بناء القبور و زیارتها: رویه شرعیه

اشارة

سرشناسه : زارعی سبزواری، عباسعلی، 1348 -

عنوان قراردادی : زیارت در نگاه شریعت .عربی

عنوان و نام پديدآور : بناء القبور و زیارتها: رویه شرعیه/ تالیف عباسعلی زارعی؛ ترجمه صادق البصری.

مشخصات نشر : تهران: نشر مشعر، 1390.

مشخصات ظاهری : 128 ص.

شابک : 978-964-540-334-6

وضعیت فهرست نویسی : فیپا

يادداشت : عربی.

موضوع : وهابیه -- عقاید

موضوع : زیارت و زایران -- نظر وهابیه

شناسه افزوده : بصری، صادق، 1356 - ، مترجم

رده بندی کنگره : BP207/6/ز2ز9043 1390

رده بندی دیویی : 297/416

شماره کتابشناسی ملی : 2489330

ص:1

كلمة المعهد

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

الحمدلله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً

إنّ حقيقة الإنسان في المدرسة الإسلامية الحيّة لا تتقيّد بقيود الجسم المادي فقط، بل هي حقيقة متعالية تجري فيها روح الله، ومن هذه الجهة فإنّه لاينعدم بمجرد الموت، بل ينتقل إلى عالم آخر يُعرف بعالم البرزخ، الذي له ارتباط خاص بعالم الدنيا، ومن هنا كان المسلمون يكنّون الاحترام الخاص لنجد له في الشريعة أحكاماً به، كما كان حيّاً في الدنيا.

إنّ هذه العقيدة كانت سبباً لزيارة المسلمين لقبور أمواتهم، فلأجل احترامهم للصالحين منهم، قاموا ببناء القبب والأضرحة عليها.

ولكن ظهر في القرن السابع ابن تيمية الحراني، من أتباع المذهب الحنبلي، وجاء بأمور مخالفة للدين وجميع المذاهب الإسلامية، فكانت منها الإفتاء بتحريم زيارة القبور، ثمّ آل أمره إلى الاضمحلال والزوال، بسبب المواجهة العنيفة والمخالفة الشديدة له من قبل علماء المسلمين كافة، إلى أن جاء بعد ذلك محمّد بن عبدالوهاب، متّبعاً في منهجه لمنهج شيخه في جميع المسائل والأحكام والأفكار، وما أن

ص:6

استطاع أن تسلّط على أرض الحجاز، حتى قام بهدم أضرحة الأولياء الريانيين والصالحين.

وأمّا ما هو دليل هؤلاء على مدّعاهم؟ وما هو الجواب عليه؟ فهذا ما جاء به الأستاذ القدير «زارعي» من تفصيل الأسئلة والإجابة عنها بطريقة العرض والنقد في كتابه «زيارت در نگاه شريعت» وترجمه الى العربية الشيخ صادق البصري، وفي الختام نشكر المؤلف والمترجم على جهودهم العلمية و آملين من الله تعالى أن يكون بذلك قد أضاء مصباح الحقيقة.

إنّه ولي التوفيق

معهد الحج و الزيارة

قسم الكلام والمعارف

ص:7

مقدّمة المترجم

(التوحيد) من المفاهيم الرئيسة في دين الإسلام، بل هو الأساس الذي ترتكز عليه الرؤية الدينية للحياة، بما له من بُعدٍ عقائدي مفهومي يغذِّي شعور الإنسان ووجدانه، وبُعدٍ سلوكي ينبغي أن يطبع أخلاقيات الجماعة البشرية. .

ومن البديهي أن يقوم المفكّرون وعلماء الدين بصياغة حدود هذا المفهوم والأطر التي يسير عليها الإنسان في حياته، كي تنسجم مع هذا المعتقد، ويطبّقها في حياته، بعد أن تبرز كمعنى متجددٍ قابلٍ للفهم بحسب شروط الزمان والمكان. .

فعدّ بعض السلوكيات والأعمال داخلة ضمن ربقة التوحيد أم هي متنافية وخارجة عنه، عمل مهم وأساسي لا بدّ أن يضطلع به علماء الأمّة ومفكّروها إذا ما أرادوا لهذا الدين من بقاء. .

وكما أنّ الرقابة (العلمية) ضرورية على أفق هذا المفهوم، كذلك من المهم أن تُحدّد (تحديداً علمياً) المعايير والأدوات والآليات التي على أساسها يتمّ تصنيف الأفعال والسلوكيات، كونها منسجمة أو غير منسجمة مع مفهوم (التوحيد) ودين الإله الواحد الرافض للشرك بالإله. .

ص:8

إنّ جانب تشخيص هذه الأدوات والمنهج الذي على أساسه يقرَّر صحة العقيدة وفلسفتها وتعارض أمرٍ ما معها من عدمه، لأمرٌ تعاني فيه نتاجاتنا الفكرية الإسلامية فقراً واضحاً، وغياباً ملحوظاً. . بمستوى يعيد لهذه المفاهيم مكانتها الحركية في دنيا الإسلام ورؤيتها للحياة.

وفي عين الوقت نجد تفرّداً من بعضٍ، أشخاصاً أو فئات، في تحديد معايير مفاهيم الدين، وإدخال مَن يشاؤون فيها أو إخراجه، وهذا ما يمارس بكلّ شراسة تجاه مذهب كامل ينتمي لدين التوحيد، ويستمد تعاليمه من أصدق رجالاته وأكثرهم انصهاراً في تعاليمه ومفاهيمه. .

إنّ اتّهام أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بالشرك أو الكفر والمغالاة في الدين، نتيجة لبعض الأعمال التي يقومون بها ويعجز الآخرون عن فهمها ووضعها في سياقها الفكري الصحيح - إذا ما أردنا أن نحسن الظنّ - يحتّم مسؤوليّتين رئيستين:

الأُولى: على أصحاب هذه التُهم، ومَن يتبنّاها، أن يراجعوا أنفسهم، وأدواتهم ومنهجم الذي يتّبعونه في إقصاء الآخر وتصنيفه؛ لكي يكونوا أكثر تمثّلاً لمفاهيم الأخوّة في الدين والدعوة لله بالقول الحسن، الذي يدّعون الدفاع عنه. .

والثانية: على أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أن يأخذوا دورهم المناسب في عرض عقائدهم بشكل ممنهج يتواكب وطبيعة العصر الذي يعيشون فيه؛ كي يكون مفهوماً من قبل أكبر شريحة ممكنة، ويُبعد عنهم سوء الفهم أو النوايا حدّ الإمكان، ويسدّوا منافذ الفتن وأصحابها المتربّصين.

وهذا الكتاب يمثِّل في موضوعه التزاماً بأداء هذه المهمّة في جانبها

ص:9

الأخير، متكفّلاً عرض بعض الشكوك والشبهات المطروحة، والتي تجاوزت حدّ الاعتدال في التشكيك، إلى الرمي بالكفر والشرك. . ليعالجها معالجة الحجّة بالحجّة، والرأي الشرعي المستدل عليه. . بما يوضّح التباسها، ويرفع وجوه الوهم فيها.

ولا يفوتنا أن نذكّر أنّنا أخذنا على عاتقنا في ترجمتنا لهذا الكتاب نقل محتواه بشكل دقيق وأمين، أسلوباً ومحتوى؛ ليعبّر بشكلٍ مباشرٍ عن رأي مؤلّفه ورسالته التي أرادها له، دون أن نتدخّل، تأييداً أو اعتراضاً، في ذلك؛ حفاظاً على مضمونه كما هو عليه. .

والله ولي التوفيق

صادق البصري

آذار ٢٠١٠ م.

ص:10

ص:11

مقدّمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء أبي القاسم محمّد وآله الطاهرين.

ممّا لا شك فيه أنّ شريعة الإسلام الخالدة هي أكمل الشرائع الإلهية المنزَّلة من الله تعالى للبشر كافّة على قلب خاتم الأنبياء، نبيّنا محمّد بن عبدالله (ص) ، لهداية البشر، وإرشادهم لطريق سعادتهم الأبدية وكمالهم الخالد.

ولكن - ومع شديد الأسف - قام بعض الجهلة والمتعصّبين بتحريف هذه الشريعة الأخلاقية السمحاء، من خلال طرحهم بعض الشبهات المغرضة، يسعون من خلال نشر أفكارهم المتطرّفة التي لاأساس شرعي لها، ونسبتها إلى أحكام الشريعة، أن يبعدوا المسلمين عن الشريعة المحمّدية الأصيلة، مُحدثين التفرقة في أُمّة الإسلام.

وواحد من هؤلاء (ابن تيميّة) ، الذي سعى لنشر أفكاره الجوفاء وتعليمها لطلاّبه من أمثال (ابن القيّم) ، ومهّد الطريق لتأسيس المذهب الوهابي على يد (محمّد بن عبد الوهاب) ، وهؤلاء الذين يسعون دائماً من خلال نشر آرائهم، لمؤاخذات على أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

ص:12

واتّهامهم بالكفر والشرك، وما نقموا منهم إلّا أخذهم عقائدهم من مصدر الشريعة المحمّدية الأصيل.

فمن الطبيعي أن يقع بعضٌ في شباك جهلهم وخدعهم، فيقوموا بالدفاع عن العقائد الوهابية التي لا أساس لها أو سند، من خلال طرحهم شبهات وتساؤلات حول العقائد الشيعية، ومن أجل الانتقاص من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وتشويه سمعتهم.

وواحدة من هذه المسائل التي تدور حولها جهود طرح الشبهات والاعتراضات، وتعلو فيها الصيحات منهم، موضوع (زيارة القبور والبناء عليها) ، والكتاب الذي بين يدك - أيّها القارئ الكريم - هو جزء من كتاب بعنوان (في ضوء الشريعة)(1)، ويدور موضوعه حول مناقشة وردّ الشبهات التي يطرحها الوهابيون حول العقائد الشيعية. ونظراً لأهمية موضوع (زيارة القبور) ، وضرورة الإجابة على الشبهات المطروحة في هذا الموضوع، قامت بنشره منفصلاً، لكي يصل إلى أيدي الباحثين عن الحقيقة أينما كانوا.

قم - الحوزة العلمية

عبّاسعلي زارعي السبزواري


1- اسم الكتاب باللغة الفارسية در پرتو شريعت . المترجم .

ص:13

١. زيارة القبور

عرض الشبهة

تعتبر زيارة القبور من المسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية، الشيعية والسنّية - بشكل عام -، وتحتاج إلى مزيد من البحث والتحقيق، على الرغم من أنّ رأي أهل السنّة بالنسبة لمسألة زيارة القبور يقترب كثيراً من رأي الشيعة، ولكنّ الوهابيّين، بشكلٍ خاص، قاموا بتخطئة الشيعة؛ لأنّهم يتحسّسون من هذا الموضوع من جهتين:

١- يقولون: أنتم الشيعة تذهبون إلى قبور الموتى وتبكون عندها، وتعتقدون أنّ هذه الزيارة مستحبة للرجال والنساء، مع أنّ النبيّ (ص) منع النساء من زيارة القبور، وقال:

«لعن الله زوّارات القبور» (1)

ونُقل في رواية أخرى:

«لعن رسول الله (ص) زوّارات القبور» (2)


1- كنز العمّال، ج١6، ص٣٨٨؛ إرواء الغليل، ج٣، ص٢٣٢؛ مسند أبي داود الطيالسي، ص٣١١؛ مسند أبي يعلى، ج١٠، ص٣١4.
2- مسند أحمد، ج٢، ٣٣٧؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص5٠٢؛ سنن الترمذي، ج٢، ص٢5٩؛ المستدرك، ج١، ص٣٧4؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، ص٧٨؛ مسند أبي داود الطيالسي، ص٣5٧؛ المعجم الكبير، ج4، ص4٢؛ تفسيرالقرطبي، ج٢٠، ص١٧٠.

ص:14

٢ - ويقولون: أنتم تشدّون الرحال لزيارة قبر النبيّ (ص) والأئمّة (عليهم السلام) والأولياء، وترون أنّ عملكم هذا مستحبٌ شرعاً، في حين نجد أنّ النبيّ (ص) لم يرخّص في شدّ الرحال والسفر لزيارته أو زيارة قبرِ غيره، وقد قال:

«لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي» .(1)

وكذلك قال:

«ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ، فإنّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» .(2)

جواب هذه الشبهة

حكم زيارة الرجال للقبور

اشاره

إنّ زيارة أهل القبور مستحبة عند فقهاء أكثر المذاهب السنّية، على أنّ الغرض من زيارة القبور هو أخذ العبرة، وتذكّر الآخرة، وعدم التعلّق بالدنيا، والدعاء للأموات، وقراءة القرآن بالقرب من قبورهم.

ويوجد على استحباب زيارة القبور عدّة أدلّة، نذكرها كما يلي:

أوّلاً: الروايات
اشاره

فقد روي عن النبيّ الأكرم (ص) روايات متعدّدة، وبأسانيد مختلفة، أنّه (ص) نهى في البداية عن زيارة القبور، ثمّ رخّص فيها وحثّ عليها.


1- صحيح مسلم، ج4، صص ١٠٢ و ١٢6؛ صحيح البخاري، ج٢، صص 5٨ و ٢5٠؛ مسند أحمد، ج٣ ص٧؛ ج6، ص٧؛ سنن الدارمي، ج١، ص٣٣٠؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص45٢؛ سنن الترمذي، ج١، ص٢٠5؛ سنن النسائي، ج٢، ص٣٧؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج١٠، ص٨٢.
2- مسند أحمد، ج٢، ص٣6٧؛ سنن أبي داود السجستاني؛ ج١، ص45٣؛ مجمع الزوائد، ج4، ص٣.

ص:15

والروايات المنقولة في كتب الحديث عند أهل السنّة التي تتناول هذه المسألة عن الرسول الأكرم (ص) على ثلاث طوائف:

الطائفة الأُولى

وهي مجموعة الروايات التي يستفاد منها أنّ النبيّ (ص) رخّص في زيارة القبور، ومضمون هذه الروايات أنّ رسول الله (ص) قال:

«نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»(1)

الطائفة الثانية

وهي الروايات التي بيّن فيها، بالإضافة إلى جواز زيارة القبور، الفوائد والآثار المترتبة على زيارة القبور، ففي هذه الروايات جاءت مجموعة من العبائر في ذيل كلامه (ص) :

«نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» وهذه العبائر هي:

١ -

«فإنّها تزهّد في الدنيا وتذكّر بالآخرة»(2)

٢ -

«فإنّ فيها تذكرة» (3)

٣ -

«فإنّها تذكّركم الموت»(4)

١)

٢)

٣)

4)


1- صحيح مسلم، ج6، ص٨٢؛ سنن النسائي، ج4، ص٨٩؛ ج٨، ص٣١١؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص654؛ ج٣، ص٢٢5؛ المعجم الأوسط، ج٣، ص١٣٣؛ نصب الراية، ج6، ص٢٣٩؛ كنز العمّال، ج١٢، ص44٣؛ المصنّف، ابن أبي شيبة، ج٣، ص٢٢٣.
2- سنن ابن ماجة، ج١، ص5٠١؛ مستدرك الصحيحين، ج١، ص ٣٧5؛ صحيح ابن حبّان، ج٣، ص٢6١؛ سنن الدارقطني، ج4، ص١٧٣؛ موارد الظمآن، ص٢٠١؛ مسند الشامييّن، ج٣، ص٣4٧؛ الجامع الصغير، ج٢، ص٢٩٧؛ كنز العمّال، ج١5، ص646.
3- سنن أبي داود السجستاني، ج٢، ص٨٧؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج٩، ص٢٩٢؛ كنز العمّال، ج١5، ص64٨.
4- مستدرك الصحيحين، ج١، ص٣٧5؛ الجامع الصغير، ج٢، ص6٧٧؛ كنز العمّال، ج5، ص64٧.

ص:16

«فإنّها تذكّركم الآخرة»(1)

5 -

«فإنّ فيها عِبرة»(2)

6 -

«إنّها ترقّ القلب وتُدمع العين وتذكّر الآخرة، فزوروها»(3)

ولذلك يقول القرطبي في ذيل تفسير قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ:

«لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلّا في هذه السورة. وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي؛ لأنّها تذكّر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها» (4)

ثمّ يكمل القرطبي كلامه، فيقول:

«قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربّه، أن يكثر من ذكر هادم اللذّات، ومفرّق الجماعات، وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين،


1- مسند أحمد، ج١، ص١45؛ مجمع الزوائد، ج٣، ص5٨؛ المصنّف، ابن أبي شيبة، ج٣، ص٢٢٣؛ مسند أبي يعلى، ج١، ص٢4٠؛ كنز العمّال، ج١5، ص65٢.
2- مسند أحمد، ج٣، ص ٣٨؛ مستدرك الصحيحين، ج١، ص٣٧5؛ مجمع الزوائد، ج٣، ص5٨؛ المعجم الكبير، ج٢٣، ص٢٧٨.
3- مسند أحمد، ج٣، ص٢٣٧؛ مستدرك الصحيحين، ج١، ص٣٧6؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، ص٧٧؛ مسند أبي يعلى، ج6، صص ٣٧٣ و٣٧4؛ الجامع الصغير، ج٢، ص٢٩٧؛ كنزالعمّال، ج١5، ص646.
4- الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي ، ج٢٠، ص١٧٠.

ص:17

وزيارة قبور أموات المسلمين. فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه، فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت، وانجلت به قساوة قلبه، فذاك. وإن عظم عليه، ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب، فإنّ مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأوّل؛ لأنّ ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير.

وفي مشاهدة مَن احتضر، وزيارة قبر مَن مات من المسلمين معاينةً ومشاهدةً، فلذلك كان أبلغ من الأوّل، قال صلّى الله عليه وسلّم: (ليس الخبر كالمعاينة) . رواه ابن عبّاس.

فأمّا الاعتبار بحال المحتضرين، فغير ممكن في كلّ الأوقات، وقد لايتّفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات. وأمّا زيارة القبور، فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر. فينبغي لمن عزم على الزيارة، أن يتأدّب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظّه منها الطواف على الأجداث فقط، فإنّ هذه حالة تشاركه فيها بهيمة. . ونعوذ بالله من ذلك، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء، ويتجنّب المشي على المقابر، والجلوس عليها، ويسلّم إذا دخل المقابر، وإذا وصل إلى قبر ميّته الذي يعرفه سلّم عليه أيضاً، وأتاه من تلقاء وجههِ؛ لأنّه في زيارته كمخاطبته حيّاً، ولو خاطبه حيّاً لكان الأدب استقباله بوجهه، فكذلك ها هنا»(1)

ويمكن تلخيص كلام القرطبي بعدّة نقاط:

أ - أنّ الطريق إلى علاج قسوة القلب، والوصول إلى مرحلة التسليم أمام أوامر الله عزّ وجل يتحقّق ب:

١ - تذكّر الموت.

٢ - رؤية أشخاص يُحتضرون.


1- تفسير القرطبي، ج٢٠، ص١٧١.

ص:18

٣ - زيارة القبور.

ب - أنّ زيارة القبور، من بين الطرق الثلاثة الآنفة، أفضل وسيلة لعلاج قسوة القلب والمناعة من الفتن الشيطانية؛ لأنّ ذكر الموت مع ما يوجبه من الالتفات إلى عاقبة الإنسان، ليس بمستوى رؤية الأشخاص حال الاحتضار، ولكنّ مشاهدة الأشخاص حال الاحتضار غير متيسّرة دائماً ولكلّ شخص، فتكون زيارة القبور أفضل وسيلة لذلك؛ لأنّها ممكنة دائماً.

ج - لابدّ أن يكون الهدف من زيارة القبور لغرض إصلاح القلوب والإنابة إلى الله تعالى وتذكّر يوم الجزاء، أو من أجل تلاوة القرآن وقراءة الفاتحة والدعاء للموتى.

والكلّ يعلم أنّ هدف المؤمنين الشيعة من ذهابهم إلى المقابر ليس سوى جلاء القلوب والتوجّه إلى الله تعالى، وتذكّر يوم القيامة والجزاء، وكذلك لتلاوة القرآن وقراءة الفاتحة والدعاء للموتى.

الطائفة الثالثة

وهي مجموعة الروايات التي جاء في ذيلها - بعد قول الرسول:

«نَهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها» - أحد عبارتين:

١ - «ولا تقولوا: هجراً»(1)

٢ - «واجعلوا زيارتكم لها صلاةً عليهم واستغفاراً لهم»(2)

فإنّه يستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ النبيّ الأكرم (ص) وإن كان قد نهى سابقاً عن زيارة القبور، إلّا أنّ ذلك كان لأجل مصلحةٍ يهدفها،


1- كنز العمّال، ج5، ص٨5٩؛ مسند أحمد، ج٣، ص٢٣٧؛ مستدرك الصحيحين، ج١، ص٣٧6.
2- كنز العمّال، ج١5، صص 65٢ و 65٣؛ المعجم الكبير، ج٢، ص٩4.

ص:19

وإظهاراً لمخالفة المشركين الذين كانوا يقصدون القبور لأجل عبادتها، ويسجدون لها. وبعد أن تطوّر الفهم والوعي الديني لدى المسلمين، ومستوى معرفتهم بالله تعالى، أجاز لهم زيارة القبور، وذكر لها فوائد عدّة.

ومع غض النظر عن هذا الكلام، يمكن أن نقول أيضاً: إنّ الحكم الأوّلي لزيارة القبور كان محرّماً في سُنّة النبيّ (ص) ، وبعد ذلك قام النبيّ بنسخ هذا الحكم، وأجاز هذا الأمر، بل ندب إليه.

وفي الحقيقة يعتبر هذا المورد من موارد نسخ السنّة بالسنّة، وكثير من علماء أصول الفقه في المدرسة السنّية يعتبرونه من مصاديق نسخ السنّة بالسنّة(1).

ودلالة هذه الروايات على استحباب زيارة القبور للرجال موضع وفاق بين جميع علماء المسلمين، بل ادّعى البعض الإجماع عليه(2)، ولكنّهم اختلفوا في دلالتها على استحباب ذلك بالنسبة للنساء، وسيأتيك تفصيل ذلك.

ثانياً: سيرة النبى الأكرم (ص)

ممّا لا ريب فيه أنّ زيارة القبور كانت واحدة من جوانب السيرة النبويّة الشريفة، حيث ينقل أهل السنّة في كتبهم الحديثيّة أنّ النبيّ (ص) كان يزور قبر أمّه آمنة ويبكي عنده. فقد نُقل عن أبي هريرة أنّه قال:


1- الفصول في الأصول، الجصاص، ج٢، ص٣4؛ الإحكام، ابن حزم، ج4، ص45٩؛ الإحكام، الآمدي، ج٣، ص١46؛ أصول السرخسي، ج٢، ص٧٧؛ المستصفى، ج١، ص١٠٣؛ المحصول، ج٣، ص٣٣١؛ إرشاد الفحول، ج١، ص٢٩٣؛ المعتمد، ج١، ص٣٩٠؛ روضة الناظر، ص٨٨.
2- المجموع، النووي، ج5، ص٣١٠؛ الإقناع، ج١، ص١٩٢؛ مغني المحتاج، ج١، ص٣65؛ الشرح الكبير، ج٢، ص4٢٧.

ص:20

«زار النبيّ (ص) قبر أمّه فبكى وبكى مَن حوله، فقال رسول الله (ص) استأذنت ربّى في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي. فزوروا القبور فإنّها تذكّر الموت»(1).

وهناك روايات كثيرة منقولة حول زيارة النبيّ الأكرم (ص) للبقيع:

فعن عائشة أنّها قالت: «فقدت رسول الله [ص] فاتّبعته، فأتى البقيع، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين»(2)

وكذلك نقل عن عائشة أنّها قالت: «كان رسول الله [ص]كلّما كان ليلتها من رسول الله [ص] يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنّا - إن شاء الله - بكم لاحقون، اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»(3)

وروي عن بشير بن الخصاصية قال: أتيت النبيّ [ص] فلحقته بالبقيع فسمعته يقول: السلام على أهل الديار من المؤمنين(4)

وفي رواية أخرى نقل:

«أنّ رسول الله [ص] خرج في جوف الليل يدعو بالبقيع ومعه أبو رافع، فدعا بما شاء الله. . .»(5)

وعن أبي مويهبة مولى رسول الله (ص) قال:

«طرقني النبيّ [ص] ذات ليلة فقال: أبو مويهبة انطلق؛ فإنّي قد أُمرت أن أستغفر لأهل هذا


1- مسند أحمد، ج٢، ص44١؛ صحيح مسلم، ج٣، ص65؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص5٠١؛ سنن أبي داود السجستاني، ج٩، ص٨٧؛ سنن النسائي، ج4، ص٩؛ مستدرك الصحيحين، ج١، ص٢٧5؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، صص٧٠ و ٧4؛ مسند أبي يعلى، ج١، ص٢4٠.
2- مسند أبي يعلى، ج٨، ص6٩.
3- صحيح مسلم، ج٣، ص6٣؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، ص٧٩؛ ج5، ص٢4٩؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص656؛ مسند أبي يعلى، ج٨، ص١٩٩؛ صحيح ابن حبّان، ج٧، ص444؛ رياض الصالحين، ص٣٠٨؛ إرواء الغليل، ج٣، ص٢١٣.
4- المعجم الكبير، ج٢٢، ص٣4٧.
5- المصدر نفسه، ج١، ص٣٢٢.

ص:21

البقيع، فانطلقت - أو قال: فانطلقنا -. فلمّا توسّط البقيع، استغفر لأهل المقابر»(1)

وينقل ابن أبي الحديد عن الواقدي قوله: «وكان رسول الله (ص) يزور قتلى أُحد في كلّ حولٍ، وإذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول: «السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عُقبى الدار» (2)

فكلّ هذه الروايات تدلّ على أنّ زيارة القبور والدعاء عندها للموتى كان من سنّة وسيرة رسول الله (ص) .

