل، وأرهبوا بها العامّة والبسطاء من الناس.

وفي دائرة هذا الباب، سوف نستعرض موقف الفقهاء من هذه المسألة، ليتبيَّن لنا أنَّ دعوى الوهابيّين في تحريم زيارة القبور والتوسّل دعوى شاذَّة، نقضها فقهاء أهل السنّة، وهي ليست سوى أكذوبة تضاف إلى أكاذيبهم الكثيرة.

موقف الفقهاء

كان تفجير ابن تيميّة لمسألة التوسّل وزيارة قبر النبي (ص)، وقوله بتحريمها، قد دفع بفقهاء أهل السنَّة إلى التصدّي له، وتبيين موقف أهل السنّة منها.

وعلى رأس فقهاء أهل السنَّة الذين تصدّوا له، القاضي الفقيه الشافعي تاج الدين السبكي، بكتابه الشهير (شفاء

ص: 113

السقام في زيارة خير الأنام).

قال في مقدِّمته: (أمّا بعد .. فهذا كتاب سمَّيته شفاء السقام في زيارة خير الأنام، ورتّبته على عشرة أبواب:

* الأوّل: القول في الأحاديث الواردة في الزيارة.

* الثاني: في الأحاديث الدالَّة على ذلك، وإن لم يكن فيها لفظ الزيارة.

* الثالث: فيما ورد في السفر إليها.

* الرابع: في نصوص العلماء على استحبابها.

* الخامس: في تقرير كونها قربة.

* السادس: في كون السفر إليها قربة.

* السابع: في دفع شُبه الخصم وتتبُّع كلماته.

* الثامن: في التوسّل والاستغاثة.

* التاسع: في حياة الأنبياء.

* العاشر: في الشفاعة، لتعلّقها بقوله (ص): (مَن زار قبري وجبت له شفاعتي).

وضمَّنت هذا الكتاب الردّ على مَن زعم أنَّ أحاديث الزيارة كلها موضوعة، وأنَّ السفر إليها بدعة غير مشروعة، وهذه المقالة أظهر فساداً من أنْ يردّ العلماء عليها، ولكن جعلت هذا الكتاب مستقلًّا في الزيارة وما يتعلّق بها، مشتملًا من ذلك على جملة يعزّ جمعها على طالبها، وكنت سمّيت هذا الكتاب: (شنُّ الغارة على مَن أنكر الزيارة)، ثُمَّ اخترت التسمية المتقدّمة).

ص: 114

ويبدو لنا من خلال فصول الكتاب، أنَّ السبكي يقرّر معتقد أهل السنّة وموقفهم في مسألة الزيارة والتوسل، وهو المعتقد الذي خالفه ابن تيميّة، وتبعه الوهابيّون عليه.

وحنابلة الماضي، من المتطرّفين الذين تبعوا ابن تيميّة، قاموا بالهجوم على السبكي، دفاعاً عن ابن تيميّة، وتبعهم الوهابيّون في هذا الهجوم (1)

وقام الشيخ التقي ابن الأخنائي المالكي (2) بالردِّ على ابن تيميّة في مسألة الزيارة برسالة:

(المقالة المرضيَّة في الردِّ على مَن أنكر الزيارة المحمديَّة).

فردَّ على ابن تيميّة واستجهله، وأعلمه أنّه قليل البضاعة في العلم.

قال الأخنائي في مقدِّمة رسالته: (أمّا بعد .. فإنَّ العبد لمّا وقف على الكلام المنسوب لابن تيميّة، المنقول عنه من نسخة فُتياه، ظهر لي من صريح ذلك القول وفحواه مقصده، فعند ذلك شرح الله صدري للجواب عمّا نقل فيه من مقالته،


1- انظر: الصارم المنكي في الردّ على السبكي، لمحمد بن عبد الهادي بن قدامه المقدسي الحنبلي، المتوفّى عام 744 ه. وهو من منشورات الوهابيّين.
2- هو محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران، الإمام قاضي القضاة علم الدين الأخنائي، كان عالماً ديناً نزيهاً، وافر الجلالة حميد السيرة. انظر: ترجمته في الوافي بالوفيات، ج 2، ص 194؛ وحسن المحاضرة، ج 1، ص 460؛ وطبقات الشافعية: ج 2، ص 283؛ والدرر الكامنة، ج 1، ص 66. قيل توفّي في عام 732، أو 750، أو 763، أو 777 ه. ق.

ص: 115

وسارعت لإطفاء بدعته وضلالته.

فأقول وبالله التوفيق، وأن يوصلنا إليه من أسهل طريق: لقد ضلَّ صاحب هذه المقالة وأضلّ، وركب طريق الجهالة واستقلّ، وحاد في دعواه عن الحق وما جاد، وجاهر بعداوة الأنبياء وأظهر لهم العناد، فحرَّم السفر لزيارة قبر الرسول وسائر القبور، وخالف في ذلك الخبر الصحيح المأثور.

لكن كم لصاحب هذه المقالة من مسائل خرق فيها الإجماع، وفتاوى أباح فيها ما حرم الله من الاستبضاع، وتعرّض لتنقيص الأنبياء، وحطّ من مقادير الصحابة والأولياء، فتعيَّن مجاهدته والقيام عليه، والقصد بسيف الشريعة المحمدية إليه، وإقامة ما يجب بسبب مقالته نصرةً للأنبياء والمرسلين، ليكون عبرة للمعتبرين، وليرتدع به أمثاله من المتمرّدين). ا ه

وتلقَّف الوهابيّون ردّ ابن تيميّة، وقاموا بتحقيقه ونشره وإشاعته بين المسلمين (1)

وممّا يؤكّد كذب الوهابيّون فيما يتعلّق بمسألة القبور والتوسّل، نصوص كتب عقائد أهل السنّة التي لم تُشر من قريب أو بعيد لهذه المسألة. وعلى رأس هذه الكتب كتاب (اعتقاد الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل)، وهو من الكتب التي


1- قُدّم التحقيق لجامعة الملك سعود لنيل درجة الماجستير، وطُبع في الرياض، ويُعدّ هذا الردّ من آخر ما كتب ابن تيميّة في حبسه الأخير الذي مات فيه، وقد قام الأخنائي بشكوى ابن تيميّة للسلطان، الذي أمر بإخراج ما عنده من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومنع من الكتابة والمطالعة. انظر: تاريخ ابن كثير، ج 14، حوادث عام 726 ه، عام وفاة ابن تيميّة.

ص: 116

تبنّاها الوهابيّون، وقد قال فيه ابن حنبل بجواز الكرامات على الأولياء، ووجوب التفريق بينهما. وكذلك في رسالة السنّة لولده عبد الله، بينها وبين المعجزة. وأنكر على مَن ردَّ الكرامات وضلَّله.

وفي أُصول السنّة- له أيضاً- لم يُشر إلى شي ء يتعلَّق بالتوسّل والقبور.

والطريف أنَّ ابن حنبل كان له قبر يزوره أتباعه ومحبّيه، وغمرته المياه مع غمرته من مشاهد و مزارات بعد فيضان دجلة وعزمه بصداق (1)

ومن الغريب أنَّ ابن تيميّة نقل عن ابن حنبل قوله عن الدعاء عند قبر الرسول (ص):

(.. وسلِ الله حاجتك، متوسّلًا إليه بنبيّه، تُقض من الله عزّ وجلّ ..) (2)

وإذا كان ابن حنبل، الذي يعدّونه إمامهم، لم يُشر لمسألة القبور والتوسّل، فمن أين أتى الوهابيّون بهذه المسالة، وكيف ضخّموها كل هذا التضخيم، حتى حكموا على المسلمين المخالفين بالكفر والشرك على أساسها؟!

والجواب هو: أنّهم أتوا بها من ابن تيميّة، الذي لم يتمرّد


1- انظر: أنظر البداية والنهاية ج 12، ص 109، حوادث عام 466 ه- وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 8، ص 402، حوادث عام 460 ه-، وأنظر ذيول العبر للذهبي، ج 1، ص 137. وقال ابوالفداء في أنباء الغمر في أنباء العمر، ج 1، ص 80، وصارت الرصافة ومشهد احمد و مشهد أبي حنيفة وغيرها من المشاهد والمزارات لا يول اليها الا بالمراكب ...
2- انظر: الردّ على الأخنائي، ص 168.

ص: 117

على أهل السنّة وحدهم، بل تمرّد على إمامه ابن حنبل أيضاً.

وفي العقيدة الواسطية لابن تيميّة، لم يُشر- أيضاً- فيها لمسألة القبور والتوسّل، بل قال في افتتاحيّتها: (أما بعد .. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنّة والجماعة ..). والعقيدة الطحاوية لا توجد بها أيّة إشارة لهذه المسألة، ورغم ذلك قام الوهابيّون بتحقيقها ونشرها (1)

وحتى في كتب الاعتقاد الحنبلية وغير الحنبلية، التي يقوم الوهابيّون بنشرها، لا توجد إشارة لهذه المسألة، سوى في بعض الكتب المتأخّرة بعد ظهور ابن تيميّة (2)

وجميع كتب العقائد عند أهل السنّة تركّز على مسألة صفات الله تعالى، والسمعيّات، ومسألة الصحابة، وهي تُجمع على عدم تكفير أهل القبلة بذنب كبير أو صغير (3)

واستند الوهابيّون على حديث يقول: (لا تُشدّ الرحال إلّا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا).

وبمناقشة هذا الحديث نخرج بما يلي:

أنَّ هذا الحديث فيه وقفات:

أوّلًا: إنَّ المسجد الحرام ومسجد الرسول به قبور.


1- انظر: باب أكاذيبهم على التراث.
2- انظر كمثال على ذلك: رسالة السنة للبربهاري؛ واعتقادات أهل الحديث لأبي بكر الإسماعيلي؛ والتحفة المدنية في العقائد السلفية لحمد آل معمر؛ والأربعين في دلائل التوحيد لعبد الله الهروي؛ ولمعة الاعتقاد لابن قدامة.
3- عدا ابن حنبل الذي يكفِّر تارك الصلاة، والقائلين بخلق القرآن.

ص: 118

ثانياً: إنَّ المسجد الأقصى غير معروف مكانه.

ثالثاً: إنَّ أهل السنّة لم يفهموا هذا الفهم الذي فهمه الوهابيّون من الحديث، فهم لا يقولون بتحريم زيارة القبور.

رابعاً: إنَّ الوهابيّين يفرّقون بين زيارة مسجد الرسول وزيارة قبر الرسول، فهم يُقرِّون بجواز زيارة المسجد لا القبر.

وإذا كان محور الإشكال في زيارة قبر الرسول (ص)، فلماذا طلب الرسول شدَّ الرحال إلى مسجده وهو يحوي قبره؟!

وكيف يكون الحديث بهذا اللفظ الذي يوحي بمنع شدّ الرحال مطلقاً إلّا لهذه المساجد الثلاث؟!

قضيَّة التوسّل

ومن الأكاذيب الفاضحة للوهابية، أنَّهم عمدوا إلى أمور من الفقه والمستحبّات فجعلوها من المعتقدات، وبَنوا عليها مواقف تكفيرية وشركيّة وتبديعيّة استخدموها ضدّ المخالفين.

ومن بين القضايا التي استثمرها الوهابيّون وجعلوها من العقائد، قضية التوسّل.

والسؤال هنا هو: هل التوسّل حقّاً من مباحث الاعتقاد؟

يُعرِّف الشيخ الدومي التوسّل بقوله: (لا يخرج التوسّل في الحقيقة عن كونه سبباً من الأسباب العادية، التي نصبها الله تعالى مقتضيات لمُسبّباتها، وجعل بينهما مقارنة في الوجود، مع كون التأثير له وحده جلَّ وعلا، فيكون حكمه حكم بقية الأسباب العادية، التي يضمر فيها الإفراط والمغالاة كما يقع

ص: 119

من بعض الجُهّال.

والتفريط كما يقع من أهل القسوة والجفاء، المنكرين لخواص أولياء الله تعالى الثابتة، وكرامتهم الواقعة بالمشاهدة والعيان، إذ ليس من المستحيل، بل ولامن البعيد أن يعلِّق الله تعالى قضاء حاجة من الحوائج، كشفاءٍ من مرض، أو سعة في رزق، على التوسّل بأحد عباده الصالحين. وفي هذه الحالة لا يمكن أن يحصل المطلوب من الشفاء وغيره من غير طريق التوسّل بحال، لا لأنَّ التوسَّل مؤثِّراً بذاته، ولالأنَّ النبي أو الوليّ هو الذي خلق الشفاء وأوجده، بل لما سبق في علمه تعالى القديم من تعليق هذا الشفاء على التوسّل المذكور) (1)

ويقول الدكتور عيسى الحميري: (يعتقد بعض الناس أنَّ التوسّل من مباحث العقيدة، ويترتَّب على القول به تكفير أو تبديع أو تفسيق وتضليل. ولو نظرنا إلى هذه القضية بعين الإنصاف، لعلمنا أنَّ التوسّل ليس مبحثاً من مباحث الاعتقاد، وأمره يدور بين الجواز والندب، وما كان أمره كذلك فهو من موضوعات الفقه، وإقحام مباحث الفقه في العقيدة خطأ جسيم، وقلب للحقائق وصرف للأمور عن وجهها، والأصل أن ينزّل كل بحث في منزلته الصحيحة وفنِّه اللائق به. علماً بأنَّ جميع الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم الفقهية، يذكرون


1- انظر: من نفحات الدومي، ص 334 وما بعدها نقلًا عن التأمّل في حقيقة التوسّل، ص 56.

ص: 120

التوسّل في باب صلاة الاستسقاء، أو عند زيارة القبر النبوي الشريف، ولم نرَ أحداً من علماء أصول الدِّين يذكر التوسّل في التوحيد إطلاقاً) (1)

وينقل عن ابن تيميّة كلاماً مناقضاً لدعوى الوهابيّين، مثل قوله حول أقسام التوسّل:

(القسم الثالث: وهو أن يقول: الّلهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان عندك، أفعل بي كذا وكذا ..

فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلَف الأمّة أنّهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلّا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام، فإنّه أفتى أنَّه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك، إلّا للنبي 9، إنْ صحَّ الحديث في النبي 9 ومعنى الاستفتاء.

وقد روى النسائي والترمذي وغيرهما أنَّ النبي 9 علَّم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: (اللّهم إنِّي أسألك وأتوسّل إليك بنبيِّك نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله، إنِّي أتوسّل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي، اللّهم فشفِّعه فيّ).

فإنَّ هذا الحديث قد استدلَّ به طائفة على جواز التوسّل بالنبي 9 في حياته وبعد مماته.

قالوا: وليس في التوسّل دعاء المخلوقين، ولااستغاثة بالمخلوق، وإنّما هو دعاء واستغاثة بالله، لكن فيه سؤال


1- انظر: التأمّل في حقيقة التوّسل، ص 56 و ص 57.

ص: 121

بجاهه، كما في سُنن بن ماجه عن النبي 9 أنّه ذكرَ في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: (اللّهم إنِّي أسألك بحقِّ السائلين عليك، وبحقَّ ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً ولابطراً، ولارياءً ولاسمعة؛ خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تُنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت.

قالوا في هذا الحديث: أنَّه سأل بحقِّ السائلين عليه، وبحقِّ ممشاه إلى الصلاة، والله تعالى قد جعل على نفسه حقّاً؛ قال الله تعالى: (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين)، ونحو قوله: (كان على ربِّك وعداً مسؤولًا).

والتوسّل إلى الله بغير نبيّنا، سواء سُمّي استغاثة أم لم يُسمّ، لا نعلم أحداً من السلف فعله ولاروى فيه أثراً، ولانعلم فيه إلّا ما أفتى به الشيخ من المنع.

وأمّا التوسّل بالنبي 9، ففيه حديث في السُنن رواه النسائي والترمذي وغيرهما: أنَّ أعرابياً أتى النبي فقال: يا رسول الله، إنِّي أُصبت في بصري، فادع الله لي، فقال له النبي: (توضَّأ وصلِّ ركعتين، ثُمَّ قل: اللّهم أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمد، يا محمد إنِّي أتشفّع بك في ردِّ بصري، اللّهم شفّع نبيّك فيّ)، وقال: (فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك)، فردَّ الله بصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسّل به.

وللناس في معنى هذا قولان:

أحدهما: أنَّ هذا التوسّل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لمّا

ص: 122

قال: كنّا إذا أجدبنا نتوسّل بنبيّنا إليك فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمِّ نبيّنا، فاسقنا.

فقد ذكر عمر أنَّهم كانوا يتوسّلون به في حياته في الاستسقاء، ثُمَّ توسّلوا بعمّه العباس بعد موته، وتوسّلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولافي مغيبه، والنبي كان في مثل هذا شافعاً لهم، داعياً لهم، ولهذا قال في حديث الأعمى: (اللّهم فشفّعه فيّ)، فعُلم أنَّ النبي شفع له، فسأل الله أن يشفِّعه فيه.

والثاني: أنَّ التوسّل يكون في حياته وبعد موته، وفى مغيبه وحضرته، ولم يقل أحد أنَّ مَن قال بالقول الأوّل فقد كفر، ولاوجه لتكفيره؛ فإنَّ هذه مسألة خفيّة ليست أدلّتها جليّة ظاهرة، والكفر إنّما يكون بإنكار ما عُلم من الدِّين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمُجمَع عليها، ونحو ذلك، واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء ومالا يشرع، كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح، وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين.

وأمّا مَن قال: إنَّ مَن نفى التوسّل الذي سمّاه استغاثة بغيره كفر، وتكفير مَن قال بقول الشيخ عزّ الدِّين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المكفِّر بمثل هذه الأمور يستحقّ من غليظ العقوبة والتعزير، ما يستحقّه أمثاله من المُفترين على الدِّين، لا سيّما مع قول النبي: (مَن قال لأخيه

ص: 123

كافر، فقد باء بها أحدهما) (1)

واعتبر الشيخ حسن الإحسائي، وهو من الوهابيّين، أنَّ التوسّل من مسائل الفقه (2)

وقال الشيخ صديق القنوجي: (ومسألة التوسّل بالأنبياء والصالحين ممّا اختلف فيه أهل العلم، وبلغت النوبة فيه إلى أن كفَّر بعضهم بعضاً، أو بدَّع أو ضلَّل، والأمر أيسر من ذلك وأهون ممّا هنالك ..) (3)

وقال الدكتور الحميري معلّقاً: (وبالجملة، ليست المسألة مستحقّة لمثل هذه الخصومات والخلافات، ولكن أصبح أهل هذا الزمن طوائف، يستوي في الإنكار على أهل الله جاهلهم وعارفهم، ومنهم مَن يعلم أنَّك على الحق، وفعلك موافق لما جاء به النبي (ص)، ويجحده ويُماري ويجادل) (4)

وكان ابن حبّان، صاحب السُنن، يُكثر من زيارة قبر الإمام الرضا (ع)، ويتوسّل به كلّما ألمَّت به شدّة، قال عن قبره: (وقبره بسناباذ خارج النوقان مشهور يُزار، بجنب قبر الرشيد، قد زرته مراراً كثيرة، وما حلت بي شدّة في وقت مقامي بطوس، فزرت قبر على بن موسى الرضا (صلوات الله على جدِّه وعليه)، ودعوت الله إزالتها عنّي، إلّا أستُجيب لي، وزالت


1- انظر: كتب ورسائل وفتاوى ابن تيميّة في الفقه: ج 27، ص 83 وما بعدها، ولاحظ في العنوان كلمة الفقه، وهو إشارة لكون هذه المسائل من أمور الفقه، لا من أمور الاعتقاد.
2- التأمّل في حقيقة التوّسل، ص 58، نقلًا عن كتابه روضة الأفكار والأفهام.
3- انظر: نزل الأبرار، ص 37.
4- انظر: التأمّل في حقيقة التوسّل، ص 59.

ص: 124

عنّي تلك الشدّة. وهذا شي ء جرّبته مراراً فوجدته كذلك. أماتنا الله على محبّة المصطفى وأهل بيته، صلّى الله عليه، وسلَّم الله عليه وعليهم أجمعين) (1)

وقال الحاكم في تاريخ نيسابور، عن الإمام الرضا (ع): (أشخصه المأمون من المدينة إلى البصرة، ثُمَّ إلى الأهواز، ثُمَّ إلى فارس، ثُمَّ إلى نيسابور، إلى أن أخرجه إلى مَرو. وكان ما كان، يعني من قصّة استخلافه، قال: وسمع علي بن موسى أباه وعمومته، إسماعيل، وعبدالله، وإسحاق، وعلي بني جعفر، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، وغيرهم من أهل الحجاز، وكان يُفتي في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو ابن نيف وعشرين سنة. روى عنه من أئمّة الحديث: آدم بن أبي إياس، ونصر بن علي الجهضمي، ومحمد بن رافع القشيري، وغيرهم ..

استشهد علي بن موسى بسناباذ في طوس، ليلة الجمعة من شهر رمضان من سنة 203، وهو ابن 49 سنة وستّة أشهر، ثُمَّ حُكي من طريق أُخرى أنَّه مات في صفر.

قال: وسمعت أبا بكر، محمد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسى، يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي، مع جماعة من مشايخنا، وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس. قال: فرأيت من تعظيمه- يعني بن خزيمة- لتلك


1- انظر: الثقات: ج 8، ص 457. وابن حبّان توفّي عام 354 ه.

ص: 125

البقعة، وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيَّرنا!) (1)

وقال أبو سعد بن السمعاني في الأنساب: (قال أبو حاتم بن حبان، يروي عن أبيه العجائب، كأنَّه كان بهم يخطب: ومات يوم السبت، آخر يوم من صفر، وقد سُمّ في ماء الرمّان وسقي ..

قلت: وأورد له ابن حبان بسنده عن آبائه مرفوعاً: السبت لنا والأحد لشيعتنا، والاثنين لبني أُميَّة والثلاثاء لشيعتهم، والأربعاء لبني العباس والخميس لشيعتهم، والجمعة للناس جميعاً.

