فقه المزار في احاديث الائمه الاطهار عليهم السلام

اشارة

نام كتاب: فقه المزار في أحاديث الأئمة الأطهار عليهم السلام

نويسنده: آية الله الشيخ جعفر السبحاني

موضوع: اعتقادات و پاسخ به شبهات

زبان: عربي

تعداد جلد: 1

ناشر: نشر مشعر

مكان چاپ: تهران

نوبت چاپ: 1

ص: 1

المقدمة

الحمد للَّه رب العالمين. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين اذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وجعلهم اعدال الكتاب وقرنّاؤه، ونيّط بهما سعادة الأُمة وهدايتهم في الدنيا والآخرة، إذ قال: اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً.

أمّا بعد:

فقد وقفت على كتيب باسم «فقه المزار عند الأئمة عليهم السلام»، قد تقنع مؤلفه باسم مستعار هو عبدالهادي الحسيني، كما تقنع ناشروه باسم كاذب وقالوا: نشر مركز احياء تراث آل البيت، فلا المؤلف شيعي يوالي أهل البت ولا الناشر يسعى لاحياء تراثهم عليهم السلام، وإنّما قام باصدار هذا الكتيب مجموعة من الحاقدين خلت قلوبهم عن المودة لأهل القربى لو لم نقل بانها امتلأت بالنصب البغيض لهم.

وقد حاول الكاتب عرض افكار الوهابية ودعمها بروايات أهل البيت عليهم السلام دون أن يعرف أهل البيت عليهم السلام وآراءهم وأخبارهم وما تعنيه رواياتهم، فقد نظر إلى الروايات نظرة سطحية برأي مسبق فخرج نتائج لا تعدو ما قاله محمد عبدالوهاب ومن قبله ابن تيمية.

ثم ان علماء المسلمين من لدن ظهور الضلال في أوائل القرن الثامن ردوا على تلك الافكار الساقطة التي لا تهدف إلّاإلى الحط من مقامات الأنبياء والأولياء أولًا وهدم كل أثر ديني بقي من عصر الرسالة إلى يومنا هذا تحت شعار التوحيد ثانياً.

ولذلك قمنا بنقد هذه الرسالة نقداً موضوعياً بناءً نهدف من ورائه بيان الحقيقة واتمام الحجة على الكاتب ومن على رأيه.

وستكون دراستنا للموضوع ضمن الفصول التالية:

1. زيارة القبور وآثارها البناءة في الكتاب والسنة.

ص:2

2. حكم البناء على قبور الأنبياء والأولياء في المذاهب الإسلامية.

3. حكم بناء المساجد على مراقد الأنبياء والأولياء.

4. آداب زيارة مراقد الأنبياء والأولياء.

5. حكم التوسل بالأنبياء والأولياء في مراقدهم.

وسوف نركز في هذه الفصول- غالباً- على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام- حتّى يتبين أن الأخبار الواردة عنهم تضاد تماماً مع ما عليه الوهابية في كافة المجالات.

واللَّه من وراء القصد

جعفر السبحاني

قم/ مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

22/ شهر رمضان المبارك/ 1429 ه

ص:3

الفصل الأوّل: الزيارة وآثارها البنّاءة في الكتاب والسنة

اشاره

الزيارة- لغة- بمعنى القصد، فقد جاء في «المصباح المنير»: زاره، يزوره، زيارة، وزوراً:

قصده، فهو زائر. (1)والمزار يكون مصدراً، أو موضع الزيارة، والزيارة في العرف قصد المزور إكراماً له واستئناساً به.

وربّما تطلق الزيارة في ألسن العامة على ما يقرأه الزائر أو يتكلم به مادحاً المزور وواصفاً له ومسلِّماً عليه، إلى غير ذلك من الكلمات والجمل الواردة في زيارة الأولياء وغيرهم.

إن صلة الإنسان بآبائه وأجداده وأرحامه وأصدقائه في حياتهم أمر واضح، وعندما يفترق عنهم مدة معينة يجد في نفسه شوقاً لزيارتهم والحضور عندهم والاستئناس بهم، ولذلك أمرنا اللَّه سبحانه بصلة الارحام وحرّم قطع الرحم، وكأنّه بايجابه هذه الصلة أكد ما عليه الإنسان ذا الفطرة السليمة.

ثم إذا مات هؤلاء ودفنوا في مقابرهم لا يرضى الإنسان ان تنقطع صلته بهم ويجد في نفسه دافعاً إلى زيارة قبورهم، ولذا تراه يقوم بتعميرها وصيانتها حفاظاً عليها من الاندراس، كل ذلك نابع عن فطرة خلق الإنسان عليها.

ومن الواضح ان الدين الإسلامي لا يتعارض مع مقتضيات الفطرة بل انّه يضع أحكامه وفقها، ولذا أمر بالعدل والاحسان ونهى عن خلافهما، وهكذا سائر الاحكام الأساسية الواردة في الكتاب والسنة، والتي لا تتغير بمرور الزمان وتبقى سائدة ما دام للإنسان وجود على الأرض وشريعة الإسلام حاكمة قال سبحانه: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ» (2)

الآثار الايجابية للزيارة

حينما يطل الإنسان بنظره على وادي الصمت (المقابر) يرى عن كثب وادياً يضم أجساد


1- المصباح المنير: 315، مادة «زور».
2- الروم: 30.

ص:4

الفقراء والاغنياء والصغار والكبار جنباً إلى جنب، يراهم قد باتوا في سبات عميق وصمت مخيف، قد سلبت عنهم قدراتهم وأموالهم، وما سخروه من الخدم، ولم يأخذوا معهم إلّاالكفن.

وهذه النظرة تدهش الإنسان وتدفعه إلى التفكير في مستقبله ومصيره وربّما يحدث نفسه بأن حياة هذه عاقبتها، وأياماً هذه نهايتها لا تستحق الحرص على جمعه للأموال، والاستيلاء على المناصب والمقامات، خصوصاً فيما لو كان الزائر موحدّاً مصدِّقاً بالمعاد، وانّه سوف يحاسب بعد موته على أعماله وافعاله وما اكتنز من الكنوز واقتنى من الأموال وتسلم من مناصب، فهل كان ذلك عن طريق مشروع دون أن يكون فيه هضم للحقوق وتجاوز على الاعراض والنفوس.

هذا هو الأثر التربوي لزيارة القبور على الاطلاق سواء أكان القبر للأنبياء أو الأولياء أو للارحام والاصدقاء أو لم يكن واحداً منهم وإلى هذا الأثر التربوي يشير الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في الحديث المروي عنه: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة». (1)وفي حديث آخر قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«زوروا القبور فان لكم فيها عبرة».

فقد اشار الإمام الهادي عليه السلام في الابيات التي أنشدها للمتوكل العباسي إلى العبرة التي يجب أن يأخذ كل إنسان واع.

