الشيعه في موكب التاريخ

اشارة

سرشناسه : سبحانی تبریزی، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : الشیعة فی موکب التاریخ: دراسة موضوعیة فی نشاةالشیعة فی ضوءالکتاب والسنة والتاریخ/ جعفر سبحانی.

مشخصات نشر : تهران: الممثلیه الولی الفقیه لشوون الحج والزیاره،معاونیه شوون التعلیم والبحوث، 1413ق.= 1992م.= 1371.

مشخصات ظاهری : 140ص.

وضعیت فهرست نویسی : برون سپاری.

يادداشت : عربی.

يادداشت : [الممثلیه الولی الفقیه لشوون الحج و الزیاره]، معاونیه شئون التعلیم و البحوث الاسلامیه فی الحج، [1375]. (بافروست)

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع : شیعه -- تاریخ

رده بندی کنگره : BP239/س2ش9 1371

رده بندی دیویی : 297/53

شماره کتابشناسی ملی : 2444425

ص:1

المقدمة

ص:2

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يأتي المرء بجديد إذا ذهب إلى القول بأن الحقبة الزمنية التي شهدت البعثة المباركة لخاتم الأنبياء محمدصلى الله عليه و آله و سلم و سنوات عمره المعطاءة القصيرة كانت تشكل بحد ذاتها إنعطافا رهيبا و تحولا كبيرا في حياة البشرية في وقت شهد فيه الخط البياني الدال على مدى الإبتعاد المتسارع عن المنهج السماوي و شرائعه المقدسة انحدارا عميقا و ترديا ملحوظا أصبح من العسير على أحد تحديد مدى انتهائه و حدود أبعاده.

بلى، ان مجرد الاستقراء المتعجل لأبعاد التحول الفكري و العقائدي في حياة البشرية عقيب قيام هذه الدعوة السماوية في أرض الجزيرةالمسترخية على رمال الوهم و الخداع و سيل الدم المتدافعيكشف و بلا تطرف و محاباة عظم ذلك التأثير الإيجابي الذي يمكن تحديد مساره من خلال رؤية التحول المعاكس في كيفية التعامل اليومي مع أحداث الحياة و تطوراتها، و بالتالي في فهم الصورة الحقيقية لغاية خلق الإنسان و دوره في بناء الحياة.

كما أن هذه الحقائق المجسدة تكشف بالتالي عن عظم الجهد الذي بذلهصاحب الرسالةصلى الله عليه و آله و سلم في تحقيق هذا الأمر و تثبيت أركانه، في وقت شهدت فيه البشرية جمعاء ضياعا ملحوظا في جميع قيمها و معتقداتها، و خلطا و تزييفا مدروسا في مجمل عقائدها و مرتكزات أفكارها، كرس بالتالي مسارها المبتعد عن الخط السماوي و مناهجه السوية، و ان أي استعراض لمجمل القيم السائدة آنذاكو التي كانت تشكل المعيار الأساسي و المفصل المهم الذي تستند إليه مجموع السلوكيات الفردية و الجماعية و تشذب من خلالهيكشف عن عمق المأساة التي كانت تعيشها تلك الامم في تلك الأزمنة الغابرة.

فمراكز التشريع الحاكمة آنذاكو التي تعتبر في تصور العوام و فهمهم مصدر القرار العرفي و الشرعي المدير لشؤون الناس و المتحكم بمصائرهم و مسار تفكيرهمتنحصر في ثلاث مراكز معلومة أركانها الإساسية: اليهود بما يتملكونه من طرح عقائدي و فكري يستند إلى ثروات طائلة كبيرة، و الصليبيون بما يشكلونه في قوة مادية ضخمة تمتد مفاصلها و مراكزها إلى أبعد النقاط و الحدود، و أصحاب الثروة و الجاه من المتنفذين و المتحكمين في مصائر الناس.

و من هنا فإن كل الضوابط الأخلاقية و المبادى ء العرفية و العلاقات الروحية و الاجتماعية كانت تخضع لتشذيب تلك المراكز و توجيهها بما يتلائم و توجهاتها التي لا تحدها أي حدود.

إن هذه المراكز الفاسدة كانت تعمل جاهدة لأن تسلخ الإنسان من كيانه العظيم الذي أراده الله تعالى له، و دفعه عن دوره الكبير الذي خلق من أجله عند ما قال تعالى للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة بل تعمل جاهدة لأن تحجب تماما رؤية هذه الحقيقة العظيمة عن ناظر الإنسان ليبقى دائما بيدقا أعمى تجول به أصابعهم الشيطانية لتنفيذ أفكارهم المنبعثة من شهواتهم المنحرفة.

و أما ما يمكن الاعتقاد به من بقايا آثار الرسالات السابقة، فلا تعدو كونها ذبالات محتضرة لم تستطع الصمود أمام تيارات التزييف و الكذب و الخداع التي مسختصورتها إلى أبعد الحدود.

ص:3

نعم بعث محمدصلى الله عليه و آله و سلم إلى قوم خير تعبير عنهم قول جعفر بن أبي طالب للنجاشي: أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسي ء الجوار، و يأكل القوي منا الضعيف.

هذا في الوقت الذي كانت فيه مراكز القوى تلك تتضخم و تتعاظم على حساب ضياع البشرية و موت مبادئها.

و هكذا فقد كانت الدعوة الإسلامية الفتية وصاحبهاصلى الله عليه و آله و سلم في مواجهة هذه المراكز بامداداتها الرهيبة و قدراتها العظيمة، و التي شكلت أعنف مواجهة شرسة و قتال ليس له مثيلصبغ أرض الجزيرة و رمالها الصفراء، بلون أحمر قاني لسنوات لم يعرف فيها رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم و خيرة أصحابه للراحة طعما و للسكون مسكنا.

إن تلك الحصون المليئة بالشر و الخراب لم تتهاوى إلا بعد جهد جهيد وسيل جارف من الدماء الطاهرة التي لا توزن بها الجبال، من رجال أوقفوا أنفسهم و أرواحهم من أجل هذا الدين وصاحبهصلى الله عليه و آله و سلم.

استطاع رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم أن يقيم حكومة الله تعالى في الأرض و أن يثبت فيها الأركان على أساس الواقع و الوجود، فلم تجد آنذاك كل قوى الشر بدامن الإختباء في زوايا العتمة و الظلام تتحين الفرص السانحة و الظروف الملائمة للانقضاض على هذا البنيان الذي بدا يزداد شموخا و علوا مع تقادم السنين.

و لقد كان رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم يدرك عيانا أن نقطة ضعف هذه الامة يكمن في تفرقها و في تبعثر جهودها مما سيمكن من ظهور منافذ مشرعة في هذا البنيان الكبير لا تتردد أركان الكفر و أعداء الدين المتلونين و المتسترين من النفوذ خلالها و التسلل بين أهلها، و في ذلك الخطر الأكبر. و لذا فإن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان يصرح و يحذر من افتراق امته، و يلوح للمفترقين بالنار و الجحيم.

بيد أن ما حذر منهصلى الله عليه و آله و سلم و ما كان يخشاه، بدت أول معالمه الخطرة تتوضح في اللحظات الاولى لرحيلهصلى الله عليه و آله و سلم و انتقاله إلى عالم الخلود، و عندها وجد أعداء هذا الدين الفرصة مواتية للولوج إلى داخل هذا البناء و العمل على هدمه بمعاول أهله لا بمعاولهم هم.

فتفرقت هذه الأمة فرقا فرقا و جماعات جماعات، لا تتردد كل واحدة من أن تكفر الاخرى و تكيل لها التهم الباطلة و الافتراءات الظالمة، و انشغل المسلمون عن اعدائهم بقتال اخوانهم و التمثيل بأجسادهم، و حل بالأمة وباء و بيل بدا يستشري في جسدها الغض بهدوء دون أن تنشغل بعلاجه.

نعم بعد هذه السنين المرة من الفرقة و التشتت بدا المسلمون في اخريات المطاف يلعقون جراح خلفتها سيوف إخوانهم لا سيوف أعدائهم في حين ينظر إليهم أعدائهم بتشف و شماتة. إن ما حل بالمسلمين من مصائب و تخلف في كافة المستويات أوقعتهم في براثن المستعمرين أعداء الله و رسله يعود إلى تفرق كلمتهم و تبعثر جهودهم و تمزق وحدتهم، و لعل نظرة عاجلة لما يجري في بقاع المعمورة المختلفة يوضح لنا هذه الصورة المؤلمة و

ص:4

المفجعة، فمن فلسطين مرورا بلبنان و افغانستان و البوسنة و الهرسك و الصومال و غيرها و غيرها مشاهد مؤلمة لنتائج هذا التمزق و التبعثر.

و إن كان من كلمة تقال فإن للجهود المخلصة الداعية إلى الالتفات إلى مصدر الداء لا أعراضه فقط الثقل الأكبر في توقي غيرها من المضاعفات الخطيرة التي تتولد كل يوم في بلد من بلاد المسلمين لا في غيرها.

و لا نغالي إذا قلنا بأن للجمهورية الإسلامية في إيران و مؤسسها الإمام الخمينيرضوان الله تعالى عليهالفضل الأكبر في تشخيص موضع الداء و تحديد موطنه.

و لعل الإستقراء المختصر لجمل توجيهات الإمامرحمه اللهطوال حياته و لسنين طويلة يدلنا بوضوح على قدرته التشخيصية في وضع يده على موضع الداء، و دعوته إلى الالتفات إلى ذلك، لا إلى الإنشغال بما عداه.

فمن نداء لهرحمه اللهإلى حجاج بيت الله الحرام في عام (1399 ه) قال: و من واجبات هذا التجمع العظيم دعوة الناس و المجتمعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة و إزالة الخلافات بين فئات المسلمين، و على الخطباء و الوعاظ و الكتاب أن يهتموا بهذا الأمر الحياتي و يسعوا إلى إيجادجبهة للمستضعفين للتحرر بوحدة الجبهة و وحدة الكلمة و شعار (لا إله إلا الله) من أسر القوى الأجنبية الشيطانية و المستعمرة و المستغلة، و للتغلب بالاخوة الإسلامية على المشاكل.

يا مسلمي العالم، و يا أتباع مدرسة التوحيد رمز كل مصائب البلدان الإسلامية هو اختلاف الكلمة و عدم الإنسجام، و رمز الانتصار وحدة الكلمة و الإنسجام، و قد بين الله تعالى ذلك في جملة واحدة: و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و الاعتصام بحبل الله تبيان لتنسيق جميع المسلمين من أجل الإسلام و في اتجاه الإسلام و المصالح المسلمين، و الإبتعاد عن التفرقة و الإنفصال و الفئوية التي هي أساس كل مصيبة و تخلف.

و قالرحمه اللهفي كلمة له مع و فد من كبار علماء الحرمين الشريفين (1399 ه): رمز انتصار المسلمين فيصدر الإسلام كان وحدة الكلمة و قوة الإيمان.

لو كان ثمة وحدة كلمة إسلامية، و لو كانت الحكومات و الشعوب الإسلامية متلاحمة فلا معنى لأن يبقى ما يقارب مليار إنسان مسلم تحت سيطرة القوى الأجنبية، لو أن هذه القدرة الإلهية الكبرى تقترن بقوة الإيمان و يسيروا جميعا متآخين على طريق الإسلام فلا تستطيع أية قوة أن تتغلب عليهم.

و أكدرحمه اللهعلى مغزى سر انتصار المسلمين فيصدر الإسلام الأول رغم قلة عددهم و تواضع امكانياتهم، و انكسارهم في الوقت الحاضر مع عظم امكانياتهم و كثرة عددهم بقوله: يا مسلمي العالم ما ذا دهاكم فقد دحرتم فيصدر الإسلام بعدة قليلة جدا القوى العظمى و أوجدتم الأمةالكبرى الإسلامية الإنسانية، و اليوم و أنتم تقربون من مليار إنسان و تملكون مخازن الخيرات الكبرى التي هي أكبر حربة تقفون أمام العدو بمثل هذا الضعف و الإنهيار، أتعلمون أن كل مآسيكم تكمن في التفرقة و الاختلاف بين زعماء بلدانكم و بالتالي بينكم أنتم أنفسكم.

ص:5

و قال أيضا: اثارة الاختلافات بين المذاهب الإسلامية من الخطط الإجرامية التي تدبرها القوى المستفيدة من الخلافات بين المسلمين، بالتعاون مع عملائها الضالين بمن فيهم وعاظ السلاطين المسودة وجوههم أكثر من سلاطين الجور أنفسهم، و هؤلاء يؤججون نيران هذه الاختلافات باستمرار، و كل يوم يرفعون عقيرتهم بنعرة جديدة، و في كل مرحلة ينفذون خطة لإثارة الخلافات، آملين بذلك هدمصرح الوحدة بين المسلمين من أساسه.

و هكذا فإن الصورة تبدو أكثر وضوحا عند قراءة سلسلة خطب الإمام الخميني و توصياته المستمرة إلى عموم المسلمين و خصوصا في مواسم الحج التي تشكل أفضل تجمع إسلامي تشارك فيه أعداد ضخمة من المسلمين و من شتى بقاع المعمورة في مؤتمر ضخم لا بد من أن يكرسه المسلمون لتدارس أمورهم و علاج مشاكلهم و مناقشة معتقداتهم، حيث أن الإمامرحمه اللهكان يواظب على اثارة هذه الأمور الحساسة و المهمة في حياة الإسلام و المسلمين، و لم يدخر في ذلك جهدا.

كما أن الإطلاع على فتاوى الإمامرضوان الله تعالى عليهيكشف بوضوح عمق توجهه إلى هذا الأمر الحيوي و الدقيق، و تأكيده عليه.

فمن توجيهاتهرحمه اللهإلى الحجاج نورد هذه الملاحظات المختصرة: قال: يلزم على الإخوة الإيرانيين و الشيعة في سائر البلدان الإسلامية أن يتجنبوا الأعمال السقيمة المؤدية إلى تفرقةصفوف المسلمين، و يلزم الحضور في جماعات أهل السنة، و الإبتعاد بشدة عن تشكيلصلاة الجماعة في المنازل و وضع مكبرات الصوت بشكل غير مألوف و عن إلقاء النفس على القبور المطهرة و عن الأعمال التي قد تكون مخالفة للشرع.

يلزم و يجزي (أي يكفي) في الوقوفين متابعة حكم القاضي من أهل السنة، و إن حصل لكم القطع بخلافه.

على عامة الإخوة و الأخوات في الدين أن يلتفتوا إلى أن واحدا من أهم أركان فلسفة الحج إيجاد التفاهم و ترسيخ الإخوة بين المسلمين.

و غير ذلك من الفتاوى المهمة التي ندعو جميع المسلمين إلى مطالعتها و التأمل فيها.

و على هذا الخط المبارك و اصلت الجمهورية الإسلامية مسارها في الدعوة إلى وحدة كلمة المسلمين بعد رحيل الإمام الخمينيرضوان الله تعالى عليهو أخذت تؤكد عليه في كل مناسبة و مكان على لسان قائدها سماحة آية الله السيد علي الخامنئيحفظه اللهو باقي مسؤوليها، و لم تدخر جهدا في العمل على اقامة هذا الأمر الشرعي المهم و الدفاع عنه، من خلال توجيهاتها المستمرة في هذا المنحى أو دعمها غير المحدود لكل الجهود المخلصة في هذا الميدان.

و أخيرا ... فإن هذا الكتاب الماثل بين يديك أخي القارى ء الكريمو الذي أبدع في اخراجه يراع أحد أساتذة جامعة مدينة قم العلمية، و هوالباحث القدير الشيخ جعفر السبحانيدعوة للتأمل ضمن الحدود التي أشرنا إليها في حديثنا، و هي بالتالي تعكسصورةصادقة عن حجم الهجمة الكافرة التي أرادت تمزيق الأمة و دفعها إلى التشتت و التشرذم، و بيان كم أخذت من مساحة واسعة في فكر هذه الأمة و معتقداتها.

ص:6

بلى لسنا في معرض الدفاع عن الوجود المقدس لهذه الشريعة السماوية فحسب، بل ابتغينا إزاحة اللثام و إماطة الخبث عن الدسائس الخبيثة التي تريد بالأمة الهلاك.

و قد قامت معاونية شؤون التعليم و البحوث بنشره، حتى يعم نفعه و يتعرف المسلمون على الشيعة عن كثب.

و الله تعالى من وراء القصد.

مبدأ التشيع و تاريخ نشأته

زعم غير واحد من الكتاب القدامى و الجدد: أن التشيع كسائر المذاهب الإسلامية من إفرازات الصراعات السياسية، في حين يذهب البعض الآخر إلى القول بأنه نتاج الجدال الكلامي و الصراع الفكري. فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه و ظهوره في الساحة الإسلامية، و كأنهم يتلقون التشيع كظاهرة جديدة وافدة على المجتمع الإسلامي، و يعتقدون بأن القطاع الشيعي و إن كان من جسم الأمة الإسلامية إلا أنه تكون على مر الزمن نتيجة لأحداث و تطورات سياسية أو اجتماعية فكرية أدت إلى تكوين هذا المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير و من ثم اتسع ذلك الجزء بالتدريج.

و لعل هذا التصور الخاطى ء لمفهوم التشيع هو ما دفع أصحاب هذه الاطروحات إلى التخبط و التعثر في فهمهم لحقيقة نشوء هذا المذهب، و محاولاتهم الرامية لتقديم التفسير الأصوب، و لو أن أولئك الدارسين شرعوافي دراستهم لتاريخ هذه النشأة من خلال الاطروحات العقائدية و الفكرية التي ابتنى عليها التشيع لأدركوا بوضوح و دون لبس أن هذا المذهب لا يشكل في جوهر تكوينه و قواعد أركانه إلا الإمتداد الحقيقي للفكر العقائدي للدين الإسلامي و الذي قام عليه كيانه.

و إذا كان البعض يذهب إلى الاعتقاد بأن التشيع يظهر بأوضحصوره من خلال الالتفات و المشايعة للوصي الذي اختاره رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمخليفة له بأمر الله تعالى ليكون قائدا و إماما للناسكما كان رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمففي ذلك أوضح المصاديق على حقيقة هذا النشوء الذي اقترن بنشوء و تبلور الفكر الإسلامي الكبير، و الذي لا بد له من الاستمرار و التواصل و التكامل حتى بعد رحيلصاحب الرسالةصلى الله عليه و آله و سلم-، و الذي ينبغي له أن يكون الاستمرار الحقيقي لتلك العقيدة السماوية و حامل أعباء تركتها.

فإذا اعتبرنا بأن التشيع يرتكز أساسا في استمرار القيادة بالوصي، فلا نجد له تأريخا سوى تأريخ الإسلام، و النصوص الواردة عن رسولهصلى الله عليه و آله و سلم-.

روى أصحاب الصحاح و المسانيد نصوصا كثيرة في وصاية الإمام أمير المؤمنين، و إذا كانت تلك النصوص من القوة و الحجية التي لا يرقى إليها الشك، و تعد و بدون تردد ركائز عقائدية أراد أن يثبت اسسها رسول

ص:7

الله صلى الله عليه و آله و سلم-، فهي بلا شك تدل و بوضوح على أن هذه الاستجابة اللاحقة استمرار حقيقي لما سبقها في عهد رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم-، و إذا كان كذلك فإن جميع من استجابوا لرسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم-، و انقادوا له انقيادا حقيقيا، يعدون بلا شك رواد التشيع و حاملي بذوره الأوائل، فالشيعة هم المسلمون من المهاجرين و الأنصار و من تبعهم باحسان في الأجيال اللاحقة، من الذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة و لم يغيروه و لم يتعدوا عنه إلى غيره، و لم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله و اتقوا الله إن الله سميع عليم 1 ففزعوا في الأصول و الفروع إلى علي و عترته الطاهرة، و انحازوا عن الطائفة الاخرى من الذين لم يتعبدوا بنصوص الخلافة و الولاية و زعامة العترة حيث تركوا النصوص، و أخذوا بالمصالح.

إن الآثار المروية في حق شيعة الإمام عن لسان النبي الأكرمو الذين هم بالتالي شيعة لرسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمترفع اللثام عن وجه الحقيقة، و تعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصي، فكانوا معروفين بشيعة علي في عصر الرسالة، و إن النبي الأكرم وصفهم في كلماته بأنهم هم الفائزون، و إن كنت في شك من هذا فسأتلوا عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام:

1- أخرج ابن مردويه عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال: «يا عائشة أما تقرأين: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات اولئك هم خير البرية» البينة/ 2 7.

2- أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبيصلى الله عليه و آله و سلمفأقبل علي فقال النبي: «و الذي نفسي بيده إن هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، و نزلت: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية فكان أصحاب النبي إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية 3.

3- أخرج ابن عدي و ابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا: «علي خير البرية» 4.

4- و أخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية قال رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلملعلي: «هو أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين».

5- أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال لي رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم-: «أ لم تسمع قول الله: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية أنت و شيعتك، موعدي و موعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين» 5.

6- روى ابن حجر فيصواعقه عن أم سلمة: كانت ليلتي، و كان النبيصلى الله عليه و آله و سلمعندي فأتته فاطمة فتبعها عليرضي الله عنهمافقال النبي: «يا علي أنت و أصحابك في الجنة، أنت و شيعتك في الجنة» 6.

7- روى ابن الأثير في نهايته: قال النبي مخاطبا عليا: «يا علي، إنك ستقدم على الله أنت و شيعتك راضين مرضيين، و يقدم عليه عدوك غضابا مقمحين» ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح. قال ابن الأثير: الإقماح: رفع الرأس و غض البصر 7.

ص:8

8- روى الزمخشري في ربيعه: ان رسول الله قال: «يا علي، إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله تعالى، و أخذت أنت بحجزتي، و أخذ ولدك بحجزتك، و أخذ شيعة ولدك بحجزهم، فترى أن يؤمر بنا» 8.

9- روى أحمد في المناقب: انهصلى الله عليه و آله و سلمقال لعلي: «أما ترضى إنك معي في الجنة، و الحسن و الحسين و ذريتنا خلف ظهورنا، و أزواجنا خلف ذريتنا، و شيعتنا عن أيماننا و شمائلنا» 9.

10- روى الطبراني: أنهصلى الله عليه و آله و سلمقال لعلي: «أول أربعة يدخلون الجنة أنا و أنت و الحسن و الحسين، و ذريتنا خلف ظهورنا، و أزواجنا خلف ذرياتنا، و شيعتنا عن أيماننا و شمائلنا» 10.

11- أخرج الديلمي: «يا علي، إن الله قد غفر لك و لذريتك و لولدك و لأهلك و لشيعتك، فابشر انك الأنزع البطين» 11.

12- أخرج الديلمي عن النبي أنه قال: «أنت و شيعتك تردون الحوض رواء مرويين، بيضة وجوهكم، و إن عدوك يردون الحوض ظماء مقمحين» 12.

13- روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: «يدخلون من أمتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهمثم التفت إلى علي فقال:- هم شيعتك و أنت إمامهم» 13.

14- روى المغازلي عن كثير بن زيد قال: دخل الأعمش على المنصور، فلما بصر به قال له: يا سليمان تصدر، قال: أناصدر حيث جلستإلى أن قال في حديثه:- حدثني رسول الله قال: «أتاني جبرئيلعليه السلامآنفا فقال: تختموا بالعقيق، فإنه أول حجر شهد لله بالوحدانية، و لي بالنبوة، و لعلي بالوصية، و لولده بالإمامة، و لشيعته بالجنة» 14.

15- و روى أيضا بسنده إلى سلمان الفارسي عن النبيصلى الله عليه و آله و سلمقال: «يا علي تختم باليمين تكن من المقربين، قال: يا رسول الله و من المقربون؟ قال: جبرئيل و ميكائيل، قال: فبما أتختم يا رسول الله؟ قال: بالعقيق الأحمر، فإنه جبل أقر لله بالوحدانية، و لي بالنبوة، و لك بالوصية، و لولدك بالإمامة، و لمحبيك بالجنة، و لشيعتك و شيعة ولدك بالفردوس» 15.

16- روى ابن حجر: انه مر علي على جمع فأسرعوا إليه قياما، فقال: «من القوم؟» فقالوا: من شيعتك يا أمير المؤمنين، فقال لهم: خيرا، ثم قال: «يا هؤلاء مالي لا أرى فيكم سمة شيعتنا و حلية أحبتنا» فأمسكوا حياء، فقال له من معه: نسألك بالذي أكرمكم أهل البيت و خصكم و حباكم، لما نبأتنا بصفة شيعتكم فقال: «شيعتنا هم العارفون بالله، العاملون بأمر الله» 16.

17- روى الصدوق (306- 381): ان ابن عباس قال: سمعت رسول الله يقول: «إذا كان يوم القيامة و رأى الكافر ما أعد الله تبارك و تعالى لشيعة علي من الثواب الزلفى و الكرامة ...» 17.

و هذه النصوص المتضافرة الغنية عن ملاحظة اسنادها، تعرب عن كون عليعليه السلاممتميزا بين أصحاب النبي بأن له شيعة و أتباعا، و لهم مواصفات و سمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبي و بعدها، و كان صلى الله

ص:9

عليه و آله و سلميشيد بهم و يبشر بفوزهم، و هم بلا ريب ليسوا بخارجين قيد أنملة عن الخط النبوي المبارك للفكر الإسلامي العظيم و الذي يؤكد على حقيقة التشيع و مبدأه الذي لا يفترق عن نشوء الدين و استقراره.

فبعد هذه النصوص لا يصح لباحث أن يلتجى ء إلى فروض ظنية أو وهمية في تحديد تكون الشيعة و ظهورها.

وصايا النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم في أهل بيتهعليهم السلام-

إن التفاف جمع من الصحابة الكرام حول الإمام عليعليه السلامفي حياة النبي الأكرم و بعد رحلته، كان نتيجة الوصايا النبوية في حق الإمام و أهل بيته، و هذه الوصايا تهز قلب كل مسلم واع، و قد أفصح عنها النبيصلى الله عليه و آله و سلم في مواقف حاسمة و في مختلف مراحل دعوته، و كلها تعبر عن حقائق ناصعة، و هي أن اصادع بالحق كان يحث أصحابه و المسلمين عامة على إتباع الإمام و أهل بيته، و ينص على مرجعيتهم الكبرى في أمر الدين و الدنيا معا.

و قد كان هذا دافعا لإنقطاع ثلة كبيرة من الصحابة و التابعين لهم بإحسان إلى الإمام و تقديمهم إياه على غيره في القيادة الدينية بجميع أبعادها و شؤونها، وصار ذلك سببا للنواة التي بذرها النبي الأكرم و التي نمت و أينعت بعد رحيلهصلى الله عليه و آله و سلم. فلو كان لكل ظاهرة سبب، فظاهرة التشيع أثر لتلك الوصايا النبوية و الهتافات الربانية التي تلمسها من الأحاديث، و إليك بالنزر اليسير من الكثير الوفير.

1- حديث الثقلين:

إن النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم نبه الأمة و بين لها المرجع و الملاذ بعد رحيله بقوله: «يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، و عترتي أهل بيتي» 18.

و قالصلى الله عليه و آله و سلم: «إني تركت ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» 19.

و قالصلى الله عليه و آله و سلم: «إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء و الأرض و عترتي أهل بيتي، و انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» 20.

و قالصلى الله عليه و آله و سلم: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، و أهل بيتي، و أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» 21.

و قالصلى الله عليه و آله و سلم: «إني أوشك أن أدعى فأجيب، و إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز و جل، و عترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و أن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» 22.

و قالصلى الله عليه و آله و سلم في منصرفه من حجة الوداع و نزوله غدير خم: «كأني دعيت فأجبت، اني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، و عترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» 23.

2- حديث السفينة:

ص:10

كما إن النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم شبه أهل بيته بسفينة نوح فقال: «ألا أن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجى، و من تخلف عنها غرق» 24.

و في حديث آخر يقولصلى الله عليه و آله و سلم: «إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجى، و من تخلف عنها غرق. و إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له» 25. و في حديث ثالث: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» 26.

و من المعلوم أن المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق، لأن هذه المنزلة ليست إلا لحجج الله، و هم ثلة منتخبة مصطفاة من أهل بيته، و قد فهمه ابن حجر فقال: يحتمل أن المراد بأهل البيت الذين هم أمان علماءهم، لأنهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، و الذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون.

و قال في مقام آخر: إنه قيل لرسول الله: ما بقاء الناس بعدهم؟ قال: «بقاء الحمار إذا كسرصلبه» 27.

و المراد من تشبيههمعليهم السلامبسفينة نوح أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه و أصوله عنهم نجا من عذاب الله، و من تخلف عنهم كان كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله فما أفاده شيئا فغرق و هلك.

و الوجه في تشبيههم بباب حطة هو أن الله تعالى جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله، و البخوع لحكمه، و بهذا كان سببا للمغفرة، و قد جعل انقياد هذه الأمة لأهل بيت نبيها و اتباعهم أيضا مظهرامن مظاهر التواضع لجلاله و البخوع لحكمه، و بهذا كان سببا للمغفرة.

و قد أوضح ابن حجر حقيقة التشبيه في الحديث الشريف فقال: «و وجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم و عظمهم شكرا لنعمة مشرفهم، و أخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، و من تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعيم، و هلك في مفاوز الطغيان» إلى أن قال: «و باب حطةيعني و وجه تشبههم بباب حطةان الله جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع و الاستغفار سببا للمغفرة، و جعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها» 28.

3- الأئمة الاثنا عشر في حديث الرسولصلى الله عليه و آله و سلم:

إن من تصفح مصنفات الحديث النبوي الشريف يجد أن هناك روايات تحدد و تعين عدد الأئمة بعد الرسول و سماتهم، من دون ذكر لاسمائهم، و هي أحاديث الأئمة الاثنى عشر التي رواها أصحاب الصحاح و المسانيد، و هي على وجه لا ينطبق إلا على من عينهم الرسولصلى الله عليه و آله و سلم للخلافة و الزعامة، و لذلك نذكرها في عداد أدلة التنصيص على الخلافة، و الإمعان فيها يرشد القارى ء إلى الحق، و يأخذ بيده حتى يرسي مركبه على شاطى ء الأمان و الحقيقة. و يطيب لي أن أذكر مجموع هذه النصوص فإنها تؤكد بعضها بعضا، و إليك البيان.

الأئمة الاثنا عشر:

ص:11

1- روى البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم يقول: «يكون اثنا عشر أميرا» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: أنه قال: «كلهم من قريش» 29.

2- روى مسلم عنه أيضا، قال: دخلت مع أبي على النبيصلى الله عليه و آله و سلم فسمعته يقول: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة». قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: قال: «كلهم من قريش».

3- و روى عنه أيضا، قال: سمعت النبيصلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا» ثم تكلم النبيصلى الله عليه و آله و سلم بكلمة خفيت علي، فسألت أبي: ما ذا قال رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم؟ فقال قال: «كلهم من قريش».

4- و روى عنه أيضا نفس الحديث إلا أنه لم يذكر: «لا يزال أمر الناس ماضيا».

5- و روى مسلم عنه أيضا قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة» ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: قال: «كلهم من قريش» 30.

6- وروى مسلم عنه أيضا، قال: انطلقت إلى رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم و معي أبي فسمعته يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة» فقال كلمةصمنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: قال: «كلهم من قريش».

7- و روى مسلم عنه أيضا قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» 31.

8- روى أبو داود عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر» فكبر الناس و ضجوا، ثم قال كلمة خفيت علي قلت لأبي: يا أبه ما قال؟ فقال: قال: «كلهم من قريش» 32.

9- روى الترمذي عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم: «يكون من بعدي اثنا عشر أميرا» ثم تكلم بشي ء لم أفهمه فسألت الذي يليني، فقال: قال: «كلهم من قريش».

قال الترمذي: هذا حديث حسنصحيح، و قد روي من غير وجه عن جابر. ثم ذكر طريقا آخر إلى جابر 33.

10- روى أحمد في مسنده عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبيصلى الله عليه و آله و سلم يقول: «يكون لهذه الأمة اثنا عشر خليفة» و رواه عن 34 طريقا 34.

11- روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب معرفة الصحابة عن عون بن جحيفة عن أبيه، قال: كنت مع عمي عند النبيصلى الله عليه و آله و سلم فقال: «لا يزال أمر أمتيصالحا حتى يمضي اثنا عشر خليفة» ثم قال كلمة و خفض بهاصوته، فقلت لعميو كان أمامي-: ما قال يا عم؟ قال: يا بني قال: «كلهم من قريش» 35.

ص:12

12- و روى أيضا بسنده عن جرير عن المغيرة عن الشعبي عن جابر، قال: كنت عند رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم فسمعته يقول: «لا يزال أمر هذه الأمة ظاهرا حتى يقوم اثنا عشر خليفة» و قال كلمة خفيت علي، و كان أبي أدنى إليه مجلسا مني فقلت: ما قال؟ فقال: «كلهم من قريش» 36.

13- قال ابن حجر في الصواعق: أخرج الطبراني عن جابر بن سمرةان النبيصلى الله عليه و آله و سلم قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميرا كلهم من قريش» 37.

كما ان رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم قد شبه عدة خلفائه بعدة نقباء بني اسرائيل.

14- فقد روى أحمد بسنده عن مسروق، قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود و هو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، و لقد سألنا رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم فقال: «اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل» 38.

15- و رواه الخطيب في تاريخه بسنده عن جابر بن سمرة 39.

16- و أورده المتقي الهندي في منتخب كنز العمال عن أحمد و الطبراني في المعجم الكبير، و الحاكم في المستدرك 40.

17- قال السيوطي في تاريخ الخلفاء بسند حسن عن ابن مسعود: إنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم فقال: «اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل» 41.

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الأئمة بعد النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم اثنا عشر، و قد جاء فيها سماتهم وصفاتهم و عددهم، غير أن المهم هو تعيين مصاديقها و الإشارة إلى أعيانها و أشخاصها، و لا تعلم إلا باستقصاء و حصر السمات الواردة في هذه الأحاديث، و هذا ما يمكن إجماله بما يلي:

1- لا يزال الإسلام عزيزا.

2- لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا.

3- لا يزال الدين قائما.

4- لا يزال أمر الأمةصالحا.

5- لا يزال أمر هذه الامة ظاهرا.

6- كل ذلك حتى يمضي فيهم اثنا عشر اميرا من قريش.

7- و حتى يليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.

8- و إن عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل.

و هذه السمات و الخصوصيات لا تتمثل مجتمعة إلا في الأئمة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين، و هذه الأحاديث من أبناء الغيب و معجزات النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم، خصوصا إذا ضمت إليها أحاديث

ص:13

الثقلين و السفينة و كون أهل بيت النبي أمانا لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، و سيوافيك تفصيل هذه الأحاديث الثلاثة.

فالأئمة الاثنا عشر المعروفون بين المسلمين، و الذين ينادي بإمامتهم الشيعة الإمامية، و الذين أولهم علي أمير المؤمنين و آخرهم المهدي تنطبق عليهم تلك العلائم، و من وقف على حياتهم العلمية و الاجتماعية و السياسية يقف على أنهم هم المثل الأعلى في الأخلاق، و القمة السامقة في العلم و العمل و التقوى و الإحاطة بالقرآن و السنة، و بهم حفظ الله تعالى دينه و أعز رسالته.

و أما ما ورد في بعض هذه الطرق أن: «كلهم تجتمع عليهم الأمة» فهو على فرض الصحة، فالمراد منه تجتمع على الاقرار بإمامتهم جميعا وقت ظهور آخرهم، وعلى فرض الإبهاملا تمنع عن الأخذ بمضامين الحديث.

هلم معي نقرأ ما ذا يقول غير الشيعة في حق هذه الأحاديث، و كيف يؤولونها بالخلفاء القائمين بالأمر بعد النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم، و إليك نصوص كلامهم:

1- إن قوله اثنا عشر إشارة إلى عدد خلفاء بني أمية!! و أول بني أمية يزيد بن معاوية و آخرهم مروان الحمار و عدتهم اثنا عشر، و لا يعد عثمان و معاوية و لا ابن الزبير لكونهمصحابة، و لا مروان بن الحكم لكونهصحابيا أو لأنه كان متغلبا بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير، و ليس على المدح بل على استقامة السلطنة، و هم يزيد بن معاوية و ابنه معاوية ثم عبد الملك ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد بن عبد الملك ثم هشام بن عبد الملك ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد ثم إبراهيم بن الوليد ثم مروان بن محمد 42.

و جوابه: أنه لو كان الرسول أراد هذا و لم يكن في مقام مدحهم فأي فائدة في الإخبار بذلك. ثم كيف يقول انهاصدرت على غير سبيل المدح مع ما عرفت من السمات الواردة الصريحة في المدح مثل: «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا قائما»، أو «أمر أمتيصالحا». و العجب أنه جعل أول الخلفاء يزيد بن معاوية بحجة أنه استقامت له السلطنة، مع أنه كيف استتبت له السلطنة و قد ثار عليه العراق في السنة الأولى، و ثار عليه أهل المدينة في السنة الثانية، و كانت مجموع أيامه مؤلفة من حروب دامية و قتل و نهب و تدمير لا يقربهاصاحب ذرة من الشرف و الإيمان.

2- «إن المراد أنه يملك اثنا عشر خليفة بهذه السمات بعد وفاة المهدي» 43 و هذا من أغرب التفاسير، لأن الأخبار ظاهرة في اتصال خلافتهم بعصر النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم، و لأجل تبادر ذلك في أذهان الناس سألوا عبد الله بن مسعود عن عدد من يملك أمر هذه الأمة.

3- ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن القاضي عياض: ان المراد بهم الخلفاء الذين اجتمع عليهم الناس، و هم أبو بكر، و عمر، و عثمان، و علي، و معاوية، و يزيد، و عبد الملك، و أولاده الأربعة، الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، و عمر بن عبد العزيز بن سليمان و يزيد، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، و الثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك 44.

ص:14

و لا يكاد ينقضي تعجبي من القاضي عياض و ابن حجر كيف يعرفان هؤلاء بمن عز بهم الإسلام و الدين وصار منيعا و فيهم يزيد بن معاوية ذلك السكير المستهتر الذي كان يشرب الخمر و يدع الصلاة، و لم يكتف بذلك بل ضرب الكعبة بالمنجنيق، و أباح المدينة ثلاثة أيام بأعراضها و أموالها و أنفسها بعد قتله لابن بنت رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم الحسين بن عليعليه السلامو اخوانه و أبنائه و خيرة أصحابه و سير بنات رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم سبايا دون حرمة لجدهم إلى الشام من أرض كربلاء، فليت شعري ما هو ميزان القوم في تفسيرهم للسنة النبوية و تعاملهم معها، و كل الحقائق تكذب ما ذهبوا إليه و ماصرحوا به.

و هل اعتز الإسلام بعبد الملك الذي يكفي في ذكر مساوئه تنصيبه الحجاج على العراق فقتل من الصحابة و التابعين ما لا يخفى. 45؟!

و كيف اعتز الدين بالوليد بن يزيد بن عبد الملك المنتهك لحرمات الله الذي حاول أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ففتح المصحف فإذا بالآية الكريمة: فاستفتحوا و خاب كل جبار عنيد فألقاه و رماه بالسهام و أنشد:

تهددني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جائت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد

و من أراد أن يقف على جنايات الرجل و أقربائه و أجداده فليقرأ التاريخ الذي اسودتصفحاته بأفعالهم الشنيعة التي لا يسترها شي ء و لا يغفل عنها إلا السذج و البلهاء.

أقول: إن للكاتب القدير السيد محمد تقي الحكيم كلاما في هذه الأحاديث يطيب لي نقله. قال: و الذي يستفاد من هذه الروايات:

1- أن عدد الأمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر و كلهم من قريش.

2- أن هؤلاء الأمراء معينون بالنص، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل، لقوله تعالى: و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل و بعثنا منهم اثنى عشر نقيبا 46.

3- أن هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي أو حتى تقوم الساعة كما هو مقتضى رواية مسلم: «ان هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» و أصرح من ذلك روايته الأخرى في نفس الباب: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى من الناس اثنان».

إذاصحت هذه الإستفادة فهي لا تلتئم إلا مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة و بقائهم و كونهم من المنصوص عليهم من قبلهصلى الله عليه و آله و سلم و هي منسجمة جدا مع حديث الثقلين و بقاؤهما حتى يراد عليه الحوض. وصحة هذه الإستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة و الخلافة بالاستحقاق لا بالسلطة الظاهرية، لأن الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من الله، و هي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية، لأن هذا النوع من السلطة هو الذي تقتضيه وظيفته كمشرع، و لا ينافي ذلك ذهاب السلطة

ص:15

منهم في واقعها الخارجي و تسلط الآخرين عليهم، على أن الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلينا عن حملها على هذا المعنى، لبداهة أن السلطة الظاهرية قد تولاها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد، فضلا عن إنقراض دولهم و عدم النص على أحد منهمأمويين و عباسيينباتفاق المسلمين.

و من الجدير بالذكر أن هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح و المسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة، فلا تحتمل أن تكون من الموضوعات بعد إكتمال العدد المذكور، على أن جميع رواتها من أهل السنة و من الموثوقين لديهم، و لعلهم حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث، و محاولة ملائمتها للواقع التاريخي كان منشأها عدم تمكنهم من تكذيبها، و من هنا تضاربت الأقوال في توجيهها و بيان المراد منها.

و السيوطيبعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلةخرج برأي غريب و هو: إنه وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة، و الحسن، و معاوية، و ابن الزبير، و عمر بن عبد العزيز في بني أمية، و كذلك الظاهر لما اوتيه من العدل، و بقي اثنان منتظران، أحدهما المهدي لأنه من أهل بيت محمدصلى الله عليه و آله و سلم. و لم يبين المنتظر الثاني، و رحم الله من قال في السيوطي: انه حاطب ليل.

يستفاد من حديث الثقلين أمور مهمة لو اهتمت بها الأمة لاجتمعت على مائدة أهل البيت و استغنت عن غيرهم، و ها هي:

1- إن اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم إشارة إلى أن عندهم علم القرآن بحقيقته المنزلة.

2- إن التمسك بالكتاب و العترة يعصم من الضلالة و لا يغني أحدهما عن الآخر.

3- يحرم التقدم على العترة كما يحرم الابتعاد عنهم.

4- إن العترة لا تفارق الكتاب، و إنهما باقيان إلى يوم القيامة.

أفيصح بعد هذه التصريحات و الإشارات الإعراض عن العترة و لزوم غيرهم.

و قد اكتفينا من الوصايا في حق علي و أهل بيتهعليهم السلامبهذه الأحاديث الثلاثة، و أرجئنا سائر الوصايا كحديث يوم الانذار و حديث الغدير إلى آونة أخرى.

إذا وقفت على هذه الأحاديث الحاثة على لزوم الإقتفاء بعلي و أهل بيتهعليهم السلامهلم معي نقرأ أسماء من اقتفى بعلي و إهتدى بهداه من الصحابة و التابعين لهم بإحسان. و نكتفي بالمشاهير من رواد التشيع في ذلك القرن، و ذلك ما تقرأه في البحث التالي:

الشيعة في كلمات المؤرخين و أصحاب الفرق:

قد غلب استعمال لفظ الشيعة بعد عصر الرسول تبعا له فيمن يوالي عليا و أهل بيته و يعتقد بإمامته و وصايته، و يظهر ذلك من خلال كلمات المؤرخين و أصحاب المقالات و التي نشير إلى بعضها:

1- روى المسعودي في حوادث وفاة النبي: ان الإمام عليا أقام و من معه من شيعته في منزله بعد أن تمت البيعة لأبي بكر 47.

ص:16

2- قال أبو مخنف: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بنصرد فذكروا هلاك معاوية فحمدنا الله عليه فقال: إن معاوية قد هلك، و إن حسينا قد تقبض على القوم ببيعته و قد خرج إلى مكة و أنتم شيعته و شيعة أبيه 48.

3- و قال محمد بن أحمد بن خالد البرقي (ت 274): إن أصحاب علي ينقسمون إلى الأصحاب ثم الأصفياء ثم الأولياء، ثم شرطة الخميس ... و من الأصفياء سلمان الفارسي، و المقداد، و أبو ذر، و عمار، و أبو ليلى، و شبير، و أبو سنان، و أبو عمرة، و أبو سعيد الخدري، و أبو برزة، و جابر بن عبد الله، و البراء بن عازب، و طرفة الأزدي 49.

4- و قال النوبختي (ت 313): إن أول الفرق الشيعة، و هم فرقة علي ابن أبي طالب، المسمون شيعة علي في زمان النبي و بعده، معروفون بانقطاعهم إليه و القول بإمامته 50.

5- و قال أبو الحسن الأشعري: و إنما قيل لهم الشيعة، لأنهم شايعوا عليا، و يقدمونه على سائر أصحاب رسول الله 51.

6- و يقول الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايعوا عليا على الخصوص، و قالوا بإمامته و خلافته نصا و وصية 52.

7- و قال ابن حزم: و من وافق الشيعة في أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله و أحقهم بالإمامة، و ولده من بعده، فهو شيعي، و إن خالفهم في ما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيا 53.