وبه: لمّا أُسري بي إلى السماء، فسقط إلى الأرض من عرقي، فنبت منه الورد، فمَن أحبّ أن يشمّ رائحتي فليشمّ الورد.

وبه: ادهنوا بالبنفسج؛ فإنّه بارد في الصيف، حار في الشتاء.

وبه: مَن أكل رمّانة بقشرها حتى يستتمّها، أنار الله قلبه أربعين يوماً.

وبه: الحنّاء بعد النورة أمان من الجذام.

وبه: كان (صلّى الله عليه وسلّم) إذا عطس، قال له علي: يرفع الله ذكرك، فإذا عطس علي قال له: أعلى الله كعبك.

وفيه: مَن أدَّى فريضة، فله عند الله دعوة مستجابة.

وكان الرضا من أهل العلم والفضل، مع شرف النسب) (2)


1- تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، ج 7، ص 339.
2- المرجع السابق، ج 7، ص 339.

ص: 126

وروى عن الخلال قوله: (ما همَّني أمر فقصدت قبر موسى ابن جعفر الكاظم (ع) فتوسَّلت به، إلّا سهّل الله لي ما أُحب) (1)

وروي عن النبي (ص) قوله: (حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، فإذا متُّ كانت وفاتي خير لكم، تُعرض عليّ أعمالكم، فإن وجدت خيراً، حمدت الله، وإنْ وجدت شرّاً استغفرت لكم) (2)


1- انظر: تاريخ بغداد، ج 1، ص 120.
2- رواه البزار في مسنده، ج 5، ص 308؛ والهيثمي في مجمع الزوائد، ج 9، ص 24، باب ما يحصل لأمته من استغفاره بعد وفاته، والسيوطي في الخصائص، ج 2، ص 491، باب اختصاصه بعدم بلاء جسده.

ص: 127

أكاذيبهم على التُراث

اشارة

كانت سنَّة الوهابيّين على الدوام هي العمل على تطويق خصومهم، وسدّ منافذ المعرفة أمامهم، كي يصبحوا صيداً سهلًا لهم.

من هنا عمل الوهابيّون على تصيّد الكتب النافعة لهم، والتي تخدم أفكارهم وتدعم عقائدهم، من أصحاب المذاهب السنّية الأُخرى، التي يناصبونها العداء ويكفّرونها.

أمّا الكتب الأُخرى، التي تفضح عقائدهم وتكشف أكاذيبهم وتُعرِّيهم، فقد قاموا بالسطو عليها وتحريفها، وحذفوا منها النصوص والعبارات التي يمكن الاحتجاج بها عليهم، وأعادوا نشرها من جديد.

وقد وقع العديد من الباحثين، قليلي الاطلاع والمعرفة بالتراث، في فخِّ الوهابيّة، وتقبّلوا هذه الكتب المزيَّفة واعتمدوها.

ص: 128

وفي مصادر الوهابيّين العديد من التحذيرات والتخويف والإرهاب، والتي تصل لحدِّ التحريم من كتب المخالفين، وفي مقدِّمتها كتب الفلسفة، والمنطق، وعلم الكلام، بالإضافة إلى كتب التيّارات والمذاهب.

والجدير بالذكر هنا، أنَّ كتاب منهاج السنّة لابن تيميّة، الذي يعدّونه السَند الأكبر لهم في مواجهة الشيعة، قد اكتشفوا وجود العديد من العورات فيه، خاصةً المآخذ والسقطات التي وقع فيها ابن تيميّة في ردِّه على الحلّي، والتي نبَّه إليها ابن حجر العسقلاني؛ وهو ما دفع بهم إلى تحقيقه والإضافة عليه، ليصل حجمه إلى عدّة مجلّدات.

وسوف نعرض في دائرة هذا الباب العديد من كتب التراث التي قام الوهابيّون بالسطو عليها، وتحريفها وحذف نصوصها، والتي يمكن تحديدها فيما يلي:

* فتح الباري، شرح البخاري، لابن حجر العسقلاني.

* التُحف في مذاهب السلَف، للشوكاني.

* العقيدة الطحاوية، للطحاوي الحنفي.

* الأذكار، للنووي.

* منهج السالك إلى بيت الله المُبجَّل في أعمال المناسك، لأبي عياشة.

* مطارق النور تبدّد أوهام الشيعة، لمال الله.

* مناظرة الإمام جعفر الصادق مع الرافضي.

* نهج البلاغة.

** العواصم من القواصم، لأبي بكر بن العربي.

ص: 129

فتحُ الباري

امتاز فتح الباري عن شروحات البخاري الأُخرى بالتوسّع في شروحاته، والإكثار من نقولاته، مّما جعله مرجعاً هامّاً، يضمّ بين دفّتيه عشرات الروايات والنصوص التي قلّما نجدها في مرجع آخر.

ونظراً لشيوعه وانتشاره بين الفقهاء والمؤسَّسات؛ تصدَّى كبير الوهابيّين (ابن باز) للكتاب، وقرّر العمل على إصدار طبعة جديدة منه، خاليه من الشُبهات والأخطاء حسب تعبيره.

يقول ابن باز في مقدّمته لطبعته: (لمّا كانت الطبعات السابقة من فتح الباري غير خالية من الأخطاء، رأيت من المصلحة العامّة أن اجتهد في المقابلة والتصحيح لهذا الكتاب، على ما أمكن من النُسخ المعتمدة، وأن أُعلّق على بعض المواضع التي تمسّ الحاجة إلى التعليق عليها.

وقد وجدنا للشارح" ابن حجر" أخطاء لا يحسن السكوت عليها، فكتبنا عليها تعليقات تتضمَّن تنبيه القارئ على الصواب، وتحذيره من الخطأ.

وأخبرت فضيلة الشيخ أخانا محبّ الدين الخطيب بهذا العزم، وطلبت منه أن يكون طبع هذا الكتاب في مطبعته، المطبعة السلفية، فحبَّذ الفكرة ولبّى الطلب، ووعد بالاجتهاد

ص: 130

في إبراز هذا الكتاب بالمظهر اللائق به) (1)

وهنا تُطرح التساؤلات التالية:

ما هي هذه الأخطاء التي اكتشفها ابن باز، ولماذا لم يحدِّدها لنا؟!

وهل ابن باز يفوق ابن حجر قدراً وعلماً، حتى يمكنه تخطئته؟!

أم أنَّ هذه الأخطاء لا تخرج عن كونها أموراً تخالف معتقداته؟!

ولماذا اختار ابن باز مُحبّ الدين الخطيب ليقوم بمهمّة طبع ونشر الكتاب؟!

والجواب على هذه التساؤلات يمكن معرفته من خلال الصورة المُشوَّهة التي خرج بها كتاب فتح الباري، والتي لم يقبلها حتى السلفيِّين من أتباعه، والذين أخذوا يبحثون عن الطبعات الأُخرى الكاملة.

لقد تمَّ حذف العديد من النصوص والشروحات المتعلّقة بالأحاديث الخاصّة بصفات الله سبحانه، وكذلك النصوص المتعلّقة بالتوسّل والقبور. حتى أنّك تجد العديد من الأحاديث ولاتجد الشروحات الخاصّة بها.

وقد قام محبّ الدين الخطيب بعرض الأحاديث على هيئة مجموعات مرقَّمة، في كل باب وكل مجموعة تحتها شرحها، بحيث أنَّ القارئ العادي لا يلحظ أنَّ بعض الأحاديث من بين


1- أنظر: فتح الباري، ط المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة، ج 1، ص 3.

ص: 131

المجموعة لا ذكر لها في الشرح.

ولم يكن ابن باز ليجد شخصية يمكن الوثوق بها للقيام بهذه المهمّة سوى محبّ الدين الخطيب، الذي جاء إلى مصر فارّاً من وجه العثمانيّين، ليقوم بنشر العديد من الكتب الموجَّهة ضدّ الشيعة، وكُتب ابن تيميّة وابن القيم والذهبي، تلميذي ابن تيميّة، ويُعلن ولاءه للدولة الوهابيّة (1)

وقام ابن باز أيضاً بالسطو على كتاب (التُحف في مذاهب السلَف) للشوكاني، لوجود العديد من النصوص بالكتاب التي لم تُعجبه، فأصدر أمره بطبعه في صورة جديدة، تحوي تعليقاته وبصمته الوهابية عليه.

يقول في مقدِّمته: (وقد رأيت الأمر بطبعها على حساب رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد؛ لتعميم نفعها، مع العقيدة الواسطية لابن تيميّة، ليستفيد طلبة العلم وغيرهم من الرسالتين، ويعلموا عقيدة أهل السنّة في هذا الباب. وقد وقع في آخر التحف كلام للمؤلّف في المعيّة غير جيد، فبيَّنت الصواب فيه لمزيد من الفائدة).

أمّا كلام الشوكاني، فكان حول النصوص القرآنية التالية:

قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم).

وقوله: (إنَّ الله مع الصابرين).


1- من بين هذه الكتب: الخطوط العريضة، ومؤتمر النجف الذي أدُّعي فيه إعلان فقهاء الشيعة بأفضلية أبو بكر وعمر على الإمام علي، ومنهاج الاعتدال للذهبي، وهو مختصر منهاج السنّة لابن تيميّة، وغيرها من كتب الوهابيّين. ويُعدّ محبّ الدين الخطيب أوّل مَن نشر هذه الكتب في مصر في فترة العشرينيات.

ص: 132

وقوله: (إنَّ الله مع الذين اتّقوا ..).

قال الشوكاني: (هكذا جاء القرآن، إنَّ الله سبحانه مع هؤلاء، ولانتكلّف تأويل ذلك كما يتكلَّف غيرنا، بأنَّ المراد بهذا الكون وهذه المعيّة هو كون العلم ومعيّته؛ فإنَّ هذه شعبة من شُعب التأويل، تخالف مذهب السلف).

ورفض ابن باز فكرة التأويل وقال: (إنَّ الله سبحانه فوق العرش، وعلمه في كل مكان ..).

العقيدة الطحاويَّة

واكتشف الوهابيّون أنَّ العقيدة الطحاوية، للطحاوي الحنفي (ت 321 ه)، واسعة الانتشار بين المسلمين، فقام ابن باز بالتعليق على متنها، وتوزيعها على المسلمين على هيئة كُتيّب صغير. ومن بين المسائل التي لم تُعجب ابن باز في العقيدة الطحاوية، مسألة العُلو، كما لم يُعجبه تحقيق واحد من كبار المحقّقين لها، وهو المحقّق أحمد شاكر.

وباستعراض شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، الذي تمَّ نشره مؤخّراً عن طريق الوهابيّين، سوف يتبيَّن لنا ما يرتكبه الوهابيّون من جرائم في حقّ تراث المسلمين، ومحاولاتهم الدائمة مصادرة الحقيقة والتعتيم عليها، بالإضافة إلى اللَعب بعقول المسلمين.

وعقيدة الطحاوي، الحنفي المذهب، تسير وِفق معتقد الأشعري، وقد أقرَّها الفقهاء وأهل المذاهب، وتلقّوها بالقبول

ص: 133

وأثنوا عليها، فكيف تبنّاها الوهابيّون وقاموا بنشرها، وهم خصوم الأشعري وأعداء الأشاعرة؟

والجواب: هو أنّهم لم يتبنّوها، وإنّما زيّفوها ليخدعوا بها المسلمين، ويمرِّروا من خلالها عقائدهم المنحرفة الباطلة.

ويتّضح ذلك بجلاء من خلال تتبّع سيرة ابن أبي العز، الذي قام بشرحها، والتي تكشف لنا أنَّه لا صلة له بالأحناف ولابالأشاعرة، وإنّما هو حنبلي متعصّب، قام بالسطو على العقيدة والانحراف بها من خلال الشرح، نحو تأكيد معتقدات الحنابلة في التجسيم والتشبيه.

وهذا هو السرُّ وراء تبنّي الوهابيّون لهذه العقيدة والتحمّس لنشرها، بل إنَّ الناشر، ربيب الوهابية، قام بوضع بعض التعليقات في الهامش زادت الطين بلّة.

قال الناشر في مقدِّمته: (إنّ هذا الكتاب القيِّم يقلّ نظيره في التحقيق والبيان، والعمق والإحاطة والتزام منهج الحق، الذي كان عليه السلف الصالح، لذلك لاقتْ هذه العقيدة مدح عدد كبير جداً من العلماء، شرحها عدد كبير منهم أيضاً. وكان أحسن شروحها المعروفة هذا الشرح، وهو يمثِّل عقيدة السلف أحسن تمثيل. والمؤلّف يُكثر من النقل عن ابن تيميّة وتلميذه ابن القيم، من غير إحالة عليها، ولعلَّ له عذراً في ذلك، وهو أنَّ عقيدة السلف كانت تُحارب من المتعصّبين والحشويِّين وعلماء السوء، الذين كان لهم تأثير كبير على بعض الحكّام؛ ممَّا جعل بعض أصحاب هذه العقيدة لا

ص: 134

يتظاهرون بهاغالباًفي تلك الأيام، التي كان فيها بعض الناس مُغرماً بإتلاف كُتب ابن تيميّة.

وظنِّي أنَّ هذه المحنة، وهذا العداء لعقيدة السلف الصالح، كانا وراء خفاء اسم المؤلّف لهذا الشرح المبارك، وكانا وراء خفاء اسم ابن تيميّة وابن القيم من الشرح). اه

ويبدو من كلام الناشر التضليل والتزييف.

تضليل المسلمين بوصفه كلام الشارح على أنَّه يمثّل عقيدة السلف الصالح.

وتزييفه لمدح العلماء لهذه العقيدة، حيث أنَّ العلماء مدحوا العقيدة ولم يمدحوا شرح ابن أبي العز، وهو ما يتَّضح لنا من خلال تزييفه لكلام السبكي الذي نقله في الهامش.

نسب الناشر في الهامش للسبكي قوله: (وهذه المذاهب الأربعة في العقائد واحدة، إلّا مَن لحق منها بأهل الاعتزال والتجسيم، وإلّا فجمهورها على الحقّ يُقرّون عقيدة أبي جعفر الطحاوي، التي تلقّاها العلماء سلفاً وخلفاً بالقبول).

وبمراجعة قول السبكي، تبيَّن أنَّه نص على ما يلي:

(وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة، ولله الحمد، في العقائد يد واحدة، كلّهم على رأي أهل السنّة والجماعة، يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنّة أبي الحسن الأشعري، لا يحيد عنها إلّا رُعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الاعتزال، ورُعاع من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم، وبرَّأ الله المالكية، فلم نرَ مالكياً إلّا أشعرياً عقيدةً.

ص: 135

وبالجملة، عقيدة الأشعري هي ما تتضمّنه عقيدة أبي جعفر الطحاوي، والتي تلقّاها علماء المذهب ورضوها عقيدة) (1)

ومن الواضح أنَّ البون شاسع بين نص كلام السبكي وما نسبه إليه الناشر الوهابي، الذي حرَّف كلامه ليخدم به معتقده، ويُبعد عنه الشبهات.

وممَّا يتّضح من مقدّمة الناشر، أنَّ الشارح استعان بأقوال ابن تيميّة وابن القيم.

والسؤال هنا هو: كيف للشارح الحنفي المذهب، الأشعري المُعتقد، أن يستعين في شرحه بكلام ابن تيميّة وابن القيم، وهما خصوم ألداء للأشعري والأشاعرة؟!

وكيف لعقيدة تلقى كل هذا القبول والمدح من العلماء، وهي تعتمد على كلام ابن تيميّة وابن القيم، المجرَّمين من قِبل العلماء والحكّام، وكتبهما محظورة ومحلّ إتلاف؟!

وما الذي يدفع بالشارح إلى إخفاء اسميهما واسمه أيضاً؟!

وهل لو كان الشارح يعبِّر حقّاً عن عقيدة السلف، ويمثّلها أحسن تمثيل- كما قال الناشر الوهابي-؛ يضطرّ إلى ذلك، ويلقى كلّ هذا الاضطهاد والمحاربة من العلماء والحكام؟!

ونقل الناشر حادثة وقعت لابن أبي العز في عام 784 ه.


1- انظر: رسالة معيد النعم ومبيد النقم. وقريب من قوله هذا ذكره في: طبقات الشافعية، ج 3، صص 377- 378.

ص: 136

بدمشق، حين انتقدَ قصيدةً في مدح النبي (ص) للأديب علي بن أيبك الصفدي، وأنكر أموراً منها: التوسّل بالنبي، والقدح في عصمته، وغير ذلك، ممّا أدَّى إلى قيام العلماء والقضاة ضدّه، والمطالبة بتعزيره.

وأُحضر خطّ ابن أبي العز، فوُجد فيه قوله: حسبي رسول الله. وهذا لا يُقال إلّا لله، وقوله: اشفع لي. قال: لا تُطلب منه الشفاعة، ومنها توسّلت بك. فقال: لا يتوسّل به. وقوله: المعصوم من الزلل، قال: إلّا من زلَّة العتاب. وقوله: يا خير خلق الله، قال: الراجح تفضيل الملائكة.

فسُئل فاعترف، ثُمَّ قال: رجعت عن ذلك (1)

لقد قدَّم لنا الناشر الوهابي، من خلال كلامه ونقله لهذه الحادثة، الدليل القاطع على كون الشارح ليس حنفياً ولاصلة له بالأحناف، إنّما هو حنبلي متعصّب، يسير على نهج ابن تيميّة، وقد عبث بالعقيدة الطحاوية وحاول تحريفها واستخدامها في دعم عقائد الحنابلة، المجسِّمة والمشبِّهة، المخالفة لعقائد أهل السنّة والسلَف.

وما يدعم هذا أنَّ ابن أبي العز له كتاب بعنوان (سفر المغلوب)، انتقد فيه عقيدة الأشاعرة. وقد ذكر الناشر أنَّ وفاته كانت في عام 792 ه، بينما ذكرت المصادر التي ترجمت لابن أبي العز أنَّه توفِّي في عام 699 ه وهذه إشارة


1- انظر تفاصيل هذه الحادثة في: أنباء الغمر، ج 1، ص 258، و ج 2، ص 75؛ والضوء اللامع في أعيان القرن التاسع: ج 5، ص 665؛ والنجوم الزاهرة: ج 6، ص 138.

ص: 137

إلى كون الشارح شخص آخر، يتشابه اسمه مع اسم ابن أبي العز الحنفي، شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة، والذي أعلن براءة الأحناف من الآخر، وعدّوه من المُبتدعين، كما ذكر ابن حجر أنَّ علماء عصره أنكروا عليه (1)

وقد دعم الناشر طبعته بأقوال العديد من فقهاء الوهابيّة، على رأسهم ابن باز والألباني، وعبد الرازق عفيفي وغيرهم ..، ثُمَّ أدلى بهذا الاعتراف:

ولم اجزم بطبعتنا بنسبة الشرح لابن أبي العز، غير أنَّ أُستاذي الألباني أُهديت إليه في المغرب رسالة مصوّرة عن مخطوطة، ذُكر تحت عنوانها أنَّ مؤلّف شرح الطحاوية هو ابن أبي العز الحنفي.

وينقل الناشر قول الألباني في مقدّمته لشرح الطحاوية: (فإنَّ عقيدة أبي جعفر الطحاوي الحنفي هي عقيدة أهل السنَّة والجماعة، المتَّفق على اتّباعها من قِبل علماء الملّة؛ لأنَّها وافقت معتمَد علماء هذه الملّة خلال قرون متعدِّدة، ومنهم: أبو حنيفة النعمان، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأكثر أتباعهم. كما أنَّها عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري، ولم يشذّ عنها إلّا مَن أشرب في قلبه نوع من الاعتزال والجهمية ومناصبة السنَّة العداوة.

وقد امتنَّ الله عليَّ فيسَّر لي شرح العقيدة الطحاوية،


1- انظر ترجمة ابن أبي العز الحنفي في: الطبقات السنيّة في تراجم الحنفية: ج 1، ص 325؛ وأنباء الغمر: ج 2، ص 96؛ وانظر: شرح الفقه الأكبر.

ص: 138

للعلامة ابن أبي العز الحنفي، بعد حصولي على مخطوطة قيِّمة).

ويعدّ هذا اعترافاً صريحاً من الألباني أنَّ متن العقيدة الطحاوية يمثِّل عقيدة أهل السنَّة، ومحلّ اتّفاق علماء الأمّة، وهو موافق لعقيدة الأشعري.

إلّا أنَّ تبنِّيه التعليق، وتخريج الأحاديث التي جاء بها الشارح، يعدّ تناقضاً وتعتيماً على حقيقة هذه الأحاديث، التي تقود إلى التجسيم والتشبيه، بالإضافة إلى أقوال الشارح التي تصطدم بعقيدة الأشعري.

الأذكار

وقام الوهابيّون أيضاً بالسطو على كتاب الأذكار للنووي، وقاموا بتحريف الفصل الأخير منه، الذي حمل عنوان: (فصل في زيارة قبر الرسول (ص) وأذكارها)، إلى: (فصل في زيارة مسجد رسول الله ..).

وبالطبع، لم ينسوا حذف كلام النووي المتعلِّق بهذا الفصل، الذي يوجب توجّه كل حاج لزيارة قبر الرسول (ص)، معتبراً ذلك من أهمِّ القُربات وأفضل الطلبات.

منهج السالك

ورسالة منهج السالك إلى بيت الله الحرام شكَّلت إزعاجاً كبيراً للوهابيّين وفضحاً لهم؛ لكون مؤلّفه من أتباع المذهب

ص: 139

الحنبلي، الذي يدَّعون التمسّك به.

وقد قام الوهابيّون بتغيير اسم الرسالة، حتى يموِّهوا على المسلمين، فسمّوها: (تنبيه زائر المدينة على الممنوع والمشروع في الزيارة).

قال الوهابي المحقِّق في مقدّمته: (وأشرت إلى أنَّ ما جاء به فيما أسماه بالخاتمة في زيارة قبر النبي (ص)، لا يتَّفق مع ما قرَّره علماء السلف، فصوَّبت ما ذكره من أخطاء فيما استند إليه من أدلّة واهية).