ثالثاً: سيرة المتشرِّعة

ممّا لا شك فيه أنّ أُمّة المسلمين كانوا دائماً مواظبين على زيارة القبور، وكانوا يدعون للموتى، ولم ينههم أحد عن هذا العمل.

يقول أبو بكر الكاشاني، بعد أن يستدلّ على جواز زيارة القبور بقول الرسول (ص) : «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» :

«ولِعمل الأمّة من لدن زمن الرسول (ص) إلى يومنا هذا»(3)

حكم زيارة النساء للقبور

اشاره

توجد أربعة أقوال في مسألة زيارة النساء للقبور، وهي كالتالي:

القول الأوّل: تحريم زيارة النساء للقبور
اشاره

يُعتبر ابن تيميّة أوّل شخص يحرّم زيارة النساء للقبور بشكلٍ مطلق، ودليله على حرمة ذلك قول الرسول (ص) :

«لعن الله زوّارات القبور» ،


1- المعجم الكبير، ج٢٢، ص٣46.
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج١5، ص4٠.
3- بدائع الصنائع، ج١، ص٣٢٠.

ص:22

وحاصل استدلاله في كتابَي (جامع الفتاوى) و (الفتاوى الكبرى) هو:

أنّ هناك روايتين نقلتا عن النبيّ الأكرم (ص) متعارضتين في ظهورهما، هما:

١ - «لعن الله زوّارات القبور» .

٢ - «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنّها تذكّر الآخرة» .

ولعل قائلاً يقول: إنّ النهي عن ذلك في الرواية الأولى منسوخٌ بالثانية، كما قال ذلك أهل القول الآخر.

فيجاب: بأنّ هذا ليس صحيحاً؛ وذلك:

أوّلاً: لأنّ قوله (ص) : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» هذا خطاب للرجال دون النساء، فإنّ اللفظ لفظ مذكّر، وهو مختصّ بالذكور.

ثانياً: إنّنا على فرض التسليم بأنّ اللفظ كان عامّاً ويشمل النساء أيضاً، سنكون أمام روايتين، إحداهما عامّة، وهي: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» تشمل النساء في خطابها، ورواية خاصّة بالنساء تحرّم عليهنّ زيارة القبور، وهي «لعن الله زوّارات القبور» ، وفي هذه الحالة لايخرج الأمر عن ثلاث احتمالات:

أ - أن نعلم بأنّ الرواية الثانية الخاصّة بالنساء صدرت بعد الرواية الأولى العامّة، وفي هذه الحالة تكون الرواية الثانية الخاصّة مخصِّصة لعموم الرواية الأولى، ومحرّمة لزيارة القبور من قِبل النساء.

ب - أن نعلم بأنّ الرواية العامّة صدرت بعد الرواية الخاصّة بالنساء، ولمّا كان الأصوليون يذهبون إلى عدم نسخ الخاص بالعام، تبقى حرمة زيارة النساء للقبور ثابتة.

ص:23

ج - أن لا نعلم الروايةَ المتقدّمة من الروايتين، وأيٍّ منهما المتأخّرة، وهنا يقدِّم عامّة الأصوليين الخاصَّ على العام، وحينئذٍ تبقى رواية تحريم زيارة النساء للقبور على دلالتها(1)

مناقشة استدلال ابن تيمية
المناقشة الأُولى

إنّ ادّعاء اختصاص رواية: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» بالرجال، بسبب ضمائر التذكير الواردة فيها، قولٌ بلا معرفةٍ أو دليل؛ وذلك:

أوّلاً - أنّ كثيراً من الخطابات في الآيات القرآنية والروايات جاءت بصيغة الجمع المذكّر، ولو كان مجرّد التذكير دليلاً على أنّ المراد خصوص الذكور منها، فلازم ذلك أن تكون كثير من خطابات القرآن والروايات غير شاملة للنساء، مثل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ(2)، و أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ(3)، و الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ (4)

وممّا لا شكّ فيه عدم اختصاص هذه الخطابات بالرجال وحدهم.

ثانياً - جاء في ألفاظ الرواية الثانية المذكورة ثلاثة مقاطع(5)، هي:

١ -

«نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ لأنّها تذكّر الآخرة» .


1- مجموع الفتاوى، ج٢4، ص٣6٠؛ الفتاوى الكبرى، ج٣، ص4٢.
2- البقرة: ١٨٣.
3- المصدر نفسه: 4٣.
4- المائدة: 5.
5- هذه الرواية رويت بعدّة ألفاظ لكنّها تتضمّن نفس المعنى، ولم أعثر بمقدار تتبّعي على المقاطع الثلاثة مجتمعةً في رواية واحدة، لكنّ ذلك لا يؤثّر في الاستدلال مادامت النصوص كلّها مروية باختلاف يسير. [المترجم]

ص:24

٢ - «ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم» .

٣ - «ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أيّ وعاء شئتم، ولاتشربوا مسكراً» .

ويدّعي ابن تيميّة بأنّ عبارة (نهيتكم) خطاب مذكّر يختصّ بالذكور، وكذلك كلمة (فزوروها) اشتملت على واو الجماعة للمذكّر، وهي تختص بالذكور. فيقول: حتّى وإن قلنا: إنّ الخطاب في الرواية عام وشامل للرجال والنساء، ولكن بعد مجيء هذه الرواية الخاصّة بالنساء يكون حكم زيارة النساء للقبور قد نُسخ بها، وبقيت حرمة زيارة النساء للقبور ثابتة.

وحينئذٍ يكون على ابن تيميّة أن يتابع استدلاله وفهمه للرواية في المقاطع الأخرى من الرواية على هذا النحو، أي: عليه أن يقول: إنّ كلمة (نهيتكم، فكلوا، فأمسكوا) في المقطع الثاني ألفاظ مذكّرة تختص بالرجال أيضاً، ويبقى تحريم ما بعد ثلاثة أيام على النساء قائماًً! ! وكذلك الحال في المقطع الثالث من هذه الرواية.

وبناءً على كلامه، عليه أن يُبقي على حرمة شرب الأشربة المباحة بالأوعية بالنسبة للنساء بخصوصهنّ، ولا يجوز لهن الشرب إلّا بالمدبوغ منها.

ولا نجد أيّ فقيه من فقهاء الإسلام أفتى بمثل ذلك.

ثالثاً - يوجد في الرواية الثانية التي ذكرها ابن تيميّة عبارة

«لأنّها تذكّركم الآخرة» ، لأنّ من فوائد زيارة القبور تذكّر الآخرة والموت، فالنبيّ الأكرم (ص) جوّز زيارة القبور لكلّ من تذكّره بالآخرة، وهنا

ص:25

لايوجد فرق بين أن يكون رجلاً أو امرأةً، وبحسب التعبير الأصولي: أنّ علّة الجواز عامّة تشمل النساء.

ومن خلال ذلك نستنتج: أنّ رواية (نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) عامّة وتشمل النساء أيضاً.

المناقشة الثانية
اشاره

من خلال الأخذ بعين الاعتبار المناقشة السابقة نستطيع استخلاص ثلاثة أحكام من الروايتين:

١ - نهي الرجال والنساء عن زيارة القبور في صدر الإسلام، ويستفاد هذا الحكم من عبارة «نهيتكم عن زيارة القبور» .

٢ - نهي النساء عن زيارة القبور، ويستفاد ذلك من عدّة روايات من قبيل: «لعن الله زوّارات القبور» .

٣ - أمر الرجال والنساء، على حدٍّ سواء، بزيارة القبور، بعد نهيهم سابقاً عن ذلك، ويستفاد هذا الحكم من عبارة «فزوروها» .

وهنا يمكن طرح احتمالين:

الاحتمال الأوّل

أن تكون الرواية الأولى «لعن الله زوّارات القبور» صدرت قبل الرواية الثانية (فزوروها) ، وحينئذٍ تكون الرواية الأولى «لعن الله زوّارات القبور» مؤكّدة لحكم المنع عن زيارة القبور الصادر في صدر الإسلام، فجاءت هذه الرواية لتؤكّده بحقّ النساء، فكأنّ النبيّ (ص) قد قال: (يحرم على الجميع زيارة القبور، وبالخصوص النساء) . وحينئذٍ يكون لدينا (حكم عام) في صدرالإسلام، يحرّم على الجميع زيارة القبور، وتتأكّد هذه الحرمة بالنسبة للمرأة، ثمّ صدر (حكمٌ عامٌ) بجواز زيارة الرجال

ص:26

والنساء للقبور على حدٍّ سواء. وفي هذه الحال يكون الحكم الثاني ناسخاً للحكم الأوّل، كما هو متّفق عليه بين علماء أصول الفقه.

وهذا ما أيّده أيضاً كثير من علماء أهل السنّة، فنرى الترمذي يقول: «وقد رأى بعضُ أهلِ العلم أنّ هذا كان قبل أن يرخّص النبيّ [ص] في زيارة القبور، فلمّا رخَّص، دخل في رُخصته الرجال والنساء»(1)

وأيّد كلّ من محمّد بن إسماعيل الكحلاني والمباركفوري، كلام الترمذي بأمرين:

١ - تعليم النبيّ (ص) عائشة كيفية الزيارة.

٢ - زيارة فاطمة (عليها السلام) لقبر حمزة عدّة مرات(2)

وسنتكلّم عن هذين الأمرين فيما يأتي من البحث.

الاحتمال الثانى

أن تكون رواية: «لعن الله زوّارات القبور» متأخّرة في صدورها عن رواية «فزوروها» ، ويلزم من ذلك، أن يكون الحكم العام المأمور به في صدر الإسلام (حرمة زيارة القبور على الرجال والنساء) قد نسخ مرّتين؛ مرّة برواية (فزوروها) الدالة على الإباحة، وأخرى برواية «لعن الله زوّارات القبور» الدالة على حرمة زيارة النساء للقبور. وصدور مثل هذا الأمر غير لائقٍ بساحة المشرّع الحكيم.

المناقشة الثالثة

على فرض قبول التعارض بين الروايتين، الأولى والثانية، فلابدّ حينئذٍ أن يصار إلى الجمع بينهما كما فعل القرطبي، والقاري،


1- سنن الترمذي، ج٢، ص٢5٩.
2- سبل السلام، ج٢، ص١١4؛ تحفة الأحوذي ج4، ص ١٣٧.

ص:27

والشوكاني وآخرون.

يقول الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار) بعد نقله لكلام القرطبي:

«اللعن المذكور في الحديث إنّما هو للمكثرات من الزيارة؛ لما تقتضيه الصيغة من المبالغة. ولعلّ السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حقِّ الزوج والتبرّج، وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك. وقد يقال: إذا أُمن جميع ذلك، فلا مانع من الإذن لهنّ؛ لأنّ تذكّر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء»(1)

ثمّ يعقّب على كلامه بقوله:

«وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر»(2)

وهكذا المباركفوري في كتابه (تحفة الأحوذي) بعد نقله لكلام القرطبي يقول: «وقد تقدّم قول القرطبي، أنّ اللعن في حديث الباب للمكثرات من الزيارة، وهذا هو الظاهر، والله تعالى أعلم»(3)

المناقشة الرابعة

أنّ حديث «لعن الله زوّارات القبور» أو «لعن رسول الله زوّارات القبور» مروي بثلاثة طرق:

الطريق الأوّل: أبوعوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة(4)


1- نيل الأوطار، الشوكاني، ج4، ص١66.
2- المصدر نفسه.
3- تحفة الأحوذي، المباركفوري، ج4، ص١٣٧.
4- مسند أحمد بن حنبل، ج٢، ص٣٣٧؛ سنن الترمذي، ج٢، ص٢5٩؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، ص٧٨؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص5٠٢.

ص:28

الطريق الثاني: سفيان بن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن ابن بهمان عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه(1)

الطريق الثالث: عبد الوارث بن سعيد عن محمّد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عبّاس(2)

أمّا الطريق الأوّل، ففيه عمر بن أبي سلمة، وقد ضُعّف من قبل علماء الرجال. يقول ابن حجر في كتاب (تهذيب التهذيب) حول عمر بن أبي سلمة:

«قال ابن سعد: كان كثير الحديث وليس يحتجّ بحديثه. وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: كان شعبة يضعّف عمر بن أبي سلمة.

وقال أبو قدامة: قلت لابن مهدي: إنّ شعبة أدركه ولم يحمل عنه، وقال: أحاديثه واهية.

وقال ابن أبي خيثمة: سألت أبي عنه، فقال: صالحٌ، إن شاء الله. وكان يحيى بن سعيد يختار محمّد بن عمرو عليه، وقال أحمد: لم يسمع شعبة منه شيئاً. وقال ابن المديني: تركه شعبة وليس بذاك.

وقال ابن معين: ليس به بأسٌ، وفي رواية: ضعيف الحديث.

وقال أبو حاتم: هو عندي صالح صدوق في الأصل، ليس بذاك القوي يكتب حديثه ولا يُحتجّ به، يخالف في بعض الشيء.

وقال العجلي: لا بأس به. وقال الجوزجاني: ليس بقوي في الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن خزيمة: لا يحتجّ بحديثه»(3)


1- مستدرك الصحيحين، ج١، ص٣٧4؛ مسند أحمد، ج٣، صص44٢ و 44٣؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص5٠٢؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، ص٧٨؛ المعجم الكبير، ج4، ص4٢.
2- سنن ابن ماجة، ج١، ص5٠٢.
3- تهذيب التهذيب، ج٧، ص4٠١. وكذلك: الجرح والتعديل، ج١، ص١46؛ العلل، أحمد بن حنبل، ج١، ص٣١٩؛ ج٣، ص١٨٧؛ معرفة الثقات، العجلي، ج٢، ص١6٨.

ص:29

نلاحظ من خلال الكلام المتقدّم أنّ (عمر بن أبي سلمة) وُصف بعدّة أوصاف وألقاب، مثل: (وليس يحتجّ بحديثه) ، (كان شعبة يضعّف عمر بن أبي سلمة) ، (أحاديثه واهيةٌ) ، (وفي رواية: ضعيف الحديث) ، (ليس بذاك القوي، يكتب حديثه ولا يحتجّ به) ، (ليس بقويّ في الحديث) . فمع اتّصافه بمثل هذه الصفات، يكون حديثه ساقطاً عن الاعتبار.

أمّا الطريق الثاني، ففيه (عبد الرحمن بن بهمان) وقد سُئل عنه علي بن المديني، فقال: (لا يعرف هذا) (1)

أمّا الطريق الثالث، ففيه (أبو صالح) ، واسمه باذان أو باذام، ولم يوثّقه غير العجلي(2)، أمّا الآخرون فبين مضعّفٍ له أو مهمل.

يقول أحمد بن حنبل: «كان عبد الرحمن بن مهدي ترك حديث أبي صالح باذام» (3)

ويقول ابن عدي عنه: «وباذام هذا عامّة ما يرويه تفاسير، وما أقل ما له من المسند، وهو يروي عن عليّ وابن عبّاس، وروى عنه ابن أبي خالد عن أبي صالح هذا تفسيراً كثيراً قد زخرف في ذلك التفسير ما لم يتابعه أهل التفسير عليه، ولم أعلم أحداً من المتقدّمين رضيه»(4)

وقال زكريا بن أبي زائدة: «كان الشعبي يمرّ بأبي صالح فيأخذ بإذنه فيهزّها ويقول: ويلك! تفسّر القرآن وأنت لا تحفظ القرآن؟ !» (5)


1- تاريخ مدينة دمشق، ج٣4، ص٢٨٩.
2- معرفة الثقات، ج٢، ص 4٠٨.
3- العلل، ج٢، ص 5٠٢.
4- الكامل، ابن عدي، ج٢، ص٧١.
5- تهذيب التهذيب، ج١، ص٣65؛ ضعفاء العقيلي، ج١، ص ١65.

ص:30

وقال أبو حاتم: «يكتب حديثه ولا يحتجّ به»(1)

وقال النسائي عنه: «ضعيف»(2)

وقال العقيلي: «عن مغيرة أنّه كان يقول: إنّما كان أبو صالح صاحب الكلبي يعلّم الصبيان. قال: ويضعّف تفسيره» (3)

وقد «قال الجوزقاني: إنّه متروك»(4)

ونقل ابن الجوزي عن الأزدي أنّه قال: كذّاب(5)

ويقول ابن حبّان عنه: «يحدّث عن ابن عبّاس ولم يسمع منه»(6)

وعلى هذا، حتّى لو سلّمنا دلالة الحديث على الحرمة، يكون السند مخدوشاً جدّاً.

ولم يحرّم ابن تيميّة وحده زيارة النساء للقبور، بل ابن بازٍ أيضاً حرّمها هو الآخر على النساء، وعدّها من الكبائر، فيقول: «أمّا زيارة المرأة للقبور فهي محرّمة، بل من كبائر الذنوب؛ لأنّ النبيّ [ص] لعن زائرات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسرج»(7)

ومن خلال ما قدّمناه من جواب على كلام ابن تيميّة يتّضح خواء كلام ابن باز، ومدى افتقار كلامه للدليل، ولا حاجة لتكرار الردّ عليه أيضاً، خصوصاً وأنّ ابن باز استدلّ بالرواية التي في سندها (أبوصالح) وهي غير قابلة للاستدلال كما مرّ علينا.


1- تهذيب التهذيب، ج١، ص٣65.
2- كتاب الضعفاء والمتروكين، النسائي، ص ١5٨.
3- ضعفاء العقيلي، العقيلي، ج١، ص١66.
4- تهذيب التهذيب، ج١، ص٣65.
5- المصدر نفسه؛ الموضوعات، ابن الجوزي، ج١، ص٣٧٣.
6- كتاب المجروحين، ابن حبّان، ج١، ص١٨5.
7- فتاوى مهمّة، ج١، صص ٧٢ و ١4٩١5٠.

ص:31

القول الثانى: كراهة زيارة النساء للقبور
اشاره

ذهب كثير من فقهاء المدرسة السنّية إلى كراهة زيارة النساء للقبور(1)، وكان اعتمادهم على أحد الدليلين التاليين:

الأوّل: حديث: «لعن الله زوّارات القبور» ، حيث استفادوا منه الكراهة؛ لأنّ الرواية تحتمل أكثر من وجه، ودلالة الحديث دائرة بين الحرمة والجواز، فتحمل على الكراهة.

الثاني: بسبب قلّة صبر النساء وضعف قدرتهن في تحمّل المصائب، فكُره لهنّ الذهاب إلى زيارة القبور.

مناقشة القول الثانى

لا يمكننا قبول هذا الرأي أيضاً؛ فهو يفتقر إلى الدليل المتين، وما اعتمد عليه من دليل مردود وغير صحيح.

أمّا بالنسبة للدليل الأوّل، الذي ذكره أصحاب هذا الرأي، فقد أجبنا عليه في جوابنا ومناقشتنا للقول الأوّل.

وبالنسبة للدليل الثاني، الذي اعتمد عليه أصحاب هذا الرأي، كذلك غير دالٍّ على المدّعى؛ لأنّه أخصّ منه، فالمدّعى أنّ زيارة القبور في كلّ مكان وزمانٍ مكروهةٌ، أمّا الدليل فيتناول خصوص النساء الجزوعات القليل صبرهنّ في المصائب وعند زيارتهنّ القبور، فهذا الدليل - لو سلّمنا كراهةَ قلّة الصبر على المصيبة - إنّما يدل على الكراهة حين تكون المرأة قليلة الصبر، ويكثر عويلها وجزعها عند زيارة القبور.


1- فتح العزيز، ج5، ص٢4٨؛ الإقناع، ج١، ص١٩٢؛ مغني المحتاج، ج١، ص٣65؛ المغني، ج٢، ص4٣٠؛ كشف القناع، ج٢، ص ١٧4؛ الكافي في فقه ابن حنبل، ج١، ص ٢٧5.

ص:32

القول الثالث: جواز زيارة القبور

استدلّ لهذا الرأي بعدّة أدلّة، وكما يلي:

الدليل الأوّل: لا يوجد دليل على حرمة أو كراهة زيارة القبور، بل قد روي عن النبيّ الكريم (ص) أنّه قال: «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» ، فيدل هذا الحديث على أنّ المسلمين، رجالاً ونساءً، كانوا منهيّين عن زيارة القبور في صدر الإسلام، ثمّ أُبيح لهم ذلك.

وأمّا رواية «لعن الله زوّارات القبور» ، فهي سابقة لهذه الرواية التي أجازت زيارة القبور، يقول الترمذي في هذا الصدد:

«وقد رأى بعض أهل العلم أنّ هذا كان قبل أن يرخّص النبيّ [ص] في زيارة القبور، فلمّا رخّص، دخل في رخصته الرجال والنساء»(1)

ناهيك عن أنّ حديث «لعن الله زوّارات القبور» ضعيف دلالةً وسنداً.

الدليل الثاني: تعليم النبيّ (ص) لزوجته عائشة كيفية زيارة القبور. ففي رواية عنها تروي فيها ما قاله النبيّ (ص) لها: «إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفرِي لهم، قالت، قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم لَلاحقون»(2). فهذه الرواية فيها دلالة واضحة على جواز زيارة النساء للقبور.

الدليل الثالث: ذهاب عائشة لزيارة قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر.


1- سنن الترمذي، ج٢، ص٢٩5.
2- صحيح مسلم، ج٣، ص64؛ مسند أحمد بن حنبل، ج6، ص٢٢١؛ سنن النسائي، ج4، ص٩٣؛ السنن الكبرى البيهقي ، ج٣، ص٧٩؛ المصنّف، الصنعاني، ج٣، ص 5٧6؛ السنن الكبرى النسائي ، ج١، ص656؛ صحيح ابن حبّان، ج١6، ص46.

ص:33

يقول عبدالله بن أبي مليكة: «إنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أمّ المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبرِ أخي عبدالرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله [ص] نهى عن زيارة القبور؟ ! قالت: نعم، كان نهى ثمّ أمر بزيارتها» (1)

ويقول السيّد سابق في كتاب (فقه السنّة) : «رخّص مالك وبعض الأحناف وروايةٌ عن أحمد وأكثر العلماء، في زيارة النساء للقبور؛ لحديث عائشة: كيف أقول. . .»(2)

ونقل ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) قول أحمد بن حنبل بالجواز مستشهداًً بهذه الواقعة، فجاء فيه: «. . . وسمعت أبا عبدالله، يعني أحمدبن حنبل، يُسأل عن المرأة تزور القبر، فقال: أرجو - إن شاء الله - أن لا يكون به بأسٌ؛ عائشة زارت قبر أخيها»(3)

وكذلك اعتبر محمّد بن إسماعيل الكحلاني رواية عبد الله بن أبي مليكة دليلاً على جواز زيارة القبور. (4)

الدليل الرابع: ذهاب السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لزيارة قبر حمزة وشهداء أُحد كلّ جمعة. ففي الرواية التي يرويها الإمام السجاد (ع) عن أبيه الحسين (ع) يقول: «إنّ فاطمة بنت النبيّ [ص] كانت تزور قبر عمّها حمزة كلّ جمعة، فتصلّي وتبكي عنده»(5)


1- مستدرك الصحيحين، ج١، ص٣٧6؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، ص٧٨؛ أحكام الجنائز، الألباني، ص١٨١؛ مسند أبي يعلى، ج٨، ص٢٨4.
2- فقه السنّة، السيد سابق، ج١، ص566.
3- التمهيد، ابن عبد البّر، ج٣، ص٢٣4.
4- سبل السلام، ج٢، ص١١5.
5- مستدرك الصحيحين، ج١، ص٣٧٧؛ ج٣، ص٢٨؛ السنن الكبرى البيهقي ، ج4، ص٧٨؛ أحكام الجنائز، الألباني، ص١٨٣.

ص:34

واستدلّ الطحطاوي في (حاشية مراقي الفلاح) على جواز زيارة القبور بهذه الرواية(1)

والبعض - كمحمّد بن إسماعيل الكحلاني - حين أراد تضعيف هذه الرواية قال: «قلت: وهو حديث مرسل؛ فإنّ علي بن الحسين لم يدرك فاطمة بنت محمّد [ص]»(2)

والعجيب أن يصدر هذا الكلام من مثله؛ وذلك لأنّ كتاب (المستدرك) و (السنن الكبرى) يذكر في سند الرواية: «علي بن الحسين عن أبيه» ، فالرواية مرويّة عن الإمام الحسين (ع) . ولكن هذا ناشئ من عدم الدقّة والتريّث.

الدليل الخامس: عدم نهي النبيّ (ص) المرأة التي وجدها تبكي عند أحد القبور عن زيارة القبور، وحثّها على الصبر. فيستفاد من ذلك جواز زيارة القبور للنساء.

فقد روي عن أنس بن مالك قوله: «مرّ النبيّ [ص] بامرأة تبكي عند قبرٍ، فقال: اتّقي الله واصبري. قالت: إليك عنّي؛ فإنّك لم تُصب بمصيبتي. ولم تعرفه! فقيل لها: إنّه النبيّ [ص]، فأتت باب النبيّ [ص] فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: إنّما الصبر عند الصدمة الأولى» (3)

ويقول العيني تعليقاً على هذه الرواية:

«وفيه: جواز زيارة القبور مطلقاً، سواء كان الزائر رجلاً أو امرأة»(4)


1- حاشية مراقي الفلاح، ج٢، ص6١٩.
2- سبل السلام، ج٢، ص١١5.
3- صحيح البخاري، ج٢، ص٧٩؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، ص٧٨.
4- عمدة القاري، العيني، ج٨، ص6٨.