روى المسعودي بانّه سُعيّ إلى المتوكل بالإمام علي الهادي عليه السلام وقيل له: إنّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته، فوجّه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممّن في داره، فوجد في بيت وحده مغلّق عليه وعليه مدرعة من شعر، ولا بساط في البيت إلّاالرّمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة من الصّوف، متوجّهاً إلى ربّه يترنّم بآيات من القرآن، في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه وحمل إلى المتوكّل في جوف اللّيل، فَمَثُل بين يديه والمتوكّل يشرب وفي يده كأس، فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ولم يكن في منزله شي ء ممّا قيل فيه، ولا حالة يتعلّل عليه بها، فناوله المتوكّل الكأس الّذي في يده، فقال عليه السلام له: «ما خامر لحمي ودمي قطّ فاعفني منه» فعافاه وقال: أنشدني شعراً استحسنه، فقال عليه السلام: «إنّي لقليل الرّواية للأشعار» فقال:

لابدّ أن تنشدني فأنشده عليه السلام:

باتُوا على قُلَلِ الأجبال تَحْرِسُهُمْ

غُلْبُ الرجالِ فَما أغنتهم الْقُلَلُ

وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعاقِلِهم

فاوُدِعُوا حُفَراً يابِئسَ ما نَزَلُوا


1- سنن ابن ماجة: 1/ 500، الحديث 1569.

ص:5

ناداهُمُ صارِخٌ مِنْ بَعدِ ما قُبرُوا

أيْنَ الأسرةُ والتيجان والحُلَلُ

أين الوجوه الّتي كانت مُنَعَّمَةً

مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكِللُ

فأفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حينَ ساءَلَهُمْ

تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْها الدُّودُ يقْتَتِلُ

قَدْ طالَ ما أكَلُوا دَهراً وما شَرِبُوا

فأصبَحُوا بعدَ طولِ الأكلِ قَد أُكِلُوا

وَطالَ ما عَمّرُوا دُوراً لِتُحْصِنَهُمْ

فَفارَقُوا الدُّورَ والأهليَن وانتقَلُوا

وَطالَ لَما كَنزُوا الأموالَ وادَّخَرَوا

فخلَّفُوها على الأعداء وارْتَحَلُوا

أضْحَتْ مَنازلُهُمْ قَفْراً مُعَطَّلَةً

وساكِنُوها إلى الأجداثِ قَدْ رَحَلُوا

(1)


1- مروج الذهب: 4/ 10.

ص:6

زيارة مراقد العلماء والشهداء

ما ذكرناه من الأثر التربويّ هو نتيجة لزيارة قبور عامة الناس، حيث إنها تورث العبرة وتذكّر بالآخرة وتحطُّ من الأطماع وتقلّل من تعلّق الإنسان بالدنيا وما فيها.

وامّا زيارة مراقد العلماء فلها وراء ذلك شأن آخر، حيث إنها تهدف إلى تكريم العلم وتعظيمه وبالتالي تحث الجيل الناشي ء لتحصيل العلم، حيث يرى بأُمِّ عينيه تكريم العلماء أحياءاً وأمواتاً.

ان لزيارة مراقد الشهداء- الذين ذبّوا بدمائهم عن دينهم وشريعتهم المقدسة- أثراً آخر وراء العبرة والاعتبار، ذلك ان الحضور عند مراقدهم بمنزلة عقد ميثاق وتعهد من الحاضرين في مواصلة الخط الّذي ساروا عليه.

ولايضاح الحال نأتي بمثال: أن الفقهاء افتوا باستحباب استلام الحجر الاسود عند الطواف وعندئذ يسأل الزائر عن سرّ هذا العمل، وما هي الفائدة من وضع اليد على الحجر واستلامه، إلّا أنّه لو تأمل في تاريخ بناء البيت وأنّ بطل التوحيد- على ما روي- قام عليه في رفع قواعده لوقف على سرّه وهو أن هذا العمل عقد ميثاق مع إبراهيم الخليل عليه السلام الّذي بنى البيت للموحدين وقد تحمل- في نشر التوحيد وكسر اصنام الشرك- جهوداً مضنية.

فالزائر باستلامه الحجر الّذي كان في متناول إبراهيم كأنّه يعقد معه ميثاقاً لمواصلة المسير الّذي اختطه إبراهيم عليه السلام.

وقد جاء هذا المعنى في بعض الروايات حيث ورد أنّه يستحب لمن يستلم الحجر أن يقول:

أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة. (1)وما ذكرناه من حكمة لهذا العمل هي السبب ذاته للحضور عند مراقد شهداء بدر وأُحد وكربلاء، وغيرها، فإن الزائر بحضوره لديهم وبوضع يده على مراقدهم، كأنّه يعقد ميثاقاً مع أرواحهم في مواصلة الاهداف التي لأجلها خرجوا بدمائهم، وقتلوا في سبيلها، فزيارة قبور الشهداء تكريم وتعظيم لهم ونوع تعهد في مواصلة أهدافهم.

كما أن من الجدير ذكره أن كثيراً من السلفيين ربّما يعتذرون عن استلام الحجر بما أثر عن


1- وسائل الشيعة: 10، الباب 13 من أبواب الطواف، الحديث 17.

ص:7

الخليفة الثاني من أنّ تقبيله له لأجل أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قبله، ولولا تقبيله لما فعل ولكنه غفل عن سرّ تقبيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وقد ااشير إليه في الحديث التالي.

روى عبدالرحمن بن كثير الهاشمي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: مرّ عمر بن الخطاب على الحجر الأسود فقال: واللَّه يا حجر إنّا لنعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع، إلّاأنّأ رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يحبّك فنحن نحبّك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: كيف يابن الخطاب، فواللَّه ليبعثنه اللَّه يوم القيامة وله لسان وشفتان، فيشهد لمن وافاه، وهو يمين اللَّه عزوجل في أرضه يبايع بها خلقه، فقال عمر: لا أبقانا اللَّه في بلد لا يكون فيه علي بن أبي طالب. (1)

زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

تضافرت الروايات على استحباب زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وانها من متممات الحج.

وقد اتفق الفريقان على استحباب زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فقد جاء في كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»: زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أفضل المندوبات وردت فيها أحاديث. (2)1. عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: أتموا برسول اللَّه حجكم إذا خرجتم إلى بيت اللَّه فإنْ تركه جفاءٌ وبذلك أمرتم وأتموا بالقبور التي ألزمكم اللَّه زيارتها وحقها» (3)

2. عن عبداللَّه بن عمر قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من زار قبري وجبت له شفاعتي». (4)3. وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «من جاءني زائراً (لا تعمله) إلّازيارتي كان حقاً عليّ أن أكون شفيعاً يوم القيامة». (5)4. وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «من حج فزار قبري بعد وفاتي، كان كمن زارني في حياتي» (6)

ومن طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام روى عبدالرحمن بن أبي نجران قال سألت أبا جعفر عليه السلام عمن زار قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم متعمداً؟ قال: «يدخله اللَّه الجنة إن شاء اللَّه» (7)


1- علل الشرائع: 426/ 8؛ الوسائل: 10، الباب 12 من أبواب الطواف، الحديث 13.
2- الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 590.
3- الخصال للشيخ الصدوق: 2/ 406.
4- شفاء السقام: 81.
5- شفاء السقام: 83.
6- شفاء السقام: 89.
7- كامل الزيارات: الباب 2، الحديث 3.

ص:8

وقوله: «متعمداً» أي يكون مجيئه لمحض الزيارة لا لشي ء آخر تكون الزيارة مقصودة بالتبع.