هذا غيض من فيض و قليل من كثير مما جاء في كلمات المؤرخين و أصحاب المقالات، تعرب عن أن لفيفا من الأمة في حياة الرسول و بعده إلى عصر الخلفاء و بعدهم كانوا مشهورين بالتشيع لعلي، و أن لفظة الشيعة مما نطق بها الرسول و تبعته الأمة في ذلك.

و أن الإمام علي و إن تسامح و تساهل في أخذ حقهتبعا لمصالح عظيمة مكنونة في مثل هذا التصرف الحكيمإلا أن حقيقة استخلاف النبي له أمست فكرة عقائدية ثابتة في النفوس و القلوب، و تضاعف عدد المؤمنين بها و المتشيعين له على مرور الأيام، و رجع الكثير من المسلمين إلى الماضي القريب، و احتشدت في أذهانهمصور عن مواقف النبيصلى الله عليه و آله و سلم-، تلك المواقف التي كان يصرح فيها باستخلاف علي من بعده تارة، و يلمح فيها أخرى، فالتفوا حول عليعليه السلامو أصبحوا من الدعاة الأوفياء له في جميع المراحل التي مر بها، و ما زال التشيع ينمو و ينتشر بين المسلمين في الأقطار المختلفة، يدخلها مع الإسلام جنبا إلى جنب، بل أن حقيقته استحكمت من خلال التطبيق العملي لهذا الاستخلاف عبر السنوات القصيرة التي تولى فيها الإمام علي منصب الخلافة بعد مقتل عثمان ابن عفان، فشاعت بين المسلمين أحاديث استخلافه، و وجد الناس من سيرته و زهده و حكمته ما أكد لهمصحة تلك المرويات، و أنه هو المختار لقيادة الأمة و حماية القرآن و نشر تعاليمه و مبادئه 54.

و إذا كان العنصر المقوم لإطلاق عبارة الشيعة هو مشايعة علي بعد النبي الأكرم في الزعامة و الوصاية أولا، و في الفعل و الترك ثانيا، فإنه من غير المنطقي محاولة افتراض علة اجتماعية أو سياسية أو كلامية لتكون هذه الفرقة.

ص:17

و من أجل أن ترتسم في الأذهان الصورة واضحة عن مجسدي هذه التسمية في تلك الحقبة البعيدة في التاريخ و الملاصقة لعصر الرسالة الأول، نستعرض جملة من رواد هذا الميدان المقدس و الذين يعدون بحق أوائل حملة هذه التسمية المباركة على وجه الاجمال. و من أراد التفصيل فليرجع إلى ما كتب حولهم من المؤلفات، و سنأتي بأسماء تلك الكتب في آخر البحث:

رواد التشيع في عصر النبي:

إن الاحالة للتعرف على رواد التشيع إلى الكتب المؤلفة في ذلك المضمار لا تخلو من عسر و غموض، قد تدفع بالأمر إلى جملة من المرادات و المناقشات، إلا إنا سنقتصر في حديثنا على إيراد جملة من أولئك الصحابة الذين اشتهروا بالتشيع و نسبوا له:

1- عبد الله بن عباس.

2- الفضل بن العباس.

3- عبيد الله بن العباس.

4- قثم بن العباس.

5- عبد الرحمان بن العباس.

6- تمام بن العباس.

7- عقيل بن أبي طالب.

8- أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب.

9- نوفل بن الحرث.

10- عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

11- عون بن جعفر.

12- محمد بن جعفر.

13- ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب.

14- الطفيل بن الحرث.

15- المغيرة بن نوفل بن الحارث.- عبد الله بن الحرث بن نوفل.

17- عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث.

18- العباس بن ربيعة بن الحرث.

19- العباس بن عتبة بن أبي لهب.

20- عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث.

21- جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم، و أما غيرهم فإليك أسماء لفيف منهم:

ص:18

22- سلمان المحمدي.

23- المقداد بن الأسود الكندي.

24- أبو ذر الغفاري.

25- عمار بن ياسر.

26- حذيفة بن اليمان.

27- خزيمة بن ثابت.

28- أبو أيوب الأنصاري، مضيف النبي.

29- أبو الهيثم مالك بن التيهان.

30- أبي بن كعب.

31- سعد بن عبادة.

32- قيس بن سعد بن عبادة.

33- عدي بن حاتم.

34- عبادة بن الصامت.- بلال بن رباح الحبشي.

36- أبو رافع مولى رسول الله.

37- هاشم بن عتبة.

38- عثمان بن حنيف.

39- سهل بن حنيف.

40- حكيم بن جبلة العبدي.

41- خالد بن سعيد بن العاص.

42- ابن الحصيب الأسلمي.

43- هند بن أبي هالة التميمي.

44- جعدة بن هبيرة.

45- حجر بن عدي الكندي.

46- عمرو بن عدي الحمق الخزاعي.

47- جابر بن عبد الله الأنصاري.

48- محمد بن أبي بكر.

49- أبان بن سعيد بن العاص.

50- زيد بنصوحان العبدي.

ص:19

هؤلاء خمسونصحابيا من الطبقة الأولى للشيعة، فمن أراد التفصيل و الوقوف على حياتهم و تشيعهم فليرجع إلى الكتب المؤلفة في الرجال، و لكن بعين مفتوحة و بصيرة نافذة.

و في الختام نورد ما ذكره محمد كرد علي في كتابه «خطط الشام» قال: عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلممثل سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين و الائتمام بعلي بن أبي طالب و الموالاة له.

و مثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: امر الناس بخمس فعملوا بأربع و تركوا واحدة.

و لما سئل عن الأربع، قال: الصلاة، و الزكاة، وصوم شهر رمضان، و الحج.

قيل: فما الواحدة التي تركوها؟

قال: ولاية علي بن أبي طالب.

قيل له: و انها لمفروضة معهن؟

قال: نعم هي مفروضة معهن.

و مثل أبي ذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و حذيفة بن اليمان، و ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت، و أبي أيوب الأنصاري، و خالد بن سعيد، و قيس بن سعد بن عبادة 55.

الكتب المؤلفة حول رواد التشيع:

إن لفيفا من علماء الإمامية و مفكريها قاموا بإفراد العديد من المؤلفات القيمة و التي تناولت في متونها بالشرح و التفصيل ما يتعلق برواد التشيع الأوائل و دورهم في تثبيت الأركان العقائدية للفكر الإسلامي الناصع، نذكر في هذا المقام ما وقفنا عليه:-صدر الدين السيد علي المدني الحسيني الشيرازي،صاحب كتاب سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر، و أنوار الربيع في علم البديع، و طراز اللغة، توفي عام (1120 ه) أفرد تأليفا في ذلك المجال أسماه ب «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الإمامية» خص الطبقة الأولى بالصحابة الشيعة، و خصص الباب الأول لبني هاشم من الصحابة، و الباب الثاني في غيرهم منهم. و قام في الباب الأول بترجمة (23)صحابيا من بني هاشم لم يفارقوا عليا قط، كما قام في الباب الثاني بترجمة (46)صحابيا 56.

2- ذكر الشيخ محمد حسين ال كاشف الغطاء في كتابه «أصل الشيعة و أصولها» أسماء جماعة من الصحابة الذين كانوا يشايعون عليا في حله و ترحاله و قالمعلقا على قول أحمد أمين الكاتب المصري: «و الحق أن التشيع كان مأوى يرجع إليه كل من أراد هدم الإسلام»-: و نحن لو لا محافظتنا على مياه الصفا أن لا تتعكر، و نيران البغضاء أن لا تتسعر، و أن تنطبق علينا حكمة القائل: «لا تنه عن خلق و تأتي بمثله» لعرفناه من الذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الالحاد و الزندقة، و من الذي يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع و التفرقة، و لكنا نريد أن نسأل ذلك الكاتب: أي طبقة من طبقات الشيعة أرادت هدم الإسلام؟ هل الطبقة الاولى و هم أعيانصحابة النبي و أبرارهم كسلمان المحمدي أو الفارسي، و أبي ذر، و المقداد، و عمار، و خزيمة ذي الشهادتين، و ابن التيهان، و حذيفة ابن اليمان، و الزبير، و الفضل بن العباس، و أخيه الحبر عبد الله، و هاشم بن عتبة المرقال، و أبي أيوب

ص:20

الأنصاري، و أبان و أخيه خالد بن سعيد بن العاص، و أبي بن كعب سيد القراء، و أنس بن الحرث بن نبيه، الذي سمع النبي يقول: «إن ابني الحسين يقتل في أرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره، فخرج أنس و قتل مع الحسين» راجع الإصابة و الاستيعاب و هما من أوثق ما ألف علماء السنة في تراجم الصحابة، و لو أردت أن أعد عليك الشيعة من الصحابة و اثبات تشيعهم من نفس كتب السنة لأحوجني ذلك إلى أفراد كتاب ضخم 57.

3- كما أن الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين (1290- 1377) قام بجمع أسماء الشيعة في الصحابة حسب حروف الهجاء، و قال: و إليك اكمالا للبحث بعض ما يحضرني من أسماء الشيعة من أصحاب رسول الله لتعلم أن بهم اقتدينا، و بهديهم اهتدينا، و سأفرد لهمإن وفق اللهكتابا يوضح للناس تشيعهم، و يحتوي على تفاصيل شؤونهم، و لعل بعض أهل النشاط من حملة العلم و سدنة الحقيقة يسبقني إلى تأليف ذلك الكتاب، فيكون لي الشرف إذ خدمته بذكر أسماء بعضهم في هذا الباب و هي على ترتيب حروف الهجاء.

ثم ابتدأ بأبي رافع القبطي مولى رسول الله، و ختمهم بيزيد بن حوثرة الأنصاري، و لم يشر إلى شي ء من حياتهم، و إنما ألقى ذلك على الأمل أو على من يسبقه من بعض أهل النشاط.

إلا أنه رحمه الله ذكر ما يربو على المائتين من أسمائهم 58.- قام الخطيب المصقع الدكتور الشيخ أحمد الوائلي «حفظه الله» بذكر أسماء رواد التشيع في عصر الرسول في كتابه المطبوع «هوية التشيع» فجاء باسم مائة و ثلاثين من خلص أصحاب الإمام من الصحابة الكرام، و قال بعد ذكره لتنويه النبي باستخلاف علي في غير واحد من المواقف: و لا يمكن أن تمر هذه المواقف و الكثير الكثير من أمثالها من دون أن تشد الناس لعلي، و دون أن تدفعهم للتعرف على هذا الانسان الذي هو وصي النبي، ثم لا بد للمسلمين من اطاعة الأوامر التي وردت في النصوص، و الالتفات حول من وردت فيه. ذلك معنى التشيع الذي نقول ان النبيصلى الله عليه و آله و سلمهو الذي بذر بذرته، و قد أينعت في حياته، و عرف جماعة بالتشيع لعلي و الالتفاف حوله، و للتدليل على ذلك سأذكر لك أسماء الرعيل الأول من الصحابة الذين عرفوا بتشيعهم للإمام علي 59.

5- آخرهم و ليس أخيرهم كاتب هذه السطور حيث قام مجيبا دعوة السيد شرف الدين فألف كتابا في ذلك المجال في عدة أجزاء، نشر منه جزءان، و انتهينا في الجزء الثاني من ترجمة أبي ذر (جندب بن جناده) ذلك الصحابي العظيم، و الكتاب باللغة الفارسية، و نقله إلى العربية الشيخ المحقق البارع جعفر الهادي و طبع و نشر.

و أخيرا فإن من أراد أن يقف بشكل جلي على رواد التشيع في كتب الرجال لأهل السنة فإن هذا الأمر ليس بمتعسر و لا بممتنع، و التي يمكننا الإشارة إلى البعض منها أمثال:- الاستيعاب لابن عبد البر (ت 456).

2- أسد الغابة للجزري (ت 606).

3- الإصابة لابن حجر (ت 852).

و غير ذلك من أمهات كتب الرجال المعروفة.

پى نوشتها:

ص:21

1- الحجرات/. 1

2- الدر المنثور للسيوطي 6/. 589

3 الدر المنثور للسيوطي 6/. 589

4- نفس المصدر.

5- نفس المصدر.

6- الصواعق 161 طبع كلية القاهرة.

7- النهاية مادة قمح 4/ 106 و رواه ابن حجر في الصواعق. 154

8- ربيع الأبرار.

9- الصواعق. 161

10- نفس المصدر.

11- نفس المصدر.

12- الصواعق. 161

13- مناقب المغازلي. 293

14- مناقب المغازلي 281، و رواه السيد البحراني في غاية المرام عنه، و أنت إذا تدبرت في الآيات الدالة على سريان العلم و الشعور في عامة الموجودات مثل قوله: و إن منها لما يهبط من خشية اللهالبقرة/ 74- تستطيع أن تصدق ما جاء في الحديث من شهادة العقيق بوحدانية الله.

15- علل الشرائع 158 طبع النجف.

16- الصواعق. 161

17- علل الشرائع 156 طبع النجف.

18- كنز العمال 1/ 44، أخرجه الترمذي و النسائي عن جابر.

19- كنز العمال 1/ 44، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.

20- مسند أحمد 5/ 182،. 189

21- المستدرك للحاكم 3/. 148

22- مسند أحمد 3/ 17- 26، أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري.

23- مستدرك الحاكم 3/ 109، أخرجه من حديث زيد بن أرقم.

24- رواه الحاكم في مستدرك بسنده عن أبي ذر 3/. 151

25- الأربعون حديثا للنبهاني 216 نقله عن الطبراني في الأوسط.

26- رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن ابن عباس 3/. 149

27- الصواعق لابن حجر (الباب الحادي عشر): 91،. 142

ص:22

28- لاحظ الصواعق (الباب الحادي عشر):. 91

29-صحيح البخاري 9/ 101، كتاب الأحكام، الباب 51 (باب الاستخلاف).

30-صحيح مسلم 6/. 3

31-صحيح مسلم 6/ 3-. 4

32-صحيح أبي داود 2، كتاب المهدي 207 (طبع مصر) و روي أيضا نحوه بطريقين آخرين.

33-صحيح الترمذي 2/ 45 (طبع عام 1342).

34- مسند أحمد 5/ 86-. 108

35- المستدرك على الصحيحين (كتاب معرفة الصحابة) 3/ 617- 618 (طبع الهند).

36- المصدر نفسه.

37- الصواعق. 189

38- مسند أحمد 1/. 398

39- تاريخ بغداد 14/ 353 برقم. 7673

40- منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5/. 312

41- تاريخ الخلفاء. 10

42- فتح الباري في شرحصحيح البخاري 13/ 212 ط دار المعرفة. و في المصدر: عدتهم ثلاثة عشر.

43- المصدر نفسه 13/ 213 و مثله ما نقله أيضا: اثنا عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة.

44- فتح الباري في شرحصحيح البخاري 13/ 213، و لا حظ تاريخ الخلفاء. 11

45- تاريخ الخلفاء 250 و غيره.

46- المائدة/. 12

47- الوصية للمسعودي 121 طبع النجف.

48- مقتل الإمام الحسين لأبي مخنف: تحقيق حسن الغفاري 15 و لا حظ. 16

49- الرجال للبرقي: (طبع طهران)، و لا حظ فهرست ابن النديم 263 (طبع القاهرة) و عبارته قريبة من عبارة البرقي.

50- فرق الشيعة. 15

51- مقالات الإسلاميين 1/ 65 طبع مصر.

52- الملل و النحل 1/. 131

53- الفصل في الملل و النحل 2/ 113 طبع بغداد.

54- الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة 28-. 29

55- خطط الشام 5/. 251

ص:23

56- الدرجات الرفيعة 79- 452 طبع النجف.

57- أصل الشيعة و اصولها 53- 54 مطبة العرفان.

58- الفصول المهمة في تأليف الأمة 179-. 190

59- هوية التشيع. 34

ص:24

افتراضات وهمية

اشارة

لقد تقدم الحديث منا في الصفحات السابقة حول ما يمكن تسميته بنشأة التشيع، و التي تبين لنا بوضوح أنه لا فصل هنا بين النشأتين، تأريخ نشأة الإسلام، و نشأة التشيع، و أنهما وجهان لعملة واحدة، إلا أن هناك جماعة من المؤرخين و كتاب المقالات ممن قادهم الوهم و سوء الفهم إلى اعتبار التشيع أمر حادث و طارى ء على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتشون عن مبدئه و مصدره، و أشد تلك الظنون عدوانية فيه ما تلوكه أشداق بعض المتقدمين و المتأخرين، هو كونه وليد عبد الله بن سبأ ذلك الرجل اليهودي، الذيبزعمهمطاف الشرق و الغرب، و أفسد الأمور على الخلفاء و المسلمين، و ألب الصحابة و التابعين على عثمان فقتل في عقر داره، ثم دعا إلى علي بالإمامة و الوصاية، و إلى النبي بالرجعة، و كون مذهبا باسم الشيعة، فهو كما يتصور هؤلاء وصوروه لغيرهمصنيع ذلك الرجل اليهودي المتظاهر بالإسلام. و بما أن لهذا الموضوع أهمية خاصة لما احتلته من المساحة الواسعة في أذهان العديد من السذج و السطحيين، فإنا لا نكتفي ببيان توهم واحد بل نأتي على ذكر كل تلك الإدعاءات واحدة بعد الأخرى، مع رعاية التسلسل الزمني.

الافتراض الأول: الشيعة و يوم السقيفة

ليس بخاف على أحد مدى الانعطافة الخطيرة التي حدثت في تاريخ الإسلام عقب انتهاء مؤتمر سقيفة بني ساعدة، و ما ترتب عليه من جملة من النتائج و القرارات الخطيرة.

و الحق يقال ان هذا المؤتمر الذي ضم بينصفوفة ثلة كبيرة من وجوه الصحابةمن المهاجرين و الأنصارقد أغفل عند انعقاده الواجب الأعظم في إكرام رسول اللهصلى الله عليه و آلهصاحب الفضل الأكبر فيما وصل إليه الجميععند ما ترك مسجى بين يدي أهل بيته و انشغلوا بما كان من غير الإنصاف أن ينسب إليهصلى الله عليه و آلهمن قصور لا عذر فيه في ترك الأمة حائرة به بعد موته.

أقول: و نتيجة لانشغالهم ذاك فقد حرموا من واجب إكرام الرسولصلى الله عليه و آلهجله، ففاتهم أعظمه، و قصروا في تأديته، و كان لأهل بيته وحدهم ذلك الدور كله، فأوفوه، و لم يألوا في ذلك جهدا. و إذا كان المؤتمرون في

ص:25

السقيفة قد خرجوا إلى الملأ بقرار كان ثمرة مخاض عسير و اعتراكصعب، فإنه أوضح و بلا أدنى ريب تبعثر الآراء و اختلافها، بل و ظروف خطرة كان من الممكن أن تؤدي بالجهد العظيم الذي بذله رسول اللهصلى الله عليه و آلهو من معه من المؤمنين في إرساء دعائم هذا الدين و تثبيت أركانه، و أوضحتو ذاك لا خفاء عليهإن من غير المنطقي لرسول اللهصلى الله عليه و آلهأن يرحلمع أنه لم يفاجأه الموتدون أن يدرك هذه الحقيقة التي ليس هو ببعيد عنها، و لا يمكن أن يتغاضى عنها، و هو الذي ما خرج في أمر جسيم إلا و خلف عنه من ينوبه في إدارة شؤون الأمة في فترة غيابه التي لا يلبث أن يعود منها بعد أيام معدودات، فكيف بالرحيل الأبدي!

نعم إن هذا الأمر لا بد و إن يستوقف كل ذي لب و عقل مستنير.

كما أن الاستقراء المتأني لأحداث السقيفة قد أوضحت و بقوة في أثناء المؤتمر و بعده وجود تيار قوي و متماسك تبنته جملة من وجوه الصحابة و متقدميها، و عمدت إلى التذكير بوجوده و الاجهار به، و لو قادهم هذا الأمر إلى الاقتتال دون تنفيذه، و ذاك الأمر هو الاصرار على إيكال أمر الخلافة إلى علي بن أبي طالبعليه السلامدون غيره، رغم ابتعادهعليه السلامعن ساحة الاعتراك و ميدان التنازع في تلك السقيفة.

و لعل تمسك هذه الثلة من الصحابة بموقفها من بيعة الإمام دون غيره هو ما دفع بعض المؤرخين إلى الذهاب بأن التشيع كان وليد هذا المؤتمر و نتاج مخاضه، و إن يليهم آخرون يتعبدون بهذا الرأي و يرتبون من خلاله تصوراتهم و أفكارهم، فيتشعب ذلك إلى جملة واسعة من المتبنيات غيرالواقعية و القائمة على أرض واسعة من الأوهام و الاسترسال غير المنطقي.

و لعل هذا التصورات تعتمد في فهمها أساسا لمبدأ نشأة التشيع على ما سبق أن رواه الطبري و غيره عن مجريات هذا المؤتمر و ما ترتب عليه من نتائج، دون ان تمد بصرها إلى أبعد من هذه النقطة اللامعة التي أعمتهم عن التأمل في أبعادها، قال الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم و معه عمر و أبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير و منكم أمير، فقال أبو بكر: منا الأمراء و منكم الوزراءإلى أن قال:- فبايعه عمر و بايعه الناس، فقالت الأنصارأو بعض الأنصار-: لا نبايع إلا عليا.

ثم قال (أي الطبري): أتى عمر بن الخطاب منزل علي و فيه طلحة و الزبير و رجال من المهاجرين، فقال: و الله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة.

فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.

و قال أيضا: و تخلف علي و الزبير، و اخترط الزبير سيفه و قال: لا أغمده حتى يبايع علي. فبلغ ذلك أبا بكر و عمر فقالا: خذوا سيف الزبير 1.

و قال اليعقوبي في تاريخه: و مالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، و الفضل بن العباس، و الزبير بن العوام بن العاص، و خالد بن سعيد، و المقداد بن عمرو، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و البراء بن عازب، و أبي بن كعب 2.

ص:26

و روى الزبير بن بكار في الموفقيات: ان عامة المهاجرين و جل الأنصار كانوا لا يشكون أن عليا هوصاحب الأمر.

و روى الجوهري في كتاب السقيفة: ان سلمان و الزبير و بعض الأنصار كان هواهم ان يبايعوا عليا.

و روي أيضا: انه لما بويع أبو بكر و استقر أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، و لام بعضهم بعضا، و هتفوا باسم الإمام علي، و لكنه لم يوافقهم 3.

و روى ابن قتيبة في الإمامة و السياسة (12): كان أبو ذر وقت أخذ البيعة غائبا [عن هذه الأحداث] فلما جاء قال: أصبتم قناعة، و تركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم الأثنان.

و قال سلمان: أصبتم ذا السن، و أخطأتم المعدن، أما لو جعلتموه فيهم ما اختلف منكم إثنان، و لأكلتموها رغدا.