وقد بيّنّا سابقاً أنَّ ما قرَّره علماء السلف هو مشروعية زيارة قبر الرسول (ص)، لا منع هذه الزيارة وتحريمها كما يقول الوهابيّون، وهو ما يعني أنَّ نسبة هذا الأمر لعلماء السلف من أكاذيب الوهابية.

أمّا ما قصده الوهابي بالأدلّة الواهية، فهي رواية: (مَن حجَّ ولم يزرني فقد جفاني).

ورواية: (مَن حجَّ فزار قبري، فكأنّما زارني في حياتي).

ونقل المؤلّف استحسان ابن حنبل التمسّح بالمنبر، ونقل قوله: (لا بأس بالتمسّح بالقبر).

وكل ذلك عدَّه الوهابي من الأدلّة الواهية. ولو لم يعدّها من الأدلّة الواهية، لضاع مذهبه وسقطت عقيدته.

مطارق النور

وقام واحد من الوهابيِّين الباكستانيين باستخراج نصوص

ص: 140

من أقوال ابن تيميّة التي يردّ بها على العلامة الحلِّي في منهاج السنَّة، وصنع محاورة مزعومة بينهما أسماها: (مطارق النور تبدِّد أوهام الشيعة) (1)

وكان الفائز في هذه المناظرة- بالطبع- هو ابن تيميّة، أمَّا الحلّي، فلم يكن يكاد يردّ، وكثيراً ما كان يلوذ بالصمت.

إلّا أنَّ صانع المناقشة لم يكن ذكياً؛ فقد اقتطع أقوال ابن تيميّة ولم يُحسن ترتيبها ولادعمها بالأدلة، ممّا جعل القارئ يشكّك فيها.

ومن الثابت تاريخياً أنَّ ابن المطهّر الحلّي لم يلتقِ ابن تيميّة ولم يناظره، على الرغم من كونهما أبناء عصر واحد. وابن تيميّة في مقدّمة منهاج السنّة يقطع بأنَّ ردَّه على الحلّي كان غيابياً؛ إذ يقول: (أحضر إليَّ طائفة من أهل السنّة والجماعة كتاباً صنّفه بعض شيوخ الرافضة في عصرنا، منفقاً لهذه البضاعة، يدعو به إلى مذهب الرافضة الإمامية مَن أمكنه دعوته من ولاة الأمور، وغيرهم من أهل الجاهلية ... وذكر مَن أحضر لي هذا الكتاب أنَّه من أعظم الأسباب في تقرير مذاهبهم، وطلبوا منّي بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب ...).

ويتّضح لنا من خلال كلام ابن تيميّة، أنَّ المناقشة المزعومة هي من صُنع خيال هذا الوهابي، الذي لم يُحسن


1- طبع القاهرة، عام 1978 م و قد استعرضناه بالتفصيل في كتابنا: المناظرات بين فقهاء الشيعة وفقهاء السنة.

ص: 141

إتقانها وسدّ عوراتها، فبدت مهلهلة واهية، لترتدّ في نحره وتكون حجَّة عليه وعلى الوهابيّين (1)

مناظرة الرافضي

ونشر الوهابيّون مؤخّراً ما أسموه: (مناظرة جعفر بن محمد الصادق مع الرافضي .. في التفضيل بين أبي بكر وعلي).

وهو منشور مثل سابقه، بدا فيه الإمام الصادق وكأنَّه واحد من فقهاء السنّة، يذود عن الشيخين ويستحضر الدليل من هنا وهناك ليُثبت أفضليتهما على الإمام علي (ع)، والأدلّة التي يستحضرها هي أدلّة أهل السنّة المعتادة، التي يعتمدون عيها دائماً في إثبات أفضلية الشيخين على الإمام علي.

وبدا الرافضي أمامه ضعيف الحجَّة مُستسلِم على الدوام.

ويبدو في هذه المناظرة المزعومة الكثير من أوجه الخلل، التي تشير إلى كونها من وضع أحد خصوم الشيعة في الماضي. ومثل هذا المنشور يهدف لضرب الشيعة بالإمام الصادق. ومحقِّقه الوهّابي يعرض في مقدّمته رواية منسوبة للصادق، رواها الذهبي في تاريخه عن سالم بن أبي حفصة، تقول: (سألت أبا جعفر وابنه محمد عن أبي بكر وعمر، فقال: يا سالم، تولّهما وابرأ من عدوّهما، فإنّهما كانا إمامَي هدى ..)

وعلَّق المحقّق الوهابي على هذه الرواية بقول الذهبي:


1- انظر المناقشة الواسعة لهذا المنشور الوهابي في كتابنا: المناظرات بين فقهاء السنّة والشيعة.

ص: 142

(هذا إسناده صحيح، وهذا الخبر يظهر موقف أهل البيت الطاهرين من الخلفاء الراشدين، وأنَّ كل ما يُنسب إليهم من أقوال تخالف ذلك، فهو محض افتراء عليهم).

ثُمَّ علَّق بقوله: (وهذا النص يدين الرافضة من جهة إسناده ومتنه؛ فهم رواته، وهو قول إمامهم الخامس والسادس، وهذا يهدم أصلًا عظيماً من أُصول القوم الذي يعتقدونه في وزيري نبيّنا محمد (ص)، ومن ثمَّ في بقيّة جماهير الصحابة ..).

نهج البلاغة

كان الوهابيّون دائماً يشكّكون في كتاب نهج البلاغة، ويعتبرونه منسوباً للإمام علي، وأنَّه من وضع الشريف الرضي.

وسرُّ هذا التشكيك يكمُن في ذلك الكم من النصوص المتعلِّقة بالصحابة التي يحويها الكتاب، وغيرها من النصوص التي تمسّ معتقداتهم. إلّا أنَّهم أمام الانتشار الواسع للكتاب بين المسلمين، اضطرّوا إلى تحقيقه ونشره من جديد، محذوفاً منه العديد من النصوص التي اعتبرها المحقّق ضعيفة.

ومادام الأمر قد دخل في الصحيح والضعيف، فهذا يعني أنَّ نهج البلاغة قد تمَّ الاعتراف به من قِبلهم، ككتابٍ جامع لخُطب وأقوال الإمام علي.

وهذا من تناقضات الوهابية التي تكشف أكاذيبهم؛ فبعد أن

ص: 143

كانوا يشكِّكون في الكتاب، عادوا ليعترفوا به ويصحِّحوه.

وبالطبع، فإنَّ هذا التصحيح إنّما يخضع لقواعدهم ومعتقداتهم، لا للمنهج العلمي والموضوعية.

وعلى رأس ما تمَّ حذفه من نهج البلاغة (الخطبة الشَقشَقيَّة)، التي يتعرّض فيها الإمام للخلفاء الثلاثة: أبو بكر، وعمر، وعثمان. وكذلك الخطبة التي تتعلَّق بأصحاب وقعة الجمل (1)

العَواصِم من القواصِم

كانت الطبعة الكاملة من كتاب العواصم من القواصم، لأبي بكر بن العربي (ت 543 ه)، تَصلُ إلى الأربع مئة صفحة، واستغرق ابن العربي أكثر من نصف الكتاب في مناقشة العديد من القضايا الكلامية والفلسفية والعرفانية، والردّ على أصحابها.

وكان الفصل أو الموقف الأوّل من الكتاب- كما سمّاه- يحمل عنوان: في بيان قول مَن أنكروا الحقائق المحسوسة.

والثاني تركَّز حول: ما يُفاض على العبد من عرفان يستغرق الأدلّة والبيان.

والثالث كان في: قول طائفة لا معلوم إلّا بالمحسوس.

والرابع- وهو أطول فصول الكتاب- حمل عنوان: في قول


1- انظر: نهج البلاغة، طبعة قطر، تحقيق: عبد السلام هارون. وقد تمَّ اختصار الكتاب إلى النصف تقريباً.

ص: 144

إنَّ العلم لا يُؤخذ إلّا من المعصوم،

والردّ على هذه الطائفة.

وعاصمةٌ بعنوان: ليس في نصوص الشرع ما يُصادم العقل.

وعاصمة: فيما يعارض ظاهره العقل.

وجعل ابن العربي فصلًا في كتابه للردِّ على أبي يعلى الحنبلي المجسِّم، في كتابه إبطال التأويلات، الذي كفَّره بسببه، وغيره من الموضوعات التي تتعلّق بهذه الأمور.

أمَّا القسم الثاني من الكتاب، فقد تركَّز حول خلافات الصحابة، وما دار بينهم من حوادث ووقائع، عملَ ابن العربي على تبريرها، بطُرق تصطدم بالعقل والمنطق وحركة التاريخ، معتبراً أنَّ مخالفة مثل هذه التبريرات يعدّ قاصمة، والامتثال لها يعد عاصمة.

وهو القسم الذي اقتطعه محبّ الدين الخطيب من الكتاب، وقام بتحقيقه ونشره للمرة الأُولى عام 1371 ه. في مصر، وأسماه (العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي)، وتلقَّفه منه الوهابيّون، وقام بالتعليق عليه العديد من رموز الوهابيّة، الذين زادوا بتعليقاتهم الطين بلّة، وزادوا الكتاب حدَّة فوق حدّته، ثُمَّ نشروه بين المسلمين في كل مكان وبلغات عدّة؛ ليُصبح من أهمِّ المصادر التي يُعتمد عليها في مواجهة الشيعة، ومَن يتعرَّض للصحابة.

وكان العواصم من القواصم قد قام بطبعه الشيخ عبد الحميد بن باديس عام 1347 ه. في جزأين، عن مخطوطة

ص: 145

جامع الزيتونة. وقام ابن الخطيب بأخذ قسماً من الجزء الثاني- من صفحة 98 إلى صفحة 193- ونشره، معتمداً على هذه المخطوطة فقط، ولم يلتفت إلى أيِّ مخطوطة أُخرى (1)

وقام الوهابيّون مؤخّراً بتحقيق العديد من كتب التراث وإعادة طبعها من جديد، بعد أن حذف منها العبارات التي توهن من بعض الصحابة، أو ترفع من مقام أهل البيت:.

ومن بين ما تمَّ حذفه من هذه الكتب، عبارة: (عليه السلام)، التي كانت تُكتب عادة عند ذكر الإمام علي أو فاطمة الزهراء، أو الحسن والحسين: (2)

وقاموا أيضاً بتحقيق العديد من كتب ابن تيميّة ورسائل ابن عبد الوهاب، ودعمها بالأسانيد، وسدّ الثغرات التي بها وستر عوراتها، وإعادة نشرها من جديد (3)

وقد امتدَّت أكاذيب الوهابيّين إلى كتب التاريخ، فشكَّكوا المسلمين فيها، عدا تاريخ ابن كثير؛ لكونه يسير على نهجهم ويلتزم بعقائدهم. ومن بين الكتب التاريخية التي شكَّكوا فيها:

* تاريخ الطبري.

* مروج الذهب للمسعودي.

* الإمامة والسياسة لابن قتيبة.

* تاريخ اليعقوبي.

* الفتوح لابن الأعثم.


1- انظر: مقدمة الطبعة المصرية. وكان الكتاب قد نشره بعد ذلك كاملًا في قسمين للدكتور عمار طالبي، الأستاذ بجامعة الجزائر.
2- كانت هذه العبارة منتشرة في كتب التراث، مثل: الطبعات القديمة من البخاري، وشرحه فتح الباري، وكذلك في مسلم وشرحه للنووي، بالإضافة إلى كتب التاريخ وغيرها.
3- على رأس هذه الكتب منهاج السنّة لابن تيميّة، الذي تمَّ تحقيقه وطبعه في ثمانِ مجلّدات.

ص: 146

ص: 147

أكاذيبهم على الشيعة

اشارة

مثَّل الشيعة عُقدة للحنابلة القدامى، ولازالوا يمثّلون عُقدة للوهابيّين اليوم، وعقبة كؤود تقف في طريقهم، بعد أن فرضوا أنفسهم على أهل السنَّة وتغلغلوا في مؤسّساتهم، واستقطبوا العديد من رموزهم، وأصبح صوتهم هو الأعلى وسطهم.

إلّا أنَّ صوت الشيعة ارتفع أيضاً، وعلا نجمهم بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، وهو ما شكَّل إزعاجاً كبيراً لهم، ودفع بهم إلى العمل بكلِّ طاقتهم وإمكانيّاتهم، من أجل تشويه الشيعة وتأليب المسلمين عليهم في كل مكان.

واللغة التي يستخدمها الوهابيّون في مقاومة الشيعة هي لغة قديمة، تعتمد على أقوال الحنابلة وابن تيميّة، أي أنَّ الوهابيّين يواجهون الشيعة في الحاضر بعقل الماضي.

من هنا، فإنَّ حربهم هذه لم تأتِ بنتيجة تُذكر، بل إنَّها

ص: 148

أسهمت في إلقاء الضوء على الشيعة أكثر، وما نراه من تواتر الشباب السُنِّي على الشيعة وإعلان تشيّعه هو الدليل على ذلك.

والوهابيّون رغم علوِّ صوتهم، ليسو سوى مجرّد نقَلَة لكلام ابن تيميّة، ولايمثّلون شيئاً في واقع المسلمين، وهم فشلوا- على ما هو ظاهر- في دفع أغلبية المسلمين للتخلّي عن زيارة المراقد، والاحتفاء بأصحابها والتوّسل بهم، وهذا يشكّل فشلًا ذريعاً لهم؛ لكون قضية الزيارة والاحتفال والتوسّل هي قضيّتهم الكبرى، التي نهض بها إمامهم محمد بن عبد الوهاب.

والهجمة على الشيعة من قِبل الوهابيّين تمثّلت في عشرات المنشورات، التي ليس لهم جهد يذكر فيها، وإنّما هي منقولة بالكامل من كُتب الحنابلة القدامى، وكُتب ابن تيميّة، وكتب بعض المعاصرين من خصوم الشيعة. حتى أنَّ كل ما ينطقون به في خطبهم وقنواتهم الفضائية، هو منقول من هذه الكتب. وهذا الأمر إنْ دلَّ على شي ء، فإنّما يدلّ على إفلاس الوهابيّين، وضحالة عقولهم وضعف لُغتهم، في مواجهة خصومهم الشيعة.

ولايمكن القول إنَّ حرب الوهابيّين ضدَّ الشيعة، ونشرهم الأكاذيب حولهم، تنحصر في الدائرة المذهبية، إنَّما حربهم هذه لها وجه آخر، أمني وسياسي، لا مجال للخوض فيه هنا.

ص: 149

والحقّ أنَّ الوهابيّين- منذ بروزهم في جزيرة العرب- ليسو سوى أداة لجهات أجنبية متربّصة بالإسلام والمسلمين، استخدمتهم من قَبلُ في ضرب الدولة العثمانية، واستخدمتهم في تفريق المسلمين وتوطين الخلافات والنزاعات فيما بينهم، واستخدمتهم في اللعبة الأفغانية، وتستخدمهم الآن في لعبة الإرهاب العالمي، وزعزعة استقرار العديد من الدول، ثُمَّ ضدّ إيران والشيعة.

وما سوف نستعرضه من خلال هذا الباب، هو كمّ الاتّهامات والطعون والشُبه التي يثيرونها من خلال هذه المنشورات، التي تؤكِّد أنَّ الوهابيّين يعيشون أزمة كبيرة، بسبب شعورهم بالخطر من قِبل الشيعة. وهي تؤكِّد من جهة أُخرى صِدق ما قلناه.

ويمكن حصر القضايا التي تركَّزت حولها منشورات الوهابيّين فيما يلي:

* ابن سبأ.

* تحريف القرآن.

* سب الصحابة.

* نكاح المتعة.

* الوصيَّة والتقيَّة والرجعة والعصمة والغيبة.

* الشيعة والتتار.

* الشيعة والصليبيِّين.

ص: 150

ابن سَبأ

في منشورٍ وهّابي تحت عنوان: (توضيح النبأ عن مؤسِّس الشيعة عبد الله بن سبأ)، أجهد صاحبه اليمني نفسه، في محاولة إثبات وجود ابن سبأ، من خلال مصادر السنّة والشيعة، وهو يهدف من وراء ذلك إدانة الشيعة وربطها بمقالة ابن سبأ. وما دام قد ثبت ذلك حسب تصوّره، فهذا يؤكِّد يهودية التشيّع.

ومن الواضح أنَّ صاحبنا حاله كحال بقيّة الوهابيّين، يفتقد إلى أدوات البحث العلمي، وتحصيل النتائج من خلال المصادر.

وبغضِّ النظر عن اتّجاه البعض، الذي يؤكِّد أنَّ شخصية ابن سبأ وهْميَّة، فإنَّ الأمر هنا لا يتعلّق بوجوده من عدمه، وإنّما يتعلّق بمقالته.

والسؤال هنا: ما هي مقالة ابن سبأ؟

وهل تقول بها الشيعة أم لا؟

والجواب هو: أنَّ المصادر التاريخية والعقائدية نسبت له العديد من الأقوال، إلّا أنَّ ما يعنينا هنا هو ما قاله ابن تيميّة- مَرجِع الوهابيّة- بشأنه.

قال ابن تيميه: (وكان ظهور البدع بحسب البُعد عن الدار النبوية، فلّما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان، ظهرت بدعة الحرورية (الخوارج)، وتقدَّم بعقوبتها الشيعة من الأصناف

ص: 151

الثلاثة الغالية، حيث أحرقهم علي بالنار. والمفضّلة، حيث تقدَّم بجلدهم ثمانين. والسَبَئيّة، حيث توعَّدهم وطلب أن يُعاقَب ابن سبأ بالقتل أو بغيره، فهرب منه) (1)

ويظهر من خلال كلام ابن تيميّة أنَّ السبئيّة هم الصنف الثالث من الغلاة، الذين لا يقولوا بإلوهيّته، والذين لا يقولوا بأفضليّته.

السؤال هنا هو: إذا كانت السبئيّة لم تقل بإلوهيّة علي، ولم تقل بأفضليّته، فبماذا قالت حتى توعّدهم الإمام علي، وطلب أن يعاقبهم بالقتل أو بغيره، حسب قول ابن تيميّة؟

والراجح أنَّهم قالوا بإمامته، فهي الفكرة الباقية التي تُنسب للشيعة بخصوص الإمام علي.

والسؤال هو: هل القول بالإمامة هو غُلوّ في الدِّين؟

والجواب: عند الحنابلة والوهابيّين: بلى بالطبع.

إلّا أنَّ الإمامة عند الشيعة لها أدلّتها من الكتاب والسنّة، وما دامت لها أدلّتها، فقد خرجت من دائرة الابتداع والغُلو.

وبالطبع هذا الكلام لا يرضي حنابلة العصر من الوهابيّين، الذين يتعبَّدون بالروايات وأقوال الرجال.

قال ابن تيميّة: (ذكر أهل العلم أنَّ مبدأ الرفض إنّما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ، فإنّه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية، وطلب أن يفسد الإسلام. كما فعل بولص النصراني، الذي


1- مجموع الفتاوى، ج 20، ص 301.

ص: 152

كان يهوديا، في إفساد دين النصارى) (1)

وما يظهر لنا من هذا الكلام، أنَّ ابن سبأ أظهر مبدأ الرفض، وحاول أن يفسد به الإسلام، ويفعل به كما فعل بولس بالمسيحية.

ومبدأ الرفض في مفهوم أهل السنَّة وابن تيميّة، يُقصَد به تقديس الإمام علي والقول بإمامته، كما تقول الشيعة، الذين أطلقوا عليهم اسم الرافضة.

وتُجمع المصادر التاريخية والعقائدية على أنَّ تسمية الشيعة بالرافضة ارتبطت بزيد بن علي بن الحسين؛ حين تمرَّد عليه الشيعة بسبب قوله بتولّي أبي بكر وعمر.

قال الزبيري عن زيد: (ولحقته الشيعة فسألوه الرجوع معهم والخروج فقبل، فتفرَّقوا عنه إلّا نفراً، فنُسبوا إلى الزيدية، ونُسب مَن تفرَّق عنه إلى الرافضة. يزعمون أنَّهم سألوه عن أبي بكر وعمر فتولّاهما، فرفضته الرافضة) (2)

وهذا الكلام لنا معه وقفات.

أوّلًا: من الواضح، من خلال هذه الرواية، أنَّ الشيعة متواجدون قبل زيد، ولهم موقفهم الثابت من أبي بكر وعمر.

ثانياً: أنَّه لا يوجد مُبرِّر منطقي لتوجيه هذا السؤال لزيد من قِبل أتباعه.

ثالثاً: إنَّ ابن سبأ يسبق فترة زيد بأكثر من قرن، وهذا يعني


1- مجموع الفتاوى، ج 28، ص 468 وما بعدها.
2- انظر: نسب قريش، ج 2، ص 61، لمصعب الزبيري المتوفّى عام 236 ه.

ص: 153

أنَّ الرافضة برزوا من بعده، فلا يوجد مُبرِّر لربطه بهم.

رابعاً: إنَّ الرواية تؤكِّد أنَّ المسألة تتعلَّق بأبي بكر وعمر، لا بأُصول الدِّين.

وقال ابن السكّيت: (الرفض مصدر رفضتُ الشي ء أرفضه، إذا تركته. قال الأصمعي: ومنه سُمِّيت الرافضة، لأنّهم تركوا زيداً) (1)

وقال ابن كثير حول قصّة زيد بن علي: (فلهذا سُمّوا الرافضة، ومَن تابعه من الناس على قوله سمّوا الزيدية. وغالب أهل الكوفة منهم رافضة، وغالب أهل مكّة إلى اليوم على مذهب الزيدية، وفي مذهبهم حقّ وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما. وليس علي مقدَّم عليهما، بل ولاعثمان، على أصحِّ قولَي أهل السنّة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة) (2)

وروى ابن حنبل عن الرسول (ص) قوله: (يكون في آخر الزمان قوم يُنبزون الرافضة، يرفضون الإسلام ويلفظونه، فاقتلوهم إنّهم مشركون) (3)

وفي رواية: (يكون في آخر الزمان قوم يُنبزون الرافضة، يرفضون الإسلام ويلفظونه، فاقتلوهم إنَّهم مشركون.