ص:35

وكذلك اعتبر الألباني هذه الرواية دليلاً على جواز زيارة القبور، سواء كان الزائر رجلاً أو امرأة(1)

القول الرابع: استحباب زيارة القبور

القول الرابع هو القول باستحباب زيارة المرأة للقبور، فإنّنا من خلال متابعة الروايات والتدقيق في مداليلها نجدها لا توصلنا إلى جواز زيارة القبور وحسب، بل تثبت لنا استحباب ذلك؛ وذلك:

أوّلاً: أنّ التعبير المذكور في النبوي (فزوروها) ، في حديث:

«نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» ، ولوجود قرائن متعددة، بالإضافة إلى إجماع الفقهاء على عدم وجوب الزيارة(2)، يحمل الأمر في الرواية على الاستحباب، فتكون الرواية دالّة على استحباب زيارة القبور لكلّ مسلم.

ثانياً: التعليل الوارد في الروايات للأمر بزيارة القبور، من قبيل: (فإنّها تذكّركم الآخرة) ، (فإنّها تذكّر الموت) ، (فإنّ فيها عِبرة) ، (فإنّها تزهّد في الدنيا) ، فإنّه يفهم منه، ومن مجيء الأمر بالشيء بعد النهي عنه، استحباب زيارة القبور.

ثالثاً: الأمرالوارد في رواية عائشة: «إنّ ربّكِ يأمركِ أن تأتي أهل البقيع. . .» أيضاً يُحمل هذا الأمر في الخطاب الإلهي بزيارة قبور البقيع على الاستحباب.

رابعاً: ما روي عن النبيّ الكريم (ص) ، مثل:


1- أحكام الجنائز، ص١٨4.
2- انفرد ابن حزم في كتاب المحلّى بقوله بوجوب زيارة القبور لمرّة واحدة، انظر: ج5، ص١6٠.

ص:36

- «مَن زار قبر أبويه أو أحدهما، في كلّ جمعة مرّة، غفر الله له وكُتب بَرّاً»(1)

- «من زار قبر والديه أو أحدهما، في كلّ جمعة، فقرأ عندهما يس، غفر الله له بعدد كلّ حرف منها»(2)

- «من زار قبر والديه أو أحدهما احتساباً، كان كعدل حجّة مبرورةٍ، ومن كان زوّاراً لهما، زارت الملائكة قبره»(3).

هذه الروايات مجتمعة، وإن واجه بعضها خدشة في السند، ولكن بمعونة قاعدة (التسامح في أدلّة السنن) ، يمكننا ترقية دلالتها إلى حدّ القول باستحباب زيارة القبور، للرجال والنساء.

وعلى هذا، نستنتج أنّ زيارة النساء للقبور، ليس فقط غير محرّم أو مكروهٍ، بل مستحبٌّ شرعاً.

وهذا ما صرّح به كلّ من الشرنبلاني والألباني، حيث لم يفرّقوا في استحباب زيارة القبور بين النساء والرجال (4).

زيارة قبر النبى الأكرم (ص)

اشاره

من الأفضل وقبل الدخول ببحث جواز أو استحباب زيارة قبر النبيّ (ص) ، أن نطّلع على رأي ابن تيميّة، ونتعرّف على أدلّته في ذلك:

رأى ابن تيميّة فى زيارة قبور الأنبياء
اشاره

يحاول البعض تبرئة ابن تيميّة من فتواه بحرمة زيارة قبر النبيّ


1- الجامع الصغير، ج٢، ص6٠6. وانظر أيضاً: مجمع الزوائد، الهيثمي، ج٣، ص5٩؛ المعجم الصغير، ج٢، ص 6٩؛ كنز العمّال، ج6، ص46٨؛ الدر المنثور، ج4، ص١٧4.
2- كنز العمّال، ج١6، ص4٧٩؛ الدر المنثور، ج5، ص٢5٧.
3- كنز العمّال، ج١6، ص4٧٩.
4- مراقي الفلاح، ج١، ص٢٣٣؛ أحكام الجنائز، ج١، ص١٨٠.

ص:37

الكريم (ص) ، ومن هنا، يكون من اللازم علينا أن نتابع كلمات ابن تيميّة في هذا الصدد، وكذلك كلمات بعض علماء أهل السنّة فيما يتعلّق باعتقاد ابن تيميّة، حول زيارة قبر النبيّ الأكرم (ص) وسائر الأنبياء (عليهم السلام) ؛ لكي تتبيّن عقائده الخاطئة للجميع.

يقول في كتاب (مجموع الفتاوى) ، في معرض الإجابة على سؤال حول زيارة قبر النبيّ الكريم (ص) :

«وأمّا الزيارة البدعية، فمن جنس زيارة اليهود والنصارى وأهل البدع الذين يتّخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد. . . فالزيارة البدعية مثل: قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده، أو الدعاء عنده، أو به، أو طلب الحوائج منه، أو من الله تعالى عند قبره، أو الاستغاثة به، أو الإقسام على الله تعالى به، ونحو ذلك، هو من البدع التي لم يفعلها أحدٌ من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسانٍ، ولاسنّ ذلك رسول الله، ولا أحد من خلفائه الراشدين، بل قد نهى عن ذلك أئمّة المسلمين الكبار»(1)

فيصرّح ابن تيميّة في هذه العبارة أنّ قصد السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين من البدعة وهو محرّم، ولذا حرّم زيارتهم.

ويقول في مكان آخر:

«فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها فقد قصد نفس المحرّم الذي سدّ الله ورسوله ذريعته»(2)

وكذلك يقول:


1- مجموع الفتاوى، ابن تيميّة، ج٢4، ص٣٣4.
2- المصدر نفسه، ج١، ص٢٣٧.

ص:38

«والأحاديث المروية في زيارة قبره كلّها ضعيفة، بل كذب»(1)

وكذلك من أقواله:

«بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور، قبر نبيٍّ أو غيره، منهيٌّ عنه عند جمهور العلماء، حتّى أنّهم لا يجوّزون قصر الصلاة فيه، بناءً على أنّه سفر معصية؛ لقوله الثابت في الصحيحين: لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا»(2)

ويقول أيضاً:

«وأمّا الحديث المذكور في زيارة قبر النبيّ، فهو ضعيف، وليس في زيارة قبر النبيّ [ص] حديث حسن ولا صحيح، ولا روى أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة والترمذي، ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد ونحوه، ولا أهل المصنّفات كموطأ مالك وغيره، في ذلك شيئاً، بل عامّة ما يُروى في ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة، كما يروى عنه [ص] أنّه قال: من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحدٍ ضمنت له على الله الجنّة. وهذا حديث موضوع كذب باتّفاق أهل العلم.

وكذلك ما يروى أنّه قال: من زارني بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي ضمنت له على الله الجنّة.

ليس لشيءٍ من ذلك أصلٌ. وإن كان قد روى بعض ذلك الدارقطني والبزّار في مسنده، فمدار ذلك على عبد الله بن عمر العمري، أو من هو أضعف منه، ممّن لا يجوز أن يثبت بروايته حكم شرعي، وإنّما اعتمد الأئمّة في ذلك على ما رواه أبو داود في السنن عن أبي هريرة عن النبيّ


1- مجموع الفتاوى، ابن تيميّة، ج٢4، ص٣55.
2- المصدر نفسه، ج4، ص5٢٠.

ص:39

أنّه قال: ما من رجلٍ يسلِّم عليَّ إلّا ردّ الله عليَّ روحي حتّى أردّ، وكما في سنن النسائي عن النبيّ أنّه قال: إنّ الله وكّل بقبري ملائكة تبلغني عن أمّتي السلام.

فالصلاة والسلام عليه ممّا أمر الله به ورسوله، فلهذا استحبّ ذلك العلماء»(1)

من خلال كلمات ابن تيميّة يمكننا استخلاص أنّه يعتقد بعدّة أمور، فيما يتعلّق بزيارة قبور الأنبياء:

١- أنّ السفر بقصد زيارة قبور الأنبياء بدعة ومحرّم. فيتّضح أنّ ابن تيميّة يحرّم، وبشكل صريح، السفر إلى قبور الأنبياء لخصوص زيارتهم؛ لأنّه يعتقد أنّ هذا العمل بدعة.

٢- أنّ زيارة قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندهم أثناء السفر، يعتبر من قصد المحرّم في السفر. وهذا أيضاً تصريح بحرمة زيارة قبور الأنبياء والأولياء.

٣- أنّ من يسافر لأجل زيارة قبور الأنبياء والصالحين، يعتبر سفره سفر معصية، وعليه أن يتمّ في صلاته.

فيعتبر ابن تيميّة السفر لزيارة قبور الأنبياء سفر معصية، كالمسافر لغرض السرقة أو بيع الخمر وما شابه. وهذا تصريح منه بحرمة زيارة قبور الأنبياء والأولياء.

4- أنّ كلّ الأحاديث المروية في خصوص زيارة قبر النبيّ (ص) موضوعة وكذب، ولا يوجد أحد من أهل العلم قد اعتمدها.

5- أنّ الدليل على حرمة زيارة قبور الأنبياء والأئمّة، هو قول


1- مجموع الفتاوى، ابن تيميّة، ج٢4، صص ٣56 و٣5٧.

ص:40

الرسول (ص) :

«لا تشدّ الرحال. . .» .

من الواضح أنّ هذا الكلام باطل ولا دليل عليه، بل هو كلام قبيح ويفتقر للباقة. يقول ابن حجر العسقلاني في كتاب (فتح الباري) : «وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيميّة»(1)

والعجب ممّن يحاول تبرئة ابن تيميّة من قوله هذا، ويعتبر نسبة القول بهذا له من التهم الموجّهة لابن تيميّة! ويقول: «إنّ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لم يحرّم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها ولم يكرّهها، بل استحبّها وحضّ عليها، ومصنّفاته ومناسكه طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبيّ [ص] وسائر القبور»(2)

ولا أدري كيف يدّعي هذا القائل أنّ ابن تيميّة يرى استحباب زيارة قبر النبيّ وفي نفس الوقت يحرّم السفر بقصد زيارته؟ ! ويرى قصد زيارته من القصود المحرمة التي تجعل من السفر سفر معصية؟ ! أليس هذا تناقضاً واضحاً؟ ! أوَليس تضعيف ابن تيميّة لأحاديث زيارة قبر النبيّ (ص) خير دليل على عدم قوله باستحباب زيارته؟ ! وكثير من علماء أهل السنّة خالفوا ابن تيميّة في فتاواه وقوله بأنّ زيارة قبر النبيّ وسائر الأنبياء معصيةٌ(3)

مناقشة ابن تيمية
اشاره

سيتّضح لنا بطلان كلام ابن تيميّة وافتقاره إلى الدليل، حين تتبيّن مسألتين، هما:


1- فتح الباري، ج٣، ص54.
2- انظر: شرح قصيدة ابن القيم، أحمد بن إبراهيم بن عيسى، ج٢، صص٣6٣ و ٣64.
3- رفع المنارة، ص٧١؛ دفع شبه من شبّه وتمرّد، ص4٧؛ التوفيق الربّاني، ص٢١.

ص:41

المسألة الأولى: حديث «لا تشدّ الرحال. . .» واستشهاد ابن تيميّة به.

المسألة الثانية: الأدلّة الدالة على استحباب زيارة قبور الأنبياء، وبالخصوص قبر نبيّنا الكريم (ص) ، وسائر الأولياء، والسفر بقصد ذلك.

المسألة الأولى: حديث «لا تشدّ الرحال»
اشاره

نقول: نقل هذا الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم بسندين، عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة، وكما يلي:

١- سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ [ص]، قال: لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومسجد الأقصى(1)

٢- شعبة عن عبد الملك سمعت قزعة مولى زياد قال: سمعت أباسعيد الخدري رضي الله عنه يحدّث بأربع عن النبيّ [ص] فأعجبنني وآنقنني قال: . . . ولا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي(2)

وذكر هذا الحديث في الكتب الحديثية السنّية الأخرى بأسانيد أخرى (3)، وقد استدلّ ابن تيميّة بهذا الحديث ببيان أنّ الحديث نهى عن أيّ شَدٍّ للرحال إلّا لهذه المساجد الثلاثة، وعليه لو شُدّ الرحال لقصد


1- صحيح البخاري، ج٢، صص 56 و 5٨؛ صحيح مسلم، ج4، ص١٠٢.
2- صحيح البخاري، ج٢، ص 5٨؛ صحيح مسلم، ج4، ص١٠٢.
3- سنن ابن ماجة، ج١، ص45٢؛ مسند أحمد بن حنبل، ج6، صص ٧ و ٣4 و 45؛ سنن الدارمي، ج١، ص٣٣٠؛ سنن أبي داود السجستاني، ج١، ص 45١؛ سنن الترمذي، ج١، ص ٢٠5؛ مسند أبي داود الطيالسي، ص ١٩٢؛ مسند الحميدي، ج٢، ص٣٣٠؛ المصنّف، ابن أبي شعبة، ج٢، ص٢6٨؛ ج 4، صص 5١٨ و 5١٩؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص ٢5٨؛ مسند أبي يعلى، ج٢، ص٢٨٨؛ صحيح ابن حبّان، ج4، ص 4٩6.

ص:42

زيارة قبر النبيّ (ص) كان مخالفاً لنهي النبيّ الأكرم، ويعدّ سفر معصيةٍ. وإليك نصّ عبارته في كتابه (مجموع الفتاوى) :

«ورّبما كان مقصوده بالحجّ من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحجّ، وربّما سوّى بين القصدين، وكلّ هذا ضلال عن الدين باتّفاق المسلمين، بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور، قبر نبيٍّ أو غيره، منهي عنه عند جمهور العلماء، حتّى أنّهم لا يجوّزون قصر الصلاة فيه بناءً على أنّه سفر معصية؛ لقوله الثابت في الصحيحين: لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا»(1)

مناقشة الاستدلال بحديث (لا تُشدّ الرحال)

نعتقد أنّ هذا الحديث لا علاقة له بمسألة زيارة قبر النبيّ (ص) أو قبور الأولياء، وذلك لأمرين:

الأمر الأوّل: أنّ الاستثناء في هذا الحديث من نوع الاستثناء المفرّغ، ويحتمل فيه ثلاث احتمالات:

١ - أن يكون المستثنى منه كلمة تدلّ على العموم أو الشيئية، مثل (شيء) ، وحينئذٍ يكون معنى الحديث كالتالي: لا يجوز السفر وشدّ الرحال لأيّ شيءٍ إلّا المساجد الثلاثة.

فيكون الحديث على هذا الاحتمال دالّاً على حرمة السفر لزيارة قبور الأنبياء والأئمّة.

ولكن من المقطوع به أنّ هذا الاحتمال مردود، ولم يحتمله أحد من علماء الإسلام؛ لأنّ الحديث يكون دالّاً حينئذٍ على حرمة إنشاء أيّ سفر


1- مجموع الفتاوى، ابن تيميّة، ج4، ص5٢٠.

ص:43

عدا السفر لزيارة هذه المساجد الثلاثة. وعليه يكون السفر للتجارة أو طلب العلم أو صلة الرحم داخلاً في هذا المنع.

أو نجعل كلّ هذه الموارد من المخصّصات لحديث (لا تُشدّ الرحال) ، ومن المعلوم أنّ السفر لطلب العلم قد يكون واجباً وقد يكون مستحبّاً، وكذلك صلة الرحم وغيرها، فيلزم حينئذٍ تخصيص الأكثر، وهو من المرجوح وغير المقبول. فيثبت أنّ هذا الاحتمال لاوجه له.

٢ - الاحتمال الثاني أن يكون التقدير كلمة (مكان) ، فيكون معنى الحديث كأنّ النبيّ (ص) قال: (لا تشدّوا الرحال إلى مكان إلّا. . .) ، ويكون الحديث حينئذٍ دالّاً على حرمة السفر إلى أيّ مكان غير المساجد الثلاثة المذكورة. وهو الاحتمال الذي بنى عليه ابن تيميّة، حيث قال: «مع أنّ قوله لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد يتناول المنع من السفر إلى كلّ بقعة مقصودة بخلاف السفر للتجارة وطلب العلم ونحو ذلك»(1)

وهذا الاحتمال باطلٌ أيضاً؛ لأنّه وإن قيل بوجوب كون المقدّر في الاستثناء المفرغ أعم المفاهيم قياساً بالمستثنى. ولكن يجب أن يكون المقدّر متّحداً معه بالنوع والصنف أيضاً.

وعلى فرض قبول تقدير كلمة (مكان) ، فأيضاً يكون الحديث دالّاً على خصوص السفر بقصد زيارة الأمكنة والبقاع من غير المساجد الثلاثة المستثناة. أمّا مَن يذهب لزيارة النبيّ (ص) والأولياء الصالحين والتسليم عليهم، لا بنيّة زيارة أماكن قبورهم وأضرحتهم، فلا يشمله الحديث حينئذٍ؛ وذلك لأنّه ممّا لا شك فيه أنّ المسلمين يأتون من بقاع


1- مجموع الفتاوى، ابن تيميّة، ج٢٧، ص٢١.

ص:44

العالم البعيدة وهم معتقدون بأنّ النبيّ (ص) حيٌّ، والأئمّة أحياءٌ، وإنّما يأتون موالاةً لهم وتجديداً للعهد معهم والتسليم عليهم، ولم يأتوا لزيارة التراب والمكان المحدود الذي دفنت به الأجساد بخصوصه.

٣ - الاحتمال الثالث المتصوّر في تقدير المستثنى منه هو كلمة (مسجد) ، فيكون تقدير الحديث حينئذٍ: لا تشدّ الرحال إلى مسجدٍ إلّا المساجد الثلاثة.

وعلى هذا الاحتمال لا يكون للحديث أيّ دلالة على منع زيارة قبور الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم. وهذا الاحتمال هو أقرب الاحتمالات للصحة؛ لأنّه يخلو من المحاذير التي واجهت الاحتمالات السابقة، ولوجود قرينتين يؤيّدان هذا الاحتمال، وهما:

القرينة الأولى: أنّ النبيّ في هذا الحديث كان في سياق بيان فضيلة هذه المساجد الثلاثة قياساً بالمساجد الأخرى، فهو كأنّه يريد أن يقول: إنّ لهذه المساجد الثلاثة من الفضيلة والأجر ما يميّزها عن بقية المساجد ممّا لاينبغي تفويته من قبل مسلم، وأنّ المسلم لحريٌ به لأجل ذلك أن لا يشدّ رحاله ويسافر لغيرها، كما يفعل ليدرك فضيلة الحجّ والعمرة. وأمّا بقية المساجد لمّا لم يكن لها من الفضل مثل هذه المساجد فلا ينبغي شدّ الرحال لها.

وممّا يؤيّد ذلك أنّ الحديث قد جاء في جميع كتب أهل السنّة، عدا مورد واحد، بصيغة النفي، وهذا يدلّ على نفي الفضيلة في شدّ الرحال لسائر المساجد، ناهيك عن بعض العبائر التي جاءت بصيغة (لاينبغي) . وسنفصّل الكلام حول ذلك في القادم من البحث.

القرينة الثانية: أنّ المستثنى في هذه الرواية هو مساجد ثلاثة، فيكون

ص:45

تقدير المستثنى منه بكلمة (مسجد) أوفق بالسياق.

يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري) :

«ومنها أنّ المراد حكم المساجد فقط وأنّه لا تُشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة؛ وأمّا قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي، ويؤيّده ما روى أحمد من طريق شهر ابن حوشب قال: سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله [ص]:

«لا ينبغي للمصلّي أن يشدّ رحاله إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي» . و (شهر) حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف»(1)

ويقول في تكملة كلامه:

«قال بعض المحقّقين: قوله: (إلّا إلى ثلاثة مساجد) المستثنى منه محذوف، فإمّا أن يقدّر عامّاً فيصير: لا تشدّ الرحال إلى مكان في أيّ أمر كان إلّا إلى الثلاثة، أو أخصّ من ذلك. لا سبيل إلى الأوّل لإفضائه إلى سدّ باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها، فتعيّن الثاني.

والأولى أن يقدّر ما هو أكثر مناسبة وهو: لا تشدّ الرحال إلى مسجدٍ للصلاة فيه إلّا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول من منع شدّ الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين. والله أعلم»(2)

الأمر الثاني: أنّ حديث (لا تشدّ الرحال) روي في صحيح البخاري


1- فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، ج٣، ص5٣.
2- المصدر نفسه، ص54.

ص:46

عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري بصيغة (النفي)(1) أمّا في صحيح مسلم روي عن أبي سعيد بصيغة (النهي) ، أي: (لا تشدّوا) ، وعن أبي هريرة بصيغة (النفي) : (لا تشدّ)(2)

ويحتمل كبيراً أنّ رواية النهي في صحيح مسلم عن أبي سعيد من غلط النسّاخ؛ ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ الحديث روي عن أبي سعيد في كلّ كتب الحديث والفقه والتفسير عند أهل السنّة بصيغة النفي(3) ووحده ابن أبي شيبة روى هذا الحديث بأكثر من طريق بصيغة (لا تشدّوا) ، ولكنّه عاد في مكان آخر وذكر هذا الحديث بأسانيده التي ذكرناها بصيغة النفي(4)

كذلك النووي في كتابه (شرح صحيح مسلم) ذكر رواية أبي سعيد نقلاً عن صحيح مسلم بصيغة النهي، ولكنّه ذكرها ثانية في نفس الكتاب بصيغة النفي أيضاً(5)

ومن المعلوم أنّ صيغة النفي وحدها لا تدلّ على التحريم، وهي بحاجة إلى قرينة لتدلّ على ذلك. ولا توجد قرينة على أنّ المراد من صيغة النفي في حديث (لا تشدّ الرحال) هو التحريم، بل وجود عبارة (لاينبغي) في رواية شهر بن حوشب قرينة على خلاف ذلك وأنّ الرواية


1- صحيح البخاري، ج٢، صص 56، 5٨، ٢٢٠ و ٢5٠.
2- صحيح مسلم، ج4، صص ١٠٢ و ١٢6.
3- مسند أحمد بن حنبل، ج٣، صص ٧، ٣4، 45 و ٧٨؛ ج6، صص ٧ و ٣٩٨؛ سنن الدارمي، ج١، ص٣٣٠؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص45٢؛ سنن أبي داود السجستاني، ج١، ص 45١؛ سنن الترمذي، ج١، ص ٢٠5؛ سنن النسائي، ج٢، ص ٣٧؛ السنن الكبرى البيهقي، ج١٠، ص٨٢؛ مجمع الزوائد، ج4، صص ٣ و 4؛ مسند أبي داود الطيالسي، ص ١٩٢؛ مسند الحميدي، ج٢، صص٣٣٠ و 4٢١؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص ٢5٨.
4- المصنّف، ابن أبي شيبة، ج٢، ص ٢6٨؛ ج4، ص 5١٨.
5- صحيح مسلم بشرح النووي، ج٩، صص ١٠5 و ١6٧.

ص:47

في مقام الحثّ على السفر لهذه المساجد ونفي الفضيلة عن غيرها، ولا دلالة فيها على نفي زيارة القبور بتاتاً.

يقول ملا علي القاري:

«و (لا تُشدّ الرحال) ، أي: لا ينبغي أن يسافر أحدٌ للتبرّك إلى المشاهد»(1)

وأيضاً يقول ابن قدامة: «فإنْ سافر لزيارة القبور والمشاهد، فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخّص؛ لأنّه منهيّ عن السفر إليها. قال النبيّ [ص]: لاتشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد. متّفقٌ عليه. والصحيح إباحته وجواز القصر فيه؛ لأنّ النبيّ [ص] كان يأتي قباء راكباً وماشياً، وكان يزور القبور وقال: زوروها تذكّركم الآخرة. وأمّا قوله عليه السلام: لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد. فيحمل على نفي التفضيل لا على التحريم»(2)

وجاء في كتاب (كشف القناع) للبهوتي: «(ولا) يترخّص (في سفر مكروه) كالسفر لفعل مكروه و (للنهي عنه، ويترخّص إن قصد مشهداً أو قصد مسجداً ولو غير المساجد الثلاثة أو قصد قبر نبيّ أو غيره) كوليّ، وحديث: لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، أي: لا يطلب ذلك، فليس نهياً عن شدّها لغيرها، خلافاً لبعضهم؛ لأنّه [ص] كان يأتي قباء راكباً وماشياً، ويزور القبور، وقال: زوروها؛ فإنّها تذكّركم الآخرة»(3)

ويقول النووي في (شرح صحيح مسلم) حول حكم السفر بقصد زيارة قبور الأنبياء والأئمّة:


1- شرح مسند أبي حنيفة، ص٢5٠.
2- المغني، ج٢، صص ١٠٣ و ١٠4.
3- كشف القناع، ج١، ص 6١٨.

ص:48

«والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحقّقون أنّه لا يحرم ولا يكره، قالوا: والمراد أنّ الفضيلة التامّة إنّما هي في شدّ الرحال إلى هذه الثلاثة خاصّة. والله أعلم»(1)

وكلام النووي يدلّ بشكلٍ صريح على أنّ رأي المحقّقين من أهل السنّة ليس هو إلّا تحقّق الفضيلة التامّة في السفر إلى المساجد الثلاثة، أمّا السفر لغيرها من قبور الأنبياء والأولياء ففيها الفضيلة وإن لم تكن تامّة الفضيلة كتلك المساجد.