و هكذا فمن خلال هذه النصوص المتقدمة و غيرها اعتقد ذاك البعضالذي أشرنا إليه سابقاإن مبتدأ التشيع و نشأته كان في تلك اللحظات الحرجة في تأريخ الإسلام، متناسين ان ما أعتمدوه في بناء تصوراتهم هو ما ينقضها و يثبت بطلانها، فإن المتأمل في هذه النصوص يظهر له و بوضوح أن فكرة التشيع لعلي ليست وليدة هذا الظرف المعقد، و ثمرة اعتلاجه، و نقيض تصوره، بقدر ما تؤكد على أن هذه الفكرة كانت مختمرة في أذهانهم و مذكورة في عقولهم و لسنين طوال، فلما رأت هذه الجماعة انصراف الأمر إلى جهة لم تكن في حساباتهم و لا في حدود تصوراتهم، و انحساره عما كان معهودا به إليهم، عمدوا إلى التمسك به بالاجتماع في بيت علي و الإعلانصراحة عن موقفهم و معتقدهم.

نعم إن من غير المتوقع و المعهود أن يجتمع رأي هذه الجماعةالتي تؤلف خلاصة غنية من متقدمي الصحابةعلى هذا الأمر في تلك اللحظات المضطربة و المليئة بالمفاجئات، و أن يترتب عليه موقفا موحدا ثابتا، فهذا الأمر يدل بوضوح على أنه ما كان وليد يومه و نتاج مخاضه.

و مما يؤكد ذلك و يقوي أركانه ما نقلته جميع مصادر الحديث المختلفة من نداءات رسول اللهصلى الله عليه و آلهو توصياته بحق علي و عترته و شيعته في أكثر من مناسبة و مكان، و ما كان يشير إليهصلى الله عليه و آلهمن فضل شيعة علي و مكانتهم، و التأكيد على وجوب ملازمتهم، و في هذا دلالة لا تقبل النقض على أن التشيع ما كان وليد السقيفة أو ردة رافضة آنية لمجريات أحداثها، بل إن هذا الوجود يمتد عميقا مع نشأة الإسلام و اشتداد عوده في زمن النبي محمدصلى الله عليه و آلهو حياته المباركة المقدسة.

الافتراض الثاني: التشيعصنيع عبد الله بن سبأ

لنقرأ ما كتبه الطبري حول هذا الوهم المصطنع:

قال: «إن يهوديا باسم عبد الله بن سبأ المكنى بابن السوداء فيصنعاءأظهر الإسلام في عصر عثمان و اندس بين المسلمين، و أخذ يتنقل في حواضرهم و عواصم بلادهم: الشام، و الكوفة، و البصرة، و مصر، مبشرا بأن للنبي الأكرم رجعة كما أن لعيسى بن مريم رجعة، و أن عليا هو وصي محمدصلى الله عليه و آله و سلمكما كان

ص:27

لكل نبي وصي، و أن عليا خاتم الأوصياء كما أن محمدا خاتم الأنبياء، و أن عثمان غاصب حق هذا الوصي و ظالمه، فيجب مناهضته لإرجاع الحق إلى أهله».

«إن عبد الله بن سبأ بث في البلاد الإسلامية دعاته، و أشار عليهم أن يظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الطعن في الامراء، فمال إليه و تبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير و التابعي الصالح من أمثال أبي ذر، و عمار بن ياسر، و محمد بن حذيفة، و عبد الرحمان بن عديس، و محمد بن أبي بكر، وصعصعة بنصوحان العبدي، و مالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين و أخيارهم، فكانت السبأية تثير الناس على ولاتهم، تنفيذا لخطة زعيمها، و تضع كتبا في عيوب الأمراء و ترسل إلى غير مصرهم من الأمصار. فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمينبتحريض السبأيينو قدومهم إلى المدينة و حصرهم عثمان في داره، حتى قتل فيها، كل ذلك كان بقيادة السبأيين و مباشرتهم».

«إن المسلمين بعد ما بايعوا عليا، و نكث طلحة و الزبير بيعته و خرجا إلى البصرة، رأى السبأيون أن رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، و أنه إن تم ذلك سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلا و قرروا أن يندسوا بين الجيشين و يثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم، و انهم استطاعوا أن ينفذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسون من السياسيين في جيش علي من كان بازائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان و فزع رؤسائهما، و ظن كل بخصمه شرا، ثم إن حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم».

و روى الطبري عن هذا الوهم في موضع آخر من كتابه:

«فيما كتب به إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهلصنعاء أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدات المسلمين يحاول أضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: العجب فيمن يزعم أن عيسى يرجع و يكذب بأن محمدا يرجع، و قد قال الله عز و جل: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد 4، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. قال: فقبل ذلك عنه، و وضع لهم الرجعة فتكلموا فيها، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، و لكل نبي وصي، و كان علي وصي محمد. ثم قال: محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء. ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمو وثب علي وصي رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمو تناول أمر الأمة. ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق و هذا وصي رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمفانهضوا في هذا الأمر فحركوه، و ابدأوا بالطعن على امرائكم، و أظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تستميلوا الناس، و ادعوهم إلى هذا الأمر. فبث دعاته، و كاتب من كان استفسد في الأمصار و كاتبوه، و دعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، و أظهروا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و جعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، و يكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك، و يكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم، و

ص:28

هؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة و أوسعوا الأرض إذاعة، و هم يريدون غير ما يظهرون، و يسرون غير ما يبدون ... إلى آخر ما يذكره الطبري في المقام» حتى يتوقف عن إيراد هذه الأحداث بعد حرب الجمل و لا يأتي بعد ذلك بشي ء عن السبأية. 5.

و هكذا فقد تبين لك مما أوردناه عن الطبري إن جلة من فضلاءالصحابة قد عدوا من كبار السبأية و قادتها، و هم الذين كانوا يعرفون بالزهد و التقى و الصدق و الصفا، فأما عبد الرحمان بن عديس البلوي: فهو ممن بايع النبي تحت الشجرة و شهد فتح مصر، و كان رئيسا على من سار إلى عثمان من مصر 6.

و أما محمد بن أبي بكر: فأمه أسماء بنت عميس الخثعمية، تزوجها أبو بكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب فولدت له محمدا في حجة الوداع بطريق مكة، ثم نشأ في حجر علي بعد أبيه، و شهد معه حرب الجمل، كما شهدصفين، ثم ولي مصر عن علي إلى أن قتل فيها بهجوم عمرو بن العاص عليها 7.

و أماصعصعة بنصوحان العبدي: فقد أسلم على عهد رسول الله و كان خطيبا مفوها، شهدصفين مع علي. و لما استشهد علي و استولى معاوية على العراق نفاه إلى البحرين و مات فيها 8.

و أما الأشتر: فهو مالك بن الحرث النخعي، و هو من ثقات التابعين، شهد وقعة اليرموك، وصحب عليا في الجمل وصفين، ولاه على مصر سنة (38 ه) و لما وصل إلى القلزم دس إليه معاوية السم بواسطة أحد عملائه فتوفي مسموما 9.

هذا هو الذي ذكره الطبري، و قد أخذه من جاء بعده من المؤرخين و كتاب المقالات حقيقة راهنة، و بنوا عليه ما بنوا من الأفكار و الآراء، فصارت الشيعة وليدة السبأية في زعم هؤلاء عبر القرون و الأجيال، و من الذين وقعوا في هذا الخطأ الفاحش دون فحص و تأمل في حقائق الامور:

1- ابن الأثير (ت 630 ه)، فقد أورد القصة منبثة بين حوادث (30- 36 ه) و هو و إن لم يذكر المصدر في المقام، لكنه يصدر عن تاريخ الطبري في حوادث القرون الثلاث الاول 10.

2- ابن كثير الشامي (ت 774 ه) فقد ذكر القصة في تاريخه «البداية و النهاية» و أسندها عند ما انتهى من سرد واقعة الجمل إلى تاريخ الطبري، و قال: هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير 11.

3- ابن خلدون (ت 808 ه)، في تاريخه «المبتدأ و الخبر» أورد القصة في حادثة الدار و الجمل و قال: هذا أمر الجمل ملخصا من كتاب أبي جعفرالطبري 12.

و أما من جاء بعد أولئك المؤرخين و أخذوا ما أورده السابقون مأخذ التسليم فنذكر منهم:

4- محمد رشيد رضا، منشى ء مجلة المنار (ت 1354 ه)، ذكره في كتابه «السنة و الشيعة» و قال: و كان مبتدع اصوله (أي التشيع) يهودي اسمه عبد الله بن سبأ، أظهر الإسلام خداعا، و دعا إلى الغلو في علي كرم الله وجهه، لأجل تفريق هذه الأمة، و افساد دينها و دنياها عليها، ثم سرد القصة و قال: و من راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلا يرى مبلغ تأثير افساد السبأيين دون ما كاد يقع من الصلح 13.

ص:29

5- أحمد أمين (ت 1372 ه)، و هو الذي استبطل عبد الله بن سبأ في كتابه «فجر الإسلام» و قال: إن ابن السوداء كان يهوديا منصنعاء، أظهر الإسلام في عهد عثمان، و حاول أن يفسد على المسلمين دينهم، و بث في البلاد عقائدا كثيرة ضارة، و قد طاف في بلاد كثيرة، في الحجاز، و البصرة، و الكوفة، و الشام، و مصر. ثم ذكر أن أبا ذر تلقى فكرة الاشتراكية من ذلك اليهودي، و هو تلقى هذه الفكرة من مزدكيي العراق أو اليمن.

و قد كان لكتاب «فجر الإسلام» عام انتشاره (1952 م) دوي واسع النطاق في الأوساط الإسلامية، فإنه أول من ألقى الحجر في المياه الراكدة بشكل واسع، و قد رد عليه أعلام العصر بأنواع الردود، فألف الشيخ المصلح كاشف الغطاء «أصل الشيعة و اصولها» ردا عليه، كما رد عليه العلامة الشيخ عبد الله السبيتي بكتاب أسماه «تحت راية الحق».

6- فريد وجدي مؤلف دائرة المعارف (ت 1370 ه) فقد أشار إلى ذلك في كتابه عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 14.

7- حسن إبراهيم حسن، و ذكره في كتابه «تاريخ الإسلام السياسي» في اخريات خلافة عثمان بقوله: «فكان هذا الجو ملائما تمام الملائمة و مهيئا لقبول دعوة (عبد الله بن سبأ) و من لف لفه و التأثر بها إلى أبعد حدو أضافو قد أذكى نيران هذه الثورةصحابي قديم أشتهر بالورع و التقويو كان من كبار أئمة الحديثو هو أبو ذر الغفاري الذي تحدى سياسة عثمان و معاوية و اليه على الشام بتحريض رجل من أهلصنعاء و هو عبد الله ابن سبأ، و كان يهوديا فأسلم، ثم أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة فالكوفة و الشام و مصر ... الخ 15.

هذا حال من كتب عن الشيعة من المسلمين، و أما المستشرقون المتطفلون على موائد المسلمين فحدث عنهم و لا حرج، فقد ابتغوا تلك الفكرة الخاطئة في كتبهم الاستشراقية التي تؤلف لغايات خاصة، فمن أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى ما ألفه الباحث الكبير السيد مرتضى العسكري في ذلك المجال، فإنهدام ظلهحقق المقال و لم يبق في القوس منزعا 16.

نظر المحققين في الموضوع:

1- إن ما جاء في تاريخ الطبري من القصة، على وجه لا يصح نسبته إلا إلى عفاريت الأساطير و مردة الجن، إذ كيف يصح لانسان أن يصدق أن يهوديا جاء منصنعاء و أسلم في عصر عثمان، و استطاع أن يغري كبار الصحابة و التابعين و يخدعهم، و يطوف بين البلاد ناشرا دعواه، بل و استطاع أن يكون خلايا ضد عثمان و يستقدمهم على المدينة و يؤلبهم على الخلافة الإسلامية، فيها جموا داره و يقتلوه، بمرأى و مسمع من الصحابة العدول و من تبعهم باحسان، هذا شي ء لا يحتمله العقل و إن وطن على قبول العجائب و الغرائب.

بل إن هذه القصة تمس كرامة المسلمين و الصحابة و التابعين و تصورهم أمة ساذجة يغترون بفكر يهودي، و فيهم السادة و القادة و العلماء و المفكرون.

ص:30

2- إن القراءة الموضوعية للسيرة و التاريخ توقفنا على سيرة عثمان بن عفان و معاوية بن أبي سفيان، فإنهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، و ينفون المخالفين و يضربونهم، فهذا أبو ذر الغفاريرحمه اللهنفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لاعتراضه عليه في تقسيم الفي ء و بيت المال بين أبناء بيته، كما أنه ضرب الصحابي الجليل عمار بن ياسر حتى انفتق له فتق في بطنه و كسروا ضلعا من أضلاعه 17، إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم و معارضيهم التي يقف عليها المتتبع، و مع ذلك نرى في الأوهام التي عرضناها مسبقا أن رجال الخلافة و عمالها يغضون الطرف عمن يؤلب الصحابة و التابعين على أخماد حكمهم، و قتل خليفتهم في عقر داره، و يجر الويل و الويلات على كيانهم!! و هذا شي ء لا يقبله من له أدنى إلمام بتاريخ الخلافة و سيرة معاوية.

يقول العلامة الأميني: لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن، و شق عصا المسلمين، و قد علم به و بعبثه أمراء الأمة و ساستها في البلاد، و انتهى أمره إلى خليفة الوقت، فلماذا لم يقع عليه الطلب؟ و لم يبلغه القبض عليه، و الأخذ بتلكم الجنايات الخطرة و التأديب بالضرب و الاهانة، و الزج إلى أعماق السجون؟ و لا آل أمره إلى الاعدام المريح للأمة من شره و فساده كما وقع ذلك كله على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر؟ و هتاف القرآن الكريم يرن في مسامع الملأ الديني: إنما جزاؤا الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم 18 فهلا اجتاح الخليفة جرثومة تلك القلاقل بقتله؟ و هل كان تجهمه و غلظته قصرا على الأبرار من أمة محمدصلى الله عليه و آله و سلمففعل بهم ما فعل 19.

و هناك لفيف من الكتاب ممن حضر أو غبر، بدل أن يفتحوا عينوهم على الواقع المرير، ليقفوا على الأسباب المؤدية إلى قتل الخليفة، حاولوا التخلص من أوزار الحقيقة بالبحث عن فروض و همية سببت قتل الخليفة و أودت به.

و في حق هؤلاء يقول أحد الكتاب المعاصرين:

«و في الشرق كتاب لا يعنيهم من التاريخ واقع و لا من الحياة حال أو ظرف، فإذا بهم يعللون ثورة المظلومين على عثمان، و يحصرون أحداث عصر بل عصور بإرادة فرد يطوف في الأمصار و الأقطار و يؤلب الناس على خليفة و دولة!.

إن النتيجة العملية لمثل هذا الزعم و هذا الافتراء هي أن الدولة في عهد عثمان و وزيره مروان إنما كانت دولة مثالية، و أن الأمويين و الولاة و الأرستقراطيين إنما كانوا رسل العدالة الاجتماعية و الاخاء البشري في أرض العرب. غير أن رجلا فردا هو عبد الله بن سبأ أفسد على الأمويين و الولاة و الأرستقراطيينصلاحهم و برهم، إذ جعل يطوف الأمصار و الأقطار مؤلبا على عثمان و امرائه و ولاته الصالحين المصلحين، و لو لا هذا الرجل الفرد و طوافه في الأمصار و الأقطار لعاش الناس في نعيم مروان و عدل الوليد و حلم معاوية عيشا هو الرغادة و هو الرخاء.

ص:31

و في مثل هذا الزعم افتراء على الواقع و اعتداء على الخلق، و مسايرةضئيلة الشأن لبعض الآراء، يلف ذلك جميعا منطق ساذج و حجة مصطنعة واهية. و فيه ما هو أخطر من ذلك: فيه تضليل عن حقائق أساسية في بناء التاريخ، إذ يحاولصاحب هذا المسعى الفاشل أن يحصر أحداث عصر بكامله، بل عصور كثيرة، بإرادة فرد يطوف في الأمصار و يؤلب الناس على دولة فيثور هؤلاء الناس على هذه الدولة لا لشي ء إلا لأن هذا الفرد طاف بهم و أثارهم!.

أما طبيعة الحكم، و سياسة الحاكم، و فساد النظام الاقتصادي و المالي و العمراني، و طغيان الأثرة على ذوي السلطان، و استبداد الولاة بالأرزاق، و حمل بني أمية على الأعناق، و الميل عن السياسة الشعبية الديمقراطية إلى سياسة عائلية أرستقراطية رأسمالية، و إذلال من يضمر لهم الشعب التقدير و الاحترام الكثيرين أمثال أبي ذر و عمار بن ياسر و غيرهما، أما هذه الامور و ما إليها جميعا من ظروف الحياة الاجتماعية، فليست بذات شأن في تحريك الأمصار و إثارتها على الاسرة الأموية الحاكمة و من هم في ركابها، في هؤلاء! بل الشأن كل الشأن في الثورة على عثمان لعبد الله بن سبأ الذي يلفت الناس عن طاعة الأئمة و يلقي بينهم الشر.

أليس من الخطر على التفكير أن ينشأ في الشرق من يعللون الحوادث العامة الكبرى المتصلة اتصالا وثيقا بطبيعة الجماعة و اسس الأنظمة الاقتصادية و الاجتماعية بارادة فرد من عامة الناس يطوف في البلاد باذرا للضلالات و الفساد في هذا المجتمع السليم.

أليس من الخطر على التفكير أن نعلل الثورات الاصلاحية في التاريخ تعليلاصبيانيا نستند فيه إلى رغبات أفراد في التاريخ شاءوا أن يحدثوا شغبا فطافوا الأمصار و أحدثوه» 20.

3- إن رواية الطبري نقلت عن أشخاص لا يصح الاحتجاج بهم:

أالسري: إن السري الذي يروي عنه الطبري، إنما هو أحد رجلين:

1- السري بن إسماعيل الهمداني الذي كذبه يحيى بن سعيد، و ضعفه غير واحد من الحفاظ 21.

2- السري بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد المتوفى عام (258 ه) و قد أدرك ابن جرير الطبري شطرا من حياته يربو على ثلاثين سنة، كذبه ابن خراش، و وهاه ابن عدي، و قال: يسرق الحديث، و زاد ابن حبان: و يرفع الموقوفات، لا يحل الاحتجاج به، و قال النقاش في حديث وضعه السري 22.

فالاسم مشترك بين كذابين لا يهمنا تعيين أحدهما.

و احتمال كونه السري بن يحيى الثقة غيرصحيح، لأنه توفي عام (167 ه) مع أن الطبري من مواليد عام (234 ه) فالفرق بينهما (57) عاما، فلا مناص أن يكون السري، أحد الرجلين الكذابين.

بشعيب: و المراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول، قال ابن عدي: ليس بالمعروف، و قال الذهبي: رواية، كتب سيف عنه: فيه جهالة 23.

جسيف بن عمر: قال ابن حبان: كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات، و قال: قالوا: إنه كان يضع الحديث و اتهم بالزندقة. و قال الحاكم: اتهم بالزندقة و هو في الرواية ساقط، و قال ابن عدي: بعض أحاديثه

ص:32

مشهورة، و عامتها منكرة لم يتابع عليها. و قال ابن عدي: عامة حديثه منكر. و قال البرقانيعن الدار قطني-: متروك. و قال ابن معين: ضعيف الحديث فليس خير منه. و قال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. و قال أبو داود: ليس بشي ء. و قال النسائي: ضعيف، و قال السيوطي: وضاع، و ذكر حديثا من طريق السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال: موضوع، فيه ضعفاء أشدهم سيف 24.

دفإذا كان هذا حال السند، فكيف نعتمد في تحليل تكون طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تشكل خمسهم أو ربعهم على تلك الرواية، مع أن هذا هو حال سندها و متنها، فالاعتماد عليها خداع و ضلال لا يرتضيه العقل.

4- عبد الله بن سبأ، أسطورة تاريخية:

إن القرائن و الشواهد و الاختلاف الموجود في حق الرجل و مولده، و زمن إسلامه، و محتوى دعوته يشرف المحقق على القول بأن مثل عبد الله بن سبأ مثل مجنون بني عامر و بني هلال، و أمثال هؤلاء الرجال و الأبطال كلها أحاديث خرافة وضعها القصاصون و أرباب السمر و المجنون، فإن الترف و النعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين: الأموية و العباسية، و كلما اتسع العيش و توفرت دواعي اللهو اتسع المجال للوضع و راج سوق الخيال، و جعلت القصص و الأمثال كي تأنس بها ربات الحجال، و أبناء الترف و النعمة 25.

هذا هو الذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء، و لعل ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر، فذهبوا إلى أن عبد الله بن سبأ أقرب ما يكون إلى الأسطورة منه إلى الواقع. و في المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أسطورة تاريخية عمد أعداء الشيعة إلى تضخيمها و تهويلها لاستغفال الناس نكاية بالشيعة و محاولة خبيثة لالقاء التفرقة و التباغض بين عموم المسلمين، و لا بأس بالوقوف على كلامه حيث قال:

و أكبر الظن أن عبد الله بن سبأ هذاإن كان كل ما يروى عنهصحيحاإنما قال و دعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، و عظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة، و لم يثرها.

إن خصوم الشيعة أيام الأمويين و العباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله ابن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان و ولاته من ناحية، و ليشنعوا على علي و شيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين، و ما أكثر ما شنع خصوم الشيعةعلى الشيعة.

فلنقف من هذا كله موقف التحفظ و التحرج و الاحتياط، و لنكبر المسلمين فيصدر الإسلام عن أن يبعث بدينهم و سياستهم و عقولهم و دولتهم رجل أقبل منصنعاء، و كان أبوه يهوديا و كانت أمه سوداء، و كان هو يهوديا ثم أسلم، لا رغبا و لا رهبا و لكن مكرا و كيدا و خداعا، ثم اتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، و فرقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعا و أحزابا.

هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، و لا تثبت للنقد، و لا ينبغي أن تقام عليها امور التاريخ، و إنما الشي ء الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي، و افتراق الأهواء، و نشأة المذاهب السياسية المتباينة، فالمستمسكون بنصوص القرآن و سنة النبي و سيرةصاحبيه كانوا يرون أمورا تطرأ، ينكرونها و لا يعرفونها، و يريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم و شدة و

ص:33

ضبط للنفس و ضبط للرعية، و الشباب الناشئون في قريش و غير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الأمور الجديدة بنفوس جديدة، فيها الطمع، و فيها الطموح، و فيها الاثرة، و فيها الأمل البعيد، و فيها الهم الذي لا يعرف حدا يقف عنده، و فيها من أجل هذا كله التنافس و التزاحم لا على المناصب و حدها بل عليها و على كل شي ء من حولها، و هذه الامور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ و الشباب إلى ما دفعوا إليه، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم، و هذه الأموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار، فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة، و الانتفاع بهذه الأموال المجموعة؟ و هذه بلاد أخرى لم تفتح، و كل شي ء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح؟ و ما لهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد و الغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا، و من الأجر و المثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة. ثم ما لهم جميعا لا يختلفون في سياسة هذا الملك الضخم و هذا الثراء العريض؟ و أي غرابة في أن يندفع الطامحون الطامعون من شباب قريش من خلال هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد و السلطان و الثراء؟ و أي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار و شباب الأحياء الأخرى من العرب؟ و في أن تمتلى ء قلوبهم موجدة و حفيظة و غيظا إذا رأوا الخليفة يحول بينهم و بين هذه المنافسة، و يؤثر قريشا بعظائم الامور، و يؤثر بني أمية بأعظم هذه العظائم من الامور خطرا و أجلها شأنا.

و الشي ء الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد و سعيدا على الكوفة بعد أن عزل سعدا، و ولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى، و جمع الشام كلها لمعاوية، و بسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في ادارتها قريش و غيرها من أحياء العرب، و ولى عبد الله بن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص، و كل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان، منهم أخوة لأمه، و منهم أخوة في الرضاعة، و منهم خاله، و منهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس.

كل هذه حقائق لا سبيل إلى انكارها، و ما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان بتولية من ولى و عزل من عزل، و قد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك و القياصرة و الولاة و الأمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم، و ليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعا من الناس، فهم قد أنكروا و عرفوا ما ينكر الناس و يعرفون في جميع العصور 26.

و هكذا نرى إن الموارد التي يستنتج منها كون ابن سبأ شخصية و همية خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الامور التالية:

1- إن المؤرخين الثقات لم يشيروا في مؤلفاتهم إلى قصة عبد الله بن سبأ، كابن سعد في طبقاته، و البلاذري في فتوحاته.

2- إن المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر و هو رجل معلوم الكذب، و مقطوع بأنه وضاع.

ص:34

3- إن الامور التي نسبت إلى عبد الله بن سبأ، تستلزم معجزات خارقة لا تتأتى لبشر، كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبد الله ابن سبأ، و سخرهم لمآربهو هم ينفذون أهدافه بدون اعتراضفي منتهى البلاهة و السخف.

4- عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان و عماله عنه، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة، و محمد بن أبي بكر، و غيرهم.

5- قصة إحراق علي إياه و تعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للاحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة، و لا يوجد لها في هذه الكتب أثر.

6- عدم وجود أثر لابن سبأ و جماعته في وقعةصفين و في حرب النهروان. و قد انتهى الدكتور بهذه الامور إلى القول: بأنه شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة و لا وجود له في الخارج 27.

و قد تبعه غير واحد من المستشرقين، و قد نقل آراءهم الدكتور أحمد محمودصبحي في نظرية الإمامة 28.

إلى أن وصل الدور إلى المحقق البارع السيد مرتضى العسكريدام ظلهفألف كتابه «عبد الله بن سبأ» و درس الموضوع دارسة عميقة، و هو الكتاب الذي يحلل التاريخ على أساس العلم، و قد أدى المؤلف كما ذكر الشيخ محمد جواد مغنية: «إلى الدين و العلم و بخاصة إلى مبدأ التشيع خدمة لا يعادلها أي عمل في هذا العصر، الذي كثرت فيه التهجمات و الافتراءات على الشيعة و التشيع، و أقفل الباب في وجوه السماسرة و الدساسين الذين يتشبثون بالطحلب لتمزيق وحدة المسلمين و اضعاف قوتهم 29.

و نحن و إن افترضنا ان لهذا الرجل وجود حقيقي على أرض الواقع إلا أن ذلك لا يعني الاقتناع بما نقل و روي عنه، لأنه لا يعدو كونه سوى سراب و وهم و خداع لا ينطلي على أحد. يقول الدكتور أحمد محمودصبحي: و ليس ما يمنع أن يستغل يهودي الأحداث التي جرت في عهد عثمان ليحدث فتنةو ليزيدها اشتغالا، و ليؤلب الناس على عثمان، بل أن ينادي بأفكار غريبة، و لكن السابق لأوانه أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين طائفة كبيرة من المسلمين 30.

و هكذا، فإن ما يبدو واضح للعيان بطلان ما ذهب إليه بعض المنحرفين و المنخدعين من اعتبار أن نشأة التشيع عن هذا الطريق، بل و يتضح الحق إنا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أن أئمتهم و علمائهم يتبرأون منه أشد التبرؤ.

1- قال الكشي، و هو من علماء القرن الرابع: عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة و ان عليا هو الله فاستتابه ثلاثة أيام فلم يرجع، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا 31.

2- قال الشيخ الطوسي (385- 460 ه) في رجاله في باب أصحاب أمير المؤمنين: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر و أظهر الغلو 32.

3- و قال العلامة الحلي (648- 726 ه): غال ملعون، حرقه أمير المؤمنين بالنار، كان يزعم أن عليا إله و أنه نبي، لعنه الله 33.

4- و قال ابن داود (647- 707 ه): عبد الله بن سبأ رجع إلى الكفر و أظهر الغلو 34.

ص:35

5- و ذكر الشيخ حسن بن زين الدين (ت 1011 ه) في التحرير الطاووسي: غال ملعون حرقه أمير المؤمنينعليه السلامبالنار 35.

و من أراد أن يقف على كلمات أئمة الشيعة في حق الرجل، فعليه أن يرجع إلى رجال الكشي، فقد روى في حقه روايات كلها ترجع إلى غلوه في حق علي، و أما ما نقله عنه سيف بن عمر فليس منه أثر في تلك الروايات، فأدنى ما يمكن التصديق به أن الرجل ظهر غاليا فقتل أو أحرق، و القول بذلك لا يضر بشي ء، و أما ما يذكره الطبري عن الطريق المتقدم فلا يليق أن يؤمن و يعتقد به من يملك أدنى إلمام بالتاريخ و السير.

و أخيرا فقد تبين و بدون شك بطلان و فساد هذه النظرية المختلفة حول نشأة التشيع، و التي لم تصمد أمام النقد و التمحيص، بل و تحمل بذور سقوطها في ذاتها، و في ذلك الدليل البين على أصالة مذهب التشيع و الذي أسلفنا القول بأصالة نشأته، و انه وليد العقيدة الإسلامية الأصيلة و امتدادها الحقيقي، و أما ما قام به ابن سبأعلى فرضصحة وقوعهفإنه يعبر عن موقف فردي و تصرف شخصي خارج عن إطار المذهب، و من تبعه فقد أدخل نفسه دار البوار، و أين هذا الافاق و زمرته من اولئك الذين لا يخالفون الله و رسوله و اولي الأمر و لا يتخلفون عن أوامرهم قيد أنملة، كالمقداد و سلمان و حجر بن عدي و رشيد الهجري و مالك الأشتر وصعصعة و أخيه و عمر بن الحمق، ممن يستدر بهم الغمام و تنزل بهم البركات.

إلى هنا تم تحليل النظرية الثانية في تكون الشيعة فلننتقل إلى مناقشة النظرية الثالثة

الافتراض الثالث: التشيع فارسي المبدأ أو الصبغة

و هناك فرضية ثلاثة اخترعها المستشرقون لتكون مذهب الشيعة في المجتمع الإسلامي، و هذه الفرضية كسابقتيها تعتمد اعتبار حداثة هذا المذهب قصدا أم جهلا، فقادها هذا التصور الخاطى ء إلى اعتماد نظرية تقول بفارسية المبدأ أو الصبغة لمذهب التشيع، و هذا الترديد بين الأمرين مرجعه رأيين لأصحاب هذه النظرية في المقام:

1- إن التشيع من مخترعات الفرس، اخترعوه لأغراض سياسية و لم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس، و لكنهم لما أسلموا اخترعوا تلك الفكرة لغاية خاصة.

2- إن التشيع عربي المبدأ، و إن لفيفا من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام، و لما أسلموا اعتنقوه وصبغوهصبغة فارسية لم تكن من قبل.

و هذان الرأيان هما اللذان عبرنا عنهما في العنوان بما عرفت، و إليك تفصيل أمرهما:

أما الأولى: فقد اخترعها المستشرق دوزي، و ملخصه: أن للمذهب الشيعي نزعة فارسية، لأن العرب كانت تدين بالحرية، و الفرس تدين بالملك و الوراثة، و لا يعرفون معنى الانتخاب، و لما انتقل النبي إلى دار البقاء و لم يترك ولدا، قالوا: علي أولى بالخلافة من بعده.

و حاصله: ان الإنسجام الفكري بين الفرس و الشيعةأعني كون الخلافة أمرا وراثيادليل على أن التشيع وليد الفرس.

ص:36

و هذا التصور مردود لجملة واسعة من البديهيات، منها:

أولا: ان التشيع حسب ما عرفت ظهر في عصر النبي الأكرم و هو الذي سمى أتباع علي بالشيعة، و كانوا متواجدين في عصر النبي و بعده، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرسسوى سلمانفي الإسلام.

بلى فان رواد التشيع في عصر الرسول و الوصي كانوا كلهم عربا و لم يكن بينهم أي فارسي سوى سلمان المحمدي، و كلهم كانوا يتبنون فكرة التشيع.

و كان لأبي الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه السلامأيام خلافته ثلاثة حروب، حرب الجمل، وصفين، و النهروان. و كان جيشه كله عربا ينتمون إلى اصول و قبائل عربية مشهورة بين عدنانية و قحطانية، فقد انضم إلى جيشه زرافات من قريش و الأوس و الخزرج، و من قبائل مذحج، و همدان، و طي، و كندة، و تميم، و مضر، بل كان زعماء جيشه من رؤوس هذه القبائل كعمار بن ياسر، و هاشم المرقال، و مالك الأشتر، وصعصعة بنصوحان و أخوه زيد، و قيس بن سعد بن عبادة، و عبد الله بن عباس، و محمد ابن أبي بكر، و حجر بن عدي، و عدي بن حاتم، و أضرابهم. و بهذا الجند و بأولئك الزعماء فتح أمير المؤمنين البصرة، و حارب القاسطين معاوية و جنوده يومصفين، و بهم قضى على المارقين.

فأين الفرس في ذلك الجيش و أولئك القادة كي نحتمل أنهم كانوا الحجر الأساس للتشيع، ثم ان الفرس لم يكونوا الوحيدين ممن اعتنقوا هذا المذهب دون غيرهم، بل اعتنقه الأتراك و الهنود و غيرهم من غير العرب.

شهادة المستشرقين على أن التشيع عربي المبدأ:

إن لفيفا من المستشرقين و غيرهمصرحوا بأن العرب اعتنقت التشيع قبل الفرس و إليك نصوصهم:

1- قال الدكتور أحمد أمين: الذي أرى كما يدلنا التاريخ أن التشيع لعلي بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام و لكن بمعنى ساذج، و لكن هذا التشيع أخذصبغة جديدة بدخول العناصر الأخرى في الإسلام، و حيث أن أكبر عنصر دخل في الإسلام الفرس فلهم أكبر الأثر في التشيع 36.

و سيوافيك الكلام ما في ذيل كلامه من أن التشيع أخذصبغة جديدة بعد فترة من حدوثه.- و قال المستشرق فلهوزن: كان جميع سكان العراق في عهد معاويةخصوصا أهل الكوفةشيعة، و لم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل و رؤساء العرب 37.

3- و قال المستشرق جولد تسيهر: إن من الخطأ القول بأن التشيع في نشأته و مراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح و الدعاية، و هذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة 38.

4- و أما المستشرق آدم متز فإنه قال: إن مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام، فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى مثل مكة و تهامة وصنعاء، و كان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضا مثل عمان، و هجر، وصعدة، أما إيران فكانت كلها سنة، ما عدا قم، و كان أهل اصفهان يغالون في معاوية حتى اعتقد بعض أهلها أنه نبي مرسل 39.

ص:37

و لعل المتأمل في كلمات هؤلاء يجد بوضوح أنهم يقطعون بفساد الرأي الذاهب إلى فارسية التشيع، و أنهم لم يجدوا له تبريرا معقولا، بالرغم من عدم تعاطفهم أصلا مع التشيع، فتأمل.- يقول الشيخ أبو زهرة: إن الفرس تشيعوا على أيدي العرب و ليس التشيع مخلوقا لهم، و يضيف: و أما فارس و خراسان و ما وراءهما من بلدان الإسلام، فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيعون فرارا بعقيدتهم من الأمويين أولا، ثم العباسيين ثانيا، و أن التشيع كان منتشرا في هذه البلاد انتشارا عظيما قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد و من قبله إليها 40.

6- و قال السيد الأمين: إن الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلا القليل، و جل علماء السنة و أجلائهم من الفرس، كالبخاري و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الحاكم النيسابوري و البيهقي، و هكذا غيرهم ممن أتوا في الطبقة التالية 41.

و ثانيا: ان التاريخ يدلنا على أن الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا بالصبغة السنية، و هذا هو البلاذري يحدثنا في كتابه عن ذلك بقوله:

كان ابرويز وجه إلى الديلم فأتى بأربعة آلاف، و كانوا خدمه و خاصته، ثم كانوا على تلك المنزلة بعده، و شهدوا القادسية مع رستم، و لما قتل و انهزم المجوس اعتزلوا، قالوا: ما نحن كهؤلاء و لا لنا ملجأ، و أثرنا عندهم غير جميل، و الرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم، فاعتزلوا. فقال سعد: ما لهؤلاء!؟ فأتاهم المغيرة بن شعبة فسألهم عن أمرهم، فأخبرو بخبرهم، و قالوا: ندخل في دينكم، فرجع إلى سعد فأخبره فآمنهم، فأسلموا و شهدوا فتح المدائن مع سعد، و شهدوا فتح جلولاء، ثم تحولوا فنزلوا الكوفةمع المسلمين 42.

لم يكن إسلامهميوم ذاكإلا كإسلام سائر الشعوب، فهل يمكن أن يقال: ان إسلامهم يوم ذاك كان إسلاما شيعيا؟

و ثالثا: إن الإسلام كان ينتشر بين الفرس بالمعنى الذي كان ينتشر به في سائر الشعوب، و لم يكن بلد من بلاد إيران معروفا بالتشيع إلى أن انتقل قسم من الأشعريين الشيعة إلى قم و كاشان، فبذروا بذرة التشيع، و كان ذلك في أواخر القرن الأول، مع أن الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني، أي ابتداء من عام 17 ه، و هذا يعني أنه قد انقضت أعوام كثيرة قبل أن يدركوا و يعلموا معنى و مفهوم التشيع، فأين هذا من ذاك. و هذا هو ياقوت الحموي يحدثنا في معجم البلدان بقوله:

قم، مدينة تذكر مع قاشان، و هي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم فيها، و أول من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري، و كان بدو تمصيرها في أيام الحجاج بن يوسف سنة 83 ه، و ذلك أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس، كان أمير سجستان من جهة الحجاج، ثم خرج عليه، و كان في عسكره سبعة عشر نفسا من علماء التابعين من العراقيين، فلما انهزم ابن الأشعث و رجع إلى كابل منهزما كان في جملة إخوة يقال لهم: عبد الله، و الأحوص، و عبد الرحمن، و إسحاق، و نعيم، و هم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري، وقعوا في ناحية قم، و كان هناك سبع قرى اسم احداها «كمندان» فنزل هؤلاء الأخوة على هذه القرى حتى افتتحوهاو استولوا عليها، و

ص:38

انتقلوا إليها و استوطنوها، و اجتمع عليهم بنو عمهم وصارت السبع قرى سبع محال بها، و سميت باسم احداها «كمندان»، فأسقطوا بعض حروفها فسميت بتعريبهم قما، و كان متقدم هؤلاء الأخوة عبد الله بن سعد، و كان له ولد قد ربي بالكوفة، فانتقل منها إلى قم، و كان إماميا، و هو الذي نقل التشيع إلى أهلها، فلا يوجد بها سني قط 43.

إذن فهذا كله راجع إلى تحليل النظرية من منظار التاريخ، و أما دليله فهو أوهن من بيت العنكبوت، فإذا كان الفرس لا يعرفون معنى الانتخاب و الحرية، فإن العرب أيضا مثلهم، فالعربي الذي كان يعيش بالبادية عيشة فردية كان يحب الحرية و يمارسها، و أما العربي الذي يعيش عيشة قبلية، فقد كان شيخ القبيلة يملك زمام أمورهم و شؤونهم و عند موته يقوم أبناؤه و أولاده مكانه واحدا بعد الآخر، فما معنى الحرية بعد هذا!!

تحليل النظرية الثانية:

إن هذه النظرية و إن كانت تعترف بأن التشيع عربي المولد و المنشأ، و لكنها تدعي أنه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الإسلام، و هذا هو الذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت و لفيف من المستشرقين ك «فلها وزن» فيما ذهبوا إليه في تفسير نشأة التشيع. يقول الثاني: إن آراء الشيعة كانت تلائم الأيرانيين، أما كون هذه الآراء قد انبثقت من الإيرانيين فليست تلك الملائمة دليلا عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك، إذ تقول ان التشيع الواضح الصريح كان قائما أولا في الأوساط العربية، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي، و جمع بين هؤلاء و بين تلك الأوساط.

و لكن لما ارتبطت الشيعة العربية بالعناصر المضطهدة تخلت عن تربية القومية العربية، و كانت حلقة الإرتباط هي الإسلام، و لكنه لم يكن ذلك الإسلام القديم، بل نوعا جديدا من الدين 44.

أقول: إن مراده أن التشيع كان في عصر الرسول و بعده بمعنى الحب و الولاء لعلي لكنه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر و هو كون الخلافة أمرا و راثيا في بيت عليعليه السلامو هو الذي يصرح به الدكتور أحمد أمين في قوله: إن الفكر الفارسي استولى على التشيع، و المقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمرا و راثيا كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان و غيرهم.

إلا أنه يلاحظ عليه: أن كون الحكم و الملك أمرا وراثيا لم يكن من خصائص الفرس، بل أن مبدأ وراثية الحكم كان سائدا في جميع المجتمعات، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة و غسان و حمير في العراق و الشام و اليمن كان هو الوراثة، و الحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربية كان وراثيا، و المناصب المعروفة لدى قريش من السقاية و الرفادة و عمارة المسجد الحرام و السدانة كانت أمورا وراثية، حتى أن النبي الأكرم لم يغيرها بل أنه أمضاها كما في قضية دفعه لمفاتيح البيت إلى بني شيبة و إقرارهم على منصبهم هذا إلى الأبد. فالصاق مسألة الوراثة بالفرس دون غيرهم أمر عجيب لا يقره العقلاء، فعلى ذلك يجب أن نقول: ان التشيع اصطبغ بصبغة فارسية و غسانية و حميرية و أخيرا عربية، و إلا فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس مع كونها آنذاك فكرة عامة عالمية؟!

ص:39

إن النبوة و الوصاية من الأمور الوراثية في الشرائع السماوية، لا بمعنى أن الوراثة هي الملاك المعين بل بمعنى أنه سبحانه جعل نور النبوة و الإمامة في بيوتات خاصة، فكان يتوارث نبي نبيا، و وصي وصيا، يقول سبحانه:

و لقد أرسلنا نوحا و إبراهيم و جعلنا في ذريتهما النبوة و الكتاب 45.

و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين 46.

أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما 47.

فلما ذا لا يكون سبب تشيع الفرس مفاد هذه الآيات و الروايات التي تصرح بأن الوصاية بين الأنبياء كانت أمرا وراثيا؟ و إن هذه سنة الله في الأمم كما هو ظاهر قوله سبحانه: لا ينال عهدي الظالمين فسمى الإمامة عهد الله لا عهد الناس. ثم إن من زعم أن التشيع منصنع الفرس مبدأ وصبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس، و ذلك لأن التسنن كان هو السائد فيهم إلى أوائل القرن العاشر حتى غلب عليهم التشيع في عصر الصفويين، نعم كانت الري و قم و كاشان معقل التشيع و مع ذلك يقول أبو زهرة: إن أكثر أهل فارس إلى الأن من الشيعة و أن الشيعة الأولين كانوا من أهل فارس 48.

أما غلبة التشيع عليهم في الآونة الأخيرة فلا ينكره أحد، إنما الكلام كونهم كذلك في بداية دخولهم إلى الإسلام، فالذي يظهر كأن الرجل جاهل بتاريخ بلاد إيران و ليس له معرفة حقيقية بتفاصيل التركيبة المذهبية المختلفة التي كانت واضحة في أطراف المجتمع الإيراني و بينة فيه.

و إليك ما ذكره أحد الكتاب القدامى في كتاب «أحسن التقاسيم» لتقف على أن المذهب السائد في ذلك القرن، هل كان هو التشيع أم التسنن؟ يقول:

«اقليم خراسان للمعتزلة و الشيعة، و الغلبة لأصحاب أبي حنيفة إلا في كورة الشاش فأنهم شوافع و فيهم قوم على مذهب عبد الله السرخسي، و اقليم الرحاب مذاهبهم مستقيمة إلا أن أهل الحديث حنابلة و الغالب بد بيللعله يريد أردبيلمذهب أبي حنفية و بالجبال، أما بالري فمذاهبهم مختلفة، و الغلبة فيهم للحنفية، و بالري حنابلة كثيرة، و أهل قم شيعة، و الدينور غلبه مذهب سفيان الثوري، و اقليم خوزستان مذاهبهم مختلفة، أكثر أهل الأهواز و رامهرمز و الدورق حنابلة، و نصف أهل الأهوازشيعة، و فيه من أصحاب أبي حنيفة كثير، و بالأهواز مالكيون، اقليم فارس العمل فيه على أصحاب الحديث و أصحاب أبي حنيفة، اقليم كرمان المذاهب الغالبة للشافعي، اقليم السند مذاهبهم أكثرها أصحاب الحديث، و أهل الملتان شيعة يهيعلون في الأذانأي يقولون حي على خير العملو يثنون في الاقامةأي يقولون الله أكبر مرتين، و أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أيضا و هكذاو لا تخلوا القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة 49.

و أما ابن بطوطة في رحلته فيقول: «كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قدصحبه في حال كفره فقيه من الروافض الإمامية يسمى جمال الدين بن مطهريعني العلامة الحلي (648- 726 ه)- فلما أسلم السلطان المذكور و

ص:40

أسلمت باسلامه التترزاد في تعظيم هذا الفقيه فزين له مذهب الروافض و فضله على غيره ... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض، و كتب بذلك إلى العراقين و فارس و آذر بايجان و اصفهان و كرمان و خراسان، و بعث الرسل إلى البلاد، فكان أول بلاد وصل إليها الأمر بغداد و شيراز و اصفهان، فأما أهل بغداد فخرج منهم أهل باب الأزج يقولون لا سمعا و لا طاعة، و جاءوا للجامع و هددوا الخطيب بالقتل إن غير الخطبة، و هكذا فعل أهل شيراز و أهل اصفهان 50.