1- انظر: ترتيب إصلاح المنطق: ج 1، ص 176؛ وانظر: مقالات الإسلاميين، الأشعري؛ وكُتب الفرق والملل والنحل.
2- انظر: البداية والنهاية، ج 9، حوادث عام 121 ه.
3- انظر: فضائل الصحابة، ج 1، ص 417؛ والمسند، ج 1، ص 103؛ وتاريخ البخاري، ج 1، ص 279؛ وفي كتاب السنّة لابن حنبل قال: إنَّه ضعيف.

ص: 154

قلت: يا رسول الله، ما العلامة فيهم؟

قال: يقرضونك بما ليس فيك، ويطعنون على أصحابي يشتمونهم).

وفي رواية ثالثة: (يكون في آخر الزمان قوم يُنبزون الرافضة، يرفضون الإسلام ويلفظونه، فاقتلوهم فإنَّهم مشركون، لا يشهدون جُمعة ولاجماعة، ويطعنون في السَلَف) (1)

ويبدو التناقض واضح بين الروايات الثلاثة. ومنذ متى وردت كلمة سلَف على لسان رسول الله (ص)؟!!

وما يؤكّد هذا التناقض، استحضار صاحبنا اليمني لرواية تقول: (يا علي، يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به، يُقال لهم الرافضة، فإنْ أدركتهم فاقتلهم، قتلهم الله تعالى، فإنَّهم مشركون).

وهذه الرواية لا تتناقض فقط مع الروايات السابقة، بل تنسفها نسفاً؛ إذ أنَّها تربط مقاومة الرافضة بعلي، وهذا يعني أنَّهم ليسوا من أتباعه.

إلّا أنَّ المعروف تاريخياً أنَّ عليّاً قاتل عائشة والزبير وطلحة، ومعاوية، وغيرهم من الصحابة. فهل هذا يعني أنَّ هؤلاء هم الرافضة الذين أشار إليهم الرسول (ص)؟

والعجيب أنَّه أراد بهذه الرواية أن يضرب الشيعة بالإمام علي!


1- انظر: السنَّة لابن أبي عاصم: بابٌ في ذكر الرافضة.

ص: 155

وقد اعترف صاحب المنشور بأنَّ حكاية ابن سبأ رويت عن طريق سيف ابن عمر، المتَّهم بالوضع والكذب عند علماء الرجال، إلّا أنَّه أراد أن ينفي هذا بقوله: (والصحيح أنَّه متروك). ولكن قد اشتهرت روايته عن ابن سبأ اشتهاراً زائداً مستفيضاً!

ونقل قول ابن حجر العسقلاني عنه: (ضعيف الحديث عهدة في التاريخ). وقول ابن حجر لا يمثِّل حجَّة على الشيعة، وهو إشارة لغباء الاستدلال عند الوهابيّين؛ لكون ابن حجر ليس من فقهاء الشيعة، فقوله لا يمثِّل حجَّة عليهم.

وما يجب الإشارة إليه هنا، هو أنَّ فقهاء أهل السنّة دقَّقوا كثيراً في سند الرواية النبوية وأهملوا متنها، وحتى تدقيقهم في السَند قام على أُسُس مذهبية متعصّبة؛ كانت نتيجته رفض الرواة الذين يخالفون معتقداتهم ومذاهبهم، والتشكيك فيهم.

ومن صور ذلك، أنَّ يحيى بن سعيد القطان شكَّك في الإمام جعفر الصادق (ع)، وقال: (في نفسي منه شي ء، ومجالد أحبّ إليّ منه).

وجاء البخاري فتبنَّى مقولة القطان، ولم يروِ للصادق في كتابه.

وجاء ابن تيميّة من بعدهم في كتابه منهاج السنَّة، الذي يردّ فيه على كتاب العلّامة الحلّي منهاج الكرامة، فشكَّك في

ص: 156

الصادق على أساس موقف البخاري منه (1)

هذا في الوقت الذي يقرّ فيه الفقهاء بصدق الخوارج وقبول رواياتهم!

والفقهاء ركَّزوا على الرواية النبوية من حيث السند، وأهملوا الرواية التاريخية مع أهمِّيتها، ممّا فتح الباب على مصارعه لدخول الإسرائيليّات والخرافات والموضوعات، ومنها حكاية ابن سبأ، والخوارق التي تتعلَّق بما سُمِّي بالفتوحات (2)

من هنا .. اعتُبر سيف بن عمر وأمثاله في عهدة التاريخ.

ادِّعاءات

وتُنسَب لابن سبأ فكرة الرجعة والوصية والبداء، التي تقول بها الشيعة. وفكرة الرجعة ليست من الأُصول العقيديّة عند الشيعة، وهي لا تخرج عن كونها مجرَّد تصوّر يرتبط بدور أئمَّة أهل البيت وقيمتهم؛ حيث يُعتقد أنَّ هناك حشر في الدنيا يسبق حشر الآخرة، وذلك للَّذين ظلموا أهل البيت وانتهكوهم، وكذلك عقاب يسبق عقاب الآخرة لهم.

وهذا المعتقد له ما يبرِّره من نصوص القرآن.

مثل قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً


1- زكّى فقهاء أهل السنّة الإمام الصادق، أمّا مجالد، فقد جرحه العديد منهم. انظر: كتب التراجم.
2- انظر أمثلة من هذه الخرافات فيما أُطلق عليه الفتوحات في: تاريخ الطبري، وكتب التاريخ عندهم.

ص: 157

وقوله: يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً

وقوله: فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً

وقوله: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ..

أمّا فكرة الوصية، فالشيعة يعتقدون بأنَّ الرسول (ص) أوصى لعلي بالإمامة من بعده. وعلى ضوء هذا المعتقد، تُعتبر خلافة أبي وبكر وعمر وعثمان باطلة وغير شرعية، وهذا يعدّ من نقاط الخلاف الجوهرية بين الشيعة والسنّة، والتي قامت على أساسها فكرة الإمامة، التي اعتُبرت أصلًا من أُصول الدين، بجانب الشهادتين.

وفكرة الوصية أو الإمامة لا تصطدم بجوهر الدين أو ثوابته، إنّما ضُخِّمت من قِبل أهل السنّة والحنابلة الوهابيّين خاصة، لكونها تصطدم مع معتقداتهم التي تتعلَّق بالصحابة وأبي بكر وعمر، المقدَّمين على الأُمّة.

أمّا البداء، فهو فكرة تتعلّق بقوله تعالى: يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (1)

وهي فكرة تُشبه فكرة النسخ، وتتعلَّق بالقدر المكتوب على ابن آدم.

والوهابيّون وخصوم الشيعة يشيعون عنهم أنَّهم يقولون بأنَّ الله سبحانه يبدي ويظهر أمراً لم يكن يعلمه.

وليست فكرة البداء عند الشيعة بهذه الصورة.

يقول الشيخ السبحاني: (لو كانوا واقفين على مراد


1- الرعد: 36.

ص: 158

الشيعة من تجويز البداء على الله، لتوقَّفوا عن الاستنكار، ولأعلنوا الوفاق) (1)

والواضح من روايات أهل البيت: أنَّ فكرة البداء تشير إلى غير المعنى الذي تلقَّفه خصوم الشيعة ويُعلنه الوهابيّون.

رُوي عن الصادق (ع) قوله: (مَن زعم أنَّ الله بدا له في شي ء ولم يعلمه أمس، فأبرأ منه).

وفي رواية أُخرى: (مَن زعم أنَّ الله بدا له في شي ء بداء ندامة، فهو عندنا كافر بالله العظيم).

ويعدّ عِلم البداء في منظور الشيعة من العلوم الخاصّة بآل محمد:. إلّا أنّ الوهابيِّين لا يعجبهم مثل هذا الكلام، وهم الذين يعتقدون أنَّ الدين مجرّد قوالب جامدة، لا مجال فيه للعلم الخاصّ والكشف وما شابه.

ومن الغريب أنْ تُنسب هذه الأفكار الثلاثة لابن سبأ! مع كونها أفكار لا تصطدم بجوهر الدِّين ولاتضّره في شي ء، بل هي من الأفكار الإيجابية النافعة.

وإذا كانت أفكار ابن سبأ تفسد الإسلام، وفعلت به كما فعل بولس بالنصرانية، كما قال ابن تيميّة، فهل أفسدت هذه الأفكار الإسلام حقّاً؟!

أم هي في الحقيقة أحرجت أهل السنَّة لمخالفتها عقائدهم؟!


1- انظر: مع الشيعة الإمامية في عقائدهم؛ وانظر: الحقّ والحقيقة بين الشيعة والسنّة، ص 314.

ص: 159

ويظهر لنا أنَّ كاتب منشور توضيح النبأ قد خرج عن الموضوع، كما هي عادة الوهابيّين، وانطلق يلتقط الروايات من هنا وهناك، لينال بها من الشيعة، وليُصبح كحاطب ليل.

نُقل من العقد الفريد رواية تقول: (كان معنا على سفينة شيخٌ شرس الأخلاق، إذا ذُكر له الشيعة غضب وعقد حاجبيه، ولمّا سُئل لماذا تكره الشيعة؟

قال: ما أكره فيهم إلّا هذه الشِين في أوّل اسمهم؛ فإنّي لم أجدها قط إلّا في كلِّ شرّ، مثل: شؤم، وشيطان، وشقاء، وشهوه، وشتم، وشُح، ... الخ).

قال الراوي: فما ثبت لشيعي بعدها قائمة.

والسؤال هنا: هل حرف سين، الذي تبدأ به كلمة سُنِّي، لا يشير إلى شي ءٍ من الشرّ؟!

وقال في منشوره: (وذمّ الرافضة متواتر بين المسلمين، متكاثر في كتبهم مدوّن في سجلّاتهم، حتى عند الجن).

ولاتعليق على مثل هذا الاستدلال الجاهل الغبي، والمُضحِك أيضاً.

ويُجاهر الوهابيّون بقولٍ منسوب للسيّد الخميني، التقطوه من كتاب الحكومة الإسلامية: (إنَّ لأئمّتنا مكانة لم يصل إليها نبي أو مَلَك مقرَّب).

وهذا الكلام لا يفهمه إلّا العارفين، أمّا الجهلاء من الوهّابيين، فيستنكرونه ويشنِّعون بصاحبه؛ لكون الدين في منظورهم صخرة صمّاء.

ص: 160

ومن المعروف أنَّ الأنبياء درجات، وهم غير الرُسل، وقد يعلو عليهم الأوصياء أو الحواريّون؛ لعظيم دورهم ومهّمتهم. ودور أهل البيت: ومكانتهم في الإسلام، تعلو بهم فوق مصاف الأنبياء.

أمّا الملائكة، فهم أقلّ من ابن آدم في الأفضلية، وهو ما يقرّ به فقهاء أهل السنّة.

يقول ابن حنبل: (إنَّ بني آدم أفضل من الملائكة، ويُخطئ مَن يفضِّل الملائكة على بني آدم) (1)

وهناك من أهل السنَّة مَن يفضِّل الأولياء على الأنبياء، وقد ردَّ ابن تيميّة هذا القول، والوهابيّون ليسوا سوى مردِّدين لكلامه (2)

وإذا كان ابن آدم- على عمومه- أفضل من الملائكة، فكيف الحال بأئمَّة أهل البيت:؟!

ويحاول الوهابيّون دائماً التأكيد على ربط الشيعة باليهود، سَيراً على سنَّة ابن تيميّة، على أساس شخصية ابن سبأ، وادّعاء تشابه بعض المعتقدات الشيعية مع المعتقدات اليهودية.

وقد نصّ قول ابن تيميّة على ما يلي:

(وقد أشبهوا اليهود في أمور كثيرة، لا سيّما السامرة من اليهود، فإنَّهم أشبه بهم من سائر الأصناف؛ يشبهونهم في


1- انظر: اعتقاد الإمام المُبجّل أحمد بن حنبل، ص 206، وانظر العقيدة رواية الخلال، ص 126.
2- انظر: مجموع الفتاوى، ج 2، ص 222 وما بعدها.

ص: 161

دعوى الإمامة في شخص أو بطن بعينه، والتكذيب لكلِّ مَن جاء بحقٍّ غيره يدعونه، وفي اتِّباع الأهواء أو تحريف الكَلِم عن مواضعه، وتأخير الفطر وصلاة المغرب، وتحريم ذبائح غيرهم.

ويُشبهون النصارى في الغُلو في البشر، والعبادات المُبتدعة، وفى الشرك، وغير ذلك ..) (1)

وما يجب ذكره هنا هو أنَّ هذه المقالة للشعبي، وابن تيميّة استعار جزءاً منها.

قال الشعبي: (إنَّ محنة الرافضة محنة اليهود.

قالت اليهود: لا تصلح الأمَّة إلّا لرجل من آل داود.

وقالت الرافضة: لا تصلح الأمَّة إلّا لرجل من وُلد علي.

وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح وينزل سبب من السماء.

وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينادي مناد من السماء.

واليهود يؤخِّرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة.

واليهود تزول عن القبلة شيئاً، وكذلك الرافضة.

واليهود يستحلّون دم كل مسلم، وكذلك الرافضة.

واليهود لا يرون على النساء عدَّة، وكذلك الرافضة.

واليهود لا يرون الطلاق الثلاث شيئاً، والرافضة كذلك.

واليهود حرَّفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرَّفوا القرآن.


1- مجموع الفتاوى، ج 28، ص 479.

ص: 162

واليهود يُبغضون جبريل ويقولون: هو عدوّنا من الملائكة، وكذلك صنف من الرافضة يقولون: غلط بالوحي إلى محمد) (1)

والوهابيّون لو عرفوا كلام الشعبي لاستدلّوا به، فهو أوسع وأشدّ من كلام ابن تيميّة. لكنّهم ينقلون لا يبحثون.

وغفل هؤلاء أنَّ الأديان تتشابه في معتقداتها وشرائعها، وقد تبنَّى الإسلام العديد من شرائع الأديان السابقة.

فاليهودية والمسيحية قد حرَّمت القتل والزنا والسرقة.

والإسلام قد حرَّم ذلك ..

وجميع الأديان التزمت بالوصية.

والإسلام التزم بها.

وكل نبيٍّ كان له وصيّ وأصفياء، أو نخبة صالحة، للقيام بأعباء الدِّين. والرُسل والأنبياء سنّتهم واحدة.

والرسول (ص) كان له وصي (علي)، ونُخبة (أهل البيت).

وإذا كان أهل السنَّة لم يلتزموا بالوصيّة ولم يعترفوا بالنخبة، فهو أمر يعود إليهم.

وإذا كان الشيعة قد آمنوا بالوصيّة واقتدوا بالنخبة، فهل هذا يعني أنَّهم يقلّدون اليهود ويسيرون على خُطاهم؟!

والباحث المدقِّق يكتشف الدور اليهودي المتمثّل في الإسرائيليات في تراث أهل السنّة بارزاً وواضحاً. ويكتشف ما


1- انظر: السنّة للخلال: باب ذكر الروافض؛ وانظر مناقشة هذا الكلام في كتابنا: ثقافة الإرهاب في كتب الوهابيّة.

ص: 163

هو أدهى وأمرّ، وهو أنَّ هؤلاء الوهابيّين المدَّعين، هم الذين تتشابه عقائدهم مع عقائد اليهود، فيما يتعلَّق بصفات الله تعالى. مثل رُؤية الله والعرش، والاستواء والتكلّم بالصوت، والنزول وسائر عقائدهم التجسيميّة والتشبيهيّة التي عرضنا لها سابقاً، والتي تتطابق مع نصوص التوراة. وها هي الأمثلة:

جاء في سفر الملوك، الإصحاح رقم 22، ما يلي: (قد رأيت الربَّ جالساً على كرسيّه).

وفي سفر التكوين، الإصحاح رقم 1، جاء ما يلي: (فخلق الله الإنسان على صورته).

وفيه أيضاً، الإصحاح رقم 3: (وسمعنا صوت الربِّ في هذا المكان).

والإصحاح رقم 11: (فنزل الربُّ لينظر المدينة).

وفيه، الإصحاح رقم 28: (حقّاً إنَّ الربَّ في هذا المكان).

وفيه، الإصحاح رقم 33: (لأنَّي رأيت وجهك كما يُرى وجه الله).

وفيه، الإصحاح رقم 46: (فقال أنا الله، إله أبيك ... أنا انزل معك إلى مصر).

وفي سفر التثنية، الإصحاح رقم 5، جاء ما يلي: (وجهاً لوجه، تكلَّم الربُّ معنا).

وفيه أيضاً: (إن عدنا نسمع صوت الربِّ، إلهنا).

وفي سفر الخروج، الإصحاح رقم 19، جاء ما يلي: (وموسى يتكلَّم والله يجيبه بصوت ..).

ص: 164

وفيه: (ونزل الربُّ على جبل سيناء).

وفي سفر أشعيا، الإصحاح رقم 25، جاء ما يلي: (لأنَّ يد الربِّ تستقرّ على هذا الجبل).

وفي سفر المزامير، الإصحاح رقم 2، جاء ما يلي: (يضحك الربُّ).

وفيه، الإصحاح رقم 44: (أنت بيدك استأصلت الأُمم وغرستهم).

وفيه، الإصحاح رقم 47: (الله جلس على كرسيّ قدسه).

وهذه النصوص التوراتية تتطابق تماماً مع روايات التجسيم والتشبيه، التي تبنّاها الحنابلة وابن تيميّة في الماضي، ويتبنّاها الوهابيّون اليوم.

ولنستعرض مقالة واحد من الوهابيِّين المعاصرين، يؤكِّد فيها مشابهة نصوص التوراة لرواياتهم. قال: (وأيضاً، فهذا المعنى عند أهل الكتاب، من الكتب المأثورة عن الأنبياء، كالتوراة؛ فإنَّ في السفر الأوَّل منها، (سفر التكوين): (سنخلق بشراً على صورتنا، يشبهنا).

ثُمَّ يقول: (فمن المعلوم أنَّ هذه النُسخ الموجودة اليوم من التوراة ونحوها، قد كانت موجودة على عهد النبي (ص)، فلو كان ما فيها من الصفات كذباً وافتراءً، ووصفاً لله بما يجب تنزيهه عنه، كالشُركاء والأولاد، لكان إنكار ذلك عليهم موجوداً في كلام النبي، أو الصحابة أو التابعين، كما أنكروا عليهم ما دون ذلك. وقد عابهم الله في القرآن بما هو دون ذلك، فلو كان هذا

ص: 165

عيباً، لكان عيب الله لهم به أعظم، وذمِّهم عليه أشدّ) (1)

وهذا الكلام يؤكِّد تطابق عقائد الوهابيّين مع عقائد اليهود، وهو بمثابة اعتراف صريح منهم بذلك. وما قدَّمه لتبرير التشابه بين عقائدهم ونصوص التوراة، يدلّ على ضياع العقل وأزمة النقل التي يعيشونها، وهو ترديد لقول ابن تيميّة: (إنَّ التوراة لم تبدَّل ألفاظها، وإنّما وقع التحريف في تأويلها).

وجاء صاحبنا الوهابي ليزيد الطين بلّة بقوله: إنَّ التوراة الموجودة لم يعترض عليها الرسول (ص)، ولاأحد من الصحابة أو التابعين. وهذا كذب واضح.

وفي منشور ليمنيٍّ آخر، حمل عنوان: (اذهبوا فأنتم الرافضة)، أكَّد فيه صاحبه على عصمة الكتاب والسنَّة معاً، وأنّهما أساس وميزان الخوض في شأن الصحابة، وأنَّ عيد الغدير وعاشوراء من البِدع والضلالات، ودافع فيه عن معاوية.

وقال: (إنَّ الشيعة لم يهتمّوا بعلوم الحديث، ولايلقون أيّ بال لعلم الجرح والتعديل).

وقال: (إنَّ كُتب السُنن ليس فيها حديث واحد فيه انتقاص أو تجريح لأحد من أهل البيت).

وأصدر فتواه القاتلة التي تقول: إنَّ الشيعة محرومون في الدنيا والآخرة. وأنَّ ابن حنبل قال: (ما علمت أنَّ رافضياً ختم الله له بخير).

هذا غير صور السبِّ والشَتم الأُخرى، التي يحشو بها


1- انظر: عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن، للتويجري.

ص: 166

الوهابيّون كُتبهم عادة.

أمَّا ما طرحه من عصمة الكتاب والسنّة، فهو غُلو وكلام باطل لم يقل به أحد من الفقهاء، الذين أجمعوا على عصمة الكتاب وحده دون السنّة. وكتب السُنن، بما فيها البخاري، تعرَّضت للعديد من صور النقد والتهذيب على مرِّ التاريخ. بل إنَّ العديد من الوهابيّين المعاصرين تعرّض لهذه الكُتب بالنقد والتهذيب، وقام بتصفيتها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1)

أمّا كون الكتاب والسنّة هما الأساس والميزان في شأن الصحابة، فهذا صحيح، وهو ما تقول به الشيعة وتُبرهن به على مواقفها تجاه الصحابة، وتعتمد على العديد من الروايات الثابتة في كتب السُنن، لا في كتب الشيعة (2)

ومسألة إنكار عيد الغدير وعاشوراء واعتبارهما بدعة، لا يعني شيئاً؛ لكون الوهابيّين يُنكرون إحياء المناسبات والاحتفال بالأموات، حتى الاحتفال بمولد الرسول (ص)، وموقفهم هذا مرفوض من قِبل أهل السنّة قبل أن يكون مرفوض من الشيعة.

وفيما يتعلَّق بمعاوية، فهذه مسألة تتعلَّق بالموقف من الصحابة.

أهل السنَّة يعدّون معاوية صحابياً، بينما الشيعة لا تعترف به. ولايمكن القول بضلال الشيعة بهذا الموقف، إلّا إذا اعتبرنا


1- انظر: هدى الساري، مقدّمة فتح الباري؛ وانظر: كتب المحدّث الوهّابي ناصر الألباني.
2- انظر: المراجعات لشرف الدين؛ ومعالم المدرستين للعسكري.

ص: 167

معاوية رُكناً من أركان الإسلام.