وهناك روايتان تؤيّدان كلام النووي، الأولى رويت عن جابر عن النبيّ (ص) :

«أنّه قال: إنّ خير ما رُكبت إليه الرواحل مسجدي هذا، والبيت العتيق» (2)

وسند هذه الرواية هو: الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله عن رسول الله (ص) ، فكلّ أفراد السند ثقات. يقول الهيثمي في مجمع الزوائد عن الحديث: «رجاله رجال صحيح»(3). وكذلك عدّ الألباني هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة في كتاب (السلسلة الصحيحة) (4)، و (صحيح الترغيب والترهيب)(5) وذكره أيضاً ابن حبّان في كتاب (صحيح ابن حبّان)(6)

فكلّ هذه الروايات تؤكّد حقيقة واحدة، مفادها: أنّ المسجد الحرام


1- صحيح مسلم بشرح النووي، النووي، ج٩، ص ١٠6.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج٣، ص٣5؛ السنن الكبرى، النسائي، ج6، ص 4١١؛ مسند أبي يعلى، ج4، ص١٨٣.
3- مجمع الزوائد، الهيثمي، ج4، ص4.
4- السلسلة الصحيحة، الألباني، ج4، ص٢٠4.
5- صحيح الترغيب والترهيب، الألباني، ج٢، ص٢٨.
6- صحيح ابن حبّان، ج4، ص4٩5.

ص:49

ومسجد النبيّ أفضل الأماكن التي يجب قصدها، وليس نهياً عن قصد غيرها. فالسفر إذن لزيارة المشاهد والأضرحة ولئن لم تكن هي الأفضل درجة، لكنّها ممّا يشتمل على الفضل ويرغب في زيارته.

أمّا الرواية الثانية، فهي ما يروى عن عائشة عن النبيّ الكريم (ص) : «قالت: قال رسول الله [ص]: أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء. أحقّ المساجد أن يزار وتشدّ إليه الرواحل: المسجد الحرام ومسجدي؛ صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام»(1)

فهذه الرواية أيضاً تؤكّد على أفضلية المسجد الحرام ومسجد النبيّ (ص) على بقية البقاع والمساجد في الأرض، وتحثّ على السفر إليهما لِما في ذلك من تمام الفضيلة. ولكنّها لا تنفي الفضيلة في زيارة بقع أخرى مباركة من الأرض، كقبر النبيّ الأكرم (ص) الذي هو أشرف بقاع الأرض تربة، وقبور الأولياء والأئمّة المعصومين، بل إنّما تؤكّد على أفضلية هذين المسجدين دون نفي شيءٍ عمّا عداهنَّ.

وهنا نرى أمثال ابن تيميّة، ولأجل إثبات دعواه ورأيه، يغض الطرف عن هذه الروايات ويتّبع طريق المكر والتدليس لإيهام المتعلّمين.

فابن قدامة (م 6٢٠) نسب نظرية حرمة السفر بقصد زيارة القبور إلى ابن عقيل. والنووي (م 6٧6) الذي تحتل آراؤه موضع اهتمام في الوسط السنّي يقول: «والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنّه لا يحرم ولا يكره، قالوا: والمراد أنّ الفضيلة


1- مجمع الزوائد، ج4، ص4؛ كنز العمّال، ج١٢، ص٢٧٠؛ الدر المنثور، ج٢، ص54؛ تهذيب الكمال، ج٨، ص45١.

ص:50

التامّة إنّما هي في شدّ الرحال إلى هذه الثلاثة خاصّة» .

وابن تيميّة (م ٧٢٨) - الذي وصف من قبل كثير من علماء السنّة بأنّه مبتدعٌ فاسق كافر - يقول: «وكلّ هذا ضلال عن الدين باتّفاق المسلمين، بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور، قبر نبي أو غيره، منهي عنه عند جمهور العلماء، حتّى أنّهم لا يجوّزون قصر الصلاة فيه بناء على أنّه سفر معصية» ! !

المسألة الثانية: استحباب السفر لغرض زيارة قبور الأنبياء والأولياء
١- استحباب السفر لزيارة قبر النبى الكريم (ص)
اشاره

توجد عدّة أدلّة على استحباب السفر بقصد زيارة قبر النبيّ الكريم (ص) ، منها:

الدليل الأوّل: القرآن الكريم

يقول تعالى في كتابه الكريم: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً(1)

تدلّ هذه الآية على دعوة الناس للمجيء إلى النبيّ (ص) والاستغفار عنده واستغفار النبيّ لهم. ولا يختلف الحال بين كون النبيّ الكريم (ص) موجوداً بشخصه المادي بينهم أو بعد وفاته، خصوصاً حين نأخذ بنظر الاعتبار الأحاديث الدالّة على أنّ الأنبياء صلوات الله عليهم أحياءٌ في قبورهم:

«الأنبياء أحياء في قبورهم»(2)

أضف إلى ذلك أنّ جملة إِذْ ظَلَمُوا فعلٌ وقع في سياق الشرط،


1- النساء: 64.
2- مجمع الزوائد، ج٨، ص٢١١؛ مسند أبي يعلى، ج6، ص ١4٧؛ الجامع الصغير، ج٢، ص 4٧٧؛ تاريخ مدينة دمشق، ج١٣، ص ٣٢6.

ص:51

فيكون بحسب أقوال علماء أصول الفقه من صيغ العموم(1). فتكون الآية عامّة وشاملة لحال النبيّ على قيد الحياة أو بعد وفاته (ص) .

وقد فهم المفسّرون ذلك من الآية، وكثير منهم نقل في ذيل تفسيره هذه الآية الحكاية المشهورة عن العتبى. قال: كنت جالساً عند قبر النبيّ [ص] فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربّي. . .»(2)

الدليل الثانى: الروايات

فقد نقلت لنا روايات كثيرة حول زيارة قبر النبيّ الكريم (ص) ، نذكر هنا بعضها:

١- «عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله [ص]:

من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له شهيداً يوم القيامة. أو قال: شفيعاً»(3)

٢- «عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله [ص]:

من حجّ فزار قبري بعد موتي، كان كمن زارني في حياتي»(4)


1- الإبهاج، ج٢، ص ١٠6؛ الاعتصام، ج١، ص 46٧؛ البرهان في أصول الفقه، ج١، ص٢٣٢؛ التمهيد الأسنوي ، ج١، ص٣٢4.
2- تفسير ابن كثير، ج١، ص5٣٢؛ الدر المنثور، ج١، ص٢٨٣؛ تفسير الثعالبي، ج٢، ص٢5٧؛ وانظر كذلك: الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي ، ج5، صص ٢65 و ٢66.
3- ضعفاء العقيلي، ج٣، ص45٧؛ ميزان الاعتدال، ج٣، ص ٣4٨.
4- الجامع لشعب الإيمان، ج٣، ص4٨6؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج5، ص ٢46؛ الكامل، ابن عدي، ج٢، ص٣٨٢؛ ميزان الاعتدال، ج١، ص55٩؛ الدر المنثور، ج١، ص٢٣٧؛ المعجم الأوسط، ج٣، ص٣5١؛ المعجم الكبير، ج١٢، ص٣١٠؛ كنز العمّال، ج5، ص ١٣5.

ص:52

٣- «عن أنس بن مالك، أنّ رسول الله [ص] قال:

من زارني بالمدينة محتسباً، كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة»(1)

4-

«من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي، ومن مات بإحدى الحرمين، بعث من الآمنين يوم القيامة»(2)

5-

«عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله [ص] يقول: من زار قبري أو قال: من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً»(3)

6-

«من زارني متعمّداً كان في جواري يوم القيامة»(4)

٧- «عن ابن عمر، عن النبيّ [ص] قال:

من حجّ ولم يزرني فقد جفاني»(5)

٨- «عن ابن عمر، عن النبيّ [ص] قال:

من زار قبري وجبت له شفاعتي»(6)

وهذه الروايات يلاحظ فيها أمران:

أوّلهما: أنّ ممّا لا شكّ فيه دلالة هذه الروايات على استحباب زيارة قبر النبيّ (ص) ؛ لأنّها ذكرت فوائد معنوية تترتب على هذه الزيارة، ولم تخصّص الأمر بخصوص الساكنين في المدينة، بل شملت غيرهم،


1- الجامع لشعب الإيمان، ج٣، ص4٨٩؛ تاريخ جرجان، ص٢٢٠؛ الشفاء ص٨٢؛ الجامع الصغير، ج٢، ص6٠5؛ الدر المنثور، ج١، ص٢٣٧؛ كنز العمّال، ج١٢، ص ٢٧٢؛ ميزان الاعتدال، ج١، ص5٣.
2- الجامع لشعب الإيمان، ج٣، ص4٨٨؛ كنز العمّال، ج5، ص ١٣5؛ الدر المنثور، ج١، ص٢٣٧؛ لسان الميزان، ج6، ص٢45؛ ميزان الاعتدال، ج4، ص٢٨5.
3- السنن الكبرى، البيهقي، ج5، ص٢45؛ مسند أبي داود الطيالسي، ص١٣؛ الجامع لشعب الإيمان، ج٣، ص4٨٨؛ الدر المنثور، ج١، ص٢٣٧.
4- الجامع لشعب الإيمان، ج٣، ص4٨٨؛ كنز العمّال، ج5، صص ١٣5و ١٣6؛ ميزان الاعتدال، ج4، ص٢٨5؛ لسان الميزان، ج4، ص١٨٠.
5- الدر المنثور، ج١، ص٢٣٧.
6- مجمع الزوائد، ج4، ص٢؛ الجامع الصغير، ج٢، ص6٠5.

ص:53

وخصوصاً الروايات التي أشارت إلى ذلك.

ثانيهما: أنّ كثيراً من هذه الروايات وإن كان يعاني من مشاكل سَنَدية، ولكن يجوز الاعتماد عليها للأسباب التالية:

١ - إنّ هذه الأحاديث وإن لو نظر لكلّ منها بشكل منفرد لم تكن قابلة للاعتماد، ولكن النظر لها بشكل مجتمع - خصوصاً أفضلية بعض أسانيدها إلى حدٍّ ما - فإنّ بعضها يقوّي بعضاً فيصحّ الاعتماد عليها.

فبخصوص الحديث الأوّل، يقول العقيلي: «وهذا يروى بغير هذا الإسناد من طريق أيضاً فيه لِين» (1)، وكذلك الذهبي يقول: «ويروى في هذا شيء أمثل من هذا» (2)، ويقول ابن حجر العسقلاني: «طرق هذا الحديث كلّها ضعيفة، لكن صحّحه من حديث ابن عمر أبوعلي بن السكن في إيراده إياه في أثناء السنن الصحاح له، وعبد الحق في الأحكام في سكوته عنه، والشيخ تقي الدين السبكي من المتأخّرين باعتبار مجموع الطرق» (3)

ويقول عبد الحي اللكنوي، وهو من علماء القرن الثاني عشر، في كتاب (شرح موطّأ مالك) :

«وأكثر طرق هذه الأحاديث وإن كانت ضعيف، لكنّ بعضها سالم عن الضعف القادح، وبالمجموع يحصل القوّة كما حقّقه الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير) ، والتقي السبكي في كتابه (شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام) ، وقد أخطأ بعض معاصريه، وهو ابن تيميّة، حيث


1- ضعفاء العقيلي، ج٣، ص45٧.
2- ميزان الاعتدال، ج٣، ص ٣4٨.
3- التلخيص الحبير، ج٧، ص4١٨.

ص:54

ظنّ أنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب كلّها ضعيفة، بل موضوعة»(1)

٢ - الاستدلال بهذه الأحاديث من قبل كثير من فقهاء أهل السنّة على استحباب السفر بقصد زيارة قبر الرسول. يقول الرافعي في كتاب (فتح العزيز) :

«ويستحب أن يشرب من ماء زمزم، وأن يزور بعد الفراغ من الحجّ قبر رسول الله [ص]، وقد روي عنه أنّه قال: (من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي، ومن زار قبري فله الجنّة)»(2)

ويقول ابن قدامة: «ويستحب زيارة قبر النبيّ [ص] لِما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله [ص]: (من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي) ، وفي رواية: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)» (3)

كذلك البهوتي في (كشف القناع) يقول: «(وإذا فرغ من الحجّ استحب له زيارة النبيّ [ص] وقبري صاحبيه) أبي بكر وعمر (رضي الله) تعالى (عنهما) ؛ لحديث الدارقطني عن ابن عمر، قال: قال رسول الله [ص]: من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي. وفي رواية: من زار قبري وجبت له شفاعتي»(4)

ثمّ يكمل في تتمّة كلامه قائلاً: «قال ابن نصر الله: لازم استحباب زيارة قبره [ص] استحباب شدّ الرحال إليها؛ لأنّ زيارته للحاج بعد حجّه لا تمكن بدون شدّ الرحل. فهذا كالتصريح باستحباب شدّ الرحل


1- شرح موطأ مالك، اللكنوي، ج٣، ص44٨.
2- فتح العزيز، ج٧، ص 4١٧.
3- المغني، ج١، ص5٨٨.
4- كشف القناع، ج٢، ص5٩٨.

ص:55

لزيارته [ص]»(1)

وفي مكان آخر اعتبر زيارة قبر النبيّ من المستحبّات للرجال والنساء، مستدلاً بعموم رواية ابن عمر(2)

ويقول ملا علي القاري في (مراقي الفلاح) : «لمّا كانت زيارة النبيّ [ص] من أفضل القرب وأحسن المستحبّات، بل تقرب من درجة ما لزم من الواجبات، فإنّه [ص] حرّض عليها وبالغ في الندب إليها، فقال: (من وجد سعة ولم يزرني فقد جفاني) ، وقال [ص]: ( من زار قبري وجبت له شفاعتي) ، وقال [ص]: (من زارني بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي) إلى غير ذلك»(3)

ويقول محمّد بن الشربيني: «(و) تسنّ (زيارة قبر رسول الله [ص]) لقوله [ص]: من زار قبري وجبت له شفاعتي. رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومفهومه أنّها جائزة لغير زائره»(4)

وهكذا استدل بهذه الرواية آخرون كثيرون من فقهاء أهل السنّة، وهذا يدلّ على أنّ ضعفها السندي لا يقصر بها عن مقام الاستدلال.

٣ - على فرض أن قبلنا أنّ سند هذه الأحاديث ضعيف، فإنّ قاعدة التسامح في أدلة السنن تدفع باتّجاه قبول هذه الروايات والاستدلال بها على استحباب السفر بقصد زيارة قبر الرسول (ص) .

فالنووي في مقام ذكره لبعض مستحبّات البيت الحرام استدلّ


1- كشف القناع، ج٢، ص5٩٨.
2- المصدر نفسه، ج5، ص٣٧.
3- مراقي الفلاح، ج١، ص٢٩٨.
4- مغني المحتاج، ج١، ص5١٢.

ص:56

ببعض الروايات الضعيفة وعلّق بقوله: «وقد سبق مرّات أنّ العلماء متّفقون على التسامح في الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال ونحوها ممّا ليس من الأحكام، والله أعلم»(1)

الدليل الثالث: عمل الصحابة والتابعين

فإنّ من الأعمال التي قام بها الصحابة، كما ينقل لنا التاريخ، سفرهم بقصد زيارة قبر الرسول (ص) . وممّن سافر بقصد زيارة قبر النبيّ الكريم (ص) بلال بن رياح (بلال الحبشي) مؤذّن رسول الله (ص) ، حيث سافر متّجهاً من الشام إلى المدينة لهذا الغرض.

يقول ابن عساكر: «ثمّ إنّ بلالاً رأى في منامه النبيّ [ص] وهو يقول له: (ما هذه الجفوة يا بلال؟ ! أَمَا آن لك أن تزورني يا بلال؟ !) ، فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبيّ [ص] فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه، وأقبل الحسن والحسين فجعل يضمّهما ويقبّلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذّنه لرسول الله [ص] في السَّحر، ففعل»(2)

أمّا الشوكاني في (نيل الأوطار) ، حين ينقل قصّة سفر بلال إلى زيارة قبر الرسول (ص) عن ابن عساكر، يعلّق قائلاً: «وقد رويت زيارته [ص] عن جماعة من الصحابة منهم بلال عند ابن عساكر بسندٍ جيّد»(3).

وكذلك ينقلها كلّ من: أبي بكر الدمياطي في كتاب (إعانةالطالبين)(4)، وابن أثير في (أسد الغابة) (5)، والذهبي في (سير


1- المجموع، ج٨، ص ٢6١.
2- تاريخ مدينة دمشق، ج٧، ص ١٣٧.
3- نيل الأوطار، ج5، ص١٨٠.
4- إعانة الطالبين، ج١، ص٢6٧.
5- أسد الغابة، ج١، ص٢٠٨.

ص:57

أعلام النبلاء)(1)

ومن المعروف أيضاً عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان دائماً يُرسل إلى المدينة رسولاً يُبلغ سلامه للنبيّ (ص) ويرجع (2)

وكذلك ممّا هو معروف أنّ عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار الذي أسلم حديثاً: «هل لك أن تسير معي إلى المدينة، وتزور قبر النبيّ [ص] وتنتفع بزيارته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أفعل ذلك»(3)، وسافر معه إلى المدينة.

فهذه نماذج ممّا سطّره وحفظه لنا التاريخ من أسفار الصحابة والتابعين بقصد زيارة قبر النبيّ الكريم (ص) .

٢. استحباب السفر لزيارة قبور الأئمّة (عليهم السلام) والأولياء
اشاره

مع غضّ النظر عن الروايات الكثيرة المعتبرة التي وردت عن طريق الشيعة في خصوص زيارة قبورهم (عليهم السلام) ، وكذلك ما في هذه الزيارة من بركة وألطاف لمسها كثير من المسلمين، شيعة وسنة، ممّن تشرّفوا بزيارة هذه المراقد، وعلى الرغم من عدم ورود روايات خاصّة بزيارة قبور الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في كتب الحديث السنّية، لكن ومع ذلك، يمكن أن نذكر عدّة أدلّة أخرى على استحباب السفر لزيارة قبور الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) :

الدليل الأول

حديث:

«نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» حيث ذكر فيه أنّ


1- سير أعلام النبلاء، ج١، ص٣5٨.
2- البداية والنهاية، ج٩، ص ٢١4.
3- دفع الشبه عن الرسول، ص١٣٠.

ص:58

العلّة في الأمر بالزيارة: التذكير بالآخرة، أو بالموت، وأنّ فيها عبرة، وأنّها تزهّد بالدنيا، وأنّها تُرقّ القلب وتُدمع العين. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الآثار المترتبة تكون آكد في زيارة قبور الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ؛ وذلك لِما في زيارتهم من تذكّر لمقارعتهم الظالمين، وما لحق بهم جرّاء ذلك، وإحياءً لمظلوميّتهم ومصيبتهم، فتدمع العين لأجل ذلك، وما في ذلك من تزهيد بالدنيا وزخرفها.

فبناءً على ذلك، يكون الأمر (فزوروها) دالّاً بشكل مؤكّد على استحباب زيارة قبورهم (عليهم السلام) بطريق أولى. ولازم هذا الاستحباب استحباب السفر بقصد هذه الزيارة.

الدليل الثانى

ممّا لا شكّ فيه أنّ زيارة أولياء الله - وخصوصاً المعصومين (عليهم السلام) - والسفر إلى أضرحتهم وقبورهم المباركة بقصد الزيارة، فيه إحياءٌ لذكرهم ونهجهم الصالح، وإحياء نهجهم وفكرهم مصداق متيقّن من مصاديق إحياء شعائر الله تعالى؛ لأنّ تذكّر عليّ بن أبي طالب، إنّما هو تذكّر لقيم العدالة والمساواة والتقوى والإخلاص في سبيل الله تعالى، وإعانة الفقراء والمعدمين. وتذكّر الحسن والحسين تذكّر لرموز الرفض للظلم، وإحياء لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتثقيف للأمّة بثقافة الشهادة في سبيل المبادئ. وتذكّر الإمام السجاد تذكّر لأوضح مصاديق زمانه في النسك والتقوى والزهد والعبادة المخلصة لله تعالى والخضوع له تعالى.

وإحياء ذكر الأئمّة الباقر والصادق وباقي الأئمّة إنّما هو رفع لراية العلوم الإسلامية، والتحصّن ضدّ الثقافات الدخيلة على المنهج

ص:59

الإسلامي الأصيل. وكلّ ذلك ينطبق عليه عنوان شعائر الله تعالى، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(1)

الدليل الثالث

إنّ السيرة العملية للمسلمين قائمة على زيارة قبور الأولياء، وبالخصوص الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) . يقول ابن حجر العسقلاني في كتاب (تهذيب التهذيب) :

«. . . قال: وسمعت أبا بكر محمّد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشائخنا، وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، قال: فرأيت من تعظيمه - يعنى ابن خزيمة لتلك البقعة - وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما يحيّرنا» (2)

وقال ابن حبان في كتابه الثقات: قد زرته مراراً كثيرة وما حلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جدّه وعليه ودعوت الله ازالتها عنّى الا استجيب لي وزالت(3)


1- الحج: ٣٢.
2- تهذيب التهذيب، ج٧، ص ٣٣٩.
3- الثقات، ج٨، ص45٧.

ص:60

ص:61

٢. بناء القبب والأضرحة على القبور

عرض الشبهة

اشاره

من المسائل التي طرحت كإشكال من قبل الوهابيين على أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، مسألة بناء القبب والأضرحة والرواقات حول بعض المزارات وقبور الأنبياء والأولياء والعلماء الصالحين وغيرهم. فهم يشدّدون على هذه المسألة وخصوصاً في مواسم الحجّ الشريف، ويعتبرونها من بدع الشيعة خاصّة، ويفتون بحرمتها ويوجبون هدم هذه المزارات، التي منها مزار ابن عبّاس في الطائف، وعبد المطلب وأبو طالب وخديجة في مكّة، والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) في البقيع، وبقية الصحابة في المدينة. ويرون عملهم هذا موافقاً للموازين الشرعية ومن الواجبات، وهم يستدلّون على فعلتهم هذه بمجموعة من الأدلّة، مثل:

الدليل الأوّل: الإجماع

وجّه سؤال إلى علماء المدينة في سنة (١٣44ه. ق) مفاده: «ما قول علماء المدينة، زادهم الله فهماً وعلماً، في البناء على القبور واتّخاذها

ص:62

مساجد، هل هو جائز أم لا؟ . . .» .

فكتب خمسة عشر نفراً من علماء المدينة هذا الجواب: «أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً. . .»(1).

الدليل الثانى: رواية أبى الهيّاج

نقل في صحيح مسلم رواية أبي الهيّاج بهذا الشكل: «عن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله [ص]، أن لا تدع تمثالاً إلّا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته» (2).

وقد نقلت هذه الرواية في كتب أهل السنّة الأخرى باختلاف يسير في اللفظ (3)، واستُدلّ بها على عدم جواز البناء على القبور.

الدليل الثالث: روايات أخرى

وجود روايات تدلّ على حرمة البناء على القبور، ووجوب هدم ما شيّد منها. فقد جاء في كتاب صحيح مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة: «حدّثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، قال: نهى رسول الله [ص] أن يجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه» (4). وقد نقلت هذه الرواية في كثير من كتب أهل السنّة (5)


1- نقلاً عن: كشف الارتياب في أتباع محمّد بن عبد الوهاب، ص٢٨٧.
2- صحيح مسلم، ج٣، ص 6١.
3- انظر: مسند أحمد بن حنبل، ج١، صص ٩6 و ١٢٩؛ سنن النسائي، ج4، ص٨٨؛ مستدرك الصحيحين، ج١، ص ٣6٩؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص65٣.
4- صحيح مسلم، ج٣، صص6٢ و 6٣.
5- نيل الأوطار، ج٢، ص ١٣٨؛ ج4، ص١٣٣؛ فقه السنّة، ج١، ص554؛ المصنّف، ابن أبي شيبة، ج٣، ص ٢١٨؛ إرواء الغليل، ج٣، ص٢٠٧؛ سنن النسائي، ج4، ص٨6؛ تاريخ بغداد، ج٣، ص٣١4؛ تفسير القرطبي، ج١٠، ص٣٨٠.

ص:63

وكذلك روى أحمد بن حنبل عن أمّ سلمة نظير هذا الحديث، وجاء نصّ الحديث في مسند أحمد بهذا اللفظ:

«حدّثني أبي، حدّثنا حسن، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أمّ سلمة عن أمّ سلمة قالت: نهى رسول الله [ص] أن يبنى على القبر أو يجصّص»(1)

وكذلك نقل عن أبي سعيد قول النبيّ (ص) :

«أنّ النبيّ [ص] نهى أن يبنى على القبر»(2).

فهذه الروايات تدلّ بظهورها على نهي النبيّ (ص) عن البناء على القبور، وهذا النهي ظاهر في حرمة هذا العمل.

الدليل الرابع: البناء على القبور من الشرك

اعتبر بعضٌ بناء القبور وتشييدها شبيه بإنشاء تماثيل اللات والعزى المشهورين، وهذا مستوجب للشرك المنهي عنه. وممّن أوجب إزالة البناء عن القبور وهدمها بهذا التعليل ابن تيميّة (3)وابن القيّم (4)والشوكاني(5)وابن حجر (6).

الجواب على هذه الشبهة

اشاره

كما بيّنا فقد اعتمد الوهابيّون في فتواهم بحرمة البناء على القبور ووجوب هدم مزارات أعلام الدين على أربعة أدلّة، لكنّ كلّ هذه الأدلّة واهية ولا تدلّ على المدّعى. وإليك التفصيل:


1- مسند أحمد بن حنبل، ج6، صص ٢٩٨ و ٢٩٩.
2- سنن ابن ماجة، ج١، ص4٩٨.
3- منهاج السنّة، ج٢، ص ٣٩.
4- كما نقل في كتاب: كشف القناع، ج٢، ص١6٢.
5- نيل الأوطار، ج4، ص ١٣١.
6- كما نقل ذلك في كتاب: فقه السنّة، ج١، ص54٩.