روى ابن قولويه بسنده عن أبي حجر الاسلمي قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «من أتى مكة حاجّاً ولم يزرني بالمدينة جفوته يوم القيامة ومن زارني زائراً وجبت له شفاعتي». (1)ومراده من الجفاء هو عدم الشفاعة.

وقد أورد ابن قولويه في هذا الباب أزيد من عشرين حديثاً في استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وما هذا إلّالأن الحضور لدى قبره الشريف نوع تقدير وعرفان لجميل ما بذله في سبيل هداية الاجيال وما تحمل في سبيل ذلك من الجهود المضنية.

إن للإمام الرضا عليه السلام كلمة قيمة في زيارة مراقد القادة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة أهل البيت حيث قال: «إن لكل إمام عهداً في عتق أوليائه وشيعته وان من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم» (2)

هذا وكانّ الزائر في حرم النبي صلى الله عليه و آله و سلم يخاطب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: لو إن الانصار بايعوك في العقبة الثانية لأن يذبوا عنك كما يذبون عن انفسهم وأولادهم أو أن المهاجرين والانصار بايعون تحت الشجرة للذب عن رسالتك فها أنا ابايعك في حرمك للذب عن المثل العليا في رسالتك السماوية المقدسة بما اوتيتُ من حول وقوة من اللَّه سبحانه ناشراً الوية التوحيد في ربوع العالم، محطماً أوتاد الشرك وأصنامه.

فلو كان السياح يسير في الأرض لزيارة المواقع التاريخية والمناظر الطبيعية الجميلة فها أنا قطعت الفيافي لزيارة مرقدك، فإن لم اتمكن من تقبيل يدك فانا اقبل تربة القبر الّذي ضم جسدك الشريف.

طلب الاستغفار من النبي صلى الله عليه و آله و سلم

إن الذكر الحكيم يحث المسلمين أو طائفة منهم على الحضور عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم ليستغفر لهم بعد استعفا قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا


1- كامل الزيارات: الباب 2، الحديث 9.
2- الوسائل: 10، الباب 44 من أبواب المزار، الحديث 2.

ص:9

اللهَ تَوَّابًا رَحِيًما» (1)

ويقول سبحانه في موضع آخر: «وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» (2)

والآية وان وردت والنبي على قيد الحياة إلّاأن المورد لايخصص لان النبي صلى الله عليه و آله و سلم حي يرزق كيف وهو يرد سلام صلّى عليه وكيف لا يكون حياً وهو نبي الشهداء وهؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون، فمن زار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وطلب منه الاستغفار سوف يكون قد عمل بالآية الشريفة.

وقد فهم ألباب الأُمة وعقلاؤها أن الآية لا تشير إلى مدة حياته بل تعم الدنيا إلى آخرها لذلك كتبت هذه الآية فوق قبره الشريف لكي لا يغفل الزائرون عن هذه النعمة العظيمة.

ثم ان العلّامة السبكي نقل في «شفاء السقام» فتاوى فقهاء المذاهب وان الجميع متفقون على استبحاب زيارته نقل أيضاً عن فقيه الحنابلة.

قال: وكذلك نصّ عليه الحنابلة أيضاً؛ قال أبو الخطّاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلواذانيّ الحنبلي في كتاب «الهداية» في آخر باب صفة الحجّ: وإذا فرغ من الحجّ استحبّ له زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وقبر صاحبيه.

وقال أبوعبداللَّه محمّد بن عبداللَّه بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن إدريس السامريّ في كتاب «المستوعب»: باب زيارة قبر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وإذا قدم مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم استحبّ له أن يغتسل لدخولها، ثمّ يأتي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ويقدّم رجله اليمنى في الدخول، ثمّ يأتي حائط القبر، فيقف ناحية، ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره ... وذكر كيفيّة السلام والدعاء إلى آخره.

ومنه: اللّهم إنّك قلت في كتابك لنبيّك عليه السلام: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ ...» (3)، وإنّي قد أتيت نبيّك مستغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة، كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهم إنّي أتوجّه إليك بنبيّك صلى الله عليه و آله و سلم ... وذكر دعاء طويلًا.

ثمّ قال: وإذا أراد الخروج عاد إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فودّع.


1- النساء: 64.
2- المنافقون: 5.
3- النساء: 64.

ص:10

وانظر هذا المصنّف من الحنابلة- الذين الخصم متمذهب بمذهبهم-، كيف نصّ على التوجّه بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم! (1)

زيارة القبور في السنة النبوية

اتفق أهل السيرة على أن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان يخرج من أخر الليل إلى البقيع، فيقول:

«السلام عليكم دار قوم مؤمنين واتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد». (2)ولم يقتصر صلى الله عليه و آله و سلم بل علّم كيفية الزيارة لزوجته، روى مسلم في صحيحه عن عائشة في حديث طويل قالت قلت كيف أقول لهم يارسول اللَّه قال صلى الله عليه و آله و سلم: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللَّه المتقدمين منا والمستأخرين إن شاء اللَّه بكم للاحقون (3)

ومع ذلك نرى ان الحكومة السعودية قد اقفلت باب البقيع عن وجه النساء، فمنعت دخولهن إليه، مع ان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أدخل زوجته البقيع وعلّمها صيغة الزيارة.

وقد جاء في الآثار أن بنت المصطفى التي هي أفضل نساء العالمين تذهب إلى زيارة القبور كما تذهب إلى زيارة قبر عمها حمزة وتصلي عنده في حياة أبيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم. (4)هذه هي سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهذا سلوك بنته فما هذا التناقض بينها وبين عمل الحكومة السعودية.

هذا وقد زارت عائشة قبر أخيها عبدالرحمن وكان قد مات بالحُيشي والحيشي على اثني عشر ميلًا من مكة، هكذا في كتاب ابن أبي شيبة عن ابن جريج- فحُمِل حتّى دفن بمكة، فقدمت عائشة من المدينة، فأتت قبره فوقفت عليه، فتمثلت بهذين البيتين:

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من السهر حتّى قيل: لن يتصدّعا

فلّما تفرقنا كأنّي ومالكاً

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أما واللَّه لو شهدتك ما زرتك، ولو شهدتك ما دفنتك إلّافي مكانك الّذي متّ فيه (5)

وحصيلة الكلام أن استحباب قبر النبي- أمر اتفق عليه قاطبة الفقهاء.

حتّى ان مفتى الديار السعودية السابق عبدالعزيز بن باز افتى باستحبابها ونشرت جريدة «الجزيرة» فتواه في عددها 6826، وبتاريخ 24/ ذي العقدة الحرام/ عام 1411 ه.

وقد ذكر العلّامة السبكي ماروي في المقام من الأحاديث فانهاها إلى خمسة عشر حديثاً وتكلم في أسناده (6)

كما أن العلّامة الراحل الشيخ الاميني رحمه الله قد نقل ما دل على استحباب زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بما يناهز. (7)***

حديث لا تشد الرحال

ربما يمكن ان يقال ان زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر مستحب في نفسه، إلّاأن السفر لتك الغاية غير جائز لما رواه مسلم في صحيحه:

ان النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لا تشد الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الاقصى» (8)

إلّا أن الامعان في الحديث يعرب عن أن الكلام مشتمل على المستثنى دون المستثنى عنه ويسمى هذا الاستثناء في اصطلاح اللغوين بالاستثناء المفرغ، فلابد من تعيين المستثنى منه ثم دراسة الحديث. وهناك احتمالات ثلاثة:

ان المقدر هو المكان أو القبر، أو المسجد، فعلى الأوّل يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى مكان من الامكنة إلّاإلى ثلاثة مساجد.