ويُجمع أهل السنّة على أنّه لم تصح في معاوية منقبة، ورغم ذلك يعتقدون في صُحبته وعدالته، وهو أمر يعود لتعريف الصحابي الذي أجمعوا عليه، والذي ينصّ على أنَّ الصحابي هو كلّ مَن رأى رسول الله ولو ساعة، أو سلَّم عليه، أو وُلد في حياته ومات على الإيمان. حتى أنَّ بعضهم أدخل الجِنّ في دائرة الصحبة؛ لكونهم شاهدوا الرسول (ص) (1)

وادّعاء صاحب المنشور أنَّ الشيعة لم يهتمّوا بعلوم الحديث أو الجرح والتعديل، يدلّ على جهله وكذبه، وكونه يُلقي بعبارات منقولة عن غيره بدون وعي.

وكتب الحديث وعلومه كثيرة ومشهورة عند الشيعة، يعرفها الجميع، بل إنَّ شروط الشيعة في الراوي هي أدقّ من شروط السنّة، وهم ينتقدون الرواية من حيث السند والمتن معاً، ويرون عرض الرواية على القرآن والعقل (2)

وكتب السُنن تكتظّ بالرواة من الشيعة. فإذا كان الشيعة على هذه الصورة التي يصوّرها الوهابيّون، فلماذا روى السابقون لهم واعتمدوهم (3)؟!


1- انظر: مقدّمة الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، ط بيروت، ص 5.
2- انظر: رجال الطوسي، ورجال الكشّي، ومعجم رجال الحديث للخوئي، وصحيح الكافي، والموضوعات في الآثار والأخبار للحسني.
3- انظر: هدي الساري، وتهذيب التهذيب لابن حجر، وميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي. ووجود الرواة من الشيعة في كُتب السُنن يكشف أكذوبة الوهابيّين التي نقلوها عن ابن تيميّة، الذي وصف الشيعة بالكذب وعدم المعرفة بالمنقول والمعقول.

ص: 168

وفيما يتعلَّق بتحريف القرآن، فالمنشورات الوهابية تتصيَّد العديد من الروايات الشيعية التي تقول بزيادة القرآن ونقصانه. ويعتمدون- بالإضافة إلى ذلك- على كتاب من وضعِ أحد رجال الشيعة، وهو كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب ربِّ الأرباب) للنوري. وكتاب النوري ليس حجَّة على الشيعة، كما أنَّ العديد من كتب أهل السنّة ليس بالضرورة أن تكون حجّة عليهم.

والفرق بين الروايات التي توجد في تراث الشيعة، والروايات التي توجد في تراث السنّة، هو أنَّ هذه الروايات ضعيفة ومرفوضة من قِبل فقهاء الشيعة، بينما هي صحيحة ومقبولة عند فقهاء السنَّة.

ومن جهة أُخرى، فإنَّ هذا الكتاب قد جمع الروايات المتعلِّقة بالتحريف من تراث السنَّة والشيعة على السواء، لكنَّ الوهابيّين المُغرضين عتَّموا على الروايات المتعلّقة بالسنّة، وركّزوا على روايات الشيعة.

والأهمّ من ذلك كلّه، هو أنَّ التراث السنّي حوى الكثير من الروايات التي تتعلَّق بتحريف القرآن، ومن أخطر هذه الروايات، ما رُوي حول جمع القرآن وتدوينه، وهو ما يشكِّل معتقد أهل السنّة حول القرآن. ذلك المعتقد الذي ينصّ على أنَّ الرسول (ص) مات دون أن يجمعه ويبيّنه للناس، وأنَّ الذي تولَّى أمر الجمع هو أبو بكر وعمر.

وهذا الاعتقاد يصطدم بنصوص القرآن، ويفتح الباب للشكّ

ص: 169

فيه. ويصطدم بقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (1)

ويشكِّك في دور الرسول (ص)، الذي يعيش في كَنف الوحي ويلتزم بتوجيهاته.

كيف له أن يترك القرآن غير مجموع وغير مبيَّن، وهو يعلم أنَّه خاتم الرُسل والأنبياء؟!

ويفتح الباب للشكِّ في نصوصه؛ من خلال قصّة الجمع، كما رواها البخاري وغيره، والتي تكشف لنا أنَّه لا أبو بكر ولاعمر كان لهما دور في هذا الجمع، إنَّما وكَّلا المهمّة لزيد بن ثابت، وليس لأحد من كَتَبة الوحي المعروفين، مثل أُبي بن كعب، أو ابن مسعود.

ومن جهة أُخرى، تكشف الروايات أنَّ زيداً لم يكن كفؤاً لهذه المهمّة؛ إذ كان إذا اختلفت عليه الآية، يستشهد شاهدين ليشهدا بصحّتها، كي يُثبتها في المصحف، ولم يجد الآية الأخيرة من سورة التوبة إلّا في حوزة أبي خزيمة الأنصاري، أي لم يشهد هذه الآية ولم يعرفها سوى واحد في المدينة بأكملها.

وهذا يعني اتّهام الرسول (ص) بالتقصير في تبليغ القرآن (2)

أمّا معتقد الشيعة، فهو أنَّ الرسول (ص) ترك القرآن مجموعاً ومبيّناً، سيراً مع خطّ القرآن، وهو ما تشير إليه رواياتهم،


1- القيامة: 17- 19.
2- انظر: البخاري، كتاب فضل القرآن؛ وتفاصيل هذه القصة في: فتح الباري، ج 8.

ص: 170

وحتى روايات أهل السنَّة الأُخرى (1)

وما هو أخطر من ذلك، ما رُوي عن وجود سورتين، غير سور القرآن، لم يدوّنا فيه، وهما: (سورة الحفد) و (سورة الخلع)!

روى الطبراني: (أمَّنا أُميّة بن عبد الله بن أسيد بخراسان، فقرأ بهاتين السورتين: إنّا نستعينك ونستغفرك ونُثني عليك ولانكفرك).

وروى البيهقي وأبو داود: نزل جبريل بذلك على النبي (ص) وهو في الصلاة، مع قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شي ء).

وهناك العديد من الروايات التي تشير إلى أنَّ هناك آيات سقطت من القرآن. والمصاحف التي كانت بحوزة الصحابة، قبل أن يحرقها عثمان، كانت تختلف عن بعضها (2)

ورغم ذلك، يدَّعي الوهابيّون أنَّ لدى الشيعة سورة تحمل اسم الولاية، وأُخرى تسمَّى ذو النورين، لا يظهرونها في مصاحفهم. كما يدّعون أنَّ لهم مصحفاً سريّاً يسمَّى (مُصحف فاطمة).


1- وردت في كُتب السُنن عشرات الأحاديث التي تحضّ على حفظ القرآن، والتي تدلّ على أنّ القرآن كان معروفاً بآياته وسوره في عهد الرسول، منها: خيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه و تعاهدوا القرآن و مَن حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، إلّا حفّتهم الملائكة و كان صحابة رسول الله يتغنّون بالقرآن .. هذا بالإضافة إلى الحديث المشهور، الذي أوصى فيه الرسول بالكتاب، في حجّة الوداع. وكيف يوصي بالكتاب وهو غير مجموع؟!
2- انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي؛ والمصاحف للسجستاني؛ والناسخ والمنسوخ.

ص: 171

وهذا من أكاذيبهم وعدم أمانتهم في النقل، فلا وجود لسورة الولاية أو سورة النورين في مصاحفهم، كما لا وجود لشي ءٍ اسمه مُصحف فاطمة.

والباحث المدقِّق في مصادر الشيعة لا يجد أثراً لهذه السور، أو هذا المصحف المزعوم، وكل ما في الأمر أنَّ خصوم الشيعة تلقَّفوا السورتين المزعومتين من كتاب فصل الخطاب، ثُمَّ تلقّفها منهم الوهابيّون.

إلّا أنَّ هؤلاء تغافلوا مصدر هاتين السورتين، الذي ذكره النوري في كتابه، وهو كتاب (دبستان مذاهب)، المنشور في الهند أيّام الاستعمار الإنجليزي (1)

أمّا مصحف فاطمة، فهو مجموعة من الوصايا والنصوص التي جمعتها السيدة الزهراء عن أبيها (ص)، المتناثرة في شتّى الكتب والمصادر، والتي لا يجمعها كتاب واحد.

وقد استغلَّ هؤلاء كلمة (مصحف)، التي أطلقها بعض الشيعة على كتاب فاطمة، وغاب عنهم لجهلهم أنَّ كلمة مصحف تُطلق على أيِّ كتاب، وهي كلمة ليست خاصة بالقرآن، وإنّما هي من المسمَّيات التي التصقت به بعد الرسول (ص).

ومن المعتقدات التي يدين بها أهل السنّة والوهابيّون حول القرآن، ما يسمّونه بالموافقات. ويُقصَد بها الآيات التي تنزّلت


1- التقط محبّ الدِّين الخطيب سورة الولاية المزعومة ونشرها في رسالته الخطوط العريضة، ومنه نقلها الوهابيّون.

ص: 172

موافقة لرأي عمر لا للرسول، وهم يفتخرون بهذه الموافقات، على الرغم من كونها تضرب القرآن في مقتل، وتشكِّك في الرسول (ص) (1)

ومعنى ذلك أنَّ القرآن كان يتنزّل على رأي عمر، وأنه يشارك الرسول في أمر الوحي، وأنَّ اختيار الرسول (ص) لم يكن دقيقاً، بحيث أنَّ الوحي قد اختار عمر إلى جواره، ليذكّره ويسانده بآرائه. والأخطر من ذلك أنّه ينبّه السماء أيضاً، فتنزل الآيات على رأيه.

ويحاول الوهابيّون، من خلال منشوراتهم، التفرقة بين أهل البيت والشيعة؛ بدعوى أنَّهم لا يمثّلونهم، بل يكذبون عليهم. وهذا يعني أنَّهم هم الممثِّلون لأهل البيت، الحاملين لخُلقهم وعقائدهم. فهل هذا صحيح حقاً؟!

وقضيّة سبّ الصحابة هي بدعة حنبلية، تبنّاها ابن تيميّة، وتلقّفها منه الوهابيّون، مستغلّين موقف الشيعة من مُعتقَد عدالة الصحابة، الذي يتبنّاه أهل السنّة، ويدينون به في تحريض المسلمين عليهم.

وأصل الخلاف في هذه المسألة يعود إلى الخلاف في تعريف الصحابي.

ومُعتقِد عدالة الصحابة يصطدم بنصوص القرآن، التي صنَّفت مَن حول الرسول (ص)، وكشفت المنافقين والمتآمرين


1- انظر: مناقب عمر في البخاري ومسلم وكتب السُنن؛ وانظر: الإتقان في علوم القرآن؛ والدرّ المستطاب في مناقب عمر بن الخطاب للعماري؛ وانظر: دفاع عن الرسول. وهو أمر مشهور عند الفقهاء.

ص: 173

على الإسلام والرسول من بينهم (1)

ومادام هذا حال صحابة الرسول، فهذا ينفي عدالتهم بتلك الصورة المطلَقة التي يعتقدها أهل السنّة، والتي تساويهم ببعضهم وتضعهم في درجة واحدة.

وقد عدَّ القدامى من أهلِّ السنَّة توجيه النقد للصحابة، والخوض في الخلافات والوقائع التي جرت بينهم، خاصة الشيخين (أبو بكر وعمر)؛ عدّوه سباً لهم، يوقع صاحبه في دائرة الردّة التي توجب الاستتابة أو القتل (2)

والشيعة لا يعتقدون بعدالة جميع الصحابة، ويوجِّهون النقد لهم، وهذا ما يثير أهل السنّة عليهم. ليس فقط بسبب مُعتقَد العدالة، وإنّما لكون الصحابة يمثّلون الركيزة الأساس في عقيدتهم، ومحاولة النيل منهم أو المساس بهم، قد يهدم معتقداتهم ويضيّع مذهبهم، الذي يقوم على الرجال أكثر ممّا يقوم على النصوص.

وإذا كان أهل السنّة يؤمنون بعدالة الصحابة، فإنَّ الشيعة يعتقدون بعصمة أهل البيت الاثني عشر، بدايةً من الإمام علي، وحتى الإمام المهدي (ع).

وفكرة تكفير الصحابة التي تُلصق بالشيعة، ليست سوى


1- انظر: سورة التوبة، كمثال يفضح مَن حول الرسول.
2- انظر: كتب العقائد؛ وانظر: فتوى السبكي في جواز قتل سابّ الصحابة؛ وفي الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي، ص 128 وما بعدها؛ وانظر فتوى أُخرى في: رسائل ابن عابدين. وقد تمَّ قتل الكثير من الشيعة بتهمة سبّ الشيخين. انظر: حوادث عام 755 ه في البداية والنهاية.

ص: 174

محاولة من الوهابيّين لإثارة المسلمين ضدّ الشيعة، فالفرق كبير بين أن يكون لهم موقف من بعض العناصر التي كانت حول الرسول (ص)، والتي يعدّها أهل السنّة من الصحابة، وبين الموقف من عموم الصحابة.

والأزمة تكمُن في أنَّ أهل السنّة لا يفرّقون بين مَن كان حول الرسول، والشيعة يفرِّقون بينهم.

وأساس الإشكال يكمُن في معاوية ووالده وأُمّه، ومَن كان على شاكلتهم. فالشيعة يعتقدون بعدم إسلام معاوية ووالده وأُمّه، وأنَّهم من الطلقاء. ويكمُن أيضاً في أصحاب السقيفة، وأصحاب الجمل، وأصحاب صفِّين.

وبالجملة، يتَّخذ الشيعة الإمام علي وأهل البيت مقياساً في مواجهة الآخرين؛ فمَن كان موالياً لهم، كان مقبولًا عندهم، ومَن خاصمهم وعاداهم، كان مرفوضاً.

وأهل السنَّة يعتقدون بأنَّ خير الناس بعد رسول الله أبو بكر، ثُمَّ عمر، ثُمَّ عثمان، ثُمَّ علي في المرتبة الرابعة. وهو الاعتقاد الذي يرفضه الشيعة، مقدِّمين عليّاً على الجميع.

قال الأشعري: (وشذَّ قوم منهم أي من أهل السنَّة فقال: إنَّ علياً أفضل من الشيخين) (1)

وقال ابن حزم: (ذهب بعض أهل السنّة، وبعض المعتزلة، وبعض المرجئة، وجميع الشيعة، إلى أنَّ أفضل الأُمّة بعد


1- انظر: مقالات الإسلاميّين، ج 2، ص 131.

ص: 175

رسول الله علي) (1)

والسؤال هنا: ما هو الضرر من الاعتقاد بأفضلية علي وأهل البيت: على الجميع؟

والجواب: أنَّه ليس هناك ضرر، لا على الإسلام، ولاعلى المسلمين، وإنّما الضرر يقع على مَن جعل الصحابة رُكن من أركان الدِّين.

أمّا مسألة التكفير، فتوجد في بعض مصادر الشيعة، وقال بها البعض من متطرِّفيهم. إلّا أنَّها لا تعبِّر عن المعتقَد العام للتشيّع، تماماً كما لا تعبّر أفكار ومواقف ابن تيميّة وابن عبد الوهاب التكفيريّة عن أهل السنَّة.

وفكرة العصمة من الأمور التي وضعت الشيعة في دائرة الاستهداف؛ لكونها فكرة غير مفهومة من قبل الخصوم، كما هو حال فكرة الغيبة.

إلّا أنَّ الشيعة يُبرهنون على عصمة الأئمّة بالعديد من النصوص القرآنية والنبوية، منها:

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (2)

وقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (3)


1- انظر: الفصل في المِلل والنِحل، ج 4، ص 111.
2- النساء: 59.
3- الأحزاب: 33.

ص: 176

وأقوال الرسول (ص) التي تحضّ على الكتاب والعترة.

والآية الأُولى ربطها أهل السنّة بالحُكَّام، وجعلوها دليلًا على وجوب طاعتهم. بينما يرى الشيعة أنَّ ربط طاعة أُولي الأمر بطاعة الله والرسول يعني عصمتهم، وتقيّدهم التام بهذه الطاعة؛ الأمر الذي ينطبق على أهل البيت لا على الحُكَّام.

والآية الثانية خصّصها أهل السنّة في نساء النبي. بينما اعتبرها الشيعة من الأدلّة القاطعة على عصمة أهل البيت:.

وفيما يتعلّق بأحاديث الكتاب والعترة، فهي متَّفق عليها بين الشيعة والسنّة، إلّا أنَّ السنَّة لا يعتبرونها مِيزة لأهل البيت، في الوقت الذي يعتقد الشيعة أنَّ ربط العترة بالكتاب يعني عصمتهم؛ لكون الرسول (ص) لا يربط بالكتاب إلّا مَن كان طاهراً أميناً عليه.

وكذلك فكرة غيبة الإمام المهدي لها شواهدها من القرآن والسنَّة.

القرآن ذكر أنَّ نوحاً لبث يدعو قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً، وذلك بالإضافة إلى سنيِّ عمره. وذكر كذلك قصّة يأجوج ومأجوج، المنتظرين خلف السدّ النحاسي الذي بناه ذو القرنين من آلاف السنين. وذكر قصّة عُزير الذي أماته الله مائة عام ثُمَّ أحياه. وقصّة أهل الكهف الذين أماتهم الله ثلاثمائة عام ثُمَّ بعثهم.

وأهل السنّة يعتقدون في حياة الخضر، وأنَّه العبد الصالح

ص: 177

الذي رافق موسى (ع).

وطول عمر الإنسان ليس قضية مُستهجَنة، والاعتقاد فيها لا يمسّ ثوابت الدِّين في شي ء، فقط إنَّ هذا الاعتقاد يصطدم بمعتقدات بعض مذاهب أهل السنّة، وعلى رأسهم الوهابيِّين.

وفيما يتعلَّق بنكاح المُتعة، فهو قضية فقهية لا صِلة لها بأُصول الدِّين. الشيعة يُبيحونه وأهل السنّة يحرّمونه. وهو نكاح ضرورة أمر به الرسول (ص) لرفع الضرر عن صحابته في الغزو والترحال، والخلاف يدور حول نَسخه أو استمرار العمل به.

أهل السنّة يقولون إنَّ الرسول نهى عنه قبل وفاته، وبذلك انتهى أمره. بينما الشيعة يقولون باستمراره من بعد الرسول (ص).

إلّا أنَّ روايات أهل السنّة لا تقطع بنسخ هذا النكاح، بل تُشير إلى استمراره والعمل به من قِبل الصحابة بعد الرسول (ص). ومن هذه الروايات:

عن جابر: (كنّا نستمتع على عهد رسول الله وعهد أبي بكر، وسنين من عهد عمر).

وأُخرى تقول: (نزلت آية المتعة في كتاب الله، ولم ينهِ عنه أي الرسول- حتى مات). والآية هي: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ .. (1)

ورواية أُخرى تقول: (خطب ابن الزبير بمكَّة فقال: إنَّ أُناساً


1- النساء: 24.

ص: 178

يقولون بالمتعة، أعمى الله أبصارهم. فسمعه ابن عبّاس وكان قد فقد بصره، فأمر سائقه بالتوجّه نحوه، وقال له: إنّما المتعة كانت على عهد إمام المتّقين. فقال ابن الزبير: لئن فعلتها لأرجمنَّك بالحجارة).

وابن عبّاس كان من القائلين بالمتعة، واستمرّ على قوله حتى مات (1)

ويتحصّن فقهاء أهل السنّة بموقف عمر الناهي عن المتعة، بينما هو في الحقيقة يدلّ على استمرارها بعد رسول الله، وفي عهد الخليفة الأوّل.

والسؤال هنا: هل من حقِّ عمر أن ينهى عن حكم شرعي أباحه رسول الله؟

ويبرهن أهل السنّة على حرمة نكاح المتعة بروايتين، هما:

* رواية خيبر التي تقول: (نهى رسول الله عن المتعة والحمر الأهليّة).

* ورواية فتح مكّة التي تقول:) إنِّي قد أبحت لكم المتعة، ألا إنّي أنهى عنها إلى يوم القيامة (.

هذا، بينما يقومون بتأويل الروايات الأُخرى التي تُشير إلى إباحته، واستمراره بعد وفاة الرسول (ص)، ويستندون على نهي عمر.

ورواية خيبر شكَّك فيها فقهاء الأثر، وقالوا: إنَّ الثابت هو


1- انظر: مسلم: كتاب النكاح، باب نكاح المتعة. وشرحه ج 9، ص 188 النووي؛ وانظر: كتب الفقه. وابن عبّاس توفّي عام 68 ه. وزمن هذه الرواية بعد استيلاء ابن الزبير على مكّة.

ص: 179

تحريم الحمر الأهلية لاالمتعة.

ورواية الفتح شكّك فيها البخاري وغيره.

والأمر برمَّته محلّ جذب وشدّ بين الفقهاء، ممّا يشير إلى عدم القطع بحرمته (1)

تقية

ويَحلو للوهابيّين دائماً- أن يتَّهموا الشيعة بتبنّيهم التقيَّة في مواجهة أهل السنّة، وإظهار غير ما يبطنون من الكفر والزندقة حسب دعواهم، وهو اتّهام لاحَقَ الشيعة من القدم، ولازال الوهابيّون يردِّدونه حتى اليوم.

والتقيَّة مبدأ يلتزم به كلّ مَن يشعر بالخوف على نفسه من بطش الآخرين به، وهو مبدأ الأقلّية المُستضعَفة المُضطهدَة في مواجهة الأكثرية المُستبدَّة المُستكبرة.

وطوال التاريخ كان أهل السنَّة يمثّلون التيار السائد والظاهر في بقاع المسلمين، ويبطشون- بمساعدة الحكّام- بالمخالفين لهم من شتّى المذاهب والتيارات، وفي مقدِّمتهم الشيعة. فمن ثَمَّ لم يكونوا بحاجة إلى التقيّة، لشعورهم بالأمن والاستقرار.

من هنا اضطرَّ الشيعة وغيرهم لإخفاء عقيدتهم عن العامّة، والتظاهر بالتسنّن؛ من أجل تجنّب البطش بهم والحفاظ على حياتهم. وهو حقّ مشروع لهم. وهو المقصود


1- انظر: زاد المعاد لابن القيّم، باب غزوة خيبر؛ وكتب الفقه؛ وانظر: زواج المتعة حلال في الكتاب والسنّة.