و قال القاضي عياض في مقدمة «ترتيب المدارك» و هو يحكي انتشار مذهب مالك: و أما خراسان و ما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أولا بيحيى بن يحيى التميمي، و عبد الله بن المبارك، و قتيبة بن سعيد، فكان له هناك أئمة على مر الأزمان، و تفشى بقزوين و ما والاها من بلاد الجبل. و كان أخر من درس منه بنيسابور أبو إسحق بن القطان، و غلب على تلك البلاد مذهبا أبي حنيفة و الشافعي 51.

قال «بروكلمان»: إن شاه إسماعيل الصفوي بعد انتصاره على «الوند» توجه نحو تبريز فأعلمه علماء الشيعة التبريزيون أن ثلثي سكان المدينة الذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف، من السنة 52.

إذن فالنصوص المتقدمة تدل دلالة واضحة على أن مذهب التسنن كان هو المذهب السائد إلى القرن العاشر بين الفرس، فكيف يمكن أن يقال: إن بلاد فارس كانت هي الموطن الأصلي للتشيع!؟

و مما يؤكد ذلك أيضا ما رواه ابن الأثير في تأريخه من أن أهل طوس كانوا سنة إلى عصر محمود بن سبكتكين، قال: إن محمود بن سبكتكين جدد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى الرضا و أحسن عمارته، و كان أبوه سبكتكين أخر به، و كان أهل طوس يؤذون من يزوره فمنعهم ابنه عن ذلك، و كان سبب فعله ذلك أنه رأى في المنام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و هو يقول: إلى متى هذا؟ فعلم أنه يريد أمر المشهد، فأمر بعمارته 53.

و يؤيد ذلك ما رواه البيهقي: ان المأمون العباسي هم بأن يكتب كتابا في الطعن على معاوية، فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين! العامة لاتتحمل هذا و لا سيما أهل خراسان، و لا تأمن أن يكون لهم نفرة 54.

إلا أن المتوكل عمد و بصلافة و تهتك إلى هدم قبر الحسينعليه السلامو في ذلك قال الشاعر المعروف بالبسامي:

تالله إن كانت أمية قد أتت قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا لعمرك قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما 55

فقد بان مما ذكر أمران:

ص:41

1- ان التشيع ليس فارسي المبدأ، و إنما هو حجازي المولد و المنشأ، اعتنقه العرب فترة طويلة لم يدخل فيها أحد من الفرسسوى سلمان المحمديو ان الإسلام دخل بين الفرس مثل دخوله بين سائر الشعوب، و أنهم اعتنقوا الإسلام بمذاهبه المختلفة مثل اعتناق سائر الأمم له، و بقوا على ذلك طويلا إلى أن اشتد عود التشيع و كثر معتنقيه في عهد بعض ملوك المغول أو عهد الصفوية 905 ه.

2- أن كون الإمامة منحصرة في علي و أولاده ليسصبغة عارضة على التشيع، بل هو جوهر التشيع و حقيقته، و لو لاه فقد التشيع روحه و جوهره، فجعل الولاء لآل محمد أو تفضيل علي على سائر الخلفاء أصله و جوهره، و اعتبار هذا الأمركما يعتقده البعضأمرا عرضيا دخيلا على مذهب التشيع، تصور لا دليل له إلا التخرص و الاختلاق. قال المفيدرحمه الله-: الشيعي من دان بوجوب الإمامة و وجودها في كل زمان و أوجب النص الجلي و العصمة و الكمال لكل إمام، ثم حصر الإمامة في ولد الحسين بن عليعليهما السلامو ساقها إلى الرضا علي بن موسيعليهما السلام-.

الافتراض الرابع: الشيعة و يوم الجمل

و أما الافتراض الخاطى ء الرابع فيذهب إلى أن الشيعة تكونت يوم الجمل، حيث ذكر ابن النديم في فهرسه: ان عليا قصد طلحة و الزبير ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر اللهجل اسمهو تسمى من اتبعه على ذلك الشيعة، و كان يقول: شيعتي، و سماهمعليه السلام-: الأصفياء، الأولياء، شرطة الخميس، الأصحاب 56.

و على ذلك جرى المستشرق «فلهوزن» حيث يقول: بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى فئتين: حزب علي، و حزب معاوية، و الحزب يطلق عليه في العربية اسم «الشيعة» فكانت شيعة علي في مقابل شيعة معاوية، لكن لما تولى معاوية الملك في دولة الإسلام كلها ... أصبح استعمال لفظة «شيعة» مقصورا على أتباع علي 57. و الملفت للنظر أن ما ذكره ابن النديم من تقسيمه لشيعة عليعليه السلامإلى الأصفياء و الأولياء و ... هو عين التقسيم الذي أورده معاصره البرقي 58 لأصحاب أمير المؤمنينعليه السلامحيث قال:

أصحاب أمير المؤمنين:

من أصحاب رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلم-: الأصحاب، ثم الأصفياء، ثم الأولياء، ثم شرطة الخميس:

من الأصفياء من أصحاب أمير المؤمنينعليه السلام-: سلمان الفارسي، المقداد، أبو ذر، عمار، أبو ليلى، شبير، أبو سنان، أبو عمرة، أبو سعيد الخدري (عربي أنصاري)- أبو برزة، جابر بن عبد الله، البراء بن عازب (أنصاري)، عرفة الأزدي، و كان رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمدعا له فقال: اللهم بارك له فيصفقته.

و أصحاب أمير المؤمنين، الذين كانوا شرطة الخميس كانوا ستة آلاف رجل، و قال علي بن الحكم: (أصحاب) أمير المؤمنين الذين قال لهم: تشرطوا انما أشارطكم على الجنة، و لست أشارطكم على ذهب أو فضة، ان نبيناعليه السلامقال لأصحابه فيما مضى: تشرطوا فاني لست اشارطكم، إلا على الجنة 59.

ص:42

و مما تقدم يظهر أن من عده ابن النديم من أصحاب الإمام رجالاماتوا قبل أيام خلافته كسلمان و أبو ذر و المقداد، و كلهم كانوا شيعة للإمام، فكيف يكون التشيع وليد يوم الجمل!؟ و الظاهر وجود التحريف في عبارة ابن النديم.

و على كل تقدير فما تلونا عليك من النصوص الدالة على وجود التشيع في عصر الرسول و ظهوره بشكل جلي بعد وفاتهصلى الله عليه و آلهو هذا قبل أن تشب نار الحرب في البصرة، دليل على و هن هذا الرأيعلى تسليم دلالة كلام ابن النديمفان الإمام و شيعته بعد خروج الحق عن محوره، و استتاب الأمر لأبي بكر، رأوا أن مصالح الإسلام و المسلمين تكمن في السكوت و مما شاة القوم، بينما كان نداء التشيع يعلو بين آونة و اخرى من جانب المجاهرين بالحقيقة، كأبي ذر الغفاري و غيره، و لكن كانت القاعدة الغالبة هي المحافظة قدر الإمكان على بقاء الإسلام و عدم جر المسلمين إلى صدام كبير و نار متأججة لا تبقي و لا تذر، و العمل قدر الإمكان لدعم الواجهة السياسية للخلافة الإسلامية و رفدها بالجهد الملخص و النصح المتواصل.

إلا أن الأمر عند ما آل إلى الإمام علي وجدت شيعته متنفسا واسعا للتعبير عن وجودها و الافصاح عن حقيقتها، فظهرت بأوضح و أجلىصورها، فمن هنا وقع أصحاب هذه الفرضية و غيرها في هذه الاشتباهات الواضحة البطلان.

الافتراض الخامس: الشيعة و يومصفين

زعم بعض المستشرقين 60 أن الشيعة تكونت يوم إفترق جيش علي في مسألة التحكيم إلى فرقتين، فلما دخل علي الكوفة و فارقته الحرورية، و ثبت إليه الشيعة، فقالوا: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت و أعداء من عاديت.

و هذا الفهم الخاطى ء لهذه الواقعة، و امتطاء هذه العبارة المذكورة لتحديد نشأة التشيع يعتمد بالأساس على افتراض ان لتكون الشيعة تاريخا مفصولا عن تاريخ الإسلام، فأخذ يتمسك بهذه العبارة، مع أن تعبير الطبريأعني قوله: و ثبت إليه الشيعة 61- دليل على سبق وجودهم على ذلك. نعم كانت للشيعة بعد تولي الإمام الخلافة وجودا واضحا حيث ارتفع الضغط فالتف حوله مواليه من الصحابة و التابعين، إلا أن الأمر الثابت هو أن ليس جميع من كان في جيشه من شيعته بالمعنى المفروض و الواقعي للتشيع، بل أغلب من انخرط في ذلك الجيش كانوا تابعين له لأنه خليفة لهم و قد بايعوه على ذلك.

الافتراض السادس: الشيعة و البويهيون

تلقى آل بويه مقاليد الحكم و السلطة من عام 320- 447 ه، فكانت لهم السلطة في العراق و بعض بلاد إيران كفارس و كرمان و بلاد الجبل و همدان و إصفهان و الري، و قد اقصوا عن الحكم في الأخير بهجوم الغزاونة

ص:43

عليه عام 420 ه. و قد ذكر المؤرخونخصوصا ابن الأثير في الكامل و ابن الجوزي في المنتظمشيئا كثيرا من أحوالهم، و خدماتهم، و افساحهم المجال لجميع العلماء من دون أن يفرقوا بينهم بافتراق طوائفهم و قد ألف المستشرق «استانلي لين بول» كتابا في حياتهم ترجم باسم: طبقات سلاطين الإسلام.

يقول ابن الأثير في حوادث عام 372 هفي حديثه عن أحد الملوك البويهيين، و هو عضد الدولة: و كان عاقلا، فاضلا، حسن السياسة، كثير الإصابة، شديد الهيبة، بعيد الهمة، ثاقب الرأي، محبا للفضائل و أهلها، باذلا في مواضع العطاء ... إلى أن قال: و كان محبا للعلوم و أهلها، مقربا للعلماء، محسنا إليهم، و كان يجلس معهم يعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب، و منها الإيضاح في النحو، و الحجة في القراءات، و المكلى في الطب، و التاجي في التاريخ إلى غير ذلك 62. و هذا يدل أنهم كانوا محبين للعلم و مروجين له و لهم إياد مشكورة في نشر العلم و مساندة العلماء.

و بالرغم من أن في عصرهم كان يغلب على أكثر البلاد مذهب التسنن إلا أن البويهين لم يقفوا موقف المعادي لهم على الرغم مما وقفه غيرهم من الملوك الآخرين من غير الشيعة من معاداة التشيع و محاربته.

و لعل التأريخ قد سجل فيصفحاته أحداثا مؤلمة بعد سقوط البويهين و دخول طغرل بك مدينة السلام (بغداد) عام 447 ه، عند ما أحرقت مكتبة الشيخ الطوسي و كرسيه الذي كان يجلس عليه للتدريس 63.

نعم راج مذهب الشيعة في عصرهم و استنشق رجالاته نسيم الحرية بعد أن تحملوا الظلم و الاضطهاد طيلة حكم العباسيين خصوصا في عهد المتوكل و من بعده، غير أن تكون مذهب الشيعة في أيامهم شي ء و كونهم مروجين و معاضدين له شي ء آخر، و من السذاجة بمكان الخلط بين الحالين و عدم التمييز بينهما.

الافتراض السابع: الشيعة و الصفويون

و الكلام عن هذه الاسرة هو عين الكلام عن البويهيين.

إن الصفويين هم اسرة الشيخصفي الدين العارف المشهور في أردبيل المتوفى عام (735 ه). فعند ما انقرضت دولة المغول، انقسمت البلاد التي كانت تحت نفوذهم إلى دويلاتصغيرة شيعية و غير شيعية، إلى أن قام أحد أحفادصفي الدين، الشاه إسماعيل عام (905 ه) باستلام مقاليد الحكم و السيطرة على بلاد فارس و إقامة حكومة خاصة به استطاع أن يمد نفوذها و يبسط سلطتها، و استمر في الحكم إلى عام (930 ه)، ثم ورثه أولاده إلى أن أقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على إيران عام (1135 ه) فكان الصفويون خير الملوك لقلة شرورهم و كثرة بركاتهم، و قد راج العلم و الأدب و الفنون المعمارية أثناء حكمهم، و لهم آثار خالدة إلى الآن في ايران و العراق، و من وقف على أحوالهم و وقف على تاريخ الشيعة يقف على أن عصرهم كان عصر ازدهار التشيع لا تكونه، و هو أمر لا مراء فيه، و لايقتنع به إلا السذج و الجهلاء.

ص:44

نعم إن هذه الآراء الساقطة في تحليل تاريخ الشيعة و مبدأ تكونهم، كلها كانت امورا افتراضية بنوها على أساس خاطى ء و هو أن الشيعة ظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي بعد عهد النبي، سامح الله الذين لم يتعمدوا التزييف و غفر الله لنا و لهم.

زلة لا تستقال:

إن الدكتور عبد الله فياض زعم أن التشيع بمعنى الموالاة لعليعليه السلامنضج في مراحل ثلاث:

1- التشيع الروحي، يقول: إن التشيع لعلي بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبي و تمت قبل توليه الخلافة. ثم ساق الأدلة على ذلك و جاء بأحاديث يوم الدار أو بدء الدعوة و أحاديث الغدير و ما قال النبي في حق علي من التسليم على علي بإمرة المؤمنين.

2- التشيع السياسي، و يريد من التشيع السياسي: كون علي أحق بالإمامة لا لأجل النص بل لأجل مناقبه و فضائله، و يقول: إن التشيع السياسي ظهرت بوادرهدون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية (يريد النص)- في سقيفة بني ساعدة، حين أسند حق علي بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير و العباس و غيرهما، و بلغ التشيع السياسي أقصى مداه حين بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان.

3- ظهوره بصورة فرقة، فإنما كان ذلك بعد فاجعة كربلاء سنة (61 ه) و لم يظهر التشيع قبل ذلك بصورة فرقة دينية تعرف بالشيعة. ثم استشهد بكلام المقدسي حيث قال: إن أصل مذاهب المسلمين كلها منشعبة من أربع: الشيعة، و الخوارج، و المرجئة، و المعتزلة. و أصل افتراقهم قتل عثمان، ثم تشعبوا 64.

و أيد نظريته بما ذكره المستشرق «فلهوزن» من قوله: تمكن الشيعة أولا في العراق و لم يكونوا في الأصل فرقة دينية، بل تعبيرا عن الرأي السياسي في هذا الاقليم كله، فكان جميع سكان العراق خصوصا أهل الكوفة شيعة علي على تفاوت بينهم 65.

و هذا التصور المذكور يمكن تثبيت جملة من الملاحظات عليه:

أولا: ان التفكيك بين المرحلتين الأوليتين و ان الاولى منهما كانت في عصر النبي و ظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبي، قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال: كان رواد التشيع الروحي يلتزمون بآراء علي الفقهية إلى جانب الالتزام باسناده سياسيا 66.

و ثانيا: إن ما ذكره من النصوص في مجال التشيع الروحي كما يدل على أن عليا هو القائد الروحي، فإنه يدل بوضوح على أنه القائد السياسي، و قد نقل الكاتب جل النصوص الواردة في هذا المبنى، فمعنى التفكيك بينهما هو أن الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها و تركوا بعضها، و لوصح اسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصح إسناده إلى سلمان، و أبي ذر، و عمار، الذين لا يتركون الحق و إن بلغ الأمر ما بلغ.

و بما أن النبي كان هوالقائد المحنك للمسلمين، فإنه لم تكن هناك حاجة لظهور التشيع السياسي في حياته، بل كان المجال واسعا لظهور التشيع الروحي و رجوع الناس إلى علي في القضايا و الأحكام الفقهية، و هذا لا يعني عدم كونه قائدا سياسيا و ان وصايا النبي لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب.

ص:45

و ثالثا: إن التشيع السياسي ظهر في أيام السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية، فإن الطبري و غيره و إن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير و العباس إلى علي، و لكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية.

فقد روى الصدوق عن زيد بن وهب انه قال: كان الذين أنكروا على أبي بكر تقدمه على علي بن أبي طالب اثنا عشر رجلا من المهاجرين و الأنصار، فمن المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص، و المقداد بن الأسود، و ابي بن كعب، و عمار بن ياسر، و أبو ذر الغفاري، و سلمان الفارسي، و عبد الله بن مسعود، و بريدة الأسلمي.

و من الأنصار: زيد بن ثابت، و ذو الشهادتين، و ابن حنيف، و أبو أيوب الأنصاري، و أبو الهيثم بن التيهان.

و بعد ماصعد أبو بكر على المنبر قال خالد بن سعيد: يا أبا بكر اتق الله ... ثم استدل على تقدم علي بما ذكره النبي فقال: معاشر المهاجرين و الأنصار، أوصيكم بوصية فاحفظوها، و أني مؤد إليكم أمرا فاقبلوه: ألا أن عليا أميركم من بعدي و خليفتي فيكمإلى آخر ما ذكرهثم قام أبو ذر و قال: يا معاشر المهاجرين و الأنصار ... طرحتم قول نبيكم و تناسيتم ما أوعز إليكم. ثم ذكر مناشدة كل منهم مستندين في احتجاجهم على أبي بكر بالأحاديث التي سمعوها من النبي الأكرم 67. و هذا يعرب عن أن التشيع السياسيالذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحالبعد الرحلة كان مستفادا من نصوص النبيصلى الله عليه و آله و سلم-.

رابعا: ما ذا يريد من الفرقة و ان الشيعة تكونت بصورة فرقة بعد مقتل الإمام الحسين؟ فهل يريد الفرقة الكلامية التي تبتني على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الاخرى؟ فهذا الأمر لم يعلم له أي وجود يذكر إلى أواسط العقد الثالث من الهجرة، و لم يكن يومذاك أية مسألة كلامية مطروحة حتى تأخذ شيعة علي بجانب و الآخرون بجانب آخر، بل كان المسلمون متسالمين في العقائد و الأحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول، و لم يكن آنذاك أي اختلاف عقائدي إلا في مسألة القيادة، فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين.

و ان أراد من الفرقة الجماعة المتبنية ولاية علي روحيا و سياسيا و انه أحق بالقيادة على جميع الموازين، فإنها كانت موجودة في يوم السقيفة و بعدها.

نعم إن توسع الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية و ما رافق ذلك من احتكاك مباشر بكثير من الفرق و الجماعاتصاحبة الأفكار العقائدية المختلفة، و تأثر بعض الفرق الإسلامية و مفكريها بجملة من تلك الآراءو التصورات، ساعد بشكل كبير في إيجاد مدارس كلامية متعددة في كيان المجتمع الإسلامي، و لما كان الشيعة أشد تمسكا بحديث الثقلين المشهور، فقد رجعوا إلى أئمة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعبة الأفنان، ضاربة جذورها في الكتاب و السنة و العقل.

و هكذا فلا مرية من القول بخطأ كل الافتراضات السابقة و عدم حجيتها في محاولة تثبيت كون التشيع ظاهرة طارئة على الإسلام، و إنما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعلي بعد رحلة النبي بتنصيصه، و تبناه منذ بعثة النبي الأكرم جملة من الصحابة و التابعين و امتد ذلك حسب الأجيال و القرون، بل و ظهر بفضل التمسك بالثقلين علماء مجاهدون، و شعراء مجاهرون، و عباقرة في الحديث، و الفقه، و التفسير، و الفلسفة، و الكلام، و اللغة، و

ص:46

الأدب، و شاركوا جميع المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية بجوانبها المختلفة، يتفقون مع جميع الفرق في أكثر الاصول و الفروع و إن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر. و سيوافيك تفصيل عقائدهم في مبحث خاص باذن الله.

كما يظهر لك أيضا و هن ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الدوري من أن التشيع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبي و باعتباره حزبا سياسيا قد حدث بعد قتل علي 68.

پى نوشتها:

1- تاريخ الطبري 2/ 443-. 444

2- تاريخ اليعقوبي 2/ 103 طبع النجف.

3- انظر ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 6/ 43-. 44

4- القصص/. 85

5- الطبري 3/. 378

6- أسد الغابة 3/ 309 قال: و شهد بيعة الرضوان و بايع فيها و كان أمير الجيش القادمين من مصر لحصر عثمان بن عفانرضي الله عنهلما قتلوه روى عنه جماعة من التابعين بمصر ...

7- كان أحد من توثب على عثمان حتى قتل ثم انضم إلى علي: أسد الغابة 4/ 324، و الاستيعاب 3/ 328 و الجرح و التعديل 7/. 301

8- أسد الغابة 3/ 320 قال: تقدم نسبه في أخيه زيد و كانصعصعة مسلما على عهد رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمو لم يره وصغر عن ذلك و كان سيدا من سادات قومه عبد القيس و كان فصبحا بليغا لسنا دينا فاضلا يعد في أصحاب عليرضي الله عنهو شهد معه حروبه.

9- ملك العرب، أحد الأشراف و الأبطال: الطبقات الكبرى 6/ 213، الإصابة 3/ 459 سير أعلام النبلاء 4/. 34

10- لا حظ مقدمة تاريخ الكامل يقول فيه: فابتدأت بالتاريخ الكبير الذيصنفه الإمام أبو جعفر الطبري إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه و المرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه جميع تراجمه، لم اخل بترجمة واحدة منها. لا حظ 1/ 3 طبع دارصادر.

11- البداية و النهاية 7/ 246 طبع دار الفكر بيروت.

12- تاريخ ابن خلدون يقول: «و بعث (عثمان) إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد ابن مسلمة إلى الكوفة، و أسامة بن زيد إلى البصرة، و عبد الله بن عمر إلى الشام و عمار ابن ياسر إلى مصر و غيرهم إلى سوى هذه، فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئا و لا أنكره أعيان المسلمين و لا عوامهم إلا عمارا فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه، منهم عبد الله بن سبأ و يعرف بابن السوداء كان يهوديا و هاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه و أخرج من البصرة ... تاريخ ابن خلدون أو كتاب العبر 2/ 139، و قال 166: هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به و لسلامته من الأهواء.

ص:47

13- السنة و الشيعة 4- 6- 54- 49-. 103

14- دائرة المعارف 6/. 637

15- تاريخ الإسلام السياسي. 347

16- عبد الله بن سبأ 1/ 46-. 50

17- الاستيعاب 2/. 422

18- المائدة/. 33

19- الغدير 9/ 219-. 220

20- الإمام عليصوت العدالة الإنسانية 4/ 894- 896- و للكلامصلة من أراد فليرجع إليه.