وعلى الثاني يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى قبر من القبور إلّاإلى ثلاثة مساجد.


1- شفاء السقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه و آله و سلم: 194، ناقلًا عن المصنف لابن أبي شيبة: 3/ 224، كتاب الجنائز، الحديث 8.
2- لاحظ: شقاء السقام في زيارة خير الأنام: 65- 115.
3- -
4- صحيح مسلم: 4/ 126، باب شد الرحال.
5- شفاء السقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه و آله و سلم: 194، ناقلًا عن المصنف لابن أبي شيبة: 3/ 224، كتاب الجنائز، الحديث 8.
6- لاحظ: شقاء السقام في زيارة خير الأنام: 65- 115.
7- -
8- صحيح مسلم: 4/ 126، باب شد الرحال.

ص:11

ص:12

وعلى الثالث يكون المقصود: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلّاإلى ثلاثة مساجد.

أما الأوّل فهوباطل شرعاً وعرفاً لبديهة جواز السفر للتجارة والزيارة والدراسة والسياحة إلى غير ذلك من الغايات المباحة شرعاً.

أما الثاني فهو يجعل المستثنى منقطعاً لعدم دخول المستثنى في المستثنى، إذ يصبح الكلام ركيكاً جدّاً، والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أفصح العرب، فكيف يتكم بما يُعد عيباً عند الفصحاء والادباء.

اذن يتعين الثالث وهو لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلّاإلى ثلاثة مساجد.

لعدم وجود المزية في غير هذه المساجد الثلاثة، فيصبح شد الرحال أمراً لغواً.

فالمسجد الجامع في البصرة من حيث الثواب نفسه في الكوفة فالسفر من البصرة إلى ا لكوفة لغاية درك فضيلة اقامة الصلاة في المسجد الجامع في الكوفة أمر لا طائل تحته لامكان الزائر ان يناله بالصلاة في جامع البصرة.

ولعمري أن الحديث واضح لا شبهة فيه. وعلى ما ذكرنا لا يشمل من يشد الرحال ويتوجه لمرقد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لزيارته وتجديد البيعة معه لخروجه عن مصب الحديث في جانبي المستثنى والمستثنى منه.

هذا على القول بصحة سند الحديث وبما أنّه ورد في الصحيحين أبى الفقهاء عن المناقشة في مضمونه، وإلّا فيمكن نقض القادة بما تضافر من أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يزور مسجد قباء في كل سبت (1)، ومنطقة قباء تبعد عن المدينة مسافة تستوجب السفر وشد الرحال.

شد الرحال إلى المساجد السبعة

إن حجاج بيت اللَّه الحرام يقصدون المساجد السبعة في المدينة المنورة، مضافاً إلى المساجد الثلاثة الأُخرى كمسجد رد الشمس (الفضيخ)، والاجابة، وبلال، فكيف يبرر هذا السفر مع أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن شد الرحال إلّالمساجد ثلاثة.

الجواب: إن النبي صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن السفر إلى غير هذه المساجد لأجل العبادة والصلاة فيها، لكون السفر أمراً لغواً لعدم مزية مسجد على مسجد آخر مثله. وأما سفر الحجاج إلى هذه المساجد فليس لغاية إقامة الصلاة فيها وان كانوا يصلون بمجرد الدخول فيها بل الغاية من السفر


1- صحيح مسلم 4/ 127؛ صحيح البخاري: 2/ 76.

ص:13

هو التعرف على البطولات التي قام بها المسلمون في وجه المشركين وما قدموا من التضحيات في طريق إرساء أسس الإسلام ونشر راية التوحيد، وكل ذلك لا يعلم إلّابالحضور في تلك المشاهد حتّى يتعرف الإنسان على ما جرى عليهم في تلك الحقبة من الزمن، وذلك واضح لكل من له إلمام بالسفر إلى هذه المساجد. ولم يكن السفر إليها لأجل اقامة الصلاة فيها بل التعرف على تاريخ الإسلام وبطولات رجاله.

والعجب ان الحكومة السعودية بسبب ضغط هيئة الأمرين بالمعروف قد وضعت العراقيل امام حجاج بيت اللَّه الحرام الّذي يقومون بزيارة هذه المشاهد، باقفال بعض هذه المساجد والمنع عن الاخريات، وما ذلك إلّالقطع صلة المسلمين بآثار نبيهم.

صيانة آثار الصالحين

إن كل ظاهرة دينية أو اجتماعية إذا تجردت عن الآثار الدالة على وجودها على أرض الواقع قد تصبح بمرور الاجيال عرضة للتشكيك والترديد.

ولأجل ذلك نرى أن الدعوة النصرانية اصبحت في الغرب- بالأخص عند شبابهم- ظاهرة مشكوكة، وذلك لأنّه ليس لسيدنا المسيح أثر ملموس يستدل على وجوده ودعوته إذ ليس للمسيح عندهم مقام يزار، ولا لأصحابه قبور تقصد، ولم يجدوا كتاباً مصوناً من التحريف والدس، إذ أن ما بين ايديهم ما يقارب 24 أنجيلًا يضاد بعضها بعضاً، على أن كثيراً منها حافل بحياة سيدنا المسيح، وكأن إنساناً غيره قد كتب ترجمة حياته إلى أن صلب وقبر وخرج من القبر بعد عدة أيام.

كل ذلك ممّا سبب تولد التشكيك في أصل الدعوة النصرانية، وأنّه من المحتمل ان تكون من الاساطير والروايات كاسطورة قيس ومعشوقته ليلى العامريين.

ولأجل ألا تبتلي الأُمّة الإسلامية بما ابتلت به الأُممّ السابقة يجب على ابنائها صيانة كل أثر يرجع إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأولاده الطيبين عليهم السلام وأصحابه الميامين وكل ما يمت بصلة اليهم حتّى يصبحوا عند الأُمم المتحضرة شامخي الرؤوس، وانهم اتباع دين قيّم ونبي عظيم، فيقولون هذا مولده، وهذا مهبط وحيه، وهذه قبور أولاده وأصحابه، وهذه اماكن بطولاتهم وفتوحاتهم، إلى غير ذلك ممّا يدل على وجود هذه الدعوة وواقعيتها.

ومن العوامل التي تساعد على صيانة الآثار شد الرحال إلى زيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

ص:14

وقبور أولاده وأصحابه، الذين بذلوا مهجهم في إرساء أُسس الدين، فلو تركت الأُمّة الإسلامية زيارتهم ولم يتعاهدوا تلك الاماكن المشرفة المنتشرة في ارجاء البلدان الإسلامية لتعرضت إلى الاندراس والزوال، ولم يبق منها أثر شاهد.

البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع

لقد أمر اللَّه سبحانه المسلمين برفع بعض البيوت التي يذكر فيها اسمه ويسبّح له فيها بالغدو والآصال.

قال تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ» (1)

فلبنحث في البيوت التي عنتها هذه الآية، فهناك قولان:

1. المساجد.