ص: 180

من الأحاديث الواردة عن الإمام الصادق (ع)، مثل: (التقيَّة ديني ودين آبائي)، ومثل: (مَن لاتقيَّة له، لا دين له).

ومثل هذه الروايات كان الهدف منها هو حثّ الشيعة على عدم إبراز عقيدتهم؛ تجنّباً للأذى والملاحقة والقتل.

وعلى الرغم من ذلك، كانت عقائد الشيعة وأحكامهم ظاهرة ومُعلَنة، من خلال كتبهم المنتشرة في كل مكان، ومن قرون طويلة.

يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: (إنَّ المرء مكلَّف بكتمان عقائده أمام المتعصّب العنيد، الذي لا يفهم المنطق، إذا كان في إظهارها خطر على حياته أو شي ء من هذا القبيل، دون أن يحقِّق من وراء إظهارها أيّة فائدة تُرتجى. ويُطلَق على هذا السلوك اسم التقيَّة، التي أخذناها من القرآن والدليل العقلي) (1)

ويعتبر فقهاء الشيعة أنَّ التقيَّة قد تكون في بعض الأوقات من المحرَّمات.

يقول الإمام الخميني: (تحرم التقيَّة في بعض المحرّمات والواجبات، التي تمثّل في نظر الشرع مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة، والردّ على الإسلام والقرآن، وغيرها ..) (2)

والشيعة اليوم ظاهرون في الأرض بعقائدهم ومراجعهم، ولهم دول تُساندهم وتتبنّى عقائدهم، فما الذي يدعوهم


1- انظر: عقيدتنا.
2- انظر: الرسائل. وهدم الكعبة وقع على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي، حين حاصر ابن الزبير في مكّة. وعلى يد السعوديّين والفرنسيّين، الذين استعانوا بهم لإخراج جماعة جهيمان العتيبي، الذين اعتصموا بالحرم عام 1400 ه.

ص: 181

لتبنّي التقيَّة في مواجهة الآخرين؟!

لقد انتهى دور التقيَّة بالنسبة للشيعة اليوم، بعد أن تحقَّق لهم الأمن والاستقرار في الكثير من البقاع، وبعد أن أصبح صوتهم وكلماتهم تصل لكلِّ مكان.

وبقي على الوهابيِّين، الذين لا زالوا يعيشون بعقل الماضي، أن يُدركوا أنَّ فرقهم المختلفة، من تكفيريّين وجهاديّين وسَلَفيين متطرّفين، هي التي تتبنّى التقيَّة اليوم. وأنَّهم يعيشون في عصر مفتوح لا يحتمل مثل هذه الأكاذيب الساذجة والدعاوى المتخلِّفة.

ولايستحي الوهابيّون من نسبة التكفير إلى الشيعة، وهم الذين يكفِّرون المسلمين في كلّ مكان، سنَّة وشيعة، وقد ابتلاهم الله مؤخّراً بالفِرق المتطرّفة التي خرجت من تحت عباءتهم، لتُشهر سلاح التكفير في وجوههم، حتى ضاقوا بها، وعقدوا مؤتمراً لمواجهتها، وأصدروا البيانات فيها، وتصدَّوا لها بالعديد من المنشورات (1)

الشيعة والتتار

وتبنَّى الوهابيّون دعوى تآمر الشيعة مع التتار ضدّ دولة الخلافة العباسية، وهي دعوى أثارها إمامهم ابن تيميّة من قبل.


1- من نماذج هذه المنشورات: التبصير بقواعد التكفير، والتحذير من المجازفة بالتكفير، والأسئلة الشامية واليمنية والقطرية والنجدية في مسائل الإيمان والتكفير.

ص: 182

ومثل هذه الدعوى تكشف لنا مدى حقدهم على الشيعة، الذي أغرقهم في النقل بلا وعي، والتقاط كل دعوى باطلة أو أكذوبة واهية، لينالوا بها منهم.

وقد أصدر الوهابيّون مؤخّراً منشوراً بعنوان: (خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأُمَّة الإسلامية)، وبدا من خلال محتوياته أنَّ صاحبه مجرَّد ناقل بلا وعي، ولاعلم له بالتاريخ ولابحوادثه.

ومن نماذج الخيانات التي أبرزها في منشوره:

* خيانة الوزير علي بن يقطين لهارون الرشيد.

* خيانة الخليفة الناصر العباسي.

* خيانة الفاطميِّين.

* خيانة القَرامطة والبُويهييِّن.

* خيانة الوزير ابن العلقمي للخليفة المُستعصم العباسي.

* خيانة نصير الدِّين الطوسي.

هذا بالإضافة إلى خيانات النصيريّة والدروز، والشيعة في لبنان والعراق والبلاد العربية والهند.

أمّا ابن يقطين، فبغضِّ النظر عن نوع الاتّهام الموجَّه إليه من قِبل هذا الوهابي، فهو مجرَّد مسؤول، وليس فقيهاً من فقهاء الشيعة.

ومن جهة أُخرى، فقد تمَّ تعيينه وزيراً عن طريق الخليفة (السنّي) هارون، والتعيين من قِبل الحكومات إنّما يقوم على

ص: 183

أساس الكفاءة، لا على أساس المذهب.

والسؤال هنا هو: إذا كان ابن يقطين شيعياً خائناً، فلماذا قبله هارون وزيراً له؟!

ولو تبنَّينا هذه النظرة القاصرة، التي ينظر بها الوهابيّون لكلِّ شيعي باعتباره خائناً، دون النظر لوضعه ومكانته، لاعتبرنا السنَّة جميعهم خوَنة؛ لوجود الكثير من الوزراء والحُجّاب والأمراء والقادة والولاة، الذين خانوا خلفائهم وبلادهم، على مستوى الماضي والحاضر.

والعقل والمنطق، الذي لا يعرفه الوهابيّون، يقول: إنَّ هؤلاء جميعاً، سواء كانوا من الشيعة أم من السنّة، إنّما تحكمهم المصالح، ولاشأن لهم بالدِّين والمعتقد.

وفيما يتعلَّق بالخليفة الناصر، فقد روى عنه ابن كثير ما يلي: (كان قبيح السيرة في رعيّته، ظالماً لهم، فخرب في أيّامه العراق، وتفرَّق أهله في البلاد، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشي ء وضدّه، وإن كان ما ينسب إليه صحيحاً، من أنَّه هو الذي أطمع التتار في البلاد وراسلهم؛ فهو الطامّة الكبرى الذي يصغر عندها كلّ ذنب) (1)

والناصر هو خليفة سنّي متعصّب، كما ذكر ابن كثير في ترجمته، وهو جدّ المستعصم، آخر خلفاء بني العبّاس، الذي سقط في قبضة التتار. وصاحب المنشور غاب عنه ذلك بسبب جهله ونقله العشوائي، فنسب الناصر إلى الشيعة


1- نَقَلَ هذا الكلام عن ابن الأثير. انظر: الكامل، ابن الأثير، ج 13، حوادث عام 622 ه.

ص: 184

دون تبيّن. وكانت هذه سقطة من سقطاته وأكذوبة من أُكذوباته.

أمّا خيانة الدولة الفاطمية، فيقصد بها عملها على نشر التشيّع ومحو السنّة.

وهذا الوهابي، كما حال الحنابلة القدامى وإمامه ابن تيميّة، الذين يحتكرون الدِّين ويمثِّلون ربّ العالمين، لا يريد أن يسود مذهب في الأرض إلّا مذهبهم، وسيادة المذاهب الأُخرى، حتى ولو كانت مذاهب سنّية، فهو يعدّ خيانة للدِّين وللمسلمين!

والقرامطة الذين ذكرهم لا شأن لهم بالشيعة، وإنّما هي سنّة ابن تيميّة التي يتعبّد بها، والتي ألصقت كل الفرق بالشيعة، من باب تزييف الحقائق وتسهيل تشويه الشيعة.

والبُويهيّون أو (آل بويه) هم من الفُرس الذين استعان بهم خلفاء بني العباس، وقد برزوا في بغداد وأعلنوا التشيّع وأحيوا الشعائر الشيعية من بعد غياب طويل، ممّا استفزّوا الحنابلة المتربّصين بهم، والذين غاظهم هذا الأمر؛ فأعلنوا الحرب على الشيعة، واستكثروا عليهم هذا البروز، والأمن الذي حُرموا منه طويلًا (1)

ولمّا كان الحنابلة يعتبرون الخليفة العباسي هو ظلّ الله في الأرض، فقد اعتُبر الشيعة البويهيّون خونة؛ لاغتصابهم


1- انظر ترجمة آل بويه في: يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي، ج 2، ص 255؛ ووفيات الأعيان لابن خلكان، ج 5، ص 124؛ والفخري في الأحكام السلطانية لابن طباطبا؛ وانظر أيضاً في كتب التأريخ: حوادث عام 320 ه، وعام 352 ه.

ص: 185

السلطة من هذا الخليفة. وكذلك اعتبر حنابلة العصر، من الوهابيّين، هذا الحدث خيانة عظمى.

ويأتي دور الحديث عن ابن العلقمي والطوسي.

ومرة أُخرى نعيد السؤال: إذا كان ابن العلقمي شيعياً خائناً، فلماذا جعله المستعصم وزيراً له؟!

والجواب سوف يتّضح من خلال سرد الحوادث التي سبقت سقوط بغداد، والحوادث التي واكبت السقوط.

تُشير المصادر التاريخية أنَّ المسلمين كانوا في حالة انقسام وتناحر في البلاد المحيطة ببغداد، وقد فقد الخليفة نفوذه، وخرجت الأمور من تحت سيطرته. وكانت الشام في قبضة الأيوبيّين، من أبناء صلاح الدِّين، الذين تحوَّلوا إلى فِرق متناحرة ودول متصارعة.

كان الملك الصالح إسماعيل، صاحب بعلبك وبُصرى والشام، وملك دمشق بعد أخيه الملك الأشرف، ثُمَّ انتزعها منه أخوه الملك الكامل، ممّا أدَّى به إلى الاستعانة بالإفرنج على حرب أخيه.

ونقول للوهابي صاحب المنشور: أليست هذه خيانة؟!

وكان وزيره أبو الحسن السامري، ما كان مسلماً ولاسامرياً- حسب تعبير الذهبي في تاريخه-، بل كان يستتر بالإسلام، ويُبالغ في هدمه.

ومرّة أُخرى نقول للوهابي الحاقد: ما رأيك في هذا الكلام، أليس هو خيانة أيضاً؟!

ص: 186

قال الذهبي: (واعتضد الصالح إسماعيل بالإفرنج وسلَّم إليهم القُدس، وطبرية، وعسقلان. وجناياته على المسلمين ضخمة) (1)

وكانت (حُماة) في يد الملك المنصور.

و (الكُرك) في يد المُغيث ابن العادل.

و (الموصل) في يد لؤلؤ.

وفي عام 651 ه نزح الكثير من الجند من بغداد إلى الشام؛ بسبب قطع أرزاقهم.

وفي عام 654 ه، أي قبل دخول التتار بعامين، كان حال المسلمين كما يلي:

* كان التتار في خراسان وبلاد ما وراء النهر.

* وكان الخوارزم في بلاد المشرق، بالقرب من العراق.

* والشام مقسَّمة بين أبناء صلاح الدِّين.

* ودولة المماليك قد بدأت في الظهور بمصر.

* وبغداد وبعض مناطق العراق للمُستعصم.

* وكانت هناك صدامات بين الخوارزم والأيوبيّين.

* وبين المماليك في مصر والأيوبيّين في الشام.

* والتتار كانوا يراقبون كل ما يجري.


1- انظر: ترجمته في حوادث عام 648 ه- في تاريخ الإسلام الذهبي، ج 47، ص 382 وما بعدها، وقال الذهبي عنه: وبدت منه هنات عديدة واستعان بالافرنج على حرب أخيه ... وقال أيضاً: فلما سلطن الصالح اسماعيل واعطي الفرنج الشقيف وصفد نال منه الغربن عبد السلام علي المنبر فعزله الصالح وحبسه ...، ج 48، ص 417.

ص: 187

* والخليفة في بغداد لا حول له ولاقوَّة .. (1)

وكان التتار يرسلون رُسلهم وجواسيسهم إلى بغداد، من غير تحاشي ولاخيفة، والخليفة والناس في غفلة عمّا يُراد بهم، وذلك قبل دخولهم بغداد بعام كما ذكر الذهبي.

ووصف الذهبي حال الشام في ذلك العام بقوله: (أنْ ارتفعت منها البركات، وأُحيط بها الظلم والظلمات، والأسواق كاسدة، والرعايا فاسدة، وظهرت الخيانات، وعلَت المُنكَرات) (2)

وهنا نتوجَّه للوهابي صاحب المنشور بالسؤال التالي: مَن المسئول عن هذا الانقسام والخراب والفساد والخيانات، السنَّة أم الشيعة؟!

والجواب حسب طريقته هو، أنَّ السنّة هم المسئولون. إلّا أنَّ الحقيقة هي أنَّ كل ما كان يجري لا صلة له بالسنّة، فضلًا عن كونه لا صلة له بالشيعة، إنّما هو صراع نفوذ ومصالح، لا صلة له بالدِّين من الأصل.

وهذا ما كان يجب أن يفهمه الوهابيّون.

وبالطبع، يمكن القول أنَّ العلقمي لا صلة له بما يجري، ولادور له فيه.

وفي العام السابق لغزو التتار بغداد، غزو بلاد خوارزم،


1- انظر: حوادث عام 653 ه و 654 ه ج 47، ص 338 وما بعدها، وج 48، ص 17 وما بعدها، وانظر كتب التاريخ الاخرى.
2- انظر: حوادث عام 615 و 616 ه في المختصر في أحوال البشر، ج 3، وغيره من كتب التاريخ.

ص: 188

واستولوا عليها، وهرب من أمامهم شاه خوارزم، ثُمَّ أغاروا بعد ذلك على الموصل.

قال ابن كثير عن المستعصم: (كان رحمه الله سنّياً على طريقة السلَف واعتقاد الجماعة، كما كان جدّه وأبوه، ولكن كان فيه لِين وعدم تيقّظ، ومحبَّة للمال وجمعه. ومن جملة ذلك أنَّه استحلَّ الوديعة التي استودعها إيّاه الناصر داود، وكانت قيمتها نحو مئة ألف دينار، فاستُقبح هذا من مثل الخليفة، وهو مستقبح ممَّن هو دونه بكثير، بل من أهل الكتاب مَن إنْ تأمنه بقنطار يؤدِّه إليك) (1)

وقال: (... ولم تكن أيدي بني العبّاس حاكمة على جميع البلاد، كما كانت بني أُمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنَّه خرج عن بني العبّاس بلاد المغرب. وقارن بني العبّاس دولة الفاطميّين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب وما هنالك، وبلاد الشام في بعض الأحيان، والحرمين في أزمان طويلة، وكذلك أُخذت من أيديهم بلاد خراسان وما وراء النهر، وتداولها الملوك دُولًا بعد دول، حتّى لم يبقَ للخليفة منهم إلّا بغداد وبعض بلاد العراق؛ وذلك لضعف خلافتهم، واشتغالهم بالشهوات وجمع المال في أكثر الأوقات) (2)

وقال الذهبي: (لمّا توفِّي المستنصِر- والد المُستعصِم، لم ير الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي شقيق المستعصم الذي يوصَف بالشجاعة والشهامة الأمر، وخافوا


1- انظر البداية والنهاية، ج 13، حوادث عام 656 ه.
2- انظر البداية والنهاية، ج 13، حوادث عام 656 ه.

ص: 189

منه وآثروا المُستعصِم؛ لما يعلمون من لينه وانقياده وضعف رأيه؛ ليكون الأمر إليهم، فأقاموا المُستعصِم، ثُمَّ ركن المستعصم إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحرث والنسل، وحسُن له جمع الأموال والاقتصار على بعض العساكر، وقطع الأكثر. فوافقه على ذلك. وكان فيه شحّ وقلّة معرفة وعدم تدبير، وحبّ للمال وإهمال للأمور، وكان يتَّكل على غيره، ويَقدم على مالا يليق وعلى ما يُستقبَح، وكان يلعب بالحمام ويُهمِل أمر الإسلام ..) (1)

ومن خلال ما سبق، يتبيّن لنا ما يلي:

إنَّ المستعصم لم يكن مؤهّلًا لتولّي الخلافة، ولم يكن على دين أو خُلق، وقد خان الأمانة. ورغم ذلك يعتبره ابن كثير سنّياً سلَفياً على معتقَد أهل السنَّة.

ويبدو من خلال رواية الذهبي أنَّ رجال البلاط أو الحاشية هم الذين اختاروه ونصَّبوه، رغم ضعفه وعدم كفاءته، وأهملوا شقيقه الأجدر منه، والذي كان يقول- حسبما روى الذهبي-: إنْ ملَّكني الله، لأعبُرنَّ بالجيوش نهر جيحون، وانتزع البلاد من التتار واستأصلهم.

وهذا يشير إلى أنَّ هذه الحاشية كانت تخدم مصالحها، لا مصالح الإسلام والمسلمين، ولم يكن يعنيها الخطر التَتَري الذي يقترب من دولتهم.

وإذا كان العلقمي هو الذي زيَّن للمستعصم جمع المال


1- تاريخ الاسلام للذهبي، ج 48، ص 260.

ص: 190

وتسريح الجند، فذلك لكون طبيعته تميل إلى ذلك. فهو كما وصفه ابن كثير والذهبي، كان فيه غفلة وحبّ للمال وميل للشهوات.

يروي الذهبي: (كان تاج الدين بن صلايا، نائب إربل، يُحذِّر الخليفة ويحرِّك عزمه، والخليفة لا يتحرَّك ولايستيقظ).

وهذا دليل على إهمال الخليفة وتقاعسه عن الاستعداد لمواجهة التتار.

ويروي: (وركب هولاكو إلى العراق .. وفي جيشه خلق من الكرخ ... ومَدَد من صاحب الموصل (الملك لؤلؤ)، مع ولده الملك الصالح ركن الدين إسماعيل ...

وحصلا منه هولاكو- على فرمان بتولّي القضاء، إلّا أنَّ صدر الدين توفّي، فقام ابن الزكي بانتزاع المدارس لنفسه وأصحابه، وبقي على هذا الحال إلى أن زالت دولة الطاغية هولاكو من الشام ... فبذل أموالًا للمماليك على أن يقرّ القضاء والمدارس في يده، فأُقرَّ على ذلك شهراً ثُمَّ عُزل) (1)

وهذه صورة أُخرى من صور الخيانة لاثنين من فقهاء أهل السنّة تغافل عنها الوهابيّون، أو لم يعلموا بأمرهما من الأصل؛ لكونهم مجرَّد ناقلين.

ويروي ابن كثير في حوادث عام 656 ه: (استهلّت هذه السنة وجنود التتار قد نزلت بغداد، وجاءت إليهم إمدادات صاحب الموصل يساعدونهم على البغادَّة، خوفاً من التتار


1- انظر: الذهبي، حوادث عام 657 ه.

ص: 191

ومصانعة لهم، قبَّحهم الله، وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كلِّ جانب، حتى أُصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتُضحكه، وكانت من جُملة حظاياه. وكانت مولّدة تسمَّى (عرفة) جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها، وهي ترقص بين يدي الخليفة).

ومثل هذه الروايات إنّما تفضح أكاذيب الوهابيّين، وتكشف غبائهم وجهلهم بحوادث التاريخ، وتضليلهم للمسلمين.

وكيف يُعقل أنَّ هناك خليفة محاصَر من قِبل عدوّه، بينما هو يلهو ويلعب مع جواريه؟!

وهل مثل هذا يستحقّ أن يُبكى عليه، أو على دولته التي كانت مرشَّحة للسقوط منذ عقود؟!

وهل بعد هذا كلّه يمكن لنا أن نُلقي بتبعة سقوط بغداد على العلقمي؟!

وهل مثل هذه الدولة المنهارة في حاجة لمثل العلقمي ليُسقطها؟!

وهل لو كان العلقمي سنّياً، كانوا وجَّهوا له مثل هذا الاتّهام، وركَّزوا عليه كل هذا التركيز؟!

وهل يمكن لقائد محنَّك، مثل هولاكو، أن تحرِّكه رسالة من العلقمي، دون أن يكون قد أحاط بالأمر وتيقَّن من النصر؟!

إنَّ الذي أسقط بغداد هم الخوارزميّون السنّة، والأيوبيّون السنّة، وحاشية المُستعصم السنَّة، وليس ابن العلقمي سوى الضحية التي قدَّموها كبش فداء؛ ليُداروا بها فشلهم

ص: 192

وخياناتهم.

قال ابن تيميّة: (وكان من أسباب دخول هؤلاء التتار ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع) (1). ونقل قول ابن دقيق العيد: (إنّما استولت التتار على بلاد المشرق، لظهور الفلسفة فيهم، وضعف الشريعة) (2)

أمّا الطوسي، فقد أثنى عليه المؤرِّخون عدا ابن تيميّة، الذي يعادي الفلاسفة والمناطقة. ولم يُشيروا إلى شي ءٍ يتعلّق بخيانته، فكلّ تركيز المؤرّخين كان على ابن العلقمي (3)

ويحاول الوهابيّون الربط بين سقوط بغداد في الماضي على يد التتار، وسقوطها في الحاضر على يدي الأمريكان، مؤكّدين أنَّ المتسبِّب في الحالتين هم الشيعة.

وهذه حجّة البليد، إذ أنَّ هذا يعني أنَّ صدام الذي أسقطه الأمريكان، مساوٍ للمُستعصم، وهو عند الوهابيّين يجب أن يتساوى مادام سنّياً، ومادام الأمر يتعلّق بالشيعة.

والقوات الأمريكية التي غزت العراق، انطلقت من قواعدها في معقل الوهابيّة التي استوطنت فيها، بفتاويهم التي أجازت الاستعانة بالمشركين.