ص:64

أوّلاً: مناقشة الإجماع على المنع من البناء على القبور

من المتيقّن أنّ مراد المدّعي بالإجماع، إجماع المذاهب الأربعة؛ الشافعية، والمالكية، والحنفية، والحنابلة، على حرمة بناء القبب على القبور ووجوب هدم وإزالة هذه القبب والمزارات المبنيّة مطلقاً. ولكن وبمحض الرجوع إلى كتب هذه المذاهب، يتبيّن كذب هذه الدعوى وفقدانها للمصداقية، وأنّها دعوى جزافية لا ترتكز على أصل؛ فقد جاء في (رسالة ابن أبي زيد) :

«ويكره البناء على القبور وتجصيصها» (1)

و جاء في شرحها:

«(ويكره البناء على القبور) ظاهره مطلقاً، وليس كذلك، بل فيه تفصيل خلاصته: أنّ محل الكراهة إذا كان بأرض مواتٍ أو مملوكةٍ حيث لايأوي إليه أهل الفساد ولم يقصد به المباهاة ولم يقصد به التمييز، وإلّا حرم فيما عدا الأخير وجاز في الأخير»(2)

وجاء في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) :

«يكره أن يبنى على القبر بيت أو قبّة أو مدرسة أو مسجد أو حيطان تحدق به - كالحيشان -. . .»(3)

ويقول المناوي في كتاب (فيض القدير) :

«(نهى أن يقعد على القبر. . . (وأن يقصص) بقاف وصادين مهملتين وهو بمعنى يجصّص. . . (وأن يبني عليه) قبّة أو غيرها، فيكره كلّ من الثلاثة تنزيهاً، فإن كان في مَسْبَلة أو موقوفة، حرم بناؤه والبناء عليه


1- رسالة ابن أبي زيد، ص٢٧5.
2- الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد ، ص٢٧5.
3- الفقه على المذاهب الأربعة، ج١، ص5٣6.

ص:65

ووجب هدمه»(1)

وجاء في شرح النووي لصحيح مسلم: «وأمّا البناء عليه فإن كان في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام، نصّ عليه الشافعي والأصحاب»(2)

وذكر في كتاب (مواهب الجليل) أسماء العديد من العلماء الذين أفتوا بجواز البناء على القبر بقصد تشخيصه(3)

وعلى هذا يتبيّن أنّ كثيراً من علماء أهل السنّة يرون حرمة البناء على القبور في حالتين، هما:

١ - إذا كان القبر في مقبرة موقوفة، ولعلّ السبب أنّ المقبرة مخصّصة لدفن الموتى والبناء يكون زائداً عمّا وُقفت لأجله؛ لأنّ «الوقف على حسب ما يوقفها أهلها» ، فيجوز التصرّف فيها بحسب ما اشترطوا.

٢ - في حالة يكون البناء على القبر لغرض التفاخر والمباهاة به.

وفي غير هاتين الصورتين كان الحكم منهم إمّا بالكراهة أو الجواز.

وهنا نسأل مدّعي الإجماع الموهوم: كيف صحّ لك أن تقول بالإجماع على تحريم البناء على القبور، ووجوب هدمها، مع مخالفة الكثير من فقهاء الإسلام لذلك؟ !

ثانياً: مناقشة الاستدلال برواية أبى الهيّاج

أ- سند الرواية
اشاره

يوجد في سند هذه الرواية خمس رواة، وهم مذمومون في كتب الحديث والرجال:


1- فيض القدير، ج6، ص4٠٢.
2- شرح صحيح مسلم، ج٧، ص٢٧.
3- مواهب الجليل، ج٣، صص6٠ و 6١.

ص:66

١. وكيع

مع أنّ وكيع بن الجرّاح كان يُمدح في كتب أهل السنّة لشدّة حفظه، لكن قال في حقّه عبد الله بن أحمد بن حنبل: «سمعت أبي يقول: أخطأ وكيع بن الجرّاح في خمسمائة حديث»(1)! !

وقال محمّد بن نصر المروزي: «كان يحدّث بآخره من حفظه، فيغيّر ألفاظ الحديث، كأنّه كان يحدّث بالمعنى، ولم يكن من أهل اللسان»(2)

٢. سفيان

أمّا فيما يتعلّق بسفيان الثوري، فقد نقل أنّه يدلّس في الحديث (3)

٣. حبيب بن أبى ثابت

فقد قيل في حقّه: إنّه يدلّس في الأحاديث(4)

4- أبو وائل

شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي، فقد وثّق في كثير من كتب رجال أهل السنّة (5). ولكن عرّف في بعضها الآخر بأنّه أحد المنحرفين عن علي (ع) (6)


1- تاريخ بغداد، ج٢، ص ٣4٨؛ تهذيب التهذيب، ج١١، ص١١٠؛ سير أعلام النبلاء، ج٩، ص١54؛ تاريخ مدينة دمشق، ج6٣، ص٩٨؛ تهذيب الكمال، ج٢٣، ص٢٠٨؛ ج٣٠، ص4٧١.
2- تهذيب التهذيب، ج١١، ص١١4.
3- المصدر، ج4، ص١٠٢؛ ج١١، ص١٩٢.
4- التبيين لأسماء المدلّسين، ص١٩؛ تهذيب التهذيب، ج٢، ص١5٧.
5- الجرح والتعديل، ج4، ص٣٧١؛ الثقات، ابن حبّان، ج4، ص٣54؛ معرفة الثقات، ج١، ص45٩؛ تهذيب الكمال، ج١٢، صص54٧ - 554؛ سير أعلام النبلاء، ج4، صص ١6١ - ١64؛ تهذيب التهذيب، ج4، ص ٣١٧.
6- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج4، ص٩٩.

ص:67

5-أبو الهيّاج

وهو حيّان بن حصين أبو الهيّاج الأسدي، فقد وثّق كذلك وعرّف بأنّه من أصحاب أمير المؤمنين علي (ع)(1). ولكن إذا تتبّعنا كتب الحديث لا نرى له رواية تروى عنه غير هذا الحديث. وهذا ما أكّده السيوطي في كتاب (شرح سنن النسائي) بقوله: «ليس له في الكتب إلّا هذا الحديث الواحد» (2).

وعلى ما بينّاه من حال الرواة لا يمكن للفقيه المحقّق الاعتماد على مثل هكذا حديث قد وقع جرح في رواته بهذا الشكل.

ب - دلالة الرواية

فهذه الرواية قابلة للنقاش في دلالتها أيضاً، حيث إنّها لا تثبت مدّعى الوهابيين؛ فهم يدّعون أنّ البناء حول القبر محرّم، وأنّ هدم القبور والقبب المبنية عليها واجب. ولكنّ هذه الرواية لا تثبت من مدّعاهم شيئاً، وذلك لأمرين:

أحدهما: ليس في الرواية إشارة لتخريب القبور وهدم ما بني عليها، بل الرواية تقول: «ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته» والوقوف على معنى هذه العبارة يحتاج لمعرفة معنى كلمتي (مشرفاً) و (سوّيته) .

فكلمة (مشرفاً) مشتقة من الشَّرَف، والشرف: العلو، والمكان العالي (3). وقال آخرون: «الشرف كلّ نشزٍ من الأرض قد أشرف على ما حوله»(4)


1- معرفة الثقات، العجلي، ج٢، ص4٣5؛ الثقات، ، ابن حبّان، ج4، ص١٧٠.
2- شرح سنن النسائي، ج4، ص٨٩؛ حاشية السندي على النسائي، ج4، ص٨٨.
3- الصحاح، ج4، ص١٣٧٩؛ النهاية، ابن أثير، ج٢، ص46٢؛ القاموس المحيط، ج٣، ص١5٧.
4- لسان العرب، ج٩، ص١٧٠.

ص:68

أمّا كلمة (تسوية) فيقول في القاموس المحيط: «وسوّاه تسويةً وأسواه: جعله سويّاً»(1)

ومع الأخذ بنظر الاعتبار معنى الكلمتين السابقتين في اللغة، يكون من الواضح أنّ المراد بالقبر المشرِف في الرواية، والمأمور بتسويته، القبرُ المرتفع كثيراً وبعض جوانبه غير متساوية مع جوانبه الأخرى، ويشبه سنام الجمل. والمراد من تسوية القبر: تسطيحه وجعله مستوياً بخلاف ما كان عليه من التعرّج والتحدّب وعدم الانتظام. وعلى هذا فتكون رواية أبي الهيّاج غير دالّة على حرمة البناء على القبور أو وجوب هدم ما بني عليها.

ومن هنا جاء الاتّفاق بين فقهاء المسلمين على استحباب ارتفاع القبر بمقدار أربع أصابع أو شبر. فالشيعة(2)والشافعية(3)أفتوا باستحباب تسطيح القبر، أي: جعله مسطّحاًً، والحنابلة والحنفية والمالكية(4)أفتوا باستحباب تسنيم القبر وجعل سطحه كالسنام.

واستند الفقهاء في فتواهم باستحباب تسطيح القبر بالإضافة إلى رواية أبي الهيّاج، على رواية أبي داود عن قاسم بن محمّد بن أبي بكر. فقد استند على الأخيرة كلّ من القسطلاني في (إرشاد الساري)(5)، وابن حجر العسقلاني في (التلخيص الحبير)(6)، والنووي في (المجموع)(7)،


1- القاموس المحيط، ج4، ص ٣45.
2- تذكرة الفقهاء، ج٢، ص٩٧؛ رياض المسائل، ج٢، ص٢٢٣.
3- الأم، ج١، ص٣١٧.
4- الفقه على المذاهب الأربعة، ج١، ص5٣5.
5- إرشاد الساري، ج٢، ص4٧٧.
6- التلخيص الحبير، ج5، ص ٢٢5.
7- المجموع، ج5، ص٢٩5.

ص:69

وابن قدامة في (المغني)(1)، ونصّ الرواية هو:

«روى أبو داود بإسنادٍ صحيح أنّ القاسم بن محمّد بن أبي بكر قال: دخلت على عائشة، فقلت لها: اكشفي لي عن قبر النبيّ [ص] وصاحبيه، فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولالاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء» .

فالشيعة يعتقدون أنّ تسطيح القبور من السنّة، وأنّ تسنيمها كما يفعل أهل السنّة بدعة. وقد اعترف محي الدين النووي بذلك، وهو من كبار فقهاء السنّة، قائلاً:

«(الثالثة) تسطيح القبر وتسنيمه، وأيّهما أفضل؟ فيه وجهان: (الصحيح) التسطيح أفضل، وهو نصّ الشافعي في الأم ومختصر المزني، وبه قطع جمهور أصحابنا المتقدّمين وجماعات من المتأخّرين منهم الماوردي والفوراني والبغوي وخلائق. وصحّحه جمهور الباقين، كما صحّحه المصنّف، وصرّحوا بتضعيف التسنيم كما صرّح به المصنّف. . . وادّعى القاضي حسين اتّفاق الأصحاب [على أفضلية التسطيح] وليس كما قال. . . وردّ الجمهور على ابن أبي هريرة في دعواه أنّ التسنيم أفضل لكون التسطيح شعار الرافضة. فلا يضر موافقة الرافضي لنا في ذلك»(2).

ويقول في مكان آخر: «إنّ السنّة أنّ القبر لا يرفع على الأرض رفعاً كثيراً ولا يسنّم، بل يرفع نحو شبر ويسطّح» (3).

من خلال ما أوضحناه من نقاش حول رواية أبي الهيّاج من ناحية


1- المغني ابن قدامة، ج٢، ص ٣٨4.
2- المجموع، ج5، ص ٢٩٧.
3- شرح مسلم، النووي، ج٧، ص٣6.

ص:70

السند والدلالة، تبيّن أنّ هذه الرواية لا يوجد فيها أيّ إثبات لمدّعى الوهابية في تحريم البناء على القبور أو وجوب هدمها.

ثانيها: على فرض أنّ المراد من التسوية هو هدمها وتسويتها بالأرض، ولكن يحتمل أنّ المراد خصوص قبور المشركين؛ وذلك بقرينة عبارة: «ولاتمثالاً إلّا طمسته» ؛ لأنّ المشركين كانوا يضعون تماثيلاً على قبور موتاهم، ويعبدونها. وأراد نبيّ الإسلام المكرّم (ص) محو آثار الشرك والوثنية، فأمر بنبش هذه القبور؛ لأنّها تمثّل آثاراً وجذوراً للشرك وعبادة الوثن دون عبادة الواحد الأحد. . وقد احتمل المارديني في كتاب (الجوهرالنقي) (1)هذا الاحتمال وقبله.

ثالثاً: مناقشة روايات النهى عن البناء على القبور

أ. سند الروايات

أمّا رواية جابر فهي ضعيفة سنداً، لوجود ابن جريح و أبي الزبير فيها.

ففيما يخصّ ابن جريح، وهو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح، فقد تضاربت فيه الأقوال، وثّقه وجعله موضع اطمئنان كلّ من العجلي، وابن حبّان، وابن معين.

وآخرون كثيرون، كيحيى بن سعيد، أحمد بن حنبل، مالك بن أنس، والدارقطني، اعتبروه ضعيفاً ومدلّساً وغير دقيق(2)

وقد نقل عن أحمد بن حنبل أنّه قال عن أبي الزبير: «قال أبي: كان


1- الجوهر النقي، ج4، ص٢.
2- تهذيب التهذيب، ج6، صص٣5٧ - ٣6٠.

ص:71

أيوب يقول: حدّثنا أبو الزبير. وأبو الزبير أبو الزبير! قلت لأبي: يضعّفه؟ قال: نعم»(1)

أمّا رواية أحمد بن حنبل، فهي ضعيفة لوجود (ابن لهيعة) ، فقد جاء في كتاب (تاريخ ابن معين) ، «قلت: كيف رواية ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر؟ فقال: ابن لهيعة ضعيف الحديث»(2)

ونُقلت عن يحيى بن سعد هذه العبائر في تضعيف ابن لهيعة: (ضعيف الحديث) ، (ضعيف) ، (لا يحتجّ بحديثه) ، (لا يراه شيئاً) ، (ضعيف قبل أن يحترق كتبه وبعد ما احترقت)(3)

ويقول ابن حبّان فيه: «كان شيخاً صالحاً، ولكنّه يدلّس عن الضعفاء قبل احتراق كتبه»(4)

أمّا رواية ابن ماجة، التي ذكر فيها شخص باسم (وهب) وهو مشترك بين سبعة عشر نفراً كلّهم ما بين وضّاع وكذّاب، لذا تكون أيضاً ساقطة عن الاعتبار ولا يعتمد على سندها.

ب. دلالة الروايات

أمّا الروايات التي استُدلّ بها، ففيها من الاختلاف الكبير ما بين ألفاظها ما لا يساعد على إثبات دعوى الوهابيين في تحريمهم البناء على القبور، أو وجوب هدمها؛ وذلك:

١ - أنّ المنهي عنه في الروايات عدّة أشياء، مثل:


1- تهذيب التهذيب، ج٩، ص٣٩١.
2- تاريخ ابن معين، ص١5٣.
3- الكامل، ابن عدي، ج4، صص١44 - ١46؛ تهذيب التهذيب، ج5، صص ٣٢٧ - ٣٣١.
4- كتاب المجروحين، ابن حبّان، ج٢، ص١١؛ والمراد من التدليس: نقل الراوي للرواية التي سمعها وفي سندها شخص ضعيف بدون ذكر هذا الشخص.

ص:72

- إحداث البناء فوق القبور.

- تجصيص القبور.

- المشي على القبور.

- الجلوس على القبور.

ولمّا كان الإسلام يولي عناية واحترام للإنسان الميت، كما هو حاله حين كان حيّاً، نراه قد نهى عن كثير من الأفعال التي توجب هتكاً لحرمة الميت، وفيها دلالة على عدم التوقير والاحترام له، فنلاحظ أنّ ممّا نهى عنه الشارع أموراً توجب ممارستها إهانة للميت وتقليلاً من احترامه، كالجلوس على القبر والمشي عليه، فليس من البعيد أن يراد من الأمور الأخرى خصوص ما يشترك في صفته مع مثل هذه الأمور الموجبة لتوهين وعدم احترام للميت، وبالتالي يمكن تفسيرها في سياق النهي عنها لأجل الحفاظ على حرمة الإنسان الميت.

فمثلاً: ربّما يكون المراد من النهي عن البناء، خصوص بناء البيوت الشخصية؛ لأنّ هذا الأمر يوجب الجلوس والمرور على القبور ممّا يؤدّي إلى زوال القبور واندراسها بالتدريج، وبالتالي يكون نوع من عدم الاحترام لصاحب هذا القبر. وحينئذٍ يكون البناء المعدّ للحفاظ على سلامة القبر أو راحة الزائرين له أو لتعيين القبر، غير داخل في البناء المنهي عنه شرعاً.

وممّا يؤيّد ذلك وجود البناء على بعض قبور الأنبياء والأولياء قبل الإسلام وبعده، مثل: قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف في بيت المقدس، وبعض الأنبياء في العراق، وقبر السيّدة حواء في جدّة، وليس في تاريخ الإسلام أثرٌ للأمر بتخريبها وهدمها.

ص:73

وأيضاً ممّا يؤيّد ذلك، بناء المسلمين الأضرحة والقبب على قبور الأنبياء والأولياء والأئمّة والعلماء الصالحين وعلى طوال ألف وثلاثمائة سنة، فحافظوا على بقاء ذكراهم حيّة في ذاكرة الأمّة، ولم يعترض أحد على بناء قبّة أو ضريح أو رواق حتّى زمان (ابن عبد الوهّاب) .

وكمؤيّد ثالث، فهذا قبر النبيّ الكريم وأبو بكر وعمر في بيت عائشة، وإلى يومنا هذا وبعد مرور أربعة عشر قرناً لا يزال المكان على حاله بدون أيّ تغيّر عدا ما يتمّ من عمران وترميم، ولم نسمع يوماً من أفتى بوجوب هدمه الا الوهابية.

وكمؤيّد رابع لما ذكرنا، الحديث المروي عن أبي هريرة عن النبيّ (ص) بأنّه قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر»(1)

وهذا دليل على أنّ إحداث البيوت الشخصية على المقابر وجعل هذه البيوت مقابر لدفن الموتى، ممّا يعدّ إهانة للموتى، من الأعمال المنهي عنها. وليس النهي متوجّهاً لإحداث أيّ بناءٍ آخر ولغرض مختلف.

٢- على فرض التسليم أنّ النهي صدر من النبيّ (ص) وثبتت نسبتها له، وأيضاً على فرض قبول دلالتها على أنّها تنهى عن كلّ بناء أيّاً كان شكله، ولكن مع ذلك نقطع بأنّ النهي هنا دالّ على الكراهة وليس على الحرمة؛ لأنّ المفهوم من هذه الجملة كراهة البناء على القبر، ولذا نجد أنّ الكثير من فقهاء أهل السنّة أفتى بكراهة البناء على القبور، وقد قلنا سابقاً: إنّ أكثر علماء أهل السنّة على فتوى الكراهة ولا يوجد إجماع - كما ادّعي -


1- مسند أحمد بن حنبل، ج٢، ص٢٨4؛ صحيح مسلم ج٢، ص ١٨٨؛ سنن الترمذي، ج4، ص٢٣٢؛ فتح الباري، ج١، ص44١؛ السنن الكبرى النسائي، ج6، ص ٢4٠؛ كنز العمّال، ج١5، ص٣٩١.

ص:74

على الإفتاء بالحرمة.

فيتبيّن أنّ هذه الروايات، حتّى مع غضّ النظر عن سندها وبعض الإشكالات الأخرى عليها، أقصى ما تدلّ عليه كراهة البناء على القبور، ولا تدلّ على حرمة البناء أو وجوب تخريبه بتاتاً.

رابعاً: مناقشة الدليل الرابع

اشاره

هل البناء على قبور الأولياء من الشرك؟

يقول الوهّابيون: إنّ الشيعة يبنون قبور الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين وعلماء الدين ببناء فخم وقبب مرتفعة كبيرة وأروقة واسعة عظيمة، ويقصدونها للزيارة والتعظيم والتقديس، ويبكون عندها ويتوسّلون، وكلّ هذه الأعمال من الشرك بالله تعالى، وأعظم من عبادة الأوثان.

نقول في ردّ هذا الافتراء العظيم: إنّ الله تعالى أمر في دينه الإسلامي بتعظيم واحترام الجنائز، ونجده قد أعطى أوامر خاصّة تدلّ على مثل هذا الاحترام والتوقير، من قبيل:

١- تغسيل الأموات وتحنيطهم.

٢- تكفينهم بكفن نظيف من القماش.

٣- الصلاة على الميّت قبل دفنه.

4- تشييع جنازة المتوفّى.

5- إقامة العزاء على روحه.

6- رفع قبره عن الأرض بمقدار أربع أصابع أو شبر(1)


1- احكام الجنائز، الألباني، صص 4٧ - ١6٢.

ص:75

وكلّ هذه الأمور تدلّ على رجحان توقير الميت واحترامه وإعظامه وتكريمه.

وممّا لا شكّ فيه أنّ جنائز الموتى من الأولياء والصلحاء أولى بالاحترام والتجليل وأكثر أهمية. وعلى هذا فما المشكلة أن نقوم بالحفاظ على القبر وبناء ضريح عليه من باب الاحترام والتبجيل والتوقير؟ !

ثمّ إنّنا نتساءل: ما هو المراد من قولكم: إنّ توقير واحترام الشيعة للقبور شركٌ؟

فإذا كان مرادكم من ذلك أنّ الشيعة يلجأون للقبور للاستجارة بها وعبادتها بدلاً من الله الواحد الأحد، فهذا الأمر إن كان متحقّقاً في الواقع فهو شرك نعوذ بالله منه، وعلى كلّ المسلمين محاربته. ولكن من المتيقّن أنّ مثل هكذا أمر غير موجود، وإنّما هي إشاعات مغرضة من ابن تيميّة وابن القيّم وبعض المتشدّدين الآخرين من أهل السنّة، وتخبّط أعمى منهم.

وحين نزور هذه الأضرحة والمراقد المباركة، لا نجد سوى عبادة الله الواحد القهّار، وعلى العكس فالناس عندما يأتون إلى هذه الأماكن، ليس فقط تراهم لا يغفلوا عن عبادة الله تعالى، كما ادّعى المغرضون، بل يعيشون حالات إيمانية ومعنوية، ومحاسبة النفس أمام الله تعالى، والدعاء والتضرّع إليه تعالى.

ففي زيارة النبيّ (ص) والإمام (ع) نخاطبه:

«أشهد أنّك أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر» .

فكيف يمكن لكم أن تتّهموا هؤلاء بالشرك، في حين أنّهم جميعاً يتّجهون في صلاتهم إلى القبلة المشرّفة؟ ! وكيف تهمزونهم او تنبزونهم

ص:76

بالشرك وحين تنظرون إلى جدران هذه المراقد والأضرحة تجدونها تزخر بالآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى؟ !

وإن كان مرادكم أنّ البناء على هذه القبور وتشييدها يرفع من مقام أصحابها ويعلي شأنهم، فهذا عين الصواب، وليس هو بالأمر الذميم أو المستقبح؛ لأنّ تعظيمَ أولياءِ الله تعالى وتكريمهم والحفاظ على مراقدهم وأضرحتهم، إنّما هو تعظيم وتخليد للقيم التي دافعوا عنها، والطريق الذي ساروا فيه، والذي يمثّل قمّة العبودية والإخلاص لله تعالى، وهذا في حقيقته تعظيم لشعائر الله تعالى، التي قال الله تعالى عنها: . . . وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (1)

وإنّنا لنسأل من هؤلاء لماذا نجد أسماء النبيّ والخلفاء والصحابة قد كتبت بعد اسم الله تعالى على جدران الحرم النبوي؟ ! ولماذا خطّت أسماء النبيّ والخلفاء في البيت الحرام؟ ! ولماذا كثير من شوارع مكّة والمدينة وبقية المدن الإسلامية تحمل أسماء الصحابة والتابعين؟ ! أليس ذلك كلّه لأجل تجليل هؤلاء وتكريمهم وتذكّرهم وتقديراً لمكانتهم؟ !

فهكذا بناء القبة والأروقة على القبور، ليس إلّا لأجل تكريم هؤلاء وتبجيلهم وتذكّرهم داخل المجتمع بقيمهم التي عاشوا واستشهدوا من أجلها. فهل يكون من اللائق اتّهام الشيعة بالشرك لكونهم يعظّمون أولياء الله تعالى، والذي في حقيقته تعظيم لله تعالى؟ !

ونسألهم أيضاً: لو كان البناء على قبور الأنبياء والأولياء وتشييد القبب عليها من الشرك والأمور المحرمة، لماذا كان المسلمون يقومون بذلك طوال ألف وثلاثمائة سنة وحتّى زمن ابن عبد الوهّاب،


1- الحج: ٣٢.

ص:77

ولم تعترض أيّ شخصية علمية أو جهة مذهبية على ذلك؟ أوَ ليس على قبر أبي حنيفة قبّة؟ ! ألم يكن على قبر مالك في البقيع قبّة؟ ! (1)أليس لقبر الشافعي في مصر ضريح؟ ! ألم يكن لقبور أئمّة البقيع، الإمام الحسن والسجّاد والباقر والصادق (عليهم السلام) ، ولسنين طوال قبب وأضرحة؟ ! ألم يكن لقبر عبدالمطّلب، وأبي طالب، وخديجة في مقبرة أبي طالب أبنية؟ ! ألم يكن لقبور أحمد بن محمّد بن غالب وابن الباجي وأمثالهم قبب؟ !(2)

فبناء القبب والأبنية على القبور هو ديدن لمسلمين، فكيف يكون بناء كلّ هذه، هكذا ومرّة واحدة، من الشرك وفعل المحرّم، وأنّ علماء الدول الإسلامية سكتوا عنه جميعاً؟ !