2. بيوت الأنبياء والأولياء.

أما الأوّل فغير صحيح جدّاً لان البيت غير المسجد، فالبيت عبارة عن المكان الّذي يسكن فيه الرجل وأهله ويأوي إليه من الحر والبرد، وهو مبيته، لذا يجب أن يكون له سقف فلا يطلق على المكشوف بيتاً، قال سبحانه: «وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ» (2)

وتفسير ذلك هو أنّه لولا أن مشيئته تعلقت بان يكون الناس أُمّة واحدة لجعل سقوف بيوت الكافرين من فضة، وهذا يدل على أن السقف من لوازم البيت مع أن المساجد لا يشترط فيها السقف وهذا هو المسجد الحرام مكشوف غير مسقف.

ولذا يتعين الثاني وهو الّذي يؤيده ما أثر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، روى السيوطي في تفسير الآية قال: أخرج ابن مردويه عن انس بن مالك وبريد قال قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم هذه الآية «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ...» فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: «بيوت الأنبياء»، فقام إليه أبو


1- النور: 36- 37.
2- الزخرف: 33.

ص:15

بكر فقال: يا رسول اللَّه هذا البيت منها- بيت علي وفاطمة-؟ قال: «نعم، من أفاضلها». (1)والمراد من الرفع إما الرفع المادي أو الرفع المعنوي، فعلى الأوّل يجب تعميرها عند طروء الحوادث المخربة.

وعلى الثاني يجب تعظيمها وتنظيفها ممّا يشينها.

ثم إن هذه البيوت ربّما تكون بيتاً للنبي وآله فتزيد شرفاً وتكتسب فضلًا كما هوالحال في مرقد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ومرقد الإمامين الهمامين الهادي والعسكري عليهما السلام فقد دفنا في بيتهما وكانا يسبحان له بالغدو والآصال.

ومن المؤسف أن يبلغ الجهل بالإنسان إلى درجة يرى فيها أن تخريب هذه البيوت عبادة يتقرب بها إلى اللَّه، وفريضة يثاب عليها.

إلّا قاتل اللَّه الجهل أوّلًا، والعصبية الطائفية ثانياً، فإن المدمرين يعلمون بأن البيت الّذي قاموا بتخريبه هو مرقد العترة الطاهرة التي أمراللَّه سبحانه بمودتهم في قوله تعالى: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (2)


1- الدر المنثور: 6/ 203.
2- الشورى: 23.

ص:16

الفصل الثاني: صيانة مراقد الأنبياء والأئمة

اشاره

تعرفت في الفصل الأوّل على الفوائد والآثار الايجابية المترتبة على زيارة مطلق القبور، ومضافاً إلى الآثار الخاصة لزيارة قبور الأنبياء والأولياء، وكل ذلك بشكل موجز.

ولندرس هنا ضرورة حفظ قبورهم وصيانتها من الخراب والتدمير على ضوء الكتاب والسنة.

وبما أنا في هذه الرسالة بصدد نقد كتاب «فقه المزار» حيث ان مؤلفه حاول تطبيق أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام على أقوال الوهابيين وآرائهم، لذلك نركز البحث على رواياتهم ولا نعتمد على غيرها إلّاقليلًا.

إن فكرة هدم القبور والآثار المقدسة قد أرسى قواعدها أحمد بن تيمية (662- 728 ه)، وبعد مضي أربعة قرون نفذ هذه الفكرة محمد بن عبدالوهاب النجدي (1115- 1206 ه)، وذلك بعد أن عرض هذه الفكرة على كبير قبيلة آل سعود (محمد بن سعود)، فاتفقا على نشر الفكرة وتعزيز الدعوة في الربوع التي يسكنونها، واشترطا أن يتولى ابن عبدالوهاب الأُمور الدينية، ويتولى ابن سعود الأُمور السياسية والاجتماعية، وأن يسلم كل أمره إليه.

لقد خاب أحمد بن تيمية في دعوته لانّه نشر الفكرة في اوساط مكتظة بالعلم والفقاهة والتاريخ ولذلك اخذوه وزجوه بالسجن، حتّى مات فيه.

بخلاف الثاني الّذي طرح هذه الفكرة معتمداً على سلطة عشيرة آل سعود في بيئة يندر فيها العلم والفقه، فلا علم ناجع ولا معرفة بموازين التوحيد والشرك، لذا تبعت اعراب نجد قول ابن تيمية ونفذوا ما أمرهم به محمد بن عبدالوهاب، وساعد على ذلك أن هذه الدعوة كانت مقرونة بشن الغارات على القرى والمدن فصاروا يغتنمون كل ما تقع أيديهم عليه من أموال وممتلكات، فكان الخمس للشيخ، والأربعة أخماس هي للمهاجمين.

وقد اعتمد الشيخ في دعوته على كلمتين براقتين هما:

البدعة

ص:17

الشرك

وكأنّه لا يوجد في منطقه ومنهجه إلّاهاتين الكلمتين، بدون أن يضعوا ميزاناً للبدعة وملاكاً للشرك في العبادة، وسوف ندرس في هذا الفصل تعريفهما وبيان ملاكهما.

حد التوحيد والشرك

ص:18

البناء على القبور وتهمة الشرك

لم نزل نسمع من اعضاء الهيئة المسماة ب (الآمرين بالمعروف) أن البناء على القبور شرك، فيجب هدمها، وقد سمعت شخصياً أحدهم يقول في وصف محمد بن عبدالوهاب: أنّه قد دمرّ الشرك، ولو كان هؤلاء باحثين واقعيين كان عليهم تعريف التوحيد والشرك في العبادة بشكل منطقي يكون جامعاً ومانعاً حتّى تكون الضابطة ملاكاً لتمييز أحدهما عن الآخر، فبما أنهم قصروا في هذا الميدان، سوف نقوم نحن بذكر الميزان الجامع لهما فنقول:

انّ للشرك مراتب ولكن مراد القائلين بالشرك في المقام هو الشرك في العبادة، وأن من بنى بيتاً على قبر نبي أو ولي فقد أشرك باللَّه سبحانه وعبد غيره، فلندرس هذه الفكرة.

إن العبادة سواء كانت للَّه سبحانه اولغيره كالاصنام والاوثان أو الاجرام السماوية، تتمتع بقيدين:

الأوّل: الخضوع بالجوارح بنحو من الانحاء إما بالركوع أو بالسجود أو بالانحناء أو بالدعاء وطلب الحاجة، وغير ذلك ممّا يستكشف منه الخضوع.

الثاني: مبدأ الخضوع ومصدره وهوقائم بالقلب وحقيقته عبارة عن اعتقاد الخاضع بأن المخضوع له إما خالق للسماوات والأرض أو مدبر للكون كما هو الحال في عبادة الموحدين، أو من بيده مصير الخاضع ومستقبله وشي ءٌ قليلٌ أو كثير بيده، كما هو الحال في عبادة المشركين، حيث كانوا خاضعين أمام أربابهم باعتقاد ان بيدهم غفران الذنوب اوبيدهم الشفاعة المقبولة أو أن العزة والذلة تطلب منهم، قال سبحانه: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» (1)

أو ان الانتصار في الحرب بايديهم، قال سبحانه حاكياً عنهم: «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» (2)

أو يستنزل المطر بهم، كما روى ابن هشام في سيرته، ان عمر بن لُحيي- أحد رؤساء مكة- قد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أناساً يعبدون الأوثان، وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلًا:

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟


1- مريم: 81.
2- يس: 73.