1- انظر: مجوع الفتاوى، ج 13، ص 180.
2- المرجع السابق، ج 2، ص 241 وما بعدها.
3- انظر تزكية المؤرّخين للطوسي، وفي مقدّمتهم ابن كثير والذهبي، تلميذي ابن تيميّة، في: البداية والنهاية: ج 13، ص 376، حوادث ووفيات عام 672 ه؛ وتذكرة الحفاظ، ج 4، ترجمة رقم 1494؛ والوافي بالوفيات، ج 1، ص 179. وكتب التاريخ الأُخرى.

ص: 193

أليس هذا يعدّ خيانة للإسلام والمسلمين؟!

وبعد كل هذا، يتحدَّث الوهابيّون عن خيانات الشيعة؟!

وفيما يتعلّق بالصليبيّين، فقد تبنّى الوهابيّون موقف ابن تيميّة، وأخذوا في تصيّد بعض المواقف للفاطميين، وبعض الفرق المنسوبة للشيعة في بلاد الشام، من الصليبيّين. وخرجوا منها بنتيجة تؤكِّد عمالة الشيعة للصليبيّين.

والمسألة، كما تبدو من ظاهرها، عدم وعي بقراءة التاريخ، وعدم فهم لحوادثه، كما هو حالهم فيما يتعلّق بربط الشيعة بالتتار.

والدول والحكومات لا يجوز اعتبار مواقفها وممارساتها دليلًا على المعتقد؛ فإنَّ الدول تحكمها المصالح لا العقائد. وهذا الأمر ينطبق على الدولة الفاطمية، المحسوبة على الشيعة، وغيرها من الدول المحسوبة على السنّة.

وقد ذكرنا فيما سبق صور لخيانات بعض أبناء صلاح الدين في الشام، وتعاونهم مع الصليبيّين ضدّ أشقّائهم وضدّ المسلمين، واعتبرنا أنَّ هذا الموقف لا صِلة له بالسنّة ولابالمُتسنّنين.

وكذلك مواقف الدولة الفاطمية، أو الصفوية، أو الجمهورية الإسلامية. إن صحَّت فهي لا صلة لها بالشيعة والتشيّع.

الدول الشيعية ليست حجَّة على التشيّع. والدول السنّية ليست حجَّة على التسنّن. وكذلك النصيرية أو الدروز، أو غيرهم من الفرق البعيدة عن الشيعة الإمامية. لا يجوز لنا أن

ص: 194

نربطها بهم.

إلّا أنَّ الوهابيّين لا يُميّزون، سيراً مع سنّة ابن تيميّة، الذي خلط ما بين الشيعة الإمامية والنصيريّة والإسماعيلية، وسائر الباطنيّين، وجعل الجميع حُزمة واحدة.

وإذا كان الوهابيّون حريصون على الإسلام والمسلمين، ويلقون بتُهمة الخيانة على الشيعة ما بين الحين والآخر، فلماذا يتغاضون عن خيانات السنَّة عبر التاريخ؟!

ولماذا يتغاضون عن خيانات آل سعود، وتعاونهم الفاضح والمُعلَن مع المشركين الصليبيِّين؟!

وخيانات الأنظمة الحاكمة الأُخرى، في مصر والخليج والمغرب والأردن، وغيرها من البلدان التي تعدّ سنّية في منظورهم؟!

ولماذا يغفلون صور البطولة والجهاد التي قام بها سيف الدولة الحمداني (الشيعي) ضدّ الصليبيّين، والتي تغنَّى بها الشعراء؟!

والجواب ببساطة: أنَّهم ينقلون لا يبحثون. ويكفِّرون ولايبصرون.

ألألاعيب

ولم يكتفِ الوهابيّون بإصدار المنشورات التي تنشر الأكاذيب حول الشيعة، بل قاموا، بالإضافة إلى ذلك، ببعض الألاعيب التي تُثير الرأي العام ضدّهم.

ص: 195

ومن هذه الألاعيب .. قيامهم بإصدار منشورات بأسماء شخصيات وهميّة منسوبة للشيعة، تعلن خروجها من دائرة الشيعة، وكفرها بعقائدهم.

ومن بين هذه المنشورات، منشور صدر بعنوان: (لله ثُمَّ للتاريخ). وهو منشور صغير، (112) صفحة، نسبه الوهابيّون لشخصيّة مزعومة، نسبوها لعلماء الشيعة في النجف، وهو حسين الموسوي.

كانت أُمنيته أن يُصبح مرجعاً يتزعّم الحوزة الدينية، عرض فيه تجربته مع الشيعة، بعد أن قرأ جميع مصادرهم المُعتبَرة وغير المعتبَرة، وكل كتاب وقع في يده، وأخذ يكتب تعليقاته على ما يقرأ، ولمّا انتهى من قراءاته للمصادر المُعتبرة؛ وجد عنده أكداساً من قصاصات الورق، فاحتفظ بها، عسى أن يأتي يوم يقضي الله فيه أمراً كان مفعولًا. وكانت له علاقات حسنة مع كلِّ المراجع والعلماء والسادة، وكان يخالطهم ليصل إلى نتيجة تُعينه على اتّخاذ القرار الصعب، الذي اتّخذه رغم انتقام الشيعة، فأصدر كتابه هذا، وهو على يقين أنَّه سيلقى القبول عند طلّاب الحقّ، لا أهل الضلالة أصحاب المُتعة والخُمس، الذين لبسوا العمائم وركَبوا المرسيدس والسوبر، حسب تعبيره ..

ويظهر لنا من خلال مقدّمة كاتب المنشور، أنَّ لغته ضعيفة وساذجة، ولاتتناسب مع لُغة عالم كبير، قرأ وتبحَّر في مصادر الشيعة، والتقى بالكبير والصغير، وناقش وناظر. إذ

ص: 196

كيف لمَن خاض هذه التجربة ودرس وقرأ، أن يخرج في النهاية بهذا المنشور الصغير والضعيف، والذي يُعدّ صورة مكرّرة من منشورات الوهابيّين الأُخرى.

من هنا كشفت الحقيقة وتبيّن أنَّ كاتب هذا المنشور هو واحد من الوهابيّين المتربّصين بالشيعة، وقد تستَّر باسم شيعي لا وجود له.

ولو كانت هذه الشخصية حقيقية، وهي بهذا الوزن والتاريخ، حسبما يبدو من كلامها؛ لأحدث ظهورها ضجَّة كبيرة، ولبرزت أمام الرأي العام، واحتفل بها الوهابيّون.

والطريف أنَّ الشيعة في الكويت مكان صدور المنشور- اكتشفوا هذه اللعبة، وردّوا على الوهابيّين بمشور يحمل نفس الاسم، ولشخصيَّة سنّية مزعومة أيضاً.

والسؤال هنا هو: ما هي محتويات هذا المنشور؟

والجواب: هو أنَّ هذا المنشور صورة من منشورات الوهابية الأُخرى، وهو ما يُثير الشبهة فيه؛ فقد ركَّز على ابن سبأ وإثبات أنَّه شخصية حقيقية، ثُمَّ تناول نكاح المتعة، ومسألة الخمس، متَّهماً فقهاء الشيعة باستغلاله، وتحدَّث عن الصحيفة الجامعة، والجفر، ومصحف فاطمة؛ باعتبارها من الكتب السريّة عند الشيعة، وحاول أن يؤكِّد على أنَّ الشيعة يعتبرون أهل السنَّة العدوّ الوحيد لهم، ومؤكّداً أيضاً دور العناصر الأجنبية في صناعة التشيّع. وختم منشوره بقوله: (هل أبقى في مكاني ومنصبي وأجمع الأموال الضخمة من

ص: 197

البسطاء والسذَّج باسم الخمس، والتبرّعات للمشاهد، وأركب السيّارات الفاخرة وأتمتّع بالجميلات، أم أترك عرض الدنيا الزائل، وابتعد عن هذه المحرّمات، وأصدع بالحقّ، إنَّ الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس؟!).

ومثل هذا الكلام لا يتلاءم مع شخصية علمية كبيرة، كالتي يحاول المنشور تصويرها، بل يدلّ دلالة قاطعه على أنَّ كاتبه هو واحد من سفهاء الوهابيّة المتربّصين بالشيعة.

وأصدر الوهابيّون العديد من المنشورات التي تطعن في حزب الله، وتثير الشُبهات من حوله، وعلى رأسها منشور عنوانه: (ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، نصر الله خميني العرب).

وهي منشورات ساذجة وغبية، ولاتنمّ عن وعي بما يجري ويدور من حولهم، وهذا يعدّ نتيجة طبيعية لقوم يعيشون ويتعبَّدون بعقل الماضي.

والهجوم على حزب الله من ألاعيب الوهابية، وهو يُظهر مدى الحرج الذي وقعوا فيه؛ نتيجة ما حقَّقه من انتصارات على المستوى السياسي، ومكاسب على المستوى الإسلامي. وهو ما يظهر- أيضاً- مدى موالاة الوهابيّين لأعداء الإسلام والمسلمين، وكونهم أداة طيِّعة لهم، يستخدمونهم لضرب الإسلام وتشويهه كلّما استدعت الحاجة لذلك.

والسؤال الذي يردُ على خاطر كلّ مسلم هو:

ص: 198

ماذا يفعل حزب الله؟

ولماذا يحاربه الوهابيّون؟

في منظور الوهابيّين .. حزب الله لا يفعل شيئاً، وهو لا يُجاهد في سبيل الله، وإنّما يجاهد في سبيل الشيطان.

وإذا كان هذا هو حال حزب الله عند الوهابيّين، فلماذا لا يتقدّموا هم للجهاد في سبيل الله والدفاع عن المقدّسات؟!

ولماذا لا يوفَّرون رصاصاتهم التي يوجِّهونها لصدور المسلمين، وقنابلهم التي يلقونها عليهم ما بين الحين والآخر، لأعداء الله؟!

ولماذا لا نرى لهم أثر، ولانسمع لهم خبر، في المواجهة مع العدوِّ الصهيوني؟!

والجواب ببساطة هو أنَّ الوهابية لم تُوجَد لهذا، وإنّما وُجدت لتفرِّق المسلمين، وتوجَّه أسلحتها إلى صدورهم، فهي صناعة أعداء الإسلام والمسلمين.

ومن ألاعيب الوهابية محاولتهم استغلال بعض الآراء النقدية والمواقف الخلافية، من قِبل بعض الشيعة، لضرب الشيعة والطعن في عقائدهم.

ومثال ذلك استغلالهم لآراء موسى الموسوي، في كتابه (الشيعة والتصحيح)، وتصويره كمرتدٍّ عن التشيّع. بينما هو في الحقيقة ظلَّ على تشيّعه ولم يتحوَّل لأهل السنّة (1)


1- طبعت الدوائر السعودية والعراقية، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، عشرات الآلاف من النُسخ من كتابه الشيعة والتصحيح وكتابه الآخر الثورة البائسة، وكانت توزَّع مجاناً.

ص: 199

ويعمل الوهابيّون دائماً على اللَعب بفكرة فارسية التشيُّع، أي أنَّ التشيّع صناعة فارسية لا عربية. وهي فكرة متولّدة من كلام ابن تيميّة وغيره، من خصوم الشيعة القدامى، الذين يحاولون تضخيم دور المجوس بعد سقوط ملكهم في بلاد فارس، وسعيهم للانتقام من المسلمين. فتظاهروا بالتشيّع لأهل البيت من أجل ضرب الإسلام.

إلّا أنَّ الباحث المدقّق يكتشف أنَّ التشيّع أُصوله عربية هاشمية، تنحصر في أهل البيت، المتمثّلين في الإمام علي والزهراء والحسن والحسين:، وبقية الأئمّة الاثني عشر، وهم من أرقى بيوتات العرب وأعلاها.

والشيعة، وعلى رأسهم الإيرانيّون، يدينون لهم، بينما أهل السنَّة، وعلى رأسهم العرب، يُدينون للفُرس ويتلقَّون منهم الفقه والروايات النبويّة، وسائر العلوم الدينية.

والحقيقة هي أنَّ التسنّن هو الذي كان من صناعة الفرس، وهو ما يتَّضح من خلال أصحاب كتب السُنن، ورموز فقهاء السنّة، الذين تعود أُصولهم إلى بلاد فارس. وعلى رأس هؤلاء البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والحسن البصري، وأبو حنيفة، وطاووس، وابن سيرين، وعكرمة، والغزالي، وغيرهم كثير ..

حتى أنَّ الدولة العبّاسية، التي نشأ الحنابلة في ظلِّها وباركوها، ويدَّعي الوهابيّون أنَّ الشيعة أسقطوها، قامت على أكتاف الفُرس.

ص: 200

ص: 201

أكاذيب أُخرى

ابن تيميّة

لم يجد الوهابيّون مَن يحتمون به من بين فقهاء أهل السنّة سوى ابن تيميّة، الذي اعتبروه الأب الروحي لهم، ومنحوه لقب (شيخ الإسلام).

والسؤال هو: لماذا انحاز الوهابيّون لابن تيميّة، من دون بقيّة الفقهاء؟

والجواب عند إمامهم محمد بن عبد الوهاب، الذي اتَّخذه له إماماً، وبعث بتراثه الذي طواه النسيان من جديد، بسيوف آل سعود.

وابن عبد الوهّاب لم يكن يملك مقوِّمات المجتهد أو الفقيه، ولايصلح ليكون مالكياً أو حنفياً أو شافعياً، ولاحتى حنبلياً؛ وذلك لكون اتّباع هذه المذاهب يحتاج إلى أدوات لا يملكها، ومقوّمات لا تتوفّر فيه، وهذا ما دفع به نحو ابن تيميّة؛ لتوافق

ص: 202

طباعه الحادَّة المتمرّدة مع طباعه، وميوله المتطرّفة مع ميوله. ولو قُمنا بمقارنة بين الشخصيّتين، فسوف يتبيَّن لنا مدى التطابق بينهما في الطباع.

وفتاوى ابن تيميّة وكتبه- عموماً- تكتظّ بالعديد من النصوص الحادَّة والمتطرِّفة، والمتصادمة مع عقائد أهل السنّة، التي وجد فيها ابن عبد الوهاب ضالّته، فهو يستطيع بها أن يتميَّز على المذاهب السائدة، التي استراحت من ابن تيميّة وضلالاته قروناً طويلة.

وتسلَّم الوهّابيون تراث ابن تيميّة من إمامهم ابن عبد الوهّاب، باعتباره من المسلّمات. وزاد من يقينهم بصحّة ما فيه، تمسّح ابن تيميّة الدائم بالسلَف والإجماع، وإلصاق أقواله وفتاويه بأهل السنَّة؛ الأمر الذي أراحهم من إتعاب عقولهم الضعيفة القاصرة من البحث والتنقيب، وتركيز جهودهم في نقل كلام ابن تيميّة، وضرب الخصوم به.

وتاريخ ابن تيميّة رصده لنا الكثير من معاصريه، وعلى رأسهم تلميذه الذهبي الذي انشقَّ عليه، وتلميذه الآخر ابن كثير، وابن حجر العسقلاني، والحصني، وغيرهم. بما يُفيد شذوذه وتمرّده على الفقهاء، وعدم تقيّده بعقيدة أهل السنّة؛ ممّا ينفي بالتبعيَّة صفة (شيخ الإسلام) التي ألصقها به الوهابيّون، وينفي- من جهة أُخرى- تزكيته والثناء عليه من قِبل بعض الفقهاء (1)


1- انظر: ترجمة ابن تيميّة في تاريخ الذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير، والدُرر الكامنة لابن حجر، ودفع شبه مَن شبَّه وتمرَّد للحصني، وذيل طبقات الحنابلة، ج 1، ص 338؛ وانظر: كتاب ثقافة الإرهاب في كتب الوهابية. ويحاول الوهابيّون دائماً تجميل ابن تيميّة في أعين المسلمين، بنشر بعض الكتب التي يُثني فيها أصحابها عليه ويزكّونه، وهي كتب قليلة، تكاد تعدّ على الأصابع، ولا تخرج عن محيط بعض الحنابلة المتعصّبين له.

ص: 203

وكيف لابن تيميّة الذي حاربه الفقهاء وكفَّره البعض، وطالب آخرون بقتله، غير الذين طالبوا بتعزيره وحبسه، وقد مات في حبسه الأخير، كيف لمَن هذا حاله، أن يُمنَح لقب شيخ الإسلام؟!

ولايوجد من بين المصادر المعتمَدة ما يفيد منحه هذا اللقب، سوى بعض المصادر الحنبلية المتأخِّرة، التي تُنسب للمتطرّفين منهم، الذين تعصَّبوا له.

وممَّا يدلّ على كذب الوهابيّين، إلصاقهم لقب شيخ الإسلام بابن القيّم، وابن كثير، وابن عبد الوهّاب. فلو كان لقب شيخ الإسلام خاصّاً بابن تيميّة، ما منحوه لغيره.

ومن أكاذيب الوهابيّين حول ابن تيميّة اعتباره من المجاهدين، الذين جاهدوا التتار. بينما ابن تيميّة وُلد في عام 661 ه. أي بعد غزو التتار لبلاد المسلمين، وهزيمتهم على يد المماليك في وقعة عين جالوت.

ومن المُضحك أنَّ محقّق رسالة الردِّ على الأخنائي، وهو يستعرض سيرة ابن تيميّة، نقل عن ابن كثير قوله عنه: (تمَّ الاستيلاء على دمشق من قِبل التتار في جمادى الأُولى سنة 658 ه، وشارك ابن تيميّة مشاركة فعّالة، وكان يجول

ص: 204

في العدوِّ كأعظم الشجعان (1). ونسى أنّه ذكر في السطور السابقة أنَّ ابن تيميّة وُلد عام 661 ه.، وهو ما يعني أنَّه عند غزو التتار لدمشق، لم يكن قد وُلد بعد.

والثابت أنَّ ابن تيميّة جاهد المسلمين لا المشركين؛ حين حرَّض المماليك في الشام على غزو جبل كسروان بجنوب لبنان عام 705 ه.، وشارك جنود المماليك في قتال الشيعة الذين كانوا يقيمون في هذا الجبل (2)

وحرَّض المسلمين على قتال التَتَر، بعد أن أسلموا بفتواه المعروفة بفتوى (الياثق)، التي قال فيها بجواز مقاتلة معطّلي الشرائع؛ باعتبارهم مرتدِّين عن الإسلام (3)

التقليد

ومن الدعاوى الكاذبة للوهابيّين، ادِّعاؤهم اتّباع الكتاب والسنّة، ورفض التقليد والمذهبية. وهم يهدفون من وراء هذه الدعوة، إلى حجب أتباعهم وعزلهم عن المدارس والتيّارات الأُخرى؛ ليظلّوا في دائرة مذهبهم، ولايخرجوا عن عقائدهم.

وهي حيلة من حيلهم التي يجذبون بها المسلمين نحوهم؛ إذ أنَّ فكرة التقليد تستفزّ أصحاب العقول، وهي


1- ذكر ابن كثير هذا الكلام نقلًا عن تاريخ ابن الأثير، ج 7، ص 13. كما ذكر المحقِّق.
2- قال ابن كثير: وفي هذا العام عاد شيخ الإسلام منصوراً، بعد قتال الرافضة في الجبال. انظر: البداية والنهاية لابن كثير، حوادث عام 705 ه.
3- انظر نص هذه الفتوى في: مجموع فتاوى ابن تيميّة، ج 28، ص 509. و الياثق هو كتاب من وضع جنكيز خان. انظر: ثقافة الإرهاب في كتب الوهابية.

ص: 205

منبوذة بنصوص القرآن التي يستدلّ بها الوهابيّون على رفضها (1)

إلّا أنَّ الوهابيّين لبسوا على المسلمين بالخلط بين التقليد في العقائد والتقليد في الشرائع. والتقليد في العقائد هو المنبوذ شرعاً، وهو ما نبَّه عليه القرآن. أمَّا التقليد في الشرائع، فلا حرج فيه لمَن لا يملك أدوات الاجتهاد، الأمر الذي ينطبق على عامّة الناس.

والوهابيّون لا يملكون أدوات الاجتهاد بالطبع، لا هم ولاإمامهم ابن عبد الوهّاب، فكيف لهم أن ينبذوا التقليد؟!

وتشبّثهم بهذه الفكرة يعود لقصورهم وضعف عقولهم، وعجزهم أن يكونوا من أهل العلم والاجتهاد. وهو ما يظهر لنا من خلال رصد عناصر الحنابلة القدامى والمعاصرين من الوهابيّين، الذين يغلب عليهم العَوام والسوَقة وضعاف العقول، ومثل هؤلاء لا يجدون مكاناً في دائرة التيّارات والمذاهب الأُخرى، التي تتبنّى قواعد فقهية وأدوات عقلية تُلزم المقلّد وتضبط حركة تناوله لأحكام الدِّين، وهو ما لا يطيقه الحنابلة، المائلين بطبعهم إلى الفوضى والغلو، وهو ما يدفع بهم أيضاً إلى التعصّب لفكرة التحّرر من التقليد، والتمسّك بها وعدم التخلّي عنها.

والمُتَّبع لدُعاة نفي التقليد، إنّما هو في الحقيقة مقلِّد


1- مثل قوله تعالى: وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ، وقوله: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ...

ص: 206

لهم، فهو قد انتقل من تقليد غيرهم إلى تقليدهم هم. ولذا فإنَّ الوهابيّين هم مقلِّدون لابن تيميّة وابن عبد الوهاب، والذين اتَّبعوهم في دعواهم هم مقلِّدون لهم.

وفتح الأبواب على مصارعها أمام الوهابيّين، للخوض في الكتاب والسنّة، قد أوقع الوهابيّين في أزمة كبيرة؛ إذ أدَّى الأمر إلى تصدّع الوهابيّة، وبروز العديد من الفرق التي تعدّ نُسخة عصرية من فرق الخوارج، على رأس كلّ فرقة منها مجتهد يُشهر حرابه في وجه المخالفين.

وقد أخذت هذه الفرق تكفّر بعضها وتلعن بعضها بعضاً، واتَّجه البعض الآخر منها إلى حمل السلاح في مواجهة خصومه، من الوهابيّين وغيرهم (1)

وهو ما يبدو لنا من خلال التساؤلات التي تدور في أذهان شباب الوهابيّين، ولايجدون لها إجابة عند أئمّتهم.