21- قال يحيى القطان: استبان لي كذبه في مجلس واحد، و قال النسائي: متروك، و قال غيره: ليس بشي ء، و قال أحمد: ترك الناس حديثه. لا حظ ميزان الاعتدال 2/. 117

22- تاريخ الخطيب 993، ميزان الاعتدال 2/ 117، لسان الميزان 3/. 12

23- ميزان الاعتدال 2/ 275، لسان الميزان 3/. 145

24- ميزان الاعتدال 1/ 438، تهذيب التهذيب 4/ 295، اللئالي المصنوعة 1/ 157- 199-. 429

25- أصل الشيعة و أصولها. 73

26- الفتنة الكبرى 134 لا حظ الغدير أيضا 9/ 220-. 221

27- طه حسين: الفتنة الكبرى: فصل ابن سبأ، و قد لخص ما ذكرنا من الامور من ذلك الفصل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في كتابه «هوية التشيع». 146

28- نظرية الإمامة لأحمد محمودصبحي. 37

29- عبد الله بن سبأ 1/ 11، و الكتاب يقع في جزءين وصل فيهما إلى النتيجة التي تقدمت، و قد استفدنا من هذا الكتاب في هذا الفصل.

30- نظرية الإمامة. 37

31- رجال الكشي 98 برقم. 48

32- رجال الطوسي: باب أصحاب علي برقم 76/. 51

33- الخلاصة للعلامة: القسم الثاني الباب الثاني: عبد الله. 236

34- رجال ابن داوود: القسم الثاني 254 برقم. 278

35- التحرير الطاووسي 173 برقم. 234

36- فجر الإسلام. 176

37- الخوارج و الشيعة 241-. 148

38- العقيدة و الشريعة. 204

ص:48

39- آدم متز: الحضارة الإسلامية. 102

40- الإمام جعفر الصادق. 545

41- أعيان الشيعة.

42- البلاذري: فتوح البلدان. 279

43- معجم البلدان 4/ 396، مادة قم، و يقول في مراصد الاطلاع بأن أهل قم، و كاشان كلهم شيعة إمامية و لا حظ رجال النجاشي ترجمة الرواة الأشعريين فيه.

44- الخوارج و الشيعة. 169

45- الحديد/. 26

46- البقرة/. 124

47- النساء/. 54

48- تاريخ المذاهب الإسلامية.

49- شمس الدين محمد بن أحمد المقدسي، أحسن التقاسيم/ 119 (ألفه عام 375).

50- رحلة ابن بطوطة 219-. 220

51- ترتيب المدارك 1/. 53

52- تاريخ المذاهب الإسلامية 1/. 140

53- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/. 139

54- البيهقي: المحاسن و المساوى ء 1/. 108

55- تاريخ أبي الفداء 2/. 68

56- ابن النديم: الفهرس 263 طبع القاهرة.

57- الخوارج و الشيعة 146 (ترجمة عبد الرحمن بدوي، طبع القاهرة).

58- توفي البرقي عام (274) أو (280) و ألف ابن النديم كتابه عام (277) و توفي عام (378).

59- البرقي: الرجال. 3

60- تاريخ الإمامية: للدكتور عبد الله فياض. 37

61- تاريخ الطبري 4/ 46 طبع مصر.

62- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/ 19- 21 طبع دارصادر.

63- المنتظم: ابن الجوزي 16/ 108 الطبعة الحديثة بيروت.

64- أحسن التقاسيم 38 طبع ليدن. 1906

65- تاريخ الإمامية 38-. 47

66- تاريخ الإمامية. 45

ص:49

67- الخصال 461 طبع مكتبة الصدوق لا حظ المناشدة إلى آخرها ترى فيها دلائل كافية لاثبات الخلافة للإمام أمير المؤمنينعليه السلام-.

68- لاحظ الصلة بين التصوف و التشيع. 18

الشيعة في العصرين: الأموي و العباسي

لا نأت بجديد إذا ذهبنا إلى القول بأن الهجمة الشرسة التي كانت تستهدف استئصال الشيعة و القضاء عليهم قد أخذت أبعادا خطيرة و دامية إبان الحكمين الأموي و العباسي، فما أن لبى الإمام دعوة ربه في ليلة الحادي و العشرين من رمضان على يد أشقى الأولين و الآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، و هو يصلي في محراب عبادته، حتى شرع أعداء الإمام و أنداد التشيع إلى التعرض الصريح بالقتل و التشريد لأنصار هذا المذهب و المنتسبين إليه، و إذا كان استشهاد الإمام علي يشكل في حد ذاته ضربة قاصمة في هيكلية البناء الإسلامي، إلا أن هذا لم يمنع البعض ممن وقفوا موقفا باطلا و منحرفا من الإمام علي في حياته من التعبير عن سرورهم من هذا الأمر الجلل كما نقل ذلك ابن الأثير عن عائشة زوجة رسول اللهصلى الله عليه و آلهحيث قالت عند ما وصلها النبأ:

فألقت عصاها و استقر بها النوى كما قر عينا بالاياب المسافر

ثم قالت: من قتله، فقيل رجل من مراد، فقالت:

فان يك نائيا فلقد نعاه نعي ليس في فيه التراب

فقالت زينب بنت أبي سلمة: أتقولين هذا لعلي؟ فقالت: إني أنسى، فإذا نسيت فذكروني ...!! 1.

و أما معاوية فلا مناص من القول بأنه أكثر المستبشرين بهذا الأمر، حيث إنه قال لما بلغه: إن الأسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه. ثم أنشد:

قل للأرانب ترعى أينما سرحت و للظباء بلا خوف و لا وجل 2

و في الجانب الآخر نرى أن الإمام الحسن الابن الأكبر للإمام علي و ورثيه ينعى أباه بقوله في مسجد الكوفة: «ألا إنه قد مضى في هذه الليلة، رجل لم يدركه الأولون، و لن ير مثله الآخرون. من كان يقاتل و جبرئيل عن يمينه و ميكائيل عن شماله. و الله لقد توفي في هذه الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، و رفع فيها عيسى

ص:50

بن مريم، و انزل القرآن. ألا و إنه ما خلفصفراء و لا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله» 3.

ثم بويع الحسن في نهاية خطبته، و كان أول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري، ثم تتابع الناس على بيعته، و كان أمير المؤمنين قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت. فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه السلام-. فبايع هؤلاء ولده الحسن، فلما بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه، تجهز هو و الجيش الذين كانوا قد بايعوا عليا. و سار عن الكوفة إلى لقاء معاوية 4.

بيد إن الأمور لم تستقم للإمام الحسن لجملة من الأسباب المعروفة، أهمها تخاذل أهل العراق أولا، و كون الشيوخ الذين بايعوا عليا و التفوا حوله كانوا من عبدة الغنائم و المناصب، و لم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلا ما كان لهم عند أبيه من قبل ثانيا. و ان عددا غير قليل ممن بايع الحسن كانوا من المنافقين، يراسلون معاوية بالسمع و الطاعة ثالثا. كما أن لفيفا من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعا. إلى غير ذلك من الأسباب التي دفعت الإمام إلى قبول الصلح مع معاوية تحت شروط خاصة تضمن لشيعة علي الأمن و الأمان، إلا أن معاوية و بعد أن وقع علىصلحه مع الإمام الحسن لم يتردد من الإعلان عن سريرته بكلصراحة و وضوح على منبر الكوفة: إني و الله ما قاتلتكم لتصلوا و لا لتصوموا، و لا لتحجوا و لا لتزكوا،- و انكم لتفعلون ذلكو لكن قاتلتكم لأتأمر عليكم، و قد أعطاني الله ذلك و أنتم له كارهون، ألا و أني قد كنت منيت الحسن أشياء، و جميعها تحت قدمي لا أفي بشي ء منها له 5.

و كان ذلك التصريح الخطير، و المنافي لا بسط مبادى ء الشريعة الإسلامية، يمثل الإعلان الرسمي لبدء الحملة الشرسة و المعلنة لاستئصال شيعة علي و أنصاره تحت كل حجر و مدر. و توالت المجازر تترى بعدمعاوية إلى آخر عهد الدولة الأموية، فلم يكن للشيعة في تلك الأيام نصيب سوى القتل و النفي و الحرمان. و هذا هو الذي نستعرضه في هذا الفصل على وجه الإجمال، حتى يقف القارى ء على أن بقاء التشيع في هذه العصور المظلمة كان معجزة من معاجز الله سبحانه، كما يتوضح له مدى الدور الخطير الذي لعبه الشيعة في الصمود و الكفاح و الرد على الظلمة و أعوانهم منذ عصر الإمام إلى يومنا هذا. و إليك بعض الوثائق من جرائم معاوية.

1- رسالة الإمام الحسين إلى معاوية:

«أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور لم تكن تظنني بها رغبة بي عنها، و أن الحسنات لا يهدي لها و لا يسدد إليها إلا الله تعالى، و أما ما تذكرت أنه رمي إليك عني، فإنما رقاه الملاقون المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الجمع، و كذب الغاوون المارقون، ما أريد لك حربا و لا خلافا و أني لأخشى الله في ترك ذلك منك و من حزبك القاسطين حزب الظلمة و أعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر و أصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع، و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلما و عدوانا من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة و العهود المؤكدة جرأة على الله و استخافا بعهده. أو لست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقت و أبلت وجهه العبادة؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من سقف الجبل.

ص:51

أو لست المدعي زيادا في الإسلام، فزعمت أنه ابن أبي سفيان، و قدقضى رسول اللهصلى الله عليه و آلهان الولد للفراش و للعاهر الحجر، ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم و يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و يصلبهم على جذوع النخل؟

سبحان الله يا معاوية! لكأنك لست من هذه الأمة، و ليسوا منك، أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك في زياد انه على دين علي كرم الله وجهه، و دين علي هو دين ابن عمهصلى الله عليه و آله و سلمالذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، و لو لا ذلك كان أفضل شرفك و شرف آبائك تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء و الصيف، فوضعها الله عنكم بنا منة عليكم، و قلت فيما قلت: لا تردن هذه الأمة في فتنة و إني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها، و قلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك و لامة محمد. و اني و الله ما أعرف فضلا من جهادك، فإن أفعل فإنه قربة إلى ربي، و إن لم أفعله فأستغفر الله لديني. و أسأله التوفيق لما يحب و يرضى، و قلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية ما بدا لك، فلعمري لقديما يكاد الصالحون و إني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك و لا تمحق إلا عملك فكدني ما بدا لك، و اتق الله يا معاوية، و اعلم ان لله كتابا لا يغادرصغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها، و اعلم أن الله ليس بناس لك قتلك بالظنة، و أخذك بالتهمة، و إمارتكصبيا يشرب الشرب و يلعب بالكلاب، ما أراك إلا قد أو بقت نفسك، و أهلكت دينك، و أضعت الرعية و السلام» 6.

و لعل المتأمل في جوانب هذه الرسالة و المتدبر لمفرداتها ليدرك و بوضوح مدى الدور المنحرف الذي وقفه الأمويون و على رأسهم معاوية في محاربة أنصار مذهب التشيع و رواده، كما تتوضح له الصورة عن حجم المحنة التي مر بها الشيعة أبان تلك الحقبة الزمنية.

و لكي تتوضح الصورة في ذهن القاري ء الكريم ندعوه إلى قراءة رسالة الإمام محمد بن علي الباقرعليه السلاملأحد أصحابه، حيث قال:

«إن رسول اللهصلى الله عليه و آله و سلمقبض و قد أخبر إنا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه و احتجت على الأنصار بحقنا و حجتنا. ثم تداولتها قريش، واحد بعد واحد، حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا و نصبت الحرب لنا، و لم يزلصاحب الأمر فيصعود كئود حتى قتل، فبويع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم و وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، و نهبت عسكره، و عولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية و حقن دمه و دماء أهل بيته، و هم قليل حق قليل. ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفا، ثم غدروا به، و خرجوا عليه، و بيعته في أعناقهم و قتلوه.

ثم لم نزلأهل البيتنستذل و نستضام، و نقصى و نمتهن، و نحرم و نقتل، و نخاف و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا، و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، و رووا عنا ما لم نقله و لم نفعله، ليبغضونا إلى الناس، و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسنعليه السلام-، فقلت شيعتنا بكل بلدة، و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة، و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أونهب ماله، أو هدمت داره، ثم لم يزل

ص:52

البلاء يشتد و يزداد إلى زمان عبيد الله ابن زياد قاتل الحسينعليه السلامثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، و أخذهم بكل ظنة و تهمة، حتى ان الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحب إليه من أن يقال: شيعة علي، و حتىصار الرجل الذي يذكر بالخيرو لعله يكون ورعاصدوقايحدث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة و لم يخلق الله تعالى شيئا منها، و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حق الكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع» 7.

بل و إليك ما أورده ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة:

كان سعد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن أبي طالب، فلما قدم زياد الكوفة واليا عليها أخافه فطلبه زياد، فأتى الحسن بن علي، فوثب زياد على أخيه و ولده و امرأته، فحبسهم و أخذ ماله و هدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: «من الحسن بن علي إلى زياد، أما بعد: فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم، و عليه ما عليهم، فهدمت داره و أخذت ماله و عياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فابن له داره، و أردد عليه عياله و ماله، فاني قد أجرته فشفعني فيه».

فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان!! إلى الحسن بن فاطمة، أما بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي و أنت طالب حاجة، و أنا سلطان و أنت سوقة، كتبت إلي في فاسق لا يؤبه به، و شر من ذلك توليه أباك و إياك، و قد علمت أنك أدنيته إقامة منك على سوء الرأي و رضى منك بذلك، و أيم الله لا تسبقني به و لو كان بين جلدك و لحمك، و إن نلت بعضك فغير رفيق بك و لا مرع عليك، فإن أحب لحم إلي أن آكل من اللحم الذي أنت منه، فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، و إن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق، و السلام 8.

«كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرضهم على لعن علي أو البراءة منه، فملأ منهم المسجد و الرحبة، فمن أبي ذلك عرضه على السيف» 9.

و عن المنتظم لابن الجوزي: إن زيادا لما حصبه أهل الكوفة و هو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، و هم أن يخرب دورهم و يحرق نخلهم، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد و الرحبة يعرضهم على البراءة من علي، و علم أنهم سيمتنعون، فيحتج بذلك على استئصالهم و إخراب بلدهم 10.

بيان معاوية إلى عماله:

روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة!!: «أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته» فقامت الخطباء، في كل كورة، و على كل منبر، يلعنون عليا و يبرأون منه، و يقعون فيه و في أهل بيته، و كان أشد الناس بلاءا حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة عليعليه السلامفاستعمل عليها زياد بن سمية، و ضم إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة و هو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام عليعليه السلام-، فقتلهم تحت كل حجر و مدر، و أخافهم، و قطع

ص:53

الأيدي و الأرجل، و سمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، و طردهم و شردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.

و كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة. و كتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته، و الذين يروون فضائله و مناقبه فادنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم، و اكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، و اسمه و اسم أبيه و عشيرته.

ففعلوا ذلك، حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلاة و الكساء و الحباء و القطائع، و يفيضه في العرب منهم و الموالي، فكثر ذلك في كل مصر، و تنافسوا في المنازل و الدنيا، فليس يجي ء أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه و قربه و شفعه. فلبثوا بذلك حينا.

ثم كتب إلى عماله: أن الحديث في عثمان قد كثر و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة و الخلفاء الأولين، و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي و أقرلعيني، و أدحض لحجة أبي تراب و شيعته، و أشد إليهم من مناقب عثمان و فضله.

فقرأت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، و جد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، و ألقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلمواصبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن، و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا و أهل بيته، فامحوه من الديوان، و أسقطوا عطاءه و رزقه. و شفع ذلك بنسخة اخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به، واهدموا داره.

فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق، و لا سيما بالكوفة، حتى ان الرجل من شيعة عليعليه السلامليأتيه من يثق به، فيدخل بيته فيلقي إليه سره، و يخاف من خادمه و مملوكه، و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه. فظهر حديث كثير موضوع، و بهتان منتشر، و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة، و كان أعظم الناس في ذلك بلية القراء و المراؤون و المستضعفون، الذين يظهرون الخشوع و النسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند و لاتهم، و يقربوا مجالسهم، و يصيبوا الأموال و الضياع و المنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار و الأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب و البهتان، فقبلوها و رووها، و هم يظنون أنها حق، و لو علموا أنهاباطلة لما رووها، و لا تدينوا بها.

و ذكر ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن عليعليه السلامفازداد البلاء و الفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا و هو خائف على دمه، أو طريد في الأرض.

ص:54

ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسينعليه السلامو ولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، و ولى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي و موالاة أعدائه، و موالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم، و أكثروا من الغض من عليعليه السلامو عيبه، و الطعن فيه، و الشنان له، حتى ان انسانا وقف للحجاجو يقال انه جد الأصمعي عبد الملك بن قريبفصاح به: أيها الأمير ان أهلي عقوني فسموني عليا، و اني فقير بائس، و أنا إلىصلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجاج، و قال: للطف ما توسلت به، قد وليتك موضع كذا.

و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويهو هو من أكابر المحدثين و أعلامهمفي تاريخه ما يناسب هذا الخبر، قال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم 11.

و لعل المرء يصاب بالذهول و هو يتأمل أسماء الصحابة و التابعين ذوي المنازل الرفيعة و المكانة السامية و الدور الجليل في خدمة الإسلام و أهله، كيف سقطواصرعى بسيف الأمويين لا لشي ء إلا لأنهم شيعة عليعليه السلام-، و من هؤلاء:

1- حجر بن عدي: الذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة (51 ه) و بعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزورة، و فرية ظالمة، كان يراد منها قتله و توجيه ضربة قوية لشيعة علي و تصفيتهم.

يقول المسعودي:

«في سنة ثلاث و خمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكنديو هو أول من قتلصبرا في الإسلامو حمله زياد من الكوفة و معه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة و أربعة من غيرها، فلماصار على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقولو لا عقب له من غيرها-:

ترفع أيها القمر المنير لعلك ان ترى حجرا يسير يسير إلى معاوية بن حرب ليقتله، كذا زعم الأمير و يصلبه على بابي دمشق و تأكل من محاسنة النسور

فقتله مع أصحابه في مرج العذراء 12 بصورة بشعة يندى لها الجبين و هي مذكورة في جميع كتب التأريخ، فراجع.

2- عمرو بن الحمق: ذلك الصحابي العظيم الذي وصفه الإمام الحسين سيد الشهداء بأنه: أبلت وجهه العبادة. قتله معاوية بعد ما أعطاه الأمان 13.

ص:55

3- مالك الأشتر: ملك العرب، و أحد أشرف رجالاتها و أبطالها، كان شهما مطاعا و كان قائد القوات العلوية. قتله معاوية بالسم في مسيره إلى مصر بيد أحد عماله 14.

4- رشيد الهجري: كان من تلاميذ الإمام و خواصه، عرض عليه زياد البراءة و اللعن فأبى، فقطع يديه و رجليه و لسانه، وصلبه خنقا في عنقه 15.

5- جويرية بن مسهر العبدي: أخذه زياد و قطع يديه و رجليه وصلبه على جذع نخلة 16.

6- قنبر مولى أمير المؤمنين: روي ان الحجاج قال لبعض جلاوزته: أحب أن أصيب رجلا من أصحاب أبي تراب!! فقالوا: ما نعلم أحدا كان أطولصحبة له من مولاه قنبر. فبعث في طلبه، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال له: إبرأ من دين علي، فقال له: هل تدلني على دين أفضل من دينه؟

قال: إني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك، قال: أخبرني أمير المؤمنين: ان ميتتي تكون ذبحا بغير حق. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة 17.

7- كميل بن زياد: و هو من خيار الشيعة و خاصة أمير المؤمنين، طلبه الحجاج فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فلما رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير و قد نفذ عمري و لا ينبغي أن أكون سببا في حرمان قومي. فاستسلم للحجاج، فلما رآه قال له: كنت أحب أن أجد عليك سبيلا، فقال له كميل: لا تبرق و لا ترعد، فوالله ما بقي من عمري إلا مثل الغبار، فاقض فإن الموعد الله عز و جل، و بعد القتل الحساب. و قد أخبرني أمير المؤمنين انك قاتلي، فقال الحجاج: الحجة عليك إذن، فقال: ذلك إن كان القضاء لك، قال: بلى، اضربوا عنقه 18.

8- سعيد بن جبير: التابعي المعروف بالعفة و الزهد و العبادة، و كان يصلي خلف الإمام زين العابدين، فلما رآه الحجاج قال له: أنت شقي ابن كسير، فقال: أمي أعرف بإسمي منك. ثم بعد أخذ ورد أمر الحجاج بقتله، فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا مسلما و ما أنا من المشركين. فقال الحجاج: شدوه إلى غير القبلة، فقال: أينما تولوا فثم وجه الله، فقال: كبوه على وجهه، قال: منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة اخرى. ثم ضربت عنقه 19.

و سيوافيك ما جرى على زيد بن علي من الصلب أيام خلافة هشام ابن عبد الملك عام (122 ه) عند الكلام عن فرقة الزيدية إن شاء الله تعالى.

هذا غيض من فيض و قليل من كثير مما جناه الأمويون في حق الشيعة طوال فترة حكمهم و توليهم لدفة الأمور و زمام الحكم، و تالله ان المرء ليصاب بالغثيان و هو يتأمل هذه الصفحات السوداء التي لا تمحى من ذاكرةالتاريخ و كيف لطخت بالدماء الطاهرة المقدسة و التي أريقت ظلما و عدوانا و تجنيا على الحق و أهله.