ص:19

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا!

فقال لهم: أفلاتعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم «هبل» ووضعه على سطح الكعبة المشرفة، ودعا الناس إلى عبادته. (1)والّذي يعرب عن أن المشركين في العبادة كانوا يعتقدون في آلهتهم قدرة غيبية مؤثرة في توفير حوائجهم.

1. قوله سبحانه: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ» (2)

ترى أن الالهة المزعومة تتمتع بأمرين:

أ. كونها انداداً للَّه.

ب. أنها محبوبة عندهم كحب اللَّه.

ومن المعلوم أن أي كائن وموجود لا يكون مثلًا للَّه ونداً له إلّاإذا صار يتصرف في الكون بإرادته الشخصية من دون إرادة اللَّه تعالى.

2. وقوله سبحانه: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ» (3)

فقد فوضوا أمر التشريع والتحليل والتحريم بيد الاحبار والرهبان، فلو دل الكتاب المقدس على حرمة شي ء، وقال الاحبار والرهبان بحليته، تراهم يقدمونه على نص الكتاب، فلذلك صاروا مشركين في أمر التشريع. (4)3. وقوله سبحانه حاكياً عن المشركين حيث يبينون عقيدتهم بالآلهة يوم القيامة بقولهم: «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ» (5)

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية: أن العبادة تتقوم بأمرين أحدهما يتعلق بالجوارح وهوالخضوع، والثاني يرجع إلى الجوانح وهو الاعتقاد بكون المخضوع له خالق أو رب أو بيده


1- سيرة ابن هشام: 1/ 79.
2- البقرة: 165.
3- التوبة: 31.
4- لاحظ التفاسير حول الآية.
5- الشعراء: 98.

ص:20

مصير الخاضع في أمر من الأُمور كغفران الذنوب والعزة في الحياة والانتصار في الحرب ونزول بركات السماء أو غير ذلك.

وعلى ضوء ما ذكرنا فلو كان هناك خضوع مجرداً عن كل عقيدة خاصة بالنسبة للمخضوع له إلّا أنّه عبد للَّه تبارك وتعالى ورسول من رسله أو ولي من أوليائه فلا يعد الخضوع له عبادة أبداً ولا يصير الخاضع بعمله مشركاً، وهذا هو يعقوب النبي وأولاده سجدوا ليوسف قال سبحانه: «وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا» (1)، كما أن الملائكة من قبل سجدوا لآدم خاضعين لكرامته وشرفه ولعلمه بالاسماء دونهم، (2)ولم يوصف علمهم هذا عبادة لآدم.

والّذي يدل على ذلك انّه سبحانه علق الأمر بالعبادة على لفظ الرب وقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (3)ومن المعروف أن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية، فلو قال: أكرم عالماً، يستفاد منه أن وجوب الإكرام لأجل علمه، فيستفاد من الآية أن العبادة من شؤون الربوبية فالعبادة خاصة بالرب دون غيره.

فإذا خضع الإنسان في مقابل من هو رب واقعاً أو هو رب حسب زعم الخاضع فيوصف عمله بالعبادة، دونما إذا خضع مجرداً عن أية عقيدة ترتبط بالعبودية.

وهذا هو القرآن الكريم يأمر بالتذلل أمام الوالدين ويقول: «وَ اخْفِضْ لَهُمَا جُنَاحٌ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا» (4)

إذا عرفت ذلك فنقول: ان البناء على قبر نبي أو ولي او غيرهما من عامة الناس يعد تكريماً للمقبور، وتبجيلًا له لأنّه لم يعمل ذلك باعتقاد أنّه خالق أو رب أو مدبر للكون أو غافر للذنوب أو منزل للمطر أو بيده الشفاء والشفاعة إلى غير ذلك من الأُمور التي هي بيد اللَّه سبحانه.

نعم مجرد عدم كونه عبادة لا يلازم كونه عملًا مباحاً بل ربّما يستنبط حكم العمل من حيث الحرمة والحلية من أدلة أُخرى وسيوافيك عدم دليل على الحرمة وبذلك يتضح أن تقبيل الاضرحة وأبواب المشاهد التي تضم اجساد الأنبياء والأولياء ليس عبادة لصاحب القبر والمشهد لفقدانها العنصر الثاني.


1- يوسف: 100.
2- البقرة: 34.
3- البقرة: 21.
4- الاسراء: 24.

ص:21

البناء على القبور والبدعة

تعرض اللغويون لتعريف البدعة في مصنفاتهم، قال الخليل: البدع إحداث شي ء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة. (1)

وقال الراغب: الابداع انشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء. (2)أقول: البدعة بهذا المعنى موضوع للفقه حيث يبحث عن حلية الاشياء وحرمتها، فربّما يكون الأمر البديع حلالًا وربّما يكون حراماً.

فقد حدث في العصر الحاضر أُمور لم يكن لها مثيل كالالعاب الرياضية فها هو من الموضوعات الفقهية يبحث الفقيه عن حكمه الذاتي ونظير ذلك المجالس التي يختلط فيها الرجال والنساء المتبرجات وهذا هو أيضاً يرجع إلى الفقيه.

وكلامنا في المقام في الأمر البديع في الدين فقد عرفه الشريف المرتضى بقوله: الزيادة في الدين أو النقصان منه مع اسناده إلى الدين. (3)وعرفه ابن حجر العسقلاني بقوله: ما أُحدث وليس له أصل في الشرع وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس بدعة. (4)إلى غير ذلك من التعاريف التي تدل على أن البدعة تتقوم بأُمور ثلاثة أساسية:

1. التدخل في الدين والتصرف فيه عقيدة أو حكماً بزيادة أو نقيصة.

2. ان لا تكون لها جذور في الشرع يدعم جوازها إما بالخصوص أو بالعموم.

3. ان تكون هناك إشاعة بين الناس.

وعلى ذلك فكل عمل يصدر من الإنسان ويشيعه بين الناس من دون أن يتسم بكونه من الدين كلعبة كرة القدم والسلة والطائرة خارج عن حدّ البدعة، لأن لاعبها والناشر لها لا يقوم بذلك باسم الدين، فعلى الباحث في الأُمور البديعة أن يفرق بين ما يفعل من دون أن يكون له سمة الدين والاعمال التي يقوم بها باسم الدين وانّه جزء منه.

فالأوّل منه يوصف بالبدعة لغوياً ويطلب حكمه من الفقه فربّمايكون حلالًا وربّما يكون


1- العين: 72.
2- مفردات الراغب: 38- 39.
3- رسائل الشريف المرتضى: 3/ 83.
4- فتح الباري: 5/ 156.

ص:22

حراماً.

والبدعة بالمعنى الثاني أنسب بالمتكلمين، الذين يبحثون عن التوحيد والشرك.

إذا علمت ذلك فلنرجع إلى الموضوع فنقول:

أوّلًا: إن البناء على القبور ليس أمراً بديعاً بل كانت له جذور في الأُمم السابقة فهذه قبور الأنبياء في الشامات والعراق وإيران فقد بني عليها البناء قبل بعثة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

ثانياً: إن الباني لا يقوم بالبناء بما أنّه جزء من الدين وأن الرسول أمر به وإنّما يقوم به من عند نفسه تكريماً للمقبور واحتراماً له.