منها سؤال يقول: في هذا الزمان عديد من الجماعات والتفريعات، وكل منها يدَّعي الانضواء تحت الفرقة الناجية، ولاندري أيّهم على الحقِّ فنتَّبعه، ونرجو من سيادتكم أن تدلّونا على أفضل هذه الجماعات وأخيَرها، فنتبع الحق فيها مع إبراز الأدلّة.

وكان الجواب هو: كلٌّ من هذه الجماعات تدخل في الفرقة الناجية، إلّا مَن أتى منهم بمكفّر يخرج عن أصل الإيمان، لكنّهم تتفاوت درجاتهم قوّة وضعفاً، بقدر إصابتهم للحق


1- انظر: ملاحق الكتاب، وكتابنا: الحق والحقيقة وفرق أهل السنّة.

ص: 207

وعملهم به، وخطئهم في فهم الأدلّة والعمل. فأهداهم أسعدهم بالدليل فهماً وعملًا. فاعرف وجهات نظرهم، وكن من أتبعهم للحقِّ وألزمهم له، ولاتبخس الآخرين أُخوّتهم في الإسلام، فتردّ عليهم ما أصابوا فيه من الحق، بل اتّبع الحقّ حيثما كان، ولو ظهر على لسان مَن يخالفك في بعض المسائل. فالحق رائد المؤمنين، وقوّة الدليل من الكتاب والسنّة هي الفيصل بين الحق والباطل (1)

وسؤال آخر يقول: إنَّ كثيراً من الجماعات التي تدعوا إلى الإسلام، كلٌّ منهم يقول: أنا على نهج السلف، ومعي الكتاب والسنَّة؟!

وجوابه هو: الواجب على المسلم أن يلتزم الحق الذي يدلّ عليه الكتاب والسنّة، وأن يوالي على ذلك ويعادي على ذلك، وكل حزب أو مذهب يخالف الحقّ يجب البراءة منه، وعدم الموافقة عليه (2)

والفرق الوهابية جميعها لا تختلف في تحريم شدِّ الرحال والتوسّل، وزيارة القبور والاحتفال بأصحابها. وتقليد ابن تيميّة وابن عبد الوهّاب، فكيف يمكنه التمييز بينها؟!

والظاهر من هذه الأجوبة هو الحفاظ على الوضع القائم وتبريره، مع إتاحة الفرصة للسائل لمعرفة الدليل وحده، وتمييز الخطأ من الصواب، وسط هذه الفرق الوهابية


1- فتاوى اللجنة الدائمة، رقم 7122.
2- مجموع فتاوى ابن باز، ج 5، ص 15.

ص: 208

المتناحرة، الأمر الذي قد يؤدِّي بالسائل إلى اتّباع واحدة من هذه الفرق، أو صنع فرقة جديدة خاصّة به.

ويظهر لنا من كتب الحنابلة القدامى والوهابيّين المعاصرين، أنَّهم يقاومون بشدّة علم الكلام والمنطق والفلسفة. ويعود ذلك إلى خوفهم الشديد من هذه العلوم، التي تنبِّه العقول وتؤسّس للتفكير العلمي، ممَّا يؤدِّى إلى تفلّت الأتباع منهم، ويهدم دعواهم بالوصاية على الدِّين.

الفرقة الناجية

رُوي عن الرسول (ص) قوله: (افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة، وتفرَّقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة. والذي نفسي بيده، لتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنّة واثنتان وسبعون في النار.

قيل: يا رسول الله، مَن هم؟

قال: الجماعة)

وفي رواية قال: ما أنا عليه وأصحابي.

وفي رواية قال: هي السواد الأعظم. (1)

قال أبو سليمان الخطابي: (قوله: ستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، فيه دلالة على أنَّ هذه الفرق كلّها غير خارجين على الدِّين؛ إذ أنَّ النبي جعلهم كلّهم من أُمّته. وفيه


1- انظر: ابن ماجه، ج 2، باب افتراق الأُمم؛ وأبو داود: كتاب السنّة؛ والترمذي: باب ما جاء في افتراق هذه الأُمّة؛ وكتب السُنن الأُخرى.

ص: 209

أنَّ المُتأوِّل لا يخرج من الملّة، وإنْ أخطأ في تأويله) (1)

وعلى الرغم ممّا قيل في هذا الحديث، فإنَّ السؤال الذي يجب أن يوجَّه إلي الوهابيّين هو:

أيّ فرقة من فرقهم هي الناجية من النار؟

هل هي الفرق الجهادية، أم التكفيرية، أم السَلَفية؟!

أم هي بمجموعها ناجية من النار؟!

وهل من صفات الفرقة الناجية من النار إراقة دماء المسلمين، وتكفيرهم، وترويع الآمنين، ونشر الفساد في الأرض؟!

وأئمَّة الوهابيّين يعتبرون كل هذه الفرق ناجية من النار، إلّا مَن أتى منهم بمُكفِّر يخرج عن أصل الإيمان، والمُكفِّر الذي يُخرج عن أصل الإيمان عندهم، هو التوسّل والاستغاثة والنذور.

ومادامت هذه الفرق تلتزم بهذه الأصل، فهي ناجية من النار، ولتفعل ما تفعل بالإسلام والمسلمين، فكلّ ذلك لا يهمّ عند الوهابيّين.

نصرة آل سعود الموالين لليهود والمشركين لا يهم.

إراقة دماء المسلمين وتكفيرهم واستباحتهم لا يهم.

السكوت عن الظلم والفساد، والمؤامرات التي تحيط بالإسلام والمسلمين، لا يهم.

المهم عندهم هو تحريم زيارة القبور والاحتفالات، ووجوب


1- انظر: سُنن البيهقي، ج 10، ص 208.

ص: 210

اللحية والجلباب والنقاب، وتعظيم وُلاتهم والتغاضي عن عظائم الأمور.

وإذا كان بعض فقهاء أهل السنّة يفسِّرون الفرقة الناجية بالسواد الأعظم، فهل الوهابيّين

يمثِّلون السواد الأعظم من المسلمين؟!

ص: 211

ملاحق الكتاب

مُلحق: 1 موجز مسائل ابن تيميّة التي خالف فيها السُنَّة:

ص التجسيم.

ص التشبيه.

ص تحريم التوسُّل.

ص تحريم شدّ الرحال.

ص تكفير المُخالف.

ص نبذ التأويل.

ص إنكار المجاز.

ص فناء النار.

ص وقوعه في الصحابة.

مجموعة مسائل فقهية مثل

ص إباحة طواف الحائض.

ص جواز صلاة التطوّع جُنباً.

ص

ص: 212

ص المائعات لا تنجس بموت حيوان فيها.

ص مسألة الطلاق.

ملحق: 2 نماذج من ردود أهل السنّة على ابن تيميّة.

الاعتبار ببقاء الجنَّة والنار للسبكي

المقالة المرضيّة في الردِّ على مُنكر الزيارة المحمديَّة للأخنائي

الإشارة بطُرق حديث الزيارة لابن حجر العسقلاني

شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي

الجوهر المُنظّم في زيارة قبر النبيِّ المُعظَّم ابن حجر الهيتمي

التُحفة المختارة في الردِّ على مُنكر الزيارةللتاج الفكهاني

ابن تيميّة ليس سلفياً منصور عويس

إتحاف الأذكياء بجواز التوسُّل بالأنبياء والأولياء الغماري

ص: 213

ملحق: 3 نماذج من كُتب أهل السُنَّة التي تردّ على الوهابيَّة

الوهابية ومقلّدة الظاهريّةإبراهيم بن عثمان السمنودي

السيف الهندي في إبانة طريقة الشيخ النجدي عيسى بن محمد الصنعاني

فصل الخطاب في الردِّ على ضلالات ابن عبد الوهاب أحمد البصري الشهير بالقبّاني

صلح الإخوان في الردِّ على مَن قال على المسلمين بالشرك والكفران داود الرومي

المنحة الوهبيّة في الردِّ على الوهابية. داود الرومي

شرح الرسالة الردية على طائفة الوهابيةمحمد عطاء الله الرومي

الردّ على الوهابيةإبراهيم الرياحي

جلاء الظلام في الردِّ على النجدي الذي أضلَّ العوام علوي بن أحمد الحدّاد

تبيين الحقّ والصواب بالردِّ على أتباع محمد بن عبدالوهاب توفيق سوقية الدمشقي

ص: 214

النفحة الذكية في الردِّ على شبه الوهابية ... عبد القادر سليم الكيلاني

النقول الشرعية في الردِّ على الوهابيةمصطفى الشطّي

فضائح الوهابية فتحي الأزهري

بغية الطلاب في الردِّ على ابن عبد الوهاب .... عبد الحميد السباعي

التحفة الوهبية في الرد على الوهابيةداود النقشبندي

* لم نذكر هنا الكتب المشهورة والتي ذُكرت بين ثنايا الكتاب.

ملحق: 4 جدول يبين أهم المسائل المخالفة لأهل السنة عند الوهابيين

المسألة أهل السُنّة الوهابيّون

صفات الله تؤوَّل لا تؤوَّل

التوسُّل جائز غير جائز

شدُّ الرحال جائز غير جائز

المناسبات جائزة بدعة

التكفير غير وارد وارد

دم المسلم معصوم غير معصوم

ص: 215

مال المسلم معصوم غير معصوم

القبور جائزة بدعة

التقليد واجب غير واجب

ملحق: 5 صور من خلافات الوهابيِّين ووقوعهم في بعضهم

* وقوع الألباني في ابن تيميّة.

* وقوع جهيمان في الوهابيّين.

* وقوع ابن عثيمين في الألباني.

* وقوع زهير شاويش في الألباني.

* وقوع الوهابيّين في الألباني.

* وقوع الإسلامبولي في الألباني.

* وقوع التويجري في الألباني.

* وقوع مقبل الوادعي في الوهابيّين.

* وقوع المدخلي في الوهابيّين.

* وقوع الوهابيّين في ابن عثيمين.

* وقوعهم في البخاري.

* وقوع عبد الرحمن عبد الخالق في الوهابيّين.

* وقوع التكفير بينهم.

* وقوع الوهابيّين في آل سعود.

* انظر: وقوع الألباني في ابن تيميّة من خلال كتاب السقاف: (البشارة والإتحاف فيما بين الألباني وابن تيميّة من

ص: 216

الخلاف). والحرب التي وقعت بين صاحب المكتب الإسلامي زهير جاويش والألباني، والتي تجاوزت حدود الأدب والخلق، وكذلك الحرب التي وقعت بين الألباني وخصومه، وما فصَّله السقاف في كتابه (قاموس شتائم الألباني).

وكذلك ظهور حركة (جهيمان العتيبي)، التي تمرَّدت على فقهاء الوهابية والنظام السعودي، واستولت على الحرم المكّي، وأعلنت ظهور المهدي عام 1400 ه.

كذلك وقوع ابن عثيمين في الألباني بسبب مسألة المَعيّة.

كذلك وقوع الوهابيّين في الألباني، بسبب تصحيحه لبعض الروايات التي تتعلَّق بذمِّ الصحابة، أو تحريم أكل لحم البقر، وتحريم لبس الذهب للمرأة. انظر كتاب: (ردع الجاني المتعدي على الشيخ الألباني).

ووقوع التويجري، صاحب كتاب (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن) في الألباني. الذي شكَّك في رواية (خلق الله آدم على صورة الرحمن).

ووقوع مقبل الوادعي اليمني، الشديد التطرّف، والذي يعدّونه من المحدّثين، في الألباني وغيره من الوهابيّين، وفي آل سعود.

ووقوع المدخلي المتطرّف، الذي أطلق مدافعه نحو الوهابيّين وكفَّر بعضهم، وزندق وبدَّع البعض الآخر، واعتبرهم خارجين عن منهج السلَف. وكوَّن فرقة وهابية أطلق عليها

ص: 217

خصومه اسم (الخلوف) أو (المداخلة)، واعتبره الوهابيّون من الفتن العظيمة في هذا الزمان. انظر كتابه: (جماعة واحدة لا جماعات)، وكتبه الأُخرى. وانظر كتاب: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، الذي حذَّر فيه صاحبه من فتنة (المدخلي) واتَّهمه بسوء الفهم وعدم الاتّزان.

وقد وقع العديد من الوهابيّين في ابن عثيمين، بسبب قوله بالمعيّة.

ووقع الوهابيّون في البخاري، وقاموا بتهذيبه وحذف العديد من الروايات منه.

ووقعوا في عبد الرحمن عبد الخالق، أحد أعمدة التيار الوهابي في الخليج، ووقع فيهم.

ووقع الوهابيّون في بعضهم، فكفَّر بعضهم بعضاً، وهو ما يظهر من خلال منشوراتهم العديدة التكفيرية، والأُخرى التي تردّ عليها.

ووقع الوهابيّون في آل سعود، وأعلنوا الحرب عليهم، من خلال العمليات المسلّحة التي تظهر ما بين الحين والآخر في جزيرة العرب.

وهذه الصور هي قليل من كثير ممّا يجري في واقع الوهابيّين، الذين يحاولون شغل المسلمين بالحرب على المخالفين لهم، حتى لا يلفتوا إلى واقعهم المُزري وضلالاتهم وأكاذيبهم.

ص: 218

مراجع الكتاب

1. الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي، تحقيق: عثمان عبد الله آدم، دار النشر، دار الراية للنشر، السعودية، 1418 ه، الطبعة الثانية.

2. ابن تيمية ليس سلفياً، منصور عويس، نشر دار النهضة، القاهرة، عام 1960 م.

3. إثبات صفة العلو، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد، تحقيق: بدر عبد الله البدر، دار النشر، الدار السلفية، الكويت، 1406، الطبعة الأولى.

4. اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، دار النشر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404- 1984، الطبعة الأولى.

5. الأربعين في دلائل التوحيد، عبد الله بن محمد بن علي بن محمد الهروي أبوإسماعيل، تحقيق: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، دار النشر، المدينة المنورة،

6.

ص: 219

1404، الطبعة الأولى.

7. اعتقاد الإمام المبجل أحمد بن حنبل ذيل طبقات الحنابلة، محمد بن أبي يعلى أبوالحسين، دار النشر، دار المعرفة، بيروت، تحقيق: محمد حامد الفقي.

8. إنباء الغمر بأنباء العمر، شهاب الدين ابي الفضل احمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عبد المعيد خان، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، 1406 ه، الطبعة الثانية.

9. البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء، دار النشر، مكتبة المعارف، بيروت.

10. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، دار النشر، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1392، الطبعة الأولى.

11. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت عام 1407 ه، تحقيق عمر عبد السلام تدمري.

12. تاريخ الخلفاء لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق محي الدين عبدالحميد، نشر مطبعة السعادة، القاهرة، 1371 ه.

13. تاريخ الطبري، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، دار النشر، دار الكتب العلمية، بيروت.

14. تاريخ المذاهب الإسلامية، شيخ محمد أبو زهرة، نشر دار الفكر العربي، القاهرة.

15. تاريخ بغداد، أحمد بن علي أبو بكر الخطيب البغدادي، دار النشر، دار الكتب العلمية، بيروت.

16. التأمل في حقيقة التوسل، عيسى الحميري، طبع بيروت.

17. تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي

18.

ص: 220

الحسن الأشعري، تصنيف ناصر السنة حجة الحفاظ مؤرخ الشام أبي علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، دار النشر، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404، الطبعة الثالثة.

19. التحف في مذاهب السلف، الشوكاني، دار النشر،

20. التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي، دار النشر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1421 ه- 2000 م، الطبعة الأولى.

21. التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، أبو الحسن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي، تحقيق: محمد زاهد بن الحسن الكوثري، دار النشر، المكتبة الأزهرية للتراث، مصر، 1418 ه- 1997 م.

22. تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار النشر، دار الفكر، بيروت، 1404- 1984، الطبعة الأولى.

23. توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، أحمد بن إبراهيم بن عيسى، تحقيق: زهير الشاويش، دار النشر، المكتب الإسلامي، بيروت، 1406، الطبعة الثالثة.

24. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار النشر، عالم الكتب، بيروت، 1999 م، الطبعة الأولى.

25. الثقات، محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، تحقيق شرف الدين أحمد، نشر دار الفكر 1395 ه، الطبعة الأولى.

26. الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن

27.

ص: 221

أحمد الأنصاري القرطبي، دار النشر، دار الشعب، القاهرة.

28. الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، أبو القاسم اسماعيل ابن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني، تحقيق: محمد بن ربيع بن هادي عمير المدخلي، دار النشر، دار الراية، السعودية، الرياض، 1419 ه- 1999 م، الطبعة الثانية.

29. خريدة القصر وجريدة العصر، أبي عبد الله عماد الدين بن محمد بن صفي أبوالفرج محمد بن نفيس الدين الأصبهاني، تحقيق محمد بهجة الأثري، نشر المجمع العراقي، 1375 ه.

30. خلق أفعال العباد، محمد بن إبراهيم بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: عبدالرحمن عميرة، دار النشر، دار المعارف السعودية، الرياض، 1398- 1978.

31. درء تعارض العقل والنقل، تقي الدين أحمد بن عبد السلام بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، تحقيق: عبد اللطيف عبد الرحمن، دار النشر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417 ه- 1997 م.

32. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، دار النشر، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد، 1392 ه. ق/ 1972 م، الطبعة الثانية.

33. دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي، تحقيق: حسن السقاف، دار النشر، دار الإمام النووي، الأردن، 1413 ه- 1992 م، الطبعة الثالثة.

34. دفع شبه من شبه وتمرد، تقي الدين أبي بكر الحصني الدمشقي، دار النشر، المكتبة الأزهرية

35.

ص: 222

للتراث، مصر.

36. الرد على الأخنائي واستحباب زيارة خير البرية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، دار النشر، المطبعة السلفية، القاهرة.

37. الرد على الزنادقة والجهمية، أحمد بن حنبل الشيباني أبو عبدالله، تحقيق: محمد حسن راشد، دار النشر، المطبعة السلفية، القاهرة، 1393.

38. الرد على المنطقيين، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار النشر، دار المعرفة، بيروت.

39. رسالة في إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد، أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، تحقيق: أحمد معاذ بن علوان حقي، دار النشر، دار طويق للنشر والتوزيع، الرياض، 1419 ه 1998 م، الطبعة الأولى.

40. رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، دار النشر، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405، الطبعة الأولى.

41. السنة، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال، تحقيق: د عطية الزهراني، دار النشر، دار الراية، الرياض، 1410 ه. ق- 1989 م، الطبعة الأولى.

42. السنة، عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: محمد سعيد سالم القحطاني، دار النشر، دار ابن القيم، الدمام، 1406، الطبعة الأولى.

43. سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي أبو عبد الله، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، محمد نعيم العرقسوسي، دار النشر، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413، الطبعة التاسعة.

44.

ص: 223

45. السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل، السبكي، مكتبة زهران، القاهرة ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم بقلم: محمد زاهد بن الحسن الكوثري تقديم: لجنة من علماء الأزهر.

46. شرح العقيدة الأصفهانية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق: إبراهيم سعيدي، دار النشر، مكتبة الرشد، الرياض، 1415، الطبعة الأولى.

47. شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، تحقيق ناصر الدين الألباني، نشر المكتب الإسلامي، بيروت.

48. الصفات، علي بن عمر الدارقطني، تحقيق: عبد الله الغنيمان، دار النشر، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1402، الطبعة الأولى.

49. العرش وما روي فيه، محمد بن عثمان ابن أبي شيبة العبسي أبو جعفر، تحقيق: محمد بن حمد الحمود، دار النشر، مكتبة المعلا، الكويت، 1406، الطبعة الأولى.

50. العقيدة رواية أبي بكر الخلال، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله، تحقيق: عبد العزيز عز الدين السيروان، دار النشر، دار قتيبة، دمشق، 1408، الطبعة الأولى.

51. العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي، تحقيق: محب الدين الخطيب ومحمود مهدي الاستانبولي، دار النشر، دار الجيل، بيروت، 1407 ه- 1987 م، الطبعة الثانية.

52. العين والأثر في عقائد أهل الأثر، عبد الباقي المواهبي الحنبلي، تحقيق: عصام رواس قلعجي، دار

53.

ص: 224

النشر، دار المأمون للتراث، لبنان، 1407 ه. ق- 1987 م، الطبعة الأولى.

54. الغنية في أصول الدين، أبو سعيد عبد الرحمن النيسابوري المتولي، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، دار النشر، مؤسسة الكتب الثقافية، لبنان، 1406 ه. ق- 1987 م، الطبعة الأولى.

55. فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف، أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار الهمذاني، دار النشر، دار العاصمة، الرياض، السعودية، 1409 ه، الطبعة الأولى.

56. الفخري في الآداب السلطانية، محمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي، نشر مكتبة صبيح القاهرة.

57. قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، محمد صديق حسن خان القنوجي، تحقيق: عاصم عبد الله القريوني، دار النشر، شركة الشرق الأوسط للطباعة- ماركا الشمالية الأردن، 1404، الطبعة الأولى.

58. كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، دار النشر، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية.

59. لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، عبد الملك بن عبد الله الجويني إمام الحرمين، تحقيق: فوقية حسين محمود، دار النشر، عالم الكتب، لبنان، 1407 ه- 1987 م، الطبعة الثانية.

60. مجموع كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية، أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني أبوالعباس، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، دار النشر، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية.

61. معالم أصول الدين، فخر الدين محمد بن عمر

ص: 225

62. الخطيب الرازي، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار النشر، دار الكتاب العربي، لبنان، 1404 ه- 1984 م.

63. المنتظم في أخبار البشر، أبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي، بدون ناشر.

64. منهاج السنة النبوية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار النشر، مؤسسة قرطبة.

65. نقض الإمام عثمان بن سعيد الدارمي على المريسي الجهمي العنيد، أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق: رشيد بن حسن الألمعي، دار النشر، مكتبة الرشد، السعودية، 1418 ه- 1998 م، الطبعة الأولى.

66. الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420 ه.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.