مناقشة الاستدلال بروايات ارتفاع القبر

في الختام لا بأس بالتعرّض إلى استدلال آخر مغرض ينمّ عن جهل، استدلّ به لتدعيم أفكار الوهابيين وإثبات حرمة بناء القبب والأبنية على قبور الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) ، وقد ورد في كتاب (المزار عند الأئمّة الأطهار) ، وتمّ توزيعه بشكلٍ واسع بين صفوف حجاج بيت الله الحرام.

وقد جاء في الكتاب ذكر للروايات الدالة على استحباب رفع القبور بمقدار أربع أصابع أو شبر عن الأرض، وخلص من خلاله إلى عدم جواز بناء الأبنية والقبب على قبور الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) . وبأقل تمعّن في الكتاب يتّضح أنّ المؤلّف ومترجم الكتاب (3)لا يتمتّعون بالدراية والخبرة الكافية بمتون الأحاديث وكتب الأخبار واستخلاص النتائج


1- مواهب الجليل، ج١، ص٣٩.
2- تاريخ بغداد، ج5، ص٢٨5؛ لسان الميزان، ج١، ص٢٧٣؛ ميزان الاعتدال، ج١، ص١4٢؛ سير أعلام النبلاء، ج ٢٣، ص٢٩.
3- الكتاب تُرجم إلى اللغة الفارسية، والمؤلّف يتكلّم هنا عن النسخة المترجمة للكتاب. [المترجم]

ص:78

منها، وإنّما كان هدفهم مجرّد حرف الرأي العام من خلال التحريف اللفظي والمعنوي الذي مارسوه في روايات الشيعة.

نشرع بذكر هذا الاستدلال، ثمّ نبدأ بالإجابة عليه.

نصّ الاستدلال

من خلال الروايات والأخبار الواردة في كتب الشيعة يتبيّن أنّ مقدار رفع القبر هو أربع أصابع أو شبر أو ما بينهما، ولا ينقص من ذلك ولايُزاد عليه، واعلم أنّه لو كان رفع القبر مطلقاً جائزاً لما قيّدت الأخبار الواردة رفع القبر بهذا المقدار، ولَمَا أوصى الأئمّة برفعه بهذا القدر. ومن الروايات في ذلك:

١- عن أبي جعفر (ع) قال: قال النبيّ (ص) لعلي (ع) : (يا علي، ادفنِّي في هذا المكان، وارفع قبري من الأرض أربع أصابع، ورشّ عليه الماء) [أصول الكافي، ج ١، صص 45٠ و 45١؛ وسائل الشيعة، ج ٢، ص٨56] (1).

٢- عن جعفر عن أبيه٨ أنّ قبر رسول الله (ص) رُفع شبراً من الأرض، وأنّ النبيّ (ص) أمر برشّ القبور [وسائل الشيعة، ج ٢، ص٨5٧؛ علل الشرائع، ص ٣٠٧ وغيرهما].

٣- عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) أنّ قبر رسول الله (ص) رفع من الأرض قدر شبر وأربع أصابع، ورشّ عليه الماء. وقال: والسنّة أن يُرشّ على القبر الماء) . [وسائل الشيعة، ج ٢، ص ٨5٨].

4- عن أبي عبد الله (ع) قال:

«إنّ أبي قال لي ذات يوم في مرضه: إذا أنا


1- أبقينا المصادر كما هي في الكتاب الأصلي؛ حيث وضعها المؤلّف بعد النص. [المترجم]

ص:79

متّ فغسّلني وكفنّي، وارفع قبري أربع أصابع، ورشّه بالماء» . [فروع الكافي، ج ٣، ص ٢٠٠؛ وسائل الشيعة، ج ٢، ص ٨5٧ وغيرهما].

5 - قال أبو عبدالله (ع) :

«إنّ أبي أمرني أن أرفع القبر عن الأرض أربع أصابع مفرجات، وذكر أنّ رشّ القبر بالماء حسن» . [فروع الكافي، ج ٣، ص ١4٠؛ وسائل الشيعة، ج ٢، ص ٨5٧ وغيرهما ].

6 - وعنه (ع) قال:

«أمرني أبي أن أجعل ارتفاع قبره أربع أصابع مفرجات، وذكر أنّ الرشّ بالماء حسن، وقال: توضّأ إذا أدخلت الميت القبر» . [وسائل الشيعة، ج ٢، ص ٨5٧ وغيره ].

٧ - عن محمّد بن مسلم قال: سألت أحدهما (عليهما السلام) عن الميت، فقال: «تسلم من قبل الرجلين، وتلزق القبر بالأرض إلّا قدر أربع أصابع مفرجات تربع (وترفع) قبره» . [فروع الكافي، ج ٣، ص ١٩5؛ وسائل الشيعة، ج ٢، ص ٨4٨ وغيرهما ].

٨ - عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال:

«يُدعى للميت حين يُدخل حفرته، ويرفع القبر فوق الأرض أربع أصابع» . [فروع الكافي، ج٣، ص ٢٠١؛ وسائل الشيعة، ج ٢، ص ٨56].

٩ - عن أبي عبدالله (ع) :

«يُستحب أن يدخل معه في قبره جريدة رطبة، ويرفع قبره من الأرض إلّا قدر أربع أصابع مضمومة، وينضح عليه الماء ويخلّى عنه» . [فروع الكافي، ج ٣، ص ١٩٩؛ وسائل الشيعة، ج٢، ص٨56 وغيرهما].

قال محمّد الآخوندي المعلّق على الكافي، تعليقاً على قوله: «يخلّى عنه» ما نصّه: «أي: لا يعمل عليه شيء آخر من جصّ وآجر وبناء، أو لا يتوقّف عنده، بل ينصرف عنه، وعلى كلّ واحد منهما يكون مؤيّداً لما

ص:80

ورد من الأخبار في كلّ منهما» . [هامش رقم ٣ على فروع الكافي، ج ٣، ص١٩٩]

١٠- وفي خبر طويل فيه ذكر وفاة موسى بن جعفر (ع) جاء فيه قوله: «فإذا حُملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولاترفعوا قبري فوق أربع أصابع مفرجات» . [عيون أخبار الرضا، ج ١، ص٨4؛ وسائل الشيعة، ج ٢، ص ٨5٨].

١١- وقال محمّد بن جمال الدين العاملي المعروف بالشهيد الأوّل: «ورفع القبر عن وجه الأرض بمقدار أربع أصابع مفرجات إلى شبر لاأزيد ليعرف فيُزار فيحترم» . [اللمعة الدمشقية، ج ١، ص 4١٠]

١٢- قال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي: «فإذا أراد الخروج من القبر فليخرج من قبل رجليه، ثمّ يطم القبر، ويرفع من الأرض مقدار أربع أصابع، ولا يطرح فيه من غير ترابه» . [النهاية، ص٣٩] (1)

ويقول أيضاً:

«اعترض البعض على ما تقدّم من روايات النهي عن رفع القبور بعدّة اعتراضات، نعرض أهمّها مع الجواب عنها باختصار:

أوّلاً: إنّ رفع قبور الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) مستثنى من روايات النهي المتقدّمة.

الجواب: إنّ الأئمّة أنفسهم أمروا ووصّوا بعدم رفع قبورهم أكثر من شبر وأربع أصابع، كما ذكرته بعض الروايات التي مرّت، وهذا يردّ على هذا الاستثناء، بل يدلّ على أنّ النهي في قبورهم (عليهم السلام) آكد» .


1- فقه المزار عند الأئمّة الأطهار، د. عبد الهادي الحسيني.

ص:81

مناقشة هذا الاستدلال
اشاره

إنّ هذا الاستدلال فيه وجوه للمناقشة في أكثر من جانب:

الجانب الأوّل: أنّ هذه الروايات ليس لها علاقة ببناء القبب والأضرحة على قبور الأنبياء والأئمّة والأولياء؛ لأنّ كلّ هذه الروايات تتحدّث عن القبر الذي هو مكان دفن الجسد، وهي إنّما تحثّ وتؤكّد على هذا الشيء لكي يكون القبر متميّزاً، وعدم ترك القبر بمستوى الأرض من حواليه ليتشخّص عند زيارته ولا يضيع.

والمؤلّف ولغرض خداع القارئ، ربط بين مسألة رفع القبر بمقدار معيّن وبناء القبب والأبنية على القبور، واستنتج حرمة بنائها عليه، فاتّضح وجه المغالطة والخداع في ذلك.

الجانب الثاني: لو غضضنا النظر عن مناقشتنا السابقة للمؤلّف، وقبلنا أنّ جملة رفع القبر المذكورة في الروايات يمكن أن تكون شاملة في دلالتها للقبب والأبنية والأضرحة على القبور، ولكن حتّى مع ذلك فالروايات التي يذكرها المؤلّف مستدلّاً بها لا تمنع من بناء القبب والأضرحة؛ لأنّ الروايات التي ذكرها في مقام الاستدلال على حرمة ذلك، يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأوّل: الروايات الدالّة على استحباب رفع القبر أربع أصابع أو شبر.

الصنف الثاني: الروايات المانعة عن رفع القبر أكثر من الحدّ المذكور.

الصنف الثالث: بعض أقوال الفقهاء التي ذكرها بعنوان أنّها روايات.

وأيّ شخص له اطّلاع يسير على قواعد وأسس الاستنباط من الروايات والأحاديث، سيكتشف أنّ المؤلّف والمترجم كلاهما لا دراية

ص:82

له بفنّ الاستنباط من الروايات، ولا يمتّ له بأدنى صلة. والأفضل أن نتابع هذه الأصناف الثلاثة ونناقشها كلّ على حدة:

الصنف الأوّل من الروايات

روايات هذا الصنف يمكن حصرها بمجموعة من الروايات التي هي كالتالي:

١- الرواية الأولى: ففي هذه الرواية يأمر النبيّ (ص) الإمام علي (ع) برفع قبره أربع أصابع عن وجه الأرض.

٢- الرواية الثانية والثالثة: فتخبر الرواية الثانية عن رفع قبر النبيّ (ص) شبراً عن الأرض. والرواية الثالثة تخبر عن رفع قبر النبيّ (ص) شبراً وأربع أصابع عن وجه الأرض.

٣- الرواية الرابعة والخامسة والسادسة: في هذه الروايات يأمر الإمام الباقر (ع) ابنه الإمام الصادق (ع) برفع قبره عن وجه الأرض أربع أصابع.

4- الرواية الثامنة: في هذه الرواية يوصى برفع قبر الميت بأربع أصابع، كما أُوصى بالدعاء للميت عند الدفن.

5- الرواية التاسعة: وهي الرواية التي ذكر فيها بشكل صريح استحباب رفع القبر أربع أصابع عن وجه الأرض.

الرواية الثامنة والتاسعة تحكي أمر الرسول (ص) للإمام علي (ع) ، وكذلك أمر الإمام الباقر (ع) للإمام الصادق (ع) ، على نحو الاستحباب وليس الوجوب.

وعلى هذا يستفاد من جميع هذه الروايات حكم استحباب رفع القبر عن الأرض بهذا المقدار المعيّن. أمّا ماذا عن رفع القبر أكثر من ذلك؟

ص:83

فالروايات ساكتة عن ذلك، وليس فيها دلالة على عدم جوازه، كما أنّ ليس فيها دلالة على عدم استحبابه كذلك؛ لأنّ لازم القول بأنّ الرواية دالّة على عدم استحباب البناء على القبور أكثرَ من أربع أصابع أو شبر، كما في القبب والأضرحة، الالتزام بثبوت المفهوم للعدد والقول بحجّيته(1)، في حين أنّ كثيراً من علماء أصول الفقه، شيعة وسنّة، لا يرون حجّية مفهوم العدد، كما نُقل ذلك عن كلٍّ من: المارديني في (الجوهرالنقي)(2)، وابن نجيم المصري في (البحر الرائق)(3)، والنووي في (شرح صحيح مسلم) (4)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (5)، والمباركفوري في (تحفة الأحوذي) (6)، والمناوي في (فيض القدير)(7).

وممّن لم يقل بحجّية مفهوم العدد، وأنّ ذكر عدد معيّن لا يعني نفي ما هو أكثر منه: ابن حجر(8)، والكرماني (9)، والإمام الرازي(10)، وجلال الدين السيوطي (11)، والمناوي (12)، وكثير آخرون من علماء أهل السنّة.


1- المراد بمسألة ثبوت المفهوم للعدد أنّ تحديد موضوع بعدد خاص، هل يدل على انتفاء الحكم فيما عداه أم لا؟ إن أجبنا بنعم، فمعناه أنّ للعدد مفهوماً. وإن قلنا: ليس فيه دلالة على انتفاء الحكم، فمعناه ليس للعدد مفهوم. [المترجم]
2- الجوهرالنقي، ج٣، ص١٨٠.
3- البحر الرائق، ج١، ص٢٠٠.
4- شرح صحيح مسلم، ج١١، ص١٢٠؛ ج١٣، ص٨٨.
5- السنن الكبرى، ج٣، ص١٨٠.
6- تحفة الأحوذي، ج٧، ص١4٧.
7- فيض القدير، ج١، صص ٢5٩ و ٢٩٧.
8- فتح الباري، ج٣، ص٩٧.
9- المصدر نفسه.
10- روح المعاني، ج١، ص ٩٧.
11- الديباج على مسلم، ج5، ص٢55.
12- فيض القدير، ج١، ص١٩٨.

ص:84

ومن علماء الشيعة القائلين بعدم حجّية مفهوم العدد: الشيخ الحر العاملي(1)، والعلّامة المجلسي(2)، والمحقّق القمّي (3)، وآخرون كثيرون.

بالإضافة إلى أنّ الرواية الثانية حدّدت ارتفاع قبر النبيّ (ص) بشبر، وفي الرواية الثالثة حُدد بشبر وأربع أصابع، وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على أنّ استحباب رفع القبر لا يتحدّد بأربع أصابع.

وعلى فرض قبول نظرية حجّية مفهوم العدد، فأدنى ما تدلّ عليه حينئذٍ عدم استحباب ما زاد على هذا المقدار، لا أنّ ما زاد عليه يكون محرّماً.

ومع كلّ ما تقدّم بيانه، يقول الكاتب بدون أيّ وجل وحياء: «هذه بعض الروايات والأخبار من كتب الشيعة المعتمدة، تدلّ على النهي عن رفع القبور والبناء عليها واتّخاذها مساجد» .

الصنف الثانى من الروايات
اشاره

ولدينا فيه روايتان، وهما السابعة والعاشرة، قد ذكر فيها حرمة تشييد القبّة أو البناء على القبور، لكن الاستدلال بكلتا الروايتين مخدوش.

ففي الرواية السابعة حرّف المؤلّف لفظ الرواية، وأضاف لها المترجم تحريف المعنى أيضاً، فنراهما يقولان:

«عن محمّد بن مسلم قال: سألت أحدهما٨ عن الميت فقال: «تسلم من قبل الرجلين، وتلزق القبر بالأرض إلّا قدر أربع أصابع مفرجات:


1- وسائل الشيعة، ج٨، ص٨٨.
2- بحارالأنوار، ج6١، ص١6١.
3- قوانين الأصول، ج١، ص١6١.

ص:85

تربع و (تُرفع) قبره» . [فروع الكافي، ١٩5:٣، وسائل الشيعة، ٢:٨4٨ وغيرها ]» .

في حين أنّ الرواية في الكافي والوسائل هكذا: «تسله من قبل الرجلين، وتلزق القبر بالأرض إلى قدر أربع أصابع مفرجات، وتربّع قبره» .

فبدّل المصنّف كلمتي (تسله) ب- (تسلم) ، وكلمة (إلى) ب- (إلّا) ولايخفى أنّ معنى الكلمة الثانية الحصر، وأضاف كلمة (ترفع) إلى الحديث.

نعم ذكرت كلمة إلّا في بعض النسخ، وكذلك كلمة (تربّع) ، ولكن ليس هناك نسخة جاءت فيها كلمتي (ترفع وتربّع) معاً. مضافاً إلى تصرّف المترجم في معنى الرواية.

وعلى كلّ حال، وعلى فرض أن تكون الكلمة (إلّا) وليست (إلى) ف (إلّا) إنّما تدلّ على حصر الاستحباب في رفع القبر أربع أصابع، ولاتتناول حكم ما هو أكثر من ذلك، فضلاً أن تدلّ على حرمته. ناهيك عن أنّ الرواية في الأساس ضعيفة لوجود (سهل بن زياد) فيها، وهو ضعيف.

أمّا الرواية العاشرة:

«لا ترفعوا قبري فوق أربع أصابع مفرجات» وإن كانت تدلّ في ظاهرها على أنّ الإمام منع من رفع قبره أكثر من أربع أصابع مفرجات، وسلّمنا أنّ النهي يدلّ على الحرمة، لكن هذه الرواية تعاني من ضعف شديد في السند، ولا يصح الاستدلال بها؛ لأنّ عمر بن الواقد الوارد في سند هذه الرواية مجهول، ولم يذكر في كتب الرجال عنه شيء.

ص:86

الصنف الثالث من الروايات

في هذا المجموع نورد ما ذكره الكاتب من كلام لبعض الفقهاء وعنونه بأنّه رواية.(1)س. تحت رقم (١١ و ١٢) في استدلاله، فيقول: «١١. وقال محمّد ابن جمال الدين العاملي المعروف بالشهيد الأول: «ورفع القبر عن وجه الأرض بمقدار أربع أصابع مفرجات إلى شبر لاأزيد، ليعرف فيُزار فيحترم» . [ اللمعة الدمشقية، 4١٠:١]» .

ونلفت انتباه القارئ المحترم إلى بعض الأمور في كلام الكاتب أعلاه:

١- أنّ الكاتب جاء بكلام لأحد العلماء الشيعة، وطرحه بعنوان أنّه رواية لإثبات مدّعاه. وهذا افتراء وكذب.

٢- أنّ هذا ليس كلام الشهيد الأوّل، فكلام الشهيد الأوّل كان في مقام بيان المستحبّات، وهو خصوص قوله: «ورفع القبر أربع أصابع» ، وما ذكره المصنّف من تتمّة هي للشهيد الثاني (زين الدين العاملي) ، وهنا أيضاً يتبيّن وجود نسبة خاطئة وافتراء وكذبة أخرى.

٣- أنّ الشهيد الثاني يقول ما مفاده: إنّه يستحب رفع القبر أربع أصابع مفرجات إلى شبر، والزائد على ذلك ليس بمستحب، ولم يقل أنّ


1- المؤلّف هنا يتكلّم عن النسخة المترجمة من الكتاب والتي جاء التعبير فيها ب- روايت يازدهم أي: الرواية الحادية عشرة. وكذلك جاء التعبير في الفقرة التالية لها بما ترجمته الرواية الثانية عشرة . ولم أعثر على النسخة العربية الأصلية للكتاب المطبوعة على الورق، لأتأكّد من الأصل وهل أنّ التعبير خاص بالمترجم، ولكن عثرت على نسختين الكترونيتين على الإنترنت للكتاب اعتمدت أحدهما. وكانت الأولى خالية من تعبير عدّ الروايات بهذا الشكل الرواية الأولى، الرواية الثانية. . . عند تعداد الروايات، والنسخة الأخرى كان فيها تعداد الفقرات التي تذكر الروايات رقمياً هكذا ١-، ٢ ، . . ، وهي التي اعتمدناها هنا. ونقاش المؤلّف للكتاب يتركّز على النسخة المترجمة إلى اللغة الفارسية. [المترجم]

ص:87

ذلك محرمّ وغير مشروع.

4- أنّ المترجم لم يفهم أنّ عبارة (ليعرف فيزار فيحترم) متعلّقة بعبارة (رفع القبر. . إلى شبر) ، وليست متعلّقة بعبارة (لا أزيد) . ويكون معنى كلامه: يستحب رفع القبر أربع أصابع مفرجات إلى شبر من المستحبّات ليعرف القبر فيزار ويحترم.

وفي تكملة حديثه يذكر كلام شيخ الطائفة بعنوان أنّه الرواية الثانية عشرة! ! يسعى من وراء ذلك التشويش على أذهان الناس البسطاء وخداعهم.

وتبيّن لنا ممّا ذكرنا ما يلي:

١- أنّ من كتب هذا الكتيّب ليس له أدنى اطّلاع بفن الرواية والتعامل معها.

٢- حاول من خلال التحريف اللفظي والمعنوي لنصوص روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) خداع القارئ.

٣- أنّ ما ذُكر بعنوان أنّه أدلة من قبل الكاتب ليس فيه دلالة على حرمة بناء القبب والأضرحة على قبور الأنبياء والأئمّة والأولياء.

ص:88

ص:89

3. تشييد المساجد على القبور

عرض الشبهة

اشاره

مسألة أخرى من المسائل التي يطرحها الوهابيون، وينتهزوا لأجلها مواسم تجمّع المسلمين، كمواسم الحجّ المبارك، للتأثير على الناس البسطاء وحرف تفكيرهم وتشكيكهم بعقائدهم. هذه المسألة تتعلّق ببناء المساجد على القبور، وجعل قبور الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين محلّاً لعبادة الله تعالى.

فيقولون: إنّ تشييد المساجد على القبور، أو دفن الموتى في المساجد، أو الإسراج على القبور بشكل دائم، من المخالفات الشرعية ومخالف لسنّة رسول الله (ص) .

فلماذ تقيمون، أنتم أيّها الشيعة، مساجد فوق القبور، وتتركون السرج حتّى وقت متأخّر من الليل على القبور، وتقيمون صلاتكم في مثل هذه الأماكن؟ !

فعليكم بتخريب المساجد التي أقيمت على القبور، وكذلك نبش الموتى المدفونين في المساجد وإخراجهم منه، ففي دين الإسلام لاتجتمع

ص:90

المسجدية مع المقبرة، وكلّ ما يستحدث منها ثانياً بعد الأوّل يجب تخريبه، ويبقى ما كان قد أقيم أوّلاً. والصلاة في مساجد أقيمت على قبورٍ للموتى باطلة (1)

والدليل - لديهم - على هذا الأمر، روايات كثيرة وردت عن النبيّ (ص) ، وواحدة من هذه الروايات:

«عن عطاء بن يسار، أنّ رسول الله [ص] قال: اللّهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد. اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (2)

وفي رواية ثانية يقول فيها عبيد الله بن الجرّاح:

«آخر ما تكلّم به النبيّ [ص] أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أنّ شرار الناس الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(3)

وكذلك أنّ أبا هريرة قال: سمعت رسول الله [ص] يقول:

«قاتل الله اليهود - والنصارى - اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(4)

وكذلك روي عن النبيّ أنّه قال:

«لعن الله اليهود - والنصارى - اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(5)


1- زاد المعاد، ج١، ص5٠6؛ الفتاوى الكبرى، ج٣، ص٣٢.
2- الموطأ، ج١، ص١٧٢؛ مسند أحمد، ج٢، ص٢46؛ المصنّف، الصنعاني، ج١، ص4٠6.
3- مسند أحمد بن حنبل، ج١، ص١٩5؛ كنز العمّال، ج4، ص٣٨٢.
4- اُنظر: صحيح مسلم، ج٢، ص6٧؛ صحيح البخاري، ج١، ص١١٣؛ مسند أحمد بن حنبل، ج٢، صص٢٨4، ٢٨5 و٣٩6؛ سنن أبي داود السجستاني، ج٢، ص٨5؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج4، ص٨٠؛ السنن الكبرى، النسائي، ج4، ص ٢5٧؛ المصنّف، الصنعاني، ج١، ص 4٠6؛ الجامع الصغير، ج٢، ص ٣٩6؛ كنز العمّال، ج٧، ص١4٧.
5- اُنظر: صحيح مسلم، ج٢، ص6٧؛ صحيح البخاري، ج١، صص١١٠ و ١١٢؛ ج٢، ص٩١؛ ج5، ص١٣٩؛ مسند أحمد بن حنبل، ج٢، ص٢٨5؛ ج5، ص٢٠4؛ السنن الكبرى، النسائي، ج٢، ص 4١؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج٢، ص4٣5؛ مجمع الزوائد، ج٢، صص٢٧ و ٢٨؛ مسند أبي داود الطيالسي، ص٨٨؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص٢6٠؛ كنز العمّال، ج٧، ص٢٣6؛ المصنّف، ابن أبي شيبة، ج٢، ص٢6٩

ص:91

وقال ابن عبّاس:

«لعن رسول الله [ص] زائرات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسرج»(1).

فهذه الروايات وصفت من يبني المساجد على القبور بأنّهم (اشتدّ غضب الله عليهم) و (ملعونون) و (شرار الناس) عند الله ورسوله، وهذا يدلّ على حرمة بناء المساجد على القبور.

جواب الشبهة

الجواب الأوّل

اشاره

هنا لا بدّ أن نتفحّص عبارة (اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وعلى أيّ شيء تدلّ، فإنّه يحتمل فيها معنيان:

الأوّل: أنّ اليهود والنصارى كانوا يبنون فوق قبور موتاهم أو إلى جانبها مساجد، ولا يقومون بالسجود فيها إلّا لله الواحد وباتّجاه القبلة الحقيقيّة. وحينئذٍ تكون الرواية دالة على عدم جواز تشييد المساجد على القبور أو إلى جانبها ولهذا السبب.

الثاني: أنّ اليهود والنصارى كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم قبلة لهم، ويسجدون باتّجاهها، كما يفعل عبدة الأوثان حين يسجدون قبال الأصنام الخشبية والحجرية. ومن هنا ذمّت الروايات السجود لغير الله تعالى وعبادة قبور الأنبياء؛ لأنّه شرك بالله تعالى. وليس بناء المساجد على القبور أو إلى جانبها مذموم بنفسه.