نعم مجرد عدم كونه بدعة لا يسبب الحلية بل للفقيه أن يبحث عن حكمه في الكتاب والسنة وانّه هل هو محكوم بالحرمة أو بالحلية مع قطع النظر عن عنوان البدعة.

وبذلك يظهر مفاد ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أما بعد فإن أحدث الحديث كتاب اللَّه، وافضل الهدى هدى محمد، وشر الأُمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة». (1)فإنّ الحديث ناظر إلى كل من يتدخل في الدين ويزيد فيه أو ينقص عنه شيئاً، ومنه يعلم أن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة أمر باطل حسب المعنى الثاني، فإن التدخل في الدين قبيح عقلًا حرام شرعاً وليس لأحد أن يتدخل فيه.

نعم روى البخاري في صحيحه: قال عبدالرحمن بن عبدالقارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون ... فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. فقال عمر: «نعم البدعة هذه» (2)

فلو كان لاقامة صلاة التراويح أصل والكتاب والسنة فيصلح توصيفها بالبدعة الحسنة بالمعنى اللغوي، وامّا لو لم يكن لها أصل فيهما كما هو الحق لانها بالكيفية الحاضرة لم تنقل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في فترة من خلافته فعندئذٍ تكون بدعة كلامية، محضة.

فخرجنا بالنتيجة التالية أن البناء على قبور الأنبياء والأئمة والأولياء حتّى العاديين من الناس


1- مسند أحمد: 3/ 310؛ سنن ابن ماجة: 1/ 17، الباب 7، الحديث 75.
2- فتح الباري: 4/ 203؛ عمدة القارئ: 6/ 125؛ صحيح البخاري: 3/ 58، كتاب الصوم، باب فضل قيام رمضان.

ص:23

لايوصف بالعبادة لهم ولا بكونه بدعة أي تصرفاً بالدين. نعم يبقى هناك شي ء آخر وهو مراجعة الفقيه لمعرفة الحكم الشرعي من حيث الحلية والإباحة من الكتاب والسنة، وهذا ما سنتناوله في البحث التالي.

البناء على القبور فى الأُمم السابقة

يستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ البناء على القبور كان أمراً راجئاً بين الأمم السالفة، ومن هذه الآيات ما تحدث عن اتفاق ما يحشر على أصحاب الكهف على البناء على قبورهم وان اختلفوا في كيفية البناء، فقال جماعة منهم: نبنى عليهم بنياناً فإنّهم أبناء آبائنا وقال الموحدون:

نحن أحق بهم هم منا نبنى عليهم مسجداً نصلى فيه ونصب اللَّه فيه، قال سبحانه حاكياً عنهم: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم ... مسجداً» (الكهف: 21) والمراد من الغلبة هي غلبة الموحدين على المشركين في ظل التطور الفكري الحاصل في عقول الناس .... ولذلك نرى أنّ الطبري ينسب القول الأوّل إلى المشركين والثاني إلى المسلمين. (1)ومن عجيب القول أنّ من اتخذ موقفاً مسبقاً في البناء القبور يقول: لا يحتج بأصحاب القول الثاني لأنّ الغلبة كانت غلبة عسكرية والفاسب عليهم هو عدم التورع في الدين. فنراه يقول ذلك بدون أن يأتي بدليل.

وعلى كلّ تقدير فالآية تذكر كلا القولين من دون أن يردّ حتى على الأوّل منهما فكيف على الثاني وهذا يدل على أنّه كان أمراً مرضياً عند اللَّه سبحانه وإلّا لما مرّ عليه الذكر الحكيم بلا نقد واظلاح فيما لو كان من مظاهر الشرك. البناء على القبور وإظهار المودّة انطلاقاً من قوله سبحانه «قُلْ لا أسألكُمْ عَلَيهِ أَجْراً إلّا الْمَودّةَ فِي القُرْبى» (2)يعتبر البناء على قبور ذوي القربى أحد مصاديق التودد، وليس هذا أمراً بديعاً، فإنّ البناء على قبور عظماء المجتمعات الإنسانية يعد احتراماً وتكريماً لهم نابعاً عنن المودة وعرفان الجميل.

فإذا كان البناء على القبور تكريماً مشعراً بالمودة فيكون مما دعا إليه الكتب العزيز بصورة عامة.

ولذلك غبر أنّ الامم السابقة انطلقوا من هذاالأصل فبنوا على قبور أنبيائهم ابنية شامخة


1- تفسير الطرى: 9/ 277.
2- الشورى: 23.

ص:24

باقية إلى يومنا هذا ولم يقتصروا بذلك بل عينوا لهم سدنة وخدماً يحافظون على البناء ويهتمون به.

موقف الخلفاء من البناء على قبور الأنبياء

حدثنا التاريخ أنّ الجيوش الإسلامية المحررة حينما فتحت بلاد الشام لم تتعرض إلى تلك القبور المشرفة للأنبياء بأي سوء ولم ينقل لنا التاريخ آية محاولة إساءة أو اعتداء على تلك البقاع الشريفة بل لم يببد المسلمون آية رد فعل سلبية اتجاهها، فاقروا خدمتها والمشرفين عليها على ما هم عليه وأوصوهم بالحفاظ عليها وحيانتها، فلو كان البناء على قبور الأنبياء والأولياء حراماً ومنافياً للتوحيد لسعى المسلمون الفاتحون- و بأمر من الخلفاء- لتخريبها وإزالتها من الوجود ولم يتركوا لها أثراً يذكر والحال أن نجد المسلمين لم يتعرضوا لها بل أبقوها كما هي عليه من دون أي تغيير. ولقد بقيت تلك القباب عامرة إلى هذه اللحظة حيث تحضى باهتمام خاص وعناية فائقة من الموحدين في جميع اقطار العالم.

وقد اعترف ابن تيمية بوجوه هذه القباب قبل الإسلام وبقائها بعده، قال: وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم عليه السلام مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة. (1)نفترض أنّ ما ذكره ابن تيمية صحيح وانّها كانت مسدود، ولم يذكر له أي مصدر فلو كانت البنية على قبر الخليل شركا بواحاً، فلماذا لم يهدمها أحد في القرون الثلاثة التي الاولى التي هي عند السلفيين خير القرون. وإليك نموذجاً آخر وهو قول ابن جبير فى رحلته، وبهذه القرية [يعني جدّة] آثار قديمة تدل على أنّها كانت مدينة قديمة، وأثر سورها المحدق بها باق إلى اليوم، وبها موضع فيه قبة مشيّدة عتيقة، يذكر أنّه كان منزل حواء أُمّ البشر، صلى اللَّه عليها، عند توجهها إلى مكة، فبني ذلك المبنى عليه تشهيراً لبركته وفضله. (2)

سيرة المسلمين والبناء على القبور

قد سرت سيرة المسلمين من عصر رحيل الرسول صلى الله عليه و آله على بناء على قبور الأولياء والصلحاء ومن كان لهم ايادي على الأمة. وكانت السيرة سائدة في الحرمين الشريفين إلى أن استولت الوهابية


1- اقتضاء الصراط المستقيم: 331، طبع مكتبة الرباط الحديثة.
2- رحلة ابن جبير: 68، ط دار الكتب اللباني.