الشيعة في خلافة العباسيين:

دار الزمان على بني أمية، و قامت ثورات عنيفة ضدهم أثناء خلافتهم، إلى أن قضت على آخر ملوكهم (مروان الحمار): فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين 20 و امتطى ناصية الخلافة بعدهم العباسيون، و الذين تسربلوا بشعائر مظلومية أهل البيت للوصول إلى سدة الخلافة و إزاحة خصومهم الأمويين عنها، بيد أنهم

ص:56

ما أن استقر بهم المقام و ثبتت لهم أركانه حتى انقلبوا كالوحوش الكاسرة في محاربتهم للشيعة و تشريدهم و تقتيلهم، فكانوا أسوء من أسلافهم الامويين و أشد اجراما، و الله در الشاعر حين قال:

و الله ما فعلت أمية فيهم معشار ما فعلت بنو العباس

1- فكان أول من تولى منهم أبو العباس السفاح، بويع سنة (132 ه) و مات سنة (136 ه)، قضى وقته في تتبع الامويين و القضاء عليهم، و هو و إن لم يتعرض للعلويين، لكنه تنكر لهم و لشيعتهم، بل و أوعز إلى الشعراء أن يتعرضوا لأولاد علي و أهل بيته في محاولة مدروسة للنيل من منزلتهم و تسفيه الدعوة المطالبة بإيكال أمر الخلافة الإسلامية إليهم. هذا محمد أحمد براق يقول في كتابه «أبو العباس السفاح»: «إن أصل الدعوة كان لآل علي، لأن أهل خراسان كان هواهم في آل علي لا آل العباس، لذلك كان السفاح و من جاء بعده مفتحة عينوهم لأهل خراسان حتى لا يتفتى فيهم التشيع لآل علي ... و كانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم، فيقدمون لهم الجوائز، و كانوا الشعراء يعرضون بأبناء علي و ينفون عنهم حق الخلافة، لأنهم ينتسبون إلى النبي عن طريق ابنته فاطمة، أما بنو العباس فإنهم أبناء عمومة» 21.

2- ثم جاء بعده أبو جعفر المنصور، و بالرغم مما أثير حوله من منزلة و مكانة و ذكاء، إلا أن في ذلك مجافاة عظيمة للحق و ابتعادا كبيرا عن جادة الصواب، نعم حقا إن هذا الرجل قد ثبت أركان دولته و أقام لها أسسا قويةصلبة، إلا أنه أسرف كثيرا في الظلم و القسوة و الاجرام بشكل ملفت للأنظار، و يكفي للإلمام بجرائمه و قسوته ما كتبه ابن عبد ربه في العقد الفريد عن ذلك حيث قال: إن المنصور كان يجلس و يجلس إلى جانبه واعظا، ثم تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس، فإذا جرت الدماء حتى تصل إلى ثيابه، يلتفت إلى الواعظ و يقول: عظني! فإذا ذكره الواعظ بالله، أطرق المنصور كالمنكسر!!! ثم يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانيا قال لواعظه: عظني!! 22.

فما ذا يا ترى يريد المنصور من قوله للواعظ عظني، و ما ذا يعني باطراقه بعد ذلك و سكوته، هل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس و سفك الدماء، أو يريد شيئا آخر، و ليت شعري أين كان المؤرخون و أصحاب الكلمات الصادقة المنصفة من هذه المواقف المخزية التي تقشعر لها الأبدان، و هم يتحدثون عن هذا الرجل الذي ما آلوا يشيدون بذكره و يمجدون بأعماله، و هلا تأمل القراء في سيرة هذا الرجل ليدركوا ذلك الخطأ الكبير.

بلى أن هذا الرجل أسرف في القتل كثيرا، و كان للعلويين النصيب الأكبر، و حصة الأسد من هذا الظلم الكبير.

يقول المسعودي: جمع المنصور أبناء الحسن، و أمر بجعل القيود و السلاسل في أرجلهم و أعناقهم، و حملهم في محامل مكشوفة و بغير وطاء، تماما كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين. ثم أودعهم مكانا تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار، و اشكلت أوقات الصلاة عليهم، فجزأوا القرآن خمسة أجزاء، فكانوا يصلون على

ص:57

فراغ كل واحد من حزبه، و كانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم، فاشتدت عليهم الرائحة، و تورمت أجسادهم، و لا يزال الورم يصعد من القدم حتى يبلغ الفؤاد، فيموتصاحبه مرضا و عطشا وجوعا 23.

و قال ابن الأثير: دعا المنصور محمد بن عبد الله العثماني، و كان أخا لأبناء الحسن من أمهم، فأمر بشق ثيابه حتى بانت عورته، ثم ضرب مائة و خمسون سوطا، فأصاب سوط منها وجهه فقال: و يحكك اكفف عن وجهي، فقال المنصور للجلاد: الرأس الرأس، فضربه على رأسه ثلاثين سوطا، و أصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه، ثم قتلهثم ذكرو أحضرالمنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن، و كان أحسن الناسصورة، فقال له: أنت الديباج الأصفر، لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحدا، ثم أمر به، فبني عليه اسطوانة و هو حي، فمات فيها 24.

3- ثم ولي بعده المهدي ولد المنصور، و بقي في الحكم من سنة (158 ه) إلى سنة (169 ه) و كفى في الإشارة إلى ظلمه للعلويين، انه أخذ علي ابن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فسجنه فدس إليه السم فتفسخ لحمه و تباينت أعضاؤه.

4- و لما هلك المهدي بويع ولده الهادي، و كانت خلافته سنة و ثلاثة أشهر، سار فيها على سيرة من سبقه في ظلم العلويين و التضييق عليهم، و كفى في الإشارة إلى ذلك ما ذكره أبو الفرج الاصبهاني في مقاتل الطالبيين حيث قال: ان ام الحسينصاحب فخ هي زينب بنت عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، قتل المنصور أباها و اخوتها و عمومتها و زوجها علي بن الحسن، ثم قتل الهادي حفيد المنصور ابنها الحسين، و كانت تلبس المسوح على جسدها، لا تجعل بينها و بينه شيئا حتى لحقت بالله عز و جل 25.

5- ثم تولى بعده الرشيد سنة (170 ه) و مات (193 ه) و كان له سجل أسود في تعامله مع الشيعة تبلورت أوضحصورة في ما لاقاه منه الإمام موسى بن جعفر الكاظم، و هو ما سنذكره لاحقا إن شاء الله تعالى، و إليك واحدة من تلك الأفعال الدامية التي سجلها له التأريخ و رواها الاصبهاني عن إبراهيم بن رباح، قال: إن الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد الله بن الحسن، بنى عليه اسطوانة و هو حي، و كان هذا العمل الاجرامي موروثا من جده المنصور 26.

6- ثم جاء بعده ابنه الأمين، فتولى الحكم أربع سنين و أشهرا، يقول أبو الفرج: كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدم لتشاغله بما كان فيه من اللهو ثم الحرب بينه و بين المأمون، حتى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيامه حدث.

7- و تولى الحكم بعده المأمون، و كان من أقوى الحكام العباسيين بعد أبيه الرشيد. فلما رأى المأمون إقبال الناس على العلويين و على رأسهم الإمام الرضا، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه، ثم دس اليه السم فقتله.

8- مات المأمون سنة (210 ه) و جاء إلى الحكم ابنه المعتصم فسجن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب إلا أنه استطاع الفرار من سجنه.

ص:58

9- ثم تولى الحكم بعده الواثق الذي قام بسجن الإمام محمد بن علي الجوادعليه السلامو دس له السم بيد زوجته الأثيمة أم الفضل بنت المأمون.

10- و ولي الحكم بعد الواثق المتوكل، و إليك نموذجا من حقده على آل البيت و هو ما ذكره أبو الفرج قال: كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظا في جماعتهم، شديد الغيظ و الحقد عليهم، و سوء الظن و التهمة لهم. و اتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسي ء الرأي فيهم، فحسن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، و كان من ذلك أن كرب 27 قبر الحسين و عفى آثاره، و وضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحدا زاره إلا أتوه به و قتله أو أنهكه عقوبة.

و قال: بعث برجل من أصحابه (يقال له «الديزج» و كان يهوديا فأسلم) إلى قبر الحسين و أمره بكرب قبره و محوه و إخراب ما حوله، فمضى ذلك فخرب ما حوله و هدم البناء و كرب ما حوله مائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوما من اليهود فكربوه، و أجرى الماء حوله، و وكل به مسالح، بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلا أخذوه و وجهوا به إليه.

و قال أيضا: حدثني محمد بن الحسين الأشناني: بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، و ساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار و نسير الليل، حتى أتينا نواحي الغاضرية، و خرجنا نصف الليل، فصرنا بين مسلحتين، و قد ناموا، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمه (نتسمه) و نتحرى جهته حتى أتيناه، و قد قلع الصندوق الذي كان حواليه، و أحرق و أجري الماء عليه، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه و أكببنا عليهإلى أن قال:- فودعناه و جعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين و الشيعة حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات و أعدناه إلى ما كان عليه.

و قال أيضا: و استعمل على المدينة و مكة عمر بن الفرج، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس و منع الناس من البر بهم، و كان لا يبلغه أن أحدا أبر أحدا منهم بشي ء و إن قل إلا أنهكه عقوبة، و أثقله غرما، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه و يجلسن على مغازلهن عوارى حواسر، إلى أن قتل المتوكل فعطف المنتصر عليهم و أحسن إليهم بمال فرقه بينهم، و كان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله و مضادة مذهبه 28.

و ولي بعده المنتصر ابنه، و ظهر منه الميل إلى أهل البيت و خالف أباهكما عرفتفلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا.

و أول ما أحدثه أنه لما ولي الخلافة عزلصالح بن علي عن المدينة، و بعث علي بن الحسين مكانه فقال لهعند الموادعة-: يا علي: إني أوجهك إلى لحمي و دمي فانظر كيف تكون للقوم، و كيف تعاملهميعني آل أبي طالبفقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنينأيده اللهفيهم، إن شاء الله. قال: إذا تسعد بذلك عندي 29.

ص:59

و قام بعده المستعين بالأمر، فنقض كلما عزله المنتصر من البرو الإحسان، و من جرائمه انه قتل يحيى بن عمر بن الحسين، قال أبو الفرج: و كانرضي الله عنهرجلا فارسا شجاعا شديد البدن، مجتمع القلب، بعيدا من رهق الشباب و ما يعاب به مثله، و لما أدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكارا له، و دخل أبو هاشم على محمد بن عبد الله ابن طاهر، فقال: أيها الأمير، قد جئتك مهنئا بما لو كان رسول الله حيا يعزى به.

و أدخل الأسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد و لم يكن روي قبل ذلك من الأسارى لحقه ما لحقهم من العسف و سوء الحال، و كانوا يساقون و هم حفاة سوقا عنيفا، فمن تأخر ضربت عنقه.

قال أبو الفرج: و ما بلغني أن أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى، و لا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه.

أقول: إن العباسيين قد أتوا من الجرائم التي يندى لها الجبين و تقشعر منها الجلود في حق الشيعة بحيث تغص بذكرها المجلدات الكبيرة الواسعة، بل و فاقوا بأفعالهم المنكرة ما فعله الأمويون من قبل، و لله در الشاعر حيث قال:

تالله إن كانت أمية قد أتت قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها هذا لعمرك قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما

و من أراد أن يقف على سجل جرائم الدولتين (الأموية و العباسية) و ملف مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون، عرضوا أنفسهم للمخاوف و الأخطار طلبا لرضى الحق:

1- تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام 246 ه-، فإنها وثيقة تاريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيتعليهم السلام-، و قد أنشدها الشاعر للإمام الرضا، فبكى و بكت معه النسوة.

أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال: أنشدت قصيدة لمولاي علي الرضارضي الله عنه-:

مدارس آيات خلت من تلاوة و منزل وحي مقفر العرصات قال دعبل: ثم قرأت باقي القصيدة، فلما انتهيت إلى قولي:

خروج إمام لا محالة واقع يقوم على اسم الله و البركات

بكى الرضا بكاءا شديدا.

و من هذه القصيدة قوله:

ص:60

هم نقضوا عهد الكتاب و فرضه و ما حكمه بالزور و الشبهات تراث بلا قربى، و ملك بلا هدى و حكم بلا شورى، بغير هداة

و فيها أيضا قوله:

لآل الرسول بالخيف من منى و البيت و التعريف و الجمرات ديار علي و الحسين و جعفر و حمزة و السجاد ذي الثفنات ديار عفاها جون كل مبادر و لم تعف بالأيام و السنوات منازل كانت للصلاة و للتقى و للصوم و التطهير و الحسنات منازل وحي الله معدن علمه سبيل رشاد واضح الطرقات منازل وحي الله ينزل حولها على أحمد الروحات و الغدوات

إلى أن قال:

ديار رسول الله أصبحن بلقعا و دار زياد أصبحت عمرات و آل رسول الله غلت رقابهم و آل زياد غلظ القصرات و آل رسول الله تدمى نحورهم و آل زياد زينوا الحجلات

و فيها أيضا:

أفاطم لو خلت الحسين مجدلا و قد مات عطشانا بشط فرات إذا للطمت الخد فاطم عنده و أجريت دمع العين من وجنات

ص:61

أفاطم قومي يا ابنة الخير و اندبي نجوم سماوات بأرض فلات 30

2- ميمية الأمير أبي الفراس الحمداني (320- 357 ه-)، و هذه القصيدة تعرف بالشافية، و هي من القصائد الخالدة، و عليها مسحة البلاغة، و رونق الجزالة، و جودة السرد، و قوة الحجة، و فخامة المعنى، أنشدها ناظمها لما وقف على قصيدة ابن سكرة العباسي التي مستهلها:

بني علي دعوا مقالتكم لا ينقص الدر وضع من وضعه

فقال الأمير في جوابه ميميته المعروفة و هي:

الحق مهتضم و الدين مخترم و فيى ء آل رسول الله مقتسم

إلى أن قال:

يا للرجال أما لله منتصر من الطغاة؟ أما لله منتقم؟

بنو علي رعايا في ديارهم و الأمر تملكه النسوان و الخدم! 31

3- جيمية ابن الرومي التي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد، و منها:

أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى مستقيم و أعوج ألا أي هذا الناس طال ضريركم بآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا أكل أوان للنبي محمد قتيل زكي بالدماء مضرج 32

و كم من الانصاف في ما كتبه الاصبهاني عن مدى العب الذي تحمله أهل البيت و شيعتهم من أجل كلمة الحق، و موقف الصدق، و ما ترتب على ذلك من تكالب لا يعرف الرحمة من قبل الحكومات الجائرة المتلاحقة للقضاء على هذا الوجود المقدس و اجتثاثه من أصله، حيث ذكر:

«و الله لا يعرف التاريخ أسرة كأسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الارومة، و طيب النجار، ضل عنها حقها، و جاهدت في سبيل الله حق الجهاد من الأعصار، ثم لم تظفر من جهادها المرير إلا بالحسرات، و لم تعقب من جهادها إلا العبرات، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغي، راضية قلوبهم مطمئنة

ص:62

ضمائرهم، وصافحوا الموت في بسالة فائقة، و تلقوه فيصبر جميل يثير في النفس الاعجاب و الاكبار، و يشيع فيها ألوان التقدير و الاعظام. و قد أسرف خصوم هذه الأسرة الطاهرة في محاربتها، و أذاقوها ضروب النكال، وصبوا عليهاصنوف العذاب، و لم يرقبوا فيها إلا و لا ذمة، و لم يرعوا لها حقا و لا حرمة، و أفرغوا بأسهم الشديد على النساء و الأطفال، و الرجال جميعا، في عنف لا يشوبه لين، و قسوة لا تمازجها رحمة، حتى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال، في فضاعة النكال، و قد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة و المودة في قلوب الناس، و أشاعت الأسف الممض في ضمائرهم، و ملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثا يروى، و خبرا يتناقل، و قصاصا تقص، يجد فيها الناس إرضاء عواطفهم و إرواء مشاعرهم، فتطلبوه و حرصوا عليه» 33.

نعم لقد اقترن تاريخ الشيعة بأنواع الظلم و النكال، و القتل و التشريد، بحيث لم تشهده أي طائفة أخرى من طوائف المسلمين. بلى لم ير الأمويون و العباسيون و لا الملوك الغزانوة و لا السلاجقة و لا من أتى بعدهم أي حرمة لنفوسهم و أعراضهم و علومهم و مكتباتهم، فحين كان اليهود و النصارى يسرحون و يمرحون في أرض الإسلام و المسلمين، و قد كفل لهم الحكام حرياتهم باسم الرحمة الإسلامية، كان الشيعة يؤخذون تحت كل حجر و مدر، و يقتلون بالشبهة و الظنة، و تشرد أسرهم، و تصادر أموالهم، و لا يجدون بدا من أن يخفوا كثيرا من عقائدهم خوف النكال و القتل، و بأيدي و قلوب نزعت منها الرحمة، فلا تثريب إذن على الشيعي أمام هذه الوحشية المسرفة من أن يتعامل مع أخيه المسلم بالتقية، و أن يظهر خلاف ما يعتقده، بل اللوم أجمعه يقع على من حمله على ذلك، بعد أن أباح دمه و عرضه و ماله. هذا هو طغرل بيك أول ملك من ملوك السلاجقة ورد بغداد سنة 447 ه-، و شن على الشيعة حملة شعواء، و أمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة البويهي، و كانت من دور العلم المهمة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل في محلة بين السورين في الكرخ سنة 381 هعلى مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد، و كانت من الأهمية العلمية بمكان، حيث جمع فيها هذا الوزير ما تفرق من كتب فارس و العراق، و استكتب تآليف أهل الهند و الصين و الروم، كما قاله محمد كرد علي، و نافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار و مهام الأسفار، و أكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلفين 34.

قال يا قوت الحموي: و بها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، و لم يكن في الدنيا أحسن كتابا منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة و أصولهم المحررة 35.

و كان من جملتها مصاحف بخط ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير 36.

و لما كان الوزير سابور من أهل الفضل و الأدب، فقد أخذ العلماء يهدون إليه مصنفاتهم المختلفة، فأصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد، و قد أحرقت هذه المكتبة العظيمة في جملة ما احترق من محال الكرخ عند مجي ء طغرل بيك، و توسعت الفتنة حتى اتجهت إلى شيخ الطائفةو أصحابه فأحرقوا كتبه و كرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام.

ص:63

قال ابن الجوزي في حوادث سنة 448 ه: و هرب أبو جعفر الطوسي و نهبت داره، ثم قال في حوادث سنة 449 ه-: و فيصفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة في الكرخ، و أخذ ما وجد من دفاتره و كرسي يجلس إليه للكلام، و أخرج إلى الكرخ أضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوار من أهل الكرخ قديما يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة، فأحرق الجميع 37.

و اخيرا فلعل القارى ء الكريم إذا تأمل بتدبر و تأن إلى جملة ما كتب و ألف من المراجع التاريخيةو حتى تلك التي كتبت في تلك العصور التي شهدت هذه المجازر المتلاحقة، و التي بلا أدنى شك كان أغلبها يجاري أهواء الأسر الحاكمة آنذاكفانه سيجد بوضوح إن بقاء الشيعة حتى هذه الأزمنة من المعاجز و الكرامات و خوارق العادات، كيف و ان تاريخهم كان سلسلة من عمليات الذبح، و القتل، و القمع، و الاستئصال، و السحق، و الإبادة، قد تضافرت قوى الكفر و الفسق على إهلاكهم و قطع جذورهم، و مع ذلك فقد كانت لهم دول و دويلات، و معاهد و كليات، و بلدان و حضارات، و أعلام و مفاخر، و عباقرة و فلاسفة، و فقهاء، و محدثون، و وزراء و سياسيون، و يشكلون اليوم خمس المسلمين أو ربعهم.

نعم إن ذلك من فضله سبحانه لتعلق مشيئته على إبقاء الحق و إزهاق الباطل في ظل قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها و هو الصمود أمام الظلم، و التضحية و التفدية للمبدأ و المذهب و قد قال سبحانه: إن يكن منكم عشرونصابرون يغلبوا مائتين و إن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون 38.

و لا يفوتنك أخي القارى ء الكريم ان ثوراتهم المتعاقبة على الحكومات الظالمة الفاسدة الخارجة عن حدود الشريعة الإسلامية العظيمة هي التي أدت إلى تشريدهم و قتلهم و الفتك بهم، و لو أنهم ساوموا السلطة الأموية و العباسية، لكانوا في أعلى المناصب و المدارج، لكن ثوراتهم لم تكن عنصرية أو قومية أو طلبا للرئاسة، بل كانت لإزهاق الباطل و رفع الظلم عن المجتمع، و الدعوة إلى اعلاء كلمة الله و غير ذلك مما هو من وظائف العلماء العارفين.

پى نوشتها:

1- الكامل لابن الاثير 3/ 394 طبع دارصادر.

2- ناسخ التواريخ، القسم المختص بحياة الإمام. 692

3- تاريخ اليعقوبي 2/. 213

4- الكامل 3/ 404 طبعة دارصادر.

5- الإرشاد للشيخ المفيد:. 191

6- الإمامة و السياسة 1/ 164، جمهرة الرسائل 2/ 67، و رواه الكشي في رجاله 48- 51 و المجلسي في البحار 44/ 212-. 214

7- شرح نهج البلاغة 11/ 43-. 44

8- شرح بن أبي الحديد 4/

ص:64

9- مروج الذهب 3/. 26

10- المنتظم 5/ 263 طبعة بيروت.

11- شرح نهج البلاغة 11/. 46

12- مروج الذهب 3/ 3- 4، سير أعلام النبلاء 3/ 462- 466 برقم. 95

13- سير أعلام النبلاء 4/ 34- 35 برقم. 6

14- شذرات الذهب 1/. 91

15- شرح نهج البلاغة 2/ 294-. 295

16- شرح نهج البلاغة 2/ 290-. 291

17- رجال الكشي 68- 69 برقم 21، الشيعة و الحاكمون. 95

18- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17/ 149، الشيعة و الحاكمون. 96

19- سير أعلام النبلاء 4/ 321- 328، الجرح و التعديل 4/ 9 برقم. 29

20- الأنعام/. 45

21- أبو العباس السفاح 48، كما في الشيعة و الحاكمون. 139

22- العقد الفريد 1/. 41

23- مروج الذهب 3/ 310 طبع. 1948

24- الكامل 4/. 375

25- مقاتل الطالبيين 285 طبعة النجف.

26- مقاتل الطالبيين 320 طبع النجف، و روى في مقتله أمرا آخر.

27- الكرب: إثارة الأرض للزرع.

28- مقاتل الطالبيين 597-. 599

29- مقاتل الطالبيين. 636

30- لاحظ للوقوف على هذه القصيدة: المناقب لابن شهر آشوب 2/ 394، و روضة الواعظين للفتال النيسابوري 194، و كشف الغمة للأربلي 3/ 112- 117، و قد ذكرها أكثر المؤرخين.

31- نقلها في الغدير برمتها و أخرج مصادرها، لا حظ 3/ 399-. 402

32- مقاتل الطالبيين 639-. 646

33- مقدمة مقاتل الطالبيين، بقلم السيد أحمدصفر: الصفحة يك، طبع دار المعرفة.

34- خطط الشام 3/. 185

35- معجم البلدان 2/. 342

36- التاريخ الكامل 10/. 3

ص:65

37- المنتظم 8/ 173- 179، نقلنا ما يتعلق بمكتبة أبي نصر سابور و الشيخ الطوسي عن مقدمة شيخنا الطهراني على التبيان و ذكرنا المصادر التي أومأ هو إليها في الهامش، لا حظ الصفحة هو: من المقدمة.

38- الأنفال/. 65

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.