1- مسند أحمد بن حنبل، ج١، ص٢٢٩؛ سنن أبي داود، ابن الأشعث السجستاني، ج٢، ص٨٧؛ سنن الترمذي، ج١، ص٢٠١؛ سنن النسائي، ج4، ص٩5؛ مستدرك الصحيحين، ج١، ص٣٧4؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص65٧؛ صحيح ابن حبّان، ج٧، صص45٢ و 45٣.

ص:92

وممّا لا شك فيه أنّ المراد من الرواية هو المعنى الثاني، وتؤيّد ذلك قرائن مختلفة كثيرة، منها:

القرينة الأولى

لو تفحّصنا معنى كلمة (اتّخاذ) في اللغة العربية لوجدناها تنسجم مع المعنى الثاني الذي شرحناه. فكلمة (اتّخذ) في اللغة وفي الاستخدام القرآني والأحاديث بمعنى (صيّر) . جاء في المنجد:

«اتّخذه وتخذه تخذاً: صيّره. تقول: اتّخذه صديقاً: جعله صديقاً له»(1).

يقول تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ(2).

وفي آية أخرى: وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (3).

وكذلك يقال: (الحمدلله الذي اتّخذ محمّداً نبيّاً) .

وبالنسبة لكلمة مسجد، في الأصل هي بمعنى (المكان الذي يسجد فيه)(4)، وتطلق عرفاً على المحل الذي تقام فيه العبادات.

وبناءً على ما تقدّم، يتبيّن أنّ معنى عبارة (اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد) لها أحد معنيين:

أ - أنّهم بنوا على قبور أنبيائهم مساجد.

ب - أنّهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم، ويتعبّدونها.

والذي يفهم من سياق الرواية هو المعنى الثاني، ولو كان المراد المعنى الأوّل لعبّرت الرواية (اتّخذوا على قبور أنبيائهم مساجد) ، كما عبّر


1- المنجد في اللغة، ص4.
2- الجاثية: ٢٣.
3- البقرة: ١١6.
4- تاج العروس، ج٢، ص٣٧١؛ لسان العرب، ج٣، ص٣٠4.

ص:93

القرآن الكريم في قصّة أصحاب الكهف: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (1).

ومن البيّن أنّ المعنى الذي تفسّر به الرواية، والذي ينسجم مع اللعن والذم للفعل، هو المعنى الثاني دون الأوّل. فاليهود والنصارى لعنوا لأنّهم اتّخذوا قبور أنبيائهم قبلةً ومحلّاً يسجدون له، كما يُسجد للأصنام والأوثان.

وكثير من علماء أهل السنّة فهموا من الرواية المعنى الثاني الذي ذكرناه.

نقل عن البيضاوي قوله: «لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها واتّخذوها أوثاناً لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك، فأمّا من اتّخذ مسجداً في جوار صالحٍ وقصد التبرّك بالقرب منه، لا التعظيم له ولا التوجّه نحوه، فلا يدخل في ذلك الوعيد»(2).

ويقول السندي بن عبد الهادي في حاشيته على سنن النسائي: «ومراده بذلك أن يحذّر أمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم، من اتّخاذهم تلك القبور مساجد، أمّا بالسجود إليها تعظيماً لها أو بجعلها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها»(3).

ويقول البكري في (إعانة الطالبين) في معنى هذه الرواية:

«المنهي عنه قصد استقبالها للتبرّك ونحوه»(4).


1- الكهف: ٢١.
2- فتح الباري، ج١، ص4٣٨؛ شرح سنن النسائي، ج٢، ص4٢.
3- حاشية السندي على سنن النسائي، ج٢، ص4٢.
4- إعانة الطالبين، ج١، ص٢٢٧.

ص:94

وفي مكان آخر يقول:

«لعن الله اليهود والنصارى، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد. أي: بصلاتهم إليها»(1).

ويقول القرطبي تعليقاً على ما روي عن أبي مرثد الغنوي عن رسول الله (ص) أنّه قال:

«لا تصلّوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» :

«أي: لا تتّخذوها قبلة فتصلّوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدّى إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام. فحذّر النبيّ [ص] عن مثل ذلك، وسدّ الذرائع المؤدّية إلى ذلك فقال: «اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد»(2).

ويقول ابن عبد ربّه في كتاب (التمهيد) : «ويحتمل الحديث أن لاتجعل قبور الأنبياء قبلة يصلّى إليها»(3).

القرينة الثانية

جاء في رواية عطاء بن يسار أنّ النبيّ قال في البداية:

«اللّهم لاتجعل قبري وثناً يعبد» ، وهذه قرينة على أنّ مراد النبيّ (ص) من قوله:

«قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أنّ هؤلاء اتّخذوا قبور أنبيائهم أوثاناً يعبدونها من دون الله.

القرينة الثالثة

حين نراجع أسس العقائد اليهودية والنصرانية وجذورها نصل إلى حقيقة مفادها أنّهم يغالون في أنبيائهم، ويقولون فيهم مقالات لأجل


1- إعانة الطالبين، ج١، ص٢٢٧.
2- تفسير القرطبي، ج١٠، ص٣٨٠.
3- التمهيد، ج6، ص٣٨٣.

ص:95

تعظيمهم تصل إلى حدّ الشرك بالله تعالى، ولأجل هذا كانوا مورد تقريع من الله تعالى وذمٍّ، يقول تعالى في كتابه الكريم: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(1).

وليلتفت إلى أنّ عبارة (قاتلهم الله) جاءت تأنيباً لليهود والنصارى؛ لأنّهم غالوا في أنبيائهم، وقالوا فيهم مقالة الشرك، ونقلت هذه الجملة في حديث أبي هريرة بحقّ اليهود كونهم (اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وهذا قرينة على أنّ المراد بكلمة (مساجد) ليس بناء مسجد على القبور، بل ما يفعله هؤلاء بقبور أنبيائهم بقصد تعظيمهم من السجود لقبورهم.

الجواب الثانى

لو فرضنا - تنزّلاً - أنّ المراد باتّخاذ المساجد، هو بناء المساجد من قبل اليهود والنصارى على قبور أنبيائهم، ولعنوا لأجل هذا العمل، ولكن لابدّ أن نعلم أنّ اللعن لا يدلّ على الحرمة دائماً؛ لأنّ معنى اللعن البعد عن رحمة الله تعالى، بل كثير من موارد اللعن جاءت للدلالة على الكراهة، كما في رواية:

«لعن الله كلّ مذواق مطلاق» (2). فدلّت على أنّ الله لا يحبّ الرجل الذي يكثر طلاق النساء، مع العلم أنّ الطلاق بنفسه أمر جائز شرعاً.

وعلى هذا تكون الروايات المستدل بها دالة على كراهة بناء المساجد على القبور، والصلاة في هذه المساجد، والكراهة هنا بمعنى قلّة الثواب.


1- التوبة: ٣٠.
2- البحر الرائق، ج٣، ص4١٢.

ص:96

الجواب الثالث

كيف نقول بحرمة الجمع بين القبر والمسجدية في حين أنّ قبر إسماعيل (ع) في المسجد الحرام في حجر إسماعيل، وكذلك قبور سبعين من الأنبياء في المسجد الحرام بين الحجر الأسود وبئر زمزم؟ !

يقول الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح، دفاعاً عن عدم كراهة الصلاة في مقبرة الأنبياء:

«لأنّهم أحياء في قبورهم، ألا ترى أنّ مرقد إسماعيل (ع) في الحجر تحت الميزاب، وأنّ بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيّاً»(1).

الجواب الرابع

إنّ مسجد النبيّ أقيم بأمر من رسول الله (ص) في مكان كان مقبرة لموتى المشركين، وهذا ما يؤكّده كلّ علماء أهل السنّة(2)، وفي رواية قال أنس ابن مالك: «قدم النبيّ [ص] المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبيّ [ص] فيهم أربع عشرة ليلة، ثمّ أرسل إلى بني النجّار فجاؤوا متقلّدي السيوف كأنّي أنظر إلى النبيّ [ص] على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجّار حوله حتّى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحبّ أن يصلّي حيث أدركته الصلاة، ويصلّي في مرابض الغنم، وأنّه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال: يا بني النجّار، ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلّا إلى الله! فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه


1- حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح، ج٢، ص٣١5.
2- يقول ابن قدامة: «لأنّ مسجد رسول الله٩ كانت فيه قبور المشركين فنبشت. متّفق عليه» . المغني، ج١، ص٧١٨.

ص:97

نخل، فأمر النبيّ [ص] بقبور المشركين فنبشت، ثمّ بالخرب فسوّيت، وبالنخل فقطع، فصفّوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبيّ [ص] معهم وهو يقول:

اللّهم لا خير إلّا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة»(1)

وهذه الرواية ذكرها كثير من محدّثي وفقهاء أهل السنّة (2)، وأنّها ظاهرة في الدلالة على أنّ بناء المساجد على القبور لا إشكال فيه.

وعلى هذا، يتبيّن أنّه لا يوجد دليل معتبر على حرمة بناء المساجد على القبور أو إلى جوارها، بل إنّ بناء المساجد على قبور الأنبياء والأئمّة وأولي الأمر من الأمور المستحسنة وممّا ينطبق عليها عنوان تعظيم شعائر لله تعالى.

نعم، إنّ إنشاء مسجد في مقبرة موقوفة للدفن فقط غير جائز، وكذلك لا يجوز الدفن في مسجد موقوف للمسجدية فقط؛ لأنّ الموقفات يتصرّف فيها بحسب ما وقفت عليه.


1- صحيح البخاري، ج١، ص١١١.
2- مسند أحمد بن حنبل، ج٣، صص٢١٢ و ٢44؛ نيل الأوطار، ج٢، ص١5٢؛ صحيح البخاري، ج4، ص٢66؛ سنن أبي داود السجستاني، ج١، ص١١١؛ سنن النسائي، ج٢، ص4٠؛ السنن الكبري، البيهقي، ج٢، ص4٣٨؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص٢5٩؛ مسند أبي يعلى، ج٧، ص١٩4؛ صحيح ابن خزيمة، ج٢، ص6؛ صحيح ابن حبّان، ج6، ص٩٧؛ الطبقات الكبرى، ج١، ص٢4٠؛ البداية والنهاية، ابن كثير، ج٣، ص٢6١؛ السيرة النبوية، ابن كثير، ج٢، ص٣٠٣.

ص:98

ص:99

4. الدعاء والصلاة عند القبوروالمشاهد المشرّفة

طرح الشبهة

والآن - قارئي الكريم - نتعرّض لبيان شبهة أخرى من الشبهات التي يطلقها بعض دعاة الوهابية، تتعلّق بقراءة الأدعية والصلاة عند القبور والمشاهد المشرّفة، كما في البقيع ومزارات شهداء أُحد وبقية الأماكن المشابهة، فهم يمنعون الناس من قراءة القرآن، أو سورة الفاتحة للأموات، ويعتبرون ذلك عملاً بلا فائدة ولا دليل عليه، بل يعتبرونه عملاً محرّماً وبدعة في الدين!

ولا يخفى أنّ هذه الاتّهامات - التي تشكّل عقيدة لديهم - تعود جذورها لابن تيميّة وابن القيّم.

يقول ابن تيميّة: «لا يشرع بناء المسجد على القبور»(1)

وكذلك يقول: «ولا تصحّ الصلاة في المقبرة ولا إليها»(2)


1- مجموع الفتاوى، ج٣، ص٣٩٨.
2- نقلاً عن: أحكام الجنائز، الألباني، ص٢١4.

ص:100

ويقول ابن القيّم:

«وكان من هدْيهِ [ص] تعزية أهل الميت، ولم يكن من هدْيهِ أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن، لا عند قبره ولا غيره، وكلّ هذا بدعة حادثة مكروهة»(1)

وقد استدلّوا ببعض الروايات عن نبيّ الإسلام (ص) ، مثل:

الرواية الأولى:

«عن أبي سعيد أنّ النبيّ [ص] قال: الأرض كلّها مسجد إلّا المقبرة والحمام»(2)

الرواية الثانية:

«عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله [ص] نهى عن الصلاة في المقبرة» (3)

الرواية الثالثة:

«عن ابن عمر عن النبيّ [ص] قال: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتّخذوها قبوراً»(4)

الرواية الرابعة:

«عن أبي هريرة عن النبيّ [ص] قال: لا تجعلوا بيوتكم مقابر»(5)

الرواية الخامسة:

«عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله [ص] نهى أن يصلّى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، ومعاطن الإبل، وفوق


1- زاد المعاد، ج١، ص5٠٨.
2- نيل الأوطار، ج٢، ص ١٣5؛ مسند أحمد، ج٣، ص٨٣؛ سنن الدارمي، ج١، ص٣٢٣؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص٢46؛ سنن أبي داود، ابن الأشعث، ج١، ص١١٩؛ سنن الترمذي، ج١، ص١٩٩؛ مستدرك الحاكم، ج١، ص٢5١؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج٢، ص4٣5؛ كنز العمّال، ج٧، ص ٣4٣.
3- صحيح ابن حبّان، ج6، ص٩٠؛ كنز العمّال، ج٨، ص١٩5؛ مسند أبي يعلى، ج5، ص١٧5؛ مجمع الزوائد، ج٢، ص٢٧.
4- صحيح البخاري، ج١، ص١١٢؛ ج٢، ص5٢؛ سنن أبي داود، ابن الأشعث، ج١، ص٢٣5.
5- مسند أحمد بن حنبل، ج٢، ص٢٨4؛ صحيح مسلم، ج٢، ص ١٨٨؛ سنن الترمذي، ج4، ص٢٣٢.

ص:101

ظهر بيت الله» (1)

فيستفاد من خلال هذه الروايات حرمة الصلاة بجانب القبور؛ لأنّ النبيّ (ص) نهى عن الصلاة إلى جانب القبور، ونهي النبيّ ظاهرٌ في الحرمة. ولا يوجد فرق بين قبور الناس العاديين وقبور الأنبياء والأئمّة والشهداء؛ لأنّ الروايات مطلقة تشمل كلّ هذه الموارد.

تفنيد هذه الشبهة

أوّلاً: الصلاة بجانب القبور والأضرحة المباركة

١- نحن نعلم أنّ الأصل الأوّلي هو عدم اختصاص الصلاة بمكان خاص، فلكلّ مسلم أن يقيم صلاته الواجبة أو المستحبة في أيّ مكان شاء، إلّا إذا كان هذا المكان قد نهت الشريعة عن الصلاة فيه بعينه.

ومن خلال تفحّص الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة نستنتج القاعدة الكلية القائلة:

«صحّة الصلاة في كلّ مكان إلّا ما خرج بالدليل» ، فقد قال تعالى في كتابه الكريم:

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ(2).

وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ(3).

فنلاحظ أنّ الآية الأولى عيّنت وقتاً خاصّاً للصلاة، ولكنّها لم تأتِ على ذكر المكان، وهذا إطلاق من الآية في دلالة المكان الذي تصحّ فيه الصلاة.


1- نصب الراية، ج٢، ص٣٧٧؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص٢46؛ سنن الترمذي، ج١، ص٢١6؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج٢، ص ٣٢٩.
2- الإسراء: ٧٨.
3- البقرة: ١44.

ص:102

وأمّا الآية الثانية، ففيها تصريح في توجّه المصلي للقبلة أينما كان المصلّي.

بالإضافة إلى ما نقل عن طرق أهل السنّة، فضلاً عن طرقنا، من روايات تؤكّد مضمون القاعدة السابقة بوضوح، مثل الحديث الذي ينقل عن أبي ذرٍ عن النبيّ (ص) ونقله البخاري ومسلم في صحيحيهما. فقد روي عن أبي ذرٍ أنّه قال:

«حيثما أدركتك الصلاة فصلِّ، والأرض لك مسجد»(1)

وقد نقلت هذه الرواية بألفاظ مختلفة في الكتب الحديثية السنّية، أحدها ما ذكرناه، وجاءت بألفاظ أخرى أيضاً، مثل:

«أينما أدركتك الصلاة فصلِّ، فهو مسجد» .

وفي آخر:

«قال: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة، فصلِّ» .

وفي رواية:

«حيثما أدركتك الصلاة، فصلِّ؛ فإنّه مسجد»(2). فهذه الروايات باختلاف ألفاظها لها مؤدّى واحد، مفاده: إذا جاء وقت الصلاة فصلّ حيث كنت، إلّا اللّهم أن يكون لدينا دليل على حرمة الصلاة في مكان معيّن.

ونجد أنّ فقهاء أهل السنّة اعتبروا رواية أبي ذرٍ أصلاً كلّياً وأساساً يحتكم إليه، واعتمدوا على هذه الرواية في حكمهم بتصحيح الصلاة في


1- صحيح البخاري، ج4، ص٣6.
2- صحيح مسلم، ج٢، ص6٣؛ مسند أحمد بن حنبل، ج5، صص١56 - ١6٠؛ نيل الأوطار، ج٢، ص١٣5؛ سنن ابن ماجة، ج١، ص٢4٨؛ شرح صحيح مسلم، النووي، ج5، ص٢؛ السنن الكبرى، النسائي، ج١، ص٢56؛ صحيح ابن خزيمة، ج٢، ص5؛ صحيح ابن حبّان، ج4، ص4٧5؛ كنز العمّال، ج١4، ص٩٨.

ص:103

كثير من الأماكن، يقول ابن حزم في (المحلّى) :

«والصلاة في البيعة والكنيسة وبين النار والمجزرة. . . وفي كلّ موضع: جائزة، ما لم يأتِ نصٌ أو إجماع متيقّن في تحريم الصلاة في مكان ما، فيوقف عند النهي في ذلك. . . عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أيّ مسجد وضع في الأرض أوّل؟ قال: المسجدالحرام، قلت: ثمّ أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثمّ حيثما أدركتك الصلاة فصلّ، فهو مسجد»(1)

وكذلك يقول: «والصلاة جائزة في البيع والكنائس والهبارات والبيت من بيوت النيران وبيوت البُدّ والديور، إذا لم يعلم هنالك ما يجب اجتنابه من دم أو خمر أو ما أشبه ذلك؛ لقول رسول الله [ص]: وجعلت لي الأرض مسجداً أو طهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ» (2)

وكذلك يقول: «وصحّ عن النبيّ [ص]: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ) ، فلا يحل أن يمنع أحد من الصلاة في موضع إلّا موضعاً جاء النصّ بالمنع من الصلاة فيه، فيكون مستثنى من هذه الجملة»(3)

أمّا السيّد سابق في كتاب (فقه السنّة) فيقول أيضاً: «ممّا اختص الله به هذه الأمّة أن جعل لها الأرض طهوراً ومسجداً، فأيّما رجلٌ من المسلمين أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته، قال أبو ذر. . .»(4)


1- المحلّى، ابن حزم، ج4، صص ٨١ و ٨٢.
2- المصدر نفسه، صص١٨5 و ١٨6.
3- المصدر نفسه، ج5، ص٧6.
4- فقه السنّة، ج١، ص٢46.

ص:104

ويقول النووي في شرحه لصحيح مسلم: «قوله [ص]:

وأينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد. فيه جواز الصلاة في جميع المواضع إلّا ما استثناه الشرع»(1)

وهكذا القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) حين ينقل بعض الآراء بموضوعية وحيادية، فيشير في البداية إلى بعض آراء العلماء في منع الصلاة في بعض الأماكن، ثمّ ينقل رواية الترمذي عن ابن عمر في نهي الرسول عن إقامة الصلاة في سبعة أماكن، هي:

«أنّ رسول الله [ص] نهى أن يصلّى في سبع مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق بيت الله» .

ويستمر بذكر آراء العلماء في حكم الصلاة في هذه الموارد، ثمّ يعلّق قائلاً:

«قلت: الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر، أنّ الصلاة بكلّ موضع طاهر جائزة صحيحة. وما روي من قوله (ص) : (إنّ هذا وادٍ به شيطان) ، وقد رواه معمّر عن الزهري فقال: واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة. وقول علي: (نهاني رسول الله [ص] أن أصلّي بأرض بابل فإنّها ملعونة) . وقوله حين مرّ بالحجر من ثمود: (لاتدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين) . ونهيه عن الصلاة في معاطن الإبل. . إلى ذلك مما في هذا الباب، فإنّه مردود إلى الأصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها.


1- شرح صحيح مسلم، النووي، ج5، ص٢.

ص:105

قال الإمام الحافظ أبو عمر(1): المختار عندنا في هذا الباب أنّ ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلّى فيها كلّها ما لم تكن فيها نجاسة متيقّنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأنّ موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يجوز أن تقام فيه الصلاة، وكلّ ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل وغير ذلك ممّا في هذا المعنى، كلّ ذلك عندنا منسوخ ومدفوع؛ بعموم قوله [ص]: (جعلت لي الأرض كلّها مسجداً وطهوراً) ، وقوله [ص] مخبراً أنّ ذلك من فضائله وممّا خُصّ به، وفضائله عند أهل العلم، لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص. قال [ص]: (أوتيت خمساً - وقد روي ستاً، وقد روي ثلاثاً وأربعاً، وهي تنتهي إلى أزيد من تسع، قال فيهن: - لم يُؤتهنَّ أحد قبلي: بُعثت إلى الأحمر والأسود، ونُصرت بالرعب، وجُعلت أُمّتي خير الأُمم، وأُحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأوتيت الشفاعة، وبعثت بجوامع الكلم، وبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي، وأعطيت الكوثر، وخُتم بي النبيّون) .

. . . وبقوله [ص]: (جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) أجزنا الصلاة في المقبرة والحمام وفي كلّ موضع من الأرض إذا كان طاهراً من الأنجاس. وقال (ص) لأبي ذر: (حيثما أدركتك الصلاة فصلّ، فإنّ الأرض كلّها مسجد) . ذكره البخاري ولم يخصّ موضعاً من موضع.

وأمّا من احتج بحديث ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر - حديث


1- مراده ابن عبد البر في كتاب التمهيد. انظر: كتاب التمهيد، ج5، ص٢٠٣

ص:106

الترمذي الذي ذكرناه - فهو حديث انفرد به زيد بن جبيرة وأنكروه عليه، ولا يعرف هذا الحديث مسنداً إلّا برواية يحيى بن أيوب عن زيدبن جبيرة (1). وقد كتب الليث بن سعد إلى عبدالله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، فكتب إليه عبد الله بن نافع: لاأعلم من حدّث بهذا عن نافع إلّا قد قال عليه الباطل»(2).

وخلاصة الكلام: فإنّ القرطبي يعتقد بصحة القاعدة السابقة (صحة الصلاة في أيّ مكان. .) ويجعل من قول الرسول (ص) :

«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ» سنداً لها، وحمل الروايات المعارضة على الكراهة.

وعلى هذا فيتبيّن أنّه يستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة أنّ الأصل الأوّلي للصلاة في المقابر والمشاهد المشرّفة هو الجواز والصحّة، إلّا إذا ثبت بدليل متيقّن عدم جواز ذلك في مكان معيّن، ومثاله الروايات التي تُثبت عدم جواز الصلاة في الأماكن المغصوبة أو النجسة.

أمّا الروايات الخمسة المذكورة في الاستدلال على عدم جواز الصلاة بالقرب من المقابر، فهي تفتقد للتماسك المنطقي في دلالتها، وليس في دلالتها القابلية على تخصيص هكذا عمومات قويّة ثابتة، فلا دلالة فيها على الحرمة.

٢- فيما يختص بالرواية الأولى (رواية أبي سعيد الخدري) : فإنّها منقولة بأسانيد مضطربة عن أبي سعيد. يقول الترمذي: «حديث أبي سعيد. قد


1- بخصوص ضعف زيد بن جبيرة، فسيأتي الكلام عنه مفصّلاً.
2- الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي ، ج ١٠، صص 4٨ - 5٠.

ص:107

روى عن عبد العزيز بن محمّد روايتين:

منهم من ذكر عن أبي سعيد، ومنهم من لم يذكره. وهذا حديث فيه اضطراب»(1)

وقد نقل هذا الحديث في المصادر الشيعية بسند معتبر، فيقول عبيدبن زرارة:

«سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: الأرض كلّها مسجد إلّا بئر غايط أو مقبرة أو حمَّام»(2)

ولذا نغض الطرف عن ضعف سنده المذكور، ولكن مع ذلك لانقبل دلالته على عدم جواز الصلاة في المقابر والأضرحة المشرّفة؛ وذلك لأمور:

منها: أنّ كلمة (مسجد) بالأصل بمعنى المكان الذي يُسجَد عليه لله تعالى، فيكون معنى الحديث (الأرض كلّها مسجد) ، أيّ: أنّ كلّ أماكن وبقاع الأرض يصح السجود عليها لله تعالى، وحينئذٍ يكون معنى عبارة (إلّا المقبرة والحمَّام) أنّ الأماكن من قبيل المقبرة والحمّام، التي هي مضانّ النجاسة، لا يصح السجود فيها تجنّباً لذلك. أمّا السجود لله تعالى إلى جانب القبور المشرّفة والأضرحة المباركة، فالرواية ساكتة عن ذلك.

ومنها: أنّ في رواية زرارة قد أضيفت عبارة (بئر غائط) ، وعطفت عليها جملة (مقبرة أو حمام) ، وكذلك في رواية ابن عمر عطفت كلمة (مقبرة) على كلمة (مزبلة ومجزرة) ، فهذه العبارات قرينة على أنّ مقصود النبيّ (ص) النهي عن هذه الأمكان تحرّزاً عن النجاسات أثناء إقامة الصلاة، فتكون الصلاة في هذه الأماكن مع التلوّث بالنجاسات محرّمة وباطلة، ومع عدم وجود النجاسات فهي محمولة على الكراهة.