ص:25

عليهما فهدمتها بمعاول الظلم والتعصب، وها نحن نذكر نماذج من هذه الأبنية والقبور التي عليها صخور وخطوط لتطهير أنّ السيرة على خلاف ما يدعيه ابن تيمية وتلميذ منهجه المقتات على فضلات مائدته الفكرية.

وقد كانت هذه السيرة سائدة في القرون الثلاثة التي يتباهى بها السلفيون وعلى رأسهم ابن تيمية، ويظهر ذلك لمن يقرأ شيئاً من كتب التاريخ والرحلات التي كتبها الرحالة إلى بلاد الحجاز ومصر وغيرهما.

قال المسعودي: توفي أبو عبد اللَّه جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليهم [رضي اللَّه عنهم] سنة ثمان وأربعين ومائة ودفن بالبقيع مع أبيه وحده وله خمس وستون سنة وقيل أنّه سُمّ، وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه مبدئ الأمم ومحي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سيدة نساء العالمين وقبر الحسن بن على بن أبي طالب وعلي ابن الحسين بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد رضي اللَّه عنهم أجمعين». (1)

مشاهدات الرحالة ابن جبير الأندلسي

يقول ابن جبير، ذلك الرحالة المعروف (ولادة 540 ه) وتسريح برحلته عام 578 ه، يذكر مشاهداته في مصر وهي كثيرة ننقل شيئاً يسيراً منها يييقول عندما يذكر القاهرة وآثارها العجيبة:

فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي ا عنهما، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض، قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الادراك به، مجلل بأنواع الديباج ... إلى آخر ما قال. ثم يذكر ما أمكنه مشاهدته:

ومنها قبر ابن النبي صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، صلوات عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي اللَّه عنها، ومشاهد أهل البيت رضي اللَّه عنهم أجمعين. مشاهد أربعة عشر من الرجال، وخمس من النساء، وعلى كلّ واحد منها بناء حفيل، فهي بأسرها أوضات بديعة الاتقان عجيبة البنيان، قد وكل بها قَومةً يسكفون فيها ويحفظونها، ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كلّ شهر. (2)


1- مروج الذهب: 4/ 132، برقم 2377، طبع بيروت 1973 م، منشورات الجامعة اللبنانية.
2- رحلة ابن جبير: 48 و 49.

ص:26

ثمّ ذكر مشاهد أهل البيت رضي اللَّه عنهم، قال: مشهد علي بن الحسين بن علي رضي اللَّه عنه، ومشهدان لأبي جعفر بن محمد الصادق (رضي اللَّه عنه)، ومشهد القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور (رضى اللَّه عنه)، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما، ومشهد ابنه عبد اللَّه بن القاسم (رضي اللَّه عنه) ومشهد ابنه يحيى بن القاسم، ومشهد علي بن عبداللَّه بن القاسم (رض)، ومشهد أخيه يحيى بن عبداللَّه (رض)، ومشهد ...

الحسين بن علي (رضي اللَّه عنهم)، ومشهد جعفر بن محمد من ذرية علي بن الحسين (رض) ثم ذكر مشاهد الشريفات العلويات رضي اللَّه عنهن، وقال: مشهد السيدة أمّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر (رض)، ومشهد السيدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين (رض)، ومشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق (رض)، ومشهد السيدة أمّ عبد اللَّه بن القاسم بن محمد (رض)، وهذا ذكر لما حصله العيان من هذه المشاهد العلوية المكرمة، وهي أكثر من ذلك. وأخبرنا أنّ في جملتها مشهداً مباركاً لمريم ابنة لعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وهو مشهور، لكنا لم نعانيه. (1)ولنقتصر بما ذكر فانّ ذكر مشاهده من الابنية على قبور الأنبياء والصحابة والشهداء كثير لا يسع المجال لنقله.

مشاهدات الرحالة ابن النجار (578- 643 ه)

انّ الرحالة المعروف محمد بن محمود ابن النجار يذكر في كتابه: «أخبار مدينة الرسول صلى الله عليه و آله» مشاهدته للقبة الرفيعة في أوّل البقيع، وأنّ لها بابين يفتح كلّ يوم واحد منهما. (2)

مشاهدات ابن الحجاج (262- 392 ه)

هذا ابن الحجاج البغدادي وهو من شعراء العراق وقد دخل النجف الأشرف وزار قبر باب مدينة الرسول صلى الله عليه و آله علي أميرالمؤمنين عليه السلام وانشأ قصيدة في حرمه مستهلًا بالبيت التالي:

يا صاحب القبة البيضاء في النجف

من زار قبرك واستشفى لديك شُفي

كلّ ذلك في شفاعتى وجود القبة خلال خير القرون على قبر الإمام علي عليه السلام.

إلى غير ذلك من النصوص التي تكشف عن وجود هذه القياس في مختلف البقاع من بلاد


1- نفس المصدر: 49.
2- اخبار مد

ص:27

المسلمين من غير أن ينكر عليه أحد لا في خير القرن ولا بعدها، حتى جاء ابن تيمية حتى افترا بتحريم البناء ولم يقتصر على ذلك بل تمادى ووصفه أنّه من مظاهر الشرك.

وهناك سؤال أنّ إجماع الامة في عصر من العصور دليل قطعي على ما اجمعوا عليه، فلو كان في المسألة دليل ظني فاجمعت الامة على مضمونه يرتفع به الحكم الظني إلى الحكم القطعي ويصير حكماً واقعياً.

فإذا كان هذا هو الأصل فلأي دليل يطرح هذا الإجماع. ونعم ما قاله سيد الطائفة السيد محسن الأمين في القصيدة المسماة بالعقود الدرية في رد شبهات الوهابية:

دفن النبي المصطفى في حجرة

شأت الكواكب في العلى والسؤدد

والمسلمون تجد في تعظيمها

ما بين بان منهم ومشيد

من ذلك العهد القديم ليومنا

تعظيمهم لضريحه لم ينفسد

لم يهدم الأصحام حجرة أحمد

وهم الهداة وخدوة للمقتدي

بل لم تزل مبنية وبناؤها

في كلّ عصر لم يزل يتجدد

ان لم يجز فوق القبور بناؤها

لم لم تهدم قبل حجرة أحمد

ما كان ممنوعاً لنا إحداثه

ابقاؤه عن ذاك غير مجرد

مع أنّهم قد احدثوا بنيانها

متتابعاً من بعد دفن محمد

زوج النبي بنت علي حائطاً

بين القبور وبينها لم يعهد

وابن الزبير لها بنى وكذلك

الفاروق ثم سحيه فلنقتد

جهلوا تراهم ماعلمتم أم نمودا

متساهلين وأنتم بتشدد

وتتابع الباقون في بنيانها

وغدت لأصل الدين اعظم مقصد

لضريح أحمد حرمة ما ردّها

غير الجهول وغير ذي الطبع الردي

لو لم يكن شرف القبور في الذي

يدعو إلى هذا المقيم المقعد

وكذا ضرائح آله فلها الذي

لضريح جدهم يرغم الحسد

ص:28

صيانة القبور في أحاديث العترة

قد سبق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.