1- سنن الترمذي، ج١، ص١٩٩.
2- وسائل الشيعة، ج5، ص١١٨.

ص:108

يقول ابن قدامة:

«الحكم في هذه المواضع السبعة كالحكم في الأربعة سواء، ولأنّ هذه المواضع مظنّة النجاسات فعلّق الحكم عليها دون حقيقتها» (1)

ومنها: ذكر في هذا الحديث كلمة (المقبرة) وهي محل الدفن، فهذه الرواية إن دلّت فتدلّ على كراهة الصلاة في أماكن دفن الموتى (المقابر) ، ولا تشمل المراقد المباركة، كضريح الإمام علي (ع) ، وضريح الإمام الحسين (ع) وغيرهما؛ لعدم صدق عنوان (المقبرة) عليها.

٣- الرواية الثانية (رواية أنس) : لا يمكن من خلالها أيضاً إثبات حرمة الصلاة إلى جانب القبور؛ لأنّ هذه الرواية وإن كانت توافق بعض الروايات في كتبنا الحديثية من حيث المضمون، كرواية عمار الساباطي حين سأل الإمام الصادق (ع)

«. . . عن الرجل يصلّي بين القبور؟ قال: لا يجوز ذلك إلّا أن يجعل بينه وبين القبور إذا صلّى عشرة أذرع»(2).

ولكن توجد لدينا روايات أخرى رخّصت في الصلاة بين القبور، كرواية معمّر بن خلّاد (3)، ورواية علي بن يقطين(4)، عن الإمام الرضا (ع) . فهذ الروايات متعارضة، وطريق الجمع بينها حمل رواية أنس وعمار على الكراهة.

ولا يخفى أنّ مفردة (القبور) تشير إلى المقبرة حيث تكثر القبور فيها، فلا تشمل الصلاة إلى جانب قبر النبيّ (ص) والأئمّة، والقبور المنفردة.

4- الرواية الثالثة (رواية ابن عمر) ، والرواية الرابعة (رواية أبي هريرة) :


1- المغني، ج١، ص٧١٨.
2- الكافي، الكليني، ج٣، ص ٣٩٠.
3- التهذيب، ج٢، ص٢٢٨.
4- المصدر نفسه، ص٣٧4.

ص:109

لاعلاقة لها بالمدّعى؛ لأنّ معنى هذه الروايات الحثّ على الصلاة في البيوت والاشتغال بذكر الله تعالى وعدم ترك ذلك، فتكون البيوت كالمقابر، لا تحوي غير القبور وتخلو من الذكر والعبادة.

وقد وردت روايات أخرى تؤيّد هذا المعنى المفهوم من هاتين الروايتين. يروي المتّقي في (كنز العمّال) :

«اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، واعمروها بالقرآن فإنّ أفقر البيوت بيت لا يقرأ فيه كتاب الله عزّوجلّ»(1)

وهناك من المحقّقين السنّة من فسّر رواية ابن عمر وأبي هريرة بهذا المعنى(2)

5- الرواية الخامسة: نظراً لوجود (زيد بن جبيرة) في سندها فهي ضعيفة. ومن العبارات التي قيلت في حقّه من قبل الفقهاء والمحدّثين: «منكر الحديث» و «اتّفقت الناس على ضعفه» و «ليس بثقة» و «ضعيف الحديث» و «عامّة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد» و «متروك» و «منكر الحديث جدّاً، لا يكتب حديثه»(3)

6- جاء في صحيح البخاري:

«رأى عمرُ أنسَ بن مالك يصلّي عند قبرٍ، فقال: القبر القبر. ولم يأمره بالإعادة»(4)


1- كنز العمّال، ج١5، ص ٣٩٣.
2- تنوير الحوالك، السيوطي، ص١٨5؛ تحفة الأحوذي، ج٢، ص4٣6.
3- نيل الأوطار، ج٢، ص١4٢؛ مجمع الزوائد، ج٨، ص١5٩؛ ج١٠، ص5٣؛ التاريخ الكبير، ج٣، ص٣٩٠؛ التاريخ الصغير، ج٢، ص6٠؛ ضعفاء العقيلي، ج٢، ص٧١؛ كتاب المجروحين، ابن حبّان، ج١، ص٣٠٩؛ تقريب التهذيب، ج١، ص٣٢٧؛ تحفة الأحوذي، ج٢، ص٢٧١؛ نصب الراية، ج٢، ص٣٧٧؛ الجرح والتعديل، ج٣، ص55٩؛ الكامل، ابن عدي، ج٣، ص٢٠٢؛ تهذيب الكمال، ج١٠، صص٣4 و ٣5؛ ميزان الاعتدال، ج٢، ص٩٩؛ تهذيب التهذيب، ج٣، ص٣46.
4- صحيح البخاري، ج١، ص١١٠.

ص:110

فهذا الحديث يؤكّد حقيقة عدم بطلان الصلاة إلى جانب القبر في المقابر.

٧- وكذلك ما روي عن الرسول (ص) أنّه خرج (ص) يوم الأضحى إلى البقيع، فبدأ فصلّى ركعتين.(1)وهذا الحديث يدلّ على جواز الصلاة في المقبرة.

ثانياً: الدعاء عند القبور والمراقد المشرّفة

إنّ الدعاء عند القبور له أكثر من شكل، منها:

١ - الذهاب إلى المقابر والدعاء لطلب المغفرة للنفس والرحمة والمغفرة للموتى، ويقرأ القرآن لأرواح الموتى.

وممّا لا شك فيه أنّ الدعاء وطلب المغفرة له وللآخرين من الأمور الجائزة والمرغوبة في كلّ مكان؛ لأنّ الله تعالى يقول في كتابه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (2)

ففي هذه الآية لم يعيّن مكاناً خاصّاً للدعاء، ولم يرو لنا في أيّ رواية نهي عن الدعاء وقراءة القرآن عند القبور، بل جاء في كثير من الروايات أنّ الدعاء وقراءة القرآن عند القبور توجب تخفيف العذاب عن صاحب القبر، وفيها ثواب للداعي نفسه وقارئ القرآن.

فقد روي عن النبيّ [ص]:

«من دخل المقابر فقال: اللّهم ربّ الأجساد البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليها روحاً وسلاماً منّي. استغفرَ له كلّ مؤمن مات منذ


1- أحكام القرآن، الجصاص، ج٣، ص644؛ مسند ابن الجعد، ص٣٩٨؛ السنن الكبرى، البيهقي، ج٣، ص٣١١.
2- غافر: 6٠.

ص:111

خلق الله آدم»(1)

وفي رواية أخرى عن أنس عن النبيّ [ص] أنّه قال:

«من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذٍ، وكان له بعدد مَن فيها حسنات»(2)

وروايات أخرى مثلها، مثل: «قال رسول الله [ص]:

من دخل المقابر ثمّ قرأ فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، وألهاكم التكاثر، ثمّ قال: إنّي جعلت ثواب ما قرأت من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات كانوا شفعاء له إلى الله تعالى»(3)

وكذلك روايات نقلت في كتب أهل السنّة(4)تحكي استحباب الدعاء عند القبور.

٢- من يذهب إلى المقابر باعتقاد أنّ الدعاء فيها مستجاب بوساطة الموتى فيدعو الله هناك بهذا القصد.

ومن المسلّم أنّ الشيعة لا يعتقدون بهذا الأمر، بل يعتبرون أنّ الدعاء للموتى مستحبٌ لا غير.

٣- من يقصد الأماكن المباركة والمراقد المشرّفة، كحرم النبيّ الكريم (ص) والأئمّة والأولياء، والذين هم أحياء كما يعتقد كافّة المسلمين، طمعاً في نيلهم دعوة منهم ووساطة عند الله تعالى لهم لأجل غفران ذنوبهم. ومن المتيقّن أنّ هذا العمل عمل عقلائي وراجح.

يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء:

«والدعاء مستجاب عند قبور


1- إعانة الطالبين، ج٢، ص ١6٣؛ المصنّف، ابن أبي شيبة، ج٧، ص١٨٨؛ التمهيد، ج٢٠، ص٢4١؛ مراقي الفلاح، ج١، ص٢٣٣؛ المستطرف، ج٢، ص5٣٣.
2- المغني، ج٢، ص 4٢5؛ مراقي الفلاح، ج١، ص٢٣٣؛ كشف القناع، ج٢، ص١٧١؛ عمدة القاري، ج٣، ص١١٨.
3- تحفة الأحوذي، ج٣، ص٢٧5.
4- التمهيد، ج٢٠، ص٢4١.

ص:112

الأنبياء والأولياء، وفي سائر البقاع، لكن سبب الإجابة حضور الداعي، وخشوعه وابتهاله، وبلا ريب في البقعة المباركة، وفي المسجد، وفي السحر، ونحو ذلك، يتحصّل ذلك للداعي كثيراً، وكلّ مضطر فدعاؤه مجاب»(1)

وعلى هذا نصل إلى نتيجة مفادها: أنّ الصلاة عند القبور جائزة لكنّها مكروهة، وفي الأماكن المشرّفة جائزة ولا كراهة فيها، بل هناك روايات في الكتب الروائية الشيعية تدلّ على استحباب الصلاة في الأماكن والبقع المشرّفة، والدعاء عند القبور والأماكن الشريفة جائز ومرغوب فيه.


1- سير أعلام النبلاء، ج١٧، ص٧٧.

ص:113

فهرس المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

١. الإبهاج في شرح المنهاج، علي بن عبد الكافي السبكي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4٠4ه. ق.

٢. أصول الأحكام، علي بن محمّد الآمدي، دمشق، المكتب الإسلامي، ١4٠٢ه. ق.

٣. الإحكام في أصول الأحكام، أبو محمّد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي، القاهرة، دار الحديث، ١4٠4ه. ق.

4. أحكام الجنائز، محمّد ناصر الدين الألباني، بيروت، المكتب الإسلامي، ١4٠6ه. ق.

5. أحكام القرآن، أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١5ه. ق.

6. إرشاد الساري إلى صحيح البخاري، أبو العبّاس أحمد القسطلاني، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

٧. إرشاد الفحول، محمّد بن علي بن محمّد الشوكاني، بيروت، دار المعرفة، ١٣٩٩ه. ق

ص:114

٨. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمّد ناصر الدين الألباني، بيروت، المكتب الإسلامي، ١4٠5ه. ق.

٩. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمّد بن محمّد بن عبد الكريم بن عبدالواحد الشيباني، طهران، انتشارات إسماعيليان.

١٠. أصول السرخسي، محمّد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١4ه. ق.

١١. إعانة الطالبين، السيّد البكوي، ابن السيّد محمّد شطا الدمياطي، بيروت، دارالفكر، ١4١٨ه. ق.

١٢. الاعتصام، أبوإسحاق الشاطبي، بيروت، دار المعرفة.

١٣. الإقناع في حلّ ألفاظ أبي شجاع، شمس الدين محمّد بن أحمد الشربيني الخطيب، بيروت، دار المعرفة.

١4. الأمّ، الإمام الشافعي، بيروت، دار الفكر، ١4٠٣ه. ق.

١5. بحارالأنوار، محمّد باقر المجلسي، بيروت، مؤسسة الوفاء، ١4٠٣ه. ق.

١6. البحر الرائق، ابن نجيم المصري، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١٨ه. ق.

١٧. البداية والنهاية، ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١4٠٨ه. ق.

١٨. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، باكستان، مكتبة الحبيبية، ١4٠٩ه. ق.

١٩. البرهان في أصول الفقه، أبو المعالي الجويني، عبد الملك بن عبدالله ابن يوسف الجويني، مصر، مؤسّسة الوفاء، ١4١٨ه. ق.

ص:115

٢٠. تاج العروس، محمّد مرتضى الزبيدي، بيروت، مكتبة الحياة.

٢١. تاريخ ابن معين، ابن معين، يحيى بن معين بن عون الغطفاني، دمشق، دارالمأمون للتراث.

٢٢. تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، بيروت، دارالكتب العلمية، ١4١٧ه. ق.

٢٣. تاريخ جرجان، حمزة بن يوسف أبو القاسم الجرجاني، بيروت، عالم الكتب، ١4٠١ه. ق.

٢4. التاريخ الصغير، البخاري، أبو عبد الله إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري، بيروت، دار المعرفة، ١4٠6ه. ق.

٢5. التاريخ الكبير، البخاري، أبو عبد الله إسماعيل بن ابراهيم الجعفي البخاري، ديار بكر، المكتبة الإسلامية.

٢6. تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله بن عبد الله الشافعي، بيروت، دار الفكر، ١4١٧ه. ق.

٢٧. التبيين لأسماء المدلّسين، سبط ابن العجمي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4٠6ه. ق.

٢٨. تحفة الأحوذي، أبو العلاء محمّد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١٠ه. ق.

٢٩. تذكرة الفقهاء، العلامة الحلّي، حسن بن يوسف بن المطهر الحلّي، قم، مؤسسة آل البيت: ، ١4١4ه. ق.

٣٠. تفسير ابن كثير، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، بيروت، دار المعرفة، ١4١٢ه. ق.

ص:116

٣١. تفسير البيضاوي، أنوار التنزيل و أسرار التأويل، البيضاوي، أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمّد الشيرازي البيضاوي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4٠٨ه. ق.

٣٢. تفسير الثعالبي، الجواهر الحسان في تفسير القرآن، عبد الرحمن ابن محمّد بن مخلوف أبو زيد الثعالبي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١4١٨ه. ق.

٣٣. تفسير روح المعاني، الآلوسي، أبو الفضل محمود الآلوسي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

٣4. تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١4٠5ه. ق.

٣5. تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١5ه. ق.

٣6. التلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بيروت، دار الفكر.

٣٧. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، عبدالرحيم بن الحسن الآسنوي، بيروت، مؤسسة الرسالة، ١4٠٠ه. ق.

٣٨. التمهيد لما في الموطأ من المعاني و المسانيد، ابن عبد البرّ، أبوعمر يوسف بن عبد الله بن عبد البرّ النمري، المغرب، وزارة عموم الأوقاف و الشؤون الإسلامية، ١٣٨٧ه. ق.

٣٩. تنوير الحوالك، السيوطي، جلال الدين السيوطي، بيروت، دار الكتب العلمية.

4٠. تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، طهران، دار الكتب الإسلامية، ١٣65ه. ش.

ص:117

4١. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بيروت، دار الفكر للطباعة، ١4٠4ه. ق.

4٢. تهذيب الكمال، جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١4١٣ه. ق.

4٣. الثقات، محمّد بن حبّان بن أحمد أبو حاتم التميمي، حيدرآباد، مجلس دائرةالمعارف العثمانية، ١٣٩٣ه. ق.

44. الثمر الداني، شرح رسالة ابن أبي زيد، صالح عبد السميع الآبي الأزهري، بيروت، المكتبة الثقافيّة.

45. الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، بيروت، دار الفكر، ١4٠١ه. ق.

46. الجرح والتعديل، أبو محمّد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١٣٧١ه. ق.

4٧. الجوهر النقي، المارديني، علاء الدين بن علي بن عثمان المارديني (ابن التركماني) ، بيروت، دار الفكر.

4٨. حاشية السندي على النسائي، نور الدين عبد الهادي، بيروت، دار الكتب العربية، ١4٠6ه. ق.

4٩. حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح، أحمد بن محمّد بن إسماعيل الطحطاوي.

5٠. الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي، بيروت، دارالمعرفة للطباعة والنشر، ١٣65ه. ق.

5١. دفع الشبه عن الرسول، أبو بكر بن محمّد بن عبد المؤمن تقي الدين الحصني، القاهرة، دار إحياء الكتاب العربي، ١4١٨ه. ق.

ص:118

5٢. الديباج على مسلم، السيوطي، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، الرياض، دار ابن عفّان، ١4١6ه. ق.

5٣. رسالة ابن أبي زيد، ابن أبي زيد القيرواني، بيروت، المكتبة الثقافية.

54. رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسّل والزيارة، محمود سعيد ممدوح، عمان، دار الإمام النووي، ١4١6ه. ق.

55. روضة الناظر و جنّة المناظر، ابن قدامة، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، رياض، جامعة محمّد بن سعود، ١٣٩٩ه. ق.

56. رياض الصالحين من حديث سيّد المرسلين، يحيى بن شرف النووي، بيروت، دار الفكر المعاصر، ١4١١ه. ق.

5٧. رياض المسائل، السيّد علي الطباطبائي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، ١4١٢ه. ق.

5٨. زاد المعاد، ابن القيم الجوزيّة، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١4٠٧ه. ق.

5٩. زيارت از ديدگاه أئمّه (فقه المزار عند الأئمّة الأطهار) ، عبدالهادي الحسيني، الرياض، ١4٢6ه. ق.

6٠. سبُل السلام، محمّد بن إسماعيل الكحلاني، مصر، شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي و أولاده، ١٣٧٩ه. ق.

6١. سبُل الهدى والرشاد، محمّد بن يوسف الصالحي الشامي، بيروت، دارالكتب العلمية، ١4١4ه. ق.

6٢. السلسلة الصحيحة، محمّد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة المعارف.

6٣. سنن ابن ماجة، ابن ماجة، محمّد بن يزيد القزويني، بيروت، دار الفكر.

64. سنن أبي داود السجستاني، أبوداود سليمان بن الأشعث السجستاني، بيروت، دار الفكر، ١4١٠ه. ق.

ص:119

65. سنن التِرمِذي، الترمذي، أبو عيسى محمّد بن عيسى سورة الترمذي، بيروت، دار الفكر، ١4٠٣ه. ق.

66. سنن الدارمي، عبد الله بن الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، دمشق، مطبعة الاعتدال.

6٧. السنن الكبرى، أحمد بن شعيب النسائي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١١ه. ق.

6٨. السنن الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، بيروت، دار الفكر.

6٩. سنن النسائي، أحمد بن شعيب النسائي، بيروت، دار الفكر، ١٣4٨ه. ق.

٧٠. سير أعلام النبلاء، محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١4١٣ه. ق.

٧١. شرح سنن النسائي، جلال الدين السيوطي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١4٠6ه. ق.

٧٢. شرح صحيح مسلم، أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي، بيروت، دار الكتاب العربي، ١4٠٧ه. ق.

٧٣. الشرح الكبير على متن المقنع، أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمّد بن أحمد بن قدامة المقدسي، بيروت، دار الكتاب العربي.

٧4. التعليق الممجد على موطأ محمّد (شرح موطأ مالك) ، اللكنوي، دمشق، دار القلم، ١4١٣ه. ق.

٧5. شرح مسند أبي حنيفة، ملا علي القاري، بيروت، دار الكتب العلمية.

٧6. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، قم، منشورات مكتبة آية الله المرعشي، ١4٠4ه. ق.

ص:120

٧٧. شُعب الإيمان، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، بيروت، دارالكتب العلمية، ١4١٠ه. . ق

٧٨. الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري، بيروت، دارالعلم للملايين، ١4٠٧ه. ق.

٧٩. صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان، محمّد بن محمّد بن أحمد علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١4١4ه. ق.

٨٠. صحيح ابن خزيمة، أبو بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة السلمي، بيروت، المكتب الإسلامي، ١4١٢ه. ق.

٨١. صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل البخاري، بيروت، دار الفكر، ١4٠١ه. ق.

٨٢. صحيح الترغيب والترهيب، محمّد ناصر الدين الألباني، الرياض، مكتبة المعارف.

٨٣. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، بيروت، دار الفكر.

٨4. ضعفاء العقيلي، محمّد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي، بيروت، دارالكتب العلمية، ١4١٨ه. ق.

٨5. الطبقات الكبرى، ابن سعد، بيروت، دار صادر.

٨6. العلل، الإمام أحمد بن حنبل، بيروت، المكتب الإسلامي.

٨٧. عمدة القاري في شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني، بيروت، دارالفكر.

٨٨. فتاوى مهمّة، عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرياض، دار العاصمة، ١4١٣ه. ق.

٨٩. الفتاوى الكبرى، أحمد بن عبد الحليم بن تيميّة الحرّاني، بيروت، دار المعرفة، ١٣٨6ه. ق.

ص:121

٩٠. فتح الباري شرح صحيح البخاري، شهاب الدين بن حجر العسقلاني، بيروت، دار المعرفة للطباعة و النشر.

٩١. فتح العزيز في شرح الوجيز، عبدالرحيم بن محمّد الرافعي، بيروت، دارالفكر.

٩٢. الفصول في الأصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، بيروت، إحياء التراث الإسلامي، ١4٠5ه. ق.

٩٣. فقه السنّة، السيّد سابق، بيروت، دار الكتاب العربي.

٩4. الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

٩5. فيض القدير، محمّد عبد الرؤوف المنّاوي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١5ه. ق.

٩6. القاموس المحيط، محمّد بن يعقوب الفيروز آبادي.

٩٧. الكافي، أبو جعفر محمّد بن يعقوب إسحاق الكليني، طهران، دارالكتب الإسلامية، طهران، ١٣٨٨ه. ق.

٩٨. الكافي في فقه ابن حنبل، عبدالله بن قدامة المقدسي، بيروت، المكتب الإسلامي، ١4٠٨ه. ق.

٩٩. الكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي، أبو أحمد عبدالله بن عدي، بيروت، دار الفكر، ١4٠٩ه. ق.

١٠٠. كتاب الضعفاء والمتروكين، أحمد بن علي بن شعيب النسائي، بيروت، دار المعرفة، ١4٠6ه. ق.

١٠١. كتاب المجروحين، محمّد بن حبّان بن أحمد التميمي، تحقيق: محمود إبراهيم زايد.

ص:122

١٠٢. كشف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهوتي، بيروت، دارالكتب العلمية، ١4١٨ه. ق.

١٠٣. كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين المتقي الهندي، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١4٠٩ه. ق.

١٠4. لسان العرب، ابن منظور، محمّد بن مكرم بن منظور، قم، نشر أدب الحوزة، ١4٠5ه. ق.

١٠5. لسان الميزان، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، ١٣٩٠ه. ق.

١٠6. مجمع الزوائد، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، بيروت، دارالكتب العلمية، ١4٠٨ه. ق.

١٠٧. المجموع، محيي الدين بن شرف النووي، بيروت، دار الفكر.

١٠٨. مجموع الفتاوى، محمّد بن عبد الحليم بن تيميّة الحرّاني، الرياض.

١٠٩. المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١4١٢ه. ق.

١١٠. مراقي الفلاح بإمداد الفتاح، حسن بن عمار بن علي الشرنبلاني الحنفي.

١١١. المستدرك على الصحيحين، أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، بيروت، دارالمعرفة، ١4٠6ه. ق.

١١٢. المستصفى، أبوحامد محمّد الغزالي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١٧ه. ق.

١١٣. المستطرف، شهاب الدين محمّد بن أحمد أبو الفتح الأبشيهي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١٩٨6م.

ص:123

١١4. مسند أحمد بن حنبل، الإمام أحمد بن حنبل، بيروت، دار صادر.

١١5. مسند ابن الجعد، علي بن الجعد بن عبيد، بيروت، دار الكتب العلمية.

١١6. مسند أبي داود الطيالسي، سليمان بن داود بن الجارود أبو داود الطيالسي، بيروت، دار الحديث.

١١٧. مسند أبي يعلي، أحمد بن علي بن المثنّى التميمي أبو يعلي الموصلي، بيروت، دار المأمون للتراث١4٠٧ه. ق.

١١٨. مسند الحميدي، أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4٠٩ه. ق.

١١٩. مسند الشاميين، سليمان بن أحمد الطبراني، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ١4١6ه. ق.

١٢٠. المصنّف، محمّد بن أبي شيبة، بيروت، دار الفكر، ١4٠٩ه. ق.

١٢١. المصنّف، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المجلس العلمي.

١٢٢. المعتمد في أصول الفقه، أبو الحسين البصري، محمّد بن علي ابن الطيب البصري، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4٠٣ه. ق.

١٢٣. المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، دار الحرمين.

١٢4. المعجم الصغير، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، بيروت، دار الكتب العلمية.

١٢5. المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، القاهرة، مكتبة ابن تيميّة.

١٢6. معرفة الثقات، أحمد بن عبد الله العجلي، المدينة، مكتب الدار، ١4٠5ه. ق.

ص:124

١٢٧. المغني، أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن قدامة، بيروت، دارالكتاب العربي.

١٢٨. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمّد الشربيني، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١٣٧٧ه. ق.

١٢٩. منهاج السنّة، أحمد بن عبد الحليم بن تيميّة الحرّاني، مؤسّسة قرطبة، ١4٠6ه. ق.

١٣٠. موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبّان، علي بن أبي بكر الهيثمي، بيروت، دار الكتب العلمية.

١٣١. مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، أبو عبد الله محمّد بن محمّدبن عبدالرحمن المغربي الحطاب الرعيني، بيروت، دار الكتب العلمية، ١4١6ه. ق.

١٣٢. الموضوعات، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، المدينة، المكتبة السلفيّة، ١٣٨6ه. ق.

١٣٣. الموطأ، الإمام مالك بن أنس، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١4٠6ه. ق.

١٣4. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي، بيروت، دار المعرفة.

١٣5. نصب الراية لأحاديث الهداية، جمال الدين الزيلعي، القاهرة، دارالحديث، ١4١5ه. ق.

١٣6. نيل الأوطار من أحاديث سيّد الأخيار، محمّد بن علي بن محمّد الشوكاني، بيروت، دار الجيل.

١٣٧. وسائل الشيعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، طهران، مكتبة الإسلامية.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.